كتاب : الكتاب
المؤلف : سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر

ومثل الرفع: " طوبى لهم وحسن مآب " ، يدلك على رفعها رفع حسن مآب. وأما قوله تعالى جده: " ويل يومئذ للمكذبين " و " ويل للمطففين " ، فإنه لا ينبغي أن تقول إنه دعاء ههنا، لأن الكلام بذلك قبيح، واللفظ " به " قبيح، ولكن العباد إنما كلموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون، فكأنه والله أعلم قيل لهم: ويل للمطففين، وويل " يومئذ " للمكذبين، أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم، لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكلة، فقيل: هؤلاء ممن دخل في الشر والهلكة ووجب لهم هذا.
ومثل ذلك " قوله تعالى " : " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " . فالعلم قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا أنتما في رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم، وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلما.
ومثله: " قاتلهم الله " ، فإنما أجري هذا على كلام العباد وبه أنزل القرآن.
وتقول: ويل له ويل طويل، فإن شئت جعلته بدلاً من المبتدأ الأول، وإن شئت جعلته صفة له، وإن شئت قلت: ويل لك ويلاً طويلاً، تجعل الويل الآخر غير مبدول ولا موصوف به، ولكنك تجعله دائماً، أي ثبت لك الويل دائماً.
ومن هذا الباب: فداء لك أبي وأمي، وحمي لك أبي، ووقاء لك أمي.
ولا تقول: عولة لك إلا أن يكون قبلها ويلة لك، ولا تقول: عول لك حتى تقول: ويل لك؛ لأن ذا يتبع ذا، كما أن ينوءك يتبع يسوءك ولا يكون ينوءك مبتدأ.
واعلم أن بعض العرب يقول: ويلاً له وويلة له، وعولة لك، ويجريها مجرى خيبة. من ذلك قول الشاعر، وهو جرير:
كسا اللؤم تيماً خضرة في جولدها ... فويلاً لتيم من سرابيلها الخضر
ويقول الرجل: يا ويلاه! فيقول الآخر: ويلاً كيلاً! كأنه يقول: لك ما دعوت به ويلاً كيلاً. يدلك على ذلك قولهم إذا قال يا ويلاه: نعم ويلاً كيلاً، أي كذلك أمرك، أو لك الويل ويلاً كيلاً. وهذا مشبه بقوله: ويل له ويلاً كيلاً. وربما قالوا: يا ويلاً كيلاً، وإن شاء جعله على قوله: جدعاً وعقراً.
باب منه استكرهه النحويون، وهو قبيحفوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعت العرب وذلك قولك: ويح له وتب، وتباً لك وويحاً. فجعلوا التب بمنزلة الويح، وجعلوا ويح بمنزلة التب، فوضعوا كل واحد منهما على غير الموضع الذي وضعته العرب.
ولا بد لويح مع قبحها من أن تحمل على تب، لأنها إذا ابتدأت لم يجز حتى يبنى عليها كلام، وإذا حملتها على النصب كنت تبنيها على شيء مع قبحها. فإذا قلت: ويح له ثم ألحقتها التب فإن النصب فيه أحسن؛ لأن تباً إذا نصبتها فهي مستغنية عن لك، فإنما قطعتها من أول الكلام كأنك قلت: وتباً لك، فأجريتها على ما أجرتها العرب.
فأما النحويون فيجعلونها بمنزلة ويح. ولا تشبهها لأن تباً تستغنى عن لك ولا تستغنى ويح عنها، فإذا قلت: تباً له وويح له فالرفع ليس فيه كلام، ولا يختلف النحويون في نصب التب إذا قلت: ويح له وتباً له. فهذا يدلك على أن النصب في تب فيما ذكرنا أحسن، لأن " له " لم يعمل في التب.
هذا باب ما ينتصب فيه المصدركان فيه الألف واللام أو لم يكن فيه على إضمار الفعل المتروك إظهاره، لأنه يصير في الإخبار والاستفهام بدلاً من اللفظ بالفعل، كما كان الحذر بدلاً من احذر في الأمر وذلك قولك: ما أنت إلا سيراً، وإلا سيراً سيراً، وما أنت إلا الضرب الضرب، وما أنت إلا قتلا قتلا، وما أنت إلا سير البريد " سير البريد " . فكأنه قال في هذا كله: ما أنت إلا تفعل فعلاً، وما أنت إلا تفعل الفعل، ولكنهم حذفوا الفعل لما ذكرت لك.
وصار في الاستفهام والخبر بمنزلته في الأمر والنهي لأن الفعل يقع ههنا كما يقع فيهما، وإن كان الأمر والنهي أقوى، لأنهما لا يكونان بغير فعل، فلم يمتنع المصدر ههنا " أن ينتصب " ، لأن العمل يقع ههنا مع المصدر في الاستفهام " والخبر، كما يقع في الأمر والنهي، والآخر غير الأول كما كان ذلك في الأمر والنهي، إذا قلت: ضرباً فالضرب غير المأمور " .
وتقول: زيد سيراً سيراً، وإن زيداً سيراً سيراً، وكذلك في ليت ولعل ولكن وكأن وما أشبه ذلك، " وكذلك إن قلت: أنت الدهر سيراً سيراً " ، وكان عبد الله الدهر سيراً سيراً، وأنت مذ اليوم سيراً سيراً.

واعلم أن السير إذا كنت تخبر عنه في هذا الباب فإنما تخبر بسير متصل بعض ببعض في أي الأحوال كان. وأما قولك: إنما أنت سير فإنما جعلته خبراً لأنت ولم تضمر فعلاً. وسنبين لك وجهه إن شاء الله.
ومن ذلك قولك: ما أنت إلا شرب الإبل، وما أنت إلا ضرب الناس، وما أنت إلا ضرباً الناس. وأما شرب الإبل فلا ينون لأنك لم تشبهه بشرب الإبل، وأن الشرب ليس بفعل يقع منك على الإبل.
ونظير ما انتصب قول الله عز وجل في كتابه: " فإما منا بعد وإما فداء " ، إنما انتصب على: فإما تمنون مناً وإما تفادون فداء، ولكنهم حذفوا الفعل لما ذكرت لك.
ومثله قول " الشاعر، وهو " جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عياً بهن ولا اجتلابا
كأنه نفى قوله: فعياً بهن واجتلابا، أي فأنا أعيا بهن وأجتلبهن اجتلاباً، ولكنه نفى هذا حين قال: " فلا " .
ومثله قولك: ألم تعلم يا فلان مسيري فإتعاباً وطرداً. فإنما ذكر مسرحه وذكر مسيره، وهما عملان، فجعل المسير إتعاباً وجعل المسرح لا عي فيه، وجعله فعلاً متصلاً إذا سار وإذا سرح.
وإن شئت رفعت هذا كله فجعلت الآخر هو الأول، فجاز على سعة الكلام. من ذلك قول الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
فجعلها الإقبال والإدبار، فجاز على سعة الكلام، كقولك: نهارك صائم وليلك قائم.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو متمم بن نويرة:
لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع مما أصاب فأوجعا
جعل دهره الجزع. والنصب جائز على قوله: فلا عياً بهن ولا اجتلابا. وإنما أراد: وما دهري دهر جزع، ولكنه جاز على سعة الكلام، واستخفوا واختصوا كما فعل ذلك فيما مضى.
وأما ما ينتصب في الاستفهام من هذا الباب فقولك: أقياماً يا فلان والناس قعود، وأجلوساً والناس يعدون، لا يريد أن يخبر أنه يجلس ولا أنه قد جلس وانقضى جلوسه، ولكنه يخبر أنه في تلك الحال في جلوس وفي قيام.
وقال الراجز، وهو العجاج:
أطرباً وأنت قنسري
وإنما أراد: أتطرب، أي أنت في حال طرب؟ ولم يرد أن يخبر عما مضى ولا عما يستقبل.
ومن ذلك قول بعض العرب: " أغدة كغدة البعير وموتاً في بيت سلولية " ، كأنه إنما أراد: أأغد غدة كغدة البعير وأموت موتاً في بيت سلولية. وهو بمنزلة أطرباً، وتفسيره كتفسيره.
وقال جرير:
أعبداً حل في شعبي غريباً ... ألؤماً لا أبا لك واغتراباً
يقول: أتلؤم لؤماً وأتغترب اغترابا، وحذف الفعلين في هذا الباب، لأنهم جعلوه بدلاً من اللفظ بالفعل، وهو كثير في كلام العرب.
" وأما عبداً فيكون على ضربين: إن شئت على النداء، وإن شئت على قوله: أتفتخر عبداً، ثم حذف الفعل " .
وكذلك إن أخبرت ولم تستفهم، تقول: سيراً سيراً، عنيت نفسك أو غيرك، وذلك أنك رأيت رجلاً في حال سير أو كنت في حال سير، أو ذكر رجل يسير أو ذكرت أنت بسير، وجرى كلام يحسن بناء هذا عليه كما حسن في الاستفهام. لأنك إنما تقول: أطرباً وأسيراً، إذا رأيت ذلك من الحال أو ظننته فيه.
وعلى هذا يجري هذا الباب إذا كان خبراً أو استفهاماً، إذا رأيت رجلاً في حال سير أو ظننته فيه، فأثبت ذلك له.
وكذلك " أنت " في الاستفهام، إذا قلت: أأنت سيراً. ومعنى هذا الباب أنه فعل متصل في حال ذكرك إياه استفهمت أو أخبرت، وأنك في حال ذكرك شيئاً من هذا الباب تعمل في تثبيته لك أو لغيرك.
ومثل ما تنصبه في هذا الباب وأنت تعني نفسك قول الشاعر:
سماع الله والعلماء أني ... أعوذ بحقو خالك يا ابن عمرو
وذلك أنه جعل نفسه في حال من يسمع، فصار بمنزلة من رآه في حال سير فقال: إسماعا الله، بمنزلة قولك: ما أنت إلا ضرباً الناس، وإلا ضرب الناس، إذا حذفت التنوين تخفيفاً.
هذا باب ما ينتصب من الأسماءالتي أخذت من الأفعال انتصاب الفعل، استفهمت أو لم تستفهم وذلك قولك: أقائماً وقد قعد الناس، وأقاعداً وقد سار الركب. وكذلك إن أردت هذا المعنى ولم تستفهم، تقول: قاعداً علم الله وقد سار الركب، وقائماً قد علم الله وقد قعد الناس.

وذلك أنه رأى رجلاً في حال قيام أو حال قعود، فأراد أن ينبهه، فكأنه لفظ بقوله: أتقوم قائماً وأتقعد قاعداً، ولكنه حذف استغناء بما يرى من الحال، وصار الاسم بدلاً من اللفظ بالفعل، فجرى مجرى المصدر في هذا الموضع.
ومثل ذلك: عائذاً بالله من شرهاً، كأنه رأى شيئاً يتقى فصار عند نفسه في حال استعاذة، حتى صار بمنزلة الذي رآه في حال قيام وقعود، لأنه يرى نفسه في تلك الحال، فقال: عائذاً " بالله " ، كأنه قال: أعوذ بالله عائذاً بالله، ولكنه حذف الفعل لأنه بدل من قوله: أعوذ بالله، فصار هذا يجري ها هنا مجرى عياذاً بالله. ومنهم من يقول: عائذ بالله من شر فلان.
وإذا ذكرت شيئاً من هذا الباب فالفعل متصل في حال ذكرك وأنت تعمل في تثبيته لك أو لغيرك في حال ذكرك إياه، كما كنت في باب حمداً وسقياً وما أشبهه، إذا ذكرت شيئاً منه في حال تزجيه وإثبات، وأجريت عائذاً " بالله " في الإضمار والبدل مجرى المصدر، كما كان هنيئاً بمنزلة المصدر فيما ذكرت لك.
وقال الشاعر، وهو عبد الله بن الحارث السهمي، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألحق عذابك بالقوم الذي طغوا ... وعائذاً بك أن يعلوا فيطغوني
فكأنه قال: وعياذاً بك.
ومثله قوله:
أراك جمعت مسألة وحرصاً ... وعند الحق زحاراً أنانا
كأنه قال: " تزحر " زحيراً و " تئن " أنيناً، " ثم وضعه مكان هذا، أي أنت عند الحق هكذا " .
هذا باب

ما جرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الفعل
مجرى الأسماء التي أخذت من الفعل
وذلك قولك: أتميمياً مرة وقيسياً أخرى.
وإنما هذا أنك رأيت رجلاً في حال تلون وتنقل، فقلت: أتميماً مرة وقيسياً أخرى، كأنك قلت: أتحول تميمياً مرة وقيسياً أخرى. فأنت في هذه الحال تعمل في تثبين هذا له، وهو عندك في تلك الحال في تلوم وتنقل، وليس يسأله مسترشداً عن أمر هو جاهل به ليفهمه إياه ويخبره عنه، ولكنه وبخه بذلك.
وحدثنا بعض العرب، أن رجلاً من بني أسد قال يوم جبلة واستقبله بعير أعور فتطير " منه " ، فقال: يا بني أسد، أعور وذا ناب! فلم يرد أن يسترشدهم ليخبروه عن عوره وصحته، ولكنه نبههم، كأنه قال: أتستقبلون أعور وذا ناب! فالاستقبال في حال تنبيهه إياهم كان واقعاً، كما كان التلون والتنقل عندك ثابتين في الحال الأول، وأراد أن يثبت لهم الأعور ليحذوره.
ومثل ذلك قول الشاعر:
أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أشباه الإماء العوارك
أي تنقلون، وتلونون مرة كذا ومرة كذا. وقال:
أفي الولائم أولاداً لواحدة ... وفي العيادة أولاداً لعلات
وأما قول الشاعر:
أعبداً حل في شعبي غريباً
فيكون على وجهين: على النداء، على أنه رآه في حال افتخار واجتراء، فقال: أعبداً، أي أتفخر عبداً، كما قال: أتميمياً " مرة " .
وإن أخبرت في هذا الباب على هذا الحد نصبت أيضاً كما نصب في حال الخبر الاسم الذي أخذ من الفعل، وذلك قولك: تميمياً قد علم الله مرة وقيسياً أخرى. فلم ترد أن تخبر القوم بأمر قد جهلوه، ولكنك أردت أن تشتمه بذلك، فصار بدلاً من اللفظ بقولك: أتتم مرة وتتقيس أخرى، وأتمضون وقد استقبلكم هذا، وتنقلون وتلونون، فصار هذا كهذا، كما كان ترباً وجندلاً بدلاً من اللفظ بتربت وجندلت لو تكلم بهما.
ولو مثلت ما نصبت عليه الأعيار والأعور في البدل من اللفظ لقلت: أتعيرون مرة، وأتعورون إذا أوضحت معناه، لأنك إنما تجريه مجرى ما له فعل من لفظه، وقد يجرى مجرى الفعل ويعمل عمله، ولكنه كان أحسن أن توضحه بما يتكلم به إذا كان لا يغير معنى الحديث. وكذلك هذا النحو ولكنه يترك استغناء بما يحسن من الفعل الذي لا ينقض المعنى.
وأما قوله جل وعز: " بلى قادرين " ، فهو على الفعل الذي أظهر، كأنه قال: بلى نجمعها قادرين. حدثنا بذلك يونس.
وأما قوله، وهو الفرزدق:
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في وزر كلام
فإنما أراد: ولا يخرج فيما أستقبل، كأنه قال: ولا يخرج خروجاً. ألا تراه ذكر " عاهدت " في البيت الذي قبله فقال:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاج قائماً ومقام

ولو حمله على أنه نفى شيئاً هو فيه ولم يرد أن يحمله على عاهدت جاز. وإلى هذا الوجه كان يذهب عيسى فيما نرى، لأنه لم يكن يحمله على عاهدت.
فإذا قلت: ما أنت إلا قائم وقاعد، وأنت تميمي مرة وقيسي أخرى، وإني عائذ بالله، ارتفع. ولو قال: هو أعور وذو ناب، لرفع. هذا كله ليس فيه إلا الرفع، لأنه مبني على الاسم الأول، والآخر هو الأول فجرى عليه.
وزعم يونس أن من العرب من يقول: عائذ بالله، يريد: أنا عائذ بالله، كأنه أمر قد وقع، بمنزلة الحمد لله وما أشبهه.
وزعم الخليل رحمه الله أن رجلاً لو قال: أتميمي، يريد: " أنت " ويضمرها لأصاب.
وإنما كان النصب ها هنا الوجه لأنه موضع يكون الاسم فيه عاقباً للفظ بالفعل، فاختير فيه كما يختار فيما مضى من المصادر التي في غير الأسماء. والرفع جيد لأنه المحدث عنه والمستفهم. ولو قال: أعور وذو ناب، كان مصيباً.
وزعم يونس أنهم يقولون: عائذ بالله. فإن أظهر هذا المضمر لم يكن إلا الرفع، إذ جاز الرفع وأنت تضمر، وجاز لك أن تحمل عليه المصدر، وهو غيره، في قوله: أنت سر سير فلم يجز حيث أظهر الاسم عندهم إلا الرفع، كما أنه لو أظهر الفعل الذي هو بدل منه لم يكن إلا نصباً. فكما لم يجز في الإضمار أن تضمر بعد الرفع ناصباً كذلك لم تضمر بعد الإظهار، وصار المبتدأ والفعل يعمل كل واحد منهما على " حدة في هذا الباب، لا يدخل واحد على " صاحبه.
باب ما يجيء من المصادر مثنى منتصباً
على إضمار الفعل المتروك إظهاره وذلك قولك: حنانيك، كأنه قال: تحننا بعد تحنن، " كأنه يسترحمه ليرحمه " ، ولكنهم حذفوا الفعل لأنه صار بدلاً منه.
ولا يكون هذا مثنى إلا في حال إضافة، كما لم يكن سبحان الله ومعاذ الله إلا مضافاً. فحنانيك لا يتصرف، كما لا يتصرف سبحان الله وما أشبه ذلك. قال الشاعر، وهو طرفة بن العبد:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وزعم الخليل رحمه الله أن معنى التثنية أنه أراد تحننا بعد تحنن، كأنه قال: كلما كنت في رحمة وخير منك فلا ينقطعن وليكن موصولاً بآخر من رحمتك.
ومثل ذلك: لبيك وسعديك، وسمعنا من العرب من يقول: سبحان الله وحنانيه، كأنه قال: سبحان الله واسترحاماً، كما قال: سبحان الله وريحانه، يريد: واسترزاقه.
وأما قولك: لبيك وسعديك فانتصب " هذا " كما انتصب سبحان الله، وهو أيضاً بمنزلة قولك إذا أخبرت: سمعاً وطاعة. إلا أن لبيك لا يتصرف، كما أن سبحان الله وعمرك الله وقعدك الله لا يتصرف.
ومن العرب من يقول: سمع وطاعة، أي أمرى سمع وطاعة، بمنزلة:
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا
وكما قال: سلام.
والذي يرتفع عليه حنان وسمع وطاعة غير مستعمل،كما أن الذي ينتصب عليه لبيك وسبحان الله غير مستعمل.
وإذا قال: سمعاً وطاعة فهو في تزجية السمع والطاعة، كما قال: حمداً وشكراً، على هذا التفسير.
ومثل ذلك: حذاريك، كأنه قال: ليكن منك حذر بعد حذر، كما أنه أراد بقوله لبيك وسعديك: إجابة بعد إجابة، كأنه قال: كلما أجبتك في أمر فأنا في " الأمر " الآخر مجيب، وكأن هذه التثنية أشد توكيداً.
ومثله إذا أنه قد يكون حالاً وقع عليه الفعل، قول الشاعر، وهو عبد بني الحسحاس:
إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك حتى ليس للبرد لابس
أي مداولتك، ومداولة " لك " . وإن شاء كان حالاً. ومثله أيضاً:
ضرباً هذاذيك وطعناً وخضاً
ومعنى " تثنية " دواليك أنه فعل من اثنين، لأني إذا داولت فمن كل واحد منا فعل. وكذلك هذاذيك، كأنه يقلو: هذا بعد هذ من كل وجه. وإن شاء حمله على أن الفعل وقع هذاً بعد هذا، " فنصبه " على الحال.
وزعم يونس أن لبيك اسم واحد ولكنه جاء على " هذا " اللفظ في الإضافة، كقولك: عليك.
وزعم الخليل أنها تثنية بمنزلة حواليك، لأنا سمعناهم يقولون: حنان. وبعض العرب يقول: " لب " فيجريه مجرى أمس وغاق، ولكن موضعه نصب. وحواليك بمنزلة حنانيك.
ولست تحتاج في هذا الباب إلى أن تفرد، لأنك إذا أظهرت الاسم تبين أنه ليس بمنزلة عليك وإليك؛ لأنك " لا " تقول: لبي زيد وسعدي زيد.
وقد قالوا: حوالك " فأفردوا " ، كما قالوا: حنان. قال الراجز:
أهدموا بيتك لا أبا لكا ... وحسبوا أنك لا أخا لكا
وأنا أمشي الدألى حوالكا
وقال:

دعوت لما نابني مسوراً ... فلبي فلبي يدي مسور
فلو كان بمنزلة على لقال: فلبي يدي مسور، لأنك تقول: على زيد، وإذا أظهرت الاسم.
باب ذكر معنى لبيك وسعديك وما اشتقا منهوإنما ذكر ليبين لك وجه نصبه، كما ذكر معنى سبحان الله.
حدثنا أبو الخطاب أنه يقال للرجل المداوم على الشيء لا يفارقه ولا يقلع عنه: قد ألب فلان على كذا وكذا. ويقال: قد أسعد فلان فلاناً على أمره وساعده، فالإلباب والمساعدة دنو ومتابعة: إذا ألب على الشيء فهو لا يفارقه، وإذا أسعده فقد تابعه. فكأنه إذا قال الرجل للرجل: يا فلان، فقال: لبيك وسعديك، فقد قال له: قرباً منك ومتابعة لك. فهذا تمثيل وإن كان لا يستعمل في الكلام، كما كان براءة الله تمثيلاً لسبحان الله ولم يستعمل.
وكذلك إذا قال: لبيك وسعديك، يعني بذلك الله عز وجل، فكأنه قال: أي رب لا أنأى عنك في شيء تأمرني به. فإذا فعل ذلك فقد تقرب إلى الله بهواه.
وأما قوله: وسعديك فكأنه يقول: أنا متابع أمرك وأولياءك، غير مخالف. فإذا فعل ذلك فقد تابع وطاوع وأطاع.
وإنما حملنا على تفسير لبيك وسعديك لنوضح به وجه نصبهما؛ لأنهما ليسا بمنزلة سقياً وحمداً وما أشبه هذا. ألا ترى أنك تقول للسائل عن تفسير سقياً وحمداً: إنما هو سقاك الله سقياً وأحمد الله حمداً، وتقول: حمداً بدل من أحمد الله، وسقياً بدل من سقاك الله. ولا تقدر أن تقول: ألبك لباً وأسعدك سعداً، ولا تقول: سعداً بدل من أسعد، ولا لباً بدل من ألب. فلما لم يكن ذاك فيه التمس له شيء من غير لفظه معناه كبراءة الله، حين ذكرناها لنبين معنى سبحان الله. فالتمست " ذلك " للبيك وسعديك واللفظ الذي اشتقا منه، إذ لم يكونا فيه بمنزلة الحمد والسقي في فعلهما، ولا يتصرفان تصرفهما. فمعناهما القرب والمتابعة، فمثلت بهما النصب في لبيك وسعديك، كما مثلت ببراءة النصب في سبحان الله.
ومثل ذلك تمثيلك: أفة وتفة، إذا سئلت عنهما، بقولك: أنتنا لأن معناهما وحدهما واحد، مثل تمثيلك بهراً بتباً، ودفراً بنتناً.
وأما قولهم: سبح ولبى وأفف، فإنهما أراد أن يخبرك أنه قد لفظ بسبحان الله وبلبيك وبأف، فصار هذا بمنزلة قوله: قد دعدع وقد بأبأ، إذا سمعته يلفظ بدع وبقوله: بأبي. ويدلك على ذلك قولهم: هلل، إذا قال: لا إله إلا الله.
وإنما ذكرت هلل وما أشبهها لتقول قد لفظ بهذا. ولو كان هذا بمنزلة كلمته من الكلام، لكان سبحان " الله " ولب وسعد مصادر مستعملة متصرفة في الجر والرفع والنصب والألف واللام، ولكن سبحت ولبيت، بمنزلة هللت ودعدعت، إذا قال: دع، ولا إله إلا الله.
باب ما ينتصب فيه المصدر المشبه بهعلى إضمار الفعل المتروك إظهاره وذلك قولك: مررت به فإذا له صوت صوت حمار، ومررت به فإذا له صراخ صراخ الثكلى.
" و " قال الشاعر، وهو النابغة الذبياني:
مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
وقال:
لها بعد إسناد الكليم وهدئه ... ورنة من يبكى إذا كان باكيا
هدير هدير الثور ينفض رأسه ... يذب بروقيه الكلاب الضواريا
فإنما انتصب هذا لأنك مررت به في حال تصويت، ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأول ولا بدلاً منه. ولكنك لما قلت: له صوت، علم أنه قد كان ثم عمل، فصار قولك: له صوت بمنزلة قولك: فإذا هو يصوت، فحملت الثاني على المعنى.
وهذا شبيه في النصب لا في المعنى بقوله تبارك وتعالى: " وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسبانا " ، لأنه حين قال: " جاعل الليل " ، فقد علم القارئ أنه على معنى جعل، " فصار كأنه قال: وجعل الليل سكناً " ، وحمل الثاني على المعنى. فكذلك " له " صوت، فكأنه قال: فإذا هو يصوت، " فحمله على المعنى فنصبه، كأنه توهم بعد قوله له صوت: يصوت " صوت الحمار أو يبديه، أو يخرجه صوت حمار، ولكنه حذف هذا لأنه صار " له صوت " بدلاً منه.
فإذا قلت: مررت به " فإذا هو " يصوت صوت الحمار فعلى الفعل غير حال. فإن قلت: صوت حمار " فألقيت الألف واللام " فعلى إضمارك فعلاً بعد الفعل المظهر سوى الفعل المظهر، وتجعل صوت حمار مثالاً عليه يخرج الصوت أو حالاً، كما أردت ذلك حين قلت: فإذا له صوت. وإن شئت أوصلت إليه يصوت، فجعلته العامل فيه، كقولك: يذهب ذهاباً.

ومثل ذلك: مررت به فإذا له دفع دفعك الضعيف. ومثل ذلك أيضاً: مررت به فإذا له دق دقك بالمنحاز حب الفلفل.
ويدلك " على أنك " إذا قلت: " فإذا " له صوت صوت حمار، فقد أضمرت فعلاً بعد " له صوت " ، وصوت حمار انتصب على أنه مثال أو حال يخرج عليه الفعل أنك إذا أظهرت الفعل الذي لا يكون المصدر بدلاً منه احتجت إلى فعل آخر تضمره. فمن ذلك قول الشاعر:
إذا رأتني سقط أبصارها ... دأب بكار شايحت بكارها
ويكون على غير الحال، " وإن شئت بفعل مضمر، كأنك قلت: تدأب، فيكون أيضاً مفعولاً وحالاً، كما يكون غير حال " .
فما لا يكون حالاً ويكون على الفعل، قول الشاعر، وهو رؤبة:
لوحها من بعد بدن وسنق ... تضميرك السابق يطوى للسبق
" وإن شئت كان على: أضمرها، وإن شئت كان على: لوحها؛ لأن تلويحه تضمير " .
ومثله قوله، وهو العجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفاً فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا
وقد يجوز أن تضمر فعلاً آخر كما أضمرت بعد " له صوت " ، يدلك على ذلك أنك لو أظهرت فعلاً لا يجوز أن يكون المصدر مفعولاً عليه صار بمنزلة: له صوت، وذلك قوله، وهو أبو كبير الهذلي:
ما إن يمس الأرض إلا منكب ... منه وحرف الساق، طي المحمل
صار " ما إن يمس الأرض " بمنزلة له طي، لأنه إذا ذكر ذا عرف أنه طيان.
وقد يدخل في صوت حمار: إنما أنت شرب الإبل " إذا " مثل " بقوله " : إنما أنت شرباً. فما كان معرفة كان مفعولاً ولم يكن حالاً، وشركته النكرة. وإن شئت جعلته حالاً عليه وقع الأمر، وهو تشبيهه للأول، يدلك على ذلك أنك لو أدخلت " مثل " ههنا كان حسناً وكان نصباً، فإذا أخرجت " مثل " قام المصدر النكرة مقام مثل، لأنه مثله نكرة، فدخول مثل يدلك على أنه تشبيه. فإذا قلت: فإذا هو يصوت صوت حمار، فإن شئت نصبت على أنه مثال وقع عليه الصوت، وإن شئت نصبت على ما فسرنا وكان غير حال، وكأن هذا جواب لقوله: على أي حال وكيف ومثله. وكأنه قيل له: كيف وقع الأمر، أو جعل المخاطب بمنزلة من قال ذلك، فأراد أن يبين كيف وقع الأمر وعلى أي مثال، فانتصب وهو موقوع فيه وعليه، وعمل فيه ما قبله وهو الفعل.
وإذا كان معرفة لم يكن حالاً وكان على فعل مظهر إن جاز أن يعمل فيه، أو على مضمر إن لم يجز المظهر، كما ينتصب " طي المحمل " على غير " يمس " .
وإن شئت قلت: له صوت صوت حمار، وله صوت خوار ثور، وذلك إذا جعلته صفة للصوت ولم ترد فعلاً ولا إضماره.
وإن كان معرفة لم يجز أن يكون صفة لنكرة كما لا يكون حالاً. وسترى هذا مبيناً في بابه إن شاء الله.
وزعم الخليل أنه يجز له صوت صوت الحمار على الصفة لأنه تشبيه، فمن ثم جاز أن توصف النكرة به.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن يقول الرجل: هذا رجل أخو زيد، إذا أردت أن تشبهه بأخي زيد. وهذا قبيح ضعيف لا يجوز إلا في موضع الاضطرار، ولو جاز هذا لقلت: هذا قصير الطويل، تريد: مثل الطويل. فلم يجز هذا كما قبح أن تكون " المعرفة " حالاً للنكرة إلا في الشعر. وهو في الصفة أقبح، لأنك تنقض ما تكلمت به، فلم يجامعه في الحال، كما فارقه في الصفة. وسيبين لك في بابه إن شاء الله تعالى.
هذا باب يختار فيه الرفعوذلك قولك: له علم علم الفقهاء، وله رأي رأي الأصلاء. وإنما كان الرفع في هذا الوجه لأن هذه خصال تذكرها في الرجل، كالحلم والعلم والفضل، ولم ترد أن تخبر بأنك مررت برجل في حال تعلم ولا تفهم، ولكنك أردت أن تذكر الرجل بفضل فيه، وأن تجعل ذلك خصلة قد استكملها، كقولك: له حسب حسب الصالحين؛ لأن هذه الأشياء وما يشبهها صارت تحلية عند الناس وعلامات. وعلى هذا الوجه رفع الصوت.
وإن شئت نصبت فقلت: له علم علم الفقهاء، كأنك مررت به في حال تعلم وتفقه، وكأنه لم يستكمل أن يقال: له عالم.
وإنما فرق بين هذا وبين الصوت لأن الصوت علاج، وأن العلم صار عندهم بمنزلة اليد والرجل. ويدلك على ذلك قولهم: له شرف، وله دين، وله فهم. ولو أرادوا أنه يدخل نفسه في الدين ولم يستكمل أن يقال: له دين، لقالوا: يتدين وليس بذلك، ويتشرف وليس له شرف، ويتفهم وليس له فهم. فلما كان هذا اللفظ للذين لم يستكملوا ما كان غير علاج، بعد النصب في قولهم: له علم علم الفقهاء.

وإذا قال: له صوت صوت حمار، فإنما أخبر أنه مر به وهو يصوت صوت حمار.
وإذا قال: له علم علم الفقهاء، فهو يخبر عما قد استقر فيه قبل رؤيته وقبل سمعه منه، أو رآه يتعلم فاستدل بحسن تعلمه على ما عنده من العلم، ولم يرد أن يخبر أنه إنما بدأ في علاج العلم في حال ليقه إياه، لأن هذا ليس مما يثنى به، وإنما الثناء في هذا الموضع أن يخبر بما استقر فيه، ولا يخبر أن أمثل شيء كان منه التعلم في حال لقائه.
هذا باب

ما يختار فيه الرفع إذا ذكرت المصدر
الذي يكون علاجاً وذلك إذا كان الآخر هو الأول.
وذلك نحو قولك: له صوت صوت حسن؛ لأنك إنما أردت الوصف، كأنك قلت: له صوت حسن، وإنما ذكرت الصوت توكيداً ولم ترد أن تحمله على الفعل، لما كان صفة، وكان الآخر هو الأول، كما قلت: ما أنت إلا قائم وقاعد، حملت الآخر على أنت لما كان الآخر هو الأول.
ومثل ذلك: له صوت أيما صوت، وله صوت مثل صوت الحمار لأن أيا والمثل صفة أبدا. وإذا قلت: أيما صوت، فكأنك قلت: له صوت حسن جداً، وهذا صوت شبيه بذلك. فأي ومثل هما الأول.
فالرفع في هذا أحسن، لأنك ذكرت اسماً يحسن أن يكون هذا الكلام منه يحمل عليه، كقولك: هذا رجل مثلك، وهذا رجل حسن، وهذا رجل أيما رجل.
وأما: له صوت صوت حمار، فقد علمت أن صوت حمار ليس بالصوت الأول، وإنما " جاز " رفعه على سعة الكلام، كما جاز لك أن تقول: ما أنت إلا سير.
فكأن الذين يقولون: صوت حمار اختاروا هذا، كما اختاروا: ما أنت إلا سيراً، إذ لم يكن الآخر هو الأول، فحملوه على فعله كراهة أن يجعلوه من الاسم الذي ليس به، كما كرهوا أن يقولوا: ما أنت إلا سير إذا لم يكن الآخر هو الأول. فحملوه على فعله، فصار له صوت صوت حمار ينتصب على فعل مضمر كانتصاب " تضميرك السابق " على الفعل المضمر.
وإن قلت: له صوت أيما صوت، أو مثل صوت الحمار، أو له صوت صوتاً حسناً، جاز. زعم ذلك الخليل رحمه الله. ويقوي ذلك أن يونس وعيسى جميعاً زعما أن رؤبة كان ينشد هذا البيت نصباً:
فيها ازدهاف أيما ازدهاف
يحمله على الفعل الذي ينصب صوت حمار، لأن ذلك الفعل لو ظهر نصب ما كان صفة وما كان غير صفة، لأنه ليس باسم تحمل عليه الصفات. ألا ترى أنه لو قال: مثل تضميرك، أو مثل دأب بكار، نصب. فلما أضمروه فيما يكون غير الأول أضمروه أيضاً فيما يكون هو الأول، كأنه قال: تزدهف أيما ازدهاف، ولكنه حذفه، لأن له ازدهاف قد صار بدلاً من الفعل.
هذا باب ما الرفع فيه الوجهوذلك قولك؛: هذا صوت صوت حمار، لأنك لم تذكر فاعلاً، ولأن الآخر هو الأول حيث قلت: " هذا " . فالصوت هذا، ثم قلت: هو صوت حمار، لأنك سمعت نهاقاً. فلا شك في رفعه. وإن شبهت أيضاً فهو رفع لأنك لم تذكر فاعلاً يفعله، وإنما ابتدأته كما تبتدئ الأسماء، فقلت: هذا، ثم بنيت عليه شيئاً هو هو، فصار كقوله: هذا رجل رجل حرب.
وإذا قلت: له صوت، فالذي في اللام هو الفاعل وليس الآخر به، فلما بنيت أول الكلام كبناء الأسماء كان آخره أن يجعل كالأسماء أحسن وأجود، فصار كقولك: هذا رأس رأس حمار، وهذا رجل أخو حرب، إذا أردت الشبه.
ومن ذلك: عليه نوح نوح الحمام، على غير صفة، لأن الهاء التي في عليه ليست بفاعل، كما أنك إذا قلت: فيها رجل، فالهاء ليست بفاعل فعل بالرجل شيئاً، فلما جاء على مثال الأسماء كان الرفع الوجه.
وإن قلت: لهن نوح نوح الحمام،فالنصب لأن الهاء هي الفاعلة. يدلك على " ذلك " أن الرفع في هذا وفي عليه أحسن، لأنك إذا قلت: هذا أو عليه، فأنت لا تريد أن تقول مررت بهذه الأسماء تفعل فعلاً، ولكنك جعلت " عليه " موضعاً للنوح و " هذا " مبنى عليه نفسه. ولو نصبت كان وجهاً؛ لأنه إذا قال: هذا صوت أو هذا نوح أو عليه نوح، فقد علم أن مع النوح والصوت فاعلين، فحمله على المعنى، كما قال:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
هذا باب لا يكون فيه إلا الرفعوذلك قولك: له يد الثور، وله رأس رأس الحمار؛ لأن هذا اسم ولا يتوهم على الرجل أنه يصنع يداً ولا رجلاً، وليس بفعل.
هذا باب لا يكون فيه إلا الرفع

وذلك قولك: صوته صوت حمار، وتلويحه تضميرك السابق، ووجدي بها وجد الثكلى؛ لأن هذا ابتداء، فالذي يبنى على الابتداء بمنزلة الابتداء. ألا ترى أنك تقول: زيد أخوك، فارتفاعه كارتفاع زيد أبدا، فلما ابتدأه وكان محتاجاً إلى ما بعده لم يجعل بدلاً من اللفظ بيصوت، وصار كالأسماء. قال الشاعر " وهو مزاحم العقيلي " :
وجدي بها وجد المضل بعيره ... بنخلة لم تعطف عليه العواطف
وكذلك لو قلت: مررت به فصوته صوت حمار. فإن قال: فإذا صوته، يريد الوجه الذي يسكت عليه، دخله نصب، لأنه يضمر بعد ما يستغنى عنه.
باب ما ينتصب من المصادر

لأنه عذر لوقوع الأمر
فانتصب لأنه موقوع له، ولأنه تفسير لما قبله لم كان؟ وليس بصفة لما قبله ولا منه، فانتصب كما انتصب درهم في قولك: عشرون درهماً.
وذلك قولك: فعلت ذاك حذار الشر، وفعلت ذاك مخافة فلان وادخار فلان. قال الشاعر، هو " حاتم " بن عبد الله " الطائي:
واغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وقال الآخر، وهو النابغة الذبياني:
وحلت بيوتي في يفاع ممنع ... يخال به راعي الحمولة طائرا
حذاراً على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
وقال آخر، وهو الحارث بن هشام:
فصفحت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
وقال الراجز، وهو العجاج:
يركب كل عاقر جمهور ... مخافة وزعل المحبور
والهول من تهول القبور
وفعلت ذاك أجل كذا " وكذا " . فهذا كله ينتصب لأنه مفعول له، كأنه قيل له: لم فعلت كذا " وكذا " فقال: لكذا " وكذا " ، ولكنه لما طرح اللام عمل فيه ما قبله كما عمل في " دأب بكار " ما قبله، حين طرح مثل وكان حالاً. وحسن فيه الألف واللام لأنه ليس بحال، فيكون في موضع فاعل حالاً. ولا يشبه بما مضى من المصادر في الأمر والنهي ونحوهما؛ لأنه ليس في موضع ابتداء ولا موضعاً يبنى على مبتدأ. فمن خالف باب رحمة الله عليه، وسقيا لك، وحمدا لك.
باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال
وقع فيه الأمر فانتصب لأنه موقوع فيه الأمر
وذلك قولك: قتلته صبراً، ولقيته فجاءة ومفاجأةً، وكفاحاً ومكافحةً، ولقيته عياناً، وكلمته مشافهةً، وأتيته ركضاً وعدواً ومشياً، وأخذت ذلك عنه سمعاً وسماعاً. وليس كل مصدر وإن كان في القياس مثل ما مضى من هذا الباب يوضع هذا الموضع؛ لأن المصدر ههنا في موضع فاعل إذا كان حالاً. ألا ترى أنه لا يحسن أتانا سرعةً ولا أتانا رجلةً، كما أنه ليس كل مصدر يستعمل في باب سقياً وحمداً.
واطرد في هذا الباب الذي قبله لأن المصدر هناك ليس في موضع فاعل.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو زهير بن أبي سلمى:
فلأياً بلأي ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصله
كأنه يقول: حملنا " وليدنا " لأياً بلأي، كأنه يقول: " حملناه " جهداً بعد جهد. هذا لا يتكلم به ولكنه تمثيل.
ومثله قول الراجز:
ومنهل وردته التقاطاً
" أي فجاءةً " .
واعلم أن هذا الباب أتاه النصب كما أتى الباب الأول، ولكن هذا جواب لقوله: كيف لقيته؟ كما كان الأول جواباً لقوله: لمه؟
وهذا ما جاء منه في الألف واللاموذلك قولك: أرسلها العراك. قال لبيد بن ربيعة:
فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال
كأنه قال: اعتراكاً.
وليس كل المصادر في هذا الباب يدخله الألف واللام، كما أنه ليس كل مصدر في باب الحمد لله، والعجب لك، تدخله الألف واللام، وإنما شبه بهذا حيث كان مصدراً وكان غير الاسم الأول.
وهذا ما جاء منه مضافاً معرفةً
وذلك قولك: طلبته جهدك، كأنه قال: اجتهاداً. وكذلك طلبته طاقتك.
وليس كل مصدر يضاف، كما أنه ليس كل مصدر تدخله الألف واللام في هذا الباب. وأما فعلته طاقتي فلا تجعل نكرة، كما أن معاذ الله لا تجعل نكرة. ومثل ذلك: فعله رأى عيني، وسمع أذني قال ذاك.
وإن قلت: سمعاً جاز، إذا لم تختص نفسك، ولكنه كقولك: أخذته عنه سماعاً.
هذا باب ما جعل من الأسماء مصدراً
كالمضاف في الباب الذي يليه وذلك قولك: مررت به وحده، ومررت بهم وحدهم، ومررت برجل وحده.

ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز: مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم،وكذلك إلى العشرة.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إذا نصب ثلاثتهم فكأنه يقول: مررت بهؤلاء فقط، لم أجاوز هؤلاء. كما أنه إذا قال: وحده فإنما يريد: مررت به فقط لم أجاوزه.
وأما بنو تميم فيجرونه على الاسم الأول: إن كان جراً فجراً، وإن كان نصباً فنصباً، وإن كان رفعاً فرفعاً.
وزعم الخليل أن الذين يجرونه فكأنهم يريدون أن يعموا، كقولك: مررت بهم كلهم، أي لم أدع منهم أحداً.
وزعم الخليل رحمه الله، حيث مثل نصب وحده وخمستهم، أنه كقولك: أفردتهم إفراداً. فهذا تمثيل، ولكنه لم يستعمل في الكلام.
ومثل خمستهم قول الشماخ:
أتتني سليم قضها بقضيضها ... تمسح حولي بالبقيع سبالها
كأنه قال: انقضاضهم، " أي " انقضاضاً. ومررت بهم قضهم بقضيضهم، كأنه يقول: مررت بهم انقضاضاً. فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به كما كان إفراداً تمثيلاً.
وإنما ذكرنا الإفراد في وحده، والانقضاض في قضهم، لأنه إذا قال: قضهم فهو مشتق من في معنى الانقضاض، لأنه كأنه يقول: انقض آخرهم على أولهم. وكذلك وحده إنما هو من معنى التفرد، فكذلك أيضاً يكون خمستهم نصباً إذا أردت معنى الانفراد، فإن أردت أنك لم تدع منهم أحداً جررت، كما كان ذلك في قضهم.
وبعض العرب يجعل قضهم بمنزلة كلهم، يجريه على الوجوه.
هذا باب ما يجعل من الأسماء مصدراً
كالمصدر الذي فيه الألف واللام نحو العراكوهو قولك: مررت بهم الجماء الغفير، والناس فيها الجماء الغفير. فهذا ينتصب كانتصاب العراك.
وزعم الخليل رحمه الله أنهم أدخلوا الألف واللام في هذا الحرف وتكلموا به على نية مالا تدخله الألف واللام، وهذا جعل كقولك: مررت بهم قاطبة ومررت بهم طراً، " أي جميعاً؛ إلا أن هذا نكرة لا يدخله الألف واللام، كما أنه ليس كل المصادر بمنزلة العراك، كأنه قال: مررت بهم جميعاً. فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به. فصار طراً " وقاطبة بمنزلة سبحان " الله " في بابه، لأنه لا يتصرف كما أن طراً وقاطبة لا يتصرفان، وهما في موضع المصدر، ولا يكونان معرفةً، ولو كانا صفةً لجريا على الاسم أو بنيا على الابتداء فلم يوجد ذا في الصفة. وقد رأينا المصادر قد صنع ذا بها لأنها لا تصرف، فشبه هذا بها.
باب ما ينتصب أنه حال

يقع فيه الأمر وهو اسم
وذلك قولك: مررت بهم جميعاً، وعمةً وجماعةً، كأنك قلت: مررت بهم قياماً.
وإنما فرقنا بين هذا الباب والباب الأول لأن الجميع وعامةً اسمان متصرفان، تقول: كيف عامتكم؟ وهؤلاء قوم جميع.
فإذا كان الاسم حالاً يكون فيه الأمر لم تدخله الألف واللام ولم يضف. لو قلت: ضربته القائم تريد: قائماً كان قبيحاً، ولو قلت: ضربتهم قائميهم تريد: قائمين كان قبيحاً. فلما كان كذلك جعلوا ما أضيف ونصب نحو خمستهم بمنزلة طاقته وجهده " ووحده " ، وجعلوا الجماء الغفير بمنزلة العراك، وجعلوا قاطبة وطرا إذا لم يكونا اسمين بمنزلة الجميع وعامة، كقولك: كفاحاً ومكافحة وفجاءة. فجعلت هذه كالمصادر المعروفة البينة، كما جعلوا عليك ورويدك كالفعل المتمكن، وكما جعلوا سبحان الله ولبيك، بمنزلة حمداً وسقياً. فهذا تفسير الخليل رحمه الله وقوله.
وزعم يونس أن وحده بمنزلة عنده، وأن خمستهم والجماء الغفير وقضهم كقولك: جميعاً " وعامة " ، وكذلك: طرا وقاطبة بمنزلة وحده، وجعل المضاف بمنزلة كلمته فاه إلى فى.
وليس مثله، لأن الآخر هو الأول عند يونس في المسألة الأولى، وفاه إلى فى ههنا غير الأول، وأما طرا وقاطبة فأشبه بذلك، لأنه جيد أن يكون حالاً غير المصدر نكرة، والذي نأخذ به الأول.
وأما كلهم وجميعهم وأجمعون وعامتهم وأنفسهم فلا يكن أبداً إلا صفة. وتقول: هو نسيج وحده، لأنه اسم مضاف إليه بمنزلة نفسه إذا قلت: هذا جحيش وحدة وجعل يونس نصب وحده كأنك قلت: مررت برجل على حياله، فطرحت " على " ، فمن ثم قال: هو مثل عنده. وهو عند الخليل كقولك: مررت به خصوصاً.
ومررت بهم خمستهم مثله، ومثل قولك: مررت بهم عما. ولا يكون مثل جميعاً لما ذكرت لك، وصار وحده بمنزلة خمستهم لأنه مكان قولك: مررت به واحده، " فقام وحده مقام واحده " . فإذا قلت: وحده فكأنك قلت هذا.
هذا بابما ينتصب من المصادر توكيداً لما قبله

وذلك قولك: هذا عبد الله حقا، وهذا زيد الحق لا الباطل، وهذا زيد غير ما تقول.
وزعم الخليل رحمه الله أن قوله: هذا القول لا قولك، إنما نصبه كنصب غير ما تقول لأن " لا قولك " في ذلك المعنى. ألا ترى أنك تقول: هذا القول لا ما تقول، فهذا في موضع نصب. فإذا قلت: لا قولك، فهو في موضع لا ما تقول.
ومثل ذلك في الاستفهام: أجدك لا تفعل كذا وكذا؟ كأنه قال: أحقا لا تفعل كذا وكذا؟ وأصله من الجد كأنه قال: أجدا، ولكنه لا يتصلاف ولا يفارقه الإضافة كما كان ذلك في لبيك ومعاذ الله.
وأما " غير ما تقول " فلا تعرى من أن تكون في هذا الموضع مضافة إلى اسم معروف، نحو قولك؛ لأنه لو قال غير قول، أولا قولاً، لم يكن في هذا بيان، لأنه ليس كل قول باطلا، وإنما يريد أن يحقق الأول بأمر معروف.
ولو قال: هذا الأمر غير قيل باطل كان حسنا، لأنه قد وكد أول كلامه بأمر معروف وقد اختصه، فصار بمنزلة قولك: لا قولك حين جعله مضافاً، لأنك قد اختصصته من جميع القول بإضافتك، وأنه يسوغ أن يكون قوله باطلا ولا يسوغ أن يكون جميع الأقوال باطلا.
ومن ذلك قولك: قد قعد البتة، ولا يستعمل إلا معرفة بالألف واللام، كما أن جهدك وأجدك لا يستعملان إلا معرفة بالإضافة.
وأما الحق والباطل فيكونان معرفة بالألف واللام ونكرة؛ لأنهما لم ينزلا منزلة ما لم يتمكن من المصادر كسبحان وسعديك، ولكنهم أنزلوهما منزلة الظن، وكذلك اليقين لأنك تحقق به كما تفعل ذلك بالحق. فأنزل ما ذكرنا غير هذا بمنزلة عمرك الله وقعدك الله.
هذا بابما يكون المصدر فيه توكيداً لنفسه نصباً
وذلك قولك: له على ألف درهم عرفاً. ومثل ذلك قول الأحوص:
إنى لأمنحك الصدود وإننى ... قسماً إليك مع الصدود لأميل
وإنما صار توكيداً لنفسه لأنه حين قال: له على، فقد أقر واعترف؛ وحين قال: لأميل، علم أنه بعد حلف؛ ولكنه قال: عرفاً وقسماً وتوكيداً كما " أنه إذا " قال: سير عليه فقد علم أنه كان سير، ثم قال: سيراً توكيداً. واعلم أنه قد تدخل الألف واللام في التوكيد في هذه المصادر المتمكنة التي تكون بدلاً من اللفظ بالفعل: كدخولها في الأمر والنهي والخبر والاستفهام، فأجرها في هذا الباب مجراها هناك.
وكذلك الإضافة بمنزلة الألف واللام.
فأما المضاف فقول الله تبارك وتعالى: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله " وقال الله تبارك وتعالى: " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله لا يخلف الله وعده " . وقال جل وعز: " الذى أحسن كل شيء خلقه " . وقال جل ثناؤه: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم " . ومن ذلك: الله أكبر دعوة الحق. لأنه لما قال جل وعز: " مر السحاب " ، وقال: " أحسن كل شيء " ، علم أنه خلق وصنع، ولكنه وكد وثبت للعباد. ولما قال: " حرمت عليكم أمهاتكم " حتى انقضى الكلام، علم الخاطبون أن هذا مكتوب عليهم، مثبت عليهم، وقال: كتاب الله، توكيدا كما قال: صنع الله، وكذلك: وعد الله، لأن الكلام الذي قبله وعد وصنع، فكأنه قال جل وعز: وعداً وصنعاً وخلقاً وكتاباً. وكذلك: دعوة الحق؛ لآنه قد علم أن قولك: الله أكبر، دعاء الحق ولكنه توكيد، كأنه قال: دعاء حقا. قال رؤبة:
إن نزارا أصبحت نزارا ... دعوة أبرار دعوا أبرارا
لأن قولك: أصبحت نزاراً، بمنزلة: هم على دعوة بارة.
وقد زعم بعضهم أن كتاب الله " نصب " على قوله: عليكم كتاب الله. وقال: قوم صبغة الله منصوبة على الأمر. وقال بعضهم: لا بل توكيدا. والصبغة: الدين.
وقد يجوز الرفع فيما ذكرنا أجمع على أن يضمر شيئاً هو المظهر، كأنك قلت: ذاك وعد الله، وصبغة الله، أو هو دعوة الحق. على هذا ونحوه رفعه. ومن ذلك قوله جل وعز: " كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ " ، كأنه قال: ذاك بلاغ.
واعلم أن، هذا الباب أتاه النصب كمنصوب بما قبله من المصادر في أنه ليس بصفة ولا من اسم قبله، وإنما ذكرته لتؤكد به، ولم تحمله على مضمر يكون ما بعده رفعاً وهو مفعول به.
ومثل نصب هذا الباب قول الشاعر، وهو الراعى:
دأبت إلى أن ينبت الظل بعد ما ... تقاصر حتى كاد في الآل يمصح
وجيف المطايا ثم قلت لصحبتى ... ولم ينزلوا أبردتم فتروحوا

لأنه قد عرف أن قوله " دأبت " : سرت، لما ذكر في صدر قصيدته، فصار دأبت بمنزلة أوجفت عنده، فجعل وجيف المطايا توكيداً لأوجفت الذي هو في ضميره.
واعلم أن نصب هذا " الباب " المؤكد به العام منه وما وكد به نفسه، ينصب على إضمار فعل غير كلامك الأول، لإنه ليس في معنى كيف ولا لم، كأنه قال: أحق حقاً، فجعله بدلاً كظنا من أظن، ولا أقول قولك وأقول غير ما تقول، وأتجد جدك، وكتب الله تبارك وتعالى كتابه، وادعوا دعاء حقا، وصبغ الله صبغة، ولكن لا يظهر الفعل لأنه صار بدلاً منه بمنزلة سقيا.
وكذلك توجه سائر الحروف من هذا الباب، كما فعلت ذلك في باب سقياً وحمداً لك.
باب ما ينتصب من المصادر لأنه حالصار فيه المذكور وذلك قولك: أما سمنا فسمين، وأما علماً فعالم.
وزعم الخليل رحمه الله أنه بمنزلة قولك: أنت الرجل علماً وديناً، وأنت الرجل فهماً وأدباً، أي أنت الرجل في هذه الحال. وعمل فيه ما قبله وما بعده، ولم يحسن في هذا الوجه الألف واللام كما لم يحسن فيما كان حالاً وكان في موضع فاعل حالا. وكذلك هذا، فانتصب المصدر لأنه حال مصير فيه.
ومن ذلك قولك: أما علماً فلا علم له، وأما علماً فلا علم عنده، وأما علماً فلا علم وتضمر له، لأنك إنما تعني رجلاً.
وقد يرفع هذا في لغة بني تميم، والنصب في لغتها أحسن؛ " لأنهم يتوهمون الحال " . فإن أدخلت الألف واللام رفعوا، لأنه يمتنع من أن يكون حالاً.
وتقول: أما العلم فعالم بالعلم، وأما العلم فعالم بالعلم. فالنصب على أنك لم تجعل العلم الثاني العلم الأول الذي لفظت به قبله، كأنك قلت: أما العلم فعالم بالأشياء. وأما الرفع فعلى أنه جعل العلم الآخر هو العلم الأول، فصار كقولك: أما العلم فأنا عالم به، وأما العلم فما أعلمني به. فهذا رفع لأن المضمر هو العلم، فصار كقولك: أما العلم فحسن.
فإن جعلت الهاء غير العلم الأول نصبت، كأنك قلت: أما علماً فما أعلمني بعبد الله.
وإذا قلت: أما الضرب فضارب، فهذا ينتصب على وجهين: على أن يكون الضرب مفعولا كقولك: أما عبد الله فأنا ضارب، ويكون نصباً على قولك: أما علماً فعالم، كأنك قلت: أما ضرباً فضارب، فيصير كقولك: أما ضربا فذو ضرب.
وقد ينصب أهل الحجاز في هذا الباب بالألف واللام، لأنهم قد يتوهمون في هذا الباب غير الحال، وبنو تميم كأنهم لا يتوهمون غيره، فمن ثم لم ينصبوا في الألف واللام، وتركوا القبح. فكأن الذي توهم أهل الحجاز الباب الذي ينتصب لأنه موقوع له، نحو قولك فعلته مخافة ذلك. وذلك قولهم: أما النبل فنبيل، وأما العقل فهو الرجل الكامل، كأنه قال: هو الرجل الكامل العقل والرأي، أي للعقل والرأي، وكأنه أجاب من قال: لمه؟ وعلى هذا الباب فأجر جميع ما أجريته نكرة حالا إذا أدخلت فيه الألف واللام. قال الشاعر:
ألا ليت شعرى هل إلى أم معمر ... سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا
وأما بنو تميم فيرفعون لما ذكرت لك، فيقولون: أما العلم فعالم، كأنه قال: فأنا أو فهو عالم به. وكان إضمار هذا أحسن عندهم من أن يدخلوا فيه مالا يجوز، كما قال سبحانه: " يوماً لا تجزى نفس " ، أضمر " فيه " وقال الشاعر، " عبد الرحمن بن حسان " :
ألا يا ليل ويحك نبئينا ... فأما الجود منك فليس جود
أي فليس لنا منك جود.
ومما ينتصب من الصفات حالاً كما انتصب المصدر الذي يوضع موضعه ولا يكون إلا حالاً، قوله: أما صديقاً مصافياً فليس بصديق مصاف، وأما طاهراً فليس بطاهر، وأما عالماً فعالم. فهذا نصب لأنه جعله كائناً في حال علم وخارجا من حال طهور ومصادقة.
والرفع لا يجوز هنا، لأنك قد أضمرت صاحب الصفة، وحيث قلت أما العلم فعالم فلم تضمر مذكورا قبل كلامك وهو العلم، فمن ثم حسن في هذا الرفع ولم يجز الرفع في الصفة. ولا يكون في الصفة الألف واللام؛ لأنه ليس بمصدر فيكون جواباً لقوله لمه، وإنما المصدر تابع له ووضع في موضعه حالا.
واعلم أن ما ينتصب في هذا الباب فالذي بعده أو قبله من الكلام قد عمل فيه، كما عمل في الحذر ما قبله، إذا قلت: أكرمته حذر أن أعاب، وكما عمل في قوله: أتاه مشياً وماشياً.
باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه

الوجه في جميع اللغات

وزعم يونس أنه قول أبي عمرو. وذلك قولك: أما العبيد فذو عبيد، وأما العبد فذو عبد، وأما عبدان فذو عبدين.
وإنما اختير الرفع لأن ما ذكرت في هذا الباب أسماء والأسماء لا تجري مجرى المصادر. ألا ترى أنك تقول: هو الرجل علماً وفقهاً، ولا تقول: هو الرجل خيلاً وإبلاً. فلما قبح ذلك جعلوا ما بعده خبراً له، كأنهم قالوا: أما العبيد فأنت فيهم أو أنت منهم ذو عبيد، أي لك من العبيد نصيب، كأنك أردت أن تقول: أما من العبيد أو أما في العبيد فأنت ذو عبيد. إلا أنك أخرت في ومن وأضمرت فيهما أسماءهم.
وأما قوله: أما العبد فأنت ذو عبد، فكأنه قال: أما في العبد فأنت ذو عبد، ولكنه أخر في وأضمر فيه اسمه كما فعل ذلك في العبيد، فلما قبح عندهم أ، يكون بمنزلة المصدر ولم يكن مما يجوز فيه عندهم ذلك حملوه على هذا، فراراً من أن يدخلوا في المصدر ما ليس منه، كما فعلت تميم ذلك في العلم حين رفعوه. وكأنك قلت: أما العبيد فهم لك، وأما العبد فهو لك، لأنك ذلك المعنى تريد.
وسمعنا من العرب من يقول: أما ابن مزنية فأنا ابن مزنية؛ كأنه قال: أما ابن مزنية فأنا ذاك، جعل الآخر هو الأول كماكان قائلاً ذلك في الألف واللام: أما ابن المزنية فأنا ابن المزنية. وإن شئت نصبته على الحال كما قلت: أما صديقاً فأنت صديق وأما صاحبا فأنت صاحب.
وزعم يونس أن قوماً من العرب يقولون: أما العبيد فذو عبيد، وأما العبد فذو عبد، يجرونه مجرى المصدر سواء. وهو قليل خبيث. وذلك أنهم شبهوه بالمصدر كما شبهوا الجماء الغفير بالمصدر، وشبهوا خمستهم بالمصدر. كأن هؤلاء أجازوا: هو الرجل العبيد والدراهم، أي للعبيد وللدراهم، وهذا لا يتكلم به، وإنما وجهه وصوابه الرفع، وهو قول العرب وأبي عمرو ويونس، ولا أعلم الخليل خالفهما. وقد حملوه على المصدر، فقال النحويون: أما العلم والعبيد فذو علم وذو عبيد. وهذا قبيح، لأنك لو أفردته كان الرفع الصواب، فخبث إذ أجرى غير المصدر كالمصدر، وشبهوه بما هو في الرداءة مثله، وهو قولهم: ويل لهم وتب.
وأما قوله: أما البصرة فلا بصرة لك، وأما الحارث فلا حارث لك، وأما أبوك فلا أبا لك، فهذا لا يكون فيه أبداً إلا الرفع؛ لأنه اسم " معروف " ومعلوم؛ قد عرف المخاطب منه مثل ما قد عرفت، كأنك قلت: أما الحارث فلا حارث لك بعده أو فلا حارث لك سواه، وكأنه قال: أما البصرة فليست لك، وأما الحارث فليس لك؛ لأن ذلك المعنى تريد.
ولو قال: أما العبيد فأنت ذو عبيد، يريد عبيداً بأعيانهم قد عرفهم المخاطب كمعرفتك، كأنك قلت: أما العبيد الذين تعرف، لم يكن إلا رفعا. وقوله ذو عبيد كأنه قال: أنت فيهم أو منهم ذو عبيد. ولو قال: أما أبوك فلك أب، لكان على قوله: فلك به أب أو فيه أب، وإنما يريد بقوله: فيه أب مجرى الأب على سعة الكلام، وليس إلى النصب ههنا سبيل.
وإنما جاز النصب في العبيد حين لم يجعلهم شيئاً معروفاً بعينه لأنه يشبهه بالمصدر، والمصدر قد تدخله الألف واللام وينتصب على ما ذكرت لك. فإذا أردت شيئاً بعينه وكان هو الذي تلزمه الإشارة، جرى مجرى زيد وعمرو وأبيك.
وأما قول الناس للرجل: أما أن يكون عالما فهو عالم، وأما أن يعلم شيئاً فهو عالم، فقد يجوز أن تقول: أما أن لا يكون يعلم فهو يعلم وأنت تريد " أن " يكون، كما جاءت: " لئلا يعلم أهل الكتاب " في معنى لأن يعلم أهل الكتاب. فهذا يشبه أن يكون بمنزلة المصدر، لأن أن مع الفعل الذي يكون صلة بمنزلة المصدر،كأنك قلت: أما علما وأماكينونة علم فأنت عالم. ألا ترى أنك تقول: أنت الرجل أن تنازل أو " أن " تخاصم، كأنك قلت نزالاً وخصومة، وأنت تريد المصدر الذي في قوله فعل ذاك مخافة ذاك. ألا ترى أنك تقول: سكت عنه أن أجتر مودته، كما تقول: اجترار مودته. ولا تقع أن وصلتها حالاً يكون الأول في حال وقوعه، لأنها إنما تذكر لما لم يقع بعد. فمن ثم أجريت مجرى المصدر الأول الذي هو جواب لمه؟
باب ما ينتصب من الأسماء التي ليست بصفةولا مصادر لأنه حال يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول به

وبعض العرب يقول: كلمته فوه إلى فى، كأنه يقول: كلمته وفوه إلى فى، أي كلمته وهذه حالة. فالرفع على قوله كلمته وهذه حاله، والنصب على قوله: كلمته في هذه الحال، فانتصب لأنه حال وقع فيه الفعل. وأما بايعته يداً بيد، فليس فيه إلا النصب، لأنه لا يحسن أن تقول: بايعته ويد بيد، ولم يرد أن يخبر أنه بايعه ويده في يده، ولكنه أراد أن يقول: بايعته بالتعجيل، ولا يبالي أقريباً كان أم بعيداً.
وإذا قال: كلمته فوه إلى فى، فإنما يريد أن يخبر عن قربه منه، وأنه شافهه ولم يكن بينهما أحد.
ومثله من المصادر في أن تلزمه الإضافة وما بعدها مما يجوز فيه الابتداء ويكون حالاً، قوله: رجع فلان عوده على بدئه، وانثنى فلان عوده على بدئه، كأنه قال: انثنى عوداً على بدء. ولا يستعمل في الكلام رجع عوداً على بدء، ولكنه مثل به.
ومن رفع فوه إلى فى، أجاز الرفع في قوله: رجع فلان عوده على بدئه.
ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه الفعل قولك: بعت الشاء شاة ودرهماً، وقامرته درهماً في درهم، وبعته دارى ذراعاً بدرهم، وبعت البرقفيز بن بدرهم، وأخذت زكاة ماله درهماً لكل أربعين درهماً، وبينت له حسابه باباً باباً، وتصدقت بمالي درهماً درهماً.
واعلم أن هذه الأشياء لا ينفرد منها شيء دون ما بعده، وذلك أنه لا يجوز أن تقول: كلمته فاه حتى تقول إلى فى، لأنك إنما تريد مشافهة، والمشافهة لا تكون إلا من اثنين، فإنما يصح المعنى إذا قلت إلى فى، ولا يجوز أن تقول بايعته يداً، لأنك إنما تريد أن تقول: أخذ مني وأعطاني، فإنما يصح المعنى إذا قلت: بيد لأنهما عملان. ولا يجوز أن تقول: انثنى عوده لأنك إنما تريد أنه لم يقطع ذهابه حتى وصله برجوع، وإنما أردت أنه رجع في حافرته أي نقض مجيئه برجوع، وقد يكون أن ينقطع مجيئه ثم يرجع فيقول: رجعت عودي على بدئي، أي رجعت كما جئت.. فالمجئ موصول به الرجوع، وهو بدء والرجوع عود.
ولا يجوز أن تقول: بعت داري ذراعا، وأنت تريد بدرهم، فيرى المخاطب أن الدار كلها ذراع. ولا يجوز أن تقول: بعت شائي شاة شاة، وأنت تريد بدرهم، فيرى المخاطب أنك بعتها الأول فالأول على الولاء. ولا يجوز أن تقول: بينت له حسابه باباً، فيرى المخاطب أنك إنما جعلت له حسابه باباً واحداً غير مفسر. ولا يجوز تصدقت بمالي درهماً، فيرى المخاطب أنك تصدقت بدرهم واحد. وكذلك هذا وما أشبهه.
وأما قول الناس: كان البر قفيزين، وكان السمن منوين، فإنما استغنوا هاهنا عن ذكر الدرهم لما في صدورهم من علمه، ولأن الدرهم هو الذي يسعر عليه، فكأنهم إنما يسألون عن ثمن الدرهم في هذا الموضع، كما يقولون: البربستين، وتركوا ذكر الكر؛ استغناء بما في صدورهم من علمه، وبعلم المخاطب، لأن المخاطب قد علم ما يعني، فكأنه إنما يسأل هنا عن ثمن الكر كما سأل الأول عن ثمن الدرهم. وكذلك هذا وما أشبهه فأجره كما أجرته العرب.
وزعم الخليل أنه يجوز: بعت الشاء شاة ودرهم، إنما يريد شاة بدرهم، ويجعل بدرهم خبراً للشاة وصارت الواو بمنزلة الباء في المعنى، كما كانت في قولك: كل رجل وضيعته، في معنى مع.
وإذا قلت شاة بدرهم، فإن بدرهم ليس مبنياً على اسم قبله ولكنه إنما جاء ليبين به السعر، كما جاءت " لك " في سقياً، لتبين من تعني. فالباء هاهنا بمنزلة إلى في قولك: فاه إلى في، ولم تبن على ما قبلها.
وكذلك ما انتصب في هذا الباب وكان ما بعده مما يجوز أن يبنى على ما قبله في هذا الباب.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن تقول: بعت الدار ذراع بدرهم، كما جاز لك في الشاء. وزعم أنه يقول: بعت دارى الذراعان بدرهم، وبعت البر القفيزان بدرهم. ولم يشبه هذا بقوله: فاه إلى في، لأن هذا في بابه بمنزلة المصار التي تكون حالاً يقع فيها الأمر، نحو قولك: لقيته كفاحاً، ونحو قوله: أرسلها العراك، وفعلت ذاك طاقتي.
وليس كل مصدر في هذا الباب تدخله الألف واللام ويكون معرفة بالإضافة، وليس كل المصادر في هذا الباب يكون فيها هذا فالأسماء أبعد.

فلذلك كان الذراع رفعاً لأنه لا يجوز أن " تجعله معرفة وتجعله حالاً يكون فيه الأمر، كما أنه لا يجوز لك أن " تدخل الألف واللام في قولك لقيته قائماً وقاعداً، أن تقولك لقيته القائم والقاعد، ولا " تقول " : ضربته القائم، فلما قبح ذلك في الذراع جعل بمنزلة قولك: لقيته يده فوق رأسه. ومثل ذلك: بعته ربح الدرهم درهم، لا يكون فيه النصب على حال. وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: ربحت الدرهم درهماً، محال، حتى تقول: في الدرهم وللدرهم.
وكذلك وجدنا العرب تقول.
فإن قال قائل: فاحذف حرف الجر وأنوه. قيل له: لا يجوز ذلك كما لا تقول مررت أخاك وأنت تريد بأخيك. فإن قال: لا يجوز حذف الباء من هذا قيل له: فهذا لا يقال أيضاً.
وقال الخليل رحمه الله: كلمني يده في يدي الرفع لا يكون غيره؛ لأن هذا لايكون من صفة الكلام.
وقال الخليل رحمه الله: إن شئت جعلت: رجعت عودك في بدئك مفعولاً بمنزلة قولك: رجعت المال على، أي رددت المال علي، كأنه قال: ثنيت عودى على بدئى.
هذا باب

ما ينتصب فيه الاسم لأنه حال يقع فيه السعر
وإن كنت لم تلفظ بفعل، ولكنه حال يقع فيه السعر، فينتصب كما انتصب لو كان حالاً وقع فيه الفعل، لأنه في أنه حال وقع فيه أمر في الموضعين سواء. وذلك قولك: لك الشاء شاة بدرهم شاة بدرهم. وإن شئت ألغيت لك فقلت: لك الشاء شاة بدرهم شاة بدرهم، كما قلت: فيها زيد قائم، رفعت.
وإذا قلت: الشاء لك، فإن شئت رفعت، وإن شئت نصبت، وصار لك الشاء إذا نصبت بمنزلة وجب الشاء، كما كان فيها زيد قائماً بمنزلة: استقر زيد قائماً.
باب يختار فيه الرفع والنصب، لقبحه
أن يكون صفة
وذلك قولك: مررت ببر قبل قفيز بدرهم قفيز بدرهم. وسمعنا العرب الموثوق بهم ينصبونه، سمعناهم يقولون: العجب من بر مررنا به قبل قفيزاً بدرهم " قفيزا بدرهم " ، فحملوه على المعرفة وتركوا النكرة، لقبح النكرة أن تكون موصوفة بما ليس صفة، وإنما هو اسم كالدرهم والحديد. ألا ترى أنك تقول: هذا مالك درهماً، وهذا خاتمك حديداً ولا يحسن أن تجعله صفة، فقد يكون الشيء حسناً إذا كان خبرا وقبيحاً إذا كان صفة. وأما الذين رفعوه فقالوا: مررت ببر قبل قفيز بدرهم، فجعلوا القفيز مبتدأ. وقولك بدرهم مبنياً عليه.
باب ما ينتصب من الصفات كانتصاب الأسماءفي الباب الأول وذلك قولك: أبيعكه الساعة ناجزا بناجز، وسادوك كابراً عن كابر. فهذا كقولك: بعته رأساً برأس.
باب ما ينتصب فيه الصفة لأنه حال
وقع فيه الألف واللام
شبهوه بما يشبه من الأسماء بالمصادر، نحو قولك: فاه إلى في، وليس بالفاعل ولا المفعول. فكما شبهوا هذا بقولك عوده على بدئه وليس بمصدر، كذلك شبهوا الصفة بالمصدر، وشذ هذا كما شذت المصادر في بابها حيث كانت حالاً وهي معرفة، وكما شذت الأسماء التي وضعت موضع المصدر.
وما يشبه بالشيء في كلامهم وليس مثله في جميع أحواله كثير، وقد بين فيما مضى وستراه أيضاً إن شاء الله. وهو قولك: دخلوا الأول فالأول، وجرى على قولك واحداً فواحداً ودخلوا رجلا رجلاً.
وإن شئت رفعت فقلت: دخلوا الأول فالأول، جعله بدلا وحمله على الفعل، كأنه قال: دخل الأول فالأول.
وإن شئت قلت: دخلوا رجل فرجل، تجعله بدلاً كما قال عز وجل: " بالناصية. ناصية كاذبة " .
فإن قلت: ادخلوا، فأمرت فالنصب الوجه، ولا يكون بدلاً؛ لأنك لو قلت: ادخل الأول فالأول أو رجل رجل، لم يجز، ولا يكون صفة، لأنه ليس معنى الأول فالأول أنك تريد أن تعرفه بشيء تحليه به. لو قلت: قومك الأول فالأول أتونا لم يستقم، وليس معناه معنى كلهم فأجرى مجرى خمستهم ووحده.
ولا يجوز في غير الأول هذا، كما لا يجوز أن تقول: مررت به واحده ولا بهما اثنيهما.
وكان عيسى يقول: ادخلوا الأول فالأول؛ لأن معناه ليدخل، فحمله على المعنى، وليس بأبعد من: " ليبك يزيد ضارع لخصومة " فإذا قلت:ادخلوا الأول والآخر والصغير والكبير، فالرفع؛ لأن معناه معنى كلهم، كأنه قالك ليدخلوا كلهم.

وإذا أردت بالكلام أن تجريه على الاسم كما تجري النعت لم يجز أن تدخل الفاء؛ لأنك لو قلت: مررت بزيد أخيك وصاحبك، كان حسنا، ولو قلت: مررت بزيد أخيك فصاحبك، والصاحب زيد، لم يجز. وكذلك لو قلت: زيد أخزك فصاحبك ذاهب، لم يجز. ولو قلتها بالواو حسنت، كما أنشد كثير من العرب، والبيت لأمية بن أبي عائذ:
ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعث مراضيع مثل السعالي
ولو قلت " فشعث " قبح.
" وقال الخليل: ادخلوا الأول فالأول والوسط والآخر. لا يكون فيه غيره وقال: يكون على جواز كلكم، حمله على البدل " .
هذا باب

ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال
تقع فيها الأمور وذلك قولك: هذا بسراً أطيب منه رطباً. فإن شئت جعلته حيناً قد مضى، وإن شئت جعلته حيناً مستقبلاً. وإنما قال الناس هذا منصوب على إضمار إذا كان فيما يستقبل، وإذ كان فيما مضى، لأن هذا لما كان ذا معناه أشبه عندهم أن ينتصب على إذا كان. " ولو كان على إضمار كان لقلت: هذا التمر أطيب منه البسر؛ لأن كان قد ينصب المعرفة كما ينصب النكرة، فليس هو على كان ولكنه حال " .
ومنه: مررت برجل أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون، وبرجل خير ما يكون خير منك خير ما تكون، وهو أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون. فهذا كله محمول على مثل ما حملت عليه ما قبله.
وإن شئت قلت: مررت برجل خير ما يكون خير منك، كأنه يريد برجل خير أحواله خير منك، أي خير من أحوالك. وجاز له أن يقول: خير منك، وهو يريد: " خير " من أحوالك، كما جاز أن تقول: نهارك صائم وليلك قائم.
وتقول: البر أرخص ما يكون قفيزان، أي البر أرخص أحواله التي يكون عليها قفيزان، كأنك قلت: البر أرخصه قفيزان.
ومن ذلك هذا البيت تنشده العرب على أوجه، بعضهم يقول، وهو قول عمرو بن معد يكرب:
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى ببزتها لكل جهول
أي أعرب أولها فتية ولكنه أنث الأول، كما تقول: ذهبت بعض أصابعه. وبعضهم يقول:
" الحرب أول ما تكون فتية "
أي إذا كانت في ذلك الحين. وبعضهم يقول:
" الحرب أول ما تكون فتية "
كأنه قال: الحرب أول أحوالها إذا كانت فتية، كما تقول: عبد الله أحسن ما يكون قائماً. ومن رفع الفتية ونصب الأول على الحال قال: البر أرخص ما يكون قفيزان. ومن نصب الفتية ورفع الأول قال: البر أرخص ما يكون قفيزين.
وأما عبد الله أحسن ما يكون قائماً فلا يكون فيه إلا النصب؛ لأنه لا يجوز لك أن تجعل أحسن أحواله قائماً على وجه من الوجوه.
وتقول: عبد الله أخطب ما يكون يوم الجمعة، والبداوة أطيب ما تكون شهري ربيع، كأنك قلت: أخطب ما يكون عبد الله في يوم الجمعة، وأطيب ما تكون البداوة في شهري ربيع.
ومن العرب من يقول: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة، وأطيب ما تكون البداوة شهرا ربيع، كأنه قال: أخطب أيام الأمير يوم الجمعة، وأطيب أزمنة البداوة شهرا ربيع. وجاز أخطب أيامه يوم الجمعة على سعة الكلام، وكأنه قال: أطيب الازمنة التي تكون فيها البداوة شهرا ربيع، وأخطب الأيام التي يكون فيها الأمير خطيباً يوم الجمعة.
وتقول: آتيك يوم الجمعة أبطوه، على معنى ذاك أبطؤه. كأنه قيل له أي غاية هذه عندك وأي إتيان ذا عندك، أسريع أم بطيء؟ فقال: أبطوه، على معنى: ذاك أبطؤه.
وتقول: آتيك يوم الجمعة أو يوم السبت أبطؤه أو يوم السبت أبطؤه، واعطيته درهما أو درهمين أكثر ما أعيته، " وأعطيته درهما أو درهمان أكثر ما أعطيته " . وإن شاء نصب الدرهمين وقال: أكثر ما أعطيته. وإن شاء نصب أكثر أيضاً على أنه حال وقعت فيه العطية. وإن شاء قال: آتيك يوم الجمعة أبطأه، أي أبطأ الإتيان يوم الجمعة.
باب ما ينتصب من الأماكن والوقتوذلك لأنها ظروف تقع فيها الأشياء، وتكون فيها، فانتصب لأنه موقوع فيها ومكون فيها، وعمل فيها ما قبلها، كما أن العلم إذا قلت أنت الرجل علماً عمل فيه ما قبله، وكما عمل في الدرهم عشرون إذا قلت: عشرون درهماً. وكذلك يعمل فيها ما بعدها وما قبلها.
فالمكان قولك هو خلفك، وهو قدامك وأمامك، وهو تحتك وقبالتك، وما أشبه ذلك.
ومن ذلك قولك أيضاً: هو ناحية من الدار، " وهو ناحية الدار، وهو ناحيتك وهو نحوك " ، وهو مكاناً صالحاً، وداره ذات اليمين، وشرقى كذا قال الشاعر، وهو جرير:

هبت جنوباً فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التي شرقي حورانا
وقالوا: منازلهم يميناً " ويساراً " وشمالاً. قال الشاعر، وهو عمرو ابن كلثوم:
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
أي على ذات اليمين، حدثنا بذلك يونس عن أبي عمرو، وهو رأيه. وتقول: هو قصدك، كما قال الشاعر، وسمعنا بعض العرب ينشده كذا:
سرى بعدما غار الثريا وبعدما ... كأن الثريا حلة الغور منخل
أي قصده، يقال هو حلة الغور أي قصده، سمعنا ذلك ممن يوثق به من العرب.
ويقال: هما خطان جنابتى أنفها يعني الخطين اللذين اكتنفا جنبي أنف الظبية. وقال الشاعر، وهو الأعشى:
نحن الفوارس يوم الحنو ضاحية ... جنبي فطيمة لا ميل ولا عزل
فهذا كله انتصب على ما هو فيه وهو غيره، وصار بمنزلة المنون الذي يعمل فيما بعده نحو العشرين، ونحو قوله: " هو " خير منك عملاً، فصار " هو " خلفك، وزيد خلفك بمنزلة ذلك. والعامل في خلف الذي هو موضع له والذي هو في موضع خبره، كما أنك إذا قلت: عبد الله أخوك فالآخر قد رفعه الأول وعمل فيه، وبه استغنى الكلام، وهو منفصل منه.
ومن ذلك قول العرب: هو موضعه، وهو مكانه، وهذا مكان هذا، وهذا رجل مكانك، إذا أردت البدل. كأنك قلت: هذا في مكان ذا، وهذا رجل في مكانك. ويقال للرجل: اذهب معك بفلان، فيقول: معي رجل مكان فلان، أي معي رجل يكون بدلاً منه ويغني غناءه، ويكون في مكانه.
واعلم أن هذه الأشياء كلها انتصابها من وجه واحد.
ومثل ذلك: هو صددك، وهو سقبك، وهو قربك.
واعلم أن هذه الأشياء كلها قد تكون أسماء غير ظروف، بمنزلة زيد وعمرو. سمعنا من العرب من يقول: دارك ذات اليمين. وقال الشاعر، وهو لبيد:
فغدت، كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها
ومن ذلك أيضاً: هذا سواءك، وهذا رجل سواءك فهذا بمنزلة مكانك إذا جعلته في معنى بذلك. ولا يكون اسماً إلا في الشعر. قال بعض العرب، لما اضطر في الشعر جعله منزلة غير، قال الشاعر وهو رجل من الأنصار:
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا قعدوا منا ولا من سوائنا
وقال الآخر، وهو الأعشى:
تجانف عن جو اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا
ومثل ذلك: أنت كعبد الله، كأنه يقول: أنت كعبد الله، أي أنت في حال كعبد الله، فأجرى مجرى بعبد الله. إلا أن ناسا من العرب إذا اضطروا في الشعر جعلوها بمنزلة مثل. قال الراجز " وهو حميد الأرقط " :
فصيروا مثل كعصف مأكول
وقال خطام المجاشعى:
وصاليات ككما يؤثفين
ويدلك على أن سواءك وكزيد يمنزلة الظروف، أنك تقول: مررت بمن سواءك وعلى من سواءك، والذي كزيد، فحسن هذا كحسن من فيها والذي فيها، ولا تحسن الأسماء ههنا ولا تكثر في الكلام. لو قلت: مررت بمن فاضل، أو الذي صالح، كان قبيحاً. فهكذا مجرى كزيد وسواءك.
وتقول: كيف أنت إذا أقبل قبلك ونحى نحوك، كأنه قال: كيف أنت إذا أريدت ناحيتك وإذا أريد ما عندك حين قال: إذا نحى نحوك، وأما حين قال: أقبل قبلك فكأنه قال: كيف أنت إذا أقبل النقب الركاب، جعلهما اسمين.
وزعم الخليل رحمه الله أن النصب جيد إذا جعله ظرفاً، وهو بمنزلة قول العرب: هو قريب منك، وهو قريباً منك، أي مكاناً قريباً منك.
حدثنا يونس أن العرب تقول في كلامها: هل قريباً منك أحد، كقولهم: هل قربك أحد.
وأما دونك فإنه لا يرفع أبداً، وإن قلت: هو دونك في الشرف؛ لأن هذا إنما هو مثل كما كان هذا مكان ذا في البدل مثلاً، ولكنه على السعة. وإنما الأصل في الظروف الموضع والمستقر من الأرض ولكنه جاز هذا كما تقول: إنه لصلب القناة، وإنه لمن شجرة صالحة، ولكنه على السعة. وأما قصد قصدك فمثل نحى نحوك، وأقبل قبلك، يرتفع كما يرتفعان وينتصب كما ينتصبان. وإن شئت قلت: هو دونك، إذا جعلت الأول الآخر ولم تجعله رجلاً. وقد يقولون: هو دون، في غير الإضافة، أي هو دون من القوم، وهذا ثوب دون، إذا كان رديئاً.

واعلم أنه ليس كل موضع و " لا " كل مكان يحسن أن يكون ظرفاً فمما لا يحسن أن يكون ظرفاً أن العرب لاتقول هو جوف المسجد ولا هو داخل الدار ولا هو خارج الدار، حتى تقول: هو في جوفها، وفي داخل الدار، ومن خارجها. وإنما فرق بين خلف وما أشبهها وبين هذه الحروف، لأن خلف وما أشبهها للأماكن التي تلي الأسماء من أقطارها. على هذا جرت عندهم، والجوف والخارج عندهم بمنزلة الظهر والبطن والرأٍس واليد، وصارت خلف وما أشبهها تدخل على كل اسم فتصير أمكنة تلي الاسم من نواحيه وأقطاره، ومن أعلاه وأسفله، وتكون ظروفا كما وصفت لك، وتكون أسماء كقولك: هو ناحية الدار إذا أردت الناحية بعينها، وهو في ناحية الدار، فتصير بمنزلة قولك: هو في بيتك وفي دارك.
ويدلك على أن المجرور بمنزلة الاسم غير الظرف أنك تقول: زيد وسط الدار وضربت وسطه، وتقول: في وسط الدار، فيصير بمنزلة قولك: ضربت وسطه مفتوحاً مثله.
واعلم أن الظروف بعضها أشد تمكنا من بعض في الأسماء، نحو القبل والقصد والناحية. وأما الخلف والأمام والتحت فهن أقل استعمالاً في الكلام أن تجعل أسماء. وقد جاءت على ذلك في الكلام والأشعار.
وهذه حروف تجري مجرى خلفك وأمامك، ولكنا عزلناها لنفسر معانيها، لأنها غرائب.
فمن ذلك حرفان ذكرناهما في الباب الأول ثم لم نفسر معناهما، وهما صددك ومعناه القصد، وسقبك ومعناه القرب، ومنه قول العرب: هو وزن الجبل أي ناحية منه، وهم زنة الجبل أي حذاءه.
ومن ذلك قول العرب: هم قرابتك أي قربك، يعني المكان. وهم قرابتك في العلم، أي قريباً منك في العلم. وكان هذا بمنزلة قول العرب: هو حذاءه وإزاءه، وحواليه بنو فلان، وقومك أقطار البلاد.
ومن ذلك قول الشاعر، وهو أبو حية النميري:
إذا ما نعشناه على الرحل ينثني ... مساليه عنه من وراء ومقدم
ومسالاه: عطفاه، فصار بمنزلة " جنبي فطيمة " :
باب ما شبه من الأماكن المختصةبالمكان غير المختص شبهت به إذ كانت تقع على الأماكن وذلك قول العرب، سمعناه منهم: هو منى منزلة الشغاف، وهو مني منزلة الولد.
ويدلك على أنه ظرف قولك: هو مني بمنزلة الولد فإنما أردت أن تجعله في ذلك الموضع، فصار كقولك: منزلي مكان كذا وكذا وهو مني مزجر الكلب، وأنت مني مقعد القابلة، وذلك إذا دنا فلزق بك من بين يديك. قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب:
فوردن والعيوق مقعد رابئ ال ... ضرباء خلف النجم لا يتتلع
وهو منك مناط الثريا.
وقال الأحوص:
وإن بني حرب كما قد علمتم ... مناط الثريا قد تعلت نجومها
وقال: هو مني معقد الإزار، فأجرى هذا مجرى قولك: هو مني مكان السارية، وذلك لأنها أماكن، ومعناها هو مني في المكان الذي يقعد فيه الضرباء، وفي المكان الذي نيط به الثريا، وبالمكان الذي ينزل به الولد، وأنت مني في المكان الذي تقعد فيه القابلة، وبالمكان الذي يعقد عليه الإزار، فإنما أراد هذا المعنى ولكنه حذف الكلام. وجاز ذلك كما جاز دخلت البيت وذهبت الشأم؛ لأنها أماكن وإن لم تكن كالمكان.
وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت: هو مني مجلسك أو متكأ زيد، أو مربط الفرس، لم يجز. فاستعمل من هذا ما استعملت العرب، وأجز منه ما أجازوا.
ومن ذلك قول العرب: هو مني درج السيل، أي مكان درج السيل من السيل. قال الشاعر، وهو ابن هرمة:
أنصب للمنية تعتريهم ... رجالي أم هم درج السيول
ويقال رجع أدراجه، أي رجع في الطريق الذي جاء فيه. هذا معناه فأجرى مجرى ما قبله، كما أجروا ذلك المجرى درج السيول.
وأما ما يرتفع من هذا الباب فقولك: هو مني فرسخان، وهو مني عدوة الفرس، ودعوة الرجل، " وغلوة السهم " ، وهو مني يومان، وهو مني فوت اليد. فإنما فارق هذا الباب الأول لأن معنى هذا أنه يخبر أن بينه وبينه فرسخين ويومين، ودعوة الرجل، وفوتاً. ومعنى فوت اليد أنه يريد أن يقرب ما بينه وبينه. فهذا على هذا المعنى، وجرى على الكلام الأول، كأنه هو لسعة الكلام، كما قالوا: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة.
وأما قول العرب: أنت مني مرأى ومسمع، فإنما رفعوه لأنهم جعلوه هو الأول، حتى صار بمنزلة قولهم: أنت مني قريب.
وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون:
أنصب للمنية تعتريهم ... رجالي أم هم درج السيول

فجعلهم هم الدرج، كما تقول: زيد قصدك، إذا جعلت القصد زيداً، وكما يجوز لك أن تقول: عبد الله خلفك، إذا جعلته هو الخلف.
واعلم أن هذه الحروف بعضها أشد تمكناً في أن يكون اسماً من بعض، كالقصد والنجو، والقبل والناحية، وأما الخلف والأمام والتحت والدون فتكون أسماء، وكينونة " تلك " أسماء أكثر وأجرى في كلامهم. وكذلك مرأى ومسمع كينونتهما أسماء أكثر، ومع ذلك إنهم جعلوه اسماً خاصاً، بمنزلة المجلس والمتكأ وما أشبه ذلك، فكرهوا أن يجعلوه ظرفاً. وقد زعموا أن بعض الناس ينصبه، يجعله بمنزلة درج السيول، فينصبه، وهو قليل، كأنهم لما قالوا: بمرأى ومسمع فصار غير الاسم الأول في المعنى واللفظ، شبهوه بقوله: هو مني يمنزلة الولد.
وقد زعم يونس أن ناساً يقولون: هو مني مزجر الكلب، يجعلونه بمنزلة مرأى ومسمع. وكذلك مقعد ومناط، يجعلونه هو الأول فيجري، كقول الشاعر:
وأنت مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل
وإنما حسن الرفع ههنا لأنه جعل الآخر هو الأول، كقولك: له رأس رأس الحمار. ولو جعل الآخر ظرفاً جاز، ولكن الشاعر أراد أن يشبه مكانه بذلك المكان.
وأما قولهم: دارى خلف دارك فرسخاً، فانتصب لأن خلف خبر للدار، وهو كلام قد عمل بعضه في بعض واستغنى، فلما قال: دارى خلف دارك أبهم، فلم يدر ما قدر ذاك، فقال: فرسخاً وذراعاً وميلاً، أراد أن يبين. فيعمل هذا الكلام في هذه الغايات بالنصب كما عمل: له عشرون درهماً في الدرهم، كأن هذا الكلام شيء منون يعمل فيما ليس من اسمه ولا هو هو، كما كان: أفضلهم رجلاً، بتلك المنزلة.
وإن شئت قلت: دارى خلف دارك فرسخان، تلغي خلف كما تلغي فيها إذا قلت: فيها زيد قائم.
وزعم يونس أن أبا عمرو كان يقول: داري من خلف دارك فرسخان، فشبهه بقولك: دارك مني فرسخان، لأن خلف ههنا اسم، وجعل من فيها بمزلتها في الاسم. وهذا مذهب قوي.
وأما العرب فتجعله بمنزلة قولك: خلف، فتنصب وترفع، لأنك تقول: أنت من خلفي، ومعناه أنت خلفي، ولكن الكلام حذف. ألا ترى أنك تقول: دارك من خلف داري، فيستغنى الكلام.
وتقول: أنت مني فرسخين، أي أنت مني ما دمنا نسير فرسخين، فيكون ظرفاً كما كان ما قبله مما شبه بالمكان.
وأما الوقت والساعات والأيام والشهور والسنون، وما أشبه ذلك من الأزمنة والأحيان التي تكون في الدهر، فهو قولك: " القتال يوم الجمعة " ، إذا جعلت يوم الجمعة ظرفاً، و " الهلال الليلة " . وإنما انتصبا لأنك جعلتهما ظرفاً وجعلت القتال في يوم الجمعة، والهلال في الليلة.
وإن قلت: الليلة الهلال، واليوم القتال نصبت، التقديم والتأخير في ذلك سواء. وإن شئت رفعت فجعلت الآخر الأول.
وكذلك: اليوم الجمعة واليوم السبت، وإن شئت رفعت. فأما اليوم الأحد، واليوم الاثنان، فإنه لا يكون إلا رفعاً، وكذلك إلى الخميس، لأنه ليس يعمل فيه كأنك أردت أن تقول: اليوم الخامس والرابع. وكذلك: اليوم خمسة عشر من الشهر، إنما أردت هذا اليوم تمام خمسة عشر من الشهر، ويومان من الشهر رفع كله، فصار بمنزلة قولك: العام عامها.
ومن العرب من يقول: اليوم يومك، فيجعل اليوم الأول بمنزلة الآن، لأن الرجل قد يقول: أنا اليوم أفعل ذاك، ولا يريد يوماً بعينه.
وتقول: عهدي به قريباً وحديثاً، إذا لم تجعل الآخر هو الأول. فإن جعلت الآخر هو الأول رفعت. وإذا نصبت جعلت الحديث والقريب من الدهر. وتقول: عهدي به قائماً وعلمي به ذا مال، فتنصب على أنه حال وليس بالعهد ولا العلم، وليسا هنا ظرفين.
وتقول: ضربي عبد الله قائماً، على هذا الذي ذكرت لك.
واعلم أن ظروف الدهر أشد تمكنا في الأسماء، لأنها تكون فاعلة ومفعولة. تقول: أهلكك الليل والنهار، واستوفيت أيامك، فأجرى الدهر هذا المجرى. فأجر الأشياء كما أجروها.
هذا باب الجروالجر إنما يكون في كل اسم مضاف إليه. واعلم أن المضاف إليه ينجر بثلاثة أشياء: بشيء ليس باسم ولا ظرف، وبشيء يكون ظرفاً، وباسم لا يكون ظرفاً.
فأما الذي ليس باسم ولا ظرف فقولك: مررت بعبد الله، وهذا لعبد الله، وما أنت كزيد، ويالبكر، وتالله لا أفعل ذاك ومن وفي ومذ، وعن ورب وما أشبه ذلك، وكذلك أخذته عن زيد، وإلى زيد.

