كتاب : نكث الهميان في نكت العميان
المؤلف : الصفدي

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا يحتاج في تدبير ملكه إلى المؤازرين ولا إلى الأنصار، ولا تسع عبارة عباده في معرفته غير الاعتراف بالإقصار عن كنه قدرها والإقصاء.
نحمده على نعمه التي نوّرت بصائرنا فرفعتنا إلى معالم الهدى، وفتّحت أبصارنا فجرّتنا عن مغارم العدى، وسلّمت أفكارنا من الوقوع في أشراك الشّرك ومهاوي المهالك وموارد الرّدى.
ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له: شهادةً ترقم حروفها على سرادق العرش، وتقوم بما يجب علينا في تقصير أعمالنا من الأرش، وتدغم سيئاتنا في حسناتنا كما ادغم أبو عمرو فيحصل لها تفخيم ورش.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي جعل رسالته إلى الخلق نعمى، ورمى بعه الباطل فأصاب شاكلته وأصمى، وأنزل عليه في محكم الذكر " عبس وتولى أن جاءه الأعمى " .
صلى اللّه عليه وعلى آل وصحبه الذين جبر فقرهم بالصلات والعوائد، وجلسوا من كرمه الجمّ بأعطاف موائد على تلك الموائد، واصبح كلّ منهم وله من نوره المبين قائد. صلاة يتضوّع منها الأرج، وترفع بها لهم الدرج، ما أفضى مضيق إلى فضاء الفرج، وسقط عن الأعمى ثقل الحرج. وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد فإني لما وقفت على كتاب المعارف لابن قتيبة رحمه الله تعالى. وجدته قد ساق في آخره فصلاً في المكافيف. فعدّ فيهم أبا قحافة وهو والد أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، وأبا سفيان بن حرب، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وكعب بن مالك الأنصاريّ، وحسّان بن ثابت الأنصاريّ، وعقيل بن أبي طالب، وأبا أسيد الساعديّ، وقتادة بن النّعمان، وأبا عبد الرحمن السّلميّ، وقتادة بن دعامة، والمغيرة بن مقسّم، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ذهب بصره آخر عمره، وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، ومعاوية بن سبرة، وسعد بن أبي وقّاص ذهب بصره في آخر عمره، وعبد الله بن أبي أوفى ذهب بصره، وعليّ بن زيد من ولد عبد الله بن جدعان ولد وهو أعمى، وأبا هلال الراسبيّ وأبا يحيى بن محرز الضّبيّ.
وذكر بعد هؤلاء ثلاثة مكافيف في نسق: عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وأبوه العباس، وأبوه عبد المطلب.
هذا جملة من وقفت على ذكره في كتاب المعارف.
ثم رأيت الحافظ جمال الدين أبا الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن الجوزيّ رحمه الله تعالى قد ساق فصلاً في آخر كتابه تلقيح فهوم أهل الأثر في تسمية العميان الأشراف.
قال: فمن الأنبياء عليهم السلام: إسحاق، ويعقوب، وشعيب، عليهم الصلاة والسلام.
ومن الأشراف: عبد المطّلب بن هاشم، أميّة بن عبد شمس، زهرة بن كلاب، كلاب بن مرّة، مطعم بن عديّ.
ومن الصحابة رضي الله عنهم: البراء بن عازب، جابر بن عبد اللّه، حسّان بن ثابت، الحكم بن أبي العاص، سعد بن أبي وقّاص، سعيد ابن يربوع، صخر بن حرب أبو سفيان، العباس بن عبد المطلب، عبد الله بن الأرقم، عبد الله بن عمر، عبد اللّه بن العبّاس، عبد الله بن عمير، عبد اللّه بن أبي أوفى، عتبان بن مالك، عتبة بن مسعود الهذلي، عثمان بن عامر، أبو قحافة، عقيل بن أبي طالب، عمرو بن أم مكتوم، قتادة بن النعمان، كعب بن مالك، مالك بن ربيعة، أبو أسيد الساعديّ، ومخرمة بن نوفل.
قال: ومن التابعين: عطاء بن أبي رياح، أبو بكر بن عبد الرحمن، قتادة بن دعامة، أبو عبد الرحمن السّلميّ، أبو هلال الراسبيّ. هذا صورة ما ذكره ابن الجوزيّ رحمه اللّه تعالى.
فما زاد على ابن قتيبة إلا بذكر الأنبياء الثلاثة صلى الله عليهم وسلم، ورتب الصحابة على حروف المعجم لا غير.
وكان يمكن ابن الجوزي رحمه الله تعالى الزيادة على ذلك بأضعاف مضاعفة، لتأخر زمانه ووفاته على زمان ابن قتيبة ووفاته رحمه اللّه تعالى. لأنّ ابن قتيبة توفّي في سنة سبع وستين ومائتين، رحمه اللّه تعالى، وابن الجوزي توفي في سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
ولكن يمكن الاعتذار لكليهما بأنهما لم يضعا مصنفيهما لاستيعاب ذكر العميان، وإنما ذكرا أشراف من كان أعمى.

ورأيت أبا العباس أحمد بن علي بن بانة قد ذكر في كتابه رأس مال النديم أشراف العميان. فقال: شعيب وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهما، وزهرة بن كلاب بن كعب بن مرّة، وعبد المطلب بن هاشم، والعباس بن عبد المطلب، وعبد اللّه بن عباس، وأميّة بن عبد شمس وكان أعور، والحكم بن العاص، وأبو سفيان بن حرب، والحارث بن عباس بن عبد المطلب، ومطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، وعتبة بن مسعود الهذليّ، وعبيد الله بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، وأبو أحمد بن جحيش ابن مسعود الأسديّ، وجابر بن عبد اللّه الأنصاريّ، وعبد الله بن أرقم، والبراء بن عازب، وحسان بن ثابت، وقتادة بن النعمان، وأبو أسيد الساعديّ، وقتادة بن دعامة، ودريد بن الصّمّة الجشميّ شهد حنين أعمى فقتل يومئذ، ومخرمة بن نوفل الزّهريّ، والفاكه بن المغيرة المخزوميّ، وخزيمة بن خازم النّهشليّ.
هذا جملة من رأيته قد ذكره في كتابه، وأنت تقارب هذه الأسامي وعدتها بعضها من بعض.
وأرى أن السابق لذلك ابن قتيبة، ثم بعده هذا ابن بانة، ثم ابن الجوزيّ.
وللخطيب أبي بكر خطيب بغداد، جزء جمعه في العميان ولم أره إلى الآن.
وجرى يوماً في بعض اجتماعاتي بجماعة من الأفاضل ذكر فصل استطردت بذكره في شرح لامية العجم. ذكرت فيه جماعة من أشراف العميان، قال لي بعض من كان حاضراً: لو أفردت للعميان تصنيفاً تخصّهم فيه بالذكر، لكان ذلك حسناً.
فحداني ذلك الكلام، وهزّت عطفي نشوة هذه المدام، على إن عزمت على جمع هذه الأوراق، في ذكر من أمكن ذكره أو وقع إليّ خبره وسميته: نكت الهميان في نكت العميان وقد رتبته على مقدمات ونتيجة. أما المقدمات، فأذكر في كلّ منها فوائد لا يستغني الفاضل عن ذكرها، ولا يسعه أن يفقد شيئاً من درها.

المقدمة الأولى
فيما يتعلق به من اللغة والاشتقاق
قد تتبعت أفراد وضع اللغة العربية، فرأيت العين المهملة والميم، كيفما وقعتا في الغالب وبعدهما حرف من حروف المعجم، لا يدّل المجموع إلا على ما فيه معنى الستر أو ذهاب الصواب على الرأي.
فمن ذلك: عمج عمج يعمج بالكسر، قلب معج. إذا أسرع في السير واعوجّ. وسهم عموج، إذا كان يتلوّى في ذهابه. وتعمّجت الحيّة، إذا تلوّت في سيرها، كأنها لا ترى الطريق الأقوم: قال الشاعر يصف زمام الناقة.
تلاعب مثنى حضرميّ كأنّه ... تعمّج شيطان بذي خروع قفر
والعومج الحيّة: وكذلك العمّج بالتشديد: قال الشاعر.
يتبعن مثل العمّج المنشوش ... أهوج يمشي مشية المالوش
وقال قطرب: هو العمج، على وزن السبب.
فأنت ترى مفهوم هذه الأوضاع كيف يدل على معنى الستر وذهاب الصواب.
ومن ذلك عمرّد العمرّد بتشديد الراء الفرس الطويل: قال الشاعر.
يصرّف سيداً في العنان عمرّدا
وكذلك طريق عمرّد: قال الشاعر.
خطّارة بالسّبسب العمرّد
ولا بدّ للفرس إذا طال، أن يكون فيه بعض التواء، وذهاب على غير استواء. وكذلك الطريق إذا طالت.
ومن ذلك عمد: عمد البعير إذا انفضح داخل سنامه من الركوب، وظاهره صحيح. كّأن داءه ذاك مستور لا يرى. والعمد إنما يقام به ما مال واعوّج.
ومن ذلك: عمر عمر الرجل بالكسر يعمر عمراً وعمراً على غير قياس لأنّ قياس مصدره التحريك إذا عاش زماناً طويلاً ومن طال عمره التوت عليه سائر الأيام، ومشت به على غير استقامة: من حوادث الدهر وضعف الجوارح. والعمر بالتحريك واحد عمور الأسنان. وهو ما بينها من اللحم. قيل فيه ذلك لمّا كان يستتر فيها. واعتمر في الحجّ إذا اعتم بعمامة. قيل فيه ذلك لمّا كان يستر ما بدا من رأسه. والعمار الريحان تزيّن به مجالس الشراب. قيل فيه ذلك لمّا كان يستر به ما بدا من الأنماط أو غيرها، أو يستر بريحه الطّيبة ريح غيره الكريهة.

ومن ذلك: عمس العماس بالفتح الحرب الشديدة. ولا تكون شديدة إلا وقد عمي الأمر فيها وذهب الصواب على الفوارس. وكذلك داهية عماس أي شديدة. وليل عماس أي مظلم يعني سائر الأشخاص، وأمر عموس أي مظلم، وعماس أيضاً: لا يدري من أين يؤتى له. ومنه: جاءنا بأمور معمسّات أي مظلمة ملوّية عن جهتها. ورجل عموس إذا كان متعسفّاً لا يهتدي لصواب. وتعامس عن الشيء إذا تغافل عنه. وعمس الكتاب إذا درس، فلا يدرك منه حرف.
ومن ذلك: عمرّس مشدد الراء. هو السديد الرأي، القويّ من الرجال: قيل فيه ذلك كأنه يأخذ الأشياء قوة واعتسافاً، لا يفكّر في صوابها ولا خطائها.
ومن ذلك: عملّس مثل العمرّس. هو القويّ على السير: قال الشاعر
عملّس أسفار إذا استقبلت له ... سموم كحرّ النار لم يتلثّم
يعني يركب الأهوال، لا يهتدي فيها إلى صواب راحة.
ومن ذلك: عمش العمش في العين رؤيتها مع سيلان الدمعة منها. كأنّ المرئيات تستتر عنها بستور الدموع.
ومن ذلك: عملّص سير عمليص إذا كان سريعاً. قيل فيه ذلك لأنه لا يبالي فيه أين وضع القدم أو الخف أو الحافر.
ومن ذلك: عمط عمط النعمة عمطا بالسكون وعمطها بالكسر عمطاً بالفتح، إذا كفرها. قيل فيه ذلك لمّا سترها وغطّاها ولم يتحدث بها.
والكفر السّتر.
ومن ذلك: عمرط العمروط اللصّ والجمع العماريط. قيل فيه ذلك لأنه لا يجيء إلا مختفياً مستوراً في الليل. والعمرّط بتشديد الراء الخفيف.
وهو الذي لا يذهب على استقامة ولا استواء. والعملط بتشديد اللام الشديد وهو الذي لا يبالي على أي حاليه كان من صواب ومن خطأ.
ومن ذلك: عمق العمق بفتح العين وضمها قعر البئر والفج والوادي. قيل فيه ذلك لما واستتر عن العين. وتعمق في كلامه إذا مال عن جادة الفصيح من الكلام والتوى. والعمق أيضاً ما بعد من أطراف المفاوز. ومنه قول رؤبة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
ومن ذلك: عملق العمالقة قوم كانوا في قديم الزمان. يذكر أنهم كانوا في غاية من الطول. منسوبون إلى عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح.
وقد تقدم أن كل من طال لابد أن يميل إلى اعوجاج. هذا إن قلنا بأن ذلك عربي، وإلا فلا مدخل لهذا الحرف في هذا الباب.
ومن ذلك: عمل اعتمل الرجل إذا اضطرب في العمل. قال الشاعر:
إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوماً على من يتكل
قيل فيه ذلك لأن الاضطراب حركة على غير استواء. ورجل عمل بالكسر إذا كان مطبوعاً على العمل. ورجل عمول أيضاً. قيل ذلك فيه: أي لا يبالي بما يلقى فيه من العمل. كأنه غير متبصر لرشده. وطريق معمل: أي لحب مسلوك. قيل فيه ذلك لما كثر ركوبه من كل أحد على غير تبصر لمواضع الأقدام. واليعملة الناقة النجيبة الصبورة على المشي.
ومن ذلك: عمم العمامة ما يوضع على الرأس، وهي تستره. واعتم النبت إذا اكتهل أي ستر الأرض. ويقال للشاب إذا طال: قد اعتم. وشيء عميم أي تام. ونخلة عميمة ونخل عم، يقال ذلك للطويل منه. قيل فيه ذلك لأنه لا يطول إلا وفيه خروج عن الاستقامة. والعامة خلاف الخاصة. قيل ذلك لما كانوا كثيرين لا يحيط بهم البصر، فهم في ستر عنه. وعم اللبن إذا علته الرغوة كالعمامة فسترته.
ومن ذلك: عمن عمن بالمكان إذا أقام به. كأنه استتر فيه عن غيره.
ومن ذلك: عمه العمه التحير والتردد. كأن الإنسان لا يرى دليلاً فيأخذ به. وأرض عمها، لا أعلام بها، أي لا يهتدي فيها إلى سبيل. وذهبت، إبله العمهى بتشديد الميم، إذا كانت لا يدرى مكانها. كأنها في ستر عن راعيها.
ومن ذلك: عمي هذه المادة عمود هذا الباب وقاعدته، وهي المطلوبة بالذات لما يتعلق بهذا الكتاب.

العمى ذهاب البصر وعدم الرؤية واستتار المرئيات عن الناظر. وقد عمي فهو أعمى وقوم عمي. وأعماه الله تعالى. وتعامى الرجل أرى من نفسه ذلك. وعمي عليه الأمر إذا التبس. ورجل عمي القلب أي جاهل، وامرأة عمية القلب بتخفيف الياء على وزن فعلة بفتح الفاء وكسر العين وفتح اللام. وقوم عمون، وفيهم عميهم بتشدي الياء، والأعميان السيل والجمل الهائج. وعمي الموج بالفتح يعمى عمى، رمى القذى والزبد. وعميت معنى البيت تعمية. ومنه المعمى من الشعر. وقرئ فعميت بضم العين وكسر الميم وتشديدها وفتح الياء. وتركناهم في عمى بضم العين وتشديد الميم وبعدها ألف مقصورة، إذا أشرفوا على الموت. والعماء ممدود السحاب. ويقال هو الذي يشبه الدخان ويركب رؤوس الجبال.
والمعامي من الأرضين الأغفال التي لا أعلام لها وليس بها اثر عمارة. وهي الأعماء أيضاً. ويقال أتيته صكة عمي بضم العين وفتح الميم وتشديد الياء أي وقت الهاجرة. وهو تصغير أعمى، مرخماً. وقيل هو اسم رجل من العمالقة أغار على قوم ظهراً فاستأصلهم فنسب الوقت إليه.
وقيل المراد به الظبي لأنه يسدر في الهواجر فيصطك بما يستقبله كاصطكاك الأعمى، ثم إنه صغر تصغير الترخيم، كما صغر وأسود وأزهر. فقالوا سويد وزهير.
فأنت ترى ما ورد في هذه المادة كيف يدور جميعه على الاستتار والاختفاء والله تعالى أعلم.

المقدمة الثانية
فيما يتعلق بذلك
من جهة التصريف والأعراب
أعمى. لا ينصرف لما فيه من العلتين الفرعيتين: وهما الصفة ووزن الفعل. ويكتب بالياء لان مؤنثه عمياء.
والقاعدة عند أهل العربية أن لا يبنى أفعل تعجب ولا أفعل تفضيل من الألوان والعاهات. فلا يقال: هذا اسود من هذا، ولا هذا احمر من هذا في الألوان. ولا يقال: هذا أعور من هذا، ولا هذا أعرج من هذا. بل الصواب أن يقال فيه ذها أشد سواداً وأشد حمرةً، وهذا اشد عرجاً واشد عوراً.
وأورد على هذه القاعدة قوله تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً. والجواب: أن هذا ليس من العاهات الظاهرة، بل هو من عمى البصيرة. قال الله تعالى فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور. وقرأ أبو عمرو: ومن كان في هذه أعمى بالإمالة فهو في الآخرة أعمى بالتفخيم. طلباً للفرق بين ما هو اسم وبين ما هو أفعل منه: بالإمالة.
وعيب على أبي الطيب قوله في الشيب
إبعد بعدت بياضاً لا بياض له ... لأنت اسود في عيني من الظلم
وقال الناصر له: إن أسود هنا من قبيل الوصف المحض الذي تأنيثه سوداء وأخرجه عن حيز أفعل التفضيل. ويكون على هذا التأويل قد تم الكلام عند قوله لأنت اسود في عيني وتكون من التي في قوله من الظلم لبيان جنس السواد لا أنها صلة أسود.
مسألة لو قلت ما أسود زيداً، وما أسمر عمراً، وما أصفر هذا الطائر، وما أبيض هذه الحمامة، وما أحمر هذا الفرس. فسدت كل مسألة من وجه وصحت من وجه. ففساد جميعها، إذا أردت التعجب من الألوان. وتصحيح جميعها، إذا أردت التعجب من سودد، زيد ومن سمر عمرو. ومن صفير الطائر، ومن كثرة بيض الحمامة، ومن حمر الفرس، وهو نتن فيه من البشم وقول الشاعر:
جارية في درعها الفضفاض ... ابيض من أخت بني بياض
قالوا فيه أن ابيض هنا ليس للتفضيل، بل صفة لموصوف محذوف تقديره: في درعها جسم أبيض أو شخص أبيض ومن في محل الرفع صفة لأبيض. على أن الكوفيين جوزوا: ما أسوده وما أبيضه في هذين اللونين خاصةً. قالوا لأنهما أصل الألوان. وهو ضعيف. لأن غالب أفعال اللوان لا تأتي إلا على أفعل وأفعال بتشديد اللام فيهما نحو أحمر وأحمار. وهما زائدان على الثلاثي. ولا تبنى أفعل التعجب وأفعل التفضيل إلا من الثلاثي المجرد من الزيادة. لأن أفعل في مثل ما أحسن زيداً الهمزة فيه زائدة ودخلت عليه لتنقل اللازم إلى التعدي، فيصير الفاعل مفعولاً. إذ أصله حسن زيد. فلما دخلت الهمزة على الفعل، صار الكلام تقديره شيء. حسن زيداً.
وشذ قولهم: ما أعطاه للدينار والدرهم! فتعجبوا بالرباعي. وأجازه سيبويه. وكذا: ما أولاه للمعروف وما أفقره! حمله على أنه ثلاثي والصحيح أنه رباعي فلذلك حكم بشذوذه.

مسأله وإنما قالوا في السكران: ما أشد سكره! ولم يقولوا: ما أسكره! وهو ثلاثي لأن فعله سكر وليس بخلق ولا لون ولا عيب ظاهر، فرقا بينه وبين قولهم: ما أسكره للنهر. وكذلك لم يقولوا: ما أقعده في الكان، فرقا بينه وبين ما أقعده في النسب. ولا يتعجب من الخلق أيضاً والمراد بالخلق الأعضاء كاليد والوجه والرجل. فلا تقل: ما أيداه! وما أرجله! وما أوجهه! فإن أردت ما أوجهه من الوجاهة وما أرجله من الشؤم على غيره جاز.
ويتعجب من العيوب الباطنة، كالحمق والرعونة فيقال: ما أحمقه! وما أرعنه! ومنه ما تقدم في قوله تعالى فهو في الآخرة أعمى. لأنه من عمى البصيرة.
تقول رجل أعمى وأعميان وأعمون بفتح الميم، في ذلك كله. وأعمون جمع سلامة. وأجاز الكوفيون ضم الميم في الجميع. وتقول في جمع التكسير: عميان. تقول عمي عمىً فهو عم من عمى القلب، وعمي يعمى فهو أعمى من عمى البصر. وجمع عم عمون. قال الله تعالى: بل هم منها عمون. وجمع أعمى عميان وعمي. قال الله تعالى لم يخروا عليها صماً وعمياناً.
وقال تعالى: صم بكم عمي. والنسبة إلى أعمى أعموي بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الميم وكسر الواو. والنسبة إلى عم عموي بفتح العين والميم كما يقال في شج شجوي.
وفي المثل: ربما أصاب الأعمى رشده، وربما قيل فيه: بما أصاب: الأعمى رشدة فحذفوا الراء من ربما. قال حسان:
إن يكن غث من رقاش حديث ... فبما تأكل الحديث السمينا
قالوا: أراد ربما.
وقد يجوز أن تكون الباء للبدل. كما يقال: هذا بذاك.
وفي المثل: أعمى يقود شجعةً بالشين المعجمة المفتوحة والجيم المفتوحة والعين المهملة والشجعة الزمني. وقيل: الشجعة بسكون الجيم الضعيف.
وقولهم: صكة عمي بضم العين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء: هو اشد ما يكون من الحر أي حين كاد الحر يعمي. وقيل: حين يقوم قائم الظهيرة. وقيل: إن عميا هو الحر بعينه. وأنشدوا:
وردت عميا والغزالة برنس ... بفتيان صدق فوق خوص عياهم
وقيل: عمي رجل من عدوان كان يفتي في الحج. فأقبل معتمراً ومعه ركب، حتى نزلوا بعض المنازل في يوم شديد الحر، فقال عمي: من جاءت عليه هذه الساعة من غدو هو حرام لم يقض عمرته وهو حرام إلى قابل. فوثب الناس في الظهيرة يضربون حتى وافوا البيت. وبينهم وبينه ليلتان، فضرب مثلاً يقال أتانا صكة عمي، إذا جاء في الهاجرة الحارة.
وفي المثل: تطرق أعمى والبصير جاهل. الطرق هو الضرب بالحصى. يضرب لمن يتصرف في أمر ولا يعلم مصالحه، فيخبره بالمصلحة غيره من خارج.
وفي المثل: إحذر الأعميين، الجمل الهائج والسيل: وفي أمثال العوام الأعمى يجري على السطح ويقول ما رآني أحد.
وفي المثل: أيضاً قد ضل من كانت العميان تهديه.

المقدمة الثالثة
حد العمى
قيل في تعريفه: إنه عبارة عن عدم البصر عما من شأنه أن يبصر. وكذا الصمم عبارة عن عدم السمع عما من شأنه أن يسمع. فالعمى والصمم حينئذ معنيان وجوديان متضادان. وقد نازع الفلاسفة في هذا للمتكلمين نزاعاً شديداً. وقالوا إن تقابل السمع والصمم وتقابل العمى والبصر، تقابل العدم والملكة لا تقابل الضدين.
فصل من الناس من قال إن السمع أفضل من البصر. لأن الله تعالى حيث ذكرهما في كتابه العزيز، قدم السمع على البصر: حتى في قوله تعالى صم بكم عمي. فقدم متعلق السمع على متعلق العين، والتقدم دليل الفضيلة. ولأن السمع شرط في النبوة، بخلاف البصر. ولذلك لم يأت في الأنبياء صلى الله عليهم من كان أصم. وجاء فيهم من طرأ عليه العمى. وسيأتي الكلام على منع جواز العمى على الأنبياء صلى الله عليهم. قالوا وبالسمع تصل نتائج العقول. فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف والعلوم. وهو متصرف في الجهات الست، والبصر لا يتصرف إلا فيما يقابله من المرئيات. ولأن السمع أصل للنطق. ولهذا لا ترى الأخرس إلا أصم.
وقيل سبب خرسه أنه لم يسمع شيئاً ليحكيه. والبصر إذا بطل لم يبطل النطق. ومن قال إن البصر أفضل استدل بان قال: متعلق القوة الباصرة هو النور ومتعلق القوة السامعة هو الريح. والنور أفضل من الريح. قال صاحب الكشاف: البصر نور العين، كما أن البصيرة هي نور القلب. قلت: ولا شك أن أدلة فضيلة السمع أقوى من دليل فضيلة البصر.

وللشيخ تقي الدين أبي عباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى كراسة في ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
خاتمة الأعمى هل له حظ في الرؤيا أولاً.
بعض الناس قال: الأعمى يرى المنامات وبعضهم قال: لا يرى.
والصحيح أن المسألة ذات تفصيل. وهو أن الأعمى، إن كان قد طرأ عليه العمى بعد ما ميز الأشياء فهذا يرى. لأن القوة المتخيلة منه ارتسم فيها صور الأشياء من المرئيات، على اختلاف أجناسها وأنواعها. والقوة المخيلة قادرة على أفعالها في جميع الأحوال، إلا أنها لا تتصور الأشياء باختيارها، لأنها ليست قوة إرادية. وإن كان الأعمى قد ولد أكمة ولم ير الوجود ولا ما فيه من المرئيات فهذا يرى الأحوال التي يقابلها ويباشرها. كما أنه يرى أنه يأكل أو أنه يشرب أو أنه راكب على فرس أو حمار أو أنه يخاصم آخر، إلى غير ذلك من الأحوال التي يباشرها. وقد قال الرئيس ابن سينا: إن المولود يضحك بعد الأربعين يوماً، ويرى الرؤيا بعد أربعة اشهر.
قلت: الظاهر أنه ما يرى إلا انه يرضع ثدي أمه. فإنا نشاهد كثيراً من الأطفال يكون نائماً وهو يرضع، ولا ثدي في فمه. وكذلك نرى كثيراً من الخيل وهو واقف نائماً، ثم إنه في أثناء ذلك يصهل وهو نائم، كأنه يرى أنه بين خيل يألفها أو ما أشبه ذلك. وقال أرسطو في كتاب الحيوان: إن الكلاب ترى الأحلام في منامها. وأما أن الأعمى الذي ولد أكمة ولم ير العالم فإنه لا يرى في نومه شمساً ولا قمراً ولا نجوماً ولا سماءً ولا أشجاراً ولا بحاراً ولا غير ذلك مما لم ترسمه المخيلة منه فهذا هو وجه الصواب في هذه المسالة على ما فصلته والله أعلم.
علاوة قال العابرون: من رأى في منامه أنه عمي دلت رؤياه على الغنى وإن حلف يميناً لم يحنث، لقوله تعالى: ليس على الأعمى حرج.
ومن رأى أنه أعمى فإنه ينسى القرآن، لقوله تعالى: قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى.
ومن رأى أن إنساناً أعماه فإنه يضله. وغن كان كافراً فرأى أن إنساناً أعماه فإنه يزيله عن رأيه.
قالوا: والأعمى رجل فقير يعمل أعمالاً لا تضر به في دينه لسبب فقره. فإن رأى كافراً أنه أعمى فإنه يصيب خسراناً أو غرماً أو هماً.
فإن رأى أنه أعمى ملفوف في ثياب جدد فإنه يموت.
قالوا: ومن رأى أنه أعمى فإن عليه غزوة أو حجة، لقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت. فإن رأى أعمى أن ساقياً سقاه شراباً فإن الساقي يرشده إلى منافع تنزل به ويتوب ويتمول.
قالوا: وإن رأى صحيح أنه أعمى فإنه يخمل ذكره ولا يؤبه له في قوله. وربما كان تأويله أنه ينال حكماً وعلماً لقصة إسحاق ويعقوب عليهما الصلاة والسلام.
فإن رأى أعمى أنه استدبر القبلة فهو في ضلالة.
وقالت النصارى: من رأى كأن عينه قد عميت، فإنه حل يهتك الستر بينه وبين الله تعالى.
وأما فقء العين. فمن رأى أن عينه فقئت فإنه يتقاضى أو يجازى بشيء كان منه، لقوله تعالى: العين بالعين. فإن فقئت كلتاهما فإنه ينقطع عنه ولد قرة عين، أو يرى فيما تقر به عينه من مال أو ولد أو دار أو شيء مما يملكه ما يكره من عنف وشدة.
قالوا: وأما العمى فهو ضلالة عن الدين، وهو أيضاً ميراث كبير من عصبة قد كان له في أجداده مكفوف. وقد كان يعطى كل مكفوف سهماً من ميراث من يموت من عصبته. وقال أرطاميذورس: رأى إنسان كأن آخر يقول له لا تخف، فإنك لا تموت ولا تقدر أن تعيش، فصار أعمى وكان ذلك بالواجب. فإنه لم يمت ولكن عدم ضوء بصره.
وقال العابرون أيضاً: من رأى أن عينيه ذهبتا، مات أولاده أو إخوته أو أقاربه. رأى الحجاج بن يوسف الثقفي كأن عينيه سقطتا في حجره فلما أصبح نعي أخيه محمد وولده محمد. فإن كان الرائي فقيراً أو محبوساً، فإنه يدل على أنه لا يعود يرى شيئاً مما هو فيه من الشر. فإن رأى ذلك من يريد السفر فإنه يدل على أنه لا يرجع إلى الوطن. لأن المكفوف لا يمكنه أن يرى الغربة ولا أن يرى وطنه.
ومن رأى كأن عينيه عيناً إنسان آخر، فإن ذلك يدل على ذهاب بصره وعلى أن غيره يهديه الطريق. فإن عرف الرائي ذلك الغريب، فإنه يتزوج ابنة ذلك الرجل أو قريبته أو يناله منه خير.
تتمة هل يبصر الأعمى ملك الموت بعينيه أولاً ذكر ابن أبي الدنيا رحمه الله عن بعض السلف أنه قال فيه: إن الأعمى يرى ملائكة ربه عند قبض روحه.

قلت: ما لهذا خصوصية بالأعمى فإنا رأينا جماعة ممن كانوا في السياق وهم يقولون السلام عليكم ويشيرون لمن يرونه ويخاطبونهم، ونحن لا نراهم. وهذا كثير مستفاض بين الناس.
فصل العميان أكثر الناس نكاحاً. وفي المثل: أنكح من أعمى. أورده الميداني في أمثاله. حكى ابن المرزبان في تاريخه عن الأصمعي أنه قال: هما طرفان ما ذهب من أحدهما زاد في الآخر.
قلت: ولهذا نرى الخدام وهم الخصيان يعمر الإنسان منهم وبصره قوي. والخادم إذا جب من أسفل لم تنبت له لحية. وكذا الإنسان إذا حصل له صداع في رأسه تحك رجلاه فيسكن الألم.
قيل إن بعض الخدام كان واقفاً على رأس سيده وهو في الفراش يشكو من وجع رأسه. فحضر الطبيب إليه فشكا ألمه. فقال: حك رجليلك يسكن الألم. فضحك الخادم وقال: سيدي يشكو أعلاه وأنت تداوي أسافله! فقال: أنت شاهدي على ذلك لأن خصيتك لما قطعت لم تنبت لك لحية.
فضل قال إبراهيم بن هانئ: من تمام آلة القصص أن يكون القاص أعمى، ويكون شيخاً بعيد مدى الصوت.
قلت: ومن شرط الأعمى، إذا كان سائلاً أن يكون يحفظ سورة يوسف عليه السلام.
قال أرسطو في كتاب الحيوان: الخطاطيف إذا عمين أكلن من شجرة يقال لها عين شمس، فيبصرن بعد العمى. وهذه الشجرة لها منفعة في العين التي لا تبصر والتي يخاف عليها من اجتماع الماء. قال: والحيات إذا ساخت في الأرض اظلم بصرها. فإذا خرجت إلى الأرض طلبت الرازيانج فمرت بعينها عليه فعند ذلك ينقى بصرها من الظلمة.
قلت: الرازيانج هو السمر وينبغي أن يغسل قبل أكله في أول دخوله لهذه العلة قال: والضب إذا خرج من جحره لا يبصر شيئاً إلى أن يستقبل الشمس ساعة، فحينئذ يرى.
وقال الرئيس أبو علي ابن سينا: وكل حيوان يلد حيواناً فله عينان إلا الخلد. ويشبه أن يكون له عينان لكنهما مغشيتان بجلد رقيق لضعفهما، وإنما يدركان الأظلال دون الألوان والأشكال والله أعلم.

المقدمة الرابعة
قوله تعالى عبس وتولى
أن جاءه الأعمى. هذا الأعمى هو ابن أم مكتوم. وسيأتي الخلاف في اسمه عند
ذكر اسمه. ويأتي ذكر أمه وهو الذي صار مؤذناً للنبي صلى الله عليه وسلم. وكان قد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل ابن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام. فقال ابن أم مكتوم أقرئني وعلمني مما علمك الله. وكرر ذلك. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع كلامه وأعرض عنه. فنزلت هذه الآيات. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعد ذلك ويقول إذا رآه مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ويقول: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين. وأورد الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى هنا سؤالات.
الأول إبن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر، فكيف عاتب الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؟ واستحقاقه لوجوه: الأول: إنه وإن كان أعمى لا يرى القوم لكنه يسمع كلامهم وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وكان يعرف بواسطة كلامه لهم شدة اهتمامه بشأنهم وكان اعتراضه وإلقاء كلامه في الناس قبل تمام عرض النبي صلى الله عليه وسلم معصية.
قلت: يحتمل أن ابن أم مكتوم طلع عليهم دفعة واحدة ولم يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم لهم ولا أحس بمن عنده من الصناديد. لأنه كان يعلم محل المذكورين فلا يقطع عليهم كلامه صلى الله عليه وسلم.
قال: والوجه الثاني. أن الأهم مقدم على المهم. وهو كان قد أسلم ويعلم ما يحتاج إليه من أمر الدين، وأولئك كانوا كفاراً وما أسلموا. وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم. فالقاء ابن أم مكتوم كلامه بين الناس سبب في قطع ذلك الخير العظيم.
قلت: هذا أيضاً مفرع على أن ابن أم مكتوم كان يعلم أن صناديد قريش كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أبدينا الاحتمال فاندفع.
قال: الوجه الثالث. أنه تعالى قال: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. فهذا النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان، وكالقاطع على الرسول أعظم وكان أولى أن يكون ذنباً ومعصيةً وأن الذي فعله الرسول كان واجباً.

