كتاب : زهر الأداب وثمر الألباب
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني

بسم الله الرحمن الرحيم( الجزء الأول )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه الذي اختصَّ الإنسانَ بفضيلةِ البيانِ ، وصلَّى اللّه على محمدٍ خاتمِ النبيين ، المرسل بالنور المبين ، والكتابِ المستبين ، الذي تحدَّى الْخَلْقَ أن يأتُوا بمثله فعجزوا عنه ، وأقرّوا بفَضْلِه ، وعلى آله وسلَّم تسليماً كثيراً .
وبعد ؛ فهذا كتابٌ اخترتُ فيه قطعةً كاملةً من البلاغات ؛ في الشعر والخبر ، والفصول والفقَر ، مِمَّا حَسُنَ لفظُهُ ومعناه ، واسْتُدِلَّ بِفَحْواهُ على مَغْزَاهُ ، ولم يكن شارداً حُوشِيًّاً ، ولا ساقطاً سُوقيًّاً ، بل كان جميع ما فيه ، من ألفاظه ومعانيه ، كما قال البحتري الخفيف :
في نظام من البلاغةِ ما شَ . . . ك أمْرُؤٌ أنَّهُ نِظَامُ فَرِيدِ
حُزْنَ مُسْتَعْمَلَ الكلامِ اختياراً . . . وتَجَنّبْنَ ظُلْمَةَ التَّعْقِيدِ
وَرَكِبْنَ اللفظَ القريب فأدرك . . . نَ به غايةَ المُرادِ البَعِيدِ
ولم أذهب في هذا الاختيار إلى مطولات الأخبار ، كأحاديث صَعْصَعَةَ بن صُوحَان ، وخالد بن صَفْوَان ، ونظائرهما ؛ إذ كانت هذه أجملَ لفظاً ، وأسهلَ حفظاً .وهو كتابٌ يتصرَف الناظرُ فيه من نثره إلى شعرهِ ، ومطبوعهِ إلى مصنوعهِ ، ومحاورتهِ إلى مفاخرته ، ومُنَاقَلَته إلى مُسَاجَلَته ، وخطابه المبهت إلى جوابه المُسْكِت ، وتشبيهاته المُصيبة إلى اختراعاته الغريبة ، وأوصافه الباهرة إلى أمثاله السائرة ، وجِدِّهِ المعجب إلى هَزْلِهِ المُطْرِب ، وجَزْلِهِ الرائع إلى رقيقه البارع .
وقد نزعْتُ فيما جمعت عن ترتيب البيوت ، وعن إبعاد الشكل عن شكله ، وإفراد الشيء من مِثْلِه ؛ فجعلتُ بعضَه مُسَلْسَلاً ، وتركتُ بعضَه مُرْسَلاً ؛ ليحصل مُحَرَر النَّقْدِ ، مُقَدَر السرْد ؛ وقد أخذ بِطَرَفَي التأليف ، واشتمل على حاشِيَتَي التصنيف ؛ وقد يَعزُ المعنى ، فأُلحقُ الشَّكْلَ بنظائره ، وأعلق الأول بآخره ، وتبقى منه بقية أفرّقها في سائره ؛ ليسلَمَ من التطويل الممل ، والتقصير المخلّ ، وتظهر في التجميع إفادةُ الاجتماع ؛ وفي التفريق لَذَاذَة الإمتاع ، فيكمل منه ما يُونِقُ القلوبَ والأسماع ؛ إذ كان الخروجُ من جِدّ إلى هَزْل ، ومن حَزْن إلى سَهْل أنْفَى للكَلَل ، وأبْعَدَ من المَلل ؛ وقد قال إسماعيل بن القاسم هو أبو العتاهية : البسيط :
لا يُصْلِحُ النفسَ إذ كانت مُدَابرةً . . . إلاَ التنقلُ من حالٍ إلى حالِ
وكان السببُ الذي دعاني إلى تأليفه ، ونَدبني إلى تصنيفه ، ما رأيته من رغبة أبي الفضل العباس بن سليمان - أطال الله مُدَته ، وأدام نعمته - في الأدب ، وإنفاق عمره في الطلب وماله في الكتب ؛ وأنَّ اجتهادَه في ذلك حمله على أن ارتحلَ إلى المشرق بسببها ، وأغمضَ في طلبها ، باذلاً في ذلك ماله ، مستعذباً فيه تعبَهُ ، إلى أن أورد من كلامِ بلغاء عصره ، وفصحاء دهره ، طرائف طريفة ، وغرائب غريبة ، وسألني أن أجمعَ له من مُخْتارها كتاباً يكْتَفي به عن جملتها ، وأضيف إلى ذلك من كلام المتقدّمين ما قارَبه وقارَنه ، وشابههوماثله ؛ فسارعتُ إلى مراده ، وأعنته على اجتهاده ، وألَفتُ له هذا الكتاب ، ليستغني به عن جميع كتبِ الآداب ، إذ كان موشَحاً من بدائع البديع ، ولآلئ الميكالي ، وشهيّ الخوارزمي ، وغرائب الصاحب ، ونفيس قابُوس ، وشذور أبي منصور بكلامٍ يمتزجُ بأجزاء النفس لطافةً ، وبالهواء رقّةً ، وبالماء عذوبة .
وليس لي في تأليفه من الافتخار ، أكثرُ من حُسْن الاختيار ؛ واختيارُ المرء قطعة من عقله ، تدلُّ على تخلُفه أو فَضْلِه ؛ ولا شك - إن شاء الله - في استجادة ما استجدت ، واستحسانِ ما أَوْرَدت ؛ إذ كان معلوماً أنه ما انجذبت نفسٌ ، ولا اجتمع حِسن ، ولا مال سِرّ ، ولا جال فِكْرٌ ، في أفضلَ مِنْ معنًى لطيفٍ ، ظهر في لفظِ شريف ؛ فكَسَاه من حسن الموقع ، قبولاً لا يُدفع ، وأبرزه يَخْتالُ من صفاء السبك ونقاء السّلك ، وصحة الدّيباجة ، وكثرة المائية ، في أجمل حُلّة ، وأجلى حلية الكامل :
يستنبط الروحَ اللطيف نسيمهُ . . . أَرَجاً ، ويؤكل بالضمير ويُشْرَبُ وقد رغبتُ في التجافي عن المشهور ، في جميع المذكور ، من الأسلوب الذي ذهبتُ إليه ، والنحو الذي عوّلتُ عليه ؛ لأن أوّل ما يقرع الآذان ، أَدْعى إلى الاستحسان ، ممَا مَجَّتْه النفوسُ لطول تكراره ، ولفَظَتْه العقولُ لكثرة استمراره ؛ فوجدت ذلك يتعذَّر ولا يتيسر ، ويمتنع ولا يتّسع ؛ ويُوجب ترك ما نَدر إذا اشتهر ؛ وهذا يوجب في التصنيف دَخَلاً ، ويكسب التأليف خَللا ؛ فلم أُعْرِض إلاَّ عَمَّا أهانه الاستعمال ، وأَذَاله الابتذال ، والمعنى إذا استدعى القلوبَ إلى حِفْظِهِ ، ما ظهر من مُسْتَحْسَن لفظه ؛ من بارع عبارة ، وناصع استعارة ، وعُذُوبَةِ مورِد ، وسهولة مَقْصِد ، وحسن تفصِيل ، وإصابة تمثيل ؛ وتَطابُق أَنْحاء ، وتَجَانُس أجزاء ، وتمكُّن ترتيب ، ولطافة تهذيب ، مع صحَة طبع وجوده إيضاح ، يثقفه تثقيفَ القِداح ، ويصوره أفضلَ تصوير ، ويقدّره أكْمَل تقدير ؛ فهومشرق في جوانب السمع ، لا يُخْلِقه عَوْدُه علَى المستعيد : الكامل :
وَهْوَ المُشَيَّعُ بالمسامع إن مَضَى . . . وَهوَ المضاعفُ حُسْنُه إن كُرِّرا
وإن كنتُ قد استدركتُ على كثير ممن سبقني إلى مثل ما جرَيْتُ إليه ، واقتصرت في هذا الكتاب عليه ، لِمُلَح أَوْرَدتها كنَوَافثِ السحْرِ ؛ وفِقَر نظمتها كالغِنَى بعد الفَقْر ، من ألفاظ أهلِ العصر ، في محلول النثر ، ومعقود الشعر ؛ وفيهم من أدركتهُ بعُمْري ، أو لحقه أَهْلُ دهري ؛ ولهم من لطائف الابتداع ، وتوليدات الاختراع ، أبكار لم تَفْتَرِعْها الأسماع ، يَصبو إليها القلبُ والطَّرْف ، ويَقْطُر منها ماءٌ المَلاَحة والظَّرفِ ، وتمتزجُ بأجزاء النفس ، وتسترجع نافِرَ الأُنس ، تخلَلَتْ تضاعيفَه ، ووشّحَتْ تأليفه ، وطرّزت ديباجه ، ورصَّعت تاجه ، ونَظمت عقوده ، ورقمت بُرودَه ؛ فنوْرُها يَرِفّ ، ونُورُها يشِفّ ، في روضٍ من الكلم مُونقٍ ، ورَوْنَق من الحكم مشرِق الطويل :
صفا ونَفى عنه القَذَى فكأنهُ . . . إذا ما استشفّته العيون مُصَعَدُ
فهو كما قلت السريع :
بديع نثرٍ رقّ حتَّى غَدا . . . يَجْرِي مَعَ الرُوح كما تجري
مِنْ مُذْهَبِ الوَشْي على وَجْهِهِ . . . ديباجةٌ ليسَت منَ الشِّعر
كزهرةِ الدنيا وقد أقبلت . . . تَرُود في رَوْنَقها النضْرِ
أو كالنسيم الغَضِّ غِبَّ الْحَيا . . . يخْتَال في أردية الفَجْرِ
ولعل في كثير مما تركتُ ، ما هو أجودُ من قليل مما أدركت ؛ إذ كان اقتصاراً من كلٍّ على بَعْض ، ومن فَيْضٍ على بَرْض ، ولكني اجتهدتُ في اختيار ما وجدتُ ؛ وقد تدخلُ اللفظةُ في شفاعة اللفظات ، ويمرُ البيت في خِلاَل الأبيات ، وتعرض الحكايةُ في عرضالحكايات ، يتمّ بها المعنى المراد ، وليست ممّا يُسْتَجاد ، ويبعث عليها فَرْط الضرورة إليها في إصلاح خَلَل ؛ فمهما تَرَه من ذلك في هذا الاختيار ، فلا تعْرِضْ عنه بطَرْفِ الإنكار ؛ وما أقلّ ذلك في جميع المسالك الجارية في هذا الكتاب ، الموسوم بزهر الآداب ، وثمر الألباب ، لكني أردت أنْ أُشارك من يخرج من ضيق الاغترار ، إلى فسحة الاعتذار الكامل :
ويسيئ بالإحسان ظنًّاً ، لا كمن . . . يَأْتيك وَهْوَ بشِعْرِه مفْتُون
واللّه المؤيد والمسدّد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
' إنَّ من البيان لَسِحْراً ' .
روى عن عبد اللّه بن عبّاس - رضوان اللّه عليهما - قال : وَفَدَ إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) الزِّبْرِقَانُ بن بَدْر وعَمْرُو بن الأهتم ؛ فقال الزبرقان : يا رسولَ الله ، أنا سيّدُ تميم ، والمطاعُ فيهم ، والمجابٌ منهم ، آخذُ لهم بحقّهم ، وأمنعهم من الظلم ، وهذا يعلم ذلك - يعني عَمْراً .
فقال عَمْرو : أجَلْ يا رسولَ اللّه ؛ إنه مانعٌ لِحَوْزته ، مُطَاعٌ في عشيرته ، شديد العَارِضة فيهم .
فقال الزبرقان : أَمَا إنه واللّه قد علم أكثرَ مِمَّا قال ، ولكنه حسدني شَرفي فقال عمرو : أما لئن قال ما قال ؛ فواللّه ما علمته إلاَّ ضَيّق العَطَن زمر المروءة ، أَحْمَقَ الأب ، لئيمَ الخالِ ، حديثَ الغِنَى .فرأى الكراهَةَ في وَجْه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمّا اختلفَ قولُه ، فقال : يا رسول اللّه ، رضيتُ فقلتُّ أحسنَ ما علمت ، وغضبتُ فقلت أقْبحَ ما علمت ، وما كذبت في الأُولى ، ولقد صَدَقْتُ في الثانية فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن من البيان لسحراً ، وإن من الشعر لحِكْمَة . ويروى لَحُكما ، والأول أصحّ .
والذي روى أهل الثبَت ، من هذا الحديث أنَه قَدِم رجلان من أهْل المشرق فخطبا ؛ فعجب الناسُ لبيانهما ؛ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إنّ من البيان لسحْرا ، أو إنَّ من بعض البيان لسحرا .
وعَمْرو بن الأهتم هو : عَمْرو بن سِنَان بن سُمي بن سِنَان بن خالد ابن مِنْقَر ابن عُبيد بن الحارث ، والحارث هو : مُقَاعس بن عمرو بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم . وسُمي سِنان الأهتم ، لأن قيس بن عاصم الْمِنقَري سيدَ أهلِ الوَبَرِ ضربه بقوسه فهتَم فاه . هذا قولُ أبي محمد عبد اللّه بن مسلم ابن قتيبة . وقال غيره : بل هُتِمَ فُوه يوم الكُلاب الثاني ، وهو يومٌ كان لبني تميم على أهل اليمن . وكان عمرو يلقب المُكَحَّلَ لجماله ، وبنو الأهتم أهلُ بيتِ بلاغةٍ في الجاهلية والإسلام . وعبد الله بن عمرو بن الأهتم هو جدّ خالد ابن صَفْوَان وشَبيب بن شَيْبَة . وكان يقال : الخطابة في آل عَمْرو ، وكان شعره حُلَلاً منشَرَة عند الملوك تأخذُ منه ما شاءت . وهو القائل الطويل :
ذريني فإن البخلَ يا أمّ مالكٍ . . . لصالح أخلاقِ الرجالِ سَرُوقُ
لعمْرُكِ ما ضاقتْ بلاد بأهلها . . . ولكنَّ أَخلاقَ الرجالِ تضيقُ
والزبرقان : اسمه حُصَين بن بَدْر بن امرئ القيس بن الحارث بن بَهَدَلَةَ بن عوف بن كعب بن سعيد . وسمي الزّبرقان لجماله ؛ والزبرقان : القمر قبل تمامه وقيل : لأنه كان يُزَبرِقُ عمامتَه ، أي يصفَرها في الحرب .
وكانوا يسمّون الكلام الغريب السَحر الحلال ، ويقولون : اللفظ الجميل من إحدى النّفَثَاتِ في العُقَد .وذكر بعضُ الرُواة أنه لما اسْتُخْلِفَ عمرُ بن عبد العزيز ، رضي اللّه عنه ، قَدِمَ عليه وُفُودُ أهلِ كلِّ بلد ؛ فتقدَّم إليه وَفْدُ أهلِ الحجاز ، فأشْرَأب منهم غلامٌ للكلام ، فقال عمر : يا غلام ، ليتكلمْ مَنْ هو أَسَن منك فقال الغلام : يا أمير المؤمنين ، إنّما المرءُ بأَصغريه ، قلبهِ ولسانِهِ ، فإذا مَنَح اللَّهُ عبدَه لساناً لافظاً ، وقلباً حافظاً ، فقد أجاد له الاختيار ؛ ولو أن الأمور بالسن لكان هاهنا مَنْ هو أحق بمجلسك منك .
فقال عمر : صدقت ، تكلّم ؛ فهذا السحْرُ الحلال فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن وفد التهنئة لا وَفْدُ الْمَرْزِئة ، ولم تُقْدِمْنا إليك رغبةٌ ولا رهبة ؛ لأنا قد أمِنا في أيامك ما خِفْنا ، وأدركْنا ما طلبنا فسأل عمر عَنْ سِنّ الغلام ، فقيل : عشر سنين .
وقد روي أن محمد بن كعب القرظي كان حاضراً ، فنظر وَجْه عمر قد تهلَل عند ثَناء الغلام عليه ؛ فقال : يا أمير المؤمنين ؛ لا يغلبَنَ جهلُ القوم بك معرفتَك بنفسك ؛ فإنّ قوماً خَدَعهم الثناءُ ، وغرهم الشكر ، فزلّت أقدامُهم ، فهوَوا في النار . أعاذك الله أن تكون منهم ، وألحقك بسَالِف هذه الأمة ؛ فبكى عمر حتى خِيفَ عليه ، وقال : اللهم لا تُخْلِنَا من واعظ وقد رُوي أنّ عمرَ قال للغلام : عِظْني ، فقال هذا الكلام ، وفيه زيادة يسيرهّ ونقص . وأخذ قولَ عمرّ : هذا السحر الحلال أبو تمام فقال يعاتب أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي الوافر :
إذا ما الحاجةُ انبَعَثَتْ يَدَاها . . . جَعَلْتَ المَنْعَ منكَ لها عِقَالاَ
فأين قصائدٌ لي فيكَ تَأبى . . . وتأنفُ أَنْ أُهان وأَن أذَالا
هي السّحرُ الحلالُ لمُجْتَلِيه . . . ولم أرَ قبلها سِحْراً حَلاَلا
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى بعض إخوانِه جواباً عن كتاب وردَ إليه فأحمده : وَصَلَ ما وصلْتَني به ، جعلني اللّه فداك ، من كتابك ، بل نعمتك التامة ، ومُنَّتك العامة ؛ فقرَت عيني بوروده ، وشُفِيَتْ نفسي بوفوده ، ونَشَرتُه فحَكَى نسيمَ الرياض غِبالمطر ، وتنفسَ الأنوارِ في السَّحر ، وتَأَمَلْتُ مفْتَتَحه ، وما اشتمل عليه من لطائف كَلِمك ، وبدائع حِكَمك ؛ فوجدته قد تحمَّل من فنون البرّ عنك ، وضروب الفَضْلِ منك ، جِدًّاً وهزْلاً ، ملأَ عيني ، وعَمَرَ قلبي ، وغلب فِكْري ، وبَهَر لُبِّي ؛ فبقيتُ لا أدري : أسُمُوط ذر خصصتَني بها ، أم عقود جوهر منَحْتنِيها ؟ كما لا أدري أَبِكْراً زَفَفْتَها فيه ، أم روضةً جهزتها منْه ؛ ولا أدري أخدوداً ضُرِّجت حياءً ضمّنته ؛ أم نجوماً طلعت عشاءً أودعته ؛ ولا أدري أجِدُّك أبلغ وألطف ، أم هَزْلك أرفع وأظرف ؛ وأنا أوَكَلُ بتَتَبع ما انْطَوَى عليه نَفْساً لا ترى الحَظَّ إلاَ ما اقْتَنته منه ، ولا تَعُد الفضل إلا فيما أخذتْه عنه ، وأمَتِّع بتأمّله عيناً لا تَقَرُ إلاَّ بمثْلِهِ ، مِمَّا يَصْدر عن يَدِك ، ويَرِدُ من عندك ، وأعْطِيه نظراً لا يملُه ، وطَرْفاً لا يطرِف دونه ، وأجعله مِثالاً أرْتَسمه وأحْتَذِيه ، وأمتعِ خلقي برَوْنَقِه ، وأُغذي نفسي ببَهْجَتِه ، وأمزج قريحتي برقَّته ، وأشْرَح صَدْري بقراءته ، ولئن كنت عن تحصيل ما قلْتَه عاجزاً ، وفي تعديد ما ذكرته متخلفاً ؛ لقد عرفت أنه ما سمعتُ به من السحْرِ الحلال .
وقال بعض المحدثين يمدح كاتباً الكامل :
وإذا جَرَى قلم له في مُهْرَقٍ . . . عَجْلاَنَ في رَفَلانِهِ وَوَجِيفهِ
نَظَمَتْ مراشفُه قلائد نُظّمَت . . . بنَفيِسِ جَوْهَرِ لفظِهِ وشريفه
بِدْعاً من السِّحْرِ الحلال تولَدَتْ . . . عن ذهنِ مصقولِ الذكاءِ مَشُوفهِ
مَثَلاً لضاربهِ وزادَ مُسَافر . . . جُعِلَتْ وتحفةَ قادم لأَلِيفهِ
وعلى ذكر قوله وتحْفَة قادم قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي ، وصَفَ رجل رجلاً فقال : كان والله سَمْحاً سَهْلاً ، كأنّما بينه وبين القلوب نَسَب ، أو بينه وبين الحياةِ سبَبٌ ، إنما هو عيادة مريض ، وتُحْفَة قادم ، وواسِطَةُ عِقْد .
وأخذ بعضُ بني العباس رجلاً طالبياً ، فهمَّ بعقوبته ، فقال الطالبي : واللَهِ لولا أَنْ أفسد دينْي بفْساد دنياك لملكْتَ من لساني أكْثَر مِمَّا ملكْتَ من سَوْطك ، واللّه إن كلاميلَفَوْقَ الشعر ، ودون السحْر ؛ وإنَّ أيسره ليَثْقُبُ الْخَردَل ، ويحط الْجَنْدل .
وقال علي بن العباس ، يَصِفُ حديثَ امرأةٍ الكامل :
وحديثها السحْرُ الحلالُ لَوَ أنه . . . لم يَجْنِ قتلَ المسلم المتحرَزِ
إن طال لم يُملَلْ ، وإنْ هي أَوْجزَتْ . . . ودَّ المحدَثُ أنَّها لم تُوجِز
شَرَك العقولِ ، ونزهةٌ ما مِثْلُها . . . للمطمئنِّ ، وعقلَةُ المستوفِز
ألَمَّ في بيته الآخر بقول الطائي الطويل :
كَوَاعِبُ أَتْرابٍ لغيداءَ أصبحتْ . . . وليس لها في الحُسْنِ شكْل ولا تِرْبُ
لها منظَر قَيْدَ النواظِر لم يَزَلْ . . . يَروح ويَغْدُو في خَفَارَتهِ الْحُب
وأول من استثار هذا المعنى امرؤ القيس بن حجر الكندي في قوله الطويل :
وقد أغتدِي والطيرُ في وُكُنَاتها . . . بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوَابدِ هَيْكَلِ
وكالت عُلَية بنت المهدي مجزوء الكامل :
اِشْرَبْ على ذكر الغَزَا . . . لِ الأغْيدِ الحُلْوِ الدَّلالِ
اِشْرَبْ عليه وقُلْ له . . . يا غُلَّ ؟ ألبابِ الرجالِ
وكانت علَيَّةُ لطيفةَ المعنى ، رقيقَةَ الشعرِ ، حسنةَ مجاري الكلام ، ولها ألحانٌحِسَان ، وعَلِقَتْ بغلام اسمه رشأ وفيه تقول مجزوء الكامل :
أضحى الفؤادُ بزينبا . . . صَباً كئيباً مُتْعَبا
فَجَعَلْتُ زَيْنبَ سُتْرَةً . . . وكَتَمْت أمراً معجبا
قولها : بزينب تريد برشأ .
فنُميَ الأمر إلى أخيها الرشيد ، فأبعده ، وقيل : قتَله ، وعَلِقَت بعده بغلام اسمه طَلّ ، فقال لها الرشيد : واللّه لئن ذكَرْتِه لأقتلنك فدخل عليها يوماً على حين غَفْلة وهي تقرأ : فإن لم يصبها وابلٌ فما نهى عنه أمير المؤمنين ، فضحك ، وقال : ولا كلّ هذا ، وهي القائلة الكامل : يا عاذِلي ، قد كنتُ قبلَك عاذلا . . . حتى ابتُليتُ فصرْتُ صَبًّاً ذاهلا
الحب أول ما يكون مَجَانة . . . فإذا تحكَم صار شُغْلاً شاغِلا
أَرْضَى فَيَغْضَبُ قاتلي فتعجبوا . . . يَرْضى القتيلُ ولا يُرضِّي القاتلا
وهي القائلة الرمل :
وُضع الحبٌ على الْجَوْرِ ، فلو . . . أنصف المعشوق فيه لَسَمُجْ
وقليلُ الحب صِرْفاً خالصاً . . . لك خير مِنْ كثيرٍ قد مزِجْ
ليس يُسْتَحْسَنُ في نَعْتٍ الهوى . . . عاشق يُحْسِنُ تأليفَ الْحُجَجْ
وكأنها ذهبت في الأول إلى قول العباس بن الأحناف الطويل :
وأحْسَنُ أيام الهوى يومُك الذي . . . تُروّع بالهِجران فيه وبالعَتْبِ
إذا لم يكن في الحب سخْطٌ ولا رضا . . . فأين حلاَوَاتُ الرسائل والكُتْب ؟
وقد زاد النميري في هذا فقال الخفيف :
راحتي في مقالة العُذّال . . . وشفائي في قيلهمْ بَعْدَ قالٍلا يَطيبُ الهوى ولا يحسْنُ ال . . . حب لصب ، إلاّ بِخمسِ خصال
بسماع الأذَى ، وعَذْل نصيحٍ ، . . . وعِتابِ ، وهِجْرَةٍ ، وتقال
وقال بعض المحدثين الكامل :
لولا اطّرادُ الصيد لم تَكُ لذّةٌ . . . فتطارَدِي لي في الوصال قليلا
هذا الشراب أخُو الحياة ومالهُ . . . من لذةٍ حتى يُصِيبَ غليلا
وقال آخر الطويل :
دع الصبَّ يَصْلى بالأذى من حبيبهِ . . . فإنّ الأذى مِمَّن تُحِبّ سُرورُ
غُبارُ قطِيع الشاء في عَيْنِ ذئبها . . . إذا ما تلا آثارهُنَ ذَرُورُ
وأنشد الأصمعي لجميل بن معمر العذري : البسيط :
لا خَيْرَ في الحب وقفاً لا تحركهُ . . . عواضُ أليأس أو يَرْتَاحه الطَّمَعُ
لو كان لي صَبْرُها أو عندها جَزَعِي . . . لكنتُ أَمْلِكُ ما آتي وما أدَعُ
إذا دعا باسْمِها داعٍ ليحزننْي . . . كادت له شعْبةَ من مُهْجَتي تقعُ
وهذا البيت كقول علي بن العباس الرومي : الكامل :
لا تكْثِرَنَّ ملامةَ العشاقِ . . . فكفاهُمُ بالوَجْدِ والأشواقِ
إن البلاءَ يطاقُ غيرَ مُضاعَفِ . . . فإذا تضاعَفَ كان غير مُطَاقِ
لا تُطْفئَنَّ جَوى بِلَوم ؛ إنهُ . . . كالريح تُغرِي النار بالإحراق
ويشبه بَيْتَ عليّة الآخر بيتٌ أنْشِدَ في شعرٍ رُوِي لأبي نواس ، ورواه قوم لعنان جارية الناطفي ، وهو : الكامل :
حلو العتاب يهيجُهُ الإدلال . . . لم يَحْلُ إلاَ بالعتابِ وصالُلم يَهْوَ قطُ ولم يُسَمَّ بعاشق . . . مَنْ كان يصرف وجهه التعْذَالُ
وجميعُ أسبابِ الغرام يسيرة . . . ما لم يكن غدْر ولا استبدالُ
تصف القضيبَ على الكثيب قَنَاتُها . . . ولها من البدر المنيرِ مِثَالُ
ولرُب لابسةٍ قِناعَ مَلاَحةٍ . . . حسناء سار بحسنها الأمثالُ
كَسَتِ الْحَداثةُ ظَرْفَها وجمالها . . . نُوراً فماءُ شبابها يَخْتَال
وكأنها والكأْسُ فوق بَنانِها . . . شمس يمُدُّ بها إليك هِلاَلُ
حتى إذا ما استأنست بحديثها . . . وتكلّمت بلسانها الْجرْيال
قلنا لها : إن صدَّقت أقوالَهَا . . . أفعالها وجرى بهنَّ الْفَالُ
قولي فليس تَرَاك عينُ نميمة . . . حَضَرَ النصيحُ وغابَتِ العذالُ
وضميرُ ما اشتملتْ عليه ضلوعُنا . . . سِرّ لدى أبوابه أَقْفال
وقد أخذ أبو الطيب المتنبي معنى قيد الأوابد ، فقال يصف كلباً : الرجز :
نَيْلُ المُنى وحكْم نفسِ المُرسِلِ . . . وعقلةُ الظبي وحَتْفُ التَّتْفُلِ
كأنّه من علمه بالمَقْتل . . . عَلَّمَ بقرَاطَ فِصادَ الأكْحَلِ
وقال في بني حمدان : الكامل :
متصعلكيِنَ عَلَى كَثافةُ مُلكهم . . . متواضعينَ على عظيم الشأنِ يتقَّلبون ظلالَ كل مُطَهَّمٍ . . . أَجَلِ الظليم ورِبْقةِ السَّرْحانِ
وقال أعرابي يصف فرساً : إنه لَدرَك الطالب ، ومَنْجَى الهارب ، وقَيْد الرهان ، وزين الفناء .وقال بعضُ أهل العصر في وصفِ غلام : وَجْهُه قَيْدُ الأبصار ، وأمَدُ الأفكار ، ونهاية الاعتبار .
