كتاب : غرر الخصائص الواضحة
المؤلف : الوطواط

يا أبا إسحق سر في دعة ... وامض محموداً فما عنك خلف
إنما أنت سحاب هاطل ... حيثما صرّفه اللّه انصرف
فأمر له بستمائة درهم ونظر إليه انسان وهو يأكل تمراً ويبلع نواه فقال له لم لا ترمي نواه قال هكذا وزن علي وقيل له في كم يصير الانسان مجنوناً فقال على قدر الصبيان ومن شعره
زعموا أنّ من تشاغل باللذات ... يوماً عن حبه يتسلى
كذبوا والذي تساق له البد ... ن ومن دار بالطواف وصلى
إن نار الهوى أحرّ من الجم ... ر على قلب عاشق يتصلى
وأخبار ماني أحلى من مسامرة الأماني لكن استيفاؤها ربما يخرج عن الغرض ويبدل جوهر ما شرطناه بالعرض وحكى المبرد قال خرجنا من بغداد إلى واسط فملنا إلى دير هرقل ننظر إلى المجانين فنظرنا إلى فتى منهم ناحية عنهم فملنا إليه وسلمنا عليه فلم يرد علينا السلام فقلنا له ما تجد فقال
اللّه يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبثّ ما أحد
روحان لي روح تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر وليس يفوتها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
فقلنا له أحسنت فأومأ بيده إلى شيء ليرمينا به فولينا هاربين فقال سألتكم بالله إلا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أحسنت قلتم أحتلت وإن أسأت قلتم أسأت قال فرجعنا فقلنا له قل فأنشدنا
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحلوها وسارت بالدعى الابل
وقلبت من خلال السجف ناظرها ... ترنو إليّ ودمع العين ينهمل
وودعت ببنان زانها عنم ... ناديت لاحملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ويل حلّ بي وبها ... من نازل البين جدّ البين وارتحلوا
يا حادي العيس عرّج كي نودّعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودّتهم ... يا ليت شعري لطول الدهر ما فعلوا
قال فقلنا له ماتو افصاح وقال وأنا والله أموت واستلقى على ظهره وتمدد فمات فما برحنا حتى دفناه رحمة الله عليه

الفصل الثالث من الباب الرابع
في احتجاج الأريب المتحامق
في احتجاج الأريب المتحامق ... على أنّ الحمق أزكى الخلائق
قال الله تعالى فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء عبر بالأفئدة وهي القلوب عن العقول لأنها مقرها وقال النبي صلى الله عليه وسلم يحاسب الله الناس على قدر عقولهم وفي طريق آخر إن الله يحاسب كل امرئ على مقدار عقله وفي بعض الآثار ما جعل الله لرجل عقلاً وافراً إلا احتسبه عليه من رزقه وقيل من زيد في عقله نقص من رزقه
ما قيل في إنّ لذاذة العيش ... لا تحصل إلا بالجهالة والطيش
ذكر إن بعض الحكماء سئل من أقر الناس عيناً وأحسنهم حالاً وأطيبهم عيشاً وأنعمهم بالاً فقال من كفى أمر دنياه ولو لم يهم لآخرته أخذه المتنبي فقال
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى فيها ولا يتوقع
ولمن يغالط في الحقيقة نفسه ... ويسومها طلب المحال فيطمع
ولأبي بكر الكاتب
من رزق الحمق فذ ونعمة ... آثارها واضحة ظاهره
يحط ثقل الهمّ عن نفسه ... والفكر في الدنيا وفي الآخره
وقال حكيم ثمرة الدنيا السرور ولا سرور للعقلاء وقال الشاعر
الروح والراحة في الحمق ... وفي زوال العقل والخرق
فمن أراد العيش في راحة ... فليلزم الجهل مع الحمق
ومن أمثالهم ما سر عاقل قط وقولهم الهم والعقل لا يفترقان وقولهم استراح من لا عقل له وقال بعض الحكماء العاقل في ربقة من عقله تحجبه عن اللذات وتصده عن الشهوات فمتى جرى على حكم البشرية فأطاع هواه واتبع غرضه ومناه قيل زلة عاقل وهفوة ذاكر فنعوذ بالله من شرها ونرغب إلى الله في الكفاية منها وقال الشاعر
أرى العقل بؤساً في المعيشة للفتى ... ولا عيش إلا ما حباك به الجهل

وقالوا الجاهل ينال أغراضه ويظفر بآرابه ويطيع قلبه ويجري في عنان هواه وهو برئ من اللوم سليم من العيب تغفر زلاته وتتعمد هفواته وقال آخر الجاهل رخي الذرع خالي البال عازب الهم حسن الظن لا يخطر خوف الموت بفكره ولا يجري ألم الاشفاق على ذكره وقالوا الجهل مطية المسرة والمراح ومسرح الفكاهة والمزاح وحليف الهوى والتصابي صاحبه في زمام من عهدة اللوم والعتب وأمان من قوارص الذم والسب وقال الشاعر
ورأيت الهموم في صحة العق ... ل فداويتها بأمراض عقلي
وقال المغيرة بن شعبة ما العيش إلا في القاء الحشمة

ومن احتجاج من أطلق نفسه من عقال العقل
وألقى عصاه عامداً في بيداء الجهل
قول بعضهم لما كان العقل في المعنى ذائداً عن الآراب وحائلاً دون الاعراض جعل اسمه مأخوذاً من لفظة العقال فكم بين الطليق والعاني ولين المعقود من الشارد وهل من يتصرف على اختياره ويجيب داعي أهوائه كمن يقسر ويحصر ويكره ويجبر وقالوا لو لم تكن فضيلة الجهل غير الاقدام وورود الحمام إذ هما عين الشجاعة والبسالة وسببان لتحصيل الرفعة والجلالة وقال شاعرهم
ما لي وللعقل لا استصحبته أبدا ... فالعقل ينزل دار الذل والهون
لقد تعاقلت دهراً لا أرى فرجا ... ومذ تحامقت صار الناس يدنوني
وقال يحيى بن أكثم ما رأيت العقل قط إلا خادماً للجهل وقالوا كم عاقل أخره عقله وجاهل صدره جهله وقال الشريف أبو يعلى بن الهبارية
تجاهلت لما لم أر العقل شافعا ... وأنكرت لما كنت بالعلم ضائعا
وما نافعي عقلي وفصي وفطنتي ... إذا بت صفر الكف والبطن جائعا
وما أحسن قول عبد الله بن المعتر في هذا المعنى مع زيادة للمصنف العقل كالمرآة المصقولة يرى صاحبها فيها مساوئ الدنيا فلا يزال في صحوه مهموماً متعذر السرور حتى يشرب الخمر فإن أكثر منها غشيه الصدأ كله حتى لا تظهر تلك المساوئ فيفرح ويمرح والجهل كالمرآة الصدية لا يرى صاحبها إلا مسروراً أبداً قبل الشرب وبعده من هنا للمصنف فالعاقل يستدعي حالة الجهل إلى نفسه لترادف الهموم عليه في العواقب والغرض في اكتساب المحامد والمناقب فإذا ضاق بها ذرعاً ولم يستطع لردائها نزء احتال على ذهابها بالشراب لينحل عنه عقال الهموم والأتراح بأيدي المسرات والأفراح ومن مستطرف ما نظم في هذا المعنى قول أبي معاذ بشار بن برد:
لما رأيت الحظ حظ الجاهل ... والعيش في الدنيا لغير العاقل
رحلت عيساً من كرائم بابل ... فغدوت من عقلي ببعد مراحل
من أحاسن أقوالهم في أنّ العقل طريق إلى العنا
وسدّ يمنع صاحبه من الوصول للغنى
روى عن الامام محمد بن الحنفية رضي الله عنه أنه قال وكل الله الجهل بالغنى والعقل بالحرمان ليعتبر العاقل وليعلم أن ليس له من الأمر شيء وفي مثل هذا يقول نصر بن أحمد المعروف بالخبزأرزي
سبحان من قدّر الأشياء منزلها ... وصير الناس مرفوضاً ومرموقا
فعاقل فطن أعيت مذاهبه ... وأحمق جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
قال رجل لبزرجمهر تعال نتناظر في القدر قال وما أصنع بالمناظرة رأيت الظاهر فاستدللت به على الباطن رأيت الأحمق مرزوقاً والعاقل محروماً فعلمت إن التدبير ليس من العباد وقيل أعجب الأشياء نجح الجاهل واكداء العاقل حتى قيل لو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم قال حبيب بن أوس الطائي
ينال الفتى من عيشه وهو جاله ... ويكدي التي في دهره وهو عالم
فلو كانت الأرزاق تجري على الحجي ... هلكن إذا من جهلهنّ البهائم
المتنبي
ذو العقل يشقى في النعيم بفضله ... وأخو الحماقة في الشقاء ينعم
آخر
العقل ليس بمسعد خلقاً إذا ... ما عال حتى يسعد المقدور
وحكومة الأيام يسعد جاهل ... فيها ويشقى العالم النحرير
آخر
لو كانت الأرزاق يدركها الفتى ... بجلادة أو قوّة وشراس
لأخذت أفضلها ببارع همتي ... وبمنطقي وبحيلتي ومراسي

لكنها قسم وليس بمدرك ... ما لم يقدّره إله الناس
حدث ابن حبيب في كتابه عقلاء المجانين قال حدث سعيد بن علي بن عطاف قال كان عندنا رجل عاقل ظريف أديب يسمى عامراً وكان مع كثرة أدبه محروماً فقيل لي إنه قد تحامق فجعلت أتطلبه حتى ظفرت به في بعض الطرق والصبيان حوله يضحكون منه فقلت يا عامر ما هذه الحالة فانشد عجلاً ومرتجلاً
يا عاذلي لا تلم أخا حمق ... يضحك منه فالحمق ألوان
جقت نفسي لكي أنال غنى ... فالعقل في ذا الزمان حرمان
وكان الحمدوني الشاعر يتحامق فعذله بعض أصحابه على ذلك فقال جماقة تعولني خير من عقل أعوله ثم أنشد
عذلوني على الحماقة جهلا ... وهي من عقلهم ألذ وأحلى
حمقى اليوم قائم بعيالي ... ويموتون أن تعاقلت دلا
ومن المنظوم في أنّ من أفعال الزمان ... الباس العقلاء أسمال الحرمان
أبو يعلى بن الهبارية
الجهل أروح للفتى من عقله ... يمسي ويصبح آمناً مسرورا
ترك العواقب جانباً عن فكره ... وسعى رواحاً في الهوى وبكورا
والعقل يعقله على حسراته ... ويصدّه فيردّه محسورا
وتراه مهتماً كثيراً غمه ... يحيا أسيراً أو يموت فقيرا
لما علا الجهال في أيامنا ... ورقوا ونالوا منزلاً وسريرا
أخفيت علمي وأطرحت فضائلي ... على أكون إذا جهلت أميرا
آخر
دع عنك عقلي فالعقول مخارق ... لا ينفع الانسان إلا جهله
كم عاقل أمسى عقالاً عقله ... دون المنى وغدا فضولاً فضله
آخر
ولما رأيت الدهر أحمق جاهلاً ... يصيب ولا يدري ويخطي ولا يدري
ينيل ويعطي الأحمق الغمر سؤله ... ويقصد أبناء الفضائل بالعسر
فيمنعهم منّ القرى ويذودهم ... إذا ورد النوكي تحامقت للدهر
عبد القاهر الجرجاني
كبر على العقل يا خليلي ... ومل إلى الجهل ميل هائم
وكن حماراً تعش بخير ... فالسعد في طالع البهائم
آخر
طاب عيش الرفيع في ذا الزمان ... والجهول الغفول والسفعان
فاغتنم حقك الذي أنت فيه ... تحظ بالمكرمات والاحسان
آخر
إذا كان الزمان زمان حمق ... فإنّ العقل حرمان وشوم
فكن حمقاً مع الحمقى فإني ... أرى الدنيا بدولتهم تدوم
آخر
إنّ عاماً فيه تسربلت خزاً ... وترديت في الرجال البرودا
لزمان أبدى النحوس إلى النا ... س وأخفى عن العيون السعودا
آخر
قد كسد العقل وأصحابه ... وفتحت للجهل أبوابه
فاستعمل الحمق تكن ذا غنى ... فقد مضى العقل وأربابه
آخر
تحامق مع النوكي إذا ما لقيتهم ... ولا تلقهم بالعقل إن كنت ذا عقل
وخلط إذا لاقيت يوماً مخلطاً ... يخلط في قول صحيح وفي فعل
فإني رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل
آخر
أرى زمناً نوكاه أسعد أهله ... ولكنما يشقى به كل عاقل
مشى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكب الأعالي بارتفاع الأسافل
وقال بعض ظرفاء الأدباء وهو أبو الحسن المائق
طلبت الرزق بالحذق ... من الغرب إلى الشرق
فلم يكسبني العقل ... سوى البعد من الخلق
فأدبرت عن العقل ... وأقبلت على الحمق
فخاف الناس اشعاري ... وقالوا أحمق الخلق
وجاؤ الأبي الجحش ... بما شاء من الرزق
فمن لام على الحمق ... فقد حاد عن الحق
مما ذكر إنّ الحظ أجدى لصاحب الحجا
وأهدى في طرق مآربه من نجوم الدجى
ما حكى أهل التجارب فإنهم قالوا العقل وسوء الحظ كالعله والمعلول لا مفصل لأحدهما عن الآخر وقالوا افراط العقل مضر بالجد وقيل استأذن العقل على الجد فحجبه فقال إذهب أنت بي لا أنا بك قال شاعر

عش بجد ولا يضرك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود
آخر
لا تنظرن إلى عقل ولا أدب ... إن الجدود حديقات الحماقات
آخر
الجد أنهض بالفتى من عقله ... فانهض بجدك في الحوادث أوذر
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر
آخر
متى ما ترى الناس الغنيّ وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد
وليس الغني واللّه من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسمت وجدود
آخر
لا تنظرنّ إلى الجهالة والحجا ... وانظر إلى الادبار والاقبال
كم من صحيح العقل أخطأه الغنى ... وعديم عقل فاز بالأموال
ودعت أم الاسكندر لولدها فقالت رزقك الله حظاً يخدمك به ذوو العقول ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوي الحظوظ وخير رجل بين أمرين فأبى أن يختار وقال أنا بجدي أوثق مني بعقلي ومن أمثالهم أن تجد فلا تكد قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري
لا تطلبنّ بغير حظ رتبة ... قلم البليغ بغير حظ مغزل
سكن السما كان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل
وقال بعضهم
قالوا أقمت وما رزقت وإنما ... بالسير يكتسب اللبيب ويرزق
فأجبتهم ما كل سير نافع ... الحظ ينفع لا الرحيل المقلق
كم سيرة نفعت وأخرى مثلها ... ضرّت ويكتئب الحريص ويخنق
كالبدر يكتسب الجمال بسيره ... وبه إذا حرم السعادة يمحق
آخر
لا يوجد الرزق بالامعان في الطلب ... ولا بكدّ ولا حرص ولا تعب
بل الحظوظ التي تعلو بصاحبها ... لا بالخطوط التي في سائر الكتب
كم من غلام أديب فيصل ذكر ... شهم مهيب كحدّ السيف ذي الشطب
يمسي ويضحي من الافلاس في تعب ... يقلب الكف بالنيران واللهب
وآخر جلف طبع لأخلاق له ... مذبذب العقل ثوراً منتن الذنب
لا يعرف الميم من واو إذا كتبا ... ولا يميز بين التين والعنب
قد أقبلت نحوه الأيام ضاحكة ... وأخدمته الليالي كل ذي حسب
وللشافعي رضي الله عنه:
بالجدّيد نوكل أمر شاسع ... والجدّ يفتح كل باب مغلق
فإذا سمعت بأن مجدوداً حوى ... عوداً وأثمر في يديه فحقق
وإذا سمعت بأنّ محروماً أتى ... ماء ليشربه فغاض فصدق
لو كان بالحيل الغني لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلقي
لكنّ من رزق الحجا حرم الغنى ... ضدّان مفترقان أيّ تفرّق
ومن الدليل على القضاء وحكمه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وأحق خلق اللّه بالهمّ امرو ... ذو همة يبلى برزق ضيق
فلربما مرّت بقلبي ضجرة ... فأودّ منها أنني لم أخلق
ويقال إذا أقبل جد المرء فالأقدار تسعده والأوطار تساعده وإذا أدبر فالأيام تعاديه والنحوس تراوحه وتغاديه ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال إن السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربا وإلى هذا أشار حبيب بن أوس في قوله
وإذا تأملت الجبال وجدتها ... تثرى كما تثرى الرجال وتعدم
وقال آخر وهو أبدع ما قيل في هذا الباب
وإذا السعادة لاحظتك بعينها ... نم فالمخاوف كلهنّ أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان
وقال ابن نباتة
الأفاخش ما يرجى وجدّك هابط ... ولا تخش من شيء وجدّك رافع
فلا نافع إلا مع النحس ضائر ... ولا ضائر إلا مع السعد نافع
آخر
إذا كنت مرموقاً بعين سعادة ... فلا تخش يوماً من رجوع الكواكب
فإنّ الذي قد قرّب اللّه سعده ... بعيد لعمري من صروف النواقب
ومن الظريف المطبوع في هذا الباب قول محمد بن شرف القيرواني
إذا صحب الفتى جدّ وسعد ... تحامته المكاره والخطوب

ووافاه الحبيب بغير وعد ... طفيلياً وقاد له الرقيب

الباب الخامس
في الفصاحة
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في إنّ الفصاحة والبيان ... أزين ما تحلت بهما الأعيان
قال الله تعالى الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان وقال عليه الصلاة والسلام إن من البيان لسحراً حد البيان قال الجاحظ في كتابه الذي سماه البيان والتبيين البيان اسم جامع لكل كلام كشف لك عن قناع المعنى وهتك الحجاب عن الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقة اللفظ ويهجم على محصوله كائناً ما كان وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ما البيان فقال أن يكون الاسم محيطاً بمعناك كاشفاً عن معزاك وقال آخر خير البيان ما كان مصرحاً عن المعنى ليسرع إلى الفهم تلقنه وموجزاً ليخف على اللسان تعاهده
فما ورد عن جهابذة هذا العقيان ... مدح موهبتي الفصاحة والبيان
قول ابن المعتز البيان ترجمان القلوب وصيقل العقول وقال سهل بن هرون البيان ترجمان اللسان وروض القلوب وقال بعض الأعراب لولده عليك بالفصاحة في منطقك فإنها مع صواب لفظك كالريش البهي في حسن الصورة ويقال من عرف بفصاحة اللسان لحظته العيون بالوقار وقال هشام بن عروة ما أحدث الناس مروأة أعجب إلي من الفصاحة وقال بعض البلغاء الفصاحة أوثق شاهد عدل على اجتماع شمل الفضل وأقوى دليل على استكمال الذكاء والنبل لم تزل تشيد لأهلها في ربوع المجد فخراً وترفع لهم في مراتب العلوم ذكراً وربما سودت غير مسود ورفعت من الحضيض الأوهد إلى محل النسر والفرقد ويقال بالفصاحة والبيان استولى يوسف عليه السلام على مصر وملك زمام الأمور وأطلعه ملكها على الجلي من أمره والمستور فإن العزيز لما رأى فصاحة لسانه وحسن بيانه أعلى مكانه وأعظم شأنه
ومما يتميز به نوع الانسان ... فصاحة المنطق وذلاقة اللسان
قال بعض الحكماء الكلام حد الانسان الحي الناطق وقالوا الصمت منام والكلام يقظة وقال عبد الملك بن مروان إن الكلام قاض يحكم بين الخصوم وضياء يجلو الظلم حاجة الناس إلى مواده كحاجتهم إلى مواد الأغذية ويقال حد الانسان إنه ناطق فمن كانت رتبته في النطق أبلغ كان بالانسانية أخلق وقال أبو الفرج الببغا في رسالة له مدح فيها الكلام الحيوان كله متساو بنعت الحركة والنمو فالانسان والبهيمة باشتمال هذا الوصف عليهما سيان وإنما فضل العالم الأنسي بالنطق المترجم عن مراد العقل المظهر للحكمة من القلب إلى العقل فإذا صحت بهذه القاعدة أن الانسان بفضيلة النطق أشرف مصنوع وأفضل مطبوع فقد وجب أن يكون أكمل هذا الجنس فضلاً وأحمد هذا العالم فعلاً ومن كان قسطه بفضيلة النطق موفوراً فمحله من ربع البلاغة معموراً وقال أيضاً من زعم أن الصمت أشرف مرتبة وأرفع منزلة من الكلام فقد حكم على الكلام بالنقصان وأحل العي محل البيان ولو كان الصمت أفضل من الكلام لتعبدنا الله به فيما انتدبنا له بالالهام وكان توحيد الله بحجج العقول في غنى عن واسطة أو رسول وقيل لبعض الحكماء أيما أفضل الصمت أو النطق فقال إن الله تعالى بعث أنبياءه بالنطق لبيان الحجة وإنك تمدح الصمت بالنطق ولا تمدح النطق بالصمت وما عبرت به عن شيء فهو أفضل منه ويقال من فضل الناطق على الصامت إن الناطق يهدي ضالاً ويرشد غاوياً ويعلم جاهلاً وقيل لزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم الصمت خير أم الكلام فقال لعن الله المساكتة فما أفسدها للسان وأجلبها للعي والله للماراة أسرع في هدم العي من السنان في نبش العرفج وقال آخر الصمت مفتاح السلامة ولكنه قفل الهم وقال الشاعر
خلق اللسان لنطقه وكلامه ... لا للسكوت وذاك حظ الأخرس
فإذا نطقت فكن مجيباً سائلاً ... إنّ الكلام يزين رب المجلس
وقالوا اللسان عضو إن مرنته مرن وإن تركته حرن وقالوا اللسان إذا كثرت حركته رقت عذبته كالرجل إذا عودت المشي سعت وقال خالد ابن صفوان ما الانسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مرسلة أو حالة مهملة وقال أيضاً لسان الفتى أوجه شفعائه وأنفذ سلاحه على أعدائه به يتصل الود وينحسم الحقد شاعر
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم

وقال بعض البلغاء مغرس الكلام القلب وزارعه الفكر وقيمه العقل وزهره الاعراب وثمره الصواب وجانيه اللسان
ومما شرف به اللسان ... من خصائص الاحسان
قالوا اللسان جوهر الانسان من خصائصه إن الله رفع قدره على سائر الأعضاء فأنطقه بتوحيده والهمه لتمجيده ومن خصائصه أنه أداة يظهر بها البيان وظاهر يخبر عما بطن في الجنان وحاكم يفصل بالخطاب وناطق يرد الجواب وواصف تعرف به الأشياء وواعظ ينهى عن الفحشاء وشاهد يسأل به عن الغائب وشافع تدرك به المطالب ومونق يلهى الخاطر ومؤنس يزيل وحشة النافر ومعز تسكن به غلة الخليل ومزين يدعو إلى الجميل وزارع ينبت الوداد وحاصد يذهب الضغائن والأحقاد
ومما ينال به الخامل أعلى الرتب ... التحلي بأنواع جواهر الأدب
الأدب نوعان نفسي وكسبي فالنفسي بتوفيق الله يهبه الله لمن يريد وهو ما كان من محاسن الأفعال الدالة على كرم الطباع والكسبي ما استفادته الأنفس من أحاسن الأقوال الآخذة بأعنة القلوب او الأسماع وهو الذي ترجمت عليه في هذا الموضع ليقع ذكره في النفوس أحسن موقع لترمقه لأجله العيون بالاجلال وتتجمل النفوس به لميلها إليه بتتابع الأدلال وهو الظرف في اللسان الكائن عن الاشتغال بفنون علوم الآداب الحسان كالنحو واللغة ونظم الشعر وإنشاء النثر وما يتعلق بذلك من علم البديع والمعاني والبيان وما ذكرناه فهو الذي نال به حماد الراوية والأصمعي وإسحق الموصلي العلا من الخلفاء والجوائز من الوزراء وسموا تشريفاً لهم بالجلساء والندماء قال أكثم بن صيفي الرجل بلا أدب شخص بغير آلة وجسد بلا روح وقال بزرجمهر الدب شريف لا ينطبع إلا في مثله وقال الأحنف لكل شيء ذؤابة وذؤابة الشرف الأدب وقال أنوشروان عجبت لمن يشهره الأدب كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة وقال بعض الأعراب لولده عليك بالأدب فإنه يرفع العبد المملوك حتى يجلسه في مجالس الملوك وقال عبد الملك لبنيه تأدبوا فإن كنتم ملوكاً بررتم وإن كنتم أوساطاً فقتم وإن أعوزكم المعاش عشتم استفيدوا من الأدب ولو كلمة واحدة وقال بعض الأعراب تعلموا الأدب فإنه زيادة في الفضل ودليل على العقل وصاحب في الغربة وأنيس في الوحدة وجمال في المحافل وسبب إلى درك الحاجة وقال المأمون والله لان أموت طالباً للأدب خير من أن أموت قانعاً بالجهل ويقال ذك قلبك بالأدب كما تذكي النار بالحطب وقال الخليل بن أحمد من لم يكتسب بالأدب مالاً اكتسب به جمالاً وقال آخر الأدب أكرم الجواهر طبيعة يرفع الأحساب الوضيعة ويفيد الرغائب الجليلة وينجح القصد والوسيلة فالبسوه حلة وتزينوه حلية فإنه أنفق معاش وأجمل رياش وقال الشعبي الأدب للفقير مال وللغني جمال وللحكيم كمال
ومما ذكر أنّ التحلي بالآداب ... يلحق الدنئ بذوي الأحساب
قالوا من قعد به نسبه نهض به حسبه وقالوا من تأدب وليس له حسب الحقه الأدب بأهل الرتب وقد يستغني الأدب عن الحسب كما حكى عن سيبويه قال تكلم رجل بين يدي المأمون فأحسن فقال له المأمون ابن من أنت قال ابن الأدب يا أمير المؤمنين فقال نعم الحسب الذي انتسبت إليه ولهذا قيل المرء من حيث يثبت لا من حيث ينبت ومن حيث يوجد لا من حيث يولد وبآدابه لا بثيابه وبفضيلته لا بفصيلته وبعقله لا بعقائله وبأنبائه لا بآبائه وبكماله لا بجماله قال الشاعر
كن ابن من شئت واتخذ أدبا ... يغنيك محموده عن النسب
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
وقال بزرجمهر من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان وضيعاً وبعد صيته وإن كان خاملاً وساد وإن كان غريباً وكثرت حوائج الناس إليه وإن كان فقيراً وقالوا من دأب في طريق الأدب أدرك حاجته وملك ناصيته ونبل قدره ونبه ذكره قال الشاعر
لكل شيء زينة في الورى ... وزينة المرء تمام الأدب
قد يشرف المرء بآدابه ... فينا وإن كان وضيع الحسب

وما أحسن قول بعض الأعاجم يفتخر ويعتذر
مالي عقلي وهمتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي
وإذا انتمى منتم إلى أحد ... فإنني منتم إلى أدبي

ويقال حسن الأدب يستر قبيح النسب وقالوا الفضل بالعقل والأدب لا بالأصل والنسب ويقال الأدب ينوب عن الحسب ولا ينفع حسب بلا أدب شاعر
كم من خسيس وضيع القدر ليس له ... في العز بيت ولا ينمى إلى نسب
قد صار بالأدب المحمود ذا شرف ... عال وذا حسب محض وذا نشب
يعلى التأدب أقواماً ويرفعهم ... حتى يساووا ذوي العلياء في الرتب
ذكر من دأب في طلب الأدب ... فنال به أعلى المناصب والرتب

يكفي دليلاً على ما ذكرناه وانموذجاً لما وصفناه حال أحمد بن أبي دواد في ترقيه إلى بقاع المجد من الحضيض الوهد يحكي أنه كان يختلف إلى ملجس بشر المريسي في حالة رثة وهيئة رديئة وينصرف عنه في قائم الظهيرة معلقاً محبرته متأبطاً دفتره فيقيل عند أخل له فلما وجه المأمون المعتصم إلى مصر التمس من بشر رجلاً من أصحابه يكون في صحبة المعتصم يوليه على المظالم ويكتب إليه أخباره فقال يا أمير المؤمنين معنا قوم لهم فقه ولكن لم يجمعوا إليه الأدب ومعرفة أمور السلطان ثم وصف له أحمد ابن أبي دواد قال إنه جمع إلى فقه أدباً وبياناً وعقلاً فأرسل إليه وقلده المظالم ففعل ثم حل من المعتصم محلاً عظيماً لاختياره له أيام مقامه بمصر معه ومنهم الفضل بن سهل ذو الرياستين كان أهل بيته مجوساً وتجاراً وصناعاً فيهم الدهقان وبائع الخمر فبلغ به الأدب إلى أرفع الرتب ذكر عنه إنه كان يتقلد بسيفين أحدهما أحمر الجفر مكتوب عليه رياسة الحرب والآخر أسود الجفر مكتوب عليه رياسة التدبير ولهذا سمى ذو الرياستين وصحب الفضل المأمون في حداثته أيام أبيه الرشيد وهو مجوسي فغلب عليه وحمله على إيثار الأدب وطلب الحكمة وكان الفضل يعلم أحكام النجوم فأخبره إنه يرى في طالعه أنه يلي الخلافة سلباً وإن تدبيره يبعد عنه شرقاً وغرباً فبلغ الرشيد شأنه وخبره فهدر دمه فاستتر حيناً ثم بدا له أن يظهر فأتى الرشيد وهو في الحلبة فمثل بين يديه وهو يقول أعوذ يا أمير المؤمنين برضاك من سخطك واعترف بالذنب وأسلم لله على يدك فقال الرشيد من هذا قالوا المجوسي الذي هدرت دمه فقال قد وهبناك دمك إذا سلمت له فغياك ومعاودة ما بلغنا عنك ومنهم محمد بن عبد الملك الزيات قال له العلاء ابن أيوب يوماً وقد دارت بينهما محاورة في مناظرة ليس هذا كيل الزيت ولا عد الجوز قال له أبا التجارة تعيرني قد كنت تاجراً وكنت متأخراً فقدمني الله بالأدب وأصارني بعد التجارة إلى الوزارة وليس المعيب من كان خسيساً فارتفع وإنما هو من كان شريفاً فاتضع ولو كنت عاملتك معاملة الفضل ابن سهل وأذللتك كما أذلك لم تقدم علي بمثل هذا القول الذي لم ينفعك فقد كنت تدخل دار الخلافة تلوذ بالجدران وتتبع الأفياء ناكس الرأس غضيض الطرف خوفاً منه لكني رفعتك في المجلس فوق من هو أرفع منك وقدمتك على من هو متقدم عليك فقال له العلاء مهلاً إنما قلت كلمة مقولة وتمثلت بمثل مضروب لم اعتمدك به فأما قولك إني كنت ألوذ بالجدران وأتبع الأفياء خوفاً من الفضل فقد كان ذلك ولكني لم أكن أراك هناك وإن أولى الناس أن لا يعير أحداً باستخفاف الفضل لانت فقال ابن الزيات هذا شر من ذلك ونهض من مجلسه وقال احجبوه عني فكان العلاء يأتي بابه كل يوم فيقف حتى ينصرف الناس ثم يمضي فلما رأى ابن الزيات صبره وأدبه صالحه وخالصه وأراد العلاء بقوله فإن أولى الناس أن لا يعير أحداً باستخفاف الفضل لانت إن الفضل رأى على ابن الزيات سواداً فأمر بتمزيقه عليه وقال لا تتشبه بأصحاب السلطان وأرباب المراتب ثم لم تطل مدة الأيام والليالي حتى قلد ابن الزيات الوزارة وجلس الفضل بن سهل بين يديه وكان ابن الزيات ملياً بعلم الأدب كاتباً شاعراً لا يشق في شيء منها غباره ولا تدرك آثاره يحكي في سبب تقدمه بعد أن كان يتولى قهرمة الدار ويسرف على المطبخ إنه ورد على المعتصم كتاب البريد يخبر فيه إن بلاد الجبل نزل بها مطر عظيم كثر منه الكلا فقال المعتصم لأحمد بن عمارة وكان متقلد العرض عليه ما الكلا قال لا أدري فقال المعتصم إنا لله وإنا إليه راجعون أخليفة أمي وكاتب عامي ثم قال من يقرأ لنا الكتاب فعرف بمكان محمد بن عبد الملك الزيات فطلبه فلما مثل بين يديه قال له ما الكلا قال النبات كله رطبه ويابسه فالرطب خاصة يقال له العشب واليابس خاصة يقال له الحشيش ثم اندفع في وصف النبات من ابتدائه إلى انتهائه فهذا هو السبب لما ذكرناه
ومن ممادح أهل هذه الصناعة ... الآخذين بأعنة الفصاحة والبراعة

وصف مسلم بن بلال بني العباس وقد سئل عنهم فقال أولئك قوم بنور الخلافة يشرقون وبلسان النبوة ينطقون ومدح خالد بن صفوان رجلاً ببراعة المنطق فقال كان والله جزل الألفاظ عزيز مقال اللسان فصيح ما خذ البيان رقيق حواشي الكلام بليل الريق قليل الحركات ساكن الاشارات ومدح أعرابي رجلاً فقال فلان أخذ بزمام الكلام فقاده أسهل مقاد وسافه أجمل مساق فاسترجع به القلوب الجامحة واستصرف به الأبصار الطامحة ووصف ابن المقنع بليغاً فقال ما زالت ينابيع حكمه تترقرق في مغابن الآذان حتى أعشبت بها القلوب عقولاً وقد ألم بهذا المعنى المتنبي في قوله
نطق إذا ما القول حط لئامه ... أعطى بمنطقه القلوب عقولا
ولأبي إسحق الصابي في الوزير أبي محمد المهلبي رحمه اللّه تعالى
قل للوزير أبي محمد الذي ... قد أعجزت كل الورى أوصافه
لك في المحافل منطق يشفي الجوى ... ويسوغ في أدب الأريب سلافه
فكانّ لفظك لؤلؤ متنحل ... وكأنما آذاننا أصدافه
قيل فلان إذا أنشأ وشى وإذا عبر حبر فلان إذا أنشأ انتثرت زهرات الآداب من عذوبة لسانه وإذا أنشد حرك ذا الوقار طرباً باحسانه لله در فلان ما أسبط لسانه وأطول عنانه وأفصح بيانه وأجود افتنانه أبو عبادة البحتري يصف بليغاً
حكم فسائحها خلال بنانه ... متدفق وقليبها في قلبه
كالروض مؤتلفاً بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه
وكأنها في السمع معقود بها ... شخص الحبيب بد العين محبه
ولبعض شعراء العصر
مقال تفدّيه أوائل وائل ... وتفديه أحقاباً أعارب يعرب
هو الزهر الغض الذي في كمامه ... أو اللؤلؤ الرطب الذي لم يثقب
آخر
قول هو الماء لذ مطعمه ... وكل قول سواه كالزبد
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي أربة في القول جداً ولا هزلا
آخر
كلام كوقع القطر في المحل يشتفى ... به من جوى في باطن القلب لاصق

الفصل الثاني من الباب الخامس
في يتحلى به ألباب الأدباء
فيما يتحلى به ألباب الأدباء ... من بلاغات الكتاب والخطباء
ولنورد امام هذا الفصل نبذة يسيرة في حد البلاغة وأقسامها والطريق الذي يوصل سلوكه إلى معرفة نقصها أو تمامها قال العتابي واسمه كلثوم بن عمرو البلاغة اظهار ما غمض عن الخلق وتصوير الباطل في صورة الحق وقال علي بن عيسى الرماني أبلغ الكلام ما حسن ايجازه وكثر اعجازه وتساوت صدوره وأعجازه وقالوا البلاغة ايصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ وقيل لبعض البلغاء من البليغ قال الذي إذا قال أسرع وإذا أسرع أبدع وإذا أبدع حرك كل نفس بما أودع وقالوا لا يستحق الكلام اسم البلاغة حتى لا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك وقال عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان الحمار البلاغة ما رضيته الخاصة وفهمته العامة
والعرب سباق حلبة البيان ... يعترف لهم بذلك فصحاء كل زمان
قال بعضهم نحن أمراء الكلام فينا وشجت عروقه وعلينا تدلت غصونه فنحن نجني منها ما احلولي وعذب ونترك ما املولح وخبث وقال الجاحظ ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع ولا آنق في الأسماع ولا أقود للطباع ولا أفتق للسان ولا أجود تقويماً للبيان من كلام الأعراب الفصحاء العقلاء وسئل بعض البلغاء أيما أشرف العرب أو العجم فقال العرب أحلى وأحلم وأعلى وأعلم وأقوى وأقوم وأنكى وأنكر وأذكى وأذكر وأعطى وأعطف وأحصى وأحصف وأبلى وأبلغ وأسمى وأسمح وأشرى للفخار وأشرف وأنفى للعار وآنف وسال كسرى الحرث بن كلدة لما وفد عليه ما الذي يحمد من أخلاق العرب ويحفظ من مذاهبهم فقال لهم أنفس سخية وقلوب جرية وعقول صحيحة وأنساب صريحة يمرق الكلام من أفواههم مروق السهم من الرمية أعذب من الماء وأرق من الهواء يطعمون الطعام ويضربون الهام عزهم لا يرام وجارهم لا يضام ولا يروع إذا نام
فمن وشائع ألفاظهم البارعة ... وبدائع معانيهم الرائعة