قلت: ليس قول ابن أم مكتوم: يا رسول الله علمني مما علمك الله كالذي ينادونه من وراء الحجرات: يا محمد! أخرج إلينا. فإن الرسول لو ألقى إليه ذلك الوقت شيئاً مما علمه الله لكان خيراً لمن يسمعه.
قال: السؤال الثاني انه تعالى عاتبه على مجرد كونه عبس في وجهه، ويكون ذلك تعظيماً عظيماً لابن أم مكتوم وكيف يليق بمثل هذا التعظيم أن يذكر باسم الأعمى. وإذا ذكر الإنسان بهذا الوصف اقتضى ذلك تحقيره.
قال السؤال الثالث الظاهر أنه كان صلى الله عليه وسلم مأذوناً له أن يعامل أصحابه على حسب ما يراه مصلحة. وكان كثيراً ما يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء. وكيف لا يكون ذلك، وهو إنما بعث ليؤدبهم ويعلمهم محاسن الآداب، وإذا كان كذلك كان التعبيس داخلاً في تأديب أصحابه. فكيف وقعت المعاتبة؟ قال رحمه الله تعالى: والجواب عن السؤال الأول من وجهين.
الأول أن الأمر وإن كان على انه تكريم إلا أن ظاهر الواقعة يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وانكسار قلوب الفقراء. فلهذا خلصت المعاتبة. ونظيره قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.
قلت: ما هو من ظاهر الواقعة، بل هو من صريح القرآن، لقوله تعالى: أما من استغنى فأنت له تصدى.
قال: الوجه الثاني لعل هذا العتاب ما وقع على ما صدر من الرسول من الفعل الظاهر، بل على ما كان منه في قلبه. وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان قد مال قلبه إليهم بسبب قرابتهم، وكان ينفر طبعه عن الأعمى بسبب عماه وعدم قرابته وقلة شرفه فلما وقع ذلك حصلت المعاتبة لا على التأديب بل على التأدب لهذا المعنى.
قلت: سبحان العليم بما كان في ذلك الوقت وهو خلاف ظاهر الواقعة.
قال والجواب عن السؤال الثاني أن ذكره بلفظ الأعمى ليس بتحقير له بل كأنه قيل: بسبب عماه استحق مزية الرفق له والرأفة فكيف يليق بك يا محمد أن تخصه بالغلظة؟ والجواب عن السؤال الثالث أنه صلى الله عليه وسلم كان مأذوناً له في تأديب أصحابه: لكن ههنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وكان ذلك ما يوهم ترجيح الدنيا على الدين، فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة.
قلت: ليس هذا مما فيه إيهام تقديم الدنيا على الدين لأن أولئك الكفار لو أسلموا لأسلم بإسلامهم جمع عظيم من أتباعهم وألزامهم وأزواجهم ومن يقول بقولهم. ولهذا المعنى رغب صلى الله عليه وسلم في إسلامهم وطمع فيه. وذلك غاية في الدين.
قال: المسئلة الثانية القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء تمسكوا بهذه الآية. وقالوا: لما عاتبه في ذلك الفعل. دل على أن ذلك الفعل كان معصية، وهذا بعيد. فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين وهذا جار مجرى ترك الأفضل وترك الاحتياط. فلم يكن هذا ذنباً ألبتة.
وقوله تعالى: " وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن اله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور " . هذه أمثال ضربها الله تعالى في حق المؤمنين والكفار فقوله: الأعمى والبصير، أي العالم والجاهل والمؤمن والكافر، ولا الظلمات ولا النور، أي الكفر والإيمان ، ولا الظل ولا الحرور، أي الجنة والنار أو ظل الليل وسموم النهار أو الحرور بمنزلة السموم وهي الريح الحارة ويكون ليلاً ونهاراً والسموم لا يكون إلا نهاراً. قال أبو عبيدة الحرور يكون في النهار مع الشمس. وما يستوي الأحياء ولا الأموات العلماء والجهال أو المؤمنون والكافرون.
فإن قلت ما فائدة تكثير الأمثلة ههنا وتكريرها. قلت: البصير وإن كان سليم العين بخلاف الأعمى فإنه لا يرى شيئاً ما لم يكن في نور وضياء. فأتى بذكر النور لأجل البصير وهو الإيمان. فاستعان البصير وهو المؤمن بنور الإيمان على رؤية الهدى. وأتى بذكر الظلمات وهي الكفر لأجل الأعمى فكان الكافر في ظلمة البصر وظلمة الضلال. ثم قال: ولا الظل ولا الحرور فنبه على أن حالتي المؤمن والكافر متباينتان. لأن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة والكافر في حرور وتعب.

ثم قال: وما يستوي الأحياء ولا الأموات. نبه على أن الأعمى يشارك البصير في بعض الادراكات فيكون في قرب ما من مساواته. لأن كلاً منهما حي متحرك حساس مدرك، وإن كان الأعمى أنقص إدراكاً من البصير. أما الحي والميت، فليس بينهما مساواة ولا مداناة بوجه ما في الإدراكات. فقال تعالى إن المؤمن لا يستوي مع الكافر، لأن المؤمن حي والكافر ميت فالبون بينهما بعيد، والفرق بينهما مبين. لأن الحي متحرك حساس مدرك والميت جماد عديم الحياة والحس الإدراك. فنافاه من كل وجه، وباينه في كل صفة.
فإن قلت كيف كرر حرف النفي في موضع دون موضع. قلت: التكرار إنما يؤتى به للتوكيد. وقد تقرر فيما تقدم أن الأعمى يشارك البصير في صفات كثيرة، وإنما باينه في الإحساس بالمرئيات. فما بينهما من التضاد والمنافاة كما بين النور والظلمة. وكما بين الظل والحرور، فالمنافاة في هذين الموضعين للذات، بخلاف الأعمى والبصير. لا سيما والمراد بهما المؤمن والكافر. فالكافر ليس بأعمى حقيقةً، وإنما استعير له ذلك لأنه لم ير الحق والصواب. ولذلك أتى بحرف النفي أيضاً بين الأحياء والأموات. لأن المنافاة متحققة هنا أيضاً.
فإن قلت: كيف أخر الأشرف في قوله تعالى والبصير وقوله تعالى ولا النور وقدم الأخس في قوله تعالى: الأعمى والظلمات. قلت: جاء به على أصل الواقع. لأن الكافر أعمى والكفار كانوا قبل البعثة. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم آمن به من آمن. فانتقل من العمى إلى البصر. فكان الكفر متقدماً على الإيمان. فقدم ذكر الأعمى لذلك وعطف الظلمات على الأعمى وعطف النور على البصير.
فإن قلت: وهذا ينقض عليك بقية الآية وهو تقديم الأشرف على الأخس في مكانين وهو الظل والأحياء قدما على الحرور وعلى الأموات. قلت: قد تقدم أنه لما ضرب المثل للمؤمن والكافر بالأعمى والبصير وأكد ذلك بالظلمات والنور، لأنهما أمس بالأعمى والبصير من الظل والحرور، ومن الحياة ومن الموت، انتقل بعد ذلك إلى بيان حاليهما. فقال إن حاليهما متباينان، فأتى به على القاعدة في تقديم الأشرف على الأخس. فقدم الظل على الحر، والحياة على الموت. ومن قال: إنما أتى بذلك طلباً للمناسبة بين رؤوس الآي، ليناسب بين البصير والنور والحرور فليس في شيء. والذي ذكرته أدخل في أقسام البلاغة وأثبت على محل الإعجاز.
فإن قلت: كيف أفرد لفظ الأعمى والبصير والنور والظل وجمع لفظ الظلمات والحرور والأحياء والأموات؟ قلت: أما إفراد الأعمى فيلزم منه على مقتضى الفصاحة إفراد البصير، وهكذا جمع الأحياء يلزم منه جمع الأموات، عملاً بمقتضى الفصاحة. وأما إفراد الأولين وجمع الثانيين فإن الإفراد معناه القلة والجمع معناه الكثرة. فأتى بذلك على الأصل الواقع لأن المؤمنين كانوا قليلين. ولما نشر الله الدعوة ودخل الناس في دين الله أفواجاً حسن أن يضرب المثل لهم بالكثرة. ويؤيد ما قلته أن السورة مكية. وفي ذلك بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم وأن أمر الإيمان والمؤمنين يؤول إلى الكثرة. وفي ذلك طمأنينة له صلى الله عليه وسلم وتثبيت ليعلم العاقبة من أمره. وأما إفراد النور، وجمع الظلمات. فقد تقرر أن هذه أمثلة ضربها الله تعالى للمؤمن والكافر. والمؤمن من اتبع الحق وآمن به. والحق هو شيء واحد وهو الإيمان بالله تعالى. وأما الكفر، فإنه جنس تحته أنواع متعددة الأباطيل: من عبادة الكواكب والإشراك بالله وعبادة الأصنام واعتقاد الدهريين إلى غير ذلك من المقالات الفاسدة التي يجمعها الكفر. فلذلك قال تعالى: ولا الظلمات ولا النور. أي لا يستوي أنواع الضلالات ونوع الهدى. هيهات! وقيل: النور لا يكون إلا باجتماع ثلاثة أشياء وهي المنور والنور نفسه والمستنير وهو الجسم الذي يقبل الاستنارة وعدم الحائل وكذلك الظلمة. فقد قابل الظلمات بشيء هو مجموع من هذه الأمور.
وهذا بعيد. والأول أولى.
وأما إفراد الظل وكون الحرور أتى بهذه الصيغة وهي فعول مثل قبول وطهور للمبالغة. ولم يقل الظل ولا الحر لأن الظل هو شيء واحد يضاد أنواع الحر: من السموم، ومن حر النار، ومن تصاعد الأبخرة من الأرض الكبريتيه إلى غير ذلك مما يتوهج به الجو ويسخن به الهواء. فلذلك حسن إفراد الصيغة وتخصيص الحرور بهذه الصيغة.

فإن قلت: فقد قال تعالى تتفيأ ظلاله، فقد جمع الظل. قلت: إنما أراد هناك الجمع لأن الشمس إذا أشرقت ضرب ظل الشخص إلى جهة الغرب فكلما أخذت الشمس في الارتفاع أخذ الظل في التقلص شيئاً فشيئاً فصار كل قدر من الظل فرداً، ومجموع الأفراد من غاية الطول وهلم جراً إلى غاية القصر ظلال. وكذلك إذا جنحت الشمس ومالت عن الاستواء إلى جهة الغرب، برز الظل أقصر ما يكون، ثم تزايد شيئاً فشيئاً وتطاول إلى أن يبلغ الغاية في جهة المشرق. فثبت أن ظل الشرق وظل الغرب ظلال. والله الموفق للصواب.
وقوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال مجاهد والضحاك ومقاتل أعمى عن الحجة. وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقيل إن هذا القول ضعيف لأنهم في يوم القيامة لا بد وإن يعلمهم الله تعالى ببطلان ما كانوا عليه حتى يتميز الحق عن الباطل. ومن تكون هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً. يراد أنه كان من قبل كذلك. وحينئذ لا يليق بهذا قوله وقد كنت بصيراً ولم يكن كذلك في الدنيا. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: ومما يؤيد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بأن المكلف نسى الدلائل. فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان، لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر في الآخرة، كما انه لم يكن به ضرر في الدنيا. قال: الأرواح الحاصلة في الدنيا التي تفارق أبدانها جاهلة بكون جهلها سبباً لأعظم الآلام الروحانية.
قلت: قد أغرب الإمام في هذا الجواب. ومال في هذا إلى القول بالمعاد الروحاني وأعرض عن المعاد الجسماني. والصواب أن يقال فيه: إن من اعرض عن ذكر الله تعالى في الدنيا وقد كان بصيراً يحشره الله تعالى وهو في حيرة لا يهتدي إلى طريق يسلكها إلى الخلاص من العذاب. كالأعمى الذي يقف متحيراً بلا قائد يرشده ويقوده إلى النجاة. ولهذا قال الله تعالى وكذلك أتتك آياتنا فنسيتها. أي فلم تعمل بها ولم يقل فلم ترها.

المقدمة الخامسة
فيما جاء في ذلك من الأخبار والآثار

من ذلك قصة الأقرع والأبرص والأعمى. وهي في صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى. أخبرني الإمام الحافظ الرحلة الشيخ فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري، قراءة عليه وعلى أخيه الشيخ الغمام أبي القاسم محمد وأنا اسمع بالمدرسة الظاهرية بين القصرين من القاهرة المعزية في شهر رمضان المعظم سنة ثمان وعشرين وسبعمائة قالا: أخبرنا الشيخ المسند عز الدين عبد العزيز بن علي ابن نصر بن منصور الحراني المعروف بابن الصيقل أنا الحافظ أبو العباس أحمد بن يحيى بن هبة الله بن البيع ببغداد سنة ستمائة سماعاً، وأنبانا أبو علي الحسن بن إسحاق بن موهب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي رحمه الله تعالى، وأبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى بن الزبيدي، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الله بن روزبة قالوا ثلاثتهم: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق السجزي الصوفي قراءةً عليه ونحن نسمع قال: أخبرنا الإمام جمال الإسلام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن معاذ بن سهل الداودي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حموية ابن أحمد ابن يوسف بن أعين السرخسي الحموي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري البخاري، قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسمعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري رحمه الله تعالى قراءة عليه وأنا اسمع، عوداً على بدء، قال حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا عمرو بن عاصم قال: حدثنا همام ح وأخبرني الشيخ الإمام المسند شمس الدين أبو الحسن علي بن الشيخ محب الدين محمد بن ممدود ابن جامع البندينجي رحمه الله تعالى قراءة عليه وعلى الشيخ الإمام الحافظ الرحلة الناقد فرد الزمان جمال الدين أبي الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي رحمه الله تعالى بدار الحديث الأشرفية تحت قلعة دمشق المحروسة في شهر رجب الفرد سنة خمس وثلاثين وسبعمائة. قال البندينجي المذكور: أنا الشيخ المسند أبو العباس احمد بن عمر بن عبد الكريم بن عبد العزيز الباذبيني المقري ببغداد سنة خمسين وستمائة. وقال الشيخ جمال الدين المزي: أنا الشيخ أمين الدين أبو محمد القاسم بن أبي بكر بن القاسم بن غنيمة الأربلي والباذبيني معاً. قالا أخبرنا الشيخ أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي، قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي الفراوي قراءة عليه وأنا أسمع، قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي، قال: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الزاهد، قال: حدثنا الحافظ الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري رحمه الله تعالى. قال حدثنا شيبان بن فروخ. قال حدثنا همام، وعند همام اجتمع سند البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى. قال همام حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. قال حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص، قال أي شيء أحب إليك؟ قال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قذرني الناس فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال أي المال احب إليك، قال الإبل، فأعطي ناقة عشراء وقال: بارك الله لك فيها. ثم أتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك، قال شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً، قال فأي المال أحب إليك، قال البقر، فأعطي بقرة حاملاً وقال: بارك الله لك فيها، ثم أتى الأعمى، فقال أي شيء أحب إليك، قال أن يرد الله علي بصري فمسحه: فرد الله بصره، قال فأي المال احب إليك قال: الغنم فأعطي شاة ولوداً. فكان للأبرص واد من إبل، وللأقرع واد من البقر، وللأعمى واد من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت به الحبال في سفره فلا بلاغ له اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالله الذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ به سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك. ألم تكن أبرص

يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله؟ قال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر. قال: إن كنت كاذباً صيرك الله كما كنت. وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال. ورد عليه مثل ما رد الأول. فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله كما كنت. ثم أتى الأعمى في صورته وهيئته فقال. له مثل ما قال. فقال: كنت أعمى فرد الله علي بصري. فخذ ما شئت ودع ما شئت. فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك. قال الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى، بعد ما أورد هذا الحديث في كتاب الإفصاح: البلاء إلى السلامة أقرب من العافية إليها. ألا ترى كيف هلك مع السلامة اثنان ونجا واحد. وقد دل هذا الحديث على أن الصبر على البلاء قد يكون خيراً للمبتلى فإنه بان بمعافاة الأقرع والأبرص أن المرض كان أصلح لهما، لأن العافية كانت سبباً لهلاكهما. وقد خذر هذا الحديث من كان في ضر فسأل زواله فلم ير الإجابة أن يتهم القدر فإن الله ينظر للعبد في الأصلح والعبد لا يعلم للعواقب. انتهى. الناس، فقيراً فأعطاك الله؟ قال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر. قال: إن كنت كاذباً صيرك الله كما كنت. وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال. ورد عليه مثل ما رد الأول. فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله كما كنت. ثم أتى الأعمى في صورته وهيئته فقال. له مثل ما قال. فقال: كنت أعمى فرد الله علي بصري. فخذ ما شئت ودع ما شئت. فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك. قال الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى، بعد ما أورد هذا الحديث في كتاب الإفصاح: البلاء إلى السلامة أقرب من العافية إليها. ألا ترى كيف هلك مع السلامة اثنان ونجا واحد. وقد دل هذا الحديث على أن الصبر على البلاء قد يكون خيراً للمبتلى فإنه بان بمعافاة الأقرع والأبرص أن المرض كان أصلح لهما، لأن العافية كانت سبباً لهلاكهما. وقد خذر هذا الحديث من كان في ضر فسأل زواله فلم ير الإجابة أن يتهم القدر فإن الله ينظر للعبد في الأصلح والعبد لا يعلم للعواقب. انتهى.
قلت: ليس هذا الكلام بمستقيم، لأنه لم يطابق الواقع. لأن الثلاثة كانوا في بلاء وسألوا بأجمعهم العافية وخار الله لأحدهم ولم يخر للباقيين. ولكن الصواب أن يسأل الله في العافية من البلاء والتوفيق إلى رضاه.
وأما كون الله تعالى نجى الأعمى وأهلك الأقرع والأبرص، فهذا أمر لا يعلل ولا يعقل. وهو من أسرار القدر، فسبحان الفاعل المختار، لا يعلم أسرار القضاء والقدر إلا هو. لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه عمن حدثه: أن حبيب بن فورك خرج به أبوه إلى رسول الله صلى عليه وسلم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئاً. فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أصابه. فقال: إني كنت أمون جملاً لي فوضعت رجلي على بيض حية فابيضت عيناي. فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فأبصر. فلقد رأيته يدخل الخيط في الإبرة، وهو ابن ثمانين.

ويؤيد هذا الحديث الحديث المشهور في عين قتادة. أخبرنا الحافظ الرحلة الشيخ فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس اليعمري رحمه الله تعالى قراءة عليه وهو يسمع بالقاهرة المعزية في سنة تسع وعشرين وسبعمائة قلت له: قرأت على أبي عبد الله محمد بن علي بن ساعد، أخبركم ابن خليل، أنا ابن أبي زيد، أنا محمود الصيرفي، أنا أبو الحسين بن قاذشاه، أنا الطبراني، ثنا الوليد بن حماد الرملي، ثنا عبد الله بن الفضل، حدثني أبي عن أبيه عاصم عن أبيه عمر عن أبيه قتادة بن النعمان، قال: أهدي إلى رسول الله صلى اله عليه وسلم قوس. فدفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي يوم أحد. فرميت بها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اندقت عن سيتها ولم أزل عن مقامي نصب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى السهام. وكلما مال سهم منها إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلا رمي أرميه. فكان آخرها سهماً ندرت منه حدقتي على خدي. وافترق الجمع فأخذت حدقتي بكفي. فسعيت بها في كفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفي دمعت عيناه، فقال: اللهم إن قتادة فدى وجه نبيك بوجهه! فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظراً! فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظراً.
قلت: ولا شك أن هذا أبلغ معجزاً من الحديث الأول. فإن الأول فيه أن عينين كانتا قد ابيضتا. فتفل فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبصرتا. وهما أخف أمراً من عين سالت وصارت في كف صاحبها وبانت عن مستقرها. فيعيدها صلى الله عليه وسلم أحسن من أختها وأحد منها نظراً. لا شك أن هذا أبلغ. وقال الخرنق الأوسي:
ومنا الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأحسن حالها ... فيا طيب ما عين ويا طيب ما يد
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تكرهوا الرمد، فإنه يقطع عروق العمى. أي أسبابه.
وقال إبراهيم التيمي: كفى بالمرء حسرة أن يفسح الله في بصره في الدنيا وله جار أعمى، فيأتي يوم القيامة أعمى وجاره بصيراً.
وسمعت عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة رجلاً يقول: ما أشد العمى على من كان بصيراً! فقالت: يا عبد الله عمى القلب عن الله اشد من عمى العين عن الدنيا. والله لوددت أن الله وهب لي كنه محبته ولم يبق مني جارحة لا أخذها! قال رجل للقاسم بن محمد، وقد ذهب بصره: لقد سلبت أحسن وجهك. قال: صدقت غير أني منعت النظر إلى ما يلهى، وعوضت الفكرة في العمل فيما يجدي.
قال حكيم: إياك أن تحك بثرة وإن زعزعتك، واحفظ أسنانك من القار بعد الحار والحار بعد القار، وأن تطيل النظر في عين رمدة وبئر عادية، واحذر السجود على خصفة جديدة حتى تمسحها بيدك. فرب شظية حقيرة فقأت عيناً خطيرة.
أنس رضي الله عنه رفعه: من قاد أعمى أربعين خطوة لم تمسه النار.
كتب مبارك أخو سفيان الثوري إليه يشكو ذهاب بصره. فكتب إليه سفيان: أما بعد. فقد فهمت كتابك فيه شكاية ربك. فاذكر الموت يهن عليك ذهاب بصرك. والسلام.
ذكر الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى في كتاب أسرار التنزيل عند ما ذكر الفتوة أن رجلاً تزوج امرأة. وقبل الدخول بها، ظهر بالمرأة جدري أذهب عينها. فقال: الرجل ظهر في عيني نوع ضعف وظلمه.
ثم قال: عميت. فزفت إليه المرأة. ثم إنها ماتت بعد عشرين سنة. ففتح الرجل عينيه. فقيل له في ذلك. فقال: ما عميت ولكن تعاميت حذراً أن تحزن المرأة. فقيل له سبقت الفتيان.
وقال حكي عن الشبلي أنه قال: خطر ببالي أني بخيل ولئيم فقلت أجرب نفسي: فنويت أن كلّ ما آخذه اليوم أهبه لأي شخص أراه أولاً. ثم إنه جاء خادم في الحال من دار الخلافة ووضع عندي صرة فيها خمسون ديناراً فأخذتها وخرجت فرأيت حجاماً يحلق رأس أعمى. فدفعتها إلى الأعمى. فقال الأعمى: ادفعها إلى هذا الحجام: فقال الحجام أنا نويت حلق رأس هذا الأعمى لله. فقلت: إنها ذهب. فقال الأعمى ما هذا البخل؟ ثم أخذها ودفعها إلى الحجام. فقال الحجام أنا نويت حلق رأس هذا الأعمى لله: ولا آخذ الذهب. والحاصل إن ذلك الذهب ما قبله الأعمى ولا الحجام.

ونقلت من بعض المجاميع: قال بعض السادة: كنا في جنازة وحضرها معنا الشيخ أبو بكر الضرير. وبين يدي الجنازة صبيان يبكون ويقولون: من لنا بعدك يا أبة فلما سمعهم أبو بكر يقولون ذلك قال الذي كان لأبي بكر الضرير. فسألته عن سبب ذلك. فقال: كان أبي من فقراء المسلمين وكان يبيع الخزف. وكانت لي أخت أسن مني وكنت قد أتي علي في بصري. فانتبهت ليلة فسمعت أبي يقول لأمي: أنا شيخ كبير وأنت أيضاً قد كبرت وضعفت. وقد قرب منا ما بعد. ثم أنشد:
وإن أمراً قد سار خمسين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب
وهذه الصبية تعيش بصحة جسمها وتخدم الناس. وهذا الصبي ضرير قطعة لحم. ليت شعري! ما يكون منه؟ ثم بكيا وداما على ذلك وقتاً طويلاً من الليل. فاحزنا قلبي. فأصبحت ومضيت إلى المكتب، على عادتي. فما لبثت إلا يسيراً إذ جاء غلام للخليفة، فقال للمعلم: السيدة تسلم عليك وتقول لك قد أقبل شهر رمضان وأريد منك صبياً دون البلوغ، حسن القراءة طيب الصوت يصلي بنا التراويح. فقال: عندي من هذه صفته. وهو مكفوف البصر، ثم أمرني بالقيام معه. فأخذ الرسول بيدي وسرنا حتى وصلنا الدار. فاستأذن علي. فأذنت السيدة لي بالدخول، فدخلت وسلمت. واستفتحت وقرأت، بسم الله الرحمن الرحيم. فبكت. واسترسلت في القراءة، فزاد بكاؤها. وقالت: ما سمعت قط مثل هذه التلاوة فرق قلبي، فبكيت. فسألتني عن سبب ذلك فأخبرتها بما سمعت من أبي. فقالت: يا بني! يكون ذلك من لم يكن في حساب أبيك. ثم أمرت لي بألف دينار. فقالت: هذه يتجر بها أبوك ويجهز أختك. وقد أمرت لك بإجراء ثلاثين ديناراً في كل شهر، إدراراً. وأمرت لي بكسوة وبغلة مسرجة ملجمة وسرج محلي. فهو سبب قولي جواباً للصبيان عند ما قالوا: من لنا بعدك يا أبه.
قيل إنه مكتوب في التوراة: إن الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقواد لا يموت حتى يعمى.
ويقال في التجارب: الأعمى مكابر والأعور ظلوم والأحول تياه.

المقدمة السادسة
قال حذاق الأصوليين إن
العمى لا يجوز على الأنبياء
لأن مقام النبوة اشرف من ذلك. ومنعوا من عمى شعيب وإسحاق. وقالوا لم يرد بذلك نص في القرآن العظيم، ليكون العلم بذلك قطعياً. وأورد عليهم قصة يعقوب عليه السلام. وابيضت عيناه من الحزن فهذا صريح. وقوله تعالى: فارتد بصيراً. وبياض العين لا يكون إلا بذهاب السواد. ومتى فقد السواد حصل العمى. والارتداد لا يكون إلا عوداً إلى الحالة الأولى. والحالة الأولى كان فيها بصيراً. فدل على أن الحالة التي ارتد عنها كان فيها أعمى. وأجاب المانعون بأن قوله ابيضت عيناه كناية عن غلبة البكاء وامتلاء العين بالدموع، كما قال الشاعر
وقفت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدار من فرط الصبابة أنظر
فعيناي طوراً تغرقان من البكا ... فأغشى وطوراً يحسران فأبصر
فهذا الشاعر ادعى أن عينيه إذا غر قتامن البكاء صار أغشى فلا يرى بهما شيئاً وإذا غدرت الدموع عاد إلى الإبصار. وقوله: من وراء زجاجة كناية عن غلبة الدموع. لأن الدموع تكون بجمودها في عينه كالزجاجة التي تغطي بصره وهي متى كانت كذلك كانت بيضاء. فهذا مثل قوله تعالى: وابيضت عيناه من الحزن. فلا يدل ذلك على العمى قطعاً. وقوله تعالى: فارتد بصيراً، ذهب جماعة من المفسرين إلى أنه كان قد عمي بالكلية. وقالت جماعة: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء وكثرة الأحزان، فلما ألقوا القميص وبشروه بحياة يوسف عليه السلام، عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي ضوء بصره وزال النقصان عنه.
وهذا الذي يليق بجناب النبوة المعظمة. وهو أن يكون النبي سليم الأعضاء، صحيح الجوارح، كامل الخلق، برياً من العاهات، معتدل المزاج. ومن هنا قال الفقهاء: لا يجوز أن يكون الإمام أعمى. والصحيح من مذهب الشافعي رضي الله عنه أن القاضي لا يكون أعمى. وفي المذهب وجه في جوازه، مبني على أن عمى شعيب وغيره من الأنبياء صحيح قيل ومقام النبوة أشرف من مقام القضاء.
فصل.
المقدمة السابعة
فيما يتعلق بالأعمى من الأحكام
في الفروغ مما يخالف فيها البصراء
وهي عدة أحكام على مذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي قدس الله روحه منها
الاجتهاد في الأواني

أصح القولين وجوبه عليه، لأنه يعرف باللمس اعوجاج الإناء واضطراب الغطاء وسائر العلامات. والأول لا يجب كما انه لا يجتهد في القبلة، بل يتقلد فيها. فلو اجتهد ولم يتبين له شيء، فالصحيح أنه يقلد لعدم قدرته على العلامات المقتضية لذلك. وإذا قلنا يقلد ولم يجد من يقلده. فالأصح أنه يتيم ويصلي ويعيد. والخلاف في الأواني جار في الثياب

مسألة من مفردات الإمام أحمد
رضي الله تعالى عنه
وهي إذا دخلت المرأة بالماء لا يجوز للرجل أن يتوضأ منه، لحديث عبد الله بن سرجس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل بفضل وضوء المرأة. وبعد هذا فقد روى في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة. وقد رواه مسلم أيضاً. وروى أحمد رضي الله عنه في مسنده أيضاً عن ابن عباس عن ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة. ورواه ابن ماجه أيضاً. وروى أحمد رضي الله تعالى عنه في مسنده أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: اغتسل بعض أزواج رسول الله صلى اله عليه وسلم في جفنة. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها ويغتسل فقالت له: يا رسول الله: إني كنت جنباً. قال: إن الماء لا يجنب ورواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
قال الشيخ مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن تيمية: وأكثر أهل العلم على الرخصة للرجل في فضل طهور المرأة. والأخبار بذلك أصح.
وكرهه أحمد وإسحاق إذا دخلت به. وهو قول عبد الله بن سرجس. وحملوا حديث ميمونة على أنها لم تخل به، جمعاً بينه وبين حديث الحكم بن عمرو الغفاري.
قلت: وحديث الحكم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. رواه الخمسة، إلا أن ابن ماجه والنسائي قالا: وضوء المرأة: وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال ابن ماجه وقد روى بعده حديثاً آخر الصحيح الأول. يعني حديث الحكم: ولعل الإمام أحمد رضي الله عنه كان يرى أن حديث ميمونة من خواص النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز ذلك لغيره من الأمة. فعلى مذهب الإمام أحمد هل يحصل خلو المرأة بالماء مع حضور الأعمى أولاً في المذهب وجهان.
ومنها
الاجتهاد في القبلة
قال الأصحاب: لا يجوز له ذلك لأن امارتها البصر بخلاف أوقات الصلوات حيث يجوز له إذ التوصل إليها ممكن إما بورد أو ذكر أو خطاً يمشيها.
ومنها كراهية أذانه إذا كان راتباً إلا أن يكون معه بصير كما كان بلال مع ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنهما.
كذا قال النووي رحمه الله تعالى. وفيه نظر. لأن بلالاً لم يكن أذانه مع ابن أم مكتوم. وإنما كان كل منهما مستقبلاً بوقت دون غيره، يؤذن فيه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم: وكان أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت! أصبحت! فقد رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم السحور على أذان ابن أم مكتوم، دون بلال.
قلت: إلا أن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أذن بلال فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. قالت: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا. وهذا يؤيد ما ذهب إليه الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى.
ومنها إمامته هل هي وإمامة البصير سواء، أو هي أولى بالعكس. وجوه.
والقول بأنهما سواء قول الجمهور. فحكي عن أبي إسحاق المروزي أن الأعمى أولى، لأنه لا ينظر إلى ما يلهيه ويشغله. فيكون أبعد عن تفرق القلب وأخشع.
واختار الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن البصير أولى. وبه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: لأنه أحفظ لبدنه وثيابه عن النجاسات، ولأنه مستقل بنفسه في الاستقبال.
وقد كره ابن سيرين إمامة الأعمى لقول ابن عباس رضي الله عنه تعالى عنهما: كيف أؤمهم وهم يعدلوني إلى القبلة، وعن أنس قال: وما حاجتهم إليه.
وعند عامة الأصحاب أنهما سواء، لتعارض المعنيين. وهو المنقول عن نص الشافعي رضي الله عنه في الأم. ولم يورد الصيدلاني. والإمام وصاحب التهذيب شيئاً سواه.
ومنها هل يجب عليه الجمعة.

قال جمهور الأصحاب: إن وجد قائداً متبرعاً أو باجرة، وله مال، وجبت عليه. وإن لم يجد قائداً، لم يلزمه الحضور هكذا أطلق الأكثرون.
وعن القاضي حسين أنه إن كان يحسن المشي بالعصا من غير قائد، لزمه ذلك.
وعن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لأنه لا تجب الجمعة على الأعمى بحال. وإذا حضر الأعمى الجامع ينبغي أن يجري الخلاف فيه كما في المريض إذا حضر فأقيمت الصلاة. هل يحرم عليه الانصراف وفيه قولان.
فرع ومن شرط الأعمى في القدوة إذا كان مأموماً سماع صوت الإمام أو المترجم أو بهداية غيره وكذا حال البصير الذي لا يشاهد بظلمة أو غيرها.
ومنها هل تسقط الجماعة عنه.
وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل أعمى. فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرخص له. فلما ولى دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تسمع النداء، قال: نعم، قال: فأجب.
ومن فروع صلاة الأعمى، ما كتبه إلى الشيخ الإمام بهاء الدين أبي حامد أحمد ابن العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين أبي الحسن علي السبكي الأنصاري الشافعي رضي الله عنه
أبا حامد إني بشكرك مطرب ... كأن ثنائي في المسامع سيز
لقد حزت فضل الفقه والأدب الذي ... يفوت الغنى من لا بذاك يفوز
وفت المدى مهلاً إلى الغاية التي ... لها عن لحاق السابقين بروز
فأصبحت في حل الغوامض آيةً ... تميل إلى طرق الهدى وتميز
كأن حروف المشكلات إذا أتت ... لديك على حل العويص رموز
ملكت فأخرج للمساكين فضلة ... فعندك من در البيان كنوز
تجيد القوافي والقوى في بيانها ... فبيتك للمعنى الشرود حريز
سلت فخبر عن صلاة امرئ غدت ... يحار بسيط عندها ووجيز
تجوز إذا صلى إماماً ومفرداً ... وإن كان مأموماً فليس تجوز
فأوف لنا كيل الهدى متصدقاً ... فأنت بمصر والشآم عزيز
فمن ذا الذي يرجى وأنت كما نرى ... مجيد مجيب للسؤال مجيز
فكتب الجواب إلي عن ذلك.
أيامن لشأو العلم بات يحوز ... ومن لسواه المدح ليس يجوز
ومن حاز في الآداب اقتسم الورى ... فليس لشيء منه عنه نشوز
ومن ضاع عرف الفضل منه ولم يضع ... بجدواه عرف الجود فهو حريز
سألت وما المسؤل أعلم بالذي ... أردت ولا منه عليك بروز
وقلت امرؤ لا يقتدي غير أنه ... إماماً وفرداً بالجواز يفوز
وذاك امرؤ أعمى نأى عنه سمعه ... وليس لأفعال الإمام يميز
فهاك جواباً واضحاً قد أبنته ... ومثلي عن حل الصعاب ضموز
فإن كان هذا ما أردت فإنما ... بفضلك في الدنيا تفك رموز
وإن لم يكنه فالذي هو لازم ... جواب لمضمون السؤال يحوز
فلا زلت تبدي من فضائلك التي ... تزيد مع الإنفاق وهي كنوز
فأنت صلاح الدين والناس والدنا ... وأنت خليل والخليل عزيز
ومنها أنه لا يجب عليه الحج إذا لم يجد قائداً متبرعاً، أو كان عاجزاً عن أجرته.
لأن ذلك من عدم الاستطاعة. ولا يجوز له الاستنابة عنه. وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه في أصح القولين عنه: الاستنابة فيه.
قال الرافعي رحمه الله تعالى: إذا وجد مع الزاد والراحلة قائداً، يلزمه الحج بنفسه، لأنه مستطيع. والقائد في حقه كالمحرم مع المرأة.
ومنها بيع الأعمى بنفسه وشراؤه.
إن قلنا بالمذهب الصحيح على القول الجديد: إنه لا يجوز بيع الغائب ولا شراؤه، فلا يجوز بيع و الأعمى لا شراؤه. فإن جوزناه فوجهان. الأظهر منهما أنه لا يجوز. والفرق أنا إذا جوزنا الغائب، ثبت فيه خيار الرؤية. وفي حق الأعمى لا سبيل له إلى خيار الرؤية، إذ لا رؤية ألبتة. فيكون كبيع الغائب، على شرط أن لا خيار.

