كتاب : الكتاب
المؤلف : سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر

وأما زيدُ ابنَ أخينا فلا يكون إلا هكذا، من قبل أنك تقول: هذا زيدٌ ابنُ أخينا، فلا تجعله اسماً واحداً كما تقول هذا زيدٌ أخونا. وزيدٌ في قولك يا زيدُ بنَ عمرو في موضع نصب، كما أن الأم في موضع جرّ في قولك: يا ابنَ أمَّ، ولكنه لفظه كما ذكرت لك، وهو على الأصل.
؟

باب يكرر فيه الاسم في حال الإضافة
ويكون الأول بمنزلة الآخر وذلك قولك: يا زيدَ زيدَ عمرٍو، ويا زيدَ زيدَ أخينا ويا زيدَ زيدَنا.
زعم الخليل رحمه الله ويونس أن هذا كله سواء، وهي لغة للعرب جيدة. وقال جرير:
يا تَيْمَ تيمَ عَديّ لا أبا لكمُ ... لا يُلقيَنّكمُ في سَودةٍ عمرُ
وقال بعض ولدِ جرير: يا زيدَ زيدَ اليَعْمَلاتِ الذُّبَّلِ وذلك لأنهم قد علموا أنهم لو لم يكرروا الاسم كان الأول نصباً، فلما كرروا الاسمَ توكيداً تركوا الأول على الذي كان يكون عليه لو لم يكرروا.
وقال الخليل رحمه الله: هو مثلُ لا أبالك، قد علم أنه لو لم يجئ بحرف الإضافة قال أباكَ، فتركه على حاله الأولى؛ واللام وها هنا بمنزلة الاسم الثاني في قوله: يا تيمَ تيمَ عديّ، وكذلك قول الشاعر إذا اضطُرّك يا بؤسَ للحَرب إنما يريد: يا بؤسَ الحرب. وكأن الذي يقول: يا تيمَ تيم عَديّ لو قاله مضطَرّاً على هذا الحد في الخبر لقال: هذا تيمُ تيمُ عديّ.
قال: وإن شئت قلت يا تيمُ تيمُ عديّ، كقولك: يا تيمُ أخانا، لأنك تقول هذا تيمٌ تيمُ عدي، كما تقول: هذا تيمٌ أخونا.
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: يا طلحةَ أقبلْ، يشبه: يا تسمَ تيمَ عديّ، من قبل أنهم قد علموا أنهم لو لم يجيئوا بالهاء لكان آخرُ الاسم مفتوحاً، فلما ألحقوا الهاء تركوا الاسم على حاله التي كان عليها قبل أن يُلحقوا الهاء. وقال النابغة الذبياني:
كليني لهمّ يا أميمةَ ناصبِ ... وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ
فصار يا تيمَ تيمَ عدي اسما واحداً، وكان الثاني بمنزلة الهاء في طلحة، تحذف مرة ويجاء بها أخرى. والرفع في طلحة، ويا تيمُ تيمَ عدي القياس.
واعلم أه لا يجوز في غير النداء أن تُذهب التنوين من الاسم الأول، لأنهم جعلوا الأول والآخِر بمنزلة اسم واحد، نحو طلحةَ في النداء، واستخفوا بذلك لكثرة استعمالهم إياه في النداء ولا يُجعل بمنزلة ما جُعل من الغايات كالصوت في غير النداء، لكثرته في كلامهم. ولا يُحذف هاء طلحة في الخبر فيجوز هذا في الاسم مكرّراً، يعني طرح التنوين من تيمٍ تيمِ عدي في الخبر. يقول: لو فُعل هذا بطلحة جاز هذا.
وإنما فعلوا هذا بالنداء لكثرته في كلامهم، ولأن أول الكلام أبداً النداء، إلا أن تدعه استغناء بإقبال المخاطَب عليك، فهو أول كلّ كلام لك به تعطف المكلَّم عليك، فلما كثر وكان الأول في كل موضع، حذفوا منه تخفيفاً؛ لأنهم مما يغيّرون الأكثر في كلامهم، حتى جعلوه بمنزلة الأصوات وما أشبه الأصوات من غير الأسماء المتمكنة، ويحذفون منه، كما فعلوا في لم أُبَلْ. وربما ألحقوا فيه كقولهم: أمّهات.
ومن قال يا زيدُ الحسنُ قال يا طلحةَ الحسنُ، لأنها كفتحة الحاء إذا حذفت الهاء. ألا ترى أن من قال يا زيدُ الكريمُ قال يا سلَمَ الكريمُ.
؟
باب إضافة المنادى الى نفسك
اعلم أن ياء الإضافة لا تثبت مع النداء كما لم يثبت التنوين في المفرد لأن ياء الإضافة في الاسم بمنزلة التنوين، لأنها بدل من التنوين، ولأنه لا يكون كلاماً حتى يكون في الاسم، كما أن التنوين إذا لم يكن فيه لا يكون كلاماً، فحُذف وتُرك آخرُ الاسم جراً ليُفصَل بين الإضافة وغيرها، وصار حذفها هنا لكثرة النداء في كلامهم، حيث استغنوا بالكسرة عن الياء. ولم يكونوا ليثبتوا حذفها إلا في النداء ولم يكن لُبسٌ في كلامهم لحذفها وكانت الياء حقيقةً بذلك لما ذكرتُ لك، إذ حذفوا ما هو أقل اعتلالاً في النداء، وذلك قولك: يا مومِ لا بأسَ عليكم، وقال الله جلّ ثناؤه: " يا عبادِ فاتّقونِ " .
وبعض العرب يقول: يا رَبُّ اغفِرْ لي، ويا قومُ لا تفعلوا. وثباتُ الياء فيما زعم يونس في الأسماء.
واعلم أن بقيان الياء لغة في النداء في الوقف والوصل، تقول: يا غلامي أقبل. وكذلك إذا وقفوا.
وكان أبو عمرو يقول: " يا عبادي فاتّقونِ " . وقال الراجز، وهو عبد الله بن عبد الأعلى القرشي:

وكنت إذ كنتَ إلهي وَحْدَكا ... لم يكُ شيء يا إلهي قبلكا
وقد يبدلون مكان الياء الألف لأنها أخفّ، وسنبين ذلك إن شاء الله، وذلك قولك: يا ربّا تجاوز عنّا، ويا غلاما لا تفعل. فإذا وقفت قلت: يا غُلاماه. وإنما ألحقتَ الهاء ليكون أوضح للألف؛ لأنها خفية. وعلى هذا النحو يجوز: يا أباه، ويا أُمّاه.
وسألت الخليل رحمه الله عن قولهم: يا أبَهْ، ويا أبَتِ لا تفعلْ، ويا أبتاه ويا أمّتاه، فزعم الخليل رحمه الله أن هذه الهاء مثل الهاء في عمةٍ وخالة.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع من العرب من يقول: يا أمةُ لا تفعلي. ويدلك على أن الهاء بمنزلة الهاء في عمة وخالة أنك تقول في الوقف: يا أمّه ويا أبَهْ، كما تقول يا خالَهْ. وتقول: يا أمّتاهْ كما تقول يا خالتاهْ. وإنما يُلزمون هذه الهاء في النداء إذا أضفتَ الى نفسك خاصة، كأنهم جعلوها عوضاً من حذف الياء، وأرادوا أن لا يخلّوا بالاسم حين اجتمع فيه حذف الياء، وأنهم لا يكادون يقولون يا أباهْ ويا أمّاه، وهي قليلة في كلامهم وصار هذا محتملاً عندهم لما دخل النداء من التغيير والحذف، فأرادوا أن يعوّضوا هذين الحرفين كما قالوا أيْنُقٌ لما حذفوا العين رأساً جعلوا الياء عوضاً، فلما ألحقوا الهاء في أبَهْ وأمّهْ، صيّروها بمنزلة الهاء التي تلزم الاسم في كل موضع، نحو خالة وعمة. واختُصّ النداء بذلك لكثرته في كلامهم كما اختُصّ النداء بيا أيها الرجلُ.
ولا يكون هذا في غير النداء، لأنهم جعلوها تنبيهاً فيها بمنزلة يا. وأكدوا التنبيه ب ها حين جعلوا يا مع ها، فمن ثم لم يجز لهم أن يسكتوا على أي، ولزمه التفسير.
قلت: فلمَ دخلت الهاء في الأب وهو مذكّر.
قال: قد يكون الشيء المذكّر يوصَف بالمؤنث ويكون الشيء المذكّر له الاسم المؤنّث نحو نَفْس، وأنت تعني الرجل به. ويكون الشيء المؤنث يوصَف بالمذكر، وقد يكون الشيء المؤنث له الاسم المذكر. فمن ذلك: هذا رجلٌ ربْعةٌ وغلامٌ يَفَعةٌ. فهذه الصفات.
والأسماء قولهم: نَفْسٌ، وثلاثة أنفس، وقولهم ما رأيت عيناً، يعني عين القوم. فكأن أبَهْ اسم مؤنث يقع للمذكر، لأنهما والدان كما تقع العين للمذكر والمؤنث لأنهما شخصان. فكأنهم إنما قالوا أبوان لأنهم جمعوا بين أبٍ وأبةٍ، إلا أنه لا يكون مستعمَلاً إلا في النداء إذا عنيت المذكّر. واستغنوا بالأم في المؤنث عن أبة، وكان ذلك عندهم في الأصل على هذا، فمن ثم جاءوا عليه بالأبوين؛ وجعلوه في غير النداء أباً بمنزلة الوالد، وكأن مؤنثه أبةٌ كما أن مؤنث الوالد والدة.
ومن ذلك أيضاً قولك للمؤنث: هذه امرأةٌ عَدْلٌ. ومن الأسماء فرَسٌ، هو للمذكّر، فجعلوه لهما، وكذلك عدْل وما أشبه ذلك.
وحدّثنا يونس أن بعض العرب يقول: يا أمَّ لا تفعلي، جعلوا هذه الهاء بمنزلة هاء طلحة إذ قالوا: يا طلحَ أقبلْ؛ لأنهم رأوها متحركةً بمنزلة هاء طلحة فحذفوها، ولا يجوز ذلك في غير الأم من المضاف.
وإنما جازت هذه الأشياء في الأب والأم لكثرتهما في النداء، كما قالوا: يا صاح في هذا الاسم. وليس كل شيء يكثر في كلامهم يغيَّر عن الأصل، لأنه ليس بالقياس عندهم، فكرهوا ترك الأصل.
؟باب ما تضيف إليه ويكون مضافاً إليك
قبل المضاف إليهوتثبت فيه الياء، لأنه غير منادى، وإنما هو بمنزلة المجرور في غير النداء.
فذلك قولك: يا ابنَ أخي، ويا ابنَ أبي، يصير بمنزلته في الخبر. وكذلك يا غلامَ غلامي. وقال الشاعر أبو زُبيد الطائي:
يا ابنَ أمي ويا شُقَيّقَ نفسي ... أنت خلّيتني لدهرٍ شديدِ
وقالوا: يا ابنَ أمَّ ويا ابن عمَّ، فجعلوا ذلك بمنزلة اسم واحد، لأن هذا أكثرُ في كلامهم من يا ابنَ أبي ويا غلامَ غلامي. وقد قالوا أيضاً: يا ابنَ أمِّ ويا ابنَ عمّ، كأنهم جعلوا الأول والآخر اسماً، ثم أضافوا الى الياء، كقولك: يا أحدَ عشرَ أقبلوا. وإن شئت قلت: حذفوا الياء لكثرة هذا في كلامهم.
وعلى هذا قال أبو النجم: يا ابنةَ عمّا لا تلومي واعجَعي واعلم أن كل شيء ابتدأتُه في هذين البابين أولاً فهو في القياس. وجميع ما وصفناه من هذه اللغات سمعناه من الخليل رحمه الله ويونس عن العرب.
؟

باب ما يكون النداء فيه مضافا
ً
الى المنادى بحرف الإضافة

وذلك في الاستغاثة والتعجب، وذلك الحرفُ اللامُ المفتوحة، وذلك قول الشاعر، وهو مهلهل:
يا لَبكرٍ أنشِروا لي كُليباً ... ويا لَبكرٍ أينَ أينَ الفرارُ
فاستغاث بهم ليُنشروا له كُليباً. وهذا منه وعيد وتهدّد. وأما قوله يا لَبكرٍ أين أين الفرار فإنما استغاث بهم لهم، أي لمَ تفرّون؟ استطالةً عليهم ووعيداً.
وقال أمية بن أبي عائذ الهذلي:
ألا يا لَقوم لطيف الخيال ... أرّق، من نازح ذي دلال
وقال قيس بن ذريح:
تكنّفني الوُشاةُ فأزعجوني ... فيا لَلناس للواشي المطاعِ
وقالوا يا لله، يا لَلناس، إذا كانت الاستغاثة. فالواحد والجميع فيه سواء. وقال الآخر:
يا لَقوم مَن للعُلى والمساعي ... ويا لَقوم مَن للنّدى والسماحِ
ويا لَعطّافنا ويا لَرياح ... وأبي الحشرجِ الفتى النّفّاحِ
ألا تراهم كيف سوّوا بين الواحد والجميع.
وأما في التعجّب فقوله، وهو فرّار الأسدي: لَخُطّابُ لَيلى يا لَبُرثنَ منكمُ أدلُّ وأمضى من سُليك المقانبِ وقالوا: يا لَلعجب، ويا لَلفليقة؛ كأنهم رأوا أمراً عجباً فقالوا: يا لَبُرثن، أي مثلكم دُعي للعظائم.
وقالوا: يا لَلعجب ويا لَلماء، لما رأوا عجباً أو رأوا ماء كثيراً، كأنه يقول: تعالَ يا عجبُ أو تعال يا ماء فإنه من أيامك وزمانك.
ومثل ذلك قولهم: يا لَدواهي، أي تعالينَ فإنه لا يُستنكر لكنّ، لأنه من إبّانكنّ وأحيانكن.
وكل هذا في معنى التعجب والاستغاثة، وإلا لم يجز. ألا ترى أنك لو قلت يا لَزيد وأنت تحدثه لم يجز.
ولم يلزم في هذا الباب إلا يا للتنبيه؛ لئلا تلتبس هذه اللام بلام التوكيد كقولك: لَعمرو خيرٌ منك. ولا يكون مكان يا سواها من حروف التنبيه نحو أي وهَيا وأيا؛ لأنهم أرادوا أن يميزوا هذا من ذلك الباب الذي ليس فيه معنى استغاثة ولا تعجب.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذه اللام بدلٌ من الزيادة التي تكون في آخر الاسم إذا أضفتَ، نحو قولك: يا عجَباه ويا بَكراه، إذا استغثتَ أو تعجّبت. فصار كلُ واحد منهما يعاقب صاحبَه، كما كانت هاء الجحاجحة معاقبةً ياء الجحاجيح، وكما عاقبت الألف في يمانٍ الياء في يَمَني.
ونحو هذا في كلامهم كثير، وستراه إن شاء الله عز وجلّ.
؟

باب ما تكون اللام فيه مكسورة
لأنه مدعوّ له ها هنا وهو غير مدعوّ
وذلك قول بعض العرب: يا لِلعجب ويا لِلماء، وكأنه نبّه بقوله يا غيرَ الماء للماء. وعلى ذلك قال أبو عمرو: يا ويلٌ لك ويا ويحٌ لك كأنه نبّه إنساناً ثم جعل الويل له. وعلى ذلك قول قيس بن ذريح: فيا لَلناس للواشي المُطاع يا لقومي لفرقة الأحبابِ كسروها لأن الاسم الذي بعدها غير منادى، فصار بمنزلته إذا قلت هذا لزيدٍ. فاللام المفتوحة أضافت النداء الى المنادى المخاطَب، واللام المكسورة أضافت المدعوّ الى ما بعده لأنه سببُ المدعو. وذلك أن المدعو إنما دُعي من أجل ما بعده، لأنه مدعوّ له.
ومما يدلّك على أن اللام المكسورة ما بعدها غيرُ مدعوّ قوله:
يا لعنةُ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ ... والصالحينَ على سِمعانَ من جارِ
فيا لغير اللعنة.
وتقول: يا لَزيدٍ ولعمرو وإذا لم تجئ بيا الى جنب اللام كسرتَ ورددتَ الى الأصل.
؟
هذا باب الندبة
اعلم أن المندوب مدعوّ ولكنه متفجّع عليه، فإن شئت ألحقتَ في آخر الاسم الألف، لأن الندبة كأنهم يترنمون فيها؛ وإن شئت لم تُلحق كما لم تلحق في النداء.
واعلم أن المندوب لابد له من أن يكون قبل اسمه يا أو وا، كما لزم يا المستغاثَ به والمتعجَّبَ منه.
واعلم أن الألف التي تلحق المندوب تُبتح كلُّ حركة قبلها مكسورة كانت أو مضمومة لأنها تابعة للألف، ولا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحاً.
فأما ما تلحقه الألف فقولك: وازيداه، إذا لم تُضف الى نفسك، وإن أضفتَ الى نفسك، فهو سواء، لأنك إذا أضفتَ زيداً الى نفسك فالدالُ مكسورة وإذا لم تُضف فالدال مضمومة، ففتحت المكسور كما فتحت المضموم. ومن قال يا غلامي وقرأ يا عبادي قال: وازيدِيا إذا أضاف؛ من قبل أنه إنما جاء بالألف فألحقها الياء وحرّكها في لغة من جزم الياء؛ لأنه لا ينجزم حرفان، وحرّكها بالفتح لأنه لا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحاً.

وزعم الخليل أنه يجوز في النّدبة واغلامِيَهْ؛ من قبل أنه قد يجوز أن أقول واغُلاميَ فأبيّن الياء كما أبينها في غير النداء، وهي في غير النداء مبيّنة فيها للغتان: الفتح والوقف. ومن لغة مَن يفتح أن يُلحق الهاء في الوقف حين يبيّن الحركة، كما أُلحقت الهاء بعد الألف في الوقف لأن يكون أوضحَ لها في قولك يا رَبّاه. فإذا بيّنت الياء في النداء كما بينتها في غير النداء جاز فيها ما جاز إذا كانت غيرَ نداء. قال الشاعر، وهو ابن قيس الرُقيّات:
تبكيهم دَهماءُ مُعولةً ... وتقول سلمى وارَزِيّتِيَهْ
وإذا لم تُلحق الألفَ قلت: وازيدُ إذا لم تُضف، ووازيدِ إذا أضفت، وإن شئت قلت: وازيدي. والإلحاق وغير الإلحاق عربي فيما زعم الخليل رحمه الله ويونس.
وإذا أضفت المندوب وأضفتَ الى نفسك المضاف إليه المندوبُ فالياء فيه أبداً بيّنة، وإن شئت ألحقت الألف، وإن شئت لم تُلحق. وذلك قولك: وانقطاع ظهرياهْ، ووا انقطاعَ ظهري. وإنما لزمتْه الياء لأنه غير منادى.
واعلم أنك إذا وصلتَ كلامَك ذهبتْ هذه الهاء في جميع الندبة، كما تذهب في الصلة إذا كانت تبيَّن به الحركة.
وتقول: واغلامَ زيداه، إذا لم تُضف زيداً الى نفسك. وإنما حذفت التنوين لأنه لا ينجزم حرفان. ولم يحرّكوها في هذا الموضع في النداء إذ كانت زيادة غير منفصلة من الاسم، فصارت تعاقب، وكانت أخفَّ عليهم، فهذا في النداء أحرى، لأنه موضع حذف. وإن شئت قلت: واغلامَ زيد، كما قلت وازيدُ.
وزعموا أن هذا البيت يُنشَد على وجهين، وهو قول رؤبة: فهْي تُنادي بأبي وابْنِيما ويروى: بأبا وابناما، فما فضلٌ، وإنما حكى نُدبتَها.
واعلم أنه إذا وافقت الياء الساكنة ياءَ الإضافة في النداء لم تحذف أبداً ياء الإضافة ولم يُكسر ما قبلها، كراهيةً للكسرة في الياء، ولكنهم يلحقون ياءَ الإضافة وينصبونها لئلا ينجزم حرفان. وإذا ندبت فأنت بالخيار: إن شئت ألحقت الألفَ وإن لم تُلحق جاز كما جاز ذلك في غيره. وذلك قولك: واغلامَيّاهْ وواقاضياهْ، وواغلاميّ وواقاضيّ، يصير مجراه ها هنا كمجراه في غير الندبة، إلا أن لك في الندبة أن تلحق الألف. وكذلك الألف إذا أضفتها إليك مجراها في الندبة كمجراها في الخبر إذا أضفت إليك.
وإذا وافقت ياء الإضافة ألفاً لم تحرَّك الألف، لأنها إن حرِّكت صارت ياء، والياء لا تدخلها كسرةٌ في هذا الموضع. فلما كان تغييرهم إياها يدعوهم الى ياء أخرى وكسرة تركوها على حالها كما تُركت ياء قاضي، إذ لم يخافوا التباساً وكانت أخفّ، وأثبتوا ياء الإضافة ونصبوها لأنه لا ينجزم حرفان. فإذا ندبت فأنت بالخيار إن شئت ألحقت الألف كما ألحقتها في الأول وإن شئت لم تُلحقها، وذلك قولك: وامُثنّاياه وامُثنّاي. فإن لم تُضف الى نفسك قلت: وا مُثنّاه، وتحذف الأول لأنه لا ينجزم حرفان ولم يخافوا التباساً: فذهبتْ كما تذهب في الألف واللام، ولم يكن كالياء لأنه لا يدخلها نصبٌ.
؟باب تكون ألفُ الندبة فيه تابعة لما قبلها
إن كان مكسوراً فهي ياء، وإن كان مضموماً فهي واو.
وإنما جعلوها تابعة ليفرقوا بين المذكر والمؤنث، وبين الاثنين والجميع، وذلك قولك: واظهْرَهُوهْ، إذا أضفت الظهر الى مذكر، وإنما جعلتها واواً لتفرق بين المذكر والمؤنث إذا قلت: واظهرَهاهْ.
وتقول: واظهرهُموه، وإنما جعلت الألف واواً لتفرق بين الاثنين والجميع إذا قلت: واظهرهُماه.
وإنما حذفت الحرف الأول لأنه لا ينجزم حرفان، كما حذفت الألف الأول من قولك وامُثنّاه.
وتقول: واغلامَكِيهْ، إذا أضفت الغلام الى مؤنث. وإنما فعلوا ذلك ليفرقوا بينها وبين المذكر إذا قلت: واغُلامَكاه.
وتقول: واانقطاعَ ظهرهُوه، في قول من قال: مررت بظهرهو قبل. وتقول: وانقطاع ظهرِهيهْ. في قول من قال: مررتُ بظهرهي قبلُ.

وتقول: واأبا عمرياه وإن كنت إنما تندب الأب، وإياه تضيف الى نفسك لا عَمراً، من قبل أن عمراً مجراه هنا كمجراه لو كان لك، لأنه لا يستقيم لك إضافة الأب إليك حتى تجعل عمراً كأنه لك، لأن ياء الإضافة عليه تقع، ولا تحذفها لأن عمراً غير منادى. ألا ترى أنك تقول يا أبا عَمري. ومما يدلّك على أن عمراً ها هنا بمنزلته لو كان لك، أنه لا يجوز أن تقول هذا أبو النّضرِك، ولا هذه ثلاثةُ الأثوابِك، إذا أردت أن تضيف الأب والثلاثة، من قبل أنه لا يسوغ لك ولا تصل الى أن تضيف الأول حتى تجعل الآخِر مضافاً إليك كأنه لك.
؟

هذا باب
ما لا تلحقه الألف التي تلحق المندوب
وذلك قولك: وازيدُ الظريفُ والظريفَ. وزعم الخليل رحمه الله أنه منعه من أن يقول الظريفاه أن الظريف ليس بمنادى، ولو جاز ذا لقلت: وازيدُ أنت الفارسُ البَطَلاهْ؛ لأن هذا غير منادى كما أن ذلك غير نداء.
وليس هذا كقولك: واأميرَ المؤمنيناه، ولا مثل: واعبدَ قيساه؛ من قبل أن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد منفرد، والمضاف إليه هو تمام الاسم ومقتضاه، ومن الاسم. ألا ترى أنك لو قلت عبداً أو أميراً، وأنت تريد الإضافة لم يجز لك. ولو قلت هذا زيد كنتَ في الصفة بالخيار، إن شئت وصفتَ وإن شئت لم تصف. ولستَ في المضاف إليه بالخيار، لأنه من تمام الاسم، وإنما هو بدل من التنوين. ويدلك على ذلك أن ألف الندبة إنما تقع على المضاف إليه كما تقع على آخر الاسم المفرد، ولا تقع على المضاف، والموصوف إنما تقع ألفُ الندبة عليه لا على الوصف.
وأما يونس فيلحق الصفة الألف، فيقول: وازيدُ الظريفاه، واجُمجمتيّ الشّاميّتيْناه.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذا خطأ.
وتقول: واقهسرُوناه، لأن هذا اسم مفرد. وكذلك رجل سُمّي باثنَيْ عشر تقول: واثنا عشرَاه، لأنه اسم مفرد بمنزله قِنّسرين.
وإذا ندبت رجلاً يسمى ضربوا قلت: واضَربوه. وإن سُمي ضرباً قلت: واضرباه. فهذا بمنزلة واغلامَهاه، جعلت ألف الندبة تابعة لتفرق بين الاثنين والجميع.
ولو سميتَ رجلاً بغلامهم أو غلامهما لم تحرّف واحداً منهما عن حاله قبل أن يكون اسماً، ولتركته على حاله الأول في كل شيء. فكذلك ضربا وضربوا، إنما تحكي الحال الأولى قبل أن يكونا اسمين، وصارت الألف تابعة لهما كما تبعت التثنية والجمع قبل أن يكونا اسمين، نحو غلامهما وغلامهم، لأنهما كما لم يتغيرا في سائر المواضع لم يتغيّرا في الندبة.
؟هذا باب ما لا يجوز أن يُندب
وذلك قولك: وارَجُلاه ويا رُجلاه. وزعم الخليل رحمه الله ويونس أنه قبيح، وأنه لا يقال. وقال الخليل رحمه الله: إنما قبح لأنك أبهمت. ألا ترى أنك لو قلت واهذاه، كان قبيحاً، لأنك إذا ندبت فإنما ينبغي لك أن تفجّع بأعرف الأسماء، وأن تخصّ ولا تُبهم؛ لأن الندبة على البيان، ولو جاز هذا لجاز يا رجلاً ظريفاً، فكنت نادباً نكرة. وإنما كرهوا ذلك أنه تفاحَش عندهم أن يختلطوا وأن يتفجّعوا على غير معروف. فكذلك تفاحش عندهم في المبهَم لإبهامه؛ لأنك إذا ندبت تُخبر أنك قد وقعت في عظيم، وأصابك جسيمٌ من الأمر، فلا ينبغي لك أن تُبهم.
وكذلك: وامَن في الداراه، في القبح.
وزعم أنه لا يستقبح وامَن حفر بئر زَمزماه؛ لأن هذا معروف بعينه، وكأن التبيين في الندبة عذر للتفجع. فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب. ولو قلت هذا لقلت وامن لا يعنين أمرُهوه. فإذا كان ذا تُرك لأنه لا يُعذر على أن يُتفجّع عليه، فهو لا يُعذر بأن يتفجّع ويُبهم، كما لا يُعذر على أن يتفجّع على من لا يعنيه أمره.
؟
باب يكون الاسمان فيه بمنزلة اسم واحد
ممطول وآخر الاسمين مضموم الى الأول بالواو
وذلك قولك: واثلاثةً وثلاثيناه. وإن لم تندب قلت: يا ثلاثةً وثلاثين، كأنك قلت يا ضارباً رجلاً.

وليس هذا بمنزلة قولك يا زيدُ وعمرو، لأنك حين قلت يا زيدُ وعمرو جمعت بين اسمين كلُ واحد منهما مفرد يُتوهّم على حياله، وإذا قلت يا ثلاثةً وثلاثين فلم تُفرد الثلاثة من الثلاثين لتُتوهّم على حيالها، ولا الثلاثين من الثلاثة. ألا ترى أنك تقول يا زيدُ ويا عمرو، ولا تقول يا ثلاثة ويا ثلاثون، لأنك لم ترد أن تجعل كل واحد منهما على حياله، فصار بمنزلة قولك ثلاثة عشر، لأنك لم ترد أن تفصل ثلاثةً من العشرة ليتوهّموها على حيالها. ولزمها النصب كما لزم يا ضارباً رجلاً، حين طال الكلام.
وقال: يا ضارباً رجلاً معرفة كقولك يا ضاربُ، ولكن التنوين إنما يثبت لأنه وسط الاسم، ورجلاً من تمام الاسم، فصار التنوين بمنزلة حرف قبل آخر الاسم. ألا ترى أنك لو سمّيت رجلاً خيراً منك، لقلت يا خيراً منك فألزمته التنوين وهو معرفة، لأن الراء ليست آخر الاسم ولا منتهاه، فصار بمنزلة الذي، إذا قلت هذا الذي فعل. فكما أن خيراً منك لزمه التنوين وهو معرفة، كذلك لزم ضارباً رجلاً، لأن الباء ليست منتهى الاسم، وإنما يُحذب التنوين في النداء من آخر الاسم. فلما لزمت التنوينة وطال الكلام رجع الى أصله. وكذلك ضارب رجل إذا ألقيت التنوين تخفيفاً، لأن الرجل لا يجعل ضارباً نكرة إذا أردت معنى التنوين، كما لا يجعله معرفة في غير النداء إذا أردت معنى التنوين وحذفته، نحو قولك: هذا ضاربُك قاعداً. ألا ترى أن حذف التنوين كثباته لا يغيّر الفاعل إذا كنت تحذفه وأنت تريد معناه.
وأما قولك يا أخا رجل، فلا يكون الأخ ها هنا إلا نكرة، لأنه مضاف الى نكرة، كما أن الموصوف بالنكرة لا يكون إلا نكرة، ولا يكون الرجل ههنا بمنزلته إذا كان منادى، لأنه ثم يدخله التنوين، وجاز لك أن تريد معنى الألف واللام ولا تلفظ بهما وهو هنا غير منادى وهو نكرة، فجُعل ما أضيف إليه بمنزلته.
؟

باب الحروف التي ينبه بها المدعو
فأما الاسم غيرُ المندوب فينبَّه بخمسة أشياء: بيا، وأيا، وهَيا، وأي، وبالألف. نحو قولك: أحارِ بنَ عمرٍو. إلا أن الأربعة غير الألف قد يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخي عنهم، والإنسان المعرض عنهم، الذي يُرَون أنه لا يُقبل عليهم إلا بالاجتهاد، أو النائم المستثقل. وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها. وقد يجوز لك أن تستعمل هذه الخمسة غيروا إذا كان صاحبك قريباً منك، مقبِلاً عليك، توكيداً.
وإن شئت حذفتهن كلهن استغناءً كقولك: حار بنَ كعبٍ، وذلك أنه جعلهم بمنزلة مَن هو مقبِلٌ عليه بحضرته يخاطبه.
ولا يحسن أن تقول: هذا، ولا رجلُ، وأنت تريد: يا هذا، ويا رجلُ ولا يجوز ذلك في المبهم؛ لأن الحرف الذي ينبَّه به لزم المبهم كأنه صار بدلاً من أيُّ حين حذفته، فلم تقل يا أيها الرجل ولا يا أيهذا، ولكنك تقول إن شئت: مَن لايزال مُحسناً أفعل كذا وكذا؛ لأنه لا يكون وصفاً لأي.
وقد يجوز حذفُ يا من النكرة في الشعر، وقال العجّاج: جاريَ لا تستنكِري عَذيري يريد يا جاريةُ. وقال في مَثَل: افتَدِ مخنوقُ، وأصبِحْ ليلُ، وأطرِقْ كَرا. وليس هذا بكثير ولا بقويّ.
وأما المستغاث به فيا لازمة له؛ لأنه يجتهد. فكذلك المتعجَّب منه، وذلك: يا لَلناس ويا لَلماء. وإنما اجتهد لأن المستغاث عندهم متراخ أو غافل والتعجب كذلك. والندبة يلزمها يا ووا؛ لأنهم يحتلطون ويدعون ما قد فات وبعد عنهم. ومع ذلك أن الندبة كأنهم يترنمون فيها، فمن ثم ألزموها المدّ، وألحقوا آخر الاسم المدَّ مبالغةً في الترنّم.
؟
هذا باب
ما جرى على حرف النداء وصفاً له
وليس بمنادى ينبّهه غيره، ولكنه اختُصّ كما أن المنادى مختصّ من بين أمته، لأمرك ونهيك أو خبرك. فالاختصاص أجرى هذا على حرف النداء، كما أن التسوية أجرت ما ليس باستخبار ولا استفهام على حرف الاستفهام؛ لأنك تسوّي فيه كما تسوي في الاستفهام. فالتسوية أجرتْه على حرف الاستفهام، والاختصاصُ أجرى هذا على حرف النداء.
وذلك قولك: ما أدري أفَعلَ أم لم يفعل. فجرى هذا كقولك أزيدٌ عندك أم عمرو، وأزيدٌ أفضلُ أم خالدٌ، إذا استفهمتَ؛ لأن علمك قد استوى فيهما كما استوى عليك الأمران في الأول. فهذا نظير الذي جرى على حرف النداء.

وذلك قولك: أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل، ونفعل نحن كذا وكذا أيها القوم، وعلى المضارب الوضيعةُ أيها البائع، واللهم اغفِر لنا أيتها العصابة، وأردت أن تختصّ ولا تُبهم حين قلت: أيتها العصابةُ وأيها الرجل، أراد أن يؤكد لأنه قد اختصّ حين قال أنا، ولكنه أكد كما تقول للذي هو مقبلٌ عليه بوجهه مستمعٌ منصِتٌ لك: كذا كان الأمر يا أبا فلان، توكيداً. ولا تُدخل يا ها هنا لأنك لست تنبّه غيرك. يعني: اللهمّ غفر لنا أيتها العصابة.
؟هذا باب من الاختصاص يجري على ما جرى عليه النداء فيجيء لفظه على موضع النداء نصباً لأن موضع النداء نصب، ولا تجري الأسماء فيه مجراها في النداء، لأنهم لم يجروها على حروف النداء، ولكنهم أجروها على ما حمل عليه النداء.
وذلك قولك: إنا معشرَ العرب نفعل كذا وكذا، كأنه قال: أعني، ولكنه فعلٌ لا يظهر ولا يُستعمل كما لم يكن ذلك في النداء؛ لأنهم اكتفوا بعلم المخاطَب، وأنهم لا يريدون أن يحملوا الكلام على أوله، ولكن ما بعده محمول على أوله. وذلك نحو قوله، وهو عمرو بن الأهتَم:
إنّا بني مِنقرٍ قومٌ ذوو حسَبٍ ... فينا سَراةُ بني سعدٍ وناديَها
وقال الفرزدق:
ألم ترَ أنّا بني دارِمٍ ... زُرارةُ منا أبو معبدِ
فإنما اختُصّ الاسم هنا ليعرَف بما حُمل على الكلام الأول، وفيه معنى الافتخار. وقال رؤبة: بنا تميماً يُكشف الضّبابْ وقال: نحن العُربَ أقرى الناس لضيف، فإنما أدخلتَ الألف واللام لأنك أجريت الكلام على ما النداء عليه، ولم تُجره مجرى الأسماء في النداء. ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول: يا العربَ، وإنما دخل في هذا الباب من حروف النداء أيُّ وحدَها، فجرى مجراه في النداء.
وأما قول لبيد:
نحن بنو أمِّ البنينَ الأربعه ... ونحن خيرُ عامر بنِ صَعصعَهْ
فلا يُنشدونه إلا رفعاً، لأنه لم يرد أن يجعلهم إذا افتخروا أن يُعرَفوا بأن عدّتهم أربعة، ولكنهم جعل الأربعة وصفاً ثم قال: المُطعمِون الفاعلون، بعدما حلاّهم ليُعرَفوا.
وإذا صغّرتَ الأمر فهو بمنزلة تعظيم الأمر في هذا الباب، وذلك قولك: إنا معشرَ الصعاليك لا قوةَ بنا على المُروّة.
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: بك اللهَ نرجو الفضلَ، وسُبحانك اللهَ العظيمَ، نصبُه كنصب ما قبله، وفيه معنى التعظيم. وزعم أن دخول أيّ في هذا الباب يدل على أنه محمول على ما حُمل عليه النداء، يعني أيتها العصابة فكان هذا عندهم في الأصل أن يقولوا فيه يا، ولكنهم خزلوها وأسقطوها حين أجروه على الأصل.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تُبهم في هذا الباب فتقول: إني هذا أفعلُ كذا وكذا، ولكن تقول: إني زيداً أفعلُ. ولا يجوز أن تذكر إلا اسماً معروفاً؛ لأن الأسماء إنما تُذكرها توكيداً وتوضيحاً هنا للمضمَر وتذكيراً وإذا أبهمتَ فقد جئت بما هو أشكلُ من المضمَر. ولو جاز هذا لجازت النكرةُ فقلتَ إنا قوماً، فليس هذا من مواضع النكرة والمبهَم، ولكن هذا موضعُ بيان كما كانت الندبةُ موضعَ بيان، فقبُح إذ ذكروا الأمر توكيداً لما يعظّمون أمرَه أن يذكروا مبهماً.
وأكثر الأسماء دخولاً في هذا الباب بنو فلان، ومعشَر مُضافةً، وأهل البيت، وآل فلان. ولا يجوز أن تقول إنهم فعلوا أيتها العصابةُ، إنما يجوز هذا للمتكلم والمكلَّم المنادى، كما أن هذا لا يجوز إلا لحاضر.
وسألت الخليل رحمه الله ويونس عن نصب قول الصّلَتان العبدي:
يا شاعراً لا شاعرَ اليومَ مثلَه ... جَريرٌ ولكنْ في كليبٍ تواضعُ
فزعما أنه غير منادى وإنما انتصب على إضمار كأنه قال يا قائل الشعر شاعراً، وفيه معنى حسبُك به شاعراً.
كأنه حيث نادى قال حسبُك به، ولكنه أضمر كما أضمروا في قوله: تالله رجلاً وما أشبهه، مما ستجده في الكتاب إن شاء الله عز وجل.
ومما جاء وفيه معنى التعجّب كقولك: يا لك فارساً، قولُ الأخوص ابن شُريح الكلابي:
تمنّاني ليلقاني لَقيطٌ ... أعامِ لك بنَ صعصعةَ بنِ سعدِ
وإنما دعاهم لهم تعجباً، لأنه قد تبيّن لك أن المنادى يكون فيه معنى أفعِل به، يعني يا لك فارساً.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذا البيت مثلُ ذلك؛ للأخطل:

أيامَ جُملِ خليلا لو يخاف لها ... صُرماً لَخولِط منه العقلُ والجسدُ
وقال في قول الشاعر: يا هندُ هندٌ بين خِلبٍ وكَبدْ أنه أراد: أنتِ بين خِلب وكبد، فجعلها نكرة.
وقد يجوز أن تقول بعد النداء مقبِلاً على مَن تحدّثه: هندٌ هذه بين خِلبٍ وكبدٍ، فيكون معرفة.
؟

هذا باب الترخيم
والترخيم حذفُ أواخر الأسماء المفرد تخفيفاً، كما حذفوا غير ذلك من كلامهم تخفيفاً، وقد كتبناه فيما مضى، وستراه فيما بقي إن شاء الله تعالى.
واعلم أن الترخيم لا يكون إلا في النداء إلا أن يُضطرّ شاعرٌ، وإنما كان ذلك في النداء لكثرته في كلامهم، فحذفوا ذلك كما حذفوا التنوين، وكما حذفوا الياء من قومي ونحوه في النداء.
واعلم أن الترخيم لا يكون في مضاف إليه ولا في وصف؛ لأنهما غيرُ منادَيين، ولا يرخّم مضاف ولا اسمٌ منوّن في النداء؛ من قبل أنه جرى على الأصل وسلِم من الحذف، حيث أُجري مجراه في غير النداء إذا حملتَه على ما ينصب. يقول: إن المحذوف في الترخيم إنما يقع على النداء لا على الإعراب، وحين قلت يا زيد أقبل فحذفت ياء الإضافة كنت إنما حذفت هذا الإعراب، وحين قلت يا زيد أقبل فحذفت ياء الإضافة كنت إنما حذفت هذا الإعراب، ومع ذلك إنه إنما ينبغي أن تحذف آخر شيء في الاسم، ولا يُحذف قبل أن تنتهي الي آخره، لأن المضاف إليه من الاسم الأول بمنزلة الوصل من الذي إذا قلت الذي قال، وبمنزلة التنوين في الاسم.
ولا ترخّم مستغاثاً به إذا كان مجروراً، لأنه بمنزلة المضاف إليه. ولا ترخّم المندوب لأن علامته مستعملة، فإذا حذفوا لم يحملوا عليه مع الحذف الترخيم.
وإذا ثنّيت لم ترخّم؛ لأنها كالتنوين.
واعلم أن الحرف الذي يلي ما حذفت ثابتٌ على حركته التي كانت فيه قبل أن تحذف، إن كان فتحاً أو كسراً أو ضماً أو وقفاً؛ لأنك لم ترد أن تجعل ما بقي من الاسم اسماً ثابتاً في النداء وغير النداء، ولكنك حذفت حرف الإعراب تخفيفاً في هذا الموضع وبقي الحرف الذي يلي ما حُذف على حاله، لأنه ليس عندهم حرفَ الإعراب. وذلك قولك يا حارث: يا حار، وفي سلَمة: يا سَلَم، وفي بُرثُن: يا بُرثُ، وفي هرقل: يا هِرَقْ.
؟
باب ما أواخر الأسماء فيه الهاء
اعلم أن كل اسم كان مع الهاء ثلاثة أحرف أو أكثر من ذلك، كان اسماً خاصاً غالباً، أو اسماً عاماً لكل واحد من أمة، فإن حذف الهاء منه في النداء أكثر في كلام العرب. فأما ما كان اسماً غالباً فنحو قولك: يا سلَمَ أقبل. وأما الاسم العام العامّ فنحو قول العجّاج: جاريَ لا تستنكري عذيري إذا أردت يا سَلَمةُ، ويا جاريةُ.
وأما ما كان على ثلاثة أحرف مع الهاء فنحو قولك: يا شا ارْجُني ويا ثُبَ أقبِلي، إذا أردت: شاةً وثُبةً.
واعلم أن ناساً من العرب يثبتون الهاء فيقولون: يا سلمةُ أقبلْ، وبعض من يُثبت يقول: يا سلمةَ أقبل.
واعلم أن العرب الذين يحذفون في الوصل إذا وقفوا قالوا: يا سلمهْ ويا طلحَهْ. وإنما ألحقوا هذه الهاء ليبينوا حركة الميم والحاء، وصارت هذه الهاء لازمة لهما في الوقف كما لزمت الهاء وقف ارمه، ولم يجعلوا المتكلم بالخيار وحذف الهاء عند الوقف وإثباتها، من قبل أنهم جعلوا الحذف لازماً لهاء التأنيث في الوصل، كما لزم حذفُ الهاء من ارمِهْ في الوصل وكأنهم ألزموا هذه الهاء في ارْمِهْ في الوقف ولم يجعلوها بمنزلتها إذا بيّنتَ حركة ما لم يحذف بعده شيء نحو علَيَّهْ وإليّهْ، ولكنها لازمة كراهية أن يجتمع في ارمِه حذف الهاء وترك الحركة، فأرادوا أن تثبت الحركة على كل حال، ليكون ثباتُها عوضاً من الحذف للياء والهاء، فبُيّنت الحركة بالهاء في السكوت ليكون ثباتُها في الاسم على كل حال؛ لئلا يُخلّوا به.
واعلم أن الشعراء إذا اضطروا حذفوا هذه الهاء في الوقف، وذلك لأنهم يجعلون المدة التي تلحق القوافي بدلاً منها.
وقال الشاعر، ابن الخرع:
كادت فزارةُ تشقي بنا ... فأولى فزارةُ أولى فَزارا
وقال القُطامي: قفي قبل التفرّق يا ضُباعا وقال هُدبةُ: عُوجي علينا واربَعي يا فاطِما

وإنما كان الحذف ألزمَ للهاءات في الوصل، وفيها أكثر منه في سائر الحروف في النداء، من قبل أن الهاء في الوصل في غير النداء تبدّل مكانَها التاء، فلما صارت الهاء في موضع يحذف منه لا يُبدّل منه شيء تخفيفاً، كان ما يُبدّل ويُغيّر أولى بالحذف، وهو له ألزم، وجعلوا تغييره الحذف في موضع الحذف إذ كان متغيراً لا محالة.
وسمعنا الثقة من العرب يقول: يا حَرملْ، يريد يا حَرمَلَهْ، كما قال بعضهم: إرْمْ، يقفون بغير هاء.
واعلم أن هاء التأنيث إذا كانت بعد حرف زائد لو لم تكن بعده حُذف، أو بعد حرفين لو لم تكن بعدهما حُذفا زائدين، لم يحذف، من قبل أن الحروف الزوائد قبل الهاء في الترخيم بمنزلة غير الزوائد من الحروف وذلك قولك في طائفية: يا طائفي أقبلي، وفي مَرجانة: يا مرجانَ أقبلي. وفي رعشنةٍ: يا رَعْشَنَ أقبلي، وفي سِعلاةٍ: يا سِعلا أقبلي. ولو حذفتَ ما قبل الهاء كحذفك إياه وليس بعده هاء لقلت في رجل يسمّى عُثمانةَ يا عُثمَ أقبل، لأن الهاء لو لم تكن ههنا لقلت يا عُثْمَ أقبل؛ فإنما الكلام أن تقول يا عُثمان أقبل. فأجْرِ ترخيمَ هذا بعد الزوائد مجراه إذا كان بعدما هو من نفس الحرف.
ومَن حذف الزوائد مع الهاء فإنه ينبغي له أن يقول في فاظمة: يا فاطِ لا تفعلي، من قبل أن الهاء لو لم تكن بعد الميم لقلت يا فاطِ كما تقول يا حارِ، فأنت تحذف ما هو من نفس الحرف كما تحذف الزوائد، فإذا ألحقته الزوائد لم تحذفه مع الزوائد. فكذلك الزوائد إذا ألحقتَها مع الزوائد لم تحذفها معها.
؟باب يكون فيه الاسم بعدما يُحذف منه الهاء
بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام لم يكن فيه هاء قط
وذلك قول بعض العرب، وهو عنترة العبسي:
يَدعون عنترُ، والرماحُ كأنها ... أشطانُ بيرٍ في لَبان الأدهمِ
جعلوا الاسم عنترا وجعلوا الراء حرف الإعراب.
وقال الأسود بن يعفُر تصديقاً لهذه اللغة:
ألا هل لهذا الدهر من مُتعلّلِ ... عن الناس، مهما شاء بالناس أن يفعل
ثم قال:
وهذا ردائي عنده يستعيره ... ليسلُبَني حقي أمالِ بنَ حنظلِ
وذلك لأن الترخيم يجوز في الشعر في غير النداء، فلما رخّم جعل الاسم بمنزلة اسمٍ ليست فيه هاء. وقال رؤبة:
إما تَرَيني اليومَ أمَّ حمزِ ... قاربتُ بين عَنَقي وجَمزي
وإنما أراد: أمّ حمزة. وأما قول ذي الرمة:
ديارَ ميّةَ إذ مَيٌّ تُساعفُنا ... ولا يرى مثلَها عُجمٌ ولا عربُ
فزعم يونس أنه كان يسميها مرة ميّة ومرة ميّا، ويجعل كل واحد من الاسمين اسماً لها في النداء وفي غيره.
وعلى هذا المثال قال بعض العرب إذا رخّموا: يا طَلحُ ويا عنترُ. وقد يكون قولهم يدعون عنترُ بمنزلة ميَّ؛ لأن ناساً من العرب يسمونه عنتراً في كل موضع. ويكون أن تجعله بمنزلة ميّ بعد ما حذفت منه، وقد يكون ميٌّ أيضاً كذلك، يجعلها بمنزلة ما ليس فيه هاء بعد ما تحذف الهاء.
وأما قول العرب: يا فُلُ أقبلْ، فإنهم لم يجعلوه اسماً حذفوا منه شيئاً يثبت فيه في غير النداء، ولكنهم بنوا الاسمَ على حرفين، وجعلوه بمنزلة دم. والدليل على ذلك أنه ليس أحدٌ يقول يا فُلَ فإن عنوا امرأة قالوا: يا فُلةُ: وهذا الاسم اختُصّ به النداء، وإنما بُني على حرفين لأن النداء موضعُ تخفيف، ولم يجز في غير النداء لأنه جُعل اسماً لا يكون إلا كنايةً لمنادى، نحو يا هَناهْ، ومعناه يا رجلُ. وأما فلان فإنما هو كناية عن اسم سُمي به المحدّث عنه، خاصّ غالب. وقد اضطُرّ الشاعرُ فبناه على حرفين في هذا المعنى. قال أبو النجم: في لجّة أمسِكْ فُلاناً عن فُلِ
؟هذا باب إذا حذفتَ منه الهاء
وجعلت الاسم بمنزلة ما لم تكن فيه الهاء أبدلتَ حرفاً مكان الحرف الذي يلي الهاء وإن لم تجعله بمنزلة اسم ليس فيه الهاء لم يتغير عن حاله التي كان عليها قبل أن تحذف.
وذلك قولك في عَرقوةٍ وقَمَحدوَةٍ وإن جعلت الاسم بمنزلة اسم لم تكن فيه الهاء على حالٍ: يا عَرقي ويا قَمَحْدي؛ من قبل أنه ليس في الكلام اسمٌ آخر كذا. وكذلك إن رخّمتَ رَعومٌ وجعلته بهذه المنزلة، قلت يا رَعي.