وقال أبو القاسم إسماعيل بن عَبَّاد : الطويل :
وقد أغتدِي للصَيْدِ غُدْوَةَ أصْيَدٍ . . . أُعاجِلُ فيها الوحشَ والوحْشُ هُجَّدُ
فعنَّتْ ظَباءٌ خِفْنَ تحتِيَ مطلقَ الي . . . دين به أيْدِي الوحُوش تُقيّدُ
فأدركتها والسيفُ لَمْعة بَارق . . . ولم يُغْنَها إحضَارُهَا حين تجهَدُ
وقد رُعْتُها إذ كان شعريَ رائعاً . . . وطَرْفُ مشيبي عن عِذَاريَ أرْمَدُ
وما بَلَغَتْ حدَّ الثلاثين مُدَّتي . . . وهذا طِراز الشيب فيه يُمدَدُ
وأبيات ابن الرومي من أجود ما قيل في حسن الحديث ، وقد توسع الشعراء في هذا الباب ، وكَثُر إحسانهم ، كما كَثُر افتنانهم ، وسأجري شأْواً في مختار ما قيل في ذلك ، وأعود إلى ما بدأتُ به .
قال القُطامي - واسمه عُمَير بن شيَيْمٍ التغلبي ، وسمي القُطَامي لقوله : الرجز :
يَحُطُهُنَّ جانباً فجانباً . . . حطّ القُطامِيِّ القطا القَواربا
وقال أبو عبيدة : ويقال للصقر قُطامي وقَطامي : البسيط :
وفي الخُدْور غماماتٌ برَقْنَ لنا . . . حتى تصيَّدْنَنَا من كلِّ مُصْطادِ
يقتُلْنَنَا بحديثٍ ليس يَعلمه . . . مَنْ يَتْقَيَن ولا مكْنونُهُ بادِي
فهنَّ يَنْبِدن من قول يُصِبْنَ به . . . مواقع الماء من ذي الغُلَة الصَاديوقال أبو حيَّة النُميري ، واسمه الهيثم بن الربيع : الطويل :
وَخبرَكِ الواشُونَ أن لن أُحبكُم . . . بلى وستُور اللَهِ ذاتِ المحارمِ
وإن دماً ، لوْ تعلمينَ ، جنيته . . . على الحيّ جاني مِثْلِه غيرُ سالم
أصدُ وما الصدُ الذي تعلمينهُ . . . عزاءً بكُم إلاّ ابتلاع العلاقم
حياءً وَتُقْيا أنْ تشيعَ نميمة . . . بنا وبكم ، أف لأهل النمائم
أما إنه لو كان غيرُكِ أرْقلتْ . . . إليه القنا بالراعفات اللهاذِم
ولكنه والله ما طل مسلماً . . . كَغُرِّ الثنايا واحات الملاغمِ
إذا هنَ ساقطنَ الأحاديثَ للفتى . . . سُقُوط حَصَى المرْجانَ من كَفِّ ناظم
رَمَيْن فأَنْفَذْنَ القلوبَ ، ولا ترى . . . دَماً مائراً إلا جَوًى في الحيازم
وقال أيضاً : الطويل :
حديث إذا لم تخشَ عيناً كأنهإذا ساقطتْه الشهْدُ أَو هُوَ أَطْيَبُ
لو أنك تستشفي به بعد سكْرَةِ . . . من الموت كادت سَكْرَةُ المَوت تذهَبُ
إلى هذا ينظر قولُ الآخرِ وإن لم يكن منه : الطويل :
أقول لأصحابي وهُم يعذِلُونني . . . ودَمْعُ جُفُوني دائمُ العبَراتِ
بذكر مُنَى نفسي فبلُوا ، إذا دَنا . . . خروجي من الدنيا ، جُفُوفَ لَهاتي
وقال سديف مولى بني هاشم يصفُ نساءً : الكامل :
وإذا نَطقْنَ تخالهن نَوَاظماً . . . درا يفصل لُؤلؤاً مكنوناً
وإذا ابتسمْنَ فإنهنَ غمامة . . . أو أقحوان الرَمْلِ بات مَعِيناوإذا طَرَفْنَ طرفن عن حَدَقِ المَهَا . . . وفَضَلْنَهُنَ مَحَاجِراً وجُفُونا
وكأنَ أجيادَ الظباء تَمُدّها . . . وَخُصُورهن لطافةً ولُدُونا
وأصحُّ ما رأتِ العيونُ مَحَاجِراً . . . ولَهُنَ أمرضُ ما رأيتُ عيونا
وكأنّهُن إذا نَهضْنَ لحاجةٍ . . . يَنْهَضَ بالعَقَدات من يَبْرِينا
وقال الطائي : الكامل :
تُعطيكَ مَنْطِقَهَا فتعْلَمُ أنهُ . . . لِجَنَى عُذُوبَتِهِ يَمُرّ بِثَغْرِها
وأظُن حَبْلَ وصالها لِمُحبها . . . أوْهى وأضعفَ قُوَةً من خَصْرِها
أخذه أبو القاسم بنُ هانئ ، فقال يمدح جعفر بن علي ، إلاَّ أنه قَلَبَه فقال : الكامل : قد طَيَّبَ الأفواهَ طِيبُ ثنَائهِ . . . من أجل ذا نجد الثغور عذابا
وكأَنما ضَرَبَ السماءَ سُرَادِقاً . . . بالزاب ، أو رفع النجوم قبابا
أرضاً وطِئْتُ الدُّرَ رَضْرَاضاً بها . . . والمسك ترباً والرياض جنابا
وقال الطائي : الكامل :
بَسَطَتْ إليك بنانةً أُسْرُوعا . . . تصف الفراق ومقلة ينبوعا
كادتْ لعرِفان النَّوى ألفاظُها . . . من رِقّة الشكْوَى تكونُ دُمُوعاومن جيد هذا المعنى وقديمه قول النابغهّ الذبياني : الكامل :
لو أنها عَرَضَتْ لأَشْمَطَ رَاهبٍ ، . . . عَبَدَ الإله ، صَرُورة مُتَعَبدِ
لرنَا للهجتها وطِيب حدِيثها . . . ولخالَهُ رُشداً وإن لم يَرْشُدِ
نَظَرَتْ إليك بحاجةٍ لم تَقْضِها . . . نَظَرَ السليمِ إلى وجوه العُوَدِ
ومن مشهور الكلام قولُ الآخر : الطويل :
وكنتُ إذا ما زُرْتُ سُعْدَى بأَرْضِها . . . أرى الأرضَ تُطْوى لي ويَدْنُو بَعيدُها
مِنَ الْخَفرات البيضِ ود جليسُها . . . إذا ما انقضتْ أحدوثَةٌ لو تُعيدُها
تَحَلَلُ أحْقادي ، إذا ما لقيتُها . . . وتُرمى بلا جُزم علي حُقُودها
وقال بشار : مجزوء الكامل :
وكأن رَجْعَ حدِيثها . . . قِطَعُ الرِّياض كُسِينَ زَهْرَا
حَوْراءُ إنْ نظرتْ إلي . . . كَ سَقَتْكَ بالعينين خَمْرَا
تنسي الغَوِيَ معادَهُ . . . وتكون للحكماء ذكْرا
وكأنها بردُ الشرا . . . ب صفا ووافقَ مِنْكَ فطرَا
وكأن تحتَ لِسانها . . . هَارُوتُ يَنْفُثُ فيه سحرَا
وتخال ما جمعتْ علي . . . ه ثِيابَهَا ذهباً وعطرا
وسمع بشارٌ قولَ كُثيًر بن عبد الرحمن : الطويل :
أَلاَ إنما ليلَى عَصَا خَيْزُرَانَةٍ . . . إذا غَمزُوها بالأكف تلينُ
فقال : قاتل الله أبا صخْر يزعم أنها عَصاً ويعتذر بأنها خيزُرانَة ، ولو قال : عصامخُّ ، أو عصا زُبْد ؛ لكان قد هَجَّنَها مع ذكر العصا ، هلاّ قال كما قلت : الوافر :
ودَعْجَاء المَحاجر من مَعَدً . . . كأن حديثها ثَمَرُ الْجنانِ
إذا قامت لحاجتها تثنتْ . . . كأنَّ عِظَامها من خَيْزُرَانِ
وبعد قول كثيّر : ألا إنما ليلى عصا خيزرانة : الطويل :
تَمَتعْ بها ما ساعَفَتْكَ ، ولا يَكُن . . . عليك شجًى في الصدْرِ حين تبينُ
وإنْ هي أعطتك اللّيان فإنها . . . لآخرَ من خُلانها سَتَلِينُ
وإن حلَفَتْ لا ينْقُضُ النأيُ عهدَها . . . فليس لمخضُوبِ البنانِ يمينُ
وقال البحتري : الطويل :
ولمّا التَقَيْنا واللّوَى مَوْعد لنا . . . تعجبَ رَائي الدُرِّ حُسْناً ولاقِطُهْ
فمن لؤلؤ تجنيه عندَ ابتسامها . . . ومن لؤلؤ عند الحديث تُساقطُهْ
وقال المتنبي : الطويل :
أمُنْعِمَةٌ بالعَوْدَةِ الظبيةُ التي . . . بغير وَلي كان نائِلُها الوَسْمي
تَرشفْتُ فَاهَا سُحْرَة فكأنني . . . تَرَشَفْتُ حَرَ الوَجْدِ من باردِ الظلْم
فتاة تسَاوَى عِقْدُها وكلامُها . . . ومَبْسِمُها الدُرَيُ في النثر والنظمِ
عاد الحديثُ الأول - قال أبو القاسم عبدُ الرحمن بن إسحاقَ الزجاجي : حدّثنا يوسف بن يعقوب قال : أخبرني جدَي قراءة عليه ، عن أبي داود ، عن محمد بن عبيد الله ، عن أبي إسحاق ، عن البَرَاء يرفعه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : ' إنَ من الشعر لَحُكْماً ، وإن من البيان لسِحْراً ' قال أبو القاسم : هكذا روينا الخبر ، وراجعت فيه الشيخ ، فقال : نعم ، هو : ' إن من الشعر لحُكماً ' - بضم الحاء وتسكين الكاف ، قال : ووجهُه عندي إذا روي هكذا :إن من الشعر ما يلزم المقولَ فيه كلزوم الحُكْم للمحْكوم عليه ؛ إصَابةً للمعنى ، وقصداً للصواب ، وفي هذا يقول أبو تمام : الطويل :
ولَوْلا سبيل سَنَّها الشعرُ ما دَرَى . . . بُغاةُ العُلى من أينَ تُؤْتى المكارمُ يُرَى حكمةً ما فيه وهو فكاهة . . . ويُرْضَى بما يَقْضِي به وهو ظالم
انتهى كلام أبي القاسم .
وقد وجدنا في الشعر أبياتاً يُجْرَى على رسمها ، ويُمْضَى على حكمها ؛ فقد كان بنو أَنْف الناقة إذا ذَكَر أحدٌ عند أحد منهم أنف الناقة - فضلاً عن أن ينسبهم إليه - اشتدَّ غضبُهم عليه ؛ فما هو إلاَّ أن قال الحطيئة يمدحهم : البسيط :
سِيري أُمَامَ فإنَّ الأكثرينَ حَصًى . . . والأَطْيبين إذا ما يُنْسَبُون أبا
قومُ إذا عَقدوا عَقْداً لجارهِمُ . . . شَدوا العِنَاج وشدّوا فَوْقَه الكَرَبا
قوم همُ الأنفُ والأذْنابُ غيرهُمُ . . . ومن يُسَوي بِأَنْف الناقةِ الذنبَا
فصار أحدُهم إذا سئل عن انتسابه لم يَبْدأ إلاَّ به .
وأنفُ الناقة : هو جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن زيد مناة بن تميم .
وكان بنو العَجْلاَن يَفْخَرون بهذا الاسم ، ويتشرّفُون بهذا الوَسْم ، إذ كان عبدُ اللّه بن كعب جدُّهم إنما سمّي العجلان لتعجيله القِرَى للضيِّفَان ؛ وذلك أن حياً من طيء نزلوا به ، فبعث إليهم بقرَاهم عَبْداً له ، وقال له : اعْجَل عليهم ، ففعل العبدُ ، فأعتقه لعجلته ، فقال القوم : ما ينْبغي أن يسمَى إلاّ العجلان ؛ فسمِّي بذلك ، فكان شرفاً لهم ، حتى قال النجاشي ، واسمه قيس بن عمرو بن حرن بن الحارث بن كعب يهجوهم : الطويل :
أولئكَ أخوالُ اللَعِينِ وأسرةُ ال . . . هَجِين ورهْطُ الواهِن المتذلّلِ
وما سُمي العجْلان إلاَ لقولهِ . . . خُذِ القَعبَ واحلب أيها العبد واعْجلِفصار الرجل منهم إذا سئل عن نسبه قال : كعبي ، ويكنى عن العجلان .
وزعمت الرواة أنّ بني العجلان استعدَوْا على النجاشي - لما قال هذا الشعر - عُمر بن الخطاب ، رضي اللّه عنه ، وقالوا : هَجَانا ، قال : وما قال فيكم ؟ فأنشدوه قوله : الطويل :
إذا اللَهُ عادىَ أهلَ لؤم ورِقَّةٍ . . . فعادَى بني العَجْلاَن رهط ابنِ مقْبِلِ
فقال : إنَّ الله لا يُعَادي مسلماً ، قالوا : فقد قال : الطويل :
قُبيلة لا يَغْدِرون بِذِمَّةٍ . . . ولا يَظْلِمُون الناس حَبّة خَرْدَلِ
فقال : وددت أن آل الخطاب كانوا كذلك قالوا : فقد قال : الطويل :
تَعَافُ الكِلاَبُ الضارِيَات لحومَهُمْ . . . وتأكلُ من عَوْفِ بن كعب بن نهشلِ
فقال : كفى ضَياعاً مَن تأكل الكلابُ لحمه قالوا : فقد قال : الطويل :
ولا يَرِدُون الماءَ إلاَ عشيةً . . . إذا صَدَر الوُرَادُ عَن كلِّ مَنْهَل
فقال : ذلك أصفى للماء ، وأقل للزّحام قالوا : فقد قال : الطويل :
وما سُميَ العَجْلانَ إلاَّ لقوله . . . خُذِ القَعْبَ واحْلُب أيها العبدُ واعْجَلِ
فقال : سيّد القوم خَادِمُهم وكان عمر ، رضي اللّه عنه ، أعلَم بما في هذا الشعر ، ولكنه دَرَأَ الحدودَ بالشبهات .
وهؤلاء بنو نمير بن عامر بن صَعْصَعة من القوم ، أحدُ جمرات العرب وأشرف بيوت قيس بن عيلان بن مضر . وجمرات العرب ثلاثة ؛ وإنما سُمُّوا بذلك ؛ لأْنهم مُتَوافرون في أنفسهم ، لم يُدْخِلوا معهم غيرهم ؛ والتجمير في كلام العرب : التجميع ، وهم : بنو نمير بن عامر ، وبنو الحارث بن كعب ، وبنو ضبة بن أد . فطفئت جمرتان ، وهما بنو ضبة ؛ لأنها حالفت الرباب ، وبنو الحارث ؛ لأنها حالفت مَذْحِج ، وبقيت نمير لم تحالف ؛ فهي على كَثْرتها ومَنَعَتِها . وكان الرجل منهم إذا قيل له : ممَن أنْتَ ؟ قال : نميري كما ترى إدلالاً بنَسَبِه ، وافتخاراً بمنصبه ، حتى قال جرير بن عطية بن الْخَطَفيلعُبيْد بن حُصيْن الراعي أحد بني نمير بن عامر : الوافر :
فغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُمَيْرٍ . . . فلا كَعْباً بَلَغْتَ ولا كِلاَبا
كعب وكلاب : ابنا ربيعة بن عامر بن صعصعة ؛ فصار الرجل منهم إذا قيل له : ممن أنت ؟ يقول : عامري ، ويكنى عن نمير .
ومرَت امرأة بقوم من بني نمير ، فأحَدُّوا النظر إليها ، فقال منهم قائل : واللّه إنها لَرَشْحَاء ، فقالت : يا بني نمير ، واللّه ما امتثلتم فيَ واحدةً من اثنتين ، لا قول اللّه عز وجلَّ : ' قُلْ لِلْمُؤمنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارَهِمْ ' ولا قول الشاعر :
فَغُضَ الطَرْفَ إنَّكَ من نُمير وسايَرَ شريك بن عبد الله النميري يزيدَ بن عُمر بن هبَيرة الفَزاري ، فَبَرَزَتْ بغلة شريك ، فقال له يزيد : غُضَّ من لجامها ، فقال : إنها مكتوبة ، أصلح الله الأمير فضحك ، وقال : ما ذهبت حيث أردت ، وإنما عرَّض بقوله : غُضَ من لجامها بقول جرير :
فغُضّ الطَّرْف إنك من نمير
فَعَرَض له شريكٌ بقول ابن دَارَة : البسيط :
لا تَأمَننَ فَزَارِيًّاً خَلْوْتَ بِهِ . . . على قَلُوصِكَ واكْتُبْهَا بأَسْيَارِ
وبنو فزارة يُرْمَوْنَ بإتْيَانِ الإبل ، ولذلك قال الفرزدق ليزيد بن عبد الملك لَمَا ولي عمر بن هبيرة العراق : الوافر :
أميرَ المؤمنين لأنْتَ مَرءٌ . . . أمينٌ لَسْتَ بالطَّبعِ الحريصِ
أَوَلّيْتَ العراقَ ورَافِدَيْهِ . . . فَزَارياً أحذَ يَدِ القَمِيصِ
ولم يكُ قَبْلَهَا رَاعِي مخَاض . . . ليأمَنَه على وَرِكَيْ قَلُوصتَفَيْهَقَ بالعراق أبو المثنّى . . . وعَلّمَ قومَهُ أَكْلَ الخبيصِ
الرافدان : دجلة والفرات .
وقال بعض النميريين يجيبُ جريراً عن شِعْرِه : الوافر :
نميرٌ جمرةُ العرب التي لم . . . تزل في الحرب تلتهب التهابا
وإني إذ أسُبُّ بها كُليباً . . . فتحت عليهمُ لِلْخَسْفِ بابا
ولولا أن يقال هَجَا نميراً . . . ولم يَسْمَعْ لشاعرهم جَوَابا
رغبْنا عن هجاء بني كليبٍ . . . وكيف يُشَاتِمُ الناسُ الكِلابا
فما نفع نميراً ، ولا ضرَّ جريراً ، بل كان كما قال الفرزدق : الكامل :
ما ضرَّ تَغلِبَ وائل أَهَجَوْتَهَا . . . أم بُلْتَ حيث تَنَاطَح البَحْرَانِ
وقال أبو جعفر محمد بن منذر مولى بني صبير بن يربوع في هجائه لثقيف : الوافر :
وسوف يزيدكم ضَعَةً هِجَائي . . . كما وضع الهجاءُ بني نميرِ
وسمع الراعي منشداً ينشد : الطويل :
وَعاوٍ عَوَى من غير شيء رَمَيْتُهُ . . . بقافيةٍ أَنفاذُهَا تَقْطُر الدَّما
خَرُوج بأَفْواهِ الرُّوَاةِ كأنها . . . قَرَى هِنْدُوَانيّ إذا هزَّ صَمَما
فارتاع له ، وقال : لمن هذا ؟ قيل : لجرير ، قال : لعن اللّه من يلومني أن يغلبني مثل هذا وقد بنى الشعرُ لقوم بيوتاً شريفة ، وهدم لآخرين أبْنِية منيفة :
وما هو إلاَّ القول يَسْرِي فتغتدي . . . له غُرَر في أوجهٍ ومَوَاسِمُقال أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي : سمعت أبا عَمْرو بن العلاء ورجل يقول : إنما الشعر كالمِيسَم . فقال : وكيف يكون ذلك كذلك ؟ والميسم يذهب بذهاب الجلد ويَدْرُس مع طولِ العهد ، والشَعْرُ يَبْقَى على الأبناء بعد الآباء ، ما بقيت الأرض والسماء وإلى هذا نحا الطائي في قوله : الطويل :
وأني رأيتُ الوَسْمَ في خُلُق الفتى . . . هو الوَسْمُ لا ما كان في الشَّعْر والجِلْدِ
وقال عمر ، رحمة الله عليه : تعلّموا الشعر ؛ فإن فيه محاسِنً تُبتغى ، ومساوئ تُتقى .
وقال أبو تمام : الكامل :
إنَّ القوافِيَ والمساعيَ لم تَزَلْ . . . مثلَ النظام إذا أصابَ فَرِيدا
هِيَ جوهر نثر فإنْ ألفْتَهُ . . . في الشعر كان قلائداً وعقودا
من أجل ذلكَ كانت العرب الأُلى . . . يدعونَ هذا سُؤدداً مجْدُودا
وتنِدُ عندهُمُ العُلاَ إلاَّ إذا . . . جُعِلَت لها مِرَرُ القصيدِ قيودا
وقال علي بن الرومي : الطويل :
أرى الشعر يحيي الناسَ والمجدَ بالذي . . . تُبقِّيْهِ أرواحٌ له عَطِراتُ
وما المجدُ لولا الشعْرُ إلاَ معاهدٌ . . . وما الناسُ إلاَ أَعْظُمٌ نَخِرَاتُ
بعض ما قاله الرسول الكريم
رجعت إلى ما قطعت ، مِما هو أحق وأولى ، وأَجلُ وأَعلى ، وهو كلام رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، الكريم النْجْرِ ، العظيم القَدر ، الذي هو النهايةُ في البيان ، والغاية في البرهانالمشتمل على جَوامع الكلم ، وبدائع الحِكم ، وقد قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أنا أَفْصَح العرب ، بَيْدَ أنّي من قريش ، واستُرضعت في سعد بن بكر ' وليس بعضُ كلامه بأَوْلى من بعض بالاختيار ، ولا أَحق بالتقديم والإيثار ؛ ولكني أُورد ما تيسر منه في أول هذا الكتاب استفتاحاً ، وتَيَمُناً بذلك واستنجاحاً .
وهذه شذورٌ من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، الصريح الفصيح ، العزيز الوَجيز ، المتضمن بقليل من المباني كثيرَ المعاني : قوله للأنصار : ' إنكم لَتقلُّون عند الطمع ، وتَكْثُرون عند الفَزَع ' .
وقوله عليه الصلاة والسلام : ' المسلمون تتكافأُ دماؤهم ، ويَسْعى بذمتهم أدْناهم ، وهم يَد على مَن سِوَاهم ' . الناس كإبل مائةٌ لا تجدُ فيها راحلة ' . ' إياكم وخَضْرَاء الدِّمَنِ ' . ' كل الصَيْدِ في جَوْفِ الفرَا ' - قاله لأبي سُفْيان صخر بن حرب - . ' الناسُ معادن ، خيارُهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام إذا فَقَهُوا ' . ' المؤمن للمُؤْمن كالبنيان يَشدُ بعضُه بعضاً ' . ' أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتُم ' . ' المتشبع بما لم يُعْطَ كلابس ثوبَيْ زورٍ ' . ' المرأة كالضلع إن رُمتَ قوامها كسَرْتها ، وإن دَاريتَهَا استمتعت بها ' . ' اليدُ العليا خير من اليد السفلى ' . ' مَطل الغنيَ ظُلم ' . ' يد اللّه مع الجماعة ' . ' الحياءُ شُعْبَةٌ من الإيمان ، مثلُ أبي بكر كالقَطْر ، أينما وقعَ نَفَع ' . ' لا تجعلوني في أَعْجَاز كتبكم كقَدح الراكب ' . ' أربعة من كنوز الجنة : كتمان الصَّدَقة والمرض والمصيبة والفاقة ' . ' جنة الرجل دارُه ' . ' الناس نيام فإذا ماتوا انتبهُوا ' . ' كفى بالسلامة داءً ' . ' إنكم لن تَسَعُوا الناسَ بأموالكم ، فَسَعُوهم بأخلاقكم ' . ' ما قلَّ وكفى خيرٌ مِمَّا كثر وألهى ' . ' كلٌّ مُيَسرٌ لما خُلِقَ له ' . ' اليمين حِنْثٌ أو مَنْدَمة ' . ' دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يريبك ' . ' اُنْصُرْ أَخاكَ ظالماً كان أو مظلوماً ' . ' احترسوا من الناس بِسُوءِ الظّنّ ' . ' الندمُ تَوْبة ' . ' انتِظارُ الفرج عبادة ' . ' نعم صَوْمَعة الرجل بيتُهُ ' . ' المستشير مُعان والمستشار مؤتمن ' .' المرءُ كثير بأخيه ' . ' إنَّ للقلوب صَدأ كصدإ الحديد وجِلاؤُها الاستغفار ' . ' اليوم الرهان وغَداً السباق ، والْجَنَّةُ الغايةُ ' . ' كلُّ مَنْ في الدنيا ضيف ، وما في يديه عاريةٌ ، والضيف مُرْتحِل ، والعاريَّة مؤدَاة ' .
ومن جوامع كَلِمِه ، عليه الصلاة والسلام ، ما رواه أهلُ الصحيح عن علَقمة بن وقّاص الليثي عن عمر بن الخطاب ، رضي اللّه عنه قال : سمعتُ رسولَ الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، يقول : ' إنما الأعمال بالنيّاتِ وإنما لكل امرئً ما نَوَى ، فمن كانت هِجْرَتُه إلى اللّه ورسوله فهِجْرَتُه إلى اللَّهِ ورسوله ، ومن كانَت هِجرتُه إلى دُنْيا يُصِيبها أو امرأة يتزوجها ، فهجْرَتُهُ إلى ما هاجر إليه ' .
قال أبو القاسم حمزة بن محمد الكناني : سمعتُ أهلَ العلم يقولون : هذا الحديث ثُلُثُ الإسلامِ ، والثلث الثاني ما رواه النعمان بن بشير أنَّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' الحلاَلُ بيِّن ، والحرام بيّن ، وبينهما أمورٌ مشتبهات ، فمن تركها كان أوْفَى لدينه وعِرْضِه ، ومن واقعها كان كالراتع حول الحمَى ، أَلا وإنَ لكل ملك حِمًى ، ألا وإنّ حمى اللّه مَحارمه ' .
قال : والثلث الثالث ما رواه مالك عن ابن شهاب عن علي بن حسين أن رسولَ اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المرْء تَرْكُهُ ما لاَ يَعْنِيه ' .
وقد سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، الشعْرَ وأثابَ عليه ، ونَدَب حسان بن ثابت إليه ، وقال : ' إن الله ليؤيّده بروحِ القُدُس ما نافَحَ عن نبيِّه ' .