وأما الحروف التي تكون ظرفاً فنحو خلف وأمام، وقدام ووراء، وفوق وتحت، وعند وقبل، ومع وعلى، لأنك تقول: من عليك، كما تقول: من فوقك، وذهب من معه.
وعن أيضاً ظرف بمنزلة ذات اليمين والناحية. ألا ترى أنك تقول: من عن يمينك، كما تقول: من ناحية كذا وكذا.
وقبالة، ومكانك، ودون، وقبل، وبعد، وإزاء، وحذاء، وما أشبه هذا من الأمكنة والأزمنة. وذلك قولك: أنت خلف عبد الله، وأمام زيد، وقدام أخيك، وكذلك سائر هذه الحروف.
وهذه الظروف أسماء، ولكنها صارت مواضع للأشياء.
وأما الأسماء فنحو: مثل، وغير، وكل، وبعض. ومثل ذلك أيضاً الأسماء المختصة نحو: حمار، وجدار، ومال، وأفعل نحو قولك: هذا أعمل الناس، وما أشبه هذا من الأسماء كلها، وذلك قولك: هذا مثل عبد الله، وهذا كل مالك وبعض، وهذا حمار زيد وجدار أخيك، ومال عمرو. وهذا أشد الناس.
وأما الباء وما أشبهها فليست بظروف ولا أسماء، ولكنها يضاف بها إلى الاسم ما قبله أو ما بعده. فإذا قلت: يا لبكر فإنما أردت أن تجعل ما يعمل في المنادى من الفعل المضمر مضافاً إلى بكر باللام.
وإذا قلت: مررت بزيد، فإنما أضفت المرور إلى زيد بالباء، وكذلك هذا لعبد الله. وإذا قلت: أنت كعبد الله، فقد أضفت إلى عبد الله الشبه بالكاف. وإذا قلت: أخذته من عبد الله فقد أضفت الأخذ إلى عبد الله بمن. وإذا قلت:مذ زمان فقد أضفت الأمر إلى وقت من الزمان " بمذ " . وإذا قلت: أنت في الدار فقد أضفت كينونتك في الدار إلى الدار بفي. وإذا قلت: فيك خصلة سوء، فقد أضفت إليه الرداءة بفي. وإذا قلت: رب رجل يقول ذاك، فقد أضفت القول إلى الرجل برب. وإذا قلت: بالله والله وتالله فإنما أضفت الحلف إلى الله سبحانه. كما أضفت النداء باللام إلى بكر حين قلت: يالبكر. وكذلك رويته عن زيد، أضفت الرواية إلى زيد بعن.
باب مجرى النعت على المنعوت..

والشريك على الشريك والبدل على المبدل منه وما أشبه ذلك
فأما النعت الذي جرى على المنعوت فقولك: مررت برجل ظريف قبل، فصار النعت مجروراً مثل المنعوت لأنهما كالاسم الواحد. " وإنما صارا كالاسم الواحد " من قبل أنك لم ترد الواحد من الرجال الذين كل واحد منهم رجل، ولكنك أردت الواحد من الرجال الذين كل واحد منهم رجل ظريف، فهو نكرة، وإنما كان نكرة لأنه من أمة كلها له مثل اسمه. وذلك أن الرجال كل واحد منهم رجل، والرجال الظرفاء كل واحد منهم رجل ظريف، فاسمه يخلطه بأمته حتى لا يعرف منها.
فإن أطلت النعت فقلت: مررت برجل عاقل كريم مسلم، فأجره على أوله.
ومن النعت أيضاً: مررت برجل أيما رجل، فإيما نعت للرجل في كماله وبذة غيره، كأنه قال: مررت برجل كامل.
ومنه: مررت برجل حسبك من رجل. فهذا نعت للرجل بإحسابه إياك من كل رجل. وكذلك: كافيك من رجل، وهمك من رجل، " وناهيك من رجل " ، ومررت برجل ما شئت من رجل، ومررت برجل شرعك من رجل، ومررت برجل هدك من رجل، " وبامرأة هدك من امرأة " . فهذا كله على معنى واحد، وما كان منه يجري فيه الإعراب فصار نعتاً لأوله جرى على أوله.
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: مررت برجل هدك من رجل، ومررت بامرأة هدتك من امرأة؛ فجعله فعلاً " مفتوحاً، كأنه قال: فعل وفعلت " ، بمنزلة كفاك وكفتك.
ومن النعت أيضاً: مررت برجل مثلك. فمثلك نعت على أنك قلت هو رجل كما أنك رجل، ويكون نعتاً أيضاً على أنه لم يزد عليك ولم ينقص عنك في شيء من الأمور. ومثله: مررت برجل مثلك، أي صورته شبيهة بصورتك، وكذلك: مررت برجل ضربك وشبهك. وكذلك نحوك، يجرين في المعنى والإعراب مجرى واحداً، وهن مضافات إلى معرفة صفات لنكرة.
" ويونس يقول:هذا مثلك مقبلاً، وهذا زيد مثلك، إذا قدمه جعله معرفة وإذا أخره جعله نكرة. ومن العرب من يوافقه على ذلك " .
ومنه: مررت برجل شر منك، فهو نعت على أنه نقص أن يكون مثله.
ومنه: مررت برجل خير منك، فهو نعت له بأنه قد زاد على أن يكون مثله.
ومنه: مررت برجل غيرك، فغيرك نعت يفصل به بين من نعته بغير وبين من أضفتها إليه حتى لا يكون مثله أو يكون مر باثنين.
ومنه: مررت برجل آخر، " فآخر " نعت على نحو غير.
ومنه: مررت برجل حسن الوجه، نعت الرجل بحسن وجهه ولم تجعل فيه الهاء هي إضمار الرجل، كما تقول: حسن وجهه، لأنه إذا قيل حسن الوجه علم أنه لا يعني من الوجوه إلا وجهه.

ومثل ذلك: مررت بامرأة حسنة الوجه، إنما أدخلت الهاء في الحسنة لأن الحسنة إنما وقعت نعتاً لها ثم بلغت به بعد ما صار نعتاً لها حيث أردت، فمن ثم صارت فيها الهاء. وليست بمنزلة حسن وجهه في اللفظ وإن كان المعنى واحداً؛ لأن الحسن ههنا للأول ثم تضيفه إلى من تريد، وحسن الوجه مضاف إلى معرفة صفة للنكرة، فلما كانت صفة للنكرة أجريت مجراها كما جرت مجراها أخواتها مثل وما أشبهها.
ومما يكون نعتاً للنكرة وهو مضاف إلى معرفة قول الشاعر، امرؤ القيس:
بمنجرد قيد الأوابد لاحه ... طراد الهوادي كل شأ ومغرب
ومنه أيضاً: مررت على ناقة عبر الهواجر. ومما يكون مضافاً إلى المعرفة ويكون نعتاً للنكرة الأسماء التي أخذت من الفعل فأريد بها معنى التنوين. من ذلك: مررت برجل ضاربك، فهو نعت على أنه سيضربه، كأنك قلت: مررت برجل ضارب زيداً، ولكن حذف التنوين استخفافاً. وإن أظهرت الاسم وأردت التخفيف والمعنى معنى التنوين، جرى مجراه حين كان الاسم مضمراً، وذلك قولك: مررت برجل ضاربه رجل؛ فإن شئت حملته على أنه سيفعل، وإن شئت على أنك مررت به وهو في حال عمل، وذلك قوله عز وجل: " هذا عارض ممطرنا " . فالرفع ههنا كالجر في باب الجر.
واعلم أن كل مضاف إلى معرفة وكان للنكرة صفة فإنه إذا كان موصوفاً أو وصفاً أو خبراً أو مبتدأً، بمنزلة النكرة المفردة. ويدلك على ذلك قول " الشاعر، وهو " جرير:
ظللنا بمستن الحرور كأننا ... لدى فرس مستقبل الريح صائم كأنه قال: لدى مستقبل صائم.
وقال المرار الأسدي:
سل الهموم بكل معطى رأسه ... ناج مخالط صهبة متعيس
مغتال أحبله مبين عنقه ... في منكب زبن المطى عرندس
سمعناه ممن يرويه من العرب ينشده هكذا. ومنه أيضاً قول ذي الرمة:
سرت تخبط الظلماء من جانبي قساً ... وحب بها من خابط الليل زائر
فكأنهم قالوا: بكل معط " رأسه " ، ومن خابط " الليل " . ومثله قول جرير:
يارب غابطنا لو كان يعرفكم ... لاقى مباعدة منكم وحرمانا
وقال أبو محجن الثقفي:
يا رب مثلك في النساء غريرة ... بيضاء قد متعتها بطلاق
فرب لا يقع بعدها إلا نكرة، فذلك يدلك على أن " غابطنا " " ومثلك " نكرة.
ومن ذلك قول العرب: لي عشرون مثله ومائة مثله، فأجروا ذلك بمنزلة عشرين درهماً ومائة درهم. فالمثل وأخواته كأنه كالذي حذف منه التنوين في قوله مثل زيداً وقيد الأوابد. وهذا تمثيل، ولكنها كمائة وعشرين، فلزمها شيء واحد وهو الإضافة. يريد أنك أردت معنى التنوين. فمثل ذلك قولهم: مائة درهم.
وزعم يونس أنه يقول: عشرون غيرك، على قوله عشرون مثلك.
وزعم يونس والخليل رحمهما الله، أن الدرهم ليست نكرة؛ لأنهم يقولون: مائة الدرهم التي تعلم، فهي بمنزلة عبد الله.
وزعم يونس والخليل أن هذه الصفات المضافة إلى المعرفة، التي صارت صفة للنكرة، قد يجوز فيهن كلهن أن يكون معرفة، وذلك معروف في كلام العرب. يدلك على ذلك أنه يجوز لك أن تقول: مررت بعبد الله ضاربك، فجعلت ضاربك بمنزلة صاحبك.
وزعم يونس أنه يقول: مررت بزيد مثلك، إذا أرادوا مررت بزيد المعروف بشبهك، فتجعل مثلك معرفة. ويدلك على ذلك قوله: هذا مثلك قائما، كأنه قال هذا أخوك قائماً. إلا حسن الوجه فإنه بمنزلة رجل، لا يكون معرفة. وذاك أنه يجوز لك أن تقول: هذا الحسن الوجه، فيصير معرفة بالألف واللام، كما يصير الرجل معرفة بالألف واللام ولا يكون معرفة إلا بهما.
ومن النعت أيضاً: مررت برجل إما قائم وإما قاعد، فقد أعلمهم أنه ليس بمضطجع " ولكنه " شك في القيام والقعود، وأعلمهم أنه على أحدهما.
ومن النعت أيضاً: مررت برجل لا قائم ولا قاعد، جر لأنه نعت، كأنك قلت: مررت برجل قائم، وكأنك تحدث من في قلبه أن ذاك الرجل قائم أو قاعد، فقلت: لا قائم ولا قاعد، لتخرج ذلك من قلبه.
ومنه: مررت برجل راكب وذاهب، واستحقهما لا لأن الركوب قبل الذهاب. ومنه: مررت برجل راكب فذاهب استحقهما إلا أنه بين أن الذهاب بعد الركوب وأنه لا مهلة بينهما وجعله متصلاً به.
ومنه: مررت برجل راكب ثم ذاهب، فبين أن الذهاب بعده، وأن بينهما مهلة، وجعله غير متصل به فصيره على حدة.

ومنه: مررت برجل راكع أو ساجد، فإنما هي بمنزلة إما وإما، إلا أن إما يجاء بها ليعلم أنه يريد أحد الأمرين، وإذا قال " أو " ساجد فقد يجوز أن يقتصر عليه.
ومنه: مررت برجل راكع لا ساجد، لإخراج الشك أو لتأكيد العلم فيهما.
ومنه: مررت: برجل راكع بل ساجد، إما غلط فاستدرك، وإما نسي فذكر.
ومنه: مررت برجل حسن الوجه جميلة، جر لأنه حسن الخاصة جميلها، والوجه ونحوه خاص، ولو كان حسن العامة لقال حسن جميل.
ومنه: مررت برجل ذي مال، أي صاحب مال.
ومنه: مررت برجل رجل صدق، منسوب إلى الصلاح. كأنك قلت: مررت برجل صالح. وكذلك: مررت برجل رجل سوء، كأنك قلت: مررت برجل فاسد؛ لأن الصدق صلاح والسوء فساد. وليس الصدق ههنا بصدق اللسان، لو كان كذلك لم يجز لك أن تقول هذا ثوب صدق وحمار صدق، وكذلك السوء ليس في معنى سؤته.
ومن النعت أيضاً: مررت برجلين مثلين، فتفسير المثلين أن كل واحد منهما مثل صاحبه. ومثل ذلك سيان، وسواء.
ومنه: مررت برجلين مثلك، أي كل واحد منهما مثلك، ووجه آخر على انهما جميعاً مثلك. وكل ذلك جر.
ومنه: مررت برجلين غيرك، فإن شئت حملته على أنهما غيره في الخصال وفي الأمور، وإن شئت على قوله: مررت برجلين آخرين إذا أردت أنه قد ضم معك في المرور سواك، فيصير كقولك: برجل آخر، إذا ثني به.
ومنه: مررت برجلين سواء، على أنهما لي يزيدا على رجلين ولي ينقصا من رجلين. وكذلك مررت بدرهم سواء.
ومنه أيضاً: مررت برجلين مسلم وكافر، جمعت الاسم وفرقت النعت. وإن شئت كان المسلم والكافر بدلاً، كأنه أجاب من قال: بأي ضرب مررت؟ وإن شاء رفع كأنه أجاب من قال: فما هما؟ فالكلام على هذا وإن لم يلفظ به المخاطب؛ لأنه إنما يجري كلامه على قدر مسألتك عنده لو سألته.
وكذلك: مررت برجلين رجل صالح ورجل طالح، إن شئت صيرته تفسيراً لنعت، وصار إعادتك الرجل توكيداً. وإن شئت جعلته بدلاً، كأنه جواب لمن قال: بأي رجل مررت. فتركت الأول واستقبلت الرجل بالصفة. وإن شئت رفعت على قوله فما هما؟ ومما جاء في الشعر قد جمع فيه الاسم وفرق النعت وصار مجروراً قوله، " وهو رجل من باهلة " :
بكيت وما بكا رجل حليم ... على ربعين مسلوب وبال
كذا سمعنا العرب تنشده، والقوافي مجرورة.
ومنه أيضاً: مررت بثلاثة نفر: رجلين مسلمين ورجل كافر، جمعت الاسم وفصلت العدة ثم نعته وفسرته. وإن شئت أجريته مجرى الأول في الابتداء فترفعه، وفي البدل فتجره. قال " الرجز، وهو " العجاج:
خوى على مستويات خمس ... كركرة وثفنات ملس
وهذا يكون على وجهين: على البدل، وعلى الصفة.
ومثال ما يجيء في هذا الباب على الابتداء وعلى الصفة والبدل، قوله عز وجل: " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة " . ومن الناس من يجر والجر على وجهين: على الصفة، وعلى البدل. ومنه قول كثير عزة:
وكنت كذى رجلين: رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
فأما مررت برجل راكع وساجد، ومررت برجل رجل صالح، فليس الوجه فيه إلا الصفة، وليس هذا بمنزلة مررت برجلين مسلم وكافر ولا ما أشبهه، من قبل أنك ثم تبعض، كأنك قلت: أحدهما كذا والآخر كذا، ومنهم كذا " ومنهم كذا " .
وإذا قلت: مررت برجل قائم، ومررت برجل قاعد، فهذا اسم واحد. ولو قلت: مررت برجل مسلم وثلاثة رجال مسلمين لم يحسن فيه إلا الجر لأنك جعلت الكلام اسماً واحداً حتى صار كأنك قلت: مررت بقائم ومررت برجال مسلمين.
وهذا قول يونس: ولو جاز الرفع لقلت: كان عبد الله راكع؛ لأنك إن شبهته بالتبعيض فالتبعيض ههنا رفع، إذا قلت: كان أخواك راكع وساجد. ومثل ذلك: مرت برجل وامرأة وحمار قيام، فرقت الأسماء وجمعت النعت، فصارجمع النعت ههنا بمنزلة قولك: مررت برجلين مسلمين، لأن النعت ههنا ليس مبعضاً، ولو جاز في هذا الرفع لجاز مررت بأخيك وعبد الله وزيد قيام، فصار النعت ههنا مع الأسماء بمنزلة اسم واحد.
وتقول: مررت بأربعة صريع وجريح،لأن الصريع والجريح غير الأربعة، فصار على قولك: منهم صريع ومنهم جريح.

ومن النعت أيضاً: مررت برجل مثل رجلين، وذلك في الغناء " والجزء " . وهذا مثل قولك: مررت ببر ملء قدحين، فالذي يضاف إليه الملء مقياس ومكيال ومثقال ونحوه، والأول موزون ومقيس ومكيل. وكذلك: مررت برجلين مثل رجل في الغناء، كقولك: ببرين ملء قدح. وتقول: مررت برجل مثل رجل، وتقول: مررت برجل أسد شدة وجرأة، إنما تريد مثل الأسد. وهذا ضعيف قبيح، لأنه اسم لم يجعل صفة، وإنما قاله النحويون، شبه بقولهم: مررت بزيد أسداً شدة.
وقد يكون خبراً ما لا يكون صفة. " ومثله: مررت برجل نار حمرة " .
ومنه أيضاً: مررت برجل صالح بل طالح، وما مررت برجل كريم بل لئيم، أبدلت الصفة الآخرة من الصفة الأولى وأشركت بينهما بل في الإجراء على المنعوت. وكذلك: مررت برجل صالح بل طالح، ولكنه يجيء على النسيان أو الغلط، فيتدارك كلامه؛ لأنه ابتدأ بواجب.
ومثله: ما مررت برجل صالح لكن طالح، أبدلت الآخر من الأول فجرى مجراه في بل.
فإن قلت: مررت برجل صالح ولكن طالح، فهو محال، لأن لكن لا يتدارك بها بعد إيجاب، ولكنها يثبت بها بعد النفي. وإن شئت رفعت فابتدأت على هو فقلت: ما مررت برجل صالح ولكن طالح، وما مررت برجل صالح بل طالح، ومررت برجل صالح بل طالح؛ لأنها من الحروف التي يبتدأ بها.
ومن ذلك قوله عز وجل: " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون " . فالرفع ههنا بعد النصب كالرفع بعد الجر. وإن شئت كان الجر على أن يكون بدلاً على الباء.
واعلم أن بل، ولا بل، ولكن، يشركن بين النعتين فيجريان على المنعوت، كما أشركت بينهما الواو والفاء، وثم وأو، ولا، وإما وما أشبه ذلك.
وتقول: ما مررت برجل مسلم فكيف رجل راغب في الصدقة، بمنزلة: فأين راغب في الصدقة.
وزعم يونس أن الجر خطأ؛ لأن أين ونحوها يبتدأ بهن ولا يضمر بعدهن شيء، " كقولك: فهلا دينارا، إلا أنهما مما يكون بعدهما الفعل " .
ألا ترى أنك لو قلت: رأيت زيداً فأين عمراً، أو فهل بشراً لم يجز. وقد بين ترك إضمار الفعل فيما مضى. ولكن وبل لا يبتدآن ولا يكونان إلا على كلام، فشبهن بإما وأو ونحوهما.
ومما جرى نعتاً على غير وجه الكلام: " هذا جحر ضب خرب " ، فالوجه الرفع، وهو كلام أكثر العرب وأفصحهم. وهو القياس، لأن الخرب نعت الجحر والجحر رفع، ولكن بعض العرب يجره. وليس بنعت للضب، ولكنه نعت للذي أضيف إلى الضب، فجروه لأنه نكرة كالضب، ولأنه في موضع يقع فيه نعت الضب، ولأنه صار هو والضب بمنزلة اسم واحد. ألا ترى أنك تقول: هذا حب رمان. فإذا كان لك قلت: هذا حب رماني، فأضفت الرمان إليك، وليس لك الرمان إنما لك الحب.
ومثل ذلك: هذه ثلاثة أثوابك. فكذلك يقع على جحر ضب ما يقع على حب رمان، تقول: هذا جحر ضبي، وليس لك الضب إنما لك جحر ضب، فلم يمنعك ذلك من أن قلت جحر ضبي، والجحر والضب بمنزلة اسم مفرد، فانجر الخرب على الضب كما أضفت الجحر إليك مع إضافة الضب. ومع هذا أنهم أتبعوا الجر كما أتبعوا الكسر الكسر، نحو قولهم: بهم وبدارهم، وما أشبه هذا. وكلا التفسيرين تفسير الخليل، وكان كل واحد منهما عنده وجهاً من التفسير.
وقال الخليل رحمه الله: لا يقولون إلا هذان جحرا ضب خربان، من قبل أن الضب واحد والجحر جحران، وإنما بغلطون إذا كان الآخر بعدة الأول وكان مذكراً مثله أو مؤنثاً، وقالوا: هذه جحرة ضباب خربة، لأن الضباب مؤنثة ولأن الجحرة مؤنثهة، والعدة واحدة، فغلطوا.
وهذا قول الخليل رحمه الله، ولا نرى هذا والأول إلا سواء، لأنه إذا قال: هذا جحر ضب متهدم، ففيه من البيان أنه ليس بالضب، مثل ما في التثنية من البيان أنه ليس بالضب. وقال العجاج:
كأن نسج العنكبوت المرمل
فالنسج مذكر والعنكبوت أنثى.
باب ما أشرك بين الاسمين في الحرف الجار

فجريا عليه كما أشرك بينهما في النعت فجريا على المنعوت

وذلك قولك: مررت برجل وحمار قبل. قالوا وأشركت بينهما في الباء فجريا عليه، ولم تجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه يكون بها أولى من الحمار، كأنك قلت مررت بهما. فالنفي في هذا أن تقول: ما مررت برجل وحمار، أي ما مررت بهما، وليس في هذا دليل على أنه بدأ بشيء قبل شيء، ولا بشيء مع شيء، لأن يجوز أن تقول: مررت بزيد وعمرو والمبدوء به في المرور عمرو، " ويجوز أن يكون زيداً " ، ويجوز أن يكون المرور وقع عليهما في حالة واحدة.
فالواو تجمع هذه الأشياء على هذه المعاني. فإذا سمعت المتكلم يتكلم بهذا أجبته على أيها شئت؛ لأنها قد جمعت هذه الأشياء. وقد تقول: مررت بزيد وعمرو، على أنك مررت بهما مرورين، وليس في ذلك " دليل " على المرور المبدوء به، كأنه يقول: ومررت أيضاً بعمرو. فنفي هذا: ما مررت بزيد وما مررت بعمرو.
وسنبين النفي بحروفه في موضعه إن شاء الله.
ومن ذلك " قولك " : مررت بزيد فعمرو، ومررت برجل فامرأة. فالفاء أشركت بينهما في المرور، وجعلت الأول مبدوءاً به. ومن ذلك: مررت برجل ثم امرأة، فالمرور ههنا مروران، وجعلت ثم الأول مبدوءاً به وأشركت بينهما في الجر.
ومن ذلك " قولك " : مررت برجل أو امرأة، فأو أشركت بينهما في الجر، وأثبتت المرور لأحدهما دون الآخر، وسوت بينهما في الدعوى. فجواب الفاء: ما مررت بزيد فعمرو. وجواب ثم: ما مررت بزيد ثم عمرو. وجواب أو إن نفيت الاسمين: ما مررت بواحد منهما، وإن أثبت أحدهما قلت: ما مررت بفلان.
ومن ذلك: مررت برجل لا امرأة، أشركت بينهما لا في الباء وأحقت المرور للأول وفصلت بينهما عند من التبسا عليه فلم يدر بأيهما مررت.
هذا باب المبدل من المبدل منهوالمبدل يشرك المبدل منه في الجر وذلك قولك: مررت برجل حمار. فهو على وجه محال، وعلى وجه حسن.
فأما المحال فأن تعني أن الرجل حمار. وأما الذي يحسن فهو أن تقول: مررت برجل، ثم تبدل الحمار مكان الرجل فتقول: حمار، إما أن تكون غلطت أو نسيت فاستدركت، وإما أن يبدو لك أن تضرب عن مرورك بالرجل وتجعل مكانه مرورك بالحمار بعد ما كنت أردت غير ذلك.
ومثل ذلك قولك: لا بل حمار.
ومن ذلك قولك مررت برجل بل حمار، وهو على تفسير: مررت برجل حمار.
ومن ذلك: ما مررت برجل بل حمار، وما مررت برجل ولكن حمار، أبدلت الآخر من لأول وجعلته مكانه. وقد يكون فيه الرفع على أن يذكر الرجل فيقال: من أمره ومن أمره، فتقول أنت: قد مررت به، فما مررت برجل بل حمار ولكن حمار، أي بل هو حمار ولكن هو حمار.
ولو ابتدأت كلاماً فقلت: ما مررت برجل ولكن حمار، تريد: ولكن هو حمار، كان عربياً؛ أو بل حمار، أو لا بل حمار، كان كذلك، كأنه قال: ولكن الذي مررت به حمار.
وإذا كان قبل ذلك منعوت فأضمرته، أو اسم فأضمرته أو أظهرته، فهو أقوى؛ لأنك تضمر ما ذكرت وأنت هنا تضمر ما لم تذكر. وهو جائز عربي، لأن معناه ما مررت بشيء هو رجل؛ فجاز هذا كما جاز المنعوت المذكور نحو قولك: " ما " مررت برجل صالح بل طالح.
ومثل ذلك قوله عز وجل: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون " . فهذا على أنهم قد كانوا ذكروا الملائكة قبل ذلك بهذا، وعلى الوجه الآخر. والمعرفة والنكرة في لكن وبل ولا بل سواء.
ومن المبدل أيضاً قولك: قد مررت برجل أو امرأة، إنما ابتدأ بيقين ثم جعل مكانه شكا أبدله منه، فصار الأول والآخر الادعاء فيهما سواء، فهذا شبيه بقوله: ما مررت بزيد ولكن عمرو، ابتدأ بنفي ثم أبدل مكانه يقيناً.
وأما قولهم: أمررت برجل أم امرأة؟ إذا أردت معنى أيهما مررت به، فإن أم تشرك بينهما كما أشركت بينهما أو. وأما: ما مررت برجل فكيف امرأة، فزعم يونس أن الجر خطأ، وقال: هو بمنزلة أين. ومن جر هذا فهو ينبغي له أن يقول: ما مررت بعبد الله فلم أخيه، وما لقيت زيداً مرة فكم أبا عمرو؟ تريد: فلم مررت بأخيه؟ وفكم لقيت أبا عمرو؟ واعلم أن المعرفة والنكرة في باب الشريك والبدل سواء.
واعلم أن المنصوب والمرفوع في الشركة والبدل كالمجرور.
الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم
؟
هذا باب مجرى نعت المعرفة عليها

فالمعرفةُ خمسة أشياء: الأسماء التي هي أعلامٌ خاصةً، والمضاف الى المعرفة، إذا لم ترد معنى التنوين، والألف واللامُ، والأسماء المبهمة، والإضمارُ. فأما العلامة المختصة فنحو زَيدٍ وعَمرٍو، وعبدِ الله، وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفةً لأنه اسمٌ وقع عليه يُعرف به بعينه دون سائر أمته.
وأما المضاف الى معرفة فنحو قولك: هذا أخوك، ومررتُ بأبيك، وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفةً بالكاف التي أضيف إليها، لأن الكاف يراد بها الشيء بعينه دون سائر أمّته.
وأما الألف واللام فنحو الرجل والفرس والبعير وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفة لأنك أردت بالألف واللام الشيء بعينه دون سائر أمته، لأنك قلت: مررتُ برجلٍ، فإنك إنما زعمت أنك إنما مررت بواحدٍ ممن يقع عليه هذا الاسمُ، لا تريد رجلاً بعينه يعرفه المخاطَب. وإذا أدخلتَ الألف واللام فإنما تُذكّره رجلاً قد عرَفه، فتقول: الرجل الذي من أمره كذا وكذا؛ ليتوهّم الذي كان عهدَه ما تذكّر من أمره.
وأما الأسماء المبهمة فنحو هذا وهذه، وهذان وهاتان، وهؤلاء، وذلك وتلك، وذانك وتانك، وأولئك، وما أشبه ذلك. وإنما صارت معرفةً لأنها صارت أسماء إشارة الى الشيء دون سائر أمّته.
وأما الإضمار فنحو: هو، وإياه، وأنتَ، وأنا، ونحن، وأنتم، وأنتنّ، وهنّ، وهم، وهي، والتاء التي في فعَلتُ وفعلَتْ وفعلْتِ، وما زِيدَ على التاء نحو قولك: فعلتما وفعلتم وفعلتنّ، والواو التي في فعلُوا، والنون والألف اللتان في فعلْنا في الاثنين والجميع، والنون في فعلْنَ، والإضمار الذي ليست له علامة ظاهرة نحو: قد فعل ذلك، والألف التي في فعَلا، والكاف والهاء في رأيتُكَ ورأيته، وما زيدَ عليهما نحو: رأيتكما ورأيتكم، ورأيتهما، ورأيتهم، ورأيتكنّ ورأيتهنّ، والياء في رأيتُني، والألف والنون اللتان في رأيتَنا وغُلامُنا، والكاف والهاء اللتان في بكَ وبه وبها، وما زيد عليهنّ نحو قولك: بكما وبكم وبكنّ وبهما وبهم وبهنّ، والياء في غلامي وبي.
وإنما صار الإضمار معرفة لأنك إنما تضمِر اسماً بعد ما تعلم أن مَنْ يحدَّث قد عرف مَن تعني وما تعني، وأنك تريد شيئاً يعلمه.
واعلم أن المعرفة لا توصَف إلا بمعرفة، كما أن النكرة لا توصَف إلا بنكرة.
واعلم أن العَلَم الخاص من الأسماء يوصَف بثلاثة أشياء: بالمضاف الى مثله، وبالألف واللام، وبالأسماء المبهمة.
فأما المضاف فنحو: مررتُ بزيدٍ أخيك. والألف واللام نحو قولك: مررت بزيد الطويل، وما أشبه هذا من الإضافة والألف واللام. وأما المبهمة فنحو: مررتُ بزيد هذا وبعمرو ذاك.
والمضاف الى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء: بما أضيف كإضافته، وبالألف واللام، والأسماء المبهمة؛ وذلك: مررتُ بصاحبك أخي زيد، ومررتُ بصاحبك الطويل ومررت بصاحبك هذا.
فأما الألف واللام فتوصف بالألف واللام، وبما أضيف الى الألف واللام؛ لأن ما أضيف الى الألف واللام بمنزلة الألف واللام فصار نعتاً، كما صار المضاف الى غير الألف واللام صفةً لما ليس فيه الألف واللام، نحو مررتُ بزيد أخيك، وذلك قولك: مررتُ بالجميل النبيل، ومررتُ بالرجل ذي المال.
وإنما منع أخاك أن يكون صفةً للطويل أن الأخ إذا أضيف كان أخصَّ، لأنه مضاف الى الخاص والى إضماره، فإنما ينبغي لك أن تبدأ به وإن لم تكتفِ بذلك زدتَ من المعرفة ما تزداد به معرفة.
وإنما منع هذا أن يكون صفةً للطويل والرجل أن المخبِر أراد أن يقرّب به شيئاً ويشير إليه لتعرفه بقلبك وبعينك، دون سائر الأشياء. وإذا قال الطويل فإنما يريد أن يعرّفك شيئاً بقلبك ولا يريد أن يعرّفكه بعينك، فلذلك صار هذا يُنعت بالطويل ولا يُنعت الطويل بهذا، لأنه صار أخصَّ من الطويل حين أراد أن يعرّفه شيئاً بمعرفة العين ومعرفة القلب. وإذا قال الطويل فإنما عرّفه شيئاً بقلبه دون عينه، فصار ما اجتمع فيه شيئان أخصّ.

واعلم أن المبهمة توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام والصفات التي فيها الألف واللام جميعاً. وإنما وُصفتْ بالأسماء التي فيها الألف واللام لأنها والمبهمة كشيء واحد، والصفات التي فيها الألف واللام هي في هذا الموضع بمنزلة الأسماء وليست بمنزلة الصفات في زيد وعمرو إذا قلتَ مررتُ بزيد الطويل، لأني لا أريد أن أجعل هذا اسماً خاصاً ولا صفةً له يُعرف بها، وكأنك أردت أن تقول مررت بالرجل، ولكنك إنما ذكرت هذا لتقرّب به الشيء وتشير إليه.
ويدلّك على ذلك أنك لا تقول: مررتُ بهذين الطويل والقصير وأنت تريد أن تجعله من الاسم الأول بمنزلة هذا الرجل، ولا تقول: مررتُ بهذا ذي المال كما قلت: مررتُ بزيد ذي المال.
واعلم أن صفات المعرفة تجري من المعرفة مجرى صفات النكرة من النكرة، وذلك قولك: مررتُ بأخوَيْك الطويلَيْن؛ فليس في هذا إلا الجرّ كما ليس في قولك: مررت برجل طويل، إلا الجرّ.
وتقول: مررت بأخوَيْك الطويل والقصير، ومررتُ بأخوَيك الراكع والساجد، ففي هذا البدل، وفي هذا الصفة، وفيه الابتداء، كما كان ذلك في مررت برجلين صالح وطالح.
وإذا قلت: مررت بزيد الراكع ثم الساجد، أو الراكع فالساجد، أو الراكع لا الساجد، أو الراكع أو الساجد، أو إما الراكع وإما الساجد، وما أشبه هذا، لم يكن وجه كلامه إلا الجرّ كما كان ذلك في النكرة. فإن أدخلتَ بل ولكنْ جاز فيهما ما جاز في النكرة. فعلى هذا فقِس المعرفة. وقد مضى الكلام في النكرة فأغنى عن إعادته في المعرفة، لأن الحكم واحد.
واعلم أن كل شيء كان للنكرة صفةً فهو للمعرفة خبر، وذلك قولك: مررت بأخويك قائمَيْن، فالقائمان هنا نصب على حدّ الصفة في النكرة. وتقول: مررت بأخويك مسلماً وكافراً هذا على مَن جرّ وجعلهما صفةً للنكرة، ومن جعلهما بدلاً من النكرة جعلهما بدلاً من المعرفة كما قال الله عز وجل: " لَنَسْفَعاً بالناصيةِ. ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئة " . وأنشدنا لبعض العرب الموثوق بهم:
فإلى ابنِ أمّ أناسٍ ارحلُ ناقتي ... عمرٍو فتُبلغُ حاجتي أو تُزحِفُ
ملِكٍ إذا نزل الوفودُ ببابه ... عرَفوا مواردَ مُزبِدٍ لا يُنزَفُ
ومَن رفع في النكرة رفع في المعرفة. قال الفرزدق:
فأصبح في حيثُ التقينا شريدُهمْ ... طليقٌ ومكتوفُ اليدينِ ومُزعِفُ
وقال آخر، رجل من بني قُشير:
فلا تجعلي ضيفَيّ ضيفٌ مُقرَّبٌ ... وآخرُ معزولٌ عن البيت جانبُ
والنصب جيّد كما قال النابغة الجعدي:
وكانت قُشَيرٌ شامتاً بصديقها ... وآخرَ مَرزيّا وآخرَ رازِيا
وقال الآخر، وهو ذو الرمّة:
تَرى خلقَها نِصفٌ قناة قويمة ... ونصفٌ نقاً يرتجّ أو يتمرْمرُ
وبعضهم ينصب على البدل. وإن شئت كان بمنزلة رأيتُه قائماً، كأنه صار خبراً على حدّ من جعله صفة للنكرة على الأوجه الثلاثة. واعلم أن المضمر لا يكون موصوفاً، من قِبل أنك إنما تضمِر حين ترى أن المحدَّث قد عرف مَن تعني، ولكن لها أسماء تُعطَف عليها، تعمّ وتؤكد، وليست صفةً؛ لأن الصفة تحلية نحو الطويل، أو قرابة نحو أخيك وصاحبك وما أشبه ذلك، أو نحو الأسماء المبهمة، ولكنها معطوفة على الاسم تجري مجراه، فلذلك قال النحويون صفة. وذلك قولك: مررت بهم كلهم، أي لم أدعْ منهم أحداً، ويجيء توكيداً كقولك: لم يبق منهم مُخبّر وقال بقي منهم. ومثله أيضاً: مررتُ بهم أجمعين أكتعين، ومررتُ بهم جُمَعَ كُتَع، ومررتُ بهم أجمعَ أكتعَ، ومررتُ بهم جميعهم. فهكذا هذا وما أشبه.
ومنه مررتُ به نفسِه، ومعناه مررتُ به بعينه.
واعلم أن الخاص من الأسماء لا يكون صفةً، لأنه ليس بحليةٍ ولا قرابة ولا مبهم، ولكنه يكون معطوفاً على الاسم كعطف أجمعين. وهذا قول الخليل رحمه الله، وزعم أنه من أجل ذلك قال: يا أيها الرجل زيدٌ أقبلْ. قال: لو لم يكن على الرجل كان غيرَ منوَّن. وإنما صار المبهم بمنزلة المضاف لأن المبهم تقرِّب به شيئاً أو تُباعده، وتُشير إليه.

ومن الصفة: أنت الرجل كلُّ الرجل، ومررت بالرجل كلِّ الرجل. فإن قلت: هذا عبد الله كلُّ الرجل، أو هذا أخوك كلُّ الرجل، فليس في الحُسن كالألف واللام؛ لأنك إنما أردت بهذا الكلام هذا الرجل المبالغ في الكمال، ولم ترد أن تجعل كل الرجل شيئاً تعرّف به ما قبله وتبيّنه للمخاطب، كقولك: هذا زيد. فإذا خفت أن يكون لم يُعرَف قلت: الطويل، ولكنك بنيت هذا الكلام على شيء قد أثبتّ معرفته، ثم أخبرت أنه مستكمِلٌ للخِصال.
ومثل ذلك قولك: هذا العالِم حقُّ العالِم وهذا العالم كلُّ العالم، إنما أراد أنه مستحقٌ للمبالغة في العلم. فإذا قال هذا العالم جِدُّ العالم فإنما يريد معنى هذا عالِم جداً، أي هذا قد بلغ الغاية في العلم. فجرى هذا الباب في الألف واللام مجراه في النكرة إذا قلت: هذا رجلٌ كلُّ رجل، وهذا عالمٌ حقُّ عالم، وهذا عالمٌ جدُّ عالم.
ويدلّك على أنه لا يريد أن يثبّت بقوله كلُّ الرجل الأول أنه لو قال: هذا كلُّ الرجل، كان مستغنياً به، ولكنه ذكر الرجل توكيداً، كقولك: هذا رجلٌ صالحٌ، ولم يرد أن يبيّن بقوله كلُّ الرجل ما قبله، كما يبين زيداً إذا خاف أن يلتبس فلم يرد ذلك بالألف واللام، وإنما هذا ثناء يحضُرك عند ذكرك إياه.
ومن الصفة قولك: ما يَحسن بالرجل مثلِك أن يفعل ذاك، وما يحسن بالرجل خيرٍ منك أن يفعل ذاك.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما جرّ هذا على نية الألف واللام، ولكنه موضعٌ لا تدخله الألف واللام كما كان الجَمّاء الغفيرَ منصوباً على نيّة إلقاء الألف واللام، نحو طُرّاً وقاطبةً والمصادر التي تشبهها.
وزعم رحمه الله أنه لا يجوز في: ما يحسن بالرجل شبيهٍ بك، الجرّ، لأنك تقدّر فيه على الألف واللام. وقال: وأما قولهم: مررتُ بغيرك مثلك، وبغيرك خيرٍ منك، فهو بمنزلة مررتُ برجل غيرك خيرٍ منك، لأن غيرك ومثلك وأخواتها يكنّ نكرة، ومَن جعلها معرفة قال: مررتُ بمثلك خيراً منك، وإن شاء خيرٍ منك على البدل. وهذا قول يونس والخليل رحمهما الله.
واعلم أنه لا يَحسن ما يحسن بعبد الله مثلِك على هذا الحد. ألا ترى أنه لا يجوز: ما يَحسن بزيد خيرٍ منك، لأنه بمنزلة كل الرجل في هذا. فإن قلت: مثلِك وأنت تريد أن تجعله المعروف بشبهه جاز، وصار بمنزلة أخيك. ولا يجوز في خيرٍ منك، لأنه نكرة، فلا تُثبِت به المعرفة. ولم يُرد في قوله: ما يحسن بالرجل خيرٍ منك، أن يُثبِت له شيئاً بعينه ثم يعرّفه به إذا خاف التباساً.
واعلم أن المنصوب والمرفوع يجري معرفتُهما ونكرتُهما في جميع الأشياء كالمجرور.
؟

باب بدل المعرفة من النكرة
والمعرفة من المعرفة وقطع المعرفة من المعرفة مبتدأة
أما بدل المعرفة من النكرة فقولك: مررتُ برجلٍ عبدِ الله. كأنه قيل له: بمَن مررت؟ أو ظنّ أنه يقال له ذاك، فأبدل مكانه ما هو أعرفُ منه.
ومثل ذلك قوله عزّ وجل ذكره: " وإنك لَتَهدي الى صِراطٍ مستقيمٍ صِراطِ الله " .
وإن شئت قلت: مررتُ برجلٍ عبدُ الله، كأنه قيل لك: مَن هو؟ أو ظننت ذلك.
ومن البدل أيضاً: مررتُ بقوم عبدِ الله وزيد وخالد، والرفعُ جيد. وقال الشاعر، وهو بعض الهُذليين، وهو مالك بن خُويلد الخُناعي:
يا مَيّ إن تَفقِدي قوماً وَلدتِهمِ ... أو تُخلَسيهم فإن الدهر خلاسُ
عمرٌو وعبدُ مناف والذي عهدَتْ ... ببطن عرعرَ آبي الضيم عباسُ
والرفع جائز قوي، لأنه لم ينقض معنىً كما فعل ذلك في النكرة.
وأما المعرفة التي تكون بدلاً من المعرفة، فهو كقولك: مررتُ بعبد الله زيد، إما غلطتَ فتداركتَ، وإما بدا لك أن تُضرِب عن مرورك بالأول وتجعله للآخر.
وأما الذي يجيء مبتدأ فقول الشاعر، وهو مُهلهلٌ:
ولقد خبَطنَ بيوتَ يَشكُرَ خَبطةً ... أخوالُنا وهُمُ بنو الأعمامِ
كأنه حين قال: خبطنَ بيوت يشكرَ قيل له: وما هم؟ فقال: أخوالُنا وهم بنو الأعمام.
وقد يكون مررتُ بعبد الله أخوك، كأنه قيل له: مَن هو؟ أو مَن عبدُ الله، فقال: أخوك. وقال الفرزدق:
ورثتُ أبي أخلاقَه عاجِلَ القِرى ... وعَبطَ المَهاري كُومُها وشَبوبُها
كأنه قيل له: أيُّ المهاري؟ فقال: كومُها وشَبوبُها.