والثاني: يجوز ويقام وصف غيره له مقام رؤيته، كما تقام الإشارة مقام النطق في حق الأخرس.
وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأحمد رضي الله تعالى عنهم.
وإذا قلنا لا يصح بيع الأعمى ولا شراؤه، فلا تصح منه الإجارة، ولا يصح منه الرهن، ولا تصح منه الهبة.
فهذه الثلاث مسائل، مقيسة على عدم صحة بيعه وشرائه.
وهل للأعمى أن يكاتب عبده.
قال في التهذيب: لا. وقال في التتمة، المذهب أن له ذلك. تغليباً للعتق، وصححه النووي رحمه الله تعالى.
ويجوز للأعمى أن يؤجر نفسه، وأن يشتري نفسه، وأن يقبل الكتابة على نفسه: لأنه لا يجهل نفسه في هذه الأحوال.
ومنها سلمه إذا اسلم في شيء أو باع سلماً.
فينظر إن كان قد عمي بعد ما بلغ سن التمييز، فهو صحيح. لأن السلم يعتمد الأوصاف. وهو، والحالة هذه يميز بين الألوان ويعرف الأوصاف. ثم يوكل من يقبض عنه. على الوصف المشروط. وهل يصح قبضه بنفسه؟.
فيه وجهان. أصحهما لا. لأنه لا تمييز عنده بين المستحق وغيره. وإن كان أكمه، أو عمي قبل بلوغ سن التمييز، فوجهان. أحدهما أنه لا يصح سلمه، لأنه لا يعرف الألوان ولا تمييز بينها عنده. وبهذا قال المزني. ويحكى عن ابن سريج وابن خيران وابن أبي هريرة أيضاً. واختاره صاحب التهذيب. وأصحهما عند العراقيين وغيرهم. ويحكى عن أبي إسحاق المروزي. وبه أجاب في الكتاب انه يصح لأنه يعرف الصفات والألوان بالسماع ويتخيل فرق بينهما. فعلى هذا إنما يصح سلم الأعمى إذا كان راس المال موصوفاً فعين في المجلس، أما إذا كان معيناً فهو كبيع العين، وكل ما لا نصححه من الأعمى في التصرفات، فسبيله أن يوكل ويحتمل ذلك للضرورة.
ومنها

المساقاة
وهي كالبيع فيجري فيها ما يجري في بيعه.
ومنها
جواز كونه وصيا
ً
في المسألة وجهان، وجه المنع أنه لا يقدر على التصرف في البيع والشراء لنفسه. فلا يجوز أن يفوض إليه أمر غيره. ووجه الجواز أنه يوكل في كلما يتعذر مباشرته له بنفسه. وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه.
ومنها
إذا اشترى البصير شيئاً ثم عمي
قبل قبضه وقلنا لا يصح قبض الأعمى فهل ينفسخ فيه وجهان. كالوجهين فيما
إذا اشترى الكافر عبداً كافراً ثم أسلم العبد، وصحح النووي رحمه الله تعالى أنه لا ينفسخ العقد لأنه وقع صحيحاً وله التوكيل في قبضه.
ومنها
جواز كونه ولياً في النكاح
في أصح الوجهين، فوجه المنع أن العمى نقص يؤثر في الشهادة فأشبه الصغير الذي لا يكون ولي النكاح، ووجه الجواب أن المقصود من الولاية هنا يحصل بالبحث عن الغير والسماع، وإنما لم يقبل شهادته لتعذر التحمل ولهذا قبلت شهادته فيما تحمله قبل العمى، وقيل أيضاً إن شعيباً عليه السلام زوج وهو مكفوف.
ومنها
أنه يصح خلعه المرأة
اتفاقاً، لكنه إن خالع على عين معينة بطل فيها على المذهب كما قلنا في بطلان بيعه وشرائه ويجب مهر المثل.
ومنها إذا اجتمع بالزوجة هل يعتد بذلك خلوة ويكمل الصداق؟ الظاهر أن الشافعي رضي الله تعالى عنه لا فرق عنده في ذاك بين البصير والأعمى. وأما مذهب الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه فقال أصحابه على القول بتكميل الصداق. فإن كانت صغيرة لا يمكن وطؤها أو الزوج صغيراً أو أعمى لم يعلم دخولها عليه لم يكمل الصداق لأنه لم يحصل التمكن.
ومنها العمى في النكاح هل هو عيب أو لا؟ مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه ليس بعيب، لا في النكاح ولا في الكفاءة في أحد الجانبين، أما إذا اشترط أحد الزوجين البصر فبان خلافه هل يصح النكاح أو يبطل؟ فيه قولان أظهرهما الصحة، وهما جاريان في كل وصف شرط فبان خلافه، سواء كان المشروط وصف كمال كالجمال والشباب والنسب واليسار والبكارة أم صفة نقص كأضداد هذه.
ومنها
هل يجوز أن تكون الحاضنة عمياء

هذه من المسائل الغريبة إلا أن ابن الرفعة رحمه الله تعالى قال: في كلام الإمام ما يستنبط منه أن العمى مانع، فإنه يعني الغمام قال إن حفظ الأم للولد الذي لا يستقل ليس مما يقبل الفترات، فإن المولود في حركاته وسكناته لو لم يكن ملحوظاً من مراقب لا يسهو ولا يغفل لأوشك أن يهلك. ومقتضى هذا أن يكون العمى مانعاً، فإن الملاحظة معه كما وصف لا تتأتى. وقد يقال: فيه ما في الفالج إذا كان لا يلهي عن الحضانة وإنما يمنع الحركة. وأخبرني المولى الإمام الفقيه الفاضل القاضي تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب ابن العلامة أوحد المجتهدين قاضي القضاة تقي الدين أبي الحسن علي الأنصاري السبكي الشافعي رضي الله عنه قال قد رأيت فيها نقلا في فتاوى عبد الملك بن إبراهيم المقدسي من أصحابنا وقال: إنه لا حضانة للعمياء، وهو نقل غريب جداً، لم ينقله أحد. قال: وعبد الملك هذا فقيه كبير زاهد ورع فرضي سمع بهمذان أبا نصر بن هبيرة وبغيرها من البلاد. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وثمانين وأربعمائة و ببغداد رحمه الله تعالى.
قلت: كان إماماً في الفرائض والحساب وقسمة التركات وإليه مرجع الناس في ذلك. طلبه الوزير أبو شجاع للقضاء فاعتذر بالعجز وعلو السن. وقال: لو كانت ولايتي متقدمة لاستعفيت منها وأنشد.
إذا المرء أعيته السيادة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد
وكان يحفظ المجمل لابن فارس، وغريب الحديث لأبي عبيدة ولم يعرف أنه اغتاب أحداً قط. وسمع من عبد الله بن عبدان وعبد الرحمن ابن أحمد الروياني.
ومنها ذكاته، تكره ذكاة الأعمى بالاتفاق، لاحتمال أنه يخطئ المذبح، فإن ذبح حل.
ومنها حل صيده بالكلب والرمي قياساً على ذبحه. ومن منع احتج بأنه ليس له قصد صحيح، فصار كما لو استرسل الكلب بنفسه، وهذا المنع محكي عن أبي إسحاق: وقد أطلق الوجهين مطلقون والأشبه أن الخلاف مخصوص بما إذا دله بصير على أنه بحذائه صيد فرمى أو أرسل الكلب عليه بدلالته، ووجه الحل بأنه فعل ما فعل بدلالة بصير، فأشبه ما لو دله على القبلة، والمذهب المنع، والأصح التحريم، بخلاف القبلة لأن التوجه يسقط بالأعذار، وتجويز بناء الأمر فيه على الاجتهاد، وذلك بخلاف الصيد.
ومنها الإمام لا يجوز أن يكون أعمى. قال الرافعي رحمه الله تعالى: وينعزل بالعمى والصمم والخرس، ولا ينعزل بتمتمة اللسان ولا ثقل السمع. وقال الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى في شروط الإمامة: وهي كونه مكلفاً مسلماً عدلاً حراً ذكراً عالماً مجتهداً شجاعاً ذا رأي وكفاية سميعاً بصيراً ناطقاً قرشياً. وقال قال الماوردي: عشا العين لا يمنع انعقاد الإمامة لأنه مرض في زمن الاستراحة ويرجى زواله وضعف البصر إن كان يمنع معرفة الأشخاص منع انعقاد الإمامة واستدامتها وإلا فلا.
قلت: ولهذا كان بنو بويه وغيرهم، إذا خلعوا الخليفة سملوه حتى لا يعود ترجى له الخلافة ولا انعقاد الإمامة كما فعل بأمير المؤمنين المتقي إبراهيم بن جعفر، وبأمير المؤمنين المستكفي بالله عبد الله بن علي، وبأمير المؤمنين الطائع عبد الكريم بن الفضل، وبأمير المؤمنين القاهر محمد بن أحمد. وكما فعل الإمام الناصر بابنه الإمام الظاهر محمد بن أحمد وحاول من فساد بصره ولم يقدره الله تعالى على ما سيمر بك في تراجم المذكورين.
ومنها لا يقتض من العين السليمة بالحدقة العمياء قطعاً لعدم المكافأة والتساوي، فإن كل جارحة لها منفعة ومنفعة العين إدراك المرئيات، ولا إحساس بها للأعمى، فسقطت المكافأة. ألا ترى أن الفقهاء أوجبوا قطع جفن البصير بجفن الأعمى لأنهما تساويا في الجرمين.
ومنها الحدقة القائمة كاليد الشلاء لترددها بين البصيرة والعمياء، فلا تؤخذ الصحيحة بها وإن رضي الجاني، كما أنه لا يقتل المسلم بالكافر وإن رضي الجاني. وهل تؤخذ القائمة بالصحيحة؟ فيه وجهان، أحدهما لا، لعدم المكافأة والأصح أنه يراجح أهل الخبرة.

ومنها إذا جنى عليه جناية فأعماه كما إذا ضربه على رأسه فحدث له عمى. المذهب أنه يقتص منه، فإن تعذر وقال أهل الخبرة إنه يمكن القصاص اقتص منه. وإن قالوا يتعذر وجبت الدية، كما إذا جرحه موضحة فذهب بصره وشعر رأسه فاقتص المجني عليه في الموضحة فذهب بصر الجاني وشعر رأسه فاقتص المجني عليه في الموضحة فذهب بصر الجاني وشعر رأسه، نص في المختصر أنه استوفى حقه، ولو لم يذهب بصر الجاني ونبت شعره فعليه دية البصر وحكومة الشعر.
ومنها إذا جرى بصير وراء أعمى بسيف ووقع الأعمى في طريقه في بئر ضمن البصير، إذا كان الضرير لم يعلم أن هناك بئراً.
ومنها استماع الأعمى من خصاص الباب حيث يسوغ رمي البصير في عينه إذا اطلع. قال ابن عقيل من أصحاب الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه في فنونه: هل يجوز ضربه في أذنه كما يضرب البصير في أذنه.
ومنها إذا قيل للأعمى: أترك الصلاة أياماً فإنك تبصر مع العلاج، أو قيل له صل مستلقياً إذا كان قادراً على القيام وقال له ذلك طبيب موثوق بدينه وبعلمه جاز له الاضطجاع والاستلقاء على الأصح. ولو قال له: إن صليت قاعداً مكنت مداواتك، قال إمام الحرمين: يجوز القعود قطعاً، ومفهوم كلام غيره أنه على وجهين.
ومنها الأعمى إذا تردى من مكان فوقع على غيره أو جذب أحد بيده، روى علي بن رباح اللخمي أن رجلاً كان يقود أعمى فوقعا في بئر ووقع الأعمى فوق البصير فقتله، فقضى عمر رضي الله تعالى عنه بعقل البصير على الأعمى، فكان الأعمى ينشد في الموسم
يا أيها الناس لقيت منكراً ... هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا معاً كلاهما تكسرا قال الشيخ موفق الدين الحنبلي رحمه الله تعالى، وبهذا الحكم قال أصحابنا وهو قول ابن الزبير وشريح والنخعي والشافعي وإسحاق قال: ولو قال قائل ليس على الأعمى ضمان البصير لأن البصير الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه وكان سبب وقوعه عليه. وكذلك لو فعله قصداً لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمان الأعمى لكان له وجه. إلا أن يكون لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمان الأعمى لكان له وجه. إلا أن يكون مجمعاً عليه فلا يجوز مخالفة الإجماع، ويحتمل إنما لم يجب الضمان على القائد لوجهين. أحدهما أنه ماذون فيه من جهة الأعمى فلم يضمن ما تلف له، كما لو حفر بئراً في داره بإذنه فتلف بها. الثاني أنه فعل مندوب إليه مأمور به، قياسه ما لو حفر بئراً في سابلة ينتفع بها المسلمون فإنه لا يضمن بما تلف فيها.
مسألة في حكم العمى في الأضحية، هذه المسألة لا تعلق لها بمسائل الأعمى، ولكن لها علاقة بالعمى من حيث هو. لا تجزئ الضحية بالعمياء ولا العوراء التي ذهبت حدقتها وإن بقيت فوجهان، الصحيح أنها لا تجزئ، وتجزئ العشواء على الصحيح لأنها تبصر نهاراً وهو وقت الحاجة إلى المرعى.
ومنها سقوط الجهاد عنه. لا جهاد على الأعمى وذلك بنص القرآن العظيم فيسقط الجهاد بالصبا والأنوثة والمرض والعرج والعمى والفقر.
ومنها لو نقب زمن وأعمى فأدخل الأعمى الزمن فأخذ الزمن المتاع وخرج به الأعمى يجب القطع على الزمن، وفي الأعمى وجهان، إذا حمل الزمن وأدخله الحرز فدل الزمن الأعمى على المال وأخذه وخرج به يجب القطع عليهما أولا يجب إلا على الأعمى فيه وجهان، أصحهما الثاني. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا قطع على واحد منهما لأنه خرج ولا شيء معه.
ومنها اصح الوجهين عند الأكثرين أن من نذر عتق رقبة وأطلق أجزأه عتق الأعمى. وصحح الداركي أنه لا يجزئ وهما مبنيان على أن النذر هل يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه.

ومنها القاضي الأعمى، الصحيح من المذهب أنه لا يجوز أن يكون القاضي أعمى. وفيه وجه في جمع الجوامع للروياني اختاره القاضي شرف الدين بن أبي عصرون رحمه الله تعالى وصنف فيه جزأ واستمر على القضاء لما عمي. حجة الجمهور أنه لا يعرف الخصوم ولا الشهود. وحجة من جوز أن شعيباً عليه السلام كان أعمى فالقاضي بطريق أولى لأن النبي اشرف من القاضي. وقيل إن شعيباً عليه السلام لم يثبت عماه ولئن سلمنا عماه فإن الذين آمنوا معه كانوا قليلين. فربما أنهم كانوا لا يحتاجون إلى التحاكم بينهم، سلمنا أنهم احتاجوا إلى التحاكم لكن الوحي ينزل عليه بالحق في فصل القضايا، ولا كذلك القاضي. فلو عمي القاضي بعد سماع البينة وتعديلها، هل ينفذ قضاؤه في تلك الواقعة؟ فيه وجهان أحدهما لا، لأنه انعزل بالعمى.
ومنها المذهب أنه لا تقبل شهادة الأعمى إلا في موضعين. أحدهما أن يقول له إنسان في أذنه شيئاً فيعلقه ويحمله إلى القاضي فيشهد بما قاله، وقيل لا تقبل في هذه الحالة أيضاً. قال القاضي: ومحل الخلاف ما إذا جمعهما مكان خال وألصق فمه بخرق أذنه وضبطه فلو كان هناك جماعة وأقر في أذنه لم تقبل. والثاني فيما يشهد فيه بالاستفاضة كالموت والنسب لأن الشهادة إذا كانت على ذلك لم يؤثر فيها فقد البصر. وقال المحاملي: في قبول شهادته والحالة هذه نظر، من جهة أن المخبرين لا بد وأن يكونوا عدولاً، والأعمى لا يشاهدهم، فلا يعرف عدالتهم. وقال القاضي أبو الطيب كلام الأصحاب محمول على ما إذا سمع ذلك في دفعات مختلفة مع قول مختلفين في أزمان مختلفة حتى يصير لا شك فيه لكثرة تكراره على سمعه ويصير بمنزلة التواتر عنده. ولا يجوز التحمل إلا على هذا الوجه.
وقال الشيخ أبو علي كلامهم في شهادته بالنسب يتصور فيما إذا كان الشخص معروف النسب من جهة أبيه وأجداده وليس تعرف نسبته إلى قبيلة معينة فيشهد أن فلان بن فلان من بني فلان فتثبت هذه الشهادة من الأعمى فإنه نسب لا يحتاج إلى الإشارة دون ما إذا نسب شخصاً إلى شخص فإنه لا يجد إلى ذلك سبيلاً. وقد أضاف الأصحاب رحمهم الله تعالى إلى الصورتين صورة ثالثة وهي سماع شهادته في الترجمة على أحد الوجهين.
وقال. وأحمد رضي الله عنهما للأعمى التحمل والشهادة إعتماداً على الصوت، كماله أن يطا زوجته ويميز بينها وبين غيرها بالصوت ونحوه. وهو مشكل فإن الأصوات تتشابه ويتطرق إليها التلبيس والتحيل. وأجاب الأصحاب رحمهم الله تعالى بأن الشهادة مبنية على العلم ما أمكن، والوطء يجوز بالظن. وأيضاً فالضرورة تدعو إلى تجويز الوطء ولا تدعو إلى الشهادة، لأن البصراء غنية عنه ولا تقبل شهادة الأعمى على الأجانب ولا على زوجته التي يطؤها لما سبق من تشابه الأصوات. وعن القفال أن مالكياً سئل ببخارى عن شهادة الأعمى وقصدوا بذلك التشنيع عليه. فقال ما قولكم في أعمى يطأ زوجته وأقرت تحته بدرهم فشهد عليها أتصدقونه في انه عرفها حتى استباح بضعها وتقولون إنه لم يعرفها للإقرار بدرهم فانعكس التشنيع. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا تقبل شهادة الأعمى بحال مع تسليمه أن النكاح ينعقد بشهادة أعميين.
وأما رواية الأعمى: ففيها وجهان: أحدهما المنع لأنه قد يلبس عليه وقت السماع. والثاني أنها مقبولة إذا حصل الظن الغالب. واحتج له بأن عائشة وسائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن كن يروين من وراء الستر ثم يروي السامعون عنهن. ومعلوم أن البصراء والحالة هذه كالعميان، والأول أظهر عند الإمام وبالثاني أجاب الجمهور، وهذا الخلاف فيما سمعه بعد العمى أما ما سمعه قبل العمى فله أن يرويه بلا خلاف.

المقدمة الثامنة
فيما يعتقده المنجمون
في سبب عمى المولود
يزعم المنجمون أن المولود إذا ولد وأحد النيرين في الكسوف أو الخسوف فإنه يولد أعمى.

ونقلت من كتاب المواليد لأبي معشر جعفر بن محمد البلخي من أماكن متفرقة. قال: إذا ولد مولود والطالع الجوزاء وعطارد فيه: كان أعمى أو في عينه بياض وهو مع ذلك أحمر اللون: وإذا ولد مولود والطالع الحوت وزحل والمريخ فيه كان أعمى ناتئ العينين. قال: والمريخ إذا كان مشرفاً جيد وإذا كان مغرباً كان المولود أعمى فقيراً. والزهرة مغربة تعطي الحياة والحسن والسعة والنصر. وفي التشريق يقع الماء في العين. وقال: في مكان آخر وإذا كانت الزهرة في الطالع في بيت المرض كان المولود بأحد عينيه عيب. وقال: في موضع آخر ومن يولد بين الجوزاء والسرطان يكون أعمى ولا يلبث أن يعمى بعد مولده بقليل وربما ولد في وجهه خراج حتى تسترخي جلدة وجهه كله على عينيه وفمه وأنفه حتى تقع على صدره ويعيش عيش سوء حتى يموت.
ونقلت من كتاب درج تنكلوشا تعريب ابن وحشية.
قال: في الدرجة الثالثة من برج السرطان من يولد بها يكون في عينيه أو في إحداهما عيب كثير الشرور والنحوس في معاشه مسعوداً في بدنه ونفسه. وقال: في الدرجة العشرين من برج الأسد من يولد بها يكون أديباً غنياً كريماً: فإن كانت امرأة افتقرت آخر عمرها وذهبت عينها. وقال: في الدرجة العشرين من برج السنبلة من يولد بها تكون عيناه لونين ويكون من الحيلة والخبث والدهاء على حالة ليس وراءها غاية وتمر به شدائد ينجو منها إلا أن عمره قصير ويموت فجاءةً. وقال: في الدرجة الرابعة من برج الميزان من يولد بها يكون مشوه الخلق عيناه مقلوبتان وآذانه كآذان الفيل محباً لأكل الحرام ولا يريد الحلال وهو نكد عسر شرش مشؤم شكال كسلان لا خير فيه. وقال: في الدرجة الخامسة عشرة من برج الدلو من يولد بها يكون ناقص الأعضاء مثل ضعف البصر أو يكون أشل ولكنه عظيم الهمة واسع القدرة والحيلة مختال فخور. وقال: في الدرجة الرابعة عشرة من برج الحوت من يولد بها يكون ملكاً رفيعاً عظيماً رحيماً صالحاً إلا إنه رديء السياسة ضعيف العقل تكون أيامه مضطربة ولا يستوسق له أمر ثم إنه تسمل عيناه بيد عدو له فيظفر به بالحيلة والمكر ويعيش دهراً صالحاً بالمكر ضريراً.
قلت هكا يعتقد المنجمون. وليس لهم على ذلك دليل قطعي يذكرونه ولكنهم يزعمون أن ذلك مبني على التجربة والإلهام. والذي يدل، من حيث النظر والبحث، على أن هذه الأشياء التي يقولون إن المولود إذا ولد في الدرجة الفلانية من البرج الفلاني دل على أن يكون كذا وكذا، باطلة لا اصل لها يرجع إليه أولو العقول السليمة.
والدليل عليه أنهم يذكرون لكل درجة من درج كل برج حكماً يخالف الدرجة الأخرى. وهذا أمر يقضي أن ماهية كل درجة تخالف ماهية الدرجة الأخرى. وكل برج يخالف البرج الآخر باختلاف ماهيات درجاته، وهذا يؤدي إلى أن الفلك مركباً، وقد أقام أرباب المجسطي الدلائل المبرهنة على أنه بسيط. والبسيط ما أشبه جزؤه كله وأرباب المجسطي هم أصحاب الأصول في علم الفلك. ومتى ادعى مدع في أن الفلك مركب فسدت عليه أصول كثيرة ليس هنا موضع ذكرها. فثبت أن القول بأن كل درجة لها خصاة تمتاز بها في الحكم عن غيرها، باطل بهذا البرهان والله أعلم.
وأيضاً فإن الصورة في الخارج تكذب هذه الدعاوي لأن الفلك مقسوم بثلاثمائة وستين درجة. وهذا تنكلوشا قد ذكر فيما تقدم أن هذه الست درج التي نص عليها يختص كل منها بعمى من يولد بها، وهي طالعة. فإذا فرضنا أن كل درجة يولد فيها مولود، يجب أن يوجد في كل ثلاثمائة وستين إنساناً ستة عميان. ونحن لا نشاهد الأعمى إلا في الآلاف. فما بقي غير الاعتراف والرجوع إلى الحق، والقول بأن الله تعالى اختار أن يكون هذا المولود أعمى دون غيره، لا أن ولد في الدرجة الثالثة من السرطان ولا أن ولد في العشرين من برج الأسد ولا في غير ذلك مما ادعوه أنه من خواص الدرجات المذكورة فسبحان الفاعل المختار القادر على ما يشاء.

المقدمة التاسعة
نوادر العميان
قال بعضهم لبشار بن برد: ما أذهب الله كريمتي مؤمن إلا عوضه الله خيراً منهما. فبم عوضك؟ قال: بعدم رؤية الثقلاء مثلك.
وقال بعضهم: يقال إن أهل هيت يكون أكثرهم عوراً. فرأيت رجلاً منهم صحيح العينين. فقلت له: إن هذا لغريب! فقال يا سيدي إن لي أخاً أعمى قد أخذ نصيبه ونصيبي.

يقال: إن رجلاً أعمى تزوج امرأة قبيحة: فقالت له: رزقت أحسن الناس وأنت لا تدري. فقال لها: يا بظراء! أين كان البصراء عنك قبلي؟ قال بعضهم: نزلت في بعض القرى وخرجت في الليل لحاجة فإذا أنا بأعمى على عاتقه جرة ومعه سراج. فقلت له: يا هذا؟ أنت والليل والنهار عندك سواء! فما معنى السراج؟ فقال: يا فضولي! حملته معي لأعمى البصيرة مثلك، يستضيء به. فلا يعثر بي فأقع أنا وتنكسر الجرة.
قيل إن الأعمش كان يقوده النخعي، وهو أعور. فيصيح بهما الصبيان: عين بين اثنين. فكان النخعي إذا انتهى إلى مجامعهم خلى عنه: فقال له الأعمش: ما عليك؟ يأثمون وتؤجر. فقال النخعي أن يسلموا ونسلم.
قالت لأبي العيناء قينة يوماً: يا أعمى! فقال لها: ما استعين على وجهك بشيء أصلح من العمى.
وسمع محمد بن مكرم رجلاً يقول: من ذهب بصره، قلت حيلته. فقال له: ما أغفلك عن أبي العيناء؟ وقال المتوكل يوماً: لولا ذهاب بصر أبي العيناء لنادمته؟ فبلغه ذلك. فقال: قولوا له إن أعفيتني من قراءة نقوش الخواتيم ورؤية الأهلة صلحت لغير ذلك. فبلغ المتوكل ذلك فضحك ونادمه.
كان بحرم سيدنا الخليل، عليه الصلاة والسلام: شخصان أعميان! أحدهما ناظر الحرم والآخر شيخه. فرام الناظر عزل الخطيب فعارضه الشيخ ومنعه. فقال له الناظر كأنك قد شاركتني في النظر. فقال له: لا بل في العمى. فاستحي واستمر الخطيب.
ودخل يزيد بن منصور الحميري على بشار وهو واقف بين يدي المهدي ينشد شعراً. فلما فرغ من إنشاده، أقبل يزيد بن منصور على بشار وقال له: ما صناعتك، يا شيخ، فقال له: أثقب اللؤلؤ. فضحك المهدي وقال لبشار: أغرب ويلك! اتتنادر على خالي؟ قال: وما أصنع به؟ يرى شيخاً أعمى قائماً ينشد الخليفة مديحاً، يقول له: ما صناعتك؟ قال بعضهم: رأيت ببغداد مكفوفاً يقول: من أعطاني حبة، سقاه الله من الحوض على يدي معاوية فتبعته حتى خلوت به ولطمته وقلت له يا كذا! عزلت أمير المؤمنين عن الحوض؟ فقال أردت أن اسقيهم بحبة على يد أمير المؤمنين؟ لا ولا كرامة! وقال الشافعي رضي الله عنه: رأيت باليمن أعميين يتقاتلان، وأبكم يصلح بينهما. قلت والأبكم الأخرس.
قال حماد بن إسحاق: غنى علوية يوماً بحضرة أبي:
فلا تبعد وكل فتىً سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
فقال أبي: مه! إن هذا البيت لمعرق في العمى.
الشعر لبشار بن برد الأعمى، والغناء فيه لأبي زكار الأعمى، وأول الشعر: عميت أمري.
قلت: حكى مسرور الخادم: قال لما أمرني الرشيد بضرب عنق جعفر البرمكي، دخلت عليه وأبو زكار عنده يغنيه: فلا تبعد البيت. فقلت في هذا والله أتيتك! وأخذت بيد جعفر وضربت عنقه. فقل أبو زكار: نشدتك بالله إلا ألحقتني به! فقلت له: وما رغبتك؟ قال: إنه أغناني عمن سواه بإحسانه، فما أحب أن أبقى بعده. فقلت: استأمر أمير المؤمنين. ولما أتيت الرشيد برأس جعفر، ذكرت له أمر أبي زكار. فقال: هذا رجل فيه مصطنع. فانظر إلى ما كان يجريه عليه جعفر، فأقره عليه.
وقيل إن العمى شائع في بني عوف. إذا أسن الرجل منهم عمي. وقل من يفلت عن ذلك. ولذلك قال أرطاة بن سهية يهجو شبيب بن البرصاء، من جملة أبيات:
فلو كنت عوفياً عميت وأسهلت ... كذاك ولكن المريب مريب
فقيل إن أرطاة لما قال هذا الهجو، كان كل شيخ من بني عوف يتمنى أن يعمى. ثم إن أرطأة لما قال هذا الهجو عمر ولم يعم. وكان شبيب يعيره بذلك. ثم إنه مات وعمي أرطاة. وكان يقول ليت شبيباً عاش فرآني أعمى فقال إن أبا العيناء لقي جده الأكبر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فأساء مخاطبته فدعا عليه وعلى ولده بالعمى. وكل من كان منهم أعمى، فهو صحيح النسب.
قال بعضهم: رأيت أعمى يجلد عميرة ويقول: فديتك يا سكينة! قال: فتناولت خشبة ولطختها بالخ... ومسحتها بسباله. فلما شمها، جعل يقول: فسيت يا سكينة.

كان الجنيد بن عبد الرحمن، يلي خراسان في أيام هشام. وظفر بصبيح الخارجي وبعدة من أصحابه. فقتلهم جميعاً، غير رجل أعمى، كان فيهم. فقال له الأعمى: أنا أدلك على أصحاب صبيح وأجازيك بما فعلت فكتب، له قوما، وكان الجنيد يقتلهم، حتى قتل مائة. فقال له الأعمى بعد ذلك، لعنكم الله! أتزعم أنه يحل لك دمي وأنا ضال ثم تقبل قولي في مائة قتلتهم. لا والله! ما كتبت لك من أصحاب صبيح رجلاً واحداً. وما هم إلا منكم. فقدمه الجنيد فقتله.

المقدمة العاشرة
شعر العميان
وما قيل فيهم من الغزل وغيره أنشد الجاحظ لابن عباس:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وقال الخريمي:
أسعى إلى قائدي ليخبرني ... إذا التقينا عمن يحييني
يريد أن أعدل السلام وأن ... أفصل بين الشريف والدون
اسمع ما لا أرى فأكره أن ... أخطئ والسمع غير مأمون
لله عيني التي فجعت بها ... لو أن دهراً بها يواتيني
لو كنت خيرت ما أخذت بها ... تعمير نوح في ملك قارون
وقال صالح بن عبد القدوس:
عزاءك أيها العين السكوب ... ودمعك إنها نوب تنوب
وكنت كريمتي وسراج وجهي ... وكانت لي بك الدنيا تطيب
فإن أك قد ثكلتك في حياتي ... وفارقني بك الإلف الحبيب
فكل قرينة لا بد يوماً ... سيشعب إلفها عنها شعوب
على الدنيا السلام فما لشيخ ... ضرير العين في الدنيا نصيب
يموت المرء وهو يعد حياً ... ويخلف ظنه الأمل الكذوب
يمنيني الطبيب شفاء عيني ... وما غير الإله لها طبيب
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً ... فإن البعض من بعض قريب
وقال الخريمي:
فإن يك عيني خبا نورها ... فكم قبلها نور عين خبا
فلم يعم قلبي ولكنما ... أرى نور عيني لقلبي سعى
وقال المعري:
سواد العين زاد سواد قلبي ... ليتفقا على فهم الأمور
قلت كلاهما أخذ المعنى من قول ابن عباس وقد تقدم.
وقال بشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم ... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وقال أيضاً:
قالت عقيل بن كعب إذ تعلقها ... قلبي فأضحى به من حبها أثر
أنى ولم ترها تهذي فقلت لهم ... إن الفؤاد يرى ما لا يرى البصر
وقال أيضاً:
يزهدني في حب عبدة معشر ... قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فقلت دعوا قلبي وما اختاروا رتضى ... فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللب
وقال أبو العز مظفر بن إبراهيم الضرير:
قالوا عشقت وأنت أعمى ... ظبياً كحيل الطرف ألمى
وحلاه ما عاينتها ... فنقول قد شغلتك وهما
وخياله بك في المنا ... م فما أطاف ولا ألما
من أين أرسل للفؤا ... د وأنت لم تنظره سهما
فأجبت إني موسو ... ي العشق إنصاتاً وفهما
أهوى بحارحة السما ... ع ولا أرى ذات المسمى
ومن شعر علي بن عبد الغني الكفيف الحصري:
قالت وهبتك مهجتي فخذ ... ودع الفراش ونم على فخذي
وثنت إلى مثل الكثيب يدي ... فأجبتها نعم الأريكة ذي
وهممت لكن قال لي أدبي ... بالله من سيطانك استعذ
قالت عففت فعفت قلت لها ... مذ شبت باللذات لم ألذ
قال علي بن ظافر وهذا الشهر مما يعرف أنه من أشعار العميان من غير أن يذكر قائله.

قلت: وقد امتحنت بذلك جماعة من الأدباء: فقلت. بأي شيء يستدل من هذه الأبيات على أنها شعر أعمى؟ فلم يتفطن أحد منهم لما فطن له علي بن ظافر رحمه الله. وقال يستدل به على أنه شعر أعمى قوله: نم على فخذي، وثنت إلى مثل الكثيب يدي. لأنه ما اهتدى لي أن ينام على فخذها حتى أخذت بيده وضعتها على فخذها. ألا ترى أنه لما لمسها قال: نعم الأريكة ذي. ولم يشكرها قبل لمسها. وهذه نكتة أدبية.
وقال علاء الدين علي بن مظفر الوداعي في أعمى يرمي بابنة.
موسوي الغرام يهوى بسمعي ... ه ويشكو من رؤية العين ضرا
يتوكاً على قضيب رطيب ... وله عنده مآرب أخرى
لما تولى السقطي قضاء قوص سنه إحدى عشرة وسبعمائة وكان بصره ضعيفاً جداً حتى قيل إنه لا يبصر به جملة. وكان القاضي فخر الدين ناظر الجيوش قد قام في ولايته حد القيام، قال علاء الدين علي ابن أحمد بن الحسي الأصفوني:
قالوا تولى الصعيد أعمى ... فقلت لا بل بألف عين
ولما تولى ابن الأصبهاني وهو أعمى دار الزكاة، قال ابن المنجم المصري الشاعر:
إن يكن ابن الأصبهاني من ... بعد العمى في الخدمة استنهضا
فالثور في الدولاب لا يحسن اس ... تعماله إلا إذا غمضا
وقال إبراهيم بن محمد التطيلي:
شمس الظهيرة أعشت كوكبي بصري ... كذا سنا النجم في ضوء الضحى خمدا
إن نازع الدهر في ثنتين من عددي ... فواحد في ضلوعي يبهر العددا
تغنى عن الشهب في أجفانه مقلاً ... من كانت الشمس في أضلاعه خلدا
من طال خلقاً نفى عن خلقه قصراً ... لا تقدر الجلد منه واقدر الجلدا
لا يدرك الرمح شأ والسهم في غرض ... ولو تسلسل فيه متنه مددا
لم يكف أني غريب الشخص في بلدي ... حتى غدوت غريب الطبع متحدا
ومن المنحول لأبي العلاء المعري:
أبا العلاء يا ابن سليمانا ... إن العمى أولاك إحسانا
لو عاينت عيناك هذا الورى ... لم ير إنسانك إنسانا
ومنه أيضاً:
قالوا العمى منظر قبيح ... قلت بفقدانكم يهون
والله ما في الوجود شيء ... تأسى على فقده العيون
ومن شعر بشار بن برد:
عميت جنيناً والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للعلم رافداً ... لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الروض لاءمت بينه ... بقول إذا ما الشعر أحزن أسهلا
وقال أبو بكر بن العلاف، وقد وقع في حفرة:
قالت كأنك في الموتى فقلت لها ... قد مات من ذهبت والله عيناه
عيناي كفاي لا طرف ألذ به ... وكيف يفرح من عيناه كفاه
العز الضرير الإربلي، وقيل هي لغيره:
وكاعب قالت لأترابها ... يا قوم ما أعجب هذا الضرير
هل تعشق العينان ما لا ترى ... فقلت والدمع بعيني غزير
إن كان في طرفي لا يرى شخصها ... فإنها قد صورت في الضمير
أنشدني ناصر الدين شافع من لفظه لنفسه:
أضحى وجودي برغمي في الورى عدماً ... إذ ليس لي فيهم ورد ولا صدر
عدمت عيني وما لي فيهم أثر ... فهل وجود ولا عين ولا اثر
وقال علي بن عبد الغني الحصري:
وقالوا قد عميت فقلت كلا ... وإني اليوم أبصر من بصير
سواد العين زاد سواد قلبي ... ليجتمعا على فهم الأمور
وقال أبو علي البصير الأعمى:
لئن كان يهديني الغلام لوجهتي ... ويقتادني في السير إذ أنا راكب
فقد يستضيء القوم بي في أمورهم ... ويخبو ضياء العين والرأي ثاقب
وقال أيضاً:
إذا ما غدت طلابة العلم مالها ... من العلم إلا ما يخلد في الكتب
غدوت بتشمير وجد عليهم ... ومحبرتي سمعي ودفترها قلبي
وقال عز الدين أحمد بن عبد الدائم:
إن يذهب الله من عيني نورهما ... فإن قلبي بصير ما به ضرر

أرى بقلبي دنياي وآخرتي ... والقلب يدرك ما لا يدرك البصر
وقال ابن التعاويذي من قصيدة:
حتى رمتني رميت بالأذى ... بنكبة قاصمة الظهر
وأوترت في مقلة قلما ... علمتها باتت على وتر
أصبتني فيها على غرة ... بعائر من حيث لا أدري
جوهرة كنت ضنيناً بها ... نفيسة القيمة والقدر
إن أنا لم أبك عليها دماً ... فضلاً عن الدمع فما عذري
مالي لا أبكي على فقدها ... بكاء خنساء على صخر
وقال أيضاً:
أظل حبيساً في قرارة منزلي ... رهين أسىً أمسي عليه وأصبح
مقامي منه مظلم الجو قاتم ... ومسعاي ضنك وهو ضحيان أفيح
أقاد به قود الجنيبة مسمحاً ... وما كنت لولا غدرة الدهر أسمح
كأني ميت لا ضريح لجنبه ... وما كل ميت لا أبالك يضرح
وقال أيضاً:
فها أنا كالمقبور في كسر منزلي ... سواء صباحي عنده ومسائي
يرق ويبكي حاسدي لي رحمةً ... وبعداً لها من رقة وبكاء
وقال أيضاً:
وأصبت في عيني التي ... كانت هي الدنيا بعين
عين جنيت بنورها ... نور العلوم وأي عين
حالان مستني الحوا ... دث منهما بفجيعتين
إظلام عين في ضيا ... ء من مشيب سرمدين
صبح وإمساء معاً ... لا خلفةً فأعجب لذين
أو رحت في الدنيا من ال ... سراء صفر الراحتين
في برزخ منها أخاً ... كمد حليف كآبتين
أسوان لا حي ولا ... ميت كهمزة بين بين
وكأنني لم أسع من ... ها في طريق مرتين
وكأنني متعت من ... ها نظرةً أو نظرتين
وقال أيضاً:
يا لك من ليل حجا ... ب جنحه معتكر
ظلامه لا ينجلي ... وصبحه لا يسفر
ليس له إلى المم ... ات آخر ينتظر
ما في حياة معه ... لذي حصاة وطر
غادرني كأنني ... في كسر بيتي حجر
لا اهتدي لحاجتي ... وفي الليالي عبر
أين الشباب والمرا ... ح والهوى والاشر
لم يبق لي إلا الأسى ... منهن والتذكر
وقال أيضاً:
ألا كم لمسجون بغير جناية ... يعد من الموتى وما حان يومه
يروعه عند الصباح انتباهه ... فطوبى له لو طال وامتد نومه
جفاه بلا ذنب أتاه صديقه ... وأسلمه للحزن والهم قومه
وأرخص منه الدهر ما كان غالياً ... على مشترى الإخوان في الناس سومه
وقال النور الإسعردي: لما اضر.
قد كنت من قبل في أمن وفي دعة ... طرفي يرود لقلبي روضة الأدب
حتى تلقبت نور الدين فانعمشت ... عيني وحول ذاك النور للقب
وقال، وقد أخذ الكحال منه ذهباً ولم يبرأ:
عجب لذا الكحال كيف أضلني ... ولكم أضل بميله وبمينه
ذهب اللئيم بناظري وما رثى ... لأخي الأسى إذراح منه بعينه
أأصاب منه في ثلاثة أعين ... هذا لعمركم الصغار بعينه
وقال:
يا سائلي لما رأى حالتي ... والطرف مني ليس بالمبصر
لست أحاشيك ولكنني ... سمحت للعينين للأعور
وقال:
لله في هذا الورى حكمة ... وأنعم أعيت على الحاضر
عوضني والله ذو رحمة ... عن ناظري الباصر بالناصر
ابن قزل يتغزل في عمياء:
قالوا تعشقها عمياء قلت لهم ... ما شأنها ذاك في عيني ولا قدحا
بل زاد وجدي فيها أنها أبداً ... لا تعرف الشيب في فودي إذا وضحا
إن يجرح السيف مسلولاً فلا عجب ... وإنما أعجب لسيف مغمد جرحا