وإن رخّمت رجلاً يسمى قَطَوان فجعلته بهذه المنزلة قلت: يا قَطا أقبلْ. فإن رخّمت رجلاً اسمُه طُفاوةُ قلت: يا طُفاءُ أقبلْ، من قبل أنه ليس في الكلام اسمٌ هكذا آخِره يكون حرفَ الإعراب، يعني الواو والياء إذا كانت قبلهما ألف زائدة ساكنة لم يثبتا على حالهما، ولكن تُبدّل الهمزة مكانَهما. فإن لم تجعلهما حروف الإعراب فهي على حالها قبل أن تحذف الهاء، وذلك قولك: يا طُفاوَ أقبلْ، إذا لم ترد أن تجعله بمنزلة اسم ليست فيه الهاء.
واعلم أن ما يُجعل بمنزلة اسم ليست فيه هاء أقلُّ في كلام العرب، وترك الحرف على ما كان عليه قبل أن تُحذف الهاء أكثر؛ من قبل أن حرف الإعراب في سائر الكلام غيره. وهو على ذلك عربي.
وقد حملهم ذلك على أن رخّموه حيثُ جعلوه بمنزلة ما لا هاء فيه. قال العجّاج:
فقد رأى الراءون غيرَ البُطَّلِ ... أنك يا مُعاوِ يا ابنَ الأفضلِ
يريد: يا مُعاوية.
وتقول في حَيْوَةَ: يا حَيوَ أقبل، فإن رفعت الواو تركتها على حالها لأنه حرف أُجري على الأصل وجُعل بمنزلة غزوٍ، ولم يكن التغيير لازماً وفيه الهاء.
واعلم أنه لا يجوز أن تحذف الهاء وتجعل البقية بمنزلة اسم ليست فيه الهاء إذا لم يكن اسماً خاصاً غالباً، من قبل أنهم لو فعلوا ذلك التبس المؤنّث بالمذكّر. وذلك أنه لا يجوز أن تقول للمرأة: يا خبيثُ أقبلي. وإنما جاز في الغالب لأنك لا تذكّر مؤنثاً ولا تؤنث مذكراً.
واعلم أن الأسماء التي ليس في أواخرها هاء أن لا يُحذف منها أكثر، لأنهم كرهوا أن يُخِلّوا بها فيحملوا عليها حذف التنوين وحذف حرف لازم للاسم لا يتغير في الوصل ولا يزول.
وإن حذفتَ فحسن. وليس الحذف لشيء من هذه الأسماء ألزم منه لحارث ومالك وعامر، وذلك لأنهم استعملوها كثيراً في الشعر، وأكثروا التسمية بها للرجال. قال مهلهل بن ربيعة:
يا حارِ لا تجهلْ على أشياخِنا ... إنّا ذَوو السّوراتِ والأحلام
وقال امرؤ القيس:
أحارِ ترى برقاً أُريكَ وميضَهُ ... كلمعِ اليدين في حَبيّ مكلّلِ
وقال الأنصاري: يا مالِ والحقّ عنده فقفوا وقال النابغة الذبياني:
فصالحونا جميعاً إن بدا لكلم ... ولا تقولوا لنا أمثالَها عام
وهو في الشعر أكثر من أن أحصيه.
وكل اسم خاص رخّمته في النداء فالترخيم فيه جائز وإن كان في هذه الأسماء الثلاثة أكثر. فمن ذلك قول الشاعر:
فقلتم تعال يا يَزي بنَ مُخرِّم ... فقلت لكم إني حليف صُداءِ
وهو يزيد بن مخرّم.
وقال مجنون بني عامر:
ألا يا ليلَ إن خُيّرتِ فينا ... بنفسي فانسري أين الخيارُ
يريد في الأول: يزيد، وفي الثاني ليلى.
وقال أوس بن حجر: تسكّرتِ منّا بعد معرفةٍ لَمي يريدُ: لميسَ.
واعلم أن كل شيء جاز في الاسم الذي في آخره هاء بعد أن حذفت الهاء منه في شعر أو كلام، يجوز فيما لا هاء فيه بعدُ أن تحذف منه. فمن ذلك قول امرئ القيس:
لَنِعمَ الفتى تَعشو الى ضوء ناره ... طريفُ بن مالٍ ليلة الجوع والخصَرْ
جعل ما بقي بعد ما حذف، بمنزلة اسم لم يُحذف منه شيء، كما جعل ما بقي بعد حذف الهاء بمنزلة اسمٍ لم تكن فيه الهاء.
وقال رجل من بني مازن:
عليّ دماء البُدنِ إن لم تفارقي ... أبا حردَبٍ ليلاً وأصحابَ حردَبِ
وقال، وهو مصنوع على طرفة، وهو لبعض العِباديين:
أسعدَ بنَ مالٍ ألم تعلموا ... وذو الرأي مهما يقُل يصدُقِ
واعلم أن كل اسم على ثلاثة أحرف لا يحذف منه شيء إذا لم تكن آخره الهاء. فزعم الخليل رحمه الله أنهم خففوا هذه الأسماء التي ليست أواخرها الهاء ليجعلوا ما كان على خمسة على أربعة، وما كان على أربعة على ثلاثة. فإنما أرادوا أن يقرّبوا الاسم من الثلاثة أو يصيّروه إليها، وكان غاية التخفيف عندهم؛ لأنه أخف شيء عندهم في كلامهم ما لم يُنتقص، فكرهوا أن يحذفوه إذ صار قصاراهم أن ينتهوا إليه.

واعلم أنه ليس من اسم لا تكون في آخره هاء يُحذف منه شيء إذا لم يكن اسماً غالباً نحو زيد وعمرو، من قبل أن المعارف الغالبة أكثر في الكلام وهم لها أكثر استعمالاً، وهم لكثرة استعمالهم إياها قد حذفوا منها في غير النداء، نحو قولك: هذا زيد بن عمرو، ولم يقولوا هذا زيد ابنُ أخيك.
ولو حذفت من الأسماء غير الغالبة لقلت في مسلمين: يا مُسلم أقبِلوا، وفي راكب: يا راكِ أقبلْ. إلا أنهم قد قالوا: يا صاح، وهم يريدون يا صاحبُ؛ وذلك لكثرة استعمالهم هذا الحرف، فحذفوا كما قالوا: لم أُبَلْ، ولم يكُ، ولا أدرِ.
؟هذا باب ما يُحذف من آخره حرفان
لأنهما زيادة واحدة بمنزلة حرف واحد زائدوذلك قولك في عثمان: يا عُثْمَ أقبلْ، وفي مروان: يا مرْوَ أقبل، وفي أسماء: يا أسمَ أقبلي.
وقال الفرزدق: يا مَروَ إن مطيّتي محبوسةً ترجو الحِباء وربّها لم ييأسِ وقال الراجز: يا نعمَ هل تحلف لا تَدينُها وقال لبيد:
يا أسمَ صبراً على ما كان من حدثٍ ... إن الحوادث مَلقيٌّ ومنتظَرُ
وإنما كان هذان الحرفان بمنزلة زيادة واحدة من قبل أنك لم تُلحق الحرفَ الآخِر أربعة أحرف رابعهن الألف، من قبل أن تزيد النون التي في مروان، والألف التي في فعلاء، ولكن الحرف الآخر الذي قبله زيدا معاً، كما أن ياءَي الإضافة وقعتا معاً. ولم تلحق الآخرةَ بعد ما كانت الأولى لازمة، كما كانت ألف سلمى إنما لحقتْ ثلاثة أحرف ثالثها الميم لازمها، ولكنهما زيادتان لحقتا معاً فحذفتا جميعاً كما لحقنا جميعاً.
وكذلك ترخيم رجل يقال له مسلمون، بحذف الواو والنون جميعاً من قبل أن النون لم تلحق واواً ولا ياء قد كانت لزمت قبل ذلك. ولو كانت قد لزمت حتى تكون بمنزلة شيء من نفس الحرف ثم لحقتها زائدة لم تكن حرف الإعراب.
وكذلك رجل اسمه مُسلمان: تحذف الألف والنون.
وأما رجل اسمه بَنون فلا يُطرح منه إلا النون، لأنك لا تصيّر اسماً على أقل من ثلاثة أحرف. ومن جعل ما بقي من الاسم بعد الحذف بمنزلة اسم يتصرف في الكلام لم تكن فيه زيادة قطّ قال يا بَني، لأنه ليس في الكلام اسم يتصرّف آخره كآخِر بَنو.
هذا باب يكون فيه الحرف

الذي من نفس الاسم وما قبله بمنزلة زائد وقع وما قبله جميعا
ً
وذلك قولك في منصور: يا مَنصُ أقبلْ، وفي عمارٍ: يا عمّ أقبل، وفي رجل اسمه عنتريسٌ: يا عنتَرِ أقبلْ. وذلك لأنك حذفت الآخر كما حذفت الزائد، وما قبله ساكن بمنزلة الحرف الذي كان قبل النون زائداً فهو زائد كما كان ما قبل النون زائداً، ولم يكن لازماً لما قبله من الحروف ثم لحقه ما بعده، لأن ما بعده ليس من الحروف التي تُزاد. فلما كانت حال هذه الزيادة حالَ تلك الزيادة وحُذفت الزيادة وما قبلها، حُذف هذا الذي من نفس الحرف.
؟
باب تكون الزوائد فيه بمنزلة
ما هو من نفس الحرف
وذلك قولك في قَنَوَّرٍ: يا قنوَّ أقبلْ، وفي رجل اسمه هَبَيّخ: يا هَبَيّ أقبل؛ لأن هذه الواو التي في قنوّر والياء التي في هبيّخ، بمنزلة الواو التي في جدول، والياء التي في عِثيَر.
وإنما لحقنا لتُلحقا ما كان على ثلاثة أحرف ببنات الأربعة، وليصير بمنزلة حرف من نفس الحرف؛ كفاء جعفر في هذا الاسم.
ويدلك على أنها بمنزلتها أن الألف التي تجيء لتُلحق الثلاثة بالأربعة منوّنة كما ينوّن ما هو من نفس الحرف، وذلك نحو مِعزى. ومع ذلك أن الزوائد تلحقها كما تلحق ما ليس فيه زيادة، نحو جِلواخٍ وجِريال وقِرواح، كما تقول سِرداح. وتقدّم قبل هذه الزيادة الياء والواو زائدتين كما تقدّم الحرف الذي من نفس الحرف في فَدَوْكس وخَفَيدَد، وهي الواو التي في قنوّر الأولى، والياء التي في هبيّخ الأولى بمنزلة ياء سَميدَع، فصار قنوّر بمنزلة فدوْكَس، وهبيّخ بمنزلة سَميدَع، وجدول بمنزلة جعفر، فأجروا هذه الزوائد بمنزلة ما هو من نفس الحرف، فكرهوا أن يحذفوها إذ لم يحذفوا ما شبّهوها به وما جعلوها بمنزلته. ولو حذفوا من سميدع حرفين لحذفوا من مهاجر حرفين فقالوا: يا مُها، وهذا لا يكون، لأنه إخلال مُفرط بما هو من نفس الحرف.
؟باب تكون الزوائد فيه أيضاً بمنزلة
ما هو من نفس الحرف

وذلك قولك في رجل اسمه حَولايا أو بَردَرايا: يا بَردراي أقبلْ، ويا حَولاي أقبل؛ من قبل أن هذه الألف لو جيء بها للتأنيث والزيادة التي قبلها لازمة لها يقعان معاً لكانت الياء ساكنة وما كانت حية، لأن الحرف الذي يجعل وما بعده زيادة واحدة ساكن لا يتحرك، ولو تحرك لصار بمنزلة حرف من نفس الحرف، ولجاء بناء آخرُ. ولكن هذه الألف بمنزلة الهاء التي في درحاية وفي عفارية، لأن الهاء إنما تلحق للتأنيث، والحرف الذي قبلها بائن منها قد لزم ما قبله قبل أن تلحق.
وكذلك الألف التي تجيء للتأنيث إذا جاءت وحدها، لأن حال الحرف الذي قبلها كحال الحرف الذي قبل الهاء، والهاء لا تكون أبداً مع شيء قبلها زائد بمنزلة زيادة واحدة وإن كان ساكناً نحو ألف سِعلاة. ولو كانت بمنزلة زيادة واحدة لم يقولوا سُعَيلِية، ولكانت في التحقير ياء مجزومة كالياء التي تكون بدل ألف سِرحان إذا قلت سُرَيحين، أو بمنزلة عُثمان إذا قلت عُثيمان، ولكنها لحقت حرفاً جيء به ليلحق الثلاثة ببنات الأربعة. وكذلك ألف التأنيث إذا جاءت وحدها، يدلّك على ذلك تحرّك ما قبلها وحياته.
وإنما كانت هذه الأحرف الثلاثة الزوائد: الياء والواو والألف، وما بعدها، بمنزلة زيادة واحدة لسكونها وضعفها، فجعلتْ وما بعدها بمنزلة حرف واحد، إذ كانت ميتة خفية.
ويدلك على أن الألف التي في حَولايا بمنزلة الهاء أنك تقول: حَولائي كما تقول: دِرحائي. ولو كانت وما قبلها بمنزلة زيادة واحدة لم تحذف الألف، كما لا تحذفها إذا قلت: خُنفساوي.
؟باب ما إذا طُرحت منه الزائدتان
اللتان بمنزلة زيادة واحدة رجعت حرفاً
وذلك قولك في رجل اسمه قاضون: يا قاضي أقبل، وفي رجل اسمه ناجيّ: يا ناجي أقبل، أظهرت الياء لحذف الواو والنون، وفي رجل اسمه مُصطَفون: يا مصطفى أقبل.
وإنما رددت هذه الحروف لأنك لم تَبن الواحد على حذفها كما بُنيت دمٌ على حذف الياء، ولكنك حذفتهن لأنه لا يسكن حرفان معاً، فلما ذهب في الترخيم ما حذفتهن لمكانه رجعتهن. فحذف الواو والنون ههنا كحذفها في مسلمين؛ لأن حذفها لم يكن إلا لأنه لا يسكن حرفان معاً والياء، والألف يعني في قاضي ومصطفى تثبتان كما ثبتت الميم في مسلمين.
ومثل ذلك: " غيرَ مُحِلّي الصيدِ وأنتم حُرُم " . وهذا قول الخليل رحمه الله. فإذا لم تذكر الصيد قلت مُحلّي.
؟باب يحرَّك فيه الحرف الذي يليه المحذوف
لأنه لا يلتقي ساكنانوهو قولك في رجل اسمه رادٌّ: يا رادِ أقبل. وإنما كانت الكسرة أولى الحركات به لأنه لو لم يُدغم كان مكسوراً، فلما احتجتَ الى تحريكه كان أولى الأشياء به ما كان لازماً له لو لم يُدغم. وأما مفرٌّ فإذا حذفت منه وهو اسم رجل، لم تحرَّك الراء لأن ما قبلها متحرك. وإن حذفت من اسم مُحمارّ أو مُضارّ، قلت: يا مُحمارِ ويا مُضارِ، تجيء بالحركة التي هي له في الأصل، كأنك حذفت من مُحمارر، حيث لم يجز لك أن تُسكِن الراء الأولى. ألا ترى أنك إذا احتجت الى تحريكها والراء الآخرة ثابتة لم تحرّك إلا على الأصل، وذلك قولك لم يَحمارِرْ، فقد احتجت الى تحريكها في الترخيم كما احتجت إليه هنا حين جزمت الراء الآخرة.
وإن سمّيته بمضارّ وأنت تريد المفعول قلت: يا مُضارَ أقبل، كأنك حذفت من مُضارَر.
وأما مُحمرٌّ إذا كان اسم رجل فإنك إذا رخّمته تركت الراء الأولى مجزومة، لأن ما قبلها متحرك فلا تحتاج الى حركتها. ومن زعم أن الراء الأولى زائدة كزيادة الواو والياء والألف، فهو لا ينبغي له أن يحذفها مع الراء الآخرة، من قبل أن هذا الحرف ليس من حروف الزيادة، وإنما يُزاد في التضعيف، فأشبه عندهم المضاعَف الذي لا زيادة فيه نحو مرتدّ وممتدّ، حين جرى مجراه ولم يجئ زائداً غير مضاعَف، لأنه ليس عندهم من حروف الزيادة، وإنما جاء زائداً في التضعيف، لأنه إذا ضوعِف جرى مجرى المضاعَف الذي ليس فيه زيادة.
ولو جعلت هذا الحرف بمنزلة الياء والألف والواو لثبت في التحقير والجمع الذي يكون ثالثه ألفاً. ألا ترى أنه صار بمنزلة اسم على خمسة أحرف ليس فيه زيادة نحو جردَحْل وما أشبه ذلك.

وأما رجل اسمه إسحارٌّ فإنك إذا حذفت الراء الآخرة لم يكن لك بدٌّ من أن تحرك الراء الساكنة لأنه لا يلتقي حرفان ساكنان. وحركته الفتحة، لأنه يلي الحرف الذي منه الفتحة، وهو الألف. ألا ترى أن المضاعف إذا أُدغم في موضع الجزم حُرّك آخر الحرفين لأنه لا يلتقي ساكنان، وجُعل حركته كحركة أقرب المتحركات منه. وذلك قولك: لم يردُّ ولم يرتدّ ولم يفرّ ولم يعضّ. فإذا كان أقرب من المتحرك إليه الحرف الذي منه الحركة المفتوحة ولا يكون ما قبله إلا مفتوحاً، كان أجدرَ أن تكون حركته مفتوحة، لأنه حيث قرب من الحرف الذي منه الفتحة وإن كان بينهما حرف كان مفتوحاً، فإذا قرب منه هو كان أجدرَ أن تفتحه، وذلك لم يُضارّ.
وكذلك تقول: يا إسحارّ أقبل، فعلت بهذه الراء ما كنت فاعلاً بالراء الآخرة لو ثبت الراءان ولم تكن الآخرة حرف الإعراب، فجرى عليها ما كان جارياً على تلك كما جرى على ميم مُدّ ما كان بعد الدال الساكنة، وامُدُد هو الأصل. إن شئت فتحت اللام إذا أسكنتَ على فتحة انطلق، ولم يلْدَ إذا جزموا اللام. وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع العرب يقولون، وهو قول رجل من أزْد السَّراة:
ألا رُبّ مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلْدَهُ أبوانِ
جعلوا حركته كحركة أقرب المتحركات منه. فهذا كأينَ وكيف.
وإنما منع إسحارّا أن يكون بمنزلة مُحمارّ أن أصل محمارّ مُحمارِر، يدلك على ذلك فعله إذا قلت لم يَحمارِر. وأما إسحارٌّ فإنما هو اسم وقع مُدّغماً آخره، وليس لرائه الأولى في كلامهم نصيب في الحركة، ولا تقع إلا ساكنة، كما أن الميم الأولى من الحُمّر، والراء الأولى من شرّاب لا يقعان إلا ساكنين، ليستا عندهم إلا على الإسكان في الكلام وفي الأصل.
وسنبيّن ذلك في باب التصريف إن شاء الله.
؟

باب الترخيم في الأسماء
التي كل اسم منها من شيئين كانا بائنين فضُمّ أحدهما الى صاحبه فجُعلا اسماً واحداً بمنزلة عَنتريس وحَلكوك وذلك مثل حَضرَموت، ومَعدي كَرب، وبُخْتَ نصّر، ومارَسَرجِس، ومثل رجل اسمه خمسة عشر، ومثل عمرَوَيه. فزعم الخليل رحمه الله أنه تحذف الكلمة التي ضُمّت الى الصدر رأساً وقال: أراه بمنزلة الهاء. ألا ترى أني إذا حقّرته لم أغيّر الحرف الذي يليه كما لم أغيّر الذي يلي الهاء في التحقير عن حاله التي كان عليها قبل أن يُحقَّر، وذلك قولك في تَمرة تُميرَة، فحال الراء واحدة. وكذلك التحقير في حضرمَوت تقول حُضَيرَموت، وقال: أُراني إذا أضفت الى الصدر وحذفت الآخر فأقول في مَعدي كَرب: معديّ، وأقول في الإضافة الى أربعة عشر أربعيّ، فحذف الاسم الآخر بمنزلة الهاء، فهو في الموضع الذي يُحذف فيه ما يثبت في الإضافة أجدر أن يحذف إذا أردت أن ترخّم.
وهذا يدل على أن الهاء تُضمّ الى الأسماء كما يُضمّ الاسم الآخر الى الأول. ألا ترى أنها لا تُلحق بنات الثلاثة بالأربعة، ولا الأربعة بالخمسة، كما أن هذه الأسماء الآخرة لم تُضمّ الى الصدر لتُلحق الصدر ببنات الأربعة، ولا لتُلحقه ببنات الخمسة، وذلك لأنها ليست زائدات في الصدور، ولا هي منها، ولكنها موصولة بها وأُجريت مجرى عنتَريس ونحوه، ولا يغيَّر لها بناء كما لا يغيّر لياء الإضافة أو ألف التأنيث أو لغيرهما من الزيادات. وسترى ذلك في موضعه إن شاء الله عز وجل ذكره.
كما أن الأسماء الآخرة لم تغيّر بناء الأولى عن حالها قبل أن تُضمّ إليها، لم تغيّر خمسة في خمسة عشر عن حالها. فالهاء وهذه الأسماء الآخرة مضمومة الى الصدور كما يُضمّ المضاف إليه الى المضاف لأنهما كانا بائنين وُصل أحدهما بالآخر، فالآخر بمنزلة المضاف إليه في أنه ليس من الأول ولا فيه، وهما من الإعراب كاسم واحد لم يكن آخره بائناً من أوله.
وإذا رخّمت رجلاً اسمه خمسة عشر قلت: يا خمسةَ أقبل، وفي الوقف تبيّن الهاء - يقول لا تجعلها تاء - لأنها تلك الهاء التي كانت في خمسة قبل أن تُضمّ إليها عشرَ. كما أنك لو سمّيت رجلاً مُسلمين قلت في الوقف: يا مُسلِمَهْ؛ لأن الهاء لو أبدلت منها تاء لتُلحق الثلاثة بالأربعة لم تحرّك الميم.
وأما اثنا عشر فإذا رخّمته حذفت عشر مع الألف، لأن عشر بمنزلة نون مُسلمين، والألف بمنزلة الواو، وأمره في الإضافة والتحقير كأمر مُسلمين. يقول: تُلقي عشر مع الألف كما تُلقي النون مع الواو.

واعلم أن الحكاية لا ترخَّم، لأنك لا تريد أن ترخّم غير منادى، وليس مما يغيّره النداء، وذلك نحو تأبط شراً وبرق نحرُه وما أشبه ذلك. ولو رخّمت هذا لرخمت رجلاً يسمى بقول عنترة:
يا دار عبلةَ بالجِواء تكلّمي
؟باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطراراً قال الراجز: وقد وسطْتُ مالِكا وحنظلا وقال ابن أحمر:
أبو حَنَش يؤرقنا وطلْقٌ ... وعمّارٌ وآوِنةً أُثالا
يريد: أثالة.
وقال جرير:
ألا أضحتْ حِبالكمُ رِماما ... وأضحت منك شاسعةً أُماما
يشقّ بها العساقِل مُؤْجَداتٌ ... وكلُّ عرَنْدَس ينفي اللُّغاما
وقال زهير:
خذوا حظّكم يا آل عِكرم واذكروا ... أواصِرَنا والرِّحمُ بالغيب تُذكرُ
وقال آخر، وهو ابن حَبْناء التميمي:
إن ابن حارثَ إن أشتَقْ لرؤيته ... أو أمتدِحه فإن الناس قد علموا
وأما قول الأسود بن يعفر:
أودى ابنُ جُلهُمَ عبّادٌ بصرْمته ... إن ابن جُلهُم أمسى حيّة الوادي
فإنما أراد أمه جُلهم. والعرب يسمون المرأة جُلهم والرجل جُلهُمة.
وأما قوله، وهو رجل من بني يشكر:
لها أشارير من لحم تُتَمّرُه ... من الثّعالي ووزخزٌ من أرانيَها
فزعم أن الشاعر لما اضطرّ الى الياء أبدلها مكان الباء، كما يبدلها مكان الهمزة. وقال أيضاً:
ومنهلٍ ليس له حَوازق ... ولِضفادي جَمّه نقانقُ
وإنما أراد ضفادع، فلما اضطرّ الى أن يقف آخر الاسم كره أن يقف حرفاً لا يدخله الوقف في هذا الموضع، فأبدل مكانه حرفاً يوقَف في الجر والرفع. وليس هذا لأنه حذف شيئاً فجعل الياء عوضاً منه؛ لو كان ذلك لعوضت حارثاً الياء حيث حذفت الثاء وجعلت البقية بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام على ثلاثة أحرف، وذلك حين قلت يا حارُ. ولو قلت هذا لقلت يا مَروي إذا أردت أن تجعل ما بقي من مروان بمنزلة ما بقي من حارث حين قلت: يا حارُ.
؟

هذا باب النفي بلا
ولا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين، ونصبها لما بعدها كنصب إن لما بعدها.
وترك التنوين لما تعمل فيه لازم، لأنها جُعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد نحو خمسة عشر؛ وذلك لأنها لا تشبه سائر ما ينصب مما ليس باسم، وهو الفعل وما أجري مجراه، لأنها لا تعمل إلا في نكرة، ولا وما تعمل فيه في موضع ابتداء، فلما خولف بها عن حال أخواتها خولف بلفظها كما خولف بخمسة عشر. فلا لا تعمل إلا في نكرة كما أن ربّ لا تعمل إلا في نكرة، وكما أن كم لا تعمل في الخبر والاستفهام إلا في النكرة، لأنك لا تذكر بعد لا إذا كانت عاملة شيئاً بعينه كما لا تذكر ذلك بعد ربّ، وذلك لأن ربّ إنما هي للعدة بمنزلة كم، فخولف بلفظها حين خالفت أخواتها كما خولف بأيُّهم حين خالفت الذي، وكما قالوا يا الله حين خالفت ما فيه الألف واللام، وسترى أيضاً نحو ذلك إن شاء الله عزّ وجلّ.
فجعلت وما بعدها كخمسة عشر في اللفظ وهي عاملة فيما بعدها، كما قالوا يا ابن أم، فهي مثلها في اللفظ وفي أن الأول عامل في الآخر. وخولف بخمسة عشر لأنها إنما هي خمسة وعشرة.
فلا لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب، فيما زعم الخليل رحمه الله في قولك: هل من عبد أو جارية؟ فصار الجواب نكرة كما أنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة.
واعلم أن لا وما عملت فيه في موضع ابتداء، كما أنك إذا قلت: هل من رجل فالكلام بمنزلة اسم مرفوع مبتدأ. وكذلك: ما من رجل، وما من شيء، والذي يُبنى عليه في زمان أو في مكان، ولكنك تضمره، وإن شئت أظهرته. وكذلك لا رجل ولا شيء، إنما تريد لا رجل في مكان، ولا شيء في زمان.
والدليل على أن لا رجلَ في موضع اسم مبتدأ، وما من رجل في موضع اسم مبتدأ في لغة بني تميم قول العرب من أهل الحجاز: لا رجلَ أفضل منك.
وأخبرنا يونس أن من العرب من يقول: ما من رجل أفضلُ منك، وهل من رجل خيرٌ منك، كأنه قال: ما رجلٌ أفضلُ منك، وهل رجلٌ خيرٌ منك.

واعلم أنك لا تفصل بين لا وبين للنفي، كما لا تفصل بين من وبين ما تعمل فيه، وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول: لا فيها رجلَ، كما أنه لا يجوز لك أن تقول في الذي هو جوابه هل من فيها رجل. ومع ذلك أنهم جعلوا لا وما بعدها بمنزلة خمسة عشر، فقُبح أن يفعلوا بينهما عندهم كما لا يجوز أن يفصلوا بين خمسة وعشر بشيء من الكلام؛ لأنها مشبهة بها.
؟

باب المنفي المضاف بلام الإضافة
اعلم أن التنوين يقع من المنفي في هذا الموضع إذا قلت: لا غلامَ لك كما يقع من المضاف الى اسم، وذلك إذا قلت: لا مثلَ زيد. والدليل على ذلك قول العرب: لا أبا لك، ولا غلامَيْ لك، ولا مُسلمَيْ لك.
وزعم الخليل رحمه الله أن النون إنما ذهبت للإضافة، ولذلك ألحقت الألف التي لا تكون إلا في الإضافة.
وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول: لا أباك، في معنى لا أبالك، فعلموا أنهم لو لم يجيئوا باللام لكان التنوين ساقطاً كسقوطه في لا مثل زيد فلما جاءوا بلام الإضافة تركوا الاسم على حاله قبل أن تجيء اللام إذ كان المعنى واحداً، وصارت اللام بمنزلة الاسم الذي ثُنّي به في النداء، ولم يغيروا الأول عن حاله قبل أن تجيء به، وذلك قولك: يا تَيْم تَيْم عَديّ، وبمنزلة الهاء إذا لحقت طلحةَ في النداء، لم يغيّروا آخر طلحةَ عما كان عليه قبل أن تلحق، وذلك قولهم: كليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصبِ ومثل هذا الكلام قول الشاعر إذا اضطُر، للنابغة: يا بؤسَ للجهل ضرّارا لأقوامِ حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت يا بؤسَ الجهل.
وإنما فُعل هذا في المنفي تخفيفاً، كأنهم لم يذكروا اللام كما أنهم إذ قالوا يا طلحةَ أقبلْ فكأنهم لم يذكروا الهاء، وصارت اللام من الاسم بمنزلة الهاء من طلحة لا تغيّر الاسم عن حاله قبل أن تلحق، كما لا تغيّر الهاء الاسمَ عن حاله قبل أن تلحق، فالنفيُ في موضع تخفيف كما أن النداء في موضع تخفيف، فمن ثم جاء فيه مثل ما جاء في النداء.
وإنما ذهبت النون في لا مُسلمَيْ لك على هذا المثال، جعلوه بمنزلة ما لو حُذفت بعده اللام كان مضافاً الى اسم وكان في معناه إذا ثبتت بعده اللام، وذلك قولك: لا أباك؛ فكأنهم لو لم يجيئوا باللام قالوا لا مُسلمَيْك فعلى هذا الوجه حذفوا النون في لا مُسلمَي لك، وذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلم بلا مسلمَيْكَ. قال مسكين الدارميّ:
وقد مات شماخٌ ومات مزَرِّدٌ ... وأيُّ كريمٍ لا أباكَ يمتَّعُ
ويُروى: مخلّدُ.
وتقول: لا يَدَينِ بها لك، ولا يدينِ اليوم لك، إثبات النون أحسن، وهو الوجه. وذلك أنك إذا قلت: لا يَدَيْ لك ولا أبالك، فالاسمُ بمنزلة اسم ليس بينه وبين المضاف إليه شيء؛ نحو لا مِثل زيد؛ فكما قبح أن تقول لا مثل بها زيد فتفصل، قبح أن تقول لا يَدَي بها لك، ولكن تقول: لا يَدَين بها لك، ولا أبَ يوم الجمعة لك، كأنك قلت: لا يدين بها ولا أبَ يوم الجمعة، ثم جعلت لك خبراً، فراراً من القبح.
وكذلك إن لم تجعل لك خبراً ولم تفصل بينهما، وجئت بلك بعد أن تضمر مكاناً وزماناً كإضمارك إذا قلت: لا رجلَ. ولا بأس، وإن أظهرت فحسن. ثم تقول لك لتبيّن المنفيّ عنه، وربما تركتَها استغناءً بعلم المخاطب، وقد تذكرها توكيداً وإن عُلم من تعني. فكما قبح أن تفصل بين المضاف والاسم المضاف إليه قُبح أن تفصل بين لك وبين المنفي الذي قبله؛ لأن المنفي الذي قبله إذا جعلته كأنه اسمٌ لم تفصل بينه وبين المضاف إليه بشيء، قبح فيه ما قُبح في الاسم المضاف الى اسم لم تجعل بينه وبينه شيئاً؛ لأن اللام كأنها ههنا لم تُذكر.
ولو قلت هذا لقلت لا أخا هذينِ اليومين لك. وهذا يجوز في الشعر؛ لأن الشاعر إذا اضطرّ فصل بين المضاف والمضاف إليه. قال الشاعر، وهو ذو الرمة:
كأن أصواتَ من إيغالهنّ بنا ... أواخرِ المَيس أصواتُ الفراريجِ
وإنما اختير الوجهُ الذي تثبَت فيه النون في هذا الباب كما اختير في كم إذا قلت كم بها رجلاً مصاباً، وأنت تُخبر، لغة من ينصب بها، لئلا يفصَل بين الجار والمجرور: ومن قال: كم بها رجل مصاب فلم يُبالِ القبح قال: لا يَدَيْ بها لك، ولا أخا يوم الجمعة لك، ولا أخا فاعلم لك.

والجرّ في كم بها رجلٍ مصابٍ، وترك النون في لا يَديْ بها لك، قول يونس، واحتج بأن الكلام لا يستغني إذا قلت كم بها رجلٍ. والذي يستغني به الكلام وما لا يستغني به قبحهما واحدٌ إذا فصلت بكل واحد منهما بين الجارّ والمجرور. ألا ترى أن قبح كم بها رجلٍ مصاب، كقبح رُبّ فيها رجل، فلو حسن بالذي لا يستغني به الكلام لحسُن بالذي يستغني به، كما أن كل مكان حسن لك أن تفصل فيه بين العامل والمعمول فيه بما يحسن عليه السكوت حسن لك أن تفصل فيه بينهما بما يقبح عليه السكوت. وذلك قولك: إن بها زيداً مصابٌ، وإن فيها زيداً قائمٌ، وكان بها زيد مصاباً، وكان فيها زيدٌ مصاباً. وإنما يفرَق بين الذي يحسُن عليه السكوت وبين الذي لا يحسن عليه في موضع غير هذا.
وإثبات النون قول الخليل رحمه الله.
وتقول: لا غلامَينِ ولا جريتَيْ لك، إذا جعلت الآخِر مضافاً ولم تجعله خبراً له، وصار الأول مضمَراً له خبرٌ، كأنك قلت: لا غلامين في مِلكك ولا جاريتيْ لك، كأنك قلت: ولا جاريتَيك في التمثيل، ولكنهم لا يتكلمون.
فإنما اختُصّت لا في الأب بهذا كما اختُصّ لدُن مع غُدوةَ بما ذكرت لك. ومن كلامهم أن يجري الشيء على ما لا يستعمل في كلامهم، نحو قولهم: ملامحُ ومذاكيرُ، لا يستعملون لا مَلمَحةً ولا مِذكاراً؛ وكما جاء عذيرك على مثال ما يكون نكرة ومعرفة نحو ضَرباً وضرْبَك، ولا يُتكلم به إلا معرفةً مضافة. وسترى نحو هذا إن شاء الله. ومنه ما قد مضى.
وإن شئت قلت: لا غلامين ولا جريتين لك، إذا جعلت لك خبراً لهما، وهو قول أبي عمرو. وكذلك إذا قلت: لا غلامين لك وجعلت لك خبراً، لأنه لا يكون إضافة وهو خبرٌ لأن المضاف يحتاج الى الخبر مضمَراً أو مظهَراً. ألا ترى أنه لو جاز تيمُ تَيمُ عديّ في غير النداء لم يستقم لك إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت لا أبا لك فها هنا إضمارُ مكان، ولكنه تُرك استخفافاً واستغناء. قال الشاعر، وهو نهارُ بن تَوسِعة اليشكُريّ فيما جعله خبراً:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ ... إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
وإذا ترك التنوين فليس الاسم مع لا بمنزلة خمسة عشر، لأنه لو أراد ذلك لجعل لك خبراً وأظهر النون، أو أضمر خبراً ثم جاء بعدها بلك توكيداً، ولكنه أجراه مجرى ما ذكرت لك في النداء، لأنه موضع حذف وتخفيف، كما أن النداء كذلك.
وتقول أيضاً إن شئت: لا غلامين ولا جاريتين لك، ولا غلامين وجاريتين، كأنك قلت: لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا لك، فجاء بلك بعد ما بنى على الكلام الأول في مكان كذا وكذا، كما قال: لا يَدَين بها لك، حين صيّره كأنه جاء بلك فيه بعد ما قال لا يَدين بها في الدنيا.
واعلم أن المنفي الواحد إذا لم يك لك فإنما يُذهب منه التنوين كما أُذهب من آخر خمسة عشر، كما أُذهب من المضاف. والدليل على ذلك أن العرب تقول: لا غلامين عندك، ولا غلامين فيها، ولا أبَ فيها؛ وأثبتوا النون لأن النون لا تُحذف من الاسم الذي يُجعل وما قبله أو وما بعده بمنزلة اسم واحد. ألا تراهم قالوا: الذين في الدار، فجعلوا الذين وما بعده من الكلام بمنزلة اسمين جُعلا اسماً واحداً، ولم يحذفوا النون لأنها لا تجيء على حدّ التنوين. ألا تراها تدخل في الألف واللام وما لا ينصرف.
وإنما صارت الأسماء حين وَلِيَت لك بمنزلة المضاف لأنهم كأنهم ألحقوا اللام بعد اسمٍ كان مضافاً، كما أنك حين قلت: يا تيمَ تيمَ عَديّ فإنما ألحقتَ الاسم اسماً كان مضافاً، ولم يغيّر الثاني المعنى كما أن اللام لم تغيّر معنى لا أباكَ. وإذا قلت: لا أبَ فيها، فليست في من الحروف التي إذا لحقتْ بعد مضاف لم تغيّر المعنى الذي كان قبل أن تلحق. ألا ترى أن اللام لا تغيّر معنى المضاف الى الاسم إذا صارت بينهما، كما أن الاسم الذي يثنّى به لا يغيّر المعنى إذا صار بين الأول والمضاف إليه، فمن ثمّ صارت اللام بمنزلة الاسم يثنّى به.
وتقول: لا غلامَ وجارية فيها، لأن لا إنما تُجعل وما تعمل فيه اسماً واحداً إذا كانت الى جنب الاسم، فكما لا يجوز أن تفصل خمسةً من عشر، كذلك لم يستقم هذا لأنه مشبّه به، فإذا فارقه جرى على الأصل. قال الشاعر:
لا أبَ وابناً مثلُ مَروانَ وابنِه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا

وتقول: لا رجلَ ولا امرأةً يا فتى إذا كنت لا بمنزلتها في ليس حين تقول: ليس لك لا رجلٌ ولا امرأة فيها. وقال رجل من بني سُليم، وهو أنس بن العبّاس:
لا نسبَ اليومَ ولا خُلةً ... اتّسع الخَرقُ على الراقع
وتقول: لا رجلَ ولا امرأةَ فيها، فتُعيد لا الأولى كما تقول: ليس عبد الله وليس أخوه فيها، فتكون حالُ الآخرة في تثنيتها كحال الأولى. فإن قلت: لا غلامين ولا جاريتين لك، إذا كانت الثانية هي الأولى، أثبتّ النون، لأن لكَ خبرٌ عنهما، والنون لا تذهب إذا جعلتهما كاسم واحد، لأن النون أقوى من التنوين، فلم يُجروا عليها ما أجرَوا على التنوين في هذا الباب؛ لأنه مفارِق للنون، ولأنها تثبت فيما لا يَثبت فيه.
واعلم أن كل شيء حسن لك أن تُعمل فيه تُبّ حسُن لك أن تعمِل فيه لا.
وسألت الخليلَ رحمه الله عن قول العرب: ولاسيما زيدٍ، فزعم أنه مثل قولك: ولا مثلَ زيدٍ، وما لَغوٌ. وقال: ولاسيما زيدٌ كقولهم دعْ ما زيدٌ، وكقوله: " مثلاً ما بَعوضةٌ " ؛ فسيٌّ في هذا الموضع بمنزلة مثل، فمن ثمّ عملتْ فيه لا كما تعمل رُبّ في مثل، وذلك قولك: ربّ مثلِ زيدٍ. وقال أبو محجن الثقفي:
يا رُبّ مثلِكِ في النساء غريرةٍ ... بيضاءَ قد متّعْتُها بطَلاقِ
هذا باب

ما يثبت فيه التنوين من الأسماء المنفية
وذلك من قبل أن التنوين لم يصر منتهى الاسم، فصار كأنه حرف قبل آخر الاسم، وإنما يُحذف في النفي والنداء منتهى الاسم. وهو قولك: لا خيراً منه لك، ولا حسَناً وجهُه لك، ولا ضارباً زيداً لك؛ لأن ما بعد حسنٍ وضاربٍ وخيرٍ صار من تمام الاسم فقبح عندهم أن يحذفوا قبل أن ينتهوا الى منتهى الاسم؛ لأن الحذف في النفي في أواخر الأسماء. ومثل ذلك قولك: لا عشرين درهماً لك.
وقال الخليل رحمه الله: كذلك لا آمِراً بالمعروف لك، إذا جعلت بالمعروف من تمام الاسم وجعلتَه متصلاً به، كأنك قلت: لا آمِراً معروفاً لك. وإن قلت لا آمِرَ بمعروف، فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيتَ على الأول كلاماً، كقولك: لا آمِرَ في الدار يوم الجمعة. وإن شئت جعلته كأنك قلت: لا آمِر يوم الجمعة فيها؛ فيصير المبني على الأول مؤخَّراً، ويكون المُلغى مقدّماً. وكذلك لا راغباً الى الله لك، ولا مُغيراً على الأعداء لك، إذا جعلت الآخِر متصلاً بالأول كاتصال منك بأفعل. وإن جعلته منفصلاً من الأول كانفصال لك من سَقياً لك لم تنوّن، لأن يصير حينئذ بمنزلة يوم الجمعة. وإن شئت قلت: لا آمراً يومَ الجمعة إذا نفيتَ الآمرينَ يوم الجمعة لا من سواهم من الآمرين، فإذا قلت: لا آمرَ يومَ الجمعة فأنت تنفي الآمرين كلهم ثم أعلمت في أي حين. وإذا قلت لا ضارباً يوم الجمعة فإنما تنفي ضاربي يوم الجمعة في يومه أو في يوم غيره، وتجعل يوم الجمعة فيه منتهى الاسم. وإنما نوّنت لأنه صار منتهى الاسم اليوم، كما صار ما ذكرتُ منتهى الاسم، وصار التنوين كأنه زيادة في الاسم قبل آخِره نحو واو مضروب وألف مُضارب، فنونت كما نونتَ في النداء كل شيء صار منتهى الاسم فيه ما بعده وليس منه.
فنوِّنْ في هذا ما نوّنتَه في النداء مما ذكرت لك إلا النكرة فإن النكرة، في هذا الباب بمنزلة المعرفة في النداء. ولا تعمل لا إلا في النكرة، تُجعل معها بمنزلة خمسة عشر، فالنكرة ههنا بمنزلة المعرفة هناك، إلا ما ذكرت لك.
؟
هذا باب وصف المنفي
اعلم أنك إذا وصفت المنفي فإن شئت نونت صفةَ المنفي وهو أكثر في الكلام، وإن شئت لم تنوّن. وذلك قولك: لا غلام ظريفاً لك، ولا غلامَ ظريفَ لك.
فأما الذين نوّنوا فإنهم جعلوا الاسم ولا بمنزلة اسم واحد، وجعلوا صفة المنصوب في هذا الموضع بمنزلته في غير النفي.
وأما الذين قالوا: لا غلامَ ظريفَ لك، فإنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحد.
فإذا قلت: لا غلامَ ظريفاً لك، فأنت في الوصف الأول بالخيار، ولا يكون الثاني إلا منوّناً؛ من قبل أنه لا تكون ثلاثة أشياء منفصلة بمنزلة اسم واحد.
ومثل ذلك: لا غلامَ فيها ظريفاً، إذا جعلتَ فيها صفةً أو غير صفة.
وإن كررتَ الاسمَ فصار وصفاً فأنت فيه بالخيار، إن شئت نوّنتَ وإن شئت لم تنوّن. وذلك قولك: لا ماءَ ماءَ بارداً، ولا ماءَ ماءَ بارداً. ولا يكون بارداً إلا منوّناً، لأنه وصفٌ ثانٍ.