ما يحكى أن أعرابياً قال عند ضجره في طلب الرزق والله لقد تقلبت بي الأسباب وقرعت جميع الأبواب واضطربت غاية الاضطراب وسافرت حتى بلغت منقطع التراب ورضيت من الغنيمة بالاياب فما رأيت الحرمان إلا فائضاً والنحج إلا غائضاً واعترضت أعرابية المنصور بطريق مكة بعد موت السفاح فقالت يا أمير المؤمنين قد أحسن الله إليك في الحالتين وأعظم عليك النعم في المنزلتين سلبك خليفة الله وافادك خلافة الله فاحتسب عند الله ما سلبك وأشكر له ما منحك ووقف أعرابي على قوم يسألهم فقال يا أرباب الوجوه الصباح والعقول الصحاح والصدور الفساح والنفوس السماح والألسن الفصاح والمكارم الرباح هل فيكم من يسمع كلامي فيعذرني من مقامي ووقف أعرابي بقوم فقال يا قوم أشكو إليكم زماناً كلح لي بوجهه وأناخ علي بكلكله بعد نعمة من البال وثروة من المال وغبطة من الحال اعتورتني جديداه بنبال مصائبه عن قسي نوائبه فما تركا لي ثاغية أجتدي ضرعها ولا راغية أرتجي نفعها فهل فيكم معين على صرفه أو معد على حيفه فردوا عليه ولم ينيلوه شيأً فولي عنهم وهو يقول
قد ضاع من يأمل من أمثالكم ... جوداً وليس الجود من أفعالكم
لا بارك اللّه لكم في مالكم ... ولا أزاح السوء عن عيالكم
فالموت خير من صلاح حالكم
ومن كلامهم في الأوصاف وصف أعرابي امرأة فقال هي السقم الذي لا برء منه والبرء الذي لا سقم معه أسهل من الماء وأبعد من السماء ووصف آخر امرأة فقال كاد الغزال يكونها لولا ما نقص منه وتم منها وقال آخر سبقنا الحي وفيهم أدوية السقام فقرأن بالحدق السلام وخرست الألسن عن الكلام وقال آخر خرجت حين انحدرت النجوم وسالت أرجلها فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر وأرسل أعرابي ولده في حاجة فرجع خائباً فسأل عن سبب خيبته فقال أتيت سوق الظما فبكت السماء وضحك البرق وقهقه الرعد فخفت الهاطلة فرجعت وصف أعرابي مصيبة فقال إنها مصيبة تركت سود الرؤس بيضاً وبيض الوجوه سوداً وقيل لبعض الأعراب هل عندكم في البادية طبيب قال كلا إن حمر الوحش لا تحتاج إلى بيطار وقيل لأعرابي كيف حالك فقال أمزق ديني بالذنوب وأرقعه بالاستغفار وقيل لأعرابي مالك من فلان قال وجه صبيح وصدر فسيح وقلب نصيح ونسب صريح وخلق صحيح وسعي نجيح ووعد مريح
ملح من بدائع ألفاظ الكتاب الأفاضل ... الهادي حلال سحرها بحرام سحر بابل
ولنورد امام ذلك كلاماً في فضل الكتابة كافياً وللكتاب من أدواء الخمول شافياً قلت الكتاب ساسة الملك وعماده وأركان قراره وأطواده بأقلامهم تبسط الأرزاق وتقبض الآجال وبأحلامهم تصان المعاقل إذا عجز عن صونها الرجال وقالوا الكاتب مالك الملك يصرفه بقلم الانشاء حيث شاء وقالوا لو أن في الصناعات صناعة مربوبة لكانت الكتابة ربا لكل صناعة وقالوا الكتابة قطب الأدب وفلك الحكمة ولسان ناطق بالفضل وميزان يدل على رجاحة العقل وبالكتاب قامت السياسة والرياسة وإليهم ألقى تدبير الأعنة والأزمة وعليهم يعتمد في حصر الأموال وانتظام شتات الأحوال شاعر
قوم إذا أخذوا الأقلام عن غضب ... ثم استمدّوا بها ماء المنيات
نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لا ينال مجدّ المشرفيات
آخر
قوم إذا خافوا عداوة إمرئ ... سفكوا الدما بأسنة الأقلام
ولضربة من كاتب ببنانه ... أمضى وأنفذ من رقيق حسام
قال ابن المقفع الملوك أحوج إلى الكتاب من الكتاب للملوك ومن فضل الكتابة إن صاحب السيف يزاحم صاحب القلم في قلمه ولا يزاحمه الكاتب في سيفه
فمن موجز بلاغتهم ... ومعجز صياغتهم

ما كتب به للنبي صلى الله عليه وسلم من كتاب أما بعد فكأننا في الثقة بك منك وكأنك في الرقة علينا منا. لا نالم نرجك في أمراً لا نلناه ولا خفناك عليه إلا أمناه ومن بليغ مكاتبتهم ما كتب به يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد وقد بلغه تلكؤه في بيعته أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام ومنها ما كتب به عبد الحميد لرجل بالوصاية على إنسان حق موصل هذا الكتاب إليك كحقه علي إذ رآك موضعاً لأمله ورآني أهلاً لحاجته وقد أنجزت حاجته فحقق أمله ومنها ما ذكر أن المأمون قال لعمرو بن مسعدة اكتب إلى عاملنا فلان كتاب عناية بانسان في سطر واحد فكتب هذا كتاب واثق بمن كتب إليه معتن بمن كتب له ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله ومن بدائعها ما كتب به أبو بكر الخوارزمي جواباً عن هدية وصلت التحفة ولم يكن لها عيب إلا أن باذلها مسرف في البر وقابلها مقتصد في الشكر والسرف مذموم إلا في المجد والاقتصاد محمود إلا في الشكر والحمد وكتب ابن العميد إلى محمد ابن يحيى يستعطفه من رسالته وما أحسبنا اشتركنا إلا في الاسم فقط وشتان بين محمد ومحمد فلو كنا السماكين لكنت الرامح وكنت الأعزل ولو كنا النسرين لكنت الطائر وكنت الواقع ولو كنا السعدين لكنت السعود وكنت الذابح أخذه من قول الفرزدق
وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى ... كثيراً ولكن لا تلاقي الخلائق
وكتب أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمداني بديع الزمان يستعطف أيضاً إني خدمت مولاي والخدمة رق بغير اشهاد وناصحته والمناصحة للمودة أوثق عماد ونادمته والمنادمة رضاع ثان وطاعمته والمطاعمة نسب دان وسافرت معه والسفر والاخوة رضيعاً لبان وقمت بين يديه والقيام والصلاة شريكاً عنان وأثنيت عليه والثناء من الله بمكان وأخلصت له والاخلاص مشكور بكل لسان وكتب أبو العيناء إلى أبي الوليد يستجديه مسناً وأهلنا الضر وبضاعتنا الود والشكر فإن لم تعطنا فلسنا ممن يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون وأبو العيناء كما قال فيه محمد بن مكرم وقد سئل عنه من زعم أن عبد الحميد أكتب من أبي العيناء إذا أحس بكرم أو شرع في طمع فقد ظلم وبعث ملك الروم إلى المعتصم كتاباً يتوعده فيه ويتهدده فأمر الكتاب أن يكتبوا جوابه فكتبوا فلم يعجبه مما كتبوا شيأً فقال لبعضهم اكتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار ومن محاسن لطائفهم ما حكى إن الرشيد قال ليحيى بن خالد إني أردت أن أجعل الخاتم الذي في يد الفضل إلى جعفر فاحتشمت منه فاكفنيه فكتب يحيى إلى الفضل قد أمر أمير المؤمنين أعلى الله قدره وأنفذ أمره أن ينقل خاتمه من يمينك إلى شمالك فأجاب الفضل قد سمعت ما قال أمير المؤمنين في أخي وما انتقلت عني نعمة صارت إليه ولا غربت عني رتبة طلعت عليه فانظر إلى هذه المآثر والمكارم التي هي للجباه غرر وللثغور مباسم ومن ملحهم ما كتبه أبو العير وهو أحمد بن محمد بن عبد الله الهاشمي تقليداً لأبي العجل يا أبا العجل وفقك الله وسددك وإلى كل خير أرشدك وليتك خراج ضياع الهواء ومساحة الفضاء وكيل ماء الأنهار وعد ورق الأشجار وطرار الأوبار وصدقات البوم وقسم الشوم بين الهند والروم وأجريت لك من الأرزاق ما يقوم بأودك في الانفاق بغض أهل حمص لأهل العراق وأمرتك أن تجعل عيالك بنيسان واصطبلك بهمدان ومطبخك بحران وبيت مالك بسجستان وديوانك بغانه ومجلسك بفرغانه وخلعت عليك خفي حنين وقميصاً من شين وسراويل من دين وعمامة من مخنة عين وحملتك على حمار مقطوع الذنب والاذنين مكسور اليدين والرجلين فدر في عملك كل يوم مرتين واحمد الله على ما ألهمنا فيك وقابلنا بالشكر على ما نوليك

ولنذكر من كلام الخطباء ذوي البراعة واللسن ما كان ذا لفظ بديع
ومعنى حسن بعد أن نورد في شرف الخطابة والخطباء كلاماً يمتزج بالقلوب امتزاج الماء بالصهباء

قال الله تعالى في حق داود عليه السلام مبيناً عن شرف ما أجزل له في العطاء وأطاب وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ذكر أن فصل الخطاب هو أما بعد في الخطبة وأنه أول من قالها وقالت العرب إن أول من قالها قس بن ساعدة الأيادي وأول من خطب لقمان بعدد أود عليه السلام وبه يضرب المثل في الحكمة والموعظة الحسنة وفي الحديث إن شعيباً خطيب الأنبياء وفي المثل أخطب من قس هو قس بن ساعدة الأيادي ولأياد وتميم شرف ليس لأحد من العرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم روى كلام قس وموعظته بعكاظ وهذا استناد تعجز عنه أماني الرجال وتنقطع دونه الآمال وبذلك كان خطيب العرب قاطبة وأما تميم فإن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عمرو بن الأيهم عن الزبرقان واسمه حصين بن بدر فأجابه بكلام مدحه فيه بما فيه فلم يرض الزبرقان باقتصاره على ما قال ورأى أنه غض منه وإنها عثرة لا تقال فقال في الحالة الراهنة كلاماً ذمه فيه بما فيه فصدق في الأول ولم يمن في الثاني فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لسرعة فهمه وتحريه الصدق في مدحه وذمه وقال في وصف كلامه ما هو به أحرى عطفاً على قوله للبيدان من الشعر لحكماً وغن من البيان لسحراً قال قيس بن عامر يمدح قوماً بالخطابة
خطباء حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن
وقال آخر يفتخر بقومه في المعنى
وإني من قوم كرام أعزة ... لاقدامهم صيغت رؤس المنابر
وقال أبو العباس الأعمى واسمه السائب ابن فروخ مادحاً لبني أمية بالخطابة في المعنى أيضاً
خطباء على المنابر فرسا ... ن عليها وقالة غير خرس
لا يعابون صامتين وإن قا ... لوا أصابوا ولم يقولوا بلبس
والخطابة جزالة اللفظ وشدة المعارضة وقال الجاحظ رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة وجناحاها رواية الكلام وحليها الأعراب وبهاؤها تخير اللفظ والمحبة مقرونة بالايجاز وقال ابن أبي دواد تلخيص المعاني رفق والاستعانة بالغريب عجز والتشادق بغض والنظر في عيون الناس عي ومس اللحية هلك والخروج مما بنى عليه أول الكلام اسهاب

ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الخطب التي حكمت فصاحتها بالعي لقس
والفهاهة لسحبان ورجعت خاسئة عن مجاراتها في ميدان البلاغة سوابق الأذهان غير أنا نورد منها في هذا المكان قطرة من سحابها الصائب لنصيب الغرض المقصود إصابة الهدف السهم الصائب

خطب عليه الصلاة والسلام فقال أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم الأوان المؤمن بين مخافتين بين أجل قد قضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن ديناه لآخرته ومن الشبيبة قبل الهرم ومن الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت مستعتب وما بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار فيالها كلمات لو صادفت سمعاً واعياً وقلباً لجناب الله داعياً وخطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد غشي المسلمين بمصيبتهم به ما غشيهم فقال أيها الناس من كان يعبد محمد فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت إن الله اختار لنبيه ما عنده على ما عندكم وقبضه إلى ثوابه وخلف فيكم كتاب الله وسنته فمن أخذ بهما عرف ومن فرق بينهما أنكر ثم تلى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية ثم قال أشهد إن الكتاب كما أنزل وأن الحديث كما حدث وإن الله حي لا يموت وإنا لله وإنا إليه راجعون وكان إذا فرغ من خطبته يقول اللهم اجعل خير زماني آخره وخير عملي خواتمه وخير أيامي يوم لقائك وكان عمر يقول آخر خطبته اللهم لا تدعني في غمرة ولا تأخذني على غرة ولا تجعلني من الغافلين وخطب علي رضي الله عنه فقال أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بوداع وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع وإن المضمار اليوم وغداً السباق فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمول وخطب معاوية رضي الله عنه في يوم شديد الحر فقال بعد التحميد إن الله خلقكم فلم ينسكم ووعظكم فلم يهملكم فقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وخطب يزيد بن معاوية بعد موت أبيه فقال الحمد لله ما شاء صنع من شاء أعطى ومن شاء منع ومن شاء خفض ومن شاء رفع إن أمير المؤمنين معاوية كان حبلاً من حبال الله تعالى مده ما شاء أن يمده ثم قطعه حين أراد قطعه وكان دون من قبله وخير من بعده ولا أزكيه عند ربه وقد صار إليه فإن يعف عنه فبرحته وإن يعاقبه فبذنبه وقد وليت الأمر بعده ولست أعتذر من جهل ولا آسى على طلب علم وعلى رسلكم إذا كره الله شيأً عسره وإذا أراد أمراً يسره وخطب سليمان بن عبد الملك فقال ألا إنما الدنيا دار غرور ومنزل باطل تضحك باكياً وتبكي ضاحكاً وتخيف آمناً وتؤمن خائفاً وتفقر مثرياً وتثري فقيراً اعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس ظلام الليل إذا عسعس وخطب عمر بن عبد العزيز فقال أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم وأصلحوا دنياكم تصلح لكم آخرتكم وإن أمر أليس بينه وبين آدم أب حي لعريق في الموتى وكان يقول في آخر خطبته اللهم إن ذنوبي عظمت عن أن تحصى وهي صغيرة في جنب عفوك فاعف عني وخطب في زواج فقال الحمد لله ذي الكبرياء وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء أما بعد فإن الرغبة منك دعتك إلينا والرهبة منا فيك أجابت وقد زوجناك على كتاب الله وسنة رسوله إما إمساك بمعروف أو تسريح باحسان وخطب السفاح لما قتل مروان بن محمد وبويع فقال ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار الآية ثم قال نكص بكم يا أهل الشام آل حرب وآل مروان ماذا يقول زعماؤكم يقولون ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار إذا يقول الله وفاء بما وعد لكل ضعف ولكن لا تعلمون إما أنا فقد غفرت لكم الزلة وبسطت لكم الاقالة وعدت بفضلي على نقصكم وبحلمي على جهلكم فليسكن روعكم ولتطمئن بكم داركم ولتعظكم مصارع أولئكم فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا وخطب المنصور فقال أحمد الله حمده وأستعينه وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أيها الناس اتقوا الله فقام إليه رجل وقال اذكرك من ذكرتنا به وأنت في ذكره يا أمير المؤمنين فقال المنصور مرحباً مرحباً لقد ذكرت جليلاً وخوفت عظيماً وأعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم والموعظة منابدت ومن عندنا خرجت وفي رواية قال سمعاً وطاعة لمن سمع عن الله وذكر به وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ثم التفت إلى

الرجل وقال وأما أنت يا قائلها فوالله ما الله أردت بهذا ولكن ليقال قام فلان فقال فعوقب فصبر وأهون بها من قائل لو كانت وأنا أنذركم أيها الناس اختها فإن الموعظة الحسنة علينا نزلت وفينا ثبتت ثم قال رحم الله امرأ نظر في دنياه لآخرته فمشى القصد وقال القصد وجانب الهجر ثم أخذ بقائم سيفه وقال إن بكم داء هذا شفاؤه وأنا زعيم لكم بشفائه فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به فما بعد الوعيد إلا الايقاع وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وخطب المامون في يوم عيد فقال أيها الناس عظم قدر الدارين وتباين جزاء العالمين وطالت مدة الفريقين الله الله إنه الجد لا اللعب والحق لا الكذب وما هو إلا الموت والبعث والميزان والحساب والصراط والقصاص والثواب والعقاب فمن نجا يومئذ فقد فاز ومن هوى فقد خاب الخير كله في الجنة والشر كله في النار فلله هذه الكلمات ما أجلاها لصد الذنوب وأحلاها وقعاً في القلوب ولم تزل خلفاء بني العباس يخطبون على المنابر في الجمع والأعياد وآخر من فعل ذلك منهم الراضي خطب العمال قال الشعبي ما سمعت أحداً يتكلم إلا تمنيت أن سكت مخافة أن يخطئ إلا زياداً فإنه كان لا يزداد اكثاراً إلا ازداد احساناً خطب فقال أيها الناس لا يمنعنكم سوء ما تعلمون أن تنتفعوا منا بأحسن ما تسمعون فإن الشاعر يقولرجل وقال وأما أنت يا قائلها فوالله ما الله أردت بهذا ولكن ليقال قام فلان فقال فعوقب فصبر وأهون بها من قائل لو كانت وأنا أنذركم أيها الناس اختها فإن الموعظة الحسنة علينا نزلت وفينا ثبتت ثم قال رحم الله امرأ نظر في دنياه لآخرته فمشى القصد وقال القصد وجانب الهجر ثم أخذ بقائم سيفه وقال إن بكم داء هذا شفاؤه وأنا زعيم لكم بشفائه فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به فما بعد الوعيد إلا الايقاع وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وخطب المامون في يوم عيد فقال أيها الناس عظم قدر الدارين وتباين جزاء العالمين وطالت مدة الفريقين الله الله إنه الجد لا اللعب والحق لا الكذب وما هو إلا الموت والبعث والميزان والحساب والصراط والقصاص والثواب والعقاب فمن نجا يومئذ فقد فاز ومن هوى فقد خاب الخير كله في الجنة والشر كله في النار فلله هذه الكلمات ما أجلاها لصد الذنوب وأحلاها وقعاً في القلوب ولم تزل خلفاء بني العباس يخطبون على المنابر في الجمع والأعياد وآخر من فعل ذلك منهم الراضي خطب العمال قال الشعبي ما سمعت أحداً يتكلم إلا تمنيت أن سكت مخافة أن يخطئ إلا زياداً فإنه كان لا يزداد اكثاراً إلا ازداد احساناً خطب فقال أيها الناس لا يمنعنكم سوء ما تعلمون أن تنتفعوا منا بأحسن ما تسمعون فإن الشاعر يقول
اعمل بقولي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري

كذا وقعت لي هذه الحكاية ثم وجدت بعد ذلك في بعض التعاليق هذا البيت منسوباً للخليل بن أحمد ويجوز أن يكون الخليل أنشده متمثلاً به والله أعلم وقال بعد انشاده البيت اسمعوا قولي هذا وعوه فإنما علي ما حملت وعليكم ما حملتم وخطب مصعب بن الزبير لما قدم العراق والياً عليه من قبل أخيه عبد الله فقال بسم الله الرحمن الرحيم طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبا موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون وأشار بيده نحو الشأم والحجاز والعراق إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين وأشار بيده نحو الشأم يريد عبد الملك بن مروان ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض وأشار نحو الحجاز يريد أخاه عبد الله ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وأشار نحو العراق يريد أجناد عبد الملك وكان الحجاج من الفصحاء البلغاء قال الشعبي كنت ممن شاهده على المنبر ما رأيت أحداً أبين من الحجاج إن كان ليرقى المنبر فيذكر احسانه إلى أهل العراق وصفحه عنهم وإساءتهم عليه حتى أقول في نفسي إني لأحسبه صادقاً وإني لأظنهم كاذبين خطب فقال أما بعد فإن الله كتب على الدنيا الفناء وكتب على الآخرة البقاء ولا بقاء لما كتب عليه الفناء ولا فناء لما كتب عليه البقاء فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة وأقصروا طول الأمل بقصر الأجل قال الشعبي كلام حكمة خرج عن قلب خرب وخطب سليمان بن علي بالعراق لما قتلت الأمويون فقال ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين قضاء مبرم وقول فصل وما هو بالهزل الحمد لله الذي صدق عبده وأنجز وعده وبعدا للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضاً والفئ ارثاً وجعلوا القرآن عضين لقد جاءهم ما كانوا به يستهزؤن فكأين من قرية أهلكتها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ذلك ما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد أمهلوا والله حتى نبذوا الكتاب والسنة واعتدوا واستكبروا وخاب كل جبار عنيد ثم أخذتهم فكيف كان نكير فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً وخطب داود أخوه بالمدينة فقال أيها الناس حتام يهتف بكم صريحاً أما آن لراقدكم أن ينتبه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون أغركم الامهال حتى حسبتموه الاهمال هيهات منكم وكيف بكم والسوط والسيف مشيم ثم أنشد
حتى تبيد قبيلة وقبيلة ... ويعض كل مثقف بالهام
ويقمن ربات الخدور حواسراً ... يمسحن عرض نواصي الأيتام
قال الجاحظ داود وسليمان من أفصح خطباء بني هاشم كانا في البيان فرسي رهان إلا أن داود أفتق لساناً وأروق بياناً وكان لا يتقدم في تحرير خطبة قط
وواجب أن يكون بهذا الفصل لاحقاً ... ذم من ظل بمستثقل التقعير ناطقاً
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد الثرثارون الذين يتكلمون بالكلام تكلفاً وتجاوزاً وخروجاً عن الحد من قولهم نهر ثرثار لكثرة مائه والمتفيهقون تأكيد وهو مأخوذ من قولهم فهق الغدير يفهق إذا امتلا وقال بشر بن المعتمر إياك والتقعير فإنه يسلمك إلى التعقيد فتستهلك معانيك ويمنعك من اصابة مراميك وقلل بعض البلغاء أحذركم والتعمق في القول والتكلف وعليكم بمحاسن الألفاظ والمعاني المستخفة المستملحة فإن المعنى المليح إذا كسى لفظاً حسناً وأعاره البليغ مخرجاً سهلاً كان في قلب السامع أحلى ولصدره أملى وقال بعض الحذاق إياك والنحو بين العامة فإنه كاللحن بين الخاصة وما أحسن قول أبي عمرو بن العلاء في نحو هذا المعنى
لعمرك ما اللحن من شيمتي ... ولا أنا عن خطأ ألحن
ولكنني قد قسمت الكلام ... أخاطب كلاً بما يحسن
وقالوا خير الكلام ما لم يكن عامياً سوقياً ولا عربياً وحشياً وقال أبو الأسود الدؤلي لولده يا بني إذا كنت في قوم فلا تكلمهم بكلام لم يبلغه سنك فيستثقلوك ولا بكلام هو دونك فيزدروك ويحتقروك
فمن بوارد نوادر المتقعرين ... وشوارد بوادر المتفيهقين

ما حكى عن أبي علقمة النحوي أنه هاج به دم فأتى بحجام فقال يا هذا اشدد قصب المحاجم وأرهف ظبة المشارط وأسرع الوضع وعجل النزع وليكن شرطك وخزاً ومصك نهزاً ولا تكرهن آتياً ولا تردن آبياً فقال له الحجام جعلت فداك إن هذه الصنعة لا أحسنها وهذه حرب لا يشب نارها ولا يشق غبارها إلا عمرو بن معد يكرب ثم تركه وانصرف ولم يحجمه ومن أظرف ما ينسب إليه ما يحكى عنه أنه هاج به يوماً مرار فسقط على وجهه وأقبل قوم يعضون ابهامه وقوم يؤذنون في أذنه ظناً منهم أنه مصروع فلما أفاق من غمرات غشيته رآهم محدقين به فقال مالي أراكم تتكأكؤن علي تكأكأكم على ذي جنة افرنقعوا عني فقال بعضهم لبعض دعوه فإن جنيته تتكلم بالهندية اشترى الفضل بن الحباب جارية فوجدها ضيقة المسلك فقال يا جارية هل من بساق أو بزاق أو بصاق لان العرب تبدل السين صاداً وزاياً فقالوا صقر وسقر وزقر فقالت الجارية الحمد لله الذي لم يتمنى حتى رأيت حرى قد صار ابن الأعرابي يقرأ عليه اللغة وأتى رجل بع الولاة فقال أعز الله الأمير إن لي ابن أخ أشرأً بطراً قد انضوى إلى كل سكير وخمير عمد إلى عود فنحته وإلى معي فقضبه فطن وطنطن حتى فطن به فأحب عقوبته حتى ينتهي عن ذلك فتقدم الأمير باحضاره فلما مثل بين يديه قال له يا ابن أخي ألم أطعمك ألذ الطعام ألم أسقك أطيب الشراب قال بلى يا عم قال مالك والتعدي أضجعوه وجئوا عنقه فالتفت إليه الشاب وقال والله يا عم لوقع السياط على بدني أحب إلي من وقع كلامك في أذني فضحك منه الأمير وأطلقه أنشد العجاج وأعرابي حاضر عند الوليد بن عبد الملك
أمست الغانيات ترمي صدوداً ... وأراني للغانيات مصيدا
فقال الأعرابي للعباس بن الوليد تنح عنه لئلا تسقط عليك من فيه كلمة فتشدخك ومن أجل هذا النادر استثقل التقعير أهل الرشاقة في الألفاظ والحلاوة وقادوا طباعهم إلى اللطافة والطلاوة فقالوا متى كان اللفظ كريماً في نفسه متخيراً في جنسه وكان سليماً من التقعير والتعقيد حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان والتحم بالعقول وهشت له الأسماع وارتاحت إليه القلوب وخف على ألسنة الرواة حمله وشاع في الآفاق ذكره ومدحوا التارك للتقعير فقالوا فلان لم يرض بالتكليف مذهباً ولا اتخذ التصنع مركباً وقالوا فلان له ألفاظ لا يشوبها كدر العي ولا يطمس رونقها التكلف ولا يمحو طلاوتها التفيهق أعذب من الماء وأبعد من السماء

الفصل الثالث من الباب الخامس
في إنّ معرفة حرفة الأدب مانعة من ترقى أعالي الرتب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ازداد الرجل حذقاً في صنعة إلا كان ذلك نقصاً من رزقه وقالوا المتقدم في الحذق متأخر في الرزق وقالوا حرفة الأدب أعدى لصاحبها من الجرب وقالوا الرزق عند ذوي الأدب أروغ من ثعلب ومن أمثال عوام بغداد جهل يعولني خير من علم أعوله وقال الخليل بن أحمد إذا كثر الأدب قل خيره وإذا كثر خيره كثر ضيره وقال أبو بكر الخوارزمي في هذا المعنى
إن سرك حرمان ... به تصبح مقليا
فكن ذا أدب جزل ... وكن مع ذاك نحويا
ويقال حرفة الأدب لا يسلم من حرمانها أديب وقالوا التأديب تعذيب وأنشد الخليل بن أحمد
ما ازددت من أدب حرفا أسرّ به ... إلا تزايدت حرفا تحته شوم
إنّ المقدّم في حذق بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم
وقال ابن رشيق
أشقى بجدّك أن تكون أديبا ... أو أن يرى فيك الورى تهذيبا
إن كان مستوياً ففعلك أعوج ... يوماً وإن أخطأت كنت مصيبا
كالفص ليس يبين معنى نقشه ... حتى يكون بناؤه مقلوبا
ابن طباطبا
أليس عجيباً أنني مع تسببي ... وشعري ما أعطيت جدّاً ولا حدا
وإنّي إذا ما زرت قوماً مسلما ... حجبت فظنوا أنني أبتغي رفدا
وقد طال افلاسي وأحسب مثريا ... فأصبحت لا يجدي علي وأستجدي
آخر
قالوا أديب فأين المال قلت لهم ... قوسي بلا وتر سهمي بلا فوق
من لا يكون له جدّ يساعده ... تكون آدابه كالنفخ في البوق

ولما خلع المقتدر وبويع عبد الله بن المعتز بن المتوكل ولقب المرتضى بالله أدركته حرفة الأدب فلم يقم في الخلافة غير يومين ثم اضطرب حبله وهطل عليه طل الحرمان ووبله فهرب إلى دار ابن الجصاص التاجر فاختفى عنده ثم أخرج منها إلى القضاة والشهود العدول ميتاً بعد أيام يسيرة وذلك في يوم الخميس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين فقال فيه ابن بسام من أبيات يرثيه بها
للّه درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لولا ولا ليت فتنقمه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى قال لي أبي إذا كتبت كتاباً فالحن فيه فإن الصواب حرفة والخطأ نجح أخذه بعض الشعراء فنظمه في قوله
إن كنت يوماً كاتباً رقعة ... تبغي بها نجح وصول الطلب
إياك أن تعرب ألفاظها ... فتكتسي حرفة أهل الأدب
وقال أبو عبيدة من أراد أن يأكل الخبز بأدبه فلتبك عليه البواكي ولقد أجاد أبو إسحق الصابي في قوله
قد كنت أعجب من مالي وكثرته ... وكيف تغفل عني حرفة الأدب
حتى انثنت وهي كالغضبا تلاحظني ... شزراً فلم تبق لي شيأً من النشب
واستيقنت أنها كانت على غلط ... واستدركته وأفضت بي إلى الحرب
الضب والنون قد يرجى اجتماعهما ... وليس يرجى اجتماع الفضل والذهب
والسبب في حرمان الأدباء ... موهبة الخط وخمول النجباء
ما ذكره بعض المنصفين منهم في قوله إن ذا الأدب لا يزال متسخطاً على دنياه ذاماً لحاله لما يرى من ميل الزمان للئامه وجهاله فهو لا يمدحهم لعلمه بقصورهم عن ادراك منظومه ولا يثاب إما بجهل ممدوحه وإما من إفراط بخله الناتج عن لومه وقيل للحسن البصري لم صارت الحرفة مقرونة بمن جعل العلم والأدب شعاراً والثروة بمن كساه الجهل والحمق عاراً فقال ليس القول كما قلتم ولا الأمر كما زعمتم ولكنكم طلبتم قليلاً في قليل فأعجزكم طلبتم المال وهو قليل عند أهل العلم والأدب وهم قليل ولو نظرتم إلى من تحارف من أهل الجهل لوجدتموهم أكثر اقتاراً والمال عنهم أشد نفاراً وقال أبو الحسن علي المعروف بابن البغل متضجراً من الخمول
الدهر ضدّ ذوي الفضائل كلهم ... حتى كأنّ عدوّه من يفهم
لو كنت أجهل ما علمت لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم
كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم
آخر
يطرى لأهل الفضل دون الورى ... مصائب الدنيا وآفاتها
كالطير لا يحبس من بينها ... إلا التي تطرب أصواتها
الخدلجي
قل عني غناء عقلي وديني ... ودخولي في العلم من كل باب
أدركتني وذاك أعظم دائي ... حسنات من حرفة الآداب
آخر
قد عقلنا والعقل شر وثاق ... وصبرنا والصبر مرّ المذاق
إنّ من كان فاضلاً كان مثلي ... فاضلاً بعد قسمة الأرزاق

وربما أعدت حرفة الأدب أهل الوراقة
فأظلتهم منها سحائب الحرمان والفاقة قال أحمد بن عبد الله بن حبيب المعروف بأبي هفان سألت وراقاً عن حاله فقال عيشي أضيق من محبرة وجسمي أدق من مسطرة وجاهي أرهى من الزجاج وحظي أشد سواداً من العفص إذا خلط بالزاج وسوء حالي ألزم لي من الصمغ وطعامي أمر من الصبر وشرابي أكدر من الحبر والهم والألم يجريان في علقة قلبي مجرى المداد في شق القلم فقلت يا أخي لقد عبرت ببلاء عن بلاء فأنشد
المال يستر كل عيب في الفتى ... والمال يرفع كل وغد ساقط
فعليك بالأموال فاقصد جمعها ... واضرب بكتب العلم وجه الحائط
آخر
إنّ الوراقة والتفق ... ه والتشاغل بالعلوم
أصل المذلة والاضا ... قة والمهانة والهموم
وأنشدت لأبي النصر بن أبي الفتح كشاجم
غبط الناس بالكتابه قوماً ... حرموا حظهم بحسن الكتابه
وإذا أخطأ الكتابة حظ ... سقطت تأوه فصارت كآبه
وقال إسحق بن إبراهيم بن حمدويه المعروف بالحمدوي

ثنتان من أدوات العلم قد ثنتا ... عنان حظي عما رمت من نعم
وحبرت لي صحاف الحبر محبرة ... تذود عني سوام المال والنعم
والعلم يعلم أني حين آخذه ... لعصمتي نافر خلو من العصم
سمع بعض مجان الأدباء رجلاً يقول لا خير في علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فقال نعم إلا أنه متى لم يكن معه دانق يخرج به بقي رهناً ابن صادة الأندلسي
أما الوراقة فهي أنكد حرفة ... أغصانها وثمارها الحرمان
شبهت صاحبها بابرة خائط ... تكسو العراة وجسمها عريان
وأنشد أبو منصور عبد الملك بن إسمعيل الثعالبي في اليتيمة لأبي حاتم الوراق
إنّ الوارقة حرفة هزلت ... محرومة عيشي بها زمن
إن عشت عشت وليس لي أكل ... أو مت مت وليس لي كفن
وقال الشريف أبو يعلى بن الهبارية من قصيدته المخمسة التي أولها حي على خير العمل يذم الوارقة
تباً لرب المحبره ... يا ويله ما أدبره
وعيشه ما أكدره ... ورزقه ما أقتره
إن لم تصدّقني فسل
آخر
أدمى البكا عينيّ والمآقي ... وظلت ذا همّ وذا احتراق
ما إن أرى في الأرض والآفاق ... أزرى ولا أشقى من الوراق
إذا بدا في القمص الأخلاق ... يفرح بالحبر والأوراق
كفرحة الجنديّ بالأرزاق
آخر
هربت من الوراقة ملء شوطي ... فردّني الزمان إلى الوراقه
وترك المرء حرفته فراراً ... لأمر ليس يدريه حماقه
والسبب في حرمان ذوي النباهة ... فقدان أهل الفضل والوجاهة
يروى إن عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ذكرت يوماً قول لبيد
ذهب الدين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقالت لله أبوه ما كان أشعره لقد صدق قالوا وكيف يا أم المؤمنين قالت كان أحدهم إذا علم من أخيه خلة سدها من حيث لا يعلم ثم ذهب أولئك وجاء قوم كان أحدهم إذا علم من أخيه خله سدها من حيث يعلم ثم جاء من بعدهم قوم إذا علم أحدهم من أخيه خلة أحب أن يسأله فإذا سأله أعطاه ثم جاء من بعدهم قوم إذا علم أحدهم من أخيه خلة أحب أن يسأله فإذا سأله منعه ثم بعد ذلك يفضحه فيقول جاء فلان يسألني فلم أعطه ولله در القائل
لا يغرّنك اللباس ... ليس في الأثواب ناس
هم وإن نالوا الثريا ... بخلاء وخساس
كل من يدعى رئيسا ... هو في الخسة راس
كم يد تصلح للقط ... ع فتفدى وتباس
آخر
علام تحرّكي والحظ ساكن ... وما قصرت في طلبي ولكن
أرى نذلاً تقدّمه المساوي ... على حرّ تؤخره المحاسن
جحظة
لي حاجة لو أنها قضيت ... لعشت في خير وظل ظليل
حياة من مات وموت الذي ... ليس إلى إحيائه من سبيل
دخل بعض الظرفاء على يحيى بن خالد بن برمك وهو في السجن يريد زيارته فقال له ما تشتهي فقال أن أرى إنساناً فأخذ الرجل المرآة وأراه وجهه فيها فشكر له ذلك ثم أنشده
ما أكثر الناس بل ما أقلهم ... اللّه يعلم أنني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لم أرى أحدا
وقيل لسعيد بن المسيب وكان في عينيه ماء ألا تقدح عينيك فقال حتى أنظر بهما إلى من ومثل ذلك ما قاله أبو العيناء معتذراً عن عماه
قالوا العمي منظر قبيح ... قلت بفقدي لكم يهون
واللّه ما في الأنام حر ... تأسى على فقده العيون
وسأل رجل من رجل حماراً عارية فأخرج له اكافاً وقال له اجعله على من شئت ومر رجل بصديق له فرآه واقفاً على الطريق فقال له ما وقوفك ههنا فقال وقيل لأبي العيناء هل بقى من يلقى قال نعم في البئر ومر ببعض السكك فحبسه إنسان يريد العبث به فقال له أبو العيناء من أنت قال ابن آدم فأقبل يسلم عليه سلام مستوحش وقال عجب والله ما ظننت إلا أن هذا النسل قد انقطع يشير إلى ضياعه من أهل زمانه وقال الشاعر

المادحون اليوم أهل زماننا ... أولى من الهاجين بالحرمان
ذهب الذين يهزهم مداحهم ... هز الكماة عوالي المرّان
كانوا إذا مدحوا رأوا ما فيهم ... فالأريحية منهم بمكان
وقال بشار بن برد لقد عشت في زمان وأدركت أقواماً لو اختلقت الدنيا ما تجملت إلا بهم وأنا الآن في زمان ما أرى فيه عاقلاً حصيفاً ولا فاتكاً ظريفاً ولا ناسكاً عفيفاً ولا جواداً شريفاً ولا خادماً نظيفاً ولا جليساً خفيفاً ولا من يساوي على الخبرة رغيفاً وأنشد
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت أعرف
ابن الرومي
أيست من دهري ومن أهله ... فليس فيهم أحد يرتضي
إن رمت مدحاً لم أجد أهله ... أو رمت هجواً لم أجد عرضا
وله
قيل لي لم ذممت كل البرايا ... وهجوت الأنام هجواً قبيحا
قلت هب أنني كذبت عليهم ... فأروني من يستحق المديحا
بعض العرب
ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً ... هشوا إليّ ورحبوا بالمقبل
وبقيت في خلف كان حديثهم ... ولغ الكلاب تهارشت في المنزل
ابن منير الطرابلسي
قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب الدواعي والبواعث مغلق
فسد الزمان فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق
ابن البهاريه
خذ جملة البلوى ودع تفصيلها ... ما في البرية كلها إنسان
وإذا البياذق في الدسوت تفرزنت ... فالرأي أن تتبيذق الفرزان