كأنما هي بستان خلوت به ... ونام ناطوره سكران قد طفحا
تفتح الورد فيه من كمائمه ... والنرجس الغض فيه بعد ما افتتحا
وقال أيضاً:
علقتها عمياء مثل المها ... فخان فيها الزمن الغادر
أذهب عينيها فأنسانها ... في ظلمة لا يهتدي حائر
تجرح قلبي وهي مكفوفة ... وهكذا قد يفعل الباتر
ونرجس اللحظ غداذا بلاً ... واحسرتا لو أنه ناظر
أبن سنا الملك في عمياء:
شمس بغير الليل لم تحتجب ... وفي سوى العينين لم تكسف
مغمدة المرهف لكنها ... تفتك بالغمد بلا مرهف
رأيت منها الخلد في جؤذر ... وناظري يعقوب في يوسف
وقال أيضاً:
فتنتي مكفوفة ناظراها ... كتبا لي من الجراح أمانا
فهي لم تسلل الجفون حساماً ... لا ولم تحمل الفتور سنانا
وهي بكر العينين محصنه آل ... أجفان ما افتض ميلها الأجفانا
قصرت عشقها علي فلم تعشق ... فلاناً غذ لم تعاين فلانا
عميت من هواي وارتحل الإنسان ... من عينها وأخلى المكانا
علمت غيرتي عليها فخافت ... أن يسمى غيري لها إنسانا
وقال أيضاً:
إن الكمال أصاب في محبوبتي ... لما أصاب بعينه عينيها
زادت حلاوتها فصرت تخالها ... وسنى وقد أسر الكرى جفنيها
وكما علمت وللدبيب حلاوة ... فكأنني أبداً أدب عليها
وقلت أنا في مليح أعمى:
أيا حسن أعمى لم يجد حد طرفه ... محب غدا سكران فيه وما صحا
إذا طار قلب بات يرعى خدوده ... غدا آمناً من مقلتيه الجوارحا
وقلت فيه أيضاً:
ورب أعمى وجهه روضةً ... تنزهي فيها كثير الديون
في خده ورد غنينا به ... عن نرجس ما فتحته العيون

خاتمة لهذه المقدمات
قل أن وجد أعمى بليداً، ولا يرى أعمى إلا وهو ذكي: منهم الترمذي الكبير الحافظ. والفقيه منصور المصري الشاعر.
وأبو العيناء. والشاطبي المقري. وأبو العلاء المعري. والسهيلي صاحب الروض الأنف. وابن سيدة اللغوي. وأبو البقاء العكبري. وابن الخباز النحوي. والنيلي شارح الحاجبية. وغيرهم على ما يمر بك فيما بعد.
والسبب الذي أراه في ذلك، أن ذهن الأعمى وفكره يجتمع عليه، ولا يعود متشعباً بما يراه، ونحن نرى الإنسان إذا أراد أن يتذكر شيئاً نسيه، أغمض عينيه وفكر، فيقع على ما شرد من حافظته.
وفي المثل: أحفظ من العميان، أورده الميداني في أمثاله.
وأورد الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، قول ذي الرمة:
حوراء في دعج صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب
قالوا: لأن المرأة الرقيقة اللون، يكون بياضها بالغداة يضرب إلى الحمرة، وبالعشي يضرب إلى الصفرة. ولذلك قال الأعشى:
بيضاء ضحوتها وصفراء العشية كالعرارة
وقال بشار:
فإن دخلت تقنعي بالح ... حسن إن الحسن أحمر
ثم قال الجاحظ: وهذان أعميان قد اهتديا من حقائق الأمور إلى ما لا يبلغه تمييز البصراء. ولبشار خاصة في هذا الباب ما ليس لأحد.
قلت: تعجب الجاحظ من قول الأعشى وبشار. وكيف به لو سمع قول أبي العلاء المعري:
رب ليل كأنه الصبح في الحسن ... وإن كان أسود الطيلسان
قد ركضنا فيه إلى اللهو حتى ... وقف النجم وقفة الحيران
فكأني ما قلت والبدر طفل ... وشباب الظلماء في العنفوان
ليلتي هذه عروس من الز ... نج عليها قلائد من جمان
وكان الهلال يهوى الثريا ... فهما للوداع معتنقان
وسهيل كوجنة الحب في اللو ... ن وقلب المحب في الخفقان
يسرع اللمح في احمرار كما ... تسرع في اللمح مقلة الغضبان
ثم شاب الدجى فخاف من الهجر ... فغطى المشيب بالزعفران
وقوله:
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بجارى النضارا لكاتب ابن هلال

وأخبرني الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري المعروف بابن الأكفاني، قال: كان بالديار المصرية ضرير سماه لي وأنسيته وأظنه يقرئ الطلبة كتاب أقليدس ويضع أشكاله لهم بالشمع، وهذا من أغرب ما يكون.
وأخبرني من لفظه أيضاً الشيخ الإمام أقضى القضاة شرف الدين أبو العباس أحمد بن القاضي الإمام المقرئ الشيخ شهاب الدين الحسين ابن سليمان الكفري الحنفي، قال: ذكر لي والدي أنه كان في القليجية بواب يعرف بممدود أعمى، وانه كان يخيط القماش ويضع الخيط في الإبرة في فمه، وينجم جيداً، ويضع الجاخ على الجاخ عند الخياطة.
قلت: أما إدخال الخيط في الإبرة، فقد رأيت أنا أعمى وعمياء كانا في صفد وكانا يضعان الإبرة في فمهما ويدخلان الخيط في خرت الإبرة. وأما التنجيم فأمر يهون لأنه مغدوق بالحساب، فيمكن ضبطه. وأما وضع الجاخ على الجاخ فهذا أمر يبهر العقل.
وحكى لي الشيخ يحيى بن محمد الخباز الحموي، قال: كان عندنا في حماة أعمى يعرف بنجم. يلعب بالحمام ويصيد الطير الغريب، فاستبعدت صيد الطائر الغريب، فقال لي؟ سألته عن ذلك، فقال إن طيوري أبخرها ببخور أعرفه وأطيرها، فإذا طارت ونزلت ومعها الطير الغريب هدرت حوله فاعرف أن معها غريباً، فأرمي السب على الجميع، وآخذها واحداً بعد واحد فأشمه. فالذي فيه شيء من بخوري أعرف أنه غريب فأصطاده.
وأما أنا فقد رأيت في الديار المصرية إنساناً بعلاء الدين بن قيدان أعمى. وهو عالية في الشطرنج يلعب ويتحدث وينشد الشعر ويتوجه إلى بيت الخلاء ويعود إلى اللعب ولا يتغير عليه نقل شيء من القطع. وهذا معروف يعرفه أصحابنا في القاهرة.
وكان عندنا في صفد شخص أعمى، يعرف بشمس كان يستقى من البئر ويملا بحق كبير ويتوجه بذلك إلى بيوت الناس وزبوناته وهو مع كل ذلك بغير عصاً: ورأيته يوماً هو وزوجةً له متوجهين إلى حمام عين الزيتون، وفي الطريق عقبة تعرف بعقبة عين الورد: وتحتها واد وقد أخذ بيد زوجته، وهو يقول لها تعالي إلى هنا لا تتطر في تقعي في الوادي، والله تعالى أعلم.

النتيجة
تراجم العميان
هي الغرض المطلوب من هذا الكتاب. فأنا أذكر كل من وقع لي ذكره وهو أعمى. سواء ولد أعمى أو طرأ عليه العمى بمرض أو غيره.
فأسردهم على حروف المعجم ليسهل كشفه.
حرف الهمزة
إبراهيم بن إسحاق
الأديب اللغوي الشاعر أبو إسحاق الضرير البارع. قال ياقوت: سمع الحديث بالبصرة والأهواز وبغداد بعد الأربعين وثلاثمائة. وكان من الشعراء المجودين. طاف بعض الدنيا واستوطن نيسابور، إلى أن مات بها في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وتعلم الفقه والكلام. قال ذلك كله الحاكم، ولقيه وروى عنه.
إبراهيم بن جعفر
أمير المؤمنين أبو إسحاق المتقي لله بن المقتدر بن المعتضد. ولد سنة سبع وتسعين ومائتين، واستخلف سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بعد أخيه الراضي بالله. فوليها إلى سنة ثلاث وثلاثين. ثم إنهم خلعوه وسملوا عينيه، وبقي في قيد الحياة. وكان حسن الجسم أبيض أشقر الشعر مشرباً حمرةً أشهل العينين. وكان فيد دين وصلاح وكثرة صلاة وصيام. لا يشرب الخمر: توفي رحمه الله تعالى في السجن سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. فكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهراً. وكانت وفاته بعد خمس وعشرين سنة من خلعه.

وكانت أيامه منغصة عليه، لاضطراب الأتراك حتى أنه فر إلى الرقة فلقيه الأخشيد صاحب مصر، وأهدى له تحفاً كثيرة، وتوجع لما ناله من الأتراك، ورغبه في أن يسير معه إلى مصر. فقال: كيف أقيم في زاوية من الدنيا، وأترك العراق متوسطة الدنيا وسرتها، ومقر الخلافة وينبوعها. ولما خلا بخواصه قالوا له: الرأي أن تسير معه إلى مصر لتستريح من هؤلاء. فقال: كيف يحسن في رأيكم أنا نتمكن مع حاشية غريبة منا، عرية من إحساننا الوافر إليها، وقد رأيتم أن خواصنا الذين هم برأي العين منا، ومستغرقون في إحساننا لما تحكموا في دولتنا، ووجدوا لهم علينا مقدرة، كيف عاملونا. فكيف يكون حالنا في ديار قوم إنما يرون أنهم خلصونا مما نزل بنا، ثم إنه سار حتى قدم بغداد بعد أن خاطبه توزون أمير الأتراك، وحلف له أن لا يغدر به. وزينت له بغداد دزينة ضرب بها المثل، وضربت له القباب العجيبة في طريقه. فلما وصل إلى السندية على نهر عيسى، قبض عليه توزون وسمله، وبايع المستكفي من ساعته، ودخل بغداد في تلك الزينة، فكثر تعجب الناس من ذلك. وقال المتقي في ذلك:
كحلونا وما شكو ... نا إليهم من الرمد
ثم عاثوا بنا ونح ... ن أسود وهم نقد
كيف يغتر من أقم ... نا وفي دستنا قعد
قلت: ما اغتر المستكفي بالله بعده بتوزون ولم يزل إلى أن سمه وقتله، ولكنه دخل إليه معز الدولة بن بويه، فخلعه وسمله على ما سيأتي في ترجمة المستكفي بالله، واسمه عبد الله بن علي.

إبراهيم بن سعيد
بن الطيب أبو إسحاق الرفاعي الضرير. قدم واسط صبياً فدخل الجامع وهو ذو فاقة، فآتى حلقة عبد الغفار الحصيني، فتلقن القرآن. وكان معاشه من أهل الحلقة، ثم أصعد إلى بغداد فصحب أبا سعيد السيرافي، وقرأ عليه شرحه لكتاب سيبويه، وسمع منه كتب اللغة والدواوين، وعاد إلى واسط وقد مات عبد الغفار. فجلس يقرئ الناس في الجامع، ونزل في الزيدية من واسط؟ وهناك تكون الرافضة والعلويون، فنسب إلى مذهبهم، ومقت وجفاه الناس وكان شاعراً، ومن شعره:
وأحبه ما كنت أحسب أنني ... أبلى بينهم فبنت وبانوا
نأت المسافة فالتذكر حظهم ... مني وحظي منهم النسيان
وتوفي سنة إحدى عشرة وأربعمائة. ودفن مع غروب الشمس، ولم يكن معه إلا اثنان، وكادا يقتلان: وكان غاية في العلم. ومن غد ذلك النهار. توفي رجل من حشو العامة فأغلقت البلدة من أجله. قال ذلك ياقوت والله أعلم.
إبراهيم بن سليمان
بن رزق الله بن سليمان بن عبد الله الورديسي أبو الفرج الضرير. ولد بورديس وهي قرية عند إسكاف. ودخل بغداد في صباه. وسمع أبا الخطاب بن البطر، ورزق الله بن عبد الوهاب التميمي، وأحمد بن خيرون، وأحمد بن الحسن الكرجي وأحمد بن عبد القادر بن يوسف، وأبا الفوارس طراد بن محمد الزينبي، وغيرهم.
قال ابن النجار: كان فهماً حافظاً لأسماء الرجال، روى عنه شيخنا ابن بوش. وقال أخبرني الحريمي قال اخبرنا ابن السمعاني. قال: أبو الفرج الودريسي، شيخ ثقة حسن السيرة يفهم الحديث سمع الكثير بنفسه، وله أصول. وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. ودفن بباب حرب والله أعلم.
إبراهيم بن محاسن
بن حسان القضاعي أبو إسحاق الضرير. من أهل قصر قضاعة من نواحي شهرابان. خدم في بغداد في صباه، وحفظ بها القرآن، وصار من قراء دار الخلافة، واجتدى الناس بالشعر، ومن شعره وفيه لزوم:
بسمت وهناً فأومض البرق ... ومشت زهواً فغنت الورق
قدك والغصن ليس بينهما ... إذا تثنيت وانثنى فرق
والوجه والفرع يا معذبتي ... ذا مغرب وذا شرق
إبراهيم بن محمد بن محمد
بن أحمد أبو إسحاق برهان الدين الواني. بواو مفتوحة وألف بعدها نون، رئيس المؤذنين بجامع بني أمية. سمع من إبراهيم بن عمر بن مضر الواسطي، وأيوب بن أبي بكر الفقاعي، وابن عبد الدائم: توفي رحمه الله تعالى ليلة الخميس سادس صفر سنة خمس وثلاثين وسبعمائة. وصلى عليه ظهر الخميس، بالجامع الأموي، ودفن بمقابر الباب الصغير.

وكان قد أضر قبل موته بسنين، ويطلع في مأذنة العورس ويؤذن، والناس يقولون هو يودع الأذان، وأقام على ذلك سنين. وكان صيتاً طيب النغمة، جهوري الصوت. أجاز لي سنة ثلاثين وسبعمائة وكتب عنه ولده.

إبراهيم بن محمد بن موسى
بن أبي القاسم، أبو إسحاق الكردي الضرير الهذباني، ولد سنة أربع وسبعين وخمسمائة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وستين وستمائة، وهو من شيوخ الدمياطي. سمع من عبد الخالق فيروز الجوهري، وحدث بالقاهرة ودمشق والله أعلم.
إبراهيم بن محمد التطيلي
بضم التاء ثالثة الحروف وفتح الطاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها لام وياء النسب. أبو إسحاق الضرير، قال ابن الابار: نشا بقرطبة وسكن إشبيلية، وكان يعرف بالتطيلي الأصغر، رقا بينه وبين أبي العباس أحمد التطيلي، وكان بعده بزمان يسير، ومن شعره:
أتاك العذار على غرة ... وقد كنت في غفلة فانتبه
وقد كنت تأبى زكاة الجمال ... فصار شجاعاً وطوقت به
ومنه:
ومعذر رقت له حمر الصبا ... حيث العذار حبابها المترقرق
ديباج حسن كان غفلاً ناقصاً ... فأتمه علم الشباب المونق
وشكا الجمال مقيله في ورده ... فأظله آس العذار المشرق
هامت بماء الفضل شامة خده ... فغدا العذار زويرقاً لا يغرق
إبراهيم بن مسعود
بن حسان المعروف بالوجيه الصغير النحوي. ويعرف جده بالشاعر؟ وإنما سمى بالوجيه الصغير لأنه كان ببغداد نحوي يعرف بالوجيه الكبير، واسمه المبارك: وسيأتي ذكره في مكانه، وكلاهما ضرير: وكان إبراهيم هذا من أهل الرصافة ببغداد. وكان عجباً في الذكاء وسرعة الحفظ. كان يحفظ كتاب سيبويه أو أكثره. ويحفظ غير ذلك من كتب الأدب. وأخذ النحو عن مصدق بن شبيب، وكان أعلم منه وأصفى ذهناً. واعتبط شاباً في جمادى الأولى سنة تسعين وخمسمائة. قال ياقوت: ولو قدر الله أن يعيش كان آية من الآيات، والله أعلم.
أحمد بن إبراهيم
! بن حسن بن إبراهيم بن جعفر بن أحمد بن هشام بن يوسف ابن توهيت القرشي الأموي البهنسي، علم الدين القمني الضرير المقتي الفقيه. ولد سنة عشرين وستمائة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثمانين وستمائة. روى عن ابن الجميزي وغيره، وأعاد بالظاهرية بالقاهرة. وكانوا يكتبون عنه في الفتوى.
أخبرني من لفظه الإمام العلامة أثير الدين أبو حيان رحمه الله تعالى. قال: كان فقيهاً فاضلاً، له مشاركة في نحو وأصول، وكان في الحفظ آية يحفظ السطور الكثيرة والأبيات من سمعة واحدة، وكان يقعد يوم الجمعة تحت الخطيب فيحفظ الخطبة من إنشاء الخطيب في مرة واحدة، ويمليها بعد ذلك؟ إلا أنه كان لا يثبت له الحفظ. وكان فيه صلاح وديانة، وله أدب ونظم ونثر. قال: كنت في درس قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن العلامي، فنعى لي شيخنا اللغوي الإمام رضي الدين الشاطبي، فنظمت في الدرس أرثيه رضي الله تعالى عنه.
نعى لي الرضى فقلت لقد ... نعى لي شيخ العلا والأدب
فمن للنحاة ومن للغات ... ومن للتقاة ومن للنسب
لقد كان للعلم بحراً فغار ... وإن غور البحار العجب
فقدس من عالم عامل ... أثار شجوني لما ذهب
ثم أنشدتها في الدرس لقاضي القضاة، فسمعها الشيخ علم الدين القمني فحفظها وأنشدنا مرتجلاً
نظمت كلاماً يفوق اللجين ... جمالاً وينسى نضار الذهب
فقمت بحق الرثاء الذي ... بشرع المودة فرض وجب
وأنشدته بشجى موجد ... لكل القلوب شجون الطرب
فأذكيت فينا لهيب الأسى ... وهيجت فينا جمار الحرب
بنظم رقيق رشيق إلى ... جميع القلوب الرقاق اقترب
فبلغك الله ما ترتضي ... وأعطاك أقصى المنى والأرب
أحمد بن إبراهيم

بن عبد الواحد بن علي بن سرور ابن الشيخ العماد المقدسي الصالحي. ولد سنة
ثمان وستمائة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وستمائة. سمع من ابن الحرستاني، وابن ملاعب، وأبيه، والشيخ الموفق، وطائفة. ورحل إلى بغداد متفرجاً. وسمع من عبد السلام الداهري، وعمر بن كرم. واشتغل ثم انخلع من ذلك وتجرد فقيراً. وكان سليم الصدر عديم التكلف والتصنع، وفيه تعبد وزهد، وله أتباع ومريدون، وللناس فيه عقيدة وكان الصاحب بهاء الدين يزوره.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى؟ إلا انه كان يأكل عشبة الفقراء فيما قيل، ويقول هي لقيمة الذكر والفكر، وربما صحب الحريري. وسمع منه الشيخ أبي جمال الدين المزي، والشيخ علم الدين البرزالي، والطلبة. وأقام مدة بزاوية له بسفح قاسيون. وكف بصره، ودفن يوم عرفة عند قبر والده رحمهما الله تعالى.
أحمد بن الحسن
أمير المؤمنين الإمام الناصر لدين الله أبو العباس بن الإمام المستضيء بن الإمام المستنجد. ولد يوم الإثنين عاشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. وبويع له في أول ذي القعدة سنة خمس وسبعين. وتوفي رحمه الله تعالى سلخ شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة. فكانت خلافته سبعاً وأربعين سنة: وكان أبيض اللون تركي الوجه مليح العينين أنور الجبهة أقنى الأنف خفيف العارضين أشقر اللحية رقيق المحاسن نقش خاتمه رجائي من الله عفوه. أجاز له أبو الحسين عبد الحق اليوسفي، وأبو الحسن علي بن عساكر، والبطائحي، وشهدة، وجماعة. وأجاز هو لجماعة من الكبار، فكانوا يحدثون في حياته ويتنافسون في ذلك. وكان أبوه المستضيء قد تخوفه فاعتقله ومال إلى أخيه أبي منصور. وكان ابن العطار وأكثر الدولة بنفشا حظية المستضيء والمجد بن الصاحب، مع أبي منصور، ونفر يسير مع الناصر. فلما بويع قبض على ابن العطار، وسلمه إلى المماليك، فأخرج بعد سبعة أيام ميتاً، وسحب في الأسواق. وتمكن المجد بن الصاحب وزاد وطغى إلى أن قتل.
قال الموفق عبد اللطيف: وكان الناصر شاباً مرحاً عنده ميعة الشباب، يشق الدروب والأسواق أكثر الليل، والناس يتهيبون لقاءه.
وظهر التشيع بسبب ابن الصاحب، ثم انطفئ بهلاكه، وظهر التسنن المفرط، ثم زال.
وظهرت الفتوة والبندق والحمام الهادي، وتفنن الناس في ذلك. ودخل فيه الأجلاء ثم الملوك، فألبسوا الملك العادل وأولاده سراويل الفتوة، والبسوا شهاب الدين الغوري ملك غزنة والهند وصاحب كيش وأتابك سعد صاحب شيراز والظاهر صاحب حلب. وتخوفوا من السلطان طغريل وجرت بينهم حروب، وفي الآخر استدعوا تكش لحربه وهو خوارزم شاه فالتقى معه على الري واحتز رأسه وسيره إلى بغداد، وكان الناصر قد خطب لولده الأكبر أبي نصر بولاية العهد، ثم ضيق عليه لما استشعر منه وعين أخاه، وألزم أبا نصر بأن اشهد على نفسه أنه لا يصلح، وانه قد نزل عن الأمر.
ولم يزل الناصر مدة حياته، في عز وجلالة، وقمع الأعداء، والاستظهار على الملوك، لم يجد ضيماً، ولا خرج عليه خارجي إلا قمعه، ولا مخالف إلا دمغه. وكان شديد الاهتمام بالملك ومصالحه، لا يكاد يخفى عليه شيء من أمور رعيته كبارهم وصغارهم. وأصحاب الأخبار في أقطار الأرض، يواصلون إليه أحوال الملوك الظاهرة والباطنة. وكانت له حيل لطيفة، ومكائد خفية، وخدع لا يفطن لها أحد. يوقع الصداقة بين ملوك متعادين ويوقع العداوة بين ملوك متصادقين، وهم لا يشعرون.
ولما دخل رسول صاحب مازندران بغداد، كان يأتيه ورقة كل صباح بما فعله في الليل. وكان يبالغ في كتمان أمره والورقة تأتيه، فاختلى ليلة بامرأة دخلت إليه من باب السر، فصبحته الورقة بذلك. وكان فيها كان عليكم دواج فيه صورة الفيلة، فتحير وخرج من بغداد وهو لا يشك أن الغمام الناصر يعلم الغيب، لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في بطن الحامل وما وراء الجدار.
وأتى رسول خوارزم شاه برسالة مخفية، وكتاب مختوم، فقيل له ارجع، فقد عرفنا ما جئت به، فرجع وهو يظن أنهم يعلمون الغيب.
ورفع إليه في المطالعات، أن رجلاً كان واقفاً والعسكر خارج إلى ششتر، في قوة الأمطار، وشدة البرد، فقال: كنت أريد من الله من يخبرني إلى أين يمضي هؤلاء المدابير.

ويسفقني مائة خشبة، فلم تزل عين الرافع ترقب القائل، حتى وصل إلى مستقره خشية أن يطلب، فأمر الناصر في الحال، أن يطلبه الوزير ويضربه مائة خشبة فإذا تمت يعلمه إلى أين يذهب العسكر؟ فلما ضربه وهو لا يعلم علام ضرب، نسي أن يعلمه إلى أين يذهب العسكر فما انفصل عن المكان قليلاً حتى تذكر الوزير ذلك. فقال ردوه فعاد مرعو بأخشية زيادة العقوبة، فلما وصل، قال له الوزير قد أمر مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه أن نعلمك بعد أن نؤدبك إلى أين يمضي العسكر، العسكر يمضي إلى ششتر، فقال: لا كتب الله عليهم سلامة. فضحك الحاضرون، ورفع الحبر إلى الناصر. فقال: يغفر له سوء أدبه، لحس نادرته، ولطف موقعها، ويدفع إليه مائة دينار، عدد الخشب الذي ضربه.
ويحكى عنه نوادر من هذا وغرائب وعجائب. وكان يعطى في مواضع عطاء من لا يخشى الفقر. وجاءه رجل ومعه ببغا من الهند. تقرأ قل هو الله أحد، فأصبحت ميتة، فجاءه فراش يطلب الببغا؟ فبكى وقال الليلة ماتت. فقال: عرفنا بموتها، وكم كان في ظنك أن يعطيك. فقال: خمسمائة دينار. فقال: خذ هذه خمسمائة دينار، فإنه علم بحالك منذ خروجك من الهند.
وقال الظهير الكازروني في تاريخه. قال الشيخ شمس الدين الذهبي وأجازه لي: إن الأنصار في وسط خلافته، هم بترك الخلافة والانقطاع للتعبد، وكتب عنه ابن الضحاك توقيعاً قرئ على الأعيان. وبنى رباطاً للفقراء، واتخذ إلى جانب الرباط داراً لنفسه، كان يتردد غليها، ويحاصر الصوفية، وعمل له ثياباً كثيرة بزي الصوفية. قال الشيخ شمس الدين: ثم ترك ذلك كله ومله سامحه الله.
قال ابن النجار: وملك من المماليك ما لم يملكه سواه ممن تقدمه من الخلفاء. وخطب له بالأندلس والصين. وكان أسد بني العباس. وقيل له إن شخصاً يرى خلافة يزيد، فأحضره ليعاقبه، فقيل له أتقول بصحة خلافة يزيد. فقال: أنا أقول إن الغمام لا ينعزل بارتكاب الفسق، فأمر بإطلاقه وأعرض عنه وخاف المحاققة. وكتب له خادم اسمه يمن: ورقة عتب فوقع فيها. بمن يمن يمن ثمن يمن ثمن ثمن. فيقال إن الخادم أعاد الجواب وقد كتب فيه. يمن يمن بمن ثمن يمن ثمن ثمن. ولما صرف ابن زيادة عن عمل كان يتولاه ولم يبن لابن زيادة سبب عزله، رفع إليه شعرا منه هذا البيت:
هب أن ذلك عن رضاك فمن ترى ... يدري مع الإعراض أنك راض
فوقع له على رقعته، الاختيار صرفك، والاختبار صرفك، وما عزلناك لخيانة، ولا لجناية، ولكن للملك أسرار، لا تطلع عليها العامة، ولتعلمن نبأه بعد حين.
قال شمس الدين الجزري: حدثني والدي قال سمعت الوزير مؤيد الدين بن العلقمي لما كان على الأستاذ دارية يقول: إن الماء الذي يشربه الإمام الناصر، كانت تحبيبه الدواب من فوق بغداد بسبعة فراسخ، ويغلي سبع غلوات، كل يوم غلوة، ثم يجلس في الأوعية سبعة أيام، ثم يشرب منه؟ وبعد هذا مات حتى سقى المرقد ثلاث مرات، وشق ذكره، وأخرج منه الحصى.
وقال الموفق أما مرض موته فسهو ونسيان، بقي ستة اشهر ولم يشعر بكنه حاله أحد من الرعية، حتى خفي على الوزير وعلى أهل الدار، وكان له جارية قد علمها الخط بنفسه، فكانت تكتب مثل خطه، فتكتب على التوقيع بمشورة قهرمانة الدار. ولما مات بويع لولده أبي نصر، ولقب الظاهر بأمر الله.
وقال ابن الأثير: بقى الناصر عاطلاً من الحركة بالكلية ثلاث سنين، قد ذهبت إحدى عينيه وفي الآخر أصابه ذو سنطارياً عشرين يوماً، ولم يطلق في مرضه شيئاً مما كان أحدثه من الرسوم. وكان يسيء السيرة، خرب في أيامه العراق، وتفرق أهله في البلاد، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشيء وضده. وقال أبو المظفر بن الجوزي: قل بصر الخليفة في الآخر، وقيل ذهب جملة، وكان خادمه رشيق قد استولى على الخلافة وأقام مدة يوقع عنه.
أحمد بن الحسين: أبو مجالد الضرير، مولى المعتصم أمير المؤمنين. كان من الدعاة إلى مذهب الأعتزال. توفي سنة سبعين ومائتين رحمه الله تعالى.

أحمد بن الحسين
بن أحمد بن معالي بن منصور. العلامة شمس الدين أبو عبد الله الإربلي الموصلي النحوي الضرير. ابن الخباز صاحب التصانيف وشرح الألفية لابن معطي. وكان أستاذاً بارعاً في النحو واللغة والعروض والفرائض، وله شعر. توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وثلاثين وستمائة، والله أعلم.
أحمد بن خالد

أبو سعيد الضرير. لقى أبا عمرو الشيباني ، وابن الأعرابي، وكان يلقى الأعراب الفصحاء الذين استوردهم ابن طاهر نيسابور فيأخذ عنهم. مثل عرام، وأبى العميثل، وأبي العيسجور، وأبي العجيس، وعوسجة، وأبي العذافر، وغيرهم.
وقال ابن الأعرابي لبعض من لقيه من الخراسانية: بلغني أن أبا سعيد الضرير يروى عنه أشياء كثيرة فلا تقبلوا منه من ذلك غير ما يرويه من أشعار العجاج ورؤبة، فإنه عرضهما علي وصححهما. وخرج أبو سعيد على أبي عبيد من غريب الحديث جملة مما غلط فيه، وأورد في تفسيره فوائد كثيرة، ثم عرضها على عبد الله بن عبد الغفار، وكان أحد الأدباء، فقال لأبي سعيد ناولني يدك، فناوله؟ فوضع الشيخ في كفه متاعه وقال له اكتحل بهذا يا أبا سعيد حتى تبصر، فكأنك لا تبصر. وكان يقول أبو سعيد؟ إذا أردت أن تعرف خطا أستاذك جالس غيره. وكان مثرياً ممسكاً لا يكسر رغيفاً إنما يأكل عند من يختلف إليهم؟ لكنه كان أديب النفس عاقلاً. حضر يوماً مجلس عبد الله بن طاهر فقدم إليه طبق عليه قصب السكر؟ وقد قشر، وقطع كاللقم فأمره عبد الله أن يتناول منه: فقال إن لهذا لفاظة ترتجع من الأفواه وأنا أكره لك في مجلس الأمير، فقال عبد الله: ليس بصاحبك من احتشمك واحتشمته، أما إنه لو قسم عقلك على مائة رجل لصار كل رجل منهم عاقلاً.
وكان أبو سعيد يوماً في مجلسه إذ هجم عليه مجنون من أهل قم فسقط على جماعة من أهل المجلس، فاضطرب الناس لسقطته ووثب أبو سعيد لا يشك أن ذلك آفة لحقتهم من سقوط جدار أو شرود بهيمة؟ فلما رآه المجنون على تلك الحالة قال: الحمد لله رب العالمين، على رسلك يا شيخ لا ترع. آذاني هؤلاء الصبيان فأخرجوني عن طيعي إلى ما لا أستحسنه من غيري، فقال: أبو سعيد منعوا منه عافاكم الله، فوثبوا وشردوا من كان يعبث به وسكت ساعة لا يتكلم، إلى أن عاد المجلس إلى ما كان عليه من المذاكرة، فابتدأ بعضهم يقرا قصيدة من شعر نهشل بن جرير التميمي رحمه الله تعالى حتى بلغ قوله:
غلامان خاضا الموت من كل جانب ... فآبا ولم تعقد وراءهما يد
متى يلقيا قرناً فلا بد أنه ... سيلقاه مكروه من الموت أسود
فما استتم هذا البيت حتى قال المجنون. قف؟ يا أيها القارئ تتجاوز المعنى ولا تسأل عنه؟ ما معنى قوله ولم تعقد وراءهما يد فأمسك من حضر عن القول، فقال: قل يا شيخ. فإنك المنظور إليه والمقتدى به. فقال أبو سعيد: يقول إنهما رميا بنفسيهما في الحرب أقصى مرامها ورجعا موفورين لم يوسرا فتعقد أيديهما كتفاً. فقال: أترضى يا شيخ لنفسك بهذا الجواب. فأنكر ناذلك على المجنون. فقال أبو سعيد: هذا الذي عندنا فما عندك. فقال: المعنى يا شيخ. فأبا ولم تعقد يد بمثل فعلهما بعدهما، لأنهما فعلاً ما لم يفعله أحد كما قال الشاعر:
قوم إذا عدت تميم معاً ... ساداتها عدوهم بالخنصر
ألبسه الله ثياب الندى ... فلم تطل عنه ولم تقصر
أي خلقت له. وقريب من الأول قوله:
قومي بني مذحج من خير الأمم ... لا يصعدون قدماً على قدم
يعني أنهم يتقدمون الناس ولا يطأون على عقب أحد، وهذان فعلاً ما لم يعطه أحد. فاحمر وجه أبي سعيد واستحيي من أصحابه ثم غطى المجنون رأسه وخرج وهو يقول يتصدرون فيغرون الناس من أنفسهم. فقال أبو سعيد بعد خروجه: اطلبوه فإنني أظنه إبليس، فخرجوا فلم يظفروا به.

أحمد بن سرور
بن سليمان بن علي بن الرشيد أبو الحسين السمسطاري. بضم السين المهملة
الأولى وسكون الثانية وبينهما ميم مضمومة وطاء مهملة وألف مقصورة وهي قرية بالصعيد من عمل البهنسا على غربي النيل؟ ذكره السلفي في معجم السفر، وقال: رايته بمكة سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وسمع معنا على شيوخنا ثم رأيته بالإسكندرية ثم رأيته بمصر سنة خمس عشرة وكان آخر العهد به. سمع بمكة أبا معشر الطبري، وبمصر أبا إسحاق الجبان، وبالإسكندرية أبا العباس الرازي، وكف آخر عمره. وكان عارفاً بالكتب وأثمانها. وتوفي رحمه الله سنة سبع عشرة وخمسمائة بالصعيد.
أحمد بن سليمان
بن زبان بالباء ثانية الحروف وقبلها زاي. أبو بكر الكندي الضرير، المعروف
بابن أبي هريرة، توفي سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.

أحمد بن شبيب: الحبطي الضرير البصري. نزيل مكة والحبطات من تميم. وثقة أبو حاتم. وتوفي سنة تسع وعشرين ومائتين والله تعالى أعلم.