ولما انتهى شعرُ أبي سفيانَ بنِ الحارثِ بن عبد المطلب إلى النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، شَقَّ عليه فدعا عبدَ الله بن رَوَاحة فاستنشدهُ فأَنْشَدَه فقال : أنتَ شاعرٌ كريم ، ثم دعاكعبَ بن مالك فاستنشده فأنشده ، فقال : أنت تُحْسِنُ صِفَة الحرب ، ثم دعا بحسّان بن ثابت فقال : أجِبْ عني ، فأَخْرج لسانه فضرب به أرْنَبته ؛ ثم قال : والذي بعثك بالحق ما أُحِب أن لي به مِقْوَلاً في معد ؛ ولو أن لساناً فَرى الشعَر لفرَاه . ثم سأل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، أن يَمسَ من أبي سفيان ، فقال : وكيف ، وبيني وبينه الرَّحِم التي قد علمت ؟ فقال : أَسُلُّك منه كما تُسَلّ الشَّعْرةُ من العجين فقال : اذهبْ إلى أبي بكر ، وكان أعلمَ الناس بأَنساب قريش ، وسائر العرب ، وعنه أخذ جُبَير بن مُطعْمِ علم النسب ، فمضى حسانُ إليه فذكر له معايبَهُ ، فقال حسّان بن ثابت : الطويل ،
وإنّ سَنَامَ الَمجْدِ مِنْ آل هاشم . . . بنو بنت مخزوم ووَالِدُك العبد
ومَن ولَدَتْ أبناء زُهْرَةَ منهُمُ . . . كرامٌ ، ولم يَقْربْ عَجَائِزَك المَجْدُ
ولَسْتَ كَعَبَّاسٍ ولا كابْنِ أُمِّه . . . ولَكِنْ لَئيمٌ لا يقوم له زندٌ
وإن امرأً كانت سُمَيَّةُ أمَّه . . . وسَمْراءُ مغموزٌ إذا بلغَ الجَهْدُ
وأنت زنيمٌ نِيط في آل هاشم . . . كما نِيطَ خَلْفَ الراكب القدَحُ الفَرْدُ
فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان قال : هذا كلامٌ لم يَغِبْ عنه ابنُ أبي قُحافة يعني ببني بنت مخزوم عبدَ الله وأبا طالبٍ والزبيرَ بني عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، أمُهُمْ فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، وأخواتهم بَرَّة وأميمة والبيضاء ، وهي أم حكيم ، والبيضاء جدَة عثمان بن عفان أم أمه .
وقوله : ومن ولدت أبناء زهرة منهم كرام يعني أميمة وصفية أم الزبير بن العوام ، أمُها هَالَةُ بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة .وقوله : ولستَ كعباس ولا كابْنِ أمه أمّ العباس : نتيلة امرأة من النَّمِر ابن قاسط ، وأخوه لأمه ضِرَار بن عبد المطلب .
وقوله : وإن امرأ كانت سمية أمه سمية أم أبي سفيان ، وسمراء . أم أبيه ، وليس هذا موضع إطناب في رفع الأنساب .
وكان عبدُ الأعلى بن عبد الرحمن الأموي عَتَبَ على بعض ولد الحارث فقال له مُعرَضاً بما قال حسان : السريع ،
إخالُ بالعمِّ وبالجَدّ . . . مفتخِراً بالقَدَح الفَردِ
الهَج بحسَّان وأشعارهِ . . . فإنها أَدْعَى إلى المَجْدِ
لولا سيوفُ الأَزْدِ لم تؤمنوا . . . ولم تقيموا سُورةَ الحمدِ
فتوعَّدوه ، فخافهم ، فقال : الطويل
بني هاشم ، عَفْواً عفا الله عنكُم . . . وإن كان ثوبي حَشْوُ ثنْييهِ مُجرُم
لكمْ حَرَمُ الرحمن والبيتُ والصَّفا . . . وجَمْعٌ وما ضمَّ الْحَطِيمُ وزمزَمُ
فإن قلتُمُ بادَهْتنا بعظيمة . . . فأحلامُكُمْ منها أجلُ وأعظمُ
وأسلم أبو سفيان - رحمه اللّه - وشهد مع النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، يوم حُنَيْنٍ ، وكان ممسكاً بَغْلَته حين فرَّ الناس ، وهو أحد الذين ثبتوا ، وهم - على ما ذكره أبو محمدٍ عبدُ الملك بنُ هشام - أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، والعباس ، وأبو سفيان ابن الحارث ، وابنه الفضلَ ، وربيعة بن الحارث ، وأُسامة بن زيد ، وأيمنُ ابنُ أم أيمن بن عبيدة قتل يومئذ ، وبعضُ الناس يعدُ فيهم قُثَمَ بن العباس ، ولا يَعُدُّ أبا سفيان ، وكان أبو سفيان من أشعر قريش ، وهو القائل : الوافر ،
لَقَد ْعَلمَتْ قرَيش غيْرَ فَخْرٍ . . . بأَنّا نَحْنُ أَجوَدُهُمْ حصَانَا
وَأَكْثَرُهُمْ دُرُوعاً سابِغَات . . . وأَمْضاهم إذا طعنوا سِنَانَاوَأدفعهم عن الضرّاء عنهم . . . وأَبْيَنُهم إذا نطقُوا لسانا
ويروى أن ابن سيرين قال : بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، في سَفرِه قد شنق ناقته بزمامها حتى وضعت رَأسها عند مقدمة الرَحل إذ قال : يا كعبُ ابن مالكٍ : أحد بنا فقال كَعب : الوافر ،
قَضيْنا مِن تِهَامَةَ كلَّ حَقّ . . . وَخَيْبَرَ ثم أجممنا السّيوفا
نخيِّرُهَا وَلو نَطَقَت لقالَت . . . قواطعُهُن : دَوْساً أَو ثَقيفَا فقال عليه السلام : ' والذي نفسي بيده لهي أشدُّ عليهم من رَشق النبْل ' ويقال : إنَ دوْساً أسلمت فَرَقاً من كلمة كعب هذه ، وقالوا : اذهبوا فخذوا لأنفسكم الأمان من قبل أن ينزل بكم ما نزل بغيركم .
وقتَلَ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، النضر بن الحارث ، وكان ممن أُسِرَ يوم بدر ، وكان شديد العداوة للًه ولرسوله ، وقَتَله علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، صَبراً ، فعرضت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أختُه قتيلة بنت الحارث - وفي بعض الروايات أن قتيلة أَتَتْهُ فأنْشَدَتهُ : الكامل
يا راكِباً إن الأثَيْلَ مَظنةٌ . . . مِن صُبْحِ غادِيةٍ وَأَنْتَ موَفَّقُ
أَبلِغ نجها مَيتاً بِأَن تَحيَّة . . . ما إن تزالُ بها النَجَائبُ تُعْنِق
منَي إليه وعَبْرَةً مسفوحةً . . . جادت بواكِفِها وَأُخْرَى تَخْنُق
هل يسمعنِّي النَضرُ إنْ ناديته . . . إن كان يسمع ميِّتٌ لا يَنطِقُ
ظلتْ سيُوفُ بني أبيه تَنُوشُه . . . للَهِ أرحامٌ هناك تَشَقّقُقَسْراً يُقادُ إلى المنيَّة مُتْعَباً . . . رَسْفَ المقيّدِ وَهْوَ عَانٍ موثق
أمحمد ، ها أَنْتَ صِنْو كريمة . . . في قومِها والفَحْلُ فحلٌ مُعْرِقُ
ما كانَ ضَرَّك لو مَنَنتَ وربَّما . . . من الفتى وهو المَغِيظُ المُحْنَقُ
فالنضرُ أقربُ مَن قَتَلْتَ قَرَابَةً . . . وأحقهم إن كان عِتْق يُعْتَقُ
أو كنت قابلَ فِديِةِ فَلْيُفْدَيَن . . . بأعزِّ ما يُغلى به مَنْ يُنْفِقُ
فذُكر أنَّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، رق لها ودمعت عيناه ، وقال لأبي بكر : ' لو كنتُ سمعتُ شعرَها ما قتلته ' .
والنضر هذا هو النضر بن الحارث بن عَلقمة بن كَلَدة بن عبد مناف بن عبد الدار .
قال الزبير بن بكار : وسمعت بعضَ أهلِ العلم يغمز في أبيات قتيلة بنت الحارث ويقول : إنَّها مصنوعة .
بعض ما قاله أبو بكر الصديق
ودخل أبو بكر الصديق رضوان الله عليه ، على النبي عليه الصلاة والسلام وهو مُسَجًّى بثَوْبٍ ، فكشَف عنه الثوبَ وقال : بأبي أَنْتَ وأمي طِبْتَ حَيًّاً وميّتاً ، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموتِ أحدٍ من الأنبياء من النبوّة ، فعظمْتَ عن الصفة ، وجَلْلَت عن البكاء ، وخَصَصْت حتى صرت مَسْلاَة ، وعَممْتَ حتى صِرْنا فيك سَواء . ولولا أنَ موتك كان اختياراً منك لجُدْنا لموتك بالنفوس ، ولولا أنك نهيت عن البُكاء لأنْفَدْنَا عليك ماءَ الشؤون . فأمَّا ما لا نستطيع نفيَه عنَّا فكمد وإدْناف يتحالفَانِ ولا يَبْرَحان . اللهم فأَبلغه عنّا السلام ، اذكُرْنَا يا محمد عند ربّك ، ولنكن من بالك ، فلولا ما خلَّفْتَ من السكينة لم نُقمْ لما خلَفْتَ من الوحشة ، اللهمَّ أبلغ نبيَّك عنّا وأحفظه فينا ، ثم خرج .
قوله رضي اللّه عنه : لولا أن موتك كان اختياراً منك إنَّمَا يريد قولَ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لميُقْبَض نبيّ حتى يَرى مقعده من الجنة ثم يُخَيّر ' قالت عائشة رضي اللّه عنها : فسمعتُهُ وقد شخص بصرُه وهو يقول : ' في الرفيق الأعلى ' فعلمت أنه خُيِّر ، فقلت : لا يختارنا إذَن ، وقلت : هو الذي كان يحدثنا . وهو صحيح .
وكان أبو بكر ، لمَّا تُوفِي رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، في أرضه بالسنح ، فتواترت إليه الرسلُ ، فأتى وقد ذُهِلَ الناس ، فكانوا كالخرس ، وتفرقت أحوالهم ، واضطربت أمورُهم ، فكذَّب بعضهم بموته ، وصَمَت آخرون فما تكلّموا إلاَ بعد التغير ، ، وخَلَطَ آخرون فلاثُوا ، الكلام بغير بَيَان ، وحقّ لهم ذلك للرزيّة العظمى ، والمصيبة الكبرى ، التي هي بيضة العُقْر ، ويتيمةُ الدهر ، ومدى المصائب ، ومنتهى النوائب ، فكل مصيبةٍ بعدها جَلَل عندها ، ولذلك قال ، ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لِتُعَزّ المسلمين في مصائبهم المصيبةُ بي ' .
وكان عمر بن الخطاب ، رضي اللّه عنه ، ممن كذَّب بموته ، وقال : ما مات ، وليرجعنّه اللّه ، فليقطعنَّ أَيْدِيَ المنافقين وأرجلَهم ، يتمنّون لرسول اللّه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، الموتَ ؛ وإنما واعده ربّه كما واعَدَ موسى ، وهو يأتيكم .
وأما عثمان ، رضي اللّه عنه ، فكان ممن أُخْرِس ، فجعل لا يكلِّم أحداً ، فيُؤخَذ بيده ويُجَاءُ به فينقاد . وأمّا علي ، رضي اللّه عنه ، فلُبِطَ بالأرْضِ ، فقعد ولم يَبرَح البيت حتى دخل أبو بكر ، وهو في ذلك جَلْد العقل والمقالة ، فأكبَّ عليه ، وكشف عن وَجْهه ومسَحه ، وقبَّل جبينه ، وبكى بكاءً شديداً ، وقال الكلامَ الذي قدّمته . ولمّا خرج إلى الناس وهم في شديد غَمَراتهم ، وعظيم سَكَراتهم ، قام فخطب خطبة جُلُها الصلاةُ على النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال فيها : أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللّه وَحْدَهُ لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله ، وأشهد أن الكتاب كما نزل وأن الدينَ كما شرع ، وأنَّ الحديث كما حدث ، وأن القول كما قال ، وأن اللّه هو الحقُّ المبين . في كلام طويل ، ثم قال : أيها الناسُ ؛ مَنْ كان يعبد محمداً فإنَّمحمداً قد مات ، ومن كان يعبدُ اللّه فإن الله حقٌّ لا يموت ، وإن الله قد تقدَّم إليكما في أمره ، فلا تَدَعُوه جَزَعاً ، وإن اللّه قد اختار لنبيهِ ما عنده على ما عندكم ، وقبضه إلى ثوابه ، وخلَّف فيكم كتابه ، وسنةَ نبيِّه ، فمن أخذ بهما عَرفَ ، ومن فرَّق بينهما أنكر ؛ ' يا أَيهَا الَّذِين آمَنُوا كُونوا قَوَامِينَ بالْقِسْطِ ' ، ولا يَشْغَلنّكُمُ الشيطانُ بمَوتِ نبيّكُمْ ، ويَفْتِنَنكُمْ عن دينكُم ؛ فعاجلوه بالذي تعجزونه ، ولا تستنظروه فيلحق بكم .
فلمّا فرغ من خطبته قال : يا عمر ، بلغني أنك تقول ما مات نبيُّ اللّه ، أَما علمت أنه قال في يوم كذا وكذا ، وفي يوم كذا وكذا : قال الله تبارك وتعالى : ' إنَّكَ ميِّت وإنّهُمْ مَيتُونَ ' ؟ . فقال عمر : والله لكأني لم أسمعْ بها في كتاب اللّه قَبْل ؛ لما نزل بنا ، أشهد أنَّ الكتابَ كما نزل ، وأن الحديثَ كما حدّث ، وأنّ الله حيٌ لا يموت ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون ثم جلس إلى جنب أبي بكر رحمه اللّه .
قالت عائشة ، رضوان الله عليها : لما قُبِض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، نجم النفاق ، وارتدَّت العرب ، وكان المسلمون كالغنم الشارِدَة ، في الليلة الماطرة ، فحمل أبي ما لو حملته الجبال لهَاضها ، فوالله إن اختلفوا في معظم إلاّ ذهب بحظّه ورشده ، وغنائه ، وكنتُ إذا نظرتُ إلى عمر علمتُ أنه إنما خلِقَ للإسلام ، فكان واللّه أحوذيًّاً نسيجَ وَحْدِهِ ، قد أعَدَّ للأمور أقرانها .
وحدث أبو بكر بن دريد عن عبد الأول بن يزيد قال : حدّثني رجل في مجلس يزيد بن هارون بالبصرة قال : لما تُوفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، دُفِن ورجع المهاجرون والأنصار إلى رحالهم ، ورجعت فاطمة إلى بيتها ؛ فاجتمع إليها نساؤها ، فقالت : الكامل :
اغبرَّ آفاقُ السماءِ ، وكُوِّرَتْ . . . شمسُ النهار ، وأَظْلَم العصرانِفالأرضُ من بعد النبي كئيبةٌ . . . أسفاً عليه كثيرةُ الرجَفَان
فَليَبْكِهِ شَرْقُ البلاد وغَرْبُها . . . وليبكه مُضَرٌ وكل يَمَانِ
وليبكه الطور المعظم جَوُهُ . . . والبيتُ ذو الأسْتَار والأَركانِ
يا خاتم الرسل المبارك ضوءُهُ . . . صلَى عليك منزِّلُ الفُرقان
وكان أبو بكر - رَضِي اللّه عنه - إذا أُثْني عليه يقول : اللهم أنت أَعَلَمُ بي من نفسي ، وأنا أعلم بنفسي منهم ، فاجعلْنِي خيراً مما يحْسَبُون ، واغفرْ ليَ برحمتك ما لا يعلمون ، ولا تؤاخِذْني بما يقولون .
وقال رحمه الله في بعض خطبه : إنكم في مَهَل ، من ورائه أجل ، فبادروا في مهَل آجالكم ، قبل أن تنقطع آمالكم ، فتردكم إلى سوء أعمالكم .
وذكر أبو بكر الملوكَ فقال : إن الملك إذا مَلك زَهَّدهُ الله في ماله ورغبه في مالِ غيره ، وأَشرب قلبه الإشفاق ؛ فهو يسخط على الكثير ، ويحْسُدُ على القليل ، جَذِلُ الظاهر ، حَزِين الباطن ، حتى إذا وَجَبتْ نفسُهُ ، ونَضَبَ عمره ، وضَحَا ظلُه حاسَبَهُ فأشدَّ حسابه وأقلّ عفوه . وذكر أنه وصل إلى أبي بكر مالٌ من البحرين ، فساوى فيه بين الناس ، فغضبت الأنصار ، وقالوا له : فَضَلْنَا فقال أبو بكر : صدقتُم ، إن أردتُمْ أن أفضلكم صار ما عملتُمُوه للدنيا ، وإن صبرتم كان ذلك لله عزَ وجل فقالوا : والله ما عملنا إلاّ لله تعالى ، وانصرفوا ؛ فَرَقيَ أبو بكر المنبر ، فحمِدَ الله ، وأثنى عليه ، وصلّى على النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ ثم قال : يا معشر الأنصار ، إن شئتم أن تقولوا : إنا آوَيْناكم في ظِلاَلِنا ، وشاطرناكم في أموالنا ، ونصرناكم بأنفسنا لقلتم ، وإنَ لكم من الفضل ما لا يُحْصِيه العدد ، وإن طال به الأمد ، فنحن وأنتم كما قال طُفَيل الغَنَوي : الطويل :
جزى الله عنا جعفراً حينَ أزْلَقَتْ . . . بنا نَعْلُنا في الواطئين فزَلَتِأبوا أن يملُونا ولو أن أمنا . . . تُلاَقي الذي يَلْقَوْنَ منَّا لَمَلَّتِ
هُمُ أسكنونَا في ظلال بيوتهم . . . ظلال بيوتٍ أدفأتْ وأظلَّتِ
فِقَر من كلامه رضي اللّه عنه : صنائعُ المعروف تقي مصارعَ السوء . الموت أهونُ ممّا بعده ، وأشدّ ممّا قبله . ليست مع العزاء مصيبة ، ولا مع الجزع فائدة . ثلاث مَنْ كن فيه كنَّ عليه : البَغْي ، والنكث ، والمكر . إن الله قَرَنَ وَعْده بوعيد ؛ ليكون العبد راغباً وراهباً .
ولما توفي ، رضي اللّه عنه ، وقفت عائشة على قبره ، فقالت : نَضَّرَ اللَهُ وَجهَكَ يا أبتِ ، وشكر لك صالحَ سَعْيك ، فلقد كنت للدنيا مذلاً بإدبارك عنها ، وللآخرة مُعزّاً بإقبالك عليها ، ولئن كان أجَلَّ الحوادث بعد رسول اللّه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، رزؤُك ، وأعظم المصائب بعده فقدك ، إن كتاب اللّه لَيَعِدُ بحسن الصبر عنك حسنَ العوض منك ، وأنا أستنجز موعودَ اللّه تعالى بالصبر فيك ، وأستقضيه بالاستغفار لك ، أما لئن كانوا قاموا بأمر الدنيا فلقد قمتَ بأمر الدين لمّا وَهى شَعْبُهُ وتفاقم صَدْعهُ ، ورجَفَتْ جوانبه ؛ فعليك سلام الله توديعَ غير قاليةٍ لحياتك ، ولا زارية على القضاء فيك .
وقال أبو بكر لبلال لما قُتل أمية بن خلف وقد كان يَسُومُه سوء العذاب بمكة فيخرجه إلى الرَّمْضاء ، فيلقي عليه الصخرة العظيمة ليفارقَ دينَ الإسلام فيعصمه اللّه من ذلك : الوافر :
هَنئياً زادك الرحمنُ خيراً . . . فقد أدركْت ، ثأرك يا بلالُ
فلا نِكْسا وُجِدْتَ ولا جباناً . . . غداة تنوشُكَ الأسَل الطوالُ
إذا هاب الرّجال ثبتَّ حتى . . . تخلِط أنْتَ ما هابَ الرّجالُ
على مضض الكُلُوم بمشرفيٍّ . . . جَلاَ أطرافَ مَتْنَيْهِ الصِّقَالُ
بعض ما قاله عمر بن الخطاب
وكتب عمرُ بن الخطاب - رضي اللّه عنه - إلى ابنه عبد اللّه : أمّا بعد ، فإنه مَن اتَّقى اللَهَ وَقَاهُ ، ومن توكّل عليه كَفَاهُ ، ومن شكر له زادهُ ، ومنْ أقرَضهُجَزَاهُ ؛ فاجْعَلِ التقوى عماد قلبك ، وجلاء بصرك ، فإنه لا عمل لمن لا نيّة له ، ولا أجْرَ لمن لا خشيةَ له ، ولا جديد لمن لا خلَقَ لهُ .
ودخل عديّ بن حاتم على عمَر ، فسلّم وعمرُ مشغول ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، أنا عديّ بن حاتم ؛ فقال : ما أعْرَفَني بك آمنتَ إذ كفروا ، ووفيتَ إذ غَدَرُوا ، وعرفتَ إذ أنكروا ، وأقبلتَ إذ أدْبَرُوا وقال رجل لعمر : مَن السيد ؟ قال : الجواد حين يُسْأَل ، الحليم حين يُسْتجهَل ، الكريم المجالسةِ لمن جالَسه ، الحسَن الْخُلُقِ لِمَنْ جاوره .
وقال رضي اللّه عنه : ما كانتِ الدنيا همَّ رجل قطُ إلاَّ لزم قلبَه أربعُ خِصَالٍ : فَقْرٌ لا يُدْرَك غناه ، وهَم لا ينقضي مَدَاه ، وشُغْلٌ لا ينفَدُ أُولاه ، وأمل لا يبلُغ مُنتهاهُ .
فصول قصار من كلامه رضي اللّه عنه
من كتم سرّه كان الْخِيارُ في يده ، أشقى الوُلاة من شقيَتْ به رعيَّتُهُ .
أعقلُ الناس أعذرُهم للناس . ما الخمر صرْفاً بأَذْهَب لعقولِ الرجالِ من الطمع .
لا يكن حُبُّك كَلَفا ، ولا بُغْضُكَ تَلَفا ، مُرْ ذوي القرابات أن يتزَاوَرُوا ، ولا يتجاوَروا . قلَّما أدْبر شيء فأقبل ، أشكو إلى اللّه ضَعْفَ الأمين ، وخيانةَ القوي ، تكثَّرُوا من العيال فإنكم لا تدرون بمن تُرْزَقون . لو أن الشكر والصبر بَعِيرانِ ما باليت أيَّهما أركب . من لا يعرفُ الشرّ كان أجدر أن يقع فيه . وقال معاوية بن أبي سفيان لصعصعة بن صُوحَانَ : صِفْ لي عُمَرَ بن الخطاب ، فقال : كان عالماً برعيَّته ، عادلاً في قضيَّته ، عارياً من الكِبْر ، قبولاً للعُذر ، سَهْلَ الحِجَاب ، مَصُونَ الباب ، متحرّياً للصواب ، رفيقاً بالضعيف ، غير مُحابٍ للقريب ، ولا جافٍ للغريب .
وروى أن عمرَ بن الخطاب ، رضي اللِّه عنه ، حجَ فلمَّا كان بضجنان قال : لا إله إلاَّ اللّه العليّ العظيم ، المُعْطِي مَن شاء ما شاء ، كنتُ في هذا الوادي في مِدْرَعة صوف أرْعى إبل الخطّاب ، وكان فظًّاً يُتْعِبني إذا عملت ، ويَضربني إذا قصرت ، وقد أمسيت الليلة ليس بيني وبين اللّه أحد ، ثم تمثّل : البسيط :
لا شيء مِمَاِ ترى تَبْقَى بشاشتُهُ . . . يبقى الإله ويُودي المالُ والولدُلم تغن عن هُرمُز يوماً خزائنهُ . . . والْخُلْدَ قد حاولت عادٌ فما خلَدُوا
ولا سليمان إذْ تجرِي الرياحُ لهُ . . . والجنُ والإنس فيما بينها تَرِدُ
أين الملوك التي كانت نوافلُها . . . من كل صَوْبٍ إليها وافِد يَفد
حوضُ هنالك مورودٌ بلا كدر . . . لا بدَ من وِرْدِهِ يوماً كما وَرَدوا
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح مكة : الطويل :
ألم تر أن اللَّهَ أظهر دِينَهُ . . . على كل دينٍ قبل ذلك حائدِ
وأمكنه من أهل مكة بعدما . . . تدَاعَوْا إلى أمرٍ من الغي فاسدِ
غداةَ أجَالَ الخيلَ في عَرَصاتها . . . مسوَمةً بين الزبير وخالد
فأمسى رسولُ الله قد عَزَّ نَصْرُهُ . . . وأمْسى عدَاه مِنْ قتيل وشارِد
يريد الزبير بن العوام حَوَارِيّ رسولِ اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وخالِدَ ابن الوليد سيفَ الله تعالى في الأرض .
ولما قتله أبو لُؤُلُؤَة غلامُ المغيرةِ بن شُعْبَة ، قالت عاتِكة بنت زيد بن عمرو ابن نفَيل زوجته ترثيه : الخفيف :
عَيْنُ جُودي بِعَبْرَةٍ ونَحِيبِ . . . لا تملي على الأمين النجِيب
فجَعَتْني المنونُ بالفارسِ الْمُع . . . لَم يوم الهياج والتثويبِ
عصْمَةُ الناس والمعينُ على الدَه . . . ر وغيثُ المحروم والمحروبِقل لأهْلِ الضراءِ والبُؤس موتوا . . . قد سقته المنُونُ كأسَ شعَوبِ
وقالت أيضاً ترثيه : الطويل :
وفَجعني فيْرُوز لا دَرَّ درُه . . . بأبيضَ تالٍ لِلْكِتابِ مُنِيبِ
رؤوف على الأدنى غليظ على العِدَا . . . أخي ثقة في النائبات نجيبِ
متى ما يَقُلْ لا يكذب القولَ فِعلُه . . . سريع إلى الخيرات غير قَطوبِ
وعاتكة هذه ، هي أخت سعيد بن زيد ، أحدِ العشرة الذين شهد لهم النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، بالجنَّة ، وكانت تحت عبد اللّه بن أبي بكر ، فأصابه سهْمٌ في غَزوَة الطائف فمات منه ، فتزوجها عمر ، رضي اللّه عنه ، فقُتِل عنها ، فتزوجها الزبير ابن العوام فقُتِلَ عنها ، فكان علي ، رضي الله عنه يقول : من أحبَّ الشهادة الحاضرة فليتزوج بعاتِكة
ومن كلام عثمان بن عفان رضي اللّه عنه
:
ما يَزَعُ اللَهُ بالسُلْطانِ ، أكثَرُ مما يزعُ بالقرآن . سيجعلُ الله بعد عُسْرٍ يسراً ، وبعد عِي بياناً ، وأنتم إلى إمام فعَال ، أحوجُ منكم إلى إمام قَوَّال ، قاله في أول خلافته وقد صعد المنبر وأُرْتِج عليه .
وكتب إلى علي ، رضي اللّه عنه ، وهو مَحْصُور : أمّا بعد ، فقد بَلغ السَّيْلُ الزُبَى ، وجاوز الحزامُ الطبْيَيْنِ ، وطمع فيَ مَنْ كان لا يَدْفع عنه نفسه ، ولم يعجزك كلئيم ، ولم يغْلِبْك كمغَلَّب ؛ فأَقبِلْ إليّ ، معي كنت أو علي ، على أيّ أمرَيْك أحببت الطويل :
فإن كنتُ مأكْولاً فكُنْ أنت آكِلي . . . وإلاّ فأَدْرِكْني ولَما أُمزَّقِوهذا البيت للممزَّق العبدي ، وبه سمي الممزّق ، واسمه شأس ، وإنما تمثّل به عثمان ، رضي اللّه عنه ؛ وحذّاق أحل النظر يدفعون هذا ، ويستشهدون على فساده بأحاديث تُناقِضه ليس هذا موضعها . قالوا : وكان عثمان ، رضي اللّه عنه ، أتقَى لله أن يَسعى في أمره عليّ ، وعليّ أتقى للّه أن يسعى في أمرِ عثمان ، وهذا من قوله عليه السلام : أشقَى الناس مَن قتله نبي أو قَتل نبيًّاً .