وتقول: مررتُ برجلٍ الأسدِ شدةً، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ كامل، لأنك أردت أن ترفع شأنَه. وإن شئت استأنفتَ، كأنه قيل له: ما هو.
ولا يكون صفةً كقولك: مررتُ برجلٍ أسدٍ شدةً، لأن المعرفة لا توصَف بها النكرة، ولا يجوز أن توصَف بنكرة أيضاً لما ذكرتُ لك. والابتداء في التبعيض أقوى. وهذا عربي جيد: قوله أخولُنا، وقد جاء في النكرة في صفتها، فهو في ذا أقوى. قال الراجز:
وساقيَيْن مثلِ زيدٍ وجُعَل ... سَقْيانٍ مَمشوقان مَكنوزاً العَضَلْ
؟باب ما يجري عليه صفةُ ما كان من سببه
وصفتُ ما التبس به أو بشيء من سببه كمجرى صفته التي خَلصتْ له هذا ما كان من ذلك عملاً. وذلك قولك: مررتُ برجلٍ ضاربٍ أبوه رجلاً، ومررتُ برجلٍ ملازمٍ أبوه رجلاً. ومن ذلك أيضاً: مررت برجل ملازم أباه رجلٌ، ومررت برجل مخالط أبه داءٌ. فالمعنى فيه على وجهين: إن شئت جعلته يلازمه ويخالطه فيما يُستقبل، وإن شئت جعلته عملاً كائناً في حال مرورك. وإن ألقيتَ التنوينَ وأنت تريد معناه جرى مثله إذا كان منوّناً.
ويدلّك على ذلك أنك تقول: مررتُ برجلٍ ملازمك. فيَحسُن ويكون صفة للنكرة، بمنزلته إذا كان منوّناً. وحين قلت: مررتُ برجل ملازم أباه رجلٌ، وحين قلت: مررتُ برجل ملازم أبيه رجلٌ، فكأنك قلت في جميع هذا: مررتُ برجل ملازم أباه، ومررتُ برجلٍ ملازم أبيه، لأن هذا يجري مجرى الصفة التي تكون خالصةً للأول.
وتقول: مررتُ برجلٍ مخالِطِ بَدنه أو جسدِه داءٌ، فإن ألقيتَ التنوينَ جرى مجرى الأول إذا أردتَ ذلك المعنى، ولكنك تلقي التنوين تخفيفاً.
فإن قلت: مررتُ برجلٍ مخالطِه داء، وأردتَ معنى التنوين جرى على الأول، كأنك قلت: مررتُ برجل مخالطٍ إياه داء. فهذا تمثيل، وإن كان يقبحُ في الكلام.
فإذا كان يجري عليه إذا التبس بغيره فهو إذا التبس به أحرى أن يجري عليه.
وإن زعم زاعمٌ أنه يقول مررتُ برجل مخالطِ بدنه داء، ففرق بينه وبين المنوَّن. قيل له: ألستَ تعلم أن الصفة إذا كانت للأول فالتنوين وغير التنوين سواء، إذا أردت بإسقاط التنوين معنى التنوين، نحو قولك: مررتُ برجل ملازمٍ أباك، ومررت برجلٍ ملازمِ أبيك، أو ملازمِك، فإنه لا يجد بُدّاً من أن يقول نعم، وإلا خالف جميعَ العرب والنحويين. فإذا قال ذلك قلتَ: أفلستَ تجعل هذا العمل إذا كان منوّناً وكان لشيء من سبب الأول أو التبس به، بمنزلته إذا كان للأول؟ فإنه قائل: نعم، وكأنك قلت مررتُ برجل ملازم. فإذا قال ذلك قلتَ له: ما بالُ التنوين وغير التنوين استويا حيث كانا للأول واختلفا حيث كانا للآخِر، وقد زعمتَ أنه يجري عليه إذا كان للآخِر كمجراه إذا كان للأول. ولو كان كما يزعمون لقلتَ: مررتُ بعبد الله الملازمِه أبوه؛ لأن الصفة المعرفة تجري على المعرفة كمجرى الصفة النكرة على النكرة. ولو أن هذا القياس لم تكن العرب الموثوق بعربيتها تقوله لم يُلتفت إليه، ولكنّا سمعناها تنشد هذا البيت جرّا، وهو قول ابن ميّادة المُرّيّ، من غَطَفان:
وارتَشْنَ حين أردنَ أن يَرميننا ... نَبلاً بلا ريشِ ولا بقِداحِ
ونظرْنَ من خَلَل الخدور بأعيُنٍ مَرضى مُخالطها السّقامُ صِحاحِ وسمعنا من العرب من يرويه ويروي القصيدة التي فيها هذا البيت، لم يلقّنه أحدٌ هكذا.
وأنشد غيره من العرب بيتاً آخر فأجروه هذا المجرى، وهو قوله:
حَمينَ العَراقيبَ العصا وتركنَه ... به نَفَسٌ عالٍ مُخالطُه بُهْرُ
فالعمل الذي لم يقع والعمل الواقع الثابت في هذا الباب سواء، وهو القياس وقولُ العرب.
فإن زعموا أن ناساً من العرب ينصبون هذا فهم ينصبون: به داء مخالطَه، وهو صفة للأول.
وتقول: هذا غلامٌ لك ذاهباً. ولو قال: مررتُ برجل قائماً جاز، فالنصب على هذا.

وإنما ذكرنا هذا لأن ناساً من النحويين يفرقون بين التنوين وغير التنوين، ويفرقون إذا لم ينوّنوا بين العمل الثابت الذي ليس فيه علاجٌ يرونه، نحو الآخذ واللازم والمخالط وما أشبهه، وبين ما كان علاجاً يرونه، نحو الضارب والكاسر، فيجعلون هذا رفعاً على كل حال، ويجعلون اللازم وما أشبهه نصباً إذا كان واقعاً، ويُجرونه على الأقل إذا كان غير واقع. وبعضهم يجعله نصباً إذا كان واقعاً ويجعله على كل حال رفعاً إذا كان غير واقع. وهذا قول يونس، والأول قول عيسى.
فإذا جعله اسماً لم يكن فيه إلا الرّفعُ على كل حال. تقول: مررتُ برجلٍ ملازمُه رجل، أي مررت برجلٍ صاحبُ ملازَمتِه رجلٌ، فصار هذا كقولك: مررتُ برجل أخوه رجل.
وتقول على هذا الحد: مررت برجلٍ ملازمُوه بنو فلان. فقولك ملازموه يدلّك على أنه اسم، ولو كان عملاً لقلت: مررت برجلٍ ملازمه قومُه، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ ملازمٍ إياه قومُه، أي قد لزم إياه قومُه.
؟

هذا باب
ما جرى من الصفات غير العمل على الاسم الأول
إذا كان لشيء من سببه
وذلك قولك: مررت برجلٍ حسَنٍ أبوه، ومررتُ برجلٍ كريمٍ أخوه وما أشبه هذا، نحو المسلم والصالح والشيخ والشاب.
وإنما أُجريت هذه الصفات على الأول حتى صارت كأنها له لأنك قد تضعها في موضع اسمِه فيكون منصوباً ومجروراً ومرفوعاً، والنعتُ لغيره. وذلك قولك: مررت بالكريم أبوه، ولقيتُ موسَّعاً عليه الدنيا، وأتاني الحسنةُ أخلاقُه، فالذي أتاك والذي أتيتَ غيرُ صاحب الصفة، وقد وقع موقعَ اسمه وعمل فيه ما كان عاملاً فيه، وكأنك قلت: مررتُ بالكريم، ولقيتُ موسَّعاً عليه، وأتاني الحسنُ، فكما جرى مجرى اسمه كذلك جرى مجرى صفته.
؟
باب الرفع فيه وجه الكلام
وهو قول العامة
وذلك قولك: مررتُ بسرجٍ خَزٌّ صُفَّتُه، ومررت بصحيفةٍ طينٌ خاتَمُها، ومررت برجلٍ فضّةٌ حِليةٌ سيفه. وإنما كان الرفع في هذا أحسن من قبل أنه ليس بصفة. لو قلت: له خاتمٌ حديدٌ، أو هذا خاتمٌ طينٌ، كان قبيحاً، إنما الكلام أن تقول: هذا خاتم حديد وصُفّةُ خزّ، وخاتمٌ من حديد وصفةٌ من خزّ. فكذلك هذا وما أشبهه.
ويدلّك أيضاً على أنه ليس بمنزلة حسنٍ وكريمٍ، أنك تقول: مررت بحسَنٍ أبوه وقد مررت بالحسن أبوه، فصار هذا بمنزلة اسمٍ واحد، كأنك قلت: مررتُ بحسَنٍ، إذا جعلتَ الحسن للمرور به. فمن ثمّ أيضاً قالوا: مررتُ برجل حسنٍ أبوه، ومررتُ برجل ملازمِه أبوه؛ كأنهم قالوا: مررت برجل حسنٍ، وبرجل ملازمٍ. ولا تقول: مررت بخزّ صُفَّتُه، ولا بطينٍ خاتَمُه، لأن هذا اسم.
وقد يكون في الشعر: هذا خاتَم طينٌ وصُفَّةٌ خَزٌّ، مستكرَهاً.
فالجرّ يكون في: مررت بصحيفة طينٍ خاتمُها على هذا الوجه. ومن العرب من يقول: مررت بقاعٍ عرفَجٍ كلُه، يجعلونه كأنه وصفٌ.
؟
باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة
مجرى الأسماء التي لا تكون صفة
وذلك أفعلُ منه ومثلُك وأخواتُهما، وحسبُك من رجلٍ، وسواءٌ عليه الخيرُ والشرّ، وأيُّما رجلٍ، وأبو عَشَرةٍ، وأبٌ لك وأخٌ لك وصاحبٌ لك، وكلُ رجل، وأفعلُ شيء نحو خيرُ شيء وأفضلُ شيء، وأفعلُ ما يكون، وأفعلُ منك.
وإنما صار هذا بمنزلة الأسماء التي لا تكون صفةً من قبَل أنها ليست بفاعلة، وأنها ليست كالصفات غير الفاعلة، نحو حَسَنٍ وطويل وكريم، من قبل أن هذه تُفرَد وتؤنّث بالهاء كما يُؤنّث فاعلٌ، ويدخلها الألف واللام وتضاف الى ما فيه الألف واللام، وتكون نكرةً بمنزلة الاسم الذي يكون فاعلاً حين تقول هذا رجلٌ ملازمُ الرجل. وذلك قولك: هذا حسنُ الوجه.
ومع ذلك أنك تدخِل على حسَن الوجه الألف واللام فتقول: الحسنُ الوجه، كما تقول الملازم الرجل. فحسنٌ وما أشبهه يتصرّف هذا التصرّف. ولا تستطيع أن تُفرد شيئاً من هذه الأسماء الأُخَر، لو قلت: هذا رجلٌ خيرٌ، وهذا رجلٌ أفضلُ، وهذا رجلٌ أبٌ، لم يستقم ولم يكن حسناً.
وكذلك أيٌّ. لا تقول: هذا رجلٌ أيٌّ.

فلما أضفتَهنّ وأوصلتَ إليهنّ شيئاً حَسُنّ وتممنَ به، فصارت الإضافة وهذه اللواحقُ تحسّنه. ولا تستطيع أن تدخِل الألف واللام على شيء منها كما أدخلتَ ذلك على الحسن الوجه، ولا تنوّن ما تنوّن منه على حد تنوين الفاعل فتكون بالخيار في حذفه وتركه، ولا تؤنّث كما تؤنّث الفاعل فلم يَقوَ قوّة الحَسَن إذا لم يُفرد إفرادَه. فلما جاءت مضارعةً للاسم الذي لا يكون صفة البتّة إلا مستكرَهاً، كان الوجهُ عندهم فيه الرفعَ إذا كان النعتُ للآخِر، وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حسنٌ أبوه.
ومع ذلك أيضاً أن الابتداء يحسُن فيهنّ، تقول: خيرٌ منك زيدٌ، وأبو عشرةٍ زيدٍ، وسواءٌ عليه الخيرُ والشرّ. ولا يحسن الابتداء في قولك: حسنٌ زيد.
فلما جاءت مضارعةً للأسماء التي لا تكون صفةً وقَويت في الابتداء كان الوجه فيها عندهم الرفعَ، إذا كان النعت للآخِر. وذلك قولك: مررت برجلٍ خيرٌ منه أبوه، ومررتُ برجل سواءٌ عليه الخيرُ والشرّ، ومررت برجل أبٌ لك صاحبُه، ومررت برجل حَسبُك من رجلٍ هو، ومررتُ برجل أيُّما رجل هو.
وإن قلت: مررتُ برجلٍ حسبُك به من رجلٍ رفعلتَ أيضاً.
وزعم الخليل رحمه الله أن به ههنا منزلة هو، ولكن هذه الباء دخلت ههنا توكيداً كما قال: كفى الشيبُ والإسلامُ وكفى بالشيب والإسلام.
فإن قلت: مررتُ برجل شديدٍ عليه الحرّ والبردُ جررتَ، من قبل أن شديداً قد يكون صفةً وحدَه مستغنياً عن عليه، وعن ذكر الحرّ والبرد، ويدخل في جميع ما دخل الحَسنُ.
وإن قلت: مررت برجلٍ سواءٍ في الخير والشرّ جررت، لأن هذا من صفة الأول، فصار كقولك: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك.
وإن قلت: مررتُ برجل مُستوٍ عليه الخيرُ والشرّ جررتَ أيضاً لأنه صار عملاً بمنزلة قولك: مررتُ برجلٍ مفضّضٍ سيفُه، ومررتُ برجل مسمومٍ شرابُه؛ ويدخله جميعُ ما يدخل الحَسنَ. فإذا قلت سمٌّ وفضّةٌ رفعت.
وتقول: مررت برجل سواءٌ أبوه وأمه، إذا كنت تريد أنه عدلٌ وتقول: مررت برجل سواءٌ درهمُه، كأنك قلت: مررت برجل تامٍ درهمُه.
وزعم يونس أن ناساً من العرب يجرّون هذا كما يجرّون مررتُ برجلٍ خَزٍّ صُفَّتُه.
ومما يقوّيك في رفع هذا أنك لا تقول مررتُ بخيرٍ منه أبوه، ولا بسواء عليه الخير والشرّ، كما تقول بحسَنٍ أبوه.
وتقول: مررتُ برجل كلُّ ماله درهمان، لا يكون فيه إلا الرفع؛ لأن كل مبتدأ والدرهمان مبنيان عليه. فإن أردت بقولك: مررت برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه جاز، لأنه قد يوصف به، تقول هذا مال كلُّ مالٍ. وليس استعماله وصفاً بقوة أبي عشرةٍ ولا كثرته، وليس بأبعد من مررت برجل خز صُفته، ولا قاعٍ عرْفجٍ كلُّ.
ومن جواز الرفع في هذا الباب أني سمعت رجلين من العرب عربيين يقولان: كان عبد الله حسبُك به رجلاً. وهذا أقرب الى أن يكون فيه الإجراء على الأول إذا كان في الخزّ والفضة؛ لأن هذا يوصَف به ولا يوصَف بالخزّ ونحوه.
؟

هذا باب ما يكون من الأسماء صفة منفردا
ً
وليس بفاعل ولا صفةٍ تشبَّه بالفاعل كالحَسن وأشباهه
وذلك قولك: مررت بحيةٍ ذراعٌ طولُها، ومررت بثوب سبعٌ طوله، ومررت برجلٍ مائةٌ إبله، فهذه تكون صفاتٍ كما كانت خيرٌ منك صفةً. يدلّك على ذلك قول العرب: أخذ بنو فلان من بني فلان إبلاً مائةً، فجعلوا مائةً وصفاً. وقال الشاعر، وهو الأعشى:
لئن كنتَ في جُبّ ثمانين قامةً ... ورُقّيتَ أسبابَ السماء بسلّمِ
فاختير الرفعُ فيه لأنك لا تقول: ذراعٌ الطول، منوَّناً ولا غير منوّن. ولا تقول مررت بذراعٍ طوله. وبعض العرب يجرّه كما يجرّ الخزّ حين يقول: مررت برجل خزّ صُفّته، ومنهم من يجرّه وهم قليل، كما تقول: مررت برجلٍ أسد أبوه، إذا كنت تريد أن تجعله شديداً، ومررت برجل مثل الأسد أبوه، إذا كنتَ تشبّهه.
فإن قلت: مررت بدابّة أسدٌ أبوها فهو رفعٌ، لأنك إنما تخبر أن أباها هذا السّبع. فإن قلت: مررتُ برجل أسدٌ أبوه على هذا المعنى رفعتَ، إلا أنك لا تجعل أباه خَلقُه كخِلقة الأسد ولا صورته. هذا لا يكون، ولكنه يجيء كالمثل.

ومن قال: مررت برجلٍ أسد أبوه قال: مررت برجل مائةٍ إبله. وزعم يونس أنه لم يسمعه من ثقة ولكنهم يقولون: هو نارٌ حُمرةً، لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدأ ولا يصفون بها؛ فالرفعُ فيه الوجه، والرفع فيه أحسنُ وإن كنتَ تريد معنى أنه مبالغٌ في الشدة، لأنه ليس بوصف.
ومثل ذلك: مررت برجلٍ رجل أبوه، إذا أردتَ معنى أنه كامل. وجرّه كجرّ الأسد. وقد تقوله على غير هذا المعنى، تقول: مررت برجل رجلٌ أبوه، تريد رجلاً واحداً لا أكثر من ذلك.
وقد يجوز على هذا الحد أن تقول: مررت برجل حسنٌ أبوه. وهو فيه أبعد، لأنه صفة مشبهة بالفاعل. وإن وصفته فقلت: مررت برجل حسنٌ ظريفٌ أبوه فالرفع فيه الوجه والحد، والجرّ فيه قبيح، لأنه يفصل بوصف بينه وبين العامل. ألا ترى أنك لو قلت مررتُ بضاربٍ ظريفٍ زيداً، وهذا ضاربٌ عاقلٌ أباه كان قبيحاً، لأنه وصفه فجعل حاله كحال الأسماء، لأنك إنما تبتدئ بالاسم ثم تصفه.
فإن قلت: مررت برجل شديدٌ رجلٌ أبوه، فهو رفع لأن هذا وإن كان صفةً فقد جعلته في هذا الموضع اسماً بمنزلة أبي عشرة أبوه، يقبح فيه ما يقبح في أبي عشرة.
ومن قال: مررت برجلٍ أبي عشرة أبوه قال: مررت برجل شديد رجلٍ أبوه. وإذا قال: مررت برجل حسنٍ الوجه أبوه فليس بمنزلة أبي عشرةٍ أبوه، لأن قولك: حسن الوجه أبوه، بمنزلة قولك مررت برجل حسنٍ الوجه، فصار هذا بدخول التنوين يشبه ضارباً إذا قلت: مررتُ برجل ضاربٍ أباه.
وأبو عشرة لا يدخله التنوين ولا يجري مجرى الفعل، ولكنك ألقيتَ التنوين استخفافاً، فصار بمنزلة قولك: مررت برجلٍ ملازم أباه رجلٌ، ومررتُ برجل ملازم أبيه رجلٌ، إذا أردتَ معنى التنوين، فكأنك قلت: مررتُ برجلٍ حسن أبوه.
وتقول: مررتُ برجل حسن الوجه أبوه، كما تقول: مررت بالرجل الحسن الوجه أبوه، وكما تقول: مررتُ بالرجل الملازمِه أبوه. فصار حسنُ الوجه بمنزلة حسن، ومُلازمٌ أباه بمنزلة ملازمٍ. وليس هذا بمنزلة أبي عشرة وخير منك. ألا ترى أنك لا تقول: مررتُ بخير منه أبوه ولا بأبي عشرة أبوه، كما لا تقول مررتُ بالطين خاتمُه.
وأما قوله: مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ، فهو قبيح حتى تقول: هو والعدمُ، لأن في سواء اسماً مضمَراً مرفوعاً، كما تقول مررتُ بقوم عربٍ أجمعون، فارتفع أجمعون على مضمر في عربٍ بالنية. فهي هنا معطوفة على المضمر وليست بمنزلة أبي عشرة. فإن تكلّمتَ به على قبحه رفعتَ العدمَ، وإن جعلته مبتدأ رفعتَ سواءً.
وتقول: ما رأيت رجلاً أبغضَ إليه الشرّ منه إليه، وما رأيت أحداً أحسنَ في عينه الكُحل منه في عينه. وليس هذا بمنزلة خيرٌ منه أبوه، لأنه مفضّل للأب على الاسم في مِن، وأنت في قولك: أحسن في عينه الكحلُ منه في عينه، لا تريد أن تفضّل الكحل على الاسم الذي في من، ولا تزعم أنه قد نقص عن أن يكون مثله، ولكنك زعمت أن للكحل ههنا عملاً وهيئةً ليست له في غيره من المواضع، فكأنك قلت: ما رأيت رجلاً عاملاً في عينه الكحل كعمله في عين زيد؛ وما رأيت رجلاً مبغضاً إليه الشرُّ كما بُغِّض إلى زيد.
ويدلّك على أنه ليس بمنزلة خيرٌ منه أبوه، أن الهاء التي تكون في مِن، هي الكحلُ والشرّ، كما أن الإضمار الذي في عمله وبُغّض، هو الكحل والشرّ.
ومما يدلّك على أنه على أوّله ينبغي أن يكون، أن الابتداء فيه مُحال: أنك لو قلت: أبغضُ إليه منه الشرُّ لم يجز، ولو قلت: خيرٌ منه أبوه جاز.
ومثل ذلك: ما من أيامٍ أحبَّ الى الله عز وجل فيها الصومُ منه في عشرِ ذي الحجة.
وإن شئت قلت: ما رأيت أحداً أحسن في عينه الكحل منه، وما رأيت رجلاً أبغضَ إليه الشرّ منه، وما من أيامٍ أحبَّ الى الله فيها الصومُ من عشر ذي الحجة؛ فإنما المعنى الأول، إلا أن الهاء هنا الاسم الأول، ولا تخبر أنك فضّلت الكحلَ عليه ولا أنك فضّلت الصوم على الأيام، ولكنك فضّلت بعضَ الأيام على بعضٍ. والهاء في الأول هو الكحل، وإنما فضلته في هذا الموضع على نفسه في غير هذا الموضع، ولم ترد أن تجعله خيراً من نفسه البتّة. قال الشاعر، وهو سُحيمُ بن وَثيل:
مررتُ على وادي السّباع ولا أرى ... كوادي السباع حين يُظلمُ واديا
أقلَّ به ركْبٌ أتَوْه تَئيّةً ... وأخوفَ، إلا ما وَقى الله، ساريا

وإنما أراد: أقلَّ به الرّكبُ تَئيّةً منهم به، ولكنه حذف ذلك استخفافاً، كما تقول: أنت أفضل، ولا تقول من أحد. وكما تقول: الله أكبر، ومعناه الله أكبر من كل شيء. وكما تقول: لا مالَ ولا تقول لك، وما يشبهه. ومثل هذا كثيرٌ.
واعلم أن الرفع والنصبَ تجري الأسماء ونعتُ ما كان من سببها ونعتُ ما التبس بها وما التبس بشيء من سببها فيهما مجراهنّ في الجرّ.
واعلم أن ما جرى نعتاً على النكرة فإنه منصوب في المعرفة، لأن ما يكون نعتاً من اسم النكرة يصير خبراً للمعرفة، لأنه ليس من اسمه. وذلك قولك: مررتُ بزيد حسناً أبوه، ومررتُ بعبد الله ملازمك.
واعلم أن ما كان في النكرة رفعاً غير صفة فإنه رفعٌ في المعرفة. من ذلك قوله جلّ وعزّ: " أم حَسِبَ الذين اجتَرحوا السّيّئاتِ أن تجعلَهُم كالذين آمنوا وعملوا الصّالحات سَواءٌ مَحياهُم ومَماتُهُم " .
وتقول: مررت بعبد الله خيرٌ منه أبوه. فكذلك هذا وما أشبهه. ومن أجرى هذا على الأول فإنه ينبغي له أن ينصبه في المعرفة فيقول: مررتُ بعبد الله خيراً منه أبوه. وهي لغةٌ رديئة. وليست بمنزلة العمل نحو ضارب وملازم، وما ضارعه نحو حَسن الوجه. ألا ترى أن هذا عملٌ يجوز فيه يَضربُ ويلازم وضربَ ولازَمَ. ولو قلت: مررت بخيرٍ منه أبوه كان قبيحاً، وكذلك بأبي عشرة أبوه. ولكنه حين خلَص للأول جرى عليه، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك.
ومن قال: مررتُ برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه، فشبّه بقوله: مررتُ برجل حسنٍ أبوه. فهو ينبغي له أن يقول: مررتُ بعبد الله أبي العشرة أبوه، كما قال: مررتُ بزيدٍ الحسنِ أبوه.
ومن قال: مررتُ بزيدٍ أخوه عمرٌو لم يكن فيه إلا الرفع، لأن هذا اسمٌ معروف بعينه، فصار بمنزلة قولك: مررتُ بزيدٍ عمرٌو أبوه ولو أن العشرة كانوا قوماً بأعيانهم قد عرفهم المخاطَب لم يكن فيه إلا الرفع؛ لأنك لو قلت: مررتُ بأخيه أبوك، كان مُحالاً أن ترفع الأبَ بالأخ، وهي في مررتُ بأبي عشرة أبوه وبأبي العشرة أبوه، إذا لم يكن شيئاً بعينه، تجوز على استكراهٍ. فإن جعلتَ الأخَ صفةً للأول جرى عليه، كأنك قلت: مررتُ بأخيك، فصار الشيء بعينه نحو زيد وعمرو، وضارع أبو عشرة حَسنٌ حين، ولم يكن شيئاً بعينه قد عرفه كمعرفتك، على ضعفه واستكراهه.
واعلم أن كل شيء من العمل وما أشبهه نحو حسن وكريم، إذا أدخلتَ فيه الألفَ واللام جرى على المعرفة كمجراه على النكرة حين كان نكرةً، كقولك: مررت بزيد الحَسن أبوه، ومررتُ بأخيك الضاربِهِ عمرو.
واعلم أن العرب يقولون: قومٌ مَعْلُوجاء، وقومٌ مَشيخةٌ، وقوم مَشيوخاء، يجعلونه صفةً بمنزلة شيوخ وعُلوج.
؟

هذا باب
ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها
من الصفات التي ليست بعمل نحو الحسن والكريم وما أشبه ذلك
مجرى الفعل إذا أظهرتَ بعده الأسماء أو أضمرتَها
وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حسنٍ أبواه، وأحسنٌ أبَواه، وأخارجٌ قومُك. فصار هذا منزلة قال أبواك وقال قومُك، على حدّ من قال: قومك حسنون إذا أخّروا، فيصير هذا بمنزلة أذاهبٌ أبواك، وأمنطلِقٌ قومُك.
فإن بدأتَ بالاسم قبل الصفة قلت: قومُك منطلقون، وقومك حسنون، كما تقول أبواك قالا ذاك، وقومك قالوا ذاك.
فإن بدأتَ بنعتٍ مؤنّث فهو يجري مجرى المذكّر إلا أنك تُدخِل الهاء، وذلك قولك: أذاهبةٌ جاريتاك، وأكريمةٌ نساؤكم. فصارت الهاء في الأسماء بمنزلة التاء في الفعل، إذا قلت: قالت نساؤكم، وذهبتْ جاريتاك. وإنما قلت: أكريمةٌ نساؤكم على قول من قال: أنساؤكم كريمات، إذا أخّر الصفة. والألفُ والتاء، والواو والياء والنون في الجميع، والألفُ والنون في التثنية، بمنزلة الواو والألف في قالا وقالوا، وبمنزلة الواو والنون في يقولون.
وكذلك: أقُرَشيٌّ قومُك وأقرشيّ أبواك، إذا أردت الصفة جرى مجرى حسن وكريم. وإنما قالت العرب: قال قومُك وقال أبواك؛ لأنهم اكتفوا بما أظهروا عن أن يقولوا قالا أبواك، وقالوا قومك، فحذفوا ذلك اكتفاءً بما أظهروا.
قال الشاعر:
أليسَ أكرمَ خلقِ الله قد علِموا ... عند الحفاظ بَنو عمرو بنِ حُنجودِ

صار ليس ههنا بمنزلة ضرب قومَك بنو فلان؛ لأن ليس فعلٌ، فإذا بدأتَ بالاسم قلت: قومُك قالوا ذاك، وأبواك قد ذهبا؛ لأنه قد وقع ههنا إضمارٌ في الفعل وهو أسماؤهم، فلابد للمضمَر أن يجيء بمنزلة المظهر. وحين قلت: ذهب قومُك لم يكن في ذهب إضمار. وكذلك قالت جاريتاك وجاءت نساؤك. إلا أنهم أدخلوا التاء ليفصلوا بين التأنيث والتذكير، وحذفوا الألف والنون لمّا بدءوا بالفعل في تثنية المؤنث وجمعه، كما حذفوا ذلك في التذكير.
فإن بدأتَ بالاسم قلت: نساؤك قُلنَ ذاك، كما قلت: قومُك قالوا ذاك. وتقول: جاريتاك قالتا كما تقول: أبواك قالا، لأن في قُلن وقالتا إضماراً كما كان في قالا وقالوا.
وإذا قلت: ذهبتْ جاريتاك أو جاءتْ نساؤك، فليس في الفعل إضمارٌ، ففصلوا بينهما في التأنيث والتذكير، ولم يفصلوا بينهما في التثنية والجمع. وإنما جاءوا بالتاء للتأنيث لأنها ليست علامةَ إصمار كالواو والألف، وإنما هي كهاء التأنيث في طَلْحة، وليست باسم.
وقال بعض العرب: قال فُلانةُ.
وكلما طال الكلام فهو أحسنُ، نحو قولك: حضر القاضي امرأةٌ؛ لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل، وكأنه شيءٌ يصير بدلاً من شيء، كالمعاقبة نحو قولك: زنادقة وزناديق، فتحذف الياء لمكان الهاء، وكما قالوا في مُغتَلِم: مُغَيلِم ومُغَيليم، وكأن الياء صارت بدلاً مما حذفوا.
وإنما حذفوا التاء لأنهم صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء، كما كفاهم الجميعُ والإثنان حين أظهروهم عن الواو والألف.
وهذا في الواحد من الحيوان قليل، وهو في المَوات كثير، فرقوا بين المَوات والحيوان كما فرقوا بين الآدميين وغيرهم. تقول: هم ذاهبون، وهم في الدار، ولا تقول: جمالُك ذاهبون، ولا تقول: هم في الدار وأنت تعني الجِمال، ولكنك تقول: هي وهنّ ذاهبة وذاهبات.
ومما جاء في القرآن من المَوات قد حُذفت فيه التاء قوله عزّ وجلّ: " فمنْ جاءهُ موعظةٌ من ربّه فانتهى " وقوله: " مِن بعدِ ما جاءهُم البَيّناتُ " .
وهذا النحو كثيرٌ في القرآن، وهو في الواحدة إذا كانت من الآدميين أقل منه في سائر الحيوان. ألا ترى أن لهم في الجميع حالاً ليست لغيرهم، لأنهم الأوّلون وأنهم قد فُضِّلوا بما لم يفضَّل به غيرهم من العقل والعلم. وأما الجميع من الحيوان الذي يكسّر عليه الواحد فبمنزلة الجميع من غيره الذي يكسَّر عليه الواحد في أنه مؤنّث. ألا ترى أنك تقول: هو رجلٌ، وتقول: هي الرجال، فيجوز لك. وتقول: هم جملٌ وهي الجِمال، وهو عَيْرٌ وهي الأعيار؛ فجرت هذه كلها مجرى هي الجُذوع. وما أشبه ذلك يُجرى هذا المجرى؛ لأن الجميع يؤنّث وإن كان كلُّ واحد منه مذكّراً من الحيوان. فلما كان كذلك صيّروه بمنزلة المَوات؛ لأنه قد خرج من الأول الأمكن حيث أردت الجميع. فلما كان ذلك احتملوا أن يُجروه مُجرى الجميع المَوات، قالوا: جاء جواريك، وجاء نساؤك، وجاء بناتُك. وقالوا فيما لم يكسَّر عليه الواحد لأنه في معنى الجمع كما قالوا في هذا، كما قال الله تعالى جده: " ومنهم مَن يستمعون إليكَ " ، إذ كان في معنى الجميع، وذلك قوله تعالى: " وقال نسوةٌ في المدينة " .
واعلم أن من العرب من يقول: ضربوني قومُك، وضرباني أخواك، فشبّهوا هذا بالتاء التي يُظهرونها في قالت فُلانة، وكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامةً كما جعلوا للمؤنّث، وهي قليلة. قال الشاعر: وهو الفرزدق:
ولكنْ دِيافيٌّ أبوه وأمُّه ... بحَورانَ يعصِرنَ السّليطَ أقاربُهْ
وأما قوله جلّ ثناؤه: " وأسَرّوا النّجوى الذين ظلموا " فإنما يجيء على البدل، وكأنه قال: انطلقوا فقيل له: مَن؟ فقال: بنو فلان. فقوله جلّ وعزّ: " وأسَرّوا النجوى الذين ظلموا " على هذا فيما زعم يونس.
وقال الخليل رحمه الله تعالى: فعلى هذا المثال تجري هذه الصفات. وكذلك شابٌّ وشيخٌ وكهلٌ، إذا أردتَ شابّينَ وشيخينَ وكهلينَ. تقول: مررتُ برجلٍ كهلٍ أصحابه، ومررتُ برجلٍ شابٍّ أبواه.
قال الخليل رحمه الله: فإن ثنّيتَ أو جمعتَ فإن الأحسن أن تقول: مررتُ برجلٍ قُرَشيان أبواه، ومررتُ برجلٍ كهلون أصحابه؛ تجعله اسماً بمنزلة قولك: مررت برجلٍ خزٌّ صُفّته.

وقال الخليل رحمه الله: من قال أكلوني البراغيث أجرى هذا على أوله فقال: مررت برجل حَسنيْن أبواه، ومررتُ بقومٍ قُرَشيّينَ آباؤهم. وكذلك أفعل نحو أعورَ وأحمر، تقول: مررت برجل أعورَ أبواه وأحمرَ أبواه. فإن ثنّيت قلت: مررتُ برجلٍ أحمران أبواه تجعله اسماً. ومن قال أكلوني البراغيث قلت على حدّ قوله: مررتُ برجلٍ أعورَيْن أبواه. وتقول: مررت برجل أعورَ آباؤه، كأنك تكلّمت به على حدّ أعورِينَ وإن لم يُتكلّم به، كما توهّموا في هَلكى وموتى ومرضى أنه فُعل بهم، فجاءوا به على مثال جَرحى وقتلى، ولا يقال هُلِك ولا مُرض ولا مُوِت. قال الشاعر، وهو النابغة الجعدي:
ولا يشعر الرّمحُ الأصمُّ كُعوبُه ... بثروةِ رهطِ الأعيَطِ المتظلِّمِ
وأحسنُ من هذا أعورٌ قومُك؟ ومررتُ برجلٍ صُمٍّ قومُه.
وتقول: مررت برجلٍ حسانٍ قومُه، وليس يجري هذا مجرى الفعل، إنما يجري مجرى الفعل ما دخله الألفُ والنون والواو والنون في التثنية والجمع ولم يغيّره، نحو قولك: حسنٌ وحسنان، فالتثنية لم تغيّر بناءَه. وتقول: حسنون، فالواو والنون لم تغيّر الواحدَ، فصار هذا بمنزلة قالا وقالوا؛ لأن الألف والواو لم تغيّر فعلَ. وأما حِسانٌ وعُورٌ فإنه اسمٌ كُسّر عليه الواحد، فجاء مبنياً على مثالٍ كبناء الواحد، وخرج من بناء الواحد الى بناء آخر لا تلحقه في آخره زيادة كالزيادة التي لحقت في قُرشيّ في الاثنين والجميع. فهذا الجميع له بناءٌ بُني عليه كما بُني الواحد على مثاله، فأُجرى مجرى الواحد.
ومما يدلّك على أن هذا الجميع ليس كالفعل، أنه ليس شيءٌ من الفعل إذا كان للجميع يجيء مبنياً على غير بنائه إذا كان للواحد؛ فمن ثم صار حِسانٌ وما أشبهه بمنزلة الاسم الواحد، نحو مررتُ برجلٍ جُنُبٍ أصحابُه، ومررت برجل صَرورةٍ قومُه. فاللفظُ واحدٌ والمعنى جميعٌ.
واعلم أن ما كان يُجمع بغير الواو والنون نحو حَسَنٍ وحِسان، فإن الأجود فيه أن تقول: مررتُ برجلٍ حِسان قومُه. وما كان يُجمع بالواو والنون نحو منطلِق ومنطلقين، فإن الأجود فيه أن يُجعل بمنزلة الفعل المتقدّم، فتقول: مررتُ برجلٍ منطلِق قومُه.
واعلم أنه من قال ذهبَ نساؤك قال: أذاهبٌ نساؤك. ومن قال: " فمَنْ جاءهُ موعظةٌ من ربّه " قال: أجائيَّ موعظةٌ، تذهب الهاء هاهنا كما تذهب التاء في الفعل.
وكان أبو عمرو يقرأ: " خاشعاً أباصرُهُم " . قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهُذَليّ:
بعيدُ الغَزاة فما إن يَزا ... لُ مُضطَمراً طُرّتاه طَليحا
وقال الفرزدق:
وكُنا وَرثناه على عهدِ تُبّعٍ ... طويلاً سَواريه شديداً دعائمُهْ
وقال الفرزدق أيضاً:
قَرَنْبى يَحكّ قفا مُقرِفٍ ... لئيمٍ مآثرُه قُعدُدِ
وقال آخر، وهو أبو زبيد الطائي:
مُستَحِنٌّ بها الرياحُ فما يَجْ ... تابُها في الظلام كلُّ هَجودِ
وقال آخر، من بني أسد:
فلاقى ابنَ أنثى يبتغي مثلَ ما ابتغى ... من القوم مَسقيَّ السِّمام حدائدُهْ
وقال آخر، الكُميت بن معروف:
ومازِلت مَحمولاً عليَّ ضغينةٌ ... ومُضطَلِعَ الأضغان مُذ أنا يافعُ
وهذا في الشعر أكثر من أن أحصيه لك. ومن قال ذهب فلانةُ قال: أذاهبٌ فلانةُ وأحاضرٌ القاضيَ امرأةٌ. وقد يجوز في الشعر موعظةٌ جاءنا، كأنه اكتفى بذكر الموعظة عن التاء. وقال الشاعر، وهو الأعشى:
فإما ترَيْ لِمّتي بُدِّلَتْ ... فإنّ الحوادث أودى بها
وقال الآخر، وهو عامرُ بن جُوَين الطائي:
فلا مُزنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أبقَلَ إبقالَها
وقال الآخر، وهو طُفَيلٌ الغَنَويّ:
إذ هي أحْوى من الرِّبعيّ حاجبُهُ ... والعينُ بالإثمِدِ الحاريّ مَكحولُ

وزعم الخليل رحمه الله أن " السماء منفطِرٌ به " كقولك: معضِّلٌ للقَطاة. وكقولك: مُرضِعٌ، للتي بها الرِّضاعُ. وأما المنفطرة فيجيء على العمل، كقولك منشقّةٌ، وكقولك مرضعة للتي ترضع. وأما " كُلٌّ في فَلَك يسبحون " ، و " رأيتُهُم لي ساجدين " ، و " يا أيها النّملُ ادخُلوا مساكنكم " فزعم أنه بمنزلة ما يعقل ويسمع، لما ذكرهم بالسّجود، وصار النمل بتلك المنزلة حين حدّثتَ عنه كما تحدّث عن الأناسيّ. وكذلك " في فلك يسبحون " لأنها جُعلت - في طاعتها وفي أنه لا ينبغي لأحد أن يقول: مُطرنا بنَوْء كذا، ولا ينبغي لأحد أن يعبد شيئاً منها - بمنزلة من يَعقل من المخلوقين ويُبصر الأمور.
قال النابغة الجعديّ:
شَربتُ بها والدّيكُ يدعو صَباحهُ ... إذا ما بنو نعشٍ دَنوْا فتصوّبوا
فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تُؤمَر وتُطيع، وتفهم الكلام وتعبد، بمنزلة الآدميين.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن: ما أحسنَ وجوهَهما؟ فقال: لأن الإثنين جميعٌ، وهذا بمنزلة قول الإثنين: نحن فعلنا ذاك، ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفرداً وبين ما يكون شيئاً من شيء. وقد جعلوا المفردين أيضاً جميعاً، قال الله جلّ ثناؤه: " وهل أتاكَ نبأ الخصمِ إذ تسوّروا المِحرابَ. إذ دخلوا على داودَ ففزِعَ منهم قالوا لا تخَفْ خَصمانِ بَغى بعضُنا على بعض " .
وقد يثنّون ما يكون بعضاً لشيء. زعم يونس أن رؤية كان يقول: ما أحسنَ رأسيهما. قال الراجز، وهو خِطام: ظهراهما مثلُ ظهورِ التُّرسَين وقالوا: وضعا رِحالَهما، يريد: رحلَيْ راحلتين. وحدُّ الكلام أن يقول: وضعتُ رحلي الراحلتين؛ فأجرَوه مجرى شيئين من شيئين.
باب إجراء الصفة فيه على الاسمفي بعض المواضع أحسن وقد يستوي فيه إجراء الصفة على الاسم، وأن تجعله خبراً فتنصبه فأما ما استويا فيه فقوله: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائدٍ به، إن جعلته وصفاً. وإن لم تحمله على الرجل وحملتَه على الاسم المضمَر المعروف نصبتَه فقلت: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به، كأنه قال: معه بازٌ صائداً به، حين لم يرد أن يحمله على الأول.
وكما تقول: أتيتُ على رجلٍ ومررتُ به قائم، إن حملتَه على الرجل؛ وإن حملته على مررت به نصبته، كأنك قلت: مررتُ به قائماً.
ومثله: نحن قومٌ ننطلق عامدون الى بلد كذا، إن جعلتَه وصفاً. وإن لم تجعله وصفاً نصبتَ، كأنه قال: نحن ننطلق عامدين.
ومنه: مررتُ برجلٍ معه بازٌ قابضٍ على آخَر، ومررت برجلٍ معه جُبّةٌ لابسٍ غيرَها. وإن حملتَه على الإضمار الذي معه نصبتَ. وكذلك مررت برجلٍ عنده صقرٌ صائدٍ ببازٍ. إن حملتَه على الوصف فهو هكذا. وإن حملتَه على ما في عنده من الإضمار نصبت، كأنك قلت: عنده صقر صائداً ببازٍ.
وكذلك: مررت برجلٍ معه الفرسُ راكب بِرذَوْناً، إن لم ترد الصفة نصبتَ، كأنك قلت: معه الفرسُ راكباً برذوناً. فهذا لا يكون فيه وصفٌ ولا يكون إلا خبراً. ولو كان هذا على القلب كما يقول النحويون لفَسَدَ كلامٌ كثير، ولكان الوجه: مررتُ برجل جميلِه حسنِ الوجه. ولقال مررتُ بعبد الله معه بازك الصائدَ به، فتنصب. فهذا لا يكون فيه إلا الوصف لأنه لا يجوز أن تجعل المعرفة حالاً يقع فيه شيء. ولم تقل جميلَه لأنك لم ترد أن تقول إنه حسنُ الوجه في هذه الحال، ولا أنه حسنٌ وجهه جميلاً، أي في هذه الحال حسنَ وجهه. فلم يرد هذا المعنى ولكنه أراد أن يقول: هذا رجلٌ جميلُ الوجه، كما يقال. هذا رجلٌ حسنُ الوجه. فهذا الغالب في كلام الناس.
وإن أردتَ الوجه الآخرَ فنصبت فهو جائزٌ لا بأس به، وإن كان ليس له قوّة الوصف في هذا. فهذا الذي الوصفُ فيه أحسنُ وأقوى.
ومثله في أن الوصف أحسن: هذا رجلٌ عاقلٌ لبيب، لم يجعل الآخرَ حالاً وقع فيه الأول، ولكنه أثنى عليه وجعلهما شرعاً سواء، وسوّى بينهما في الإجراء على الاسم. والنصبُ فيه جائز على ما ذكرت لك. وإنما ضَعُفَ لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال، ولكنه أراد أنهما فيه ثابتان، لم يكن واحدٌ منهما قبل صاحبه، كما تقول: هذا رجلٌ سائرٌ راكباً دابةً. وقد يجوز في سعة الكلام على هذا، ولا ينقُض المعنى في أنهما شَرْعٌ سواء فيه. وسترى هذا النحو في كلامهم.