أحمد بن صدقة
أبو بكر الضرير النحوي. من أهل النهروان، حكى عن أبي عمر الزاهد اللغوي.
وروى عنه محمد بن بكران والله تعالى أعلم.
أحمد بن صدقة الما هنوسي الضرير، كان مقيماً بقوسان، وماهنوس من نواحي واسط. كان أديباً فاضلاً شاعراً ظريفاً، وكان طبقة في لعب الشطرنج مع كونه محجوب البصر. وأورد له العماد الكاتب قصيدة يخاطب فيها الربع:
ألفتك للعين الأوانس جامعاً ... وللعان والآرام لست بجامع
وها أنت للاطلاء مأوى ومربع ... أنيق سقيت الري بين المرابع
علام تبدلت القراهب والمها ... وأقصيت ربات الحلى والبراقع
أسح دموعي في طلولك ابتغي ... بذلك نفعاً والبكا غير نافع
قلت: شعر ساقط.
أحمد بن عبد الدائم
بن نعمة بن أحمد بن نعمة بن محمد بن إبراهيم بن احمد ابن بكير المعمر
العالم، مسند الوقت زين الدين أبو العباس المقدسي الفندقي الحنبلي الناسخ. ولد بفندق السوخ من جبل نابلس سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وتوفي رحمه الله لتسع خلون من شهر رجب الفرد سنة ثمان وستين وستمائة. وأدرك الإجازة من السلفي التي أجازها لمن أدرك حياته، وأدرك الإجازة الخاصة من خطيب الموصل أبي الفضل الطوسي وأبي الفتح ابن شاتيل، ونصر الله القزاز، وخلق سواهم. وسمع من يحيى الثقفي، وأبي الحسين الموازيني، ومحمد بن علي بن صدقة، وإسماعيل الجنذوي، والمكرم بن هبة الله الصوفي، وبركات الخشوعي، وابن طبرزد، والحافظ عبد الغني. ورحل إلى بغداد، وسمع ابن كليب بقراءته من عبد الخالق بن البندار، وابن سكينة، وعلي بن يعيش الأنباري، وغيرهم، وتفقه على الشيخ الموفق. وكتب بخطه المليح السريع ما لا يوصف لنفسه وبالأجرة؟ حتى كان يكتب إذا تفرغ في اليوم تسع كراريس أو أكثر. ويكتب الكراسين والثلاثة مع اشتغاله في يوم وليلة. وقيل إنه: كان يكتب القدوري في ليلة واحدة، وعندي؟ أن هذا مستحيل. وقيل إنه كان ينظر في الصفحة الواحدة نظرة واحدة ويكتبها؟ ولذلك يوجد له الغلط فيما كتبه كثيراً، ولازم النسخ خمسين سنة. وخطه لا نقط ولا ضبط. وكتب على ما قاله في شعره ألفي مجلدة. وكان تام القامة، حسن الأخلاق والشكل. ذكر ابن الخباز أنه سمع ابن عبد الدائم يقول: كتبت بخطي ألفي جزء. وذكر أنه كتب بخطه تاريخ دمشق مرتين. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: الواحدة في وقف أبي المواهب ابن صصري. وكتب من التصانيف الكبار شيئاً كثيراً. وولى خطابة كفر بطنا. أنشأ خطباً عديدة، وحدث سنين كثيرة. وروى عنه الشيخ محيي الدين، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والشيخ شرف الدين الدمياطي، وابن الظاهري، وابن جعوان، وابن تيمية، ونجم الدين بن صصرى، وشرف الدين الخطيب، وأخوه تاج الدين، وولده برهان الدين، وشمس الدين إمام الكلاسة، وشرف الدين منيف قاضي القدس، وعلاء الدين بن العطار، وخلق كثير بمصر والشام. ورحل إليه غير واحد. وتفرد بالكثير، وكف بصره في آخر عمره. ومن نظمه فيما يكتبه في الإجازة:
أجزت لهم عني رواية كل ما ... روايته لي مع توق وإتقان
ولست مجيزاً للرواة زيادة ... برئت إليهم من مزيد ونقصان
ومنه:
عجزت عن حمل قرطاس وعن قلم ... من بعد إلفي بالقرطاس والقلم
كتبت ألفاً وألفاً من مجلدة ... فيها علوم الورى من غير ما ألم
ما العلم فخر امرئ إلا لعامله ... إن لم يكن عمل فالعلم كالعدم
العلم زين وتشريف لصاحبه ... فاعمل به فهو للطلاب كالعلم
ما زلت أطلبه دهري وأكتبه ... حتى ابتليت بضعف الجسم والهرم
أحمد بن عبد السلام

بن تميم بن عكبر. الشيخ الإمام العالم العامل الخير الناسك الورع التقي
المعمر، نصير الدين أبو العباس البغدادي الحنبلي، أحد المعيدين لطائفة مذهبه بالمدرسة البشيرية بالجانب الغربي من بغداد. ولد ليلة الجمعة عاشر جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة. وذلك قبيل وفاة الإمام المستنصر بالله. وتوفي رحمه الله في غرة جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة. ودفن بتربتهم بالجانب الغربي في تربة معروف الكرخي رحمة الله تعالى عليه. كان فاضلاً في الفقه والعربية وله مشاركة في العلوم. وسمع الكثير. ومن أشياخه الإمام مجد الدين أبو أحمد عبد الصمد بن أبي الجيش المقري، وابن أبي الدينة، وابن الدباب، وابن الزجاج، وابن أبي زنبقة، ومجد الدين بن بلدحي، وخلق، وإجازاته عالية، وله نظم ونثر. وبنته معروف بلا فضل. أقعد قبل وفاته بسنين، واضر. والناس يترددون إليه، ويشتغلون عليه، وينتفعون به، ويسمعون منه ويستجيزونه. ولم يزل حريصاً على العلم والعبادة والاشغال والاشتغال إلى حين وفاته. ومن شعر نصير الدين.
أحمد بن عبد الله
بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن
زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أرقم بن أنور بن أسحم بن النعمان ويقال له ساطع الجمال بن عدي بن عبد غطفان بن عمرو بن سريح بن خزيمة بن تيم الله بن أسد ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة. المعري التنوخي، أبو العلاء من أهل معرة النعمان المشهور صاحب التصانيف المشهورة. كان آية في الذكاء المفرط، عجباً في الحافظة. قال أبو سعد السمعاني في كتاب النسب: ذكر تلميذه أبو زكريا التبريزي، أنه كان قاعداً في مسجده بمعرة النعمان بين يدي أبي العلاء يقرا عليه شيئاً من تصانيفه. قال وكنت قد أقمت عنده سنين ولم أر أحداً من أهل بلدي؟ فدخل المسجد مغافصة بعض جيراننا للصلاة فرايته وعرفته فتغيرت من الفرح، فقال لي أبو العلاء: إيش أصابك، فحكيت له أني رأيت جاراً لي بعد أن لم ألق أحداً من أهل بلدي سنين. فقال لي: قم فكلمه، فقلت: حتى أتمم السبق، فقال لي: قم أنا انتظر لك. فقمت وكلمته بلسان الاذربية شيئاً كثيراً إلى أن سألت عن كل ما أردت؟ فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي أي لسان هذا قلت: هذا لسان أذربيجان. فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد علي اللفظ بعينه من غير أن ينقص منه أو يزيد عليه جميع ما قلت. وقال جاري: فتعجبت غاية التعجب كيف حفظ ما لم يفهمه.

قلت: وهذا أمر معجز فإنه بلغنا عن جماعة من الحفاظ وما يحكى عن البديع الهمذاني وابن الأنباري وغيرهما، ما هو أمر قريب من الإمكان؟ لأن حفظ ما يفهمه الإنسان ويعرف تراكيبه أو مفرداته سهل. وأما إنه يحفظ ما لم يسمعه ولا يعلم مفرداته ولا مركباته وهو أقل ما يكون أربعمائة سطر من سؤال غائب عن أهل بلده سنين وجوابه. وكان إطلاعه على اللغة وشواهدها أمر باهر. قال الحافظ السلفي أخبرني أبو محمد عبد الله بن الوليد بن غريب الأيادي أنه دخل مع عمه على أبي العلاء يزوره فرآه قاعداً على سجادة لبد وهو شيخ فان فدعا لي ومسح على رأسي. قال: وكأني أنظر إليه الساعة وإلى عينيه إحداهما نادرو والأخرى غائرة جداً، وهو مجدور الوجه نحيفه. وقال أبو منصور الثعالبي: وكان حدثني أبو الحسين الدلفي المصيصي الشاعر وهو ممن لقيته قديماً وحديثاً في مدة ثلاثين سنة. قال لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب؟ رأيت أعمى شاعراً ظريفاً يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر انتهى. وقال المعري الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة أو اثنتي عشرة سنة، ورحل إلى بغداد ثم رجع إلى المعرة. وكان رحيله إليها سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. وأقام ببغداد سنة وسبعة أشهر. وقصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي ليقرأ عليه فلما دخل عليه قال ليصعد الاسطبل والاسطبل في لغة أهل الشام الأعمى فخرج مغضباً ولم يعد إليه. ودخل على المرتضى أبى القاسم، فعثر برجل، فقال من هذا الكلب، فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً. فقربه المرتضى وأدناه واختبره فوجده عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء، فأقبل عليه إقبالاً كثيراً. وكان المعري يتعصب لأبي الطيب كثيراً ويفضله على بشار وأبي النواس وأبي تمام، والمرتضى يبغضه ويتعصب عليه فجرى يوماً ذكره فتنقصه المرتضى وجعل يتتبع عيوبه، فقال المعري. لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل
لكفاه فضلاً وشرفاً. فغضب المرتضى وأمر به فسحب برجله وأخرج من مجلسه. وقال لمن بحضرته: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة؟ فإن لأبي الطيب ما هو أجود منها لم يذكرها. فقيل السيد النقيب أعرف. فقال أراد قوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي باني كامل
ولما رجع المعري لزم بيته، وسمى نفسه رهين المحبسين: يعني حبس نفسه في المنزل وحبس عينيه بالعمى. وكان قد رحل أولاً إلى طرابلس، وكانت بها خزائن كتب موقوفة فأخذ منها ما أخذ من العلم. واجتاز باللاذقية ونزل ديراً كان به راهب له علم بأقوال الفلاسفة سمع كلامه، فحصل له بذلك شكوك. والناس مختلفون في أمره، والأكثرون على إكفاره وإلحاده. وأورد له الإمام فخر الدين الرازي في كتاب الأربعين قوله:
قلتم لنا صانع قديم ... قلنا صدقتم كذا نقول
ثم زعمتم بلا زمان ... ولا مكن ألا فقولوا
هذا كلام له خبئ ... معناه ليست لنا عقول
ثم قال الإمام بعد ذلك: وقد هذى هذا في شعره.
وأما ياقوت: فقال وكان متهماً في دينه، يرى رأي البراهمة، لا يرى إفساد الصورة، ولا يأكل لحماً، ولا يؤمن بالرسل، ولا بالبعث والنشور. قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني، قال المعري لم أهج أحداً قط. فقلت له صدقت إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فتغير لونه أو قال وجهه. ودخل عليه القاضي المنازي فذكر له ما يسمعه عن الناس من الطعن عليه. فقال: ما لي وللناس وقد تركت دنياهم فقال له القاضي وأخراهم فقال يا قاضي وأخراهم وجعل يكررها. قال ابن الجوزي: وحدثنا عن أبي زكرياء أنه قال لي المعري: ما الذي تعتقد، فقلت في نفسي: اليوم يتبين لي اعتقاده فقلت: له ما أنا إلا شاك. فقال: وهكذا شيخك.
وأما الشيخ شمس الدين الذهبي فحكم بزندقته في ترجمة له طولها في تاريخ الإسلام له، وذكر فيها عنه قبائح. وأظن الحافظ السلفي قال إنه تاب وأناب.

وأما الباخرزي فقال في حقه، ضرير ماله في أنواع الأدب ضريب، ومكفوف في قميص الفضل ملفوف، ومحجوب خصمه الألد محجوج، قد طال في ظلال الإسلام آناؤه. ولكن ربما رشح بالإلحاد إناؤه، وعندنا خبر بصره، والله العالم ببصيرته، والمطلع على سريرته، وإنما تحدثت الألسن بإساءته، لكتابه الذي زعم أنه عارض به القرآن وعنونه بالفصول والغايات، محاذاة للسور والآيات، وأظهر من نفسه تلك الجناية، وجد تلك الهوسات كما يجد العير الصليانة، حتى قال فيه القاضي أبو جعفر محمد بن اسمعيل البحائي الزوزني قصيدة أولها:
كلب عوى بمعرة النعمان ... لما خلا عن ربقة الإيمان
أمعرة النعمان ما أنجبت إذ ... أخرجت منك معرة العميان
وأما ابن العديم، فقال في كتابه الذي سماه التحري، في دفع التجري، على أبي العلاء المعري: قرأت بخط أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن سليمان المعري أن المستنصر صاحب مصر بذل لأبي العلاء المعري، ما ببيت المال بالمعرة من الحلال فلم يقبل منه شيئاً. وقال:
لا أطلب الأرزاق والمولى يفيض على رزقي
إن أعط بعض القوت أع ... لم أن ذلك فوق حقي
قال وقرأت بخط أبي اليسر المعري في ذكره، وكان رضي الله عنه يرمي من أهل الحسد له بالتعطيل ويعمل تلامذته وغيرهم على لسانه الأشار يضمنونها أقاويل الملحدة قصداً لهلاكه، وإيثاراً لإتلاف نفسه. فقال رضي الله عنه:
حاول إهواني قوم فما ... واجهتهم إلا بإهواني
يحرشوني بسهاياتهم ... فغيروا نية إخواني
لو استطاعوا لوشو بي إلى المريخ في الشهب وكيوان
وقال أيضاً:
غريت بذمي أمة ... وبحمد خالقها غريت
وعبدت ربي ما استطعت من بريته بريت
وفرتني الجهال حا ... شدة علي وما فريت
سعروا علي فلم أحس وعندهم أني هريت
وجميع ما فاهوا به ... كذب لعمري حنبريت
انتهى. قلت: أما الموضوع على لسانه فلعله لا يخفى على من له لب. وأما الأشياء التي دونها وقالها في لزوم ما لا يلزم، وفي استغفروا واستغفري، فما فيه حيلة وهو كثير فيه ما فيه من القول بالتعطيل والاستخفاف بالنبوات. ويحتمل أنه أرعوى وناب بعد ذلك. وحكى لي عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله تعالى انه قال في حقه: هو جوهرة جاءت إلى الوجود وذهبت. وسألت الحافظ فتح الدين بن محمد بن سيد الناس، فقلت له: ما كان رأي الشيخ تقي الدين دقيق العيد في أبي العلاء، فقال كان يقول هو في حيرة.
قلت: وهذا أحسن ما يقال في أمره لأنه قال، في داليته التي في سقط الزند:
خلق الناس للبقاء فضلت ... أمة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما ... ل إلى دار شقوة أو رشاد
ثم قال في لزوم ما لا يلزم:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكو
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
فالأول اعتراف بالمعاد. والثاني إنكار له. وهذه الأشياء في كلامه كثيرة وهو تناقض منه وإلى الله ترجع الأمور. ومن شعره:
رددت إلى مليك الخلق أمري ... فلم أسأل متى يقع الكسوف
وكم سلم الجهول من المنايا ... وعوجل بالحمام الفيلسوف
ومنه:
صرف الزمان مفرق الألفين ... فاحكم إلهي بين ذاك وبيني
أنهيت عن قتل النفوس تعمداً ... وبعثت تأخذها مع الملكين
وزعمت أن لها معاداً ثانياً ... ما كان أغناها عن الحالين
ومنه:
إذا ما ذكرنا آدما وفعاله ... وتزويجه إبنيه بنتيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر ... وأن جميع الخلق من عنصر الزنا
فأجابه القاضي أبو محمد الحسن بن أبي مقامة اليمني:
لعمرك أما فيك فالقول صادق ... وتكذب في الباقين من شط أودنا
كذلك إقرار الفتى لازم له ... وفي غيره لغو كذا جاء شرعنا
ومن شعر المعري:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
تحكم مالنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار

قال ياقوت: لأن المعري حمار لا يفقه شيئاً إلا فالمراد بهذا، بين لو كانت اليد لا تقطع إلا في سرقة خمسمائة دينار لكثرة سرقة ما دونها طمعاً في النجاة، ولو كانت اليد تفدى بربع دينار، لكثر قطعها ويؤدي فيها ربع دينار دية عنها نعوذ بالله من الضلال. انتهى.
قلت، وقال الشيخ علم الدين السخاوي يجيب المعري راداً عليه:
صيانة العرض أغلاها وأرخصها ... صيانة المال فافهم حكمة الباري
ومن شعر المعري:
هفت الحنفية والنصارى ما اهتدت ... ومجوس حارت واليهود مضلله
إثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر دين لا عقل له
فقال أبو رشاد ذو الفضائل أحمد بن محمد الإخسيكتي يرد عليه :
الدين آخذه وتاركه ... لم يخف رشدهما وغيهما
رجلان أهل الأرض قلت فقل ... يا شيخ سوء أنت أيهما
قال سبط الجوزى في المرآة، قال الغزالى: حدثني يوسف بن علي بأرض الهركار، قال دخلت معرة النعمان، وقد وشى وزير محمود بن صالح صاحب حلب إليه، بأن المعري زنديق لايرى إفساد الصور، ويزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل؟ فأمر محمود بحمله إليه وبعث خمسين فارساً ليحملوه، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان، وقال يا ابن أخي قد نزلت بنا هذه الحادثة، الملك محمود يطلبك، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عاراً علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخا الذل والعار. فقال له: هون عليك يا عم فلا بأس علينا فلي سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل. ثم قال لغلامه انظر إلى المريخ أين هو، قال في منزلة كذا وكذا. قال زنه واضرب تحته وتداً وشد في رجلي خيطاً واربطه إلى الوتد، ففعل غلامه ذلك. فسمعناه وهو يقول، يا قديم الأزل، يا علة العلل، يا صانع المخلوقات، وموجد الموجودات، أنا في عزك الذي لا يرام، وكنفك الذي لا يضام، الضيوف الضيوف، الوزير الوزير. ثم ذكر كلمات لا تفهم. وإذا بهدة عظيمة؟ فسئل عنها: فقيل وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين، وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر لا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمام على الوزير. قال يوسف بن علي: فلما شاهدت ذلك دخلت على المعري، فقال: من أنت، قلت: أنا من أرض الهركار فقال زعموا أني زنديق، ثم قال أكتب، وأملي على وذكر أبياتاً من قصيدة ذكرتها أنا: وأولها
استغفر الله في أمني واوجالي ... من غفلتي وتوالى سوء أعمالي
قالوا هرمت ولم تطرق تهامة في ... مشاة وفد ولا ركبان أجمال
فقلت إني ضرير والذين لهم ... رأى رأوا غير فرض الحج أمثالي
ما حج جدي ولم يحجج أبي وأخي ... ولا ابن عمي ولم يعرف منىً خالي
وحج عنهم قضاءً بعدما ارتحلوا ... قوم سيقضون عني بعد ترحالي
فإن يفوزوا بغفران أفز معهم ... أولاً فإني بنار مثلهم صالي
ولا أروم نعيماً لا يكون لهم ... فيه نصيب وهم رهطي وإشكالي
فهل أسر إذا حمت محاسبتي ... أم يقتضي الحكم تعتابي وتسألي
من لي برضوان أدعوه فيرحمني ... ولا أنادي مع الكفار أمثالي
باتوا وحتفي أمانيهم مصورة ... وبت لم يخطروا مني على بال
وفوقوا لي سهاماً من سهامهم ... فأصبحت وقعاً عني بأميال
فما ظنونك إذ جندي ملائكة ... وجندهم بين طواف وبقال
لقيتهم بعصا موسى التي منعت ... فرعون ملكاً ونجت آل إسرال
أقسم خمسي وصوم الدهر آلفه ... وأد من الذكر أبكاراً بآصال
عيدين أفطر في عامي إذا حضرا ... عيد الأضاحي يقفو عيد شوال
إذا تنافست الجهال في حلل ... رأيتني وخسيس القطن سربالي
لا آكل الحيوان الدهر مأثرة ... أخاف من سوء أعمالي وآمالي
وأعبد الله لا أرجو مثابته ... لكن تعبد إكرام وإجلال
أصون ديني عن جعل أؤمله ... إذا تعبد أقوام بأجعال

وكان المعري من بيت علم وفضل ورياسة، له جماعة من أقاربه قضاة وعلماء وشعراء. مثل سليمان بن أحمد بن سليمان جده، قاضي المعرة وولي القضاء بحمص، ووالده عبد الله ابن سليمان كان شاعراً، وأخيه محمد بن عبد الله وهو أسن من أبي العلاء وله شعر، وأبي الهيثم أخي أبي العلاء وله شعر، وجاء من بعده جماعة من أهل بيته ولوا القضاء وقالوا الشعر ورأسوا ساقهم الصاحب كمال الدين بن العديم على الترتيب وذكر أشعارهم وأخبارهم في مصنفه دفع التجري. وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة. وولد يوم الجمعة عند مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بالمعرة. وتوفي ليلة الجمعة ثالث وقيل ثاني شهر ربيع الأول وقيل ثالث عشرة سنة وتسع وأربعين وأربعمائة. وجد رفي السنة الثالثة من عمره فعمى، وكان يقول لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني ألبست في الجدري ثوباً مصنوعاً بالعصفر لا أعقل غير ذلك. ولما مات رثاه علي بن همام فقال من قصيدة طويلة:
إن كنت ترق الدماء زهادة ... فلقد أرقت اليوم من عيني دماً
سيرت ذكرك في البلاد كأنه ... مسك فسامعه تضمخ أو فما
وأرى الحجيج إذا أرادوا ليلة ... ذكراك أوجب فدية من أحرما
وقال أبو الرضا عبد الوهاب بن نوت المعري يرثيه:
سمر الرماح وبيض الهند تشتور ... في أخذ ثارك والأقدار تعتذر
والدهر ناقد أهل العلم قاطبة ... كأنهم بك في ذا القبر قد قبروا
فهل ترى بك دار العلم عالمة ... أن قد تزعزع منها الركن والحجر
والعلم بعدك غمد فات منصله ... والفهم بعدك قوس ماله وتر
وقد ذكرت تصانيفة وقطعة صالحة من شعره في التاريخ الكبير الذي لي فليكشف ذلك من هناك.

أحمد بن عبد الله المهاباذي
الضرير. من تلاميذ عبد القاهر الجرجاني. كان نحو يأوله شرح اللمع.
أحمد بن عبد الله: بن أبي هريرة أبو العباس القيسي التطيلي الاشبيلي الضرير المعروف بالأعيمى. توفي سنة خمس وعشرين وخمسمائة. ومن شعره:
بحياة عصياني عليك عواذلي ... إن كانت القربات عندك تنفع
هل تذكرين ليالياً بتنا بها ... لا أنت باخلة ولا أنا أقنع
ومنه قصيدة رثى بها ابن البناقي وهي مليحة:
خذا حد ثاني عن فل وفلان ... لعلي أرى باق على الحدثان
وعن دول حسن الديار وأهلها ... فنين وصرف الدهر ليس بفان
وعن هرمي مصر الغداة أمتعا ... بشرح شباب أم هما هرمان
وعن نخلتي حلوان كيف تناءنا ... ولم تطويا كشحاً على شنآن
وطال ثواء الفرقدين بغبطة ... أما علما أن سوف يفترقان
وزايل بين الشعر بين تصرف ... من الدهر لا وإن ولا متوان
فإن تذهب الشعري العبور لشأنها ... فإن الغميصا في بقية شان
وجن سهيل بالثريا جنونه ... ولكن سلاه كيف يلتقيان
وهيهات من جور القضاء وعدله ... شآمية ألوت بدين بمان
فازمع عنها آخر الدهر سلوة ... على طمع خلاه للدبران
وأعلن صرف الدهر لا بني نويرة ... بيوم تناء غال كل تدان
وكانا كند ماني جذيمة حقبة ... من الدهر لو لم ينصرم لا وإن
فهان دم بين الد كادك فاللوى ... وما كان في أمثالها بمهان
وضاعت دموع بات يبعثها الأسى ... يهيجها قبر بكل مكان
ومال على عبس وذبيان ميلةً ... فأودى بمجنى عليه وجان
فعوجا على جفر الهباءة فأعجبا ... لضيعة أعلاق هناك ثمان
دماء جرت منها التلاع بملئها ... ولا ذحل إلا أن جرى فرسان
وأيام حرب لا ينادي وليدها ... أهب بها في الحي يوم رهان
فآب الربيع والبلاد تهده ... ولا مثل مود من وراء عمان
وأنحى على ابني وائل فتهاصرا ... غصون الردى من كزة ولدان

تعاطى كليب فاستمر بطعنة ... أقامت لها الأبطال سوق طعان
وبات عدي بالذنائب يصطلي ... بنار وغىً ليست بذات دخان
فذلت رقاب من رجال أعزة ... إليهم تناهى عز كل زمان
وهبوا يلاقون الصوارم والقنا ... بكل جبين واضح ولبان
فلا حد إلا فيه حد مهند ... ولا صدر إلا فيه صدر سنان
ومال على الجو نين بالشعب فانثنى ... بأسلاب مطلول وربقة عان
وأمضى على أبناء قيلة حكمه ... على شرس أدلوا به وليان
ولو شاء عدوان الزمان ولو بشا ... لكان عذير الحي من عدوان
وأي قبيل لم يصدع جميعهم ... ببكر من الأرزاء أو بعوان
خليلي أبصرت الردى وسمعته ... فإن كنتما في مرية فسلاني
ولا تعداني أن أعيش إلى غد ... لعل المنايا دون ما تعداني
ونبهني ناع مع الصبح كلما ... تشاغلت عنه عن لي وعناني
أغمض أجفاني كأني نائم ... وقد لجت الأحشاء في الخفقان
أبا حسن أما أخوك فقد مضى ... فوالهف نفسي ما التقى أخوان
أبا حسن إحدى يديك رزئتها ... فهل لك بالصبر الجميل يدان
أبا حسن ألق السلاح فإنها ... منايا وإن قال الجهول أماني
أبا حسن هل يدفع المرء حينه ... بأيدي شجاع أو بكيد جبان
توقوه شيئاً ثم كروا وجعجعوا ... بأروع فصفاض الرداء هجان
أخي فتكات لا يزال يحيئها ... بحزم معين أو بعزم معان
أرى كل ما يستعظم الناس دونه ... فولى غنياً عنه أو متغاني
قليل حديث النفس فيما يروعه ... وإن لم يزل من ظنه بمكان
أبي وإن يتبع رضاه فمصحب ... بعيد وإن يطلب جداه فدان
لك الله خوفت العدا وأمنتهم ... فذقت الردى من خيفة وأمان
إذا أنت خوفت الرجال فخفهم ... فإنك لا تجزي هوىً بهوان
رياح وهبها عارضتك عواصفا ... فكيف انثنى أو كاد ركن أبان
بلى رب مشهور العلاء مشيع ... قليل بمنهوب الفؤاد هداني
أتيحت لبسطام حديدة عاصم ... فخر كما خرت سحوق ليان
بنفسي وأهلي أي بدر دجنة ... لست خلت من شهره وثمان
وأي أبي لا تقوم له الربا ... ثنى عزمه دون القرارة ثان
وأي فتىً لو جاءكم في سلاحه ... متى صلحت كف بغير بنان
وما غركم لولا القضاء بباسل ... أصاخ فقعقعتم له بشنان
يقولون لا تبعد ولله دره ... وقد حيل بين العير والنزوان
ويأبون إلا ليته ولعله ... ومن أين للمقصوص بالطيران
رويد الأماني إن زرء محمد ... عدا الفلك الأعلى عن الدوران
وحسب المنايا أن تفوز بمثله ... كفاك ولو أخطأته لكفاني
أنا كلتيه والثواكل جمة ... لو أنكما بالنس تأتسيان
أذيلا وصوناً وأجزعا وتجلدا ... ولا تأخذا إلا بما تدعان

أحمد بن عطية
بن علي أبو عبد الله الضرير، الشاعر. كانت له معرفة بالنحو واللغة تامة.
مدح الأمام القائم، وابن ابنه الإمام المقتدى، وابنه الإمام المستظهر، ووزراءهم. وكان خصيصاً بسيف الدولة صدقة بن مزيد، وأحد ندمائه وجلسائه. وله فيه مدائح كثيرة. روى عنه أبو البركات بن السقطي، ومحمد بن عبد الباقي بن بشر المقرئ، شيئاً من شعره. ومن شعره:
النفس في عدة الوساوس تطمع ... وزخارف الدنيا تغر وتخدع
والمرء بكدح واصلاً أطماعه ... وأمامه أجل يخون ويخدع
ومنه:
كأن انزعاج القلب حين ذكرتكم ... وقد بعد المسرى خفوق جناحين

سيعلم إن لجت به حرق الهوى ... ولم تسمحوا بالوصل كيف جنى حيني

أحمد بن علي
بن الحسين بن عيسى المقرئ الضرير، أبو نصر المايمرغي بالميم وبعدها ألف
وياء آخر الحروف وسكون الراء بعدها غين معجمة. سمع أبا عمرو محمد بن محمد بن صابر، وأبا سعيد الخليل بن أحمد، وأبا أحمد الحاكم البخاريين. وكان صدوقاً ثقة. ولد سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وأربعمائة.
أحمد بن علي: بن أحمد أبو العباس الضرير المقرئ من أهل البردان. قدم بغداد في صباه وحفظ القرآن وأحكمه. وقرأ بالروايات على المشايخ، وقرأ بواسط على ابن الباقلاني وغيره. واشتغل بالتجويد، ووصف بحسن الأداء، وقوة الصوت، وحفظ حروف الخلاف. وكان يخطب في القرى، وكان يقرأ في المحراب في صلاة التراويح بالشواذ المكروهة طلباً للدنيا.
قال ابن النجار في ذيل بغداد: ولم يكن في دينه بذاك. وتوفي سنة إحدى وعشرين وستمائة.
أحمد بن غالب: بن أبي عيسى بن شيخون، الأبروذي أبو العباس الضرير، يعرف بالجبابيني. والجبابين بالجيم وبعدها باآن منقوطتان بواحدة بينهما ألف وياء آخر الحروف ونون قرية بد جيل. دخل بغداد صبياً وحفظ القرآن وقرأه بالروايات على عبد الله بن علي بن أحمد الخياط. وسمع منه الحديث، ومن سعد الخير بن محمد الأنصاري، ومن جماعة. وقرا الفقه على أحمد بن بكروس، وحصل منه طرفاً صالحاً. ولما مات ابن بكروس خلفه في مدرسته ومسجده. توفي رحمه الله تعالى سنة أربع وسبعين وخمسمائة.
أحمد بن محمد: بن أحمد بن نصر بن ميمون بن مروان الأسلمي الكفيف النحوي. أبو عبد الله، وقيل أبو عمرو. قال ابن الفرضي: هو من أهل قرطبة. ويقال له إشكابه بألف وشين معجمة وبعدها ألف وباء ثانية الحروف وهاء. وسمع من قاسم بن أصبع، ومحمد بن محمد الخشني، وغيرهما. وكان صالحاً عفيفاً. أدب عند الرؤساء والجلة من الملوك. ومان رحمه الله تعالى سنة تسعين وثلاثمائة.
أحمد بن محمد بن الحسين الرازي الضرير ويقال له أبو العباس البصير ولد أعمى وكان ذكياً حافظاً وثقة الدار قطني وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة.
أحمد بن محمد: بن الحسين الرازي الضرير، ويقال له أبو العباس البصير. ولد أعمى وكان ذكياً حافظاً. وثقة الدارقطني. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة.
أحمد بن محمد: بن علي بن نمير، أبو سعيد الخوارزمي، الضرير الفقيه العلامة الشافعي، تلميذ الشيخ أبي حامد. قال الخطيب: درس فتى، ولم يكن بعد أبي الطيب الطبري أفقه منه. وتوفي رحمه الله سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.
أحمد بن محمد: المرندي بالراء وبعد الرء نون ودال مهملة، الضرير المقرئ البغدادي. كان عالماً بالتفسير، وقسمة الفرئض، وتعبير الرؤيا. كان ماراً بالموصل في الطريق فسقط، فاضطرب، فمات فجأة رحمة الله تعالى سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة.
أحمد بن المختار: بن محمد بن عبيد بن جبر بن سليمان، وأبو العباس بن أبي الفتوح ابن أخي مهذب الدولة. كان أحمد هذا وأبوه من أمراء البطيحة. وكان كثير الشعر. قدم بغداد ومدح الإمامين: المسترشد والمستظهر. ومدح المقتفي لأمر الله. وتوفي رحمه الله سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وكان قد مات له ابن فبكى عليه إلى أن ذهبت عينه ثم تلتها العين الأخرى. فقال يشكو الزمان:
كأنما آلى على نفسه ... أن لا يرى شملاً لاثنين
لم يكفه ما نال من مهجتي ... حتى أصاب العين بالعين
ومن شعره:
أللحمامة أم للبرق تكتئب ... لا بل لكل دعاك الشوق والطرب
إن أومض البرق أو غنت مطوقة ... قضيت من حق ضيف الحب ما يجب
والحب كالنار تمسى وهي ساكنة ... حتى تحركها ريح فتلتهب

أحمد بن مسعود: بن احمد بن ممدود بن برسق. الأديب الفاضل شهاب الدين أبو العباس الضرير السنهوري، بالسين المهملة والنون الساكنة والهاء المضمومة والواو الساكنة وبعدها راء. المعروف بالمادح: لأنه كان يكثر من مدائح النبي صلى الله عليه وسلم. اجتمعت به غير مرة بالقاهرة عند الصاحب أمين الدين، في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وسمعت منه كثيراً من أمداحه النبوية. وكان حفظة. وله قدرة على النظم، ينظم القصيدة، وفي كل بيت حروف المعجم، وفي كل بيت طاء، وفي كل بيت ضاد، وهكذا من هذا اللزوم. وأخبرت عنه أنه كان أولاً كثير الأهاجي للناس، ثم إنه رفض ذلك ورجع إلى مدائح النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يكن ناضج العلم. وكان موجوداً في سنة ست وأربعين وسبعمائة بالديار المصرية. ومن شعره رحمه الله تعالى.
إن أنكرت مقلتاك سفك دمي ... من ورد خديك لي به شاهد
جرحه ناظري ويشهد لي ... أليس ظلماً تجريحي الشاهد
أطاعك الخافقان به بهما ... قلبي المعنى وقرطك المائد
قلت: وهو مأخوذ من قول ابن سنا الملك:
أما والله لوال خوف سخطك ... لهان علي ما القى برهطك
ملكت الخافقين فتهت عجباً ... وليس هما سوى قلبي وقرطك
ومن شعر ابن مسعود:
يا من له عندنا أياد ... تعجز عن شكرها الأيادي
فيك رجاء وفيك يأس ... كالحر والبرد في الزناد
أحمد بن يوسف: بن حسن بن رافع. الإمام العلامة الزاهد الكبير، موفق الدين أبو العباس الموصلي الكواشي. ولد بكواشة وهي قلعة من عمل الموصل، سنة تسعين أو إحدى وتسعين وخمسمائة. وتوف رحمه الله تعالى سنة ثمانين وستمائة. قرا القرآن على والده، واشتغل وبرع في القراآت والتفسير والعربية والفضائل. سمع من أبي الحسين بن روزبة. وقدم الشام وأخذ عن السخاوي وغيره. وحج وزار القدس وعاد إلى بلده وتعبد. وكان عديم المثل: زهد وصلاحاً وصدقاً وتبتلاً. وكان السلطان ومن دونه يزوره ولا يعبأ بهم، ولا يقوم لهم، ولا يقبل منهم شيئاً. وله كشف وكرامات. وأضر قبل موته نحو عشرين سنة. صنف التفسير الكبير والصغير وأرسل نسخة إلى مكة، وإلى المدينة نسخة، وإلى القدس نسخة. ولأهل الموصل فيه اعتقاد عظيم. وكان كثير الإنكار على بدر الدين صاحب الموصل وإذا شفع عنده، لا يرده.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وكان شيخنا المقصاتي يطنب في وصفه، وقرأ عليه تفسيره فلما وصل إلى سورة الفجر منعه وقال: أنا أجيزه لك، ولا تقول أنا كملت الكتاب على المصنف. يعني أن للنفس في ذلك حظاً. وحدث عنه بالكتاب سنة اثنتي عشرة وسبعمائة والله تعالى أعلم.
إدريس بن أحمد: الضرير أبو سليمان الكوفي. قال المرزباني في معجم الشعراء: مقتدري مدح محمد بن علي المادراي، عند قدومه بغداد بقصيدة يقول فيها:
إلى أبي بكر الميمون طائره ... إلى الجواد الذي أفنى اللهى جودا
يولي الأقارب تقريباً إليه ولا ... يولي إلا باعد إن زاروه تبعيدا
علاك يا ابن علي فوق كل علاً ... فزادك الله إعلاءً وتأييداً
إدريس بن عبد الله بن إسحاق. اللخمي النابلسي الضرير البصري أبو سليمان. قال المرزباني: حدثني عنه الصولي، وعمر بن حسن الأشناني. وتوفي رحمه الله تعالى بعد الثمانين والمائتين. وكان يكاتب أبا الحسن أحمد بن محمد بن المدبر بالأشعار عند خروجه إلى الشام. ومن شعره:
صاحب الحاجة أعمى ... وهو ذو مال بصير
فمتى يبصر فيها ... رشده أعمىً فقير
وحجبه رجل، فكتب إليه:
سأترككم حتى يلين حجابكم ... على أنه لا بد أن سيلين
خذوا حذركم من نومة الدهر إنها ... وإن لم تكن حانت فسوف تحين