؟

باب لا يكون الوصف فيه إلا منونا
ً
وذلك قولك: لا رجلَ اليوم ظريفاً ولا رجلَ فيها عاقلاً، إذا جعلت فيها خبراً أو لغواً، ولا رجلَ فيك راغباً، من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسمٍ واحد وقد فصلتَ بينهما، كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين عشر وخمسة في خمسة عشر.
ومما لا يكون الوصفُ فيه إلا منوناً قوله: لا ماء سماءٍ لك بارداً، ولا مثلَه عاقلاً، من قبل أن المضاف لا يُجعل مع غيره بمنزلة خمسة عشر، وإنما يذبه التنوين منه كما يذهب منه في غير هذا الموضع، فمن ثمّ صار وصفُه بمنزلته في غير هذا الموضع. ألا ترى أن هذا لو لم يكن مضافاً لم يكن إلا منوناً كما يكون في غير باب النفي؛ وذلك قولك: لا ضارباً زيداً لك، ولا حسناً وجهَ الأخ فيها. فإذا كففتَ التنوين وأضفت كا بمنزلته في غير هذا الباب كما كان كذلك غيرَ مضاف، فلما صار التنوين إنما يُكَفّ للإضافة جرى على الأصل. فإذا قلت: لا ماءَ ولا لبنَ، ثم وصفت اللبن، فأنت بالخيار في التنوين وتركه. فإذا جعلت الصفة للماء لم يكن الوصفُ إلا منوّناً؛ لأنه لا يُفصَل بين الشيئين اللذين يجعلان بمنزلة اسم واحد مضمَراً أو مظهَراً، لأنهما قد صارا اسماً واحداً بمنزلة زيد، ويحتاجان الى الخبر مضمَراً أو مظهَراً. ألا ترى أنه لو جاز تَيمُ تيمُ عديّ لم يستقم إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت لا أبا لك فها هنا إضمار مكان.
؟باب لا تسقط فيه النون وإن وَلِيَتْ لك
وذلك قولك: لا غلامين ظريفين ولا مسلمين صالحين لك، من قبل أن الظريفين والصالحين نعتٌ للمنفي ومن اسمه، وليس واحدٌ من الاسمين ولِيَ لا ثم ولِيتَه لك، ولكنه وصف وموصوف، فليس للموصوف سبيل الى الإضافة. ولم يجئ ذلك في الوصف لأنه ليس بالمنفي، وإنما هو صفة، وإنما جاز التخفيف في النفي فلم يجز ذلك إلا في المنفي، كما أنه يجوز في المنادى أشياء لا تجوز في وصفه، من الحذف والاستخفاف. وقد بُيّن ذلك.
؟
باب ما جرى على موضع المنفي
لا على الحرف الذي عمل في المنفي فمن ذلك قول ذي الرّمة:
بها العِينُ والآرامُ لا عِدَّ عندَها ... ولا كَرَعٌ إلا المَغاراتُ والرَّبْلُ
وقال رجل من بني مَذحِج:
هذا لعَمرُكم الصَّغارُ بعينه ... لا أمَّ لي إن كان ذاك ولا أبُ
فزعم الخليل رحمه الله أن هذا يجري على الموضع لا على الحرف الذي عمل في الاسم، كما أن الشاعر حين قال: فلسنا بالجبال ولا الحديدا أجراه على الموضع.
ومن ذلك أيضاً قول العرب: لا مالَ له قليلٌ ولا كثير، رفعوه على الموضع.
ومثل ذلك أيضاً قول العرب: لا مثلَه أحدٌ، ولا كزيد أحدٌ. وإن شئت حملتَ الكلام على لا فنصبت.
وتقول: لا مثلَه رجلٌ إذا حملته على الموضع، كما قال بعضُ العرب: لا حولَ ولا قوة إلا بالله. وإن شئت حملته على لا فنوّنته ونصبته. وإن شئت قلت: لا مثلَه رجلاً، على قوله: لي مثلُه غلاماً. وقال ذو الرمة:
هي الدار إذ مَيٌّ لاهْلِكِ جيرةٌ ... لياليَ لا أمثالَهنّ لياليا
وقال الخليل رحمه الله: يدلك على أن لا رجلَ في موضع اسم مبتدأ مرفوع، قولك: لا رجلَ أفضلُ منك، كأنك قلت: زيدٌ أفضل منك. ومثل ذلك: بحَسبك قول السّوْء، كأنك قلت: حسبك قولُ السّوْء.
وقال الخليل رحمه الله: كأنك قلت: رجلٌ أفضل منك، حين مثّله.
وأما قول جرير:
يا صاحبَيّ دنا الرّواحُ فسِيرا ... لا كالعشيةِ زائراً ومَزورا
فلا يكون إلا نصباً؛ من قبل أن العشية ليست بالزائر، وإنما أراد: لا أرى كالعشية زائراً، كما تقول: ما رأيت كاليوم رجلاً، فكاليوم كقولك في اليوم، لأن الكاف ليست باسم. وفيه معنى التعجب، كما قال: تالله رجلاً، وسبحان الله رجلاً، وإنما أراد: تالله ما رأيت رجلاً، ولكنه يترك الإظهار استغناءً، لأن المخاطَب يعلم أن هذا الموضع إنما يضمَر فيه هذا الفعل، لكثرة استعمالهم إياه.
وتقول: لا كالعشية عشيةٌ، ولا كزيد رجلٌ؛ لأن الآخِر هو الأول، ولأن زيداً رجل، وصار لا كزيد كأنك قلت: لا أحدَ كزيد، ثم قلت رجلٌ، كما تقول: لا مال له قليلٌ ولا كثير، على الموضع. قال الشاعر، امرؤ القيس:
ويْلِمِّها في هواء الجوّ طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبُ

كأنه قال: ولا شيء كهذا، ورفع على ما ذكرتُ لك. وإن شئت نصبته على نصبه: فهل في مَعدّ فوق ذلك مِرفَدا كأنه قال: لا أحدَ كزيد رجلاً، وحمل الرجل على زيد، كما حمل المرفد على ذلك. وإن شئت نصبتَه على ما نصبتَ عليه لا مال له قليلاً ولا كثيراً.
ونظير لا كزيد في حذفهم الاسم قولُهم: لا عليك، وإنما يريد: لا بأس عليك، ولا شيء عليك، ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه.
؟باب ما لا تُغيّر فيه لا الأسماء عن حالها
التي كانت عليها قبل أن تدخل لاولا يجوز ذلك إلا أن تُعيد لا الثانية؛ من قبل أنه جواب لقوله: أغلامٌ عندك أم جارية، إذا ادّعيتَ أن أحدهما عنده. ولا يحسن إلا أن تُعيد لا، كما أنه لا يحسن إذا أردت المعنى الذي تكون فيه أم إلا أن تذكرها مع اسم بعدها.
وإذا قال لا غلامَ، فإنما هي جوابٌ لقوله: هل من غلام، وعملتْ لا فيما بعدها وإن كان في موضع ابتداء، كما عملتْ مِن في الغلام وإن كان في موضع ابتداء.
فمما لا يتغير عن حاله قبل أن تدخل عليه لا قولُ الله عز وجلّ ذكره: " لا خوفَ عليهم ولا هُم يحزنون " . وقال الشاعر، الراعي:
وما صرَمْتُكِ حتى قلتِ مُعلنةً ... لا ناقةٌ ليَ في هذا ولا جملُ
وقد جُعلت، وليس ذلك بالأكثر، بمنزلة ليس.
وإن جعلتها بمنزلة ليس كانت حالُها كحال لا، في أنها في موضع ابتداء وأنها لا تعمل في معرفة. فمن ذلك قول سعد بن مالك:
مَن صدّ عن نيرانها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا بَراحُ
واعلم أن المعارف لا تجري مجرى النكرة في هذا الباب، لأن لا لا تعمل في معرفة أبداً. فأما قول الشاعر: لا هيثَمَ الليلةَ للمَطيّ فإنه جعله نكرة كأنه قال: لا هيثمَ من الهيثمَين. ومثل ذلك: لا بضرةَ لكم. وقال ابن الزبير الأسدي:
أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيبٍ ... نكِدْنَ ولا أميّةَ بالبلادِ
وتقول: قضية ولا أبا حسن، تجعله نكرة. قلت: فكيف يكون هذا وإنما أراد عليّا رضي الله عنه فقال: لأنه لا يجوز لك أن تعمِل لا في معرفة، وإنما تعملها في النكرة فإذا جعلت أبا حسنٍ نكرة حسن لك أن تعمِل لا، وعلم المخاطَب أنه قد دخل في هؤلاء المنكورين عليٌّ، وأنه قد غُيِّب عنها.
فإن قلت: إنه لم يُردْ أن ينفي كل من اسمُه علي؟ فإنما أراد أن ينفي منكورين كلهم في قضيته مثلُ عليّ كأنه قال: لا أمثالَ عليّ لهذه القضية، ودلّ هذا الكلام على أنه ليس لها عليّ، وأنه قد غيّب عنها.
وإن جعلته نكرةً ورفعته كما رفعت لا بَراحُ، فجائز. ومثله قول الشاعر، مُزاحم العُقَيلي:
فرَطْنَ فلا ردّ لما بُتّ وانقضى ... ولكن بغوضٌ أن يقالَ عديمُ
وقد يجوز في الشعر رفع المعرفة، ولا تثنى لا. قال الشاعر:
بكتْ جزعاً واسترجعت ثم آذنتْ ... ركائبها أن لا إلينا رجوعُها
واعلم أنك إذا فصلت بين لا وبين الاسم بحشو لم يحسن إلا أن تعيد لا الثانية، لأنه جُعل جواب: أذا عندك أم ذا؟ ولم تُجعل لا في هذا الموضع بمنزلة ليس، وذلك لأنهم جعلوها، إذا رفعتْ، مثلها إذا نصبتْ؛ لا تفصل لأنها ليست بفعل.
فمما فُصل بينه وبين لا بحشوٍ قوله جل ثناؤه: " لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزَفون " . ولا يجوز لا فيها أحد إلا ضعيفاً، ولا يحسن لا فيك خيرٌ؛ فإن تكلّمت به لم يكن إلا رفعاً؛ لأن لا لا تعمل إذا فُصل بينها وبين الاسم، رافعةً ولا ناصبة، لما ذكرت لك.
وتقول: لا أحد أفضل منك، إذا جعلته خبراً، وكذلك: لا أحدَ خيرٌ منك: قال الشاعر:
وردّ جازرُهم حَرفاً مُصَرّمةً ... ولا كريمَ من الوِلدان مصبوحُ
لما صار خبراً جرى على الموضع؛ لأنه ليس بوصف ولا محمول على لا، فجرى مجرى: لا أحدَ فيها إلا زيد. وإن شئت قلت: لا أحدٌ أفضلَ منك، في قول من جعلها كليس ويُجريها مجراها ناصبة في المواضع، وفيما يجوز أن يُحمَل عليها. ولم تُجعل لا التي كليس مع ما بعدها كاسم واحد، لئلا يكون الرافع كالناصب. وليس أيضاً كل شيء يخالف بلفظه يجري مجرى ما كان في معناه.
؟

باب لا تجوز فيه المعرفة إلا
أن تُحمَل على الموضع لأنه لا يجوز للا أن تعمل في معرفة، كما لا يجوز ذلك لربّ

فمن ذلك قولك: لا غلام لك ولا العبّاسُ. فإن قلت: أحملُه على لا؟ فإنه ينبغي لك أن تقول: ربّ غلامٍ لك والعباس، وكذلك لا غلام لك وأخوه.
فأما من قال: كلَّ شاة وسخلتِها بدرهم فإنه ينبغي له أن يقول: لا رجلَ لك وأخاه، لأنه كأنه قال: لا رجلَ لك وأخاً له.
؟

باب ما إذا لحقته لا لم تغيره عن حاله
التي كان عليها قبل أن تلحق
وذلك لأنها لحقت ما قد عمل فيه غيرُها، كما أنها إذا لحقت الأفعال التي هي بدل منها لم تغيّرها عن حالها التي كانت عليها قبل أن تلحق. ولا يلزمك في هذا الباب تثنية لا، كما لا تثنّي لا في الأفعال التي هي بدل منها.
وذلك قولك: لا مرحَباً ولا أهلاً، ولا كرامةً، ولا مسرّةً، ولا شللاً، ولا سقياً ولا رَعياً، ولا هنيئاً ولا مريئاً، صارت لا مع هذه الأسماء بمنزلة اسم منصوب ليس معه لا، لأنها أجريت مجراها قبل أن تلحق لا.
ومثل ذلك: لا سلامٌ عليك، لم تغيّر الكلام عما كان عليه قبل أن تلحق.
وقال جرير:
ونُبّئتُ جوّاباً وسَكناً يسبّني ... وعمرو بن عفرا لا سلامٌ على عمرِو
فلم يلزمك في ذا تثنية لا، كما لم يلزمك ذلك في الفعل الذي فيه معناه، وذلك لا سلّم الله عليه. فدخلتْ في ذا الباب لتنفي ما كان دُعاء كما دخلت على الفعل الذي هو بدلٌ من لفظه.
ومثلُ لا سلامٌ على عمرو: لا بك السّوْء؛ لأن معناه لا ساءك الله.
ومما جرى مجرى الدعاء مما هو تطلُّقٌ عند طلب الحاجة وبشاشة، نحو كرامةً ومسرّةً ونُعمةَ عين. فدخلتْ على هذا كما دخلتْ على قوله: ولا أُكرمُك ولا أسُرّك، ولا أُنعمُك عيناً. ولو قبح دخولها هنا لقبح في الاسم، كما قبح في لا ضَرباً، لأنه لا يجوز: لا اضربْ، في الأمر.
وقد دخلت في موضع غير هذا فلم تغيّره عن حاله قبل أن تدخله، وذلك قولهم: لا سَواء، وإنما دخلت لا هنا لأنها عاقبت ما ارتفعتْ عليه سواء. ألا ترى أنك لا تقول هذان لا سواءٌ، فجاز هذا كما جاز: لا ها اللهِ ذا، حين عاقبتْ ولم يجز ذكر الواو.
وقالوا: لا نَوْلك أن تفعل؛ لأنهم جعلوه معاقِباً لقوله: لا ينبغي أن تفعل كذا وكذا، وصار بدلاً منه، فدخل فيه ما دخل في ينبغي، كما دخل في لا سلامٌ ما دخل في سلّم.
واعلم أن لا قد تكون في بعض المواضع بمنزلة اسم واحد هي والمضاف إليه ليس معه شيء، وذلك نحو قولك: أخذتَه بلا ذَنب، وأخذته بلا شيء، وغضبتَ من لا شيء، وذهبتَ بلا عتاد؛ والمعنى معنى ذهبت بغير عتاد، وأخذتَه بغير ذنب، إذا لم ترد أن تجعل غيراً شيئاً أخذه به يعتدّ به عليه.
ومثل ذاك قولك للرجل: أجئتَنا بغير شيء، أي رائقاً.
وتقول إذا قلّلتَ الشيءَ أو صغّرتَ أمره: ما كان إلا كلا شيء، وإنك ولا شيئاً سواءٌ. ومن هذا النحو قول الشاعر، وهو أبو الطّفيل:
تركتَني حين لا مالٍ أعيشُ به ... وحين جُنّ زمانُ الناس أو كَلِبا
والرفع عربي على قوله: حين لا مُستَصْرَخُ و: لا بَراحُ والنصبُ أجودُ وأكثر من الرفع؛ لأنك إذا قلت لا غلامَ فهي أكثر من الرافعة التي بمنزلة ليس. قال الشاعر، وهو العجّاج: حنّت قَلوصي حين لا حينَ مَحَنّْ وأما قول جرير:
ما بالُ جهلِك بعد الحِلم والدين ... وقد علاكَ مَشيبٌ حين لا حينِ
فإنما هو حينَ حينٍ، ولا بمنزلة ما إذا أُلغيتْ.
واعلم أنه قبيح أن تقول: مررتُ برجل لا فارسٍ، حتى تقول: لا فارسٍ ولا شجاع. ومثلُ ذلك: هذا زيدٌ لا فارساً، لا يحسن حتى تقول: لا فارساً ولا شجاعاً. وذلك أنه جوابٌ لمن قال، أو لمن تجعله ممن قال: أبرجلٍ شجاع مررتَ أم بفارسٍ؟ وكقوله: أفارسٌ زيدٌ أم شجاع؟ وقد يجوز على ضعفه، في الشعر. قال رجلٌ من بني سَلول:
وأنتَ امرؤٌ منا خُلقتَ لغيرنا ... حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ
فكذلك هذه الصفات وما جعلته خبراً للأسماء، نحو: زيدٌ لا فارسٌ ولا شجاع.
واعلم أن لا في الاستفهام تعمل فيما بعدها كما تعمل فيه إذا كانت في الخبر، فمن ذلك قوله، البيت لحسّان بن ثابت:
ألا طِعانَ ولا فُرسانَ عاديةً ... إلا تَجشّؤُكم عند التنانيرِ
وقال في مثل: أفلا قُماصَ بالعَير.
ومن قال: لا غلام ولا جارية، قال: ألا غلامٌ وألا جارية.

واعلم أن لا إذا كانت مع ألف الاستفهام ودخل فيها معنى التمني عملتْ فيما بعدها فنصبته، ولا يحسن لها أن تعمل في هذا الموضع إلا فيما تعمل فيه في الخبر، وتسقط النون والتنوين في التمني كما سقطا في الخبر. فمن ذلك: ألا غلامَ لي وألا ماءَ بارداً. ومن قال: لا ماءَ باردَ قال: ألا ماء باردَ.
ومن ذلك: ألا أبا لي، وألا غلامَيْ لي.
وتقول: ألا غلامين أو جاريتين لك كما تقول: لا غلامين وجاريتين لك.
وتقول: ألا ماءَ ولبناً كما قلت: لا غلامَ وجاريةً لك، تُجريها مجرى لا ناصبة في جميع ما ذكرتُ لك.
وسألت الخليل رحمه الله عن قوله:
ألا رجلاً جزاه الله خيراً ... يدلّ على محصلةٍ تبيتُ
فزعم أنه ليس على التمني، ولكنه بمنزلة قول الرجل: فهلاّ خيراً من ذلك، كأنه قال: ألا تُروني رجلاً جزاه الله خيراً.
وأما يونس فزعم أنه نوّن مضطراً، وزعم أن قوله: لا نسبَ اليومَ ولا خُلّةً على الاضطرار. وأما غيره فوجّهه على ما ذكرتُ لك. والذي قال مذهب.
ولا يكون الرفع في هذا الموضع، لأنه ليس بجواب لقوله: أذا عندك أم ذا؟ وليس في ذا الموضع معنى ليس.
وتقول: ألا ماء وعسلاً بارداً حلواً، لا يكون في الصفة إلا التنوين، لأنك فصلت بين الاسم والصفة حين جعلتَ البرد للماء، والحلاوةَ للعسل.
ومن قال: لا غلامَ أفضلُ منك، لم يقل في ألا غلامَ أفضلَ منك إلا بالنصيب؛ لأنه دخل فيه معنى التمني، وصار مستغنياً عن الخبر كاستغناء اللهمّ غلاماً، ومعناه اللهم هب لي غلاماً.
؟

هذا باب الاستثناء
فحرفُ الاستثناء إلا. وما جاء من الأسماء فيه معنى إلا فغيرٌ، وسوًى. وما جاء من الأفعال فيه معنى إلا فلا يكون، وليس، وعدا، وخلا. وما فيه ذلك المعنى من حروف الإضافة وليس باسم فحاشى وخلا في بعض اللغات.
وسأبين لك أحوال هذه الحروف إن شاء الله عز وجل الأولَ فالأول.
؟
باب ما يكون استثناء بإلا
اعلم أن إلا يكون الاسم بعدها على وجهين: فأحدُ الوجهين أن لا تغير الاسم عن الحال التي كان عليها قبل أن تلحق، كما أن لا حين قلت: لا مرحباً ولا سلامٌ، لم تغيّر الاسم عن حاله قبل أن تلحق، فكذلك إلا، ولكنها تجيء لمعنى كما تجيء لا لمعنى.
والوجه الآخر أن يكون الاسم بعدها خارجاً مما دخل فيه ما قبله، عاملاً فيه ما قبله من الكلام، كما تعمل عشرون فيما بعدها إذا قلت عشرون درهماً.
فأما الوجه الذي يكون فيه الاسم بمنزلته قبل أن تلحق إلا فهو أن تُدخل الاسم في شيء تنفي عنه ما سواه، وذلك قوله: ما أتاني إلا زيدٌ، وما لقيتُ إلا زيداً، وما مررتُ إلا بزيدٍ، تُجري الاسم مجراه إذا قلت ما أتاني زيدٌ، وما لقيتُ زيداً، وما مررتُ بزيد، ولكنك أدخلت إلا لتوجب الأفعال لهذه الأسماء ولتنفي ما سواها، فصارت هذه الأسماء مُستثناة. فليس في هذه الأسماء في هذا الموضع وجه سوى أن تكون على حالها قبل أن تلحق إلا؛ لأنها بعد إلا محمولة على ما يجرّ ويرفع وينصب، كما كانت محمولة عليه قبل أن تلحق إلا، ولم تشغل عنها قبل أن تلحق إلا الفعلَ بغيرها.
؟باب ما يكون المستثنى فيه بدلاً مما
نفى عنه ما أُدخل فيه وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ، وما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٍ، وما رأيتُ أحداً إلا زيداً، جعلت المستثنى بدلاً من الأول، فكأنك قلت: ما مررتُ إلا بزيدٍ، وما أتاني إلا زيدٌ، وما لقيتُ إلا زيداً. كما أنك إذا قلت: مررت برجلٍ زيدٍ، فكأنك قلت: مررتُ بزيدٍ. فهذا وجه الكلام أن تجعل المستثنى بدلاً من الذي قبله، لأنك تُدخله فيما أخرجتَ منه الأول.
ومن ذلك قولك: ما أتاني القومُ إلا عمرو، وما فيها القومُ إلا زيدُ، وليس فيها القوم إلا أخوك، وما مررتُ بالقوم إلا أخيك. فالقوم ههنا بمنزلة أحد.
ومن قال: ما أتاني القومُ إلا أباك، لأنه بمنزلة أتاني القومُ إلا أباك، فإنه ينبغي له أن يقول: " ما فعلوه إلا قليلاً منهم " .

وحدّثني يونس أن أبا عمرو كان يقول: الوجهُ ما أتاني القومُ إلا عبد الله. ولو كان هذا بمنزلة أتاني القوم لما جاز أن تقول: ما أتاني أحد، كما أنه لا يجوز أتاني أحدٌ، ولكن المستثنى في هذا الموضع مبدَلٌ من الاسم الأول، ولو كان من قبل الجماعة لما قلت: " ولم يكنْ لهم شُهداءُ إلا أنفسُهُم " ولكان ينبغي له أن يقول ما أتاني أحدٌ إلا قد قال ذاك إلا زيد، لأنه ذكر واحداً.
ومن ذلك أيضاً: ما فيهم أحدٌ اتخذتُ عنده يداً إلا زيدٌ، وما فيهم خيرٌ إلا زيدٌ، إذا كان زيد هو الخير.
وتقول: ما مررتُ بأحد يقول ذاك إلا عبدِ الله، وما رأيت أحداً يقول ذاك إلا عبد الله، وما رأيت أحداً يقول ذاك إلا زيداً. هذا وجه الكلام. وإن حملتَه على الإضمار الذي في الفعل فقلت: ما رأيت أحداً يقول ذاك إلا زيد ورفعت فجائز حسن. وكذلك ما علمت أحداً يقول ذاك إلا زيداً. وإن شئت رفعت فعربيّ. قال الشاعر، وهو عديّ بن زيد:
في ليلةٍ لا نرى بها أحداً ... يحكي علينا إلا كواكبُها
وكذلك ما أظن أحداً يقول ذاك إلا زيداً. وإن رفعتَ فجائز حسن. وكذلك ما علمت أحداً يقول ذاك إلا زيداً، وإن شئت رفعت.
وإنما اختير النصبُ هنا لأنهم أرادوا أن يجعلوا المستثنى بمنزلة المبدَل منه، وأن لا يكون بدلاً إلا من منفيّ، فالمبدَل منه منصوب منفي ومضمَره مرفوع، فأرادوا أن يجعلوا المستثنى بدلاً منه لأنه هو المنفي، وهذا وصف أو خبر وقد تكلموا بالآخر، لأن معناه النفي إذا كان وصفاً لمنفي، كما قالوا: قد عرفت زيدٌ أبو مَن هو، لما ذكرتُ لك، لأن معناه معنى المستفهَم عنه.
وقد يجوز: ما أظن أحداً فيها إلا زيدٌ، ولا أحدَ منهم اتخذتُ عنده يداً إا زيدٍ، على قوله: إلا كواكبُها.
وتقول: ما ضربتُ أحداً يقول ذاك إلا زيداً، لا يكون في ذا إلا النصب، وذلك لأنك أردت في هذا الموضع أن تخبر بموقوع فعلِك، ولم ترد أن تخبر أنه ليس يقول ذاك إلا زيد، ولكنك أخبرت أنك ضربت ممن يقول ذاك زيداً. والمعنى في الأول أنك أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيدٌ، ولكنك قلت رأيتُ أو ظننت أو نحوهما لتجعل ذلك فيما رأيت وفيما ظننت. ولو جعلت رأيت رؤية العين كان بمنزلة ضربت. قال الخليل رحمه الله: ألا ترى أنك تقول: ما رأيته يقول ذاك إلا زيد، وما ظننته يقوله إلا عمرو. فهذا يدلك على أنك إنما انتحيت على القول ولم ترد أن تجعل عبد الله موضعَ فعل كضربتُ وقتلت، ولكنه فعلٌ بمنزلة ليس يجيء لمعنى، وإنما يدل على ما في علمك.
وتقول: أقلّ رجلٍ يقول ذاك إلا زيدٌ، لأنه صار في معنى ما أحدٌ فيها إلا زيد.
وتقول: قلّ رجلٌ يقول ذاك إلا زيدٌ، فليس زيدٌ بدلاً من الرجل في قلّ، ولكن قلّ رجلٌ في موضع أقلُّ رجل، ومعناه كمعناه. وأقلّ رجلٍ مبتدأ مبنيّ عليه، والمستثنى بدل منه؛ لأنك تُدخله في شيء تُخرج منه مَن سواه.
وكذلك أقلّ من يقول ذلك، وقلّ من يقول ذاك، إذا جعلتَ مَن بمنزلة رجلٍ. حدّثنا بذلك يونس عن العرب، يجعلونه نكرة، كما قال:
ربّ ما تكره النفوسُ مِن الأ ... مر له فَرجةٌ كحلِّ العِقالِ
فجعل ما نكرة.
؟باب ما حُمل على موضع العامل
في الاسم والاسملا على ما عمل في الاسم، ولكن الاسم وما عمل فيه في موضع اسم مرفوع أو منصوب.
وذلك قولك: ما أتاني من أحدٍ إلا زيدٌ، وما رأيت من أحدٍ إلا زيداً.
وإنما منعك أن تحمل الكلام على مِن أنه خلفٌ أن تقول: ما أتاني إلا من زيد، فلما كان كذلك حمله على الموضع فجعله بدلاً منه كأنه قال: ما أتاني أحد إلا فلان؛ لأن معنى ما أتاني أحد وما أتاني من أحدٍ واحدٌ، ولكن مِن دخلت هنا توكيداً، كما تدخل الباء في قولك: كفى بالشيب والإسلام، وفي: ما أنت بفاعل، ولستَ بفاعلٍ.
ومثل ذلك: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به، من قبل أن بشيء في موضع رفع في لغة بني تميم، فلما قبُح أن تحمله على الباء صار كأنه بدل من اسم مرفوع، وبشيء في لغة أهل الحجاز في موضع منصوب، ولكنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به، استوت اللغتان، فصارت ما على أقيس الوجهين؛ لأنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به فكأنك قلت: ما أنت إلا شيء لا يُعبَأ به.

وتقول: لستَ بشيء إلا شيئاً لا يُعبَأ به، كأنك قلت: لستَ إلا شيئاً لا يُعبَأ به، والباء ههنا بمنزلتها فيما قال الشاعر:
يا ابْنَيْ لُبَينَي لستُما بيدٍ ... إلا يداً ليست لها عضُدُ
ومما أجري على الموضع لا على ما عمل في الاسم: لا أحدَ فيها إلا عبد الله، فلا أحدَ في موضع اسم مبتدأ، وهي ههنا بمنزلة من أحدَ في ما أتاني. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني من أحدٍ لا عبدُ الله ولا زيدٌ، من قبل أنه خلفٌ أن تحمل المعرفة على مِن في ذا الموضع، كما تقول لا أحدَ فيها لا زيدٌ ولا عمرو؛ لأن المعرفة لا تُحمل على لا؛ وذلك أن هذا الكلام جواب لقوله: هل مِن أحد، أو هل أتاك من أحد؟ وتقول: لا أحدَ رأيته إلا زيد، إذا بنيتَ رأيته على الأول، كأنك قلت: لا أحدَ مرئي. وإن جعلت رأيته صفةً فكذلك، كأنك قلت لا أحدَ مرئياً.
وتقول: ما فيها إلا زيدٌ، وما علمتُ أن فيها إلا زيداً. فإن قلبتَه فجعلتَه يلي أن وما في لغة أهل الحجاز قبح ولم يَجز؛ لأنهما ليسا بفعل فيُحتمل قلبُهما كما لم يجز فيهما التقديم والتأخير ولم يجز ما أنت إلا ذاهباً، ولكنه لما طال الكلام قويَ واحتُمل ذلك، كأشياء تجوز في الكلام إذا طال وتزداد حُسناً. وسترى ذلك إن شاء الله، ومنها ما قد مضى.
وتقول: إن أحداً لا يقول ذاك، وهو ضعيف خبيث، لأن أحداً لا يستعمل في الواجب، وإنما نفيتَ بعد أن أوجبتَ، ولكنه قد احتُمل حيث كان معناه النفي، كما جاز في كلامهم: قد عرفتُ زيدٌ أبو مَن هو، حيث كان معناه أبو مَن زيدٌ. فمن أجاز هذا قال: إن أحداً لا يقول هذا إلا زيداً، كما أنه يقول على الجواز: رأيتُ أحداً لا يقول ذاك إلا زيداً، يصير هذا بمنزلة ما أعلمُ أن أحداً يقول ذاك، كما صار هذا بمنزلة ما رأيتُ حيث دخله معنى النفي. وإن شئت قلت إلا زيدٌ، فحملته على يقول، كما جاز: يحكي علينا إلا كواكبُها وليس هذا في القوة كقولك: لا أحدَ فيها إلا زيدٌ، وأقلُّ رجلٍ رأيتُه إلا عمرو؛ لأن هذا الموضع إنما ابتُدئ مع معنى النفي، وهذا موضعُ إيجاب، وإنما جيء بالنفي بعد ذلك في الخبر، فجاز الاستثناء أن يكون بدلاً من الابتداء، حين وقع منفياً. ولا يجوز أن يكون الاستثناء أولاً لو لم يقل أقلُّ رجلٍ ولا رجلَ، لأن الاستثناء لابد له ها هنا من النفي. وجاز أن يُحمل على إن هاهنا، حيث صارت أحد كأنها منفية.
؟باب النصب فيما يكون مستثنى مبدَلاً
حدثنا بذلك يونس وعيسى جميعاً أن بعض العرب الموثوقَ بعربيته يقول: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيداً، وما أتاني أحدٌ إلا زيداً. وعلى هذا: ما رأيت أحداً إلا زيداً، فينصب زيداً على غير رأيت؛ وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلاً من الأول، ولكنك جعلته منقطعاً مما عمل في الأول. والدليل على ذلك أنه يجيء على معنى: ولكن زيداً، ولا أعني زيداً. وعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم إذا قلت عشرون درهماً.
ومثله في الانقطاع من أوله: إن لفُلان والله مالاً إلا أنه شقيّ؛ فأنه لا يكون أبداً على إن لفلان، وهو في موضع نصبٍ وجاء على معنى: ولكنه شقيّ.
؟هذا بابٌ يختار فيه النصب
لأن الآخِر ليس من النوع الأول وهو لغة أهل الحجاز، وذلك قولك: ما فيها أحد إلا حماراً، جاءوا به على معنى ولكن حماراً، وكرهوا أن يُبدلوا الآخِر من الأول، فيصيرَ كأنه من نوعه، فحُمل على معنى ولكن، وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم.
وأما بنو تميم فيقولون: لا أحدَ فيها إلا حمارٌ، أرادوا ليس فيها إلا حمار، ولكنه ذكر أحداً توكيداً لأن يُعلم أن ليس فيها آدميّ، ثم أبدل فكأنه قال: ليس فيها إلا حمارٌ. وإن شئت جعلته إنسانها. قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهذلي:
فإن تُمسِ في قبرٍ برَهوَةَ ثاوياً ... أنيسُك أصداءُ القبور تصيحُ
فجعلهم أنيسَه. ومثل ذلك قوله: ما لي عتابٌ إلا السيف، جعله عتابه. كما أنك تقول: ما أنت إلا سيراً، إذا جعلته هو السير. وعلى هذا أنشدت بنو تميم قولَ النابغة الذبياني:
يا دارَ ميّةَ بالعلياء فالسّندِ ... أقوَتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائلها ... عيّتْ جواباً وما بالرّبع من أحدِ

إلا أُواريُّ لأياً ما أبيّنها ... والنّؤيُ كالحوض بالمظلومة الجلَدِ
وأهل الحجاز ينصبون.
ومثل ذلك قوله:
وبلدةٍ ليس بها أنيسُ ... إلا اليَعافيرُ وإلا العيسُ
جعلها أنيسها. وإن شئت كان على الوجه الذي فسّرته في الحمار أول مرة.
وهو في كلا المعنيين إذا لم تنصب بدلٌ.
ومن ذلك من المصادر: ما له عليه سلطانٌ إلا التكلف، لأن التكلف ليس من السلطان. وكذلك: إلا أنه يتكلف، هو بمنزلة التكلف. وإنما يجيء هذا على معنى ولكنْ. ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ ذكره: " ما لهم به من عِلمٍ إلا اتّباعَ الظنّ " ، ومثله: " وإن نشأْ نُغرقْهُم فلا صريحَ لهم ولا هُم يُنقَذون. إلا رحمةً منا " . ومثل ذلك قول النابغة:
حلفتُ يميناً غيرَ ذي مَثنَوِيةٍ ... ولا عِلمَ إلا حُسنَ ظنٍّ بصاحبِ
وأما بنو تميم فيرفعون هذا كله، يجعلون اتّباع الظن علمهم، وحُسنَ الظن علمه، والتكلّف سلطانه. وهم يُنشدون بيت ابن الأيهم التغلبي رفعاً:
ليس بيني وبين قيسٍ عِتابُ ... غيرُ طعنِ الكُلى وضربِ الرّقابِ
جعلوا ذلك العتاب.
وأهل الحجاز ينصبون على التفسير الذي ذكرنا.
وزعم الخليل أن الرفع في هذا على قوله:
وخيلٍ قد دلَفتُ لها بخيلٍ ... تحيةُ بينِهم ضربٌ وَجيعُ
جعل الضرب تحيّتَهم، كما جعلوا اتّباع الظن علمَهم. وإن شئت كانت على ما فسّرتُ لك في الحمار إذا لم تجعله أنيسَ ذلك المكان. وقال الحارث بن عُبار:
والحربُ لا يبقى لجا ... حمِها التّخيلُ والمِراحُ
إلا الفتى الصبّارُ في الن ... جَدَات والفرسُ الوَقاحُ
وقال:
لم يغذُها الرِّسلُ ولا أيسارُها ... إلا طريُّ اللحمِ واستجزارُها
وقال:
عشيةَ لا تُغني الرماحُ مكانها ... ولا النّبلُ إلا المشرَفيّ المصَمّمُ
وهذا يقوي: ما أتاني زيدٌ إلا عمرٌو، وما أعانه إخوانُكم إلا إخوانُه؛ لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها.
؟

باب ما لا يكون إلا على معنى ولكن
فمن ذلك قوله تعالى: " لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلا مَن رحم " أي ولكن من رحم. وقوله عز وجلّ: " فلولا كانت قرية آمنتْ فنفعها إيمانُها إلا قومَ يونسَ لمّا آمنوا " أي ولكن قوم يونس لما آمنوا. وقوله عز وجل: " فلولا كانَ من القرون من قبلِكم أولوا بقيةٍ ينهونَ عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم " ، أي ولكن قليلاً مما أنجينا منهم. وقوله عز وجلّ: " أُخرِجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربُّنا الله " ، أي ولكنهم يقولون: ربُنا الله.
وهذا الضربُ في القرآن كثير.
ومن ذلك من الكلام: لا تكوننّ من فلان في شيء إلا سلاماً بسلام.
ومثل ذلك أيضاً من الكلام فيما حدّثنا أبو الخطاب: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضرّ. فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان والضّرر. كما أنك إذا قلت: ما أحسنَ ما كلّم زيداً، فهو ما أحسنَ كلامَ زيداً. ولولا ما لم يجز الفعل بعدُ إلا في ذا الموضع كما لا يجوز بعد ما أحسنَ بغير ما، كأنه قال: ولكنه ضرّ، وقال: ولكنه نقص. هذا معناه.
ومثل ذلك من الشعر قول النابغة:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ... بهنّ فلولٌ من قِراعِ الكتائب
أي ولكن سيوفهم بهن فلول. وقال النابغة الجعدي:
فتى كمُلت خيراتُه غير أنه ... جوادٌ فلا يُبقي من المال باقيا
كأنه قال: ولكنه مع ذلك جواد. ومثل ذلك قول الفرزدق:
وما سجنوني غيرَ أني ابنُ غالبٍ ... وأني من الأثرَيْنَ غير الزّعانفِ
كأنه قال: ولكني ابنُ غالب. ومثل ذلك في الشعر كثيرٌ. ومثل ذلك قوله، وهو قول بعض بني مازن يقال له عنزُ بن دجاجة:
من كان أشركَ في تفرّق فالجٍ ... فلَبُونه جرِبَت معاً وأغدّتِ
إلا كناشرةَ الذي ضيّعتُم ... كالغُصن في غُلوائه المنبّتِ
كأنه قال: ولكن هذا كناشرة. وقال:
لولا ابنُ حارثة الأميرُ لقد ... أغضيْتَ من شتمي على رغمِ
إلا كمُعرضٍ المحسّرِ بَكرَه ... عَمداً يسبّبُني على الظُلْم
؟باب ما تكون فيه أنّ وأنْ مع صلتهما
بمنزلة غيرهما من الأسماء

وذلك قولهم ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا، فأنّ في موضع اسم مرفوع كأنه قال: ما أتاني إلا قولُهم كذا وكذا.
ومثل ذلك قولهم: ما منعني إلا أن يغضب عليّ فلانٌ.
والحجةُ على أنّ هذا في موضع رفع أنّ أبا الخطاب حدّثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم، مَن يُنشد هذا البيت رفعاً للكناني:
لم يمنع الشربَ منها غيرُ أنْ نطقَتْ ... حمامة في غصونٍ ذات أوقالِ
وزعموا أن ناساً من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع، فقال الخليل رحمه الله: هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل موضع، فكذلك غير أن نطقت. وكما قال النابغة:
على حين عاتَبتُ المشيبَ على الصّبا ... وقلتُ ألمّا أصْحُ والشيبُ وازعُ
كأنه جعل حين وعاتبتُ اسماً واحداً.
؟

باب لا يكون المستثنى فيه إلا نصبا
ً
لأنه مخرَجٌ مما أدخلت فيه غيره، فعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم حين قلت: له عشرون درهماً. وهذا قول الخليل رحمه الله، وذلك قولك: أتاني القومُ إلا أباك، ومررتُ بالقوم إلا أباك، والقوم فيها إلا أباك وانتصب الأب إذ لم يكن داخلاً فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة، وكان العاملُ فيه ما قبله من الكلام؛ كما أن الدرهم ليس بصفة للعشرين ولا محمولٍ على ما حُملت عليه وعمل فيها.
وإنما منع الأبَ أن يكون بدلاً من القوم أنك لو قلت أتاني إلا أبوك كان مُحالاً. وإنما جاز ما أتاني القومُ إلا أبوك لأنه يحسن لك أن تقول: ما أتاني إلا أبوك فالمبدَل إنما يجيء أبداً كأنه لم يُذكَر قبله شيء لأنك تُخلي له الفعل وتجعله مكان الأول. فإذا قلت: ما أتاني القومُ إلا أبوك فكأنك قلت: ما أتاني إلا أبوك.
وتقول: ما فيهم أحدٌ إلا وقد قال ذلك إلا زيداً، كأنه قال: قد قالوا ذلك إلا زيداً.
؟
باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفا
ً
بمنزلة مثلٍ وغيرٍ
وذلك قولك: لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبنا.
والدليل على أنه وصف أنك لو قلت: لو كان معنا إلا زيدٌ لهلكْنا وأنت تريد الاستثناء لكنت قد أحلتَ. ونظر ذلك قوله عزّ وجلّ: " لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ لفسدَتا " .
ونظير ذلك من الشعر قوله، وهو ذو الرمة:
أنيخَت فألقتْ بلدةً فوق بلدةٍ ... قليلٍ بها الأصواتُ إلا بُغامُها
كأنه قال: قليلٍ بها الأصوات غيرُ بغامها، إذا كانت غيرُ غيرَ استثناء.
ومثل ذلك قوله تعالى: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضّرَر " ، وقوله عزّ وجلّ ذكره: " صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوبِ عليهم " . ومثل ذلك في الشعر للبيد بن ربيعة:
وإذا أُقرضتَ قرضاً فاجرِه ... إنما يجزي الفتى غيرُ الجملْ
وقال أيضاً:
لو كان غيري سُليمى اليومَ غيّرَهُ ... وقعُ الحوادث إلا الصارمُ الذّكرُ
كأنه قال: لو كان غيري غيرُ الصارم الذكر، لغيّره وقع الحوادث، إذا جعلت غيرا الآخرة صفة للأولى. والمعنى أنه أراد أن يخبر أن الصارم الذكر لا يغيّره شيء.
وإذا قال: ما أتاني أحد إلا زيد، فأنت بالخيار إن شئت جعلت إلا زيد بدلاً، وإن شئت جعلته صفةً. ولا يجوز أن تقول: ما أتاني إلا زيدٌ وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة مثل، وإنما يجوز ذلك صفة.
ونظير ذلك من كلام العرب أجمعون، لا يجري في الكلام إلا على اسم، ولا يعمل فيه ناصبٌ ولا رافعٌ ولا جارّ.
وقال عمرو بن معدي كرب:
وكلُ أخٍ مُارقُه أخوه ... لعَمْرُ أبيك إلا الفرقدانِ
كأنه قال: وكلُ أخ غيرُ الفرقدين مفارقُه أخوه، إذا وصفتَ به كُلاً، كما قال الشمّاخ:
وكلُ خليلٍ غيرُ هاضم نفسِه ... لوصلِ خليلٍ صارمٌ أو مُعازرُ
ولا يجوز رفع زيد على إلا أن يكون، لأنك لا تضمِر الاسم الذي هذا من تمامه، لأن أنْ يكون اسماً.
؟هذا باب ما يقدَّم فيه المستثنى
وذلك قولك: ما فيها إلا أباك أحدٌ، وما لي إلا أباك صديقٌ.