فأما القلب فباطلٌ. لو كان ذلك لكان الحدُّ والوجه في قوله: مررتُ بامرأة آخذةٍ عبدَها فضاربته النصبَ، لأن القلب لا يصلح، ولقلت: مررت برجلٍ عاقلةٍ أمُّه لبيبةً؛ لأنه لا يصلح أن تقدّم لبيبةً فتضمر فيها الأمَّ ثم تقول عاقلةٍ أمُّه.
وسمعناهم يقولون: هذه شاةٌ ذات حَملٍ مُثقلةٌ. وقال الشاعر، وهو حسان بن ثابت:
ظننتم بأن يَخفى الذي قد صنعتُمُ ... وفينا نبيٌّ عنده الوحي واضِعُهْ
ومما يُبطِل القلبَ قوله: زيدٌ أخو عبد الله مجنون به، إذا جعلتَ الأخ صفةً والجنون من زيدٍ بأخيه، لأنه لا يستقيم زيدٌ مجنون به أخو عبد الله.
وتقول: مررت برجل معه كيسٌ مختوم عليه، الرفع الوجهُ لأنه صفة الكيس. والنصب جائز على قوله: فيها رجلٌ قائماً، وهذا رجلٌ ذاهباً.
واعلم أنك إذا نصبتَ في هذا الباب فقلت: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، فالنصبُ على حاله، لأن هذا ليس بابتداء، ولا يُشبه: فيها عبدُ الله قائمٌ غداً؛ لأن الظروف تُلغى حتى يكون المتكلم كأنه لم يذكرها في هذا الموضع، فإذا صار الاسم مجروراً أو عاملاً فيه فعلٌ أو مبتدأ، لم تُلغِه لأنه ليس يرفعه الابتداء، وفي الظروف إذا قلت: فيها أخواك قائمان يرفعه الابتداء.
وتقول: مررتُ برجلٍ معه امرأةٌ ضاربتُه، فهذا بمنزلة قوله: معه كيسٌ مختومٌ عليه. فإن قلت: مررت برجل معه امرأةٌ ضاربِها، جررتَ ونصبت على ما فسّرتُ لك. وإن شئت قلت ضاربَها هو فنصبت، وإن شئت جررتَ ويكون هو وصفَ المضمَر في ضاربها حتى يكون كأنك لم تذكرها. وإن شئت جعلتَ هو منفصلاً، فيصير بمنزلة اسمٍ ليس من علامات المضمَر.
وتقول: مررتُ برجل معه امرأةٌ ضاربُها هو، فكأنك قلت: معه امرأةٌ ضاربُها زيدٌ. ومثل قولك ضاربُها هو قوله: مررتُ برجل معه امرأة ضاربُها أبوه، إذا جعلتَ الأب مثل زيد، فإن لم تُنزل هو والأبَ منزلة زيد وما ليس من سببه ولم يلتبس به قلت: مررتُ برجل معه امرأةٌ ضاربِها أبوه أو هو. وإن شئت نصبت، تُجرى الصفة على الرجل ولا تُجريها على المرأة، كأنك قلت: ضاربِها وضاربَها، وخصَصتَه بالفعل، فيجري مجرى مررتُ برجلٍ ضاربِها أبوه، ومررت بزيد ضاربَها أخوه. ولا يجوز هذا في زيد، كما أنه لا يجوز مررتُ برجلٍ ضاربِها زيدٌ، ولا مررتُ بعبد الله ضاربَها خالدٌ، وكما كان لم يجز يا ذا الجاريةِ الواطئَها زيدٌ، فتحملَه على النّداء. ولكن الجرّ جيد؛ ألا ترى أنك لو قلت: مررتُ بالذي وطئها أبوه جاز، ولو قلت بالذي وطئها زيد لم يكن. فإن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها أبوه، جررتَ كما تجرّ في زيد حين قلت: يا ذا الجارية الواطئِها زيد. وتقول: يا ذا الجارية الواطئَها أبوه، تجعل الواطئَها من صفة المنادى، ولا يجوز أن تقول: يا ذا الجارية الواطئَها زيد، من قبل أن الواطئَها من صفة المنادى، فلا يجوز كما لا يجوز أن تقول: مررتُ بالرجل الحَسن زيدٌ، وقد يجوز أن تقول بالحَسن أبوه.
وكذلك إن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها هو، وجعلت هو منفصلاً. وإن شئت نصبتَه كما تقول: يا ذا الجارية الواطئَها، فتُجريه على المنادى ولا تُجريه على الجارية.
وإن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها، وأن تريد الواطئِها هو لم يجز، كما لا يجوز مررتُ بالجارية الواطئِها تريد هو أو أنت، كما لا يجوز هذا وأنت تريد الأبَ أو زيداً. وليس هذا كقولك: مررتُ بالجارية التي وطئَها زيد أو التي وطئَها، لأن الفعل يضمَر فيه وتقع فيه علامة الإضمار، والاسم لا تقع فيه علامةُ الإضمار، فلو جاز ذلك لجاز أن يوصَف ذلك المضمَر بهو، فإنما يقع في هذا إضمار الاسم رفعاً إذا لم يوصف به شيء غيرُ الأول، وذلك قولك يا ذا الجارية الواطئَها، ففي هذا إضمار هو، وهو اسمُ المنادى، والصفة إنما هي للأول المنادى. ولو جاز هذا لجاز مررتُ بالرجل الآخِذِ به، تريد أنت، ولجاز مررتُ بجاريتك راضياً عنها، تريد أنت. ولو قلت مررت بجاريةٍ رضيت عنها، ومررت بجاريتك راضياً عنها، أو مررتُ بجاريتك قد رضيتَ عنها، كان جيداً، لأنك تضمِر في الفعل وتكون فيه علامة الإضمار ولا يكون ذلك في الاسم إلا أن تضمِر اسمَ الذي هو وصفه، ولا يوصف به شيء غيره مما يكون من سببه ويلتبس به.

وأما رُبَّ رجلٍ وأخيه منطلقَين، ففيها قبحٌ حتى تقول: وأخٍ له. والمنطلقان عندنا مجروران من قبل أن قوله وأخيه في موضع نكرة، لأن المعنى إنما هو وأخٍ له.
فإن قيل: أمضافة الى معرفة أو نكرة؟ فإنك قائلا الى معرفة، ولكنها أجريت مُجرى النكرة، كما أن مثلك مضافة الى معرفة وهي توصف بها النكرة، وتقع مواقعَها. ألا ترى أنك تقول ربّ مثلِك. ويدلّك على أنها نكرة أنه لا يجوز لك أن تقول: ربّ رجلٍ وزيدٍ، ولا يجوز لك أن تقول: ربّ أخيه حتى تكون قد ذكرت قبل ذلك نكرة.
ومثل ذلك قول بعض العرب: " كل شاةٍ وسَخلتِها " ، أي وسخلةٍ لها، ولا يجوز حتى تذكر قبله نكرة فيُعلَم أنك لا تريد شيئاً بعينه، وأنك تريد شيئاً من أمة كلُّ واحد منهم رجل، وضممتَ إليه شيئاً من أمة كلهم يقال له أخٌ. ولو قلت: وأخيه وأنت تريد به شيئاً بعينه كان مُحالاً. وقال:
أي فتى هيجاء أنت وجارِها ... إذا ما رجالٌ بالرجال استقلّتِ
فالجارّ لا يكون فيه أبداً ههنا إلا الجرّ، لأنه لا يريد أن يجعله جار شيء آخر فتى هيجاء، ولكنه جعله فتى هيجاء جار هيجاء، ولم يردْ أن يعني إنساناً بعينه، لأنه لو قال: أيُّ فتى هيجاءَ أنت وزيدٌ لجعل زيداً شريكه في المدح. ولو رفعه على أنت، لو قال: أيُّ فتى هيجاء أنت وجارُها، لم يكن فيه معنى أي جارها، الذي هو فيه معنى التعجب.
وقال الأعشى:
وكم دون بيتكَ من صفصَفٍ ... ودَكداكِ رَملٍ وأعقادِها
ووضْعِ سِقاءٍ وإحقابِه ... وحَلِّ حُلوسٍ وإغمادِها
هذا حجةٌ لقوله: رُبّ رجلٍ وأخيه. فهذا الاسم الذي لم يكن ليكون نكرةً وحدَه، ولا يوصف به نكرة، ولم يحتمل عندهم أن يكون نكرة، ولا يقع في موضع لا يكون فيه إلا نكرة حتى يكون أول ما يَشغلُ به العاملَ نكرة، ثم يُعطف عليه ما أضيف الى النكرة، ويصيّر بمنزلة مثلك ونحوه. ولم يُبتدأ به كما يُبتدأ بمثلك لأنه لا يجري مجراه وحدَه. ولم يَصر هذا نكرة إلا على هذا الوجه، كما أن أجمعين لا يجوز في الكلام إلا وصفاً، وكما أن أيُّ تكون في النداء كقولك: يا هذا، ولا يجوز إلا موصوفاً. وليس هذا حالَ الوصف والموصوف في الكلام، كما أنه ليس حالُ النكرة كحال هذا الذي ذكرتُ لك. وفيه على جوازه وكلامِ العرب به ضَعفٌ.
هذا باب ما يُنصب فيه الاسمُ لأنه
لا سبيل له الى أن يكون صفةً
وذلك قولك: هذا رجلٌ معه رجلٌ قائمين. فهذا ينتصب لأن الهاء التي في معه معرفة فأشركَ بينهما وكأنه قال: معه امرأةٌ قائمين.
ومثله: مررت برجلٍ مع امرأة ملتزمين، فله إضمارٌ في مع كما كان له إضمار في معه، إلا أن للمضمَر في معه علَما وليس له في مع امرأة علَم إلا بالنية. ويدلّك على أنه مضمَرٌ في النية قولُك: مررت بقومٍ مع فلان أجمعون.
ومما لا يجوز فيه الصفة: فوق الدار رجلٌ وقد جئتك برجل آخَر عاقلَين مسلمين.
وتقول: اصنعْ ما سَرّ أخاك وأحبَّ أبوك الرجلان الصالحان، على الابتداء؛ وتنصبه على المدح والتعظيم، كقول الخِرْنق من قيس بن ثعلبة:
لا يَبعَدنْ قومي الذين هُمُ ... سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكل معترَكٍ ... والطيبون معاقدَ الأزْرِ
ولا يكون نصبُ هذا كنصب الحال، وإن كان ليس فيه الألف واللام، لأنك لم تجعل في الدار رجل وقد جئتك بآخر، في حال تنبيهٍ يكونان فيه لإشارة، ولا في حال عمَلٍ يكونان فيه، لأنه إذا قال: هذا رجلٌ مع امرأة، أو مررت برجلٍ مع امرأة فقد دخل الآخرُ مع الأول في التنبيه والإشارة وجعلتَ الآخِرَ في مرورك، فكأنك قلت: هذا رجلٌ وامرأة، ومررت برجلٍ وامرأةٍ. وأما الألف واللام فلا يكونان حالاً البتة، لو قلت: مررت بزيدٍ القائمَ، كان قبيحاً إذا أردت قائماً.

وإن شئت نصبتَ على الشّتم، وذلك قولك: اصنعْ ما ساء أباك وكرِه أخوك الفاسقين الخبيثين. وإن شاء ابتدأ. ولا سبيل الى الصفة في هذا ولا في قولك: عندي غُلام وقد أتيتُ بجارية فارهين، لأنك لا تستطيع أن تجعل فارهين صفةً للأول والآخِر، ولا سبيل الى أن يكون بعض الاسم جرّاً وبعضه رفعاً، فلما كان كذلك صار بمنزلة ما كان معه معرفة من النكرات، لأنه لا سبيل الى وصف هذا كما أنه لا سبيل الى وصف ذلك، فجُعل نصباً كأنه قال: عندي عبد الله وقد أتيت بأخيه فارهين، جعل الفارهين ينتصبان على: النازلينَ بكلِّ معترَكٍ وفرّوا من الإحالة في عندي غلامٌ وأُتيتُ بجارية، الى الصب، كما فرّوا إليه في قولهم: فيها قائماً رجلٌ.
واعلم أنه لا يجوز أن تصف النكرة والمعرفة، كما لا يجوز وصفُ المختلفين، وذلك قولك: هذه ناقة وفصيلها الراتعان. فهذا محال، لأن الراتعان لا يكونان صفةً للفصيل ولا للناقة، ولا تستطيع أن تجعل بعضَها نكرةً وبعضَها معرفةً. وهذا قول الخليل رحمه الله.
وزعم الخليل أن الجرّين أو الرفعين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجرّ والرفع، وذلك قولك: هذا رجلٌ وفي الدار آخَرُ كريمين. وقد أتاني رجلٌ وهذا آخَرُ كريمين، لأنهما لم يرتفعا من وجهٍ واحد. وقبّحه بقوله: هذا لابن إنسانَين عندنا كِراماً، فقال: الجرّ ههنا مختلفٌ ولم يُشرَك الآخِرُ فيما جرّ الأول.
ومثل ذلك: هذه جارية أخَوَي ابنين لفلان كِراماً؛ لأن أخَوَي ابنين اسمٌ واحدٌ والمضاف إليه الآخِرُ منتهاه، ولم يُشركِ الآخِرَ بشيء من حروف الإشراك فيما جرّ الاسم الأول.
ومثل ذلك: هذا فرسُ أخَوَي ابنَيْك العُقلاء الحُلَماء، لأن هذا في المعرفة مثل ذاك في النكرة، فلا يكون الكرام والعقلاء صفة للأخوين والابنين، ولا يجوز أن يُجرى وصفاً لما انجرّ من وجهين كما لم يجز فيما اختلف إعرابُه.
ومما لا تجري الصفةُ عليه نحوُ هذان أخواك وقد تولّى أبواك الرجالُ الصالحون، إلا أن ترفعه على الابتداء، أو تنصبه على المَدْح والتعظيم.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن: مررت بزيدٍ وأتاني أخوه أنفسهما، فقال: الرفع على هما صاحباي أنفسهما، والنصب على أعنيهما، ولا مدح فيه لأنه ليس مما يُمدح به.
وتقول: هذا رجلٌ وامرأتُه منطلقان، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجهٍ واحد، وهما اسمان بُنيا على مبتدأين، وانطلق عبد الله ومضى أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعلين، وذهب أخوك وقَدِم عمرو الرجلان الحليمان.
واعلم أنه لا يجوز: مَن عبد الله وهذا زيدٌ الرجلين الصالحين، رفعتَ أو نصبتَ؛ لأنك لا تُثني إلا على من أثبتّه وعلمتَه، ولا يجوز أن تَخلِط من تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة، وإنما الصفة علَمٌ فيمن قد علمتَه.
؟

هذا باب ما ينتصب لأنه حال
ٌ
صار فيها المسئول والمسئول عنه وذلك قولك: ما شأنُك قائماً، وما شأن زيدٍ قائماً، وما لأخيك قائماً. فهذا حالٌ قد صار فيه، وانتصب بقولك: ما شأنُك كما ينتصب قائماً في قولك: هذا عبد الله قائماً، بما قبله. وسنبين هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وفيه معنى لِمَ قمتَ في ما شأنُك وما لكَ. قال الله تعالى: " فما لَهُم عن التّذكِرَة مُعرضين " .
ومثل ذلك مَن ذا قائماً بالباب، على الحال، أي مَن ذا الذي هو قائمٌ بالباب. هذا المعنى تريد. وأما العامل فيه فبمنزلة هذا عبدُ الله، لأن مَن مبتدأ قد بُني عليه اسم. وكذلك: لمن الدارُ مفتوحاً بابُها.
أما قولهم: مَن ذا خيرٌ منك، فهو على قوله: من الذي هو خيرٌ منك، لأنك لم ترد أن تشير أو تومِئ الى إنسان قد استبان لك فضلُه على المسئول فيُعلِمَكه، ولكنك أردت مَن ذا الذي هو أفضل منك. فإن أومأتَ الى إنسان قد استبان لك فضلُه عليه، فأردتَ أن يُعلِمَكَه نصبتَ خيراً منك، كما قلت: مَن ذا قائماً، كأنك قلت: إنما أريد أن أسألك عن هذا الذي قد صار في حالٍ قد فَضَلَك بها. ونصبُه كنصب ما شأنُك قائماً.
؟
باب ما ينتصب على التعظيم والمدح
وإن شئت جعلته صفةً فجرى على الأول، وإن شئت قطعتَه فابتدأتَه. وذلك قولك: الحمد لله الحميد هو، والحمد لله أهلَ الحمد، والمُلك لله أهلَ المُلك. ولو ابتدأته فرفعتَه كان حسناً، كما قال الأخطل:

نفسي فداء أمير المؤمنين إذا ... أبدى النواجذَ يومٌ باسلٌ ذكَرُ
الخائضُ الغمرَ والميمونُ طائره ... خليفةُ الله يُستسقى به المطرُ
وأما الصفة فإن كثيراً من العرب يجعلونه صفةً، فيُتبعونه الأولَ فيقولون: أهلِ الحمد والحميد هو، وكذلك الحمد لله أهلِه: إن شئت جررت، وإن شئت نصبت. وإن شئت ابتدأت كما قال مُهلهِل:
ولقد خبطن بيوتَ يشكُرَ خبطةً ... أخوالنا وهمُ بنو الأعمامِ
وسمعنا بعض العرب يقول: " الحمد لله ربَّ العالمين " ، فسألت عنها يونس فزعم أنها عربية.
ومثل ذلك قول الله عز وجلّ: " لكِنِ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلكَ والمقيمينَ الصلاةَ والمؤتون الزكاة " . فلو كان كله رفعاً كان جيداً. فأما المؤمنون فمحمولٌ على الابتداء.
وقال جلّ ثناؤه: " ولكنّ البرَّ مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المالَ على حُبه ذوي القُربى واليتامى والمساكين وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاةَ والموفونَ بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساءِ والضراء وحين البأسِ " . ولو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً. ولو ابتدأتَه فرفعته على الابتداء كان جيداً كما ابتدأتَ في قوله: " والمؤتون الزكاةَ " .
ونظير هذا النصب من الشعر قول الخِرنِق:
لا يبعَدَنْ قومي الذي همُ ... سمُّ العُداة وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكل مُعترَكٍ ... والطيبون معاقدَ الأزر
فرفعُ الطيبين كرفع المؤتين.
ومثل هذا في هذا الابتداء قول ابن خياط العُكلي:
وكل قوم أطاعوا أمرَ مُرشدهم ... إلا نُمَيراً أمرَ غاويها
الظاعنين ولما يُظعنوا أحداً ... والقائلون لمنْ دارٌ نُخلّيها
وزعم يونس أن من العرب من يقول: " النازلون بكل معترك والطيبين " فهذا مثل " والصابرين " . ومن العرب من يقول: الظاعنون والقائلين، فنصبُه كنصب الطيبين إلا أن هذا شتمٌ لهم وذمٌّ كما أن الطيبين مدحٌ لهم وتعظيم. وإن شئت أجريتَ هذا كلّه على الاسم الأول، وإن شئت ابتدأتَه جميعاً فكان مرفوعاً على الابتداء. كل هذا جائز في ذين البيتين وما أشبههما، كلُّ ذلك واسع.
وزعم عيسى أنه سمع ذا الرمة يُنشد هذا البيت نصباً:
لقد حملتْ قيسُ بن عَيلانَ حربَها ... على مستقلّ للنوائب والحربِ
أخاها إذا كانت عِضاضاً سما لها ... على كل حالٍ من ذَلول ومن صعبِ
زعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدّث الناس ولا مَن تخاطب بأمرٍ جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ، فجعله ثناء وتعظيماً ونصبه على الفعل، كأنه قال: أذكرُ أهلَ ذاك، وأذكر المقيمين، ولكنه فعلٌ لا يستعمل إظهارُه.
وهذا شبيهٌ بقوله: إنا بني فلانٍ نفعل كذا، لأنه لا يريد أن يخبر مَن لا يدري أنه من بني فلان، ولكنه ذكر ذلك افتخاراً وابتهاءً. إلا أن هذا يجري على حرف النداء، وستراه إن شاء الله عزّ وجلّ في بابه في باب النداء مبيّناً. وتُرك إظهار الفعل فيه حيث ضارع هذا وأشباهه، لأن إنّا بني فلان ونحوه بمنزلة النداء. وقد ضارعه هذا الباب.
ومن هذا الباب في النكرة قول أميةَ بن أبي عائذ:
ويأوي الى نِسوة عُطّلٍ ... وشُعثاً مراضيعَ مثل السّعالي
كأنه حيث قال: الى نسوة عُطّل صِرنَ عنده ممن عُلم أنهن شُعثٌ، ولكنه، ذكر ذلك تشنيعاً لهن وتشويهاً. قال الخليل: كأنه قال: وأذكرهنّ شُعثاً، إلا أن هذا فعلٌ لا يُستعمل إظهارُه. وإن شئت جررت على الصفة.
وزعم يونس أنك تقول: مررت بزيد أخيك وصاحبك، كقول الراجز:
بأعيُن منها مليحات النُّقَبْ ... شكلِ التِّجارِ وحلالِ المكتسَبْ
كذلك سمعناه من العرب. وكذلك قال مالك بن خويلد الخُناعي:
يا ميَّ لا يُعجز الأيامَ ذو حِيَدٍ ... في حَومةِ الموت رزّامٌ وفرّاسُ
يحمي الصريمةَ أُحدانُ الرجال، له ... صيدٌ، ومجترئٌ بالليل همّاسُ
وإن شئت حملته على الابتداء كما قال:
فَتي الناس لا يخفى عليهم مكانُه ... وضِرغامةٌ إن همّ بالحرب أوقعا
وقال آخر:

إذا لقى الأعداء كان خلاتَهم ... وكلبٌ على الأدنين والجارِ نابحُ
كذلك سمعناهما من الشاعرين اللذين قالاهما.
واعلم أنه ليس كل موضع يجوز فيه التعظيم، ولا كل صفة يحسن أن يعظَّم بها. لو قلت: مررت بعبد الله أخيك صاحبَ الثياب أو البزّاز، لم يكن هذا مما يعظَّم به الرجل عند الناس ولا يفخَّم به. وأما الموضع الذي لا يجوز فيه التعظيم فأن تذكر رجلاً بنبيهٍ عند الناس، ولا معروفٍ بالتعظيم ثم تعظّمه كما تعظّم النبيه. وذلك قولك: مررت بعبد الله الصالح. فإن قلت مررت بقومك الكرام الصالحين ثم قلت المُطعِمين في المَحل، جاز لأنه إذا وصفهم صاروا بمنزلة من قد عُرف منهم ذلك، وجاز له أن يجعلهم كأنه قد عُلموا. فاستحسن من هذا ما استحسن العربُ، وأجِزْه كما أجازته.
وليس كل شيء من الكلام يكون تعظيماً لله عزّ وجلّ يكون تعظيماً لغيره من المخلوقين: لو قلت: الحمدُ لزيد تريد العظمةَ لم يجز، وكان عظيماً. وقد يجوز أن تقول: مررت بقومك الكرام، إذا جعلت المخاطَب كأنه قد عرفهم، كما قال مررت برجلٍ زيدٌ، فتُنزله منزلةَ من قال لك من هو وإن لم يتكلم به. فكذلك هذا تُنزله هذه المنزلة وإن كان لم يعرفهم.
؟

باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم
وما أشبهه
تقول: أتاني زيدٌ الفاسقَ الخبيث: لم يرد أن يكرره ولا يعرّفك شيئاً تُنكره، ولكنه شتمه بذلك.
وبلغنا أن بعضهم قرأ هذا الحرف نصباً: " وامرأتُه حمّالةَ الحطب " لم يجعل الحمالة خبراً للمرأة، ولكنه كأنه قال: أذكرُ حمّالةَ الحطب، شتماً لها، وإن كان فعلاً لا يُستعمل إظهاره.
وقال عروة الصعاليك العبسي:
سقَوْني الخمرَ ثم تكنّفوني ... عُداةَ الله من كذب وزورِ
إنما شتمهم بشيء قد استقر عند المخاطَبين. وقال النابغة:
لَعمري وما عَمري عليّ بهيّنٍ ... لقد نطقتْ بُطلاً عليّ الأقارعُ
أقارعُ عَوفٍ لا أحاول غيرَها ... وجوهَ قرودٍ تبتغي من تُجاذع
وزعم يونس أنك إن شئت رفعتَ البيتين جميعاً على الابتداء، تُضمر في نفسك شيئاً لو أظهرته لم يكن ما بعده إلا رفعاً. ومثل ذلك:
متى ترَ عينيْ مالكٍ وجِرانَه ... وجَنبَيْه تعلمْ أنه غيرُ ثائرِ
حِضْجَرٌ كأمّ التوأمَين توكّأَتْ ... على مِرفقيها مستهلةَ عاشرِ
وزعموا أن أبا عمرو كان ينشد هذا البيت نصباً، وهذا الشعرُ لرجل معروف من أزْدِ السّراة:
قُبّح من يزني بعو ... فٍ من ذوات الخُمُرْ
الآكلَ الأشداء لا ... يحفِلُ ضوء القمر
وإن شاء جعله صفةً فجرّه على الاسم.
وزعم يونس أنه سمع الفرزدق يُنشد:
كم عمةٍ لك يا جريرُ وخالةٍ ... فَدْعاءَ قد حلبتْ عليّ عِشاري
شغّارةً تَقِذُ الفصيلَ برِجْلها فطّارةً لقوادمِ الأبكار جعله شتماً، وكأنه حين ذكر الحلب صار من يخاطَب عنده عالماً بذلك. ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان ذلك جائزاً عربياً. وقال:
طليقُ الله لم يمنُنْ عليه ... أبو داودَ وابنُ أبي كثيرِ
ولا الحجاجُ عينيْ بنتِ ماءٍ ... تقلّبُ طَرفها حَذَرَ الصّقور
فهذا بمنزلة وجوه قرودٍ.
وأما قول حسان بن ثابت:
حارِ بنَ كعب ألا أحلامَ تزجُركم ... عني وأنتم من الجُوف الجماخيرِ
لا بأس بالقوم من طُولٍ ومن عِظمٍ ... جسمُ البِغال وأحلامُ العصافير
فلم يردْ أن يجعله شتماً، ولكنه أراد أن يعدّد صفاتهم ويفسّرها، فكأنه قال: أما أجسامهم فكذا وأما أحلامهم فكذا.
وقال الخليل رحمه الله: لو جعله شتماً فنصبه على الفعل كان جائزاً.
وقد يجوز أن ينصب ما كان صفة على معنى الفعل ولا يريد مدحاً ولا ذمّاً ولا شيئاً مما ذكرت لك. وقال:
وما غرّني حوزُ الرِّزاميّ مِحصَناً ... عواشيها بالجوّ وهو خصيبُ
ومِحصن: اسم الرزامي، فنصبه على أعني، وهو فعل يظهر، لأنه لم يرد أكثر من أن يعرّفه بعينه، ولم يرد افتخاراً ولا مدحاً ولا ذماً. وكذلك سُمع هذا البيت من أفواه العرب، وزعموا أن اسمه مِحصَنٌ.
ومن هذا الترحم، والترحم يكون بالمسكين والبائس ونحوه، ولا يكون بكل صفة ولا كل اسم، ولكن ترحّم بما ترحّم به العرب.

وزعم الخليل أنه يقول: مررت به المسكين، على البدل، وفيه معنى الترحّم، وبدله كبدل مررت به أخيك. وقال:
فأصبحتْ بقَرْقَرى كَوانِساً ... فلا تلُمه أن ينام البائسا
وكان الخليل يقول: إن شئت رفعته من وجهين فقلت: مررت به البائس، كأنه لما قال مررت به قال المسكين هو، كما يقول مبتدئاً: المسكين هو، والبائس أنت. وإن شاء قال: مررت به المسكين هو، والبائس أنت. وإن شاء قال: مررت به المسكين، كما قال: بنا تماماً يُكشَف الضّبابْ وفيه معنى الترحّم، كما كان في قوله رحمةُ الله عليه معنى رحمه الله. فما يُترحّم به يجوز فيه هذان الوجهان، وهو قول الخليل رحمه الله. وقال أيضاً: يكون مررت به المسكين على: المسكين مررت به، وهذا بمنزلة لقيته عبد الله، إذا أراد عبد الله لقيتُه. وهذا في الشعر كثير.
وأما يونس فيقول: مررت به المسكينَ على قوله: مررت به مسكيناً.
وهذا لا يجوز لأنه لا ينبغي أن يجعله حالاً ويدخل فيه الألف واللام، ولو جاز هذا لجاز مررت بعبد الله الظريف، تريد ظريفاً. ولكنك إن شئت حملته على أحسنَ من هذا، كأنه قال: لقيت المسكينَ، لأنه إذا قال مررت بعبد الله فهو عملٌ، كأنه أضمر عملاً. وكأن الذين حملوه على هذا إنما حملوه عليه فِراراً من أن يصفوا المضمَر، فكان حملهم إياه على الفعل أحسن.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يقول إنه المسكين أحمق، على الإضمار الذي جاز في مررت، كأنه قال: إنه هو المسكين أحمق. وهو ضعيف. وجاز هذا أن يكون فصلاً بين الاسم والخبر لأن فيه معنى المنصوب الذي أجريته مجرى: إنا تميماً ذاهبون. فإذا قلت: بي المسكينَ كان الأمر، أو بك المسكينَ مررت، فلا يحسن فيه البدل، لأنك إذا عنيت المخاطَب أو نفسَك فلا يجوز أن يكون لا يدري من تعني، لأنك لست تحدّث عن غائب، ولكنك تنصبه على قولك: بنا تميماً، وإن شئت رفعته على ما رفعت عليه ما قبله. فهذا المعنى يجري على هذين الوجهين والمعنى واحد، كما اختلف اللفظان في أشياء كثيرة والمعنى واحد.
وأما يونس فزعم أنه ليس يرفع شيئاً من الترحم على إضمار شيء يرفع، ولكنه إن قال ضربته لم يقل أبداً إلا المسكين، يحمله على الفعل. وإن قال ضرباني قال المسكينان، حمله أيضاً على الفعل. وكذلك مررت به المسكين، يحمل الرفعَ على الرفع، والجرَّ على الجرّ، والنصب على النصب. ويزعم أن الرفع الذي فسّرنا خطأ. وهو قول الخليل رحمه الله وابن أبي إسحاق.
؟

باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني
على ما هو قبله من الأسماء المبهمة
والأسماء المبهَمة: هذا، وهذان، وهذه، وهاتان، وهؤلاء، وذلك وذانك، وتلك وتانك، وتيك، وأولئك، وهو وهي، وهما، وهم وهنّ، وما أشبه هذه الأسماء، وما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني على الأسماء غير المبهمة.
فأما المبني على الأسماء المبهمة فقولك: هذا عبد الله منطلقاً، وهؤلاء قومك منطلقين، وذاك عبد الله ذاهباً، وهذا عبد الله معروفاً. فهذا اسمٌ مبتدأ يبنى عليه ما بعده وهو عبد الله. ولم يكن ليكون هذا كلاماً حتى يُبنى عليه أو يبنى على ما قبله. فالمبتدأ مُسند والمبني عليه مسند إليه، فقد عمل هذا فيما بعده كما يعمل الجارّ والفعل فيما بعده. والمعنى أنك تريد أن تنبهه له منطلقاً، لا تريد أن تعرّفه عبد الله؛ لأنك ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: انظر إليه منطلقاً، فمنطلقٌ حالٌ قد صار فيها عبد الله وحالَ بين منطلق وهذا، كما حال بين راكب والفعل حين قلت: جاء عبد الله راكباً، صار لعبد الله وصار الراكب حالاً. فكذلك هذا.
وذاك بمنزلة هذا. إلا أنك إذا قلت ذاك فأنت تنبهه لشيء مُتراخ.
وهؤلاء بمنزلة هذا، وأولئك بمنزلة ذاك، وتلك بمنزلة ذاك. فكذلك هذه الأسماء المبهمة التي توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام.

وأما هو فعلامة مضمَر، وهو مبتدأ، وحال ما بعده كحاله بعد هذا. وذلك قولك: هو زيد معروفاً، فصار المعروف حالاً. وذلك أنك ذكرت للمخاطَب إنساناً كان يجهله أو ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: أثبتْه أو الزَمْه معروفاً، فصار المعروف حالاً، كما كان المنطلق حالاً حين قلت: هذا زيد منطلقاً. والمعنى أنك أردت أن توضّح أن المذكور زيد حين قلت معروفاً، ولا يجوز أن تذكر في هذا الموضع إلا ما أشبه المعروف، لأنه يعرّف ويؤكّد، فلو ذكر هنا الانطلاق كان غير جائز، لأن الانطلاق لا يوضّح أنه زيد ولا يؤكده. ومعنى قوله معروفاً: لا شك؛ وليس ذا في منطلق. وكذلك هو الحق بيّناً، ومعلوماً، لأن ذا مما يوضَّح ويؤكَّد به الحقّ.
وكذلك هي وهما وهم وهنّ، وأنا وأنت وإنه. قال ابن دارة:
أنا ابن دارةَ معروفاً بها نسبي ... وهل بدارةَ يا للناس من عارِ
وقد يكون هذا وصواحبه بمنزلة هو، يعرَّف به، تقول: هذا عبد الله فاعرفْه؛ إلا أن هذا علامةً للمضمَر، ولكنك أردت أن تعرّف شيئاً بحضرتك.
وقد تقول: هو عبد الله، وأنا عبد الله، فاخراً أو مُوعداً. أي اعرِفْني بما كنتَ تعرف وبما كان بلغك عني، يم يفسّر الحال التي كان يعلمه عليها أو تبلغه فيقول: أنا عبد الله كريماً جواداً، وهو عبد الله شجاعاً بطلاً.
وتقول: إني عبد الله؛ مصغِّراً نفسه لربّه، ثم تفسّر حال العبيد فتقول: آكِلاً كما تأكل العبيد.
وإذا ذكرت شيئاً من هذه الأسماء التي هي علامة للمضمَر فإنه مُحال أن يظهر بعدها الاسم إذا كنت تُخبر عن عمل، أو صفة غير عمل، ولا تريد أن تعرّفه بأنه زيدٌ أو عمرو. وكذلك إذا لم توعد ولم تفخر أو تصغّر نفسك؛ لأنك في هذه الأحوال تعرّف ما تُرى أنه قد جُهل، أو تُنزل المخاطَب منزلة من يجهل فخراً أو تهدُّداً أو وعيداً، فصار هذا كتعريفك إياه باسمه.
وإنما ذكر الخليل رحمه الله هذا لنعرف ما يُحال منه وما يَحسن، فإن النحويين مما يتهاونون بالخلفْ إذا عرفوا الإعراب. وذلك أن رجلاً من إخوانك ومعرفتك لو أراد أن يخبرك عن نفسه أو عن غيره بأمر فقال: أنا عبد الله منطلقاً، وهو زيد منطلقاً كان مُحالاً؛ لأنه إنما أراد أن يخبرك بالانطلاق ولم يقل هو ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية، لأن هو وأنا علامتان للمضمَر، وإنما يضمِر إذا علم أنك عرفت من يعني. إلا أن رجلاً لو كان خلفَ حائط، أو في موضع تجهله فيه فقلت من أنت؟ فقال: أنا عبد الله منطلقاً في حاجتك، كان حسناً.
وأما ما ينتصب لأنه خبر مبنيّ على اسم غير مبهم، فقولك: أخوك عبد الله معروفاً. هذا يجوز فيه جميع ما جاز في الاسم الذي بعد هو وأخواتها.
؟

هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة
وذلك قولك: هذان رجلان وعبد الله منطلقين. وإنما نصبت للمنطلقين لأنه لا سبيل الى أن يكون صفةً لعبد الله، ولا أن يكون صفة للإثنين، فلما كان ذلك مُحالاً جعلته حالاً صاروا فيها، كأنك قلت: هذا عبد الله منطلقاً.
وهذا شبيه بقولك: هذا رجل مع امرأةٍ قائمَيْن.
وإن شئت قلت: هذان رجلان وعبد الله منطلقان، لأن المنطلقين في هذا الموضع من اسم الرجلين، فجريا عليه.
وتقول: هؤلاء ناسٌ وعبد الله منطلقين، إذا خلطتَهم. ومن قال: هذان رجلان وعبد الله منطلقان قال: هؤلاء ناس وعبد الله منطلقون؛ لأنه لم يُشرك بين عبد الله وبين ناسٍ في الانطلاق.
وتقول: هذه ناقة وفصيلها راتعين. وقد يقول بعضهم: هذه ناقة وفصيلها راتعان. وهذا شبيه بقول من قال: كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، إنما يريد كل شاةٍ وسخلة لها بدرهم. ومن قال كل شاةٍ وسخلتها، فجعله يمنزلة كل رجل وعبد الله منطلقاً لم يقل في الراتعين إلا النصب، لأنه إنما يريد حينئذ المعرفة، ولا يريد أن يُدخل السخلة في الكل لأن كل لا يدخل في هذا الموضع إلا على النكرة. والوجه كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، وهذه ناقة وفصيلها راتعين، لأن هذا أكثر في كلامهم، وهو القياس. والوجه الآخر قد قاله بعض العرب.
؟
هذا باب
ما يجوز فيه الرفع مما ينتصب في المعرفة
وذلك قولك: هذا عبد الله منطلقٌ، حدّثنا بذلك يونس وأبو الخطاب عمن يوثق به من العرب.
وزعم الخليل رحمه الله أن رفعه يكون على وجهين:

فوجهٌ أنك حين قلت: هذا عبد الله أضمرت هذا أو هو، كأنك قلت هذا منطلق أو هو منطلق. والوجه الآخر: أن تجعلهما جميعاً خبراً لهذا، كقولك: هذا حلوٌ حامضٌ، لا تريد أن تنقض الحلاوة، ولكنك تزعم أنه جمع الطعمين. وقال الله عز واجلّ: " كلا إنها لظى. نزّاعة للشّوى " . وزعموا أنها في قراءة أبي عبد الله. " هذا بعلي شيخٌ " .
قال: سمعنا ممن يروي هذا الشعر من العرب يرفعه:
من يكُ ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظٌ مصيّفٌ مشتي
وأما قول الأخطل:
ولقد أبيتُ من الفتاة بمنزل ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ
فزعم الخليل رحمه الله أن هذا ليس على إضمار أنا. ولو جاز هذا على إضمار أنا لجاز: كان عبد الله لا مسلمٌ ولا صالح على إضمار هو. ولكنه فيما زعم الخليل رحمه الله: فأبيت بمنزلة الذي يقال لا حرجٌ ولا محروم. ويقوّيه في ذلك قوله، وهو الربيع الأسدي:
على حين أن كانت عُقَيلٌ وشائظا ... وكانت كلابٌ خامري أمَّ عامرِ
فإنما أراد: كانت كلاب التي يقال لها خامري أم عامر.
وقد زعم بعضهم أن رفعه على النفي، كأنه قال: فأبيتُ لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا به. وقال الخليل رحمه الله: كأنه حكاية لما كان يُتكلّم به قبل ذلك، فكأنه حكى ذلك اللفظ، كما قال:
كذَبْتُم وبيتِ الله لا تنكحونَها ... بني شابَ قرناها تصُرُّ وتحلُبُ
أي بني من يقال له ذلك.
والتفسير الآخر الذي على النفي كأنه أسهل.
وقد يكون رفعه على أن تجعل عبد الله معطوفاً على هذا كالوصف، فيصير كأنه قال: عبد الله منطلقٌ. وتقول: هذا زيدٌ رجلٌ منطلقٌ على البدل، كما قال تعالى جدُّه: " بالناصية. ناصيةٍ كاذبةٍ " . فهذه أربعة أوجه في الرفع.
؟

هذا باب
ما يرتفع فيه الخبر لأنه مبني على مبتدأ
أو ينتصب فيه الخبر لأنه حال لمعروفٍ مبني على مبتدأ فأما الرفع فقولك: هذا الرجل منطلقٌ، فالرجل صفة لهذا، وهما بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت: هذا منطلقٌ. قال النابغة:
توهّمتُ آياتٍ لها فعرفتُها ... لستة أعوام وذا العام سابعُ
كأنه قال: وهذا سابعٌ.
وأما النصب فقولك: هذا الرجل منطلقاً، جعلتَ الرجل مبنياً على هذا، وجعلت الخبر حالاً له قد صار فيها، فصار كقولك: هذا عبد الله منطلقاً. وإنما يريد في هذا الموضع أن يُذكَر المخاطَب برجلٍ قد عرفه قبل ذلك، وهو في الرفع لا يريد أن يُذكره بأحد، وإنما أشار فقال هذا منطلقٌ، فكأن ما ينتصب من أخبار المعرفة ينتصب على أنه حالٌ مفعول فيها، لأن المبتدأ يعمل فيما بعده كعمل الفعل فيما يكون بعده، ويكن فيه معنى التنبيه والتعريف، ويحولُ بين الخبر والاسم المبتدأ كما يحول الفاعل بين الفعل والخبر، فيصير الخبر حالاً قد ثبت فيها وصار فيها كما كان الظرف موضعاً قد صِيرَ فيه بالنية وإن لم يذكر فعلاً. وذلك أنك إذا قلت فيها زيدٌ فكأنك قلت استقرّ فيها زيد وإن لم تذكر فعلاً؛ والنصب بالذي هو فيه كانتصاب الدرهم بالعشرين لأنه ليس من صفته ولا محمولاً على ما حُمل عليه، فأشبه عندهم ضاربٌ زيداً.
وكذلك هذا عمل فيما بعده عمل الفعل، وصار منطلقٌ حالاً، فانتصب بهذا الكلام انتصابَ راكب بقول: مرّ زيد راكباً.
وأما قوله عز وجلّ " هو الحقُّ مصدّقاً " فإن الحق لا يكون صفةً لهو، من قبل أن هو اسم مضمَر والمضمر لا يوصَف بالمظهر أبداً؛ لأنه قد استغنى عن الصفة. وإنما تُضمِر الاسم حين يستغنى بالمعرفة، فمن ثمّ لم يكن في هذا الرفع كما كان في هذا الرجلُ. ألا ترى أنك لو قلت: مررت بهو الرجل، لم يجز ولم يَحسن، ولو قلت: مررت بهذا الرجل، كان حسناً جميلاً.
؟
باب ما ينتصب فيه الخبر
لأنه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء، قدّمته أو أخرته وذلك قولك: فيها عبد الله قائماً، وعبد الله فيها قائماً. فعبد الله ارتفع بالابتداء لأن الذي ذكرت قبله وبعده ليس به، وإنما هو موضعٌ له، ولكنه يجري مجرى الاسم المبني على ما قبله. ألا ترى أنك لو قلت: فيها عبد الله حسُن السكوت وكان كلاماً مستقيماً، كما حسن واستُغنى في قولك: هذا عبد الله. وتقول: عبد الله فيها، فيصير كقولك عبد الله أخوك. إلا أن عبد الله يرتفع مقدَّماً كان أو مؤخراً بالابتداء.

ويدلّك على ذلك أنك تقول: إن فيها زيداً، فيصير بمنزلة قولك: إن زيداً فيها؛ لأن فيها لما صارت مستقَراً لزيد يستغني به السكوت وقعَ موقع الأسماء، كما أن قولك: عبد الله لقيتُه يصير لقيتُه فيه بمنزلة الاسم، كأنك قلت: عبد الله منطلق، فصار قولك فيها كقولك: استقرّ عبد الله، ثم أردت أن تُخبِر على أية حالٍ استقرّ فقلت قائماً، فقائم حال مستقَرٌّ فيها. وإن شئت ألغيت فيها فقلت: فيها عبد الله قائمٌ. قال النابغة:
فبتُّ كأني ساورتْني ضئيلةٌ ... من الرُقشِ في أنيابها السمُ ناقعُ
وقال الهذلي:
لا درَّ درّيَ إن أطعمتُ نازلَكم ... قِرفَ الحتيّ وعندي البُرُّ مكنوزُ
كأنك قلت: البرُّ مكنوزٌ عندي، وعبد الله قائمٌ فيها.
فإذا نصبت القائم ففيها قد حالت بين المبتدأ والقائم واستُغني بها، فعمل المبتدأ حين لم يكن القائم مبنياً عليه، عمل هذا زيدٌ قائماً، وإنما تجعل فيها، إذا رفعت القائم، مستقرَّاً للقيام وموضعاً له، وكأنك لو قلت: فيها عبد الله، لم يجز عليه السكوت. وهذا يدلّك على أن فيها لا يُحدث الرفع أيضاً في عبد الله؛ لأنها لو كانت بمنزلة هذا لم تكن لتُلغى، ولو كان عبد الله يرتفع بفيها لارتفع بقولك عبد الله مأخوذٌ؛ لأن الذي يرفع وينصب ما يستغني عليه السكوت وما لا يستغني، بمنزلة واحدة. ألا ترى أن كان تعمل عمل ضرب، ولو قلت كان عبد الله لم يكن كلاماً، ولو قلت ضرب عبد الله كان كلاماً.
ومما جاء في الشعر أيضاً مرفوعاً قوله، لابن مقبل:
لا سافِرُ النّيّ مدخولٌ ولا هَبِجٌ ... عاري العظام عليه الودْع منظومُ
فجميع ما يكون ظرفاً تلغيه إن شئت، لأنه لا يكون آخِراً إلا على ما كان عليه أولاً قبل الظرف، ويكون موضع الخبر دون الاسم، فجرى في أحد الوجهين مجرى ما لا يستغني عليه السكوت، كقولك: فيك زيدٌ راغبٌ فرغبتُه فيه.
ومثل قولك فيها عبد الله قائماً: هو لك خالصاً، وهو لك خالصٌ؛ كأن قولك هو لك بمنزلة أهبُه لك ثم قلت خالصاً. ومن قال فيها عبد الله قائم، قال هو لك خالص، فيصير خالص مبنياً على هو كما كان قائم مبنياً على عبد الله، وفيها لَغوٌ، إلا أنك ذكرت فيها لتبيّن أين القيام، وكذلك لك إنما أردت أن تبيّن لمن الخالصُ.
وقد قُرئ هذا الحرف على وجهين: " قُل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةٌ يوم القيامة " ، بالرفع والنصب.
وبعض العرب يقول: هو لك الجمّاء الغفيرُ، يرفع كما يرفع الخالص. والنصبُ أكثر، لأن لجمّاء الغفير بمنزلة المصدر، فكأنه قال هو لك خُلوصاً. فهذا تمثيلٌ ولا يُتكلم به.
ومما جاء في الشعر قد انتصب خبرُه وهو مقدَّم قبل الظرف، قوله:
إن لكمْ أصلَ البلاد وفرعَها ... فالخير فيكم ثابتاً مبذولا
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: أتكلم بهذا وأنت ههنا قاعداً.
ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه أمر قول العرب: هو رجلُ صدقٍ معلوماً ذاك، وهو رجل صدق معروفاً ذاك، وهو رجل صدق بينّا ذاك، كأنه قال: هذا رجل صدق معروفاً صلاحُه، فصار حالاً وقع فيه أمر، لأنك إذا قلت: هو رجل صدقٍ فقد أخبرتَ بأمر واقع، ثم جعلتَ ذلك الوقوع على هذه الحال. ولو رفعتَ كان جائزاً على أن تجعله صفةً، كأنك قلت: هو رجل معروفُ صلاحُه.
ومثل ذلك: مررت برجل حسنةٍ أمه كريماً أبوها، زعم الخليل أنه أخبر عن الحُسن أنه وجبَ لها في هذه الحال. وهو كقولك: مررت برجلٍ ذاهبةٍ فرسُه مكسوراً سرجُها، والأول كقولك: هو رجل صدق معروفاً صدقه، وإن شئت قلت معروفٌ ذلك ومعلوم ذلك، على قولك: ذاك معروفٌ وذاك معلوم. سمعتُه من الخليل.
؟هذا بابٌ من المعرفة
يكون فيه الاسم الخاص شائعاً في الأمة
ليس واحدٌ منها أولى به من الآخر، ولا يُتوهّم به واحدٌ دون آخر له اسمٌ غيره، نحو قولك للأسد: أبو الحارث وأسامة، وللثعلب: ثُعالة وأبو الحُصَين وسَمسَم، وللذئب: دأَلان وأبو جَعدة، وللضّبُع: أمّ عامر وحَضاجر وجَعار وجيْأل وأمّ عنثل وقَثام، ويقال للضِّبعان قُثَم.
ومن ذلك قولهم للغراب: ابن بَريح.