الباب السادس
في العي
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
فيما ورد عن ذوي النباهة في ذم العي والفهاهة
قال الله تعالى أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وقال الله تعالى حكاية عن فخر فرعون على موسى بالبيان في قوله أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ذكر أهل التفسير أن موسى عليه السلام لما سمع هذا القول من فرعون قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمرلي واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي فاستجاب الله دعاءه وسمع نداءه فقال قد أوتيت شؤلك يا موسى وحل الله تلك العقدة وأطلق تلك الحبسة حد العي قالوا هو معنى قصير يحويه لفظ طويل وقال أكثم بن صيفي هو أن تتكلم فوق ما تقتضيه حاجتك وقالوا العي الناطق أعيى من العي الساكت لأن المفحم يأتي ما لا يرضاه ويطلب فوق ما في قواه وقالوا العي بلاغة بعي كما ذكر أن ربيعه خطب فأطال وأعجبته نفسه وإلى جانبه أعرابي فالتفت إليه وقال يا أعرابي ما تعدون البلاغة فيكم قال قلة الكلام مع الاصابة قال فما تعدون العي قال ما كن فيه منذ اليوم قال الشاعر
وإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... هدر الكلام تقوله مختلا
واعلم بأنّ من السكوت سلامة ... ومن التكلم ما يكون خبالا
وقال كسرى عي الصمت خير من عي الكلام وقال الجاحظ يذم رجلاً هو والجبن لم أر جباناً أجرأ منه ولا جريأ أجبن منه نظم بعض الشعراء معناه فقال
حصر مسهب جرئ جنان ... خير عي الرجال عي السكوت
فمما يشين حسان الصور ... العي في البيان والخبر
قالوا فضل الانسان على الحيوان بالبيان فإذا نطق ولم يفصح عاد بهيماً ويقال ما لعي مروأة ولا لمنقوص البيان بهاء ولوحك يا قوخه في عنان السماء وقالوا العي داء دواؤه الخرس وتكلم رجل عند معاوية وكان ذا عي فقال عمرو بن العاص سكوت إلا لكن نعمة وقال معاوية وكلام الأحمق نقمة وقالوا البيان بصر والعي عمي والبيان من نتاج العلم والعي من نتاج الجهل يحكى أن رجلاً قام إلى محمد بن عبد الملك الزيات فقال له إني مظلومك فقال هذا كلام يحتاج المشهود وبينة وأشيماء غير ذلك فقال الرجل أصلحك الله الشهود هم البينة والبينة هم الشهود وأشياء غير ذلك حصر وعي وزيادة هي نقص في القيام بحجتك فضحك منه وكشف ظلامته وقيل لبزرجمهر أي شيء أستر للعي قال عقل قالوا فإن لم يكن له عقل قال فمال قالوا فإن لم يكن له مال قال فاخوان يعبرون عنه قالوا فإن لم يكن له اخوان قال يكون شيأً صامتاً كالحجر ولا يلحقه ضرر وقال الشاعر

وما حسن الرجال لهم بزين ... إذا لم يسعد الحسن البيان
كفى بالمرء عيباً أن تراه ... له وجه وليس له لسان
آخر
والصمت أزين للفتى ... ما لم يكن عي يشينه
والقول ذو خطل إذا ... ما لم يكن لب يعينه
وقال الجاحظ لا يعاب الأخرس ولا يلام من استولى على بيانه العجز ويذم الحصر ويؤنب العي وصف أعرابي قوماً بالعي فقال منهم من ينقطع كلامه قبل أن يصل إلى لسانه ومنهم من لا يبلغ كلامه أذن جليسه ومنهم من يلج كلامه الاذان فيحملها عبأ ثقيلاً إلى الأذهان قال شاعر ينزه لسانه عن العي
وما بي من عي ولا أنطق الخنى ... إذا جمع الأقوام في الخطب محفل
آخر
وقلنا بلا عي وسنا بطاقة ... إذا النار يوم الحرب طال اشتعالها
ومن علامات العي الواضحة ... وسمات اللكن الفاضحة
الاستعانة وهو أن يرى المخاطب إذا كل لسانه يقول عند مقاطع كلامه للمخاطب استمع إلي واسمع مني وألست تفهم وافهم عني ومنهم من يقول في خلل كلامه أما قولي كذا فأعني به كذا ولا يريد التفسير ولكن يعمد كلامه بصيغة أخرى تكون غير مراده الأول فبيانه أبداً يقصر عن إيضاح أشكاله وإن أتى بأنواع الكلام وأشكاله وذم بعض البلغاء عيياً فقال قلبه ميت الفطنة ولسانه بادي اللكنة ولفظه ظاهر الهجنة شديد التعاون بين التهافت إذ عصته ولدغته المساجلة والمساورة تثاءب للعطاس وتثاقل للنعاس وتشاغل بمسح اللحية ومس الجبهة وقرع السن وفتل الأصابع فعجزه طاهر وعيه حاضر شاعر في مثل ذلك
مليّ ببهر والتفات وسعله ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع
ومن علامته التنحنح من غير داء والتثاؤب من غير ريبة والاكباب في الأرض من غير علة وقال ابن المعتز
ومن الكبائر مقول متتعتع ... جم التنحنح متعب متهوّر
ومن عيوب اللسانالمزيلة للاحسانالمزريه بقدر الانسان
التمتمة والفأفأة والعقلة والحبسة واللفف والرثة والغمغمة والطمطمة واللكنة والغنة واللثغة قال الأصمعي التمتمة إذا تعتع في التاء فهو تمتام وإذا تردد في الفاء فهو فأفاء قال الراجز
ليس بفأفاء ولا تمتام ... ولا كثير الهجر في الكلام
والعقلة التواء اللسان عند الكلام والحبسة تعذر النطق ولم يبلغ حد الفأفاء ولا التمتام ويقال إنها تعرض أول الكلام فإذا مر فيه انقطعت واللفف ادخال بعض الكلام في بعض قال الراجز
كأنّ في فيه لفيفاً إن نطق ... من طول تحبيس وهم وأرق

والرثة إيصال بعض الكلام ببعض دون إفادة والغمغمة أن يسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحروف ولا يفهم معناه والطمطمة أن يكون الكلام شبيهاً بكلام العجم وهي جميرية وقالوا هي إبدال الطاء بالتاء لأنهما من مخرج واحد فيقولون السلتان والشيتان بمعنى السلطان والشيطان وكانت في لسان زياد بن سلمى الأعجم وكان خطيباً شاعراً كاتباً واللكنة هي إدخال بعض حروف العرب في بعض حروف العجم وتشترك فيها اللغة التركية والنبطية وهي إبدال الهاء من الحاء وانقلاب العين همزة وكانت في لسان عبيد الله بن زياد وصهيب الرومي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أن مولى لزياد قال أيها الأمير احدوا لنا همار وهش يريد اهدوا لنا حمار وحش فلم يفهم زياد قوله فقال ما تقول ويلك فقال أحدوا لنا ايراً فقال زياد رجعنا إلى الأول فهو خير وحكى الجاحظ إن وازد انقار الفارسي كان له كاتب جلف في لسانه لكنة فأملى عليه يوماً في كتاب انا اعتبرنا الحاصل بالهاء فوجدناه ألف كر فكتبها الكاتب كما لفظ بها فلما أعاد علمه ما أملاه فطن لاجتماعهما على الجهل فقال أنت لا تهسن أن تكتب وأنا لا أهسن أن أملي فأكتب الجاصل ولا تعجم الجيم والغنة أن يشرب الصوت الخيشوم والخنة ضرب منها والترخيم حذف بعض الكلمة لتعذر النطق به واللثغة قال الجاحظ في كتابه البيان الحروف التي يدخلها اللثغة أربعة وهي القاف والسين والراء واللام فأنني تعرض للقاف فإن صاحبها يجعل القاف طاء فإذا أراد أن يقول قلت وقال قال طلت وطال بمعنى قلت وقال ومنهم من يبدلها كافاً فيقول كلت وكال بمعنى قلت وقال وكانت في لسان أبي مسلم وعبيد الله بن زياد وقال بعض الشعراء في أم ولد له يصفها بذلك
أكثر ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر
والسوأة السوء في ذكر القمر
لأنها كانت إذا أرادت أن تقول القمر قالت الكمر والكمر جمع كمرة وهي حشفة الذكر وأما التي تعرض للسين فإنهم يبدلونها ثاء فيقولون بثم الله إذا أرادوا بسم الله ويثره الله بمعنى يسره الله وهي مستحسنة من الجواري والغلمان وأحسن ما سمع فيها قول بعضهم
وأهيف كالهلال شكوت وجدي ... إليه بحسنه وأطلت بثي
وقلت له فدتك النفس صلني ... تخر حسن الثواب فقال بثي
ومن قبيح الأبدال إبدال الثاء المثلثة بالتاء المثناة وكانت في لسان شعبة وذلك فاش في لغة أهل صعيد مصر وما قبحهم إذا قالوا تلاتة آلاف وتلتمائة وتلاتة وتلاتين وتلت وفي الناس من يبدل الجيم ضاداً وهم من أهل صعيد مصر أيضاً فإذا اجتمع لأحدهم جيم وضاد في كلمة مثل ضج وضجر قالوا جض وجضر بجعل الجيم ضاداً والضاد جيماً وفي الناس من يبدل الخاء المعجمة حاء مهملة فيقول في خوخ حوح وفي خلخال حلحال وهي مستحسنة من الغلمان والجواري وأما التي تعرض في الراء فهي أربعة أحرف فمنهم من يجعلها غيناً معجمة فإذا أرادوا أن يقولوا عمر وقال عمغ وهي غالبة على لسان غالب أهل دمشق والعجب إنه إذا اجتمع لهم راء مع غين في مثل رغيف نطقوا بالراء غيناً وبالغين راء فيقولون غريف ومنهم من يجعلها عيناً مهملة فإذا أراد أن يقول عمرو قال عمع ومنهم من يجعلها ياء فيقول عمي ومنهم من يجعلها زاياً فيقول عمز وهي لغة خسيسة ومنهم من يقولها بالظاء أخت الطاء والأولى كانت في لسان محمد بن شبيب الخارجي والثانية كانت في لسان واصل بن عطا المعتزلي وكان لاقتداره على الكلام يتجنب النطق بها حتى كأنها ليست من حروف المعجم ومن عجيب ما يحكى عنه إنه ذكر بشار بن برد بكلام أسهب فيه وأطنب فلم يأت بكلمة فيها راء وهو أما لهذا الأعمى المكنى بأبي معاذ من يقتله والله لولا أن قتله خلق من أخلاق الغالبة لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه يريد بقوله الأعمى يعني الضرير وقال المكنى بأبي معاذ ولم يقل بشار ولا ابن برد وقال من أخلاق الغالبة ولم يقل المغيرة وقال من يبعج ولم يقل يبقر وقال على مضجعه ولم يقل على فراشه

لبعضهم فيمن يلثغ بالراء
ويجعل البرغّجا في تصرفه ... وجانب الراء حتى احتال للشعر
ولم يقل مطراً والقول يعجله ... فقال بالغيث إشفاقاً من المطر
ولبعضهم فيمن يلثع بالراء أيضاً

ولثغته لو أن واصل حاضر ... ليسمعها ما أسقط الراء واصل
وأما التي تعرض في اللام فإن من أهلها من يبدلها ياء فيقول أعتييت بمعنى اغتللت وبدل جمل جمى وهي أوضعهن لذي المروأة وقوم يجعلون اللام كافاً وهي قبيحة ولا حاجة بناء إلى تكملة بيان هذه الحروف قال الجاحظ وليس اللجلاج والتمتام والألثغ والفأفاء وذو الحبسة وذوي اللفف والرثة في سبيل من حصر في خطبته وعيي في مناضلته وخصومته
قد يكون البليغ عيياً عند سؤال مطلوبه
كالعاشق متى رام شكوى حاله لمحبوبه سئل محمد بن أبي دواد متى يكون البليغ عيياً قال إذا سأل ما يتمناه وشكى حبه إلى من يهواه ثم أنشد
بليغ إذا يشكو إلى غيرها الهوى ... وإن هو لاقاها فغير بليغ
آخر
قالت عييت عن الشكوى فقلت لها ... جهد الشكاية إن أعيا عن الكلم
آخر
وكم من حديث قد خبأناه للقا ... فلما التقينا صرت أخرس ابكما
آخر
عي المحب لدى الحبيب بلاغة ... ولربما قتل البليغ لسانه
قال بعضهم موطنان لا آنف من العي فيهما إذا شكوت إلى محبوبي عشقي وإذا سألت حاجة لنفسي فإن السائل قد يهاب المسؤل ويتبعه مع الهيبة ذل السؤال ويسأل العتابي رجلاً حاجة فاقلل في كلامه فقال له مالك من طوق في ذلك فقال كيف لا يقل كلامي ومعي حيرة الطلب وذل المسئلة وخوف الرد وحكى أن الفضل بن الربيع سار بعد نكبته إلى أبي عباد واسمه ثابت ابن يحيى يسأله حاجة فارتج عليه فقال يا أبا العباس أبهذا البيان خدمت خليفتين فقال أنا تعودنا أن نسئل ولا نسأل فاستعبر لكلامه ورق لحاله وقضى حاجته علي بن الجهم
إن دون السؤال والاعتذار ... خطة صعبة على الأحرار
أرض للسائل الخضوع وللقا ... ذف ذنباً مضاضة الأعذار
وأما ما يعتري العاشق المشوق ... من إلا فحام عند رؤية المعشوق
فكما قال أبو بكر الصنوبري
آية من علامة العشاق ... اصفرار الوجوه عند التلاقي
وانقطاع يكون من غير عيّ ... وولوع بالصمت واطراق
آخر
فما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت لا عرف لديّ ولا نكر
وأنسى الذي قد كنت فيما أقوله ... كما يتناسى لب شاربها الخمر
عمرو بن ربيعة
ضلّ عني لشدّة الوجد عقلي ... وجفان الذكا وعيّ لساني
ونسيت الذي نظمت من القو ... ل لديها وغاب عني بياني
آخر
أفكر ما أقول إذا التقينا ... وأحكم دائماً حجج المقال
فأنساها إذا نحن التقينا ... فانطق حين أنطق بالمحال

ولبعض الصوفية
ينوى العتاب له من قبل رؤيته ... فإن رآه فدمع العين مسكوب
لا يستطيع كلاماً حين ينظره ... كلّ اللسان وفي الأحشاء تلهيب
وقال أبو المعالي شيد له الصبوة والشوق والارتياح والتوق والفراق والتلهف والفوت والتأسف دواع تستأثر الصبر وتحصر عن وصفها للمحبوب ألسنة الحصر
ومما يشين البليغ بين أترابه ... عطل بيانه من حلي أعرابه
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعلموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض وكان أيوب السختياني يقول تعلموا النحو فإنه جمال الوضيع وتركه هجنة للشريف شاعر
النحو يصلح من لسان إلا لكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن
فإذا أردت من العلوم أجلها ... فأجلها منها مقيم الألسن
لحن الشريف يحطه عن قدره ... وتراه يسقط من لحاظ الأعين
وترى الدنئ إذا تكلم معرباً ... نال النباهة باللسان المعلن
ما وّرث الآباء فيما ورّثوا ... أبناءهم مثل العلوم فأتقن
آخر
لو لم يكن في النحو إلا أنه ... يذر الضئيل من الرجال مهيبا
يخشى التكلم حيث حل كأنما ... أضحى بأفواه الأنام رقيبا

وقال عمر تعلموا العربية فإنها تقوي العقل وتزيد في المروأة وقال عبد الملك ابن مروان اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه وسمع المأمون لحناً سن بعض ولده فقال ما على أحدكم أن يتعلم العربية يصلح بها لسانه ويفوق أقرانه ويقيم أوده ويزين مشهده ويقل حجج خصمه بمسكتات حكمه أيسر أحدكم أن يكون كعبده أو أمته فلا يزال الدهر أسير كلمته سمع الأعمش إنساناً يلحن فقال من هذا الذي يتكلم وقلبي منه يتألم وقال الحسن البصري ربما دعوت فلحنت فأخاف أن لا يستجاب لي وفي الحديث إن الله لا يسمع دعاء ملحوناً والعلماء لا يرون الصلاة خلف اللحنة وكيف لا يكون كذلك وأدنى حركة مغيرة للمعنى مؤدية إلى الكفر قال سعيد بن مسلم دخلت على الرشيد فملأ قلبي رعبه فلما لحن خف علي أمره يحكى أنه لم يسمع من الحسن البصري ولا من الشعبي ولا من أيوب بن الفرية ولا من عبد الملك بن مروان لحن قط في جد ولا هزل وكان سيبويه واسمه عمرو بن قنبر يختلف إلى حماد بن زيد يقرأ عليه الحديث فكان يلحن في قراءته فيرد عليه حماد فأبرمه يوماً لحنه فقال له كم تلحن أمالك مروأة فخجل ووجم فلما قام من مجلسه انقطع إلى الخليل بن أحمد فقرأ عليه النحو فمهر فيه وفاق وسار ذكره في الآفاق
وهذه نبذة مستحسنة من التعريف ... بنوا درهم المستظرفة في التحريف
قال يوسف بن خالد لعمرو بن عبيد ما تقول في دجاجة ذبحت من قفائها قال أحسن قال من قفاءها قال أصلح قال من قفاؤها قال له عمرو ما عناك بهذا قل من قفاها واسترح وأرح وكان يوسف يقول هذا أحمر من هذا أي أشد حمرة وكان الوليد بن عبد الملك لحنة خطب الناس يوم عيد فقرأ في خطبته يا ليتها كانت القاضية وضم التاء فقال عمر بن عبد العزيز عليك وأراحنا منك ودخل إليه أعرابي وعنده عمر بن عبد العزيز فقال له من أنت ووصل الهمزة فظن الأعرابي أنه يقول مننت فقال المنة لله ولأمير المؤمنين فقال عمر للأعرابي إن أمير المؤمنين يقول لك من أنت قال فلان بن فلان قال ما شأنك وفتح النون قال جدري في وجهي وفحج بساقي قال عمر ويحك إن أمير المؤمنين يقول لك ما شأنك وضم النون قال ظلمني ختني قال ومن ختنك وفتح النون قال وما سؤالك عن ذلك يا أمير المؤمنين حجام عندنا بالبادية قال عمر إن أمير المؤمنين يقول لك من ختنك وضم النون قال فلان وقيل للوليد إن العرب لا تحب أن يتولى عليها إلا من يحسن كلامها فجمع أهل النحو ودخل بيتاً ليتعلم فيه النحو فأقام فيه ستة أشهر ثم خرج منه أجهل من يوم دخل وكان بشر المريسي ممن شهر باللحن دعا لقوم فقال قضى الله لكم الحوائج على خير الوجوه وأهنأها فأنكروا عليه لحنه فقال قاسم التمار يصح هذا على قول الشاعر
إنّ سليمى واللّه يكلاها ... ضنت بشي ما كان يرزاها
فكان احتجاج قاسم أظرف من لحن بشر وكان خالد بن عبد الله القسري لحنة وفيه يقول ابن نوفل من أبيات
وألحن الناس كل الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق والخطب
قرأ سابق الأعمى ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا فقال بعض المجان ولا إن آمنوا ترافع إلى زياد رجل وأخوه في ميراث فقال إن أبوه مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله فقال زياد الذي أضعت من نفسك أضر عليك مما أضعت من مالك وأما القاضي فقال لا رحم الله أباك ولا جبر عظم أخيك قم في لعنة الله وحرسقره وقال رجل للأعمش من أين أقبلت قال من السوق قال وما اشتريت قال عسل قال هلا زدت ألف فقال له الأعمش وهلا زدت في ألفك ألفاً وعكسها ما حكى إن رجلاً قال لسعيد بن عبد الملك تأمرنا بشيأً قال نعم بتقوى الله وإسقاط الألف ويحكي إن خالد بن صفوان دخل الحمام يوماً وفي الحمام رجل معه ابنه فأراد الرجل أن يعرف خالداً ما عنده من البيان فقال لولده يا بني اغسل يداك قبل وجهك والتفت إلى خالد وقال يا أبا صفوان هذا كلام قد ذهب أهله فقال خالد هذا كلام ما خلق الله له أهلاً قط

الفصل الثاني من الباب السادس
في ذكر من قصر باع لسانه عن ترجمة ما في جنانه
قيل لابن المقفع وكان مفحماً عن نظم الشعر لم لا تقول الشعر قال الذي أرضاه لا يجئ والذي يجئ لا أرضاه
وزهدني في الشعر أنّ قريحتي ... بما تستجيد الناس ليس تجود
وقال ابن عبدون الكاتب

قلبي من العلم مملوء جوانبه ... وذا اللسان كليل لا يواتيني
فمن أرتج عليه من خطباء المحافل ... وفرسان المنابر والجحافل
يزيد بن أبي سفيان كان أبو بكر رضي الله عنه ولاه ربعاً من أرباع الشأم فلما رقى المنبر ارتج عليه فقطع الخطبة وقال سيجعل الله بعد عسر يسراً وبعد عي بياناً وأنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال ثم نزل وروى هذا الكلام لعثمان بن عفان وعليه أكثر المؤرخين وصعد عبد الله بن عامر منبر البصرة في يوم عيد الأضحى فحصر فقال لا أجمع عليكم عياً وبخلاً ادخلوا سوق الغنم فمن أخذ شاة فهي له وعلى ثمنها ثم صعد مرة أخرى فحصر فالتفت يميناً وشمالاً فرأى عتاب بن ورقاء وكان شيخاً أصلع فقال إما بعد يا أصلع فوالله ما غلطني غيرك فلعنها الله من صلعة علي به فلما مثل بين يديه أمر أن يضرب عشرين سوطاً ومنعه من دخول المسجد الجامع بعدها وصعد عدي بن أرطاة المنبر فلما رأى جمع الناس أرتج عليه فقال الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم ثم نزل وصعد روح بن حاتم المنبر فلما رأى الناس قد أصغوا إليه بأسماعهم ورمقوه بأبصارهم قال نكسوا رؤسكم وغضوا أبصاركم فإن المنبر مركب صعب وإذا الله يسر فتح قفلاً تعسر ثم نزل وخطب مصعب ابن حيان أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح فحصر فقال لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله فقالت أم الجارية عجل الله موتك وأراح منك الهذا دعوناك وصعد وازع اليشكري المنبر يوم جمعة فلما رأى جمع الناس هابهم فحصر فقال لولا أن امرأتي حملتني على إتيان الجمعة ما جمعت وأنا أشهدكم إنها طالق ثلاثاً ثم نزل وخطب ثابت مولى يزيد بن المهلب فارتج عليه فنزل وهو يقول
فالا أكن فيكم خطيباً فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فبلغ ذلك المهلب فقال لو قال هذا على المنبر لكان من أخطب الناس وخطب خالد بن عبد الله القسري فارتج عليه فقال إن هذا الكلام يجئ أحياناً ويعسر أحياناً وربما كوبر فأبى وعولج فنبا والتأني لمجيئه خير من التعاطي لأبيه وتركه عند تنكره أفضل من طلبه عند تعذره وقد يختلط من الجرئ جنانه وينقطع من الذرب لسانه وسأعود فأقول ثم نزل وارتج على أبي العباس السفاح فنزل ثم صعد وقال أيها الناس إن اللسان بضعة من الانسان يكل لكلاله ويرتجل لارتجاله ونحن أمراء الكلام بنا تفرعت فروعه وعلينا تهدلت غصونه وإنا لا نتكلم هدراً ولا نسكت حصراً بل نسكت معتبرين وننطق مرشدين وذكر المسعودي إن المعتضد خرج يوم الفطر وكان يوم الاثنين سنة تسع وسبعين ومائتين إلى مصلى أحدثه بالقرب من داره ليصلي بالناس فكبر في الركعة الأولى ست تكبيرات وفي الثانية تكبيرة واحدة فلما فرغ من الصلاة صعد المنبر فحصر ولم يسمع له خطبة وفي ذلك يقول الشاعر يعتذر عنه في هذا المقام
حصر الامام ولم يبين خطبة ... للناس في حل ولا احرام
ما ذاك إلا من حياء لم يكن ... ما كان من عي ولا افحام
وخطب داود بن علي فارتج عليه فقال اتقوا الله وافعلوا ما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه ثم نزل ولقد جمع في هذه الكلمات بين الحكمة وفصل الخطاب وأحسن لهم في النصيحة وأطاب صعد بعض الخطباء المنبر فحصر بعد الحمدلة فكررها مراراً فقال بعض من حضره على ما أبلانا منك فإنه لا يحمد على المكروه غيره ثم ولي وهو ينشد
ختم الإله على لسان عذافر ... ختماً فليس على الكلام بقادر
فإذا أراد النطق خلت لسانه ... لحماً تحرّكه لصقر نافر
قال ابن ذولاق في أخبار ولاة مصر لم يكن الناس يصلون بالجامع العتيق صلاة العيد حتى كانت سنة ست وثلثمائه أو ثمان صلى فيه العيد أحمد بن عبد الملك الفهمي المعروف بابن أبي سجر صلاة عيد الفطر ويقال إنه خطب يومئذ في دفتر فكان مما حفظ منه إن قال اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مشركون فقال فيه الشاعر
وقام في العيد لنا خاطباً ... يحرّض الناس على الكفر
وممن أرتج عليه من الأئمة في محرابه ... وكان تركه للصلاة خوف الخجل أحرى به

رجل صلى بقوم فقرأ فإذا قرأت القرآنف استعذ بالله من الشيطان الرجيم وارتج عليه فجعل يكررها فقال له مزيد والله إنك لا تحسن القرآن فما ذنب الشيطان وصلى سيفويه القاص بقوم فقرأ سورة الاخلاص فارتج عليه عند رأس آيتين منها فالتفت إلى من خلفه وقال من أراد أن يسمع باقي السورة فليحضر مسجد بني فلان ثم خرج وتركهم وصلت أعرابية مع قوم فقرأ الامام وأنكحوا الأيامى منكم ثم ارتج عليه فجعل يرددها مراراً فخرجت المرأة تعد وحتى لحقت بأختها وقالت يا أختاه لم يزل لامام يأمرهم بنكاحنا حتى خشيت أن يقعوا علي وحرج رجل من بيته مغلساً فمر بمسجد يصلي فيه الصبح فدخل ليصلي فقرأ الامام الفاتحة وابتدأ سورة يوسف فلما انتهى إلى قوله تعالى فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي فرددها مراراً فقال الرجل من خلفه فإن لم يأذن لك أبوك إلى الظهر يطول مقامي معك ويفوتني قضاء حاجتي ثم مضى وتركه وأرتج على الحجاج في صلاته فلم يجسر أحد أن يهديه لما ضل عنه فتلى قوله تعالى ردوها علي فردت عليه فلله دره ما أحسن ما أجال فكره حتى أدرك به الفهم العازب ولم تبطل صلاته بكلامه بل كان من أشرف المواهب وأحسن منها ما حكى أن المهدي لما ولي الخلافة صلى بالناس من الغداة في داره فارتج عليه فهيب أن يلقن ما نسي فلما طال عليه انتظار من يرشده تلى قوله تعالى أليس منكم رجل رشيد فرد الراشد الشارد على الناشد اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد فحضرت صلاة المغرب فتقدم الكسائي فصلي فارتج عليه في سورة قل يا أيها الكافرون فلما سلم قال اليزيدي قارئ الكوفة يرتج عليه في سورة قل يا أيها الكافرون فحضرت صلاة العشاء فتقدم اليزيدي فارتج عليه في سورة الفاتحة فلما سلم قال له
احفظ لسانك أن تقول فتبتلي ... إنّ البلاء موكل بالمنطق
حدث أبو الحسن بن راهويه قال صلى يحيى بن المعلى الكاتب فقرأ قل هو الله أحسد فغلط فيها وارنج عليه وكان في المجلس أبو نواس والعباس بن الأحنف والخليع وصريع الغواني فقال أبو نواس
أكثر يحيى غلطاً ... في قل هو اللّه أحد
فقال الأحنف
قام طويلاً ساكتاً ... حتى إذا أعيا سجد
فقال الخليع
يزحر في محرابه ... زحير حبلى لولد
فقال الصريع
كأنما لسانه ... شدّ بحبل من مسد
واتصلت هذه الحكاية بأبي علي بن رشيق فقال
ونسى الحمد فما ... مرت له على خلد
هذا ما أورده ابن رشيق في كتاب العمدة ثم إني عثرت عند مطالعتي لكتاب بدائع البدائه على زيادة وجب ذكرها وهو ما حكى إن أبا العباس بن الحطيئة لما سمع هذه قال
ورام شيأً غير ذا ... يقرؤه فما وجد
وممن أخذ العي بعنان قلمه ... وظهر كلف التكلف في صفحات كلمه

ما حكى أن بعضهم كتب إلى بعض العمال على مدينة حلب يخبره أن سلند بين من شواني المسلمين غرقاً ما مناله اعلم أيها الأمير أعزه الله إن سلند بين أي مركبين صفقاً أي غرقاً فهلك من فيهما أي تلفوا فكتب إليه العامل كتاباً على الحكاية يستخف به ورد كتابك أي وصبل وفضضناه أي فتحناه وفهمنا ما فيه أي علمناه فأدب كاتبك أي اصفعه واصرفه أي أعزله واستبدل به أي غيره فإنه مائق أي أحمق والسلام أي قد نقضي الكتاب وكتب بعض عمال طاهر بن الحسين إليه كتاباً وفيه وقد وجهت إلى الأمير ثوب ديباج أحمر أحمر أحمر فكتب طاهر إليه قد قرأت كتابك فعلمت أنك أحمق أحمق أحمق فاقدم اقدم اقدم والسلام ومما عابه ابن الأثير من كلام المترسلين القدماء وادعى أنه قصور وعي في صناعة الانشاء وهو أشبه شي بالأقواء والإيطاء قال في فصل من كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر إذا وردت في كلام المترسل سجعتان يدلان على معنى واحد كانت إحداهما كافية في الدلالة عليه والأخرى من حشو الكلام الذي لا يحتاج إليه وقد وجدت كثيراً من ذلك في كلام المفلقين من أهل هذا الشأن كالصابي وابن العميد فمن ذلك قول الصابي في تحميده الحمد لله الذي لا تدركه الأعين بألحاظها ولا تحده الألسن بألفاظها ولا تخلقه العصور بمرووها ولا تهرمه الدهور بكرورها ثم انتهى إلى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لم ير للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه ولا رسماً إلا أزاله وعفاه فلا فرق بين مرور العصور وكرور الدهور وكذلك لا فرق بين محو الأثر وتعفية الرسم ومن كلامه أيضاً من كتاب وقد علمت إن الدولة العباسية لم تزل على سالف الأيام وتعاقب الأعوام تعتل طوراً وتصح أطواراً وتلتاث مرة وتستقل مراراً من حيث أصلها راسخ لا يتزعزع وبنيانها ثابت لا يتضعضع فمعلوم أن الاعتلال والالتياث بمعنى والطور والمرة بمعنى والرسوخ والثبوت بمعنى وله من كتاب وصلني كتابه مفتتحاً من الاعتزاء إلى إمارة المؤمنين والتقليد لأمور المسلمين بما إغراقه الزكية مجوزة لاستمراره وأرومته العلية مسوغة لاستقراره ومنه فلا بد من اتفاق أشراف كل قطر وأفاضله وأعيان كل صقع وأماثله فهذا السجع كله متساوي الألفاظ والمعاني فإن إمارة المؤمنين وتقليد أمور المسلمين بمعنى وكذلك الأعراق والأرومة بمعنى والتجويز والتسويغ بمعنى وكذلك الأعيان والأماثل والقطر والصقع ومن كلام ابن العميد في كتاب وهو لا يوجه همته إلى أعظم مرغوب إلا طاع ودان ولا تمتد عزيمته إلى مطلوب إلا كان واستكان وكل هذه الألفاظ مستوية المعاني قلت وفيما ذكرناه من هذا الفن كفاية ومقنع على أن الخاطر إذا انشرح انقاد وإذا كل تمنع ورأيت صواباً إلحاق هذه الحكاية بهذا الفصل وهي ما حكاه دعبل الخزاعي قال خرجت أنا ورفيقان لي من قرية تسمى طهياثاً وهي من قرى بغداد للتنزه فيها فأقمنا بها يوماً فلما أردنا الانصراف قلت لرفيقي ليقل كل منا في صفة يومنا شيأً قالا فابتدئ أنت فقلت تلنا لذيذ العيش في طهياثا فقال أحدهما لما حثثنا القدح احتثاثا
وأرتج على الآخر فقال وأم عمرو طالق ثلاثا
فقلنا له ويحك ما ذنب المرأة فقال والله مالها ذنب إلا أنها قعدت على طريق القافية

الفصل الثالث من الباب السادس
في أنّ اللسن المكثار لا يأمن آفة الزلل والعثار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله إذا قلت فأوجز فإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف وقال بعض الحكماء الاكثار يزل اللسان ويزيل الاحسان وقيل لعدي بن حاتم أي شيء أوضع للانسان قال كثرة الكلام وقال جعفر بن يحيى إذا كثر الكلام اختل وإذا اختل اعتل وقال خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل وقال معاوية لعمرو بن العاص من أبلغ الناس قال من ترك الفضول واقتصر على الايجاز وقال خالد بن صفوان قيس البلاغة بخفة اللسان ولا كثرة الهذيان ولكنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة وقال خير الكلام ما كان عن الحصر بعيداً وللأسماع مفيداً وهو أن يكون لا مائلاً إلى الحصر فتضعف الحجة ولا إلى الهدر فتنلف المهجة قال الشاعر
للقول مستمع يزرى بصاحبه ... منه الغلوّ وقد يزرى به الحصر
وخير حال الفتى في القول أقصدها ... بين الطريقين لا عيّ ولا هدر
وقال عي يذرى بك خير من هدر يأتي عليك قال شاعر

وصمتك من غير عي اللسا ... ن أزين من هدر المنطق
وقال عمرو بن العاص الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع وإن أكثرت منه صرع وقال لولده عبد الله قصر إذا قلت واقتصر إذا طلت وإياك والاكثار فإنه شين العاقل وحين الجاهل وقالوا العثار مع الاكثار وقال بزرجمهر من ملكه طول لسانه أهلكه فضل بيانه ويقال من طال لسانه بطل احسانه قال الفقيه منصور
لا تكثرن فخير الكلام ... قليل الحروف كثير المعاني

احتجاج من أمسك عن الكلام من غير خرس
وخاف من الملام فحذر واحترس قال الأحنف بن قيس اللسان قيمة الانسان فمن قومه زادت قيمته وقال أكثم بن صيفي هلك الانسان في طول اللسان وقال سفيان الثوري لأن أرمى عدوي بسهمي خير له من أن أرميه بلساني لأن رمي اللسان لا يخطئ ورمى السهم يصيب ويخطئ قال الشاعر
ورب كلام قد جرى من ممازح ... فساق إليه سهم حتف معجل
وقال ابن مسعود لسانك سيف قاطع يبدأ بك وكلامك سهم نافذ يرجع عليك فاقتصد في المقال وإياك وما يوغر صدور الرجال وقال أعرابي الكلمة أسيرة في وثاق الرجل فإذا تكلم عاد أسيراً في وثاقها اجتمع أربعة من الملوك على أربع كلمات تواردوا فيها موارد النصائح وأخرجوا درر معانيها من بحار القرائح قال كسرى أنا على ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت وقال ملك الصين أنا إذا تكلمت بالكلمة ملكتني وإذا لم أتكلم بها ملكتها وقال ملك الهند عجبت لمن يتكلم بالكلمة إن ذكرت عنه ضرت وإن لم تذكر عنه لم تنفعه وقال قيصر لأن أندم على ما لم أقل أحب إلي من أن أندم على ما قلت فهذه كلمات صدرت عن صدور صافية من كدر الغل وغشه ليتحذر بها العاقل من لدغ الكلام ونهشه وقالوا من أطلق لسانه بما يحب كان أكثر مقامه حيث لا يحب وقال صلى الله عليه وسلم ما أعطى العبد شراً من طلاقة اللسان وقال لقمان لابنه يا بني إن من الكلام ما هو أشد من الحجر وأنفذ من الأبر وأمر من الصبر وأحر من الجمر وإن من القلوب مزارع فازرع فيها الكلمة الطيبة فإن لم تنبت كلها نبت بعضها وقال زياد إن الرجل ليتكلم بالكلمة يقطع بها ربقة عنز فتبلغ امامه فيسفك دمه ويقال حفظ اللسان راحة الانسان وقال صعصعة بن صوحان طول اللسان يقصر الأجل وخطأ القول يصيب المقتل ويقال من خزن لسانه حقن دمه ومن ملك كلامه أمن ندمه فاللسان سيف مرهف لا ينبو حده والكلام سهم مرسل لا يمكن رده وقال بعض الحكماء الجاهل يستعجل باظهار المعاني قبل أحكامها واخراجها وإن لم يحن أوان تمامها فإذا سددها تخطى غرض الصواب وقال الخبرارزي
إذا ما لسان المرء أكثر هدره ... فذاك لسان بالبلاء موكل
إذا شئت أن تحيا عزيزاً مسلماً ... قد بر وميز ما تقول وتفعل
ومما اخترت من كلام الحكماء الأعلام ... في مدح الصمت وذم الكلام
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ أنت سالم ما سكت وإذا تكلمت فلك أو عليك وقال ابن مسعود إن كان الشؤم في شيء ففي اللسان وقال أبو نواس
خلّ جنبيك لزام ... وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام
ربما استفتحت بالنط ... ق مغاليق الحمام
إنما السالم من أل ... جم فاه بلجام
وقالوا صمت يعقب الندامة خير من نطق يسلب السلامة وقالوا الصمت زين الحلم وعوذة العلم يلزمك السلامة ويصحبك الكرامة ويكفيك مؤنة الاعتذار ويلبسك ثوب الوقار وقال الشاعر
الصمت زين والسكوت سلامة ... فإذا نطقت فلا تكن مكثاراً
ما إن ندمت على سكوتي مرّة ... ولقد ندمت على الكلام مرارا
وقالوا لسانك كالسبع إن عقلته حرسك وإن أرسلته افترسك ويقال اخزن لسانك كما تخزن مالك واعرفه كما تعرف ولدك وزنه كما تزن نفقتك ونفق منه بقدر وكن منه على حذر فإن انفاق ألف درهم في غير وجهها أيسر من اطلاق كلمة في غير حقها وقال الشاعر
احفظ لسانك واحتفظ من شرّه ... إنّ اللسان هو العدوّ الكاشح
وزن الكلام إذا نطقت بمجلس ... فيه يلوح لك الصواب اللائح
والصمت من سعد السعود بمطلع ... تحيا به والنطق سعد الذابح