وزعم الخليل رحمه الله أنهم إنما حملهم على نصب هذا أن المستثني إنما وجهه عندهم أن يكون بدلاً ولا يكون مبدَلاً منه؛ لأن الاستثناء إنما حدّه أن تَدارَكَه بعد ما تنفي فتُبدِله، فلما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجه قد يجوز إذا أخّرتَ المستثني، كما أنهم حيث استقبحوا أن يكون الاسم صفةً في قولهم: فيها قائماً رجلٌ، حملوه على وجه قد يجوز لو أخّرتَ الصفة، وكان هذا الوجهُ أمثلَ عندهم من أن يحملوا الكلام على غير وجهه. قال كعب بن مالك:
الناسُ ألبٌ علينا فيك، ليس لنا ... إلا السيوفَ وأطرافَ القنا وزَرُ
سمعناه ممن يرويه عن العرب الموثوق بهم، كراهية أن يجعلوا ما حدُّ المستثني أن يكون بدلاً منه بدلاً من المستثنى.
ومثل ذلك: ما لي إلا أباك صديقٌ.
فإن قلت: ما أتاني أحدٌ إلا أبوك خيرٌ من زيد، وما مررتُ بأحدٍ إلا عمرو خيرٍ من زيد وما مررتُ بأحد إلا عمرو خيرٍ من زيدٍ، كان الرفع والجرّ جائزين، وحسُن البدل لأنك قد شغلت الرافعَ والجارّ، ثم أبدلتَه من المرفوع والمجرور، ثم وصفتَ بعد ذلك.
وكذلك: مَن لي إلا أبوك صديقاً؛ لأنك أخليت مَن للأب ولم تُفرده لأن يعمل كما يعمل المبتدأ.
وقد قال بعضهم: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيداً خيرٍ منه، وكذلك مَن لي إلا زيداً صديقاً، وما لي أحدٌ إلا زيداً صديقٌ؛ كرهوا أن يقدّموا وفي أنفسهم شيء من صفته إلا نصباً، كما كرهوا أن يقدَّم قبل الاسم إلا نصباً.
وحدّثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: ما لي إلا أبوك أحد، فيجعلون أحداً بدلاً كما قالوا: ما مررتُ بمثله أحد، فجعلوه بدلاً. وإن شئت قلت: ما لي إلا أبوك صديقاً، كأنك قلت: لي أبوك صديقاً، كما قلت: مَن لي إلا أبوك صديقاً حين جعلتَه مثلَ: ما مررتُ بأحدٍ إلا أبيك خيراً منه. ومثله قول الشاعر، وهو الكَلحَبة الثعلبي:
أمرتُكمُ أمري بمنقطَع اللِّوى ... ولا أمرَ للمَعصيّ إلا مضيَّعا
كأنه قال: للمعضيّ أمرٌ مضيّعا، كما جاز فيها رجلٌ قائماً. وهذا قول الخليل رحمه الله. وقد يكون أيضاً على قوله: لا أحدَ فيها إلا زيداً.
؟

هذا باب
ما تكون فيه في المستثنى الثاني بالخيار
وذلك قولك: ما لي إلا زيداً صديقٌ وعمراً وعمرٌو، ومَن لي إلا أباك صديقٌ وزيداً وزيدٌ.
أما النصب فعلى الكلام الأول، وأما الرفع فكأنه قال: وعمرو لي، لأن هذا المعنى لا ينقضُ ما تريد في النصب. وهذا قول يونسَ والخليل رحمهما الله.
هذا باب تثنية المستثنىوذلك قولك: ما أتاني إلا زيدٌ إلا عمراً. ولا يجوز الرفعُ في عمرو، من قبل أن المستثنى لا يكون بدلاً من المستثنى. وذلك أنك لا تريد أن تُخرج الأول من شيء تُدخل فيه الآخِر.
وإن شئت قلت: ما أتاني إلا زيداً إلا عمرٌو، فتجعل الإتيان لعمرو، ويكون زيد منتصباً من حيث انتصب عمرو، فأنت في ذا بالخيار إن شئت نصبت الأول ورفعت الآخر، وإن شئت نصبتَ الآخِر ورفعت الأول.
وتقول: ما أتاني إلا عمراً إلا بِشراً أحدٌ، كأنك قلت: ما أتاني إلا عمراً أحدٌ إلا بِشرٌ، فجعلتَ بشراً بدلاً من أحد ثم قدّمت بشراً فصار كقولك: ما لي إلا بشراً أحدٌ؛ لأنك إذا قلت: ما لي إلا عمراً أحدٌ إلا بشرٌ، فكأنك قلت: ما لي أحدٌ إلا بشرٌ.
والدليل على ذلك قول الشاعر، وهو الكُميتُ:
فما لي إلا اللهُ لا رَبَّ غيرَه ... وما لي إلا اللهَ غيرَك ناصرُ
فغيرَك بمنزلة إلا زيداً.
وأما قوله، وهو حارثة بن بدر الغُدانيّ:
يا كعبُ صبراً على ما كان من حدثٍ ... يا كعبُ لم يبقَ منا غيرُ أجلادِ
إلا بقيّاتُ أنفاسٍ تُحشرِجُها ... كراحلٍ رائحٍ أو باكرٍ غادي
فإن غير ههنا بمنزلة مثل، كأنك قلت: لم يبقَ منها مثلُ أجلادٍ إلا بقياتُ أنفاس.
وعلى ذا أنشدَ بعض الناس هذا البيت رفعاً للفرزدق:
ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دار الخليفة إلا دارُ مروانِ
جعلوا غير صفة بمنزلة مثل، ومَن جعلها بمنزلة الاستثناء لم يكن له بدّ من أن ينصب أحدَهما، وهو قول ابن أبي إسحاق.
وأما إلا زيدٌ فإنه لا يكون بمنزلة مثل إلا صفة.

ولو قلت: ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله كان جيداً، إذا كان أبو عبد الله زيداً ولم يكن غيره، لأن هذا يكرَّر توكيداً، كقولك: رأيت زيداً زيداً.
وقد يجوز أن يكون غيرَ زيد على الغلط والنسيان، كما يجوز أن تقول: رأيتُ زيداً عمراً، لأه إنما أراد عمراً فنسي فتدارك.
ومثلُ ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله، إذا أردت أن تبيّن وتُوضحَ قوله:
ما لك من شيخِك إلا عملُه ... إلا رسيمُه وإلا رَمَلُهْ
؟

هذا باب ما يكون مبتدأ بعد إلا
وذلك قولك: ما مررتُ بأحد إلا زيدٌ خيرٌ منه، كأنك قلت: مررت بقوم زيدٌ خيرٌ منهم، إلا أنك أدخلت إلا لتجعل زيداً خيراً من جميع من مررتَ به.
ولو قال: مررتُ بناس زيدٌ خيرٌ منهم، لجاز أن يكون قد مرّ بناس آخرين هم خيرٌ من زيد، فإنما قال: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه ليخبر أنه لم يمرّ بأحدٍ يفضل زيداً.
ومثل ذلك قول العرب: والله لأفعلن كذا وكذا إلا حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا. فأنْ أفعل كذا وكذا بمنزلة فعل كذا وكذا، وهو مبنيّ على حِلّ، وحِلّ مبتدأ، كأنه قال: ولكنْ حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا.
وأما قولهم: والله لا أفعلُ إلا أن تفعل، فأنْ تفعل في موضع نصب، والمعنى حتى تفعل، أو كأنه قال: أو تفعل. والأول مبتدأ ومبني عليه.
؟
هذا باب غير
اعلم أن غيراً أبداً سوى المضاف إليه، ولكنه يكون فيه معنى إلا فيُجرى مُجرى الاسم الذي بعد إلا، وهو الاسم الذي يكون داخلاً فيما يخرج منه غيره وخارجاً مما يدخل فيه غيره.
فأما دخوله فيما يخرج منه غيرُه فأتاني القومُ غيرَ زيد، فغيرهم الذين جاءوا ولكن فيه معنى إلا، فصار بمنزلة الاسم الذي بعد إلا.
وأما خروجه مما يدخل فيه غيره فما أتاني غيرُ زيدٍ. وقد يكون بمنزلة مثل ليس فيه معنى إلا.
وكلُ موضع جاز فيه الاستثناء بإلا جاز بغيْر، وجرى مجرى الاسم الذي بعد إلا، لأنه اسم بمنزلته وفيه معنى إلا. ولو جاز أن تقول: أتاني القومُ زيداً، تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلا نصباً.
ولا يجوز أن يكون غير بمنزلة الاسم الذي يُبتدأ بعد إلا؛ وذلك أنهم لم يجعلوا فيه معنى إلا مبتدأ، وإنما أدخلوا فيه معنى الاستثناء في كل موضع يكون فيه بمنزلة مثل ويُجزئ من الاستثناء. ألا ترى أنه لو قال: أتاني غيرُ عمرٍو كان قد أخبر أنه لم يأته وإن كان قد يستقيم أن يكون قد أتاه، فقد يُستغنى به في مواضع من الاستثناء. ولو قال: ما أتاني غيرُ زيد، يريد بها منزلة مثل لكان مُجزِئاً من الاستثناء، كأنه قال: ما أتاني الذي هو غيرُ زيد، فهذا يُجزئ من قوله: ما أتاني إلا زيدٌ.
باب ما أُجري على موضع غير
لا على ما بعد غير .زعم الخليل رحمه الله ويونس جميعاً أنه يجوز: ما أتاني غيرُ زيد وعمرو. فالوجه الجرّ. وذلك أن غير زيد في موضع إلا زيدٌ وفي معناه، فحملوه على الموضع كما قال: فلسنا بالجبال ولا الحديدا فلما كان في موضع إلا زيدٌ وكان معناه كمعناه، حملوه على الموضع.
والدليل على ذلك أنك إذا قلت غيرُ زيد فكأنك قد قلت إلا زيد. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني غيرُ زيد وإلا عمرٌو، فلا يقبحُ الكلام، كأنك قلت: ما أتاني إلا زيد وإلا عمرو.
؟باب يُحذف المستثنى فيه استخفافاً
وذلك قولك: ليس غيرُ، وليس إلا، كأنه قال: ليس إلا ذاك وليس غير ذاك، ولكنهم حذفوا ذلك تخفيفاً واكتفاءً بعلم المخاطَب وما يعني.
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: ما منهم مات حتى رأيتُه في حال كذا وكذا، وإنما يريد ما منهم واحدٌ مات. ومثل ذلك قوله تعالى جده: " وإن مِن أهلِ الكتاب إلا لَيُؤمننّ به قبلَ موته " . ومثل ذلك من الشعر قول النابغة:
كأنك من جِمال بني أُقَيشٍ ... يقعقَعُ خلفَ رجليْه بشّنِّ
أي كأنك جملٌ من جمال بني أقيش.
ومثل ذلك أيضاً قوله:
لو قلتَ ما في قومها لم تيثَمِ ... يَفضُلُها في حَسبٍ وميسَمِ
يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا هذا كما قالوا: لو أن زيداً هنا، وإنما يريدون: لكان كذا وكذا. وقولهم: ليس أحدٌ أي ليس هنا أحدٌ. فكل ذلك حُذف تخفيفاً، واستغناء بعلم المخاطَب بما يعني.
ومثل البيتين الأولين قول الشاعر، وهو ابن مُقبل:

وما الدهرُ إلا تارتانِ فمنهما ... أموتُ وأخرى أبتغي العيشَ أكدحُ
إنما يريد منهما تارة أموت وأخرى.
ومثل قولهم ليس غير: هذا الذي أمسِ، يريد الذي فعل أمس.
وقوله، وهو العجّاج: بعد اللَّتيّا واللّتيا والتي فليس حذف المضاف إليه في كلامهم بأشدّ من حذف تمام الاسم.
؟

باب لا يكون وليس وما أشبههما
فإذا جاءتا وفيهما معنى الاستثناء فإن فيهما إضماراً، على هذا وقع فيهما معنى الاستثناء، كما أنه لا يقع معنى النهي في حسبك إلا أن يكون مبتدأ.
وذلك قولك: ما أتاني القومُ ليس زيداً، وأتوني لا يكون زيداً، وما أتاني أحدٌ لا يكون زيداً، كأنه حين قال: أتوني، صار المخاطَب عنده قد وقع في خلَده أن بعض الآتين زيدٌ، حتى كأنه قال: بعضُهم زيدٌ، فكأنه قال: ليس بعضهم زيداً. وترك إظهار بعضٍ استغناء، كما ترك الإظهار في لاتَ حينَ.
فهذه حالهما في حال الاستثناء، وعلى هذا وقع فيهما الاستثناء؛ فأجرهما كما أجروهما.
وقد يكون صفة، وهو قول الخليل رحمه الله. وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ ليس زيداً، وما أتاني رجل لا يكون بشراً إذا جعلت ليس ولا يكون بمنزلة قولك: ما أتاني أحدٌ لا يقول ذاك، إذا كان لا يقول في موضع قائلٌ ذاك.
ويدلّك على أنه صفة أن بعضهم يقول: ما أتتني امرأةٌ لا تكون فلاة، وما أتتني امرأة ليست فلانة. فلو لم يجعلوه صفةً لم يؤنّثوه لأن الذي لا يجيء صفة فيه إضمار مذكَّر. ألا تراهم يقولون: أتينني لا يكون فلانة وليس فلانة، يريد: ليس بعضُهن فلانة، والبعض مذكّر.
وأما عدا وخلا فلا يكونان صفة، ولكن فيهما إضمار كما كان في ليس ولا يكون، وهو إضمارٌ قصته فيهما قصته في لا يكون وليس. وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ خلا زيداً، وأتاني القومُ عدا عمراً، كأنك قلت: جاوز بعضُهم زيداً. إلا أن خلا وعدا فيهما معنى الاستثناء، ولكني ذكرت جاوز لأمثّل لك به، وإن كان لا يُستعمل في هذا الموضع.
وتقول: أتاني القومُ ما عدا زيداً، وأتَوني ما خلا زيداً. فما هنا اسمٌ، وخلا وعدا صلة له كأنه قال: أتوني ما جاوز بعضُهم زيداً. وما هم فيها عدا زيداً، كأنه قال: ما هم فيها ما جوز بعضُهم زيداً، وكأنه قال: إذا مثّلتَ ما خلا وما عدا فجعلتَه اسماً غير موصول قلت: أتوني مجاوزتَهم زيداً، مثّلتَه بمصدر ما هو في معناه، كما فعلتَه فيما مضى. إلا أن جاوز لا يقع في الاستثناء.
وإذا قلت: أتوني إلا أن يكون زيدٌ فالرفع جيدٌ بالغ، وهو كثير في كلام العرب، لأن يكونُ صلةٌ لأنْ وليس فيها معنى الاستثناء، وأن يكون في موضع اسم مستثنى كأنك قلت: يأتونك إلا أن يأتيك زيد.
والدليل على أن يكون ليس فيها هنا معنى الاستثناء: أن ليس وعدا وخلا، لا يقعن ههنا.
ومثلُ الرفع قولُ الله عزّ وجلّ: " إلا أن تكونَ تجارةٌ عن تراضٍ منكم " . وبعضهم ينصب، على وجه النصب في لا يكون، والرفع أكثر.
وأما حاشا فليس باسم، ولكنه حرفٌ يجر ما بعده كما تجرّ حتى ما بعدها، وفيه معنى الاستثناء. وبعضُ العرب يقول: ما أتاني القومُ خلا عبدِ الله، فيجعل خلا بمنزلة حاشا. فإذا قلت ما خلا فليس فيه إلا النصب، لأن ما اسمٌ ولا تكون صلتُها إلا الفعل ها هنا، وهي ما التي في قولك: أفعلف ما فعلتَ. ألا ترى أنك لو قلت: أتوني ما حاشا زيداً، لم يكن كلاماً.
وأما أتاني القوم سواك، فزعم الخليل رحمه الله أن هذا كقولك: أتاني القوم مكانك، وما أتاني أحدٌ مكانك، إلا أن في سواك معنى الاستثناء.
؟باب مجرى علاماتِ المضمرين
وما يجوز فيهن كلهن وسنبين ذلك إن شاء الله.؟
باب علامات المضمرين المرفوعين
اعلم أن المضمَر المرفوع، إذا حدّث عن نفسه فإن علامته أنا، وإن حدّث عن نفسه وعن آخر قال: نحنُ، وإن حدّث عن نفسه وعن آخرين قال: نحنُ.
ولا يقع أنا في موضع التاء التي في فعلْتُ، لا يجوز أن تقول فعل أنا، لأنهم استغنوا بالتاء عن أنا. ولا يقع نحنُ في موضع نا التي في فعَلْنا، لا تقول فعلَ نحن.
وأما المضمَر المخاطَب فعلامته إن كان واحداً: أنت، وإن خاطبتَ اثنين فعلامتُهما: أنتُما، وإن خاطبتَ جميعاً فعلامتُهم: أنتم.

واعلم أنه لا يقع أنتَ في موضع التاء التي في فعَلْتَ، ولا أنتما في موضع تُما التي في فعلتُما. ألا ترى أنك لا تقول فعل أنتُما. ولا يقع أنتم في موضع تُمْ التي في فعلتُم، لو قلت فعل أنتم لم يجز. ولا يقع أنت في موضع التاء في فعلْتَ، ولا يقع أنتُنّ في موضع تنَّ التي في فعلتُنّ، لو قلت فعلَ أنتُنّ لم يجز.
وأما المضمَر المحدَّث عنه فعلامتُه: هو، وإن كان مؤنّثاً فعلامته: هي، وإن حدّثتَ عن اثنين فعلامتُهما: هُما. وإن حدّثتَ عن جميع فعلامتهم: هُم، وإن كان الجميع جميع المؤنّث فعلامته: هُنّ. ولا يقع هو في موضع المضمَر الذي في فعل، لو قلت فعل هو لم يجز إلا أن يكون صفةً. ولا يجوز أن يكون هُما في موضع الألف التي في ضربا، والألف التي في يضربان، لو قلت ضرب هُما أو يضربُ هُما لم يجز. ولا يقع هُم في موضع الواو التي في ضربوا، ولا الواو التي مع النون في يضربون. لو قلت ضرب هُم أو يضربُ هُم لم يجز. وكذلك هي، لا تقع موضع الإضمار الذي في فعلتْ، لأن ذلك الإضمار بمنزلة الإضمار الذي له علامة. ولا يقع هُنّ في موضع النون التي في فعلْنَ ويفعلنَ، لو قلت فعل هُنّ لم يجز إلا أن يكون صفةً، كما لم يجز ذلك في المذكّر؛ فالمؤنّث يجري مجرى المذكّر.
فأنا وأن ونحن، وأنتما وأنتم وأنتنّ، وهو وهي وهُما وهُم وهنّ لا يقع شيء منها في موضع شيء من العلامات مما ذكرنا ولا في موضع المضمَر الذي لا علامةَ له، لأنهم استغنوا بهذا فأسقطوا ذلك.
؟

باب استعمالهم علامة الإضمار
الذي لا يقع موقع ما يضمر في الفعل إذا لم يقع موقعه
فمن ذلك قولهم: كيف أنت؟ وأين هو؟ من قبل أنك لا تقدر على التاء ههنا، ولا على الإضمار الذي في فعلَ. ومثل ذلك: نحن وأنتم ذاهبون؛ لأنك لا تقدر هنا على التاء والميم التي في فعلتُم كما لا تقدر في الأول على التاء في فعلتَ. وكذلك جاء عبد الله وأنت؛ لأنك لا تقدر على التاء التي تكون في الفعل. وتقول: فيها أنتم، لأنك لا تقدر على التاء والميم التي في فعلتُم ها هنا. وفيها هم قياماً، بتلك المنزلة؛ لأنك لا تقدر هنا على الإضمار الذي في الفعل.
ومثل ذلك: أما الخبيث فأنت، وأما العاقل فهو؛ لأنك لا تقدر هنا على شيء مما ذكرنا. وكذلك: كنا وأنتم ذاهبين، ومثل ذلك أهو هو. وقال الله عزّ وجلّ: " كأنه هو وأوتينا العلم " ؛ فوقع هو ها هنا لأنك لا تقدر على الإضمار الذي في فعلَ. وقال الشاعر:
فكأنها هي بعد غِبّ كلالِها ... أو أسفعُ الخدّيْن شاةُ إرانِ
وتقول: ما جاء إلا أنا. قال عمرو بن معدي كرب:
قد علمَتْ سلمى وجاراتُها ... ما قطّر الفارس إلا أنا
وكذلك هاأناذا، وها نحن أولاء، وها هو ذاك، وها هما ذانك، وها هم أولئك، وها أنت ذا، وها أنتما ذان، وها أنتم أولاء، وها أنتنّ أولاء، وها هنّ أولئك.
وإنما استُعملت هذه الحروف هنا لأنك لا تقدر على شيء من الحروف التي تكون علامةً في الفعل، ولا على الإضمار الذي في فعلَ.
وزعم الخليل رحمه الله أن ها هنا هي التي مع ذا إذا قلت هذا، وإنما أرادوا أن يقولوا هذا أنت، ولكنهم جعلوا أنت بين ها وذا؛ وأرادوا أن يقولوا أنا هذا وهذا أنا، فقدّموا ها وصارت أنا بينهما.
وزعم أبو الخطاب أن العرب الموثوقَ بهم يقولون: أنا هذا، وهذا أنا.
ومثل ما قال الخليل رحمه الله في هذا قول الشاعر:
ونحن اقتسمنا المالَ نصفين بيننا ... فقلتُ: لهم هذا لها ها وذاليا
كأنه أراد أن يقول: وهذا لي، فصيّر الواو بين ها وذا.
وزعم أن مثل ذلك: إي ها الله ذا، إنما هو هذا.
وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدّمة، ولكنها تكون للتنبيه بمنزلتها في هذا؛ يدلّك على هذا قوله عزّ وجل: " ها أنتم هؤلاء " فلو كانت ها ها هنا هي التي تكون أولاً إذا قلت هؤلاء، لم تُعَد ها ها هنا بعد أنتم.
وحدّثنا يونس أيضاً تصديقاً لقول أبي الخطاب، أن العرب تقول: هذا أنت تقول كذا وكذا، لم يرِد بقوله هذا أنت، أن يعرّفه نفسَه، كأنه يريد أن يعلمه أنه ليس غيره. هذا محال، ولكنه أراد أن ينبهه، كأنه قال: الحاضرُ عندنا أنت، والحاضر القائل كذا وكذا أنت.
وإن شئت لم تقدم ها في هذا الباب، قال تعالى: " ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسَكم " .
؟
باب علامة المضمرين المنصوبين

اعلم أن علامة المضمرين المنصوبين إيّا ما لم تقدَر على الكاف التي في رأيتك، وكُما التي في رأيتُكما، وكُم التي في رأيتكم، وكُنّ التي في رأيتكنّ، والهاء التي في رأيته، والهاء التي في رأيتها، وهُما التي في رأيتهما، وهُم التي في رأيتهم، وهنّ التي في رأيتهن، وني التي في رأيتني، ونا التي في رأيتنا.
فإن قدرت على شيء من هذه الحروف في موضع لم تُوقع إيّا ذلك الموضع لأنهم استغنوا بها عن إيّا، كما استغنوا بالتاء وأخواتها في الرفع عن أنت وأخواتها.
؟باب استعمالهم إيّا
إذا لم تقع مواقع الحروف التي ذكرنافمن ذلك قولهم: إياك رأيتُ وإياك أعني، فإنما استعلمت إياك ها هنا من قبل أنك لا تقدر على الكاف. وقال الله عزّ وجلّ: " وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضَلال مُبين " من قبل أنك لا تقدر على كُم ههنا. وتقول: إني وإياك منطلقان، لأنك لا تقدر على الكاف. ونظير ذلك قوله تعالى جدّه: " ضلّ من تدعون إلا إياه " .
فلو قدرتَ على الهاء التي في رأيته لم تقل إياه. وقال الشاعر:
مُبَرّأٌ من عيوب الناس كلِّهمِ ... فالله يرعى أبا حربٍ وإيّانا
لأنه لا يقدر على نا التي في رأيتَنا. وقال الآخر:
لعمرك ما خشيت على عديّ ... سيوفَ بني مقيِّدة الحمارِ
ولكني خشيتُ على عديّ سيوفَ القوم أو إياك حارِ
ويُروى: رماح القوم؛ لأنه لم يقدر على الكاف.
وتقول: إن إياك رأيتُ، كما تقول إياك رأيت؛ من قبل أنك إذا قلت إن أفضلهم لقيتُ فأفضلَهم منتصب بلقيت.
فإن قلت: إن أفضلهم لقيت، فنصبت أفضلهم بإنّ فهو قبيح حتى تقول لقيتُه، وقد بُيّن وجه ذلك، وقد بيناه في باب إن وأخواتها، واستُعملت إياك لقبح الكاف والهاء ها هنا.
وتقول: عجبتُ من ضربي إياك. فإن قلت: لِمَ وقد تقع الكاف ها هنا وأخواتها، تقول عجبتُ من ضربيكَ ومن ضربيه ومن ضربيكم؟ فالعرب قد تكلّم بهذا، وليس بالكثير.
ولم تستحكم علامات الإضمار التي لا تقع إيّا مواقعها كما استحكمت في الفعل، لا يقال عجبت من ضربكَني إن بدأت به قبل المتكلم، ولا من ضربهيك إن بدأت بالبعيد قبل القريب. فلما قبُح هذا عندهم ولم تستحكم هذه الحروف عندهم في هذا الموضع صارت إيّا عندهم في هذا الموضع لذلك بمنزلتها في الموضع الذي لا يقع فيه شيء من هذه الحروف.
ومثل ذلك: كان إيّاه، لأن كانَه قليلة، ولم تستحكم هذه الحروف ها هنا، لا تقول كانني وليسني، ولا كانَك. فصارت إيّا ههنا بمنزلتا في ضربي إياك.
وتقول: أتوني ليس إياك ولا يكون إياه؛ لأنك لا تقدر على الكاف ولا الهاء ها هنا، فصارت إيّا بدلاً من الكاف والهاء في هذا الموضع.
قال الشاعر:
ليت هذا الليلَ شهرٌ ... لا نرى فيه عَريبا
ليس إيّاي وإيّا ... كَ ولا نخشى رقيبا
وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسني وكذلك كانني.
وتقول: عجبتُ من ضَرب زيد أنت، ومن ضربك هو، إذا جعلت زيداً مفعولاً، وجعلت المضمَر الذي علامته الكاف فاعلاً فجاز أنت ههنا للفاعل كما جاز إيّا للمفعول، لأن إيا وأنت علامتا الإضمار، وامتناع التاء يقوّي دخولَ أنت ههنا.
وتقول: قد جرّبتُك فوجدتُك أنت أنت، فأنتَ الأولى مبتدأة والثانية مبنية عليها، كأنك قلت فوجدتُك وجهُك طليق. والمعنى أنك أردت أن تقول: فوجدتك أنت الذي أعرف.
ومثل ذلك: أنت أنت، وإن فعلتَ هذا فأنت أنت، أي فأنت الذي أعرف، أو أنت الجواد والجَلْد، كما تقول: الناس الناس، أي الناس بكل مكان وعلى كل حال كما تعرف.
وإن شئت قلت: قد وليتَ عملاً فكنتَ أنت إياك، وقد جرّبتُك فوجدتُك أنت إياك، جعلتَ أنت صفة وجعلت إياك بمنزلة الظريف إذا قلت: فوجدتُك أنت الظريف. والمعنى أنك أردت أن تقول وجدتُك كما كنتُ أعرف. وهذا كله قول الخليل رحمه الله، سمعناه منه.
وتقول: أنت أنت، تكرّرها، كما تقول للرجل أنت وتسكت، على حد قولك: قال الناس زيد. وعلى هذا الحد تقول: قد جُرّبْتَ فكنتَ كنت، إذا كرّرتها توكيداً، وإن شئت جعلت كنتَ صفةً، لأنك قد تقول: قد جُرّبت فكنت، ثم تسكت.
؟

باب الإضمار فيما جرى مجرى الفعل

وذلك إن ولعلّ وليتَ وأخواتها، ورُويد ورُويدك وعليكَ وهلمّ وما أشبه ذلك. فعلامات الإضمار حالهن ها هنا كحالهن في الفعل، لا تقوى أن تقول: عليك إياه ولا رُويدَ إيّاه؛ لأنك قد تقدر على الهاء، تقول عليكَه ورُويدَه. ولا تقول: عليك إياي، لأنك قد تقدر على ني.
وحدثنا يونس أنه سمع من العرب من يقول عليكَني، من غير تلقين، ومنهم من لا يستعمل ني ولا نا في ذا الموضع استغناءً بعليك بي وعليك بنا عن ني ونا، وإياي وإيانا.
ولو قلت عليك: إياه كان ها هنا جائزاً في عليك وأخواتها، لأنه ليس بفعل وإن شبِّه به. ولم تقو العلامات ها هنا كما قويت في الفعل، فهي مضارعة في ذلك الأسماء.
واعلم أنه قبيح أن تقول: رأيت فيها إياك، ورأيت اليوم إياه؛ من قبل أنك قد تجد الإضمار الذي هو سوي إيّا، وهو الكاف التي في رأيتك فيها، والهاء التي في رأيته اليوم، فلما قدروا على هذا الإضمار بعد الفعل ولم ينقض معنى ما أرادوا لم تكلموا بأياك، استغنوا بهذا عن إياك وإياه. ولو جاز هذا لجاز ضربَ زيدٌ إياك وإنّ فيها إياك، ولكنهم لما وجدوا إنك فيها وضربَه زيدٌ، ولم ينقض معنى ما أرادوا لو قالوا: إن فيها إياك، وضرب زيدٌ إياك استغنوا به عن إيّا.
وأما: ما أتاني إلا أنت، وما رأيت إلا إياك، فإنه لا يدخل على هذا؛ من قبل أنه لو أخّر إلا كان الكلام محالاً. ولو أسقط إلا كان الكلام منقلب المعنى وصار الكلام على معنى آخر.
؟باب ما يجوز في الشعر من إيّا
ولا يجوز في الكلام فمن ذلك قول حُميد الأرقط:
إليك حتّى بلغتْ إيّاكا وقال الآخر، لبعض اللصوص:
كأنّا يومَ قُرّى إ ... نّما نقتلُ إيّانا
قتلنا منهمُ كلَّ ... فتى أبيضَ حُسّانا
؟

باب علامة إضمار المجرور
اعلم أن أنت وأخواتها لا يكنّ علامات لمجرور، من قبل أن أنت اسم مرفوع، ولا يكون المرفوع مجروراً. ألا ترى أنك لو قلت: مررتُ بزيد وأنت، لم يجز. ولو قلت: ما مررتُ بأحد إلا أنت لم يجز. ولا يجوز إيّا أن تكون علامةً لمضمر مجرور، من قبل أن إيّا علامةٌ للمنصوب، فلا يكون المنصوب في موضع المجرور، ولكن إضمار المجرور علاماته كعلامات المنصوب التي لا تقع مواقعَهن إيّا، إلا أن تضيف الى نفسك نحو قولك: بي ولي وعندي.
وتقول: مررتُ بزيد وبك، وما مررتُ بأحد إلا بك، أعدتَ مع المضمَر الباء من قبل أنهم لا يتكلمون بالكاف وأخواتها منفردة، فلذلك أعادوا الجارّ مع المضمَر. ولم توقِع إيّا ولا أنت ولا أخواتها ههنا من قبل أن المنصوب والمرفوع لا يقعان في موضع المجرور.
؟باب إضمار المفعولَين
اللذين تعدّى إليهما فعلُ الفاعل
اعلم أن المفعول الثاني قد تكون علامته إذا أُضمَر في هذا الباب العلامة التي لا تقع إيّا موقعها، وقد تكون علامتُه إذا أُضمَر إيّا.
فأما علامة الثاني التي لا تقع إيا موقعها فقولك: أعطانيه وأعطانيك، فهذا هكذا إذا بدأ المتكلم بنفسه. فإن بدأ بالمخاطب قبل نفسه فقال: أعطاكَني، أو بدأ بالغائب قبل نفسه فقال: قد أعطاهوني، فهو قبيح لا تكلّمُ به العرب، ولكن النحويين قاسوه.
وإنما قبُح عند العرب كراهيةَ أن يبدأ المتكلم في هذا الموضع بالأبعد قبل الأقرب، ولكن تقول أعطاك إيّاي، وأعطاه إياي، فهذا كلام العرب. وجعلوا إيّا تقع هذا الموقع إذ قبُح هذا عندهم كما قالوا: إياك رأيتُ، وإياي رأيت، إذ لم يجز لهم ني رأيتَ ولا كَ رأيتُ.
فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطَباً وغائباً، فبدأتَ بالمخاطَب قبل الغائب، فإن علامة الغائب العلامةُ التي لا تقع موقعها إيّا، وذلك قوله: أعطيتُكَه وقد أعطاكَه، وقال عزّ وجلّ: " فعُمّيَتْ عليكم أنُلزمُكموها وأنتم لها كارهون " . فهذا هكذا إذا بدأتَ بالمخاطَب قبل الغائب.
وإنما كان المخاطَب أولى بأن يُبدأ به من قبل أن المخاطَب أقرب الى المتكلم من الغائب، فكما كان المتكلم أولى بأن يبدأ بنفسه قبل المخاطَب، كان المخاطَب الذي هو أقرب من الغائب أولى بأن يُبدأ به من الغائب.
فإن بدأت بالغائب فقلت: أعطاهوكَ، فهو في القبح وأنه لا يجوز، بمنزلة الغائب والمخاطَب إذا بُدئ بهما قبل المتكلم، ولكنك إذا بدأت بالغائب قلت قد أعطاه إياك.

وأما قول النحويين: قد أعطاهوك وأعطاهوني، فإنما هو شيء قاسوه لم تكلّم به العرب، ووضعوا الكلام في غير موضعه، وكان قياس هذا لو تُكلّم به كان هيّناً.
ويدخل على مَن قال هذا أن يقول الرجل إذا منحته نفسه: قد منحتنيني. ألا ترى أن القياس قد قبُح إذا وضعت ني في غير موضعها، فإذا ذكرتَ مفعولين كلاهما غائب فقلت أعطاهوها وأعطاهاه، جاز، وهو عربي. ولا عليك بأيّهما بدأت، من قبل أنهما كلاهما غائب.
وهذا أيضاً ليس بالكثير في كلامهم؛ والأكثر في كلامهم: أعطاه إياه. على أنه قد قال الشاعر:
وقد جعلتْ نفسي تطيبُ لضَغمةٍ ... لضغمِهِماها يقرعُ العَظمَ نابُها
ولم تستحكم العلامات ها هنا كما لم تستحكم في: عجبت من ضَربي إيّاك، ولا في كان إياه، ولا في ليس إياه.
وتقول: حسبتُك إياه، وحسبتني إياه؛ لأن حسبتُنيه وحسبتُكَه قليل في كلامهم؛ وذلك لأن حسبتُ بمنزلة كان، إنما يدخلان على المبتدأ والمبني عليه، فيكونان في الاحتياج على حال.
ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما كما لا تقتصر عليه مبتدأ. والمنصوبان بعد حسبتُ بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان. وكذلك الحروف التي بمنزلة حسبتُ وكان؛ لأنهما إنما يجعلان المبتدأ والمبني عليه فيما مضى يقيناً أو شكّاً أو عِلماً، وليس بفعل أحدثته منك الى غيرك كضربتُ وأعطيتُ، إنما يجعلان الأمر في علمك يقيناً أو شكّاً فيما مضى.
ولا يجوز أن تقول ضربتُني ولا ضربتُ إيّاي، لا يجوز واحدٌ منهما لأنهم قد استغنوا عن ذلك بضربتُ نفسي وإيّاي ضربتُ.
؟باب لا تجوز فيه علامة المضمَر
المخاطَب ولا علامة المضمَر المتكلم، ولا علامة المضمَر المحدَّث عنه الغائب
وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول للمخاطَب: اضرِبْكَ، ولا اقتُلْكَ ولا ضربْتَك، لما كان المخاطب فاعلاً وجعلت مفعوله نفسه قبُح ذلك، لأنهم استغنوا بقولهم اقتُل نفسك وأهلكتَ نفسك، عن الكاف ها هنا وعن إياك.
وكذلك المتكلم، لا يجوز له أن يقول أهلكتُني ولا أُهلكُني لأنه جعل نفسه مفعوله فقبُح؛ وذلك لأنهم استغنوا بقولهم أنفعُ نفسي عن ني، وعن إياي.
وكذلك الغائب لا يجوز لك أن تقول ضربه إذا كان فاعلاً وكان مفعوله نفسه؛ لأنهم استغنوا عن الهاء وعن إياه بقولهم ظلم نفسه وأهلك نفسه، ولكنه قد يجوز ما قبح ها هنا في حسبتُ وظننت وخلتُ، وأُرى وزعمتُ، ورأيت إذا لم تعنِ رؤية العين، ووجدتُ إذا لم ترد وجدان الضالة، وجميع حروف الشك، وذلك قولك: حسبتُني وأراني ووجدتُني فعلت كذا وكذا، ورأيتُني لا يستقيم لي هذا. وكذلك ما أشبه هذه الأفعال، تكون حال علامات المضمَرين المنصوبين فيها إذا جعلت فاعليهم أنفسهم كحالها إذا كان الفاعل غير المنصوب.
ومما يثبت علامة المضمَرين المنصوبين ها هنا أنه لا يحسن إدخال النفس ها هنا. لو قلت يظن نفسه فاعلةً وأظن نفسي فاعلةً على حد يظنه وأظنني ليُجزئَ هذا من ذا لم يُجزئ كما أجزأ أهلكتَ نفسك عن أهلكتَك، فاستُغنى به عنه.
وإنما اقترفتْ حسبتُ وأخواتها والأفعال الأُخَر لأن حسبت وأخواتها إنما أدخلوها على مبتدأ ومبني عليه لتجعل الحديث شكاً أو علماً. ألا ترى أنك لا تقتصر على المنصوب الأول كما لا تقتصر عليه مبتدأ، والأفعال الأخَر إنما هي بمنزلة اسم مبتدأ والأسماء مبنية عليها. ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم كما تقتصر على المبني على المبتدأ، فلما صارت حسبتُ وأخواتُها بتلك المنزلة جُعلتْ بمنزلة إن وأخواتها إذا قلت إنني ولعلّني ولكنني وليتني، لأن إن وأخواتها لا يُقتصر فيها على الاسم الذي يقع بعدها لأنها إنما دخلت على مبتدأ ومبني على مبتدأ.
وإذا أردت برأيتُ رؤية العين لم يجز رأيتُني؛ لأنها حينئذ بمنزلة ضربْتُ. وإذا أردتَ التي بمنزلة علمتُ صارت بمنزلة إن وأخواتها، لأنهن لسن بأفعال، وإنما يجئن لمعنى. وكذلك هذه الأفعال إنما جئن لعلمٍ أو شك، ولم يُردْ فعلاً سلف منه الى إنسان يبتدئه.
؟

باب علامة إضمار المنصوب
المتكلم والمجرور المتكلم
اعلم أن علامة إضمار المنصوب المتكلم ني، وعلامة إضمار المجرور المتكلم الياء. ألا ترى أنك تقول إذا أضمرتَ نفسك وأنت منصوب: ضربني وقتلني، وإنني ولعلني.
وتقول إذا أضمرت نفسك مجروراً: غلامي، وعندي ومعي.