فكل هذا يجري خبره مجرى خبر عبد الله. ومعناه إذا قلت هذا أبو الحارث أو هذا ثُعالة أنك تريد هذا الأسد وهذا الثعلب؛ وليس معناه كمعنى زيد وإن كانا معرفةً. وكان خبرهما نصباً من قبل أنك إذا قلت هذا زيدٌ فزيد اسم لمعنى قولك هذا الرجل إذا أردتَ شيئاً بعينه قد عرفه المخاطَب بحلْيته أو بأمر قد بلغه عنه قد اختُص به دون من يعرف. فكأنك إذا قلت هذا زيد قلت: هذا الرجل الذي من حِليته ومن أمره كذا وكذا بعينه، فاختُصّ هذا المعنى باسم عَلَم يلزم هذا المعنى، ليُحذف الكلام وليُخرَج من الاسم الذي قد يكون نكرة ويكون لغير شيء بعينه. لأنك إذا قلت هذا الرجل فقد يكون أن تعني كماله، ويكون أن تقول هذا الرجل وأن تريد كل ذكَر تكلم ومشى على رجلين فهو رجل. فإذا أراد أن يُخلِص ذلك المعنى ويختصه ليُعرَف من يُعنى بعينه وأمره قال زيد ونحوه.
وإذا قلت: هذا أبو الحارث فأنت تريد هنا الأسد، أي هذا الذي سمعتَ باسمه، أو هذا الذي قد عرفتَ أشباهه، ولا تريد أن تشير الى شيء قد عرفه بعينه قبل ذلك، كمعرفته زيداً، ولكنه أراد هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم، فاختُصّ هذا المعنى باسم كما اختُص الذي ذكرنا بزيد لأن الأسد يتصرف تصرّف الرجل ويكون نكرة، فأرادوا أسماءً لا تكون إلا معرفة وتلزم ذلك المعنى.
وإنما منع الأسد وما أشبهه أن يكون له اسمٌ معناه معنى زيد، أن الأسد وما أشبهها ليست بأشياء ثابتة مقيمة مع الناس فيحتاجوا الى أسماء يعرفون بها بعضاً من بعض، ولا تحفَظ حُلاها كحفظ ما يَثبت مع الناس ويقتنونه ويتخذونه. ألا تراهم قد اختصوا الخيل والإبل والغنم والكلاب وما تثبت معهم واتخذوه، بأسماء كزيد وعمرو.
ومنه أبو جُخادب، وهو شيء يشبه الجندُب غير أنه أعظم منه، وهو ضربٌ من الجنادب كما أن بنات أوبَر ضربٌ من الكمأة، وهي معرفة.
ومن ذلك ابنُ قِتْرة، وهو ضربٌ من الحيات، فكأنهم إذا قالوا هذا ابن قتْرة فقد قالوا هذا الحية الذي من أمره كذا وكذا.
وإذا قالوا بنات أوبَر فكأنهم قالوا هذا الضرب الذي من أمره كذا وكذا من الكمأة، وإذا قالوا أبو جُخادب فكأنهم قالوا هذا الضرب الذي سمعتَ به من الجنادب أو رأيته. ومثل ذلك ابنُ آوى كأنه قال هذا الضرب الذي سمعته أو رأيته من السباع؛ فهو ضرب من السباع كما أن بنات أوبر ضربٌ من الكمأة. ويدلك على أنه معرفة أن آوى غير مصروف وليس بصفة. ومثل ذلك ابنُ عِرس وأم حُبَين وسامّ أبرص. وبعض العرب يقول أبو بُريص وحمار قبّان، كأنه قال في كل واحد من هذا الضرب الذي يعرَف من أحناش الأرض بصورة كذا. وكأنه قال في المؤنث نحو أم حُبين هذه التي تعرَف من أحناش الأرض بصورة كذا.
واختصت العرب لكل ضرب من هذه الضروب اسماً على معنى الذي تعرفها به لا تدخله النكرة كما أن الذي تعرف لا تدخله النكرة، كما فعلوا ذلك بزيد والأسد. إلا أن هذه الضروب ليس لكل واحد منها اسم يقع على كل واحد من أمته يدخله المعرفة والنكرة، بمنزلة الأسد يكون معرفة ونكرة، ثم اختُص باسم معروف كما اختُص الرجل بزيد وعمرو، وهو أبو الحارث، ولكنها لزمت اسماً معروفاً، وتركوا الاسم الذي تدخله المعاني المعرفة والنكرة، ويدخله التعجب، وتوصَف به الأسماء المبهمة كمعرفته بالألف واللام نحو الرجل.
والتعجب كقولك: هذا الرجل وأنت تريد أن ترفع شأنه.
ووصفُ الأسماء المبهمة نحو قولك: هذا الرجل قائم. فكأن هذا اسمٌ جامع لمعان.
وابن عِرس يراد به معنى واحد، كما أريد بأبي الحارث وبزيد معنى واحد واستُغني به.
ومثَل هذا في بابه مثَل رجل كانت كُنيته هي الاسم وهي الكنية.
ومثَل الأسد وأبي الحارث كرجل كانت له كنية واسمٌ.
ويدلّك على أن ابن عرس وأم حُبين وسامَّ أبرص وابن مَطَر معرفة، أنك لا تدخل في الذي أُضِفن إليه الألف واللام، فصار بمنزلة زيد وعمرو. ألا ترى أنك لا تقول أبو الجُخادب.
وهو قول أبي عمرو، حدّثنا به يونس عن أبي عمرو.
وأما ابن قترة وحمار قبّان وما أشبههما، فيدلك على معرفتهن ترك صرف ما أُضفن إليه.
وقد زعموا أن بعض العرب يقول: هذا ابنُ عرس مُقبلٌ، فرفعه على وجهين: فوجهٌ مثل: هذا زيد مقبل، ووجه على أنه جعل ما بعده نكرة فصار مضافاً الى نكرة، بمنزلة قولك هذا رجلٌ منطلق.

ونظير ذلك هذا قيسُ قُفّةٍ آخر منطلق. وقيسُ قُفة لقب، والألقاب والكُنى بمنزلة الأسماء نحو زيد وعمرو، ولكنه أراد في قيس قُفة ما أراد في قوله هذا عُثمان آخر، فلم يكن له بدّ من أن يُجعل ما بعده نكرة حتى يصير نكرة، لأنه لا يكون الاسم نكرة وهو مضاف الى معرفة.
وعلى هذا الحد تقول: هذا زيد منطلق، كأنك قلت هذا رجل منطلق، فإنما دخلت النكرة على هذا العلَم الذي إنما وُضع للمعرفة ولهذا جيء به، فالمعرفة هنا الأوْلى.
وأما ابن لَبون وابن مَخاض فنكرة، لأنها تدخلها الألف واللام. وكذلك ابن ماء. قال جرير، فيما دخل فيه الألف واللام:
وابن اللَبون إذا ما لُزّ في قَرَن ... لم يستطع صولةَ البُزْلِ القناعيسِ
وقال أبو عطاء السِّندي:
مفدَّمةً قزّاً كأن رِقابها ... رِقاب بنات الماء أفزَعها الرّعدُ
وقال الفرزدق:
وجدنا نهشَلاً فضلَتْ فقيْماً ... كفضل ابن المَخاض على الفصيلِ
فإذا أخرجتَ الألف واللام صار الاسم نكرةً. قال ذو الرّمة:
ورَدتُ اعتِسافاً والثريّا كأنها ... على قمة الرأس ابنُ ماءٍ مُحلّقُ
وكذلك ابن أفعلَ إذا كان أفعل ليس باسمٍ لشيء.
وقال ناسٌ: كلُ ابن أفعلَ معرفة لأنه لا ينصرف. وهذا خطأ؛ لأن أفعل لا ينصرف وهو نكرة، ألا ترى أنك تقول هذا أحمرُ قُمُذٌ فترفعه إذا جعلته صفة للأحمر، ولو كان معرفةً كان نصباً، فالمضاف إليه بمنزلته. قال ذو الرمة:
كأنّا على أولاد أحقَبَ لاحَها ... ورمْيُ السّفا أنفاسَها بِسَهامِ
جَنوبٌ ذَوَتْ عنها التناهي وأنزلتْ ... بها يومَ ذبّابِ السّبيب صيامِ
كأنه قال: على أولاد أحقبَ صيامٍ.
؟باب ما يكون فيه الشيء غالباً عليه اسم
يكون لكل من كان من أمته، أو كان في صفته، من الأسماء التي يدخلها الألف واللام، وتكون نكرتُه الجامعة لما ذكرتُ لك من المعاني.
وذلك قولك فلان بنُ الصَّعِق. والصعقُ في الأصل صفة تقع على كل من أصابه الصّعق، ولكنه غلب عليه حتى صار عَلَماً بمنزلة زيد وعمرو.
وقولهم النجمُ، صار علَماً للثّريا.
وكابن الصّعِق قولُهم: ابن رألان، وابنُ كُراع، صار علماً لإنسان واحد، وليس كل من كان ابناً لرألان وابناً لكُراع غلب عليه هذا الاسم. فإن أخرجت الألف واللام من النجم والصّعق لم يكن معرفة، من قبل أنك صيّرته معرفةً بالألف واللام، كما صار ابنُ رألان معرفةً برألان، فلو ألقيتَ رألان لم يكن معرفةً.
وليس هذا بمنزلة زيد وعمرو وسَلْم، لأنها أعلامٌ جمعت ما ذكرنا من التطويل وحذفوا.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما منعهم أن يُدخلوا في هذه الأسماء الألف واللام أنهم لم يجعلوا الرجل الذي سُمّي بزيد من أمةٍ كلُّ واحد منها يلزمه هذا الاسم، ولكنهم جعلوه سُمّي به خاصاً.
وزعم الخليل رحمه الله أن الذين قالوا الحارث والحَسَن والعبّاس، إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه، ولم يجعلوه سُمّي به، ولكنهم جعلوه كأنه وصفٌ له غلَب عليه. ومن قال حارثٌ وعبّاس فهو يُجريه مُجرى زيد.
وأما ما لزمته الألف واللام فلم يسقُطا منه، فإنما جُعل الشيء الذي يلزمه ما يلزم كلّ واحد من أمته.
وأما الدّبَران والسِّماك والعيّوق وهذا النحو، فإنما يُلزَم الألفَ واللام من قبل أنه عندهم الشيء بعينه.
فإن قال قائل: أيقال لكل شيء صار خلف شيء دَبَران، ولكل شيء عاق عن شيء عيّوق، ولكل شيء سمك وارتفع سِماك، فإنك قائل له: لا، ولكن هذا بمنزلة العِدل والعَديل. والعديل: ما عادَلك من الناس، والعِدل لا يكون إلا للمتاع، ولكنهم فرقوا بين البناءين ليفصلوا بين المتاع وغيره.
ومثل ذلك بناء حصين وامرأة حصان، فرقوا بين البناء والمرأة، فإنما أرادوا أن يُخبروا أن البناء مُحرز لمن لجأ إليه، وأن المرأة محرزة لفرجها.
ومثل ذلك الرزين من الحجارة والحديد، والمرأة رزان، فرقوا بين ما يُحمَل وبين ما ثقُل في مجلسه فلم يخفّ.
وهذا أكثر من أن أصفه لك في كلام العرب؛ فقد يكون الاسمان مشتقّين من شيء والمعنى فيهما واحد، وبناؤهما مختلف، فيكون أحد البناءين مختصاً به شيء دون شيء ليفرق بينهما. فكذلك هذه النجوم اختُصّت بهذه الأبنية.

وكل شيء جاء قد لزم الألف واللام فهو بهذه المنزلة. فإن كان عربياً نعرفه ولا نعرف الذي اشتُق منه فإنما ذاك لأنّا جهلنا ما علم غيرُنا، أو يكون الآخِر لم يصل إليه علم وصل الى الأول المسمّي.
وبمنزلة هذه النجوم الأربعاء والثلاثاء، إنما يرايد الرابع والثالث. وكلها أخبارها كأخبار زيد وعمرو.
فإن قلت: هذان زيدان منطلقان، وهذان عَمران منطلقان، لم يكن هذا الكلام إلا نكرة، من قبل أنك جعلته من أمة كل رجل منها زيد وعمرو، وليس واحد منها أولى به من الآخَر. وعلى هذا الحدّ تقول: هذا زيد منطلق. ألا ترى أنك تقول: هذا زيد من الزيدين، أي هذا واحد من الزيدين، فصار كقولك: هذا رجل من الرجال.
وتقول: هؤلاء عَرَفات حسنةً، وهذان أبانان بيّنين. وإنما فرقوا بين أبانين وعرفات، وبين زيدَين وزيدِين، من قبل أنهم لم يجعلوا التثنية والجمع علماً لرجلين ولا لرجال بأعيانهم، وجعلوا الاسم الواحد علماً لشيء بعينه، كأنهم قالوا، إذا قلت ائتِ بزيد إنما تريد: هاتِ هذا الشخص الذي نشير لك إليه. ولم يقولوا إذا قلنا جاء زيدانِ فإنما نعني شخصين بأعيانهما قد عُرفا قبل ذلك وأُثبتا، ولكنهم قالوا إذا قلنا قد جاء زيد فلان وزيدُ بن فلان فإنما نعني شيئين بأعيانهما فهكذا تقول إذا أردت أن تُخبر عن معروفين.
وإذا قالوا هذان أبانان وهؤلاء عرفات فإنما أرادوا شيئاً أو شيئين بأعيانهما اللذين نشير إليهما. وكأنهم قالوا إذا قلت ائت أبانين، فإنما نعني هذين الجيلين بأعيانهما اللذين نشير لك إليهما. ألا ترى أنهم لم يقولوا: امرر بأبان كذا وأبن كذا، لم يفرقوا بينهما لأنهما جعلوا أبانين اسماً لهما يُعرفان به بأعيانهما.
وليس هذا في الأناسيّ ولا في الدواب، إنما يكون هذا في الأماكن والجبال وما أشبه ذلك، من قبل أن الأماكن والجبال أشياء لا تزول، فيصير كل واحد من الجبلين داخلاً عندهم في مثل ما دخل فيه صاحبُه من الحال في الثّبات والخِصب والقحط، ولا يشار الى واحد منهما بتعريف دون الآخر، فصارا كالواحد الذي لا يزايله منه شيء حيث كان في الأناسي وفي الدواب. والإنسانان والدابتان لا يثبتان أبداً بأنهما يزولان ويتصرفان، ويشار الى أحدهما والآخر عنه غائب.
وأما قولهم: أعطِكم سُنّة العُمَرين فإنما أُدخلت الألف واللام على عُمَرين وهما نكرة فصارا معرفة بالألف واللام كما صار الصّعِق معرفة بهما، واختُصا به كما اختُص النجم بهذا الاسم، فكأنهما جُعلا من آمة كل واحد منهم عُمر، ثم عُرّفا بالألف واللام فصارا بمنزلة الغرِيَّيْن المشهورين بالكوفة، وبمنزلة النَّسرين، إذا كنتَ تعني النجمين.
؟

باب
ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفة
إذا بُني على ما قبله، وبمنزلته في الاحتياج الى الحشو، ويكون نكرة بمنزلة رجل. وذلك قولك: هذا مَن أعرف منطلقاً، وهذا مَن لا أعرف منطلقاً، أي هذا الذي علمتُ أني لا أعرفه منطلقاً. وهذا ما عندي مَهيناً، وأعرف ولا أعرف وعندي حشوٌ لهما يتمّان به، فيصيران اسماً كما كان الذي لا يتم إلا بحشوه.
وقال الخليل رحمه الله: إن شئت جعلتَ مَن بمنزلة إنسان وجعلت ما بمنزلة شيء نكرتين، ويصير منطلقٌ صفةً لمن ومَهينٌ صفة لمَا. وزعم أن هذا البيت عنده مثل ذلك، وهو قول الأنصاري:
فكفى بنا فضلاً على مَن غيرِنا ... حبُّ النبي محمد إيّانا.
ومثل ذلك قول الفرزدق:
إني وإياك إذ حلّت بأرحُلنا ... كمن بواديه بعد المحل ممطورِ
وأما هذا ما لديّ عنيد فرفعُه على وجهين: على شيء لديّ عنيد، وعلى هذا بعلي شيخٌ.
وقد أدخلوا في قول من قال إنها نكرة فقالوا: هل رأيتم شيئاً يكون موصوفاً لا يُسكَت عليه؟ فقيل لهم: نعم، يا أيها الرجل. الرجل وصفٌ لقوله يا أيها، ولا يجوز أن يُسكَت على يا أيها. فرُب اسم لا يحسن عليه عندهم السكوت حتى يصفوه وحتى يصير وصفُه عندهم كأنه به يتم الاسم، لأنهم إنما جاءوا بيا أيها ليصلوا الى نداء الذي فيه الألف واللام، فلذلك جيء به. وكذلك مَن وما إنما يُذكران لحشوهما ولوصفهما، ولم يُرَد بهما خِلوَين شيء، فلزمه الوصف كما لزمه الحشو، وليس لهما بغير حشو ولا وصف معنى، فمن ثم كان الوصف والحشو واحداً.

فالوصف كقولك: مررت بمَن صالحٍ، فصالحٍ وصف. وإن أردتَ الحشو قلت مررت ممن صالحٌ. والحشو لا يكون أبداً لمن وما إلا وهما معرفة. وذلك من قبل أن الحشو إذا صار فيهما أشبهتا الذي، فكما أن الذي لا يكون إلا معرفةً لا يكون ما ومَن إذا كان الذي بعدهما حشواً، وهو الصلة، إلا معرفة.
وتقول: هذا مَن أعرف منطلقٌ، فتجعل أعرف صفةً. وتقول: هذا مَن أعرف منطلقاً، تجعل أعرف صلة. وقد يجوز منطلقٌ على قولك: هذا عبد الله منطلق.
ومثل ذلك الجمّاء الغفير، فالغفير وصفٌ لازم، وهو توكيد لأن الجمّاء الغفير مَثَل، فلزم الغفيرُ كما لزم ما في قولك إنك ما وخَيراً.
واعلم أن كفى بنا فضلاً على مَن غيرُنا أجود وفيه ضعفٌ إلا أن يكون فيه هو، لأن هو من بعض الصلة، وهو نحو مررت بأيُّهم أفضلُ، وكما قرأ بعض الناس هذه الآية: " تماماً على الذي أحسَنُ " .
واعلم أنه يقبح أن تقول هذا مَن منطلق إذا جعلتَ المنطلق حشواً أو وصفاً، فإن أطلتَ الكلام فقلت مَن خيرٌ منك، حسُن في الوصف والحشو.
زعم الخليل رحمه الله أنه سمع من العرب رجلاً يقول: ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً، وما أنا بالذي قائل لك قبيحاً. فالوصف بمنزلة الحشو المَحشو لأنه يَحسن بما بعده كما أن الحشو المحشوَّ إنما يتم بما بعده.
ويقوّي أيضاً أن مَن نكرة، قول عمرو بن قَميئة:
يا رُبَّ مَن يُبغض أذوادَنا ... رُحنَ على بغْضائه واغتدَيْنْ
ورُبّ لا يكون ما بعدها إلا نكرة. وقال أمية بن أبي الصلت:
رُبّ ما تكره النفوس من الأمر ... له فَرْجةٌ كحَلّ العِقالِ
وقال آخر:
ألا رُبّ مَن تغتَشَّهُ لك ناصحٍ ... ومؤتَمن بالغَيب غيرِ أمينِ
وقال آخر:
ألا رُبّ مَن قلبي له اللهَ ناصحٌ ... ومَن هو عندي في الظباء السوانحِ
؟

باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة
وذلك قولك هذا أول فارسٍ مُقبلٌ، وهذا كلُّ متاعٍ عندك موضوعٌ، وهذا خيرٌ منك مقبلٌ.
ومما يدلّك على أنهن نكرة أنهن مضافات الى نكرة، وتوصَف بهن النكرة. وذلك أنك تقول فيما كان وصفاً: هذا رجل خيرٌ منك، وهذا فارسٌ أول فارسٍ، وهذا مالٌ كلُّ مالٍ عندك.
ويُستدلُّ على أنهن مضافات الى نكرة أنك تصف ما بعدهن بما توصَف به النكرة ولا تصفه بما توصَف به المعرفة، وذلك قولك: هذا أول فارس شُجاع مقبلٌ.
وحدّثنا الخليل أنه سمع من العرب من يوثق بعربيته يُنشد هذا البيت، وهو قول الشمّاخ:
وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه ... لوصلِ خليلٍ صارمٌ أو معازِرُ
فجعله صفةً لكل.
وحدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت:
كأنّا يومَ قُرّى إ ... نّما نقتلُ إيّانا
قبَلنا منهمُ كلَّ ... فتىً أبيضَ حُسّانا
فجعله وصفاً لكل.
ومثل ذلك: هذا أيّما رجل منطلقٌ، وهذا حسبُك من رجل منطلقٌ.
ويدلك على أنه نكرة أنك تصف به النكرة فتقول: هذا رجل حسبُك من رجل، فهو بمنزلة مثلك وضاربك إذا أردت النكرة.
ومما يوصَف به كلٌّ قول ابن أحمر:
وَلِهَت عليه كلُّ معصِفة ... هوجاء ليس للُبّها زَبرُ
سمعناه ممن يرويه من العرب.
ومن قال هذا أول فارسٍ مقبلاً، من قبل أنه لا يستطيع أن يقول هذا أولُ الفارس، فيُدخل عليه الألف واللام فصار عنده بمنزلة المعرفة، فلا ينبغي له أن يصفه بالنكرة، وينبغي له أن يزعم أن درهماً في قولك عشرون درهماً معرفة، فليس هذا بشيء، وإنما أرادوا من الفرسان، فحذفوا الكلام استخفافاً، وجعلوا هذا يُجزِئُهم من ذلك. وقد يجوز نصبُه على نصب: هذا رجلٌ منطلقاً، وهو قول عيسى.
وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبُه كنصبه في المعرفة، جعله حالاً ولم يجعله وصفاً.
ومثل ذلك: مررتُ برجل قائماً، إذا جعلتَ الممرورَ به في حال قيامٍ. وقد يجوز على هذا: فيها رجلٌ قائماً، وهو قول الخليل رحمه الله.
ومثل ذلك: عليه مائةٌ بيضاً؛ والرفعُ الوجهُ. وعليه مائةٌ عيناً؛ والرفعُ الوجه.

وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون: مررتُ بماءٍ قِعدةَ رجلٍ؛ والجرّ الوجهُ. وإنما كان النصب هنا بعيداً من قبل أن هذا يكون من صفة الأول، فكرهوا أن يجعلوه حالاً كما كرهوا أن يجعلوا الطويل والأخ حالاً حين قالوا: هذا زيد الطويل، وهذا عمرو أخوك، وألزموا صفة النكرة، كما ألزموا صفة المعرفة المعرفةَ؛ وأرادوا أن يجعلوا حالَ النكرة فيما يكون من اسمها كحال المعرفة فيما يكون من اسمها.
وزعم مَن نثق به أنه سمع رؤبةَ يقول: هذا غلامٌ لك مُقبلاً، جعله حالاً ولم يجعله من اسم الأول.
واعلم أن ما كان صفةً للمعرفة لا يكون حالاً ينتصب انتصابَ النكرة، وذلك أنه لا يَحسُن لك أن تقول: هذا زيدٌ الطويلَ، ولا هذا زيدٌ أخاك، من قبل أنه من قال هذا فينبغي له أن يجعله صفةً للنكرة، فيقول: هذا رجلٌ أخوك.
ومثل ذلك في القبح: هذا زيدٌ أسودَ الناس، وهذا زيدٌ سيدَ الناس، حدّثنا بذلك يونس عن أبي عمرو.
ولو حسُن أن يكون هذا خبراً للمعرفة لجاز أن يكون خبراً للنكرة، فتقول هذا رجلٌ سيدَ الناس، من قبل أن نصب هذا رجلٌ منطلقاً كنصب هذا زيد منطلقاً، فينبغي لما كان حالاً للمعرفة أن يكون حالاً للنكرة. فليس هكذا، ولكن ما كان صفةً للنكرة جاز أن يكون حالاً للنكرة كما جاز حالاً للمعرفة. ولا يجوز للمعرفة أن تكون حالاً كما تكون النكرة، فتلتبس بالنكرة. ولو جاز ذلك لقلت: هذا أخوك عبد الله، إذا كان عبد الله اسمه الذي يُعرف به. وهذا كلامٌ خبيث يوضع في غير موضعه. إنما تكون المعرفة مبنياً عليها أو مبنية على اسم أو غير اسم، وتكون صفةً لمعروف لتبيّنه وتؤكده أن تقطعه من غيره. فإذا أردت الخبر الذي يكون حالاً وقع فيه الأمر فلا تضع في موضعه الاسم الذي جُعل ليوضّح المعرفة أو تبيّن به. فالنكرة تكون حالاً وليست تكون شيئاً بعينه قد عرفه المخاطَب قبل ذلك.
فهذا أمر النكرة، وهذا أمر المعرفة، فأجرِه كما أجروه، وضعْ كل شيء موضعه.
؟

باب ما ينتصب خبره لأنه معرفة
وهي معرفة لا توصَف ولا تكون وصفاً وذلك قولك: مررت بكلٍّ قائماً، ومررتُ ببعضٍ قائماً وببعضٍ جالساً. وإنما خروجهما من أن يكونا وصفين أو موصوفين، لأنه لا يحسن لك أن تقول: مررت بكلٍّ الصالحين ولا ببعضٍ الصالحين. قبُح الوصف حين حذفوا ما أضافوا إليه، لأنه مخالف لما يضاف، شاذّ منه، فلم يجرِ في الوصف مجراه. كما أنهم حين قالوا يا أللهُ، فخالفوا ما فيه الألف واللام، لم يصلوا ألفَه وأثبتوها.
وصار معرفة لأنه مضاف الى معرفة، كأنك قلت: مررت بكلهم وببعضهم، ولكنك حذفت ذلك المضاف إليه، فجاز ذلك كما جاز: لاهِ أبوك، تريد: لله أبوك، حذفوا الألف واللامين. وليس هذا طريقةَ الكلام، ولا سبيله؛ لأنه ليس من كلامهم أن يُضمروا الجار.
ومثله في الحذف: لا عليك، فحذفوا الاسم. وقال: ما فيهم يفضلك في شيء، يريد ما فيهم أحد يفضلك كما أراد لا بأس عليك أو نحوه. والشواذّ في كلامهم كثيرةٌ.
ولا يكونان وصفاً كما لم يكونا موصوفين، وإنما ينضعان في الابتداء أو يُبنَيان على اسم أو غير اسم.
فالابتداء نحو قوله عز وجلّ: " وكلٌّ آتوه داخرين " . فأما جميعٌ فيجري مجرى رجلٍ ونحوه في هذا الموضع. قال الله عز وجل: " وإنْ كلٌّ لما جميعٌ لدينا مُحضَرون " ، وقال: أتيته والقومُ جميعٌ؛ وسمعته من العرب، أي مجتمعون.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يستضعف أن يكون كلهم مبنياً على اسم أو على غير اسم، ولكنه يكون مبتدأ أو يكون كلهم صفة. فقلت: ولمَ استضعفت أن يكون مبنياً؟ فقال: لأن موضعه في الكلام أن يُعمّ به غيره من الأسماء بعدما يُذكر فيكون كلهم صفةً أو مبادأ. فالمبتدأ قولك إن قومك كلهم ذاهبٌ، أو ذكر قوم فقلت: كلهم ذاهبٌ. فالمبتدأ بمنزلة الوصف؛ لأنك إنما ابتدأت بعدما ذكرت ولم تبنه على شيء فعممت به.

وقال: أكلتُ شاةً كلَّ شاةٍ حسن، وأكلت كلَّ شاةٍ ضعيف؛ لأنهم لا يعمّون هكذا فيما زعم الخليل رحمه الله. وذلك أن كلهم إذا وقع موقعاً يكون الاسم فيه مبنياً على غيره، شُبّه بأجمعين وأنفسهم ونفسه، فألحق بهذه الحروف، لأنها إنما توصَف بها الأسماء ولا تُبنى على شيء. وذاك أن موضعها من الكلام أن يُعمّ ببعضها، ويؤكد ببعضها بعد ما يُذكر الاسم؛ إلا أن كلهم قد يجوز فيها أن تُبنى على ما قبلها، وإن كان فيها بعض الضعف؛ لأنه قد يُبتدأ به، فهو يشبه الأسماء التي تُبنى على غيرها. وكلاهما وكلتاهما وكلهنّ يجرين مجرى كلهم، وأما جميعهم فقد يكون على وجهين: يوصَف به المضمَر والمظهر كما يوصَف بكلهم، ويُجرى في الوصف مجراه، ويكون في سائر ذلك بمنزلة عامتهم وجماعتهم، يُبتدأ ويُبنى على غيره؛ لأنه يكون نكرة تدخله الألف واللام، وأما كل شيء وكل رجل فإنما يبنيان على غيرهما؛ لأنه لا يوصَف بهما.
والذي ذكرتُ لك قول الخليل، ورأينا العرب توافقه بعد ما يمعناه.
؟

باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة
وذلك قولك: هذا راقودٌ خَلاّ، وعليه نِحيٌ سَمناً. وإن شئت قلت راقودُ خلّ وراقودٌ من خلّ.
وإنما فررتَ الى النصب في هذا الباب، كما فررت الى الرفع في قولك: بصحيفةٍ طينٌ خاتَمها؛ لأن الطين اسم وليس مما يوصَف به، ولكنه جوهرٌ يضاف إليه ما كان منه. فهكذا مجرى هذا وما أشبهه.
ومن قال: مررتُ بصحيفة طينٍ خاتَمها قال: هذا راقودٌ خلٌّ، وهذه صفّةٌ خزّ.
وهذا قبيح أجري على غير وجهه، ولكنه حسن أن يُبنى على المبتدأ ويكون حالاً. فالحال قولك: هذه جُبّتك خَزاً. والمبني على المبتدأ قولك: جُبتك خزّ. ولا يكون صفةًفيشبه الأسماء التي أخذت من الفعل، ولكنهم جعلوه يلي ما ينصب ويرفع وما يجرّ. فأجره كما أجروه، فإنما فعلوا به ما يُفعل بالأسماء، والحال مفعولٌ فيها. والمبنيّ على المبتدأ بمنزلة ما ارتفع بالفعل، والجارّ بتلك المنزلة، يجري في الاسم مجرى الرافع والناصب.
؟
باب ما ينتصب لأنه ليس من اسم ما قبله
ولا هو هو
وذلك قولك هو ابنُ عمي دِنْياً، وهو جاري بيتَ بيتَ. فهذه أحوال قد وقع في كل واحد منها شيء. وانتصب لأن هذا الكلام قد عمل فيها كما عمل الرجل في العلم حين قلت: أنت الرجل عِلْماً. فالعلمُ منتصبٌ على ما فسّرت لك، وعمل فيه ما قبله كما عمل عشرون في الدرهم، حين قلت عشرون درهماً؛ لأن الدرهم ليس من اسم العشرين ولا هو هي.
ومثل ذلك: هذا درهم وزناً. ومثل ذلك: هذا حسيب جداً. ومثل ذلك هذا عربيّ حسبَه. حدثنا بذلك أبو الخطاب عمن نثق به من العرب. جعله بمنزلة الدِّنْي والوزن، كأنه قال هو عربي اكتفاءً. فهذا تمثيل ولا يتكلّ به، ولزمته الإضافة كما لزمت جَهده وطاقته.
وما لم يُضَف من هذا ولم تدخله الألف واللام، فهو بمنزلة ما لم يُضَف فيما ذكرنا من المصادر، نحو لقيتُه كفاحاً، وأتيته جهاراً.
ومثل ذلك هذه عشرون مِراراً، وهذه عشرون أضعافاً.
وزعم يونس أن قوماً يقولون: هذه عشرون أضعافُها وهذه عشرون أضعافٌ، أي مضاعفةٌ. والنصب أكثر.
ومثل ذلك: هذا درهمٌ سواء. كأنه قال هذا درهم استواء. فهذا تمثيل وإن لم يتكلّم به. قال عز وجلّ: " في أربعة أيامٍ سَواءً للسائلين " . وقد قرأ ناسٌ: " في أربعةِ أيامٍ سواءٍ " . قال الخليل: جعله بمنزلة مستويات.
وتقول: هذا درهمٌ سواءٌ، كأنك قلت: هذا درهمٌ تامّ.
؟
وهذا شيء ينتصب على أنه
ليس من اسم الأول ولا هو هو
وذلك قولك: هذا عربي محضاً، وهذا عربي قلباً، فصار بمنزلة دِنياً وما أشبهه من المصادر وغيرها.
والرفع فيه وجه الكلام، وزعم يونس ذلك. وذلك قولك: هذا عربيّ محضٌ، وهذا عربيّ قلبٌ، كما قلت هذا عربيٌّ قُحٌّ، ولا يكون القحُّ إلا صفةً.
ومما ينتصب على أنه ليس من اسم الأول ولا هو هو، قولك: هذه مائلةٌ وزنَ سبعةٍ ونقدَ الناس، وهذه مائة ضربَ الأمير، وهذا ثوبٌ نسجَ اليمن، كأنه قال: نسجاً وضرباً ووزناً. وإن شئت قلت وزنُ سبعة.

قال الخليل رحمه الله: إذا جعلتَ وزنَ مصدراً نصبت، وإن جعلته اسماً وصفتَ به، وشبّه ذلك بالخَلق، قال: قد يكون الخلق المصدر ويكون الخلقُ المخلوق، وقد يكون الحلَب الفعل والحلَب المحلوب، فكأن الوزن ههنا اسمٌ، وكأن الضرب اسم، كما تقول رجلٌ رِضاً وامرأة عدلٌ ويومٌ غمٌّ، فيصيرُ هذا الكلام صفةً. وقال: أستقبح أن أقول هذه مائة ضربُ الأمير، فأجعلَ الضرب صفةً فيكون نكرةً وُصفت بمعرفة، ولكن أرفعه على الابتداء، كأنه قيل له ما هي؟ فقال: ضربُ الأمير. فإن قال: ضربُ أمير حَسنت الصفة؛ لأن النكرة توصف بالنكرة.
واعلم أن جميع ما ينتصب في هذا الباب ينتصب على أنه ليس من اسم الأول ولا هو هو. والدليل على ذلك أنك لو ابتدأت اسماً لم تستطع أن تبني عليه شيئاً مما انتصب في هذا الباب؛ لأنه جرى في كلام العرب أنه ليس منه ولا هو هو. لو قلتَ ابنُ عمي دنْيٌ وعربيٌ جِدٌ، لم يجز ذلك، فإذا لم يجز أن يُبنى على المبتدأ فهو من الصفة أبعد؛ لأن هذه الأجناس التي يضاف إليها ما هو منها ومن جوهرها ولا تكون صفة، وقد تُبنى على المبتدأ كقولك: خاتمك فضّة، ولا تكون صفةً.
فما انتصب في هذا الباب فهو مصدر أو غير مصدر قد جُعل بمنزلة المصدر، وانتصب من وجهٍ واحد.
واعلم أن الشيء يوصَف بالشيء الذي هو هو وهو من اسمه، وذلك قولك: هذا زيدٌ الطويل. ويكون هو هو وليس من اسمه كقولك: هذا زيدٌ ذاهباً. ويوصَف بالشيء الذي ليس به ولا من اسمه، كقولك: هذا درهم وزناً، لا يكون إلا نصباً.
؟

هذا باب
ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده
ويبنى على ما قبله
وذلك قولك هذا قائماً رجل، وفيها قائماً رجلٌ. لما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم وقُبح أن تقول: فيها قائمٌ، فتضع الصفة موضع الاسم، كما قبح مررت بقائم وأتاني قائم، جعلت القائم حالاً وكان المبني على الكلام الأول ما بعده.
ولو حسُن أن تقول: فيها قائم لجاز فيها قائم رجلٌ، لا على الصفة، ولكنه كأنه لما قال فيها قائم، قيل له مَن هو؟ وما هو؟ فقال: رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضعفه.
وحُمل هذا النصب على جواز فيها رجلٌ قائماً، وصار حين أخّر وجه الكلام، فراراً من القبح. قال ذون الرمة:
وتحت العوالي في القنا مستظلةً ... ظِباءٌ أعارتُها العيونَ الجآذرُ
وقال الآخر:
وبالجسم مني بيّناً لو علمْتِه ... شُحوبٌ وإن تستشهدي العينَ تشهدِ
وقال كُثيّر: لميّة موحشاً طللُ وهذا كلامٌ أكثر ما يكون في الشعر وأقل ما يكون في الكلام.
واعلم أنه لا يقال قائماً فيها رجلٌ. فإن قال قائل: أجعله بمنزلة راكباً مرّ زيدٌ، وراكباً مرّ الرجلُ، قيل له: فإنه مثله في القياس، لأن فيها بمنزلة مرّ، ولكنهم كرهوا ذلك فيما لم يكن من الفعل، لأن فيها وأخواتها لا يتصرّفن تصرّف الفعل، وليس بفعل، ولكنهن أنزلن منزلة ما يستغني به الاسم من الفعل. فأجرِه كما أجرته العرب واستحسنتْ.
ومن ثمّ صار مررت قائماً برجل لا يجوز، لأنه صار قبل العامل في الاسم، وليس بفعل، والعامل الباء. ولو حسن هذا لحسن قائماً هذا رجل.
فإن قال: أقول مررت بقائماً رجل، فهذا أخبث، من قبل أنه لا يُفصل بين الجار والمجرور، ومن ثم أُسقط رُبّ قائماً رجلٍ. فهذا كلام قبيح ضعيف؛ فاعرفْ قبحه، فإن إعرابه يسير. ولو استحسنّاه لقلنا هو بمنزلة فيها قائماً رجل، ولكن معرفة قبحه أمثل من إعرابه.
وأما بك مأخوذٌ زيد فإنه لا يكون إلا رفعاً، من قبل أن بك لا تكون مستقراً لرجل. ويدلك على ذلك أنه لا يستغني عليه السكوت. ولو نصبت هذا لنصبت اليوم منطلقٌ زيدٌ، واليومَ قائمٌ زيد.
وإنما ارتفع هذا لأنه بمنزلة مأخوذ زيد. وتأخير الخبر على الابتداء أقوى، لأنه عاملٌ فيه.
ومثل ذلك: عليك نازلٌ زيد؛ لأنك لو قلت: عليك زيد، وأنت تريد النزول، لم يكن كلاماً.
وتقول: عليك أميراً زيد، لأنه لو قال عليك زيد وهو يريد الإمرةَ كان حسناً. وهذا قليل في الكلام كثير في الشعر، لأنه ليس بفعل. وكلما تقدّم كان أضعف له وأبعد، فمن ثمّ لم يقولوا قائماً فيها رجل، ولم يحسن حُسن: فيها قائماً رجلٌ.
؟باب ما يثنّى فيه المستقر توكيداً
وليست تثنيته بالتي تمنع الرفع حاله قبل التثنية، ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنّى.

وذلك قولك: فيها زيد قائماً فيها. فإنما انتصب قائم باستغناء زيد بفيها. وإن زعمتَ أنه انتصب بالآخِر فكأنك قلت: زيد قائماً فيها. فإنما هذا كقولك قد ثبت زيد أميراً قد ثبت، فأعدتَ قد ثبت توكيداً، وقد عمل الأول في زيد وفي الأمير.
ومثله في التوكيد والتثنية: لقيتُ عمراً عمرا.
فإن أردتَ أن تُلغي فيها قلت فيها زيدٌ قائم فيها، كأنه قال زيد قائم فيها فيها، فيصير بمنزلة قولك فيك زيدٌ راغبٌ فيك.
وتقول في النكرة: في دارك رجلٌ قائم فيها، فتجري قائم على الصفة.
وإن شئت قلت: فيها رجل قائماً فيها على الجواز، كما يجوز فيها رجلٌ قائماً. وإن شئت قلت أخوك في الدار ساكنٌ فيها، فتجعل فيها صفةً للساكن.
ولو كانت التثنية تنصب لنصبتْ في قولك: عليك زيدٌ حريص عليك، ونحو هذا مما لا يُستغنى به.
فإن قلت: قد جاء: " وأما الذين سَعِدوا ففي الجثّة خالدين فيها " فهو مثل " إن المتّقين في جنات وعُيون. آخذين " وفي آية أخر: " فاكهين " .
؟

هذا باب الابتداء
فالمبتدأ كل اسم ابتُدى ليُبنى عليه كلامٌ. والمبتدأ والمبنيّ عليه رفعٌ. فالابتداء لا يكون إلا بمبني عليه. فالمبتدأ الأول والمبني ما بعده عليه فهو مسنَد ومسنَد إليه.
واعلم أن المبتدأ لابد له من أن يكون المبنيّ عليه شيئاً هو هو، أو يكون في مكان أو زمان. وهذه الثلاثة يُذكر كل واحدٍ منها بعد ما يُبتدأ.
فأما الذي يُبنى عليه شيء هو هو فإن المبني عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وذلك قولك: عبد الله منطلق؛ ارتفع عبد الله لأنه ذُكر ليُبنى عليه المنطلق، وارتفع المنطلق لأن المبنيّ على المبتدأ بمنزلته.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يستقبح أن يقول قائم زيد، وذاك إذا لم تجعل قائماً مقدَّماً مبنياً على المبتدأ، كما تؤخّر وتقدّم فتقول: ضرب زيداً عمرٌو، وعمرٌو على ضرب مرتفع. وكان الحدّ أن يكون مقدَّماً ويكون زيد مؤخّراً. وكذلك هذا، الحدّ فيه أن يكون الابتداء فيه مقدَّماً. وهذا عربي جيد. وذلك قولك تميميٌّ أنا، ومَشنوءٌ مَن يشنَؤك، ورجلٌ عبدُ الله، وخزٌّ صُفّتك.
فإذا لم يريدوا هذا المعنى وأرادوا أن يجعلوه فعلاً كقوله يقوم زيدٌ وقام زيد قبح، لأنه اسم. وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفةً جرى على موصوف أو جرى على اسم قد عمل فيه؛ كما أنه لا يكون مفعولاً في ضارب حتى يكون محمولاً على غيره فتقول: هذا ضاربٌ زيداً وأنا ضارب زيداً ولا يكون ضاربٌ زيداً على ضربتُ زيداً وضربت عمراً.
فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجري مجرى الفعل المبتدإ، وليكون بين الفعل والاسم فصيل وإن كان موافقاً له في مواضع كثيرة؛ فقد يوافق الشيء الشيءَ ثم يخالفه، لأنه ليس مثله.
وقد كتبنا ذلك فيما مضى، وسنراه فيما يُستقبل إن شاء الله.
؟
باب ما يقع موقع الاسم المبتدإ ويسد مسده
لأنه مستقَرٌّ لما بعد وموضع، والذي عمل فيما بعده حتى رفعه هو الذي عمل فيه حين كان قبله؛ ولكن كلُّ واحد منهما لا يُستغنى به عن صاحبه، فلما جُمعا استغنى عليهما السكوت، حتى صارا في الاستغناء كقولك: هذا عبد الله.
وذلك قولك: فيها عبد الله. ومثله: ثمَّ زيدٌ، وههنا عمرٌو، وأين زيدٌ، وكيف عبد الله، وما أشبه ذلك.
فمعنى أين في: أي مكان، وكيف: على أية حال. وهذا لا يكون إلا مبدوءاً به قبل الاسم؛ لأنها من حروف الاستفهام، فشُبّهت بهل وألف الاستفهام؛ لأنهن يستغنين عن الألف، ولا يكنَّ كذا إلا استفهاماً.
؟باب من الابتداء يُضمَر فيه
ما يُبنى على الابتداء وذلك قولك: لولا عبد الله لكان كذا وكذا.
أما لكان كذا وكذا فحديثٌ معلّقٌ بحديث لولا. وأما عبد الله فإنه منحديث لولا، وارتفع بالابتداء كما يرتفع بالابتداء بعد ألف الاستفهام، كقولك: أزيدٌ أخوك، إنما رفعتَه على ما رفعتَ عليه زيدٌ أخوك. غير أن ذلك استخبارٌ وهذا خبرٌ. وكأن المبني عليه الذي في الإضمار كان في مكان كذا وكذا، فكأنه قال: لولا عبد الله كان بذلك المكان، ولوا القتال كان في زمان كذا وكذا، ولكن هذا حُذف حين كثُر استعمالُهم إياه في الكلام كما حُذف الكلام من إمّالا، زعم الخليل رحمه الله أنهم أرادوا إن كنت لا تفعل غيره فافعلْ كذا وكذا إمالا، ولكنهم حذفوه لكثرته في الكلام.