ومن كلام عثمان ، رضي الله عنه وأكرم نزله ، وقد تنكر له الناس : أمر هؤلاء القوم رعاع عير ، تطأطأت لهم تطأطأ الدلاء ، وتلددت لهم تلدد المضطر ، رأيتهم ألحف إخواناً ، وأوهمني الباطل لهم شيطاناً . أجررت المرسون رَسَنَه ، وأبلغت الراتع مسعاته ، فتفرقوا عليّ فرقاً ثلاثاً ، فصامتٌ صمته أنفذ من صَولِ غيره ، وشاهد أعطاني شاهده ومنعني غائبه ، ومتهافِتّ في فتنة زُيِّنَت شي قلبه ، فأنا منهم بين ألسُنِ لِدَاد ، وقلوب شداد ، عذيري الله منهم ، ألا ينهى عالم جاهلاً ، ولا ينذر حليم سفيهاً ؟ واللّه حسبي وحسبهما يوم لا ينطقون ، ولا يؤذن لهم فيعتذرون .
سئل الحكم بن هشام فقال : كان واللّه خيار الخيرة ، أمير البررة ، قتيل الفجرة ، منصور النصرة ، مخذول الخذلة ، مقتول القتلة .
ونظيرُ البيت الذي أنشده قولُ صخر الجعد : الطويل :
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي . . . فإنّ منايا القوم أكْرم من بعضِ
قال المتوكل : أتيت بأسارى ، فسمعت امرأة منهم تقول : الوافر :
أمير المؤمنين سَمَا إلينا . . . سَمُو الليث أخرجه العريفُ
فإنْ نَسْلَمْ فعونَ اللَّه نرجو . . . وإن نقْتَلْ فقاتِلُنا شريفُ
وقد ذكر بعض أهل العلم أنه لا يُعرف لعثمان شعر ، وأنشد له بعضهم : الطويل :
غِنَى النفسِ يُغْني النفسَ حتى يكُفَّها . . . وإنْ عضهَا حَتى يضرَّ بها الفَقْرُ
وما عُسْرَةٌ فاصْبِرْ لها إن تَتَابَعَتْ بباقيةٍ إلاَّ سيتبعها يُسْرُوقول عثمان ، رضي الله عنه فيما روى : ولم يغلبك كمغلَّب من قول امرئ القيس : الطويل :
فإنكَ لم يَفخَرْ عليك كفاخر . . . ضعيفٍ ولم يَغْلِبك مِثْل مغَلَّبِ
وقال أبو تمام وذكر الخمر : الكامل :
وضعيفةٌ فإذا أصابَتْ فُرصة . . . قَتَلَتْ ، كذَلك قُدْرَةُ الضُّعَفاءِ
من كلام عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه
لا تَكُن ممن يَرْجُو الآخرة بغير عمل ، ويؤخّرُ التوبةَ لطولِ الأمَل ، ويقولُ في الدنيا بقول الزاهدين ، ويعملُ فيها بعمل الراغبين ، إنْ أُعطيَ منها لم يشبع ، وإن مُنِح لم يَقنع ، يعجز عن شُكرِ ما أوتي ، ويبتغي الزيادة فيما بَقِي ، يَنْهى ولا يَنتهي ، ويأمر بما لا يَأْتي ، يحبُّ الصالحين ولا يعمل أعمالهم ، ويبغِضَ المسيئين وهو منهم ؛ يكره الموتَ لكثرة ذنوبه ، ويقيمُ على ما يكرهُ الموت له ، إن سقم ظَلَّ نادماً ، وإن صحَ أَمِنَ لاهِيا ، يُعْجَب بنفسه إذا عُوفي ، ويَقْنَطُ إذا ابتلي ، تغلِبُه نفسُهُ على ما يظن ، ولا يَغلبُهَا على ما يستيقن ، ولا يَثِقُ من الرزق بما ضمِنَ له ، ولا يَعْمَل من العمل بما فُرِض عليه ، إن استغنى بَطِر وفُتن ، وإن افتقر قَنِطَ وحَزِن ، فهو من الذّنب والنعمة موقَر ، يبتغي الزيادة ولا يَشكر ، ويتكلّف من الناس ما لم يُؤْمر ، ويضيع من نفسه ما هو أكثر ، ويُبَالغ إذا سأل ، ويقصر إذا عمل ، يخشى الموتَ ، ولا يبادِر الفَوْتَ ، يستكثر من معصية غيره ما يستقلُّ أكثره من نفسه ؛ ويستكثرُ من طاعته ما يستقلّه من غيره ، فهو على الناس طاعِن ، ولنفسه مداهن ، اللَغْوُ مع الأغنياء أحَب إليه من الذكر مع الفقراء ، يحكم على غيرِه لنفسه ، ولا يحكمُ عليها لغيره ، وهو يُطَاع ويَعْصِي ، ويستوفي ولا يُوفي .
وسُئِل ، رضي اللّه عنه ، عن مسألة فدخَلَ مبادراً ، ثم خرج في حذاء ورداء ، وهو يتبسّم ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، إنك كنت إذا سُئِلْت عن مسألة كنت فيها كالسِّكةالمُحْماة فقال : إني كنت حاقناً ولا رَأيَ لحاقن ، ثم أنشأ يقول : المتقارب :
إذا المشكلاتُ تصدَّيْنَ لي . . . كشفتُ حقائِقَها بالنَّظَرْ
وإن برقَتْ في مَخِيل الصوا . . . ب عَمْيَاءُ لا تجتليها الذكر
مقنعةً بأُمور الغيوب . . . وضعت عليها صَحيحَ الفكَرْ
لساناً كَشِقْشِقَةِ الأرحبيّ . . . أو كالحسام اليَماني الذَّكَرْ
وقلباً إذا استنطقته العيون . . . أمرّ عليها بواهي الدرر ولستُ بإمّعة في الرّجال . . . أُسائل عن ذَا وذَا ما الخبر
ولكنني ذَرِبُ الأصغرَيْنِ . . . أبيِّن مَعْ ما مضى ما غبرْ
وقال معاوية ، رضي اللّه عنه ، لضِرار الصُدَائي : يا ضرار ، صِفْ لي علياً ، فقال : أعْفني يا أمير المؤمنين ، قال : لتصفنه ، فقال : أما إذ أذنت فلا بدَّ من صفته : كان والله بعيدَ المَدَى ، شديدَ القُوَى ، يقولُ فَصْلاً ، ويحكمُ عَدْلاً ، يتفجرُ العلمُ من جوانبه ، وتنطقُ الحكمةُ من نواحيه ، يستَوْحِشُ من الدنيا وزهْرَتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان واللّه غزيرَ الدَمْعَة ، طويل الفكرة ، يقلبُ كفَّهُ ، ويخاطب نفسه ، يُعْجِبُهُ من اللِّباس ما قَصُرَ ، ومن الطعام ما خشُنَ ، وكان فِينا كأحدِنَا ، يُجيبُنَا إذا سألناهُ ، وينْبِئُنَا إذا أسْتَنْبَأْنَاهُ ، ونحن - مع تقريبِهِ إيَّانا ، وَقُرْبه منّا - لا نكادُ نكلمه لهيبته ، ولا نَبْتَدِئُهُ لعظمته ، يعظمُ أهل الدين ، ويحب المساكينَ ، لا يطمعُ القويُّ في باطله ، ولا يَيْأسُ الضعيفُ من عدلِهِ ، وأشهدُ لقد رأيتهُ في بعض مواقفه ، وقد أرْخَى الليلُ سُدُولَه ، وغارت نجومُهُ ، وقد مَثَلَ في محرابه ، قابضاً على لحيته يَتَملْمَلُ تململَ السليم ، ويبكي بُكاء الحزين ، ويقول : يا دُنيا ، إليكِ عَنِّي غُرِّي غَيْرِي ، ألِي تَعَرَضْتِ ، أمْ إليَّ تشوَّفْتِ ؟ هيهات قد باينتكِ ثلاثاً ، لا رَجعَةَ لي عليك ؛ فَعُمْرُكِ قصيرٌ ، وخَطَرُكِ حَقِير ، وخطبُكِ يسير ؛ آهِ من قلّة الزاد ، وبُعْدِ السفرِ ، وَوَحْشَةِ الطريقفبكى معاوية حتى أخْضَلَتْ دُموعُهُ لحيتَهُ ؛ وقال : رَحِمَ اللَهُ أبا الحسن فلقد كان كذلك ، فكيفَ حُزْنُكَ عليه يا ضِرَار ؟ قال : حُزْنُ مَنْ ذُبحَ وَاحِدُهَا في حِجْرِها وقال عليّ ، رضوان الله عليه : رَحِمَ اللَّهُ عبداً سَمِعَ فوَعَى ، ودُعِيَ إلى الرشاد فَدَنا ، وأخذ بحُجْزَة هَادٍ فنجا ، وراقبَ رَبَّه ، وخافَ ذَنْبَهُ ، وقدَّم خالصاً ، وعملَ صالحاً ، واكتسبَ مَذْخُوراً ، واجتنب محذوراً ، ورمى غَرضاً ، وكابرَ هوَاهُ ، وكذَب مُنَاهُ ، وحذرَ أجلاً ، ودَأب عملاً ، وجعلَ الصبرَ رغبةَ حياته ، والثقَى عُدَّةَ وفاته ، يُظهِرُ دون ما يكتُمُ ، ويكتفي بأقل مما يعلم ، لزمَ الطريقة الغرَّاء ، والمحجة البيضاء ، واغتنمَ المهلَ ، وبادرَ الأجَلَ ، وتزَوَدَ من العَمل .
ولما رَجع ، رضي اللّه عنه ، من صِفَين ، فدخلَ أوائلَ الكوفة إذا قَبْرٌ ، فقال : قَبْرُ مَنْ هذا ؟ فقيل : خباب بن الأرَتِّ ، فوقفَ عليه ، وقالَ : رحم الله خَبَّاباً أسلمَ رَاغِباً ، وهاجرَ طائعاً ، وعاشَ مجاهِداً ، وابْتُلِيَ في جسمه أحوالاً ، ولن يضيع اللَهُ أجرَ مَنْ أحسَنَ عملاً .
ومضى فإذا هو بقبور ، فوقف عليها ، وقال : السلامُ عليكم أهلَ الديار المُوحِشة ، والمحال المقْفِرَةِ ، أنتم لنا سَلَف ، ونحنُ لكم تُبع ، وبكم - عمّا قليل - لاحِقُون ؛ اللهمَ اغْفِرْ لنا ولهم ، وتجاوزْ عنَا وعنهم بعَفْوِكَ ؛ طُوبى لمن ذكرَ المَعَاد ، وعَمِلَ للحساب ، وقَنِعَ بالكَفَاف . ثم التفت ، رضي الله عنه ، إلى أصحابه ، فقالَ : أما إنهم لو تكلَمُوا لقالوا : وَجدْنا خيرَ الزادِ التقْوَى .
وذَمَّ رجُلٌ الدنيا بِحَضْرَةِ علي ، رضي الله عنه ، فقال : دارُ صِدْق لمن صدقها ، ودَارُ نجاةِ لمن فهم عنها ، ودارُ غِنًى لمن تزوَدَ منها ، مهْبِط وَحْيِ اللَهِ ، ومُصلَى ملائكته ، ومَسْجِد أنبيائه ، ومَتْجَرُ أوليائه ، رَبِحُوا فيها الرحمة ، واكتسبوا فيها الجنة ، فمن ذا يذقها ، وقدْ آذَنتْ بِبيْنهَا ، ونادت بِفِرَاقها ، وذكَّرَتْ بسرورها السرور ، وببلائها البلاء ، ترغيباً وترهيباً ، فيأيهَا الذام لها ، المعقَل نفسه بغرورها ، متى خدٌعتْكَ الدُّنيا ؟ أم بماذا أسْتَذَمَتْ إليك ، أبِمَصْرًع آبائكَ في البلى ؟ أم بِمَضْجَع أُمهاتك في الثرَى ، كم مرضت بكفيك ، وكم عللت بيديك ، تطلبُ له الشفاء ، وتستوصفُ الأطباء ، غَداةَ لا ينفعُه بكاؤك ، ولا يُغْنِي دواؤك .فقر من كلامه رضي اللّه عنه : البشاشة فخ المودة . والصبر قبر المغبون . والغالبُ بالظلم مغلوب . والحجَر المغصوبُ بالدار رهن بخرابها . وما ظفرَ مَن ظفرت به الأيام . فسالِمْ تَسْلَم . رَأْيُ الشيخ خيرٌ من مَشْهَدِ الغلام . الناس أعداءُ ما جهلوا . بقيةُ عمر المؤمن لا ثَمن لها ، يدرك بها ما أفات ويُحْيي ما أمات . نقل هذا الكلام بعضُ أهلِ العصر ، وهو أبو الفتح عليّ بن محمد البستي البسيط :
بقيةُ العمر عندي ما لها ثمن . . . وإن غَدَا وهو محبوب من الثمنِ
يستدرك المرءُ فيها ما أفات ويح . . . ييِ ما أمات ويَمْحُو السوءَ بالحسَنِ
الدنيا بالأموال ، والآخرة بالأعمال . لا تخافَنّ إلاَّ ذنبك ، ولا ترجُوَنَّ إلاَّ ربّك . وجهُوا آمالكم إلى مَنْ تحبّه قُلوبُكم . الناسُ من خَوْف الذلّ في الذلّ . مَنْ أَيْقَنَ بالخُلْفِ جاد بالعطية . بقيَّةُ السيفِ أنْمَى عَدَداً ، وأنْجَبُ ولداً - وقد تبيّنت صِحَّة ما قال في بنيه وبني المهلب - إنَ من السكوت ما هو أبْلَغُ من الجواب . الصبرُ مَطِيَّة لا تَكْبُو ، وسَيْفٌ لا يَنْبُو . خَيْرُ المالِ ما أغنَاك ، وخيرٌ منه ما كَفاك ، وخير إخوانك مَنْ واساك ، وخيرٌ منه من كفاك شرّه .
وقال بعضُ أهل العصر ما يشاكِل هذا وهو أبو الحسن محمد بن لَنككٍ البصري : مجزوء الخفيف :
عَدِّيا في زماننا . . . عَنْ حَدِيثِ المكارمِ
مَنْ كفى الناسَ شرَّهُ . . . فهو في جُودِ حاتِمِ
أبو الطيب : البسيط :
إنَّا لَفي زَمَنٍ تَرْكُ القَبيحِ بهِ . . . من أكْثَرِ الناس إحْسَان وإجْمَالُإذا قدرت على عدوّك فاجْعَلِ العفوَ عنه شكراً للقُدْرة عليه . قيمةُ كلِّ امرئ ما يحسن .
ذكر أبو عثمان عمروُ بن بَحْرٍ الجاحظُ هذه الكلمة في كتاب البيان فقال : فلو لم نَقِفْ من هذا الكتاب إلاَّ على هذه الكلمة لوجدناها شافية ، كافية ، ومجْزِية مُغْنِيةً ، بل لوجدناها فاضلة عن الكِفاية ، غير مقصِّرة عن الغاية ، وأفضلُ الكلامِ ما كان قليلُه يُغْنِيك عن كثيره ، ومعناه ظاهراً في لَفْظِه ، وكأنَ اللّه قد ألْبَسه من ثيابِ الجلالة ، وغشَاه من نُورِ الحكمة ، على حَسَب نِيَّة صاحبه ، وتَقْوَى قائله ، فإذا كان المعنى غريفاً ، واللفظ بليغاً ، وكان صحيح الطبع ، بعيداً من الاستكراه ، منزَّهاً عن الاختلال ، مَصُوناً عن التكلف ؛ صَنَع في القلوب صَنِيعَ الغَيْثِ في الترْبَةِ الكريمة ، ومتى فصِّلَت الكلمةُ على هذه الشريطة ، ونَفَذَت من قائلها على هذه الصفة ، أصحبها اللّه ، عزَ وجل ، من التوفيق ، ومنَحَها من التَأْييد ، ما لا يمتنعُ من تعظيمها به صدورُ الجبابرة ، ولا يذهل عن فَهْمِها معه عقولُ الجهلة .
ومن دُعائه ، رضي اللّه عنه في حروبه : اللهمَ أَنْتَ أَرْضى للرضا ، وأسْخَط للسُخْطِ ، وأقدر على أن تغيّر ما كرهت ، وأعلم بما تقدر ، لا تُغْلَب على باطل ، ولا تعجز عن حق ، وما أنت بغافل عمّا يعمل الظالمون .
وقال علي رضي اللّه عنه : الطويل :
لِمَنْ رايةٌ سَوْداءُ يَخْفق ظِلُها . . . إذا قيل قَدِّمْها حُضَيْنُ تقدَّما
فيوردها في الصَّف حتى تردّها . . . حياضُ المنايا تقطُر الموتَ والدَّما
جزى الله قوماً قاتلوا في لقائهم . . . لدى الروعِ قوماً ما أعزَّ وأكْرَما
وأطيب أخْباراً وأفْضَلَ شِيمةً . . . إذا كان أصواتُ الرجال تَغَمْغُما
حضين الذي ذكره هو : أبو ساسَان الحضينُ بنُ المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي ، وكان صاحب رايَتِه يومَ صِفّين .ويروى عنه أنه قال بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها : الطويل :
أرى عِلَلَ الدنيا عليَّ كثيرةً . . . وصاحِبُها حتى المماتِ عليلُ
لكل اجتماع من خليلين فُرْقَةٌ . . . وإن الذي دُون المماتِ قليل
وإنْ افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ . . . دليل على ألاَ يدومَ خَليلُ
ولما قتَل عمرو بن عبد وُدّ سقط فانكشفَتْ عَوْرَته ، فتنحَى عنه وقال : الكامل '
آلى ابنُ عبد حين شَد أليّةًوحلفْتُ فاستمعوا من الكذاب
ألاَّ بِفر ولا يملل فالتقى . . . أسَدَان يضْطَرِبان كل ضِرَابِ اليوم يمنعني الفرارَ حفيظتي . . . ومصمَمٌ في الرَأسِ ليس بنَابِ
أعرضْتُ حين رأيتُه متقطراً . . . كالجِذْع بين دَكادكٍ ورَوَابي
وعففتُ عن أثوابه ولَوَ أنني . . . كنت المقطّر بَزني أثوابي
نَصر الحجَارة من سفاهة رَأيه . . . ونَصَرْتُ دينَ محمد بصواب
لا تحسبُنَّ اللَهَ خاذلَ دينهِ . . . ونبيه يا مَعْشَرَ الأحزاب
في أبيات غير هذه ، وبعضُ الرواة يَنْفيها عن علي رضي الله عنه .
وعمرو هذا هو : ابن عبد وُد بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي ، وكان قد جَزَع المذاد ، وهو موضع حُفر فيه الخندقُ يومَ الأحزاب ، وفي ذلك يقول الشاعر : الكامل :
عمرو بن ودٍّ كان أولَ فارسٍ . . . جَزَع المذادَ وكان فارسَ يَلْيَلولما صار مع المسلمين في الْخَندَق دعا إلى البراز ، وقال : مجزوء الكامل :
ولقد بَحِحْتُ من الندا . . . ء بجمعهم هَلْ مِنْ مُبارِزْ
ووقفْتُ إذ نكلَ الشجا . . . ع بموقْفِ البَطَلِ المُنَاجِزْ
إني كذلك لم أزلْ . . . متسرَعاً نحو الهَزاهز
إنَّ السماحة والشجا . . . عةَ في الفتى خيرُ الغرائزْ
فبرز علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فقال : يا عمرو ، إنك عاهدت اللّه لقريش ألاَ يدعوك أحدٌ إلى خلتين إلاّ أخذت إحداهما ، فقال : أجل قال : فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام . قال : لا حاجَةَ لي بذلك ، قال : فإني أدعوك إلى المبارزة ، فقال : يا ابن أخي ، ما أُحِبُّ أن أقْتُلَك قال علي : لكني واللَهِ أُحِبُّ أن أقتلك ، فحمِيَ عمرو ، فاقتحم عن فرسه وعَرْقَبه ثم أقبل إلى علي : الكامل :
فتجاوَلاَ كغمامتين تكنفتْ . . . مَتْنَيهما رِيحاً صَباً وشَمالِ
في موقف كادت نفوسُ كُماتِه . . . تُبْتَزُ قَبْلَ تَوَرُدِ الآجالِ
وعلت بينهما غبرة سترتْهُما فلم يرع المسلمين إلاَّ التكبيرة فعلموا أنَّ عليًّاً قتله .
ولما قُتل عمرو جاءت أخته فقالت : مَن قتَله ؟ فقيل : علي بن أبي طالب ، فقالت : كٌفء كريم ثم انصرفت وهي تقول : البسيط :
لو كان قاتلُ عمرو غيرَ قاتلهِ . . . لكنت أبكي عليه آخرَ الأبدِ
لكنَ قاتلَه من لا يُعابُ بهِ . . . وكان يُدْعَى قديماً بَيْضَةَ الْبَلَدِ
من هاشمٍ في ذراها وَهْيَ صَاعِدَة . . . إلى السماء تُمِيتُ الناسَ بالحسَدِ
قومٌ أبى اللّه إلاَّ أن يكونَ لهم . . . مكارمُ الدِّينِ والدُنيا بلا أمَدِ
يا أم كلثوم بَكَيهِ ولا تَدَعِي . . . بكاءَ مُعْوِلَةٍ حَرَى على وَلَدِ
أم كلثوم : بنت عمرو بن عبد وُد . وبيضة البلد تَمْدَحُ به العربُ وتَذُم ؛ فمن مَدَحبه جعله أصلاً ، كما أن البيضة أصلُ الطائِرِ . ومن ذم به أراد أنْ لا أصل له . قال الراعي يهجو عديّ بن الرقاع العاملي : البسيط :
يا من تَوَعَدني جَهْلاً بكثرتِهِ . . . متى تهدّدني بالعزِّ والعدَدِ
أنت امرؤ نال من عِرْضِي وعزّتُه . . . كعزة العَيْرِ يَرْعَى تَلْعَةَ الأسَدِ
لو كنتَ من أحدٍ يهجَى هجوتكُمُ . . . يا ابن الرّقاع ولكن لَسْتَ من أحدِ
تأبى قُضاعةُ أن تَرْضَى لكُمْ نسباً . . . وابنا نزارٍ ؛ فأنتُمْ بيْضَةُ البلدِ
وقال أبو عبيدة : عاملة بن عدي بن الحارث بن مرة بن أد بن زياد ابن يشجب ، يُطْعَنُ في نسبه من قحطان ، ويقال : هو عاملة بن معاوية بن قاسط ابن أهيب ؛ فلذلك قال الراعي هذا . ويقال : إن جندل بن الراعي قالها ، وقد قال يحيى بن أبى حفصة الأموي في عاملة الطويل :
ولسنا نُبالي نَأْيَ عاملةَ التي . . . أجَدَ بها من نحو بُصْرَى انحدارُها
تدافَعَها الأحياءُ حتى كأنها . . . ثياب بدا للمشترين عَوَارُها
قذفنا بها لَمَّا نأتْ قَذْف حاذف . . . بسودِ حصًى خَفَتْ عليه صِغَارُهَا
ويشبه قول علي رضي اللّه عنه وعففت عن أثوابه قولَ عنترة بن شداد العبسي الكامل :
هلاَّ سألتِ الخيلَ يا ابْنَةَ مالِكٍ . . . إن كنتِ جاهلةً بما لم تَعْلَمي يُخْبِرك مَن شَهِدَ الوقيعةَ أنني . . . أغْشَى الوغَى وأعِف عند المغْنَمِ
وقال حبيب بن أوس الطائي البسيط :
إن الأسُوْدَ أُسودَ الغابِ هِمَّتُها . . . يومَ الكريهة في المَسْلُوبِ لا السَلَبِ
قد علقت بذيل ما أوْردته ، وألحقت بطرف ما جردته ، من كلام سيد الأولين والآخرين ، ورسول رب العالمين ، ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى آله الأخيار الطيبين الطاهرين ، قطعةً من كلامالخلفاء الراشدين ، قدمتها أمام كلّ كلام ، لتقدمهم على الْخَلْق ، وأخذهم بقصَبِ السَبْقِ ، وهم كما قال بعضُ المتكلِّمين يصف قوماً من الزهّاد الواعظين ، جَلَوْا بكلامهم الأبصارَ العليلة ، وشحذوا بمواعظهم الأذهان الكليلة ، ونبهوا القلوبَ من رَقدَتِها ، ونَقَلوها عن سوء عادَتها ، فشفَوْا من داء القسوة ، وغَبَاوة الغَفْلَةِ ، وداوَوْا من العيِّ الفاضح ، ونهجُوا لنا الطريقَ الواضح . وآثَرْت أن ألحق بعد ذلك جملةً من سليم كلام سائر الصحابة والتابعين ، رضي الله عنهم أجمعين ، وأدرج في دَرج كلامهم وأثناء نثرِهم ونظمهم ، ما التفَّ عليه والتفّت إليه ، وتعلَّق بأغصانه ، وتشبَّثَ بأفْنَانِهِ ، كما تقدّم ، وأخرج إلى صفات البلاغات ، وآخُذ بعد ذلك في نظم عقود الآداب ، ورَقْمِ برود الألباب : البسيط ،
من كل معنًى يكاد الميتُ يَفْهَمُه . . . حُسناً ويَعْبُدُهُ القِرْطَاسُ والقلمُ
من كلام الصحابة والتابعين
قال معاوية بن أبي سفيان رحمه الله : أَفْضَلُ ما أُعْطِيَ الرجلُ العَقْلُ والحلمُ ، فإذا ذُكّر ذكَر ، وإذا أساء استغفر ، وإذا وَعَد أنجز .
وصف معاويةُ الوليدَ بن عُتْبة فقال : إنه لبعيد الغَوْر ، ساكن الفور ، وإن العُودَ من لِحَائه ، والولد من آبائه ، واللّه إنه لنبات أصل لا يخلف ، ونجل فَحْل لا يقرف .
ومرض معاويةُ مرضاً شديداً فأرْجَف به مَصقلة بن هُبيرةَ وساعَده قَوْمٌ على ذلك ، ثم تماثل وهم في إرجافهم ، فحمل زياد مَصقلة إلى معاوية وكتب إليه : إنه يَجْمَعُ مرَاقاً من العرَّاق فيُرْجِفُون بأمير المؤمنين ، وقد حملتُه إليه ليَرَى رأيه فيه ' .فقدم مَصْقَلة وجلس معاويةُ للناس ؛ فلمَا دخل عليه قال : ادْنُ مني فَدَنا منه ، فأخذَهُ بيده فجذَبه فسقط مَصْقَلة ، فقال معاوية : مجزوء الكامل
أبقى الحوادثَ من خلي . . . لك مِثْلَ جَنْدَلةِ المرَاجِمْ
صُلباً إذا خَار الرجا . . . لُ أبل ممتنِعَ الشكائمْ
قد رامني الأعداء قب . . . لك فامتَنَعْتُ عن المظالمْ
قال مصقلة : يا أمير المؤمنين ، قد أبقى اللّه منكَ ما هو أعظَمُ من ذلك بطشاً وحِلماً راجحاً وكلأً ومرعًى لأوليائك ، وسُمَاً ناقعاً لأعدائك ، كانت الجاهلية فكان أبوك سيّدَ المشركين ، وأصبح الناس مسلمين ؛ وأنت أميرُ المؤمنين ، وقام .
فوصله معاوية ، وأذن له في الانصراف إلى الكوفة . فقيل له : كيف تَرَكتَ معاوية ؟ فقال : زعمتم أنه لما به ، والله لقد غمزني غمزة كاد يَحْطِمُني ، وجذَبَني جَذْبَة كاد يكسر عُضْواً مني ودخل الأحنفُ بن قيس على معاوية وافداً لأهلِ البصرة ، ودخل معه النَمر بن قُطْبة ، وعلى النمر عباءة قَطَوَانية ، وعلى الأحنف مِدرَعَةُ صوف وشَملة ، فلمَا مثلا بين يدي معاوية اقتحمَتْهُمَا عينُه ؛ فقال النمر : يا أميرَ المؤمنين ، إنَّ العباءة لا تكلَمك ، وإنما يكلمك مَنْ فيها فأومأ إليه فجلس ، ثم أقبل على الأحنف فقال : ثم مَه ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، أهلُ البصرة عدد يسير ، وعَظْمٌ كسير ، مع تتابع من المُحُول ، واتصالٍ من الذُحول فالمكْثِرُ فيها قد أطرق ، والمُقلُّ قد أمْلَق ، وبلغ منه المُخنق ؛ فإنْ رَأى أميرُ المؤمنين أن ينعشَ الفقيرَ ، ويَجْبُرَ الكسير ، ويسهل العسير ، ويَصْفَح عن الذُحول ، ويُدَاوِي المُحول ، ويأمر بالعَطَاء ؛ ليكشف البَلاَء ، ويُزِيل اللأواء . وإنَ السيدَ من يعم ولا يخصومَنْ يدعو الجَفَلَى ، ولا يَدْعُو النَقَرَى ، إنْ أحْسِنَ إليه شكر ، وإنْ أسِيءَ إليه غَفَرَ ، ثم يكون وراء ذلك لرعيته عِمَاداً يَدْفعُ عنها المُلّمات ، ويكشفُ عنهم المعضلات .