فإن قلت: ما بال العرب قد قالت: إني وكأني ولعلي ولكني؟ فإنه زعم أن هذه الحروف اجتمع فيها أنها كثيرة في كلامهم، وأنهم يستثقلون في كلامهم التضعيف، فلما كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف، حذفوا التي تلي الياء.
فإن قلت: لعلي ليس فيها نون. فإنه زعم أن اللام قريب من النون، وهو أقرب الحروف من النون. ألا ترى أن النون قد تُدغَم مع اللام حتى تبدَل مكانها لام، وذلك لقربها منها، فحذفوا هذه النون كما يحذفون ما يكثر استعمالهم إياه.
وسألته رحمه الله عن الضاربي فقال: هذا اسم، ويدخله الجرّ، وإنما قالوا في الفعل: ضربني ويضربني، كراهية أن يدخلوا الكسرة في هذه الباء كما تدخل الأسماء، فمنعوا هذا أن يدخله كما مُنع الجر.
فإن قلت: قد تقول اضرِب الرجل فتكسرُ، فإنك لم تكسرها كسراً يكون للأسماء، إنما يكون هذا لالتقاء الساكنين. قد قال الشعراء: ليتي إذا اضطروا، كأنهم شبهوه بالاسم حيث قالوا الضاربي والمضمَر منصوب. قال الشاعر زيد الخليل:
كمُنية جابرٍ إذ قال ليتي ... أصادفه وأفقدُ جلَّ مالي
وسألته رحمه الله عن قولهم عني وقدْني، وقطْني ومني ولدُنّي، فقلت: ما بالهم جعلوا علامة إضمار المجرور ها هنا كعلامة إضمار المنصوب؟ فقال: إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة إلا كان متحرّكاً مكسوراً، ولم يريدوا أن يحركوا الطاء التي في قطْ ولا النون التي في مِن، فلم يكن لهم بدّ من أن يجيئوا بحرف لياء الإضافة متحرك إذ لم يريدوا أن يحركوا الطاء ولا النونات؛ لأنها لا تئكَر أبداً إلا وقبلها حرف متحرك مكسور. وكانت النون أولى لأن من كلامهم أن تكون النون والياء علامة المتكلم؛ فجاءوا بالنون لأنها إذا كانت مع الياء لم تخرج هذه العلامة من علامات الإضمار وكرهوا أن يجيئوا بحرف غير النون فيخرجوا من علامات الإضمار.
وإنما حملهم على أن لا يحركوا الطاء والنونات كراهيةُ أن تشبه الأسماء نحو يدٍ وهَنٍ. وأما ما تحرّك آخره فنحو مع ولدُ كتحريك أواخر هذه الأسماء؛ لأنه إذا تحرك آخره فقد صار كأواخر هذه الأسماء. فمن ثمّ لم يجعلوها بمنزلتها. فمن ذلك قولك معي، ولدي في لَدُ.
وقد جاء في الشعر: قطِي وقَدي. فأما الكلام فلابدّ فيه من النون، وقد اضطرّ الشاعر فقال قدِي، شبّهه بحسبي؛ لأن المعنى واحد. قال الشاعر:
قدْني من نصر الخُبيبَين قدِي ... ليس الإمامُ بالشحيح المُلحدِ
لما اضطرّ شبهه بحسبي وهَني؛ لأن ما بعد هنٍ وحسب مجرور كما أن ما بعد قد مجرور، فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء، كما قال ليتي حيث اضطرّ فشبّهه بالاسم نحو الضاربي؛ لأن ما بعدهما في الإظهار سواء، فلما اضطرّ جُعل ما بعدهما في الإضمار سواءً.
وسألناه رحمه الله عن إلى ولدى وعلى فقلنا: هذه الحروف ساكنة، ولا ترى النون دخلتْ عليها. فقال: من قبل أن الألف في لدى والياء في على اللذين قبلهما حرف مفتوح لا تحرّكُ في كلامهم واحدة منهما لياء الإضافة، ويكون التحريك لازماً لياء الإضافة، فلما علموا أن هذه المواضع ليس لياء الإضافة عليها سبيلٌ بتحريك، كما كان لها السبيل على سائر حروف المُعجم لم يجيئوا بالنون، إذ علموا أن الياء في ذا الموضع والألف ليستا من الحروف التي تحرّك لياء الإضافة.
ولو أضفت الى الياء الكاف التي تجرّ بها لقلت: ما أنت كِي، والفتح خطأ وهي متحركة كما أن أواخر الأسماء متحركة، وهي تجرّ كما أن الأسماء تجرّ، ولكن العرب قلما تكلموا بذا.
وأما قطْ وعن ولدُن فإنهن تباعدنَ من الأسماء، ولزمهن ما لا يدخل الأسماء المتمكنة، وهو السكون، وإنما يدخل ذلك على الفعل نحو خُذْ وزِنْ، فضارعت الفعل وما لا يُجَرّ أبداً، وهو ما أشبه الفعل، فأجريت مجراه ولم يحرّكوه.
؟

هذا باب
ما يكون مضمَراً فيه الاسم متحولاً عن حاله
إذا أُظهر بعده الاسم
وذلك لولاك ولولاي، إذا أضمرت الاسم فيه جُرّ، وإذا أظهرت رُفع. ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت لولا أنت، كما قال سبحانه: " لولا أنتم لكنّا مؤمنين " ؛ ولكنهم جعلوه مضمَراً مجروراً.
والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامةَ مضمَر مرفوع. قال الشاعر، يزيد بن الحكَم:
وكم موطنٍ لولايَ طِحتَ كما هوى ... بأجرامه من قُلةِ النّيقِ مُنهَوي

وهذا قول الخليل رحمه الله ويونس.
وأما قولهم: عساك فالكاف منصوبة. قال الراجز، وهو رؤبة: يا أبتا علّك أو عساكا والدليل على أنها منصوبة أنك إذا عنيت نفسك كانت علامتُك ني. قال عمران بن حطآن:
ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ... تُنازعني لعلّي أو عساني
فلو كانت الكاف مجرورة لقال عساي، ولكنهم جعلوها بمنزلة لعلّ في هذا الموضع.
فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال كما كان للدُنْ حالٌ مع غُدوة ليست مع غيرها، وكما أن لات إذا لم تُعملها في الأحيان لم تعملها فيما سواها، فهي معها بمنزلة ليس، فإذا جاوزتها فليس لها عمل. ولا يستقيم أن تقول وافق الرفعُ الجرَّ في لولاي، كما وافق النصبُ الجرّ حين قلت: معك وضربَك؛ لأنك إذا أضفت الى نفسك اختلفا، وكان الجر مفارِقاً للنصب في غير الأسماء. ولا تقل: وافق الرفعُ النصبَ في عساني كما وافق النصبُ الجرّ في ضرْبَك ومعك، لأنهما مختلفان إذا أضفت الى نفسك كما ذكرتُ لك.
وزعم ناس أن الياء في لولاي وعساني في موضع رفع، جعلوا لولاي موافقةً للجرّ، وني موافقةً للنصب، كما اتفق الجرّ والنصب في الهاء والكاف. وهذا وجه رديء لما ذكرت لك، ولأنك لا ينبغي لك أن تكسر الباب وهو مطّرد وأنت تجد له نظائر. وقد يوجَّه الشيء على الشيء البعيد إذا لم يوجَد غيره. وربما وقع ذلك في كلامهم، وقد بُيّن بعض ذلك وستراه فيما تستقبل إن شاء الله.
؟باب ما تردّه علامةُ الإضمار الى أصله
فمن ذلك قولك: لعبد الله مالٌ، ثم تقول لك مالٌ وله مال، فتفتح اللام، وذلك أن اللام لو فتحوها في الإضافة لالْتبستْ بلام الابتداء إذا قال إن هذا لعليّ ولهذا أفضل منك، فأرادوا أن يميزوا بينهما، فلما أضمروا لم يخافوا أن تلتبس بها، لأن هذا الإضمار لا يكون للرفع ويكون للجرّ. ألا تراهم قالوا: يا لَبكرٍ، حين نادوا؛ لأنهم قد علموا أن تلك اللام لا تدخل ها هنا.
وقد شبّهوا به قولهم: أعطيتُكموه، في قول من قال: أعطيتُكم ذلك فيجزم، ردّه بالإضمار الى أصله، كما ردّه بالألف واللام، حين قال: أعطيتُكم اليوم، فشبّهوا هذا بلكَ وله وإن كان ليس مثله، لأن من كلامهم أن يشبهوا الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله. وقد بيّنّا ذلك فيما مضى، وستراه فيما بقي.
وزعم يونس أنه يقول: أعطيتُكُمْهُ وأعطيتُكُمْها، كما يقول في المظهر. والأول أكثر وأعرف.
باب ما يحسن أن يشرك المظهر المضمَر
فيما عمل وما يقبح أن يشرك المظهر المضمَر فيما عمل فيه.
أما ما يحسن أن يشركه المظهر فهو المضمر المنصوب، وذلك قولك: رأيتك وزيداً، وإنك وزيداً منطلقان.
وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو المضمر في الفعل المرفوع وذلك قولك: فعلت وعبدُ الله، وأفعل وعبدُ الله.
وزعم الخليل أن هذا إنما قبح من قبل أن هذا الإضمار يُبنى عليه الفعل، فاستقبحوا أن يشرك المظهر مضمَراً يغيّر الفعل عن حاله إذا بعد منه.
وإنما حسنتْ شِركتُه المنصوب لأنه لا يغيَّر الفعل فيه عن حاله التي كان عليها قبل أن يضمر، فأشبه المظهر وصار منفصلاً عندهم بمنزلة المظهر، إذ كان الفعل لا يتغيّر عن حاله قبل أن يضمَر فيه.
وأما فعلتُ فإنهم قد غيّروه عن حاله في الإظهار، أُسكنتْ فيه اللام فكرهوا أن يشرك المظهر مضمَراً يُبنى له الفعل غير بنائه في الإظهار حتى صار كأنه شيء في كلمة لا يفارقها كألف أعطيتُ.
فإن نعتّه حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيدٌ، وقال الله عزّ وجلّ: " اذهبْ أنت وربُّك " و: " اسكُنْ أنت وزوجُك الجنة " . وذلك أنك لما وصفتَه حسن الكلام حيث طوّله وأكّده كما قال: قد علمتُ أن لا تقول ذاك، فإن أخرجتَ لا قبُح الرفع.
فأنت وأخواتها تقوّي المضمَر وتصير عوضاً من السكون والتغيير ومِن ترك العلامة في مثل ضربَ. وقال الله عزّ وجلّ: " لو شاء اللهُ ما أشركنا ولا آباؤُنا ولا حرّمنا " ، حسُن لمكان لا. وقد يجوز في الشعر، قال الشاعر:
قلتُ إذ أقبلتْ وزُهْرٌ تَهادى ... كنعاجِ الملا تعسّفْنَ رملا

واعلم أنه قبيح أن تصف المضمَر في الفعل بنفسك وما أشبهه؛ وذلك أنه قبيح أن تقول فعلتَ نفسُك، إلا أن تقول: فعلت أنت نفسُك. وإن قلت فعلتم أجمعون حسن؛ لأن هذا يعمّ به. وإذا قلت نفسُك فإنما تريد أن تؤكد الفاعل، ولما كانت تفسُك يتكلم بها مبتدأة وتحمل على ما يُجرّ ويُنصب ويُرفع، شبهوها بما يشرك المضمَر، وذلك قولك: نزلتُ بنفس الجبل، ونفس الجبل مُقابلي، ونحو ذلك.
وأما الأجمعون فلا يكون في الكلام إلا صفة.
وكلُّهم قد تكون بمنزلة أجمعين لأن معناها معنى أجمعين، فهي تجري مجراها.
وأما علامة الإضمار التي تكون منفصلة من الفعل ولا تغيّر ما عمل فيها عن حاله إذا أُظهر فيه الاسم فإنه يشركها المظهر؛ لأنه يشبه المظهر، وذلك قولك: أنت وعبدُ الله ذاهبان، والكريم أنت وعبدُ الله.
واعلم أنه قبيح أن تقول: ذهبت وعبدُ الله، وذهبتُ وعبدُ الله، وذهبت وأنا، لأن أنا بمنزلة المظهر. ألا ترى أن المظهر لا يشركه إلا أن يجيء في الشعر. قال الراعي:
فلما لحقنا والجيادُ عشيةً ... دعَوا يا لَكَلبٍ واعتزَيْنا لعامرِ
ومما يقبح أن يشركه المظهر علامةُ المضمَر المجرور، وذلك قولك: مررتُ بك وزيدٍ، وهذا أبوك وعمرٍو، كرهوا أن يشرك المظهر مضمَراً داخلاً فيما قبله؛ لأن هذه العلامة الداخلة فيما قبلها جمعتْ أنها لا يُتكلّم بها إلا معتمدة على ما قبلها، وأنها بدلٌ من اللفظ بالتنوين، فصارت عندهم بمنزلة التنوين، فلما ضعفتْ عندهم كرهوا أن يُتبعوها الاسمَ، ولم يجز أيضاً أن يُتبعوها إياه وإن وصفوا؛ لا يحسن لك أن تقول مررت بك أنت وزيدٍ كما جاز فيما أضمرتَ في الفعل نحو قمتَ أنت وزيد، لأن ذلك وإن كان قد أُنزل منزلة آخر الفعل، فليس من الفعل ولا من تمامه، وهما حرفان يستغني كلُ واحدٍ منهما بصاحبه كالمبتدأ والمبني عليه، وهذا يكون من تمام الاسم، وهو بدل من الزيادة التي في الاسم، وحال الاسم إذا أضيف إليه مثلُ حاله منفرداً، لا يستغنى به، ولكنهم يقولون: مررتُ بكُم أجمعين، لأن أجمعين لا يكون إلا وصفاً.
ويقولون: مررتُ بهم كلهم؛ لأن أحد وجهَيها مثلُ أجمعين.
وتقول أيضاً: مررتُ بك نفسك، لما أجزْتَ فيها ما يجوز في فعلتُم مما يكون معطوفاً على الأسماء احتملت هذا؛ إذ كانت لا تغيّر علامة الإضمار ها هنا ما عمل فيها، فضارعتْ ها هنا ما ينتصب، فجاز هذا فيها.
وأما في الإشراك فلا يجوز، لأنه لا يحسن الإشراكُ في فعلتَ وفعلتُم إلا بأنت وأنتم. وهذا قول الخليل رحمه الله وتفصيله عن العرب.
وقد يجوز في الشعر أن تُشرك بين الظاهر والمضمر على المرفوع والمجرور، إذا اضطرّ الشاعر.
وجاز قمتَ أنت وزيدٌ، ولم يجز مررتُ بك أنت وزيدٍ؛ لأن الفعل يستغني بالفاعل، والمضاف لا يستغني بالمضاف إليه، لأنه بمنزلة التنوين. وقد يجوز في الشعر. قال:
آبَكَ أيّهْ بي أو مُصدَّرِ ... من حُمُر الجلّة جأبٍ حَشْوَرِ
وقال الآخر:
فاليومَ قرّبتَ تهجونا وتشتمِنا ... فاذهبْ فما بك والأيامِ من عجبِ
؟

هذا باب
ما لا يجوز فيه الإضمارُ من حروف الجر
وذلك الكاف في أنت كزيد، وحتى، ومُذ.
وذلك لأنهم استغنوا بقولهم مثلي وشِبهي عنه فأسقطوه.
واستغنوا عن الإضمار في حتى بقولهم: رأيتُهم حتى ذاك، وبقولهم: دعْهُ حتى يوم كذا وكذا، وبقولهم: دعهُ حتى ذاك، وبالإضمار في الى إذا قال دعهُ إليه؛ لأن المعنى واحد، كما استغنوا بمثلي ومثله عن كي وكَهُ.
واستغنوا عن الإضمار في مُذ بقولهم: مذ ذاك؛ لأن ذاك اسمٌ مبهَم، وإنما يذكر حين يُظن أنه قد عرفت ما يعني. إلا أن الشعراء إذا اضطُروا أضمروا في الكاف، فيجرُونها على القياس. قال العجّاج: وأمَّ أوعالٍ كَها أو أقرَبا وقال العجّاج:
فلا ترى بعلاً ولا حلائلاً ... كَهُ ولا كهُنّ إلا حاظِلا
شبّهوه بقوله له ولهنّ.
ولو اضطرّ شاعر فأضاف الكاف الى نفسه قال: ما أنت كِي. وكَي خطأ؛ من قبل أنه ليس في العربية حرفٌ يُفتح قبل ياء الإضافة.
؟
باب ما تكون فيه أنت وأنا ونحن
وهو وهي وهم وهن وأنتنّ وهما وأنتما وأنتم وصفاً
اعلم أن هذه الحروف كلها تكون وصفاً للمجرور والمرفوع والمنصوب للمضمرين، وذلك قولك: مررتُ بك أنت، ورأيتُك أنت، وانطلقْتَ أنت.

وليس وصفاً بمنزلة الطويل إذا قلت مررتُ بزيدٍ الطويل، ولكنه بمنزلة نفسه إذا قلت مررتُ به نفسه وأتاني هو نفسه، ورأيتُه هو نفسَه. وإنما تريد بهنّ ما تريد بالنفس إذا قلت: مررتُ به هو هو، ومررت به نفسِه ولست تريد أن تحلّيه بصفة ولا قرابة كأخيك، ولكن النحويين صار ذا عندهم صفةً لأن حاله كحال الموصوف كما أن حال الطويل وأخيك في الصفة بمنزلة الموصوف في الإجراء، لأنه يلحقها ما يلحق الموصوفَ من الإعراب.
واعلم أن هذه الحروف لا تكون وصفاً للمظهر، كراهيةَ أن يصفوا المظهر بالمضمَر، كما كرهوا أن يكون أجمعون ونفسُه معطوفاً على النكرة في قولهم: مررتُ برجلٍ نفسِه ومررتُ بقوم أجمعين.
فإن أردت أن تجعل مضمَراً بدلاً من مضمَر قلت: رأيتُك إياك، ورأيتُه إيّاه. فإن أردت أن تبدل من المرفوع قلت: فعلتَ أنت، وفعل هو. فأنت وهو وأخواتهما نظائر إياه في النصب.
واعلم أن هذا المضمَر يجوز أن يكون بدلاً من المظهر، وليس بمنزلته في أن يكون وصفاً له؛ لأن الوصف تابع للاسم مثلُ قولك: رأيت عبدَ الله أبا زيد. فأما البدل فمنفرد كأنك قلت: زيداً رأيت أو رأيت زيداً ثم قلت إياه رأيت. وكذلك أنت وهو وأخواتُهما في الرفع.
واعلم أنه قبيح أن تقول مررتُ به وبزيدٍ هما، كما قبُح أن تصف المظهر والمضمَر بما لا يكون إلا وصفاً للمظهر. ألا ترى أنه قبيح أن تقول: مررتُ بزيدٍ وبه الظريفين. وإن أراد البدل قال: مررتُ به وبزيدٍ بهما؛ لابد من الباء الثانية في البدل.
؟

هذا باب من البدل أيضا
ً
وذلك قولك: رأيتُه إيّاه نفسَه، وضربتُه إيّاه قائماً.
وليس هذا بمنزلة قولك: أظنه هو خيراً منك، من قبل أن هذا موضع فصل، والمضمَر والمظهر في الفصل سواء. ألا ترى أنك تقول رأيت زيداً هو خيراً منك، وقال الله عزّ وجلّ: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزلَ إليك من ربّك هو الحقّ " . وإنما يكون الفصل في الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء. فأما ضربتُ وقتلتُ ونحوهما فإن الأسماء بعدها بمنزلة المبني على المبتدأ، وإنما تذكر قائماً بعد ما يستغني الكلام ويكتفي، وينتصب على أنه حال، فصار هذا كقولك: رأيته إيّاه يوم الجمعة. فأما نفسه حين قلت: رأيته إياه نفسه، فوصفٌ بمنزلة هو، وإياه بدل، وإنما ذكرتهما توكيداً، كقوله جلّ ذكره: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " ؛ إلا أن إياه بدلٌ والنفس وصف، كأنك قلت: رأيت الرجلَ زيداً نفسه، وزيد بدل ونفسه على الاسم. وإنما ذكرت هذا للتمثيل. وإنما كان الفصل في أظن ونحوها لأنه موضع يلزم فيه الخبر، وهو ألزم له من التوكيد؛ لأنه لا يجد منه بدّاً. وإنما فصل لأنك إذا قلت كان زيدٌ الظريف، فقد يجوز أن تريد بالظريف نعتاً لزيد، فإذا جئت بهو أعلمت أنها متضمنة للخبر. وإنما فصل لما لابد له منه، ونفسه يجزئ من إيّا، كما تُجزئ منه الصفة؛ لأنك جئت بها توكيداً وتوضيحاً، فصارت كالصفة.
ويدلك على بُعده أنك لا تقول أنت إياك خيرٌ منه. فإن قلت أظنه خيراً منه، جاز أن تقول إياه؛ لأن هذا ليس موضع فصل، واستغنى الكلام، فصار كقولك: ضربتُه إياه.
وكان الخليل يقول: هي عربية: إنك إياك خيرٌ منه. فإذا قلت إنك فيها إياك، فهو مثل أظنه خيراً منه، يجوز أن تقول: إياك.
ونظير إيّا في الرفع أنت وأخواتُها.
واعلم أنها في الفعل أقوى منها في إن وأخواتها. ويدلك على أن الفصل كالصفة، أنه لا يستقيم أظنه هو إياه خيراً منك إذا كان أحدهما لم يكن الآخر، لأن أحدهما يُجزئ من الآخر؛ لأن الفصل هو كالصفة، والصفة كالفصل.
وكذلك أظنه إياه هو خيراً منه؛ لأن الفصل يجزئ من التوكيد، والتوكيد منه.
؟
باب ما يكون فيه هو وأنت
وأنا ونحن وأخواتهن فصلا
ً

اعلم أنهن لا يكنّ فصلاً إلا في الفعل، ولا يكنّ كذلك إلا في كل فعل الاسم بعده بمنزلته في حال الابتداء، واحتياجه الى ما بعده كاحتياجه إليه في الابتداء. فجاز هذا في هذه الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء، إعلاماً بأنه قد فصل الاسم، وأنه فيما ينتظر المحدَّث ويتوقعه منه، مما لابد له من أن يذكره للمحدَّث؛ لأنك إذا ابتدأت الاسم فإنما تبتدئه لما بعده، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدأ لابد منه، وإلا فسد الكلام ولم يسغ لك، فكأنه ذكر هو ليستدلّ المحدَّث أن ما بعد الاسم ما يُخرجه مما وجب عليه، وأن ما بعد الاسم ليس منه. هذا تفسير الخليل رحمه الله.
وإذا صارت هذه الحروف فصلاً وهذا موضع فصلها في كلام العرب، فأجرِه كما أجروه. فمن تلك الأفعال: حسبتُ وخلْتُ وظننت ورأيت إذا لم ترد رؤية العين؛ ووجدتُ إذا لم ترد وجدانَ الضالة، وأُرى، وجعلتُ إذا لم ترد أن تجعلها بمنزلة عملت ولكن تجعلها بمنزلة صيّرته خيراً منك، وكان وليس وأصبح وأمسى.
ويدلك على أن أصبح وأمسى كذلك، أنك تقول أصبح أباك، وأمسى أخاك، فلو كانتا بمنزلة جاء وركب، لقبُح أن تقول أصبح العاقلَ وأمسى الظريفَ، كما يقبح ذلك في جاء وركب ونحوهما. فمما يدلّك على أنهما بمنزلة ظننتُ أنه يُذكر بعد الاسم فيهما ما يُذكر في الابتداء.
واعلم أن ما كان فصلاً لا يغيّر ما بعده عن حاله التي كان عليها قبل أن يُذكر، وذلك قولك: حسبتُ زيداً هو خيراً منك، وكان عبد الله هو الظريف، وقال الله عزّ وجلّ: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق " .
وقد زعم ناسٌ أن هو ها هنا صفة، فكيف يكون صفة وليس من الدنيا عربي يجعلها ها هنا صفة للمظهر. ولو كان ذلك كذلك لجاز مررتُ بعبد الله هو نفسه، فهو ها هنا مستكرهة لا يتكلم بها العرب لأنه ليس من مواضعها عندهم. ويدخل عليهم: إن كان زيد لهو الظريف، وإن كنا لنحن الصالحين. فالعرب تنصب هذا والنحويون أجمعون. ولو كان صفة لم يجز أن يدخل عليه اللام؛ لأنك لا تُدخلها في ذا الموضع على الصفة فتقول: إن كان زيد للظريف عاقلاً. ولا يكون هو ولا نحن ها هنا صفةً وفيهما اللام.
ومن ذلك قوله عز وجلّ: " ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم " ، كأنه قال: ولا يحسبنّ الذين يبخلون البُخل هو خيراً لهم. ولم يذكر البخل اجتزاء بعلم المخاطَب بأنه البخل، لذكره يبخلون.
ومثل ذلك قول العرب: " من كذب كان شراً له " ، يريد كان الكذب شراً له، إلا أنه استغنى بأن المخاطَب قد علم أنه الكذب، لقوله كذب في أول حديثه؛ فصار هو وأخواتُها هنا بمنزلة ما إذا كانت لغواً، في أنها لا تغيّر ما بعدها عن حاله قبل أن تُذكَر.
واعلم أنها تكون في إن وأخوتها فصلاً وفي الابتداء، ولكن ما بعدها مرفوع، لأنه مرفوع قبل أن تذكر الفصل.
واعلم أن هو لا يحسن أن تكون فصلاً حتى يكون ما بعدها معرفة أو ما أشبه المعرفة، مما طال ولم تدخله الألف واللام، فضارع زيداً وعمراً نحو خير منك ومثلك، وأفضل منك وشرّ منك، كما أنها لا تكون في الفصل إلا وقبلها معرفة أو ما ضارعها، كذلك لا يكون ما بعدها إلا معرفة أو ما ضارعها. لو قلت: كان زيد هو منطلقاً، كان قبيحاً حتى تذكر الأسماء التي ذكرتُ لك من المعرفة أو ما ضارعها من النكرة مما لا يدخله الألف واللام.
وأما قوله عزّ وجلّ: " إن ترني أنا أقلَّ منك مالاً وولداً " فقد تكون أنا فصلاً وصفة، وكذلك " وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظمَ أجراً " .
وقد جعل ناسٌ كثير من العرب هو وأخواتها في هذا الباب بمنزلة اسمٍ مبتدأ وما بعده مبني عليه، فكأنك تقول: أظنّ زيداً أبوه خيرٌ منه، ووجدتُ عمراً أخوه خيرٌ منه. فمن ذلك أنه بلغنا أن رؤبة كان يقول: أظن زيداً هو خيرٌ منك. وحدثنا عيسى أن ناساً كثيراً يقرؤونها: " وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمون " . وقال الشاعر، قيس بن ذريح:
تُبَكّي على لُبنى وأنت تركتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنت أقدرُ
وكان أبو عمرو يقول: إن كان لهو العاقل.
وأما قولهم: " كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه اللذان يهوّدانه وينصّرانه " ، ففيه ثلاثة أوجه: فالرفع وجهان والنصب وجه واحد.

فأحد وجهي الرفع أن يكون المولود مضمَراً في يكون، والأبوان مبتدآن، وما بعدهما مبني عليهما، كأنه قال: حتى يكون المولود أبواه اللذان يهوّدانه وينصّرانه. ومن ذلك قول الشاعر، رجل من بني عبس:
إذا ما المرء كان أبوه عبس ... فحسبُك ما تريد الى الكلام
وقال آخر:
متى ما يُفِد كسباً يكنْ كلُ كسبه ... له مطعمٌ من صدرِ يوم ومأكلُ
والوجه الآخر: أن تعمل يكون في الأبوين، ويكون هُما مبتدأ وما بعده خبراً له.
والنصب على أن تجعل هُما فصلا.
وإذا قلت: كان زيد أنت خيرٌ منه، وكنت أنا يومئذ خيرٌ منك فليس إلا الرفع؛ لأنك إنما تفصل بالذي تعني به الأول إذا كان ما بعد الفصل هو الأول وكان خبره، ولا يكون الفصل ما تعني به غيره. ألا ترى أنك لو أخرجت أنت لاستحال الكلام وتغيّر المعنى، وإذا أخرجت هو من قولك كان زيد هو خيراً منك لم يفسد المعنى.
وأما إذا كان ما بعد الفصل هو الأول قلت: هذا عبد الله هو خيرٌ منك، وضربتُ عبدَ الله هو قائمٌ، وما شأن عبد الله هو خيرٌ منك، فلا تكون هو وأخواتها فصلاً فيها وفي أشباهها ها هنا؛ لأن ما بعد الاسم ها هنا ليس بمنزلة ما يُبنى على المبتدأ، وإنما ينتصب على أنه حالٌ كما انتصب قائم في قولك: انظُر إليه قائماً. ألا ترى أنك لا تقول هذا زيد هو القائم، ولا ما شأنُك أنت الظريفُ. أوَلا ترى أن هذا بمنزلة راكبٍ في قولك مرّ زيدٌ راكباً.
فليس هذا بالموضع الذي يحسن فيه أن يكون هو وأخواتها فصلاً؛ لأن ما بعد الاسماء هنا لا يفسد تركُه الكلام، فيكون دليلاً على أنه فيما تكلمه به، وإنما يكون هو فصلاً في هذه الحال.
؟

باب لا تكون هو وأخواتها فيه فصلا
ولكن يكنّ بمنزلة اسم مبتدأ.
وذلك قولك: ما أظن أحداً هو خير منك، وما أجعلُ رجلاً هو أكرم منك، وما إخالُ رجلاً هو أكرمُ منك. لم يجعلوه فصلاً وقبله نكرة، كما أنه لا يكون وصفاً ولا بدلاً لنكرة، وكما أن كلهم وأجمعين لا يكرَّران على نكرة، فاستقبحوا أن يجعلوها فصلاً في النكرة كما جعلوها في المعرفة لأنها معرفة، فلم تصر فصلاً إلا لمعرفة كما لم تكن وصفاً ولا بدلاً إلا لمعرفة.
وأما أهل المدينة فينزلون هو ها هنا بمنزلته بين المعرفتين، ويجعلونها فصلاً في هذا الموضع. فزعم يونس أن أبا عمرو رآه لحناً، وقال: احتبى ابنُ مروان في ذِه في اللحن. يقول: لحنَ، وهو رجل من أهل المدينة، كما تقول: اشتمل بالخطأ، وذلك أنه قرأ: " هؤلاء بناتي هنّ أطهرَ لكم " ، فنصب.
وكان الخليل يقول: والله إنه لعظيمٌ جعلهم هو فصلاً في المعرفة وتصييرهم إياها بمنزلة ما إذا كانت ما لغواً، لأن هو بمنزلة أبوه، ولكنهم جعلوها في ذلك الموضع لغواً كما جعلوا ما في بعض المواضع بمنزلة ليس. وإنما قياسُها أن تكون بمنزلة كأنما وإنما. ومما يقوّي ترك ذلك في النكرة أنه لا يستقيم أن تقول: رجلٌ خيرٌ منك. ويقول: لا يستقيم أظن رجلاً خيراً منك، فإن قلت: لا أظن رجلاً خيراً منك فجيد بالغ. ولا تقول: أظن رجلاً خيراً منك، حتى تنفي وتجعله بمنزلة أحد، فلما خالفَ المعرفة في الواجب الذي هو بمنزلة الابتداء، لم يجرِ في النفي مجراه لأنه قبيح في الابتداء وفيما أجري مجراه من الواجب، فهذا مما يقوّي ترك الفصل.
؟
هذا باب أي
ّ
اعلم أن أيّاً مضافاً وغير مضاف بمنزلة مَن. ألا ترى أنك تقول: أيٌ أفضل، وأيُ القوم أفضلُ. فصار المضاف وغير المضاف يجريان مجرى مَن، كما أن زيداً وزيدَ مَناة يجريان مجرى عمرو، فحال المضاف في الإعراب والحُسن والقبح كحال المفرد. قال الله عز وجل: " أيّاً ما تدعو فله الأسماء الحُسنى " ؛ فحسُن كحسنه مضافاً.
وتقول: أيها تشاء لك، فتشاء صلةٌ لأيها حتى كمل اسماً، ثم بنيتَ لك على أيها، كأنك قلت: الذي تشاء لك. وإن أضمرت الفاء جاز وجزمت تشأ، ونصبت أيها. وإن أدخلتَ الفاء قلت: أيها تشأ فلك؛ لأنك إذا جازيت لم يكن الفعل وصلاً، وصار بمنزلته في الاستفهام إذا قلت أيها تشاء؟ وكذلك مَن تجري مجرى أيٍ في الذي ذكرنا وتقع موقعه.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن قولهم: اضربْ أيُّهم أفضل؟ فقال: القياس النصب، كما تقول: اضرب الذي أفضلُ، لأن أياً في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة الذي، كما أن مَن في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة الذي.

وحدّثنا هارون أن ناساً، وهم الكوفيون يقرؤونها: " ثم لننزِعنّ من كل شيعةٍ أيَّهم أشدُّ على الرحمن عُتيّا " ، وهي لغة جيدة، نصبوها كما جرّوها حين قالوا: امرُرْ على أيهم أفضلُ، فأجراها هؤلاء مجرى الذي إذا قلت: اضربِ الذي أفضلُ، لأنك تُنزل أياً ومَن منزلة الذي في غير الجزاء والاستفهام.
وزعم الخليل أن أيُّهم إنما وقع في اضربْ أيّهم أفضل على أنه حكاية، كأنه قال: اضرب الذي يقال له أيّهم أفضلُ، وشبهه بقول الأخطل:
ولقد أبيتُ من الفتاة بمنزلٍ ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ
وأما يونس فيزعم أنه بمنزلة قولك: أشهدُ إنك لَرسولُ الله.
واضربْ معلّقةٌ. وأرى قولهم: اضربْ أيهم أفضلُ على أنهم جعلوا هذه الضمة بمنزلة الفتحة في خمسةَ عشرَ، وبمنزلة الفتحة في الآنَ حين قالوا من الآنَ الى غدٍ، ففعلوا ذلك بأيهم حين جاء مجيئاً لم تجئ أخواته عليه إلا قليلاً، واستُعمل استعمالاً لم تُستعمله أخواته إلا ضعيفاً. وذلك أنه لا يكاد عربي يقول: الذي أفضل فاضربْ، واضربْ مَن أفضلُ، حتى يدخلَ هو. ولا يقول: هاتِ ما أحسنُ حتى يقول ما هو أحسن. فلما كانت أخواته مفارِقة له لا تستعمل كما يُستعمل خالفوا بإعرابها إذا استعملوه على غير ما استُعملت عليه أخواته إلا قليلاً. كما أن قولك: يا اللهُ حين خالف سائرَ ما فيه الألف واللام لم يحذفوا ألفَه، وكما أن ليس لمّا خالفت سائر الفعل ولم تصرّف تصرّف الفعل تُركت على هذه الحال.
وجاز إسقاط هو في أيهم كما كان: لا عليك، تخفيفاً، ولم يجزْ في أخواته إلا قليلاً ضعيفاً.
وأما الذين نصبوا فقاسوه وقالوا: هو بمنزلة قولنا اضربِ الذين أفضلُ، إذا أثرنا أن نتكلم به. وهذا لا يرفعه أحد.
ومن قال: امرُرْ على أيّهم أفضل قال: امرُرْ بأيهم أفضل؛ وهما سواء. فإذا جاء أيهم مجيئاً يحسن على ذلك المجيء أخواته ويكثر رجع الى الأصل والى القياس، كما ردوا ما زيدٌ إلا منطلقٌ الى الأصل والى القياس.
وتفسير الخليل رحمه الله ذلك الأول بعيد، إنما يجوز في شعر أو في اضطرار. ولو ساغ هذا في الأسماء لجاز أن تقول: اضربِ الفاسقُ الخبيثُ تريد الذي يقال له الفاسقُ الخبيثُ.
وأما قول يونس فلا يشبه أشهد إنك لمنطلق. وسترى بيان ذلك في باب إن وأن إن شاء الله.
ومن قولهما: اضربْ أيٌ أفضلُ. وأما غيرهما فيقول: اضربْ أياً أفضلُ. ويقيس ذا على الذي وما أشبهه من كلام العرب، ويسلّم في ذلك المضاف الى قول العرب ذلك، يعني أيهم، وأجروا أياً على القياس.
ولو قالت العرب اضربْ أيٌ أفضلُ لقلته، ولم يكن بدٌ من متابعتهم. ولا ينبغي لك أن تقيس على الشاذ المنكر في القياس، كما أنك لا تقيس على أمس أمسك، ولا على أيقول، ولا سائر أمثلة القول، ولا على الآن أنَك. وأشبه هذا كثير.
ولو جعلوا أياً في الانفراد بمنزلته مضافاً لكانوا خُلقاء إن كان بمنزلة الذي معرفةً أن لا ينوّن؛ لأن كل اسم ليس يتمكن لا يدخله التنوين في المعرفة ويدخله في النكرة. وسترى بيان ذلك فيما ينصرف ولا ينصرف إن شاء الله.
وسألته رحمه الله عن أيّي وأيُّك كان شراً فأخزاه الله؟ فقال: هذا كقولك: أخزى الله الكاذب مني ومنك، إنما يريد منا. وكقولك: هو بيني وبينك، تريد هو بيننا. فإنما أراد أيُّنا كان شراً، إلا أنهما لم يشتركا في أي ولكنه أخلصَه لكل واحدٍ منهما. وقال الشاعر، العباس ابن مرداس:
فأيي ما وأيّك كان شراً ... فسيقَ الى المُقامةِ لا يراها
وقال خداشُ بن زهير:
ولقد علمتُ إذا الرجالُ تناهزوا ... أيي وأيّكمُ أعزُّ وأمنعُ
وقال خداش أيضاً:
فأيي وأيُّ ابنِ الحُصين وعثعثٍ ... غداةَ التقينا كان عندك أعذرا
؟باب مجرى أي مضافاً على القياس
وذلك قولك: اضربْ أيَّهم هو أفضل، واضرب أيَّهم كان أفضل، واضرب أيهم أبوه زيد. جرى ذا على القياس لأن الذي يحسن ها هنا.
ولو قلت: آضربْ أيهم عاقلٌ رفعت، لأن الذي عاقل قبيحة. فإذا أدخلتَ هو نصبتَ لأن الذي هو عاقل حسن. ألا ترى أنك لو قلت: هذا الذي هو عاقل، كان حسناً.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع عربياً يقول: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً. وهذه قليلة، ومن تكلم بهذا فقياسه اضربْ أيّهم قائل لك شيئاً.

قلت: أفيقال: ما أنا بالذي منطلق؟ فقال: لا. فقلت: فما بالُ المسألة الأولى؟ فقال: لأنه إذا طال الكلام فهو أمثلُ قليلاً، وكأن طولَه عوض من ترك هو. وقلّ من يتكلم بذلك.
؟باب أي مضافاً الى ما لا يكمل
اسماً إلا بصلة
فمن ذلك قولك: اضربْ أيُّ مَن رأيتَ أفضلُ. فمَن كمل اسماً برأيتَ فصار بمنزلة القوم، فكأنك قلت: أيُّ القوم أفضل، وأيهم أفضلُ، وكذلك أيُ الذين رأيت في الدار أفضلُ. وتقول: أي الذين رأيتَ في الدار أفضل؟ لأن رأيت من صلة الذين، وفيها متصلة برأيت، لأنك ذكرت موضع الرؤية، فكأنك قلت أيضاً: أي القوم أفضل وأيهم أفضل؛ لأن فيها لم تغيّر الكلام عن حاله. كما أنك إذا قلت: أيُ مَن رأيتَ قومَه أفضل؟ كان بمنزلة قولك: أيُ مَن رأيتَ أفضلُ. فالصلة معملةً وغيرَ معملةٍ في القوم سواءٌ.
وتقول: أيَّ من في الدار رأيت أفضلَ، وذاك لأنك جعلت في الدار صلة فتمّ المضاف إليه أيٌ اسماً، ثم ذكرتَ رأيت، فكأنك قلت: أي القوم رأيت أفضل، ولم تجعل في الدار ها هنا موضعاً للرؤية.
وتقول: أيُّ مَن في الدار رأيتَ أفضل، كأنك قلت: أيُ من رأيتَ في الدار أفضلُ. ولو قلت أيُ من في الدار رأيتَه زيدٌ، إذا أردت أن تجعل في الدار موضعاً للرؤية لجاز. ولو قلت: أيُ مَن رأيت في الدار أفضل، قدّمتَ أو أخّرتَ سواء.
وتقول في شيء منه آخر: أيُ مَن إن يأتنا نُعطه نُكرمه. فهذا إن جعلته استفهاماً فإعرابه الرفع، وهو كلام صحيح، من قبل أن يأتنا نعطِه صلةٌ لمَن فكمل اسماً. ألا ترى أنك تقول مَن إن يأتنا نعطِه بنو فلان، كأنك قلت: القومُ بنو فلان، ثم أضفتَ أياً إليه، فكأنك قلت: أيُ القوم نُكرمه وأيّهم نُكرمه؟ فإن لم تدخل الهاء في نُكرم نصبتَ، كأنك قلت: أيهم نُكرم.
فإن جعلتَ الكلام خبراً فهو محال؛ لأنه لا يحسن أن تقول في الخبر: أيّهم نُكرمه.
ولكنك إن قلت أيَّ مَن إن يأتنا نعطِه نُكرم تُهين، كان في الخبر كلاماً، لأن أيّهم بمنزلة الذي في الخبر، فصار نكرم صلةً، وأعملت تُهين، كأنك قلت: الذي نُكرمُ تُهين.
وتقول: أيَّ مَن إن يأتنا نُعطه نُكرم تُهن، كأنك قلت: أيَّهم نُكرِم تُهن.
وتقول: أيُ مَن يأتينا يريد صلتنا فنحدّثه، فيستحيل في وجه ويجوز في وجه.
فأما الوجه الذي يستحيل فهو أن يكون يريد في موضع مُريدٍ إذا كان حالاً فيه وقع الإتيان، لأنه معلّق بيأتينا، كما كان فيها معلّقاً برأيت في: أيُ مَن رأيت في الدار أفضل، فكأنك قلت: أيُهم فنحدثه. فهذا لا يجوز في خبر ولا استفهام.
وأما الوجه الذي يجوز فيه فأن يكون يريدُ مبنياً على ما قبله، ويكون يأتينا الصلة. فإن أردت ذلك كان كلاماً، كأنك قلت: أيّهم يريد صلتَنا فنحدّثه وفنحدّثه إن أردت الخبر.
وأما أيَّ مَن يأتينا فنحدّثه فهو محال. لأن أيَّهم فنحدثه محال. فإن أخرجت الفاء فقتل: أيَّ من يأتيني نُحدّثُه، فهو كلام في الاستفهام، محالٌ في الإخبار.
وتقول: أيَّ مَن إن لم يأته مَن إن يأتِنا نُعطه تأتِ يكرمْك. وذلك أن مَن الثانية صلتها إن يأتنا نعطه، فصار بمنزلة زيد، فكأنك قلت: أيّ مَن إن يأته زيدٌ يُعطه تأتِ يكرمْك، فصار إن يأته زيدٌ يعطِه صلة لمن الأولى، فكأنك قلت: أيهم تأتِ يُكرمْك.
فجميع ما جاز وحسن في أيهم ها هنا جاز في: أي مَن إن يأته من إن يأتنا نعطه يُعطِه، لأنه بمنزلة أيهم.
وسألت الخليل رحمه الله عن قولهم: أيهنّ فلانة وأيتهنّ فلانة فقال: إذا قلت أيّ فهو بمنزلة كل لأن كلاً مذكّر يقع للمذكر والمؤنث وهو أيضاً بمنزلة بعض، فإذا قلت أيتهن فإنك أردت أن تؤنث الاسم، كما أن بعض العرب فيما زعم الخليل رحمه الله يقول: كلَّتهن منطلقة.
؟باب أي إذا كنتَ مستفهماً بها عن نكرة
وذلك أن رجلاً لو قال: رأيت رجلاً قلت: أياً؟ فإن قال: رأيت رجلين قلت: أيّيْن؟ وإن قال: رأيت رجالاً قلت: أيِّين؟ فإن ألحقتَ يا فتى في هذا الموضع فهي على حالها قبل أن تلحق يا فتى.
وإذا قال رأيت امرأة قلت: أيةً يا فتى؟ فإن قال: رأيتُ امرأتين قلت: أيَّتَين يا فتى؟ فإن قال: رأيتُ نسوةً قلت: أيّاتٍ يا فتى؟ فإن تكلم بجميع ما ذكرنا مجروراً جررتَ أياً، وإن تكلم به مرفوعاً رفعتَ أياً، لأنك إنما تسألهم على ما وضع عليه المتكلم كلامه.

قلت: فإن قال: رأيت عبدَ الله أو مررت بعبد الله؟ قال: فإن الكلام أن لا تقول أياً، ولكن تقول: مَن عبدُ الله؟ وأيٌ عبدُ الله؟ لا يكون إذا جئت بأي إلا الرفع، كما أنه لا يجوز إذا قال: رأيت عبدَ الله أن تقول مَنَا؟ وكذلك لا يجوز إذا قال رأيت عبدَ الله أن تقول أيّا؟ ولا تجوز الحكاية فيما بعد أي كما جاز فيما بعد مَن وذلك أنه إذا قال رأيت عبدَ الله قلت: أيٌ عبدُ الله؟ وإذا قال: مررتُ بعبد الله قلت: أيٌ عبدُ الله؟ وإنما جازت الحكاية بعد مَن في قولك مَن عبد الله، لأن أياً واقعة على كل شيء، وهي للآدميين. ومَن أيضاً مُسكّنةٌ في غير بابها، فكذلك يجوز أن تجعل ما بعد مَن في غير بابه.
؟باب مَن إذا كنت مستفهماً عن نكرة
اعلم أنك تثنّي مَن إذا قلت رأيت رجلين كما تثنّي أياً، وذلك قولك: رأيت رجلين، فتقول: مَنَيْن كما تقول أيّين. وأتاني رجلان فتقول: مَنان، وأتاني رجال فتقول: مَنون. وإذا قال: رأيت رجالاً قلت: مَنين، كما تقول أيِّين. وإن قلت رأيت امرأة قلت: مَنَهْ؟ كما تقول أيةً. فإن وصل قال مَن يا فتى، للواحد والاثنين والجميع. وإن قال رأيت امرأتين قلت مَنَتيْن كما قلت أيّتَين، إلا أن النون مجزومة. فإن قال: رأيت نساءَ قلت: مَناتْ كما قلت أيّاتٍ، إلا أن الواحد يخالف أياً في موضع الجرّ والرفع، وذلك قولك: أتاني رجلٌ فتقول مَنُو، وتقول مررت برجل فتقول مَني. وسنبين وجه هذه الواو والياء في غير هذا الموضع إن شاء الله.
فأيّ في موضع الجر والرفع إذا وقفتَ بمنزلة زيد وعمرو؛ وذلك لأن التنوين لا يلحق مَن في الصلة وهو يلحق أياً فصارت بمنزلة زيد وعمرو وأما مَن فلا ينوّن في الصلة، فجاء في الوقف مخالفاً.
وزعم الخليل أن مَنَهْ ومَنَتَيْن ومَنَيْن ومَناتْ ومَنِين كل هذا في الصلة مُسكن النون، وذلك أنك تقول إذا رأيت رجالاً أو نساءً أو امرأة أو امرأتين، أو رجلاً أو رجلين: مَني يا فتى.
وزعم الخليل رحمه الله أن الدليل على ذلك أنك تقول مَنو في الوقف، ثم تقول مَن ي فتى، فيصير بمنزلة قولك مَن قال ذاك؟ فتقول: مَن يا فتى إذا عنيت جميعاً، كأنك تقول مَن قال ذاك، إذا عنيت جماعةً. وإما فارق باب مَن باب أيّ أن أياً في الصلة يثبت فيه التنوين، تقول: أيٌ ذا وأيةٌ ذهْ.
وزعم أن من العرب، وقد سمعناه من بعضهم، من يقول: أيّونَ هؤلاء، وأيان هذان. فأيٌ قد تُجمع في الصلة وتضاف وتثنّى وتنوّن، ومَن لا يثنّى ويُجمع في الاستفهام ولا يضاف، وأيٌ منوّن على كل حال في الاستفهام وغيره، فهو أقوى.
وحدّثنا يونس أن ناساً يقولون أبداً: مَنَا ومَنِي ومَنو، عنيت واحداً أو اثنين أو جميعاً في الوقف. فمن قال هذا قال أياً وأيٍ وأيٌ إذا عنى واحداً أو جميعاً أو اثنين. فإن وصل نوّن أياً. وإنما فعلوا ذلك بمَن لأنهم يقولون: مَن قال ذاك؟ فيعنون ما شاءوا من العدد. وكذلك أيٌ، تقول أيٌ يقول ذاك؟ فتعني بها جميعاً وإن شاء عنى اثنين.
وأما يونس فإنه كان يقيس مَنَهْ على أية، فيقول: مَنَةٌ ومنةً ومنةٍ، إذا قال يا فتى. وكذلك ينبغي له أن يقول إذا أثر أن لا يغيّرها في الصلة.
وهذا بعيد، وإنما يجوز هذا على قول شاعر قاله مرة في شعر ثم لم يُسمع بعدُ:
أتَوا ناري فقلت مَنونَ أنتم ... فقالوا الجِنُّ قلت عِموا ظلاما
وزعم يونس أنه سمع أعرابياً يقول: ضرب مَنٌ مَناً؟ وهذا بعيد لا تكلّم به العرب ولا يستعمله منهم ناس كثير. وكان يونس إذا ذكرها يقول لا يقبل هذا كلُ أحد. فإنما يجوز مَنونَ يا فتى على ذا.
وينبغي لهذا أن لا يقول مَنو في الوقف، ولكن يجعله كأي. وإذا قال رأيت امرأةً ورجلاً، فبدأت في المسألة بالمؤنّث قلت: مَن ومَنا؛ لأنك تقول مَن يا فتى في الصلة في المؤنث. وإن بدأت بالمذكّر قلت مَن ومَنَهْ؟ وإنما جُمعت أيٌ في الاستفهام ولم تُجمع في غيره لأنه إنما الأصل فيها الاستفهام، وهي فيه أكثر في كلامهم، وإنما تشبه الأسماء التامة التي لا تحتاج الى صلة في الجزاء وفي الاستفهام. وقد تشبّه مَن بها في هذه المواضع لأنها تجري مجراها فيها. ولم تقوَ قوةَ في أيٍ لما ذكرت لك، ولما يدخلها من التنوين والإضافة.
؟باب ما لا تحسن فيه مَن
كما تحسُن فيما قبله

وذلك أنه لا يجوز أن يقول الرجل: رأيت عبدَ الله، فتقول مَنَا، لأنه إذا ذكر عبد الله فإنما يذكر رجلاً تعرفه بعينه، أو رجلاً أنت عنده ممن يعرفه بعينه فإنما تسأله على أنك ممن يعرفه بعينه، إلا أنك لا تدري الطويلُ هو أم القصير أم ابنُ زيد أم ابن عمرو؟ فكرهوا أن يُجرى هذا مجرى النكرة إذا كانا مفترقين. وكذلك رأيته ورأيت الرجل، لا يحسن لك أن تقول فيهما إلا مَن هو ومنِ الرجل.
وقد سمعنا من العرب من يقال له ذهبنا معهم فيقول: مع مَنِينْ؟ وقد رأيته، فيقول: مَنا أو رأيت مَنا. وذلك أنه سأله على أن الذين ذكر ليسوا عنده ممن يعرفه بعينه، وأن الأمر ليس على ما وضعه عليه المحدِّث، فهو ينبغي له أن يسأل في ذا الموضع كما سأل حين قال رأيت رجلاً.
؟

باب اختلاف العرب في الاسم
المعروف الغالب إذا استفهمت عنه بمَن
اعلم أن أهل الحجاز يقولون إذا قال الرجل رأيت زيداً: مَن زيداً؟ وإذا قال مررتُ بزيد قالوا: مَن زيد؟ وإذا قال: هذا عبد الله قالوا: من عبد الله؟ وأما بنو تميم فيرفعون على كل حال. وهو أقيسُ القولين.
فأما أهل الحجاز فإنهم حملوا قولهم على أهم حكوا ما تكلم به المسئول، كما قال بعض العرب: دعنا من تَمْرتان، على الحكاية لقوله: ما عنده تمرتان. وسمعتُ عربياً مرة يقول لرجل سأله فقال: أليس قُرشياً؟ فقال: ليس بقرشياً، حكايةً لقوله. فجاز هذا في الاسم الذي يكون علَماً غالباً على ذا الوجه، ولا يجوز في غير الاسم الغالب كما جاز فيه، وذلك أنه الأكثر في كلامهم، وهو العلَم الأول الذي به يتعارفون. وإنما يُحتاج الى الصفة إذا خاف الالتباس من الأسماء الغالبة. وإنما حكى مبادرة للمسئول، أو توكيداً عليه أنه ليس يسأله عن غير هذا الذي تكلم به. والكُنية بمنزلة الاسم.
وإذا قال: رأيت أخا خالد لم يجز مَن أخا خالد إلا على قول من قال: دعنا مِن تمرتان، وليس بقرشياً. والوجه الرفع لأنه ليس باسم غالب.
وقال يونس: إذا قال رجلٌ: رأيت زيداً وعمراً، أو زيداً وأخاه، أو زيداً أخا عمرو، فالرفع يردّه الى القياس والأصل إذا جاوز الواحد، كما تُردّ ما زيدٌ إلا منطلقٌ الى الأصل. وأما ناسٌ فإنهم قاسوه فقالوا: تقول مَن أخو زيد وعمرو، ومن عمراً وأخا زيدٍ، تُتبع الكلام بعضه بعضاً. وهذا حسن.
فإذا قالوا مَن عمراً ومن أخو زيد، رفعوا أخاً زيد، لأنه قد انقطع من الأول بمن الثاني الذي مع الأخ، فكأنك قلت مَن أخو زيد؟ كما أنك تقول تبّاً له وويلاً؛ وتباً له وويلٌ له.
وسألت يونس عن: رأيت زيدَ بنَ عمرو فقال: أقول مَن زيدَ ابن عمرو؛ لأنه بمنزلة اسم واحد. وهكذا ينبغي، إذا كنت تقول يا زيدَ ابن عمرو، وهذا زيدُ بن عمرو، فتسقط التنوين. فأما مَن زيدٌ الطويل فالرفع على كل حال؛ لأن أصل هذا جرى للواحد لتعرّفه له بالصفة، فلما جاوز ذلك ردّه الى الأعرف. ومَن نوّن زيداً جعل ابن صفةً منفصلة ورفع في قول يونس. فإذا قال رأيت زيداً قال: أيٌ زيدٌ، فليس فيه إلا الرفع، يُجريه على القياس. وإنما جازت الحكاية في مَن لأنهم لمَن أكثر استعمالاً وهم مما يغيّرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره. وإن أدخلت الواو والفاء في مَن فقلت: فمَن أو وَمَنْ، لم يكن فيما بعده إلا الرفع.
؟باب مَن إذا أردت أن يضاف لك
مَن تسأل عنه
وذلك قولك: رأيت زيداً، فتقول: المَنيَّ. فإذا قال رأيت زيداً وعمراً قلت: المَنيَّيْن. فإذا ذكر ثلاثة قلت: المَنيِّينْ، وتحمل الكلام على ما حمل عليه المسئول إن كان مجروراً أو منصوباً أو مرفوعاً، كأنك قلت: القُرشيَّ أم الثّقَفيّ. فإن قال القرشيّ نصب، وإن شاء رفع على هو، كما قال صالحٌ في: كيف كنتَ؟ فإن كان المسئول عنه من غير الإنس فالجواب الهَنُ والهنَةُ، والفلانُ والفلانة؛ لأن ذلك كناية عن غير الآدميين.
؟باب إجرائهم صلةَ مَن وخبره
إذا عنيت اثنين صلة اللذين، وإذا عنيت جميعاً كصلة الذين
فمن ذلك قوله عز وجل: " ومنهم من يستعمون إليك " . ومن ذلك قول العرب فيما حدثنا يونس: مَن كانت أمَّك وأيُّهنّ كانت أمَّك، ألحق تاء التأنيث لما عنى مؤنثاً كما قال: يستعمون إليك حين عنى جميعاً.