ومثل ذلك حينئذ، الآن، إنما تريد: واسمع الآن. وما أغفلَه عنك، شيئاً، أي دعِ الشكّ عنه؛ فحُذف هذا لكثرة استعمالهم.
وما حُذف في الكلام لكثرة استعمالهم كثير. ومن ذلك: هل من طعام؟ أي هل من طعام في زمان أو مكان، وإنما يريد: هل طعامٌ، فمِن طعامٍ في موضع طعامٌ، كما كان ما أتاني من رجل في موضع ما أتاني رجلٌ. ومثله جوابه: ما من طعام.
؟بابٌ يكون المبتدأ فيه مُضمَراً
ويكون المبني عليه مظهَراً وذلك أنك رأيت صورة شخص فصار آية لك على معرفة الشخص فقلت: عبد الله وربي، كأنك قلت: ذاك عبد الله، أو هذا عبد الله. أو سمعتَ صوتاً فعرفتَ صاحبَ الصوت فصار آيةً لك على معرفته فقلت: زيد وربي. أو مسِسْتَ جسداً أو شممت ريحاً فقلت: زيد، أو المِسك. أو ذقتَ طعاما فقلت: العسل.
ولو حُدِّثتَ عن شمائل رجلٍ فصار آيةً لك على معرفته لقلت: عبد الله. كأن رجلاً قال: مررتُ برجل راحم للمساكين بارٍّ بوالديه، فقلت: فلان واللهِ.
؟

هذا باب الحروف الخمسة
التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده
وهي من الفعل يمنزلة عشرين من الأسماء التي بمنزلة الفعل، لا تصَرَّف تصرُّف الأفعال كما أن عشرين لا تصرّف تصرّف الأسماء التي أخذت من الفعل وكانت بمنزلته، ولكن يقال بمنزلة الأسماء التي أُخذت من الأفعال وشُبهت بها في هذا الموضع، فنصبت درهماً لأنه ليس من نعتها ولا هي مضافة إليه، ولم ترد أن تحمل الدرهم على ما حُمل العشرون عليه، ولكنه واحد بيّن به العدد فعملت فيه كعمل الضارب في زيد، إذا قلت: هذا ضاربٌ زيداً، لأن زيداً ليس من صفة الضارب، ولا محمولاً على ما حُمل عليه الضارب.
وكذلك هذه الحروف، منزلتها من الأفعال. وهي أنّ، ولكنّ، وليت، ولعلّ، وكأنّ.
وذلك قولك: إن زيداً منطلقٌ، وإن عمراً مسافرٌ، وإن زيداً أخوك. وكذلك أخواتها.
وزعم الخليل أنها عملت عملين: الرفعَ والنصب، كما عملت كان الرفع والنصب حين قلت: كان أخاك زيدٌ. إلا أنه ليس لك أن تقول كأن أخوك عبدَ الله، تريد كأن عبدَ الله أخوك، لأنها لا تصرّف تصرّف الأفعال، ولا يضمَر فيها المرفوع كما يضمَر في كان. فمن ثمّ فرقوا بينهما كما فرقوا بين ليس وما، فلم يجروها مجراها، ولكن قيل هي بمنزلة الأفعال فيما بعدها وليست بأفعال.
وتقول: إن زيداً الظريف منطلق، فإن لم يُذكر المنطلق صار الظريف في موضع الخبر كما قلت: كان زيد الظريف ذاهباً، فلما لم تجئ بالذاهب قلت: كان زيدٌ الظريفَ، فنصب هذا في كان بمنزلة رفع الأول في إن وأخواتها.
وتقول: إن فيها زيداً قائماً، وإن شئت رفعت على إلغاء فيها، وإن شئت قلت: إن زيداً فيها قائماً وقائمٌ. وتفسير نصب القائم ههنا ورفعه كتفسيره في الابتداء، وعبد الله ينتصب بأن كما ارتفع ثمّ بالابتداء، إلا أن فيها ههنا بمنزلة هذا في أنه يستغني على ما بعدها السكوت، وتقع موقعه. وليست فيها بنفس عبد الله كما كان هذا نفسَ عبد الله، وإنما هي ظرفٌ لا تعمل فيها إن، بمنزلة خلفَك، وإنما انتصب خلفك بالذي فيه.
وقد يقع الشيء موقع الشيء وليس إعرابه كإعرابه، وذلك قولك: مررت برجل يقول ذاك، فيقول في موضع قائل، وليس إعرابه كإعرابه.
وتقول: إن بك زيداً مأخوذ، وإن لك زيداً واقفٌ، من قبل أنك إذا أردت الوقوف والأخذ لم يكن بك ولا لك مستقرّين لعبد الله، ولا موضعين. ألا ترى أن السكوت لا يستغني على عبد الله إذا قلت لك زيد وأنت تريد الوقوف.
ومثل ذلك: إن فيك زيداً لراغب. قال الشاعر:
فلا تلْحِني فيها فإن بحبّها ... أخاكَ مُصابُ الثلب جمٌّ بلابِلُهْ
كأنك أردت: إن زيداً راغبٌ، وإن زيداً مأخوذٌ، ولم تذكر فيك ولا بكَ، فألغيتا ههنا كما أُلغيتا في الابتداء. ولو نصبت هذا لقلت إن اليوم زيداً منطلقاً، ولكن تقول إن اليوم زيداً منطلق، وتُلغي اليومَ كما ألغيتَه في الابتداء.
وتقول: إن اليوم فيه زيدٌ ذاهبٌ، من قبل أن إنّ عملت في اليوم، فصار كقولك: إن عمراً فيه زيدٌ متكلم. ويدلّك على أن اليوم قد عملت فيه إن، أنك تقول اليوم فيه زيدٌ ذاهبٌ، فترفع بالابتداء، فكذلك تنصب بأن.

وتقول: إن زيداً لفيها قائماً، وإن شئت ألغيتَ لفيها، كأنك قلت: إن زيداً لقائم فيها. ويدلك على أن لفيها يُلغى أنك تقول إن زيداً لَبك مأخوذ. قال الشاعر، وهو أبو زُبيد الطائي:
إن امرأً خصّني عمداً مودّتَه ... على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ
فلما دخلت اللام فيما لا يكون إلا لغواً عرفنا أنه يجوز في فيها، ويكون لغواً لأن فيها قد تكون لغواً.
وإذا قلت: إن زيداً فيها لقائمٌ، فليس إلا الرفع، لأن الكلام محمول على إنّ، واللام تدل على ذلك، ولو جاز النصبُ ههنا لجاز فيها زيدٌ لقائماً في الابتداء. ومثله: إن فيها زيداً لقائمٌ.
وروى الخليل رحمه الله أن ناساً يقولون: إن بك زيدٌ مأخوذ، فقال: هذا على قوله إنه بك زيدٌ مأخوذ، وشبّه بما يجوز في الشعر، نحو قوله، وهو ابن صريم اليشكري:
ويوماً تُوافينا بوجهٍ مقسَّمٍ ... كأنْ ظبيةٌ تعطو الى وارق السَّلَمْ
وقال الآخر:
ووجهٌ مشرقُ النحرِ ... كأنْ ثدياهُ حُقّانِ
لأنه لا يحسن ههنا إلا الإضمار.
وزعم الخليل أن هذا يشبه قول من قال: وهو الفرزدق:
فلو كنت ضبِّياً عرفتَ قرابتي ... ولكنّ زَنجيّ عظيم المشافرِ
والنصب أكثر في كلام العرب، كأنه قال: ولكن زنجياً عظيمَ المشافر لا يعرف قرابتي. ولكنه أضمر هذا كما يُضمر ما بني على الابتداء نحو قوله عزّ وجلّ: " طاعةٌ وقولٌ معروفٌ " ، أي طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أمثل. وقال الشاعر:
فما كنتُ ضفّاطاً ولكن طالباً ... أناخ قليلاً فوق ظهر سبيلِ
أي ولكن طالباً منيخاً أنا.
فالنصب أجود؛ لأنه لو أراد إضماراً لخفّف، ولجعل المضمَر مبتدأ كقولك: ما أنت صالحاً ولكنْ طالحٌ.
ورفعه على قوله ولكنّ زنجيّ.
وأما قول الأعشى:
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أنْ هالكٌ كلُّ مَن يحفى وينتعلُ
فإن هذا على إضمار الهاء، لم يحذفوا لأنْ يكون الحذف يُدخله في حروف الابتداء بمنزلة إن ولكن، ولكنهم حذفوا كما حذفوا الإضمار، وجعلوا الحذف علَماً لحذف الإضمار في إن، كما فعلوا ذلك في كأن.
وأما ليتما زيداً منطلقٌ فإن الإلغاء فيه حسن، وقد كان رؤبة ابن العجّاج ينشد هذا البيت رفعاً، وهو قول النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا ... الى حمامتنا ونصفُ فقدِ
فرفعه على وجهين: على أن يكون بمنزلة قول من قال: مثلاً ما بَعوضةٌ، أو يكون بمنزلة قوله: إنما زيدٌ منطلقٌ.
وأما لعلّما فهو بمنزلة كأنما. وقال الشاعر، وهو ابن كُراع:
تحلّلْ وعالجْ ذاتَ نفسك وانظُرَنْ ... أيا جُعَلٍ لعلّما أنت حالِمُ
وقال الخليل: إنما لا تعمل فيما بعدها، كما أن أرى إذا كانت لغواً لم تعمل، فجعلوا هذا نظيرها من الفعل. كما كان نظيرَ إن من الفعل ما يعمل.
ونظيرُ إنما قول الشاعر، وهو المرّار الفَقْعَسي:
أعَلاقةً أمَّ الوليد بعدما ... أفنانُ رأسكَ كالثّغام المُخْلِسِ
جعل بعد مع ما بمنزلة حرفٍ واحد، وابتدأ ما بعده.
واعلم أنهم يقولون: إن زيدٌ لذاهبٌ، وإنْ عمرٌو لخيرٌ منك، لما خفّفها جعلها بمنزلة لكنْ حين خفّفها، وألزمها اللام لئلا تلتبس بإن التي هي بمنزلة ما التي تنفي بها.
ومثل ذلك: " إن كلُّ نفسٍ لما عليها حافظٌ " ، إنما هي لعليها حافظٌ.
وقال تعالى: " وإنْ كلُّ لَما جميعٌ لدينا مُحضَرون " إنما هي: لجميعٌ، وما لغوٌ.
وقال تعالى: " وإنْ وجدنا أكثرَهم لَفاسقين " ، " وإنْ نظنّك لمِن الكاذبين " .
وحدّثنا من نثق به، أنه سمع من العرب من يقول: إن عمراً لَمنطلقٌ. وأهل المدينة يقرءون: " وإنْ كُلاً لَما لَيوفينّهم ربُّك أعمالَهم " يخففون وينصبون، كما قالوا: كأن ثدييه حُقّانِ وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حُذف من نفسه شيء لم يغيَّر عملُه كما لم يغيَّر عملُ لم يكُ ولم أُبَل حين حُذف. وأما أكثرهم فأدخلوها في حروف الابتداء حين حذفوا كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضمّوا إليها ما.
؟

هذا باب
ما يَحسن عليه السكوتُ في هذه الأحرف
الخمسة

لإضمارك ما يكون مستقَرّاً لها وموضعاً لو أظهرته، وليس هذا المضمَر بنفس المظهر. وذلك: إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً، أي إن لهم مالاً. فالذي أضمرت لهم.
ويقول الرجل للرجل: هل لكم أحدٌ إن الناس ألْبٌ عليكم، فيقول: إن زيداً، وإن عمراً، أي إن لنا. وقال الأعشى:
إن محلاً وإنّ مُرتحَلاً ... وإن في السّفْر ما مضى مَهَلا
وتقول: إن غيرها إبلاً وشاءً كأنه قال: إن لنا غيرَها إبلاً وشاءً، أو عندنا غيرَها إبلاً وشاء. فالذي تضمِر هذا النحو وما أشبهه. وانتصب الإبلُ والشاء كانتصاب فارسٍ إذا قلت: ما في الناس مثلُه فارساً.
ومثل ذلك قول الشاعر: يا ليتَ أيامَ الصّبا رواجعا فهذا كقوله: ألا ماء بارداً، كأنه قال: ألا ماء لنا مارداً، وكأنه قال: يا ليت لنا أيام الصبا، وكأنه قال: يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجعَ.
وتقول: إن قريباً منك زيداً، إذا جعلت قريباً منك موضعه. وإذا قلت جعلت الأول هو الآخِر قلت: إن قريباً منك زيدٌ.
وتقول: إن قريباً منك زيدٌ، والوجهُ إذا أردتَ هذا أن تقول: إن زيداً قريبٌ منك أو بعيد منك، لأنه اجتمع معرفةٌ ونكرة. وقال امرؤ القيس:
وإن شفاءً عَبرَةٌ مُهراقةٌ ... فهل عند رَسمٍ دارس من مُعَوَّلِ
فهذا أحسن لأنهما نكرة.
وإن شئت قلت: إن بعيداً منك زيداً. وقلما يكون بعيداً منك ظرفاً وإنما قلّ هذا لأنك لا تقول إن بُعدَك زيداً وتقول إن قربَك زيد. فالدّنوّ أشدُّ تمكيناً في الظرف من البُعد.
وزعم يونُس أن العرب تقول: إن بدلَك زيداً، أي إن مكانك زيداً. والدليل على هذا قول العرب: هذا لك بدلَ هذا، أي هذا لك مكان هذا. وإن جعلت البدل بمنزلة البديل قلت إن بدلَك زيدٌ، أي إن بديلَك زيدٌ.
وتقول: إن ألفاً في دراهمك بيضٌ، وإن في دراهمك ألفاً بيضٌ. فهذا يجري مجرى النكرة في كان وليس؛ لأن المخاطَب يحتاج الى أن تُعلمه ههنا كما يحتاج الى أن تعلمه في قولك ما كان أحدٌ فيها خيراً منك. وإن شئت جعلت فيها مستقرّاً وجعلت البيض صفةً.
واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام هنا، مثلُه في باب كان، ومثل ذلك قولك: إن أسداً في الطريق رابضاً، وإن بالطريق أسداً رابضٌ. وإن شئت جعلت بالطريق مستقراً ثم وصفتَه بالرابض، فهذا يجري هنا مجرى ما ذكرتُ من النكرة في باب كان.
؟باب ما يكون محمولاً على إن
فيشاركه فيه الاسم الذي ولِيها ويكون محمولاً على الابتداء
فأما ما حُمل على الابتداء فقولك: إن زيداً ظريفٌ وعمرٌو، وإن زيداً منطلقٌ وسعيدٌ، فعمرو وسعيد يرتفعان على وجهين، فأحدُ الوجهين حسنٌ، والآخر ضعيف.
فأما الوجه الحسن فأن يكون محمولاً على الابتداء، لأن معنى إن زيداً منطلقٌ، زيدٌ منطلق، وإن دخلتْ توكيداً، كأنه قال: زيدٌ منطلق وعمرو. وفي القرآن مثله: " إن الله بَرَئٌ من المشركين ورسولُه " .
وأما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولاً على الاسم المضمَر في المنطلق والظريف، فإن أردتَ ذلك فأحسنه أن تقول: منطلقٌ هو وعمرٌو، وإن زيداً ظريفٌ هو وعمرو.
وإن شئت جعلت الكلام على الأول فقلت: إن زيداً منطلقٌ وعمراً ظريفٌ، فحملته على قوله عزّ وجلّ: " ولو أن ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحرَ يمدُّه من بعده سبعةُ أبحُرٍ " . وقد رفعه قومٌ على قولك: لو ضربتَ عبدَ الله وزيدٌ قائم ما ضرّك، أي لو ضربت عبد الله وزيدٌ في هذه الحال، كأنه قال: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلامٌ والبحر هذا أمره، ما نفدت كلمات الله.
وقال الراجز، وهو رؤبة بن العجّاج:
إن الربيع الجوْدَ والخريفا ... يَدا أبي العباس والصّيوفا
ولكن المثقّلة في جميع الكلام بمنزلة إن.
وإذا قلت إن زيداً فيها وعمرٌو، جرى عمرٌو بعد فيها مجراه بعد الظريف؛ لأن فيها في موضع الظريف، وفي فيها إضمار. ألا ترى أنك تقول: إن قومك فيها أجمعون، وإن قومك فيها كلّهم، كما تقول: إن قومك عرب أجمعون وفي فيها اسمٌ مضمَر مرفوع كالذي يكون في الفعل إذا قلت: إن قومك ينطلقون أجمعون. وقال جرير:
إن الخلافة والنبوّة فيهمُ ... والمَكرُمات وسادةٌ أطهارُ
وإذا قلت: إن زيداً فيها، وإن زيداً يقول ذاك، ثم قلت نفسه، فالنصب أحسن. وإن أردت أن تحمله على المضمَر فعلى: هو نفسه.

وإذا قلت إن زيداً منطلقٌ لا عمرٌو، فتفسيره كتفسيره مع الواو. وإذا نصبتَ فتفسيره كنصبه مع الواو، وذلك قولك: إن زيداً منطلقٌ لا عمراً.
واعلم أن لعلّ وكأنّ وليت ثلاثتهن يجوز فيهن جميع ما جاز في إنّ، إلا أنه لا يُرفع بعدهن شيء على الابتداء، ومن ثمّ اختار الناس ليتَ زيداً منطلقٌ وعمراً وقَبُح عندهم أن يحملوا عمراً على المضمر حتى يقولوا هو، ولم تكن ليت واجبةً ولا لعلّ ولا كأن، فقبح عندهم أن يُدخلوا الواجب في موضع التّمني فيصيروا قد ضموا الى الأول ما ليس على معناه بمنزلة إن.
ولكن بمنزلة إن.
وتقول: إن زيداً فيها لا بل عمرٌو. وإن شئت نصبت. ولا بلْ تجري مجرى الواو ولا.
؟باب ما تستوي فيه الحروفُ الخمسة
وذلك قولك: إن زيداً منطلق العاقلُ اللبيبُ. فالعاقل اللبيب يرتفع على وجهين: على الاسم المضمَر في منطلق، كأنه بدلٌ منه، فيصير كقولك: مررت به زيدٌ إذا أردت جوابَ بمن مررتَ. فكأنه قيل له: من ينطلق؟ فقال: زيدٌ العاقلُ اللبيب. وإن شاء رفعه على: مررتُ به زيدٌ، إذا كان جوابَ مَن هو؟ فنقول: زيد، كأنه قيل له: مَن هو؟ فقال: العاقل اللبيب.
وإن شاء نصَبَه على الاسم الأول المنصوب.
وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين: " قُل إن ربي يقذف بالحقّ علاّمُ الغُيوب " ، و " علامَ الغُيوب " .
؟بابٌ ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة
انتصابَه إذا صار ما قبله مبنياً على الابتداء
لأن المعنى واحدٌ في أنه حالٌ، وأن ما قبله قد عمِل فيه، ومنعه الاسمُ الذي قبله أن يكون محمولاً على إن. وذلك قولك: إن هذا عبدُ الله منطلقاً، وقال تعالى: " إن هذه أمتُكم أمةً واحدة " . وقد قرأ بعضهم: " أمتَكم أمةٌ واحدة " حمل أمتكم على هذه، كأنه قال، إن أمتكم كلها أمةٌ واحدة.
وتقول: إن هذا الرجل منطلقٌ، فيجوز في المنطلق هنا ما جاز فيه حين قلت: هذا الرجل منطلقٌ، إلا أن الرجل هنا يكون خبراً للمنصوب وصفةً له، وهو في تلك الحال يكون صفة لمبتدأ أو خبراً له.
وكذلك إذا قلت: ليتَ هذا زيدٌ قائماً، ولعل هذا زيدٌ ذاهباً، وكأن هذا بِشرٌ منطلقاً. إلا أن معنى إن ولكن لأنهما واجبتان كمعنى هذا عبدُ الله منطلقاً، وأنت في ليت تمنّاه في الحال، وفي كأن تشبّه إنساناً في حال ذهابه كما تمنيته إنساناً في حال قيام. وإذا قلت لعل فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهاب. فلعل وأخواتها قد عملنَ فيما بعدهنّ عملين: الرفع والنصب، كما أنك حين قلت: ليس هذا عمراً وكان هذا بشراً، عملنا عملين، رفعتا ونصبتا، كما قلت ضربَ هذا زيداً، فزيداً ينتصب بضرب، وهذا ارتفع بضرب ثم قلت: أليس هذا زيداً منطلقاً، فانتصب المنطلق لأنه حال وقع فيه الأمر، فانتصب كما انتصب في إن، وصار بمنزلة المفعول الذي تعدّى إليه فعل الفاعل بعدما تعدّى الى مفعول قبله، وصار كقولك: ضرب عبد الله زيداً قائماً، فهو مثله في التقدير، وليس مثله في المعنى.
وتقول: إن الذي في الدار أخوك قائماً، كأنه قال: من الذي في الدار؟ فقال: إن الذي في الدار أخوك قائماً، فهو يجري في أن ولكنّ في الحُسن والقُبح، مجراه في الابتداء: إنْ قبُح في الابتداء أن تذكر المنطلق قبُح ههنا، وإن حسُن أن تذكر المنطلق حسُن ههنا، وإن قبُح أن تذكر الأخ في الابتداء قبُح ههنا، لأن المعنى واحد، وهو من كلامٍ واجب.
وأما في ليت وكأن ولعلّ، فيجري مجرى الأول.
ومن قال: إن هذا أخاك منطلقٌ قال: إن الذي رأيتُ أخاك ذاهبٌ. ولا يكون الأخ صفةً للذي، لأن أخاك أخصُّ من الذي، ولا يكون له صفة من قبل أن زيداً لا يكون صفةً لشيء.
وسألت الخليل عن قوله، وهو لرجل من بني أسد:
إن بها أكتلَ أو رِزاما ... خُوَيْرِبَين ينقُفان الهاما
فزعم أن خويربين انتصبا على الشتم، ولو كان على إن لقال خُويرباً، ولكنه انتصب على الشتم، كما انتصب " حمالةَ الحطب " - " والنازلينَ بكلّ معترك " على المدح والتعظيم. وقال:
أمن عمل الجرّاف أمسِ وظلمه ... وعدوانه أعتَبْتُمونا براسمِ
أميرَيْ عداءٍ إن حبسنا عليهما ... بهائمَ مالٍ أوديا بالبهائم

نصبهما على الشتم؛ لأنك إن حملت الأميرين على الإعتاب كان محالاً، وذلك لأنه لا تحمل صفة الاثنين على الواحد ولا تحمل الذي جرّ الأعتابُ على الذي جرّ الظلم، فلما اختلف الجرّان واختلطت الصفتان صار بمنزلة قولك: فيها رجلٌ وقد أتاني آخرُ كريمين، ولو ابتدأ فرفع كان جيداً.
ومما ينتصب على المدح والتعظيم قول الفرزدق:
ولكنني استبقيت أعراضَ مازنٍ ... وأيامَها من مستنيرٍ ومظلمِ
أناساً بثغرٍ لاتزالُ رماحهم ... شوارعَ من غير العشيرة في الدمِ
ومما ينتصب على أنه عظّم الأمر قول عمرو بن شأس الأسدي:
ولم أرَ ليلى بعد يومٍ تعرّضتْ ... لنا بين أثواب الطِّراف من الأدَمْ
كِلابيّةً وبرِيّةً حَبْتريّةً ... نأتْكَ وخانتْ بالمواعيد والذممْ
أناساً عِدّي عُلّقتُ فيهم وليتني ... طلبتُ الهوى في رأس ذي زَلَقٍ أشتمّ
وقال الآخر:
ضننْتُ بنفسي حقبةً ثم أصبحتْ ... لبنتِ عطاء بينُها وجميعها
ضِبابيةً مُرّيّةً حابيّةً ... مُنيفاً بنعفِ الصّيدلَين وضيعُها
فكل هذا سمعناه ممن يرويه من العرب نصباً.
ومما يدلك على أن هذا ينتصب على التعظيم والمدح، أنك لو حملت الكلام على أن تجعل حالاً لما بنيته على الاسم الأول كان ضعيفاً. وليس هنا تعريفٌ ولا تنبيهٌ، ولا أراد أن يوقع شيئاً في حال، لقبحه ولضعف المعنى.
وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول: أنا ابنُ سعدٍ أكرمَ السّعدينا.
نصبه على الفخر.
وقال الخليل: إن من أفضلهم كان زيداً، على إلغاء كان، وشبّهه بقول الشاعر، وهو الفرزدق:
فكيف إذا رأيت ديارَ قوم ... وجيران لنا كانوا كرامِ
وقال: إن من أفضلهم كان رجلاً يقبح؛ لأنك لو قلت إن من خيارهم رجلاً، ثم سكتّ كان قبيحاً حتى تعرّفه بشيء، أو تقول: رجلاً من أمره كذا وكذا.
وقال: إن فيها كان زيد، على قولك: إنه فيها كان زيدٌ، وإلا فإنه لا يجوز أن تحمل الكلام على إنّ.
وقال: إن أفضلهم كان زيدٌ وإن زيداً ضربتُ، على قوله: إنه زيداً ضربت، وإنه كان أفضلهم زيدٌ. وهذا فيه قبحٌ، وهو ضعيف، وهو في الشعر جائز. ويجوز أيضاً على: إن زيداً ضربتُه، وإن أفضلَهم كانه زيد فتنصبه على إن، وفيه قبحٌ كما كان في إن.
وسألت الخليل رحمه الله تعالى عن قوله: " ويْكأنّه لا يُفلح " وعن قوله تعالى جدّه: " ويْكأن الله " فزعم أنه ويْ مفصولةٌ من كأن، والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم، أو نُبّهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا. والله تعالى أعلم.
وأما المفسرون فقالوا: ألم تر أن الله.
وقال القرشي، وهو زيد بن عمرو بن نُفَيل:
سالتاني الطلاقَ أن رأتاني ... قلّ مالي، وقد جئتماني بنُكرِ
وَيْ كأنْ مَن يكن له نشبٌ يُح - بَبْ ومَن يفتقر يعِشْ عيش ضُرِّ واعلم أن ناساً من العرب يغلطون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان؛ وذاك أن معناه معنى الابتداء، فيُرى أنه قال: هم، كما قال: ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا على ما ذكرتُ لك.
وأما قوله عزّ وجلّ: " والصابئون " ، فعلى التقديم والتأخير، كأنه ابتدأ على قوله " والصابئون " بعدما مضى الخبر.
وقال الشاعر، بشر بن أبي خازم:
وإلا فاعلَموا أنّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بقينا في شِقاقِ
كأنه قال: بُغاةٌ ما بقينا وأنتم.
؟هذا باب كَمْ
اعلم أن لكَم موضعين: فأحدهما الاستفهام، وهو الحرف المستفهَم به، بمنزلة كيف وأين. والموضع الآخر: الخبر، ومعناها معنى رُبّ.
وهي تكون في الموضعين اسماً فاعلاً ومفعولاً وظرفاً، ويُبنى عليها، إلا أنها لا تصرّف تصرّف يوم وليل، كما أن حيث وأين لا يتصرفان تصرّف تحتك وخلفك، وهما موضعان بمنزلتهما، غير أنهما حروفٌ لم تتمكن في الكلام، إنما لها مواضع تلزمها في الكلام. ومثل ذلك في الكلام كثير وقد ذكر فيما مضى، وستراه فيما يُستقبَل إن شاء الله.
أما كم في الاستفهام إذا أُعملت فيما بعدها فهي بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام منوّن، قد عمل فيما بعده لأنه ليس من صفته، ولا محمولاً على ما حُمل عليه. وذلك الاسم عشرون وما أشبهها نحو ثلاثين وأربعين.

وإذا قال لك رجل: كم لك، فقد سألك عن عدد؛ لأن كمْ إنما هي مسألة عن عدد ههنا، فعلى المجيب أن يقول: عشرون أو ما شاء، مما هو أسماء لعدة. فإذا قال لك: كم لك درهماً؟ أو كم درهماً لك؟ ففسّر ما يسأل عنه قلت عشرون درهماً، فعملت كم في الدرهم عمل العشرين في الدرهم، ولك مبنية على كم.
واعلم أن كمْ تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه، فإذا قبح للعشرين أن تعمل في شيء قبح ذلك في كم؛ لأن العشرين عددٌ منوّن وكذلك كمْ هو منوّن عندهم، كما أن خمسةَ عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه، لولا ذلك لم يقولوا خمسةَ عشر درهماً، ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا ينصرف، وموضعه موضع اسم منوّن. وكذلك كمْ موضعها موضع اسم منوّن، وذهبتْ منها الحركة كما ذهبت من إذ؛ لأنهما غيرُ متمكّنين في الكلام.
وذلك أنك لو قلت: كم لك الدرهمَ، لم يجز كما لم يجز في قولك عشرون الدرهم، لأنهم إنما أرادوا عشرين من الدراهم. وهذا معنى الكلام، ولكنهم حذفوا الألفَ واللام، وصيّروه الى الواحد، وحذفوا من استخفافاً كما قالوا: هذا أول فارس في الناس، وإنما يريدون هذا أول من الفرسان. فحُذف الكلام.
وكذلك كمْ، إنما أرادوا كم لك من الدراهم، أو كم من الدراهم لك.
وزعم أن كم درهماً لك أقوى من كم لك درهماً وإن كانت عربية جيدة. وذلك أن قولك العشرون لك درهماً فيها قبح، ولكنها جازت في كم جوازاً حسناً، لأنه كأنه صار عوضاً من التمكن في الكلام، لأنها لا تكون إلا مبتدأة ولا تؤخَّر فاعلةً ولا مفعولة. لا تقول: رأيتَ كم رجلاً، وإنما تقول: كم رأيت رجلاً. وتقول: كم رجلٍ أتاني، ولا تقول أتاني كم رجل. ولو قال: أتاكَ ثلاثون اليوم درهماً كان قبيحاً في الكلام، لأنه لا يقوى قوةَ الفاعل وليس مثل كم لما ذكرت لك. وقد قال الشاعر:
على أنني بعدَ ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حَولاً كميلا
يذكّرنيك حنينُ العَجول ... ونوحُ الحمامة تدعو هَديلا
وكم رجلاً أتاك، أقوى من كم أتاك رجلاً، وكم ههنا فاعلة. وكم رجلاً ضربت، أقوى من كم ضربت رجلاً، وكم ههنا مفعولة.
وتقول: كم مثله لك، وكم خيراً منه لك، وكم غيره لك، كل هذا جائز حسن؛ لأنه يجوز بعد عشرين فيما زعم يونس. تقول: كم غيره مثله لك، انتصب غير بكم وانتصب المثل لأنه صفة له.
ولم يُجز يونس والخليل رحمهما الله كم غِلماناً لك، لأنك لا تقول عشرونَ ثياباً لك، إلا على وجه لك مائةٌ بيضاً، وعليك راقودٌ خَلا. فإن أردت هذا المعنى قلت: كم لك غِلماناً، ويقبح أن تقول كم غلماناً لك؛ لأنه قبيح أن تقول: عبد الله قائماً فيها، كما قبح أن تقول قائماً فيها زيدٌ. وقد فسرنا ذلك في بابه.
وإذا قلت: كم عبد الله ماكثٌ، فكم أيامٌ وعبد الله فاعلٌ. وإذا قلت: كم عبد الله عندك، فكم ظرفٌ من الأيام، وليس يكون عبد الله تفسيراً للأيام لأنه ليس منها. والتفسير: كم يوماً عبد الله ماكثٌ، أو كم شهراً عبد الله عندك، فعبد الله يرتفع بالابتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت: كم رجلاً ضرب عبد الله.
فإذا قلت: كم جريباً أرضُك، فأرضك مرتفعةٌ بكَم لأنها مبتدأةٌ، والأرض مبنية عليها، وانتصب الجريب لأنه ليس بمبني على مبتدإ، ولا مبتدإ، ولا وصف، فكأنك قلت: عشرون درهماً خيرٌ من عشرة.
وإن شئت قلت: كم غلمانٌ لك؟ فتجعل غلمان في موضع خبر كمْ، وتجعل لك صفةً لهم.
وسألته عن قوله: على كم جذعٍ بيتُك مبني؟ فقال: القياس النصب وهو قول عامة الناس. فأما الذين جرّوا فإنهم أرادوا معنى مِن، ولكنهم حذفوها ههنا تخفيفاً على اللسان، وصارت على عوضاً منها.
ومثل ذلك: اللهِ لا أفعل، وإذا قلت لاها الله لا أفعلِ لم يكن إلا الجرّ، وذلك أنه يريد لا والله، ولكنه صار ها عوضاً من اللفظ بالحرف الذي يجر وعاقبه.
ومثل ذلك: اللهِ لتفعلنّ؟ إذا استفهمت، أضمروا الحرف الذي يجرّ وحذفوا، تخفيفاً على اللسان، وصارت ألف الاستفهام بدلاً منه في اللفظ معاقباً.
واعلم أن كم في الخبر بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام غير منوّن، يجرّ ما بعده إذا أُسقط التنوين، وذلك الاسم نحو مائتي درهم، فانجرّ الدرهم لأن التنوين ذهب ودخل فيما قبله. والمعنى معنى رُبّ، وذلك قولك: كم غلامٍ لك قد ذهب.

فإن قال قائل: ما شأنُها في الخبر صارت بمنزلة اسمٍ غير منوّن؟ فالجواب فيه أن تقول: جعلوها في المسألة مثل عشرين وما أشبهها، وجُعلت في الخبر بمنزلة ثلاثة الى العشرة، تجرّ ما بعدها، كما جرّت هذه الحروف ما بعدها. فجاز ذا في كم حين اختلف الموضعان، كما جاز في الأسماء المتصرّفة التي هي للعدد.
واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رُبّ، لأن المعنى واحدٌ، إلا أن كم اسمٌ ورُبّ غير اسم، بمنزلة مِنْ. والدليل عليه أن العرب تقول: كم رجلٍ أفضلُ منك، تجعله خبرَ كم. أخبرناه يونس عن أبي عمرو.
واعلم أن ناساً من العرب يُعملونها فيما بعدها في الخبر كما يُعملونها في الاستفهام، فينصبون بها كأنها اسمٌ منوّن. ويجوز لها أن تعمل في هذا الموضع في جميع ما عملت فيه رُبّ إلا أنها تنصب، لأنها منونة، ومعناها منوّنة وغير منونة سواءٌ، لأنه لو جاز في الكلام أو اضطُرّ شاعرٌ فقال ثلاثةٌ أثواباً كان معناه ثلاثة أثواب. وقال يزيد بن ضَبّة:
إذا عاش الفتى مائتين عاماً ... فقد ذهب المسرّةُ والفتاءُ
وقال الآخر:
أنعتُ عَيراً من حميرِ خَنزرَهْ ... في كلِّ عَيرٍ مائتان كَمَرَهْ
وبعض العرب ينشد قول الفرزدق:
كم عمّةً لك يا جريرُ وخالةً ... فَدْعاءَ قد حلبتْ عليّ عِشاري
وهم كثيرٌ، فمنهم الفرزدق والبيت له.
وقد قال بعضهم: كم على كل حال منونة، ولكن الذين جروا في الخبر أضمروا مِن كما جاز لهم أن يضمروا رُبّ.
وزعم الخليل أن قولهم: لاهِ أبوك ولقيتُه أمس، إنما هو على: لله أبوك، ولقيته أمس، ولكنهم حذفوا الجارّ والألف واللام تخفيفاً على اللسان، وليس كل جارّ يضمَر؛ لأن المجرور داخلٌ في الجارّ، فصارا عندهم بمنزلة حرفٍ واحد، فمن ثمّ قبُح، ولكنهم قد يُضمِرونه ويحذفونه فيما كثر من كلامهم، لأنهم الى تخفيف ما أكثروا استعمالَه أحوج. وقال الشاعر العَنبري:
وجدّاءَ ما يُرجى بها ذو قرابةٍ ... لعطفٍ وما يَخشى السُّماةَ رَبيبُها
وقال امرؤ القيس:
ومثلِك بِكراً قد طرقتُ وثَيّباً ... فألهيتُها عن ذي تمائم مُغيَلِ
أي ربّ مثلك. ومن العرب من ينصبه على الفعل.
وقال الشاعر:
ومثلَك رهبي قد تركتُ رذيّةً ... تقلّب عينيها إذا مرّ طائرُ
سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب.
والتفسير الأول في كمْ أقوى؛ لأنه لا يحمل على الاضطرار والشاذّ إذا كان له وجهٌ جيد.
ولا يقوى قول الخليل في أمس، لأنك تقول ذهب أمس بما فيه.
وقال: إذا فصلت بين كم وبين الاسم بشيء، استغنى عليه السكوت أو لم يستغن، فاحمله على لغة الذين يجعلونها بمنزلة اسم منوّن، لأنه قبيحٌ أن تفصل بين الجار والمجرور، لأن المجرور داخل في الجارّ، فصارا كأنهما كلمة واحدة. والاسم المنوّن يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه، تقول: هذا ضاربٌ بك زيداً، ولا تقول: هذا ضاربُ بك زيدٍ. وقال زهير:
تؤمُّ سناناً وكم دونَه ... من الأرض مُدودباً غارُها
وقال القطاميّ:
كم نالني منهمُ فضلاً على عدمٍ ... إذ لا أكاد من الإقتار أحتملُ
وإن شاء رفع فجعل كمِ المرار التي ناله فيها الفضل، فارتفع الفضل بنالَني، فصار كقولك: كم قد أتاني زيدٌ، فزيد فاعلٌ وكم مفعول فيها، وهي المرار التي أتاه فيها، وليس زيدٌ من المرار. وقد قال بعض العرب:
كم عمّةٌ لك يا جرير وخالةٌ ... فدعاء قد حلَبتْ عليّ عشاري
فجعل كم مراراً، كأنه قال: كم مرة قد حلبت عشاري عليّ عمّاتك. وقال ذو الرمة، ففصل بين الجارّ والمجرور:
كأن أصوات، مِن إيغالهن بنا، ... أواخر الميسِ أصواتُ الفراريجِ
وقال الآخر:
فكم قد فاتني بطلٌ كميٌّ ... وياسرُ فتيةٍ سمحٌ هَضومُ
وقد يجوز في الشعر أن تجرّ وبينها وبين الاسم حاجزٌ، فتقول: كم فيها رجلٍ، كما قال الأعشى:
إلا عُلالةَ أو بُدا ... هةَ قارحٍ نهدِ الجُزارَهْ
فإن قال قائلٌ: أضمر مِن بعد فيها. قيل له: ليس في كل موضع يضمر الجارّ، ومع ذلك إن وقوعها بعد كم أكثر. وقد يجوز في الشعر أن تجرّ وبينها وبين الاسم حاجز، على قول الشاعر:

كم بجودٍ مقرفٌ نال العُلى ... وكريمٌ بخلُه قد وضَعهْ
الجرّ والرفع والنصب على ما فسّرناه، كما قال:
كم فهيم ملكٍ أغرَّ وسوقةٍ ... حكمٍ بأرديةِ المكارم مُحتبى
وقال:
كم في سعدِ بن بكر سيدٍ ... ضخمِ الدّسيعة ماجدٍ نفّاعِ
وتقول: كم قد أتاني لا رجلٌ ولا رجلان، وكم عبد لك لا عبدٌ ولا عبدان. فهذا محمول على ما حُمل عليه كم لا على ما تعمل فيه كم، كأنك قلت: لا رجلٌ أتاني ولا رجلان، ولا عبدٌ لك ولا عبدان. وذاك لأن كم تفسّر ما وقعتْ عليه من العدد بالواحد المنكور، كما قلت عشرون درهماً، أو بجميع منكور، نحو ثلاثة أثواب. وهذا جائزٌ في التي تقع في الخبر. فأما التي تقع في الاستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين.
ولو قلت: كم لا رجلاً ولا رجلين، في الخبر أو الاستفهام كان غير جائز، لأنه ليس هكذا تفسيرُ العدد، ولو جاز ذا لقلت: له عشرون لا عبداً ولا عبدين، فلا رجلٌ ولا رجلان توكيدٌ لكم لا للذي عمل فيه، لأنه لو كان عليه كان محالاً، وكان نقضاً.
ومثل ذلك قولك للرجل: كم لك عبداً؟ فيقول: عبدان أو ثلاثة أعبُدٍ، حمل الكلام على ما حمل عليه كم، ولم يُرد السائل من المسئول أن يفسّر له العدد الذي يسأل عنه، إنما على السائل أن يفسر العدد حتى يجيبه المسئول عن العدد، ثم يفسره بعد إن شاء، فيعمل في الذي يفسر به العدد كما أعمل السائل كم في العبد، ولو أراد المسئول عن ذلك أن ينصب عبداً أو عبدين على كم، كان قد أحال، كأنه يريد أن يجيب السائل بقوله: كم عبداً فيصير سائلاً.
ومع ذلك أنه لا يجوز لك أن تُعمل كم وهي مضمرة في واحدٍ من الموضعين، لأنه ليس بفعل ولا اسم أُخذ من الفعل، ألا ترى أنه إذا قال المسئول عبدين أو ثلاثة أعبدٍ فنصب على كم، أنه قد أضمر كم.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن تقول: كم غلاماً لك ذاهبٌ؟ تجعل لك صفةً للغلام، وذاهباً خبراً لكم.
ومن ذلك أن تقول: كم منكم شاهدٌ على فلان، إذا جعلت شاهداً خبراً لكم، وكذلك هو في الخبر أيضاً، تقول: كم مأخوذٌ بك، إذا أردت أن تجعل مأخوذاً بك في موضع لك إذا قلت: كم لك؛ لأن لك لا تعمل فيه كم، ولكنه مبنيٌّ عليها، كأنك قلت كم رجلٍ لك وإن كان المعنيان مختلفين، لأن معنى كم مأخوذٌ بك؛ غير معنى كم رجلٍ لك، ولا يجوز في رُبّ ذلك، لأن كم اسمٌ وربّ غير اسم، فلا يجوز أن تقول رُبّ رجلٌ لك.
؟

هذا باب
ما جرى مجرى كم في الاستفهام
وذلك قولك: له كذا وكذا درهماً، وهو مبهمُ في الأشياء بمنزلة كم، وهو كنايةٌ للعدد، بمنزلة فلان إذا كنيتَ به في الأسماء، وكقولك: كان من الأمر ذَيّةَ وذيةَ، وذيتَ وذيتَ، وكيتَ وكيتَ. صار ذا بمنزلة التنوين؛ لأن المجرور بمنزلة التنوين.
وكذلك كأيّنْ رجلاً قد رأيتُ، زعم ذلك يونس، وكأيّن قد أتاني رجلاً. إلا أن أكثر العرب إنما يتكلمون بها مع مع مِن؟ قال عزّ وجل: " وكأيّنْ مِن قريةٍ " . وقال عمرو بن شأس:
وكائنْ رددنا عنكمُ مِن مُدجِجٍ ... يجيء أمام الألفِ يَردي مُقنّعا
فإنما ألزموها مِن لأنها توكيد، فجُعلت كأنها شيء يتم به الكلام، وصار كالمثل. ومثل ذلك: ولاسيما زيدٍ، فربّ توكيدٍ لازمٌ حتى يصير كأنه من الكلمة.
وكأيّنْ معناها معنى رُبّ. وإن حذفتَ مِن وما فعربي.
وقال: إن جرّها أحدٌ من العرب فعسى أن يجرّها بإضمار مِن كما جاز ذلك فيما ذكرنا في كم.
وقال: كذا وكأيّن عملتا فيما بعدهما كعمل أفضلهم في رجل حين قلت: أفضلُهم رجلاً، فصار أيٌّ وذا بمنزلة التنوين، كما كان هُم بمنزلة التنوين.
وقال الخليل رحمه الله كأنهم قالوا: له كالعدد درهماً، وكالعدد من قرية. فهذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلّم به.
وإنما تجيء الكاف للتشبيه، فتصير وما بعدها بمنزلة شيء واحد. من ذلك قولُك: كأن، أدخلتَ الكاف على أنّ للتشبيه.
؟
هذا باب ما ينصب نصب كم
إذا كانت منوّنة في الخبر والاستفهام
وذلك ما كان من المقادير، وذلك قولك: ما في السماء موضع كفّ سحاباً، ولي مثلُه عبداً، وما في الناس مثلُه فارساً، وعليها مثلُها زُبداً.