فقال له معاوية : ها هنا يا أبا بحر ثم تلا : ' وَلَتَعْرِفَنَهُمْ في لَحْنِ الَقْوْل ' . ومن جميل المحاورات ما رواه المدائني ، قال : وَفَدَ أهل العِراق على معاوية ، رحمه اللّه ، ومعهم زيادٌ ، وفيهم الأحنف ، فقال زياد : يا أميرَ المؤمنين ، أَشْخَصَتْ إليك أقْوَاماً الرغبةُ ، وأقعد عنكَ آخرين العُذْرُ ، فقد جعلَ الله تعالى في سَعَة فضلك ما يُجْبَرُ به المتخلّف ، ويكافأُ به الشاخص . فقال معاوية : مرحباً بكم يا معشر العرب ، أما والله لئن فَرَّقَتْ بينكم الدعوة ، لقد جمعتكم الرَحِم ؛ إن الله اختاركم من الناس ليختارَنا منكم ، ثم حفظ عليكم نَسَبَكُمْ بأن تخيَّر لكم بلاداً تجتاز عليها المنازل ، حتى صفَاكم من الأُمم كما تُصَفَّى الفضةُ البيضاء من خَبَثِهَا ؛ فصونوا أخلاقكم ، ولا تُدنسُوا أنسابَكم وأعراضَكم ، فإن الحسنَ منكم أحسَنُ لِقُرْبكم منه ، والقبيح منكم أقبح لبعدكم عنه .
فقال الأحنف : واللّه يا أمير المؤمنين ، ما نَعْدَم منكم قائلاً جزيلاً ، ورأياً أصيلاً ، ووعداً جميلاً ؛ وإن أخاك زياداً لمتبعٌ آثارَك فينا ، فنستمتع اللّه بالأمير والمأمور ، فإنكم كما قال زُهَيْر ، فإنه ألقى على المدَاحين فصول القول : الطويل
وما يكُ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإنَّمَا . . . تَوَارَثَهُ آباءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ
وهَلْ يُنْبِتُ الْخَطَيَّ إلاَّ وَشِيجُهُ . . . وتُغْرِسُ إلاَ في مَنَابِتِهَا النَخْلُ ؟
وهذان البيتان لزهير بن أبي سلمى المزني في قصيدة يقول فيها :
وفيهِمْ مقامَات حِسَانٌ وُجُوهُهَا . . . وَأَنْدِيًةٌ يَنتابُهَا الْقَوْلُ والْفعْلُ
عَلَى مُكْثِريهِمْ رزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِم . . . وعندَ المُقلَينَ السَّمَاحَةُ والْبَذْلُسَعَى بَعْدَهُمْ قَوْم لِكَيْ يُدْرِكُوهُم . . . فلم يفعلوا ولم يُلِيمُوا ولم يَأْلُوا
قال بعضُ أهل العلم بالمعاني : أعْجِبْ بقوله : ولم يألوا ؛ لأنه لما ذكر السعي بعدهم ، والتخلّف عن بلوغ مساعيهم ، جاز أن يتوهّم السامع أن ذلك لتقصير الطالبين في طلبهم ؛ فأخبر أنهم لم يألوا ، وأنهم كانوا غيرَ مقصرين وأنهم - مع الاجتهاد - في المتأخرين ؛ ثم لم يَرْضَ بأن يجعل مجدَهُم طارفاً فيهم ، ولا جديداً لديهم ، حتى جعله إرْثاً عن الآباء ، يتوارَثَهُ سائرُ الأبناء ، ثم لم يَرْضَ أن يكون في الآباء حتى جعله موروثاً عن آبائهم ، وهذا لو تكلفه متكلّف فتي المنثور دون الموزون لما كان له هذا الاقتدار مع هذا الاختصار .
وكانت قريشٌ معجبةً بشعر زُهَيْر ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنَا قد سمعْنا كلامَ الخطباء والبلغاء ، وكلامَ ابن أبي سلمى ، فما سمعْنا مثلَ كلامه من أحد ؛ فجعلوا ابنَ أبي سُلْمَى نهايةً في التجويد ، كما ترى .
وذُكِرَ أن عمرَ بن الخطاب ، رضي الله عنه قال : إن من أشعر شعرائكم زُهَيراً ، كان لا يُعاظل بين الكلام ، ولا يتبع حُوشيهُ ، ولا يمدح الرجلَ إلا بما يكون في الرجال .
وأخذ معنى قولِ زُهَير :
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم
طُرَيْحُ بن إسماعيل الثَّقَفي ، فقال لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي السفاح : المسرح
قَدْ طَلبَ الناسُ ما بلغْتَ ولَم . . . يَأْلُوا فما قَارَبوا وقَدْ جَهِدُوا
فهم مُلوك ما لم يَرَوْكَ ، فإن . . . لاحَ لهمْ مِنْكَ بارقٌ خَمَدُوا
تعروهُمُ رِعْدَةٌ لديكَ كما . . . قُرْقِفَ تحت الدجُنَة الصَرِدُ
لا خوفَ ظُلم ولا قِلَى خُلُق . . . لكن جلاَلاً كَسَاكَهُ الصَّمدُ
ما يُبقك اللَهُ للأنام فَما . . . يفقدْ من العالمين مفتقدُوقال معاوية رحمه اللّه : المروءةُ : احتمال الجريرة . ، وإصلاحُ أمر العشيرة ؛ والنبلُ : الحلم عند الغضب ، والعفوُ عند المقدرة .
فِقَر من كلامه رضي الله عنه : ما رأيتُ تبذيراً قطُ إلاَّ وإلى جَنْبِه حق مُضَيع . أنْقَصُ الناسِ عَقْلاً مَنْ ظَلَم مَنْ هُو دُونَهُ . أولى الناس بالعَفْوِ أقدرُهم على العقوبة . التسلُط على المماليك مِنْ لُؤْمِ المقدرة وسوء المملكة .
وقال يحيى بن خالد : ما حَسُنَ أدَبُ رجل إلاّ ساء أدبُ غِلْمانه .
وقال معاوية : صلاحُ ما في يدك أسْلَم من طلب ما في أيدي الناس . غَضَبِي على مَنْ أمْلِك ، وما غضبِي على مَنْ لا أَمْلِك ؟ ولما تُوُفِّيَ معاويةُ رحمه الله واستُخْلِف يزيدُ ابنه اجتمع الناسُ على بابه ، ولم يقدروا على الجمع بين تهنئة وتعزية ، حنى أتى عبدُ الله بن همام السُّلولي ، فدخل عليه فقال : يا أمير المؤمنين ، آجَرَك الله على الرزية ، وبارك لك في العطية ، وأعانك على الرعيَّة ، فقد رُزئتَ عظيماً ، وأُعْطِيتَ جسيماً ، فاشْكُرِ اللّه على ما أُعطيت ، واصبرْ له على ما رُزِيت ؛ فقد فقدتَ خليفة الله ، ومُنِحْتَ خِلافة الله ؛ ففارقتَ جليلاً ، وَوُهِبْتَ جزيلاً ؛ إذْ قضى مُعاوِيةُ نَحْبه ، فغفر اللّه ذَنْبَه ؛ وولَيت الرياسة ، فأُعطيت السياسة ؛ فأوردك اللّه موارِدَ السرور ، ووفقك لصالح الأمور ، وأنشده : البسيط
اصِبْرْ ، يَزيدُ ، فقد فارقْتَ ذا ثقة . . . واشْكُرْ حِبَاء الذِي بالمُلْكِ أصْفاكا
لا رُزْءَ أَصبَح في الأقوام نَعْلَمه . . . كما رُزِئتَ ولا عُقْبَى كعُقْباكا
أصْبحْتَ واليَ أمرِ الناسِ كلهم . . . فأَنْتَ ترْعاهُمُ واللَّهُ يَرْعاكا
وفي معاويةَ الباقِي لنا خَلفٌ . . . إذا نُعيتَ ولا نسمعْ بمَنْعَاكا
يريد أبا ليلى معاوية بن يزيد ، وولَيَ بعد أبيه شهوراً ، ثم انخلع عن الأمر ، فقال لقائل : البسيط :
والملكُ بعد أبي ليلى لمن غلباوأول مَنْ فتَحَ الباب في الجمع بين تهنئة وتعزية عبدُ الله بن همام ، فَوَلجه الناس ، ومن جيِّد ما قيل في ذلك قصيدةُ أبي تمام الطائي يمدح الواثقَ ويرثي المعتصم ، يقول فيها : الكامل :
إن أَصْبحَتْ هضباتُ قُدْسَ أزالها . . . قدَرٌ فما زالتِ هِضابُ شمامِ
أو يُفْتقدْ ذو النون في الهَيْجَا فقد . . . دَفَعَ الإلهُ لنا عن الصَّمام
أو كنت منا غاربا غدوا فقد . . . رُحْنا بأسْمَى غَاربٍ وسنام
تلك الرزيّةُ لا رزية مثلها . . . والقَسْمُ ليس كسائرِ الأقسام
وهذا المعنى كثير .
وكان معاوية ، رحمه الله ، قد تركَ قولَ الشعرِ في آخر عمره ، فنظر يوماً إلى جاريةٍ في داره ذات خَلْق رائع ، فدعاها فوجدها بِكراً فافترعها ، وأنشأ يقول : الوافر :
سئمت غوايتي فأَرَحْتُ حِلمي . . . وفيَّ عَلَى تحمّلِيَ اعتراضُ
على أني أجيب إذا دَعَتْني . . . ذواتُ الذَلِّ والْحَدق المِراضُ
فِقرُ لجماعة الصحابة والتابعين رضي اللّه عنهم
ابن عباس : الرخصة من الله صدقة ، فلا تردُوا صدقته . لكل داخل هيبة فابدأُوه بالتحية ، ولكل طاعم حشمة فابدأُوه باليمين .
ابن مسعود رحمه اللّه : الدنيا كلها همومٌ ، فما كان منها في سرور فهو ربح .
عمرو بن العاص : مَن كثر إخوانه كَثُر غُرَماؤه . وقال : أكْرِمُوا سفهاءَكم ، فإنهم يكفونكم العارَ والنار .
المغيرة بن شعبة : العيشُ في بقاء الْحِشْمَة . في كل شيء سَرَف إلاَ في المعروف .هذا كقول الحسن بن سهل - وقد أَنْفَقَ في دخول ابنته بُورَانَ على المأمون أموالاً عظيمة - فقيل له : لا خيرَ في السرف . قال : لا سَرَف في الخير . فَرَدَّ اللَفْظَ واستوفى المعنى .
مُعاذ بن جبل : الدَين هَدْم الدَينِ .
زياد : اِرضَ من أخيك إذا وُلِّيَ ولايةً بعُشْر ودَه قبلها .
مصعب بن الزبير : التوَاضع من مصايد الشرف .
الأحنف بن قيس : من لم يصبِرْ على كلمة سَمِعَ كلماتٍ وقيل له : مَن السيد ؟ قال : الذي إذا أَقْبَل هابوه ، وإذا أَدبَر عَابُوه . وله : سِرُك مِنْ دَمِكَ . وله : مَنْ تَسَرَّع إلى الناس بما يَكْرَهون قالوا فيه ما لا يَعْلَمون . وله : الكامل مَنْ عُدَت هفواته .
وقال يزيد بن محمد المهلبي : الطويل :
من ذا الذي تُرضَى سَجَاياه كلُها . . . كَفَى المرء نُبْلاً أن تُعَدّ مَعَايبُهْ
الحسن البصري : ألاَ تَسْتَحْيُونَ من طول ما لا تستحيون ؟ ابنُ آدمَ راحِل إلى الآخرة كل يوم مرحلة . ما أَنْصَفَك مَنْ كلّفك إجلالَه ، ومنعك مَالَه . بدن لا يشتكي مثل مَال لاَ يزكى . إن امرأ ليس بينه وبين آدَمَ أبٌ حي لمُعْرِق في الموتى .
قال الطائيّ : الطويل :
تأمَلْ رويداً هل تَعُدِّنَّ سالماً . . . إلى آدم أو هل تُعَدُ ابنَ سالمِ ؟
وقال أبو نواس : الطويل : وما الناسُ إلاَ هالكٌ وتبنُ هالكٍ . . . وذو نسبٍ في الهالكين عريقِإذا امْتَحَنَ الدنيا لبيب تكشَّفَتْ . . . له عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ
وكان المأمون يقول : لو قيل للدنيا : صِفي نفسك ما عَدَت هذا البيت ؛ وهو مأخوذ من قول مُزَاحم العقَيلي : الطويل :
قَضَيْنَ الهوى ثم ارتَمَينَ قلوبَنَا . . . بأَسْهُمِ أعداءً وهُنَّ صديقُ
عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه : ما الجزع مما لا بد منه ؟ وما الطمع فيما لا يرجى ؟ لا تكن ممن يلعن إبليس في العلانية ويواليه في السر .
الشعبي : إني لأسْتَحْيي من الحقّ إذا عرفتُهُ أَلاَّ أرجعَ إليه .
بعض ما قاله أهل البيت
قطعة من كلام لبني علي بن أبي طالب أهْلِ البيتِ رضي اللّه عنهم : أهلِ الفضل والإحسان ، وتلاوة القرآن ، ونبعة الإيمان ، وصُوَامِ شهر رمضان ولهم كلام يعرض في حَلْي البَيَانِ ، ويُنْقَش في فصّ الزمان ، ويُحْفَظُ على وَجْهِ الدهر ، ويَفْضَحُ قلائدَ الدُر ، ويُخْجِلُ نورَ الشمس والبدر ، ولمَ لا يطأون ذُيولَ البلاغة ، ويَجرُون فضولَ البراعة ، وأبوهم الرسولُ ، وأُمُّهم البتول ، وكلّهم قد غُذي بدَرّ الحُكم ، ورُبِّيَ في حِجْر العلم : الكامل :
ما منهُمُ إلاَ مُرَبى بالحِجَى . . . أو مُبْشَرٌ بالأَحْوَذِيةِ مُؤدَمُ
آخر : المتقارب :
نَمَتْهُ العَرانين مِنْ هاشِمٍ . . . إلى النَّسَبِ الأصْرَحِ الأوْضَحإلى نَبْعَة فرْعُها في السماء . . . ومَغْرِسُها في ذُرَى الأبْطَحِ
وهم كما قال مسلم بن بلال العبدي - وقد قيل له : خطب جعفرُ بن سليمان خطبةً لم يرَ أحسن منها ، فلا يُدرى أوَجهه أحسن أم خطبته ؛ فقال : أولئك قوم بنور الخلافة يُشْرِقون ، وبلسان النبوَّة ينطقون ، وفيهم يقول القائل : الكامل :
لو كانَ يُوجَدُ عَرْفُ مَجْدٍ قَبْلَهُمْ . . . لَوَجَدْتُه منهمْ على أميالِ
إن جئتَهُم أبْصَرْت بينَ بيوتِهِمْ . . . كَرَماً يَقيكَ موَاقفَ التَّسْآلِ
نورُ النبوّة والمكارم فيهمُ . . . متوقّد في الشِّيبِ والأطفالِ
وسُئِلَ سعيد بن المسيب : مَنْ أبلغُ الناس ؟ فقال : رسولُ الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فقال السائل : إنما أعني مَنْ دونه . فقال : معاوية وابنُه ، وسعيد وابنه ، وإنَ ابنَ الزبير لحسَنُ الكلام ، ولكن ليس على كلامه ملح . فقال له رجل : فأين أنتَ من عليّ وابنه ، وعباس وابنه ؟ فقال : إنما عَنَيت من تقارَبَتْ أشكالُهم ، وتدانَتْ أحوالُهم ، وكانوا كسهَامِ الجَعبَةِ ، وبنو هاشم أعلامُ الأنامِ ، وحُكَّامُ الإسلام .
فصل لأبي عثمان عمرو بن بَحْرٍ الجاحِظِ في ذكر قريش ، وبني هاشم
قد علم الناسُ كيفَ كَرَمُ قريش وسخاؤها ، وكيف عقولها ودهَاؤُها ، وكيف رَأُيها وذكاؤها ، وكيفَ سياستها وتدبيرُها ، وكيف إيجازُها وتحبيرها ، وكيف رجاحةُ أحلامها إذا خفَّ الحليم ، وحدَّةُ أذهانها إذا كَل الحديد ، وكيفَ صَبْرُها عند اللقاء ، وثباتها في اللأْواء ، وكيف وفاؤُها إذا استحْسِن الغَدْرُ ، وكيفَ جُودُها إذا حُبَّ المالَ ، وكيفَ ذِكرها لأحاديثِ غدٍ وقلّةُ صدودِها عن جهة القَصْدِ ، وكيف إقرارُها بالحق ، وصفها عليه ، وكيف وصفُها له ، ودعاؤها إليه ، وكيف سماحة أخلاقها ، وصونُهَا لأعراقها ، وكيف وصلوا قديمَهم بحديثهم ، وطريفَهم بتليدِهم ، وكيف أشبه علانيتَهم سرُّهم ، وقولَهم فِعْلُهم . وهلسلامةَ صدرِ أحدهم إلاَ على قدر بُعْدِ غورِه ؟ وهل غفلته إلاَ في وزن صدق ظنّه ، وهل ظنّه إلا كيقين غيره ؟ وقال عمر : إنك لا تنتفع بعقله حتى تنتفع بظنّه .
قال أوس بن حَجَر : المنسرح :
الألْمَعي الذي يَظنُّ لك الظَّ . . . ن كأنْ قَدْ رَأى وقّد سَمِعَا
وقال آخر : المتقارب :
مليح نجيح أخُو مازنٍ . . . فصيح يُحَدِّثُ بالغائبِ
وقال بلعاء بن قيس : الطويل :
وَأَبْغي صَوَابَ الرًأي أعْلَمُ أنهُ . . . إذَا طاش ظَن الْمَرء طاشَتْ مَقَادِرُه بل قد علم الناس كيف جمالُها وقَوامُها ، وكيف نماؤُها وبهاؤها ، وكيف سَروها ونَجابتُها ، وكيف بيانُها وجَهارتها ، وكيف تفكيرها وبدَاهتها ، فالعرَب كالبَدَن وقريشٌ روحها ، وقريش روحٌ وبنو هاشم سرّها ولبها ، وموضع غاية الدين والدنيا منها ، وبنو هاشم مِلح الأرض ، وزينة الدنيا ، وحلى العالم ، والسنام الأضخم ، والكاهل الأعظم ، ولُبابُ كل جوهر كريم ، وسِرُ كل عُنْصُرِ شريف ، والطينة البيضاء ، والمغْرسُ المبارك ، والنِّصاب الوثيق ، ومَعْدن الفهْم ، وينبوع العلْم ، وثهْلان ذو الهضاب في الْحِلم ، والسيفُ الْحُسام في العَزْم ، مع الأناة والْحزْم ، والصفح عن الجرم ، والقصد عند المعرفة ، والعفو بعد المقدرة ، وهم الأنْفُ المقدّم ، والسّنام الأكرم ، وكالماء الذي لا ينجسه شيء ، وكالشمس التي لا تَخْفَى بكل مكان ، وكالذّهب لا يُعْرَفُ بالنقصان ، وكالنجم للحًيْرَان ، والبارد للظمآن ، ومنهم الثّقَلان ، والشهيدان ، والأطيبان ، والسبطان ،وأسد الله ، وذو الْجَناحَيْن ، وذو قَرْنَيْها ، وسَيّدُ الوادي ، وساقي الحَجِيج ، وحَلِيم البطحَاء ، والبَحْر ، والحبر ، والأنصار أنصارهم ، والمهاجرون مَنْ هاجر إليهم أو معهم ، والصدِّيق مَنْ صدقهم ، والفاروق من فَرّق بين الحقّ والباطل فيهم ، والحواريُ حواريّهم ، وذو الشهادتين لأن شَهِدَ لهم ، ولا خيرَ إلاّ لهم أو فيهم أو معهم ، أو يُضاف إليهم ، وكيف لا يكونُون كذلك ومنهم رسولُ رب العالمين ، إمامُ الأولين والآخرين ، ونجيبُ المرسلين ، وخاتَمُ النبيين ، الذي لم يتمَّ لنبي نُبَوَّة إلاَ بعد التصديق به ، والبشارة بمجيئه ، الذي عم برسالته ما بين الخافِقين ، وأظهره الله على الدين كلِّه ولَو كَرِهَ المُشْرِكُون ؟ .
قال الحسن بن علي ، عليهما السلام ، لحبيب بن مسلمة الْفهْرِي : رُبَّ مَسِيرٍ لك في غيرِ طاعة الله قال : أمَّا مَسِيري إلى أبيك فليس من ذلك قال : بلى أطعت فلاناً على دنيا يسيرة ، ولعمري لئن كان قام بّك في دنياك لقد قعد بك في دينك ، فلو أنك إذْ فعلتَ شرّاً قَلتَ خيراً كنت كمن قال الله عزَّ وجلّ : ' خَلَطُوا عَمَلاً صالحاً وآخَرَ سَيئاً عسى اللَّهُ أن يَتُوبَ عليهِمْ ' ولكنك كما قال : ' كَلاَ بَل رَانَ عَلَى قُلوبِهِمْ ما كانوا يَكْسِبُونَ ' .
وكان الحسن عليه السلام جواداً ، كريماً ، لا يردُّ سائلاً ؛ ولا يَقْطَع نائلاً ، وأعْطى شاعراً مالاً كثيراً فقيل له : أتُعْطِي شاعراً يَعْصِي الرَّحْمن ، ويطيع الشيطان ، ويقول البُهْتَانَ ؟ فقال : إنَّ خَيْرَ ما بَذلْتَ من مالك ما وَقَيْتَ به عِرْضَك ، وإنّ من ابتغاءِ الخيرِ اتقاءَ الشرّ .
وقد روى مثلُ ذلك عن الحسين ، رضي الله عنه ، وقيل : إنّ شاعراً مدحه فأجْزَلَ ثوابَه ، فليمَ على ذلك ، فقال : أتَرَاني خِفْتُ أن يقولَ : لست ابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا ابن علي بن أبي طالب ولكني خِفْتُ أن يقول : لست كرسول اللّه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا كعليّ ، رضي الله عنه ؛ فيُصَدَّقَ ، ويُحْمَلَ عنه ، ويبقى مُخَلَّداً في الكتب ، محفوظاً على ألسنة الرُواة . فقال الشاعر : أنت واللّه يا بْنَ رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، أعرفُ بالمدح والذمِّ مني .
ولما تُوفِّي الحسن أدخله قَبْرَه الحسينُ ومحمدُ بن الحنفيَّة وعبدُ الله بن عباس رضي الله عنهم ، ثم وقف محمدٌ على قبره وقد اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاه بالدموع ، وقال : رَحِمَكَ اللَّهُ أبا محمد فلئن عَزَتْ حياتك ، لقد هَدَتْ وفاتُكَ ، ولَنعْمَ الرُوحُ ، رُوحٌ تضمَّنَه بَدَنُكَ ؛ ولنعمالجسَدُ ، جسَدٌ تضمَنَه كَفَنُك ، ولنعْمَ الكَفَنُ ، كَفَنٌ تضمّنه لَحْدُكَ ، وكيف لا تكون كذلك وأنت سليلُ الهدى ، وخامِسُ أصحابِ الكِسَاء ، وخَلَفُ أَهْلِ التقى ؟ جَدُّك النبيّ المُصْطَفى ، وأبوك عليّ المرتضَى ، وأُمُك فاطمةُ الزهراء ، وعمّكَ جعفر الطيار في جنَّة المَأْوى ، وغَذَتْكَ أَكُفُّ الحقّ ، وَرُبِّيت في حِجْرِ الإسلام ، ورضعت ثَدْيَ الإيمان ، فطِبْتَ حيًّاً وميتاً ؛ فلئن كانت الأَنْفُس غيرَ طَيبةٍ لفراقك ؛ إنها غيرُ شاكَّةٍ أنْ قد خِيرَ لَك ، وإنك وأَخاك لَسَيدَا شَبَابِ أهل الجنة ، فعليكَ يا أبا محمد منا السلام . وقام رجلٌ من ولد أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب على قَبْرِهِ ، فقال : إن أقدامَكم قد نَقَلَت ، وإنَّ أعناقكم قد حَمَلَتْ إلى هذا القبر وَلياً من أولياء اللّه يُبَشَرَ نبيّ الله بمقدمه ، وتُفَتحُ أبوابُ السماء لروحه ، وتبتهجُ الحورُ العِين بلقائه ، ويَأنَسُ به سادةُ أهل الجنة من أُمَّته ، ويوحِش أهلَ الحِجَا والدين فَقْدُه ، رحمة اللّه عليه ، وعنده تحْتَسَبُ المصيبةُ به .
ألفاظ لأهل العصر في ذكر المصيبة بأبناء النبوّة
قد نُعيَ سليل من سُلالة النبوة ، وفَرْعٌ من شجرة الرسالة ، وعُضوٌ من أعضاء الرسول ، وجزءٌ من أجزاء الوصِيَ والبَتُول . كتبت وليتني ما كتبت وأنا ناعِي الفضل من أقطاره ، وداعي المجدِ إلى شَق ثوبِهِ وصِدَاره ، ومخبر أنَّ شمس الكرم وَاجِبة ، والمآثر مودِّعة ، وبقايا النبوَة مرتفعة ، وآمالَ الإمامة منقطعة ، والدينَ منخذِلٌ واجم ، وللتقوى دَمْعَان هامٍ وساجم . كتابي وقد شلَّتْ يمينُ الدَهْر ، وفُقئت عينُ المجد ، وقَصُرَ باعُ الفضْل ، وكُسِفَت شمسُ المساعي ، وخُسِفَ قمر المعالي ، وتجدَدَ في بيت الرسالة رُزْء جَدَدَ المصائب ، واستعادَ النوائب ؛ كل هذا لفقْدِ من حَط الكرمُ برَبْعِه ، ثم أدرج في بُرْدِه ، وامتزج المجدُ به ، فدفِنَ بدَفْنِه ، إنها لمصيبةٌ عمتْ بَيْتَ الرسالة ، وغضت طَرْف الإمامة ، وتحيفت جانبَ الوَحْي المنزَل ، وذكَرت بموت النبي المرسل . كتبت والدهرُ ينعيمهجَتَه والمجدُ يَنْدُب بَهْجَته ، ومهابط الوَحْي والرسالة تُحْني ظهورَها أَسفا ، ومآقي الإمامة والوصية والرسالة تُذْري دموعَها لهفاً ؛ وذلك أن حادثَ قضاء اللّه استأثر بفَرْعِ النبوة ، وعنصر الدين والمروءة .
عود إلى بعض ما قاله أهل البيت
ووقع بينَ الحسنِ ومحمد بن الحنفية لِحاء ، ومشَى الناسُ بينَهما بالنَّمَائِم ، فكتب إليه محمدُ بنُ الحنفية : أمَّا بعد ، فإن أبي وأباك عليُ بن أبي طالب ؛ لا تفضُلني فيه ولا أفضُلك ، وأُمي امرأةٌ من بني حَنيفة ، وأُمُّك فاطمةُ الزَّهراء بنتُ رسولِ الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلو مُلِئَتْ الأرضُ بمثل أُمي لكانت أمُك خيراً منها ؛ فإذا قرأتَ كتابي هذا فاقْدَمْ حتى تترضاني ، فإنك أحق بالفضل مني .