وزعم الخليل رحمه الله أن بعضهم قرأ: " ومَن تقنُتْ منكنّ لله ورسوله " ، فجُعلت كصلة التي حين عنيتَ مؤنثاً. فإذا ألحقت التاء في المؤنث ألحقت الواو والنون في الجميع. قال الشاعر حين عنى الإثنين، وهو الفرزدق:
تعال فإنْ عاهدتَني لا لا تخونُني ... نكنْ مثلَ مَن يا ذئبُ يصطحبان
؟

باب إجرائهم ذا وحده بمنزلة الذي
وليس يكون كالذي إلا مع ما ومَن في الاستفهام، فيكون ذا بمنزلة الذي ويكون ما حرف الاستفهام، وإجرائهم إياه مع ما بمنزلة اسم واحد.
أما إجراؤهم ذا بمنزلة الذي فهو قولك: ماذا رأيت؟ فيقول: متاعٌ حسنٌ. وقال الشاعر، لبيد بن ربيعة:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنَحْبٌ فيُقضى أم ضَلال وباطلُ
وأما إجراؤهم إياه مع ما بمنزلة اسم واحد فهو قولك: ماذا رأيت؟ فتقول: خيراً؛ كأنك قلت: ما رأيت؟ ومثل ذلك قولهم: ماذا ترى؟ فنقول: خيراً. وقال جلّ ثناؤه: " ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً " . فلو كان ذا لغواً لما قالت العرب: عمّاذا تسأل؟ ولقالوا: عمّ ذا تسأل، كأنهم قالوا: عمّ تسأل، ولكنهم جعلوا ما وذا اسماً واحداً، كما جعلوا ما وإن حرفاً واحداً حين قالوا: إنما.
ومثل ذلك كأنما وحيثما في الجزاء.
ولو كان ذا بمنزلة الذي في ذا الموضع البتة لكان الوجه في ماذا رأيت إذا أجاب أن يقول: خيرٌ. وقال الشاعر، وسمعنا بعض العرب يقول:
دعي ماذا عملتِ سأتّقيهِ ... ولكنْ بالمغيّب نبّئيني
فالذي لا يجوز في هذا الموضع، وما لا يحسن أن تُلغيها.
وقد يجوز أن يقول الرجل: ماذا رأيت؟ فيقول: خيرٌ، إذا جعلت ما وذا اسماً واحداً كأنه قال: ما رأيت خيرٌ، ولم يُجبه على رأيت.
ومثل ذلك قولهم في جواب كيف أصبحت؟ فيقول: صالحٌ، وفي مَن رأيت فيقول: زيدٌ، كأنه قال: أنا صالح ومن رأيت زيدٌ. والنصب في هذا الوجه، لأنه الجواب، على كلام المخاطَب، وهو أقرب الى أن تأخذ به. وقال عزّ وجلّ: " ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطيرُ الأولين " . وقد يجوز أن تقول إذا قلت من الذي رأيتَ: زيداً؛ لأن ها هنا معنى فعل فيجوز النصب ها هنا كما جاز الرفعُ في الأول.
؟
باب ما تلحقه الزيادة في الاستفهام
إذا أنكرتَ أن تُثبت رأيَه على ما ذكر أو تنكر أن يكون رأيه على خلاف ما ذكر.
فالزيادة تتبع الحرف الذي هو قبلها، الذي ليس بينه وبينها شيء. فإن كان مضموماً فهو واو، وإن كان مكسوراً فهي ياء، وإن كان مفتوحاً فهي ألف، وإن كان ساكناً تحرّك، لئلا يسكن حرفان، فيتحرك كا يتحرك في الألف واللام والساكن مكسوراً، ثم تكون الزيادة تابعةً له.
فمما تحرّك من السواكن كما وصفتُ لك وتبعته الزيادةُ قول الرجل: ضربت زيداً، فتقول منكِراً لقوله: أزيدَنيه. وصارت هذه الزيادة علَماً لهذا المعنى، كعلَم الندبة، وتحركت النون لأنها ساكنة، ولا يسكن حرفان.
فإن ذكر الاسم مجروراً جررته، أو منصوباً نصبته، أو مرفوعاً رفعته، وذلك قولك إذا قال: رأيت زيداً: أزيدَنيه؟ وإذا قال مررتُ بزيد: أزيدِنيه؟ وإذا قال هذا زيدٌ: أزيدُنيه؟، لأنك إنما تسأل عما وضع كلامه عليه.
وقد يقول لك الرجل: أتعرف زيداً؟ فتقول: أزيدَنيه. إما منكِراً لرأيه أن يكون على ذلك، وإما على خلاف المعرفة.
وسمعنا رجلاً من أهل البادية قيل له: أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال: أنا إنِيه؟ منكِراً لرأيه أن يكون على خلاف أن يخرج.
ويقول: قد قدم زيد، فتقول: أزيدُنيه؟ غيرَ رادّ عليه متعجباً أو منكراً عليه أن يكون رأيهُ على غير أن يقدم؛ أو أنكرتَ أن يكون قدِم فقلت: أزيدُنيه؟ فإن قلت مجيباً لرجل قال: قد لقيتُ زيداً وعمراً قلت: أزيداً وعمرَنيه؟ تجعل العلامة في منتهى الكلام. ألا ترى أنك تقول إذا ضربتُ عمراً: أضربتَ عمرَاهْ؟ وإن قال: ضربتُ زيداً الطويل قلت: أزيداً الطويلاه؟ تجعلها في منتهى الكلام.

وإن قلت: أزيداً يا فتى، تركت العلامة كما تركت علامة التأنيث والجمع حرف اللين في قولك: مَنا ومَني ومَنو، حين قلت يا فتى، وجعلت يا فتى بمنزلة ما هو في مَن حين قلت مَن يا فتى، ولم تقل مَنين ولا مَنَهْ ولا مَني، أذهبتَ هذا في الوصل، وجعلت يا فتى بمنزلة ما هو من مسألتك يمنع هذا كله، وهو قولك مَن ومَنَهْ إذا قال رأيت رجلاً وامرأةً. فمَنَهْ قد منعتْ مَن من حروف اللين، فكذلك هو ها هنا يمنع كما يمنع ما كان في كلام المسئول العلامة من الأول. ولا تدخل في يا فتى العلامة لأنه ليس من حديث المسئول فصار هذا بمنزلة الطويل حين منع العلامة زيداً كما منع مَن ما ذكرتُ لك؛ وهو كلام العرب.
ومما تُتبعه هذه الزيادة من المتحرّكات، كما وصفتُ لك قوله: رأيت عُثمان، فتقول: أعُثماناه، ومررت بعثمان، فتقول: أعُثماناه، ومررتُ بحذام فتقول: أحَذاميهُ، وهذا عمر فتقول: أعُمرُوهْ، فصارت تابعة كما كانت الزيادة التي في واغُلامهوهْ تابعة.
واعلم أن من العرب من يجعل بين هذه الزيادة وبين الاسم إنْ فيقول: أعُمَرُ إنِيه، وأزيدُ إنيه، فكأنهم أرادوا أن يزيدوا العلمَ بياناً وإيضاحاً، كما قالوا: ما إنْ، فأكدوا بإن. وكذلك أوضحوا بها ها هنا، لأن في العلم الهاء، والهاء خفية، والياء كذلك، فإذا جاء الهمزة والنون جاء حرفان لو لم يكن بعدهما الهاء وحرف اللين كانوا مستغنين بهما.
ومما زادوا به الهاء بياناً قولهم: اضرِبه.
وقالوا في الياء في الوقف: سعدِجْ يريدون سعدي.
فإنما ذكرت لك هذا لتعلم أنهم قد يطلبون إيضاحها بنحو من هذا الذي ذكرتُ لك.
وإن شئت تركتَ العلامة في هذا المعنى كما تركت علامة الندبة.
وقد يقول الرجل: إني قد ذهبت، فتقول: أذهبتُوه؟ ويقول: أنا خارج، فتقول: أنا إنِيه، تُلحق الزيادة ما لفظ به، وتحكيه مبادرةً له وتبييناً أنه يُنكر عليه ما تكلم به، كما فُعل ذلك في: مَن عبدَ الله؟ وإن شاء لم يتكلم بما لفظ به، وألحق العلامة ما يصحّح المعنى، كما قال حين قال: أتخرج الى البادية: أنا إنِيه.
وإن كنت متثبتاً مسترشداً إذا قال ضربت زيداً، فإنك لا تُلحق الزيادة. وإذا قال ضربتُه فقلت: أقلتَ ضربتُه؟ لم تلحق الزيادة أيضاً؛ لأنك إنما أوقعت حرف الاستفهام على قلت، ولم يكن من كلام المسئول، وإنما جاء على الاسترشاد، لا على الإنكار.
الجزء الثالثبسم الله الرّحمن الرّحيم
باب إعراب الأفعال المضارعة للأسماءاعلم أنّ هذه الأفعال لها حروف تعمل فيها فتنصبها لا تعمل في الأسماء، كما أنّ حروف الأسماء التي تنصبها لا تعمل في الأفعال، وهي: أن، وذلك قولك: أريد أن تفعل. وكي، وذلك جئتك لكي تفعل. ولن.
فأمّا الخليل فزعم أنّها لا أن، ولكنّهم حذفوا لكثرته في كلامهم كما قالوا: ويلمّه يريدون وى لأمّه، وكما قالوا يومئذ، وجعلت بمنزلة حرف واحد، كما جعلوا هلاّ بمنزلة حرف واحد، فإنّما هي هل ولا.
وأمّا غيره فزعم أنّه ليس في لن زيادة وليست من كلمتين ولكنّها بمنزلة شئ على حرفين ليست فيه زيادة، وأنّها في حروف النصب بمنزلة لم في حروف الجزم، في أنه ليس واحد من الحرفين زائداً. ولو كانت على ما يقول الخليل لما قلت: أمّا زيداً فلن أضرب لأنّ هذا اسم والفعل صلة فكأنّه قال: أمّا زيداً فلا الضرب له.
باب الحروف التي تضمر فيها أنوذلك اللام التي في قولك: جئتك لتفعل. وحتّى، وذلك قولك: حتى تفعل ذاك فإنما انتصب هذا بأن، وأن ههنا مضمرة؛ ولو لم تضمرها لكان الكلام محالاً، لأنّ اللام وحتّى إنّما يعملان في الأسماء فيجرّان، وليستا من الحروف التي تضاف إلى الأفعال. فإذا أضمرت أن حسن الكلام لأنّ أن وتفعل بمنزلة اسم واحد، كما أن الّذي وصلته بمنزلة اسم واحد؛ فإذا قلت: هو الذي فعل فكأنك قلت: هو الفاعل، وإذا قلت: أخشى أن تفعل فكأنك قلت: أخشى فعلك. أفلا ترى أنّ أن تفعل بمنزلة الفعل، فلّما أضمرت أن كنت قد وضعت هذين الحرفين مواضعهما، لأنهما لا يعملان إّلا في الأسماء ولا يضافان إّلا إليهما، وأن وتفعل بمنزلة الفعل.
وبعض العرب يجعل كي بمنزلة حتّى، وذلك أنّهم يقولون: كيمه في الاستفهام، فيعملونها في الأسماء كما قالوا حتى مه. وحتّى متى، ولمه.

فمن قال كيمه فإنّه يضمر أن بعدها، وأمّا من أدخل عليها اللام ولم يكن من كلامه كيمه فإنّها عنده بمنزلة أن، وتدخل عليها اللام كما تدخل على أن. ومن قال كيمه جعلها بمنزلة اللام.
واعلم أنّ لا تظهر بعد حتّى وكي، كما لا يظهر بعد أمّا الفعل في قولك: أمّا أنت منطلقاً انطلقت، وقد ذكر حالها فيما مضى. واكتفوا عن إظهار أن بعدهما بعلم المخاطب أنّ هذين الحرفين لا يضافان إلى فعل، وأنّهما ليسا مما يعمل في الفعل، وأنّ الفعل لا يحسن بعدهما إلاّ أن يحمل على أن، فأن ههنا بمنزلة الفعل في أمّا، وما كان بمنزلة أمّا مما لا يظهر بعده الفعل، فصار عندهم بدلاً من اللفظ بأن.
وأمّا اللام في قولك: جئتك لتفعل، فبمنزلة إن في قولك: إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ؛ إن شئت أظهرت الفعل ههنا، وإن شئت خزلته وأضمرته. وكذلك أن بعد اللام إن شئت أظهرته، وإن شئت أضمرته.
واعلم أنّ اللام قد تجئ في موضع لا يجوز فيه الإظهار وذلك: ما كان ليفعل، فصارت أن ههنا بمنزلة الفعل في قولك: إيّاك وزيداً، وكأنك إذا مثّلت قلت: ما كان زيد لأن يفعل، أي ما كان زيد لهذا الفعل. فهذا بمنزلته، ودخل فيه معنى نفى كان سيفعل. فإذا قلت هذا قلت: ما كان ليفعل، كما كان لن يفعل نفياً لسيفعل. وصارت بدلاً من اللفظ بأن كما كانت ألف الاستفهام بدلاً من واو القسم في قولك: آلله لتفعلنّ. فلم تذكر إّلا أحد الحرفين إذ كان نفياً لما معه حرف، لم يعمل فيه شئ ليضارعه فكأنّه قد ذكر أن. كما أنّه إذا قال: سقياً له فكأنه قال: سقاه الله.
باب ما يعمل في الأفعال فيجزمهاوذلك: لم، ولمّا، واللام التي في الأمر، وذلك قولك: ليفعل، ولا في النهي، وذلك قولك لا تفعل؛ فإنّما هما بمنزلة لم.
واعلم أنّ هذه اللام ولا في الدعاء بمنزلتهما في الأمر والنهي، وذلك قولك: لا يقطع الله يمنيك، وليجزك الله خيراً.
واعلم أنّ هذه اللام قد يجوز حذفها في الشعر وتعمل مضمرة، كأنهم شبّهوها بأن إذا أعملوها مضمرة. وقال الشاعر:
محمّد تفد نفسك كلّ نفس ... إذا ما خفت من شئ تبالا
وإنّما أراد: لتفد. وقال متمّم بن نويرة:
على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ... لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى
أراد: ليبك. وقال أحيحة بن الجلاح:
فمن نال الغنى فليصطنعه ... صنيعته ويجهد كلّ جهد
واعلم أنّ حروف الجزم لا تجزم إّلا الأفعال، ولا يكون الجزم إلا في هذه الأفعال المضارعة للأسماء، كما أنّ الجرّ لا يكون إّلا في الأسماء.
والجزم في الأفعال نظير الجرّ في الأسماء، فليس للاسم في الجزم نصيب، وليس للفعل في الجرّ نصيب، فمن ثمّ لم يضمروا الجازم كما لم يضمروا الجارّ. وقد أضمره الشاعر، شبهّه بإضمارهم ربّ وواو القسم في كلام بعضهم.
باب وجه دخول الرفع في هذه الأفعال

المضارعة للأسماء
اعلم أنّها إذا كانت في موضع اسم مبتدإ أو موضع اسم بني على مبتدإ أو في موضع اسم مرفوع غير مبتدإ ولا مبنيّ على مبتدإ، أو في موضع اسم مجرور أو منصوب، فإنّها مرتفعة، وكينونتها في هذه المواضع ألزمتها الرفع، وهي سبب دخول الرفع فيها.
وعلّته: أنّ ما عمل في الأسماء لم يعمل في هذه الأفعال على حدّ عمله في الأسماء كما أنّ ما يعمل في الأفعال فينصبها أو يجزمها لا يعمل في الأسماء. وكينونتها في موضع الأسماء ترفعها كما يرفع الاسم كينونته مبتدأ.
فأمّا ما كان في موضع المبتدإ فقولك: يقول زيد ذاك.
وأمّا ما كان في موضع المبنيّ على المبتدإ فقولك: زيد يقول ذاك.
وأمّا ما كان في موضع غير المبتدإ ولا المبنيّ عليه فقولك: مررت برجل يقول ذاك، وهذا يوم آتيك، وهذا زيد يقول ذاك، وهذا رجل يقول ذاك، وحسبته ينطلق. فهكذا هذا وما أشبهه.
ومن ذلك أيضاً: هلاّ يقول زيد ذاك، فيقول في موضع ابتداء وهلاّ لا تعمل في اسم ولا فعل، فكأنّك قلت: يقول زيد ذاك. إلاّ أنّ من الحروف ما لا يدخل إلاّ على الأفعال التي في موضع الأسماء المبتدأة وتكون الأفعال أولى من الأسماء حتّى لا يكون بعدها مذكور يليها إلاّ الأفعال. وسنبّين ذلك إن شاء الله، وقد بيّن فيما مضى.

ومن ذلك أيضاً ائتني بعد ما تفرغ، فما وتفرغ بمنزلة الفراغ، وتفرغ صلة، وهي مبتدأة، وهي بمنزلتها في الذي إذا قلت بعد الذي تفرغ، فتفرغ في موضع مبتدإ لأنّ الذي لا يعمل في شئ، والأسماء بعده مبتدأة.
ومن زعم أنّ الأفعال ترتفع بالابتداء فإنه ينبغي له أن ينصبها إذا كانت في موضع ينتصب فيه الاسم، ويجرّها إذا كانت في موضع ينجرّ فيه الاسم؛ ولكنّها ترتفع بكينونتها في موضع الاسم.
ومن ذلك أيضاً: كدت أفعل ذاك وكدت تفرغ، فكدت فعلت وفعلت لا ينصب الأفعال ولا يجزمها وأفعل ههنا بمنزلة في كنت، إلاّ أنّ الأسماء لا تستعمل في كدت وما أشبهها.
ومثل ذلك: عسى يفعل ذاك، فصارت كدت ونحوها بمنزلة كنت عندهم، كأنّك قلت: كدت فاعلاً، ثم وضعت أفعل في موضع فاعل. ونظير هذا في العربيّة كثير، وستراه إن شاء الله تعالى. ألا ترى أنّك تقول: بلغني أنّ زيداً جاء، فأنّ زيداً جاء كلّه اسم. وتقول: لو أنّ زيداً جاء لكان كذا وكذا، فمعناه: لو مجيء زيد، ولا يقال لو مجيء زيد.
وتقول في التعجّب: ما أحسن زيداً، ولا يكون الاسم في موضع، فتقول: ما محسن زيداً. ومنه: قد جعل يقول ذاك، كأنّك قلت: صار يقول ذاك، فهذا وجه دخول الرفع في الأفعال المضارعة للأسماء. وكأنّهم إنّما منعهم أن يستعملوا في كدت وعسيت الأسماء أنّ معناها ومعنى غيرها معنى ما تدخله أن نحو قولهم: خليق أن يقول ذاك وقارب أن لا يفعل. ألا ترى أنّهم يقولون: عسى أن يفعل. ويضطر الشاعر فيقول: كدت أن، فلّما كان المعنى فيهنّ ذلك تركوا الأسماء لئلاّ يكون ما هذا معناه كغيره، وأجروا اللفظ كما أجروه في كنت، لأنّه فعل مثله.
وكدت أن أفعل لا يجوز إلاّ في شعر، لأنّه مثل كان في قولك: كان فاعلاً ويكون فاعلاً. وكأنّ معنى جعل يقول وأخذ يقول، قد آثر أن يقول ونحوه. ثمن ثمّ منع الأسماء، لأنّ معناها معنى ما يستعمل بأن فتركوا الفعل حين خزلوا أن، ولم يستعملوا الاسم لئلاّ ينقضوا هذا المعنى.
؟

هذا باب إذن
اعلم أنّ إذن إذا كانت جواباً وكانت مبتدأة عملت في الفعل عمل رأى في الاسم إذا كانت مبتدأة. وذلك قولك: إذن أجيئك، و إذن آتيك.
ومن ذلك أيضاً قولك: إذن والله أجيئك. والقسم ههنا بمنزلته في أرى إذا قلت: أرى والله زيداً فاعلاً.
ولا تفصل بين شئ مما ينصب الفعل وبين الفعل سوى إذن، لأنّ إذن أشبهت أرى، فهي في الأفعال بمنزلة أرى في الأسماء وهي تلغى وتقدّم وتؤخّر، فلمّا تصرّفت هذا التصرّف اجتروا على أن يفصلوا بينها وبين الفعل باليمين.
ولم يفصلوا بين أن وأخواتها وبين الفعل كراهية أن يشبّهوها بما يعمل في الأسماء، نحو ضربت وقتلت؛ لأنّها لا تصرّف تصرّف الأفعال نحو ضربت وقتلت، ولا تكون إلاّ في أوّل الكلام لاؤمة لموضعها لا تفارقه، فكرهوا الفصل لذلك، لأنّه حرف جامد.
واعلم أنّ إذن إذا كانت بين الفاء والواو وبين الفعل فإنّك فيها بالخيار: إن شئت أعملتها كإعمالك أرى وحسبت إذا كانت واحدة منهما بين اسمين؛ وذلك قولك: زيداً حسبت أخاك، وإن شئت ألغيت إذن كإلغائك حسبت إذا قلت زيد حسبت أخوك.
فأما الاستعمال فقولك: فإذن آتيك وإذن أكرمك.
وبلغنا أنّ هذا الحرف في بعض المصاحف: " وإذن لا يلبثوا خلفك إلاّ قليلاً " . وسمعنا بعض العرب قرأها فقال: " وإذن لا يلبثوا " .
وأمّا الإلغاء فقولك: فإذن لا أجيئك. وقال تعالى: " فإذن لا يؤتون الناس نقيراً " .
واعلم أنّ إذن إذا كانت بين الفعل وبين شئ الفعل معتمد عليه فإنّها ملغاة لا تنصب البّتة، كما لا تنصب أرى إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك: كان أرى زيد ذاهباً، وكما لا تعمل في قولك: إنّي أرى ذاهب. فإذن لا تصل في ذا الموضع إلى أن تنصب كما لا تصل أرى هنا إلى أن تنصب. فهذا تفسير الخليل. وذلك قولك: أنا إذن آتيك، فهي ههنا بمنزلة أرى حيت لا تكون إلاّ ملغاة.
ومن ذلك أيضاً قولك: إن تأتني إذن آتك، لأنّ الفعل ههنا معتمد على ما قبل إذن. وليس هذا كقول ابن عنمة الضّبّيّ:
اردد حمارك لا تنزع سويّته ... إذن يردّ وقيد العير مكروب
من قبل أنّ هذا منقطع من الكلام الأوّل وليس معتمداً على ما قبله، لأنّ ما قبله مستغن.
ومن ذلك أيضاً: والله إذن لا أفعل، من قبل أنّ أفعل معتمد على اليمين، وإذن لغو.

وليس الكلام ههنا بمنزلته إذا كانت إذن في أوّله، لأنّ اليمين ههنا الغالبة. ألا ترى أنّك تقول إذا كانت إذن مبتدأة: إذن والله لا أفعل، لأنّ الكلام على إذن ووالله لا يعمل شيئاً.
ولو قلت: والله إذن أفعل تريد أن تخبر أنّك فاعل لم يجز، كما لم يجز والله أذهب إذن إذا أخبرت أنك فاعل. فقبح هذا يدلّك على أنّ الكلام معتمد على اليمين. وقال كثيّرة عزّة:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقيلها
وتقول: إن تأتني آتك وإذن أكرمك، إذا جعلت الكلام على أوّله ولم تقطعه، وعطفته على الأوّل. وإن جعلته مستقبلاً نصبت، وإن شئت رفعته على قول من ألغى. وهذا قول يونس، وهو حسن، لأنّك إذا قطعته من الأوّل فهو بمنزلة قولك: فإذن أفعل، إذا كنت مجيباً رجلاً.
وتقول: إذن عبد الله يقول ذاك، لا يكون إلاّ هذا؛ من قبل أنّ إذن الآن بمنزلة إنّما وهل، كأنك قلت: إنّما عبد الله يقول ذاك. ولو جعلت إذن ههنا بمنزلة كي وأن لم يحسن، من قبل أنّه لا يجوز لك أن تقول: كي زيد يقول ذاك، ولا أن زيد يقول ذاك. فلمّا قبح ذلك جعلت بمنزلة هل وكأنّما وأشباههما.
وزعم عيسى بن عمر أنّ ناساً من العرب يقولون: إذن أفعل ذاك، في الجواب. فأخبرت يونس بذلك فقال: لا تبعدنّ ذا. ولم يكن ليروي إلاّ ما سمع، جعلوها بمنزلة هل وبل.
وتقول إذا حدّثت بالحديث: إذن أظنّه فاعلاً، وإذن إخالك كاذباً، وذلك لأنك تخبر أنّك تلك الساعة في حال ظنّ وخيلة، فخرجت من باب أن وكي، لأنّ الفعل بعدهما غير واقع وليس في حال حديثك فعل ثابت. ولمّا لم يجز ذا في أخواتها التي تشبّه بها جعلت بمنزلة إنّما.
ولو قلت: إذن أظنّك، تريد أن تخبره أنّ ظنّك سيقع لنصبت، وكذلك إذن يضربك، إذا أخبرت أنّه في حال ضرب لم ينقطع.
وقد ذكر لي بعضهم أنّ الخليل قال: أن مضمرة بعد إذن. ولو كانت مما يضمر بعده أن فكانت بمنزلة اللام وحتّى لأضمرتها إذا قلت عبد الله إذن يأتيك؛ فكان ينبغي أن تنصب إذن يأتيك لأن المعنى واحد، ولم يغيّر فيه المعنى الذي كان في قوله: إذن يأتيك عبد الله، كما يتغيّر المعنى في حتّى في الرفع والنصب. فهذا مارووا. وأمّا ما سمعت منه فالأوّل.
هذا باب حتّى
اعلم أنّ تنصب على وجهين: فأحدهما: أن تجعل الدخول غاية لمسيرك، وذلك قولك: سرت حتّى أدخلها، كأنك قلت: سرت إلى أن أدخلها، فالناصب للفعل ههنا هو الجارّ للاسم إذا كان غاية. فالفعل إذا كان غاية نصب، والاسم إذا كان غاية جرّ. وهذا قول الخليل.
وأمّا الوجه الآخر فأن يكون السّير قد كان والدخول لم يكن، وذلك إذا جاءت مثل كي التي فيها إضمار أن وفي معناها، وذلك قولك: كلّمته حتّى يأمر لي بشيء.
واعلم أنّ حتّى يرفع الفعل بعدها على وجهين: تقول: سرت حتّى أدخلها، تعني أنّه كان دخول متّصل بالسير كاتّصاله به بالفاء إذا قلت: سرت فأدخلها، فأدخلها ههنا على قولك: هو يدخل وهو يضرب، إذا كنت تخبر أنّه في عمله، وأنّ عمله لم ينقطع. فإذا قال حتّى أدخلها فكأنه يقول: سرت فإذا أنا في حال دخول، فالدخول متّصل بالسير كاتّصاله بالفاء. فحتّى صارت ههنا بمنزلة إذا وما أشبهها من حروف الإبتداء، لأنّها لم تجئ على معنى إلى أن، ولا معنى كي، فخرجت من حروف النّصب كما خرجت إذن منها في قولك: إذن أظنّك.
وأمّا الوجه الآخر: فإنه يكون السّير قد كان وما أشبهه، ويكون الدخول وما أشبهه الآن، فمن ذلك: لقد سرت حتّى أدخلها ما أمنع، أي حتّى أنّي الآن أدخلها كيفما شئت. ومثل ذلك قول الرجل: لقد رأى منّي عاماً أوّل شيئاً حتّى لا أستطيع أن أكلّمه العام بشيء، ولقد مرض حتّى لا يرجونه. والرفع ههنا في الوجهين جميعاً كالرفع في الاسم. قال الفرزدق:
فيا عجباً حتّى كليب تسبّني ... كأنّ أباها نهشل أو مجاشع
فحتّى ههنا بمنزلة إذا، وإنما هي ههنا كحرف من حروف الابتداء.
ومثل ذلك: شربت حتى يجئ البعير يجرّ بطنه، أي حتّى إنّ البعير ليجئ يجرّ بطنه.
ويدلّك على حتّى أنها حرف من حروف الابتداء أنّك تقول: حتّى إنّه ليفعل ذاك كما تقول: فإذا إنّه يفعل ذاك. ومثل ذلك قول حسّان ابن ثابت:
يغشون حتّى لا تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل

ومثل ذلك: مرض حتّى يمرّ به الطائر فيرحمه، وسرت حتّى يعلم الله أنّي كالّ. والفعل ههنا منقطع من الأوّل، وهو في الوجه الأوّل الذي ارتفع فيه متّصل كاتّصاله به بالفاء، كأنه قال سير فدخول، كما قال علقمة ابن عبدة:
ترادي على دمن الحياض فإن تعف ... فإنّ المندّى رحلة فركوب
لم يجعل ركوبه الآن ورحلته فيما مضى، ولم يجعل الدخول الآن وسيره فيما مضى، ولكنّ الآخر متّصل بالأوّل، ولم يقع واحد دون الآخر.
وإذا قلت: لقد ضرب أمس حتّى لا يستطيع أن يتحرّك اليوم، فليس كقولك: سرت فأدخلها، إذا لم ترد أن تجعل الدخول الساعة، لأنّ السير والدخول جميعاً وقعاً فيما مضى. وكذلك مرض حتّى لا يرجونه، أي حتّى إنّه الآن لا يرجونه؛ فهذا ليس متّصلاً بالأوّل واقعاً معه فيما مضى.
وليس قولنا كاتّصال الفاء يعني أنّ معناه معنى الفاء، ولكنك أردت أن تخبر أنه متّصل بالأوّل، وأنهما وقعا فيما مضى.
وليس بين حتّى في الاتّصال وبينه في الانفصال فرق في أنه بمنزلة حرف الابتداء، وأنّ المعنى واحد إلاّ أنّ أحد الموضعين الدخول فيه متّصل بالسّير وقد مضى السير والدخول، والآخر منفصل وهو الآن في حال الدخول، وإنّما اتّصاله في أنّه كان فيما مضى، وإلاّ فإنه ليس بفارق موضعه الآخر في شئ إذا رفعت.
باب الرفع فيما اتّصل بالأوّل
كاتّصاله بالفاء وما انتصب لأنّه غاية
تقول: سرت حتّى أدخلها، وقد سرت حتّى أدخلها سواء، وكذلك إنّي سرت حتّى أدخلها، فيما زعم الخليل.
فإن جعلت الدخول في كلّ ذا غاية نصبت وتقول: رأيت عبد الله سار حتّى يدخلها، وأرى زيداً سار حتى يدخلها ومن زعم أن النصب يكون في ذا لأن المتكلم غير متيقن فإنه يدخل عليه سار زيد حتى يدخلها فيما بلغني ولا أدري ويدخل عليه عبد الله سار حتّى يدخلها أرى.
فإن قال: فإني لم أعمل أرى، فهو يزعم أنه ينصب بأرى الفعل.
وإن جعلت الدخول غاية نصبت في ذا كلّه.
وتقول: كنت سرت حتّى أدخلها، إذا لم تجعل الدخول غاية. وليس بين كنت سرت وبين سرت مرّة في الزمان الأوّل حتّى أدخلها شئ، وإنّما ذا قول كان النحويّون يقولونه ويأخذونه بوجه ضعيف. يقولون: إذا لم يجز القلب نصبنا فيدخل عليهم قد سرت حتى أدخلها أن ينصبوا وليس في الدنيا عربيّ يرفع سرت حتّى أدخلها إلاّ وهو يرفع إذا قال: قد سرت.
وتقول: إنّما سرت حتّى أدخلها، وحتّى أدخلها، إن جعلت الدخول غاية. وكذلك ما سرت إلاّ قليلاً حتّى أدخلها، إن شئت رفعت، وإن شئت نصبت، لأنّ معنى هذا معنى سرت قليلاً حتّى أدخلها، فإن جعلت الدخول غاية نصبت.
ومما يكون فيه الرفع شئ ينصبه بعض الناس لقبح القلب، وذلك: ربّما سرت حتّى أدخلها، وطالما سرت حتّى أدخلها، وكثر ما سرت حتّى أدخلها ونحو هذا. فإن احتجّوا بأنه غير سير واحد فكيف يقولون إذا قلت: سرت غير مرّة حتّى أدخلها.
وسألنا من يرفع في قوله: سرت حتّى أدخلها، فرفع في ربّما ولكنّهم اعتزموا على النصب في ذا كما اعتزموا عليه في قد.
وتقول: ما أحسن ما سرت حتّى أدخلها وقلّما سرت حتّى أدخلها، إذا أردت أن تخبر أنّك سرت قليلاً وعنيت سيراً واحداً، وإن شئت نصبت على الغاية.
وتقول: قلّما سرت حتّى أدخلها، إذا عنيت سيراً واحداً، أو عنيت غير سير، لأنّك قد تنفي الكثير من السير الواحد كما تنفيه من غير سير.
وتقول: قلّما سرت حتّى أدخلها إذا عنيت غير سير، وكذلك أقلّ ما سرت حتّى أدخلها، من قبل أنّ قلّما نفي لقوله كثر ما، كما أنّ ما سرت نفي لقوله سرت. ألا ترى أنّه قبيح أن تقول: قلّما سرت فأدخلها كما يقبح في ما سرت، إذا أردت معنى فإذا أنا أدخل.
وتقول: قلّما سرت فأدخلها، فتنصب بالفاء ههنا كما تنصب في ما، ولا يكون كثر ما سرت فأدخلها لأنّه واجب، ويحسن أن تقول: كثر ما سرت فإذا أنا أدخل. وتقول: إنما سرت حتّى أدخلها إذا كنت محتقراً لسيرك الذي أدّى إلى الدخول، ويقبح إنّما سرت حتّى أدخلها، لأنه ليس في هذا اللفظ دليل على انقطاع السّير كما يكون في النصب، يعني إذا احتقر السير، لأنّك لا تجعله سيراً يؤدّي الدخول وأنت تستصغره، وهذا قول الخليل.
وتقول: كان سيري أمس حتّى أدخلها ليس إلاّ، لأنّك لو قلت: كان سيري أمس فإذا أنا أدخلها لم يجز، لأنك لم تجعل لكان خبراً.

وتقول: كان سيري أمس سيراً متعباً حتّى أدخلها، لأنك تقول: ههنا فأدخلها وفإذا أنا أدخلها، لأنك جئت لكان بخبر، وهو قولك: سيراً متعباً.
واعلم أنّ ما بعد حتّى لا يشرك الفعل الذي قبل حتى في موضعه كشركة الفعل الآخر الأوّل إذا قلت: لم أجئ فأقل، ولو كان ذلك لاستحال كان سيري أمس شديداً حتّى أدخل، ولكنها تجئ كما تجئ ما بعد إذا وبعد حروف الابتداء.
وكذلك هي أيضاً بعد الفاء إذا قلت: ما أحسن ما سرت فأدخلها؛ لأنّها منفصلة يعني الفاء؛ فإنما عنينا بقولنا الآخر متّصل بالأوّل أنّهما وقعا فيما مضى، كما أنه إذا قال:
فإنّ المندّى رحلة فركوب
فإنّما يعني أنّهما وقعا في الماضي من الأزمنة، وأنّ الآخر كان مع فراغه من الأوّل.
فإن قلت: كان سيري أمس حتّى أدخلها، تجعل أمس مستقرّاً، جاز الرفع لأنه استغنى، فصار كسرت، لو قلت فأدخلها حسن، ولا يحسن كان سيري فأدخل، إلاّ أن تجئ بخبر لكان.
وقد تقع نفعل في موضع فعلنا في بعض المواضع، ومثل ذلك قوله، لرجل من بني سلول مولّد:
ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني ... فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني
واعلم أنّ أسير بمنزلة سرت إذا أردت بأسير معنى سرت.
واعلم أنّ الفعل إذا كان غير واجب لم يكن إلاّ النصب، من قبل أنّه إذا لم يكن واجباً رجعت حتّى إلى أن وكي، ولم تصر من حروف الابتداء كما لم تصر إذن في الجواب من حروف الابتداء إذا قلت: إذن أظنّك، وأظن غير واقع في حال حديثك.
وتقول: أيّهم سار حتّى يدخلها، لأنّك قد زعمت أنه كان سير ودخول، وإنّما سألت عن الفاعل. ألا ترى أنّك لو قلت: أين الذي سار حتّى يدخلها وقد دخلها لكان حسناً، ولجاز هذا الذي يكون لما قد وقع، لأنّ الفعل ثمّ واقع، وليس بمنزلة قلّما سرت إذا كان نافياً لكثرما، ألا ترى أنّه لو كان قال: قلّما سرت فأدخلها، أو حتّى أدخلها، وهو يريد أن يجعلها واجبة خارجة من معنى قلّما، لم يستقم إلاّ أن تقول: قلّما سرت فدخلت وحتّى دخلت، كما تقول: ما سرت حتّى دخلت. فإنّما ترفع بحتّي في الواجب، ويكون ما بعدها مبتدأ منفصلاً من الأوّل كان مع الأوّل فيما مضى أو الآن. وتقول: أسرت حتّى تدخلها نصب، لأنك لن تثبت سيراً تزعم أنه قد كان معه دخول.
باب ما يكون العمل فيه من اثنينوذلك قولك: سرت حتّى يدخلها زيداً، إذا كان دخول زيد لم يؤدّه سيرك ولم يكن سببه، فيصير هذا كقولك: سرت حتّى تطلع الشمس؛ لأنّ سيرك لا يكون سبباً لطلوع الشمس ولا يؤدّيه، ولكنّك لو قلت: سرت حتّى يدخلها ثقلي، وسرت حتّى يدخلها بدني، لرفعت لأنّك جعلت دخول ثقلك يؤدّيه سيرك، وبدنك لم يكن دخوله إلاّ بسيرك.
وبلغنا أن مجاهداً قرأ هذه الآية: " وزلزلوا حتّى يقول الرّسول " ؛ وهي قراءة أهل الحجاز.
وتقول: سرت حتى يدخلها زيد وأدخلها، وسرت حتّى أدخلها ويدخلها زيد إذا جعلت دخول زيد من سبب سيرك وهو الذي أدّاه، ولا تجد بدّاً من أن تجعله ههنا في تلك الحال، لأنّ رفع الأوّل لا يكون إلاّ وسبب دخوله سيره.
وإذا كانت هذه حال الأوّل لم يكن بدّ للآخر من أن يتبعه، لأنك تعطفه على دخولك في حتّى. وذلك أنه يجوز أن تقول: سرت حتّى يدخلها زيد، إذا كان سيرك يؤدّي دخوله كما تقول: سرت حتّى يدخلها ثقلي. وتقول: سرت حتى أدخلها وحتى يدخلها زيد، لأنك لو قلت: سرت حتّى أدخلها وحتّى تطلع الشمس كان جيداً، وصارت إعادتك حتّى كإعادتك له في تباً له وويل له، ومن عمراً ومن أخو زيد. وقد يجوز أن تقول: سرت حتّى يدخلها زيد إذا كان أدّاه سيرك. ومثل ذلك قراءة أهل الحجاز: " وزلزلوا حتّى يقول الرّسول " .
واعلم أنّه لا يجوز سرت حتّى أدخلها وتطلع الشمس يقول: إذا رفعت طلوع الشمس لم يجز، وإن نصبت وقد رفعت فهو محال حتّى تنصب فعلك من قبل العطف، فهذا محال أن ترفع، ولم يكن الرفع لأنّ طلوع الشمس لا يكون أن يؤدّيه سيرك فترفع تطلع وقد حلت بينه وبين الناصبة.
ويحسن أن تقول: سرت حتّى تطلع الشمس وحتى أدخلها، كما يجوز أن تقول: سرت إلى يوم الجمعة، وحتى أدخلها. وقال امرؤ القيس:
سريت بهم حتّى تكلّ مطيّهم ... وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان
فهذه الآخرة هي التي ترفع.
وتقول: سرت وسار حتّى ندخلها، كأنك قلت: سرنا حتّى ندخلها.