إسحاق بن فاروت بك: هو سلطان شاه بن فاروت بك بن داود بن سلجوق بن دقاق بن سلجوق. كان والده فاروت بك أخا السلطان ألب أرسلان. فلما توفي ألب أرسلان، كان فاروت بك بكرمان، فسار من عمان وركب في البحر في فصل الشتاء وخاف من سبقه إلى الري لأن ألب أرسلان أقام ابنه ملكشاه في الملك بعده. وكان معه عسكر يسير، يبلغ ألفي فارس وأربعة آلاف راجل. فبلغ ذلك ملكشاه. فأخذ هو ووزيره نظام الملك من قلعة الري خمسمائة ألف دينار، وخمسة آلاف ثوب، وسلاحاً. وخرجا من الري سبقاه إلى التركمان الذين كان فاروت بك يقصدهم. فاقتتلوا فهرب فاروت بك وأسر أولاده. فلما كان من الغد، جاء إلى ملكشاه سوادي، فقال: عمك في القرية الفلانية مع ولد له، فابعث معي من يأخذه. فسار إليه ملكشاه بنفسه. وحمل إليه مقيداً ماشياً فأومأ إلى الأرض وقبل يد ملكشاه. فقال له: يا عم! كيف أنت من تعبك؟ أما استحييت من هذا الفعل؟ يموت أخوك، فما قعدت في عزائه، ولم تبعث إلى قبره ثوبا، والغرباء قد حزنوا عليه. فقد لقاك الله سوء فعلك. فقال: ما قصدت ذلك، ولكن كاتبني عسكرك فجئت لأمر قضاه الله. فحمل مقيداً إلى همذان. فلام كان يوم الأربعاء ثالث شعبان سنة خمس وستين وأربعمائة، قتل فاروت بك. خنقه رجل أعور أرمني من أصاغر الحاشية، بوتر قوي. ثم إن ملكشاه جمع أولاده وصهره إبراهيم بن ينال. وكحلهم بين يديه. وقدم سلطان شاه إسحاق هذا وهو أكبر أخوته وأنجبهم، وهو كما يقل عذاره، فأخذ إخوته الصغار واحداً بعد واحد، وجعل يضمه إليه، ويقبله: ويقول: هذا قضاء الله فلا تجزعوا، فإن الموت يأتي على جميع الناس. وكحل وكحلوا ومات منهم اثنان. ثم إنه اعتقل سلطان شاه في همذان سنة خمس وستين وأربعمائة. فدبر سلطان شاه الحيلة مع بعض الموكلين، وبعث إلى كرمان يستدعي له خيلاً. فلما جاءته، فتح الموكلون السقف واستقوه ومعه أخوه، ونزلا وركبا الخيل ولم يتبعهما أحد. ومضيا إلى كرمان وحصلا في قلعة لا بهما، وسر الناس بهما. وقام سلطان شاه مقام أبيه واجتمعت الكلمة عليه وورد الخبر إلى ملكشاه عمه في جمادى الأولى، فشغب الجند على الوزير نظام الملك، وطالبوه بالأموال حتى فرغت الخزائن. واستمر سلطان شاه على حاله ملكاً بتلك الناحية. وجهز أموالاً عظيمة جداً إلى مكة شرفها الله تعالى، شكر الله تعالى على نجاته. ولم يزل على حاله، إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة ست وسبعين وأربعمائة. وجاءت أمه بهدايا إلى السلطان، وألطاف وأموال، فأكرمها وأقر أخاه مكانه. والله أعلم.
إسمعيل بن أحمد: بن عبد الله الحيري. أبو عبد الرحمن الضرير المفسر المقرئ الواعظ الفقيه المحدث. أحد ائمة المسلمين. والحيرة محلة بنيسابور. قال ياقوت: هي الآن خراب.
توفي رحمه الله تعالى فيما ذكرها الجاحظ عبد الغافر بعد الثلاثين والأربعمائة. ومولده سنة إحدى وستين وثلاثمائة. وله التصانيف المشهورة في علم القرآن والقراآت والحديث والوعظ والتذكير. سمع صحيح البخاري من أبي الهيثم ببغداد، وقد روى عن زاهر السرخسي. رحمه الله تعالى.
إسمعيل بن المؤمل: بن الحسين بن إسمعيل. أبو غالب الضرير الأسكافي النحوي. كان فاضلاً أديباً شاعراً. روى عنه أبو القاسم عبد الله بن محمد بن باقياء الشاعر، وعبد المحسن بن علي التاجر، وغيرها. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. ومن شعره:
سرت ومطايا بينها لم ترحل ... وزارت وحادي ركبها لم يحمل
وجادت بوصل كان للطيف شكره ... وسرت بوعد في الكرى لم يحصل
وعهدي بها في الحي سكري من الصبا ... وصاحيةً من زفرتي وتململي
يهز الصبا منها شمائل قامة ... ويجلو الكرى منها لواحظ مغزل
قال الوزير ابن المسلمة: لا أدري في النحو مفتوح العين إلا هذا المغمض العين.
الأشرف بن الأعز: ين هاشم. المعروف بتاج العلى. العلوي الحسني الرافضي الرملي، كان بآمد. وتوفي بحلب سنة عشر وستمائة. اجتمع هو وابن دحية فقال له: إن دحية لم يعقب. فتكلم ابن دحية، ورماه بالكذب، في مسائله الموصلية.

وذكر يحيى ابن أبي طي في تاريخه، فقال: شيخنا العلامة الحافظ النسابة الواعظ الشاعر. قرأت عليه نهج البلاغة وكثيراً آمن شعره. أخبرني انه ولد بالرملة في غرة المحرم سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة. وعاش مائة وثمانياً وعشرين سنة. وقال: إنه لقي ابن الفحام وقرا عليه بالسبع في كتابه الذي صنفه. قال: وكنت بالبصرة وسمعت من الحريري خطبة المقامات. ثم أخبرني إنه دخل الغرب وسمع من الكروحي كتاب الترمذي، ودخل دمشق والجزيرة وحلب. وأخذه ابن شيخ السلامية. وجعل له الظاهر كل يوم ديناراً صورياً، وفي كل شهر عشرة مكاكيك حنطة ولحماً. وله كتاب نكت الأبناء في مجلدين. وكتاب جنة الناظر وجنة المناظر خمسة مجلدات في تفسير مائة آية ومائة حديث، وكتاب في تحقيق غيبة المنظر وما جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأئمة ووجوب الإيمان بها، وشرح القصيدة البائية التي للسيد الحميري. وقدح عينيه ثلاث مرات. وكانت العامة تطعن عليه عند السلطان ولا يزيده إلا محبة.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي رحمه الله: ما كان هذا إلا وقحاً جريئاً على الكذب. انظر كيف ادعى هذه السن، وكيف كذب في لقاء ابن الفحام والحريري.
الطنطاش: الأمير سيف الدين. مملوك الأمير أمين الدولة صاحب بصرى وصرخد. وواقف الأمينية بدمشق. لما توفي أمين الدولة كان الطنطاش هذا نائباً على قلة بصرى، فاستولى عليها وعلى صرخد، واستعان بالفرنج. فسار لقتاله معين الدين أنر ونازل القلعتين فملكهما. وكان الطنطاش له أخ يدعى خطلخ فآذاه وكحله وأبعده، فحضر إلى دمشق. فلما قدم أخوه الطنطاش إلى دمشق، حاكمه أخوه إلى الشرع وكحله قصاصاً. فبقي أعميين.
وتوفي الطنطاش رحمه الله تعالى في حدود الخمسين والخمسمائة تقريبا، والله تعالى أعلم.
أمية بن الأشكر : الكناني .من بنى ليث الصحابي رضي الله عنه . شاعر مخضرم . كان من سادات قومه. وكان له ابن اسمه كلاب، أكتتب نفسه في الجند الغازي مع أبي موسى الأشعري، في خلافة عمر رضي الله عنه . فاشتاقه أبوه وكان قد أضر فأخذ قائده بيده، ودخل به عمر وهو في المسجد. فأنشده :
أعاذل قد عذلت بغير قدر ... وماتدرين عاذل ماألاقي
فإن ما كنت عاذلتي فردي ... كلابا إذ توجه للعراق
فتى الفتيان في عسر ويسر ... شديد الركن في يوم التلاق
فلا وأبيك ماباليت وجدي ... ولاشغفي عليك ولا اشتياقي
وإيقادي عليك إذا شتونا ... وضمك تحت نحري واعتناقي
فلو فلق الفؤاد شديد وجد ... لهم سواد قلبي بانفلاق
سأستعدى على الفاروق ربا ... له عمد الحجيج إلى بساق
وأدعو الله محتسبا عليه ... ببطن الأخشبين إلى دفاق
إن الفاروق لم يردد كلابا ... على شيخين هامهما زواق
فبكى عمر رضي الله عنه، وكتب إلى موسى الأشعري، برد كلاب إلى المدينة. فلما قدم ودخل عليه، قال له عمر : ما بلغ من برك بأبيك قال : كنت أوثره وأكفيه أمره، وكنت إذا أردت أن أحلب له لبنا أجيء إلى أغزر ناقة في إبله فأريحها وأتركها حتى تستقر، ثم أغسل أخلافها حتى تبرد، ثم أحلب له فأسقيه . فبعث عمر رضي الله عنه إلى أمية فجأة فدخل عليه وهو يتهادى وقد انحنى . فقال له: كيف أنت يا أبا كلاب ؟ فقال: كما ترى يا أمير المؤمنين. فقال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم. كنت أشتهي أن أرى كلابا فأشمه شمة وأضمه ضمة قبل أن أموت. فبكى عمر رضي الله عنه وقال: ستبلغ في هذا ما تحب إن شاء الله تعالى. ثم أمر كلابا أن يحلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث بلبنها إليه. ففعل. وناوله عمر رضي الله عنه الإناء، وقال: اشرب هذا يا أبا كلاب . فأخذه فلما أدناه من فيه. قال: والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب. فبكى عمر رضي الله عنه وقال هذا كلاب عندك، وقد جئناك به. فوثب إلى ابنه وضمه. وجعل عمر رضي الله تعالى عنه والحاضرون يبكون. وقالوا لكلاب: الزم، أبويك. فلم يزل مقيما عندهما إلى أن ماتا. والله أعلم.

أبو شروان: الضرير الشاعر المعروف بشيطان العراق. سافر إلى بلاد الجزيرة وما والاها، ومدح الملوك والأكابر. والغالب على شعره الخلاعة والمجون والهزل والفحش. وعاد إلى بغداد خمس وسبعين وخمسمائة. ومدح المستضيئ. ومن شعره قصيدة يهجو فيها بلد إربل:
تبا لشيطاني وما سولا ... لأنه أنزلني إربلا
نزلتها في يوم نحس فما ... شككت أني نازل كربلا
وقلت ما أخطأ الذي مثلا ... باربل إذ قال بيت الخلا
هذا وفي البازار قوم إذا ... عاينتهم عاينت أهل البلا
من كل كردى حمار ومن ... كل عراقي نفاه الغلا
أما العراقيون ألفاظهم جب لي ... جفاني جف جال البلا
جمالك أي جعفغ جبه يجي ... يجب جمالوا قبل أن نرحلا
هيا مخاغيطي الكسحلي مشى ... كف المكفنى اللنك إي بوالعلا
جغه بجعصوا نتف سبيله ... انتغوا مده بكعغو به اسفقه بالملا
عكلى تغى هواي نتف اعفقه ... قل لوالبو يذتخين كيف انقلى
هذى القطيعة بهجغه انحط من ... عندي تدفع كم تحط الكلا
والكرد لا تسمح إلا جيا ... أو بحيا أو نتوى زنكلا
كلا وبوبو علكوا خشتري ... خيلو وميلو موسكا منكلا
ممرو ومفو ممكى ثم إن ... قالوا بوير بكى بخى قلت لا
وفتية تزعق في سوقهم ... سردا جليدا صوتهم قد علا
وعصبة تزعق والله تنفروا ... وشوبوا ثم هم سخام الطلا
ربع خلا من كل خير بلى ... من كل عيب وسقوط ملا
فلعنة الله على شاعر ... يقصد ربعا ليس فيه كلا
أخطأت والمخطئ في مذهبي ... يصفع في قمته بالدلا
إذ لم يكن قصدي إلى سيد ... جماله قد جمل الموصلا
ثم إنه بعد ذلك قال يعتذر من هجاء إربل، ومدح الرئيس مجد الدين داود بن محمد. وهي قصيدة طويلة، وقد سقت بعضها في تاريخي الكبير في ترجمته.
أيد غدي : الأمير علاء الدين. الأعمى الركني الزاهد. ناظر أوقاف القدس الشريف والخليل عليه السلام. أنشأ العمائر والربط وغير ذلك، وأثر الآثار الحسنة بالقدس، وبلد سيدنا الخليل عليه السلام، والمدينة النبوية الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وكان من أحسن الناس سيرة، وأجملهم طريقة. عمرت الأوقاف في أيامه، وتضاعفت أجورها، واشتهر ذكره وسار. وكان من أذكياء العالم. يقال عنه: إنه خط حماما في بلد الخليل عليه السلام، ورسم الأساس بيده وذره بالكلس للصناع. وكان يحب الخيل ويستولدها. وكان إذا مر به فرس من خيله عرفه، وقال هذا من خيلي. وتوفي بالقدس الشريف، سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وصلى عليه بدمشق صلاة الغائب.
أيمن بن نابل: الحبشي المكي الطويل الضرير، عداده في صغار التابعين. كان ابن معين حسن الرأي فيه. وقال ابن حبان لا يحتج به إذا انفرد. وتوفي رحمة الله تعالى في حدود الستين والمائة. وروى له البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة.
بدر بن جعفر: بن عثمان الأميري من قرية تعرف بالأميرية من نواحي النيل ببغداد. أبو النجم الشاعر الضرير. نشأ بواسط وقرأ بها القرآن والأدب، وسمع الحديث، وقال الشعر. وقدم بغداد وسكنها، ومدح بها الأكابر والأعيان. وصار من شعراء الديوان، ينشد في التهاني والتعازي. وكان شيخا حسنا متدينا. ولد سنة سبع وثلاثين وخمسمائة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى عشرة وستمائة. ومن شعره:
عذ يرى من جيل غدوا وصنيعهم ... بأهل النهى والفضل شر صنيع
ولؤم زمان مايزال موكلا ... بوضع رفيع أو برفع وضيع
سأصرف صرف الدهر عني بماجد ... متى آته لا آته بشفيع

البراء بن عازب: بن حارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث ابن الخزرج الحارثي الخزرجي. أبو عمارة، وقيل أبو الطفيل، وقيل أبو عمر. والأشهر أبو عمارة. قال البراء: استصغرت أنا وإبن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون يومئذ نيفا على الستين، وكان الأنصار نيفا على أربعين ومائة. والأشبه أن يكون البراء أراد الخزرج قبيلته، وإلا فالأنصار كانوا يوم بدر.
وذكر الدولابي عن الواقدي، قال: أول غزوة شهدها ابن عمر والبراء بن عازب وأبو سعيد وزيد بن أرقم، الخندق. وقال أبو عمر الشيباني: أفتتح البراء بن عازب الرى سنة أربع وعشرين، صلحا أو عنوة. وقال أبو عبيدة: افتتحها حذيفة سنة إثنتين وعشرين. وقال حاتم بن مسلم: افتتحها قريظة بن كعب الأنصاري. وقال المدائني: افتتح بعضها أبو موسى وبعضها قريظة. وشهد البراء بن عازب مع علي رضي الله عنه الجمل وصفين والنهروان، ثم نزل الكوفة ومات بها، أيام مصعب بن الزبير، في سنة إحدى وسبعين للهجرة بعد ما أضر.
بركة بن أبي يعلى: بن أبي الغنائم الأنباري أبو البركات الضرير. كان له شعر. روى عنه أبو بكر المبارك بن كامل الخفاف في معجم شيوخه. وسمع منه عمر بن طبرزد شيا من شعره في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. ومن شعره وهو نازل:
أغالب وجدي فيهم وهو غالب ... وأحبس دمعي وهو في الخد ساكب
وقد عيل صبري واعترتني وساوس ... تمانعني طيب الكرى وهو آئب
وقد حرت لما أصبح الركب راحلا ... وقد قوضت نيرانهم والمضارب
حدا بهم الحادي فأضحيت بالحمى ... كئيبا وقد ضاقت على المذاهب
بشار بن برد: بن يرجوخ بفتح الياء آخر الحروف وسكون الراء وضم الجيم وبعد الواو الساكنة خاء معجمة العقيلي بضم العين المهملة . مولاهم الشاعر المشهور، أبو معاذ المرعث بضم الميم وفتح الراء وتشديد العين المهملة وبعدها ثاء مثلثة وهو الذي في أذنه رعاث وهي القرط لأنه كان في أذنه وهو صغير قرط. ذكر صاحب الأغاني في كتابه أسماء أجداد بشار ستة وعشرين جدا أسماؤهم كلها أعجمية. ولد على الرق وأعتقته امرأة عقيلية.
وفد على المهدي وأنشده قصيدة يمدحه بها، منها:
إلى ملك من هاشم في نبوه ... ومن حمير في الملك والعدد الدثر
من المشترين الحمد تندى من الندى ... يداه وتندى عارضاه من العطر
فلم يحظ منه، فقال يهجوه:
خليفة يزني بعماته ... يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله به غيره ... ودس موسى في ح...الخيزران
وأنشدهما في حلقة يونس النحوي، فسعى به إلى الوزير يعقوب بن داود، وكان بشار قد هجاه بقوله:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الناي والعود
فدخل الوزير يعقوب بن المهدي، وقال يا أمير المؤمنين: إن هذا الملحد الزنديق قد هجاك. قال: بم ذاك ؟ فقال: لا أطيق أقوله. فأقسم عليه فكتبهما، فلما وقف عليهما كاد ينشق غيظا. فانحدر إلى البصرة فلما بلغ البطيحة سمع أذانا في وضح النهار. فقال: انظروا ما هذا؟ فإذا بشار سكران. فقال: يا زنديق عجبت أن يكون هذا من غيرك. أتلهو بالآذان في غير وقت الصلاة، وأنت سكران؟ وأمر بضربه. فضرب بالسياط بين يديه على صدر الحراقة سبعين سوطا تلف منها. فكان إذا أصابه السوط قال: حس وهي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع . فقال بعضهم: انظروا إلى زندقته كيف يقول حس ولا يقول بسم الله. فقال بشار: ويلك أطعام هو فأسمى الله عليه؟ فقال له آخر: أفلا قلت الحمدلله؟ فقال: أو نعمة هي فأحمد الله عليها؟ وبان الموت فيه. فألقى في سفينة حتى مات سنة ثمان وستين ومائة. وقد بلغ نيفا وتسعين سنة. وقال: في حالة ضرب الجلاد له: ليت عيني أبي الشمقمق ترياني حيث يقول:
هللينة هللينة ... طعن قثاة لتينه
إن بشار بن برد ... تيس أعمى في سفينة

وكان بشار يخاف لسان أبي الشمقمق ويصانعه في كل سنة بمبلغ من الذهب حتى يكف عنه. ووجد في أوراقه مكتوب بعد موته، : إني أردت هجاء آل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، فذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسكت عنهم، والله العالم بحالهم . فيقال إن المهدي لما بلغه ذلك، ندم على قتله. وكان كثيرا ما ينشد قوله:
سترى حول سريري ... حسرا يلطمن لطما
ياقتيلاً قتلته ... عبدة الحوراء ظلما
عبدة، إسم محبوبته. وفيها يقول: زود ينا يا عبد قبل الفراق أنا والله أشتهي سحر عينيك وأخشى مصارع العشاق.
ولما خرجت جنازته، لم يتبعها إلا أمة سندية عجماء. تقول واشيداه! واشيداه! بالشين المعجمة . وكان بشار يرى رأي الكاملية. وهم فرقة من الرافضة يتبعون رجلا كان يعرف بأبي كامل. كان يزعم أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة علي بن أبي طالب، وكفر علي بن أبي طالب بتركه قتالهم، وكان يلزمه قتالهم كما لزمه قتال أصحاب الجمل وصفين. وقيل لبشار: ما تقول في الصحابة؟ فقال كفروا قيل له: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ فقال:
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا
وقيل: إنه كان يفضل النار على الأرض، ويصوب رأي إبليس في إمتناعه من السجود لآدم، وقال:
إبليس خير من أبيكم آدم ... فتنبهوا يا معشر الفجار
إبليس من نار وآدم طينة ... والأرض لا تسمو سمو النار
وقال أيضا:
الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار
وكان بشار قد ولد أعمى، جاحظ العينين، قد تغشاهما لحم أحمر. وكان ضخما عظيم الخلق والوجه، مجدورا طويلا. وهو معدود في أول مرتبة المحدثين. وهو من مخضرمي الدولتين. وهو من الشعراء المجيدين. وكان خبيث الهجو.
قال بشار: هجوت جريرا، فاحتقرني واستصغرني. ولو أجابني لكنت أشعر الناس. وقال بشار :لي إثني عشرة ألف قصيدة، لعنها الله ولعن قائلها، إن لم يكن في واحدة منها بيت عين.
ومر بشار برجل ندت من تحته بغلة وهو يقول: الحمد لله شكراً ،فقال بشار استزده يزدك ومر يوماً بقوم يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها. فقال: مالهم مسرعين؟ أتراهم قد سرقوها؟ وهم يخافون أن يلحقوهم ليأخذوها منهم.
ورفع غلام بشار إليه في حساب نفقته جلاء مرآة، عشرة دراهم. فصاح به بشار، وقال: ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة لأعمى بعشرة! والله؟ لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة، ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم.
وقال داود بن رزين: جئت بشارا مع جماعة. فأذن لنا والمائدة موضوعة بين يديه، فلم يدعنا إلى طعامه. فلما أكل دعا بالطست، فكشف سوأته وبال. ثم حضرت الظهر والعصر والمغرب، فلم يصل. فقال له بعضنا: أنت أستاذنا. وقد رأينا منك أشياء أنكرناها. قال: وماهي؟ قلنا: دخلنا والطعام بين يديك فلم تدعنا. فقال إنما أذنت لكم لتأكلوا. ولو لم أرد، ما أذنت لكم. قال: ثم ماذا؟ قلنا: دعوت بالطست فبلت، ونحن حضور. فقال: أنا مكفوف وأنتم المأمورون بغض البصر دوني. قال: ثم ماذا؟ قلنا: حضرت الظهر والعصر والمغرب، ولم تصل. فقال: الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة.
وقعد إلى بشار رجل يستثقله، فضرط عليه ضرطة. فظن أنها فلتة منه. ثم ضرط أخرى . ثم ضرط ثالثة. فقال له: يا أبا معاذ ما هذا؟ فقال بشار: أرأيت أم سمعت؟ فقال: بل سمعت صوتا قبيحا. قال: فلا تصدق حتى ترى. وأنشد:
ربما ثقل الجليس وإن كان ... خفيفا في كفه الميزان
كيف لا تحمل الأمانة أرض ... حملت فوقها أبا سفيان
وكان النساء المتظرفات يجئن إلى بشار ويسمعن كلامه وشعره. فسمع واحدة منهن فهويها وراسلها. فقالت لرسوله: قل له أي معنىً فيك لي؟ ويلك أولىك في؟ أنت أعمى لا تراني فتعرف حسني ومقداره، وأنت قبيح لا حظ لي فيك، فليت شعري ! لأي شئ تطلب وصال مثلي؟ وجعلت تهزأ به، فأدى إليه الرسول ما قالت. فقال: عد إليها وقل لها:
أي..ى له فضل على أي..انهم ... فإذا أشظ سجدان غير أوابي
تلقاه بعد ثلاث عشرة قائما ... فعل المؤذن شك يوم سحاب
وكأن هامة رأسه بطيخة ... حملت إلى ملك لدجلة جاب

وجاءه رجل، فسأله عن منزل رجل ذكره له. فجعل يفهمه ولا يفهم. فأخذ بشار بيده وقام يقوده إلى منزل الرجل، وهو يقول:
أعمى يقود بصيرا لا أبالكم ... قد ضل من كانت العميان تهديه
فلما وصل به إلى منزل الرجل، قال له: هذا منزله يا أعمى.
وعشق بشاراً امرأة مرة فكان ينفذ غلامه إليها، وهي تتمنع. فلما أضجرها، عرفت زوجها. فقال لها أجيبيه وعديه أن يجئ إلى هنا. ففعلت. وجاء بشار مع امرأة أنفذتها إليه. فدخل، وزوجها جالس وهو لا يعلم. فجعل بشار يحادثها ساعة. ثم قال، ما اسمك؟ قالت: أمامه. فقال:
أمامة قد وصفت لنا بحسن ... وإنا لا نراك فألمسينا
فأخذت يده ووضعتها على أي... زوجها، وقد أنع... ففزع ووثب. وقال:
على ألية ما دمت حياً ... أمسك طائعاً إلا بعود
ولا أهدي لأرض أنت فيها ... سلام الله إلا من بعيد
طلبت غنيمة فوضعت كفي ... على شيء اشد من الحديد
فخير منك من لا خير فيه ... وخير من زيارتكم قعودي
وقبض زوجها عليه، وقال: هممت أن أفضحك. فقال: قد كفاني، فديتك! ما فعلت. ولست عائداً إليها أبداً.
وكان بالبصرة رجل يقال له حمدان الخراط. فاتخذ جاماً لإنسان، وكان بشار عنده. فسأله بشار أن يتخذ له جاماً فيه صورة طير. فاتخذه له وجاءه به. فقال له: ما في هذا الجام؟ فقال: صورة طير يطير. فقال له: قد كان ينبغي أن تتخذ فوق هذا الطير طائراً من الجوارح كأنه يريد صيده فإنه كان أحسن. قال: لم أعلم. قال: بلى علمت. ولكن علمت أني أعمى. وتهدده بالهجاء. فقال له حمدان: لا تفعل تندم. قال: أو تهددني أيضاً؟ قال: نعم. قال: وأي شيء تستطيع أن تصنع بي؟ قال: أصورك على باب داري في صورتك هذه، واحمل من خلفك قرداً ين..ك حتى يراك الصادر والوارد. فقال بشار: اللهم اخزه! أنا أمازحه وهو يأبى إلا الجد.
وأخباره كثيرة. وأشعار شهيرة. وهذا القدر من أخباره كاف. ومن شعره وهو في غاية الحكمة:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصاحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي رأفة للقوادم
وخل الهوينا للضعيف ولا تكن ... نؤوماً. فإن الحر ليس بنائم
وأدن من القربى المقرب نفسه ... ولا تشهد الشورى أمرأً غير كاتم
وما خير كف أمسك الفل أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم
فإنك لا تستطرد الهم بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم
وقال حماد عجرد يهجوه:
لقد صار بشار بصيراً بد..ره ... وناظره بين الانام ضرير
له مقلة عمياء وا...تٌ بصيرة ... إلى الأ... ر من تحت الثياب تشير
على وده أن الحمير تني...ه ... وأن جميع العالمين حمير
بشير بن معاذ: العقدي الضرير البصير. توفي في حدود الخمسين والمائتين. روى عنه الترمذي والنسائي وابن ماجة. ووثقه ابن حبان.
أبو بكر بن احمد: بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي. الشيخ الصالح المعمر اليقظ مسند الوقت المقدسي الصالحي. ويعرف بالمحتال. ولد بكفر بطنا إذا كان والده بها خطيباً سنة خمس أو ست وعشرين وستمائة. وسمع سنة ثلاثين على الفخر الإربلي، وسمع الصحيح كله على ابن الزبيدي، وسمع من الناصح بن الحنبلي، وسالم بن صصري، وجعفر الهمداني، والشيخ الضياء، وجماعة. وأجاز له ابن روزبة وأقرانه من بغداد. وحج ثلاث مرات. وأضر قبل موته بأعوام، وثقل سمعه. ولكن كان زاد همه وجلادة وفهم. وله عبادة وأذكار. وقد حدث في زمان والده. وروى عنه ابن الخباز، وابن نفيس، والقدماء. وحدث بالصحيح غير مرة، وسمع منه الخلق، وانتهى إليه علو الإسناد، كوالده في زمانه. وعاش كأبيه ثلاثاً وتسعين سنة. وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة تاسع عشر شهر رمضان سنة ثمان عشرة وسبعمائة. وكانت جنازته مشهورة.

أبو بكر بن عبد الرحمن: بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي. أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. وكنيته إسمه. وكان من سادات التابعين. ويسمى راهب قريش. وجده الحارث اخو أبي جهل بن هشام من جملة الصحابة رضي الله عنهم. ولد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة أربع وتسعين للهجرة. وهذه السنة تسمى سنة الفقهاء، لأنه مات فيها جماعة منهم. وهؤلاء الفقهاء السبعة كانوا بالمدينة في عصر واحد. وعنهم انتشر العلم والفتيا في الدنيا. وقد جمعهم بعض الشعراء في بيتين، فقال:
ألا كل من لا يقتدى بأئمة ... فقسمته ضيري عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد سليمان أبو بكر خارجه
وإنما قيل لهم الفقهاء السبعة، لأن الفتوى بعد الصحابة رضي الله عنهم صارت إليهم، وشهروابها. وكان في عصرهم جماعة من العلماء. مثل سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم وأمثاله. ولكن الفتوى لم تكن إلا لهؤلاء السبعة. وكان لأبي بكر عدة إخوة وهو أجلهم. وروى عن أبيه، وعن عمار بن ياسر، وأبي مسعود البدري، وعائشة، وعبد الرحمن بن مطيع، وأبي هريرة، وأسماء بنت عميس، وجماعة. وكان عبد الملك بن مروان أن يكرمه ويقول: إني لأهم بالسوء افعله بأهل المدينة لسوء أثرهم عندنا، فاذكر أبا بكر فاستحيي منه. وروى له الجماعة وأضر بأخرة.
بيجار: بالباء الموحدة والياء آخر الحروف ساكنة والجيم وبعدها ألف وراء الأمير حسام الدين اللاوي الرومي، ابن بختيار. كان له ببلاد الروم قلاع وحشمة. فنزح إلى بلاد المسلمين مهاجراً في أواخر الدولة الظاهرية. وحج وأنفق أموالاً كثيرة. ثم إنه رجع ولزم بيته وترك الإمرة. قال الشيخ قطب الدين اليؤنيني: جاوز المائة بسنين. كذا قال وكف بصره. وتوفي سنة إحدى وثمانين وستمائة، رحمه الله تعالى.
بيبغاء: الأشرفي الأمير سيف الدين. كان في وقت نائب الكرك فيما بعد العشرين والسبعمائة، فيما أظن. ثم إنه عزل منها وحضر إلى دمشق. وجهز إلى صرخد. وكان قد اضر باخرة والله تعالى أعلم. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة.

حرف الجيم
جابر بن عبد الله
بن عمرو بن سواد بن سلمة الأنصاري. من مشاهير الصحابة رضي الله تعالى
عنهم، وأحد المكثرين من الرواية. شهد هو وأبوه العقبة الثانية، ولم يشهد الأولى. وشهد بدراً، وقيل لم يشهدها. وشهد بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر غزوات. وقدم مصر والشام. وأبو أحد الاثني عشر نقيباً وكف بصر جابر بأخرة. روى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، ومحمد بن علي الباقر، وعطاء بن أبي رباح، وأبو الزبير، فأكثر ومحمد بن المنكدر، وخلق سواهم. وروى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. ولما توفي، وقف الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم بين عمودي سريره؟ فأخرجه الحجاج ووقف مكانه، وصلى عليه. وأخرجه أيضاً من حفرته واقتحمها الحجاج حتى فرغ منه. قيل إن هذا لا يثبت لأنه مات والحجاج على العراق أمير. وعاش أربعاً وتسعين سنة. وتوفي رضي الله تعالى عنه سنة أربع وسبعين، وقيل سبع وسبعين، وقيل ثمان وسبعين. وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، في قول. ولما أراد شهود بدر، خلفه أبوه على بناته. وهن أخوات جابر. وكن تسعاً، وقال: أخرجني خالي ليلة العقبة وأنا لا أستطيع أن أرمي بحجر.
جعفر بن علي
بن موسى أبو محمد الضرير المقرئ البغدادي. كان أحد الفقهاء المشهورين.
وكان يصلي بالناس إماماً في جامع المنصور يوم الجمعة صلاة العصر. قرأ على والده وعلى حمزة بن عمارة بن الحسن المقرئ، وأبي بكر أحمد بن العباس بن مجاهد، وأبي بكر بن أحمد بن أبي قتادة، وإدريس بن عبد الكريم الحداد. وقرأ عليه أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي، والقاضي أبو العلاء محمد بن علي بن يعقوب الواسطي، وروى عنه. وحدث باليسير عن ابن مجاهد، وأبي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الزهري. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
حرف الحاء
حبشي بن محمد

بن شعيب. أبو الغنائم الشيباني الواسطي الضرير المقرئ النحوي. قرأ
القرآن، واشتغل بشيء من الأدب. ثم إنه قدم بغداد واستوطنها إلى أن مات رحمه الله تعالى، سنة خمس وستين وخمسمائة. وقرأ على الشريف الشجري ولازمه حتى برع في النحو، وبلغ الغاية. وسمع شيئاً من الحديث، وكتب الأدب، ودواوين شعر العرب، من الحافظ محمد بن ناصر. وحدث باليسير. وقرأ عليه جماعة من أهل بغداد كمصدق بن شبيب. قال ياقوت: وكان مع هذا إذا خرج الطريق بغير قائد لا يهتدي كما يهتدي العميان، حتى سوق الكتب الذي كان يأتيه كل ليلة عشرين سنة. ولم يكن بعيداً عن منزله.
حسان بن ثابت
بن المنذر بن حرام. أبو الوليد، وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو الحسام.
الأنصاري النجاري. صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره. وفد على عمرو بن الحارث بن أبي شمر، وعلى جبلة بن الأيهم، وعلى معاوية رضي الله تعالى عنه حين بويع سنة أربعين. قال ابن سعد: عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام مثلها. وكان قديم الإسلام. ولم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً. وكان يجبن. قال الحافظ ابن عساكر: نعم، كان جهاده بشعره. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب له منبراً في المسجد يقوم عليه ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك على قريش أشد من رشق النبل. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجب عن رسول الله. اللهم أيده بروح القدس! وفي رواية: أهجهم أو هاجهم، وجبريل معك. وفي رواية: أن روح القدس معك ما هاجيتهم. وفي رواية: جبريل معينك. وفي رواية: إن الله يؤيد حسان بروح القدس، ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال صاحب الأغاني بسنده إلى محمد بن جرير قال: كان حسان بن ثابت رضي الله عنه يوم الخندق في حصن بالمدينة مع النساء والصبيان لجبنه. قال: فمر رجل من اليهود، فجعل يطيف بالحصن فقالت حفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها يا حسان هذا يهودي كما ترى يطيف بالحصين. وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا. وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فانزل إليه فاقتله. فقال يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب! قد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت: فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً، اعتجرت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن وقلت: يا حسان أنزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. فقال ما لي بسلبه حاجة! يا بنت عبد المطلب.
قال وحكى أنه كان قد ضرب وتداً في ذلك اليوم في جانب الأطم. فكان إذا حمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين، حمل على الوتد وضربه بالسيف، وإذا حمل المشركون، انحاز عن الوتد، كأنه يقاتل قرناً انتهى.
قلت: وقد رأيت بعضهم ينكر جبنه، واعتذر له بأنه كان يهاجي قريشاً ويذكر مثالبهم ومساويهم، ولم يبلغنا أن أحداً عيره بالجبن والفرار من الحروب. وقد هجا الحارث بن هشام بقوله:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجا الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا براس طمرة ولجام
وما أجابه بما ينقض عليه ويطعن عليه، بل اعتذر رضي الله تعالى عنه عن فراره بقوله:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
ووجدت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبة دونهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد

وقال ابن الكلبي: إن حسان كان لسناً شجاعاً، فأصابته علة له الجبن. فكان بعد ذلك لا يقدر أن ينظر إلى قتال ولا يشهده. وقال ابن عساكر: قال عطاء بن أبي رباح: دخل حسان على عائشة رضي الله عنهما بعدما عمي، فوضعت له وسادة. فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: أتجلسينه على وسادة وقد قال ما قال؟ فقالت إنه؟ تعني كان يجيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشفى صدره من أعدائه، وقد عمي وإني لأرجو أن لا يعذب في الآخرة. قلت: أراد عبد الرحمن رضي الله عنه، ما قاله حسان في قصة إلا فك، لأن الذين تحدثوا في شان عائشة رضي الله عنها. كانوا جماعة. وهم عبد الله بن أبي سلول، ومسطح بن اثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. وقوله تعالى والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم. قال المفسرون: هو حسان بن ثابت رضي الله عنه، أو عبد الله بن أبي. وتاب الله على الجماعة إلا عبد الله السلولي، فإنه مات منافقا. وقيل لعائشة رضي الله تعالى عنها: لم تأذنين لحسان عليك؟ والله يقول. والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم. فقالت: وأي عذاب اشد من العمى. ولما أنشد حسان عائشة رضي الله عنهما، شعره الذي منه قوله:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
قالت له: لكنك لست كذلك. وقعد صفوان بن المعطل، لحسان بسبب قصة إلا فك، وضربه بالسيف. وهذه القصة مذكورة في مواطنها من كتب التفسير والحديث، مستوفاة هناك. وقال حسان للنبي صلى الله عليه وسلم، لما طلبه لهجو قريش: لأسلنك منهم سل الشعرة من العجين، ولي مقول ما أحب أن لي به مقول أحد من العرب، وإنه ليفري مالاً تفري الحربة. ثم أخرج لسانه، فضرب به أنفه، كأنه لسان شجاع بطرفه شامة سوداء، ثم ضرب به ذقنه، وقال: لأفرينهم فري الأديم فصب على قريش منه شآبيب شر. فقال: اهجهم كأنك تنضحهم بالنبل: فهجاهم. فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم: لقد شفيت يا حسان وأشفيت. وعن النبي صلى الله عليه وسلم. ذاك حاجز بيننا وبين المنافقين. لا يحبه إلا مؤمن. ولا يبغضه إلا منافق. وعن محمد بن سيرين. قال: كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، جماعة من قريش. عبد الله بن الزبعري، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعمرو بن العاص. فقال حسان: يا رسول الله إئذن لي في الرد عليهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف وهو مني. فقال: والله لأسلنك منه، كما تسل الشعرة من العجين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان، فأت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك. فأتاه فقال له. كف عن فلانة، واذكر فلانة، فقال حسان رضي الله عنه:
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخير كما لفداء
قلت: قال علماء الأدب. هذا أنصف بيت قالته العرب. ولما ورد وفد تميم على النبي صلى الله عليه وسل للمفاخرة. وقام خطيبهم الزبرقان. وقال ما قال. وقام خطيب النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس. وقال ما قال. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى حسان، فجاءه فأمره أن يحييه على الأبيات العينية وهي مشهورة. قال حسان يحيبه عن ذلك. ثم قام عطارد بن حاجب. فقال:
أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا ... إذا اجتمعوا وقت احتضار المواسم
بأنا فروع الناس في كل موطن ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
فقام حسان رضي الله عنه فقال:
منعنا رسول الله من غضب له ... على أنف راض من معد وراغم
هل المجد إلا السؤدد الفرد والندى ... وجار الملوك واحتمال العظائم

فقال الأقرع بن جابس: والله! إن هذا الرجل لمؤتىً له. والله! لشاعره أشعر من شاعرنا. ولخطيبه أمهر من خطيبنا. وأصواتهم أرفع من أصواتنا. اعطني يا محمد. فأعطاه. فقال: زدني. فزاده. فقال: اللهم إنه سيد العرب. فنزلت فيهم إن الذين ينادونك من وراء الحجرات. ثم إن القوم اسلموا. وفي حديث الرسول الذي وجهه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، إلى هرقل. أنه بعد ما ودعه. قال له: هرقل ألقيت جبلة ابن الأيهم؟ وكان قد دخل إليهم. وتنصر عندهم. وكان حسان، ممن يفد عليه ويمدحه بالشام. وله فيه تلك القصيدة اللامية. التي أولها:
أسألت رسم الدار أم لم تسأل ... بين الجواني فالنصيع فحومل
يقول فيها:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
فقال له لا. فقال: القه. فجاء إليه. فوجد ما هو فيه من الرفاهية والعيش. والقصة مشهورة. فسأله عن حسان أحي هو. قال؟ نعم. فأمر له بمال وكسوة. ونوق موقرة براً. ثم قال له: إن وجدته حياً، فادفعها إليه. وإن وجد ميتاً، فادفعها إلى أهله. وانحر الجمال على قبره. فلما قدم الرسول على عمر رضي الله عنه. ذكر له حديث حسان. فبعث إليه فأتى، وقد كف بصره، وقائد يقوده. فلما دخل. قال: إني أجد ريح آل جفنة عندك. قال: نعم. هذا رجل أقبل من عنده. قال: هات يا ابن أخي ما بعث إلي معك. فقال: ومن أعلمك بهذا. قال: يا ابن أخي إنه كريم من عصبة كرام. مدحته في الجاهلية، فحلف أن لا يلقى أحداً يعرفني إلا أهدى إلي معه شيئاً فدفع إليه المال والثياب. وأخبره بما كان أمره في الجمال. فقال: وددت لو كنت ميتاً فنحرت على قبري. وقال أبو عبيدة: فضل حسان الشعراء بثلاث. كان شاهر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وشاعر اليمن كلها، وكان اشعر أهل المدر. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: في سنة أربع وخمسين. توفي حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزي، وسعيد بن يربوع المخزومي، وحسان بن ثابت. قال: ويقال إن هؤلاء الأربعة ماتوا وقد بلغ كل واحد منهم عشرين ومائة سنة. وقال الشيخ شمس الدين الذهبي: الذي بلغنا أن حساناً، وأباه، وجده، وجد أبيه، عاش كل منهم مائة وعشرين سنة.

الحسن بن أبي الحسن
الدرزبيني بدال مهملة وراء وبعدها زاي وباء ثانية الحروف وياء آخر الحروف
ونون. أبو عل الضرير المقرئ البغدادي. حفظ القرآن وجوده، على أبي الحسن بن عساكر البطائحي، وغيره بالروايات. وسمع الحديث الكثير، من أبي الفتح بن البط وغيره. قال محب الدين بن النجار: وما أظنه روى شيئاً، ولم اسمع قارئاً أطيب صوتاً منه. ولا احن تلاوة وتجويداً. وكان من أعيان القراء، ووجوعه الأضراء. يدخل دار الخلافة. ويقرئ الجهات، والجواري، والخواص. وكان متجملاً ذا نعمة. وكان حنبلياً. وتوفي رحمه الله تعالى. سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
الحسن بن علي
بن أحمد بن بشار بن زياد. أبو بكر المعروف بابن العلاف الضرير النهرواني
الشاعر المشهور. كان من الشعراء المجيدين. وحدث عن أبي عمر الدوري المقرئ، وحميد بن مسعدة البصري، ونصر بن علي الجهضمي، ومحمد بن إسماعيل الحساني. وروى عنه عبد الله بن الحسن بن النحاس، وأبو الحسن الجراحي القاضي، وأبو حفص بن شاهين، وغيرهم. وكان ينادم المعتضد: حكى عنه. قال: بت ليلة في دار المعتضد مع جماعة من ندمائه، فأتانا خادم ليلاً. فقال أمير المؤمنين يقول: أرقت الليلة بعد انصرافكم فقلت:
ولما انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذا الدار قفر والمزار بعيد
وقال: قد راتج عليه تمامه. فمن أجازه بما يوافقه في غرضه، أمر له بجائزة. قال: فارتج على الجماعة كلهم، وكلهم شاعر فاضل. فابتدرت وقلت:
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالاً طارقاً سيعود

فرجع الخادم. ثم عاد. فقال. أمير المؤمنين يقول قد أحسنت: وأمر لك بجائزة. وكان لأبي بكر هذا هر يألف وكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه. ويأكل فراخها. وكثر ذلك منه. فامسكوه وذبحوه. فرثاه بالقصيدة التي اشتهرت. وقد قيل إنه رثى بها عبد الله بن المعتز، وخشي من الإمام المقتدر أن يتظاهر بها، لأنه هو الذي قتله، فنسبها إلى الهر، وعرض به في أبيات منها لصحبة كانت بينهما، وقيل إنما كنى بالهرعن المحسن ابن الفرات. أيام محنته، لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه. وقيل إن جارية لعلي بن عيسى هويت غلاماً لأبي بكر ففطن بهما. فقتلا جميعاً، وسلخا وحشيت جلودهما تبناً. فقال مولاه أبو بكر يرثيه:
يا هر فارقتنا ولم تعد ... وكنت مني بمنزل الولد
فكيف ننفك عن هواك وقد ... كنت لنا عدة من العدد
وتخرج الفار من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السدد
يلقاك في البيت منهم مدد ... وأنت تلقاهم بلا مدد
لا عدد كان منك منفلتاً ... منهم ولا واحد من العدد
لا ترهب الصيف عند هاجرة ... ولا تهاب الشتاء في الجمد
وكان يجري ولا سداد لهم ... أمرك ما بيننا على السدد
حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للاذى بمعتقد
وحمت حول الردى بظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد
وكان قلبي عليك مرتعداً ... وأنت تنساب غير مرتعد
تدخل برج الحمام متئداً ... وتبلغ الفرخ غير متئد
وتطرح الريش في الطريق لهم ... وتبلع اللحم غير مزدرد
أطمعك الغي لحمها فرأى ... قتلك أصحابها من الرشد
حتى إذا راموك واجتهدوا ... وساعد النصر كيد مجتهد
كادوك دهر وقعت وكم ... أفلت من كيدهم ولم تكد
فحين أخفرت وانهمكت وكا ... شفت وأسرفت غير مقتصد
صادوك غيظاً عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد
ثم شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يرعوا على أحد
ومنها:
فلم تزل للحمام مرتصداً ... حتى سقيت الحمام بالرصد
لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد
أذاقك الموت ربهن كما ... أذقت أفراخه يداً بيد
كأن حبلاً حوى بجودته ... جيدك للخنق كان من مسد
كأن عيني تراك مضطرباً ... فيه وفي فيك رغوة الزبد
وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد
فجدت بالنفس والبخيل بها ... أنت ومن لم يجد بها يجد
فما سمعنا بمثل موتك إذ ... مت ولا مثل عيشك النكد
عشت حريصاً يقوده طمع ... ومت ذا قاتل بلا قود
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا قنعت بالعدد
ألم تخف وثبة الزمان وقد ... وثبت في البرج وثبة الأسد
عاقبة الظلم لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد
أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكل الدهر أكل مصطيد
هذا بعيد من القياس وما ... أعزه في الدنو والبعد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد
كم دخلت لقمة حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد
ما كان أغناك عن تسلقك البر ... ج ولو كان جنة الخلد
قد كنت في نعمة وفي دعة ... من العزيز المهيمن الصمد
تأكل من فأر بيتنا رغداً ... وأين بالشاكرين للرغد
وكنت بددت شملهم زمناً ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد
فلم يبقوا لنا على سبد ... في جوف أبياتنا ولا لبد
وفرغوا قعرها وما تركوا ... ما علقته يد على وتد

وفتتوا الخبز في السلال فكم ... تفتت للعيال من كبد
ومزقوا من ثيابنا جدداً ... وكلنا في المصائب الجدد
وتوفي ابن العلاف رحمه الله تعالى. سنة ثمان عشرة، وقيل تسع عرة وثلاثمائة. قلت: وأناشيد التعجب ممن يزعم أن هذه القصيدة رثى بها غير هر.
الحسن بن محمد: بن أحمد بن نجا الإربلي الرافضي الفيلسوف. عز الدين الضرير. كان بارعاً في الأدب والعربية. رأساً في علوم الأوائل. وكان منقطعاً في منزله بدمشق. يقرئ المسلمين وأهل الكتاب والفلاسفة. وله حرمة وافرة. وكان يهين الرؤساء وأولادهم بالقول. وكان مجرماً تارك الصلاة، يبدوا منه ما يشعر بانحلاله. وكان يصرح بتفضيل علي ري الله عنه، على أبي بكر رضي الله عنه. وكان حسن المناظرة والجدال. له نظم، وهو خبيث الهجو. روى عنه من شعره وأدبه الدمياطي، وابن أبي الهيجاء، وغيرهما. توفي سنة ستين وستمائة. ولما قدم القاضي شمس الدين احمد بن خلكان، ذهب إليعه فلم يحفل به، فأهمله القاضي وتركه. قال عز الدين ابن أبي الهيجاء: لازمت العز الضرير يوم موته، فقال: هذه البنية قد تحللت، وما بقي يرجى بقاؤها، وأشتهي رزاً بلبن، فعمل له وأكل منه. فلما أحس بشروع خروج الروح منه. قال: قد خرجت الروح من رجلي، ثم قال: قد وصلت إلى صدري. فلما أراد المفارقة بالكلية تلا هذه الآية " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير . " ثم قال: صدق الله العظيم، وكذب ابن سينا. ثم مات في شهر ربيع الآخر. ودفن بسفح قاسيون. ومولده بنصيبين، سنة ست وثمانين وخمسمائة. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وكان قذراً، زرى الشكل، قبيح المنظر، لا يتوقى النجاسات، ابتلى مع العمى بقروح وطلوعات. وكان ذكياً. جيد الذهن. قلت: أنشدني العلامة أثير الدين أبو حيان من لفظه، قال أنشدني الشيخ علاء الدين علي بن خطاب الباجي، قال: أنشدني لنفسه عز الدين حسن الضرير الإربلي.
لو كان لي الصبر من الأنصار ... ما كان عليه هتكت أستاري
ما ضرك يا أسمر لو بت لنا ... في دهرك ليلةً من السمار
وبالسند المذكور له:
لو ينصرني على هواه صبري ... ما كنت ألذ فيه هتك الستر
حرمت علي السمع سوى ذكرهم ... مالي سوى حديث السمر
ومن شعر العز الإربلي:
توهم واشينا بليل مزارنا ... فهم ليسعى بيننا بالتباعد
فعانقته حتى اتحدنا تلازماً ... فلما أتانا ما رأى غير واحد
قلت: لأنه امسكه إمساكة أعمى. ومن شعره:
إن أجف تكلفاً وفي لي طبعاً ... أو خنت عهوده يرعى
يبغي لي في ذاك دوام الأسر ... هذا ضرر تحسبه لي نفعاً
ومنه:
ذهبت بشاشات عهدت من الجوى ... وتغيرت أحواله وتنكرا
وسلوت حتى لو سرى من نحوكم ... طيف لما حياه طيفي في الكرى
ومنه:
قم يا نديم إلى الإبريق والقدح ... هات الثلاث وسل ما شئت واقترح
وغن إن عادرتني الكأس مطرحاً ... وأنت يا صاح صاح غير مطرح
عليك سقى ثلاث غير مازجها ... وما عليك إذاً مني ومن قدحي
إني لأفهم في الأوتار ترجمةً ... ما ليس يفهمه النساك في السبح
قلت: الرابع مضمن. ومن شعره في العماد بن أبي زهران:
تعمم بالظرف نم ظرفه ... وقام خطيباً لندمانه
وقال السلام على من زن.. ... ولا.. وقاد لإخوانه
فردوا جميعاً عليه السلام ... وكل يترجم عن شأنه
وقال يجوز التداوي بها ... وكل عليل بأشجانه
فأفتى بحل الز.. واللو.. ... فقيه الزمان ابن زهرانه
وقال فيه وكان لقبه شجاع الدين فنقل إلى عماد الدين:
شجاع الدين عمدنا ... فهلا كنت شمستا
خطيباً قمت سكراناً ... وبالزكرة عممتا

الحسين بن سليمان: بن فزارة. القاضي شهاب الدين الكفري. بفتح الكاف وسكون الفاء وبعدها راء الدمشقي الحنفي. تلا بالسبع على علم الدين القاسم. وسمع من إبن طلحة. ومن إبن عبد الدايم. وتصدر للإقراء. وطال عمره. وقرأ عليه ولده القاضي شرف الدين، وخلق من الفضلاء، ودر وأفتى وناب في الحكم. وكان ديناً خيراً صالحاً عالماً. ودرس الاطرخانية. وكان شيخ الإقراء بالمقدمية والزنجيلية. وقرأ بنفسه على ابن أبي اليسر. وكتب الطباق. واضر بأخرة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبعمائة، عن إثنين وثمانين سنة.
الحسين بن علي: بن بهجل. أبو عبد الله الضرير الباقدراني. بالباء ثانية الحروف وألف بعدها قاف ودال مهملة وراء بعدها ألف ونون نسبة. إلى باقدرا قرية من قرى بغداد من نواحي طريق خراسان. كان مقرئاً سمع الحديث من البرع أبي عبد الله الحسين بن محمد الدباس، وأبي القاسم هبة الدين بن محمد بن الحصين، وغيرهما. وروى عنهما. وكان صالحاً. وتوفي رحمه الله تعالى، في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
الحسين بن علي: بن ثابت المقرئ. صاحب المنظومة في القراآت السبع، رواها عنه أحمد بن محمد العتيقي. وكن حافظاً ذكياً ولد أعمى. وكان يحضر مجلس ابن الأنباري، ويحفظ ما يملى. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة.
الحسين بن محمد: الونى، بفتح الواو وتشديد النون الفرضي الحاسب. أبو عبد الله. كان غماماً في الفرائض، وله فيها تصانيف كثيرة مليحة جودها. وسمع الحديث من أصحاب أبي علي الصفار وغيرهم. وسمع منه أبو حكيم عبد الله بن إبراهيم الخبري. صاحب التلخيص في الحساب، والخطيب التبريزي، وغيرهما. وهو شيخ الخبري في الحساب والفرائض. وانتفع به خلق كثير. وتوفي رحمه الله تعالى، شهيداً ببغداد في فتنة البساسيري، سنة أحدى وخمسين وأربعمائة. وون قرية من عمل قهستان.
الحسين بن هداب: بن محمد بن ثابت الديري. أبو عبد الله الضرير المقرئ. ويعرف بالنوري نسبةً إلى النورية قرية على السيب من الحلة السيفية، والدير قرية من النعمانية. سكن بغداد. وكان يقرئ النحو واللغة والقراآت. وكان يحفظ عدة دواوين من شعر العرب. وكان متفنناً فقيهاً شافعياً عفيفاً صيناً كثير العبادة منعكفاً على نشر العلم وإقراء القرآن. وقرأ بالروايات. على أبي العز محمد بن الحسين بن بندار الواسطي، وأبي بكر محمد بن الحسين بن علي المزرفي. وقرأ عليه جماعة. وحدث بكتاب الوقف والابتداء، لأبي بكر بن الأنباري عن المزرفي. وتوفي رحمه الله سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
الحسين بن يوسف: بن أحمد بن يوسف بن فتوح. أبو علي الأنصاري الأندلسي البلنسي الضرير. المعروف بابن زلال بضم الزاي وتشديد اللام وبعد الألف لام أخرى. قرأ القراآت، وسمع الحديث، وأخذ الناس عنه. وكان محققاً مشاركاً في فنون عديدة. آية من آيات الله تعالى في الفطنة والذكاء والحدس. توفي رحمه الله تعالى سنة ثلال عشرة وستمائة.
حصين بن نمير: الكوفي الواسطي. كوفي الأصل ضرير. وثقة أبو زرعة. وتوفي رحمه الله في حدود التسعين والمائتين. وروى له البخاري وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
حفص بن عمر: بن عبد العزيز بن صهبان، ويقال له صهيب. الإمام أبو عمر الدوري، الأزدي، المقرئ، الضرير النحوي، نزيل سر من رأى. وشيخ المقرئين بالعراف. صدقه أبو حاتم. وصنف كتاباً في القراآت. وهو ثقة في جميع ما يرويه وتوفي رحمه الله سنة ست وأربعين ومائتين.
قرأ على الكسائي، وإسمعيل بن جعفر، ويحبى اليزيدي، وسليم، وشجاع بن أبي نصر، وأبي عمارى حمزة بن القاسم الأحول صاحب حمزة الزيات. وسمع الحروف من أبي بكر بن عياش. ويقال: إنه كان أول من جمع القراآت وألفها. وحدث عن أبي إسمعيل المؤدب، وإسمعيل بن جعفر، وإسمعيل بن عياش، وسفيان بن عيينة، وأبي معاوية الضرير، ومحمد بن مروان السدي، وعثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، ويزيد بن هارون، وعدة. حتى أنه روى عن احمد بن حنبل، وروى أحمد عنه. وطال عمره. وقصد من الآفاق. وأزدحم عليه الحذاق، لعلو سنده وسعة علمه. وحدث عنه ابن ماجة في سننه، وأبو زرعة الرازي، وحاجب بن أركين، ومحمد بن حامد والد السني، وخلق كثير. وذهب بصره آخر عمره.

الحكم بن أبي العاص: بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي، عم عثمان رضي الله عنه. كان من مسلمة الفتح. طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، فنزل الطائف، وخرج معه ابنه مروان، وقيل إن مروان ولد له بالطائف. ولم يزل الحكم بالطائف، إلى أن ولي عثمان رضي الله عنه الخلافة. فرده إلى المدينة. وتوفي آخر خلافة عثمان قبل القيام عليه بأشهر. واختلف في سبب نفيه، فقيل إنه كان يتحيل ويستخفي ويتسمع ما يسره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبار أصحابه، في مشركي قريش، وسائر الكفار والمنافقين. وكان يفشي ذلك عنه. حتى ظهر ذلك عليه. وكان يحكيه في مشيته وبعض حركاته، إلى أمور غيرها. قال ابن عبد البر: كرهت ذكرها. وكان النبي صلى اله عليه وسلم إذا مشى يتكفى وكان الحكم يحكيه، فالتفت فرآه يفعل ذلك. فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم: فكذلك فلتكن. فكان الحكم مختلجاً مرتعشاً من يومئذ. وعيره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. فقال: في عبد الرحمن بن الحكم:
إن اللعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلجاً مجنونا
يمسى خميص البطن من عمل التقى ... ويظل من عمل الخبيث بطينا
وعن عبد الله نب عمرو بن العاص. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل عليكم رجل لعين. قال عبد الله: وكنت قد تركت عمراً يلبس ثيابه، ليقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم أزل مشفقاً أن يكون أول من يدخل، فدخل الحكم بن أبي العاص. ولما أحضره عثمان رضي الله عنه إلى المدينة. وصل رحمه، وبره، وأعطاه مائة ألف درهم. وقد احتج الناس لعثمان رضي الله عنه، فقيل لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سراً: إذا صار هذا الأمر إليك فاردد عمك. وعلى الجملة فله عموم الصحبة، وهو جد عبد الملك بن مروان. وتوفي سنة إحدى وثلاثين للهجرة، بعد ما أضر بأخرة.
حماد بن زيد: بن درهم. الإمام الأزدي مولاهم، البصري الأزرق الضرير، الحافظ أحد الأعلام. قال ابن معين: ليس أحد أثبت من حماد بن زيد. وقال احمد: حماد من أئمة المسلمين، وهو أحب إلي من حماد بن سلمة. وقال ابن مهدي: لم أر أحداً قط أعلم بالسنة ولا بالحديث الذي يدخل في السنة من حماد. قال الشيخ شمس الدين الذهبي رحمه الله: من خاصته أنه لا يد لس أبداً. توفي رحمه الله يوم الجمعة تاسع شهر رمضان، سنة تسع وسبعين ومائة. وروى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
حماد بن مزيد: بن خليفة. أبو الفوارس الضرير المقرئ البغدادي. قرأ بالروايات على سعد الله بن نصر بن الدجاجي، وعلى ابن عساكر البطائحي. وسمع منهما، ومن أبي الفتح ابن البطي، وغيرهما. وقرأ عليه جماعة. وكان شيخاً صالحاً حسناً ورعاً زاهداً. له معرفة حسنة بوجوها القراآت، وطريقة مليحة في الأداء والتجويد. توفي رحمه الله تعالى في سنة ست وتسعين وخمسمائة.

حرف الخاء
خالد بن صفوان
كان قد كف بصره أخيراً.
وكان بلال بن أبي بردة بغيضاً له، فمر به موكب بلال، فسأل من هذا فقالوا بلال. فقال:
سحابة صيف عن قليل تقشع
فسمعه بلال، فقال: أجل والله! لا تقشع حتى يصيبك شؤبوب برد. ثم أمر به فضرب مائة سوط، ثم أمر بحبسه. فقال له خالد: علام تفعل بي هذا ولم أجن جناية. فقال بلال: يخبرك بذلك باب مصمت، وأقياد ثقال، وقيم يقال له حفص. ثم إن الدهر ضرب ضربانه، فنكب بلال بعد ذلك، وأحضره يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام في قيوده. وكان خالد بن صفوان جالساً عنده. فقال: أيها الأمير، إن بلالاً عدو الله ضربني وحبسني، وما فارقت جماعة، ولا خلعت يداً من طاعة. ثم التفت إلى بلال. وقال: الحمد الله الذي أذل سلطانك، وهد أركانك، وأزال جمالك، وغير حالك. فوالله كنت شديد الحجاب، مستخفاً بالشريف، مظهراً للمعصية، فقال بلال: يا خالد! إنما استطلت علي بثلاثة، الأمير عليك مقبل، وعني معرض. وأنت طليق، وأنا عان. وأنت في وطنك، وأنا غريب. فأفحمه.
الخضر بن ثروان

بن أحمد بن أبي عبد الله. الثعلبي. أبو العباس الضرير التوماثي بضم التاء
المثناة من فوق وبعد الواو الساكنة ميم وألف ثم ثاء مثلثة. كذا وجدته مقيداً، بلد من نواحي برقعيد من بلاد الجزيرة، وقدم بغداد شاباً، وتفقه بها للشافعي. وسمع الحديث، وقرأ الأدب، وكان فاضلاً. وتوفي رحمه الله تعالى ببخارى، سنة ثمانين وخمسمائة. ومن شعره:
أنت في غمرة النعيم تعوم ... لست تدري بأن ذا لا يدوم
كم رأينا من الملوك قديماً ... همدوا فلعظام منهم رميم
ما رأينا الزمان أبقى على شخ ... ص شقاءً فهل يدوم النعيم
والغنى عند أهله مستعار ... فحميد به ومنهم ذميم
وكان يحفظ المجمل، وشعر الهذليين، وأخبار الأصمعي، ورؤبة بن العجاج، وذي الرمة، وغيرهما. من المخضرمين، وأهل الجاهلية والإسلام.
خلف بن أحمد: بن عبد الله. أبو القاسم الضرير الشلحي بالشين المعجمة وبعد اللام حاء مهملة. الفقيه الحنفي. قدم بغداد، وقرأ على قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن علي الدامغاني، وغيره. حتى برع في المذهب والأصول والخلاف، وكان يدرس بمشهد أبي حنيفة رضي الله عنه. وسمع من الشريف أبي نصر الزينبي، وأبي عبد الله الدامغاني، وأبي الحسين المبارك بن أحمد الصيرفي. وحدث بالسير. وسمع منه السلفي وغيره. وتوفي رحمه اللهسنة خمس عشرة وخمسمائة.
الخليل بن علي: بن إبراهيم. الجوسقي. والجوسق المنسوب هذا إليه قرية من قرى النهروان من عمل بغداد. أبو طاهر الضرير المقرئ. سكن بغداد، وروى عن أبي الخطاب بن البطر، وأبي عبد الله المعالي. ذكره أبو سعد في شيوخه. وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
حرف الدال
داود بن أحمد
بن يحيى بن الخضر. الملهمي. أبو سليمان الضرير الداودي البغدادي. قرا
القرآن بالروايات، على أبي الفضل أحمد بن محمد بن شنيف، وأبي الحسن علي بن عساكر البطائحي. وتفقه على مذهب أهل الظاهر. وقرأ الأدب وبرع فيه. وكان مولعاً بشعر أبي العلاء المعري.
ويحفظ منه كثيراً، قال محب الدين بن النجار: كنت أراه يصلي في الجماعة، وما سمعت منه كلمةً أنقمها عليه، وكان الناس يسيئون الثناء عليه، ويرمونه بسوء العقيدة. توفي رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة وستمائة ببغداد، وقد قارب السبعين. ومن شعره:
إلى الرحمن أشكو ما الاقي ... غداة غد على هوج النياق
نشدتكم بمن زم المطايا ... أمر بكم أمر من الفراق
وهل داء أمر من التنائي ... وهل عيش ألذ من التلاقي
دبيس: الضرير المدائني. شاعر. دخل بغداد، ومدح صدورها. وقال العماد الكاتب: دبيس المدائني ضرير، بالأدب بصير، لقيته واستنشدته أشعاره، وهي في غاية الرقة، بعيد من التعسف وارتكاب المشقة. وأورد له محب الدين بن النجار:
وفي قدود الرماح السمر منعطف ... وفي خدود السريجيات توريد
تغنت البيض فاهتز القنا طرباً ... مثل اهتزازك إذ يدعو بك الجود
دعوان بن علي
بن حماد بن صدقة. الجبائي. أبو محمد الضرير المقرئ البغدادي. كان من
أعيان الأضراء، ومن فضلاء القراء، موصوفاً بالديانة، حسن الطريقة. قرأ القرآن بالروايات، على أبي طاهر أحمد بن علي بن سوار، وأبي الخطاب علي بن عبد الرحمن بن الجراح، وأبي القاسم يحيى بن أحمد السيبي، وغيرهم. وسمع من الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي، والحسين بن علي بن أحمد بن البسري، وأبي المعالي ثابت بن بندار، وأبي طاهر بن سوار. وروى عنه عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي. وختم خلقاً كثيراً كتاب الله تعالى. وتوفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. ورئ بعد موته بخمس وعشرين سنة في المنام، وعليه ثياب شديدة البياض، وعمامة بيضاء مليحة ووجهه عليه نور، فأخذ بيد الرائي ومشيا إلى صلاة الجمعة. فقال: له يا سيدي ما فعل الله بك، فقال: عرضت على الله خمسين مرة، فقال لي: إيش عملت، فقلت: قرأت القرآن وأقرأته، فقال لي: أنا أتولاك أنا أتولاك.
حرف الراء
ربيعة بن ثابت

بن لجإ بن العيزار بن لجغ الأسدي. أبو شبانه، ويقال أبو ثابت من أهل
الرقة. كان شاعراً ضريراً يلقب بالغاوي. أشخصه المهدي إليه، فمدحه بعدة قصائد، وأثابه عليها ثواباً كثيراً. وهو الذي يقول في العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس: قصيدته التي لم يسبق إليها حسناً، منها:
لو قيل للعباس يا ابن محمد ... قل لا وأنت مخلد ما قالها
ما إن أعد من المكارم خصلة ... إلا وجدتك عمها أو خالها
وإذا الملوك تسايروا في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تزل معقولة ... حتى حللت براحتيك عقالها
ولما مدحه بهذه القصيدة بعث إليه بدينارين، فقال:
مدحتك مدحة السيف المحلى ... لتجري في الكرام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت ضياعاً ... كذبت عليك فيها وافتريت
فأنت المرء ليس له وفاء ... كأني إذ مدحتك قد رثيت
فلما وقف عليها العباس، غضب وتوجه إلى الرشيد وكان عظيماً. فقال: إن ربيعة الرقي. قد هجاني. فأحضره الرشيد وهم بقتله فقال: يا أمير المؤمنين: مره بإحضار القصيدة، فأحضرها. فلما رآها استحسنها. وقال: والله، ما قال أحد في الخلفاء مثلها. فكم أثابك. قال دينارين: فغضب الرشيد على العباس، وقال يا غلام: أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم وخلعة واحمله على بغلة. وقال له بحياتي لا تذكره في شعرك، لا تعريضاً ولا تصريحاً. وكان الرشيد قد هم بأن يتزوج العباس ابنته ففتر عنه بعد ذلك.
رجب بن قحطان: بن الحسن بن قحطان. أبو المعالي الأنصاري الضرير الحنبلي البغدادي. سمع أبا الحسين أحمد بن محمد بن النقور. وحدث باليسير. وسمع منه. هزار سب بن عوض، وغيره. وكان من مجودي القراء، والمحسنين في الأداء، ذا عقل وفضل وأدب. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وخمسمائة. ومن شعره:
إنما المرء خلاص جائز ... فإذا جربته فهو شبه
وتراه راقداً في غفلة ... فهو حي فإذا مات انتبه
رسته بن أبي الأبيض: الضرير الشاعر الأصبهاني. ذكره مزة بن الحسن. وقال: كان مليح الشعر، أشبه الناس شعراً ببشار بن برد. حمل من أصفهان إلى بغداد. وأدخل على زبيدة بنت جعفر زوج الرشيد. وكان دميماً فلما رأته. قالت. تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فقال رسته: أيها السيدة. إنما المرء بأصغريه. ثم أنشدها وأخذ جائزتها. وله شعر كثير، ومنه قوله:
أيها الأخوة الذين لساني ... في قديم الزمان عنهم كليل
جئتكم للسلام حتى إذا ما ... صحت شهراً كما يصيح الذليل
قيل قد أدخل الخوان عليهم ... قلت مالي إذاً إليهم سبيل
ريحان: بن تيكان بن موسك بن علي. أبو الخير المقرئ البغدادي. قرأ بالروايات، على أبي حفص عمر بن عبد الله بن علي الحربي. وسمع منه، ومن أبي العباس أحمد بن أبي غالب بن الطلاية، وأبي القاسم سعيد بن أحمد بن الحسن بن البنا، وأبي المظفر هبة الله بن أحمد بن محمد الشبلي، وأبي الوقت عبد الأول السجزي ، وغيرهم. وكان شيخاً صالحاً ديناً فاضلاً. توفي رحمه اله تعالى سنة ست عشر وستمائة.
حرف الزاي
الزبير بن أحمد
بن سليمان بن عبد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام. الأسدي
الزبيري، البصري الفقيه الشافعي الضرير. له تصانيف في الفقه، كالكافي وغيره. وكان ثقة إماماً مقرئاً. وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وقيل سنة عشرين.
حرف السين
السائب بن فروخ
أبو العباس الأعمى. المكي. هو والد العلاء. سمع عبد اللهابن عمرو. وروى
عنه عطاء، وعمرو بن دينار، وحبيب بن أبي ثابت. وثقة أحمد. وروى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. وقال المرزباني في معجمه: هو ابن فروخ مولىً لبني جذيمة بن عدي بن الديل. كان هجاءً خبيثاً فاسقاً مبغضاً لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مائلاً إلى بني أمية، مادحاً لهم. وهو القائل لأبي الطفيل عامر بن واثلة، وكان شيعياً:
لعمرك إنني وأبا طفيل ... لمختلفان واله الشهيد
لقد ضلوا ببغض أبي تراب ... كما ضلت عن الحق اليهود

واستفرغ شعره في هجاء آل الزبير، غير مصعب لأنه كان يحسن إليه. وقال صاحب الأغاني: مولى لبني ليث وقيل بل الديل. حكى مسلم بن الوليد قال: سمعت يزيد بن مزيد يقول، سمعت هرون الرشيد يقول، سمعت المهدي يقول، سمعت المنصور يقول. خرجت أريد الشم في أيام مروان بن محمد. فصحبني في الطريق رجل ضرير. فسألته عن مقصده. فقال: إني أريد مروان بشعر امتدحه به. فاستنشدته إياه. فأنشدني.
ليت شعري أفاح رائحة المسك ... وما إن إخال بالخيف أنسى
حين غابت بنو أمية عنه ... والبهاليل من بني عبد شمس
خطباء على المنابر فرسا ... ن عليها وقالة غير خرس
لا يعابون صامتين وإن قا ... لوا أصابوا ولم يقولوا بلبس
بحلوم إذا الحلوم استخفت ... ووجوه مثل الدنانير ملس
قال فوالله! ما فرغ من إنشاده حتى توهمت أن العمى قد أدركني، وافترقنا. فلما أفضت إلى الخلافة خرجت حاجاً. فنزلت أمشي بجبلي زرود فبصرت بالضرير ففرقت من كان مع. ثم دنوت منه. فقلت له: أتعرفني؟ فقال: لا. قلت، أنا رفيقك وأنت تريد الشام. أيام مروان. فقال أوه:
أمست نساء بني أمية منهم ... وبناتهم بمضيعة أيتام
نامت جدودهم واسقط نجمهم ... والنجم يسقط والجدود تنام
خلت المنابر والأسرة منهم ... فعليهم حتى الممات سلام
قلت: فما كان مروان أعطاك، بابي أنت؟ قال: أغناني أن أسأل أحداً بعده. فهممت بقتله ثم ذكرت حق الاسترسال والحبة، فأمسكت عنه. وغاب عن عياني. فبدا لي فأمرت بطلبه، فكأنما البيداء بادت به. وتوفي رحمه الله تعالى بعد ست وثلاثين ومائة.