وخطب الحسين بنُ عليً ، رضوان الله عليهما ، غداةَ اليوم الذي استُشهِدَ فيه ، فحمدَ الله تعالى وأثنى عليه ؛ ثم قال : يا عبادَ اللَّهِ ، اتقُوا اللَهَ ، وكونوا من الدنيا على حَذَر ؛ فإنّ الدنيا لو بَقِيَتْ على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياءُ أحق بالبقاء ، وأوْلى بالرَضاء ، وأرْضَى بالقضاء ؛ غيرَ أنَّ اللّه تعالى خَلَق الدنيا للفناء ، فجديدُهَا بالٍ ، ونعيمُها مُضْمَحِلٌ ، وسرورُها مُكْفَهِرٌ ، مَنْزِلُ تَلْعة ، ودارُ قُلْعة ؛ فتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزادِ التقوى ، واتَقُوا اللَهَ لعلكم تُفْلِحون .
وكان لمعاوية بن أبي سفيان عَيْنٌ بالمدينة يكتبُ إليه بما يكونُ من أُمور الناس وقريش ، فكتب إليه : إنَّ الحسين بنَ علي أعتْقَ جاريةً له وتزوَّجها ؛ فكتبَ معاويةُ إلى الحسين : مِنْ أمير المؤمنين معاوية إلى الحسين بن عليٍّ . أمَا بعد ، فإنه بلغني أنك تزوَجْتَ جاريتَكَ ، وتركْتَ أكْفاءَك من قريش ، ممَنْ تسْتَنْجُبُهُ للولد ، وتمجد به في الصِّهْر ، فلا لنَفْسِكَ نظَرْتَ ، ولا لِوَلَدِكَ انتقَيتَ .
فكتب إليه الحُسَيْن بن علي : أمَا بعد ، فقد بلغني كتابُك ، وتَعْيِيرُكَ إياي بأني تزوَجْتُ مولاتي ، وتركتُ أكْفائي مِنْ قُرَيش ، فليسَ فَوْقَ رسول الله منتَهًى في شرَف ، ولاغاية في نسب ؛ وإنما كانت مِلْكَ يميني ، خرجَتْ عن يدي بأمرٍ التمستُ فيه ثوابَ الله تعالى ، ثم ارتجعتُها على سنةِ نبيه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد رفع اللَهُ بالإسلام الخسيسة ، ووضع عنَّا به النقيصةَ ؛ فلا لَوْمَ على امرئ مسلم إلاَ في أمرِ مأثم ، وإنما اللومُ لَوْمُ الجاهلية .
فلمّا قرأ معاوية كتابَهُ نَبَذهُ إلى يزيد فقرأه ، وقال : لَشَدَ ما فَخَرَ عليك الحسين قال : لا ، ولكنها ألسنةُ بني هاشم الحِداد التي تَفْلِقُ الصَخْرَ ، وتَغْرِفُ من البحر والحسين - رضي اللّه عنه - هو القائل : الوافر :
لَعْمْرُكَ إنَّني لأُحِب دَاراً . . . تَحُلُّ بها سُكَيْنَةُ وَالرَّبابُ
أُحِبهما وأَبْذُل كل مَالي . . . وليس للائمٍ عِنْدِي عِتَابُ سكينة : ابنته ، والرباب : أمُها ، وهي بنت امرئ القيس بن الجرول الكلبية .
وفي سُكينة يقول عمر بن عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي كذباً عليها :
قالت سُكَيْنَةُ والدموعُ ذَوَارِفٌ . . . تجْرِي على الخدَيْنِ والْجِلْبابِ
ليتَ المُغِيرِيَ الذي لَمْ أجْزه . . . فيما أطال تَصَيُّدِي وطِلابي
كانت تردُ لنا الْمُنَى أيَّامنا . . . إذ لا نُلاَمُ علَى هوًى وتصابي
خُبرْتُ مَا قالتْ فَبِتُ كأنما . . . يُرْمى الحشا بنوافِذِ النّشَابِ
أَسُكَيْنَ ، مَا ماءُ الفُرَاتِ وَطِيبُهُ . . . مِنِّي عَلى ظَمَأ وَفَقْدِ شَرَابِ
بألذَ منكِ ، وإن نأيتُ ، وقلَمَا . . . ترعى النساءُ أمانةَ الغُيَّاب
إنْ تَبْذُلِي لي نَائلاً أشفيِ بِهِ . . . داءَ الفؤادِ فقد أطَلْتِ عَذَابي
وعصَيْتُ فيكِ أقاربي وتقطعتْ . . . بيني وبينهمُ عُرَى الأسبابِ
فتركتني لا بِالوصالِ مُمَتَّعاً . . . منهم ، ولا أسْعَفتِني بِثوابِ
فقعدتُ كالمُهْرِيقِ فَضْلَةَ مائِهِ . . . في حرِّ هاجِرَةٍ لِلَمْعِ سَرَابِوكانت سكينة من أجمل نساء زمانها وأعقلهن ، وكان مصعب بن الزبير قد جَمَعَ بينها وبينَ عائشةَ بنت طلحة بن عبيد اللّه ؛ فلّما قُتِل مصعب قالت سكينة : الطويل :
فإن تَقْتُلُوهُ تَقْتُلُوا الماجِد الذي . . . يَرَى الموتَ إلاَ بالسيوفِ حَرَاما
وَقَبلَكَ ما خَاضَ الحسينُ مَنِيَّةَ . . . إلى القومِ حتى أوْرَدُوهُ حِمَاما
وقال علي بن الحسين رحمه الله : لو كانَ الناسُ يعرفونَ جُملةَ الحالِ في فضل الاستبانة ، وجملة الحال في فضل التبيين ، لأعربوا عن كل ما يتلَجْلَجُ في صدورهم ، ولَوَجَدوا من بَرْدِ اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم ، على أنّ إدراكَ ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلةِ العدَّةٍ ، والفكرةِ القصيرة المدَةِ ، ولكنهم من بين مغمورٍ بالجهلِ ، ومفتونٍ بالعُجْبِ ، ومعدُولٍ بالهَوى عن بابِ التثبّتِ ، ومصروفٍ بسوء العادَة عن فَضْلِ التعلم .
وقال رضي اللّه عنه : المِرَاءُ يُفْسِدُ الصداقةَ القديمة ، ويَحُلّ العقدةَ الوثيقة ، وأقلّ ما فيه أن تكونَ به المغالبة ، والمغالبة من أمْتَن أسباب القطيعة .
ومن دعائه : اللهمَّ ارْزقنْي خوفَ الوعيد ، وسرورَ رجاء الموعود ، حتى لا أرْجُو إلا ما رَجَيت ، ولا أخاف إلاَّ ما خَوَفت .
وحجَ هشام بن عبد الملك ، أو الوليد أخوه ، فطافَ بالبيتِ وأرادَ استلامَ الْحَجَر فلم يقدر ، فنُصِب له مِنبَرٌ فجلس عليه ؛ فبينا هو كذلك إذْ أَقْبَلَ عليُ بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، في إزارِ ورِدَاء ، وكان أحسنَ الناس وَجْهاً ، وأعطرهم رائحة ، وأكثرَهم خشوعاً ، وبين عينيه سَجادة ، كأنها رُكبة عنز ، وطاف بالبيت ، وأتى ليَسْتَلم الحجرَ ، فتنحّى له الناسُ هيبة وإجلالاً ، فغاظ ذلك هشاماً ؛ فقال رجلٌ من أهل الشام : مَن الَّذي أكرمه الناس هذا الإكرام ، وأعظموه هذا الإعظام ؟ فقال هشام : لا أعْرفه ، لئلا يَعْظُمَ في صدور أهل الشام ؛ فقال الفرزدق وكان حاضراً : البسيط :
هذا ابنُ خير عبادِ الله كلهِمُ . . . هذا النقيُّ التقيُ الطاهرُ العَلَمُهذا الذي تَعْرِفُ البَطْحَاءُ وطأتُه . . . والبيتُ يعرفُه والحل والحَرَمُ
إذا رأتْه قريشٌ قال قائلُها : . . . إلى مكارم هذا ينتهي الكرَمُ
يكادُ يُمْسِكُهُ عِرْفانَ راحتهِ . . . رُكنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم
في كفّهِ خيزرانٌ رِيحُهُ عَبِق . . . في كفِّ أَرْوَع في عِرنيِنه شَمَمُ
يُغضِي حَياءً ويُغْضَى من مهابَتِه . . . فما يُكلَمَ إلاَّ حين يَبتَسِم
مُشتقَّة من رسول اللّه نَبْعَتُهُ . . . طابتْ عناصِرُه والخِيم والشِّيَم
يُنْمَى إلى ذِرْوة العزّ التي قصُرت . . . عن نَيْلها عَرَبُ الإسلامِ والعَجَمُ يَنْجَابُ نورُ الهدى عن نُورِ غُرَّتهِ . . . كالشمس يَنْجَاب عن إشراقها القَتم
حمَالُ أثقال أقوام إذا اقترحوا . . . حُلْو الشمائل تَحْلُو عنده نَعَمُ
هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهِلَهُ . . . بجدِّه أنبياءُ اللّه قد خُتِموا
اللَّهُ فضّله قِدْماً وشرّفَهُ . . . جرى بذَاك له في لَوْحهِ القَلَمُ
مَنْ جدُهُ دانَ فَضْلُ الأنبياء لهُ . . . وفَضْلُ أمّته دانَتْ له الأُمَمُ
عَمَ البريّةَ بالإحسان فانقشعتْ . . . عنها الغيابةُ والإملاقُ والظُلمُ
كِلْتا يديه غِياث عَمَ نفعُهُمَا . . . تسْتَوكفان ولا يَعْرُوهما العدُم
سَهْلُ الخليقة لا تُخْشَى بوادِرُهُ . . . تزينه الاثنتان الحِلْمُ والكَرَمُ
لا يُخْلِفُ الوَعْدَ ميمون بغُرَّتِه . . . رَحْبُ الفناء أَرِيب حين يعتزم
ما قال لا قطُ إلاَ في تَشَهُّدِهِ . . . لولا التشهُّد كانت لاءهُ نَعَمُ
مِنْ مَعْشَر حبهم دِينٌ ، وبغضُهم . . . كُفْر ، وقُرْبُهُم منْجًى ومُعْتَصَمُيسْتَدفَعُ السوءُ والبَلْوى بحبّهِمُ . . . ويُسْتَرَب به الإحسانُ والنِّعَمُ
مقدَمٌ بعد ذِكرِ اللّه ذكرهُمُ . . . في كل بَدْء ومختومٌ به الْكَلِمُ
إن عُدَّ أهل التقَى كانوا أئِمَّتَهُمْ . . . أو قيل مَن خيرُ أَهْلِ الأرض قيل همُ
لا يستطيعُ جَوَادٌ بعْدَ غايتهم . . . ولا يُدانيهمُ قومٌ وإنْ كرُموا
همُ الغُيوثُ إذا ما أَزْمَة أَزَمَت . . . الأُسْد أُسْدُ الشَّرَى والبأْس مُحْتَدِم
يَأْبَى لهم أَنْ يَحلّ الذَّمُ ساحَتَهم . . . خِيمٌ كريمٌ وأيدٍ بالنَّدى هُضُمُ
لا يَنْقُصُ العسرْ بَسطاً من أكفِّهمُ . . . سِيّان ذلك إن أثْرَوْا وإن عَدِموا
أيُّ الخلائق لَيسَت في رِقَابهمُ . . . لأوليَّةِ هذا أوْ لَهُ نِعم
مَنْ يعرفِ اللّه يَعرِفْ أوليته . . . فالدينُ من بيت هذا ناله الأُمم
وليس قولكَ من هذا بضائِرِهِ . . . العرْب تعرفُ من أنكَرتَ والعَجم
وقد روي أن الحزين الكناني وَفَد على عبد اللّه بن عبد الملك بن مروان وهو أمير على مصر فأنشده قصيدة منها : البسيط :
لما وقفتُ عليه في الْجُموع ضحًى . . . وقد تعرَّضتِ الْحُجَّابُ والْخَدَمُ
حَييْتُهُ بسلام وهو مُرْتَفقٌ . . . وضَجَّةُ القومِ عند الباب تَزْدَحِمُ
في كفه خيزران . . . - والبيت الذي يليه .
ويقال : إنها لداود بن سلم في قُثَم بن العباس بن عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب ، وهو الذي يقول فيه الأخطل : الكامل :
ولقد غدوتُ على التِّجَار بُمسمِح . . . هَرَّت عواذله هَرِيرَ الأكلُبِ
لَذ ، يُقبله النعيم ، كأنما . . . مُسِحَتْ تَرَائِبُه بماءً مُذهَبِلبَّاسِ أرْدِيةِ الملوكِ ، تَرُوقُه . . . من كلّ مُرْتَقَبٍ عيونُ الزَبْرَبِ
يَنْظُرْنَ مِنْ خَلَلِ السُتُورِ إذا بَدَا . . . نَظر الهجان إلى الفَنِيق المُصعَبِ
ويقال : بل قالها في علي بن الحسين اللَعِينُ المِنقري ، وسمي اللعين ، لأنَّ عمر سمعه يُنشد شعراً والناس يُصَلُونَ ، فقال : مَن هذا اللعين ؟ فعلق به هذا الاسم ولْيَقُلْه مَن شاء ، فقد أحسن ما شاء وأجاد وزاد .
وقال ذو الرمة في بلال بن أبي بُرْدة بن أبي موسى الأشعري : الطويل :
مِنَ آل أبي موسى تَرَى الناسَ حَوْله . . . كأنهم الكِرْوانُ عَايَنَّ بازيا
فما يعرفون الضِّحْكَ إلاّ تَبَسُماً . . . ولا ينبسون القوْلَ إلاَّ تَنَاجِيَا
وما الفُحْشَ منه يرهبون ، ولا الْخَنا . . . عليهِ ، ولكِنْ هَيْبَة هي مَاهِيَا
فتى السِّنَ ، كَهْلُ الْحِلم ، يُسْمَعُ قولُ . . . يُوازِنُ أدناهُ الجبال الروَّاسيا ومن أجود ما للمحدَثين في ذلك قول أبي عبادة البحتري في الفتح ابن خاقان : الطويل :
ولمَّا حضْرنا سدَّةَ الإذْنِ أُخِّرَتْ . . . رجالٌ عن الباب الذي أنا دَاخِلُهْ
فأفْضَيْتُ مِنْ قُرْبٍ إلى ذي مَهابةٍ . . . أقابِلُ بَدْرالتِّم حين أقابلُه
بَدَا لي محمودَ السجيَّةِ شُمَرَتْ . . . سَرَابيلُهُ عنهُ وطالتْ حَمائِلُهْ
كما انتصب الرُمْحُ الردَيْنيُّ ثُقِفَتْ . . . أنابيبُه واهتزَ للطعن عامِلُهوكالبدرِ وافَتْهُ لِتَمٍّ سُعُودُه . . . وتَمَّ سَناهُ واسْتَهَلَّتْ منازِلُه
فسلَّمتُ فاعتاقَت جَنانِيَ هَيْبَة . . . تُنازِعُني القولَ الذي أنا قائلُه
إلى مُسرِفٍ في الجود لو أنَ حاتماً . . . لَدَيْه لأَضْحى حاتمٌ وهو عاذِلُهْ
فلما تأمَلتُ الطَلاقَةَ وانْثَنَى . . . إليَ ببشْرٍ آنسَتْنِي مَخَايَلهْ
دَنَوتُ فقبلْتُ النَّدى من يَدِ امرئ . . . جميل مُحَياهُ سِباطٍ أنامِلُهْ
صفَتْ مِثْلَ ما تصفُو المدام خِلاَلُهُ . . . ورفتْ كما رَق النَسِيمُ شَمَائِلهْ
ووقعت حرب بالجزيرة بين بني تَغْلِب ، فتولَى الإصلاح بينهم الفتح بن خاقان فقال البحتري فيما تعلَّق بعضه بذكر الهيبة : الطويل :
بني تَغْلِبٍ أعْزِزْ عليَّ بأنْ أرى . . . ديارَكُمُ أمْسَتْ وليس لها أهْلُ
خَلَتْ دِمْنة من ساكِنيها وأَوْحَشَتْ . . . مرابعُ من سِنْجارَ يَهْمي بها الوَبلُ
إذا ما التَقَوْا يومَ الهَيَاج تحاجَزُوا . . . وللموتِ فيما بينهمْ قِسْمَةٌ عَذل
كَفيٌ من الأحياء لاَقَى كَفيَّهُ . . . ومِثْلٌ من الأقوام زَاحِفهُ مِثْلُ
إذا ما أخ جَرَ الرماحَ انتهى لهُ . . . أخٌ لا بليدٌ في الطعان ولا وَغلُ
تحوطُهُم البِيضُ الرَقَاقُ ، وضُمَر . . . عِتاق ، وأنسابٌ بها يُدْرَكُ التَّبْلُ
بطَعْنٍ يَكُب الذَارِعين دِرَاكُهُ . . . وضَرْبٍ كما تَرْغو المُخَزَمةُ البُزْلُتَجَافَى أميرُ المؤمنين عَنِ التي . . . عَلِمْتُمْ ، وللجَانِينَ في مِثْلِها الثكل
وكانت يدُ الفتح بنِ خاقانَ عندكُمْ . . . يَدَ الغيْثِ عند الأرْض أجدَبَها المحْلُ
ولولاهُ طُلَّتْ بالعُقُوقِ دِمَاؤُكُمْ . . . فلا قَوَدٌ يُعطَى الأَذَلُّ ولا عَقْلُ
تلافَيْتَ يا فتْحُ الأراقِمَ بَعْدَما . . . سقَاهُم بِأوحَى سُمَهِ الأرقَمُ الصًلُّ
وهَبْتَ لهمْ بالسِّلْم باقي نفوسهمْ . . . وقد أشرَفُوا أن يستتمَّهُمُ القتلُ
أتاك وفودُ الشكْرِ يُثْنُونَ بالَّذِي . . . تقدَّمَ مِن نُعماكَ عندهُمْ قَبْلُ
فلم أرَ يوْماً كان أكثرَ سُؤدداً . . . من اليوم ضَمَتهُمْ إلى بابكَ السُّبلُ
تراءَوْك مِنْ أقصى السِّماط فقصروا . . . خُطاهُمْ ، وقد جازُوا السُّتُورَ وهم عُجْلُ
ولَمَّا قَضَوْا صَدْرَ السلام تهافتوا . . . على يَدِ بَسَّام سَجِيتُهُ البَذْلُ
إذا شرَعُوا في خُطْبَةٍ قَطَعَتْهُمُ . . . جلالةُ طَلْقِ الوَجهِ جانِبُه سَهْلُ
إذا نكَّسوا أبصارَهُمْ مِنْ مَهَابَة . . . ومالوا بلَحْظ خلْتَ أنهُمُ قُبْلُ
نصبْتَ لهمْ طَرْفاً حديداً ، ومَنْطِقاً . . . سَديداً ، ورَأْياً مثل ما انتضيَ النَّصْلُ
وسَلَّتْ سَخيمات الصدورِ فَعالُكَ ال . . . كريمُ ، وأبْرا غِلَها قولُكَ الفَصلُ
بكَ الْتَأَمَ الشَّعْبُ الذي كان بينَهُمْ . . . على حينِ بُعْدٍ منه ، واجتمعَ الشّمْلُ
فما بَرِحوا حتى تعاطَتْ أكفُّهُمْ . . . قِرَاكَ ، فلا ضغْنَ لديهمْ ولا ذخلُ وجَرُوا ذيولَ العَصْبِ تَصْفُو ذيولُها . . . عَطاءَ كريمِ ما تكاءدَهُ بُخْلُوما عَمَّهُمْ عمرو بنُ غنم بنِسْبَةٍ . . . كما عمهُمْ بالأمْسِ نائِلُكَ الَجْزلُ
فمهما رَأوْا مِنْ غِبْطَةٍ في اصطلاحهمْ . . . فمنك بها النّعْمى جَرَتْ ولَكَ الْفَضْلُ
عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط .
وللطائيين أبي تمام والبحتري في ذلك أشعارٌ كثيرةٌ مختارة ، منها قول البحتري يحذِّر عاقبة الحرب : الوافر :
أَمَا لربيعة الفَرَس انتهاء . . . عن الزلزالِ فيها والْحُروبِ ؟
وكانوا رَفعُوا أيّامَ سلم . . . على تلك الضغائنِ والندُوبِ
إذَا ما الجُرْحُ رَمَّ على فَسادَ . . . تَبَيَّنَ فيه تَفْرِيطُ الطبيبِ
رَزِيَّةُ هالِكٍ جَلَبَتْ رَزَايا . . . وخَطْبٌ باتَ يكشِفُ عن خُطُوبِ
يُشقُّ الجَيْبُ ثمَّ يجيءُ أَمْرٌ . . . يُصَغرُ فيه تَشْقيقُ الجيوب
وقَبْرٍ عن أيَامِنِ بَرْقَعِيدٍ . . . إذا هي ناحَرَتْ أُفُقَ الجَنوبِ
يُسَحُّ ترَابُهُ أبداً عليها . . . عِهَاداً من مُرَاقِ دم صبيب
فهل لاِبْنَيْ عَدِيٍّ مِنْ رَشِيدٍ . . . يَرُدُّ شريدَ حِلْمهما العزِيبِ ؟
أخافُ عليهما إمرارَ مَرْعًى . . . من الكلإ الذي عُقْبَاهُ تُوبي
وأَعْلَمُ أَنَّ حَرْبَهُمَا خَبَال . . . على الدَّاعي إليها والمُجِيب
لعل أبا المُعَمِّرِ يَتّلِيها . . . بِبُعْدِ الهَمِّ والصَّدرِ الرَحِيبِ
فكم من سُؤْددٍ قد بات يُعْطي . . . عطيّة مُكْثِرٍ فيها مُطِيبِأهَيْثَمُ يا ابنَ عبدِ الله ، دَعْوَى . . . مشيرٍ بالنصيحةِ أوْ مُهِيبِ
تَناسَ ذنوبَ قومِكَ إنَ حِفْظَ ال . . . ذنوبِ إذا قَدُمْنَ من الذّنوب
فَلَلسهْمُ السدِيدُ أحَب غِبًّاً . . . إلى الرامي من السَهْمِ المُصيبِ
متى أحرَزْتَ نَصْرَ بني عُبَيْدٍ . . . إلى إخلاصِ وُد بني حَبيبِ
فقد أصْبَحْتَ أغلَبَ تغلبي . . . على أيْدِي العشيرةِ والقُلوبِ
يناسب قولَهُ : الوافر :
إذا ما الجرْحُ رَمَ على فَسادٍ
قولُ أبي الطيب المتنبي لعليّ بن إبراهيم التنوخي أحد بني القصيص : الوافر :
فلا تغرُرْكَ أَلْسِنةٌ مَوَالِ . . . تُقَلبهُن أفئدَةٌ أعادِي
وكُنْ كالموْت لا يَرْثِي لِبَاكِ . . . بَكَى منه ، ويَرْوَى وهو صادِ
فإن الْجُرْحَ ينغِرُ بعد حِينٍ . . . إذا كانَ البناءُ عَلَى فَسَادِ
وفى هذه القصيدة :
كأن الهام في الهَيجَا عُيُون . . . وَقَدْ طُبِعَتْ سُيُوفُكَ مِنْ رُقادِ
وَقَدْ صُغْتَ الأسِنةَ مِنْ هُمُوم . . . فَما يَخْطُرْنَ إلاَ في فؤَادِ
كأنَ البيتَ الأوَلَ مِنْ هذين ينظِرُ إلى قولِ مسلم بن الوَليد من طَرْفٍ خَفِي : الكامل :
وَلَوْ أَن قَوْماً يَخْلُقُونَ مَنِيةً . . . مِنْ بأْسِهِمْ كانُوا بَني جِبريلاَ
قوْم إذَا احمَرَ الهجيرُ من الوَغَى . . . جَعَلُوا الجماجِمَ للسيوفِ مَقِيلاَوإنما أخذه أبو الطيب من قول منصور النميري ، وذكر سيفاً : الكامل :
ذَكَرٌ ، برَوْنَقِهِ الدِّماءُ ، كأنما . . . يَعْلُو الرجالَ بأرْجُوَانٍ ناقِعِ
وتَرَى مَسَاقِطَ شَفْرَتَيْهِ كأنها . . . مِلْح تَبدَّدَ منْ وراءِ الدَّارع
وتراهُ مُعتمًّاً إذا جَرًدْتَهُ . . . بِدَمِ الرَجالِ عَلَى الأدِيمِ النَاقِعِ
وكأن وقعتَهُ بِجمْجُمَةِ الفتَى . . . خَدَرُ المُدَامَة أو نُعَاش الهاجعِ
أردت هذا البيت ، وقول النميري : الكامل :
وَتَرَاه مُعْتَمًّاً إذَا جَرَدْتَهُ
يشير إلى قول أبي الطيب ، وذكر سيفاً : الكامل :
يَبِسَ النَّجِيعُ عَلَيْهِ فَهْوَ مُجرد . . . مِنْ غِمْدِهِ وكأنما هُوَ مُغْمَدُ رَيانُ لو قَذفَ الذي أسْقَيْتَهُ . . . لجَرَى من المُهَجَاتِ بَحْر مُزْبِدُ
وبنو عبيد ، وبنو حبيب - اللذان ذكرهما البحتري - هم : بنو عبيد ابن الحارث بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب ، وحبيب بن الهجرس ابن تيم بن سعد بن جُشَم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب ، وفيهم حبيب بن حرقة بن تغلب بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب ، فلا أدري أيهما أراد وقال البحتري : الطويل :
أَسِيتُ لأخْوَالي ربيعةَ أنْ عَفَتْ . . . مَصَايفُهَا منها ، وأقْوَتْ ربُوعها
بِكُرْهِيَ أنْ بانَتْ خَلاءً دِيارُهَا . . . ووَحْشاً مَغَانِيها ، وشَتَّى جميعُهَا
إذا افترقوا من وَقعَة جَمَعَتْهُمُ . . . دِماء لأُخْرَى ما يُطَلُّ نَجِيعُها
تَذُمُّ الفتاةُ الرُود شِيمةَ بَعْلِهَا . . . إذا باتَ دون الثأْرِ وَهْوَ ضَجِيعُهاحَميَّةُ شَعْبٍ جاهلي وعِزَّة . . . كلابية أعْيا الرجالَ خُضُوعُها
وفرسان هيجاءً تَجيشُ صدورْهم . . . بأحَفَادِها حتى تَضِيقَ دروعها
لُقَتِّلُ من وِتْرٍ أعَزَّ نفوسِها . . . عليها بأيدٍ ما تكادُ تُطِيعُها
إذا احْتَرَبَتْ يوماً ففاضَت دماؤُها . . . تذكَّرَتِ القُرْبَى ففاضتْ دموعُهَا
شواجِرُ أَرْماحٍ تقطَع بينها . . . شواجرَ أَرْحامٍ مَلوم قَطوعها
فكنتَ أمينَ اللَّهِ مَوْلى حياتِها . . . ومولاكَ فَتْحٌ يوم ذاك شفِيعها
وقال أبو تمام الطائي : البسيط :
مَهلاً بَني مالكٍ لا تجلُبنَّ إلى . . . حيِّ الأراقِم دُؤلولَ ابنةِ الرقَمِ
لم يَأْلُكُمْ مَالكٌ صَفْحاً ومغفرَةً . . . لو كان ينفخُ قَيْن الحيِّ في فَحَمِ
أَخْرَجْتموه بِكُرْهٍ من سَجِيَّتِهِ . . . والنار قد تُنْتَضَى من ناضِرِ السلم
أوطأتموهُ على جَمْرِ العقوقِ ، ولو . . . لم يُخْرَج الليثُ لم يخرج من الأَجَمِ
لولا مناشدةُ القُرْبَى لغادَرَكم . . . حَصائِدَ المرهَفَيْنِ السيفِ والقَلَمِ
لا تجعلوا البَغْيَ ظَهْراً إنهُ جَمَلٌ . . . مِنَ القطيعة يَرْعَى واديَ النّقَمِ
وقال أيضاً : الكامل :
مهلاً بني عمرو بن غُنْمٍ ؛ إنكم . . . هَدَفُ الأسِنَّةِ والقَنا تتحَطَّمُما منكمّ إلا مرَدى بالحِجَى . . . أو مُبشَرّ بالأحوذيَّةِ مؤَدَمُ
عمرو بن كلثوم بن مالك بن عت . . . اب بن سعدٍ سَهمكم لا يُسهم
خلِقت ربيعةَ من لدن خُلِقت يَداً . . . جُشَم بن بكرٍ كفها والمِعْصَم
تغزو فتغلب تغلبّ مثل اسمها . . . وتسيح غنم في البلاد فتغنم
وستذكرون غداً صنائعَ مالكٍ . . . إن جَلَّ خَطبٌ أو تُدوفع مَغرَم
ما لي رأيت ثَرَاكماَ بِبَسالَة . . . ما لي أَرَىَ أطوَادَكُم تتهدَّمُ ؟
ما هذِهِ القُربَى التي لا تصطفى . . . ما هذه الرَّحِمُ التي لا ترحَمَ ؟
حَسَدُ القرابة للقرابة قرحةٌ . . . أعيَت عَوائِدهَا وجرح أقدم
تلْكم قريشٌ لم تكن آباؤها . . . تَهفُو ولا أحْلاَمهَا تتقسمَ
حتى إذا بعِثَ النَبِيُّ محمدٌ . . . فيهم غَدَتْ شَحْنَاؤهمُ تتضرمُ
عَزَبتْ عقولُهُمُ ، وما مِنْ معْشَرٍ . . . إلاَّ وهُم منه ألب وأحْزَم
لما أقام الوَحْي بين ظهورهم . . . ورأوا رسولَ اللّه أحْمَدَ منهم
ومن الحزامة لو تكونُ حَزَامة . . . ألاَّ تؤخّرَ مَنْ بِه تتقَدَّمُ
ومالك هو : ابن طَوْق بن مالك بن عتاب بن زُفَرَ بن مرَة بن شريح ابن عبد اللّه بنعمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جُشَمَ بن بكر بن وائل بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب ، وفيه يقول دِعْبِل يهجوهُ : البسيط : الناس كلهُم يَغدو لحاجتِهِ . . . من بين ذي فَرَحٍ منها ومهمومِ
ومالكٌ ظَلَّ مشغولاً بنسبتِهِ . . . يَرُمّ منها بناءً غيرَ مرْمُومِ
يبني بيوتاً خراباً لا أنيس بها . . . ما بين طوق إلى عمرو ابن كلثوم
والتكثير من المعنى المعترض ، يزيح عن ثغرة الغَرَض ، لكني أجري منه إلى حلبة الإجادة ، وأقصدُ قصدَ الإفادة ، ثم أعود حيثُ أُرِيد .