وقال بعض الحكماء عليك بالصمت وإن أصبت في القول وبرزت في الفضل فإنه زينة العاقل وحلية الفاضل شاعر
احفظ لسانك أن تقول فتبتلي ... إن البلاء موكل بالمنطق
آخر
وزن الكلام إذا نطقت فإنما ... يبدي الرجال من الستور المنطق
وقالوا
رب كلمة جلبت مقدوراً ... وخربت دوراً وعمرت قبوراً شاعر
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخازن
آخر
احفظ لسانك أيها الانسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تخاف لقاءه الأقران
وقالوا كلام الرجل بيان فضله وترجمان عقله فاقصره على الجميل واقتصر منه على القليل وإياك وما يسخط سلطانك ويوحش اخوانك فمن أسخط سلطانه تعرض للمنية ومن أوحش اخوانه تبرأ من الحرية شاعر
يدل على جهل الفتى فضل نطقه ... ونطق أخي العقل الرصين قليل
وإنّ لسان المرء ما لم يكن له ... حصاة على عوراته لذليل
وما أحسن عذر من غص بالملام ... على كثرة صمته وقلة الكلام
حيث قال
قالوا نراك كثير الصمت قلت لهم ... ما طول صمتي من عيّ ولا خرس
الصمت أحمد في الأشياء عاقبة ... وأزين الآن لي من منطق شكس
أأنشر البز فيمن ليس يعرفه ... وأنثر الدّر للعميان في الغلس
ومن الخرافات الموضوعة على ألسنة الحيوانات في مدح الصمت وذم الكلام أنه اجتمع برغوث وبعوضة فقالت البعوضة للبرغوث إني لأعجب من حالي وحالك أنا أفصح منك لساناً وأرجح ميزاناً وأوضح بياناً وأكبر منك شباباً وأكثر طيراناً ولي في بحر العبودية سباحة وفي ساحته سياحة ومع هذا كله فقد أحاط بي الفضوع وأحرمني الجوع الهجوع وأنت على علاتك في جميع حالاتك تأكلي وتشبعي وفي نواعم الأبدان ترتعي قالت نعم أنت بين العالم مطنطنة وعلى رؤسهم مدندنة وطول لسانك سبب حرمانك وأما أنا فالتلطف صناعتي والصمت بضاعتي وإنما توصلت إلى قوتي بسكوتي
ومما له في هذا الموضع ... من النفوس حسن موقع
حفظ الأسرار أن تدال ... على الأحرار والأنذال
قال الله تعالى حكاية عن قول يعقوب ليوسف عليهما السلام حين قص عليه رؤياه فعلم منها بدء أمره ومنتهاه يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيداً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان وكان عيه الصلاة والسلام إذا أراد غزاة ورى بغيرها ومن أمثالهم صدرك أوسع لسرك ويقال إذا انتهى السر من الجنان إلى عذبة اللسان فالاذاعة مستولية عليه وعيون الحوادث تنظر شزراً إليه وقال عمرو بن العاص الصدور خزائن الأسرار والشفاه أقفالها والألسن مفاتيحها فليحفظ كل امرئ مفتاح سره وقالوا إذا ضاق صدرك عن نجواك فكيف تستكتمه سواك وقال بعض الحكماء سرك من دمك فلا تجره في غير أوداجك فإنك متى تكلمت به أرقته وكما أنه لا خير في آنية لا تمسك ما فيها فكذلك لا خير في لسان لا يملك سره وقال آخر كن على سرك أحرص منك على حقن دمك وقالوا سرك أسيرك فإن بذلته كنت أسيره ابن نباتة السعدي
صن السر عن كل مستخبر ... وحاذر فما الحزم إلا الحذر
أسيرك سرّك إن صنته ... وأنت أسير له إن ظهر
آخر
ولا تخبر بسرك بل أمته ... وصير في حشاك له حجايا
فما أودعت مثل القلب سرّا ... ولا أغلقت مثل الصدر بابا
وقال عمرو بن العاص ما وضعت سري عند أحد وأفشاه فلمته لأني كنت أضيق صدراً منه حين استودعته إياه وقال الشاعر
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق
إذا المرء أفشى سرّه بلسانه ... ولام عليه غيره فهو أحمق
وقال معاوية الحازم من كتم سره عن صديقه مخافة أن تنتقل صداقته فيذيع سره شاعر
احذر عدوّك مرّة ... واحذر صديقك ألف مرّة
فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أعلم بالمضمّرة

وكان يقال الكاتم سره بين إحدى فضيلتين الظفر بحاجته أو السلامة من شر اذاعته ويقال أصبر الناس من صبر على كتمان سره فلم يبده لصديقه وقال آخر كتمانك سرك يعقبك السلامة وافشاؤه يعقبك الندامة والصبر على كتمان السر أيسر من الندامة على إفشائه إبراهيم بن خفاجة
لا تودعنّ ولا الجماد سريرة ... فمن الجوامد ما يشير وينطق
وإذا المحك أذاع سرّاخ له ... وهو النضار فمن به يستوثق
وقال الأحنف أدنى أخلاق الشريف كتمان سره وأعلى أخلاقه كتمان ما أسر إليه قال الشاعر
ولست بمبد للرجال سريرتي ... ولا أنا عن أسرارهم بسؤل
ولا أنا يوماً للحديث سمعته ... إلى ههنا من ههنا بنقول
آخر
تبوح بسرك ضيقاً به ... وتحسب كل أخ يكتم
وكتمانك السر ممن تخاف ... ومن لا تخافهم أحزم
إذا ذاع سرّك من مخبر ... فأنت إذا لمته ألوم
وقال كعب بن زهير
لا تفش سرّك إلا عند ذي ثقة ... أولاً فأفضل ما استودعت أسرارا
صدراً رحيباً وقلباً واسعاً صمتاً ... لم تخش منه لما أودعت اظهارا
وقيل لأبي مسلم الخراساني بأي شيء أدركت ما أدركت قال ائتزرت بالحزم وارتديت بالكتمان وحالفت الصبر وساعدني القدر فأدركت مرادي وحزت ما في نفسي ثم أنشد
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى عليهم في دمارهم ... والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا
حتى ضربتهم بالسيف فانتهبوا ... من نومة لم ينمها قبلهم أحد
ومن يدع غنماً في أرض مضيعة ... ونام عنها تولى رعيها الاسد
وأما المزاح وما ورد فيه ... عمن أباحه ومن يجافيه
فيروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال من مزح استخف به وقال آخر تجنب شؤم الهزل ونكد المزاح فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد عسر وفحلان إذا القحا لم ينتجا غير ضر وقالوا المزاح يضع قدر الشريف ويذهب هيبة الجليل وقال حكيم لولده يا بني إياك والمزاح فإنه يذهب بهاء الوجه ويحط من المروأة شاعر
ألا رب قول قد جرى من ممازح ... فساق إليه الموت في طرف الحبل
وإنّ مزاح المرء في غير حينه ... دليل على فرط الحماقة والجهل
آخر
إياك إياك المزاح فإنه ... يطمع فيك الطفل والرجل النذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورث بعد العز صاحبه ذلا
ويقال أوكد أسباب القطيعة المزاح وإن كان لا غنى للنفس عنه فليكن بمقدار ما يحتاج الطعام من الملح كما قال أبو العباس البستي
أفد طبعك المكدود بالهم راحة ... براح وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
وقال سعيد بن العاص لولده اقتصد في مزاحك فإن الافراط فيه يذهب البهاء ويجرئ السفهاء ويقال المزح أوله فرح وآخره ترح شاعر
امزح بمقدار الطلاقة واجتنب ... مزحاً تضاف به إلى سوء الأدب
لا تغضبن أحداً إذا مازحته ... إنّ المزاح على مقدّمة الغضب
أبو جعفر الطبري
لي صاحب ليس يخلو ... لسانه من جراح
يجيد تمزيق عرضي ... على سبيل المزاح

الباب السابع
في الذكاء
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في مدح الفطن والاذهان
المعظمة من قدر المهان
قال ابن الأنباري في كتابه الذي سماه بالزاهر قولهم فلان ذكي معناه كامل الفطنة ثاقبها من قول العرب ذكت النار تذكو إذا زاد وقودها ويقال مسك ذكي إذا كان طيب الريح قال جميل
صادت فؤادي بعينيها ومبتسم ... كأنه حين أبدته لنا برد
عذب كان ذكيّ المسك خالطه ... والزنجبيل وماء المزن والبرد

فمن انشقت كمائم مبانيه عما أخفته من زهرات معانيه فعطفت إليه قلب شانيه بعد ما أنف أن يدانيه سعد بن ضمرة قالوا كان كثيراً ما يغير على بلاد النعمان بن المنذر وينقص أطرافها حتى عيل صبره وبدا ضره فبعث إليه النعمان إن لك ألف ناقة حمراء على أن تدخل في طاعتي فوفد عليه وكان سعد ابن ضمرة نحيفاً قصيراً دميماً وكان ملتفاً بعباءة فلما رآه النعمان ازدراه وقال لان تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فقال سعد أبيت اللعن إن الرجال لا تكال بالقفزان ولا بمسوك يستقي بها من الغدران وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه إن نطق نطق ببيان وإن قاتل قاتل بجنان فقال له النعمان أنت ضمرة بن ضميرة ونظر عمر بن الخطاب إلى الأحنف وعنده الوفد والأحنف ملتف بعباءة فترك عمر القوم واستنطقه فتكلم بكلامه البليغ المصيب وذهب فيه ذلك المذهب العجيب فلم يزل عنده في الذروة العليا إلى أن عقد له من الرياسة على تميم ما كان له ثابتاً إلى أن فارق الدنيا قال عبد الملك بن عمير قدم علينا الأحنف الكوفة أصلع الرأس متراكب الأسنان أشدق مائل الذقن ناتئ الجبهة جاحظ العينين خفيف العارضين أحنف ولكنه كان إذا تكلم جلى عن نفسه سائر العيوب خرج عثمان رضي الله عنه من داره فرأى عامر ابن عبد قيس على بابه وقد ألقى رأسه بين ركبتيه وكان عامر شيخاً دميماً أسعى فظا فأنكره وأنكر مكانه فقال يا أعرابي أين ربك قال بالمرصاد فيقال إن عثمان لم يفحمه أحد غيره ونظر معاوية إلى النحار بن أوس العدوي الخطيب النسابة في عباءة في ناحية من مجلسه فأنكر مكانه وازدراه فتبين للنحار ذلك في وجهه فقال يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك إنما يكلمك من فيها وكمال الرجل آدابه لا ثيابه وأنشد
إني وإن كنت أثوابي ملفقة ... ليست بخز ولا من نسج كتان
فإنّ في المجد هماتي وفي لغتي ... فصاحة ولساني غير لحان
وأراد بعض الأعراب مخاطبة إنسان فازدراه الرجل لرثاثة ثوبه وخسة حاله وأبى أن يكلمه فقال مالكم يا عبيد الثياب وأشباه الكلاب حقرتموني لاطماري ولم تسألوني عن مكنون أخباري ثم أنشد
المرء يعجبني وما كلمته ... ويقال لي هذا اللبيب اللهذم
فإذا قدحت زناده ووزنته ... بالنقد زاف كما يزيف الدرهم
ودخل كثير بن عبد الرحمن وكان يلقب بزب الزباب لقصره على عبد الملك بن مروان في أول خلافته فاقتحمته عينه ففهم عنه فقال كثير يا أمير المؤمنين كل عند نفسه واسع الفناء شامخ البناء عالي السناء ثم أنشد للعباس ابن مرداس
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مضور
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
بغاث الطير أطولها رقاباً ... ولم تطل البزاة ولا الصقور
خساس الطبر أكثرها فراخاً ... وأم الباز مقلاة نزور
ضعاف الأسد أكثرها زئيراً ... وأضرؤها اللواتي لا تزير
وقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
يصرّفه الصغير بكل أرض ... وينزله على الخسف الجرير
ينوّخ ثم يضرب بالهراوي ... ولا عرف لديه ولا نكير
فما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينهم كرم وخير
فقال عبد الملك قاتله الله ما أطول لسانه وأمد عنانه وأجر أجنانه فقال إني لاحسبه كما وصف نفسه وأمر له بصلة حسنة وقال أبو عبيد البكري في لآلئه إن كثيراً كان لا يبلغ طوله ضروع الابل لقصره وكان إذا دخل على عبد الملك يقول له حين يراه طأطئ رأسك لئلا يصيبه السقف تهكماً به وفيه يقول الحر بن الشاعر
قصير قميص فاحش عند بيته ... يعض قرا باسته وهو قائم

وكان الجاحظ واسمه عثمان بن بحر دميم الصورة قبيح الوجه ناتئ العينين يحكي عنه أنه قال ما أخجلني أحد قط إلا امرأة أخذت بيدي وحملتني إلى نجار وقالت له مثل هذا ثم تركتني وانصرفت فبقيت متعجباً من أخذها لي مثالاً فسألت الصانع فقال إن هذه المرأة سألتني أن أصنع لها مثال شيطان تفزع به ولدها فقلت لها إني لم أر شيطاناً قط حتى أعمل على مثاله وطلبت منها مثالاً فقالت أنا آتيك به فجاءتني بك وقرع عليه الباب يوماً فخرج غلامه فسئل عنه فقال ها هوذا يكذب على ربه قيل له كيف ذلك قال نظر في المرآة وجهه فقال الحمد لله الذي خلقني فأحسن صورتي إلا أنه كان إذا كتب وشى حلل الطروس بأقلامه وإذا تكلم لفظ الدرر من منثور كلامه وفيه يقول أحمد بن سلامة الكتبي يهجوه ويذكر قبحه
لو يمسخ الخنزير مسخاً ثانياً ... ما كان إلا دون قبح الجاحظ
وإذا المرأة جلت عليه وجهه ... لم تخل مقلته بها من واعظ

وعلى أثر قبح الصورة يقول بعض الشعراء في جحظة
من كان مشتاقاً إلى منكر ... فجعظة أنكر من منكر
لو عذب اللّه به ناره ... أطفأها برداً ولم تزفر
وأنشد أعرابي
خبرتها أني محب لها ... فأقبلت تضحك من منطقي
والتفتت نحو فتاة لها ... كالرشا الوسنان في قرطق
قالت لها قولي لهذا الفتى ... انظر إلى وجهك ثم أعشق
لقى أعرابي شيخ قبيح الصورة فتاة حسناء فعرض عليها نفسه فأعرضت عنه وقالت أمخادع غائل أم ركيك هازل قال بل لبيب عاقل محب مائل قالت فما أصنع بك قبيحاً فقيراً شيخاً كبيراً قال أستمنح لفقري ملوكاً فيزول وأصبغ شيبي حلوكاً فيحول قال فقالت فقبحك الأم يؤل فولي عنها وهو يقول
تزهى عليّ بدلها وشبابها ... وتقول لي يا شيخ أنت مخادع
قبح وافلاس وشيب شاسع ... وطمعت فينا أخلفتك مطامع
فأجبتها الافلاس يذهبه الغنى ... والشيب يذهبه الخضاب اليانع
قالت فقبحك ليس فيه حيلة ... والقبح ليس له دواء نافع
يا صدقها ما كان أصدق حجتي ... لو كان يدفع قبح وجهي دافع

رجعنا قال بعضهم كنت بفناء الكعبة إذ مر بنا رجل أصلع أرسح أفحج كان أنفه بعرة أشد سواداً من است القدرة عليه ثوبان قطوبان فرأيت الناس يهرعون إليه من كل جانب يطلبون السبق في السلام عليه فقلت من هذا قالوا هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح وصفه آخر فقال كان أعور أفطس أشل أعرج ثم عمى بعد ذلك قال عثمان بن عطاء الخراساني انطلقت مع أبي نريد هشام بن عبد الملك فلما قربنا إذا بشيخ على حمار أسود عليه قميص دنس وجبة دنسة وقلنسوة لاطية دنسة وركاباه من خشب فضحكت منه وقلت لأبي من هذا الأعرابي قال اسكت هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح فلما قرب منا نزل أبي عن بغلته ونزل هو عن حماره فاعتنقا ونساء لا ثم عادا فركبا وانطلقا حتى وقفا على باب هشام فما استقر بهما الجلوس حتى أذن لهما فلما خرج أبي قلت له حدثني ما كان منكما قال لما قيل لهشام إن عطاء بن أبي رباح بالباب أذن له فوالله ما دخلت إلا بسببه فلما رآه هشام قال مرحباً مرحباً ههنا ههنا ولا زال يقول له ههنا ههنا حتى أجلسه معه على سريره ومس بركبته ركبته وعنده أشراف الناس يتحدثون فسكتوا فقال له ما حاجتك يا أبا محمد قال يا أمير المؤمنين أهل الحرمين أهل الله وجيران رسوله تقسم عيهم أرزاقهم وعطياتهم قال يا غلام أكتب بأن ترد فيهم فضول صدقاتهم هل من حاجة غيرها يا أبا محمد قال نعم يا أمير المؤمنين أهل الثغور يردون من ورائكم ويقاتلون عدوكم تجرى لهم أرزاقاً تدرها عليهم فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور قال نعم يا غلام اكتب بحمل أرزاقهم إليهم هل من حاجة غيرها يا أبا محمد قال نعم يا أمير المؤمنين أهل ذمتكم لا يجبى صغارهم ولا يتقنع كبارهم ولا يكلفون ما لا يطيقون فإن ما تجبونه منهم معونة لكم على عدوكم قال نعم يا غلام اكتب لأهل الذمة بأن لا يكلفوا ما لا يطيقون هل من حاجة غيرها يا أبا محمد قال نعم اتق الله في نفسك فإنك خلقت وحدك وتموت وحدك وتحشر وحدك وتحاسب وحدك ولا والله ما معك ممن ترى أحد فأكب هشام ينكث في الأرض وهو يبكي فقام عطاء فلما كنا عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس لا أدري ما فيه دنانير أم دراهم فقال إن أمير المؤمنين أمر لك بهذا فقال لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على رب العالمين فوالله ما شرب عنده قطرة ماء

وأكثر ما يوجد الذكاء المفرط عند العميان
فإنهم عوّضوا عن البصر سرعة الحفظ وبطء النسيان كان قتادة بن دعامة أكمه وكان يقول لقائده سعيد بن أبي عروبة تجنب بي الحلق التي فيها الخطا فإنه ما وصل إلى سمعي شيء فأداه إلى قلبي فنسيه وممن ولد أكمه بشار بن برد وكان رأس طبقة في الشعراء المولدين وهم أشجع السلمى ومسلم بن الوليد وأبو العتاهية وأبو نواس وغيرهم وقال الشعر وله من العمر إحدى عشرة سنة ومنهم أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري ومن عجيب حكاياته إن أبا زكريا التبريزي كان يقرأ عليه فأتاه رسول من عند أهله من تبريز فجاء حلقة أبا العلاء فسأل عنه فأخبر أنه غائب في بعض شأنه فقال له أبو العلاء ما تريد به قال جئت برسالة من عند أهله فقال هاتها حتى نوصلها إليه قال إنها مشافهة قال فاسمعناها حتى نوصلها إليه قال إنها بالفارسية قال لا عليك إن تسمعناها ولا تسقط منها حرفاً فأوردها عليه فلما جاء التبريزي أخبر أن رجلاً جاء من تبريز ومعه رسالة من أهلك فقال ليتكم أخذتموها منه فإني مشوق لما يرد من أخبارهم فقيل له إنه قال إنها مشافهة فتأسف لذلك فلما رأى أبو العلاء تأسفه قال له لا عليك إني سمعتها منه وحفظتها ثم أملاها عليه فجعل التبريزي يضحك مرة ويبكي مرة فسأله أبو العلاء عن ضحكه وبكائه فقال تارة تخبرني بما يسرني فأضحك وتارة تخبرني بما يحزنني فأبكي وعمي أبو العلاء وله من العمر ثلاث سنين من جدري أصابه وقال الشعر وله إحدى عشرة سنة ولبشار
وعيرني الأعداء والعيب فيهم ... وليس بعار أن يقال ضرير
إذا أبصر المرء المروأة والتقى ... فإن عمي العينين ليس يضير
رأيت العمي أجراً وذخراً وعصمة ... وإني إلى تلك الثلاث فقير
ولعبد الله بن عباس
ان يأخذ اللّه من عينيّ نورهما ... ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم بالقول مشهور

ولبعضهم يتوجع
عزاكي أيها العين السكوب ... وصبرك إنها نوب تنوب
وكنت كريمتي وجمال وجهي ... وكانت لي بك الدنيا تطيب
وإني قد ثكلتك في حياتي ... وفارقني من الدنيا الحبيب
على الدنيا السلام فما لشيخ ... ضرير العين في الدنيا نصيب

من اخترع من الأوائل حكمة بثاقب فكره
فكانت سبباً لتنويه قدره وابقاء ذكره أردشير بن بابك والمخترعات أربعة اثنتان في صدر الاسلام وهما النرد والشطرنج واثنتان اسلاميان وهما النحو والعروض فأما النرد فوضعها أردشير بن بابك وهو أول ملوك الفرس الأخيرة وأول من وضع النرد وضربها مثلاً للقضاء والقدر وإن الانسان ليس له تصرف في نفسه لا يملك لها نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً ولا يقدر أن يجلب لها موتاً ولا حياة ولا سعداً ولا شقاء بل هو مصرف على حكم القضاء والقدر معرض طوراً للنفع وطوراً للضرر وجعلها أيضاً تمثيلاً للحظ الذي يناله العاجز بما يجري لديه من الملك والحرمان الذي يبتلى به الحازم بما دار به عليه الفلك وضعها على مثال الدنيا وأهلها فرتب الرقعة اثني عشر بيتاً بعدد شهور السنة والبروج وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام كل شهر والدرج التي هي لكل برج ثلاثين درجة ومعناهما أن كل ثلاثين درجة على سبعة أيام ومعناها الكواكب السبعة السيارة ثم جعل لها تشبيهاً فوضع وشبهها بالنير وصور فيها أربعة وعشرين بيتاً بعدد ساعات الليل والنهار في كل ناحية منها اثنا عشر بيتاً وصير لها ثلاثين كلباً تشبيهاً بأيام الشهر ودرج الفلك ثم عمل فصين شبههما بالليل والنهار وتوصل إلى إيصال ذلك للعقول بأن جعل اللعب بالفصين اللذين أنزلهما منزلة الليل والنهار فجعل لكل فص ستة أوجه كجهات الانسان فوق وأسفل ووراء وأمام ويمين وشمال لأنه عدد له نصف وثلث وسدس وجعل في كل جهة من الفصين سبع نقط تحت الستة واحدة وتحت الخمسة ثنتين وتحت الأربعة ثلاثة تشبيهاً بعدد الأيام وعدد الكواكب السيارة وأنزلهما منزلة القضاء والقدر ثم جعلها محنة بين رجلين أنزلهما منزلة الليل والنهار يشير إلى أن الانسان لا يعلم من أين يأتيه الخير والشر فكما إن الانسان لا يعلم مما يردان عليه من خير أو شر أو نفع أو ضر فكذا لا يعلم ما يعطيانه الفصان أو يسلبانه هل يكون غالباً أو مغلوباً إذ ليس له من الأمر شيء وأشار فيها أيضاً إلى تقلب القدر بالانسان فتارة يكون شريفاً ثم يكون مشروفاً وبالعكس أو يكون فقيراً ثم يصير غنياً وبالعكس إلى ما لا نهاية له من تقلب الأطوار في تغاير الأوطار ولقد أحسن السري الرفاء في وصفها من أبيات
ومحكمان على النفوس وربما ... لم يحكما فيهنّ حكماً عادلا
اخوان قد وسما على متنيهما ... سمة تحث على البليد غوائلا
يلقاهما المرزوق سعداً طالعا ... ويراهما المحروم سعداً آفلا
فإذا هما اصطحبا على كف الفتى ... ضرّاه أو نفعاه نفعاً عاجلا

وأما الشطرنج فإن الفرس لما افتخرت بوضع النرد وكان ملك الروم يومئذ بلهيث فوضع له رجل من الحكماء يسمى صصة الشطرنج وضربها مثلاً على أن لا قدر وإن الانسان قادر بسعيه واجتهاده يبلغ المراتب العلية والخطط الستية وإن هو أهملها صارت به من الخمول إلى الحضيض وأخرجته من روض العيش الأريض ومما جعله دليلاً على ذلك أن البيدق ينال بحركته وسعيه منزلة الفرزان في الرياسة وجعلها مصورة تماثيل على صورة الناطق والصامت وجعلها درجات ومراتب وجعل الشاة المدبر الرئيس والفرس والفيل مركوبان له والفرزان وزيره والبيادق رعاياه فكما إن الواحد من الرعية إذا أعطى الاجتهاد حقه في تهذيب نفسه وتأديبها كان ذلك عوناً له على أن ينال رتبة الفرزان فكذلك الفرزان إذا علت همة وتمكنت قدرته طمحت نفسه إلى نيل رتبة الشاه وقتاله وكذلك ما يليها من القطع ويقال في سبب وضعها إن بعض ملوك الهند كان له ولد يسمى شاه أخرجه إلى بعض الحروب فقتل فيها فهاب الناس الملك أن يعلموه بموته فوضع لهم بعض حكمائهم الشطرنج وبين لهم فيها ما خفي عنهم من مكايد الحروب وكيفية ظفر الغالب وخذلان المغلوب وبين فيها التدبير والحزم والاحتياط والمكيدة والاحتراس والتعبية والنجدة والقوة والجلد والشجاعة والباس فمن عدم شيأً من ذلك علم موضع تقصيره ومن أين أتى بسوء تدبيره لأن خطأها لا يستقال والعجز فيها متلف المهج والأموال واعلم إن في ترك الحزم ذهاب الملك وضعف الرأي جالب للعطب والهلك والتقصير سبب الهزيمة والتلاف وعدم المعرفة بالتعبية داع إلى الانكشاف وأمرهم أن يلعبوا بها بين يدي الملك فلما لعب بها قال الغالب للمغلوب شاه مات ففطن الملك للمراد وأمر أن يعزى بولده ثمرة الفؤاد ويقال إن صصة لما وضع الشطرنج وعرضها على الملك وأظهر له مكنون سرها قال له اقترح ما تشتهي قال أن تضع حبة بر في البيت الأول ولا تزال تضعفها حتى تنتهي إلى آخر البيوت فما بلغ تعطيني فاستخف الملك عقله واحتقر ما طلبه وقال كنت أظن برجاحة عقلك وتوقد فكرك أن تطلب شيأً نفيساً فقال أيها الملك إنك لما صرفتني إلى التمني لم يخطر ببالي غير ذلك ولا سبيل إلى الرجوع عنه فأنعم له الملك بما سأل وتقدم باحضار الحساب وأمرهم بحساب ذلك فاعملوا في بلوغ قصده مطايا الأفكار حتى لاح لهم نجم صدقه فعرفوه بعد الانكار فلم يجدوا في بلاد الدنيا من البر ما يفي للحكيم بمراده ولو كانت الرمال من أمداده وذلك إنهم وضعوا حبة في البيت الأول وفي الثاني حبتين وفي الثالث أربعة وفي الرابع ثمانية وفي الخامس ستة عشر وهكذا ولولا خشية التطويل لذكرنا تضعيف عددها ونهاية مددها ولم أهمل ذلك فإني وجدت بعض الحذاق حصرها بالاعداد الهندية ونظمها في بيت من الشعر فذكرت ذلك استحساناً لوجازته فالبيت
ها واههط وصفر بعده زجر ... وثنّ صفراً وقل ددّ زود دحا
615 551 9 0 7 0073 74 - 4 46 4 18 والعدد 615 09551 7 67440073 1844 وقال السري من الأبيات التي تقدم ذكرها في صفة النرد يصف الشطرنج وقد أحسن في قوله
وكتيينا زيج وروم اذكيا ... حربا يسل بها الذكاء مناصلا
في معرك قسم النزال بقاعه ... بين الكماة المعلمين منازلا
لم يسفحا فيه دماً وكأنما ... رشح الدماء أعالياً وأسافلا
تبدي لعينك كلما عاينتها ... قرنين جالا مقدماً ومخاتلا
فكأنّ ذا صاح يسير مقوّما ... وكان ذا نشوان يخطر مائلا
فاعجب لها حرباً تثير إذا التظت ... فضل الرجال ولا تثير قساطلا

وقالوا إن أصل شطرنج شش رنك ومعناه ستة ألوان لأن شش عندهم ستة ورنك لون فكأنهم قالوا ستة ألوان فالشاه لون والفرزان لون والفيل لون والرخ لون والفرس لون والبيدق لون وأما ما اخترع في الاسلام فالنحو والعروض فأما النحو فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي ابتكره واخترعه وقالوا في أصل وضعه له إن أبا الأسود الدؤلي كان ليلة على سطح بيته وعنده بيت له فرأت السماء ونجومها وحسن تلألؤ أنوارها مع وجود الظلمة فقالت يا أبت ما أحسن السماء بضم النون فقال أي بنية نجومها وظن أنها أرادت أي شيء أحسن منها فقالت يا أبت إنما أردت التعجب من حسنها فقال قولي ما أحسن السماء فلما أصبح عدا على علي رضي الله عنه وقال يا أمير المؤمنين حدث في أولادنا ما لم نعرفه وأخبره بالقصة فقال هذا بمخالطة العجم ثم أمره فاشترى صحفاً وأملى عليه بعد أيام أقسام الكلام ثلاثة اسم وفعل وحرف جاء لمعنى وجملة من باب التعجب وقال انح نحو هذا فكان ذلك أول ما ألف في النحو ثم قال تتبعه وزد فيه ما وقع لك واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر قال فجمعت منها أشياء وعرضتها عليه فكان من ذلك حروف النصب فذكرت منها إن وإن وليت ولعل وكان ولم أذكر لكن فقال لي لم تركتها فقلت لم أحسبها منها قال بل هي منها فزدتها فيها ثم جاء بعد أبي الأسود ميمون الأقرن فزاد على ما ألفه أبو الأسود ثم تلاه في ذلك عنبسة بن معدان الذي يقال له عنبسة الفيل فزاد فيه ثم جاء عبد الله ابن أبي إسحق الحضرمي وأبو عمرو بن العلاء فزاد في ذلك ثم الخليل بن أحمد وكان علي بن حمزة الكسائي رسم في ذلك رسوماً أخذها عنه الكوفيون ثم أخذ ذلك سيبويه عن الخليل وكل من جاء بعده فمن بحر كتابه يغترفون وبتقدمه عليهم يعترفون وأما العروض فأول من اخترعه وابتدعه الخليل بن أحمد وأبوه أول من سمى أحمد في الاسلام وهو أول من وضع العروض واستخرج غرائبه واستنبط عجائبه وجعله ميزاناً للشعر يعرف به التام من الناقص وصاغ له من التفاعيل ثمانية أجزاء لا يخرج شعر موزون عنها صيرها له كالمثاقيل وهي فعولن فأعلن مفاعيلن مستفعلن فاعلاتن مفاعلتن متفاعلن مفعولات وهذه المثاقيل مركبة من سبب ووتد فالسبب نوعان خفيف وثقيل فالخفيف متحرك بعده ساكن نحو ما وهل والثقيل متحركان نحو لم وبم إذا سألت والوتد نوعان مجموع ومفروق فالمجموع متحركان بعدهما ساكن نحو دعا ورمى وسعى والمفروق متحركان بينهما ساكن نحو كيف وجعل البيت الشعر مثال بيت الشعر لأن البيت من الشعر لا يقوم إلا بالأسباب وهي الأطناب والأوتاد التي تضرب في الأرض وتربط فيها الأطناب فيقوم البيت وإنما مثل بذلك لأن في الشعر حروفاً مضطربة يطرأ عليها الزحاف فسميت أسباباً لاضطرابها تشبيهاً بأسباب البيت الشعر وفيه حروف ثابتة لا يطرأ عليها الزحاف فسميت أوتاداً لثباتها وإلى ما قصده الخليل في هذا التمثيل أشار أبو العلاء المعري في قوله
والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر

وفسر الناس هذا البيت بأن بيت الشعر يحتوي على المعاني كاحتواء بيت الشعر على الصور وسمي نصف البيت الأول صدراً والنصف الأخير عجزاً وآخر جزء في الصدر عروضاً وآخر جزء في العجز ضرباً وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحراً وهي المختلف والمؤتلف والمجتلب والمشتبة والمتفق فالطويل وهو أصل دائرة المختلف مبني على فعولن مفاعيلن ثمانية أجزاء وسمي طويلاً لأنه أكثر الشعر عدد حروف وعدد حروفه سبعة وأربعون حرفاً وربما كان مصرعاً فجاء على ثمانية وأربعين حرفاً والمديد وهو مبني على فاعلاتن فاعلن ثمانية أجزاء وإنما سمي مديداً لامتداد سببه فصار سبب في أول جزء ابتدائه وسبب في آخره والبسيط وهو مبني على مستفعلن فاعلن ثمانية أجزاء وإنما سمي بسيطاً لانبساط الأسباب في أول أجزائه في الدائرة وهن يفككن من دائرة المختلف والوافر وهو أصل دائرة المؤتلف وهو مبني على مفاعلتن مفاعلتن فعول ستة أجزاء وسمي بذلك لأنه استوفى عدد أجزائه في الدائرة فهو موفور الحركات ناقص الحروف والكامل وهو مبني من متفاعلن متفاعلن ستة أجزاء وإنما سمي بذلك لكمال أجزائه وحركاته وحروفه ولم ينقص منه شيء كما نقص من الوافر ومنها إنه جاء على اثنين وأربعين حرفاً منها ثلاثون متحركات فلما كثرت حركاته وزادت على سائر الأجناس سمي كاملاً وهما يفكان من دائرة المؤتلف والهزج وهو أصل دائرة المجتلب وهو مبني على مفاعيلن مفاعيلن ستة أجزاء وهو مشتق من تهزج الصوت وهو التردد لأنه يتوالى في آخر كل جزء سببان فتواليهما هو التهزج والرجز وهو مبني على مستفعلن مستفعلن ستة أجزا سمي بذلك لأن في كل جزء منه سببين فهو سريع لاضطرابه والرجز هو أن تتحرك قوائم البعير مرة وتسكن أخرى والرمل وهو مبني على فاعلاتن فاعلاتن ستة أجزاء وهو مشتق من السرعة في السير وهن يفككن من دائرة المجتلب والسريع وهو أصل دائرة المشتبه وهو مبني على مستفعلن فاعلاتن ستة أجزاء وسمي بذلك لسرعته على اللسان والمنسرح وهو مبني على مستفعلن مفعولات ستة أجزا سمي بذلك لانسراحه في سهولته والخفيف كالرمل في السرعة وإنما غوير بينهما في التسمية وهو مبني على فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ستة أجزاء والمضارع وهو مبني على مفاعيلن فاعلاتن مفاعيلن ستة أجزاء وسمي بذلك لمضارعته الهزج وقيل المجتث وقيل المنسرح وقيل الخفيف ولكل قول من هذه الأقوال حجة مذكورة في كتب العروض يضيق عنها الوقت ويفوت الغرض المقصود في هذا الكتاب والمقتضب وهو مبني على مفعولات مستفعلن ستة أجزاء سمي بذلك لأنه اقتضب من المنسرح وقيل من السريع والمجتث وهو مبني على مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن ستة أجزاء وسمي بذلك لأنه اجتث من الخفيف كما اقتضب المقتضب من المنسرح وهن يفككن من دائرة المشتبه والمتقارب وهو رب دائرة المتفق لا يشركه فيها غيره وهو مبني على فعول ثمانية أجزاء وسمي بذلك لتقارب أوتاده من أسبابه لأنه سبب ووتد ووتد وسبب فأسبابه كأوتاده وأوتاده كأسبابه وزاد الأخفش بحراً آخر وسماه الخبب وهو مبني على فعلن فعلن ثمانية أجزاء وهو عند الخليل غير مستعمل ويسمى المتدارك والمخترع وركض الخيل وهو والمتقارب يفكان من دائرة المتفق نادرة حكي أن الخليل كان له ولد جلف فدخل عليه يوماً فوجد أباه قد أدخل رأسه في حب وهو يقطع بيت شعر فخرج صارخاً يقول أدركوا أبي فقد جن فدخل إليه أصحابه وأعلموه بما قال ولده فأنشد مخاطباً له
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أجهل ما تقول عدلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
ومن بديع فصاحة البلغاء ... وصنيع بلاغة الفصحاء
في وصف ذي الذهن الوقاد ... والطبع السليم المنقاد
وصف بعض البلغاء ذكياً فقال فلان يعلم من مفتتح الأمر خاتمته ومن بديهه عاقبته فلان له بصيرة حاضره وروية مستأمره كل علم في سكناته وكل دهاء في حركاته فلان له رأي كاهن وطنة منجم متى حصل في عارض مشكل وأمر معضل دله فؤاده على الهداية وأمنه من الجهالة والغواية فلان عنده مشكل الأمر مشكول أخذه من قول حبيب
يرى الحادث المستعجم الخطب معجما ... لديه ومشكولاً إذا كان مشكلا
ولعنان جارية الناطفي في جعفر بن يحيى