وتقول: سرت حتّى أسمع الأذان، هذا وجهه وحدّة النصب، لأن سيرك ليس يؤدّي سمعك الأذان، إنّما يؤدّيه الصّبح، ولكنك تقول: سرت حتّى أكلّ لأنّ الكلال يؤدّيه سيرك.
وتقول: سرت حتّى أصبح، لأنّ الإصباح لا يؤدّيه سيرك إنّما هي غاية طلوع الشمس.
هذا باب الفاءاعلم أن ما انتصب في باب الفاء ينتصب على إضمار أن، وما لم ينتصب فإنّه يشرك الفعل الأوّل فيما دخل فيه، أو يكون في موضع مبتدإ أو مبنيّ على مبتدإ أو موضع اسم مما سوى ذلك. وسأبين ذلك إن شاء الله.
تقول: لا تأتيني فتحدّثني، لم ترد أن تدخل الآخر فيما دخل فيه الأوّل فتقول: لا تأتيني ولا تحدّثني، ولكنّك لمّا حوّلت المعنى عن ذلك تحوّل إلى الاسم، كأنك قلت: ليس يكون منك إتيان فحديث، فلّما أردت ذلك استحال أن تضمّ الفعل إلى الاسم، فأضمروا أن، لأنّ أن مع الفعل بمنزلة الاسم، فلّما نووا أن يكون الأوّل بمنزلة قولهم: لم يكن إتيان، استحالوا أن يضمّوا الفعل إليه، فلّما أضمروا أن حسن؛ لأنّه مع الفعل بمنزلة الاسم.
وأن لا تظهر ههنا، لأنه يقع فيها معان لا تكون في التمثيل، كما لا يقع معنى الاستثناء في لا يكون ونحوها، إلاّ أن تضمر. ولولا أنّك إذا قلت لم آتك صار كأنك قلت: لم يكن إتيان، لم يجز فأحدّثك، كانك قلت في التمثيل فحديث. وهذا تمثيل ولا يتكلّم به بعد لم آتك، لا تقول: لم آتك فحديث. فكذلك لا تقع هذه المعاني في الفاء إلاّ بإضمار أن، ولا يجوز إظهار أن، كما لا يجوز إظهار المضمر في لا يكون ونحوها.
فإذا قلت: لم آتك، صار كأنك قلت: لم يكن إتيان، ولم يجز أن تقول فحديث، لأنّ هذا لو كان جائزاً لأظهرت أن.
ونظير جعلهم لم آتك ولا آتيك وما أشبهه بمنزلة الاسم في النية، حتّى كأنهم قالوا: لم يك إتيان، إنشاد بعض العرب قول الفرزدق:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلاّ ببين غرابها
ومثله قول الفرزدق أيضاً:
وما زرت سلمى أن تكون حبيبة ... إلىّ ولا دين بها أنا طالبه
جرّه لأنه صار كأنه قال: لأن.
ومثله قول زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائياً
لّما كان الأوّل تستعمل فيه الباء ولا تغيّر المعنى، وكانت مما يلزم الأوّل نووها في الحرف الآخر، حتّى كأنّهم قد تكلّموا بها في الأوّل.
وكذلك صار لم آتك بمنزلة لفظهم بلم يكن إتيان، لأنّ المعنى واحد.
واعلم أنّ ما ينتصب في باب الفاء قد ينتصب على غير معنى واحد، وكلّ ذلك على إضمار أن، إلاّ أنّ المعاني مختلفة، كما أنّ يعلم الله يرتفع كما يرتفع يذهب زيد، وعلم الله ينتصب كما ينتصب ذهب زيد، وفيهما معنى اليمين.
فالنصب ههنا في التمثيل كأنك قلت: لم يكن إتيان فأن تحدّث والمعنى على غير ذلك، كما أنّ معنى علم الله لأفعلنّ غير معنى رزق الله. فأن تحدّث في اللفظ مرفوعة بيكن؛ لأنّ المعنى: بم يكن إتيان فيكون حديث.
وتقول: ما نأتيني فتحدّثني، فالنصب على وجهين من المعاني: أحدهما: ما تأتيني فكيف تحدّثني، أي لو أتيتني لحدّثتني.
وأما الآخر: فما تأتيني أبداً إلاّ لم تحدّثني، أي منك إتيان كثير ولا حديث منك.
وإن شئت أشركت بين الأوّل والآخر، فدخل الآخر فيما دخل فيه الأوّل فتقول: ما تأتيني فتحدّثني كأنك قلت: ما تأتيني وما تحدّثني.
فمثل النصب قوله عزّ وجلّ: " لا يقضي عليهم فيموتوا " . ومثل الرفع قوله عزّ وجلّ: " هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون " .
وإن شئت رفعت على وجه آخر، كأنك قلت: فأنت تحدّثنا. ومثل ذلك قول بعض الحارثيين:
غير أنّا لم تأتنا بيقين ... فترجّي ونكثر التأميلا
كأنه قال: فنحن نرجّى. فهذا في موضع مبنيّ على المبتدإ.
وتقول: ما أتيتنا فتحدّثنا، فالنصب فيه كالنّصب في الأوّل، وإن شئت رفعت على: فأنت تحدّثنا الساعة، وارفع فيه يجوز على ما.
وإنّما اختير النصب لأنّ الوجه ههنا وحدّ الكلام أن تقول: ما أتيتنا فحدّثتنا، فلّما صرفوه عن هذا الحدّ ضعف أن يضمّوا يفعل إلى فعلت فحملوه على الاسم، كما لم يجز أن يضّموه إلى الاسم في قولهم: ما أنت منّا فتنصرنا ونحوه.
وأمّا الذين رفعوه فحملوه على موضع أتيتنا، لأن أتيتنا في موضع فعل مرفوع، وتحدّثنا ههنا في موضع حدّثتنا.

وتقول: ما تأتينا فتكلّم إلاّ بالجميل. فالمعنى أنّك لم تأتنا إلاّ تكلّمت بجميل، ونصبه على إضمار أن كما كان نصب ما قبله على إضمار أن، وتمثيله كتمثيل الأوّل وإن شئت رفعت على الشّركة كأنه قال: وما تكلّم إلاّ الجميل.
ومثل النصب قول الفرزدق:
وما قام منّا قائم في نديّنا ... فينطق إلاّ بالتي هي أعرف
وتقول: لا تأتينا فتحدّثنا إلاّ ازددنا فيك رغبة، فالنصب ههنا كالنصب في: ما تأتيني فتحدّثني إذا أردت معنى: ما تأتيني محدّثاً، وإنّما أراد معنى: ما أتيتني محدّثاً إلاّ ازددت فيك رغبة. ومثل ذلك قول اللّعين:
وما حلّ سعديّ غريباً ببلدة ... فينسب إلاّ الزّبرقان له أب
وتقول: لا يسعني شئ فيعجز عنك، أي لا يسعني شئ فيكون عاجزاً عنك ولا يسعني شئ إلاّ لم يعجز عنك. هذا معنى هذا الكلام. فإن حملته على الأوّل قبح المعنى؛ لأنّك لا تريد أن تقول: إنّ الأشياء لا تسعني ولا تعجز عنك، فهذا لا ينويه أحد.
وتقول: ما أنت منّا فتحدّثنا، لا يكون الفعل محمولاً على ما؛ لأنّ الذي قبل الفعل ليس من الأفعال فلم يشاكله، قال الفرزدق:
ما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في اللّها والغلاصم
وإن شئت رفعت على قوله:
فنرجّي ونكثر التأميلا
وتقول: ألا ماء فأشر به، وليته عندنا فيحدّثنا. وقال أميّة بن أبي الصّلت:
ألا رسول لنا منّا فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجرانا
لا يكون في هذا إلاّ النصب، لأنّ الفعل لم تضمّه إلى فعل.
وتقول: ألا تقع الماء فتسبح، إذا جعت الآخر على الأوّل، كأنك قلت: ألا تسبح. وإن شئت نصبته على ما انتصب عليه ما قبله، كأنك قلت: ألا يكون وقوع فأن تسبح. فهذا تمثيل وإن لم يتكلّم به.
والمعنى في النصب أنه يقول: إذا وقعت سبحت.
وتقول: ألم تأتنا فتحدّثنا، إذا لم يكن على الأوّل. وإن كان على الأوّل جزمت. ومثل النصب قوله:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم ... على فرتاج، والطّلل القديم
وإن شئت جزمت على أوّل الكلام.
وتقول: لا تمددها فتشقّها، إذا لم تحمل الآخر على الأوّل. وقال عزّ وجلّ: " لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب " .وتقول: لا تمددها فتشققها، إذا أشركت بين الآخر والأوّل كما أشركت بين الفعلين في لم.
وتقول: ائتني فأحدّثك. وقال أبو النجم:
ياناق سيري عنقاً فسيحاً ... إلى سليمان فنستريحا
ولا سبيل ههنا إلى الجزم؛ من قبل أنّ هذه الأفعال التي يدخلها الرفع والنصب والجزم، وهي الأفعال المضارعة، لا تكون في موضع افعل أبداً، لأنّها إنما تنتصب وتنجزم بما قبلها، وافعل مبنيّة على الوقف.
فإن أردت أن تجعل هذه الأفعال أمراً أدخلت اللام، وذلك قولك: ائته فليحدّثك، وفيحدّثك إذا أردت المجازاة. ولو جاز الجزم في: ائتني فأحدّثك ونحوها لقلت: تحدّثني تريد به الأمر.
وتقول: ألست قد أتيتنا فتحدّثنا، إذا جعلته جواباً ولم تجعل الحديث وقع إلاّ بالإتيان؛ وإن أردت فحدّثتنا رفعت.
وتقول: كأنّك لم تأتنا فتحدّثنا؛ وإن حملته على الأوّل جزمت. وقال رجل من بني دارم:
كأنّك لم تذبح لأهلك نعجة ... فيصبح ملقى بالفناء إهابها
وتقول: ودّلو تأتيه فتحدّثه. والرفع جيّد على معنى التّمني. ومثله قوله عزّ وجلّ: " ودّوا لو تدهن فيدهنون " . وزعم هارون أنّها في بعض المصاحف: " ودّوا لو تدهن فيدهنوا " .
وتقول: حسبته شتمني فأثب عليه، إذا لم يكن الوثوب واقعاً، ومعناه: أن لو شتمني لوثبت عليه. وإن كان الوثوب قد وقع فليس إلاّ الرفع؛ لأنّ هذا بمنزلة قوله: ألست قد فعلت فأفعل.
واعلم أنّك إن شئت قلت: ائتني فأحدّثك، ترفع. وزعم الخليل: أنّك لم ترد أن تجعل الإتيان سبباً لحديث، ولكنّك كأنك قلت: ائتني فأنا ممن يحدّثك البتة، جئت أو لم تجئ. قال النابغة الذبياني:
ولا زال قبر بين تبنى وجاسم ... عليه من الوسميّ جود ووابل
فينبت حوذاناً وعوفاً منوّراً ... سأتبعه من خير ما قال قائل

وذلك أنه لم يرد أن يجعل النبات جواباً لقوله: ولا زال، ولا أن يكون متعلّقاً به، ولكنه دعا ثم أخبر بقصّة السحاب، كأنّه قال: فذاك ينبت حوذاناً. ولو نصب هذا البيت قال الخليل لجاز، ولكنّا قبلناه رفعاً:
ألم تسأل الرّبع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
لم يجعل الأوّل سبباً للآخر، ولكنّه جعله ينطق على كلّ حال، كأنه قال: فهو مما ينطق كما قال: ائتني فأحدّثك، فجعل نفسه ممن يحدّثه على كلّ حال.
وزعم يونس: أنه سمع هذا البيت بألم. وإنّما كتبت ذا لئّلا يقول إنسان: فلعلّ الشاعر قال ألا. وسألت الخليل عن قول الأعشي:
لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضّى لبانات ويسأم سائم
فرفعه وقال: لا أعرف فيه غيره؛ لأنّ أوّل الكلام خبر وهو واجب، كأنه قال: ففي حول تقضّى لبانات ويسأم سائم. هذا معناه.
واعلم أن الفاء لا تضمر فيها أن في الواجب، ولا يكون في هذا الباب إلاّ الرفع، وسنبيّن لم ذلك. وذلك قوله: إنّه عندنا فيحدّثنا، وسوف آتيه فأحدّثه ليس إلا، إن شئت رفعته على أن تشرك بينه وبين الأوّل، وإن شئت كان منقطعاً؛ لأنّك قد أوجبت أن تفعل فلا يكون فيه إلاّ الرفع. وقال عزّ وجلّ: " فلا تكفر فيتعلّمون " فارتفعت لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلّمون، ليجعلا كفره سبباً لتعليم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلّمون.
ومثله: " كن فيكون " ، كأنّه قال: إنما أمرنا ذاك فيكون.
وقد يجوز النصب في الواجب في اضطرار الشعر، ونصبه في الاضطرار من حيث انتصب في غير الواجب، وذلك لأنّك تجعل أن العاملة. فمّما نصب في الشعر اضطراراً قوله:
سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا
وقال الأعشى، وأنشدناه يونس:
ثمّت لا تجزونني عند ذاكم ... ولكن سيجزيني الإله فيعقبا
وهو ضعيف في الكلام. وقال طرفة:
لنا هضبة لا يدخل الذّلّ وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما
وكان أبو عمرو يقول: لا تأتنا فنشتمك.
وسمعت يونس يقول: ما أتيتني فأحدّثك فيما أستقبل، فقلت له: ما تريد به؟ فقال: أريد أن أقول ما أتيتني فأنا أحدّثك وأكرمك فيما أستقبل.
وقال: هذا مثل ائتني فأحدّثك، إذا أراد ائتني فأنا صاحب هذا.
وسألته عن: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة " ، فقال: هذا واجب، وهو تنبيه، كأنّك قلت: أتسمع أن الله أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا. وإنّما خالف الواجب النفي لأنك تنقض النفي إذا نصبت وتغيّر المعنى، يعني أنك تنفي الحديث وتوجب الإتيان، تقول: ما أتيتني قطّ فتحدّثني إلاّ بالشرّ، فقد نقضت نفي الإتيان وزعمت أنّه قد كان.
وتقول: ما تأتيني فتحدّثني، إذا أردت معنى فكيف تحدّثني، فأنت لا تنفي الحديث، ولكنّك زعمت أنّ منه الحديث، وإنّما يحول بينك وبينه ترك الإتيان.
وتقول: ائتني فأحدّثك، فليس هذا من الأمر الأوّل في شئ.
وإذا قلت: قد كان عندنا فسوف يأتينا فيحدّثنا، لم تزده على أن جئت بواجب كالأوّل، فلم يحتاجوا إلى أن، لما ذكرت لك، ولأنّ تلك المعاني لا تقع هاهنا، ولو كانت الفاء والواو وأو ينصبن لأدخلت عليهن الفاء والواو للعطف، ولكنها كحتّى في الإضمار والبدل، فشبّهت بها لمّا كان النصب فيها الوجه؛ لأنهم جعلوا الموضع الذي يستعملون فيه إضمار أن بعد الفاء كما جعلوه في حتّى، إنما يضمر إذا أراد معنى الغاية، وكاللام في ما كان ليفعل.
هذا باب الواواعلم أنّ الواو ينتصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، وأنها قد تشرك بين الأوّل والآخر كما تشرك الفاء، وأنّها يستقبح فيها أن تشرك بين الأوّل والآخر كما استقبح ذلك في الفاء، وأنّها يجئ ما بعدها مرتفعاً منقطعاً من الأوّل كما جاء ما بعد الفاء.
واعلم أنّ الواو وإن جرت هذا المجرى فإنّ معناها ومعنى الفاء مختلفان ألا ترى الأخطل قال:
لاتنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
فلو دخلت الفاء ههنا لأفسدت المعنى، وإنّما أراد لا يجتمعنّ النهي والإتيان، فصار تأتي على إضمار أن.
ومما يدّلك أيضاً على أنّ الفاء ليست كالواو قولك: مررت بزيد وعمرو، ومررت بزيد فعمرو، تريد أن تعلم بالفاء أنّ الآخر مرّ به بعد الأوّل.

وتقول: لا تأكل السّمك وتشرب اللبن، فلو أدخلت الفاء ههنا فسد المعنى. وإن شئت جزمت على النهي في غير هذا الموضع. قال جرير:
ولا تشتم المولى وتبلغ أذاته ... فإنك إن تفعل تسفّه وتجهل
ومنعك أن ينجزم في الأوّل لأنّه إنما أراد أن يقول له: لا تجمع بين اللبن والسمك، ولا ينهاه أن يأكل السمك على حدة ويشرب اللبن على حدة، فإذا جزم فكأنّه نهاه أن يأكل السمك على كلّ حال أو يشرب اللبن على كلّ حال.
ومثل النصب في هذا الباب قول الحطيئة:
ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودّة والإخاء
كأنّه قال: ألم أك هكذا ويكون بيني وبينكم. وقال دريد بن الصّمّة:
قتلت بعبد الله خير لداته ... ذؤاباً فلم أفخر بذاك وأجزعا
وتقول: لا يسعني شئ ويعجز عنك، فانتصاب الفعل هاهنا من الوجه الذي انتصب به في الفاء، إلاّ أنّ الواو لا يكون موضعها في الكلام موضع الفاء.
وتقول: ائتني وآتيك، إذا أردت ليكن إتيان منك وأن آتيك، تعني إتيان منك وإتيان منّي. وإن أردت الأمر أدخلت اللام كما فعلت ذلك في الفاء حيث قلت: ائتني فلأحدّثك، فتقول ائتني ولآتك.
ومن النصب في هذا الباب قوله عزّ وجلّ: " ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين " ، وقد قرأها بعضهم: " ويعلم الصّابرين " .
وقال تعالى: " ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون " ، إن شئت جعلت وتكتموا على النهي، وإن شئت جعلته على الواو.
وقال تعالى: " ياليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين " . فالرفع على وجهين: فأحدهما أن يشرك الآخر الأوّل. والآخر على قولك: دعني ولا أعود، أي فإنّي ممن لا يعود، فإنّما يسأل الترك وقد أوجب على نفسه أن لا عودة له البتّة ترك أو لم يترك، ولم يرد أن يسأل أن يجتمع له الترك وأن لا يعود. وأمّا عبد الله بن أبي إسحاق فكان ينصب هذه الآية.
وتقول: زرني وأزورك، أي أنا ممن قد أوجب زيارتك على نفسه، ولم ترد أن تقول لتجتمع منك الزيارة وأن أزورك، تعني لتجتمع منك الزيارة فزيارة منّي، ولكنّه أراد أن يقول زيارتك واجبة على كلّ حال، فلتكن منك زيارة. وقال الأعشى:
فقلت ادعي وأدعو إنّ أندى ... لصوت أن ينادي داعيان
ومن النصب أيضاً قوله:
للبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشّفوف
لمّا لم يستقم أن تحمل وتقرّ وهو فعل على لبس وهو اسم، لمّا ضممته إلى الاسم، وجعلت أحبّ لهما ولم ترد قطعة، لم يكن بدّ من إضمار أن. وسترى مثله مبيّناً.
وسمعنا من ينشد هذا البيت من العرب، وهو لكعب الغنويّ:
وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقؤول
والرفع أيضاً جائز حسن، كما قال قيس بن زهير بن جذيمة:
فلا يدعني قومي صريحاً لحرّة ... لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر
ويغضب معطوف على الشيء، ويجوز رفعه على أن يكون داخلاً في صلة الذي.
هذا باب أواعلم أن ما انتصب بعد أو فإنّه ينتصب على إضمار أن كما انتصب في الفاء والواو على إضمارها، ولا يستعمل إظهارها كما لم يستعمل في الفاء والواو، والتمثيل هاهنا مثله ثمّ. تقول إذا قال لألزمنّك أو تعطيني، كأنه يقول: ليكوننّ اللزوم أو أن تعطيني.
واعلم أنّ معنى ما انتصب بعد أو على إلاّ أن، كما كان معنى ما انتصب بعد الفاء على غير معنى التمثيل تقول: لألزمنّك أو تقضيني، ولأضربنّك أو تسبقني؛ فالمعنى لألزمنّك إلاّ أن تقتضيني ولأضربنّك إلا أن تسبقني. هذا معنى النصب. قال امرؤ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنّما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
والقوافي منصوبة، فالتمثيل على ما ذكرت لك، والمعنى على إلاّ أن نموت فنعذرا، وإلاّ أن تعطيني، كما كان تمثيل الفاء على ما ذكرت لك، وفيه المعاني التي فصّلت لك.
ولو رفعت لكان عربيّاً جائزاً على وجهين: على أن تشرك بين الأوّل والآخر، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعاً من الأوّل، يعني أو نحن ممن يموت.
وقال جلّ وعزّ: " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون " ، إن شئت كان على الإشراك، وإن شئت كان على: أو هم يسلمون.
وقال ذو الرمّة:

حراجيج لا تنفكّ إلاّ مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلداً قفراً
فإن شئت كان على لا تنفكّ نرمي بها، أو على الابتداء.
وتقول: الزمه أو يتقّيك بحقّك، واضربه أو يستقيم. وقال زياد الأعجم:
وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما
معناه إلاّ أن، وإن شئت رفعت في الأمر على الابتداء؛ لأنّه لا سبيل إلى الإشراك.
وتقول: هو قاتلي أو أفتدي منه؛ وإن شئت ابتدأته كأنه قال: أو أنا أفتدي، وقال طرفة بن العبد:
ولكن مولاي امرؤ هو خانقي ... على الشّكر والتّسآل أو أنا مفتدي
وسألت الخليل عن قوله عزّ وجلّ: " وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " ، فزعم أنّ النصب محمول على أن سوى هذه التي قبلها. ولو كانت هذه الكلمة على أن هذه لم يكن للكلام وجه، ولكنه لمّا قال: " إلاّ وحياً أو من وراء حجاب " كان في معنى إلاّ أن يوحي، وكان أو يرسل فعلاً لا يجري على ألاّ، فأجرى على أن هذه، كأنه قال: إلاّ أن يوحي أو يرسل؛ لأنه لو قال: إلاّ وحياً وإلاّ أن يرسل كان حسناً، وكان أن يرسل بمنزلة الإرسال، فحملوه على أن، إذ لم يجز أن يقولوا: أو إلاّ يرسل، فكأنه قال: إلاّ وحياً أو أن يرسل.
وقال الحصين بن حمام المرّي:
ولولا رجال من رزام أعزّة ... وآل سبيع أو أسوءك علقما
يضمر أن، وذاك لأنّه امتنع أن يجعل الفعل على لولا فأضمر أن، كأنّه قال: لولا ذاك، أو لولا أن أسوءك.
وبلغنا أنّ أهل المدينة يرفعون هذه الآية: " وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " فكأنه والله أعلم قال الله عزّ وجلّ: لا يكلّم الله البشر إلاّ وحياً أو يرسل رسولاً، أي في هذه الحال وهذا كلامه إيّاهم، كما تقول العرب: تحيتّك الضرب، وعتابك السيف، وكلامك القتل. وقال الشاعر، وهو عمرو بن معدي كرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع
وسألت الخليل عن قول الأعشي:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنّا معشر نزل
فقال: الكلام هاهنا على قولك يكون كذا أو يكون كذا، لمّا كان موضعها لو قال فيه أتركبون لم ينقض المعنى، صار بمنزلة قولك: ولا سابق شيئاً. وأمّا يونس فقال: أرفعه على الابتداء، كأنه قال: أو أنتم نازلون. وعلى هذا الوجه فسّر الرفع في الآية، كأنه قال: أو هو يرسل رسولاً، كما قال طرفة:
أو أنا مفتدي
وقول يونس أسهل، وأمّا الخليل فجعله بمنزلة قول زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائياً
والإشراك على هذا التوهّم بعيد كبعد ولا سابق شيئاً. ألا ترى أنّه لو كان هذا كهذا لكان في الفاء والواو. وإنّما توهّم هذا فيما خالف معناه التمثيل. يعني مثل هو يأتينا ويحدّثنا. يقول: يدخل عليك نصب هذا على توهّم أنّك تكلّمت بالاسم قبله، يعني مثل قولك: لا تأته فيشتمك؛ فتمثيله على لا يكن منك إتيان فشتيمة، والمعنى على غير ذلك.
باب اشتراك الفعل في أنوانقطاع الآخر من الأوّل الذي عمل فيه أن
فالحروف التي تشرك: الواو، والفاء، وثمّ، وأو. وذلك قولك: أريد أن تأتيني ثم تحدّثني، وأريد أن تفعل ذاك وتحسن، وأريد أن تأتينا فتبايعنا، وأريد أن تنطق بجميل أو تسكت. ولو قلت: أريد أن تأتيني ثم تحدّثني جاز، كأنك قلت: أريد إتيانك ثم تحدّثني.
ويجوز الرفع في جميع هذه الحروف التي تشرك على هذا المثال. وقال عزّ وجلّ: " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للنّاس كونوا عباداً لي من دون الله " ، ثم قال سبحانه: " ولا يأمركم " ، فجاءت منقطعة من الأوّل، لأنّه أراد: ولا يأمركم الله. وقد نصبها بعضهم على قوله: وما كان لبشر أن يأمركم أن تتخذوا.
وتقول: أريد أن تأتيني فتشتمني، لم يرد الشّتيمة، ولكنّه قال: كلّما أردت إتيانك شتمتني. هذا معنى كلامه، فمن ثمّ نقطع من أن. قال رؤبة:
يريد أن يعربه فيعجمه
أي فإذا هو يعجمه.

وقال الله عزّ وجلّ: " لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام " ، أي ونحن نقرّ في الأرحام؛ لأنّه ذكر الحديث للبيان ولم يذكره للإقرار. وقال عزّ وجلّ: " أن تضلّ إحداهما الأخرى فتذكر إحدهما الأخرى " ، فانتصب لأنّه أمر بالإشهاد لأن تذكّر إحداهما الأخرى ومن أجل أن تذكّر.
فإن قال إنسان: كيف جاز أن تقول: أن تضلّ ولم يعدّ هذا للضلال وللالتباس؟ فإنما ذكر أن تضلّ لأنه سبب الأذكار، كما يقول الرجل: أعددته أن يميل الحائط فأدعمه، وهو لا يطلب بإعداد ذلك ميلان الحائط، ولكنّه أخبر بعلّة الدّعم وبسببه.
وقرأ أهل الكوفة: " فتذكّر " رفعاً.
وسألت الخليل عن قول الشاعر، لبعض الحجازييّن:
فما هو إلاّ أن أراها فجاءة ... فأبهت حتّى ما أكاد أجيب
فقال: أنت في أبهت بالخيار، إن شئت حملتها على أن، وإن شئت لم تحملها عليه فرفعت، كأنّك قلت: ما هو إلاّ الرأي فأبهت.
وقال ابن أحمر فيما جاء منقطعاً من أن:
يعالج عاقراً أعيت عليه ... ليلقحها فينتجها حوارا
كأنه قال: يعالج فإذا هو ينتجها. وإن شئت على الابتداء.
وتقول: لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد، وإن شئت رفعت، كأنّك قلت لا يعدو ذلك فيصنع ما تريد.
وتقول: ما عدا أن رآني فيثب، كأنّه قال ما عدا ذلك فيثب، لأنه ليس على أوّل الكلام. فإن أردت أن تحمل الكلام على أن فإنّ أحسنه ووجهه أن تقول: ما عدا أن رآني فوثب، فضعف يثب هاهنا كضعف ما أتيتني فتحدّثني، إذا حملت الكلام على ما.
ونقول: ما عدوت أن فعلت، وهذا هو الكلام، ولا أعدوا أن أفعل، وما آلو أن أفعل، يعني لقد جهدت أن أفعل.
وتقول: ما عدوت أن آتيك، أي ما عدوت أن يكون هذا من رأي فيما أستقبل. ويجوز أن يجعل أفعل في موضع فعلت، ولا يجوز فعلت في موضع أفعل إلاّ في مجازاة، نحو: إن فعلت فعلت.
وتقول: والله ما أعدو أن جالستك، أي أن كنت فعلت ذلك، أي ما أجاوز مجالستك فيما مضى. ولو أراد ما أعدو أن جالستك غداً كان محالاً ونقضاً، كما أنه لو قال: ما أعدو أن أجالسك أمس كان محالا.
وإنّما ذكرت هذا لتصرّف وجوهه ومعانيه، وأن لا تستحيل منه مستقيماً، فإنّه كلام يستعمله الناس.
ومما جاء منقطعاً قول الشاعر، وهو عبد الرحمن بن أمّ الحكم:
على الحكم المأتيّ يوماً إذا قضى ... قضيّته أن لا يجوز ويقصد
كأنّه قال: عليه غير الجور، ولكنّه يقصد أو هو قاصد، فابتدأ ولم يحمل الكلام على أن، كما تقول: عليه أن لا يجور، وينبغي له كذا وكذا، فالابتداء في هذا أسبق وأعرف؛ لأنّها بمنزلة قولك، كأنّه قال: ونولك. فمن ثمّ لا يكادون يحملونها على أن.
هذا باب الجزاءفما يجازى به من الأسماء غير الظروف: من، وما، وأيهم. وما يجازى به من الظروف: أيّ حين، ومتى، وأين، وأنّى، وحيثما. ومن غيرهما: إن، وإذ ما.
ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ حتّى يضمّ إلى كلّ واحد منهما ما فتصير إذ مع ما بمنزلة إنّما وكأنّما، وليست ما فيهما بلغو، ولكنّ كلّ واحد منهما مع ما بمنزلة حرف واحد.
فممّا كان من الجزاء بإذما قول العبّاس بن مرداس:
إذ ما أتيت على الرسول فقل له ... حقاًّ عليك إذا اطمأنّ المجلس
وقال الآخر، قالوا: هو لعبد الله بن همّام السّلوليّ:
إذ ما تريني اليوم مزجى ظعينتي ... أصعّد سيراً في البلاد وأفرع
فإنّي من قوم سواكم وإنّما ... رجالي فهم بالحجاز وأشجع
سمعناهما ممن يرويهما عن العرب. والمعنى إمّا.
وممّا جاء من الجزاء بأنّي قول لبيد:
فأصبحت أنّي تأتها تلتبس بها ... كلا مر كبيها تحت رجلك شاجر
وفي أين قوله، وهو ابن همّام السّلوليّ:
أين تضرب بنا العداة تجدنا ... نصرف العيس نحوها للتّلاقي
وإنّما منع حيث أن يجازى بها أنّك تقول: حيث تكون أكون، فتكون وصل لها، كأنّك قلت: المكان الذي تكون فيه أكون.

ويبيّن هذا أنّها في الخبر بمنزلة إنّما وكأنّما وإذا، أنّه يبتدأ بعدها الأسماء، أنك تقول: حيث عبد الله قائم زيد، وأكون حيث زيد قائم. فحيث كهذه الحروف التي تبتدأ بعدها الأسماء في الخبر، ولا يكون هذا من حروف الجزاء. فإذا ضممت إليها ما صارت بمنزلة إن وما أشبهها، ولم يجز فيها ما جاز فيها قبل أن تجئ بما، وصارت بمنزلة إمّا.
وأمّا قول النحويّين: يجازى بكلّ شئ يستفهم به، فلا يستقيم، من قبل أنك تجازى بإن وبحيثما وإذ ما ولا يستقيم بهن الاستفهام، ولكنّ القول فيه كالقول في الاستفهام. ألا ترى أنك إذا استفهمت لم تجعل ما بعده صلة. فالوجه أن تقول: الفعل ليس في الجزاء بصلة لما قبله كما أنّه في حروف الاستفهام ليس صلة لما قبله، وإذا قلت: حيثما تكن أكن، فليس بصلة لما قبله، كما أنّك إذا قلت أين تكون وأنت تستفهم فليس الفعل بصلة لما قبله، فهذا في الجزاء ليس بصلة لما قبله، كما أنّ ذلك في الاستفهام ليس بوصل لما قبله. وتقول: من يضربك في الاستفهام، وفي الجزاء: من يضربك أضربه، فالفعل فيهما غير صلة.
وسألت الخليل عن مهما فقال: هي ما أدخلت معها ما لغواً، بمنزلتها مع متى إذا قلت متى ما تأتني آتك، وبمنزلتها مع إن إذا قلت إن ما تأتني آتك، وبمنزلتها مع أين كما قال سبحانه وتعالى: " أينما تكونوا يدرككم الموت " وبمنزلتها مع أيّ إذا قلت: " أيّاما تدعوا فله الأسماء الحسنى " ، ولكنهم استقبحوا أن يكرّروا لفظاً واحداً فيقولوا: ماما، فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى. وقد يجوز أن يكون مه كإذ ضمّ إليها ما.
وسألت الخليل عن قوله: كيف تصنع أصنع.فقال: هي مستكرهة وليست من حروف الجزاء، ومخرجها على الجزاء، لأنّ معناها على أيّ حال تكن أكن.
وسألته عن إذا، ما منعهم أن يجازوا بها؟ فقال: الفعل في إذا بمنزلته في إذ، إذا قلت: أتذكر إذ تقول، فإذا فيما تستقبل بمنزلة إذ فيما مضى. ويبيّن هذا أنّ إذا تجئ وقتاً معلوماً؛ ألا ترى أنّك لو قلت: آتيك إذا احمرّ البسر كان حسناً، ولو قلت: آتيك إن احمرّ البسر، كان قبيحاً. فإن أبداً مبهمة، وكذلك حروف الجزاء. وإذا توصل بالفعل، فالفعل في إذا بمنزلته في حين كأنك قلت: الحين الذي تأتيني فيه آتيك فيه. وقال ذو الرمّة:
تصغي إذا شدّها بالرّحل جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب.
وقال الآخر، ويقال وضعه النحويّون:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثّريد
وقد جازوا بها في الشّعر مضطرّين، شبهوها بإن، حيث رأوها لما يستقبل، وأنها لا بدّلها من جواب.
وقال قيس بن الخطيم الأنصاريّ:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
وقال الفرزدق:
ترفع لي خندف والله يرفع لي ... ناراً إذا خمدت نيرانهم تقد
وقال بعض السّلوليّين:
إذا لم تزل في كلّ دار عرفتها ... لها واكف من دمع عينك يسجم
فهذا اضطرار، وهو في الكلام خطأ، ولكنّ الجيّد قول كعب بن زهير:
وإذا ما تشاء تبعث منها ... مغرب الشمس ناشطاً مذعوراً
واعلم أنّ حروف الجزاء تجزم الأفعال وينجزم الجواب بما قبله.
وزعم الخليل أنّك إذا قلت: إن تأتني آتك، فآتك انجزمت بإن تأتني، كما تنجزم إذا كانت جواباً للأمر حين قلت: ائتني آتك.
وزعم الخليل أن إن هي أمّ حروف الجزاء، فسألته: لم قلت ذلك؟ فقال: من قبل أنّي أرى حروف الجزاء قد يتصرّفن فيكنّ استفهاما ومنها ما يفارقه ما فلا يكون فيه الجزاء، وهذه على حال واحدة أبداً لا تفارق المجازاة.
واعلم أنّه لا يكون جواب الجزاء إلا بفعل أو بالفاء فأمّا الجواب بالفعل فنحو قولك: إن تأتني آتك، وإن تضرب أضرب، ونحو ذلك.
وأمّا الجواب بالفاء فقولك: إن تأتني فأنا صاحبك. ولا يكون الجواب في هذا الموضع بالواو ولا بثمّ. ألا ترى أنّ الرجل يقول افعل كذا وكذا فتقول: فإذن يكون كذا وكذا. ويقول: لم أغث أمس، فتقول: فقد أتاك الغوث اليوم. ولو أدخلت الواو وثمّ في هذا الموضع تريد الجواب لم يجز.

وسألت الخليل عن قوله جلّ وعزّ: " وإن تصبهم سيئة بما قدّمت أيديهم إذا هم يقنطون " فقال: هذا كلام معلّق بالكلام الأوّل كما كانت الفاء معلقة بالكلام الأول وهذا ها هنا في موضع قنطلوا كما كان الجواب بالفاء في موضع الفعل. قال: ونظير ذلك قوله: " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " بمنزلة أم صمتّم. ومما يجعلها بمنزلة الفاء أنّها لا تجئ مبتدأة كما أنّ الفاء لا تجئ مبتدأة.
وزعم الخليل أنّ إدخال الفاء على إذا قبيح، ولو كان إدخال الفاء على إذا حسناً لكان الكلام بغير الفاء قبيحاً؛ فهذا قد استغنى عن الفاء كما استغنت الفاء عن غيرها، فصارت إذا هاهنا جواباً كما صارت الفاء جواباً.
وسألته عن قوله: إن تأتني أنا كريم، فقال: لا يكون هذا إلاّ أن يضطرّ شاعر، من قبل أنّ أنا كريم يكون كلا ما مبتدأ، والفاء وإذا لا يكونان إلاّ معلّقتين بما قبلهما فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء. وقد قاله الشاعر مضطراً، يشبهه بما يتكلّم به من الفعل. قال حسّان بن ثابت:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشرّ بالشرّ عند الله مثلان
وقال الأسديّ:
بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم
وزعم أنّه لا يحسن في الكلام إن تأتني لأفعلنّ، من قبل أنّ لأفعلنّ تجئ مبتدأة. ألا ترى أنّ الرجل يقول لأفعلنّ كذا وكذا. فلو قلت: إن أتيتني لأكرمنّك، وإن لم تأتني لأغمّنّك، جاز لأنّه في معنى لئن أتيتني لأكرمنّك ولئن لم تأتني لأغمّنّك، ولا بدّ من هذه اللام مضمرة أو مظهرة لأنها لليمين، كأنك قلت: والله لئن أتيتني لأكرمنّك.
فإن قلت: لئن تفعل لأفعلنّ قبح، لأنّ لأفعلنّ على أوّل الكلام، وقبح في الكلام أن تعمل إن أو شئ من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمه في اللفظ ثم لا يكون لها جواب ينجزم بما قبله. ألا ترى أنّك تقول: آتيك إن أتيتني، ولا تقول آتيك إن تأتني، إلاّ في شعر، لأنك أخّرت إن وما عملت فيه ولم تجعل لإن جوابا ينجزم بما قبله.
فهكذا جرى هذا في كلامهم. ألا ترى أنه قال عزّ وجلّ: " وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين " وقال عزّ وجلّ: " وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين " لمّا كانت إن العاملة لم يحسن إلاّ أن يكون لها جواب ينجزم بما قبله. فهذا الذي يشاكلها في كلامهم إذا عملت.
وقد تقول: إن أتيتني آتيك، أي آتيك إن أتيتني. قال زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
ولا يحسن إن تأتني آتيك، من قبل أنّ إن هي العاملة. وقد جاء في الشعر، قال جرير بن عبد الله البجليّ:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنّك إن يصرع أخوك تصرع
أي أنّك تصرع إن يصرع أخوك. ومثل ذلك قوله:
هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب
أي والمرء ذئب إن يلق الرّشا. قال الأصمعيّ: هو قديم، أنشدينه أبو عمرو. وقال ذو الرمّة:
وأنّي متى أشرف على الجانب الذي ... به أنت من بين الجوانب ناظر
أي ناظر متى أشرف. فجاز هذا في الشعر، وشبّهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزماً؛ لأنّ المعنى واحد، كما شبّه الله يشكرها وظالم بإذا هم يقنطون، جعله بمنزلة يظلم ويشكرها الله، كما كان هذا بمنزلة قنطوا، وكما قالوا في اضطرار: إن تأتني أنا صاحبك، يريد معنى الفاء، فشبّهه ببعض ما يجوز في الكلام حذفه وأنت تعنيه.
وقد يقال: إن أتيتني آتك وإن لم تأتني أجزك، لأنّ هذا في موضع الفعل المجزوم، وكأنه قال: إن تفعل أفعل.
ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها " ، فكان فعل. وقال الفرزدق:
دسّت رسولاً بأنّ القوم إن قدروا ... عليك يشفوا صدوراً ذات توغير
وقال الأسود بن يعفر:
ألا هل لهذا الدّهر من متعلّل ... عن النّاس مهما شاء بالناس يفعل
وقال: إن تأتني فأكرمك، أي فأنا أكرمك، فلا بدّ من رفع فأكرمك إذا سكتّ عليه، لأنّه جواب، وإنّما ارتفع لأنه مبنيّ على مبتدإ.
ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ " ومن عاد فينتقم الله منه " ومثله: " ومن كفر فأمتعه قليلاً " ومثله: " فمن يؤمن بربّه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً " .

باب الأسماء التي يجازي بها
وتكون بمنزلة الّذي
وتلك الأسماء: من، وما،وأيّهم. فإذا جعلتها بمنزلة الّذي، قلت: ما تقول أقول، فيصير تقول صلة لما حتّى تكمل اسماً، فكأنّك قلت: الذي تقول أقول. وكذلك: من يأتني آتيه وأيّها تشاء أعطيك. وقال الفرزدق:
ومن يميل أمال السّيف ذروته ... حيث التقى من حفا في رأسه الشّعر
وتقول: آتي من يأتيني، وأقول ما تقول، وأعطيك أيّها تشاء. هذا وجه الكلام وأحسنه، وذلك أنه قبيح أن تؤخّر حرف الجزاء إذا جزم ما بعده فلّما قبح ذلك حملوه على الذّي، ولو جزموه هاهنا لحسن أن تقول: آتيك إن تأتني. فإذا قلت: آتي من أتاني، فأنت بالخيار، إن شئت كانت أتاني صلة وإن شئت كانت بمنزلتها في إن.
وقد يجوز في الشعر: آتي من يأتني، وقال الهذليّ:
فقلت تحمّل فوق طوقك إنّها ... مطبّعة من يأتها لا يضيرها
هكذا أنشدناه يونس، كأنه قال: لا يضيرها من يأتها، كما كان: وإنّي متى أشرف ناظر، على القلب، ولو أريد به حذف الفاء جاز فجعلت كإن. وإن قلت: أقول مهما تقل، وأكون حيثما تكن، وأكون أين تكن، وآتيك متى تأتني، وتلتبس بها أنّى تأتها، لم يجز إلاّ في الشعر، وكان جزماً. وإنما كان من قبل أنّهم لم يجعلوا هذه الحروف بمنزلة ما يكون محتاجاً إلى الصلة حتّى يكمل اسماً. ألا ترى أنه لا تقول مهما تصنع قبيح، ولا في الكتاب مهما تقول، إذا أراد أن يجعل القول وصلاً. فهذه الحروف بمنزلة إن لا يكون الفعل صلة لها. فعلى هذا فأجر ذا الباب.
باب ما تكون فيه الأسماء التي يجازى بهابمنزلة الّذي
وذلك قولك: إنّ من يأتيني آتيه، وكان من يأتيني آتيه، وليس من يأتيني آتيه.
وإنّما أذهبت الجزاء من هاهنا لأنّك أعملت كان وإنّ، ولم يسغ لك أن تدع كان وأشباهه معلّقة لا تعملها في شئ فلّما أعملتهنّ ذهب الجزاء ولم يكن من مواضعه. ألا ترى أنك لو جئت بإن ومتى، تريد إنّ إن وإنّ متى، كان محالاً. فهذا دليل على أنّ الجزاء لا ينبغي له أن يكون هاهنا بمن وما وأيّ. فإن شغلت هذه الحروف بشيء جازيت.
فمن ذلك قولك: إنّه من يأتنا نأته، وقال جلّ وعزّ: " إنّه من يأت ربّه مجرماً فإنّ له جهنّم لا يموت فيها ولا يحيا " ، وكنت من يأتني آته. وتقول: كان من يأته يعطه، وليس من يأته يحببه، إذا أضمرت الاسم في كان أو في ليس، لأنّه حينئذ بمنزلة لست وكنت. فإن لم تضمر فالكلام على ما وصفنا.
وقد جاء في الشعر إنّ من يأتني آته. قال الأعشى:
إنّ من لام في بني بنت حسّا ... ن ألمه وأعصه في الخطوب
وقال أميّة بن أبي الصّلت:
ولكنّ من لا يلق أمراً ينوبه ... بعدّته ينزل به وهو أعزل
فزعم الخليل أنّه إنما جازى حيث أضمر الهاء، وأراد إنّه ولكنّه، كما قال الراعي:
فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة ... وإن كان سرح قد مضى فتسرّعا
أراد: فلو أنّه حقّ اليوم. ولو لم يرد الهاء كان الكلام محالا.
وتقول: قد علمت أن من يأتني آته، من قبل أنّ أنّ هاهنا فيها إضمار الهاء، ولا تجئ مخفّفة هاهنا إلاّ على ذلك، كما قال، وهو عديّ بن زيد:
أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص
ولا يجوز أن تنوي في كان وأشباه كان علامة إضمار المخاطب ولا تذكرها. لو قلت: ليس من يأتك تعطه، تريد لست، لم يجز. ولو جاز ذلك لقلت كان من يأتك تعطه، تريد به كنت. وقال الشاعر، الأعشى:
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كلّ من يحفى وينتعل
فهذا يريد معنى الهاء.
ولا تخفّف أن إلاّ عليه، كما قال: قد علمت أن لا يقول ذاك، أي أنّه لا يقول. وقال عزّ وجلّ: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً " . وليس هذا بقويّ في الكلام كقوّة أن لا يقول، لأنّ لا عوض من ذهاب العلامة. ألا ترى أنّهم لا يكادون يتكلّمون به بغد الهاء، فيقولون: قد علمت أن عبد الله منطلق.
باب يذهب فيه الجزاء من الأسماءكما ذهب في إنّ وكان وأشباههما.