وقال ابن الخياط المكي - واسمه عبد اللّه بن سالم - في باب الهيبة ، في مالك بن أنس الفقيه ، رحمة الله عليه ؛ وقيل : إن هذا من قول ابن المبارك : الكامل :
يَأبَى الجوَابَ فما يرَاجَعُ هَيْبَةً . . . والسائلون نَوَاكِسُ الأذقَانِ
أدَبُ الوقار ، وعِزّ سلطانِ التقى . . . فهو المَهِيبُ وليس ذَا سلْطانِ
وقول الفرزدق البسيط :
يكادُ يمسكه عرفان راحته
قد تَجاذَبه جماعةٌ من الشعراء ؛ قال أشجع بن عمرو السلمي لجعفر البرمكي :
حَبذا أنتَ قادماً تردُ الشا . . . مَ فتختالُ بين أرحُلِ عيرِكْ
إن أرضاً تسري إليها لو اسْطَا . . . عت لسارت إليك من قبل سَيْرِكوإليه أشار أبو تمام الطائي في قوله : الخفيف :
ديمَة سَمْحَة القِيَاد سكوبُ . . . مُسْتغيثٌ بها الثرَى المكروب
لو سَعَتْ بقعةٌ لإعظامِ نُعمَى . . . لَسَعى نحوها المكان الجديبُ
وفي هذه القصيدة في وصف الدِّيمة ، ومدح محمد بن عبد الملك الزيات :
لذ شُؤبوبُها وطابَ فلو تس . . . طيعُ قامتْ فعانَقَتْهَا القلوبُ
فَهْوَ ماءٌ يجري وماءٌ يَلِيهِ . . . وعَزَالٍ تنشا وأخرى تَصُوبُ
أيُّها الغيثُ حَيَ أهلاً بمغدا . . . ك وعندَ السّرَى وحين تؤُوب
لأبي جَعْفَرٍ خلائق تحكِي . . . هنَّ قد يشبه النجيبَ النجيبُ
وأنشدها أبا جعفر بن الزيات ، فقال : يا أبا تمام ؛ والله إنك لتحلَي شعرَك من جواهر لفظك وبدائع معانيك ، ما يزيد حُسْناً على بهيّ الجواهر في أجياد الكواعب ؛ وما يُدَخَرُ لكَ شيءٌ من جزيل المكافأة إلا يَقصُرُ عن شِعرِكَ في الموازنة . وكان بحضرته رجل من الفلاسفة ، فقال : هذا الفتى يموتُ شاباً فقيل له : مِنْ أيْنَ حَكَمْتَ عليه بهذا ؟ فقال : رأيت فيه من الحِدَّة والذكاء والفطنة مع لطافة الحسّ ما علمتُ به أن النفسَ الروحانية كل عمره كما يأكلُ السيفُ المهندُ غمدَه ؛ قال الصولي : مات وقد نيف على الثلاثين .
وقال في أبي دُلف العجلي القاسم بن محمد بن عيسى : الطويل :
تكادُ عطايَاهُ يُجَن جُنُونُهَا . . . إذا لَمْ يُعَوذْهَا بنعمةِ طَالِبِتكادُ مَغانيهِ تَهَشُّ عِرَاصهَا . . . فتركب من شَوقٍ إلى كل راكِبِ
وقال البُحْتَري : الكامل :
لو أنَّ مُشتاقاً تَكَلَّفَ فوقَ ما . . . في وُسْعه لَمَشَى إليكَ المنبَرُ
وقال أبو الطيب المتنبي لبدر بن عمار : الكامل :
طَرِبَتْ مَرَاكِبُنا فَخِلْنا أنها . . . لولا حَيَاءٌ عاقَهَا رَقَصَت بِنَا
لو تعقلُ الشِّجَرُ التي قابلتَهَا . . . مَدّتْ مُحَيية إليكَ الأغْصنا
رجع إلى ما انقطع
قال أعرابي لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ، رضي اللّه عنه : هل رأيت اللّه حين عَبَدْتَهُ ؟ فقال : لَمْ أَكُنْ لأَعْبد مَنْ لم أَره ، قال : فكيف رأيتَه ؟ قال : لم تره الأبصارُ بمشاهدة العِيان ، ورَأَتْهُ القلوبُ بحقائق الإيمان ، لا يُدرَك بالحواسَ ، ولا يُشَبَّه بالناس ، معروف بالآيات ، منعوتٌ بالعلاماتِ ، لا يجوزُ في القضيّات ، ذلك اللَّهُ الذي لا إله إلاّ هو . فقال الأعرابي : اللّه أعلم حيثُ يجعلُ رسالته .
قال الجاحظ : قال محمد بن علي : صلاح شأنِ الدنيا بحذافيرها في كلمتين ؛ لأنَّ صلاحَ شأن جميع الناس في التعايش والتعاشر وهو مِلء مِكْيَال ؛ ثلثاه فطنة ، وثلثه تَغَافل .
قال الحافظ : لم يجعل لغير الفِطْنة نصيباً من الخير ، ولا حظًّاً من الصلاح ؛ لأنَّ الإنسان لا يتغافلُ عن شيءً إلاَّ وقد عرفه وفطن له ، قال الطائي : الكامل :
ليس الغبيُ بسيّدٍ في قَوْمِهِ . . . لكنَّ سيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابيوقال ابن الرومي لأبي محمد بن وهب بن عبيد اللّه بن سليمان : الطويل :
تظلّ إذا نامت عيونُ ذوي العمى . . . وإن حدّدوا زُرقاً إليك جَوَاحِظَا
تَغَاضى لهم وَسْنَانَ ، بل متواسِنا ، . . . وتوقِظُهُمْ يقظان بل متياقظا
وأبو جعفر هذا هو الباقر ، وكان أخوه زيد بن علي ، رضي اللّه عنه ، دَيِّناً ، شجاعاً ، ناسكاً ، من أَحْسَنِ بني هاشم عبارةً ، وأجملهم شَارَةً .
وكانت ملوك بني أمية تكتُب إلى صاحب العراق أن امنَعْ أهلَ الكوفة من حضور زيد بن علي ؛ فإنَّ له لساناً أقْطع من ظُبَةِ السيف وأحَدَّ من شَبَا الأسِنّة ، وأبلغ من السحر والكهانَة ، ومن كل نَفْثٍ في عُقْدَة .
وقيل لزيد بن علي : الصمتُ خيرٌ أم الكلام ؟ فقال : قبّح اللّه المساكنة ، ما أفسدها للبيان ، وأجلبها للعِيِّ والْحَصَر واللّه للْمُماراة أسرعُ في هَدْمِ الْعِيِّ من النار في يَبَس العَرْفَج ، ومن السيل إلى الْحدور .
وقال له هشام بن عبد الملك : بلغني أنك ترومُ الخلافة وأنت لا تصلُحُ لها ؛ لأنك ابنُ أمَة ؟ قال زيد : فقد كان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ابنَ أمة ، وإسحاق ابنَ حُرَة ؛ فأخرج اللّه من صُلب إسماعيل خيرَ ولد آدم فقال له : قُمْ فقال : إذاً واللّه لا تراني إلاّ حيثُ تَكْره فلمّا خرج من الدار قال : ما أحبَّ أحَد الحياةَ قط إلاّ ذلَ ، فقال له سالم مولى هشام : لا يسمعنَّ هذا الكلام منك أحَدٌ ، وكان زيد كثيراً ما ينشد : السريع :
شرّده الخوفُ وأزْرَى بِهِ . . . كذاك من يَكْرَهُ حرَّ الْجِلاَد
منخرق الخفَّين يشكو الوجَى . . . تَنكُبُه أطرافُ مَرْوٍ حِدَادْ
قد كان في الموت له رَاحَة . . . والموتُ حَتْمٌ في رقاب العبادْوقد رُوِيت هذه الأبيات لمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ، وقد رُوِيت لأخيه موسى .
قال عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد : حدّثني رجل من بني هاشم قال : كنّا عند محمد بن علي بن الحسين ، وأخوه زيد جالس ، فدخل رجل من أهل الكوفة فقال له محمد بن عليّ : إنك لتَروي طرائفَ من نوادر الشعر ، فكيف قال الأنصاري لأخيه ؟ فأنشده : المتقارب :
لَعمْرك ما إنْ أبو مالكٍ . . . بِوانٍ ولا بِضَعيفٍ قُوَاهُ
ولا بألدَ لَهُ نَازغ . . . يُعَادي أخاه إذا ما نَهَاهُ
ولكنَّه غيرُ مِخلافةٍ . . . كريم الطبائع حلو نَثَاهُ
وإن سُدْتَهُ سُدْتَ مِطوَاعةً . . . ومهما وكَلْتَ إليه كَفَاهُ
فوضع محمد يده على كَتِفِ زيد ، فقال : هذه صِفَتُك يا أخي ، وأُعِيذُك اللّه أن تكون قتيل أهل العراق وكانت بين جعفر بن الحسن بن الحسين بن علي وبين زيد ، رضوان الله عليهم ، منازعة في وصيَّة ، فكانا إذَا تَنَازعا انثالَ الناسُ عليهما ليسمعُوا محاوَرَتَهما ؛ فكان الرجلُ يحفظ على صاحبه اللّفظة من كلام جعفر ، ويحفظُ الآخرُ اللفظةَ من كلام زيد . فإذا انفصلا وتفرَق الناس عنهما قال هذا لصاحبه : قال في موضع كذا وكذا ، وقال الآخر : قال في موضع كذا وكذا ؛ فيكتبون ما قالا ، ثم يتعلَّمُونه كما يتعلّم الواجب من الفَرض ، والنادرُ من الشعر ، والسائرُ من المثل وكانا أعجوبةَ دَهْرِهِما وأُحدُوثَة عصرهما .
ولما قْتل زيداً يوسفُ بنُ عُمر وصلب جُثَّته بالكُنَاسة وبعثَ برَأسه مع شَبَّة بن عقال ، وكلّف آل أبي طالب البراءة من زيد ، وقام خطباؤهم بذلك ؛ فكان أولَ مَنْ قام عبدُ الله بن الحسن بن الحسين بن علي ، رحمة الله عليه ، فأوْجَز في كلامه ثم جَلَس ، وقام عبدُ الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأطْنب - وكان شاعراً خطيباً لسِناً ناسباً - فانصرف الناسُ وهم يقولون : ابن الطيار مِنْ أَخْطَبِ الناس ، فقيل لعبد الله بنالحسن في ذلك ، فقال : لو شئت أن أقولَ لقلت ، ولكن لم يكن مقامَ سرور ، وإنما كان مقامُ مُصيبة . وعبدُ اللّه هذا هو : أبو محمد وإبراهيم الخارجَيْن على أبي جعفر المنصور ، وهو القائلُ لابنهِ محمد أو إبراهيم : أيْ بُنَيَّ إني مؤدِّ حقِّ الله في تأديبك ، فأدَ إليَ حقَّ اللّه في الاستماع مني ؛ أي بنيّ كُفَ الأذى ، وارفُضِ البَذَى واسْتَعِنْ على الكلام بطول الفكْر فيِ المواطن التي تَدْعُوك فيها نفسُك إلى الكلام ، فإن للقول ساعات يَضُرُّ فيها الْخَطأُ ، ولا يَنْفعُ فيها الصِّوابُ ، واحذَرْ مشورةَ الجاهِلِ ، وإن كان نَاصِحاً ، كما تَحْذَر مشورة العاقِل إذا كان غَاشّاً ؛ لأنه يُرْدِيكَ بمَشُورته ؛ واعلمْ يا بني أنَّ رأيك إذا احتجْتَ إليه وجدْتَه نائماً ، ووجدتَ هواك يَقْظان ، فإياك أن تستبدَّ برأيك ؛ فإنه حينئذ هَواك ؛ ولا تفَعلْ فِعْلاً إلاَ وأَنْتَ على يقين أنَّ عاقبَته لا تُرْدِيك ، وأن نتيجتَه لا تَجْني عليك .
وهو القائل : إياك ومُعاداة الرجال فإنك لن تعدَم مَكْر حليمٍ ، أو مُعاداة لئيم .
وكتب إلى صديق له : أُوصيك بتقوى اللّه تعالى ، فإن اللَّهَ تعالى جعل لمن اتَّقاه المخرج من حيث يَكْرَه ، والرزق من حيث لا يحتسب .
وعبدُ اللّه هو القائل : الكامل :
أنُسٌ حرائرُ ما هَمَمْنَ بريبةٍ . . . كظباء مكّة صَيْدُهُنَّ حرامُ
يُحْسَبْنَ من لِينِ الحديث دوانيا . . . ويصدّهن عن الْخَنا الإسلامُ
قال : وهذا كما روي أن عبد الملك بن مروان استقبل عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ، فقال له : قد عَلِمَتْ قريشٌ أنّكَ أطولُها صَبْوَة ، وأبْعَدُها تَوْبة ، وَيْحَك أمَا لكَ في نساء قريش ما يَكْفِيك من نساء بني عبد مناف ؟ ألست القائل : الطويل :
نظرتُ إليها بالمُحَصَّبِ من مِنًى . . . ولي نظر ، لولا التحرُجُ ، عارمُفقلتُ : أصُبْح أم مصابيحُ راهبٍ . . . بَدَتْ لك خلف السَّجفِ أم أنْتَ حالم ؟
بعيدةُ مَهْوَى القُرْطِ ، إمَا لنَوْفلِ . . . أبوها ، وإما عبد شمسٍ ، وهاشم
فقال : يا أمير المؤمنين ، فإنّ بَعْدَ هذا :
طلبْنَ الهوى حتى إذا ما وجدنَهُ . . . صَدَرنَ وهُن المسلمات الكرائم
فاستحيا منه عبدُ الملك ، وقضى حوائجه ووصله .
وقال آخر في هذا المعنى : الطويل :
تَعَطلْنً إلاَّ مِنْ محاسنِ أوْجُهٍ . . . فهنّ حَوالٍ في الصفات عَوَاطِلُ
كَوَاسٍ عَوَارٍ صامتات نواطقٌ . . . بعفّ الكلام باخِلاَت بَوَاذل
بَرَزْنَ عفافاً واحتجَبْنَ تستُراً . . . وشِيبَ بحقَ القولِ منهنّ بَاطِلُ
فذو الحلم مرتاد وذو الجهل طامعٌ . . . وهنّ عن الفحْشَاء حِيدٌ نواكلُ
وقال العُدَيل بن الفَرْخِ فيما يتطرف طرفاً من هذا المعنى : الكامل :
لعبَ النعيمُ بهن في أطلاله . . . حتى لبسنَ زمانَ عيَش غافلِ
يأخذن زينتهنّ أحْسَنَ ما ترى . . . فإذا عَطِلْنَ فهُنَ غيْرُ عَوَاطِل
وإذا خَبأنَ خدودهنّ أَرَيْنَنِي . . . حَدَقَ المَها وأخذن نَبْل القاتليرميننا لا يستَترن بِجنة . . . إلا الصبا وعلمن أين مقاتلي
يلبسن أردية الشباب لأهلها . . . ويجر باطلهن ذيل الباطل
وتعرض لعبد اللّه بن الحسن رَجل بما يَكرَهَ ، فقال فيما أنشده ثعلب : الطويل :
أظَنَّت سَفاها من سَفَاهة رأيها . . . أنَ أهجُوها لما هَجَتني مُحَارِبُ
فلا وأبيها إنني بعشيرتي . . . ونفسيَ عن ذاك المقام لراغب
وأنشد هذين البيتين أبو العباس المبرد لرجل لم يسمِّه في رجل يُعْرَفُ بابن البعير ، وقبلهما :
يقولون أبناء البَعير وما لَهُم . . . سَنَامِّ ولا في ذروَة المجد غَارِب
وسايَرَ عبد الله بن الحسن أبا العباس السفاح بظهر مدينة الأنبار وهو يَنظُر إلى بناءً قد بناه أبو العباس ويدور به ، فأنشد عبدُ اللّه : الوافر :
ألم تَرَ جَوْشَناً لما تبنَّى . . . بناء نَفْعُه لبني بُقَيلَهْ
يؤمِّلُ أنْ يُعَمّر عُمْرَ نُوحٍ . . . وأمرُ الله يَحْدُث كلَّ لَيْلَه وكان أبو العباس له مُكْرِماً ، ولحقِّه معظِّماً ؛ فتبسم مغضَباً ، وقال : لو عَلِمْنَا لاشترطنا حقَّ المُسَايرة فقال عبدُ اللّه : بوادِرُ الخواطر ، وأغفال المسانح ؛ واللَّه ما قلتُها عن رَوِيَّة ، ولا عارَضَني فيها فكرة وأنتَ أجلُّ مَنْ أقَال ، وأوْلَى مَنْ صَفح ، قال : صدقت ؛ خُذْ في غير هذا .
ولما قتل المنصورُ ابنَه محمداً - وكان عبدُ اللّه في السجن - بعث برأسه إليه مع الربيع حاجِبِه ؛ فوُضع بين يديه ، فقال : رحمك الله أبا القاسم ، فقد كنتَ من ' الَذين يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ المِيثَاقَ ، وَالَذِين يَصِلُونَ مَا أمَر اللَهُ بِهِ أنْ يُوصلَ ، ويَخْشَوْنَ رَبّهُمْ وَيَخَافُونً سُوءَ الْحِسَابِ ' ثم تمثّل : الطويل :
فتى كان يَحْمِيه من الذلِّ سَيْفُه . . . ويكفيه سوءاتِ الأمورِ اجتنابها
ثم التفتَ إلى الربيع فقال له : قل لصاحبكِ قد مضَى من بُؤْسنا مدة ، ومن نعيمكمثلها ؛ والموعدُ لله تعالى قال الربيع : فما رأيت المنصور قطّ أكثَر انكساراً منه حين أبلغتُه الرسالة .
أخذ العباس بن الأحنف هذا المعنى ، وقيل : عُمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ، فقال : الطويل :
فإن تَلْحَظِي حالي وحالك مرّةً . . . بنظرة عين عن هوى النفس تُحجَب
تَجِد كلّ يوم مَرَ مِنْ بؤْسِ عيشتي . . . يمرُ بيوم من نعيمكِ يُحسَبُ
ولما قتل المنصورُ محمدَ بن عيد الله اعترضته امرأة معها صبيان ، فقالت : يا أميرَ المؤمنين ، أنا امرأةُ محمد بن عبد اللّه ، وهذان ابنَاه ، أيتَمَهُما سيفك ، وأضرَعَهمَا خوفُك ، فناشدتك اللَهَ ، يا أمير المؤمنين ، أن تصَعِّرلهما خدَّك ، أوْ ينأى عنهما رِفْدُك ؛ ولتَعطِفْك عليهما شَوَابِكُ النسب ، وأَوَاصِر الرّحِم ، فالتفتَ إلى الربيع ، فقال : اَرْدُدْ عليهما ضياع أبيهما ، ثم قال : كذا والله أحب أن تكونَ نساءُ بني هاشم .
وكان أهلُ المدينة لما ظهر محمد أَجْمعوا على حربِ المنصور ، ونصر محمد ؛ فلما ظفر المنصور أحضر جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الصادق ، فقال له : قد رأيتَ إطباقَ أهلِ المدينة على حَرْبي ، وقد رأيتُ أن أَبعثَ إليهم من يُغَوّر عيونهم ، ويجَمِّر نَخلَهم . فقال له جعفر : يا أميرَ المؤمنين ، إن سليمانَ أُعطِيَ فشكر ، وإنّ أيوبَ ابتُلِي فصبرَ ، وإنَ يوسف قَدَرَ فغَفَر ؛ فاقْتَدِ بأيِّهم شئت ، وقد جعلك اللّه من نَسل الذين يَعفونَ ويَصفَحون ، فقال أبو جعفر : إنَّ أحداً لا يُعلِّمُنا الْحِلمَ ، ولا يعرَفنَا العلم ، وإنما قلتُ هَمَمْت ، ولم ترني فعلت ، وإنك لتعلمُ أن قدرتي عليهم تمنَعُني من الإساءة إليهم .وعزى جعفرُ بن محمد رجلاً ، فقال : أَعْظِمْ بنعمةٍ في مصيبة جَلبَتْ أجراً وأَفظعْ بمصيبةٍ في نعمةٍ أكسبت كُفراً .
هذا كقول الطائي : البسيط :
قد يُنعِمُ الله بالبَلْوى وإن عظمتْ . . . ويَبْتَلي الله بَعْض القَوْمِ بالنِّعَمِ
وكان جعفرُ بن محمد يقولُ : إني لأُملِقُ أحياناً فأُتاجر الله بالصدقة فيُرْبحني .
وقال جعفر ، رضي اللّه عنه : من تخلَق بالخلق الجميل وله خُلق سوء أصِيل فتخلُقُه لا محالَة زائل ، وهو إلى خُلقه الأَوَّل آيل ، كطَلْي الذهب على النحاس ينْسَحِق وتظهر صفرَته للناس .
هذا كقول العرجي : البسيط :
يا أيُّها المتحلِّي غيرَ شيمتِه . . . ومن خلائقه الإقصارُ والمَلق
ارجعُ إلى خلقك المعروف وأرضَ بِهِ . . . إنَّ التخلقَ يأتِي دُونه الْخلق
وكان يقول : ما توسَّل إليّ أحد بوسيلة هي أقرب إليَّ من يدٍ سبقَت مني إليه أُتْبعها أخْتَها لتحسن رَبَّها وحِفظَها ؛ لأنّ مَنعَ الأواخر يقطعُ لسانَ الأوائل .
وقيل لجعفر رحمه اللّه : إنّ أبا جعفر المنصور لا يلبسُ مذ صارت إليه الخلافة إلا الخشن ، ولا يأكل إلا الجَشِب . فقال : يا وَيْحَه مع ما مُكِّن له من السلطان ، وجُبِيَ إليه من الخراج قالوا : إنما يَفْعل ذلك بُخلاً وجمعاً للمال . فقال : الحمد لله الذي حَرَمه من دُنياه ما ترك له من دينه . انتهى .
قال : ومن دعاء جعفر رضي الله عنه : اللهمّ إنك بما أنت أهلٌ له من العفو أوْلى بما أنا أهْل له من العقوبة .
وكان عبد اللّه بن معاوية بن عبد الله ، بن جعفر عالماً ، ناسِباً ، وكان خطيباً مُفَوّهاً ، وشاعراً مُجيداً ، وكتب إلى بعض إخوانه : أما بعدُ ، فقد عاقَني الشك في أَمْرِك عن عزيمة الرّأي فيك ، وذلك أنك ابتدَأتَنيبِلُطْفٍ عن غير خِبْرَة ؛ ثم أعقَبْتَني جفاء عن غير جَرِيرة ؛ فأَطْمَعَني أوّلُك في إخائك ، وأَيأَسَنِي آخِرُك عن وفَائِكَ ؛ فلا أنا في غير الرجاء مجمعٌ لك اطِّراحاً ، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقةٍ ؛ فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الشكِّ في أمرك عن عزيمة الرأي فيك ؛ فاجتَمَعْنَا على ائتلاف ، أو افترقنا على اختلاف ، والسلام .
وهو القائل : الطويل :
رأيتُ فُضَيلاً كأن شيئاً مُلفّعاً . . . فكشفه التمحيصُ حتى بَدَا ليا
فأنت أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ . . . فإن عَرَضَت أيقنتُ أنْ لا أخاليا
كلانا غنيٌّ عن أخيه حياتَه . . . ونحن إذا مُتْنَا أشدُ تغَانيَا
فلا زادَ ما بيني وبينَكَ بعدما . . . بلوتُكَ في الحاجاتِ إلاَ تماديا
فعين الرضا عن كل عَيْبٍ كليلةٌ . . . كما أن عين السخط تُبلي المساوِيا
والقائل أيضاً : الكامل :
لسْنَا وإنْ أحسَابُنَا كَرُمَتْ . . . يوماً على الأحْسَابِ نتكِلُ
نبْنِي كما كانَتْ أوَائِلُنا . . . تَبْنِي ونَفَعلُ مِثْلَ مَا فَعَلوا
وهذا كقول عامر بن الطفيل ، قال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش : أنشدني محمد الحسن بن الحرون لعامر بن الطفيل : الطويل :
تقول ابنةُ العَمْرِيَ : ما لك بَعْدَ ما . . . أراكَ صَحيحاً كالسليم المعذَّبِ
فقلتُ لها : هَمِّي الذي تَعْرفينهُ . . . من الثّأْرِ في حَييْ زُبَيد وأرْحَبِ
إن أغْزُ زُبيداً أغْز قوماً أَعِزّةً . . . مركَّبُهُمْ في الحيّ خير مركب
وإن أغْزُ حَيَّيْ خَثْعم فدماؤهم . . . شِفاءٌ وخيرُ الثأرِ للمتأَوّبِ
فما أدْرَكَ الأَوْتَارَ مِثْلُ محقِّق . . . بأَجْرَدَ طاو كالعَسِيب المُشَذَّبوأَسْمَرَ خَطِّيٍّ وأبيض بَاترٍ . . . وزَغْفٍ دِلاَصٍ كالغدير المُثَوِّبَ
وإني وإن كنت ابنَ سيدِ عامر . . . وفي السرِّ منها والصَّريح المهذّب
فما سوّدتني عامر عن وراثةٍ . . . أبى اللّه أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها ، وأتّقي . . . أذَاها ، وأرمي مَنْ رماها بمنكب
وقْال أيضاً يهنِّئ بعضَ الهاشميين بإملاك : زاد اللّه في نعمته ، وبارك في فَوَاضِله ، وجميل نوافِلِه ؛ ونسألُ الله - الذي قسم لكم ما تحبُّون من السرور - أن يجنَبكم ما تكرهون من المحذور ، ويجعل ما أحدثه لكم زيناً ، ومتاعاً حسناً ، ورشداً ثابتاً ، ويجعل سبيلَ ما أصبحت عليه ، تماماً لصالح ما سَمَوْت إليه ؛ من اجتماع الشَّمْل ، وحُسْن موافقةِ الأهْلِ ، ألَفَ اللَّهُ ذلك بالصلاح ، وتمَمه بالنجاح ، ومَدَ لك في ثروة العدد ، وطِيب الولد ، مع الزيادة في المال ، وحُسْنِ السلامةِ في الحال ، وقُرَة العين ، وصلاح ذات البَيْن .