بديهته وفكرته سواء ... إذا اشتبهت على الناس الأمور
وصدر فيه للهمّ اتساع ... إذا ضاقت من الهمّ الصدور
وصف رجل عضد الدولة فقال له وجه فيه ألف عين وفم فيه ألف لسان وصدر فيه ألف قلب وصف سهل بن هرون رجلاً فقال ما رأيت أكثر فهماً لجليل ولا أحسن تفهماً لدقيق منه وصف الباخرزي أطروشاً يفهم ما يكتب له على ظهر الكف فقال إذا خط له صاحب عرض ببنانه على ظهر كفه وقف على المراد ورضي نيابة البنان عن الأنبوب المغموس في المداد حتى كأن لكل شعرة من بدنه واعياً مصغياً باذنه وذاك لعمري كالرقم على بسيط الماء بالخيال أو كالنقش على قائم الهواء بالهباء ومن عجيب أمره إنه في الصمم بحيث أقول في غيره
وأصلخ في منفذي سمعه ... صمام من الصمم المطبق
فلو نفخ الصور في عصره ... لأفلت حياً ولم يصعق
وصف اليوسفي غلاماً بالذكاء فقال كان يعرف المراد باللحظ كما يعرفه باللفظ ويعاين في الناظر ما يجري في الخاطر أقرب إلى داعيه من يد متعاطيه حديد الذهن ثاقب الفهم يغنيك عند الملامة ولا يحوجك إلى الاستزادة قال أبو نواس يصف نفسه في محبة مخدومه بالذكاء
إذا جعل اللفظ الخفي كلامه ... جعلت له عيني لتفهمه أذنا
وقال الشريف ابن طباطبا يمدح صاحباً له بهذه الصفة
في صاحب لا غاب عني شخصه ... أبداً وظلت ممتعاً بوداده
فطن بما يوحي إليه كأنما ... قد نيط هاجس فكرتي بفؤاده
وكل الناس الأذكياء عيال على زياد بن أبيه حكي عنه إنه كان يوماً جالساً في مجلس عمر فأملى عمر على كاتبه كتاباً سراً فكتب الكاتب خلافه فقال زياد يا أمير المؤمنين إنه كتب غير ما أمليته فتناول عمر الكتاب فوجد الأمر كما قال زياد فقال عمر زياد من أين علمت هذا قال رأيت رجع فيك وحركة قلمه فلم أر بينهما اتفاقا

الفصل الثاني من الباب السابع
في ذكر بداهة الأذكياء البديعة
وأجوبتهم المفحمة السريعة
قالوا البديهة قدرة روحانية في حلية بشرية كما أن الرؤية صورة بشرية في حلية روحانية ويقال بالاحسان في البديهة تفاضلت العقول ويقال ميسور الراي عند البديهة خير من الأطناب بعد الفكرة فممن أبدع في بديهته من الفضلاء من غير ما سؤال ولا ابتلاء أبو نواس وذلك أنه اجتمع ندماء الأمين في مجلس أنس وخلاعة وهو فيهم فخرج عليهم الأمين في زينته مخموراً والجواري يحملنه على سرير فلما رآه أبو نواس قال إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة فلله حسن انتزاع هذا الرجل ما أبدعه وأبرعه وفكره ما أصدعه وأسرعه لقد جاوز شأو الاختراع في الانتزاع وتعدى الغاية وصرف العقول لاستحسان ما أشار إليه بهذه الآية لأن أباه هرون الرشيد وعمه موسى الهادي وهو وارثهما وصعد سليمان بن عبد الملك يوم جمعة المنبر ويقال الوليد وعليه أكثر المؤرخين فسمع صوت ناقوس فقال ما هذا قالوا البيعة يا أمير المؤمنين فأمر بهدمها فهدمت فبلغ ذلك ملك الروم فكتب إليه إن هذه البيعة أقرها من كان قبلك فإن كانوا أصابوا فقد أخطأت وإن تكن أصبت فقد أخطؤا فسأل سليمان من خواص دولته الجواب فأعياهم فقال الفرزدق عن اذن أمير المؤمنين قال قل قال يكتب إليه ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً فسر بذلك وأمر له بعشرة آلاف درهم وخطب قتيبة بن مسلم على منبر خراسان عندما قدمها والياً فسقطت العصا من يده فتطير من ذلك فقام بعض الأعراب فمسحها وناوله إياها وقال أيها الأمير ليس كما ظن العدو وساء الصديق ولكنه كما قال الشاعر
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قر عيناً بالاياب المسافر
فسرى عنه ما كان وجده من الغم وأمر له بخمسة آلاف درهم وخرج طاهر بن الحسين لقتال علي بن عيسى بن ماهان وفي كمه دراهم يفرقها على الضعفاء وسها إنها في كمه فأسبل كمه فتبددت فتغير لذلك وتطير منه فأنشده شاعر كان معه
هذا تفرق جمعهم لا غيره ... وذهابها منه ذهاب الهمّ
شيء يكون الهم نصف حروفه ... لا خير في امساكه في الكم

ودخل أبو الشمقمق واسمه مروان بن محمد على خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني وقد قلده المأمون الموصول فلما دخل الموصل مر ببعض الدروب فاندق منه اللواء في بعض أبوابها فتطير خالد من ذلك فقال أبو الشمقمق يسليه عن الطيرة
ما كان مندق اللواء لطيرة ... تخشى ولا سوء يكون معجلا
لكنّ هذا الرمح أضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا
فسرى عنه ما كان وجده وكتب صاحب البريد إلى المأمون بذلك فزاده ديار ربيعة فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم
وممن مثل من الأذكياء فأجاب ... وأتت سرعة بديهته بالشيء العجاب
ما يحكى أن المأمون دخل يوماً ديوانه فمر بغلام جميل على أذنه قلم فأعجبه حسنه فقال من الشاب فقام وقال الناشئ في دولتك والمؤمل لخدمتك والمتقلب في نعمتك الحسن بن رجاء فاستحسن كلامه وأمر له بمائة ألف درهم ودخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون فسلم فقال من أنت قال سليل نعمتك وابن دولتك وغصن من أغصان دوحتك فأعجبه وسأله عن حاجته فقضاها له وقال أبو عبادة البحتري دخلت يوماً دار الفتح بن خاقان فوجدت الشعراء في دهليز داره وبينهم صبي صغير السن قصير القامة فقلت ما أنت يا غلام فقال شاعر فتبسمت عجباً منه ثم قلت أجز ليت ما بين من أحب وبيني قال من البعد أم من القرب قلت من القرب فقال مثل ما بين حاجبي وعيني فقلت فإن أردناه من البعد فقال

مثل ما بين ملتقى الخافقين فأخذت بيده وأوصلته إلى الفتح وأخبرته بما دار بيني وبينه فعجب منه وأجازه لام السفاح خالد بن برمك على كثرة عطائه وصلاته فقال له خالد لم أر شكري يحيط بنعم أمير المؤمنين فاستعنت بألسنة الناس عليها ومثلها ما حكى إن الواثق قال يوماً لأحمد بن أبي دواد وقد ضجر من كثرة حوائجه يا أحمد قد أخليت بيوت الأموال من افراطك في الطلب للائذين بك فقال يا أمير المؤمنين نتائج شكرها متصلة بك وذخائر أجرها مكتوبة لك ومالي من ذلك الأعشق اتصال الألسن بخلود المدح فيك فقال الواثق والله يا أبا عبد الله ما منعناك ما يزيد في عشقك ويقوي من همتك وأمره إن يجري على عادته في عرض حوائجه وكان الفضل بن يحيى يرسل إلى القاسم بن إسحق البصري مع جوائزه رقاعاً مختومة فيرد الجواب برقاع منشورة فنقم عليه وكره ذلك منه فكتب إليه القاسم رقاعك تشتمل على بر ورقاعي تشتمل على شكر فأنت تكتم برك وأنا أنشر شكري فكل منا فعل ما وجب عليه وندب إليه وفد حاجب بن زرارة على باب كسرى وكان قد منع تميم ريف العراق فقال لحاجبه قل للملك إن بالباب رجلاً من العرب يريد الوفود عليك والمثول بين يديك فأعلم الحاجب كسرى بما قال فأذن له فلما وقف بين يديه قال له من أنت قال سيد العرب قال ألست القائل للحاجب إنك رجل من العرب قال نعم قلت ذلك قبل وصولي إليك ومثولي بين يديك فأما وقد تشرفت بخدمتك وحظيت برؤيتك فقد صرت سيد العرب فقال كسرى زه وأمره أن يحشي فمه جواهر ورمى إليه وسادة تكرمة له فأخذها ووضعها على رأسه فتغامز عليه من كان حاضراً من المرازبة واستجهل فقال له كسرى ليس هذا مكانها إنما هي للجلوس عليها فقال علمت أيها الملك ولكني لما رأيت عليها صورتك أجللتها فوضعتها على أشرفه أعضائي ليتشرف بها فقال كسرى زه وأمر أن يسور فسور ورؤى كثير راكباً ومحمد بن علي الباقر رضي الله عنه يمشي معه فقيل أتركب ومحمد يمشي فقال هو أمرني بذلك فطاعتي له في الركوب أفضل من عصياني له في المشي ودخل عدي بن أرطاة على شريح القاضي فقال إني رجل من أهل الشام قال بعيد سحيق قال وإني قدمت بلدكم هذه قال خير مقدم قال وإني تزوجت قال بالرفاء والبنين قال وإن امرأتي ولدت غلاماً قال يهنؤك الفارس قال وقد كنت شرطت لها صداقاً قال الشرط أملك قال وقد أردت الخروج بها إلى بلدي قال الرجل أحق بأهله قال فاقض بيننا قال قد فعلت قال بشهادة من قال بشهادة ابن أخت خالتك ودخل عروة بن الزبير بستاناً لعبد الملك بن مروان وقد فتحت أزهاره وأينعت ثماره وبسقت أشجاره واطردت أنهاره وتغردت أطياره فقال له عبد الملك ما أحسن هذا البستان فقال أنت أحسن منه لأنه يؤتي أكله كل عام وأنت تؤى أكلك كل حين وقف المنذر على عجوز من العرب فقال ممن أنت قالت من طيء فقال ما منع طيأ أن يكون فيهم مثل حاتم قالت الذي منع الملوك أن يكون فيهم مثلك فعجب من سرعة جوابها وأمر لها بصلة وركب الرشيد وجعفر بن يحيى يسايره فرأى الرشيد في طريقه أحمالاً مقبلة فسأل عنها فقيل له هدايا خراسان بعث بها علي بن عيسى بن ماهان وكان الرشيد ولاه إياها بعد الفضل بن يحيى فقال الرشيد لجعفر أين كانت هذه أيام أخيك قال في منازل أصحابها يا أمير المؤمنين نادرة ولي المنصور سليمان بن راشد الموصل وضم إليه ألفاً من العجم وقال له قد ضممت لك ألف شيطان تذل بهم الخلق فلما أتى الموصل عاثوا في البلاد وقطعوا السبل فانتهى خبرهم إلى المنصور فكتب إليه أكفرت النعمة يا سليمان فأجابه وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا فقبل المنصور عذره وصرفهم عنه وقال المتوكل لأبي العيناء ما أشد ما مر عليك في ذهاب بصرك قال فوت رؤيتك يا أمير المؤمنين وحكى أن الحجاج طاف ليله فظفر برجلين سكرانين فقال من أنتما فقال أحدهما
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود
ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود
وسأل الآخر فقال
أنا ابن من ذلت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها
تأتيه بالرغم وهي صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها

فسأل الحجاج عن أبويهما فإذا أبو الأول باقلاني وأبو الاخر حجام فقال الحجاج أطلقوهما لأدبهما لا لنسبهما لئن أخطأ النسب فما أخطأ الأدب وقد أخذ بعض الشعراء قول الثاني فقال يمدح حجاماً في معرض التهكم والاستهزاء
أبوك حز النجاد عاتقه ... كم من كميّ أدمى ومن بطل
يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من ثائر على وجل
وممن رشق من الفهماء بسهام المقال ... فزبرها بعارضة أحد من النصال
عروة بن الزبير وذلك أنه دخل على عبد الملك بن مروان يوماً فلما استقر به المجلس تجاذب الجلساء أذيال المذاكرة وتساقوا أكواب المحاورة فذكر أخاه عبد لاله فقال كان أبو بكر يفعل كذا وكذا وكان أبو بكر يقول كذا فقال له انسان تكنيه عند أمير المؤمنين لا أم لك فقال إلي يقال لا أم لك وأنا ابن عجائز الجنة يعني إن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جدته وعائشة أم المؤمنين خالته وأسماء ذات النطاقين أمه ودخل شاب على المنصور فسأله عن والده فقال مرض والدي رحمه الله يوم كذا ومات رحمه الله يوم كذا وترك من المال رحمه الله كذا فانتهره الربيع وقال بين يدي أمير المؤمنين توالى بالدعاء لأبيك فقال الشاب لا الومك يا ربيع لأنك لم تعرف حلاوة الاباء فضحك المنصور وخجل الربيع وذلك إن الربيع كان مولى للمنصور لا يعرف له أب قال أبو الفرج الأصفهاني كان الربيع يدعى أنه ابن يونس بن أبي فروة وبنو فروة يدفعون ذلك ويزعمون إنه لقيط وجد منبوذاً وكفله يونس فلما كبر وهبه يونس للمنصور وقبل الخلافة فلما ولي الخلافة جعله حاجباً ثم جعله وزيراً وقال ابن عبدوس الجهشياري هو الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة واسم أبي فروة كيسان مولى الحرث الحفار مولى عثمان بن عفان وكان يونس شاطراً بالمدينة فعلق أمة قوم بالمدينة ووقع عليها فجاءت بالربيع فاستعبد ولم يكن ليونس مال فيبتاعه فاتباعه زياد بن عبد الله خال أبي عبد الله السفاح فأهداه إليه ولم يزل يخدمه حتى مات فخدم أبا جعفر بعده فخص له واستولى على أمره لحذاقته ونباهته وحكى إن قرشياً سأل خالد بن صفوان بن الأهتم التميمي عن اسمه فانتسب له فقال القرشي إن اسمك لكذب ما أحد في الدنيا بخالد وإن أباك لحجر بعيد من الرشيح وإن جدك لأهتم والصحيح خير من الأهتم فقال له خالد قد سألت فأجبتك فممن أنت قال من قريش قال من أي قريش أنت قال من بني عبد الدار قال خالد لم تصنع شيأً يا أخا عبد الدار فمثلك يشتم تميماً في عزها وشرفها وقد هشمتك هاشم وأمتك أمية وجمحت بك جمح ورضخت رأسك فهر وخزمت أنفك مخزوم ولوت بك لؤي وغلبتك غالب ونفتك مناف وزهرت عليك زهرة وأقصتك قصي فجعلتك عبد دارها ومنهى عارها تفتح إذا دخلوا وتغلق إذا خرجوا فخر الرجل ميتاً من شدة الغيظ فكانت امرأته تنادي في أزقة البصرة صارخة خالد قتل بعلي بلسانه وادعى أهله على خالد بديته لأنه مات بسبب كلامه وافتخر قوم باليمن عند هشام بن عبد الملك فقال لخالد ابن صفوان أجبهم فقال ما عسى أن أقول لقوم هم بين ناسج برد ودابغ جلد وسائس قرد ملكتهم امرأة ودل عليهم هدهد وغرقتهم فارة وقال معاوية لعقيل ما حال عمك أبي لهب قال في النار يفترش عمتك حمالة الحطب ودخل عقيل بعدما كف بصره على معاوية يوماً فقال له ما بالكم تصابون في أبصاركم يا بني هاشم يعرض به وبعبد الله بن عباس قال كما تصابون أنتم في بصائركم يا بني أمية وحكى إن هند ابنة عتبة بن ربيعة وقفت بالموسم وقالت يا بني هاشم أين أبي أين أخي أين عمي أين الذين كانت وجوههم تضئ للساري في الليل العاكر ونسق بمدحهم لسان الذاكر فقال لها عقيل بن أبي طالب إذا دخلت النار فخذي على شمالك ودخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك فلما رآه دميماً حقيراً قال له لعنة الله على رجل أجرك رسنه وولاك خيله فقال يا أمير المؤمنين رأيتني والأمر عني مدبر فلور أتيني والأمر علي مقبل لاستعظمت مني ما استصغرت فقال له سليمان أترى الحجاج بلغ قعر جهنم بعد فقال يا أمير المؤمنين يجئ الحجاج يوم القيامة بين أبيك وأخيك قابضاً على يمين أبيك وشمال أخيك فضعه حيث شئت ودخل بعض الشعراء على أمير يريد مدحه فقال له الأمير ممن أنت قال من تميم قال الذين يقول فيهم الشاعر

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت
أخذت امرأة في زنا فطيف بها على جمل فقال لها بعض المجان كيف خلفت الحاج قالت بخير وكانت أمك في النفر الأول وقال رجل للفرزدق كيف عهدك بالحر قال منذ ماتت عجوزك وقال عبد الله بن طاهر لرجل ما بال شدقك معوجاً قال عقوبة عاقبني الله بها لكثرة ثنائي عليك بالباطل اجتمع أبو حنيفة النعمان بن ثابت وشيطان الطاق إبراهيم بن هرون عند المهدي بعد موت جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه وعن آبائه فقال أبو حنيفة لشيطان الطاق يعرض به مات أمامك فقال له ابشر فإن أمامك من المنظرين إلي يوم الوقت المعلوم فقال المهدي لله درك لقد أجدت وأمر له بعشرة آلاف درهم ومازح المتوكل أبا العيناء فقال هل أبصرت طالبياً حسن الوجه فقال يا أمير المؤمنين وهل يسئل أعمى عن مثل هذا قال إنما سألتك عما سلف إذ كنت بصيراً قال نعم رأيت منهم ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه ولا ألطف شمائل قال المتوكل نجده كان مؤاجراً ونجدك كنت قواداً عليه قال أبو العيناء وتفرغت لهذا يا أمير المؤمنين أتراني كنت أدع موالي وأقود على الغرباء قال اسكت يا مأبون قال مولى القوم منهم قال المتوكل أردت أن أشتفي منهم به فأشتفي لهم مني وقال رجل لمغنية أشتهي أن أقتلك قالت ولم قال لأنك زانية قالت فكل زانيه تقتل قال نعم قالت فابدأ بمن تعول لقي خالد بن صفوان الفرزدق وكان كثيراً ما يداعبه وكان الفرزدق دميماً فقال له أبا فراس ما أنت بالذي لما رأينه أكبرته وقطعن أيديهن فقال الفرزدق ولا أنت أبا صفوان بالذي قالت الفتاة لأبيها في خقه يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمير، رأى أبو نواس غلاماً جميلاً يمشي في بعض السكك فقال له ما تصنع الحور بين الدور فقال الصبي ما يصنع الشيطان بين الحيطان وحبس عمرو بن العاص عن جنده العطاء فقام إليه رجل حميري وقال أصلح الله الأمير إذا لم تعطنا شيأً فاتخذ جنداً من حجارة لا ياكلون ولا يشربون فقال له عمروا خسأ يا كلب فقال الحميري إن كنت كما ذكرت فأنت اذن أمير الكلاب
وممن تهكم في خطابه ... واعتمد الهزل في جوابه

ما حكي أن خالد بن الوليد لما قدم اليمامة نزل عسكره على قصره من قصور الحيرة يقال له قصر بني بقيلة فسألهم أن يبعثوا له رجلاً من عقلائهم وذوي أنسابهم فبعثوا إليه عبد المسيح بن بقيلة فأقبل يدب في مشيه فقال خالد بعثوا إلينا شيخاً لا يفهم شيأً فلما وصل إليه قال أنعم صباحاً فقال خالد إن الله أكرمنا بتحية خير من هذه ثم قال له أين أقصي أثرك قال ظهر أبي فقال من أين خرجت قال من بطن أمي قال علام أنت قال على الأرض قال فيم أنت قال في ثيابي فقال له تعقل قال نعم وأقيد قال ابن كم أنت قال ابن رجل وامرأة قال كم أتى عليك قال لو أتى علي شيء لقتلتني قال كم سنك قال ست وثلاثون قال خالد ما رأيت كاليوم أسألك عن شيء وتجيبني عن غيره قال ما أجبتك إلا عما سألت قال كم عمرك قال ثلثمائة وخمسون سنة فجعل لا يسأله عن شيء إلا أجابه وقال الحجاج لرجل من الخوارج أجمعت القرآن قال ما كان مفرقاً فأجمعه قال أفتحفظه قال ما خشيت فراره حتى أفحظه قال ما تقول في أمير المؤمنين قال لعنة الله ولعنك معه قال إنك مقتول فكيف تلقى الله قال ألقاه بعملي وتلقاه بدمي وكان المنصور قد ألزم الناس بلباس قلانس طوال وإن يطيلوا حمائل سيوفهم وإن يكتبوا عليها فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم وذلك في سنة خمس وخمسين ومائة وفي هذه السنة وفد الشافعي رضي الله عنه فدخل عليه أبو دلامة واسمه زيد بن الجون في هذا الزي فقال له كيف أنت يا أبا دلامة قال كيف حال من صار وجهه في وسطه وسيفه في استه ونبذ كتاب الله وراء ظهره فضحك منه وأمر بتغيير ذلك الزي وماتت حمادة بنت عيسى عمة المنصور فخرج في جنازتها فرأى أبا دلامة واقفاً على شفير قبرها فقال ما أعددت لهذه الحفرة يا أبا دلامة قال عمة أمير المؤمنين يؤتى بها الساعة فتدفن فيها فغلب المنصور الضحك حتى ستر وجهه بطرف ردائه حياء من الناس قال فتى لأبيه زوجني قال أو تحسن أن تعمل قال نعم أقيم أيرى وأسدد طعني وألصق عانتي وأشد صمي فقالت أمه لأبيه تعلم أسخن الله عينك من ابني فديته عرض رجل يقال له أبو البقر وكان ظريفاً مطبوعاً ماجناً على موسى بن عبد الملك فقال والله ما أعرف هذا فقال والله إنك لأعرف به من الترك بالبوم والغزاة بالروم والعرب بالشيح والقيصوم ولكنك ضجرت ضجر المحب من الرقيب فقال أنت أبو البقر قال أنا أبو القوم الذين بين يديك فضحك منه وقضى حاجته وتعرض أبو العير للمتوكل والمتوكل مشرف من قصره الجعفري وقد جعل في رجليه قلنسوتين وعلى رأسه خفاً وجعل سراويله قميصاً وقميصه سراويل فقال المتوكل علي بهذه المثلة فلما مثل بين يديه قال له أنت شارب قال لا بل عنفقة يا أمير المؤمنين قال إني أضع رجلك في الأدهم وأنفيك إلى فارس قال ضع رجلي في الأشهب وانفني إلى راجل قال أتراني في قتلك مأثوم قال لا بل ماء بصل يا أمير المؤمنين فضحك منه ووصله
وممن ليم على قبيح فعاله ... فسدّده بمغالطات مقاله

ما ذكر إن رجلاً كان له أرض إلى جانب أرض لرجل آخر فكان الرجل يضم كل سنة قطعة منها إلى أرضه فقال له يوماً ما هذا النقصان في أرضي والزيادة في أرضك قال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قال فمن أين أتيت النقص قال يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم وسئل بعض الوعاظ لم لم تنصرف أشياء فلم يفهم ما قيل له فقال لسائله يا هذا اقتف آثار المهتدين ولا تسأل سؤال الملحدين أما سمعت قول من يحيي الموتى ويميت الأحياء يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء لقد ارتكبت بمخالفتك ذنباً عظيماً فاستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً وقرأ قارئ في روضة تخبزون فقال ماجن خشكاراً أم حوارى فقال ما ازاد وافقيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وقال يحيى بن أكثم لشيخ من أهل البصرة بمن اقتديت في تحليل المتعة قال بعمر بن الخطاب قال يحيى كيف هذا وعمر كان أشد الناس فيها لأن الخبر الصحيح أتى عنه إنه صعد المنبر فقال الله ورسوله أحل لكم متعتين وافى محرمهما عليكم وأعاقب من فعلهما قال فنحن نقبل شهادته ولا نقبل تحريمه وحكى إن الفضل بن الربيع قال كنت أقرأ كتاباً ورد علي وإلى جانبي رجل مدني ينظر فيه فقلت له ما تصنع ويحك قال بلغني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من نظر في كتاب أخيه المؤمن بغير اذنه فكأنما تطلع في النار ولنا أشياخ تقدمونا فأردت أعرف أين مكانهم منها فشغلني الضحك منه عن الانكار عليه ولما قتل الحجاج بن يوسف عبد الله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء فأمر الحجاج الناس أن يجتمعوا إلى المسجد ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أهل مكة بلغني بكاؤكم على ابن الزبير وكان من أحبار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازع أهلها فيها فخلع طاعة الله واستكن بحرم الله ولو كان شيأً مانعاً للعصاة لمنعت آدم عليه السلام حرمة الجنة لأن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأباحه جنته فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته وآدم أكرم على الله من ابتن الزبير والجنة أكبر حرمة من الكعبة وجلس نحوي إلى جانب مبر واعظ فلحن الواعظ فقال له النحوي أخطأت يا لحنة فقال الواعظ بديهاً أيها المعرب في أقواله اللاحن في أفعاله مالي أراك تائهاً منكراً أكل ذلك لأنك رفعت ونصبت وخفضت وجزمت هلا رفعت إلى الله يديك في جميع الحاجات ونصبت بين عينيك ذكر الممات وخفضت نفسك عن الشهوات وجزمتها عن اتباع المحرمات أو ما علمت إنه لا يقال يوم القيامة ألا كنت فصيحاً معرباً وإنما يقال لك لم كنت عاصياً مذنباً فلو كان الأمر كما زعمت لخواطب كما حكمت لكان هرون أحق بالرسالة من موسى إذ قال الله تعالى أخباراً عنه وأخي هرون هو أفصح مني لساناً فجعل الرسالة في موسى لفصاحة تبيانه لا لفصاحة لسانه فالفصاحة فصاحة الجنان لا فصاحة اللسان ثم أنشد
مجازف في الفعال ذو زلل ... حتى إذا جاء قوله وزنه
قال وقد أعجبته لفظته ... تيهاً وعجباً أخطأت يا لحنه
فقلت أخطأ الذي يقوم غدا ... ولا يرى في كتابه حسنه
ومن أظرف ما قيل
ياه على الناس باعرابه ... أي فاحذروني إنني ملسن
إن كان في أقواله معربا ... فإنه في فعله يلحن
نظر رجل إلى مخنث ينتف لحيته فعنفه فقال له أتحب أن يكون في استك قال لا فقال شيء لا تحبه أن يكون في استك كيف أحب أن يكون في وجهي وقيل لمخنث لم تنتف لحيتك فقال لسائله وأنت أيضاً لم لا تنتفها وسمع بعضهم قارئاً يقرأ الأكراد أشد كفراً ونفاقاً فقال له ويحك إنما هي الأعراب فقال كلهم يقطعون الطريق عليهم لعنة الله وسخطه

الفصل الثالث من الباب السابع
فيمن سبق بذكائه وفطنته إلى ورود حياض منيته

ينبغي لنا أن نذكر مقدمة تنتج عنها حقيقة ما ترجمنا عليه وساقنا الغرض إليه وهي إن الانسان إذا كان ذا فكر ثاقب وقريحة وقادة ربما تشكل له فيها خيالات وهمية وأمور حدسية تؤيدها اصابات اتفاقية خارقات للعوائد الفعلية كالحدقة إذا زاد شعاع باصرها عن حد الاعتدال ربما أدركت من المرئيات ما لا يمكن العبارة عنه فكان كالنقص والاختلال وكذلك السمع أيضاً من شدة حادة الحاسة ربما عرض له طنين لكثرة ما يعي من السمعيات كما قلنا في إدراك حدة البصر من المرئيات فتقرطس سهام تلك الخيالات الفكرية أعراض الأقدار ولا يعلم صاحبها أن الله أجراها بارادته شريكي عنان عبرة لأولي البصائر والأبصار فمن لم يجعل الله له نوراً قادته فرعنة طبعه إلى القول والعناد وحسنت له أن يتصف بغير صفات العباد أو يقول إن السعادة إذا كانت مناطة بأفعال الانسان في حركاته وسكناته مساعدة له في سائر حالاته حتى إنه إذا باشر متعسراً تيسر أو صعباً هان أو شديد ألان ربما سولت له خيالات شيطانية إن تلك الأفعال انفعلت بقدرته لا بالقدرة الالهية فتخرج النفس بدعاويها عن صفاتها البشرية وأطوارها الطينية كما فعل النمر وذو فرعون ومن تابعهما بتخيلاتهم الفاسدة من أصحاب المقالات وأرباب المحالات وكل منهم عبد صنم هواه فأضله وأغواه ورقاه بدعواه أصعب مرتقى فهوى به إلى أسفل دركات الشقا فمنهم ممن نازع الله رداءه فأشمت به مخالفيه وأعداءه المقنع الخراساني واسمه عطاء وكان أعور قصاراً من أهل مرو وكان لا يدع القناع عن وجهه لئلا يرى قبحه وكان يعرف بسرعة السحر والنيرنجيات والهندسه وكان أصل معتقده الحلول والتناسخ فادعى الربوبية في قومه فتابعوه وقالوا بقوله واسقط عمن تبعه الصلاة والزكاة والصوم والحج فمن مفصل أباطيله أنه زعم إن الله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبير حل في آدم ثم من آدم في نوح ثم إلى صورة بعد صورة من صور الأنبياء والحكماء حتى وصل إلى صورة أبي مسلم الخراساني فحل فيها ثم منه إليه فعبده قومه وقاتلوا دونه واتخذ وجهاً من ذهب لئلا يرى قبح وجهه فلا يعبد ولهذا سمي المقنع وكان ظهوره في خلافة المهدي وحميد بن قحطبة وإلى خراسان يومئذ واشتدت شوكته ودامت فتنته أربع عشرة سنة وكانت بما وراء النهر بنواحي الصغد وإيلاق وما داناها من بلاد الترك ولما تمادى أمره أنفذ إليه المهدي عسكراً فقاتله فكانت الحرب بينه وبين جموعه سجالاً فلما أحس بالغلبة صنع له أخدوداً من نار وألقى نفسه فيه وقيل أمر أن يغلي له سكر وقطران ثم ألقى نفسه فيه فذاب ولم يبق له أثر فازداد أصحابه بذلك ضلالاً وقالوا قد رفع إلى السماء وذلك في سنة ستين ومائة من الهجرة وممن كان يقول بالحلول وأجمع معاصريه على ضلالة ما يقول حسين الحلاج وهو الحسين بن منصور ويكنى أبا محمد وأبا عبد الله وأبا مسعود وأبا مغيث وكان ظهوره في سنة إحدى وثلثمائة في خلافة المقتدر فمما أورده المؤرخون الثقاة من كلامه المنتقد عليه قوله أنا الحق وقوله ما في الجبة إلا الله وقوله أيضاً
سبحان من أظهر ناسوته ... سرّ سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا محتجباً ظاهراً ... في صورة الآكل والشارب

ومن كلامه لمن تابعه من عذب نفسه في الطاعة وصبر عن اللذة والشهوة وصفا حتى لا يبقى فيه شيء من البشرية حل فيه روح الإله كما حل في عيسى عليه السلام ولا يريد إذ ذاك شيأً إلا كان كما أراده ويكون جملة فعله فعل الله وكان يظهر أن سني لمن كان من أهل السنة وشيعي لمن كان من أهل الشيعة ومعتزلي لمن كان يعتقد الاعتزال وكان مع ذلك شعبذياً يستعمل المخاريق حتى استهوى به من لا تحصيل عنده ثم ادعى الربوبية وقال بالحلول وعظم افتراؤه على الله وكان يدعى أنه المغرق لقوم نوح والمهلك لعاد وثمود وكان لا يحسن من القرآن شيأً ولا من الحديث ولا من الفقه ولا من الشعر شيأً وكان عنوان كتبه إلى أصحابه من الهو هورب الأرباب إلى عبده فلان وكانوا يكتبون إليه يا ذات الذات يا منتهى غاية الغايات نشهد إنك مصور فيما شئت من الصور وإنك لتتصور في صورة الحسين بن منصور الحلاج ونحن نستجير بك ونرجو رحمتك يا علام الغيوب فاتصل خبره بعلي بن عيسى الوزير فأحضره وأحضر له الفقهاء فسألوه فلم يجدوه يعرف شيأً وأسقط في كلامه فأمر به فضرب وصلب حياً في الجانب الشرقي ثم في الجانب الغربي ليراه الناس ثم حبس في دار الخلافة مدة ثم أطلق ثم ظهر في سنة تسع وثلاثين بعد أن دخل الهند وما وراء النهر وبلاد تركستان وخراسان وسجستان وكرمان وفارس وبلاد الجبل والعراق وكان كثير التلون له في كل بلد اسم وكنية ولقب يلبس تارة المسوح وتارة الدراعة وتارة الثياب المصبغة وتارة الفوطة والمرقعة وتارة العباءة وأشكل حاله على الناس فقائل ساحر وقائل مشعبذ ومنهم من يثبت له الكرامات وذلك لما يظهر عنه من خوارق العادات فلما ظهر في المرة الثانية اختدع جماعة من أصحاب المقتدر وكان وزيره يومئذ أحمد بن العباس فعرض حاله على الفقهاء فأفتى بقتله خمسة وثمانون بفتاوي وافقت رأى المقتدر وممن أفتى بقتله القاضي أبو عمر ومحمد بن يوسف المالكي وأبو العباس أحمد بن شريح الشافعي وأبو بكر بن فورك وداود الظاهري فأمر به فضرب مائة سوط وقطعت أطرافه وصلب حياً ثم ضرب عنقه من الغد ولف في ردائه وأحرق بالنفط وذرى رماده في دجلة فلما فعل به ذلك جعل أصحابه يعدون نفوسهم برجوعه بعد أربعين يوماً وادعى بعض أصحابه أنه لم يقتل ولم يصلب وإنما ألقى شبهه حالة القتل والصلب كعيسى عليه الصلاة والسلام وقد حمل الغزالي اطلاقاته التي تنبو عنها مسامع العقلاء وترفضها مسامع العلماء حملاً حسناً وتأولها تأويلاً بديعاً وقال هذا من فرط المحبة والوجد ذكره في كتابه المسمى مشكاة الأنوار والله تعالى عالم الاعلان من أمره والأسرار وكان وقتله في يوم السبت لثلاث بقين من ذي القعدة الحرام سنة تسع وثلثمائة وظهر في أيام الراضي بالله علي بن محمد السلمغاني المعروف بابن أبي القراقر وكان غالياً في التشيع يقول بالتناسخ والحلول وكان ممن وافقه وخلع ربقة الاسلام ابن أبي عوانة الكاتب وابن الفرات وابنه الحسن والحسن بن القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب فوشى بهم إلى الراضي فأحضرهم وكان الحسن بالرقة فسألهم عما رموا به فأنكروه فأمر أن يحمل ما في بيت أبي القراقر من الأوراق فوجدوا خط الحسن وابن أبي عوانة يخاطبانه بالالهية فأمر الراضي ابن أبي عوانة أن يصفع ابن أبي القراقر فلما نهض لذلك أظهر رعشة في يده ودنا إلى رأسه فقبلها وقال استغفرك يا إلهي وخالقي ورازقي فقال الراضي لابن أبي القراقر أليس قد أنكرت ما نسب إليك من ادعائك الإلهية فقال والله ما أمرته بذلك فأمر الراضي بهما فصلبا حيين أياماً ثم قتلا وأحرقا وبعث إلى الحسن من قتله بالرقة وذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة

منهم من ارتقى بادعائه النبوة مرتقى صعبا
فصير جسمه للطير مرعى وللهوام نهبا

أول من ارتكب هذا المحظور وامتطى فيه صهوة الغرور بعد ما نسخ نور صبح الرسالة ظلام ليل الضلالة مسيلمة وهو مسيلمة بن حبيب بن ثمامة بن أثال ابن حبيب بن حنيفة بن عجل وكان صاحب نيرنجيات وهو أول من أدخل البيضة في القارورة وسجاح وهي سجاح ابنة الحرث من بني يربوع تنبأت وزعمت إن الوحي يأتيها وتابعها كثير من العرب ورؤساء الجزيرة قال ابن أبي الزلازل في كتاب أنواع الأسجاع كان من حديث سجاح اليربوعية بنت سويد بن خلف بن أسامة بن العنبر بن يربوع إنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه تنبأت سجاح وخرجت من تغلب فتبعها منهم ناس كثير ومن النمر بن قاسط واياد وسارت بهم إلى بلاد بني تميم فقالت الأمرة منكم والملك ملككم وقد بعثت نبية فقالوا لها مرينا بأمرك فقالت إن رب السحاب والتراب يأمركم أن توجهوا الركاب وتستعدوا للذهاب حتى تغيروا على الرباب فليس دونهم حجاب فسارت بنو حنظلة إلى بني ضبة وهم من الرباب وسارت سجاح ومعها بنو تغلب والنمر واياد إلى حفير تميم ولما بلغها حديث مسيلمة بن ثمامة قالت لهم عليكم باليمامة زفوا زفيف حمامة فإنها دار ثمامة نلقي مسيلمة بن ثمامة فإن كان نبياً ففي النبي علامة وإن كان كذاباً فلقومه الندامة فإنها عبرة مدامة لا يلحقكم بعدها ملامة فخرجوا معها وتبعها عطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم والأقرع بن حابس وشبيب بن ربعي وغيرهم من سادات العرب حتى نزلوا بالصمان فلما بلغ مسيلمة مسيرها إليه بمن جاء معها خافها وهابها وأهدى لها ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه فأمنته وأذنته في القدوم عليها فجاء إليها وافداً في أربعين من بني حنيفة وكانت راسخة في النصرانية فقال مسيلمة لأصحابه اضربوا لها قبة وجمروها لعلها تذكر الباه ففعلوا وأرصدوا حول القبة أناساً منهم للحراسة فلما دخلت عليه حدثته وحادثها وقالت ما أوحى إليك قال أوحى إلي ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشي قالت ثم ماذا قال أوحى إلي إن الله خلق النساء أفواجاً وجعل الرجال لهن أزواجاً فنولج فيهن غرا ميلنا ايلاجاً ثم نخرجها إذا شئنا اخراجاً فينتجن لنا سخاً لا نتاجاً قالت أشهد أنك نبي قال هل لك أن أتزوجك فأذل بقومي وقومك العرب قالت نعم فقال
الا قومي إلى النيك ... فقد هيي لك المضجع
فإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع
قالت به أجمع فهو للشمل أجمع صلى الله عليك قال كذلك أوحى إلي فأقامت عنده قليلاً ثم انصرفت إلى قومها فقالوا لها ما عندك قالت وجدته على حق فتبعته وتزوجته قالوا فهل أصدقك شيأً قالت لا قالوا ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ينكح بغير صداق فرجعت إليه فلما رآها قال لها مالك قالت اصدقني صداقاً قال من مؤذنك قالت شبيب بن ربعي الرباحي قال علي به فلما جاء قال قد وضعت عنكم صلاة الغداة وصلاة العتمة وجعلت ذلك صداقها فناد في أصحابك إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة فكان عامة بني تميم لا يصلونهما وكان مما شرع لهم من أصاب ولداً من امرأة لا يعود يطؤها إلا أن يموت الولد وحرم النساء على من ولد له ولد ذكر وفيه وفي سجاح يقول قيس بن عاصم المنقري
أضحت نبيتنا انثى يطاف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
فلعنة اللّه والأقوام كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغرانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه ماء مزن حيثما كانا

ولما تبعته العرب وارتدت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى اليمامة فقاتل بني حنيفة واستشهد خلق كثير من المهاجرين والأنصار وانهزم مسيلمة ومن بقي معه فأدركه وحشي بن حرب فقتله وأسلمت سجاح فيما بعد وحسن إسلامها ووحشي هذا هو الذي قتل حمزة بن عبد المطلب يوم أحد ووحشي يومئذ كافر وقال عند قتله لمسيلمة يا معشر العرب إن كنت قتلت بهذه الحربة أحب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قتلت بها اليوم أبغض الخلق إلى رسول الله فهذه بتلك وكان خروجه لعنه الله آخر سنة عشر من سني الهجرة قبل حجة الوداع وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام عليك أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشاً قوم يعتدون أي يجحفون فلما قرئ كتابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب لعنه الله السلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وكان كتاب مسيلمة بخط عمرو بن الجارود وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم بخط أبي بن كعب ذكر ذلك ابن عبدوس الجهشياري ثم كان من أمره ما ذكرناه آنفاً وممن تنبأ وزعم إن الوحي يأتيه الأسود العنسي واسمه عبهلة بن كعب وكان يلقب ذا الخمار بالخاء المعجمة لأنه كان يخمر وجهه أبداً وقيل بالحاء المهملة لأنه كان له حمار يقول له اسجد فيسجدوا برك فيبرك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاد من حجة الوداع توعك فبلغ ذلك العنسي فادعى النبوة وكان يعرف شيأً من الشعبذة والنيرنجيات ويرى منها عجائب فتبعته مذ حج وقصد نجران فاخرج منها عمرو بن حزم وملكها ثم قصد صنعاء وغلب على الطائف إلى عدن إلى البحرين واستفحل أمره فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى من باليمن من المسلمين ان اقتلوا الأسود العنسي أما مصادمة وأما غيلة وكان باليمن قوم من الفرس يسمعون الأبناء اسلموا مع بادام وكان بادام عاملاً للفرس على اليمن فلما أسلم ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان بيده وأقره عليها فلما مات فرق النبي صلى الله عليه وسلم بلاد اليمن على جماعة من أصحابه وكان الأسود لما قتل شهر بن بادام وملك صنعاء استصفى زوجته فاتفق الأبناء معها على قتله غيلة وواعدتهم على ليلة كانت عادته يشرب فيها ودلتهم على مكان ينقبونه يصلون منه إليه فوجدوه قد سكر ونام فوثبوا عليه فسمع الحرس ضوضاء فقالوا لزوجته ما هذا قالت نزل عليه الوحي فلما قتلوه خرجوا مظهرين شعار الاسلام فوثب المسلمون من كل جانب وقتلوا خلقاً ممن كان معه ورجع العمال إلى أعمالهم وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافى الرسول المدينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات قال عبد الله بن عمر أتانا الخبر من السماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة التي قتل فيها فقال قتل العنسي فقيل من قتله قال رجل مبارك من أهل بيت مبارك قيل من هو قال فيروز وفي صبيحة تلك الليلة قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مدة العنسي من أولها إلى آخرها ثلاثة أشهر وممن امتطى مطا هذا الغرر فرمته الأيام من تغيظها بالشرر المختار بن أبي عبيد الثقفي وكان قد جمع ليطلب ثأر الحسين عليه الرحمة والرضوان وكان المختار لا يوقف له على مذهب كان خارجياً ثم صار رافضياً في ظاهره ثم تنبأ وزعم أن جبريل يأتيه بالوحي فلما بويع عبد الله بن الزبير بالخلافة بعث أخاه مصعباً إلى العراق فقاتل المختار فقتله وقتل معه خلق كثير ممن تابعه وذلك في سنة سبع وستين وتنبأ أبو الحسين المتنبي في بادية السماوة ونواحيها وتبعه من فيها من كلب وغيرها فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيد فقاتله وأسره وشرد من كان اجتمع عليه وحبسه مدة طويلة فاعتل وكاد أن يتلف فسئل فيه فاستتابه وكتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الاسلام وأن لا يعود إلى مثله وتنبأ حائك بالكوفة وأحل الخمر فقال رجل لابن عباس ذلك فقال لا يقبل منه حتى لا يبرئ الأكمه والأبرص فأتى به وإلى الكوفة فاستتابه فأبى أن يتوب ويرجع فأتته أمه تبكي فقال لها تنحى ربط على قلبك كما ربط على قلب أم موسى وأتاه أبوه فسأله أن يرجع فقال له تنح يا آزر فأمر الوالي

بقتله فقتل وصلب وظهر في أيام أبي مسلم نها فرند المجوسي وكان قد غاب عن أهله سبع سنين في الصين فأصاب من طرفها قميصاً تحويه قبضة الرجل فجاء مختفياً فظهر في ناووس تجاور بلده وادعى إنه كان مرفوعاً في السماء وإنه نبي فضل به خلق كثير وجاء بسبع صلوات وحرم الميتة وتزويج الأم والأخت وبنات العم وبنات الأخ وهذا مما يخالف دين المجوسية وفرض عليهم السبع في الأموال وحظر أن يتجاوز بالمهر أربعمائة درهم فاجتمع موابذة المجوس إلى أبي مسلم وقالوا هذا أفسد علينا ديننا ودينكم فأنفذ إليه أبو مسلم من أخذه وقتله وصلبه وادعى رجل النبوة في زمن خالد ابن عبد الله القسري وعارض القرآن فأتى به خالد فقال له ما تقول قال عارضت القرآن قال بماذا قال يقول الله تعالى إنا أعطيناك الكوثر وتلا السورة إلى آخرها وقلت إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وهاجر ولا تطع كل ساحر فضربت رقبته وصلب فمر به خليفة الشاعر فضرب بيده على الخشبة وقال إنا أعطيناك العود فصل لربك من قعود وأنا ضامن لك أن لا تعود فقتل وصلب وظهر في أيام أبي مسلم نها فرند المجوسي وكان قد غاب عن أهله سبع سنين في الصين فأصاب من طرفها قميصاً تحويه قبضة الرجل فجاء مختفياً فظهر في ناووس تجاور بلده وادعى إنه كان مرفوعاً في السماء وإنه نبي فضل به خلق كثير وجاء بسبع صلوات وحرم الميتة وتزويج الأم والأخت وبنات العم وبنات الأخ وهذا مما يخالف دين المجوسية وفرض عليهم السبع في الأموال وحظر أن يتجاوز بالمهر أربعمائة درهم فاجتمع موابذة المجوس إلى أبي مسلم وقالوا هذا أفسد علينا ديننا ودينكم فأنفذ إليه أبو مسلم من أخذه وقتله وصلبه وادعى رجل النبوة في زمن خالد ابن عبد الله القسري وعارض القرآن فأتى به خالد فقال له ما تقول قال عارضت القرآن قال بماذا قال يقول الله تعالى إنا أعطيناك الكوثر وتلا السورة إلى آخرها وقلت إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وهاجر ولا تطع كل ساحر فضربت رقبته وصلب فمر به خليفة الشاعر فضرب بيده على الخشبة وقال إنا أعطيناك العود فصل لربك من قعود وأنا ضامن لك أن لا تعود
ومنهم من ادعى إنه الامام المنتظر ... فصير عبرة لمن أمعن في العواقب النظر

ظهر في شوال سنة خمس وخمسين ومائتين في قرى البصرة رجل ادعى إنه على ابن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن أبي طالب واستعمل الزنج الذين يعملون في السباخ وأطمعهم في مواليهم ووعدهم إنه يملكهم ما في أيدي مواليهم فاجتمع له خلق كثير وجم غفير وعبر دجلة ونزل قرية تسمى الدينارية وزعم إن سحاية أظلته ونودي منها اقصد البصرة تملكها وإنه يطلع على ما في ضمائر أصحابه وما يفعل كل واحد منهم فلما كان يوم عيد الأضحى من هذه السنة صلى بهم وخطب لهم وذكرهم ما كانوا فيه من الشقاء وسوء الحال وإن الله أنقذهم من ذلك وإنه يريد أن يرفع أقدارهم ويملكهم العبيد والأموال وشن بهم الغارات على أطراف بلاد العراق فأجلى أهل الضياع منها واستفحل أمره وقصد البصرة فملكها سنة تسع وخمسين وقتل من فيها من الرجال والنساء والصبيان وأحرق المسجد الجامع وبنى مدينتين على شاطئ دجلة وحصنهما بالأسوار والخنادق فانتبذت إليه العساكر من بغداد براً وبحراً فكانت الحرب بينه وبينهم سجالاً إلى أن كانت الدائرة عليه في صفر سنة سبعين ومائتين ونسبه الذي ادعاه لم يكن صحيحاً والصحيح أن اسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم ونسبه في عبد قيس وكان ظهوره في أيام المهدي وقتله في أيام المعتمد على يد أخيه الموفق وظهر في أيام خلافة المعتمد سنة ثمان وسبعين ومائتين بقرية من سواد الكوفة رجل أحمر العينين يسمى كرميتة فاستثقلو هذه اللفظة فخففوها وقالوا قرمط فكان يظهر الزهد والتقشف وكثرة الصلاح فاجتمع إليه أهل القرية وعظموه فلما تمكن منهم أعلمهم إنه الذي يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سيخرج لكم من أهل بيتي رجل اسمه كاسمي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً فلما أطاعوه أعلمهم إن الصلاة المفروضة عليهم خمسون صلاة في اليوم والليلة فشكوا إليه كثرتها وإنها تعطلهم عن أشغالهم فسوفهم أياماً ثم أتاهم بكتاب يقول الفرج بن عثمان يقول فيه إنه المسيح وهو عيسى وهو الكلمة وهو المهدي وهو محمد بن الحنفية وهو جبريل وذكر إن المسيح تصور له على صورة إنسان وقال له إنك الداعية وإنك الحجة وإنك الناقة وإنك الدابة وإنك روح القدس وإنك يحيى بن زكريا وعرفه إن الصلاة أربع ركعات ركعتان قبل الفجر وركعتان قبل الغروب وإن الآذان في كل صلاة أربع تكبيرات ويتشهد مرتين ثم يقول أشهد أن آدم رسول الله أشهد أن لوطا رسول الله أشهد أن إبراهيم رسول الله أشهد أن موسى رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله ومن شرائعه إن الصوم يومان في السنة يوم المهرجان ويوم النوروز وإن النبيذ والخمر غير حرام ولا غسل من جنابة ويؤكل كل ذي ناب وذي مخلب وإن القبلة إلى بيت المقدس ويوم الجمعة يوم الاثنين ويشترك في المرأة جماعة من الرجال فأجابه زهاء من عشرة آلاف رجل واتخذ منهم اثني عشر نقيباً وقال لهم أنتم كحواري عيسى ثم إن هذا الشقي المذكور اختفى وأقام رجلاً يعرف بأبي الفوارس واسمه خلف بن عثمان داعياً لمذهبه فتعطل على المعتضد الخراج من سواد الكوفة ونفضوا أيديهم من طاعته وشقوا العصا بمخالفته فأرسل إليهم مسكاً غلام أحمد بن محمد الطائي في عشرة آلاف فارس فظفر بهم وقتلهم وأخذ أبا الفوارس أسيراً وحمله إلى المعتضد فأمر به فقلعت أضراسه وخلعت أعضاؤه ثم قطعت يداه ورجلاه وضرب عنقه وصلب بالجانب الشرقي سنة تسع وثمانين ومائتين وفي شهر ربيع الآخر من هذه السنة مات المعتضد وله من العمر سبع وأربعون سنة وكانت مدة خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وأياماً ثم قام فيهم آخر يسمى علي بن عبد الله فعاث في بلاد الشأم عيثاً ذريعاً وأخرب مدناً وقرى كثيرة وكان بينه وبين طفج بن حف الأخشيدي صاحب مصر والشأم حروب كثيرة أجلت عن قتل الأخشيد الفرغاني فخرجت إليه الجيوش من مصر فحاربوه فقتل في بعض الحروب على دمشق سنة تسعين ومائتين وكان يسمى صاحب الجمل فقام بعده أخوه ويسمى أحمد وتلقب بذي الشامة لشامة كانت في وجهه وأقام له داعيين سمى أحدهما المدثر وزعم إنه لمذكور في القرآن وسمي الآخر المطوق فاشتدت في العناد شوكته وسلطت على العباد فتكته وسار إلى دمشق فصولح عليها بمال فرجع عنها في سنة تسعين وكانت عادته إذا فتح بلداً عنوة قتل من فيها من الرجال والنساء والولدان والبهائم فضاق المسلمون به ذرعاً

فاستغاثوا بالمكتفي فجهز لهم جيشاً عظيماً وقدم عليهم الحسين بن حمدان والقاسم بن عبيد الله الكاتب وأمر الجيش بالسمع والطاعة له فواقعهم في شهر المحرم سنة إحدى وتسعين فانهزم وأسلم من كان معه فقتلوا وهرب معه المدثر والمطوق وألجأتهم الهزيمة والخوف إلى قرية من أعمال الفرات تسمى دالية فأنكرهم أهلها واستفصحوا أحدهم عن أمرهم فجمجم في كلامه فعوقب حتى أقر فأخذهم متوليها وحملهم إلى المكتفي وكان بالرقة فرحل بهم إلى بغداد فدخلها ومن معه من الأسراء في شهر ربيع الأول وأمر ببناء دكة في المصلى العتيق ارتفاعها عشرة أذرع ثم أصعدوا عليها فقطعت أيديهم وأرحلهم من خلاف ثم ضربت رقابهم بين يديه ثم أمر بالقرمطي فضرب مائتي سوط وكويت خواصره ثم قتل وصلب على الجسر الأعظم ثم ظهر فيهم رجل يسمى زكروية بن مهرويه في سنة ثلاث وتسعين ونعت نفسه بالمهدي فقطع الطريق على الحاج ونهب القوافل وقتل أهلها وسبي حريمهم فبعث إليه من بغداد جيشاً فحاربه بذي قار وهو موضع بين الكوفة والبصرة فانهزم وأخذ أسيراً جريحاً في شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين فحمل إلى بغداد فمات في الطريق في شهر ربيع الآخر ثم ظهر فيهم رجل يسمى علي بن شبيب ويعرف بالمبرقع فحورب وانهزم وأخذ أسيراً وأدخل بغداد على جمل وضرب عنقه ثم ظهر فيهم أبو سعيد الحسن ابن يوسف بن كودر كان الخيامي بالبحرين فقتله خادمان له صتليان في سنة عشرة وثلثمائة فقام بعده سليمان بن الحسن الجباري فعاث في البلاد وأفسد وقصد مكة شرفها الله تعالى فدخلها يوم التروية سنة سبع عشرة وثلثمائة في خلافة المقتدر فقتل من وجد من الحاج في المسجد الحرام ورمى بالقتلى في بئر زمزم وعرى الكعبة وقلع بابها وأخذ الحجر الأسود فبقى الحجر عندهم اثنتين وعشرين سنة إلا اشهراً ثم ردوه مكسوراً على يد سنان بن الحسن بن سنان في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلثمائة ونصب في مكانه يوم النحر من السنة المذكورة وكان محكم الرايفي بذل لهم فيه خمسين ألف دينار فأبوا وكان موت سليمان في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة ثم لما دخل المعز لدين الله مصر بعد أخذ جوهر مولا ملها وذلك في سنة اثنتين وستين وثلثمائة في أيام المطيع قصد القائم فيهم يومئذ رجل يعرف بابن غزوان فخرج إليه جعفر بن فلاح فالتقاه بالرملة فقاتله وهزم عسكره وقتله في سنة تسع وستين وثلثمائة ثم قام فيهم رجل يسمى حسناً ويعرف بالأعصم فملك الشأم وأخرج منه عمال المعز فانهزموا بين يديه فتبعهم إلى مصر وملك الصعيد وأسفل الأرض ووصل إلى مصر ونزل بعسكره عليها فخرج إليهم القائد جوهر فحاربهم فاقتتلوا قتالاً شديداً وقتل من العسكر خلق كثير وذلك يوم الجمعة غرة شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وثلثمائة ثم انصرفوا وتركوا الحرب يوم السبت ورجعوا يوم الأحد وهم واثقون بالظفر فلما التقى الجمعان أعطى الله النصر لعساكر القائد جوهر وانكشفت القرامطة بالانهزام وساروا إلى البحرين على نية العود إليها وإلى الشأم فوجدوا بني حمدان قد ملؤا شعابه وأوديته ورفعوا به قواعد الدين والويته ولم يجمع الله للأعصم على شق عصا الاسلام شملاً ولم يمض له بعد في الاسلام قولاً ولا فعلاً وتفرق أصحابه في البلاد أيدي سبا واسترجع منه الدهر ما نهب وسبى وكانت مدة دولتهم ستاً وثمانين سنة وهذا الذي ذكرناه يشترك في القول به أصحاب الآراء والمقالات الخابطون في عشواء الجهالات كأصحاب النحل والملل المتمسكين بآرائهم مع ما فيها من الفساد والخلل كالمعتزلة والحشوية وغلاة الرافضة وسائر الفرق الاسلامية غير الفرقة الناجية التي هي لعواطف لطف الله راجية وكل منهم قد أضله الله على علم فنعوذ بالله من الغواية بعد الهداية ومن الجور بعد الكور ومن الانكار بعد الاستبصار إنه سميع قريب تواب مجيبا بالمكتفي فجهز لهم جيشاً عظيماً وقدم عليهم الحسين بن حمدان والقاسم بن عبيد الله الكاتب وأمر الجيش بالسمع والطاعة له فواقعهم في شهر المحرم سنة إحدى وتسعين فانهزم وأسلم من كان معه فقتلوا وهرب معه المدثر والمطوق وألجأتهم الهزيمة والخوف إلى قرية من أعمال الفرات تسمى دالية فأنكرهم أهلها واستفصحوا أحدهم عن أمرهم فجمجم في كلامه فعوقب حتى أقر فأخذهم متوليها وحملهم إلى المكتفي وكان بالرقة فرحل بهم إلى بغداد فدخلها ومن معه من الأسراء في شهر ربيع الأول وأمر ببناء دكة في المصلى العتيق ارتفاعها عشرة أذرع ثم أصعدوا عليها فقطعت أيديهم وأرحلهم من خلاف ثم ضربت رقابهم بين يديه ثم أمر بالقرمطي فضرب مائتي سوط وكويت خواصره ثم قتل وصلب على الجسر الأعظم ثم ظهر فيهم رجل يسمى زكروية بن مهرويه في سنة ثلاث وتسعين ونعت نفسه بالمهدي فقطع الطريق على الحاج ونهب القوافل وقتل أهلها وسبي حريمهم فبعث إليه من بغداد جيشاً فحاربه بذي قار وهو موضع بين الكوفة والبصرة فانهزم وأخذ أسيراً جريحاً في شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين فحمل إلى بغداد فمات في الطريق في شهر ربيع الآخر ثم ظهر فيهم رجل يسمى علي بن شبيب ويعرف بالمبرقع فحورب وانهزم وأخذ أسيراً وأدخل بغداد على جمل وضرب عنقه ثم ظهر فيهم أبو سعيد الحسن ابن يوسف بن كودر كان الخيامي بالبحرين فقتله خادمان له صتليان في سنة عشرة وثلثمائة فقام بعده سليمان بن الحسن الجباري فعاث في البلاد وأفسد وقصد مكة شرفها الله تعالى فدخلها يوم التروية سنة سبع عشرة وثلثمائة في خلافة المقتدر فقتل من وجد من الحاج في المسجد الحرام ورمى بالقتلى في بئر زمزم وعرى الكعبة وقلع بابها وأخذ الحجر الأسود فبقى الحجر عندهم اثنتين وعشرين سنة إلا اشهراً ثم ردوه مكسوراً على يد سنان بن الحسن بن سنان في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلثمائة ونصب في مكانه يوم النحر من السنة المذكورة وكان محكم الرايفي بذل لهم فيه خمسين ألف دينار فأبوا وكان موت سليمان في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة ثم لما دخل المعز لدين الله مصر بعد أخذ جوهر مولا ملها وذلك في سنة اثنتين وستين وثلثمائة في أيام المطيع قصد القائم فيهم يومئذ رجل يعرف بابن غزوان فخرج إليه جعفر بن فلاح فالتقاه بالرملة فقاتله وهزم عسكره وقتله في سنة تسع وستين وثلثمائة ثم قام فيهم رجل يسمى حسناً ويعرف بالأعصم فملك الشأم وأخرج منه عمال المعز فانهزموا بين يديه فتبعهم إلى مصر وملك الصعيد وأسفل الأرض ووصل إلى مصر ونزل بعسكره عليها فخرج إليهم القائد جوهر فحاربهم فاقتتلوا قتالاً شديداً وقتل من العسكر خلق كثير وذلك يوم الجمعة غرة شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وثلثمائة ثم انصرفوا وتركوا الحرب يوم السبت ورجعوا يوم الأحد وهم واثقون بالظفر فلما التقى الجمعان أعطى الله النصر لعساكر القائد جوهر وانكشفت القرامطة بالانهزام وساروا إلى البحرين على نية العود إليها وإلى الشأم فوجدوا بني حمدان قد ملؤا شعابه وأوديته ورفعوا به قواعد الدين والويته ولم يجمع الله للأعصم على شق عصا الاسلام شملاً ولم يمض له بعد في الاسلام قولاً ولا فعلاً وتفرق أصحابه في البلاد أيدي سبا واسترجع منه الدهر ما نهب وسبى وكانت مدة دولتهم ستاً وثمانين سنة وهذا الذي ذكرناه يشترك في القول به أصحاب الآراء والمقالات الخابطون في عشواء الجهالات كأصحاب النحل والملل المتمسكين بآرائهم مع ما فيها من الفساد والخلل كالمعتزلة والحشوية وغلاة الرافضة وسائر الفرق الاسلامية غير الفرقة الناجية التي هي لعواطف لطف الله راجية وكل منهم قد أضله الله على علم فنعوذ بالله من الغواية بعد الهداية ومن الجور بعد الكور ومن الانكار بعد الاستبصار إنه سميع قريب تواب مجيب

الباب الثامن
في التغفل
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في ذم البلادة والتغفل من ذوي التعالي والتنزل
ومعنى التغفل الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة القصد فالمغفل مقصده صحيح ولكن سلوكه الطريق فاسد ورميته في الوصول إلى الغرض غير صحيحة كما قال بعض الحكماء إذا فقد العالم الذهن قل على الأضداد احتجاجه وكثر إليهم احتياجه وتعاورته أسنة الشكوك واشتبهت عليه مناهج السلوك وقالوا التغفل تحريف الشيء عن مواضعه مع تيقن إن ذلك صواب كما ذكر إن أحمد بن أبي خالد عرض القصص يوماً على المأمون وهو بين يديه فمر بصة مكتوب عليها فلان اليزيدي فصحفه وقال الثريدي فضحك المأمون وقال يا غلام ثريدة ضخمة لأبي العباس فإنه أصبح جائعاً فحجل أحمد وقال ما أنا جائع يا أمير المؤمنين ولكن صاحب هذه الرقعة أحمق وضع على يائه ثلاث نقط كأثافي القدر فقال المأمون عد عن هذا فإن النقط شهود الزور والجوع اضطرك إلى ذكر الثريد فلما أتى بالثريد احتشم أحمد من أكله فقال له المأمون بحقي عليك إلا ما أكلت فترك القصص ومال إلى الصحفة وأكل قليلاً ثم دعا بالماء فغسل يديه ورجع إلى القصص فمر بقصة عليها مكتوب فلان الحمصي فقرأها الخبيصي فضحك المأمون وقال يا غلام جام خبيص فإن غذاء أبي العباس كان أبتر فخجل وقال يا أمير المؤمنين صاحب هذه الرقعة أحمق من الأول فتح الميم فصارت كأنها سنتان قال دع عنك هذا فلولا حمق هذا وصاحبه مت أنت جوعاً فأتى بجام خبيص فأبى أن يأكل من كثرة الاستحياء فقال له المأمون بحقي عليك إلا ما ملت نحوه وأكلت فانحرف إليه وأكل منه ثم غسل يده وانصرف إلى القصص واحترز في قراءتها وتثبت في حروفها فما حرف حرفاً حتى أتى على آخرها
وقد اخترت من مدام المتغفلين مما حسن وراق
درراً ضمنتها أصداف هذه الأوراق ذم أبو عبيدة معمر بن المثنى كيسان مستمليه وقد أملى عليه شيأً فعجز عن إدراكه فقال والله ما فهم ولو فهم لوهم وقال الجاحظ كان كيسان مستملي أبي عبيدة يكتب غير ما يسمع ويستفتي غير ما يكتب ويقرأ غير ما يستفتي أمليت عليه يوما
عجبت لمعشر عدلوا ... بمعتمر أبا عمرو
فكتب أبا بشر واستفنى أبا زيد وقرأ أبا حفص وسأله أبو عبيدة عن رجل من شعراء العرب ما اسمه فقال هو خداش أو خراش أو رياش أو خماش أو شيء آخر وأظنه قرشياً فقال له أبو عبيدة من أين علمت أن نسبه في قريش قال رأيت اكتناف الشينات عليه من كل جانب وذكر الجاحظ عنه أنه شهد على رجل عند بعض الولاة فقال سمعت بأذني وأشار إلى عينه ورأيت بعيني وأشار إلى أذنه إنه أمسك بتلابيب هذا الرجل وأشار إلى كمه وما زال يضرب خاصرته وأشار إلى فكه فضحك الوالي وقال أحسبك قرأت كتاب خلق الانسان على الأصمعي قال نعم مرتين وذم بعض البلغاء فدما فقال لا يفهم ولا يفهم وينقض ما يبرم ولا يعلم ولا يتعلم ويستصغر من يتعلم وسأل أبو عون رجلاً عن مسئلة فقال على الخبير بها سقطت سألت عنها أبي فقال سألت عنها جدك فقال لا أدري وقالوا فلان يسمع غير ما يقال ويحفظ غير ما يسمع ويكتب غير ما يحفظ ويقرأ غير ما يكتب وقالوا فلان ذو بصيرة عمياء عند تأمل الثواقب وتجربة صماء عند تشابه النوائب وقال شاعر يهجو رجلاً
جهول غاص في لحم وشحم ... ولم ينسب إلى عقل وفهم
إذا لبس البياض فعدل جص ... وإن لبس السواد فعدل فحم

وممن تقاصر فهمه عن إدراك الصواب البادي فتطاول بذمه لسان الحاضر والبادي أحمد بن الخصيب وزير المستنصر ووزر أيضاً للمستعين عمل أبو العيناء كتاباً في ذمه حكى فيه إن جماعة من الفضلاء اجتمعوا في مجلس وكل منهم يكره ابن الخصيب لما كان فيه من الفدامة والجهالة والتغفل فتجاذبوا أطراف الملح في ذمه فقال علي بن بسام كان جهله غامراً لعقله وسفهه قاهراً لحلمه وقال لمعرة الرابض لو كان دابة لتقاعس في عنانه وحرن في ميدانه وقال آخر كنت إذا وقع لفظه في سمعي أحسست النقصان في عقلي وقال بعض كتابه كنت أرى قلم ابن الخصيب يكتب بما لا يصيب ولو نطق لنطق بنوك عجيب وقال إبراهيم بن المدبر كنت يوماً عنده فقدم الطعام وفيه هليون فأكب عليه فقلت له أراك راغباً في الهليون فقال إنه يزيد في الباه وسئل عنه أبو العيناء بعد هذا التصنيف فقال إن دنوت منه غرك وإن بعدت عنه ضرك فحياته لا تنفع وموته لا يضر وقال آخر لو غابت عنه العافية لنسيها وكان ابن الخصيب إذا ناظر شعب وحلب وربما رفس من ناظره إذا أفحم عن الجواب وخفي عنه الصواب واستولت عليه البلادة وعرى كلامه عن الافادة وفيه يقول محمد بن الفضل
قل للخليفة يا ابن عم محمد ... أشكل وزيرك إنه ركال
قد أحجم المتظلمون مخافة ... منه وقالوا ما نروم محال
ما دام مطلقة علينا رجله ... أو دام للنزق الجهول مقال
قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله بين الصدور مجال
أمنعه من ركل الرجال فإن ترد ... مالاً فعند وزيرك الأموال
وحكي عنه أنه رأى جراداً كثيراً يطير فقال لجلسائه لا تغتموا إني أحسبه كأنه ميت وفيه يقول بعض الشعراء يهجوه من أبيات
حمار في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حرب في زياد
فخل عن الكتابة لست منها ... ولو لطخت ثوبك بالمداد
وقد هجا أبو العيناء أسد بن جوهر ونحا فيه هذا المعنى فقال
تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الظرف والآداب
وافى بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب
جيل من الانعام إلا إنهم ... من بينها خلقوا بلا أذناب
لا يعرفون إذا الجريدة جردت ... ما بين عياب إلى عتاب
أو ما ترى أسد بن جوهر قد غدا ... متشبهاً لأجلة الكتاب
لكن يمزق ألف طومار إذا ... ما احتيج منه إلى جواب كتاب
فإذا أتاه سائل في حاجة ... رد الجواب له بغير جواب
وسمعت من غث الكلام ورثه ... وقبيحه باللحن والاعراب
ثكلتك أمّك هبك من بقر الفلا ... ما كنت تغلط مرة بصواب
ولآخر يهجو كاتب خراج
لو قيل كم خمس وخمس لارتأى ... يوماً وليلته يعدّ ويحسب
يرمي بمقلته السماء مفكراً ... ويظل يرسم في التراب ويكتب
ويقول معضلة عظيم أمرها ... ولئن فهمت فإنّ فهمي أعجب
حتى إذا خدرت أنامل كفه ... عدّا وكادت عينه تتصوب
أوفى على نشز وقال ألا اسمعوا ... قد كدت من طرب أجنّ وأسلب
خمس وخمس ستة أو سبعة ... قولان قالهما الخليل وثعلب
فيه خلاف ظاهر ومذاهب ... لكن مذهبنا أصح وأصوب
وخواطر الحساب فيها كثرة ... وأظن قولي فيهم لا يكذب

وممن كان صوابه عن غير اعتماد وخطؤه بعد ترو واجتهاد شجاع بن القاسم كاتب أو تامش التركي وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم ولا يفهم وإنما علم علامات كان يكتبها في التوقيعات قال الحسن بن المخلد كنت يوماً عند المستعين ومعنا أو تامش إذ دخل شجاع بن القاسم وسراويله قد خرج من خفه حتى وقع على قدمه وهو يسحبه ويدوسه فقال له المستعين ويحك يا شجاع ما هذه الحالة فقال الساعة يا سيدي داسني كلب فخرقت سراويله وثيابه فضحك المستعين وقال لا وتامش مثل هذا ينبغي أن يستعمل في الكتاب ومن ظريف ما يخبر عنه أن أحمد بن عمار عمل شعراً مختلف القوافي ولا معنى له مما يليق بفهمه وعقله متعمداً ذلك ليضحك منه اخوانه ووقف إليه وقال أيها الوزير ليس الشعر صناعتي ولكنك أحسنت إلي وإلى أهلي بما أوجب علي شكرك فعملت أبياتاً أمدحك بها فتفضل بسماعها فقال له أغناك شرفك عن التكسب بالشعر وانشاده فقال لا بد أن تتفضل وتأذن لي فأذن له فأنشد
شجاع لجاج كاتب لائب معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
خبيص لبيص مستمر مقوّم ... كثير أثير ذو شمال مهذب
بليغ لبيغ كل ما شئت قلته ... لديه وإن أسكت عن الأمر يسكت
فطين لطين أمره لك زاجر ... خصيف لصيف كل ذلك يعلم
أديب لبيب فيه فهم وعفة ... عليم بشعري حين أنشد يشهد
كريم حليم قابض متباسط ... إذا جئته يوماً إلى البذل يسمح
فسر بذلك وشكره على انشاده ووصله بعشره آلاف درهم وأجرى له ألف درهم في كل شهر وكان محموداً الوراق عنى هذا المذكور بقوله من أبيات
يا ناظراً يرنو بعيني راقد ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد
أو أبا تمام بقوله
ولو نشد الخليل له لعفت ... بلادته على فطن الخليل
أو قول هذا القائل فيه فلان لا ينتبه ولو أدخل في الكور ونفخ عليه إلى أن ينفخ في الصور وحكى الجاحظ في كتاب البيان أن المأمون كان يستقل سهل بن هرون فدخل عليه يوماً والناس جلوس وقد أسبلوا براقع الغفلة على وجوه الفطن والفهم عنهم قد رحل والتبلد فيهم قد قطن فلما فرغ المأمون من كلامه أقبل سهل على الناس وقال مالكم تسمعون ولا تعون وتفهمون ولا تفهمون وتشاهدون ولا تتعجبون والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير مثل ما يفعله بنو مروان في الزمن الطويل عربكم كعجمهم وعجمكم كعبيدهم لكن كيف يعرف الدواء من لا يشعر بالداء فاستحسن المأمون منه ذلك وأنزله منزلته الأولى وكلام سهل يحتمل مدح فصاحة المأمون وذم البلادة التي أنزلت جلساءه المنزل الدون واثباته في حقهم بالذم أوجب علينا وألزم

الفصل الثاني من الباب الثامن
فيمن تأخرت منه المعرفة
ونوادر أخبارهم المستظرفة
وواجب أن نبدأ بأخبار من أساء في التفقد والعياذة ولم يحسن خطابه في السؤال ولا الاعادة قال عامر بن شراحيل الشعبي عيادة النوكي أشد على المريض من مرضه فإنهم حمى الروح وطليعة ملك الموت دخل حمصي على عروة بن الزبير يعوده لما قطعت رجله لا لم أوجب عليه فعل ذلك من أكلة أصابتها فقال أقطعت رجلك قال نعم قال جيد قال أوجعك شديد قال نعم قال جيد ثم قال لا تغتم فإنك لو رأيت ثوابها لتمنيت إن الله قد قطع رجليك ويديك وأعمى بصرك ودق صلبك فكان مصاب عروة بعائده المزيد في نكده أكثر من مصابه بما قطع من رجله ويده وأين هذا الجلف من عيسى بن طلحة بن عبيد الله فإنه دخل على عروة هذا يعوده لما قطعت رجله فقال والله ما كنا نعدك للصراع ولا للتسباق ولكن نعدك للخير ونوالك المنساق ولئن أعدمنا الله أقلك لقد أبقى لنا أكثرك سمعك وبصرك ولسانك وعقلك ويديك وإحدى رجليك فقال يا عيسى ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به ودخل آخر على مريض يشكو من رأسه فقال لأهله لا ضير إذا رأيتم المريض هكذا فاغسلوا ايديكم منه وعاد آخر مريضاً فقال له ما بك قال وجع الركبة قال إن جريراً ذكر بيتاً ذهب عني صدره وبقي عجزه وهو