وذلك أنك أردت أن تقول: لي مثلُه من العبيد، ولي ملؤه من العسل، وما في السماء موضع كفّ من السحاب، فحذف ذلك تخفيفاً كما حذفه من عشرين حين قال: عشرون درهماً، وصارت الأسماء المضافُ إليها المجرورةُ بمنزلة التنوين، ولم يكن ما بعدها من صفتها ولا محمولاً على ما حُملت عليه، فانتصب بملءِ كفّ ومثلِه، كما انتصب الدرهم بالعشرين؛ لأن مثل بمنزلة عشرين، والمجرور بمنزلة التنوين، لأنه قد منع الإضافة كما منع التنوين.
وزعم الخليل رحمه الله أن المجرور بدلٌ من التنوين، ومع ذلك أنك إذا قلت لي مثلُه فقد أبهمتَ، كما أنك إذا قلت لي عشرون فقد أبهمت الأنواع، فإذا قلت درهماً فقد اختصصتَ نوعاً، وبه يُعرَفُ من أي نوع ذلك العدد. فكذلك مثلُه هو مبهَم يقع على أنواع: على الشجاعة، والفروسة، والعبيد. فإذا قال عبداً فقد بيّن من أي أنواع المِثلُ. والعبدُ ضرب من الضروب التي تكون على مقدار المثل، فاستخرج على المقدار نوعاً، والنوع هو المِثل ولكنه ليس من اسمه، والدرهم ليس من العشرين ولا من اسمه، ولكنه ينصب كما تنصب العشرون، ويُحذف من النوع كما يُحذف من نوع العشرين، والمعنى مختلف.
ومثل ذلك: عليه شعر كلبين دَيناً، الشَّعر مقدارٌ. وكذلك: لي ملء الدار خيراً منك، ولي خيرٌ منك عبداً، ولي ملء الدار أمثالَك، لأن خيراً منك نكرةٌ، وأمثالك نكرةٌ.
وإن شئت قلت: لي ملء الدار رجلاً، وأنت تريد جميعاً، فيجوز ذلك، ويكون كمزلته في كم وعشرين.
وإن شئت قلت: رجالاً، فجاز عنده كما جاز عنده في كم حين دخل فيها معنى رُبّ؛ لأن المقدار معناه مخالفٌ لمعنى كم في الاستفهام، فجاز في تفسيره الواحد والجميع كما جاز في كم إذ دخلها معنى رُبّ، كما تقول ثلاثةٌ أثواباً، أي من ذا الجنس، تجعله بمنزلة التنوين.
ومثل ذلك: لا كزيدٍ فارساً، إذا كان الفارسُ هو الذي سميته، كأنك قلت: لا فارسَ كزيد فارساً. وقال كعب بن جعيل:
لنا مِرفَدٌ سبعون ألف مُدجّج ... فهل في مَعدّ فوق ذلك مِرفدا
كأنه قال: فهل في معدّ مرفدٌ فوق ذلك مرفداً.
ومثل ذلك: تالله رجلاً، كأنه أضمر تالله ما رأيتُ كاليوم رجلاً، وما رأيت مثلَه رجلاً.
؟باب ما ينتصب انتصابَ الاسم بعد المقادير
وذلك قولك: ويحَه رجلاً، ولله درُّه رجلاً، وحسبُك به رجلاً، وما أشبه ذلك. وإن شئت قلت: ويحَه من رجلٍ، وحسبُك به من رجل، ولله درُّه من رجل، فتدخل من ههنا كدخولها في كم توكيداً. وانتصب الرجل لأنه ليس من الكلام الأول، وعمل فيه الكلام الأول، فصارت الهاء بمنزلة التنوين.
ومع هذا أيضاً أنك إذا قلت وحيه فقد تعجّبت وأبهمتَ، من أي أمور الرجل تعجّبت، وأي الأنواع تعجبّت منه. فإذا قلت فارساً وحافظاً فقد اختصصت ولم تُبهم، وبيّنت في أي نوع هو.
ومثل ذلك قول عباس بن مرداس:
ومُرةُ يحميهمْ إذا ما تبدّدوا ... ويطعنُهم شَزراً فأبرحْتَ فارسا
فكأنه قال: فكفى بك فارساً، وإنما يريد كفيتَ فارساً. ودخلتْه هذه الباء توكيداً.
ومن ذلك قول الأعشى:
تقول ابنتي حين جدّ الرحيلُ ... فأبْرحتَ رباً وأبرحتَ جارا
ومثله: أكرمْ به رجلاً.
؟باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمَرا
وذلك لأنهم بدءوا بالإضمار لأنهم شرطوا التفسير وذلك نووا، فجرى ذلك في كلامهم هكذا كما جرتْ إن بمنزلة الفعل الذي تقدّم مفعولُه قبل الفاعل، فلزم هذا هذه الطريقة في كلامهم، كما لزمتْ إن هذه الطريقة في كلامهم.
وما انتصب في هذا الباب فإنه ينتصب كانتصاب ما انتصب في باب حسبُك به وويحه، وذلك قولهم: نِعمَ رجلاً عبدُ الله، كأنك قلت: حسبُك به رجلاً عبدُ الله؛ لأن المعنى واحد.
ومثل ذلك: رُبّه رجلاً، كأنك قلت: ويحه رجلاً، في أنه عمل فيما بعده، كما عمل ويحه فيما بعده لا في المعنى. وحسبُك به رجلاً مثل نِعم رجلاً في العمل وفي المعنى؛ وذلك لأنهما ثناء في استيجابهما المنزلة الرفيعة.
ولا يجوز لك أن تقول نعمَ ولا رُبّه وتسكت، لأنهم إنما بدؤوا بالإضمار على شريطة التفسير، وإنما هو إضمار مقدّم قبل الاسم، والإضمار الذي يجوز عليه السكوت نحو زيدٌ ضربتُه إنما أضمر بعد ما ذكر الاسم مظهراً، فالذي تقدم من الإضمار لازمٌ له التفسير حتى يبيّنه، ولا يكون في موضع الإضمار في هذا الباب مظهر.

ومما يضمر لأنه يفسّره ما بعده ولا يكون في موضعه مظهرٌ قول العرب: إنه كِرامٌ قومُك، وإنه ذاهبةٌ أمتُك. فالهاء إضمارُ الحديث الذي ذكرتَ بعد الهاء، كأنه في التقدير - وإن كان لا يُتكلم به - قال: إن الأمر ذاهبةٌ أمتُك وفاعلةٌ فلانة، فصار هذا الكلام كله خبراً للأمر، فكذلك ما بعد هذا في موضع خبره.
وأما قولهم: نعم الرجل عبد الله، فهو بمنزلة: ذهب أخوه عبد الله، عمل نِعم في الرجل ولم يعمل في عبدُ الله.
وإذا قال: عبد الله نعمَ الرجلُ، فهو بمنزلة: عبد الله ذهب أخوه؛ كأنه قال نِعمَ الرجلُ فقيل له مَن هو؟ فقال: عبد الله. وإذا قال عبدُ الله فكأنه فقيل له: ما شأنه؟ فقال: نِعم الرجل.
فنعمَ تكون مرة عاملةً في مضمر يفسّره ما بعده، فتكون هي وهو بمنزلة ويحه ومثلَه، ثم يعملان في الذي فسّر المضمر عمل مثله وويحه إذا قلت لي مثله عبداً. وتكون مرةً أخرى تعمل في مظهر لا تجاوزه. فهي مرة بمنزلة رُبّه رجلاً، ومرة بمنزلة ذهب أخوه، فتجري مجرى المضمر الذي قُدّم لما بعده من التفسير وسدّ مكانه، لأنه قد بيّنه، وهو نحو قولك: أزيداً ضربتَه.
واعلم أنه محال أن تقول: عبد الله نعمَ الرجل، والرجلُ غيرُ عبد الله، كما أنه محال أن تقول عبد الله هو فيها، وهو غيره.
واعلم أنه لا يجوز أن تقول: قومُك نِعمَ صغارُهم وكبارهم، إلا أن تقول: قومك نعمَ الصغار ونعم الكبار، وقومُك نعمَ القومُ؛ وذلك لأنك أردت أن تجعلهم من جماعات ومن أمم كلهم صالحٌ، كما أنك إذا قلت عبدُ الله نعمَ الرجل، فإنما تريد أن تجعله من أمةٍ كلهم صالح، ولم ترد أن تعرّف شيئاً بعينه بالصلاح بعد نعمَ.
ومثل ذلك قولك: عبدُ الله فارِهُ العبدِ فاره الدابة؛ فالدابة لعبد الله ومن سببه، كما أن الرجل هو عبد الله حين قلت عبدُ الله نعمَ الرجل، ولست تريد أن تُخبر عن عبد بعينه ولا عن دابة بعينها، وإنما تريد أن تقول إن في مِلكِ زيد العبدَ الفارِه والدابة الفارهة؛ إذ لم ترد عبداً بعينه ولا دابةً بعينها. فالاسمُ الذي يظهر بعد نعمَ إذا كانت نِعمَ عاملةَ فيه الاسمُ الذي فيه الألف واللام، نحو الرجل، وما أضيف إليه وما أشبهه نحو غلام الرجل، إذا لم ترد شيئاً بعينه. كما أن الاسم الذي يظهر في رُبّ قد يُبدأ بإضمار الرجل قبله حين قلت: رُبّه رجلاً لما ذكرتُ لك، وتبدأ بإضمار الرجل في نعمَ لما ذكرتُ لك. فإنما منعك أن تقول نعمَ الرجلَ إذا أضمرتَ أنه لا يجوز أن تقول حسبُك به الرجل، إذا أردت معنى حسبُك به رجلاً.
ومن زعم أن الإضمار الذي في نعمَ هو عبد الله، فقد ينبغي له أن يقول نعمَ عبد الله رجلاً، وقد ينبغي له أن يقول: نعمَ أنت رجلاً، فتجعل أنت صفةً للمضمَر.
وإنما قبُح هذا المضمر أن يوصَف لأنه مبدوء به قبل الذي يفسّره، والمضمَر المقدَّم قبل ما يفسّره لا يوصَف، لأنه إنما ينبغي لهم أن يبيّنوا ما هو.
فإن قال قائل: هو مضمر مقدّم، وتفسيره عبد الله بدلاً منه محمولاً على نعمَ، فأنت قد تقول عبد الله نعمَ رجلاً، فتبدأ به، ولو كان نعمَ يصير لعبد الله لما قلت عبدُ الله نعمَ الرجلُ فترفعه، فعبد الله ليس من نعمَ في شيء، والرجل هو عبدُ الله ولكنه منفصلٌ منه كانفصال الأخ منه إذا قلت: عبد الله ذهب أخوه. فهذا تقديره وليس معناه كمعناه.
ويدلّك على أن عبد الله ليس تفسيراً للمضمَر أنه لا يعمل فيه نعمَ بنصبٍ ولا رفع ولا يكون عليها أبداً في شيء.
واعلم أن نعمَ تؤنّث وتذكّر، وذلك قولك: نعمتِ المرأةُ، وإن شئت قلت: نعمَ المرأةُ، كما قالوا ذهبَ المرأة. والحذفُ في نعمت أكثر.
واعلم أنك لا تُظهر علامةَ المضمرين في نعمَ، لا تقول: نِعْموا رجالاً، يكتفون بالذي يفسّره كما قالوا مررتُ بكلٍّ. وقال الله عزّ وجلّ: " وكلٌّ آترهُ داخرين " ، فحذفوا علامة الإضمار وألزموا الحذف، كما ألزموا نِعمَ وبئسَ الإسكان، وكما ألزموا خُذ الحذف، ففعلوا هذا بهذه الأشياء لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم.
وأصلُ نعمَ وبئسَ: نعم وبئسَ، وهما الأصلان اللذان وُضعا في الرّداءة والصلاح، ولا يكونُ منهما فعلٌ لغير هذا المعنى.
وأما قولهم: هذه الدار نعمتِ البلدُ فإنه لما كان البلد الدارَ أقحموا التاء، فصار كقولك: مَن كانت أمَّك، وما جاءت حاجتَك.

ومن قال نعمَ المرأةُ قال نعمَ البلدُ، وكذلك هذا البلد نعمَ الدارُ، لما كانت البلد ذُكّرتْ. فلزم هذا في كلامهم لكثرته، ولأنه صار كالمثَل، كما لزمت التاء في ما جاءت حاجتَ.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو لبعض السّعديين:
هل تعرفُ الدار يعفّيها المُورْ ... والدّجْنُ يوماً والعجاجُ المهمورْ
لكلّ ريحٍ فيه ذيلٌ مسفورْ فقال فيه لأن الدارَ مكانٌ، فحمله على ذلك.
وزعم الخليل رحمه الله أن حبّذا بمنزلة حبّ الشيء، ولكن ذا وحبّ بمنزلة كلمة واحدة نحو لولا، وهو اسم مرفوع كما تقول: يا ابنَ عمَّ، فالعمُّ مجرورٌ، ألا ترى أنك تقول للمؤنّث حبّذا ولا تقول حبّذهِ، لأنه صار مع حبّ على ما ذكرتُ لك، وصار المذكّر هو اللازم، لأنه كالمثَل.
وسألتُه عن قوله: وهو الراعي:
فأومأْتُ إيما خفيّاً لحبترٍ ... ولله عينا حبترٍ أيُّما فتى
فقال: أيّما تكون صفةً للنكرة، وحالاً للمعرفة، وتكون استفهاماً مبنياً عليها ومبنية على غيرها، ولا تكون لتبيين العدد ولا في الاستثناء نحو قولك أتَوْني إلا زيداً. ألا ترى أنك لا تقول: له عشرون أيّما رجلٍ، ولا أتَوْني إلا أيّما رجلٍ، فالنصبُ في: لي مثلُه رجلاً، كالنصب في عشرين رجلاً.
فأيّما لا تكون في الاستثناء، ولا يختصّ بها نوع من الأنواع، ولا يُفسَّر بها عدد.
وأيّما فتى استفهامٌ. ألا ترى أنك تقول سُبحان الله مَن هو وما هو فهذا استفهام فيه معنى التعجب. ولو كان خبراً لم يجز ذلك، لأنه لا يجوز في الخبر أن تقول مَن هو وتسكت.
وأما أحدٌ وكَرّابٌ وأرمٌ وكَتيعٌ وعريبٌ، وما أشبه ذلك، فلا يقعن واجباتٍ ولا حالاً ولا استثناء، ولا يُستخرج به نوعٌ من الأنواع فيعمل ما قبله فيه عمل عشرين في الدرهم إذا قلت عشرون درهماً، ولكنهن يقعن في النفي مبنياً عليهن ومبنية على غيرهن. فمن ثم تقول: ما في الناس مثلُه أحدٌ، حملتَ أحداً على مثل ما حملت عليه مثلاً. وكذلك ما مررت بمثلِك أحدٍ، وقد فسّرنا لمَ ذلك. فهذه حالُها كما كانت تلك حال أيّما.
فإذا قلت: له عسلٌ ملءُ جرّة، وعليه دَينٌ شَعَرُ كلبين، فالوجهُ الرفع، لأنه وصفٌ. والنصب يجوز كنصب عليه مائةٌ بيضاً بعد التمام.
وإن شئت قلت: لي مثلُه عبدٌ، فرفعتَ. وهي كثيرة في كلام العرب. وإن شئت رفعتَه على أنه صفةٌ وإن شئت كان على البدل.
فإذا قلت: عليها مثلُها زُبدٌ، فإن شئت رفعت على البدل، وإن شئت رفعت على قوله ما هو؟ فتقول: زبدٌ، أي هو زُبدٌ. ولا يكون الزبد صفةً لأنه اسم. والعبد يكون صفةً، وتقول: هذا رجلٌ عبدٌ. وهو قبيح لأنه اسم.
؟

هذا باب النداء
اعلم أن النداء، كل اسم مضاف فيه فهو نصبٌ على إضمار الفعل المتروك إظهارُه. والمفرد رفعٌ وهو في موضع اسمٍ منصوب.
وزعم الخليل رحمه الله أنهم نصبوا المضافَ نحو يا عبدَ الله ويا أخانا، والنكرة حين قالوا: يا رجلاً صالحاً، حين طال الكلام، كما نصبوا: هو قبلَك وهو بعدَك. ورفعوا المفردَ كما رفعوا قبلُ وبعدُ وموضعهما واحد، وذلك قولك: يا زيدُ ويا عمرو. وتركوا التنوين في المفرد كما تركوه في قبلُ.
قلت: أرأيتَ قولهم يا زيدُ الطويلَ علامَ نصبوا الطويل؟ قال: نُصب لأنه صفةٌ لمنصوب. وقال: وإن شئت كان نصباً على أعني.
فقلت: أرأيتَ الرفعَ على أي شيء هو إذا قال يا زيدُ الطويلُ؟ قال: هو صفةٌ لمرفوع.
قلت: ألستَ قد زعمت أن هذا المرفوع في موضع نصبٍ، فلمَ لا يكون كقوله لقيتُه أمس الأحدثَ؟ قال: من قبل أن كل اسم مفرد في النداء مرفوع أبداً، وليس كل اسم في موضع أمس يكون مجروراً، فلما اطّرد الرفعُ في كل مفرد في النداء صار عندهم بمنزلة ما يرتفع بالابتداء أو بالفعل، فجعلوا وصفَه إذا كان مفرداً بمنزلته.
قلت: أفرأيت قول العرب كلهم:
أزيدُ أخا ورقاءَ إن كنتَ ثائراً ... فقد عرضَتْ أحناءُ حقٍ فخاصمِ
لأي شيء لم يجز فيه الرفعُ كما جاز في الطويل؟ قال: لأن المنادى إذا وُصف بالمضاف فهو بمنزلته إذا كان في موضعه، ولو جاز هذا لقلت يا أخونا، تريد أن تجعله في موضع المفرد؛ وهذا لحنٌ. فالمضاف إذا وُصف به المنادى فهو بمنزلته إذا ناديته، لأنه هنا وصفٌ لمنادى في موضع نصبٍ، كما انتصب حيث كان منادى لأنه في موضع نصب، ولم يكن فيه ما كان في الطويل لطوله.

وقال الخليل رحمه الله: كأنهم لما أضافوا ردّوه الى الأصل. كقولك: إن أمسَك قد مضى.
وقال الخليل رحمه الله وسألته عن يا زيد نفسَه، ويا تميمُ كلَّكم، ويا قيسُ كلَّهم، فقال: هذا كلّه نصبٌ، كقولك: يا زيدُ ذا الجُمّة. وأما يا تميمُ أجمعون فأنته فيه بالخيار، إن شئت قلت أجمعون، وإن شئت قلت أجميعن، ولا ينتصب على أعني، من قبل أنه مُحال أن تقول أعني أجمعين. ويدلّك على أن أجمعين ينتصب لأنه وصفٌ لمنصوب قول يونس: المعنى في الرفع والنصب واحدٌ. وأما المضاف في الصفة فهو ينبغي له أن لا يكون إلا نصباً إذا كان المفردُ ينتصب في الصفة.
قلت: أرأيت قول العرب: يا أخانا زيداً أقبل؟ قال: عطفوه على هذا المنصوب فصار نصباً مثله، وهو الأصل، لأنه منصوب في موضع نصبٍ. وقال قوم: يا أخانا زيدُ.
وقد زعم يونس أن أبا عمرو كان يقوله: وهو قول أهل المدينة، قال: هذا بمنزلة قولنا يا زيد، كما كان قولُه يا زيدُ أخانا بمنزلة يا أخانا، فيُحملُ وصفُ المضاف إذا كان مفرَداً بمنزلته إذا كان منادى. ويا أخانا زيداً أكثرُ في كلام العرب؛ لأنهم يردّونه الى الأصل حيث أزالوه عن الموضع الذي يكون فيه منادى، كما ردوا ما زيدٌ إلا منطلقٌ الى أصله، وكما ردوا أتقولُ حين جعلوه خبراً الى أصله. فأما المفرد إذا كان منادى فكلُ العرب ترفعه بغير تنوين، وذلك لأنه كثُر في كلامهم، فحذفوه وجعلوه بمنزلة الأصوات نحو حَوب وما أشبهه.
وتقول: يا زيدُ زيدُ الطويل، وهو قول أبي عمرو. وزعم يونس أن رؤبة كان يقول يا زيدُ زيداً الطويلَ. فأما قول أبي عمرو فعلى قولك: يا زيدُ الطويلٌ، وتفسيره كتفسيره. وقال رؤبة:
إني وأسطارٍ سُطِرنَ سطرا ... لَقائلٌ يا نصرُ نصراً نصرا
وأما قول رؤبة فعلى أنه جعل نصراً عطفَ البيان ونصبَه، كأنه على قوله يا زيدُ زيداً. وأما قول أبي عمرو فكأنه استأنف النداء. وتفسير يا زيدُ زيدُ الطويلُ كتفسير يا زيدُ الطويلُ، فصار وصفُ المفرد إذا كان مفرداً بمنزلته لو كان منادى. وخالف وصف أمسِ لأن الرفع قد اطّرد في كل مفردٍ في النداء. وبعضُهم ينشد: ين نصرُ نصرُ نصرا وتقول: يا زيدُ وعمرو، ليس إلا لأنهما قد اشتركا في النداء في قوله يا. وكذلك يا زيدُ وعبد الله، ويا زيدُ لا عمرو، ويا زيدُ أو عمرو؛ لأن هذه الحروف تُدخل الرفعَ في الآخِر كما تدخل في الأول، وليس ما بعدها بصفة، ولكنه على يا.
وقال الخليل رحمه الله من قال يا زيدُ والنّضْرَ فنصب، فإنما نصب لأن هذا كان من المواضع التي يُردّ فيها الشيء الى أصله. فأما العرب فأكثر ما رأيناهم يقولون: يا زيدُ والنضرُ. وقرأ الأعرج: " يا جِبالُ أوّبي معه والطيرُ " . فرفع.
ويقولون: يا عمرو والحارثُ، وقال الخليل رحمه الله: هو القياس، كأنه قال: ويا حارثُ. ولو حمل الحارثُ على يا كان غيرَ جائز البتة نصب أو رفع، من قبل أنك لا تنادي اسماً فيه الألفُ واللام بيا، ولكنك أشركت بين النضر والأول في يا، ولم تجعلها خاصة للنضر، كقولك ما مررت بزيد وعمرو، ولو أردت عملين لقلت ما مررتُ بزيد ولا مررتُ بعمرو.
وقال الخليل رحمه الله: ينبغي لمن قال النّضرَ فنصب، لأنه لا يجوز يا النضرُ، أن يقول: كلُّ نعجةٍ وسخلتها بدرهمٍ فينصب، إذا أراد لغة من يجرّ، لأنه محال أن يقول كل سخلتها، وإنما جرّ لأنه أراد وكلُّ سخلةٍ لها. ورفع ذلك لأن قوله والنضرُ بمنزلة قوله ونضرُ، وينبغي أن يقول: أيُّ فتى هيجاء أنتَ وجارَها لأنه محالٌ أن يقول وأيُّ جارِها.
وينبغي أن يقول: رُبّ رجلٍ وأخاه. فليس ذا من قبل ذا، ولكنها حروفٌ تُشرك الآخِر فيما دخل فيه الأول. ولو جاءت تلي ما وليه الاسم الأول كان غير جائز؛ لو قلت: هذا فصيلها لم يكن نكرة كما كان هذه ناقة وفصيلها. وإذا كان مؤخَّراً دخل فيما دخل فيه الأول.
وتقول: يا أيها الرجل وزيدُ، ويا أيّها الرجلُ وعبدَ الله؛ لأن هذا محمول على يا، كما قال رؤبة: يا دارَ عفراءَ ودارَ البَخدَنِ وتقول يا هذا ذا الجمة، كقولك: يا زيدُ ذا الجمّة، ليس بين أحدٍ فيه اختلاف.
؟

باب لا يكون الوصف المفرد فيه إلا رفعا
ً
ولا يقع في موقعه غيرُ المفرد
وذلك قولك، يا أيها الرجلُ، ويا أيها الرجلان، ويا أيها المرأتان.

فأي ههنا فيما زعم الخليل رحمه الله كقولك يا هذا، والرجل وصفٌ له كما يكون وصفاً لهذا. وإنما صار وصفه لا يكون فيه إلا الرفع لأنك لا تستطيع أن تقول يا أيُّ ولا يا أيها وتسكت، لأنه مبهَم يلزمه التفسيرُ، فصار هو والرجل بمنزلة اسمٍ واحد، كأنك قلت يا رجل.
واعلم أن الأسماء المبهَمة التي توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام تُنزَل بمنزلة أي، وهي هذا وهؤلاء وأولئك وما أشبهها، وتوصَف بالأسماء. وذلك قولك، يا هذا الرجلُ، ويا هذان الرجلان. صار المبهَم وما بعده بمنزلة اسمٍ واحد.
وليس ذا بمنزلة قولك يا زيدُ الطويل، من قبل أنك قلت يا زيدُ وأنت تريد أن تقف عليه، ثم خِفْتَ أن لا يُعرف فنعتّه بالطويل. وإذا قلت يا هذا الرجل، فأنت لم ترد أن تقف على هذا ثم تصفه بعد ما تظن أنه لم يُعرف، فمن ثم وُصفت بالأسماء التي فيها الألف واللام، لأنها والوصف بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت: يا رجل.
فهذه الأسماء المبهمة إذا فسرتها تصير بمنزلة أي، كأنك إذا أردت أن تفسّرها لم يجزْ لك أن تقف عليها. وإنما قلت: يا هذا ذا الجمة، لأن ذا الجمة لا توصف به الأسماء المبهمة، إنما يكون بدلاً أو عطفاً على الاسم إذا أردت أن تؤكد، كقولك: يا هؤلاء أجمعون، وإنما أكدت حين وقفتَ على الاسم. والألف واللام والمبهَم يصيران بمنزلة اسم واحد، يدلك على ذلك أن أي لا يجوز لك فيها أن تقول يا أيها ذا الجُمّة. فالأسماء المبهمة توصَف بالألف واللام ليس إلا، ويفسَّر بها، ولا توصَف بما يوصف به غير المبهمة، ولا تفسَّر بما يفسّر به غيرها إلا عطفاً. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو ابن لَوذان السدوسي:
يا صاح يا ذا الضامر العنْس ... والرّحْلِ ذي الأنساع والحِلسِ
ومثله قول ابن الأبرص:
يا ذا المخوّفُنا بمقتل شيخِه ... حُجرٍ تمني صاحبِ الأحلامِ
ومثله يا ذا الحسن الوجه. وليس ذا بمنزلة يا ذا ذا الجمة، من قبل أن الضامر العنسِ والحسن الوجه كقولك: يا ذا الضامر ويا ذا الحسن، وهذا المجرور ها هنا بمنزلة المنصوب إذا قلت يا ذا الحسن الوجه، ويا ذا الحسنُ وجهاً. ويدلك على أنه ليس بمنزلة ذي الجمة، أن ذا معرفة بالجمة، والضامرُ والحسن ليس واحدٌ منهما معرفةً بما بعده، ولكن ما بعده تفسيرٌ لموضع الضمور والحُسن، إذا أردت أن لا تُبهمهما. فكلّ واحد من المواضع من سبب الأول، لا يكونان إلا كذلك. فإذا قلت الحسن فقد عمّمتَ. فإذا قلت الوجهِ فقد اختصصت شيئاً منه. وإذا قلت الضامرُ فقد عمّمت، وإذا قلت العنس فقد اختصصتَ شيئاً من سببه كما اختصصت ما كان منه، وكأن العنسَ شيءٌ منه، فصار هذا تبييناً لموضع ما ذكرتَ كما صار الدرهمُ يبيَّن به ممّ العشرون، حين قلت: عشرون درهماً.
ولو قلت: يا هذا الحسن الوجه، لقلت يا هؤلاء العشرين رجلاً، وهذا بعيد، فإنما هو بمنزلة الفعل إذا قلت يا هذا الضارب زيداً، ويا هذا الضارب الرجلَ، كأنك قلت يا هذا الضارب، وذكرت ما بعده لتبيّن موضع الضرب ولا تبهمه، ولم يُجعَل معرفةً بما بعده. ومن ثم كان الخليل يقول: يا زيد الحسنُ الوجه، قال: هو بمنزلة قولك يا زيدُ الحسن. ولو لم يجز فيما بعد زيد الرفع لما جاز في هذا، كما أنه إذا لم يجز يا زيد ذو الجمة لم يجز يا هذا ذو الجمة.
وقال الخليل رحمه الله: إذا قلت يا هذا وأنت تريد أن تقف عليه ثم تؤكده باسم يكونُ عطفاً عليه، فأنت فيه بالخيار: إن شئت رفعت وإن شئت نصبت، وذلك قولك يا هذا زيد، وإن شئت قلت زيداً، يصير كقولك: يا تميم أجمعون وأجمعين. وكذلك يا هذان زيدٌ وعمرو، وإن شئت قلت زيداً وعمراً، فتُجري ما يكون عطفاً على الاسم مُجرى ما يكون وصفاً، نحو قولك: يا زيدُ الطويلُ ويا زيدُ الطويلَ.
وزعم لي بعض العرب أن يا هذا زيدٌ كثير في كلام طيّء.
ويقوّي يا زيد الحسنُ الوجه - ولا تلتفتْ فيه الى الطول - أنك لا تستطيع أن تناديه فتجعله وصفاً مثلَه منادى.

واعلم أن هذه الصفات التي تكون والمبهمة بمنزلة اسم واحد، إذا وُصفت بمضاف أو عُطف على شيء منها، كان رفعاً، من قبل أنه مرفوع غيرُ منادى. واطّرد الرفع في صفات هذه المبهمة كاطراد الرفع في صفاتها إذا ارتفعت بفعلٍ أو ابتداء، أو تبنى على مبتدأ، فصارت بمنزلة صفاتها إذا كانت في هذه الحال. كما أن الذين قالوا يا زيدُ الطويل جعلوا زيداً مبنزلة ما يرتفع بهذه الأشياء الثلاثة. فمن ذلك قول الشاعر: يا أيها الجاهلُ ذو التنزّي وتقول: يا أيها الرجل زيدٌ أقبلْ، وإنما تنوّن لأنه موضعٌ يرتفع فيه المضاف، وإنما يُحذف منه التنوين إذا كان في موضع ينتصب فيه المضاف.
وتقول: يا زيدُ الطويلُ ذو الجمة، إذا جعلته صفةً للطويل، وإن حملته على زيد نصبت. فإذا قلت يا هذا الرجلُ فأردتَ أن تعطف ذا الجمة على هذا جاز فيه النصب، ولا يجوز ذلك في أي لأنه لا تعطف عليه الأسماء. ألا ترى أنك لا تقول: يا أيها ذا الجمة، فمن ثم لم يكن مثله.
وأما قولك يا أيها ذا الرجل، فإن ذا وصفٌ لأي كما كان الألف واللام وصفاً لأنه مبهَم مثله، فصار صفةً له كما صار الألف واللام وما أضيف إليهما صفةً للألف واللام؛ وذلك نحو قولك: مررتُ بالحسن الجميل، وبالحسن ذي المال. وقال ذو الرمة:
ألا أيها ذا المنزلُ الدارس الذي ... كأنك لم يعهد بك الحيَّ عاهدُ
ومن قال يا زيدُ الطويلَ قال ذا الجمّة، لا يكون فيه غيرُ ذلك إذا جاء بها من بعد الطويل. وإن رفع الطويلَ وبعده ذو الجمة كان فيه الوجهان.
وتقول: يا زيدُ النّاكي العدوَّ وذا الفضل، إن حملتَ ذا الفضل على زيد نصبتَ، لأنه وصفٌ لمنادى وهو مضاف. وإن حملته على غير زيد انتصب على يا كأنك قلت: ويا ذا الفضل.
؟

هذا باب
ما ينتصب على المدح والتعظيم أو الشتم
لأنه لا يكون وصفاً للأول ولا عطفاً عليه وذلك قولك: يا أيها الرجل وعبدَ الله المسلمَين الصالحَين. وهذا بمنزلة قولك: اصنعْ ما سرّ أباك وأحبّ أخوك الرجلين الصالحين. فإذا قلت يا زيد وعمرو ثم قلت الطويلين، فأنت بالخيار إن شئت نصبت وإن شئت رفعت؛ لأنه بمنزلة قولك يا زيدُ الطويلُ.
وتقول: يا هؤلاء وزيدُ الطّوالُ والطوالَ؛ لأنه كله رفعٌ، والطوالُ ها هنا رفع عطف عليهم.
وتقول: يا هذا ويا هذان الطوالَ، وإن شئت قلت الطوالُ، لأن هذا كله مرفوع والطوالُ ههنا عطفٌ، وليس الطوالُ بمنزلة يا هؤلاء الطوالُ، لأن هذا إنما هو من وصف غير المبهَمة.
وإنما فرقوا بين العطف والصفة لأن الصفة تجيء بمنزلة الألف واللام، كأنك إذا قلت مررتُ بزيدٍ أخيك فقد قلت مررتُ بزيد الذي تعلم. وإذا قلت مررت بزيد هذا فقد قلت بزيدٍ الذي ترى أو الذي عندك.
وإذا قلت مررتُ بقومك كلهم، فأنت لا تريد أن تقول مررتُ بقومك الذين من صفتهم كذا وكذا، ولا مررتُ بقومك الهَنينَ.
وعلى هذا المثال جاء مررتُ بأخيك زيدٍ، فليس زيدٌ بمنزلة الألف واللام. ومما يدلك على أنه ليس بمنزلة الألف واللام أنه معرفةٌ بنفسه لا بشيء دخل فيه ولا بما بعده. فكل شيء جاز أن يكون هو والمبهَم بمنزلة اسم واحد هو عطفٌ عليه. وإنما جرت المبهَمة هذا المجرى لأن حالها ليس كحال غيرها من الأسماء.
وتقول يا أيها الرجلُ وزيدُ الرجلين الصالحين، من قبل أن رفعهما مختلف؛ وذلك أن زيداً على النداء والرجل نعت، ولو كان بمنزلته لقلت يا زيدُ ذو الجُمة، كما تقول يا أيها الرجل ذو الجمة. وهو قول الخليل رحمه الله.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تنادي اسماً فيه الألف واللام البتة؛ إلا أنهم قد قالوا: يا الله اغفِر لنا، وذلك من قبل أنه اسمٌ يلزمه الألف واللام لا يفارقانه، وكثر في كلامهم فصار كأن الألف واللام فيه بمنزلة الألف واللام التي من نفس الحروف، وليس بمنزلة الذي قال ذلك، من قبل أن الذي قال ذلك وإن كان لا يفارقه الألف واللام ليس اسماً بمنزلة زيد وعمرو غالباً. ألا ترى أنك تقول يا أيها الذي قال ذاك، ولو كان اسماً غالباً بمنزلة زيد وعمرو لم يجز ذا فيه، وكأن الاسم والله أعلمُ إلهٌ، فلما أُدخل فيه الألف واللام حذفوا الألف وصارت الألف واللام خلَفاً منها. فهذا أيضاً مما يقوّيه أن يكون بمنزلة ما هو من نفس الحرف.

ومثل ذلك أناسٌ، فإذا أدخلت الألف واللام قلت الناس؛ إلا أن الناس قد تفارقهم الألف واللام ويكون نكرة، واسمُ الله تبارك وتعالى لا يكون فيه ذلك.
وليس النّجم والدبرانُ بهذه المنزلة؛ لأن هذه الأشياء الألف واللام فيها بمنزلتها في الصّعق، وهي في اسم الله تعالى بمنزلة شيء غير منفصل في الكلمة، كما كانت الهاء في الجحاجحة بدلاً من الياء، وكما كانت الألف في يَمانٍ بدلاً من الياء.
وغيّروا هذا لأن الشيء إذا كثُر في كلامهم كان له نحوٌ ليس لغيره مما هو مثلُه. ألا ترى أنك تقول: لم أكُ ولا تقول لم أقُ، إذا أردت أقُلْ. وتقول: لا أدرِ كما تقول: هذا قاضٍ، وتقول لم أُبَل ولا تقول لم أرَمْ تريد لم أُرامِ. فالعرب مما يغيرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره.
وقال الخليل رحمه الله: اللهم نداءٌ والميمُ ها هنا بدلٌ من يا، فهي ها هنا فيما زعم الخليل رحمه الله آخرَ الكلمة بمنزلة يا في أولها، إلا أن الميم ها هنا في الكلمة كما أن نون المسلمين في الكلمة بُنيت عليها. فالميم في هذا الاسم حرفان أولُهما مجزومٌ، والهاء مرتفعةٌ لأنه وقع عليها الإعراب.
وإذا ألحقتَ الميم تصف الاسم، من قبل أنه صار مع الميم عندهم بمنزلة صوتٍ كقولك: يا هناهْ.
وأما قوله عز وجلّ: " اللهمّ فاطرَ السموات والأرض " فعلى يا، فقد صرّفوا هذا الاسم على وجوه لكثرته في كلامهم، ولأن له حالاً ليست لغيره.
وأما الألف والهاء اللتان لحقتا أي توكيداً، فكأنك كررت يا مرتين إذا قلت: يا أيها، وصار الاسم بينهما كما صار هو بين ها وذا إذا قلت ها هو ذا. وقال الشاعر:
من أجلك يا التي تيّمتِ قلبي ... وأنت بخيلةٌ بالودّ عني
شبّهه بيا الله.
وزعم الخليل رحمه الله أن الألف واللام إنما منعهما أن يدخلا في النداء من قبل أن كل اسم في النداء مرفوع معرفة. وذلك أنه إذا قال يا رجل ويا فاسقُ، فمعناه كمعنى يا أيها الفاسقُ ويا أيها الرجل، وصار معرفةً لأنك أشرت إليه وقصدت قصدَه، واكتفيت بهذا عن الألف واللام، وصار كالأسماء التي هي للإشارة نحو لهذا وما أشبه ذلك، وصار معرفةً بغير ألف ولام لأنك إنما قصدت قصدَ شيء بعينه. وصار هذا بدلاً في النداء من الألف واللام، واستُغني به عنهما كما استغنيت بقولك اضربْ عن لتضربْ، وكما صار المجرور بدلاً من التنوين، وكما صارت الكاف في رأيتك بدلاً من رأيتُ إياكَ.
وإنما يُدخلون الألف واللام ليعرّفوك شيئاً بعينه قد رأيتَه أو سمعت به، فإذا قصدوا قصد الشيء بعينه دون غيره وعنوه، ولم يجعلوه واحداً من أمة، فقد استغنوا عن الألف واللام. فمن ثم لم يُدخلوهما في هذا ولا في النداء.
ومما يدلك على أن يا فاسقُ معرفة قولك: يا خباثِ ويا لَكاعِ ويا فساقِ، تريد يا فاسقةُ ويا خبيثةُ ويا لَكعاءُ، فصار هذا اسماً لهذا كما صارت جَعار اسماً للضّبُع، وكما صارت حَذام ورقاش اسماً للمرأة، وأبو الحارث اسماً للأسد.
ويدلك على أنه اسم للمنادى أنهم لا يقولون في غير النداء جاءتني خَباثِ ولَكاعِ، ولا لُكَع ولا فُسَقُ. فإنما اختُصّ النداء بهذا الاسم أن الاسم معرفة، كما اختُص الأسد بأبي الحارث إذ كان معرفة. ولو كان شيء من هذا نكرةً لم يكن مجروراً؛ لأنها لا تُجرّ في النكرة.
ومن هذا النحو أسماء اختُص بها الاسم المنادى لا يجوز منها شيء في غير النداء، نحو: يا نومانُ، ويا هناء، ويا فل.
ويقوّي ذلك كله أن يونس زعم أنه سمع من العرب من يقول: يا فاسقُ الخبيثُ.
ومما يقوّي أنه معرفة تركُ التنوين فيه، لأنه ليس اسمٌ يشبه الأصوات فيكون معرفةً إلا لم ينوّن، وينوّن إذا كان نكرة. ألا ترى أنهم قالوا هذا عمرَوَيْهِ وعمرَوَيهٍ آخرُ.
وقال الخليل رحمه الله: إذا أردت النكرة فوصفتَ أو لم تصف فهذه منصوبة؛ لأن التنوين لحقها فطالت، فجُعلت بمنزلة المضاف لما طال نُصب ورُدّ الى الأصل، كما فُعل ذلك بقبلُ وبعدُ.
وزعموا أن بعض العرب يصرف قبلاً وبَعْداً فيقول: ابدأ بهذا قَبلاً، فكأنه جعلها نكرة.

فإنما جعل الخليل رحمه الله المنادى بمنزلة قبل وبعد، وشبّهه بهما مفردين إذا كان مفرداً، فإذا طال وأضيف شبّهه بهما مضافين إذا كان مضافاً، لأن المفرد في النداء في موضع نصبٍ، كما أن قبلُ وبعدُ قد يكونان في موضع نصب وجرّ ولفظُهما مرفوع، فإذا أضفتهما رددتَهما الى الأصل. وكذلك نداء النكرة لما لحقها التنوين وطالت، صارت بمنزلة المضاف. وقال ذو الرمّة:
أداراً بحُزوى هِجْتِ للعين عَبرةً ... فماءُ الهوى يرفَضُّ أو يترقْرَق
وقال الآخر، توبةُ بن الحُميّر:
لعلك يا تيساً نزا في مريرةٍ ... مُعذّبُ ليلى أن تراني أزورها
وقال عبدُ يغوث:
فيا راكباً إما عرَضْتَ فبلّغنَ ... ندامايَ من نجرانَ أن لا تلاقيا
وأما قول الطّرِمّاح:
يا دارُ أقوت بعدَ أصرامِها ... عاماً وما يعنيك من عامها
فإنما ترك التنوين فيه لأنه لم يجعل أقوَتْ من صفة الدار، ولكنه قال: يا دارُ، ثم أقبل بعدُ يحدّث عن شأنها، فكأنه لما قال: يا دارُ، أقبل على إنسان فقال: أقوتْ وتغيّرتْ، وكأنه لما ناداها قال: إنها أقوتْ يا فلان. وإنما أردت بهذا أن تعلم أن أقوتْ ليس بصفة.
ومثل ذلك قول الأحوص:
يا دارُ حسرَها البِلى تحسيراً ... وسَفتْ عليها الريحُ بعدكَ مُورا
وأما قول الشاعر، لعمرو بن قنعاس:
ألا يا بيتُ بالعلياء بيتُ ... ولولا حبُّ أهلك ما أتيتُ
فإنه لم يجعل بالعلياء وصفاً، ولكنه قال: بالعلياء لي بيتٌ، وإنما تركتُه لك أيها البيت لحبّ أهله.
وأما قول الأحوص:
سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلامُ
فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف، لأنه بمنزلة اسم لا ينصرف، وليس مثل النكرة؛ لأن التنوين لازمٌ للنكرة على كل حال والنصبَ. وهذا بمنزلة مرفوع لا ينصرف يلحقه التنوين اضطراراً؛ لأنك أردت في حال التنوين في مطرٍ ما أردت حين كان غير منوّن، ولو نصبتَه في حال التنوين لنصبته في غير حال التنوين، ولكنه اسم اطّرد الرفعُ فيه وفي أمثاله في النداء، فصار كأنه يُرفع بما يرفع من الأفعال والابتداء، فلما لحقه التنوين اضطراراً لم يغيَّر رفعه كما لا يغيّر رفع ما لا ينصرف إذا كان في موضع رفع، لأن مطراً وأشباهه في النداء بمنزلة ما هو في موضع رفع، فكما لا ينتصب ما هو في موضع رفع كذلك لا ينتصب هذا.
وكان عيسى بن عمر يقول يا مطراً، يشبّه بقوله يا رجلاً، يجعله إذا نُوّن وطال كالنكرة. ولم نسمع عربياً يقوله، وله وجه من القياس إذا نُوّن وطال كالنكرة.
ويا عشرين رجلاً كقولك: يا ضارباً رجلاً.
؟

هذا باب
ما يكون الاسمُ والصفة فيه بمنزلة اسم واحد
ينضمّ فيه قبل الحرف المرفوع حرفٌ، وينكسر فيه قبل الحرف المجرور الذي ينضمّ قبل المرفوع، وينفتح فيه قبل المنصوب ذلك الحرف. وهو ابْنُمٌ وامرؤٌ. فإن جررت قلت: في ابنِمٍ وامرئٍ، وإن نصبت قلت: ابنَماً وامرأً، وإن رفعت قلت: هذا ابنُمٌ وامرُؤٌ.
ومثل ذلك قولك: يا زيدَ بنَ عمرو. وقال الراجز، وهو من بني الحِرماز: يا حكمَ بن المنذرِ بنِ الجارودْ وقال العجّاج: يا عمرَ بنَ معمرٍ لا منتَظَرْ وإنما حملهم على هذا أنهم أنزلوا الرّفعة التي في قولك زيد بمنزلة الرفعة في راء امرئ، والجرّة بمنزلة الكسرة في الراء والنصبة كفتحة الراء وجعلوه تابعاً لابن. ألا تراهم يقولون: هذا زيدُ بنُ عبد الله، ويقولون: هذه هندُ بنتُ عبد الله فيمن صرف، فتركوا التنوين ها هنا لأنهم جعلوه بمنزلة اسم واحد لمّا كثُر في كالمهم، فكذلك جعلوه في النداء تابعاً لابن.
وأما مَن قال: يا زيدُ بنَ عبد الله، فإنه إنما قال هذا زيدُ بنُ عبد الله وهو لا يجعله اسماً واحداً، وحذف التنوين لأنه لا ينجزم حرفان.
فإن قلت: هلا قالوا: هذا زيدُ الطويلُ؟ فإن القول فيه أن تقول جُعل هذا لكثرته في كلامهم بمنزلة قولهم: لَدُ الصلاة، حذفها لأنه لا ينجزم حرفان ولم يحرّكها. واختُصّ هذا الكلام بحذف التنوين لكثرته كما اختُصّ لا أدرِ ولم أُبَلْ لكثرتهما. ومن جعله بمنزلة لَدُنْ فحذفه لالتقاء الساكنين ولم يجعله بمنزلة اسم واحد قال: هذه هندٌ بنتُ فلان.
وزعم يونس أنها لغةٌ كثيرة في العرب جيدة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7