سعد بن أبي وقاص
مالك بن أهيب نب عبد مناف بن زهرة بن كلاب.
القرشي الزهري أبو إسحاق. سابع سبعة في إسلامه. أسلم بعد ستة وعمره تسع عشرة سنة. وقال: أسلمت قبل أن تفرض الصلاة. وشهد بدراً والحديبية وسائر المشاهد. وهو أحد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب فيهم الشورى، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو راض عنهم. وأحد العشرة المقطوع لهم بالجنة، وكان مجاب الدعوة تخاف دعوته وترجى. مشوراً بذلك لأن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال فيه: اللهم سدد سهمه وأجب دعوته. دعا على الكاذب عليه من أهل الكوفة بقوله: إنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية. فقال سعد اللهم! إن كان كاذباً فاعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن. قال عبد الملك بن عمير: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك. فإذا سئل كيف أنت. يقول كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، وفي رواية: فما مات حتى عمي. وكان يلتمس الجدارات. وافتقر حتى سأل الناس. وأدرك فتنة المختار بن أبي عبيد فقتل فيها.
ومن ذلك: أن سعداً أصابه في حرب القادسية جرح فلم يشهد فتحها. فقال رجل من بجيلة:
ألم تر أن الله أظهر دينه ... وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فقال سعد: اللهم! اكفنا يده ولسانه، فجاءه سهم غرب فأصابه فحرس، ويبست يده جميعاً.
ومن ذلك: دعاؤه على الذي سمعه يسب علياً وطلحة والزبير. فنهاه فلم ينته، وقال يتهددني كأنما يتهددني نبي، فقال سعد اللهمّ إن كنت تعلم أنه سب أقواماً قد سلف لهم منك سابقة وأسخطك سبه إياهم. فأره اليوم آية تكون آية للعالمين. فخرجت ناقة نادة فحبطته حتى مات.
ومن ذلك: دعاؤه على امرأة كانت تطلع عليه، فنهاها فلم تنته. فقال: شاه وجهك. فعاد وجهها في فقاها.
وعن سعيد بن المسيب. قال خرجت جارية لسعد فكشفتها الريح. فشد عليها عمر بالدرة وجاء سعد ليمنعه فتناوله بالدرة. فذهب سعد يدعو على عمر. فناوله الدرة وقال: اقتص. فعفا عن عمر.

وسعد رضي الله عنه. أول من رمى بسهم في سبيل الله. واسر يوم بدر اسيرين. وثبت يوم أحد. وكان من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم. ويقال له فارس الإسلام. وكان مقدم الجيوش في فتح العراق. ولاه عمر رضي الله عنه قتال فارس، فتح مدائن كسرى. وهو صاحب وقعة القادسية. وكوف الكوفة ونفى الأعاجم. وولى الكوفة لعمر وعثمان. واعتزل اختلاف الناس بعد قتل عثمان. وأمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس شيئاً، حتى تجتمع الأمة على إمام. ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقال له: لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون. فكان كما قال صلى اله عليه وسلم انتفع به المسلمون، وضربه المشركون. وعن الزهري قال: قتل سعد يوم أحد بسهم رمى به فرموا به فأخذه سعد الثانية فقتل فرموا به فرمى به سعد الثالثة فقتل. فعجب الناس من فعله. وكان قد اعتزل آخر عمره في قصر بناه بطرف حمراء الأسد، واتخذ بها أرضاً فمات بها وحمل إلى المدينة، فدفن بها سنة خمس وخمسين للهجرة، على الأصح. وروى عنه ابن عمر، وابن عباس، وجابر بن سمرة، وعائشة، وبنوه عامر ومصعب ومحمد وإبراهيم وعمر، وعائشة ابنته، وغيرهم، وخلف أربعين ولداً ذكراً وأنثى. وروى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

سعد بن المبارك
أبو عثمان. الضرير النحوي. مولى عاملة، مولاة المهدي، امرأة المعلي بن
طريف، الذي ينسب إليه نهر المعلي ببغداد. كان أحد رواة العلم والأدب. كوفي المذهب. روى عن أبي عبيدة. وله من المصنفات: كتاب خلق الإنسان، كتاب الوحوش، كتاب الأرض والمياه والبحار والجبال، كتاب الأمثال، كتاب النقائض.
سعيد بن أحمد
بن سليمان أبو الحسن الضرير النهرفضلي ونهر فضل اسفل واسط. قدم بغداد،
وقرأ بها القراآت، وتفقه لمالك، وسمع من أبي الخطاب بن البطر، والحسين بن أحمد بن طلحة، وأحمد بن الحسن بن خيرون، وغيرهم. وروى عنه أبو سعد بن السمعاني، والمبارك بن كامل الخفاف. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وخمسمائة.
سعيد بن أحمد
بن مكي النيلي المؤدب الشيعي. له شعر، وأكثره في مدائح آل البيت رضي الله
عنهم. قال العماد الكاتب: كان مغالياً في التشيع، حالياً بالتورع، عالماً في الأدب، معلماً في المكتب، مقدماً في التعصب، ثم أسن حتى جاوز حد الهرم، وذهب بصره وعاد وجوده شبيه العدم، وأناف على التسعين، وآخر عهدي به في درب صالح ببغداد، سنة اثنتين وستين يعني وخمسمائة: ومن شعره.
قمر أقام قيامتي بقوامه ... لم لا يجود لمهجتي بذمامه
ملكته كبدي فأتلف مهجتي ... بجمال بهجته وحسن كلامه
وبمبسم عذب كأن رضابه ... شهد مذاب في عبير مدامه
وبناظر غنج وطرف أحور ... يصمى القلوب إذا رنا بسهامه
وكأن خط عذاره في حسنه ... شمس تجلت وهي تحت لثامه
فالصبح يسفر من ضياء جبينه ... والليل يقبل من أثيث ظلامه
سعيد بن عبد الله
الحمصي الضرير. المعروف بسعاده. قال العماد الكاتب: كان مملو كالبعض
الدمشقيين. سافر إلى مصر أول دولة الناصر، ودعا بوفر وافر، وغنىً ظاهر، كنت في دار العدل جالساً بين يدي الملك الناصر بدمشق إذ حضر سعاده، فوقف. وأنشد قصيدة في عاشر شعبان سنة إحدى وسبعين وخمسمائة:
حيتك أعطاف القدود ببابها ... لما انثنت تيهاً على كثبانها
وبما وقى العناب من تفاحها ... وبما حماه اللاذ من رمانها
من كل رانية بمقلة جؤذر ... يبدو لنا هاروت من أجفانها
وافتك حاملة الهلال بعدة ... جعلت لواحظها مكان سنانها
حورية تسقيك جنة ثغرها ... من كوثر أجرته فوق جمانها
نزلت بواديها منازل جلق ... فاستوطنت بالقيح من أوطانها
فالقصر فالشرفين فالمرج الذي ... تحدو محاسنها على استحسانها
سعيد بن المبارك

بن علي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن نصر بن عاصم بن عباد ابن عاصم،
وقيل عصام. ينتهي إلى ابن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري. أبو محمد النحوي المعروف بابن الدهان. كان من أعيان النحاة. المشهورين بالفضل ومعرفة العربية. توفي رحمه الله بالموصل، سنة تسع وستين وخمسمائة. ومولده سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، بنهر طابق. أقام بالموصل. أربعاً وعشرين سنة وثلاثة اشهر. وله تصانيف منها: كتاب شرح الإيضاح، في أربعين مجلدة: كتاب شرح المع، سماه الغرة: كتاب الدروس، في النحو: كتاب الرياضة، في النكت النحوية: كتاب الفصول، في العربية: كتاب الدروس، في العروض: المختصر في علم القوافي: كتاب الضاد والظاء: تفسير القرآن، أربع مجلدات: وكتاب الأضداد: والعقود، في المقصور والممدود: والنكت والإشارات، على السنة الحيوانات: وكتاب إزالة المراء، في الغين والراء: كتاب فيه شرح بيت واحد من شعر ابن رزيك وزير مصر، عشرون كراساً: تفسير قل هو الله أحد، مجلد: تفسير الفاتحة، مجلد: وله رسائل: وديوان شعر.
وسمع الحديث من أبي القاسم هبة الله بن الحصين، وأبي غالب أحمد بن البناء، وغيرهما. وخرج من بغداد إلى دمشق، فاجتاز على الموصل وبها وزيرها الجواد، فارتبطه وصدره. وغرقت كتبه في بغداد، وهو غائب فحملت إليه فبخرها بالأذن ليقطع الرائحة الردئية عنها إلى أن بخرها بنحو ثلاثين رطلاً من اللاذن، فطلع ذلك إلى رأسه وعينيه، فأحدث له العمى. وقال ياقوت: كان مع سعة علمه سقيم الخط. كثير الغلط. وهذا عجيب منه. قال الحافظ السمعاني: سمعت الحافظ ابن عساكر الدمشقي يقول: سمعت سعيد بن المبارك بن الدهان، يقول: رأيت في النوم شخصاً أعرفه وهو ينشد شخصاً كأنه حبيب له:
أيها الماطل ديني أملي وتماطل
على القلب فإني ... قانع منك بباطل
قال ابن السمعاني: فرأيت ابن الدهان وعرضت عليه الحكاية، فقال: ما أعرفها. ولعل ابن الدهان نسي فإن ابن عساكر من أوثق الرواة ثم إن ابن الدهان استملى الحكاية مني. وقال أخبرني ابن السمعاني عن ابن عساكر عني. فروى عن شخصين عن نفسه. ومن شعره:
لا تحسبن إن بالكتب مثلنا ستصير
فلدجاجة ريش ... لكنها ما تطير
سعيد بن يربوع
بن عنكثة بن عامر بن مخزوم. القرشي المخزومي. أبو عبد الرحمن، ويقال أبو
هو، ويقال أبو يربوع، ويقال أبو مرة. وكان من مسلمة الفتح، وقيل اسلم قبل الفتح. شهد حنيناً. وكان يجدد أنصاب الحرم. عاش مائة وعشرين سنة، وقيل أربعاً وعشرين سنة. وتوفي رضي الله عنه سنة أربع وخمسين الهجرة. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما أكبر أنا أو أنت؟ فقال له: أنت أكبر مني وخير. وأنا أسن. وهو أحد مشيخة قريش. وقيل: كان من المؤلفة قلوبهم. أعطى من غنائم حنين بعيراً. وكان اسمه الصرم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت سعيد. وكان من أقران حكيم بن حزام. وروى عنه ابنه عبد الرحمن، وروى له أبو داود. وكان له بالمدينة دار بالبلاط. واضر بأخرة.
سلامة بن عبد الباقي: بن سلامة. اللامة أبو الخير الأنباري النحوي الضرير المقرئ. نزيل مصر. تصدر بجامع عمرو بن العاص. وله تصانيف منها: شرح المقامات الحريرية. وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسعين وخمسمائة.
سليمان بن مسلم: بن الوليد. كان سليمان المذكور ضريراً. وزعم الجاحظ! أنه من العمى الشعراء في كتابه الذي ذكر فيه ذوي العاهات. وسليمان هذا هو ابن مسلم صريع الغواني، المشهور. وكان سليمان المذكور كثير الإلمام ببشار والأخذ منه. وكان متهماً في دينه. وهو الذي يقول:
إن في ذا الجسم معتبراً ... لطلوب العلم ملتمسه
هيكل للروح ينطقه ... عرفه والصوت من نفسه
رب مغروس ياش به ... عدمته كف مغترسه
وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه
وهو القائل أيضاً وتروى لأخيه خارجه
تبارك الله ما أسخى بني مطر ... هم كما قيل في بعض الأقاويل
بيض المطابخ لا تشكو ولائدهم ... غسل القدور ولا غسل المناديل

سماك بن حرب: بن أوس بن خالد الذهلي، البكري الكوفي. أحد أئمة الحديث وهو أخو محمد وإبراهيم. روى عن جابر بن سمرة، والنعمان بن بشير، وأنس بن مالك، ورأى المغيرة بن شعبة. وروى عن سعيد بن جبير، ومصعب بن سعد، وإبراهيم النخعي. وثعلبة الليثي، وله صحبة. وعبد الله بن عميرة، وعلقمة بن وائل. ذكر إنه أدرك ثمانين من الصحابة. قال: كان قد ذهب بصري، فدعوت الله فرده علي. قال حماد بن سلمة سمعته يقول: رأيت الخليل إبراهيم عليه السلام في النوم، فقلت: ذهب بصري. فقال: انزل في الفرات فاغمس رأسك وافتح عينيك فيه، فإن الله يرد بصرك. قال: ففعلت ذلك فأبصرت. قال العجلي: جائز الحديث. وقال ابن معين. ثقة: أسند أحاديث لم يسندها غيره. وقال ابن خراش: في حديثه لين. وقال ابن المبارك: ضعيف الحديث. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين ومائة. وروى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وروى له البخاري في التاريخ.
سوتاي: بضم السين المهلمة وسكون الواو وبعدها تاء ثالثة الحروف بعدها ألف ممدودة وياء آخر الحروف. هو النوين الحاكم على ديار بكر بمجموعها. نزل بتوماثة بعد وفاة النوين إيك باصميش واستمر حاكماً من أوائل دولة أولجا يتوسطان إلى أواخر دولة إبنه السلطان بوسعيد. وتوفي في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. في مدينة بلد، وهي مدينة خراب بالقرب من الموصل كان ينزلها في مشتاه، كل سنة. ثم حمل من بلد إلى الموصل ودفن بتربة بناها، داخل الموصل على دجلة. وقد عمر حتى تجاوز المائة. لأنه حكى عن نفسه أنه حضر واقعة بغداد مع هولاكو وكان بالغاً. ورأى أربع بطون من ولده وولد ولده وولد ولد ولده وأولادهم، حتى أنهم أنافوا على الأربعين ذكوراً وإناثاً. واكبر ولده بار نباي ثم طغاي. وكان أقطجياً لابغاً والقطجي بمنزلة أمير آخور. وكان رئيساً في نفسع ذا عزم وحزم وتدبير وحسن سياسة. تحبه الرعية ويدعون له. ولم يزل عند ملوك المغل. أضر قبل موته بسنوات. ومرض مدة ثلاثة اشهر وتوفي. ولما عدى قرا سنقر والأفرم وبهادر الزردكاش الفرات وصاروا في ملكة المغل، نزلوا عند سوتاي. فأضافهم، وأكرمهم وضرب لهم خاماً، كان قد كسنه من المسلمين في واقعة غازان. فنظروا إلى الخام وهم تحته فوجدوا فيه ألقاب السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون وكانوا قد هربوا منه. فقال بعض المماليك الأفرم لهم: إذا كان الله جعل هذا الرجل فوقكم، فما عسى تصنعون أنتم في بلاد أعدائه واسمه على رؤوسكم، وقال الأفرم: صدق لكم.
سوسنه: الموسوس من عقلاء المجانين. قال أبو هفان الشاعر: مررت بسوسنة الموسوس بسر من رأى، قبل أن يكف بصره. فقلت له: يا أبا الغصن! أجز لي هذا البيت:
ما ترى غير عذله في سكون ... وطمأنينة وفي حسن مس
فغن انقاد للملامة والعذ ... ل وإلا فحقه ألف فلس
وقال به أيضاً، وقد كف بصره: أجز لي هذا البيت:
يا أحسن الناس وجهاً ... وأعذب الخلق لفظاً
فما لبث أن قال:
حمى العمى حظ عيني ... فاجعل لقلبي حظاً
فقد جعلت بناني ... عيناً وقرصي لحظاً
فأذن خدك مني ... ولا تكن بي فظاً
قال: فعجبت من نظمه وصحة صفته في سرعة وأصابة معنى لما قصد له.

سويد بن سعيد: ين سهل بن شهريار. أبو محمد الحد ثاني. قال أبو بكر الخطيب: سكن الحديثة، حديثة النورة على فراسخ من الأنبار، فنسب إليها. سمع مالك بن أنس وسفيان بن عيينة، وإبراهيم بن سعد، وسعد بن ميسرة، وعلي بن مسهر، وشريك بن عبد الله القاضي، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وغيرهم. وروى عنه يعقوب ابن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله مطين، ومسلم بن الحجاج، في صحيحه وأبو الأزهر أحمد ابن الأزهر، وإبراهيم بنهانئ النيسابوري، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازيان. وقال البخاري: فيه نظر. كان قد عمى فتلقن ما ليس من حديثه. وقال سعيد بن عمرو البرذعي: رأيت أبا زرعة يسيء القول فيه. وقال: رأيت فيه شيئاً لم يعجبني. قلت: ما هو؟ قال: لما قدمت من مصر مررت به فأقمت عنده. فقلت له: إن عندي أحاديث ابن وهب عن ضمام ليست عندك. فقال: ذاكرني بها. فأخرجت الكتب أذاكره. وكنت كلما ذاكرته بشيء قال حدثنا به ضمام. وكان يدلس حديث بن عثمان، وحديث ابن مكرك، وحديث عبد الله بن عمرو زرغبا: تزدد حباً. فقلت أبو محمد لم يسمع هذه الثلاثى أحاديث من هؤلاء. فغضب. فقلت لأبي زرعة: فأيش حاله؟ فقال: أما كتبه صحاح. وكنت أتبع أصوله فأكتب منها. فاما إذا حدث من حفظه، فلا. وقال أبو حاتم: صدوق كثير التدليس. قال ابن معين: حلال الدم.
وقال الشيخ شمس الدين الذهبي: هذا الرجل، ممن لم يتورع ابن معين في تضعيفه. وتوفي سنة أربعين ومائتين عن مائة سنة. وكان ضريراً.

حرف الشين
شافع بن علي
بن عباس بن اسمعيل بن عساكر. الكناني العسقلاني، ثم المصري. سبط القاضي
رشيد الدين بن عبد الظاهر. الإمام الكاتب ناصر الدين. ولد سنة تسع وأربعين وستمائة. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبعمائة. باشر الإنشاء بمصر زماناً إلى أن أضر لأنه أصابه سهم في نوبة حمص الكبرى، سنة ثمانين وستمائة في صدغه، فعمى بعد ذلك. فلازم بيته إلى أن توفي رحمه الله تعالى. روى عن الشيخ جمال الدين بن مالك وغيره. وروى عنه الشيخ أثير الدين أبو حيان، والشيخ علم الدين البرزالي وجمال الدين إبراهيم الغانمي وغيره من الطلبة. وله النظم الكثير والنثر الكبير، وكتب المنسوب. وكان جماعةً للكتب. اخبرني الشهاب البوتيجي الكتبي المعروف بزحل. قال: خلف ثمانية عشر خزانة كتباً نفائس أدبية. وكانت زوجته تعرف ثمن كل كتاب. وبقيت تبيع منها إلى أن خرجت أنا من القاهرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة. وأخبرني المذكور أيضاً قال كا إذا لمس الكتاب وجسه. قال: ها الكتاب الفلاني ملكته في الوقت الفلاني. وكان إذا أراد أي مجلد كان، قام إلى الخزانة التي هو فيها وتناوله منها، كأنه الآن وضعه فيها. كتب إليه السراج الوراق يستشفع به عند فتح الدين بن عبد الظاهر:
أيا ناصر الدين اتنصر لي فطالما ... ظفرت بنصر منك بالجاه والمال
وكن شافعاً فالله سماك شافعاً ... وطابقت أسماءً بأحسن أفعال
وقدرك لم يجهله عند محمد ... لأن ابن عباس من الصحب والآل
اجتمعت به في داره غير مرة. وكتبت إليه وأنا بالقاهرة سنة ثمان وعرين وسبعمائة. استدعاء أثبته بكماله في ترجمته في التاريخ الكبير. وكتب لي الجواب إجازة، وهو أيضاً نظم ونثر، وأثبته هناك أيضاً. وكان من جملة النظم في الاستدعاء:
لا زال في هذا الورى فضله ... يسير سير القمر الطالع
حتى يقول الناس إذ أجمعوا ... ما مالك الإنشاء سوى شافع
وكان من جملة الجواب له:
وحسبي بع غرساً تسامى أصالةً ... إلى أن سما السماء علاؤها
حوى من بديع النظم والنثر ما رقى ... إلى درجات لا يرام انتهاؤها

وذكر لي تصانيفه التي أجازني روايتها عنه. وهي: ديوان شعره. مناظرة القبح بن خاقان المسى: شنف الآذان، في مماثلة تراجم قلائد العقيان. وسيرة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون. وسيرة السلطان الملك المنصور قلاون. وسيرة الملك الأشرف خليل. ونظم الجواهر، في سيرة الملك الناصر، نظم. وما شرح الصدور، من أخبار عكا وصور. والإعراب، عما اشتمل عليه البناء الملكي الناصري بسرياقوس من الإعراب. وإفاضة أبهى الحلل، على جامع قلعة الجبل. وقلائد الفرائد وفرائد القلائد، فيما للشعراء العصريين من الأماجد. ومناظرة ابن زيدون في رسالته. وقراضات الذهب المصرية في تقريظ الحماسة البصرية. والمقامات الناصرية. ومماثلة سائر ما حل من الشعر وتضمن الآية الشريفة والأحاديث النبوية من المثل السائر. والمساعي المرضية، في الغزوة الحمصية. وما ظهر من الدلائل، في الحوادث والزلازل. والمناقب السرية، المنتزعة من السيرة الظاهرية. والدر المنتظم، في مفاخرة السيف والقلم. والأحكام العادلة، فيما جرى من المنظوم والمنثور من المفاضلة. والرأي الصائب، فيما لا بد منه للكاتب. والإشعار، بما للمتنبي من الأشعار. وتجربة الخاطر، في مماثلة فصوص الفصول، وعقود العقول مما كتب به القاضي الفاضل في معنى السعيد بن سنا الملك. وعدة الكاتب، وعمدة المخاطب. وشوارد المصائد، فيما لحل الشعر من الفوائد. ومخالفة المرسوم، في الوشي المرقوم. وأنشدني لنفسه إجازة:
قال لي من رأى صباح مشيبي ... عن شمال من لمتي ويمين
أي شيء هذا فقلت مجيباً ... ليل شك محاه صبح يقين
وأنشدني له ايضاً:
تعجبت من أمر القرافة إذ غدت ... على وحشة الموتى لها قلبنا يصبو
فألفيتها مأوى الأحبة كلهم ... ومستوطن الأحباب يصبو له القلب
وله وقد احترقت خزائن الكتب في أيام الأشرف:
لا تحسبوا كتب الخزانة عن سدىً ... هذا الذي قد تم من إحراقها
لما تشتت شملها وتفرقت ... أسفت فتلك النار من زفراتها
وأنشدني له:
شكا لي صديق حب سوداء أغريت ... بمص لسان لا تمل له وردا
فقلت له دعها تلازم مصه ... فإن لسان الثور يصلح للسودا
وأنشدني له في شبابة:
سلبتنا شبابة بهواها ... كلما ينسب اللبيب إليه
كيف لا والمحسن القول فيها ... آخذ أمره بكلتا يديه
وأنشدني له أيضاً:
لقد فاز بالأموال قوم تحكموا ... ودان لهم مأمورها وأميرها
نقاسمهم أكياسها شر قسمة ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
وأنشدني له في ممسحة القلم:
ومسحة تناهى الحسن فيها ... فأضحت في الملاحة لا تبارى
ولا نكر على القلم الموافي ... إذا في ضمنها خلع العذارا
وأنشدني له:
ومن عجب أن السيوف لديهم ... تكلم من تاتمه وهي صامته
وأعجب من ذا أنها أكفهم ... تحيد عن الكف المدى وهي ثابته
وأنشدني لنفسه في سجادة خضراء:
عجبوا إذا رأوا بديع إخضرار ... ضمن سجادة بظل مديد
ثم قالوا من أي ماء تروى ... قلت ماء الوجوه عند السجود
وأنشدني له أيضاً:
قل لمن أطرا أباد بألف ... بمديح زاد في عرره
كم رأينا من أبي دلف ... خبره يربى على خبره
ثم ولى بالممات وما ... ولتالدنيا على أثره
وأنشدني له في البند الأحمر:
وبي قامة كالغصن حين تمايلت ... وكالرمح في طعن يقدوفي قد
جرى من دمي بحر بسهم فراقه ... فخضب منه ما على الخضر من بند
وكان ناصر الدين شافع، قد وقف على شيء من خط بان الوحيد فكتب إليه:
أرانا يراع ابن الوحيد بدائعاً ... تشوق بما قد أنهجبته من الطرق
بها فات كل الناس فحبذا ... يمين له قد أحرزت قصب السبق
فقال شرف الدين بن الوحيد:
يا شافعاً شفع العليا بحكمته ... فساد من راح ذا علم وذا حسب
بانت زيادة خطى بالسماع له ... وكان يحكيه في الأوضاع والنسب

فجاءني منه مدح صيغ من ذهب ... مرصعاً بل أتى أبهى من الذهب
فكدت أنشد لولا نور باطنه ... أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
فلما بغلت هذه الأبيات ناصر الدين شافعاً. قال:
نعم نظرت ولكن لم أجد أدباً ... يا من عدا واحداً في قلة الأدب
جاريت مدحي وتقر يظى بمعيرة ... والعيب في الرأس دون العيب في الذنب
وزدت في الفخر حتى قلت منتسباً ... بخطك اليابس المرئي كالحطب
بانت زيادة خطة بالسماع له ... وكان يحكيه في الأوضاع والنسب
كذبت والله لن أرضاه في عمري ... يا بان الوحيد وكم صنفت من كذب
جازيت درى وقد نظمته كلماً ... يروق سمع الورى دراً بمخشللب
وما فهمت مرادي في المديح ولو ... فهمته لم توجهه إلى الأدب
سأتبع القاف إذ جاوبت مفتخراً ... بالراء يا غافلاً عن سورة الغضب
خالفت وزني عجزاً والروى معاً ... وذاك أقبح ما يروى عن العرب

شعيب بن أبي طاهر
بن كليب بن مقبل. أبو الغيث البصري الضرير. سكن بغداد وتقه للشافعي، علي
أبي طالب الكرخي، وأبي القاسم الفراي صاحبي أبي الحسن ابن الخل. وتولى الإعادة بالمدرسة الثقتية ببا الأزج. وكانت له معرفة حسنة بالأدب. وله شعر وتوسل. وكان متديناً حسن الطريقة محباً للخمول. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان عشرة وستمائة. ومن شعره:
لعمري لئن اقصت يد الدهر قربنا ... وجذب بكين النوى منه أقرانا
فإني على العهد الذي كان بيننا ... مقيم إلى أن يقدر الله ملقانا
شبيب
شيث بن إبراهيم
بن محمد بن حيدرة. المعروف بابن الحاج القناوي، بالقاف والنون المكي
النحوي اللغوي العروضي. أبو الحسن. نقلت من خط شهاب الدين القوصي من معجمه: أنشدنا الغمام العالم ضياء الدين أبو الحسن شيث بن إبراهيم بمحروسه قنا في شهر ربيع الأول سنة تسعين وخمسمائة قصيدته اللغوية، ووسمها باللؤلؤة المكنونة واليتيمة المصونة، في الأسماء المذكرة. وهي:
وضعت الشعر من يفهم ... يخبرني بما يعلم
يخبرني بألفاظ ... من الإعراب ما ألد هثم
وما التقليد والتعتيد ... والتهنيد والأهتم
وما النهاد والاهذام ... والأسمال والعنهم
وما الألغاد والأحراد ... والاقراد والمكدم
وما ألد فراس والمرداس ... والقداس والأعلم
وما الادعاص والأد ... راص والقراص والأثرم
وما اليعيضيد واليعقيد ... والتدمين والأرقم
وهي مذكورة في ترجمته في تاريخي الكبير. وتوفي ضياء الدين المذكور سنة تسع وتسعين وخمسمائة، بعد ما اضر. وله تصانيف في العربية: منها كتاب الإشارة، في تسهيل العبارة: والمعتصر من المختصر: وتهذيب ذهن الواعي. في إصلاح الرعية والراعي، صنفه لملك الناصر صلاح الدين، قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: ابن الحاج الفقيه المالكي النحوي القفطي كان قيماً بالعربية. وله فيها تصانيف: منها حز الغلاصم. وإفحام المخاصم، ذكره أبو الحسن على بن يوسف الشيباني الصاحب القفطي في كتابه إنباه الرواة. على أنباه النحاة وذكر أن له في الفقه تعاليق ومسائل. وله كلام في الرقائق. وكان حسن العبارة ولم يره أحد ضاحكاً ولا هازلاً. وكان يسير في أفعاله وأقواله سيرة السلف وملوك مصر يعظمونه ويجلون قدره ويرفعون ذكره على كثرة طعنه عليهم وعدم مبالاته بهم. وكان القاضي الفاضل أيضاً يجله على حديثه، وله إليه رسائل ومكاتبات. سمع من الحافظ السلفي، وأبي القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الجباب، وحدث. وسمع منه جماعة. منهم الشيخ الحسن بن عبد الرحيم، ومن شعره:
إجهد لنفسك إن الحرص متعبة ... للقلب والجسم والإيمان يرفعه
فإن رزقك مقسوم سترزقه ... وكل خلق تراه ليس يدفعه
فإن شككت بأن اله يقسمه ... فإن ذلك باب الكفر يقرعه

وقال بان سعيد المغربي: نقلت من خط بدر الدين بن أبي جرادة بن سيناء رحل إلى شار واشتغل بتعليم أولاده. وأنشد قوله:
هي الدنيا إذا اكتملت ... وطاب نعيمها قتلت
فلا تفرح بلذتها ... فبالذات قد شغلت
وكن منها على حذر ... وخف منها إذا اعتدلت
وقال سمعت إليها زهيراً يقول: سمعت ابن الغمر الأديب يقول، رأيت في النوم الفقيه شيئاً يقول، شعراً وهو:
ابئكم يا أهل ودي بان لي ... ثمانين عاماً أردفت بثمان
ولم يبق إلا هفوة أو صبابة ... فجد يا إلهي منك لي بأمان
قال فأصحبت وجئت إلى الفقيه شيث وقصصت عليه الرؤيا، فقال: لي اليوم ثمانية وثمانون سنة وقد نعيت لي نفسي. ولهم بقفط حارة تعرف بحارة ابن الحاج.

حرف الصاد
صاروجا
الأمير صارم الدين المظفري. كان أميراً بمصر. ولما أعطى السلطان الملك الناصر الأمير سيف الدين تنكز إمرة عشرة قبل توجهه إلى الكرك جعل الأمير صارم الدين أغاً له ليتحدث له في إقطاعه. فأحسن إلى تنكز وخدمه. ثم إن السلطان لما حضر من الكرك اعتقله وأفرج عنه بعد مدة تقارب العشر سنين. وجهزه أميراً إلى صفد. فأقام بها تقرير سنتين، ونقله الأمير سيف الدين تنكز إلى جملة الأمراء بدمشق وحظي عنده ورعى له عهد خدمته وكان إذا خاطبه قال له: يا صارم. ولم يزل مقيماً بدمشق إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز بدمشق، في ذي الحجة سنة أربعين وسبعمائة. وحضر بعد ذلك الأمير سيف الدين بشتاك فأمسك الأمير صارم الدين صارواجا اعتقل في جملة من أمسك. بسبب تنكز رحمه الله تعالى. ثم إن المرسوم ورد من مصر بتكحيله. فدافع عنه الأمير علاء الدين ألطنبغا الانئب بويمات يسيرة. ثم إنه خاف وصمم وكحله فعمى بأمره. وفي صبحة ذلك اليوم ورد المرسوم بالعفو عنه. ثم إنه رتب له ما يلكفيه وجهزه إلى القدس فأقام به مدة ثم عاد إلى دمشق وأقام بها إلى أخريات سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وتوفي رحمه الله تعالى.
صالح بن عبد القدوس
البصري. قال أبو أحمد بن عدي: كان صالح بن عبد القدوس ممن يعظ الناس في
البصرة، ويقص عليهم. وله كلام حسن في الحكمة، فإما في الحديث فليس بشيء. كما قال ابن معين. ولا أعرف له من الحديث إلا الشيء اليسير. قال المرزباني: كان حكيم الشعر زنديقاً متكلماً، يقدمه أصحابه في الجدال عن مذهبهم. وقتله المهدي. وعلى الزندقة شيخاً كبيراً. استقدمه من دمشق. وهو القائل:
ما تبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
ومن شعره:
يا صاح لو كرهت كفى مصاحبتي ... لقلت إذ كرهت كفى لها بيني
لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي ... ولا أبالي حبيباً لا يباليني
ومنه:
قد يحقر المرؤ ما يهوى فيركبه ... حتى يكون إلى توريطه سببا
ومنه:
أنست بوحدتي فلزمت بيتي ... فتم العز لي ونما السرور
وأدبني الزمان فليت أني ... هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بقائل ما دمت يوماً ... أسار الجند أم قدم الأمير
ومنه له أيضاً
لا يعجبنك من يصون ثيابه ... حذر الغبار وعرضه مبلول
ولربما افتقر الفتى فرايته ... دنس الثياب وعرضه مغسول
وضربه المهدي بيده بالسيف فجعله نصفين وعلق ببغداد، وقال أحمد نب عبد الرحمن بن المغير. رأيت ابن عبد القدوس في النوم ضاحكاً، فقلت له: ما فعل الله بك وكيف نجوت مما كنت ترمي به، فقال: إني وردت على رب ليس تخفى عليه خافية وإنه استقبلني برحمته، وقال: قد علمت لراءتك مما كنت تقذف به. وكان قد أضر آخر عمره وشعره في أول الكتاب في أشعار العميان يدل على ذلك.
صخر بن حرب

بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أبو سفيان، وأبو حنظلة القرشي
الأموي. والد معاوية رضي الله عنهما. أسلم يوم الفتح. روى عنه ابن عباس وابنه معاوية وشهد اليرموك تحت راية ابنه يزيد، وكان القاص يومئذ. وقدم الشام غير مرة تاجراً أو اجتمع بقيصر ببيت المقدس حين جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع دحية بن خليفة، وابنته أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عامله على نجران وقيل بل كان بمكة. وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف وأمه عمة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من أشراف قريش. قال أبو بكر رضي الله عنه لبلال وصهيب وسلمان ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مآخذها أتقولون هذا لسيد قريش وشيخها، وهو كان في عير قريش التي أقبلت من الشام وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعترض لها حتى ورد بدراً، وهو كان راس المشركين يوم أحد، وهو كان رئيس الأحزاب يوم الخندق. ولم يزل بمكة بعد انصرافه عن الخندق لم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع إلى أن فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فأسلم. وفي حديث ابن عباس عن أبيه لما أتى به العباس وقد أردفه يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله أن يؤمنه. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ويحك! أبا سفيان: أما آن لك أن تعلم أن لا غله إلا الله؟ فقال بأبي أنت وأمي! ما أوصلك وأحلمك وأكرمك والله! لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد كان أغنى شيئاً. فقال: ويحك. يا أبا سفيان. ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك أما هذه ففي النفس منها شيء: فقال له العباس. ويلك! اشهد بشهادة الحق قبل أن تضرب عنقك. فشهد وأسلم. ثم إن العباس سأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمن من دخل داره، وقال أنه رجل يحب الفخر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن. ومن أغلق بابه على نفسع فهو آمن. ولما شهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى يوم ذاك. فذهبت عينه. فقال له رسول الله صلى الله عيه وسلم وعينه في يده أيما أحب إليك: عين في الجنة. أو أدعو الله لك أن يردها عليك. فقال: بل عين في الجنة. ورمى بها. وأصيبت عينه الأخرى يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد. فبقي أعمى. وكان أبو سفيان قاص الجماعة يوم اليرموك، يسير فيهم ويقول: الله الله عباد الله انصروا الله ينصركم. اللهم هذا يوم من أيامك. اللهم أنزل نصرك على عبادك. يا نصر الله اقترب يا نصر الله اقترب. وأغلظ أبو بكر يوماً لأبي سفيان: فقال له أبو قحافة يا أبا بكر: لأبي سفيان تقول هذه المقالة قال يا أبه إن الله رفع بالإسلام بيوتاً ووضع بيوتاً وكان بيتي فيما رفع بيت أبي سفيان فيما وضع. وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خنين من غنائمها مائة من الإبل وأربعين أوقيه. وزنها له بلال فلما أعطاه وأعطى يزيد ومعاوية قال له أبو سفيان: والله إنك لكريم. فداك أبي وأمي. لقد حاربتك فنعم المحارب كنت. ثم سألتك فنعم المسلم أنت. فجزاك الله خيراً. وقال ثابت البنائي إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، للأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوذى بمكة. دخل دار أبي سفيان فأمن. وقال مجاهد في قوله تعالى " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة. قال. مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب. وتوفي أبو سفيان رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين وصلى عليه ابنه معاوية. وقيل: بل صلى عليه عثمان بموضع الجنائز. ودفن بالبقيع. وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل: ابن بضع وتسعين سنة. وكان ربعةً دحداحاً ذا هامة عظيمة. وروى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
صدقة بن يحيى

أقسام الكتاب
1 2 3