وليس لداء الركبتين دواء فقال المريض ليت عجزك ذهب كما ذهب صدره وعاد آخر مريضاً فقال لأهله أجركم الله فقالوا إنه لم يمت بعد قال يموت إن شاء الله وعاد آخر مريضاً فلما خرج قال لأهله لا تفعلوا في هذا كما فعلتم بالآخر مات وما أعلمتموني به وعاد آخر مريضاً فلما خرج قال لأهله أحسن الله عزاكم فقالوا إنه لم يمت قال قد عرفت ولكني شيخ كبير لا أستطيع النهوض في كل وقت وأخاف أن يموت فأعجز عن المجئ لا عزيكم به وعاد رجل الشعبي فابرم ثم قال له ما تشتهي قال أشتهي أن لا أراك وعاد آخر مريضاً فقال له ما تشتكي قال وجع الخاصرة قال والله كانت علة أبي فمات منها فعليك بالوصية يا أخي فدعا المريض ولده وقال يا بني أوصيك بهذا لا تدعه يدخل علي بعد هذه وعاد آخر مريضاً فلما رآه أنشد متمثلاً بما أملى قلبه الغبي على لسانه العيي
تموت الصالحون وأنت حيّ ... تخطاك المنايا لا تموت
وذكر المسعودي إن عمرو بن العاص لما قدم من مصر على معاوية أنشده هذا البيت فأجابه عمرو
أترجو أن أموت وأنت حيّ ... ولست بميت حتى تموت
دخل عبد الله بن أبي عتيق ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة رضي الله عنها يعودانها فقال لها كيف حالك يا عمة جعلني الله فداءك قالت في الموت قال الآن لاجعلني الله فداءك فإني كنت أظن أن في الوقت فسحة

وممن عرف بالتغافل واشتهر وفاق فيه أهل زمانه ومهر أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الجصاص الجوهري كان رئيساً في المترفهين ورئيساً للمتجلفين وجد الجد فهو ذو جدة ويسار وعدم العقل فسيان اليمين واليسار وكان عند المقتدر من خواص أحبته وممن له الكلمة المطاعة في دولته ثم نقم عليه فصادره فأخذ منه ستة آلاف ألف دينار وغير ذلك من مواش وأثاث وعقار ومن نفائس الأعلاق والذخائر ما لا يوجد قليله عند عقلاء الاخائر ومما يدل على كثرة ماله إن المعتضد لما عقد نكاحه على قطر الندى بنت أحمد بن طولون بعث إلى ابن الجصاص ليتولى جهازها فلما فرغ منه دخل على ابن طولون ليودعه فلم يذكر له ما صرف وكان مبلغه أربعمائة ألف دينار فسأله ابن طولون عنه فدافعه فأبى ذلك وقال لا بد منه فذكر له فقال له راجع طومارك لعلك نسيت شيأً فراجعه فإذا فيه تكك قيمتها عشرون ألف دينار لم يدخلها في حسابه فأطلق له الجميع فانطر إلى مال ينفق من عرضه أربعمائة ألف دينار وعشرون الف ديناركم يكون أصله فمن ملح أخباره وملح آثاره ما حكى إن إنساناً سئل عن صفته فقال رأيته شيخاً طويلاً طويل اللحية خفيف العارضين صغير الرأس تشهد صورته عليه بالنوك وحكى عنه إنه دخل عليه علي بن الفرات يحدثه وهو غافل عنه ساه تارة ينعس وتارة يبهت فقال له كم ذا السهو والنعاس فقال يا سيدي عندنا في المحلة كلاب لا تدعنا ننام من كثرة صياحها وهراشها فقال له ابن الفرات لم لا نأمر عبيدك تضربها فإني أحسبها جراء فقال لا تقل ذلك أيها الوزير فإن كل كلب منها مثلي ومثلك نوع منها لغيرة تغذي أبو السربال عند سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ ولي عهد أبيه فقدم امامه جدياً وقال كل من كليته فإنها تزيد في الدماغ فقال لو كان كما يقول الأمير لكان رأسه مثل رأس البغل وقال بعضهم دخلت على ابن الجصاص يوماً والمصحف في حجره وقد بل كاغده بدموعه وأذل نفسه بتضرعه وخشوعه فسألته ما الذي دهاك وأزال بهاك فقال أكلت مع الجواري المخيض فتعديت أمر الله وخالفته وكنت لا أعرف إن الله نهى عنه وحذر منه قلت وما الذي أوصى الله به ونهى عنه وحذر منه قال أكل المخيض مع الجواري قلت وكيف قال الله في ذلك قال ألم تسمع قوله تعالى يسألونك عن المخيض قل هواذي فاعتزلوا النساء في المخيض ولا تقربوهن وقرأهما بالخاء ثم قال يا أخي هل تعرف لي من توبة أغسل بها هذه الحوبة قلت التضرع في الدعاء بالاقالة والابتهال إلى الله بصدق المقالة فقام وكشف عن رأسه وحسر عن ذراعيه ورفع يديه وقال اللهم إنك تجد من ترحمه سواي ولا أجد من يعذبني سواك فتركته وانصرفت متعجباً من هذه الحال موقناً إن الجد لا يكون بسعي المحتال وسمع يوماً يقول في سجوده سجد لك بياضي وسوادي خاضعاً ضارعاً ماصاً لبظر أمه ومن أناهل أنا ألا عبدك وابن عبدك الزاني ابن الزانية حتى لا يغفر له ومما يشبه هذا القول لغيره ما حكى إن شعيباً العلائي كان لا يصوم ولا يصلي ويقول من أنا حتى أصوم وأصلي إنما يصلي المتكبرون الذي أريد منهم التواضع ويصوم الشباع حتى يعرفوا قدر ما فيه الجياع وكأنه اقتدى في قوله بما حكى إن الرستمي كان عنده قوم من التجار فحضرت الصلاة فنهض ليصلي فنهضوا معه فقال مالكم ولهذا وما أنتم منه الصلاة ركوع وسجود وقيام وقعود وإنما فرض الله هذا على المتجبرين والمتكبرين والملوك الأعاجم مثلي ومثل ذي الأوتاد ونمر وذو أنوشروان ولستم من هؤلاء فمالكم ولها لكنه المغرور اقتدى به في القول دون العمل وحمل أوزار الجهل وبئس والله ما حمل وأهدى ابن الجصاص إلى العباس بن الحسن الوزير نبقا وكتب معه
تفيلت بأن تبقى ... فأهديت لك النبقا
فكتب له الوزير ما تفيلت ولكن تبقرت
ذكر من أخطأ في سؤال أو جواب ... وظنّ إنّ كلامه عين الصواب

ذكر أن إنساناً كان يكثر الجلوس في حلقة الشافعي وكان ذا رواء وهيبة وكان الشافعي يجله ويكرمه فسأله يوماً أي وقت يحرم على الصائم الأكل فقال الشافعي عند طلوع الفجر قال فإن طلع الفجر بعد طلوع الشمس فقال الآن يمد الشافعي رجله ومدها ولم يحتشم منه وقال الجاحظ دخل رجل على الشعبي وبين يديه الفقهاء فقال بعدما أطال جاص أيها الشيخ إني أجد في قفاي خلة أفتري أن أحجم فقال الشعبي الحمد لله الذي رفع منزلتنا فحولنا من الفقه إلى الحجامة وأكثر ما تقع هذه النوادر من القصاص سئل بعضهم عن أربعين ماشية نصفها ضان ونصفها معز كيف نخرج زكاتها فقال يخرج عنها رأس نصفها ضان ونصفها معز وقيل بعضهم إن نصرانياً قال لا إله إلا الله لا غير ما يجب له وعليه قال يؤخذ منه نصف الجزية ويؤمر باداء نصف ما على المسلمين من الفرائض والسنن وإن مات دفن بين مقابر اليهود والنصارى كما قال الله تعالى لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فهو من المذبذبين وأتى بعض القصاص بنصراني يريد أن يسلم فقال قم عني أتريدون أن توقعوا بيني وبين عيسى بن مريم يوم القيامة وسئل بعض القصاص عن لوط عليه السلام فقال كان رجلاً لوطياً نعوذ بالله من فعله فأنكر عليه الناس ولأمه بعض أصحابه بعد انصرافهم واعلمه أن لوطا نبي مرسل بعث إلى قوم كان ذلك القبيح فعلهم وإن لوطا نهاهم عنه فندم على ما قاله فلما كان في المجلس الآخر سئل عن فرعون فقال دعونا من حديث الأنبياء واسألوا الله السلامة قوم لا رأيناهم ولا رأونا كيف نتكلم في إعراضهم وسئل بعضهم ما تقول في خلق القرآن فقال دعونا من القرآن وهو مخلوق غير مخلوق وسئل آخر وكان ناصبياً عن معاوية فقال معاوية ليس بمخلوق لأنه كاتب الوحي والوحي ليس بمخلوق وكاتب الوحي من الوحي وحكى سعيد بن خالد اليماني قال كان عندنا قاض يسمى أبا خالد قال في دعائه يوماً يا ساتر عورة الكبش لما علم من فضله وصلاحه وهاتك عورة التيس لما علم من قذره وفجوره استر علينا وارحمنا واهتك ستر أعدائنا فقيل له وما فضيلة الكبش قال لأنه كبش إبراهيم الذي فدى به ابنه ولا يذبح في العقيقة غيره قيل له فما ذنب التيس قال يشرب بوله وينزو على الشاة التي لم تستحق النزو ويؤذي الناس بنتن ريحه ويعلم الناس الزنا وهو عيب على أصحاب اللحي يقال جاء فلان في لحية التيس وقزأ قارئ في مجلس سيفوية إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين فقال لمن حضره ارفعوا أيديكم وقولوا اللهم اجعلنا منهم وقال الفضل بن إسحق الهاشمي سمعت قاصاً وقد قرئ في مجلسه يتجرعه ولا يكاد يسيغه فقال اللهم اجعلنا ممن يتجرعه ويسيغه وكان سيفوية ممن يتلاوط فبينما هو يقص على الناس إذ أقبل جماعة صبيان حسان كأنهن الياقوت والمرجان فقال يا أصحاب قبل العدو ارفعوا أيديكم وقولوا اللهم ولنا أدبارهم وكبهم على وجوههم وأرنا سوآتهم ومكن رماحنا من ظهورهم إنك على كل شيء قدير وسيفوية بضم الفاء وفتح الياء هكذا ضبطه الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتاب الاكمال
وممن تأخرت معرفته من الحكام ... وتقدم جهله في القضايا والأحكام

حكى أن علعلا لمنصور بن النعمان كتب إليه من البصرة إني أصبت سارقاً سرق نصاباً من حرز فما أصنع فيه فكتب منصور إليه اقطع رجله ودعه يكد بيديه على عياله فأجابه العامل إن الناس ينكرون هذا القول الله تعالى في القرآن والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم فكتب إليه إن القرآن نزل من السماء ونحن في الأرض والشاهد يرى ما لا يرى الغائب وتقدم رجل إلى بعض القضاة بخصم فقال إن هذا باعثي ثوباً وجدت فيه عيباً وسألته أن يقيلني فأبى فالتفت إليه القاضي وقال أقله عافاك الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قيلوا فإن الشياطين لا تقيل وقيل لقاضي حمص كيف تحكم على اللوطي قال بنصف حكومة الزاني قيل له ولم قال لأن الحمار لا يحمل إلا نصف ما يحمل الجمل وهذا حكم مفهوم وادعت امرأة على زوجها مهراً عند بعض القضاة فأنكر فأمر القاضي أن يجلدا حدين قيل له ولم حكمت بهذا قال لانهما زنيا إن لم يكن بينهما مهر قيل فلا يجب على المرأة قال بلى إن النخلة إذا لم يحمل رأسها أحرق أصلها وتقدم جماعة إلى قراقوش وكان عاملاً لصلاح الدين على مصر ومعهم قتيل وثور ورجل مكتوف فقالوا أيها الأميران هذا الثور صال على هذا الرجل فقتله وهذا مالكه وهو العاقله ففكر ساعة ثم أمر بالثور أن يشنق ويطلق صاحبه قيل له ما هذا حكم الله فقال لو جرى هذا في زمن فرعون ما فعل غير هذا فإنه القاتل ولا يحل إن أقتل غير القاتل وهذه الحكاية ذكرها القاضي الأسعد بن مماتي في كتابه الذي وضعه وسماه الفاشوش في أحكام قراقوش ذكر فيه من هذه الأحكام شيأً كثيراً والعهدة عليه في ذلك فيما حكى والله أعلم وكان نصر بن مقبل عاملاً للرشيد على الرقة فأتى برجل من الظرفاء وجد ينكح شاة فقال أيها الأمير إنها والله ملك يميني وقد قال الله تعالى أوما ملكت إيمانكم فأطلقه وأمر أن تضرب الشاة الحد فإن ماتت تصلب قالوا أيها الأمير إنها بهيمة قال وإن كانت بهيمة فإن الحدود لا تعطل وإن عطلتها فبئس الوالي أنا فانتهى خبره إلى الرشيد ولم يكن رآه قبل فدعا به فلما مثل بين يديه قال له ممن أنت قال مولى لكلب فضحك منه ثم قال له كيف بصرك بالحكم قال يا أمير المؤمنين الناس والبهائم عندي فيه سواء ولو وجب الحد على بهيمة وكانت أمي أو أختي لحددتها ولم تأخذني في الله لومة لائم فعزله الرشيد وأمر أن لا يستعان به في عمل فلم يزل معطلاً إلى أن مات وكان الربيع ابن عبد الله العامري والياً على اليمامة فبلغه أن كلباً قتل كلب الآخرين فأمر أن يقتل به فقال فيه بعض الشعراء
شهدت بأن اللّه حق لقاؤه ... وإنّ الربيع العامري رقيع
أقاد لنا كلباً بكلب ولم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع
وكان أبو الضحاك ميمون قد ولي القضاء ببعض الأهواز فأتى برجل قد سرق فحده ثمانين وأتى برجل قذف فقطع يده فقال فيه محمد ن مساور
قد ذهب العلم وأشياعه ... إلا أبا الضحاك ميمونا
يقطع كف القاذف المفتري ... ويجلد السارق ثمانينا
ومن التغفل الواقع من الشعراء ... في مدائح السادات والكبراء
قال الخفا حي في كتاب سر الفصاحة ينبغي للشاعر ذي التمييز في فنه والتبريز أن لا يعبر عن المدح بالألفاظ المستعملة في الذم ولا يعبر في الذم بالألفاظ المستعملة في المدح بل يستعمل في جميع الأغراض الألفاظ اللائقة بها في موضع الجد ألفاظه وفي موضع الهزل ألفاظه ألا ترى ان الانسان إذا مدح ذكر الرأس والهامة والكاهل وإذا هجا ذكر الأخادع والقفا والقذال وإن كانت معالي الجميع متقاربة فقبيح بالشاعر وغيره أن يقول للملك وحق قذا لك مكان وحق رأسك لأن الاستعمال مختلف في الألفاظ وإن كان في المعنى غير مختلف فمن السقطات المعدودة في ذلك قول أبي نواس
جاد بالأموال حتى ... حسبوه الناس حمقا
وكقول أبي تمام
ما زال يهدي بالمكارم دائبا ... حتى ظننا أنه محموم
وكقوله
يا أبا جعفر جعلت فداكا ... فاق كل الوجوه حسن قفاك

إلى غير ذلك من شعر المولدين والمحدثين والعصريين فالحمق ويهدي ومحموم من الألفاظ اللائقة بالهجاء وقد سقط المتنبي في افتتاحه قصيدة مدح بها كافوراً الأخشيدي إذ قال
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن تكون أمانيا
قلت وقد أشبه ما عيب ما حكى أن زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور أنشدها قاصد من الأعراب فقال
أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لسائلك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطى الأكف من الرغاب
فوثب إليه خدمها وهموا بضربه فمنعتهم من ذلك وقالت أراد خيراً فأخطأ وهو أحب إلينا ممن أراد شراً فأصاب سمع قولهم شمالك أندى من يمين غيرك فظن إنه إذا قال هكذا كان أبلغ أعطوه ما أمل وعرفوه ما جهل وعاب الفضل ابن يحيى على أبي نواس قوله في قصيدة مدحه بها
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواكم لعل الفضل يجمع بيننا
فقال له الفضل ما زدت على أن جعلتني قواداً فقال إنه جمع تفضل لا جمع تواصل وقد تابعه أبو الطيب المتنبي في قوله من قصيدة يمدح بها سعيد بن كلاب
علّ الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي صيرتني في الهوى مثلا
وعيب عليه أيضاً قوله من قصيدة يمدح بها سيف الدولة بن حمدان
ليت أنا إذا ارتحلت لك الخي ... ل وأنا إذا نزلت الخيام
فإنه أنزل نفسه منزلة الأنملة وعبر عن همته بالقلة بجعلها مركوبة ولم يكفه ذلك حتى ألبس الممدوح شعاره وأكسبه عاره بجعله راكباً تارة ومركوباً أخرى واتصف بصفات المدح التي هو بها أحرى فأساء الأدب وأخطأ الطريق وعدم الرشد ويمن التوفيق ودخل بعضهم على رئيس الرؤسا أبي الغنائم فأنشده قصيدة جاء منها
فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك الجلوس على السرير
وتمامه
أتذكر إذ لباسك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال له رجل من الجلساء أتقول مثل هذا للرئيس لا أم لك فقال والله ما ظننت إني قلت عيباً غير إني مدحت الرئيس بما مدحت به فضحك منه ووصله وهذان البيتان ذكرهما الجاحظ في كتاب البيان والتبيين لا عشى همدان وأنشد قبلهما
فلست مسلماً ما دمت حياً ... على زيد بتسليم الأمير
أمير يأكل الفالوذ سراً ... ويطعم ضيفه خبز الشعير
وحدث أحمد بن إسمعيل بن الخصيب قال دخلت على سليمان بن وهب بأبيات أعزيه فيها عن أمه فأخذت في إنشادها فقال أنا أعزك الله في مصائب قد انثالت علي من كل جانب قلت وما هي أطال الله بقاك قال ماتت أمي وغير رسمي ورثي ميتي بمثل هذا الشعر ورمى لي رقعة مكتوب فيها
لام سليمان علينا مصيبة ... مجللة مثل الحسام البواتر
وكنت سراج البيت يا أم سالم ... فأضحى سراج البيت بين المقابر
فاشتغلت بالضحك عن البكاء وبالتسلي عن العزاء وكان الشعر لأبي أيوب واسمه صالح بن شهريار ابن أخت أبي الوزير ومدح بعضهم أميراً فقال
أنت الامام الأريحي ... الواسع ابن الواسعة
فقبل له من أين عرفت هذا قال سمعت الناس يثنون عليك بذلك
ومن شوارد هذا النوع وأفراده ... ما يفي بغرض المتأمل ومراد
ما حكى أن عبد الله بن رواحة رأته امرأته على بطن جارية له فخرجت وشحذت شفرة ثم دخلت إليه تريد قتله فوجدته قد خرج من عندها فقال لها مهيم فقالت أما إني لو وجدتك حيث كنت لوجأت بها بطنك فقال لها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن يقرأ أحدنا القرآن جنباً قالت اقرأ فأنشد
أتانا رسول اللّه يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمي فقلوبنا ... به موقفات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنسه عن فراشه ... إذا ما استقرّت بالجنوب المضاجع
فلما سمعت مقاله قالت آمنت بالله وكذبت بصري فاخبر بذلك عبد الله ابن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه وأسر عتاب بن ورقاء جماعة من الخوارج فوجد فيهم امرأة فقال وأنت يا عدوة الله ممن مرق من الدين وخرج على المسلمين أما سمعت قول الله تعالى
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذيول

فقالت حسن معرفتك بكتاب الله دعانا إلى الخروج عليك يا عدو الله وصعد المنبر بأصبهان فخطب وقال في أثناء خطبته وذلك كما قال الله في كتابه العزيز
ليس شيء على المنون بباقي ... غير وجه المسبح الخلاق
فقال له رجل ليس هذا قول الله إنما هو قول عدي بن زيد قال فنعم والله ما قال عدي ومثل ذلك ما حكى أن علي بن زياد الأيادي قال في بعض خطبه أقول لكم كما قال العبد الصالح ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فقام إليه إنسان وقال ما هذا قول عبد صالح إنما هو قول فرعون فقال من قال هذا فقد أحسن وأم رجل من الظرفاء بقوم أياماً وكانوا من التغفل بمكان فكانوا يطعمونه الخبز والكامخ لا يزيدونه عليهما شيأً فصلى بهم يوماً الصبح فقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا تطعموا أئمتكم كامخاً بل لحماً فإن لم تجدوا لحماء فشحماً فإن لم تجدوا شحماً فبيضاً ومن لم يفعل ذلك فقد ضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً وقرأ في الركعة الثانية فإن لم تجدوا بيضاً فسمكاً واطبخوه سكباجاً فإن لم تجدوا سمكاً فلبناً ولا تحمضوه تحميضاً ومن يفعل ذلك فقد افترى إثماً عظيماً فلما فرغ من صلاته جاؤه واعتذروا إليه من التقصير في حقه وأنهم لم يكن عندهم علم بأن الله أنزل في الوصية بالأئمة شيأً وسالوه في أي سورة هذه الآيات فقال لهم في سورة المائدة وكان بعض الحمقى يتعشق جارية فهام بها دهراً لا يقدر على الوصول إليها فزارته يوماً فنام وتركها فقالت له ويحك ما دعاك إلى النوم وقد ظفرت بمن تهواه فقال يا سيدتي أتناوم لعلي أراك أيضاً في المنام كما قال الشاعر
وإني لأستغشى وما بي نعسة ... لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وكتب آخر إلى محبوبته إن رأيت أن تزورينا عصمنا الله وإياك فافعلي فكتبت إليه يا أحمق متى عصمنا لا نجتمع أبداً ووقع بين سليمان بن مروان الأعمش وبين زوجته وحشة فسأل بعض أصحابه الاصلاح بينهما فدخل إليها وقال إن أبا محمد شيخنا وفقيهنا فلا يزهدنك فيه عموشة عينيه ونتن ابطيه وبخر شدقيه وجمود كفيه وحموشة ساقيه وذلك بمرأى من الأعمش ومسمع منه فقال له الأعمش كف لا أم لك فقد ذكرت لها من عيوبي ما لم تكن تعرفه وذكر أن عبد الله بن فضلو به وكان عامل قزوين أنشد يوماً
يوم القيامة يوم لا دواء له ... إلا الطلاء وإلا الطيب والطرب
فقال له من حضره أخطأت إنما هو يوم الحجامة فقال أعذروني فإني لا أعرف أيهما باع بعض المتجلفين بستاناً واشترى بثمنه حماراً فقال له صاحب له بعت ما كان يعلفه السماء فيعوضك الشعير واشتريت ما تعلفه الشعير فيعوضك الماء ومن هذا الباب تجلف أبي غبشان وكان سادناً للكعبة فإنه باع الكعبة بزق خمر حتى ضرب به المثل في التجلف فقيل أخسر صفقة من أبي غبشان وتجلف سلم الخاسر فإنه باع مصحفاً واشترى بثمنه طنبوراً فضرب به المثل فقيل أخسر من سلم

الفصل الثالث من الباب الثامن
في أن أنواع التغفل والبله ستور على الأولياء مسبله
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهم وقال صلى الله عليه وسلم رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره وقال عيسى عليه السلام للحواريين كونوا بلها كالحمام حلما كالحيات وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها البله قال العلماء هم البله في طلب الدنيا الأكياس في طلب الآخرة
فمنهم عليان الذي كان قالبه مع الخلق ... وقلبه مستغرقاً في أسرار الحق

يحكى عنه أن رجلاً قال له من العاقل وهو يهزأ به فقال من حاسب نفسه وراقب ربه وقال حفص بن عتاب قاضي الكوفة مررت بعليان وهو جالس في السوق فلما رآني قال من أراد أن يتعجل سرور الدنيا والنار في الآخرة فليتمن ما هذا فيه قال ابن عتاب والله لقد تمنيت لما سمعت كلامه أن أمي لم تلدني أو أني مت قبل أن ألي القضاء وقال لأبي الوفاء وقد مر به رأيناك أسمنت دابتك وأهزلت دينك أما والله إن أمامك لعقبة كؤداً لا يجوزها إلا المخفون وعن ابن أبي فديك قال رأيت عليان وقد دلي رجليه في قبر وهو يلعب بالتراب فقلت له ما تصنع ههنا قال أجالس أقواماً لا يؤذونني إن حضرت ولا يغتابونني إن غبت فقلت قد غلا السعر فهلا تدعو الله فيكشف عنا الضر فقال والله لا أبالي ولو حبة بديناران الله أخذ علينا العهد أن نعبد كما أمر وأن عليه رزقنا كما وعد ثم صفق بيديه وقام قائلاً
يا من تمتع بالدنيا وزينتها ... ولا تنام عن اللذات عيناه
شغلت نفسك فيما ليس تدركه ... تقول للّه ماذا حين تلقاه
وتروى هذه الحكاية عن بهلول الآتي ذكره وقال الحسن بن سهل بن منصور رأيت الصبيان يرمون عليان بالحجارة فأدماه حجر منهم فقال
حسبي اللّه توكلت عليه ... من نواصي الخلق طرّافي يديه
ليس للهارب في مهربه ... أبدا من راحة إلا إليه
رب رام لي بأحجار الأذى ... لم أجد بدّاً من العطف عليه
فقال له رجل تعطف عليهم وهم يرمونك بالحجارة فقال اسكت لعل الله يطلع على غمي ووجعي وشدت فيفرح هؤلاء ويهب بعضاً لبعض ومن شعره
أفلح الزاهدون والعابدونا ... إذ لمولاهم أجاعوا البطونا
أقرحو الأعين القريرة شوقا ... فمضى ليلهم وهم ساجدونا
حيرتهم مخافة اللّه حتى ... زعم الناس أن فيهم جنونا
وممن كانت نفسه عن الشبهات مكفوفة ... بهلول المعدود من مجانين الكوفة
قال عبد العزيز المتكلم رأيت بهلولاً يوماً باكراً فقلت يا بهلول كيف أصبحت قال بخير أنتظر لقاء من يوجب الأجر ويحط الوزر ويشد الأزر ثم قال لي يا عبد العزيز أحسن مجاورة النعم بالشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء ولما دخل الرشيد الكوفة خرج الناس لينظروا إليه فناداه بهلول يا هرون ثلاثاً فقال الرشيد من يجترئ علينا في هذا الموضع فقيل له بهلول فرفع طرف السجف وقال ادن فقال يا أمير المؤمنين روينا بالاسناد عن قدامة بن عبد الله العامري قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة لا ضرب ولا طرد ولا قيل بين يديه إليك إليك وتواضعك في شرفك هذا خير من تجبرك وتكبرك قال فبكى الرشيد حتى بدت دموعه على الأرض وقال أحسنت يا بهلول زدنا يرحمك الله قال روينا عنه صلى الله عليه وسلم إنه قال أيما رجل آتاه الله مالاً وسلطاناً وجمالاً فأنفق من ماله وعف في جماله وعدل في سلطانه كتب في ديوان الله من الأبرار قال الرشيد أحسنت يا بهلول وأمر لهب جائزة فقال ازددها على من أخذتها منه فلا حاجة لي بها قال يا بهلول إن كان عليك دين قضيته عنك قال يا أمير المؤمنين إن هؤلاء أهل الرأي بالكوفة أجمعوا على أن قضاء الدين بالدين لا يجوز قال فهل لك أن أجرى عليك رزقاً يقوم بك ويكفيك فرفع طرفه إلى السماء وقال يا أمير المؤمنين أنا وأنت عيال الله ثم تركه ومضى وهذه الحكاية لذوي العقول كافية وللقلوب من أدواء الذنوب شافية
ومن مشاهير هذه الطائفة سعدون ... الطالب للعلا والراغب عن الدون
روى خالد بن عبد الله الطوسي قال لما حج هرون الرشيد فرش له من جوف العراق إلى مكة لبودمر عزية فمشى عليها القضاء نذر وجب عليه فاستند يوماً إلى ميل من تعب ناله وإذا بسعدون قد عارضه وهو يقول
هب الدنيا تواتيكا ... أليس الموت ياتيكا
فما تصنع بالدنيا ... وظل الميل يكفيكا
ألا يا طالب الدنيا ... دع الدنيا لشانيكا
كما أضحكك الدهر ... كذاك الدهر يبكيكا

فبكى هرون وقال الويل لنا إن لم يعف الله عنا وقال عيسى بن علي رأيت سعدوناً والصبيان يرمونه بالحجارة فصرفتهم عنه فقال لي بعض الصبيان إنه يزعم أنه يرى ربه فقلت له ما تسمع مقالة الصبيان فقال يا أخي مذ عرفت الله ما فقدته ثم قال
زعم الناس أنني مجنون ... كيف أسلو ولي فؤاد مصون
علق القلب بالبكا في الدياجي ... وهو باللّه مغرم محزون
وعن عطاء بن سعيد قال كتب سعدون إلى والينا أما بعد يا هذا إن لم تستح من الخلق فاستح من الخالق واحذر سهماً من سهامه فإن سهامه لا تخطئ ولا يغرنك حلمه عنك فإنه إن عاقبك أهلكك وهتكك ثم كتب عنوانه إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً وقال إسمعيل بن عطاء مررت بسعدون فلم أسلم عليه فنظر إلي وقال
يا ذا الذي ترك السلام تعمدا ... ليس السلام بضائر من سلما
إن السلام تحية مبرورة ... ليست تحمل قائليها مغرما
ورؤى سعدون يكتب بفحم على جدار
ما حال من سكن الثرى ما حاله ... أمسى وقد رثت هناك حباله
أمسى ولا روح الحياة تصيبه ... أبداً ولا لطف الحبيب يناله
أمسى وقد درست محاسن وجهه ... وتفرقت في قبره أوصاله
واستبدلت منه المحاسن غبرة ... وتقسمت من بعده أمواله
ما زالت الأيام تلعب بالفتى ... والمال يذهب صفوه وحلاله
وكان إذا اشتد الجوع رمق بطرفه إلى السماء وقال
أتتركني وقد آليت حلفا ... بأنك لا تضيع من خلقتا
وأنك ضامن للرزق حتى ... تؤدى ما ضمنت وما قسمتا
فإني واثق بك يا إلهي ... ولكن القلوب كما علمتا
ومن محاسن أخبارهم وأحاسن آثارهم التي هي للقلوب الممحلة ربيع وللصدور الصدئة غيث مريع ما حكى أن سمنون قال لرجل يعظه اجعل قبرك خزانتك واحشها من كل عمل صالح فإذا وردت على ربك سرك ما ترى ومن كلامه إذا بسط الجليل بساط العفو دخلت ذنوب الأولين والآخرين تحت حواشيه وإذا بدت ذرة من عين الجود ألحقت المسيئين بالمحسنين ومن شعره
لئن أمسيت في ثوبي عديم ... لقد بليا على حرّ كريم
فلا يحزنك إن أبصرت حالا ... مغيرة عن الحال القديم
وقيل لشقران من الحكيم قال الذي لا يتعرض للعذاب الأليم قيل وما العذاب الأليم قال البعد عن الرب الكريم وقال بعضهم رأيت فليتا والصبيان حوله يؤذونه ويرمونه بالحجارة وهو يقول ولمن صبر وغفران ذلك لمن عزم الأمور وقال أبو همام إسرائيل بن محمد القاضي رأيت سابقاً المعتوه وهو يكتب على حائط بالفحم هذه الأبيات
نظرت إلى الدنيا بعين مريضة ... وفكرة معتوه وتأميل جاهل
فقلت هي الدنيا التي ليس مثلها ... ونافست منها في غرور وباطل
وضيعت أياماً طوالاً كثيرة ... بلذات أيام قصار قلائل
وقيل لمجنون فيم يسعى هذا الخلق قال في طلب ما لا يكون من الدنيا قيل فما يطلبون قال الراحة وذلك ما لا يجدون

الباب التاسع
في السخاء
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في أن التبرع بالنائل من أشرف الخلال والشمائل

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجود من جود الله تعالى فجودوا يجد الله عليكم ألا إن السخا شجرة في الجنة أغصانها مدلاة في الأرض فمن تعلق بغصن منها أدخله الجنة ألا وإن السخاء من الايمان والايمان في الجنة رواه أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب باسناد متصل في كتاب البخلاء له وقال صلى الله عليه وسلم تجاوزوا عن ذنب السخي فإن الله آخذ بيده إذا عثر إن السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل وقال صلى الله عليه وسلم الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بأسرى من بني العنبر فأمر بقتلهم وأفرد منهم رجلاً فقال علي رضي الله عنه يا رسول الله الرب واحد والدين واحد والذنب واحد فما بال هذا من بينهم فقال عليه الصلاة والسلام نزل علي جبريل صلى الله عليه وسلم فقال اقتل هؤلاء واترك هذا فإن الله شكر له سخاء فيه وقال صلى الله عليه وسلم أحب العباد إلى الله من حبب إليه المعروف وإنما سمي المعروف معروفاً لأن الكرام عرفته فألفته والسخاء سخا آن سخاء نفس الرجل بما في يده يصون به عرضه عن ذم اللئام وتركه ما في أيدي الناس يغلق عنه باب الملام وهو إن جمعهما فقد وهب أشرف أخلاق الكرام وتواطأ على مدحه الخاص والعام ويقال في مدح مثل هذا فلان بماله متبرع وعن مال غيره متورع ويقال مراتب العطاء ثلاث سخاء وجود وإيثار فالسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل والإيثار أعطاء الكل من غير إمساك لشيء وهذه أشرف الرتب وأعلاها وأحقها بالمدح وأولاها فإن إيثار المرء غيره على نفسه أفضل من إيثار نفسه على غيره وكفى بهذه الخلة شرفاً مدح الله تعالى أهلها في قوله ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وقالوا الجواد من لم يكن جوده لدفع الأعداء وطلب الجزاء كما قال عبد الله بن جعفر أمطر معروفك فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً وإن أصاب اللئام كنت له أهلاً فمما ورد عن ذوي الأفضال في الحث على العطاء والنوال ما ذكر عن عبد الملك بن مروان أنه كان يقول لبنيه يا بني أمية إن المؤمن الكريم يتقي عرضه بماله فلا تبخلوا إذا شئتم فإن خير المال ما أفاد حمداً أو نفى ذماً ولا يقولن أحدكم أبدأ بمن تعول فإنما الناس عيال الله تكفل بأرزاقهم فمن وسع وسع عليه ومن ضيق ضيق عليه ثم تلا قوله تعالى وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين فيا لله للعجب ما أشد ما بابن قول هذا الخليفة فعله وخالف سخاؤه بخله وكيف قسم خليقته بين الايجاب والسلب وخص لسانه بالمدح وقلبه بالثلب وقال زهير بن جذيمة لولده عليكم باصطناع المعروف واكتسابه وتلذذوا بطيب نسيمه ورضابه وارضوا مودات الرجال من أثمانه فرب رجل قد صفر من ماله فعاش هو وعقبه في الذكر الجميل وقال شاعر في مثل هذا
إذا كنت ذا حظ من المال فاكتسب ... به الأجر وارفع ذكر أهل المقابر
الفقيه منصور يرثي
سألت رسوم القبر عمن ثوى به ... لا علم ما لاقى فقالت جوانبه
أتسأل عمن عاش بعد وفاته ... بمعروفه اخوانه وأقاربه
وقال أبو نصر الميكالي
الجود رأى موفق ومسدّد ... والبذل فعل مؤيد ومعان
والبرّ أكرم ما وعته حقيبة ... والشكر أفضل ما حوته يدان
وإذا الكريم مضى وولي عمره ... كفل الثناء له بعمر ثان
وقال بعض العراب الدراهم مياسم تسم حمداً وذماً فمن حبسها كان لها ومن أنفقها كانت له أخذ شاعر هذا المعنى فقال
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه ... تملكه المال الذي هو مالكه
ألا إنما مالي الذي أنا منفق ... وليس لي المال الذي أنا تاركه