غير أنّ إنّ وكان عوامل فيما بعدهنّ، والحروف في هذا الباب لا يحدثن فيما بعدهنّ من الأسماء شيئاً كما أحدثت إنّ وكان وأشباههما، لأنّها من الحروف التي تدخل على المبتدإ والمبنيّ عليه فلا تغيّر الكلام عن حاله، وسأبيّن لك كيف ذهب الجزاء فيهن إن شاء الله.
فمن ذلك قولك: أتذكر إذ من يأتينا نأتيه، وما من يأتينا نأتيه، وأمّا من يأتينا فنحن نأتيه.
وإنّما كرهوا الجزاء هاهنا لأنه ليس من مواضعه. ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، كما لم يجز أن تقول: إنّ إن تأتنا نأتك، فلمّا ضارع هذا الباب باب إنّ وكان كرهوا الجزاء فيه.
وقد يجوز في الشعر أن يجازى بعد هذه الحروف، فتقول: أتذكر إذ من يأتنا نأته. فإنما أجازوه لأن إذ وهذه الحروف لا تغيّر ما دخلت عليه عن حاله قبل أن تجئ بها، فقالوا: ندخلها على من يأتنا نأته ولا تغيّر الكلام، كأنّا قلنا من يأتنا نأته، كما أنّا إذا قلنا إذ عبد الله منطلق فكأنّا قلنا: عبد الله منطلق؛ لأنّ إذ لم تحدث شيئاً لم يكن قبل أن تذكرها. وقال لبيد:
على حين من تلبث عليه ذنوبه ... يرث شربه إذ في المقام تدابر
ولو اضطرّ شاعر فقال: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، جاز له كما جاز في من.
وتقول: أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته، فنحن فصلت بين إذ ومن، كما فصل الاسم في كان بين كان ومن. وتقول: مررت به فإذا من يأتيه يعطيه. وإن شئت جزمت لأنّ الإضمار يحسن هاهنا. ألا ترى أنك تقول: مررت به فإذا أجمل الناس، ومررت به فإذا أيّما رجل. فإذا أردت الإضمار فكأنك قلت: فإذا هو من يأته يعطه. فإذا لم تضمر وجعلت إذا هي لمن، فهي بمنزلة إذ لا يجوز فيها الجزم.
وتقول: لا من يأتك تعطه، ولا من يعطك تأته، من قبل أنّ لا ليست كإذ وأشباهها، وذلك لأنّها لغو بمنزلة ما في قوله عزّ وجلّ: " فبما رحمة من الله لنت لهم " ، فما بعده كشيء ليس قبله لا. ألا تراها تدخل على المجرور فلا تغيّره عن حاله، تقول: مررت برجل لا قائم ولا قاعد. وتدخل على النصب فلا تغيّره عن حاله، تقول: لا مرحباً ولا أهلاً، فلا تغيّر الشيء عن حاله التي كان عليها قبل أن تنفيه، ولا تنفيه مغيّراً عن حاله، يعني في الإعراب التي كان عليها، فصار ما بعدها معها بمنزلة حرف واحد ليست فيه لا، وإذ وأشباهها لا يقعن هذه المواقع ولا يكون الكلام بعدهن إلاّ مبتدأ. وقال ابن مقبل:
وقدر ككفّ القرد لا مستعيرها ... يعار ولا من يأتها يتدسّم
ووقوع إن بعد لا يقوّي الجزاء فيما بعد لا. وذلك قول الرجل: لا إن أتيناك أعطيتنا، ولا إن قعدنا عندك عرضت علينا؛ ولا لغو في كلامهم. ألا ترى أنك تقول: خفت أن لا تقول ذاك وتجري مجرى خفت أن تقول.
وتقول: إن لا يقل أقل، فلا لغو، وإذ وأشباهها ليست هكذا، إنّما يصرفن الكلام أبداً إلى الابتداء.
وتقول: ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك، جاز هذا وحسن لأنّك قد تضمرها هنا كما تضمر في إذا. ألا ترى أنك تقول: ما رأيتك عاقلاً ولكن أحمق. وإن لم تضمر تركت الجزاء كما فعلت ذلك في إذا. قال طرفة:
ولست بحلاّل التلاّع مخافةً ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد
كأنه قال: أنا. ولا يجوز في متى أن يكون الفعل وصلاً لها كما جاز في من والّذي. وسمعناهم ينشدون قول العجير السّلوليّ:
وما ذاك أن كان ابن عميّ ولا أخي ... ولكن متى ما أملك الضرّ أنفع
والقوافي مرفوعة كأنه قال: ولكن أنفع متى ما أملك الضرّ، ويكون أملك على متى في موضع جزاء، وما لغو، ولم يجد سبيلاً إلى أن يكون بمنزلة من فتوصل، ولكنها كمهما.
وأمّا قوله عزّ وجلّ: " وأمّا إن كان من أصحاب اليمين. فسلام لك من أصحاب اليمين " فإنّما هو كقولك: أمّا غداً فلك ذاك. وحسنت إن كان لأنه لم يجزم بها، كما حسنت في قوله: أنت ظالم إن فعلت.
باب إذا ألزمت فيه الأسماء التي تجازى بهاحروف الجرّ لم تغيّرها عن الجزاء
وذلك قولك: على أيّ دابّة أحمل أركبه، وبمن تؤخذ أو خذ به.
هذا قول يونس والخليل جميعاً.
فحروف الجرّ لم تغيّرها عن حال الجزاء، كما لم تغيّرها عن حال الاستفهام. ألا ترى أنّك تقول: بمن تمرّ، وعلى أيّها أركب؟ فلو غيّرتها عن الجزاء غيّرتها عن الاستفهام. وقال ابن همّام السّلوليّ:

لّما تمكّن دنياهم أطاعهم ... في أيّ نحو يميلوا دينه يمل
وذاك لأنّ الفعل إنّما يصل إلى الاسم بالباء ونحوها، فالفعل مع الباء بمنزلة فعل ليس قبله حرف جرّ ولا بعده، فصار الفعل الذي يصل بإضافة كالفعل الذي لا يصل بإضافة؛ لأنّ الفعل يصل بالجرّ إلى الاسم كما يصل غيره ناصباً أو رافعاً. فالجرّ هاهنا نظير النصب والرفع في غيره.
فإن قلت: بمن تمرّ به أمرّ، وعلى أيّهم تنزل عليه أنزل، وبما تأتيني به آتيك، رفعت لأنّ الفعل إنّما أوصلته إلى الهاء بالباء الثانية والباء الأولى للفعل الآخر، فتغيّر عن حال الجزاء كما تغيّر عن حال الاستفهام، فصارت بمنزلة الّذي؛ لأنّك أدخلت الباء للفعل حين أوصلت الفعل الذي يلي الاسم بالباء الثانية إلى الهاء، فصارت الأولى ككان وإنّ - يقول: لا يجازى بما بعدها - وعملت الباء فيما بعدها عمل كان وإنّ فيما بعدهما.
وقد يجوز أن تقول: بمن تمرر أمره، وعلى من تنزل أنزل، إذا أردت معنى عليه وبه؛ وليس بحدّ الكلام، وفيه ضعف. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو بعض الأعراب:
إنّ الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوماً على من يتكل
يريد: يتكل عليه، ولكنه حذف. وهذا قول الخليل.
وتقول: غلام من تضرب أضربه؛ لأنَّ ما يضاف إلى من بمنزلة من. ألا ترى أنك تقول: أبوأيهم رأيته، كما تقول: أيهم رأيته. وتقول: بغلام من تؤخذ أو خذ به، كأنك قلت: بمن تؤخذ أؤخذ به.
وحسن الاستفهام ها هنا يقوِّي الجزاء، تقول: غلام من تضرب، وبغلام من مررت. ألا ترى أنّ كينونة الفعل غير وصل ثابتة.
وتقول: بمن تمرر أمرر به، وبمن تؤخذ أوخذ به. فحدُّ الكلام أن تثبت الباء في الآخر لأنه فعل لا يصل إلا بحرف الإضافة. يدلّك على ذلك أنك لو قلت: من تضرب أنزل لم يجز حتى تقول عليه، إلا في شعر.
فإن قلت: بمن تمرر أمرر أو بمن تؤخذ أوخذ، فهو أمثل وليس بحد الكلام. وإنما كان في هذا أمثل لأنه قد ذكر الباء في الفعل الأول، فعلم أنّ الآخر مثله لأنه ذلك الفعل.

باب الجزاء إذا أدخلت فيه ألف الاستفهام
وذلك قولك: أإن تأتني آتك. ولا تكتفي بمن لأنها حرف جزاء، ومتى مثلها؛ فمن ثمًّ أدخل عليه الألف، تقول: أمتى تشتمني أشتمك وأمن يفعل ذاك أزره؛ وذلك لأنك أدخلت الألف على كلام قد عملَ بعضه في بعض فلم يغيَّره، وإنما الألف بمنزلة الواو والفاء ولا ونحو ذلك، لا تغيَّر الكلام عن حاله، وليست كإذ وهل وأشباههما. ألا ترى أنها تدخل على المجرور والمنصوب والمرفوع فتدعه على حاله ولا تغيّره عن لفظ المستفهم. ألا ترى أنه يقول : مررت بزيدٍ فتقول: أزيد إن شئت قلت أزيدنيه، وكذلك تقول في النصب والرفع؛ وإن شئت أدخلتها على كلام المخبر ولم تحذف منه شيئاً، وذلك إذا قال: مررت بزيدٍ قلت: أمررت بزيد. ولا يجوز ذلك في هل وأخواتها.
ولو قلت: هل مررت بزيدٍ كنت مستأنفاً. ألا ترى أنَّ الألف لغو. فإن قيل: فإن الألف لا بدَّ لها من أن تكون معتمدة على شيء فإنَّ هذا الكلام معتمد لها، كما تكون صلةً للذي إذا قلت: الذي إن تأته يأتك زيد. فهذا كلُّه وصلٌ.
فإن قال: الذي إن تأته يأتيك زيدٌ، وأجعل يأيتكَ صلةَ الَّذي لم يجد بدَّاً من أن يقول: أنا إن تأتني آتيك؛ لأنَّ أنا لا يكون كلاماً حتى يبنى عليه وأمَّا يونس فيقول: أإن تأتني آتيك. وهذا قبيح يكره في الجزاء وإن كان في الاستفهام. وقال عزَّ وجلَّ: " أفإن متَّ فهم الخالدون. " ولو كان ليس موضعَ جزاء قبح فيه إن، كما يقبح أن، تقول: أتذكر إذ إن تأتني آتيك. فلو قلت: إن أتيتني آتيك على القلب كان حسناً.
؟باب الجزاء إذا كان القسم في أوَّله
وذلك قولك: والَّله إن أتيتني لا أفعل، لا يكون إلا معتمدةً عليه اليمين. ألا ترى أنَّك لو قلت: والله إن تأتني آتك لم يجز ولو قلت والَّله من يأتني آته كان محالاً، واليمين لا تكون لغواً كلا والألف؛ لأن اليمين لآخر الكلام وما بينهما لا يمنع الآخر أن يكون على اليمين وإذا قلت آإن تأتني آتك فكأنك لم تذكر الألف واليمين ليست هكذا في كلامهم. ألا ترى أنك تقول: زيدٌ منطلقٌ، فلو أدخلت اليمن غيَّرت الكلام.

وتقول: أنا والَّله إن تأتني لا آتك؛ لأن هذا الكلام مبني على أنا ألا ترى أنه حسن أن تقول: أتا والله إن تأتني آتك فالقسم ها هنا لغوٌ.فإذا بدأت بالقسم لم يجز إلا أن يكون عليه. ألا ترى أنك تقول: لئن أتيتني لا أفعل ذاك، لأنها لام قسمٍ. ولا يحسن في الكلام لئن تأتني لا أفعل؛ لأنَّ الآخر لا يكون جزماً.
وتقول: والَّله إن أتيتني آتيك، وهو معنى لا آتيك، وهو معنى لا آتيك. فإن أردت أن الإتيان يكون فهو غير جائز، وإن نفيت الإتيان وأردت معنى لا آتيك فهو مستقيم. وأمَّا قول الفرزدق:
وأنتم لهذا الناس كالقبلة التي ... بها أن يضلَّ الناس يهدى ضلالها
فلا يكون الآخر إلا رفعاً، لأنَّ أن لا يجازى بها وإنما هي مع الفعل اسم فكأنه قال: لأن يضلَّ الناس يهدى. وهكذا أنشده الفرزدق.
باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهمافأمَّا ما يرتفع بينهما فقولك: إن تأتني تسألني أعطك، وإن تأتني تمش أمش معك. وذلك لأنك أردت أن تقول إن تأتني سائلاً يكن ذلك، وإن تأتني ماشياً فعلت. وقال زهير:
ومن لا يزل يستحمل النَّاس نفسه ... ولا يغنها يوماً من الدهر يسأم
إنما أراد: من لا يزل مستحملاً يكن من أمره ذاك. ولو رفع يغنها جاز وكان حسناً، كأنَّه قال: من لا يزل لا يغنى نفسه.
ومما جاء أيضاً مرتفعاً قول الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نارٍ عندها خير موقد
وسألت الخليل عن قوله:
متى تأتنا بلمم بنا في ديارنا ... تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
قال: تلمم بدل من الفعل الأول. ونظيره في الأسماء: مررت برجلٍ عبد الَّله، فأراد أن يفسر الإتيان بالإلمام كما فسَّر الاسم الأوَّل بالاسم الآخر.
ومثل ذلك أيضاً قوله، أنشدنيهما الأصمعيّ عن أبي عمرو لبعض بني أسد:
إن يبخلوا أو يجبنوا ... أو يغدروا لا يحفلوا
يغدوا عليك مرجَّلين كأنهم لم يفعلو
فقوله يغدوا: بدل من لا يحفلوا،وغدوهم مرجَّلين يفسِّر أنَّهم لم يحفلوا.
وسألته: هل يكون إن تأتنا تسألنا نعطك؟ فقال : هذا يجوز على غير أن يكون مثل الأول، لأنَّ الأوّل الفعل الآخر تفسير له، وهو هو، والسُّوال لا يكون الإتيان، ولكنَّه يجوز على الغلط والنَّسيان ثم يتدارك كلامه.
ونظير ذلك في الأسماء: مررت برجلٍ حمارٍ، كأنه نسي ثم تدارك كلامه.
وسألته عن قوله جلَّ وعزَّ: " ومن يفعل ذلك يلق أثاماً. يضاعف له العذاب يوم القيامة " فقال: هذا كالأوّل؛ لأن مضاعفة العذاب هو لقيٌّ الآثام.
ومثل ذلك من الكلام: إن تأتنا بحسن إليك نعطك ونحميك، تفسر الإحسان بشيء هو هو، وتجعل الآخر بدلاً من الأول.
فإن قلت: إن تأتني آتك أقل ذاك، كان غير جائز؛ لأنَّ القول ليس بالإتيان إلا أن تجيزه على ما جاز عليه تسألنا وأمَّا ما ينجزم بين المجزومين فقولك: إن تأتني ثمَّ تسألني أعطك، وإن تأتني فتسألني أعطك، وإن تأتنيي وتسألني أعطك. وذلك لأنَّ هذه الحروف يشركن الآخر فيما دخل فيه الأول. وكذلك أو وما أشبههنَّ.
ولا يجوز في ذا الفعل الرفع. وإنَّما كان الرفع في قوله متى تأته تعشو، لأنَّه في موضع عاش، كأنه قال: متى تأته عاشياً. ولو قلت متى تأته وعاشياً كان محالاً. فإنَّما أمرهن أن يشركن بين الأوّل والآخر.
وسألت الخليل عن قوله: إن تأتني فتحدثني أحدثك، وإن تأتني وتحدثني أحدِّثك، فقال: هذا يجوز، والجزم الوجه.
ووجه نصبه على أنه حمل الآخر على الاسم، كأنه أراد إن يكن إتيان فحديث أحدِّثك ،فلمَّا قبح أن يرد الفعل على الاسم نوى أن، لأن الفعل معها اسم.
وإنما كان الجزم الوجه لأنه إذا نصب كان المعنى معنى الجزم فيما أراد من الحديث، فلمّا كان ذلك كان أن يحمل على الذي عمل فيما يليه أولى؛ وكرهوا أن يتخطَّوا به من بابه إلى آخر إذا كان يريد شيئاً واحداً.
وسألته عن قول ابن زهير:
ومن لا يقدِّم رجله مطمئنة ... فيثبتها في مستوى الأرض يزلق
فقال: النصب في هذا جيِّد، لأنه أرادها هنا من المعنى ما أراد في قوله: لا تأتينا إلا لم تحدِّثنا، فكأنه قال: من لا يقدَّم إلا لم يثبت زلق.

ولا يكون أبداً إذا قلت: إن تأتني فأحدثك الفعل الآخر الا رفعا، وإنَّما منعه أن يكون مثل ما انتصب بين المجزومين أنّ هذا منقطع من الأوّل؛ شريك له وإذا قلت إن يكن إتيان فحديثٌ أحدثك، فالحديث متصل بالأول؛ ألا ترى أنَّك إذا قلت: إن يكن إتيانٌ فحديث ثمّ سكتَّ وجعلته جواباً لم يشرك الأول، وكان مرتفعاً بالابتداء.
وتقول: إن تأتني لآتك فأُحدثك. هذا الوجه، وإن شئت ابتدأتَ. وكذلك الواو وثمَّ، وإن شئت نصبت بالواو والفاء كما نصبت ما كان بين المجزومين.
واعلم أنّ ثمَّ لا ينصب بها كما ينصب بالواو والفاء، ولم يجعلوها مما يضمر بعده أن، وليس يدخلها من المعاني ما يدخل في الفاء،وليس معناها معنى الواو، ولكنها تشرك ويبتدأ بها.
واعلم أنّ ثمَّ إذا أدخلته على الفعل الذي بين المجزومين لم يكن إلَّا جزماً، لأَّنه ليس مما ينصب. وليس يحسن الابتداء لأنَّ ما قبله لم ينقطع. وكذلك الفاء والواو وأو إذا لم ترد بهن النصب، فإذا انقضى الكلام ثم جئت بثمَّ، فإن شئت جزمت وإن شئت رفعت. وكذلك الواو والفاء. قال الَّله تعالى: " وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثمَّ لا ينصرون " وقال تبارك وتعالى: " وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثمَّ لا يكونوا أمثالكم " إِّلا أنَّه قد يجوز النصب بالفاء والواو.
وبلغنا أنَّ بعضهم قرأ: " يحاسبكم به الَّله فيغفر لمن يشاء ويعذِّب من يشاء " والَّله على كل شيء قدير " وتقول: إن تأتني فهو خير لك وأكرمك، وإن تأتني فأنا لآتيك وأحسن إليك. وقال عزَّ وجلَّ: " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم ونكفر عنكم من سيئاتكم " . والرفع ههنا وجه الكلام، وهو الجيِّد؛ لأنَّ الكلام الذي بعد الفاء جرى مجراه في غير الجزاء فجرى الفعل هنا كما كان يجري في غير الجزاء.
وقد بلغنا أنَّ بعض القرَّاء قرأ: " من يضلل الَّله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون " ؛ وذلك لأنَّه حمل الفعل على موضع الكلام؛لأنَّ هذا الكلام في موضع يكون جواباً؛ لأنّ أصل الجزاء الفعل، وفيه تعمل حروف الجزاء؛ ولكنَّهم قد يضعون في موضع الجزاء غيره.
؟ومثل الجزم ههنا النصب في قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
حمل الآخر على موضع الكلام وموضعه موضع نصبٍ، كما كان موضع ذاك موضع جزمِ.
وتقول: إن تأتني فلن أوذيك وأستقبلك بالجميل، فالرفع ههنا الوجه إذا لم يكن محمولاً على لن كما قال الرفع الوجه في قوله فهو خير لك وأكرمك ومثل ذلك إن أتيتني لم آتك وأحسن إليك فالرفع الوجه إذا لم تحمله على لم كما كان ذلك في لن.
وأحسن ذلك أن تقول: إن تأتني لا آتك، كما أن أحسن الكلام أن تقول: إن أتيتني لم آتك. وذلك أنّ لم أفعل نفي فعل وهو مجزوم بلم، ولا أفعل نفي أفعل وهو مجزوم بالجزاء. فإذا قلت: إن تفعل فأحسن الكلام أن يكون الجواب أفعل وهو مجزوم بالجزاء. فإذا قلت: إن تفعل فأحسن الكلام أن يكون الجواب أفعل لأنه نظيره من الفعل. وإذا قال إن فعلت فأحسن الكلام أن تقول: فعلت، لأنَّه مثله. فكما ضعف فعلت مع أفعل، وأفعل مع فعلت، قبح لم أفعل مع يفعل، لأن لم أفعل نفي فعلت. وقبح لا أفعل مع فعل لأنها نفي أفعل.
واعلم أنَّ النصب بالفاء والواو في قوله:إن تأتني لآتك وأعطيك ضعيف، وهو نحومن قوله:
وألحق بالحجاز فأستريحا
فهذا يجوز وليس بحد الكلام ولا وجهه، إلَّا أنَّه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنّه ليس بواجب أنّه يفعل، إلّا أن يكون من الأول فعلٌ، فلمَّا ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه، وإن كان معناه كمعنى ما قبله إذا قال وأعطيك. وإنَّما هو في المعنى كقوله أفعل إن شاء الَّله، يوجب بالإستثناء. قال الأعشى فيما جاز من النصب:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصرع مظلومٍ مجراً ومسحبا
وتدفن منه الصالحات وإن يسىء ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا
باب من الجزاء ينجزم فيه الفعلإذا كان جواباً لأمرٍ أو نهي أو استفهام أو تمنِّ أو عرض
فأما ما انجزم بالأمر فقولك : ائتني آتك.
وأما ما انجزم بالنهي فقولك: لا تفعل يكن خيراً لك.
وأمّا ما انجزم بالاستفهام فقولك: ألا تأتيني أحدثِّك؟ وأين تكون أزرك؟ وأمّا ما انجزم بالتّمني فقولك: ألا ماءَ أشربه، وليته عندنا يحدَّثنا.

وأمَّا ما انجزم بالعرض فقولك: ألا تنزل تصب خيراً.
وإنَّما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب إن تأتني، بإن تأتني، لأنَّهم جعلوه معلَّقاً بالأوّل عير مستغنٍ عنه إذا أرادوا الجزاء، كما أنَّ إن تأتني عير مستغنية عن آتك.
وزعم الخليل: أنَّ هذه الأوائل كلَّها فيها معنى إن، فلذلك انجزم الجواب؛ لأنه إذا قال ائتني آتك فإنّ معنى كلامه إن يكن منك إتيان آتك، وإذا قال: أين بيتك أزرك، فكأنّه قال إن أعلم مكان بيتك أزرك ؛ لأنّ قوله أين بيتك يريد به: أعلمني. وإذا قال ليته عندنا يحدثنا، فإنّ معنى هذا الكلام إن يكن عندنا يحدَّثنا، وهو يريد ههنا إذا تمنَّى ما أراد في الأمر.وإذا قال لو نزلت فكأنَّه قال انزل.
ومما جاء من هذا الباب في القرآن وغيره قوله عزّ وجلّ: " هل أدلُّكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابِ أليم. تؤمنون بالَّله ورسوله وتجاهدون في سبيل الَّله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون " فلمَّا انقضت الآية قال: " يغفر لكم " .
ومن ذلك أيضاً: أتينا أمس نعطيك اليوم، أي إن كنت أتيتنا أمس أعطيناك اليوم. هذا معناه فإن كنت تريد أن تقررِّه بأنه قد فعل فإنَّ الجزاء لا يكون، لأنَّ الجزاء إنَّما يكون في غير الواجب.
ومما جاء أيضاً منجزماً بالاستفهام قوله، وهو رجل من بني تغلب، جابر ابن حنى:
ألا تنتهي عنَّا ملوك وتتقى ... محارمنا لا يبؤ الدَّم بالدَّم
وقال الراجز:
متى أنام لا يؤرقني الكرى ... ليلاً ولا أسمع أجراس المطى
كأنّه قال: إ، يكن منِّى نومٌ في غير هذه الحال لا يؤرقني الكرىُّ، كأنَّه لم يعَّد نومه في هذه الحال نوماً.
وقد سمعنا من العرب من يشمُّه الرَّفع، كأنه يقول: متى أنام غير مؤرق.
وتقول: ائتني آتك، فتجزم على ما وصفنا، وإن شئت رفعت على أن لا تجعله معلقاً بالأوَّل، ولكنَّك تبتدئه وتجعل الأوّل مستغنياً عنه، كأنَّه يقول: ائتني أنا آتيك. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو الأخطل:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف أمريءٍ يمضي لمقدار
وقال الأنصاري:
يا مال والحق عنده فقفوا ... تؤتون فيه الوفاء معترفا
كأنّه قال: إنكم تؤتون فيه الوفاء معترفاً. وقال معروف:
كونوا كمن واسى أخاه بنفسه ... نعيش جميعاً أو نموت كلانا
كأنه قال: كونوا هكذا إنّا نعيش جميعاً أو نموت كلانا إن كان هذا أمرنا.
وزعم الخليل: أنَّه يجوز أن يكون نعيش محمولاً على كونوا، كأنه قال: كونوا نعيش جميعاً أو نموت كلانا.
وتقول: لا تدن منه يكن خيراً لك. فإن قلت: لا تدن من الأسديا كلك فهو قبيح إن جزمت، وليس وجه كلام الناس؛ لأنَّك لا تريد أن تجعل تباعده من الأسد سبباً لأكله. وإن رفعت فالكلام حسن، كأنك قلت: لا تدن منه فإنَّه يأكلك. وإن أدخلت الفاء فهو حسن ، وذلك قولك: لا تدن منه فيأكلك.
وليس كلُّ موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزاء. ألا ترى أنه يقول: ما أتيتنا فتحثنا، والجزاء ههنا محال. وإنما قبح الجزم في هذا لأنه لا يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء.
وسمعنا عربياً موثوقاً بعربيته يقول: لا تذهب به تغلب عليه؛ فهذا كقوله: لا تدن من الأسد يأكلك.
وتقول: ذره يقل ذاك، وذره يقول ذاك فالرفع من وجهين: فأحدهما الإبتداء، والآخر على قولك: ذره قائلاً ذاك؛فتجعل يقول في موضع قائل.
فمثل الجزم قوله عزّ وجلّ: " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل " ومثل الرفع قوله تعالى جدٌّه: " ذرهم في خوضهم يلعبون " .
وتقول: ائتني تمشي، أي ائتني ماشياً، وإن شاء جزمه على أنه إن أتاه مشي فيما يستقبل فيما يستقبل . وإن شاء رفعه على الإبتداء.
وقال عز وجل: " فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى " . فالرفع على وجهين: على الإبتداء، وعلى قوله: اضربه غير خائفٍ ولا خاشٍ.
وتقول: قم يدعوك؛ لأنك لم ترد أن تجعله دعاءً بعد قيامه ويكون القيام سبباً له، ولكنَّك أردت: قم إنّه يدعوك. وإن أردت ذلك المعنى جزمت.
وإما قول الأخطل
كرُّوا إلى حرَّيتكم تعمرونهما ... كما تكرُّ إلى أوطانها البقر
فعلى قوله: كرُّوا عامرين. وإن شئت رفعت على الابتداء.

وتقول: مره يحفرها، وقل له يقل ذاك. وقال الَّله عزّ وجلّ: " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصّلاة وينفقوا ممَّا رزقناهم " . ولو قلت مره يحفرها على الابتداء كان جيَّداً. وقد جاء رفعه على شيء هو قليل في الكلام، على مره أن يحفرها، فإذا لم يذكروا أن، جعلوا المعنى بمنزلته في عسينا نفعل. وهو في الكلام قليل، لا يكادون يتكلمون به، فإذا تكلموا به فالفعل كأنه في موضع اسم منصوب، كأنه قال: عسى زيد قائلاً، ثم وضع يقول في موضعه. وقد جاء في الشعر، قال طرفة بن العبد:
ألا أبهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد الَّلذات هل أنت مخلدي
وسألته عن قوله عزّ وجل: " قل أفغير الَّله تأمروني أعبد أيُّها الجاهلون " فقال: تأمرونِّي كقولك: هو يقول ذاك بلغني، فبلغني لغو فكذلك تأمرونِّي، كأنه قال: فيما تأمرونِّي، كأنّه. قال فيما بلغني. وإن شئت كان بمنزلة:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغى
باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهيلأنّ فيها معنى الأمر والنهي
فمن تلك الحروف: حسبك، وكفيك، وشرعك، وأشباهها.
تقول: حسبك ينم الناس. ومثل ذلك: " اتّقي الَّله امرؤ وفعل خيراً يثب عليه " لأنّ فيه معنى ليتَّق الَّله امرؤ وليفعل خيراً. وكذلك ما أشبه هذا.
وسألت الخليل عن قوله عزّ وجلّ: " فأصَّدق وأكن من الصالحين " فقال: هذا كقول زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا
فإنَّما جرّوا هذا، لأنَّ الأوّل قد يدخله الباء، فجاءوا بالثاني وكأنَّهم قد أثبتوا في الأول الباء، فكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزماً ولا فاء فيه تكلّموا بالثاني، وكأنهم قد جزموا قبله، فعلى هذا توهمّوا هذا.
وأما قول عمرو بن عمّار الطائيّ:
فقلت له صوِّب ولا تجهدنَّه ... فيدنك من أخرى القطاة فتزلق
فهذا على النهي كما قال: لا تمددها فتشققها، كأنَّه قال: لا تجهدنّه ولا يدنينّك من أخرى القطاة ولا تزلقن.
ومثله من النهي: لا يرينَّك ههنا، ولا أرينَّك ههنا.
وسألته عن آتي الأمير لا يقطع الِّصَّ، فقال: الجزاء ها هنا خطأ، لا يكون الجزاء أبداً حتى يكون الكلام الأول غير واجب، إلا أن يضطرَّ شاعر.ولا نعلم هذا جاء في شعر البتَّة.
وسألته عن قوله: أما أنت منطلقاً أنطلق معك، فرفع. وهو قول أبي عمرو، وحدثنا به يونس. وذلك لأنّه لا يجازي بأن كأنّه قال: لأن صرت منطلقاً أنطلق معك.
وسألته عن قوله: ما تدوم لي أدوم لك، فقال: ليس في هذا جزاء، من قبل أن الفعل صلة لما؛ فصار بمنزلة الّذي، وهو بصلته كالمصدر، ويقع على الحين كأنّه قال: أدوم لك دوامك لي. فما، ودمت، بمنزلة الدَّوام. ويدلّك على أنَّ الجزاء لا يكون ها هنا أنك لا تستطيع أن تستفهم بما تدوم على هذا الحدّ.
ومثل ذلك: كلَّما تأتيني آتيك، فالإتيان صلة لما، كأنه قال: كلَّ إتيانك آتيك، وكلَّما تأتيني يقع أيضاً على الحين كما كان ما تأتيني يقع على الحين. ولا يستفهم بما تدوم.
وسألته عن قوله: الذي يأتيني فله درهمان، لم جاز دخول الفاء ها هنا والَّذي يأتيني بمنزلة عبد اللَّه، وأنت لا يجوز لك أن تقول عبد الَّله فله درهما؟ فقال: إنَّما يحسن في الَّذي لأنه جعل الآخر جواباً للأوَّل، وجعل الأوّل به يجب له الدرهمان، فدخلت الفاء ها هنا، كما دخلت في الجزاء إذا قال: إن يأتني فله درهمان. وإن شاء قال: الذي يأتيني له درهمان، كما تقول: عبد الَّله له درهمان غير أنَّه إنما أدخل الفاء لتكون العطّية مع وقوع الإتيان، فإذا أدخل الفاء فإنما يجعل الإتيان سبب ذلك. فهذا جزاء وإن لم يجزم، لأنَّه صلة.
ومثل ذلك قولهم: كلّ رجل يأتينا فله درهمان. ولو قال: كلّ رجل فله درهمان كان محالاً، لأنه لم يجيْ بفعل ولا بعمل يكون له جوابٌ.
ومثل ذلك : " الذَّين ينفقون أموالهم بالَّليل والنَّهار سرَّاّ وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربِّهم " وقال تعالى جدُّه: " قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم " ومثل ذلك: " إنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمَّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنَّم ولهم عذاب الحريق.

وسألت الخليل عن قوله جلَّ ذكره: " حتَّى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " أين جوابها؟ وعن قوله جل وعلا: " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب " ، " ولو يرى إذ وقفوا على النَّار " فقال: إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر الجواب في كلامهم، لعلم المخبر لأيِّ شيء وضع هذا الكلام.
وزعم أنَّه قد وجد في أشعار العرب ربَّ لا جواب لها. من ذلك قول الشمّاخ:
ودوّيّةٍ قفرٍ تمشِّى نعامها ... كمشي النَّصارى في خفاف الأرندج
وهذه القصيدة التي فيها هذا البيت لم يجيء فيها جوابٌ لربَّ؛ لعلم المخاطب أنّه يريد قطعتها، وما فيه هذا المعنى:
باب الأفعال في القسماعلم أنَّ القسم توكيدٌ لكلامك. فإذا حلفت على فعلٍ غير منفيّ لم يقع لزمته اللامُ. ولزمت اللام النونُ الخفيفة أو الثقيلة في آخر الكلمة.وذلك قولك: والَّله لأفعلنَّ.
وزعم الخليل: أن النون تلزم اللام كلزوم اللام في قولك: إن كان لصالحاً، فإن بمنزلة اللام، واللام بمنزلة النون في آخر الكلمة.
واعلم أنّ من الأفعال أشياء فيها معنى اليمين، يجري الفعل بعدها مجراه بعد قولك واللَّه، وذلك قولك: أقسم لأفعلنَّ، وأشهد لأفعلنَّ، وأقسمت باللَّه عليك لتفعلنَّ.
وإن كان الفعل قد وقع وحلفت عليه لم تزد على اللام؛ وذلك قولك: والَّله لفعلت. وسمعنا من العرب من يقول: والَّله لكذبت، وواللَّه لكذب.
فالنون لا تدخل على فعلٍ قد وقع، إنَّما تدخل على غير الواجب.
وإذا حلفت على فعلٍ منفيٍّ لم تغيِّره عن حاله التي كان عليها قبل أن تحلف، وذلك قولك: والَّله لا أفعل. وقد يجوز لك وهو من كلام العرب أن تحذف لا وأنت تريد معناها، وذلك قولك: والَّله أفعل ذلك أبداً، تريد: والَّله لا أفعل ذلك أبداً. وقل:
فحالف فلا والَّله تهبط تلعةً ... من الأرض إلا أنت للذل عارف
وسألت الخليل عن قولهم: أقسمت عليك إلاَّ فعلت ولّما فعلت، لم جاز هذا في هذا الموضع، وإنّما أقسمت ها هنا كقولك: والَّله؟ فقال: وجه الكلام لتفعلنَّ، هاهنا ولكنهم إنما أجازوا هذا لأنهم شبهوه بنشدتك الله، إذ كان فيه معنى الطلب. وسألته عن قوله إذا جاءت مبتدأةً ليس قبلها ما يحلف به؟ فقال: إنّما جاءت على نيَّة اليمين وإن لم يتكلَّم بالمحلوف به.
واعلم أنَّك إذا أخبرت عن غيرك أنَّه أكَّد على نفسه أو على غيره فالفعل يجري مجراه حيث حلفت أنت؛ وذلك قولك: أقسم ليفعلنَّ، واستحلفه ليفعلنّ، وحلف ليفعلنَّ ذلك، وأخذ عليه لا يفعل ذلك أبداً. وذاك أنَّه أعطاه من نفسه في هذا الموضع مثل ما أعطيت أنت من نفسك حين حلفت، كأنَّك قلت حين قلت أقسم ليفعلَّن قال واللَّه ليفعلنَّ، وحين قلت استحلفه ليفعلنَّ قال له واللَّه ليفعلنَّ.
ومثل ذلك قوله تعالى جدُّه: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاَّ الَّله " .
وسألته: لِمَ لَم يجز والَّله تفعل يريدون بها معنى ستفعل؟ فقال: من قبل أنَّهم وضعوا تفعل ها هنا محذوفة منها لا، وإنما تجيء في معنى لا أفعل، فكرهوا أن تلتبس إحداهما بالأخرى. فقلت:فلم ألزمت النون آخر الكلمة؟ فقال: لكي لا يشبه قوله إنه ليفعل، لأنّ الرجل إذا قال هذا فإنما يخبر بفعلٍ واقع فيه الفاعل، كما ألزموا اللام: إن كان ليقول، مخافة أن يلتبس بما كان يقول ذاك، لأنّ إن تكون بمنزلة ما.
وسألته عن قوله عزّ وجل: " وإذ أخذ الَّله ميثاق النَّبييِّن لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جاءكم رسول مصدِّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنَّه " فقال: ما ههنا بمنزلة الّذي، ودخلتها اللام كما دخلت على إن حين قلت: واللّه لئن فعلت لأفعلنّ، واللام التي في ما كهذه التي في إن، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا.
ومثل هذه هذه اللام الأولى أن إذا قلت: والَّله أن لو فعلت لفعلت. وقال:
فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشرِّ مظلم
فأن في لو بمنزلة اللام في ما، فأوقعت ها هنا لامين: لام للأول ولام للجواب، ولام الجواب هي التي يعتمد عليها القسم، فكذلك الامان في قوله عز وجل: " لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جاءكم رسول مصدَّق لما معكم لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه " لام للأوّل وأخرى للجواب.
ومثل ذلك " لمن تبعك منهم لأملأنَّ " إنما دخلت اللام على نيّة اليمين. والَّله أعلم.

وسألته عن قوله عز وجل: " ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلّوا من بعده يكفرون " فقال: هي في معنى ليفعلنَّ، كأنه قال ليظلَّن، كما تقول: والَّله لا فعلت ذاك أبداً، تريد معنى لا أفعل.
وقالوا: لئن زرته ما يقبل منك، وقال: لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعلٌ وما يفعل، كما كان لظلُّوا مثل ليظلّن، وكما جاءت: " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " على قوله: أم صمتٌّم فكذلك جاز هذا على ما هو فاعل. قال عز وجل: " ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلِّ آية مَّا تبعوا قبلتك " أي ما هم تابعين.
وقال: سبحانه: " ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده " أي ما يمسكهما من أحدٍ.
وأما قوله عز وجلّ: " وإنَّ كلاًّ لما ليوفِّينهم ربُّك أعمالهم " فإن إنّ حرف توكيد، فلها لام كلام اليمين، لذلك أدخلوها كما أدخلوها في: " إن كلُّ نفسٍ لما عليها حافظ " ، ودخلت اللام التي في الفعل على اليمين، كأنَّه قال: إنّ زيداً لما واللَّه ليفعلنَّ.
وقد يستقيم في الكلام إنّ زيداً ليضرب وليذهب، ولم يقع ضرب. والأكثر على ألسنتهم كما خبَّرتك في اليمين، فمن ثمَّ ألزموا النون في اليمين، لئلا يلتبس بما هو واقع. قال الَّله عز وجل: " إنَّما جعل السَّبت على الذين اختلفوا فيه وإنّ ربَّك ليحكم بينهم يوم القيامة " . وقال لبيد:
ولقد علمت لتأتين منيَّتي ... إنَّ المنايا لا تطيش سهامها
كأنَّه قال: والَّله لتأتينّ، كما قال: قد علمت لعبد اللّه خير منك، وقال: أظنُّ لتسبقنّني، وأظنُّ ليقومنَّ، لأنه بمنزلة علمت. وقال عزّ وجل: " ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننّه " ؛ لأنه موضع ابتداء. ألا ترى أنك لو قلت: بدا لهم أيُّهم أفضل، لحسن كحسنه في علمت، كأنك قلت: ظهر لهم أهذا أفضل أم هذا.
هذا بابالحروف التي لا تقدِّم فيها الأسماء الفعل
فمن تلك الحروف العوامل في الأفعال الناصبة. ألا ترى أنك لا تقول: جئتك كي زيد يقول ذاك، ولا خفت أن زيد يقول ذاك. فلا يجوز أن تفصل بين الفعل والعامل فيه بالاسم، كما لا يجوز أن تفصل بين الاسم وبين إنّ وأخواتها بفعلٍ.
ومما لا تقدَّم فيه الأسماء الفعل الحروف العوامل في الأفعال الجازمة، وتلك: لم، ولمّا، ولا التي تجزم الفعل في النهيولا التي تجزم في الأمر. ألا ترى أنّه لا يجوز أن تقول: لم زيد يأتك، فلا يجوز أن تفصل بينها وبين الفعل بشيء، كما لم يجز أن تفصل بين الحروف التي تجرّ وبين الأسماء بالأفعال، لأنّ الجزم نظير الجر. ولا تجوز أن تفصل بينها وبين الفعل بحشوٍ، كما لا تجوز لك أن تفصل بين الجارّ والمجرور بحشوٍ، إلاّ في شعر.
ولا يجوز ذلك في التي تعمل في الأفعال فتنصب، كراهة أن تشبَّه بما يعمل في الأسماء. ألا ترى أنّه لا يجوز أن تفصل بين الفعل وبين ما ينصبه بحشوٍ، كراهية أن يشبهوه بما يعمل في الاسم؛ لأنّ الاسم ليس كالفعل، وكذلك ما يعمل فيه ليس كما يعمل في الفعل. ألا ترى إلى كثرة ما يعمل في الاسم وقلّة هذا.
فهذه الأشياء فيما يجزم أردأ وأقبح منها في نظيرها من الأسماء، وذلك أنّك لو قلت: جئتك كي بك يؤخذ زيد لم يجز، وصار الفصل في الجزم والنصب أقبح منه في الجرّ؛ لقلّة ما يعمل في الأفعال، وكثرة ما ينسى في الأسماء.
واعلم أنّ حروف الجزاء يقبح أن تتقدّم الأسماء فيها قبل الأفعال، وذلك لأنّهم شبّهوها بما يجزم مما ذكرنا، إلا أنّ حروف الجزاء قد جاز فيها ذلك في الشعر لأنّ حروف الجزاء يدخلها فعل ويفعل، ويكون فيها الاستفهام فترفع فيها الأسماء، وتكون بمنزلة الّذي، فلّما كانت تصرَّف هذا التصُّرف وتفارق الجزم ضارعت ما يجبرُّ من الأسماء التي إن شئت استعملتها غير مضافة نحو: ضارب عبد الَّله، لأنك إن شئت نوّنت ونصبت، وإن شئت لم تجاوز الاسم العامل في الآخر، يعني ضاربٍ، فلذلك لم تكن مثل لم ولا في النهي واللام في الأمر؛ لأنهن لا يفارقن الجزم.
ويجوز الفرق في الكلام في إن إذا لم تجزم في اللفظ، نحو قوله:
عاود هراة وإن معمورها خربا
فإن جزمت ففي الشعر، لأنه يشبَّه بلم، وإنّما جاز في الفصل ولم يشبه لم لأنّ لم لا يقع بعدها فعل، وإنما جاز هذا في إن لأنّها أصل الجزاء ولا تفارقه، فجاز هذا كما جاز إضمار الفعل فيها حين قالوا: إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرُّ.

وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيه ضعف في الكلام، لأنَّها ليست كإن، فلو جاز في إن وقد جزمت كان أقوى إذ جاز فيها فعل.
وممَّا جاء في الشعر مجزوماً في غير إن قول عدىَّ بن زيد:
فمتى واغلٌ ينبهم يحيّو ... ه هو وتعطف عليه كأس الساقي
وقال كعب بن جعيل:
صعدة نابتة في حائر ... أينما الريح تميَّلها تمل
ولو كان فعل كان أقوى إذ كان ذلك جائزاً في إن في الكلام.
واعلم أنًّ قولهم في الشعر: إن زيد يأتك يكن كذا، إنّما ارتفع على فعلٍ هذا تفسيره، كما كان ذلك في قولك: إن زيداً رأيته يكن ذلك؛ لأنه لا تبتدأ بعدها الأسماء ثم يبني عليها.
فإن قلت: إن تأتني زيد يقل ذاك، جاز على قول من قال: زيداً ضربته، وهذا موضع ابتداء ألا ترى أنك لو جئت بالفاء فقلت: إن تأتني فأنا خير لك، كان حسناً. وإن لم يحمله على ذلك رفع وجاز في الشعر كقوله:
الله يشكرها
ومثل الأوّل قول هشام المرّى:
فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن ... ومن لا نجره يمس منّا مفزّعا
هذا باب

الحروف التي لا يليها بعدها إلا الفعل
ولا تغير الفعل عن حاله التي كان عليها قبل أن يكون قبله شيء منها
فمن تلك الحروف قد، لا يفصل بينها وبين الفعل بغيره، وهو جواب لقوله أفعل كما كانت ما فعل جواباً لهل فعل؟ إذا أخبرت أنه لم يقع. ولمّا يفعل وقد فعل، إنَّما هما لقومٍ ينتظرون شيئاً. فمن ثم أشبهت قد لمّا، في أنَّها لا يفصل بينها وبين الفعل.
ومن تلك الحروف أيضاً سوف يفعل؛ لأنها بمنزلة السين التي في قولك سيفعل. وإنما تدخل هذه السين على الأفعال، وإنَّما هي إثبات لقوله لن يفعل، فأشبهتها في أن لا يفصل بينها وبين الفعل.
ومن تلك الحروف: ربمّا وقلّما وأشباههما،جعلوا ربَّ مع ما بمنزلة كلمة واحدة، وهيئوها ليذكر بعدها الفعل، لأنهم لم يكن لهم سبيل إلى " ربَّ يقول " ، ولا إلى " قلَّ يقول " ، فألحقوهما ما وأخلصوهما للفعل.
ومثل ذلك: هلا ولولا وألاَّ، ألزموهنّ لا وجعلوا كلَّ واحدة مع لا بمنزلة حرف واحد، وأخلصوهنّ للفعل حيث دخل فيهن معنى التحضيض.
وقد يجوز في الشعر تقديم الاسم، قال:
صددن فأطولت الصدود وقلَّما ... وصال على طول الصدود يدوم
واعلم أنّه إذا اجتمع بعد حروف الاستفهام نحو هل وكيف ومن اسم وفعل، كان الفعل بأن يلي حرف الاستفهام أولى؛ لأنّها عندهم في الأصل من الحروف التي يذكر بعدها الفعل. وقد بيِّن حالهنَّ فيما مضى.
هذا باب
الحروف التي يجوز أن يليها بعدها الأسماء
ويجوز أن يليها بعدها الأفعال
وهي لكن، وإنما ، وكأنما، وإذ، ونحو ذلك، لأنَّها حروف لا تعمل شيئاً، فتركت الأسماء بعدها على حالها كأنَّه لم يذكر قبلها شيء، فلم يجاوز ذا بها إذ كانت لا تغيَّر ما دخلت عليه، فيجعلوا الاسم أولى بها من الفعل.
وسألت الخليل عن قول العرب: انتظرني كما آتيك، وارقبني كما ألحقك، فزعم أن ما والكاف جعلتا بمنزلة حرف واحد، وصيِّرت للفعل كما صيِّرت للفعل ربَّما، والمعنى لعلِّى آتيك؛ فمن ثم لم ينصبوا به الفعل، كما لم ينصبوا بربّما. قال رؤبة:
لا تشتم الناس كما لا تشتم
وقال أبو النجم:
قلت لشيبان ادن من لقائه ... كما تغدِّى الناس من شوائه
هذا باب نفي الفعلإذا قال: فعل فإنَّ نفيه لم يفعل. وإذا قال: قد فعل فإنّ نفيه لمَّا يفعل. وإذا قال: لقد فعل فإنَّ نفيه ما فعل. لأنّه كأنَّه قال: والَّله لقد فعل فقال: والله ما فعل. وإذا قال هو يفعل، أي هو في حال فعل، فإنَّ نفيه ما يفعل. وإذا قال هو يفعل ولم يكن الفعل واقعاً فنفيه لا يفعل. وإذا قال لفعلنَّ فنفيه لا يفعل، كأنّه قال: والَّله ليفعلنَّ فقلت والَّله لا يفعل. وإذا قال: سوف يفعل فإنَّ نفيه لن يفعل
باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7