وأوصى قيس بن معد يكرب بنيه فقال يا بني عليكم بهذا المال فاطلبوه أجمل الطلب ثم أخرجوه في أجمل مذهب فصلوا به الأرحام واصطنعوا به الكرام واجعلوه جنة لعراضكم ووسيلة تصلون بها إلى أغراضكم تحسن في النار مقالتكم فإن بذله تمام الشرف وثبات المروأة وإنه ليسود غير السيد ويقوي غير الأيد حتى يكون في الناس نبيلاً وفي القلوب مهيباً جليلاً وقال الجاحظ ليس شيء ألذ ولا أسر ولا أنعم من عز الأمر والنهي ومن الظفر بالأعداء ومن تقليد عقود المنن في أعناق الرجال لأن هذه الأمور هي نصيب الروح وحظ الذهن وقسمة النفس فإن أحببت أن يزاد في الاحسان إليك وأن يثبت لديك ما أنعم الله به عليك فاقض حاجة من قصدك وابسط له بالبشر وجهك وبالمعروف يدك وقال الحجاج في بعض خطبه لا يملن أحدكم المعروف فإن صاحبه يعوض خيراً منه أما شكراً في الدنيا وأما ثواباً في الآخرة وكان يقال المعروف كنز لا تأكله النار وثوب لا يدنسه العار وقال الأحنف بن قيس ما ادخر الآباء للأبناء ولا أبقت الأموات للأحياء أفضل من المعروف عند ذوي الأحساب والآداب وكان يقال إنما مالك لك أو للحاجة أو للورثة فلا تكن أعجز الثلاثة وقال بشار بن برد من قصيدة مدح بها خالد بن برمك
أخالد إن المال يبقى لأهله ... جمالاً ولا يبقى الكنوز مع الحمد
فأطعم وكل من عارة مستردّة ... ولا تبقها إن العواري للردّ
المتنبي
وأحسن شيء في الورى وجه محسن ... وأيمن كفّ فيهم كف منعم
وأشرفهم من كان أشرف همة ... وأعظم اقداماً على كل معظم
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم
بعضهم
إذا المال لم ينفع صديقاً ولم يصب ... قريباً ولم يجبر به حال معدم
فعقباه أن تحتازه كف وارث ... وللباخل الموروث عقبى التندم
محمود الوراق
تمتع بمالك قبل الممات ... وإلا فلا مال إن أنت متا
شقيت به ثم خلفته ... لغيرك سحقاً وبعداً ومقتا
يجود عليك بزور البكاء ... وجدت له بالذي قد جمعتا
وأوهبته كل ما في يديك ... وخلاك رهناً بما قد كسبتا
وينتظم في سلك هذه الأبيات ... ما يروى من واعظ الحكايات
يحكى إن هشام بن عبد الملك لما احتضر رأى أهله يبكون عليه فقال لهم جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء وترك لكم ما كسب وتركتم عليه ما اكتسب يا سوء حال هشام إن لم يغفر الله له بعضهم
لا تجبهن بالرد وجه مؤمل ... فلخير وقتك أن ترى مسؤلا
واعلم بأنك عن قليل صائر ... خبراً فكن خبراً يروق جميلا
الشريف الرضي
أحق من كانت النعماء سابغة ... عليه من أسبغ النعما على الأمم
وأجدر الناس أن تعنو لرقاب له ... من يسترق رقاب الناس بالنعم
الحض على انتهاز فرصة الامكان ... في إسداء المرجو من الاحسان لمن كان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه وقال حكيم الدنيا غرارة إن بقيت لك لم تبق لها وقال عبد الله بن شداد لابنه يا بني عليك باصطناع المعروف فإن الدهر ذو صروف والأيام ذات نوائب تقضي على الشاهد والغائب كم من ذي رغبة صار مرغوباً إليه وكم من طالب صار مطلوباً ما لديه شاعر
ليس في كل ساعة وأوان ... تتهيا صنائع الاحسان
فإذا أمكنت فبادر إليها ... حذراً من تعذر الامكان
واغتنمها إذا قدرت عليها ... حذراً من تغير الأزمان
أحزم الناس من إذا أحسن الده ... ر تلقى الاحسان بالاحسان
ابن النقيب الكناني
الحمد أينع ما اجتناه المجتنى ... والمجد ارفع ما ابتناه المبتنى
فإذا وليت وكان أمرك نافذاً ... فادخر صنيعاً في الولاية وابتنى
من قبل أن يسعى لها فتفوته ... وتقول عند فواته يا ليتني
ابن هندو
إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الاحسان فيها ... فما تدري السكون متى يكون
آخر
لا تقطعن عادة الاحسان عن أحد ... ما دمت تقدر والأيام تارات
واذكر فضيلة صنع اللّه إذ جعلت ... إليك لا لك عند الناس حاجات
ومن أحسن ما قيل من الأبيات في انتهاز الفرصة بالمعروف وإغاثة المكروب والملهوف قول سالم الأنباري
تمتع من الدنيا بساعتك التي ... ظفرت بها ما لم تعقك العوائق
فما يومك الماضي عليك بعائد ... ولا يومان الآتي به أنت واثق
احتجاج المتحجج بالمعروف ... على السائل المجهول والمعروف
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤنة الناس إليه فإن لم يحمل تلك فقد عرض تلك النعمة للزوال وقيل لعبد الله ابن جعفر وكان جواداً اقتصد في العطاء فإن من ذهب ماله ذل فقال إن الله عودني بالأفضال علي وعودته بالأفضال على عباده فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني المادة ثم تلاقو له تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وقيل أحسن الناس عيشاً من حسن عيش غيره في عيشه وقيل لعبد الله ابن طاهر وكان جواداً أنفق وأمسك بعض الامساك فقال إن سمن الكيس ونبل الذكر لا يجتمعان أبداً نظمه بعض الشعراء فقال
أراك تؤمل حسن الثناء ... ولم يرزق اللّه ذك البخيلا
وكيف يسود أخو فطنة ... يمن كثيراً ويعطي قليلا
آخر
ما اجتمع المال وحسن الثناء ... مذ كانت الدنيا لانسان
وأيّ هذين تخيرته ... ضنا به قاله عن الثاني
آخر
صون الفتى عرضه عما يدنسه ... وصونه ما حواه ليس يجتمع
المال يتلفه دهراً ويرجعه ... إليه والعرض لا يمضي فيرجع
أبو تمام من أبيات
ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد ... ولا المجد في كف امرئ والدراهم
ولم أر كالمعروف يرعى حقوقه ... مغارم في الأقوام وهي مغانم
وقال ابن عباس لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه شاعر
إني إذا أمكنتني ساعة سعة ... زينت بالبذل أوصافي وأحوالي
أما شكور فزين لي إعانته ... أو الكفور فعرضي صنت بالمال
آخر
يد المعروف غنم حيث كانت ... تحملها شكوراً وكفور
ففي شكراً لشكور لها جزاء ... وعند اللّه ما جحد الكفور
آخر
وأفضل ما دخرت على الليالي ... صنائع عند مصطنع شكور
ومن المفاخر التي لا نزاع فيها ولا خلاف بسط الوجه وبذل القرى للأضياف أول من شرع سنة قرى الأضياف سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام كان إذا لم يجد من يأكل معه يخرج إلى الطرقات ليأتي بمن يأكل معه ثم تبعته العرب على سنته وأول من وضع الموائد على الطرق سيدنا عبد الله بن عباس وكانت نفقته في كل يوم خمسمائة دينار قال شاعر يمدح من هذه صفته
ابلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغذى رفعت ستوره
وفي مثله يقول الشاعر في خالد بن برمك
تأبى خلائق خالد وفعاله ... أن لا يجيب لكل أمر غائب
وإذا حضرنا الباب عند غذائه ... أذن الغذاء لنا برغم الحاجب
وقال بعضهم
أبيت خميص البطن غر ثان طاويا ... وأوثر بالزاد الرفيق على نفسي
وأمنحه فرشي وأفترش الثرى ... وأجعل قرّا لليل من دونه لبسي
حذار مخازاة الأحاديث في غد ... إذا ضمني وحدي إلى صدره رمسي
آخر
ضاحك ضيفي قبل انزال رحله ... ويخصب عندي والزمان جديب
وما الخصب للأضياف أن تكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
آخر
أو قد فان الليل ليل قرّ ... والريح ما سرّك ريح صر
عسى يرى نارك من يمّر ... إن جلبت ضيفاً فأنت حر
آخر
يسترسل الضيف أنساً في منازلنا ... فليس يعلم خلق أينا الضيف
والسيف إن قسته يوماً بناشبها ... لم تدر من عزمنا من ذا هو السيف
آخر

قالت سليمى لحاك اللّه من رجل ... ما تحفظ العهد والميثاق والذمما
وحرمة الضيف ما إن خنت عهدكم ... وقد حلفت يميناً برّة قسما
لو يعلم الضيف عندي قدر منزله ... لتاه حتى يرى لا يرجع الكلما
أقول للأهل والقربى وقد حضروا ... قفوا قليلاً فإن الضيف قد قدما
آخر
لحا اللّه من يمسي بطينا وجاره ... لفرط الخوى محنى الضلوع خميص
لعمرك ما ضيفي عليّ بهين ... وإني على ما سره لحريص
إبراهيم بن هرمة
يبيتون في المشتى خماصاً وعندهم ... من الزاد فضلات تعد لمن يقرى
إذا ضل عنهم ضيفهم رفعوا له ... من النار في الظلماء ألوية حمرا
وتبعه ابن المعتز فقال
وليل يودّ المصطلون بناره ... ولو أنهم حتى الصباح وقودها
رفعت به ناري لمن يبتغي القرى ... على شرف حتى أتاها وفودها
آخر
ومستنبح بعد الهدوّ برقدة ... بشقرا مثل البحر باد وقودها
فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... بوارد نار منجد من يرومها
فإن شئت أويناك في الحي مكرماً ... وإن شئت بلغناك أرضاً ترومها
آخر
لا تبعدن قومي وإن كانوا خوى ... فلنعم مأوى الضيف والجيران
الضيف فيهم لا يحوّل رحله ... والجار مضمون من الحدثان
آخر
الضيف أكرم ما استطعت محله ... وتلقه بتودد وتهلل
واعلم بأنّ الضيف يوماً مخبر ... بمبيت ليلته وإن لم يسئل
وصية كريم بالسودد عليم قال بعض البلغاء سودد بلا جود كملك بلا جنود وقالوا جود الرجل يحببه إلى أضداده وبخله يبغضه إلى أولاده وما أصدق من قال
إذا لم يكن للمرء فضل ولم يكن ... يدافع عن اخوانه لم يسوّد
وكيف يسود القوم من هو مثلهم ... بلا منة منه عليهم ولا يد
وقال بعض الحكماء ثواب الجود خل ومكافأة ومحبة وثواب البخل حرمان واتلاف ومذمة وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن للنعمة أجنحة فإن أمسكت بالاحسان قرت وإلا فرت وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه إن أفضل المال ما أفاد شكراً وأورث ذكراً وأوجب أجراً ولو رأيتم المعروف لرأيتموه حسناً جميلاً وقال المأمون لان أخطئ معطياً أحب إلي من أن أصيب مانعاً
العرف زينة ذي النهى وذخيرة ... يلقى جوائزها بكل مكان
ما ضاع معروف أتيت إلى امرئ ... فغدا وراح يذيعه بلسان

ذكر الأجواد المعروفين ببذل الأموال
والموصوفين باصلاح فساد الأحوال أسخاهم وأجودهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إنه ما سئل شيأً قط فقال لا فإن يكن عنده أعطى وإن لم يكن عنده استدان أعطى عيينة بن حصن مائة من الابل وأعطى الأقرع بن حابس مثلها وأعطى أعرابياً غنماً بين جبلين فانطلق الأعرابي وقال لقومه اسلموا فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخاف الفقر وقال أنس ابن ملك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين لم يؤت قبله بمثله فوضع في المسجد ثم خرج فصلى فلما فرغ من صلاته جلس ثم دعا بالما فما رأى أحداً إلا أعطاه منه فجاءه عمه العباس فقال يا رسول الله إني فاديت نفسي وفاديت عقيلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ فحثا في ثوبه ثم ذهب ليقوم فلم يستطع فقال يا رسول الله مر من يرفعه علي قال لا قال فارفعه أنت قال لا فنثر منه ثم احتمله على كاهله وذهب فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا تعجباً من حرصه وما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرق المال جميعه وممن عمرت الوفود أرجاء ناديه وغمرت بالجود فواضله وأياديه أجواد العرب في الجاهلية الذين ضرب بهم المثل في الجود ثلاثة لا رابع لهم وهم كعب بن مامة الأيادي وهرم بن سنان النمري وحاتم الطائي وقد جمعهم بعض الشعراء في بيت واحد فقال مادحاً من أبيات
لو أدرك العصر من كعب ومن هرم ... وحاتم جود كفيه لما ذكروا

ومن أجواد العرب عمرو بن عبد مناف فإنه أول من هشم الثريد وجمع قومه عليه فسمى لذلك هاشماً وفيه يقول الشاعر
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف

ويقال في المثل ما أحد كهاشم وإن هشم ولا كحاتم وإن حتم وأجواد العرب في الاسلام عبد الله بن عباس وأخوه عبيد الله فمن المأثور عن عبد الله أن رجلاً أراد مضارته فأتى وجوه قريش وهم جلوس في فضاء الكعبة وقال يقول لكم عبد الله تغدوا عنده اليوم فأتوه وقت الغداء حتى ملؤا البيت فسألهم عن مجيئهم فأخبروه الخبر فأمر قوماً بشراء فاكهة وأمر قوماً بالخبز وقوماً أن يطبخوا وقدمت الفاكهة إليهم فما فرغوا من أكلها حتى قدمت الموائد فأكلوا وانصرفوا ثم قال عبد الله لوكيله أيوجد مثل هذا كل يوم إذا أردناه قال نعم قال فليتغدوا عندنا كل يوم وأما عبيد الله فإنه كان لفرط جوده يسمى معلم الجود وهو أول من وضع الموائد على الطرق وكانت نفقته في كل يوم خمسمائة دينار وكان إذا خرج من دوره طعام إلى رحابه ومساجده لا يرد إليها منه شيء فإن لم يجد من يأكله ترك مكانه فربما أكلته السباع وكان هو والناس في ماله سواء من سأله أعطاه ومن لم يسأله ابتدأه فلا يرى أنه يفتقر فيقتصر ولا يرى أنه يحتاج فيدخر وكان يقال من أراد الجمال والفقه والسخاء فليأت دار العباس فالجمال للفضل والفقه لعبد الله والسخاء لعبيد الله ومن الأجواد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال الأعمش كنت عنده يوماً فأتى باثنين وعشرين ألف درهم فلم يقم من مجلسه حتى فرقها وكان إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به وكان كثيراً ما يتصدق بالسكر فقيل له في ذلك فقال إني أحبه وقد قال الله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون واعتق ألف عبد كان إذا رأى عبداً من عبيده ملازماً للصلاة أعتقه فقيل له إنهم يخدعونك فقال من خدعنا بالله انخدعنا له ومن الأجواد الحسن ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمع رجلاً يقول اللهم اعطني عشرة آلاف درهم فأخذ بيده وانطلق به إلى منزله فأعطاه عشرة آلاف درهم وخرج لله من ماله مرتين وقاسم الله ماله ثلاث مرات حتى إنه أعطى نعلاً وأمسك نعلاً ومن أجود الصحابة العشرة رضي الله عنهم عثمان بن عفان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن العاص كانوا رضي الله تعالى عنهم إذا رأوا أموالهم كثرت وزادت نقصوها بإيلاء البر وإسداء المعروف خوفاً من أن تحملهم نفوسهم على البطر والطغيان وإن تلهيهم بكثرتها عن الاشتغال بعبادة الرحمن فمن المأثور عن عثمان بن عفان أنه اشترى بئر رومية بأربعين ألف درهم وأوقفها على المسلمين وأنفق في جيش العسرة عشرة آلاف دينار ذهباً فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ظهر البطن ويقول غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت ولا تبالي ما عمل بعد اليوم وأصاب الناس قحط في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلما اشتد بهم الأمر جاؤا إلى أبي بكر وقالوا يا خليفة رسول الله إن السماء لم تمطر والأرض لم تنبت وقد توقع الناس الهلاك فما نصنع فقال لهم انصرفوا واصبروا فإني أرجو الله أن لا تمسوا حتى يفرج الله عنكم فلما كان آخر النهار ورد الخبر بأن عير العثمان بن عفان جاءت من الشأم وتصبح المدينة فلما جاءت خرج الناس يتلقونها فإذا هي ألف بعير موسوقة براوزيتا وزبينا فأناخت بباب عثمان فلما جعلها في داره جاء التجار فقال لهم ما تريدون قالوا إنك لتعلم ما نريد بعنا من هذا الذي وصل إليك فإنك تعلم ضرورة الناس إليه قال حباً وكرامة كم تربحوني على شرائي قالوا الدرهم درهمين قال أعطيت زيادة على هذا قالوا أربعة قال أعطيت زيادة على هذا قالوا خمسة قال أعطيت أكثر من هذا قالوا يا أبا عمرو ما بقي في المدينة تجار غيرنا وما سبقنا إليك أحد فمن ذا الذي أعطاك قال إن الله أعطاني بكل درهم عشرة أعندكم زيادة قالوا لا قال فإني أشهد الله أني جعلت ما حملت هذه العير صدقه لله على المساكين وفقراء المسلمين ومن المأثور عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه كان له ألف عبد يؤدون إليه الخراج كل يوم فما يدخل بيته منه درهم واحد بل يتصدق بذلك كله ومن المأثور عن عبد الرحمن بن عوف إنه باع أرضاً من عثمان بن عفان بأربعين ألف دينار وقسم ذلك في بني زهرة وفقراء المسلمين وامهات المؤمنين وبعث إلى عائشة رضي الله عنها من هذا المال بأربعين الف درهم فقالت سقى الله ابن عوف من سبيل الجنة وحمل مرة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسمائة فرس في سبيل الله ثم حمل مرة أخرى

على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله وشاطر الله تعالى ماله ثلاث مرات وأمر أن يتصدق بعد موته بثلث ماله فعوفي فتصدق به بنفسه وجلس ليلة في بيته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب جريدة بتفريق جميع ماله على فقراء المهاجرين والأنصار حتى كتب قميصه الذي على بدنه هذا الفلان وهذا الفلان ولم يترك شيأً من ماله إلا كتبه فلما صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ناوله الجريدة فنزل جبريل عليه السلام وقال يا محمد يقول الله لك اقرأ السلام مني على عبد الرحمن ويأمرك أن ترد له جريدته وقل له إن الله قد قبل صدقتك وهو وكيل الله ووكيلك فيها فليصنع في ماله ما شاء ويتصرف فيه كما كان يتصرف فيه من قبل ولا حساب عليه ويروى أنه أعتق ثلاثين ألف عبد ومن المأثور عن سعيد بن العاص رضي الله عنه أن رجلاً سأله فقال لغلامه أعطه خمسمائة فمضى الغلام ثم رجع إليه مستفهماً أديناراً أو درهماً فقال ما كنت أردت إلا دراهم أما إذ قد رجعت فصيرها دنانير فجعل الرجل يبكي فقال له ما يبكيك قال أبكي على أن تأكل الأرض مثلك ويروى عنه أنه عزل عن المدينة فانصرف ليلة من المسجد إلى منزله وحده فرأى رجلاً يتبعه فقال له ألك حاجة قال لا ولكني رأيتك وحدك فوصلت جناحك فقال وصلك الله يا ابن أخي اطلب لي جلداً وادع لي مولاي فلاناً فأتاه به فكتب له صكاً بعشرة آلاف درهم وأشهد عليه مولاه بها وقال إذا جاءت غلتنا دفعنا إليك ذلك فمات سعيد في تلك السنة فجاء الرجل بالصك إلى ولده عمرو فأمضاه وأعطاه عشرة آلاف درهم ولما احتضر سعيد قال لبنيه لا يفقد أصحابي بعد موتي غير وجهي أجروا عليهم ما كنت أجري واصنعوا إليهم ما كنت أصنع بهم واكفوهم مؤنة الطلب فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه وارتعدت فرائصه مخافة أن يردعنها والله لرجل بات يتململ على فراشه رآكم موضعاً لحاجته أعظم منة عليكم منكم بما تعطونه ويروى أيضاً أنه لما احتضر قال لبنيه أيكم يتكفل لي بثلاث فقال ابنه عمرو أنا قال اقض عني ديني وهو ثمانون ألف دينار والله ما استدنتها إلا لكريم سددت خلته أو لئيم وقيت عرضي منه قال علي دينك يا أبت قال قد بقيت اثنتان قال وما هما قال بناتي لا تزوجهن إلا الأكفاء ولو تقلقن من خبز الشعير قال أفعل قال وبقيت واحدة هي أشدهن على قال ما هي قال أن فقد أصحابي وجهي فلا يفقدون معروفي يا بني ثلاث ضقت بهن ذرعاً رجل أغبر وجهه في التردد للتسليم علي ورجل ضاق في مجلسي فتزحزح لي ورجل نزل به مهم من الأمور فبات متململاً على فراشه يتقلب من أمره ظهر البطن فلما أصبح رآني موضعاً لحاجته فلم أكافئه ولو خرجت من جميع ما أملك ومن الأجواد طلحة بن عبيد الله التميمي فرق في يوم واحد مائة ألف درهم وقال قبيصة بن حاتم صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت أعطى لجزيل من غير مسئلة منه وهو أحد مشاهير الطلحات الذين يضرب بهم الثمل في الجود وكانوا ستة ويسمى هذا طلحة الفياض وطلحة بن عمر بن عبد الله بن معمر التميمي أيضاً وهو طلحة الجود وطلحة بن عبد الله بن عوف أخي عبد الرحمن بن عوف الزهري ويسمى طلحة النداء وطلحة بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو طلحة الخير وطلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ويسمى طلحة الدراهم وطلحة ابن عبد الله بن خلف الخزاعي وهو طلحة الطلحات وسمي بذلك لأنه كان أجودهم وقيل سمي بذلك لأنه وهب في عام واحد ألف جارية فكانت كل جارية منهن إذا ولدت غلاماً تسمية طلحة على اسم سيدها وعن الحسن قال باع طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي أرضاً بسبعمائة ألف درهم فبات ذلك المال عنده ليلة فبات أرقاً مخافة ذلك المال حتى أصبح ففرقه ومن أجواد الصحابة معاوية بن أبي سفيان قال عبد الله بن عمر ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود من معاوية وهو أول من أعطى ألف ألف في صلة وكان يعطيها للحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهم ولما مات معاوية وولي ابنه يزيد دخل وفد عبد الله بن جعفر على يزيد فقال له يا أمير المؤمنين إن والدك كان يصل رحى في كل عام بألف ألف درهم فقال يزيد نعم وكرامة أعطوه ألف ألف وألف ألف وألف ألف فقال له عبد الله بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين وما قلتها لأحد غيرك قال يزيد لا جرم إني أضعفها لك فلك عليها ألف ألف أخرى فخرج عبد الله

بأربعة آلاف ألف درهم فقيل ليزيد أتقطع لرجل واحد أربعة آلاف ألف درهم فقال للمنكر ويحك إنما أعطيتها لأهل المدينة وما هي في يده إلا عارية ولم تزل عطيات الخلفاء ألوف الألوف وكان آخر من فعلها من الخلفاء المنصور ومن الوزراء الحسن بن سهل ومن غرر حكايات معاوية في العطاء أنه حج فلما انصرف من المدينة قال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه فقال إن علي دينا ولا بد من إتيانه فركب في أثره حتى لحقه وسلم عليه وأخبره بدينه فبينما هما يتحادثان إذ مر بختي قد أعياه حمله وقوم يسوقونه ليلحقوا به الحمول فقال معاوية ما شأن هذا البعير فذكروا له أنه أعياه ما عليه من المال قال وكم عليه قالوا ثمانون ألف دينار فقال اصرفوها لأبي محمد ومن الأجواد عبد الله بن جعفر الطيار وكان يسمى بحر الجود لجوده ويقال إنه لم يكن في عصره أجود منه فمن المأثور عنه إنه وقف على بابه يوماً وكان أرباب الحاجات ينتظرون خروجه فنهضوا إليه فما طلب أحد حاجة إلا قضاها له وكان فيمن حضر نصيب الشاعر فلما نظر إلى ما يسمع عنه تقدم إليه وقبل يده وأنشدبعة آلاف ألف درهم فقيل ليزيد أتقطع لرجل واحد أربعة آلاف ألف درهم فقال للمنكر ويحك إنما أعطيتها لأهل المدينة وما هي في يده إلا عارية ولم تزل عطيات الخلفاء ألوف الألوف وكان آخر من فعلها من الخلفاء المنصور ومن الوزراء الحسن بن سهل ومن غرر حكايات معاوية في العطاء أنه حج فلما انصرف من المدينة قال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه فقال إن علي دينا ولا بد من إتيانه فركب في أثره حتى لحقه وسلم عليه وأخبره بدينه فبينما هما يتحادثان إذ مر بختي قد أعياه حمله وقوم يسوقونه ليلحقوا به الحمول فقال معاوية ما شأن هذا البعير فذكروا له أنه أعياه ما عليه من المال قال وكم عليه قالوا ثمانون ألف دينار فقال اصرفوها لأبي محمد ومن الأجواد عبد الله بن جعفر الطيار وكان يسمى بحر الجود لجوده ويقال إنه لم يكن في عصره أجود منه فمن المأثور عنه إنه وقف على بابه يوماً وكان أرباب الحاجات ينتظرون خروجه فنهضوا إليه فما طلب أحد حاجة إلا قضاها له وكان فيمن حضر نصيب الشاعر فلما نظر إلى ما يسمع عنه تقدم إليه وقبل يده وأنشد
ألفت نعم حتى كأنك لم تكن ... عرفت من الأشياء شيأً سوى نعم
وعاديت لا حتى كأنك لم تكن ... سمعت بلا في سالف الدهر والأمم

فقال له عبد الله ما حاجتك قال هذه رواحلي تميرني عليها قال أنخ أنخ ثم أوسقها له براً وتمراً وأمر له بعشرة آلاف درهم وثياب فلما انصرف نصيب قال قائل لعبد الله يا ابن الطيار أتعطى هذا العطاء كله لمثل هذا العبد الأسود فقال إن كان أسود فإن شعره لأبيض وإن كان عبداً فإن ثناءه لحر وهل أعطيناه إلا رواحل تمضي وطعاماً يفنى وثياباً تبلى وكان يعتق في غرة كل شهر مائة عبد ومن حكاياته أنه ابتاع حائط نخل من رجل أنصاري بمائة ألف درهم فرأى ابنا له يبكي فقال له ما يبكيك قال كنت أطلب أنا وأبي أن نموت قبل خروج هذا الحائط من أيدينا ولقد غرست بعض نخله بيدي فدعا أباه ورد عليه الصك وسوغه المال ومن الأجواد عرابة الأوسي يحكي عنه أنه اجتمع جماعة بفناء الكعبة فتذاكروا الأجواد فقال أحدهم أجود الناس عبد الله بن جعفر وقال آخر أجود الناس قيس بن سعد بن عبادة وقال آخر أجود الناس عرابة الأوسي فقال رجل من الجماعة ليمض كل واحد منكم لصاحبه يسأله حتى ننظر ما يعطيه ونحكم على العيان فقام صاحب عبد الله فصادفه قد وضع رجله في الركاب يريد سفراً فقال له يا ابن بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن سبيل ومنقطع به فأقام ثنى رجله وقال خذ الناقة بما عليها ولا تحل عن السيف فإنه من سيوف علي بن أبي طالب قوم علي بألف دينار فجاء بالناقة بما عليها من مطارف خز وأربعة آلاف دينار وأعظمها السيف ومضى الآخر إلى قيس ابن سعد فوجده نائماً فقال له غلامه هو نائم فما حاجتك قال ابن سبيل ومنقطع به قال حاجتك أيسر من أن أوقظه هذا كيس فيه سبعمائة دينار والله ما في دار قيس اليوم غيرها خذها وامض إلى معاطن الابل بعلامة كذا إلى من فيها فخذ راحلة وعبداً وامض إلى شأنك قيل إن قيساً لما انتبه أعلمه غلامه بما صنع فأعتقه وقال له هلا أيقظتني فسكنت أزيده ومضى صاحب عرابة فلقيه قد خرج من منزله يريد الصلاة وهو متوكئ على عبدين وقد كف بصره فقال يا عرابة ابن سبيل ومنقطع به فتخلى عن الغلامين وصفق بيديه وقال أواه والله ما تركت الحقوق لعرابة ما لاخذ العبدين فقال الرجل ما كنت بالذي اقص جناحيك قال إن لم تأخذهما فهما حران فإن شئت فخذ وإن شئت فأعتق ورفع يديه عنهما وتركهما وأقبل يلتمس الحائط بيده فأخذ الرجل الغلامين وجاء بهما إلى أصحابه فاجمعوا على أن عرابة أجود الثلاثة لأنه جهد من مقل وإن الغير أعطى من سعد وفي عرابة يقول الشماخ
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى العلياء منقطع العرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين

ومن الأجواد عبيد الله بن أبي بكرة واسمه نفيع كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم به ولافراطه في الجود كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن لا تواجه عملاً فإنه أريحي ومن حكاياته أنه أوسع له رجل في مجلس فلما قام قال للرجل الحقني إلى منزلي فلحقه فأمر له بعشرة آلاف درهم وابتنى داراً بالبصرة أنفق عليها عشرة آلاف دينار فدخل عليه فيها بعض أصحابه واستحسنها فقال هي لك بما فيها من الفرش والأثاث والرقيق فقال الرجل يعمرها الله بك ويمتعك بها فقال والله لتقبلنها فقبلها وولاه عبد الله بن زياد سجستان وأمره بهدم ما فيها من بيوت الأشراف فهدمها وأخذ ما فيها من الأموال المعدة للنفقة على سدته فكانت أربعة آلاف درهم فما أتى عليه الحول حتى استدان ومن الأجواد أسماء بن خارجة مما يحكى عنه أنه رجع يوماً لي داره فرأى فتى بالباب جالساً فقال ما أجلسك ههنا قال خير قال والله لتخبرني قال جئت سائلاً أهل هذه الدار ما آكل فخرج إلي منها جارية اختطفت قلبي وسلبت عقلي فأنا جالس لعلها تخرج ثانية فانظر إليها قال أفتعرفها إذا رأيتها قال نعم فدعا بمن في الدار من الجواري وجعل يعرضهن عليه واحدة بعد واحدة حتى مرت الجارية فقال هذه فقال قف مكانك حتى أخرج إليك ثم دخل الدار وخرج والجارية معه وقال للفتى إنما أبطأت عليك لأنها لم تكن لي وإنما كانت لبعض بناتي ولم أزل بها حتى ابتعتها منها خذ بيدها فقد وهبتها لك وهذه الألف أصلح بها شأنك ومن الأجواد يزيد بن أبي صفرة وله حكايات شهدت بكرم نجاره ونكب عن لحاقه فيها كل كريم فلم يجاره منها أنه دخل عليه الكوثر بن زفر الكلابي حين ولاه سليمان بن عبد الملك العراق فقال له يعني ابن زفر أنت أكبر قدراً من أن يستعان عليك إلا بك ولست تصنع من المعروف شيأً إلا وهو أصغر منك وليس العجب منك أن تفعل ولكن العجب منك من أن لا تفعل قال سل حاجتك قال تحملت عشر ديات وقدها ضني ذلك قال قد أمرت لك بها فقال الكوثر أما ما أسألك لوجهي فأقبله منك وأما الذي بدأتني به فلا حاجة لي به قال ولم وقد كفيتك ذل السؤال قال رأيت الذي رمته ببذل مسئلتي إياك وبذل وجهي لك أكبر من معروفك عندي فكرهت الفضل لك علي فقال يزيد فأنا أسألك كما سألتني أسألك بحقك لما أهلتني له من انزال الحاجة بي إلا قبلتها ففعل وأول من عمل البيمارستانات وأجرى الصدقات على الزمني والمجذومين والعميان والمساكين واستخدم لهم الخدام الوليد بن عبد الملك وهو أول من تكبر من الخلفاء وأنف أن يدعى باسمه كما كان يدعى من قبله من الخلفاء ويكفيه منقبة بناؤه جامع دمشق الذي هو أحد عجائب مباني الدنيا ومن الأجواد معن بن زائدة الشيباني ويكفيه أن يقال فيه حدث عن البحر ولا حرج وعن معن ولا حرج وسنورد شيأً من أخباره في الفصل الثاني من هذا الباب ومن الأجواد الذين توارثوا الكرم خلفاً عن سلف بنو برمك وهم ستة خالد وولده يحيى وأولاده أربعة وهم الفضل وجعفر وموسى ومحمد فأما خالد فلم يزل يرتضع ثدي الخلافة صبياً إلى أن بلغ من الكبر عتياً من جوده أنه لم يكن لأحد من أصحابه ولد إلا من جارية قد وهبها له ولا دار إلا من دور أنفق على بنائها ماله وكان القصاد يسمون قبل أيامه بالسؤال فكره هذه التسمية ورأى إنها نقص فيهم وقال إن فيهم من له بيت وشرف وعلم وأدب فسماهم بالزوار وكانوا يقصدونه في المواسم للهناء بها فيكتبون أسماءهم وتعرض عليه فيخص كل واحد منهم على حدته ويسأله بما يمت إليه حتى يعطيه بقدر ماتته ومنزلته وتقدم إليه رجل فقال له بماذا تمت فقال والله ما بي من ماتة ولا حرمة ولا وسيلة ولكن رغبت إليك بحسن الظن فيك والتيه بكرمك وما بلغني من جودك فقال ما ههنا أحداً ولي منك بالعطية فأجزل صلته ثم سأل آخر فقال حرمتي بالأمير أنه جمعني وإياه مسجد بجرجان يوم كذا في شهر كذا فصلينا فيه فقال حرمة لا تدفع وأمر له بصلة وفيه يقول بشار بن برد
لعمرك قد أجدى عليّ ابن برمك ... وما كل من كان الغنى عنده يجدي
حلبت بشعري راحتيه فدرّتا ... عليّ كما درّ السحاب على الرعد
أخالد إن الحمد يبقى لأهله ... جمالاً ولا تبقى الكنوز مع الكد
فأطعم وكل من عارة مستردة ... ولا تبقها إن العواري للردّ

ثم كان ابنه يحيى سالكاً في سننه آخذاً في الجود بفرائضه وسننه ففيه يقول سلم الخاسر
يا أيها الملك الذي ... أضحى وهمته المعالي
أنت المنوّه باسمه ... عند الملمات الثقال
ثم الذي أمواله ... عند المحامد خير مال
للّه درك من فتى ... ما فيك من كرم الخلال
يحيى بن خالد الذي ... يعطى الجزيل ولا يبالي
أعطاك قبل سؤاله ... وكفاك مكروه السؤال
ملك خلا من ماله ... ومن المروأة غير خال
وإذا رماك بموعد ... كان النوال مع المقال
وأولاده سادوا فشادوا ما أسس وجادوا فزادوا المن بما غرس فلهم طارف السخاء وتليده وكهل الثناء ووليده فالفضل في جوده ونزاهته وجعفر في بلاغته وفصاحته وموسى في نجدته وشجاعته ومحمد في مروأته وبعد همته وفيهم يقول الشاعر
أولاد يحيى أربع ... كالأربع الطبائع
فهم إذا اختبرتهم ... طبائع الصنائع
لكن الفضل كان لتلقي العفاة أبسطهم وأمضاهم بالصلة عزيمة وأنشطهم وأمدهم بالانعام يداً لا سيما إن ترنم شاعر بمدحه أو شدا وفيه يقول الخياط المدني
لمست بكفي كفه أبتغي الغني ... ولم أدر أن الجود من كفه بعدي
فلا أنا مما قد أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي
وفيهم يقول سلم الخاسر
سأرسل بيتاً قد وسمت جبينه ... يقطع أعناق البيوت الشوارد
أقام الندى والجود في كل بلدة ... أقام بها الفضل بن يحيى بن خالد
وفيهم يقول مروان بن أبي حفصة وجمعهم على النسق
لك الفضل يا فضل بن يحيى بن خالد ... وما كل من يدعى بفضل له الفضل
رأى اللّه فضلاً منك في الناس شائعاً ... فسماك فضلاً فالتقى الاسم والفعل
وزادك فضلاً أنّ أهلك في الورى ... كرام إذا أزرى بذي الشرف الكهل
ولم يبق فيك الجود للبخل موضعاً ... فأصبح يستعدى على جودك البخل
إذا كذبت أسماء قوم عليهم ... فاسمك صديق له شاهد عدل
وفيه يقول الحسن بن مطير رحمه الله تعالى
رأى اللّه للفضل بن يحيى فضيلة ... ففضله واللّه بالناس أعلم
له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم
فيمطر يوم الجود من كفه الندى ... ويمطر يوم البؤس من كفه الدم
ولو أن يوم الجود خلى يمينه ... على الناس لم يصبح على الأرض معدم
ولو أن يوم البؤس خلى شماله ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم
وممن فاه ببديع مدحه اللسان ... من ذوي الانعام والاحسان
وصف أعرابي رجلاً فقال ذاك رجل اشترى عرضه من الأذى فهو وإن أعطى الدنيا بأسرها رأى بعد ذلك إن عليه حقوقاً منها ومدح أعرابي قوماً بالجود فقال هم الذين جعلوا أموالهم مناديل أعراضهم فالحمد فيهم زائد والجود لهم شاهد يعطون أموالهم بطيب أنفس إذا طلبت إليهم ويباشرون المكروه باشراق الوجوه إذا بغى عليهم ومدح آخر رجلاً فقال ما رأيت الرزق أبغض أحد أبغضه وقالوا فلان دواء الفقر إن سئل أعطى وإن لم يسئل ابتدأ وقالوا فلان يبذل ما جل ويجبر ما اعتل ويكثر ما قل ومن كلام الثعالبي فلان يحيي القلوب بلقائه قبل أن يميت العدم بعطائه فلان يوجب الصلات وجوب الصلاة فلان لو أن البحر مدده والسحاب يده والجبال ذهبه لقصرت عما يهبه وقالوا فلان له نفس فيحاء لا تضيق بالبذل وأذن صماء لا تصغي للعذل وأما المنظوم في هذا فكثير فمن ذلك قول المهلب بن أبي صفرة
قوم إذا نزل الغريب بأرضهم ... ردوه رب صواهل وقيان
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلب الحاجات بالعيدان
بل يبسطون وجوههم فترى لها ... عند السؤال كأحسن الألوان
آخر
نزلت على آل المهلب شاتيا ... بعيداً عن الأوطان في زمن محل
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم ... وألطافهم حتى حسبتهم أهلي
آخر

أقسام الكتاب
1 2 3 4