وهجا أبو عاصم محمد بن حمزة الأسلمي المدني الحسنَ بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمة اللّه عليه ، فقال : الوافر :
له حق وليس عليه حَقّ . . . ومهما قال فالحسن الجميلُ
وقد كان الرسولُ يَرَى حقوقاً . . . عليه لغيره وهو الرسولُ
فلما ولي الحسن المدينة أتاه متنكِّراً في زي الأعراب ، فقال : الوافر :
ستأتي مِدحتي الحسنَ بن زيْدٍ . . . وتشهد لي بصِفِّينَ القبورُ
قبورٌ لم تزل مُذْ غاب عنها . . . أبو حَسَن تُعَادِيها الدهور
قبور لو بأحمدَ أو عليً . . . يلوذُ مُجِيرُها حُميَ المُجير
هما أبوَاك مَنْ وضَعَا فَضَعْهُ . . . وأنت برفْع مَنْ رفعا جَدِيرُ
فقال : من أنت ؟ قال : أنا الأسلمي . قال : اُدْنُ حَيَّاك الله وبسط له رداءَه ، وأجلسه عليه ، وأمر له بعشرة آلاف درهم .وكان الحسن بن زيد قد عَوَد داود بن سَلْم مولى بني تَيمْ أن يصله ، فلما مدح داودُ جعفرَ بن سليمان بن علي - وكان بينه وبين الحسن بن زيد تباعدٌ - أغضبه ذاك ، وقدم الحسن من حج أو عمرة ، فدخل عليه داود بن سلم مهنئاً ، فقال : أنتَ القائل في جعفر بن سليمان بن علي : الطويل :
وكنّا حديثاً قبل تأمير جعفرٍ . . . وكان المنى في جعفرٍ أن يؤمَّرَا
حوى المنبرين الطاهرين كليهما . . . إذا ما خطا عن منبر أمَ منبرا
كأن بني حَوَّاءَ صُفُّوا أمامُه . . . فخُيِّرَ في أنسابهم فتخيَّرا
فقال داود : نعم ، جعلني اللّه فِداك ، فكنتم خيرة اختياره وأنا القائل : الطويل :
لعمري لئن عاقبتَ أوجُدْتَ مُنْعِماً . . . بعفوٍ عن الجاني وإن كان مُعْذِرا
لأنتَ بما قَدَّمْت أولى بمدحةٍ . . . وأكرم فخراً إن فخرت وعُنصرا
هو الغرّة الزهراء من فرع هاشم . . . ويدعو علياً ذا المعالي وجعفرا
وزيد الندى والسبط سبط محمد . . . وعَمَك بِالطَفّ الزكي المُطَهرَا
وما نال منها جعفر غير مجلس . . . إذا ما نفاه العُزْلُ عنه تأخّرا
بحقّكم نالوا ذُراها وأصبحوا . . . يرون به عزًّاً عليكم ومظهرا
فعادله الحسن بن زيد إلى ما كان عليه ، ولم يزل يصله ويحسنُ إليه إلى أن مات .
وقوله : وإن كان مُعْذِراً ؛ لأن جعفراً أعطاه على أبياته الثلاثة ألفَ دينار .
ولما ولي الحسن بن زيد المدينة دخل عليه إبراهيمُ بن علي بن هَرْمَة ، فقال له الحسن : يا إبراهيم ، لستُ كمن باع لك دينه رجاء مدحك ، أو خوف ذمك ، فقد رزقَني اللّه تعالى بولادة نبيه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، الممادح ، وجَنَّبني المقابح ، وإنَّ من حقَه عليَ ألاَ أُغضِي على تقصير في حقٍّ وجب ؛ وأنا أقسم لئن أتيتُ بكَ سكرانَ لأضربنَك حدًّاً للخمرِ ، وحداً للسكر ؛ ولأزيدَنَ لموضع حُرمتكَ بي ، فليكن تركك لها للّه ، عزَّ وجلَّ ، تُعَنْ عليه ، ولاتَدَعْهَا للناس فتوكل إليهم . فنهض ابن هرمة ، وهو يقول : الوافر :
نهاني ابن الرسولِ عن المُدامِ . . . وأدَبني بآدابِ الكرامِ
وقال لي اصطبر عنها ودَعْها . . . لخوفِ الله لا خوفِ الأنامِ
وكيف تصبري عنها وحبي . . . لها حُبٌّ تمكَنَ في عظامي
أرى طيفَ الخيال عَلَيَّ خُبْثاً . . . وطيب العيش في خبث الحرام
وكان إبراهيم منهوماً في الخمر ، وجلده خَيثَم بن عِرَاك صاحبُ شُرطة المدينة لرباح بن عبد اللّه الحارثي في ولاية أبي العباس .
ولما وفد على أبي جعفر المنصور ومدحه استحسن شعره ووصله ، وقال له : سَل حاجتك ، قال : تكتب لي إلى عامل المدينة ألاَ يَحُدني إذا أُتيَ بي سكران ، فقال أبو جعفر : هذا حد من حدود الله تعالى لا يجوز أن أعطله ، قال : فاحتك لي يا أمير المؤمنين فكتب إلى عامل المدينة : مَنْ أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة ، واجلد ابن هرمة ثمانين .
فكان الشُرَط يمرُّون به مطروحاً في سِكَكِ المدينة ، فيقولون : مَن يشتري مائة بثمانين ؟ وقال موسى بن عبد اللّه بن علي بن أبي طالب : الطويل :
إذا أنا لم أقْبَلْ من الدهر كل ما . . . تكَرَّهْتُ منه طال عَتْبي علىَ الدَهرِ
إلى اللّه كل الأمر في الخلق كلهم . . . وليس إلى المخلوق شيءٌ من الأمرِ
تعودتُ مَسَّ الضر حتى ألِفْتُهُ . . . وأسلمني طولُ البلاءَ إلى الصبرِ
ووسَع صدري للأذى الأنسُ بالأذى . . . وإن كنت أحياناً يضيقُ به صدري
وصيَّرني يَأسِي من الناس راجياً . . . لسُرْعَةِ لطف الله من حيث لا أدري
وموسى بن عبد اللّه هو القائل : مجزوء الوافر :
تولت بهجة الدنيا . . . فكلُّ جديدها خَلَقُ
وخان الناس كلُهُم . . . فما أدري بمَنْ أثق
رأيت معالمَ الخيرا . . . تِ سُدَت دونها الطرُقُ
فلا حسَب ولا نسَب . . . ولا دِينٌ ولا خُلُقُ
فلست مصَدَقَ الأقوا . . . م في شيء وإن صدقواوكان المنصور حبسَهُ لخروجِهِ عليه مع أَخَوَيهِ ، ثم ضربه أَلْفَ سَوْطٍ ، فما نطقَ بِحرْفٍ واحد ؛ فقال الربيع : عَذَرْت هؤلاء الفساقَ في صَبرِهم ؛ فما بَالُ هذا الفتى الذي نشأ في النعمة والدَّعة ؟ فقال : الكامل :
إنِّي من القومِ الذين يَزِيدُهُمْ . . . جَلَداً وصَبراً قسوة السلطان
وولدت هند بنت أبي عبيدة بن عبد اللّه بن زَمعة موسى ، ولها ستون سنة ، ولا يعلم امرأة ولدت بنت ستين سنة إلاَّ قرشيّة .
اجتاز علي بن محمد العَلَوي بالجسر بحِدثان قَتْلِ عمر بن يحيى بن عبد اللّه ابن الحسين ، وقاتلهُ الحسين بن إسماعيل هناك ، قد جرَّد رجلاً للقتل ، فلما رأت أمُّ الرجل عليًّاً سأَلتْه أن يشفَع فيه ، فقال عليٌّ إلى الحسين فأنشده : الوافر :
قتلتَ أبرّ مَن رَكِبَ المطايا . . . وجئتُك أسْتَلِينُك بالكلامِ
وعز عليَ أن ألقاكَ إلاَّ . . . وفيما بيننا حَدُّ الْحُسامِ
ولكنّ الجناحَ إذا أُصِيبت . . . قَوَادِمهُ يرفّ على الإكامِ
فقال له : وما حاجَتُكَ ؟ قال : العفوُ عن ابنِ هذه المرأة فتركه .
وسُئِل العباسُ بن الحسين عن رجلٍ ، فقال لجليسه : أطرب من الإبل على الحدَاء ، ومن الثمل على الغِنَاء .
وذكر العباس رجلاً فقال : ما الْحِمام على الأَحْرَار ، وطول السَّقَم في الأسفَار ، وعِظَم الدَّينِ على الإقتار ، بأشدَّ من لقائه .
وقال العباسُ بن الحسين للمأمون : يا أمير المؤمنين ، إن لساني يَنْطَلِق بمدْحِك غائباً ، وقد أحببتُ أن يَتَزَيَّدَ عندك حاضراً ، أفتأذنُ لي يا أمير المؤمنين في الكلام ؟ فقال له : قل ؛ فوالله إنك لتقولُ فتُحسِن ، وَتَحضُر فتزبَّن ، وتغيب فتُؤَتَمَن ، فقال : ما بعدَ هذا كلامٌ يا أميرَ المؤمنين أفتأذن بالسكوت ؟ قال : إذا شئت .
وذكر رجلاً بليغاً فقال : ما شَبَّهْتُ كلامَه إلا بثعبان ينهالُ بين رِمَال ، وماء يتغلغل بين جِبَال .وسمِعَ المنتجع بن نبهان كلامَ العباس بن الحسين ، فقال : هذا كلامٌ يدلّ سائره على غابره ، وأولُه على آخره .
وسأل المأمونُ العباسَ بن الحسين عن رجل ؟ فقال : رَأيتُ له حِلْماً وأناة ، ولم أسمع لَحْناً وَلا إحالة ؛ يحدَثُكَ الحديثَ على مَطَاوِيه ، ويُنشِدُك الشعرَ على مَدارجه .
وكان المأمون يقول : مَنْ أراد أن يسمعَ لَهواً بلا حَرج فليسمعْ كلامَ العباسِ ، والعباس بن الحسين من أشْعَرِ الهاشميين ؛ وهو يُعَد في طبقة إبراهيم ابن المهدي ، وهو القائل : الوافر :
أتاحَ لك الهوى بِيضٌ حِسَانٌ . . . سَبَيْنَك بالعيون وبالشعور
نظرت إلى النحور فكدت تَقضِي . . . وأوْلى لو نظرت إلى الخصورِ
وهو القائل أيضاً : مجزوء الكامل :
صادَتْك من بعض القصور . . . بِيضٌ نواعمُ في الخدورِ
حُور تحور إلى صبَا . . . ك بأعيُنٍ منهنّ حُورِ
وكأنما بثغورهنّ . . . جَنَى الرُّضاب من الخمور
يَصْبُغْنَ تُفّاح الخدو . . . د بماء رمان الصُّدور
وهو : العباسُ بن الحسين بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب ، رضي اللّه عنه ، وأم عبيد اللّه جدّةُ بنت عبيدِ اللّه بن العباس بن عبد المطلب عمّ محمد بن علي أبي الخلفاء .
وكان الرشيدُ والمأمون يقرِّبانِ العباسَ غايةَ التقريب ؛ لِنَسَبِه وأدبه . قال أبو دلف : دخلتُ على الرشيد وهو في طارمة على طِنْفِسة ومعه عليها شيخٌ جميلُ المنظر ؛ فقال لي الرشيد : يا قاسم ، ما خَبَرُ أرْضك ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ، خَرَاب يَبَاب ، أَخْرَبَها الأَكراد والأعراب . فقال قائل : هذا آفةُ الجبل ، وهو أفسده ، فقلت : أنا أُصْلحه ، قال الرشيد : وكيف ذلك ؟ قلت : أفْسَدتُهُ وأنت عليَ وأُصلِحُه وأنتَ معي قال الشيخُ : إن همتهلترمي به من وراء سنِّهِ مَرْمًى بعيداً ؛ فسألت عن الشيخ فقيل : العباس بن الحسين ، وكان أبو دُلَفَ ذلك الوقت صغيرَ السنِّ . ولقي موسى بن جعفرٍ ، رضي اللّه عنه ، محمدَ بن الرشيدِ الأمينَ بالمدينة وموسى على بَغْلَة ، فقال للفضل بن الربيع : عَاتِبْ هذا ، فقال له الفضلُ : كيف لقيتَ أمير المؤمنين على هذه الدابة التي إن طَلَبتَ عليها لم تَسْبِق ، وإن طلبت عليها تلحق ، فقال : لست أحتاج أن أطْلُب ، ولا إلى أن أُطلب ؛ ولكنها دابةٌ تنحط عن خيَلاَء الخيلِ ، وترتفع عن ذِلة العَيْر ، وخيرُ الأمورِ أوسطُها .
أُصيب علي بن موسى بمصيبة ، فصار إليه الحسنُ بن سهل ، فقال : إنا لم نأْتِكَ مُعَزِّين ؛ بل جئنَاك مُقْتَدِين ؛ فالحمدُ لله الذي جعل حياتكم للناس رَحمَة ، ومصائبَكم لهم قدوة .
وكان علي بن موسى الرضا ، رحمه الله ، قد ولاَّه المأمون عَهْدَه ، وعقد له الخلافة بعده ، ونزع السّواد عن بني العباس ، وأمرهم بلباس الخضرة ، ومات علي بن موسى في حياةِ المأمون بطُوس ، فشق المأمونُ قبر الرشيد ودُفِنَ فيه تبرّكاً به ، وكان الرشيد قد مات بطوس فدفن هناك ؛ ولذلك قال دِعْبل بن علي الخزاعي : البسيط :
اِرْبَعْ بطوسٍ على قَبْر الزكِّي بها . . . إن كنت تربع من دِين على وَطر
ما ينفع الرِّجس من قُرْب الزكِّي ، ولا . . . على الزكيِّ بقرب الرجْسِ من ضَرَرِ
هيهات كل امرئ رَهْن بما كسبت . . . له يداه فخُذْ من ذاك أو فَذَرِ
قبران في طُوس : خَيْرُ الناس كلهم . . . وقبر شرّهم ، هذا من العِبَرِوكان دعبل مداحاً لأهلِ البيت ، كثير التعصُب لهم ، والغلوِّ فيهم . وله المرثية المشهورة ، وهي من جيد شعره ، وأولها : الطويل :
مَدَارِس آياتِ عَفَتْ من تِلاَوةٍ . . . وَمَنزِلُ وَحْيٍ مُقْفرُ العَرَصاتِ
لآلِ رسولِ الله بالخَيْفِ من مِنى . . . وبالبيت والتَّعرِيفِ والْجَمَراتِ
دِيَارُ علي والحسينِ وجَعْفَر . . . وحمزة والسَجَّاد ذي الثفنَات
قِفَا نَسْأَل الدارَ التي خص أهلُها . . . متى عَهْدُها بالصوْمِ والصلَوَاتِ
وأينَ الأُلى شَطَّتْ بهم غُرْبَةُ النَوَى . . . أفانينَ في الآفاق مفْتَرِقات
أُحِبُّ قَصِيَ الدارِ من أجل حُبِّهم . . . وأهْجُرُ فيهم أُسْرَتي وثِقَاتِي
وهي طويلة .
ولما دخل المأمونُ بغداد أحْضَر دِعْبلاً بعد أن أعْطَاه الأمان ، وكان قد هجاه وهجَا أباه ، فقال : يا دعبل ، من الحضيض الأوهد فقال : يا أمير المؤمنين ، قد عفوت عمن هو أشدُّ جُرْماً مني أراد المأمون قول دعبل يهجوه : الكامل :
إنِّي من القوم الذين سيوفُهُمْ . . . قتلَتْ أخَاك وشرَفَتْكَ بِمَقْعَدِ
شادُوا بذكرك بعد طولِ خُمولِه . . . واستنقذوك من الْحَضِيضِ الأَوْهَدِ
يفتخِرُ عليه بقَتْلِ طاهر بن الحسين بن مصعب ذي اليمينين أخاه محمداً ، وطاهر مولى لخُزاعة ، فاستنشده هذه القصيدة التائية ، فاستعفاه ، فقال : لا بأْسَ عليك ، وقد رويتُها ، وإنما أحببت أن أسمعَها منك ، فأنشدها دعبل ؛ فلما انتهى إلى قوله : الطويل :
ألَم تَر أني مذ ثلاثين حِجَّةً . . . أروح وأغْدُو دائمَ الحسَرَاتِ
أرى فَيئهم في غيرهم مُتقسِّماً . . . وأيديَهُم من فيئهم صَفرات
إذا وُتروا مدّوا إلى أهل وِتْرهم . . . أكُفًّا عن الأوتار مُنْقَبضاتِ
وآلُ رسول الله نُحْفٌ جسومهم . . . وآل زياد غلَظُ القَصَراتِ
بناتُ زيادٍ في القصورِ مَصْونَةٌ . . . وبنت رسول اللّه في الفَلَواتِ
بكى المأمون ، وجدَّد له الأمان ، وأَحْسَن له الصِّلة .والشيء يستدعي ما قرَع بابه ، وجذبَ أَهْدَابَه ، قال سليمان بن قتيبة : الطويل :
مررت على أبيات آل محمدٍ . . . فلم أرَها عَهدِي بها يوم حُلّتِ
فلا يبعد اللّه الديارَ وأهلَها . . . وإن أصبحَتْ من أهلها قد تخلتِ
وكانوا رجاءً ثم عادوا رَزِيةً . . . ألا عظُمَت تلك الرزايا وجلّتِ
وإن قتيل الطَفِّ من آلِ هاشم . . . أذلَّ رقابَ المسلمين فَذَلتِ ويشبه قوله : وكانوا رجاء ثم عادوا رزية قولَ امرأةٍ من العرب مرَت بالجسر بجثَّة جعفر بن يحيى البرمكي مَصْلوباً ؛ فقالت : لئن أصبحت نهاية في البلاء ، لقد كنت غايَةَ في الرجاء .
ألفاظ لأهل العصر في أوصاف الأشراف لها في هذا الموضع مَوْقع
فلان من شرَفِ العنصر الكريم ، ومعدن الشرف الصميم . أَصلٌ راسخ ، وفرع شامِخ ، ومَجْدٌ بَاذِخ ، وحَسَبٌ شَادخ .
فلان كريم الطَرَفين ، شريف الجانِبَين ، قد ركَّبَ الله دَوحَتَه في قرارةِ المَجْدِ ، وغَرَسَ نَبْعَتُه في محلّ الفضل . أَصلٌ شريف ، وعِرْق كريمِ ، ومَغْرِس عظيم ، ومغْرز صميم . المجد لسانُ أوصافه ، والشرفُ نَسبُ أسلافه . نسبٌ فخم ، وشرفٌ ضخم . يستوفي شرفَ الأرومة بكرم الأبوَّة والأمومةْ ، وشرف الخؤُولة والعمومة . ما أَتَتْه المحاسِنُ عن كلالة ، ولا ظَفر بالهدى عن ضلالة ، بل تناول المجدَ كابراً عن كابر ، وأخذ الفخْرَ عن أسِرَةٍ ومنابر : الكامل :
شرفٌ تَنفل كابراً عن كابر . . . كالرمح أُنبوبا على أُنوبِ
اسْتَقى عِرْقَه من مَنْبع النبوّة ، ورضعتْ شجَرَتُه من ثَدْي الرسالة ، وتهدّلَت أغصانُهعن نَبْعَة الإمامة ، وتبحبَحَت أطْرافُه في عَرصَةِ الشّرَفِ والسيادة ، وتفقَّأت بيضته عن سلالةِ الطهارة ، قد جذَبَ القرآن بضَبْعه ، وشقَّ الوَحْيُ عن بصره وسَمْعِه ، مختار من أكْرَم المناسب ، منتَخَب من أشْرَف العناصر ، مرْتضًى من أعلى المحاتد ، مُؤْثَر من أعظم العشائر ، قد وَرِث الشرفَ جامعاً عن جَامِع ، وشهد له نداءُ الصوامع ، هو من مُضر في سُوَيداء قَلْبِها ، ومن هاشم في سَوَاد طَرْفها ، ومن الرسالة في مهِبْطِ وَحيها ، ومن الإمامة في موقف عزَها ، ينزع إلى المحامِدِ بنفس وعِرْق ، ويحن إلى المكارم بوراثة وخلق ؛ يتناسب أصلُه وفَرْعُه ، ويتناصف نَخرُه وطَبْعُه ، وهو الطِّيب أصلُه وفَرعُه ، الزَّاكي بذره وزَرْعُه ، يجمع إلى عز النصاب ، مَزِيَّةَ الآداب ، لا غَزو أن يجريَ الجوادُ على عِرْقِه ، وتلوح مخايل الليثِ في شِبْله ، ويكون النجيبُ فَرْعاً مشيداً لأصله . له معِ نباهة شَرَفِهِ ، نزاهة سَلَفِه ، ومع كرم أرومته وحَزْمه ، مزيةُ أدبه وعلمه ، لن تخلف ثمرة غرْس ارْتِيدَ لها من المنابت أزْكاها ، ومن المغارس أطْيبها وأغذاها وأنماها ، قد جمع شرفَ الأخلاق ، إلى شرفِ الأعراق ، وكرمَ الآداب ، إلى كرم الأنساب ؛ له في المجد أول وآخِر ، وفي الكرم تليدٌ وطَارِف ، وفي الفضل حديثٌ وقديمٌ ؛ لا غَرْوَ أنْ يغمر فضلُه ، وهو نَجْلُ الصِّيد الأكارم ، أو يغزر علمه وهو فَيْضُ البحور الخضارم ، دَوْحَةٌ رسب عِرْقُها ، وسَمَق فَرْعها ، وطاب عُودُها ، واعتدل عمودُها ، وتفيَّأتْ ظِلالُها ، وتهدَلَتْ ثمارُها ، وتفرَعَتْ أغصانُها ، وبرد مَقيلُها . مَجْدٌ يلحظ الجوْزَاء من عَال ، ويطولُ النجمَ كل مَطَال . شَرَفٌ تضع له الأفلاكُ خدودَها وجِبَاهَها ، وتَلْثِمُ النجومُ أرضَه بأفواهِها وشِفاهِها . نسبُ المجدِ به عَرِيق ، وَرَوْضُ الشرفِ به أنيق . ولسانُ الثناء بفَضْله نَطوق . فَلَكُ المجدِ عليه يَدُور ، ويدُ العُلاَ إليه تُشِير . محله شاهق ، ومَجْدُه بَاسِق .
بدء الكتاب
قد تتمَ ما استفتحت به التأليف ، وجعلته مقدمة التصنيف ، مع ما اقترن به ، وانْضَافَإليه ، والتف به ، وانْعَطَفَ عليه ، ورأيتُ أن أبتدئ مقدّمات البلاغات بغُرَر التحاميد وأوْصافها ، وما يتعلَّق بأثنائها وأطرافها .
وقد قال سهل بن هارون في أول كتابٍ عمله : يجب على كلّ مبتدئ مقالةً أن يبتدئَ بحمدِ اللّه قبل استفتاحها ، كما بُدئ بالنعمة قبل استحقاقها .
ولأهل العصر : أولَى ما فَغَر به الناطقُ فمه ، وافتتح به كَلِمه ، حمدُ اللَهِ جل ثناؤُه ، وتقدَّست أسماؤُه . حَمْدُ الله خيرُ ما ابْتُدِئ به القول وختُم ، وافتُتِح به الخطابُ وتُمَمَ . وقال أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله : إن اللّه ، جلَّ ثناؤه ، لا يُمثل بنظير ، ولا يُغْلَبُ بظهير ، جل عن موقع تحصيل أدوات البشر ، ولَطُف عن ألحاظ خطرات الفِكَر ، لا يُحْمَدُ إلاَ بتوفيق منه يَقْتَضِي حمداً ، فمتى تُحْصَى نعماؤه وتكافأ آلاؤه ؟ عَجَز أقْصى الشكرِ عن أدَاء نعمته ، وتضاءل ما خلق في سِعَةِ قُدْرَته ؛ قَدر فَقَدَر ، وحكَم فأحكم ؛ وجعل الدِّين جامعاً لشمْل عباده ، والشرائع مَنَاراً على سبيل طاعته ؛ يَتْبَعُها أهل اليقين به ، ويَحِيدُ عنها أهلُ الشك فيه .
أخذ أبو العباس قولَه : ولا يحمد إلاَ بتوفيق منه يقتضي حمداً من قول محمود بن الحسن الوراق : الطويل :
إذا كان شُكْري نعمةَ اللَّهِ نِعْمَةً . . . عليَّ له في مِثْلها يَجبُ الشُكْرُ
فكيف بلوغُ الشّكْرِ إلاّ بفضلهِ . . . وإن طالت الأيام واتَصَلَ العمرُ
إذا عمّ بالسَّرَّاء عَمَ سرورها . . . وإن مَسَ بالضّراء أعقَبها الأَجْرُ
فما منهما إلاَ له فيه نِعْمَةٌ . . . تَضِيقُ بها الأوهامُ والبَرُ والْبَحْرُ
وإنما أخذه محمود من قول أبي العتاهية : الخفيف :
أحمد اللَهِ فَهوَ ألهمني الحم . . . دَ على الحمد والمزيدُ لَدَيْه
كم زمانٍ بَكَيْتُ فيه فلمَّا . . . صِرْتُ في غيره بكيتُ عليهِوقد اضطربت الروايةُ في هذين البيتين وقائلهما ، وهذا البيت الثاني كثير ، قال إبراهيم بن العباس : البسيط :
كذاك أيامُنا لا شك نَنْدُبها . . . إذا تقَضّت ونحنُ اليوْمَ نَشْكُوهَا
وآخر : الطويل :
وما مرَّ يوم أرتجي فيه راحة . . . فأفْقدُهُ إلاّ بكيتُ على أمسِ
ومحمود هو القائل أيضاً : الكامل :
تَعْصِي الإلهَ وأنْتَ تُظْهرُ حبهُ . . . هذا محالٌ في القياس بديعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطَعْتَهُ . . . إنَّ المحب لمن أحَبَّ مُطِيعُ
وكان كثيراً ما ينقلُ أخبارَ الماضين ، وحِكَم المتقدَمِين ، فيحلّي بها نظامَه ، ويُزَين بها كلامَه ، وهو القائل : الكامل :
إني وَهَبْتُ لظالمي ظُلْمي . . . وشكرْتُ ذَاكَ له على عِلْمِي
ورأيته أسْدَى إليَ يداً . . . لَمَّا أبان بجَهْلِهِ حِلْمِي
رَجَعَتْ إساءتُهُ عليه ، وَلِي . . . فَضْل فعادَ مُضاعَفَ الْجُرْم
فكأنما الإحْسَانُ كان لهُ . . . وأنا المسيءُ إليه في الزعْمِ
ما زال يَظْلِمُني وأرحمهُ . . . حتى رَثَيْتُ له من الظلم
وهو القائل : الطويل :
أراني إذا ما ازددتُ مالاً وثروَةً . . . وخَيْراً إلى خَيْرٍ تزيدْتُ في الشَرَ
فكيف بشُكْر الله إنْ كنت إنما . . . أقومُ مقامَ الشُّكْرِ لله بالكُفْرِ
بأي اعْتِذَارٍ أوْ بأيةِ حُجَّة . . . يقولُ الذي يدري من الأمر مَا أدْري
إذا كان وَجْهُ الْعُذْرِ ليس ببينٍ . . . فإنَ اطّرَاحَ العُذْرِ خيرٌ من العُذْرِ
في البلاغة
ولابن المعتز : البيان تَرْجُمانُ القلوب ، وَصَيْقَل العقول ، وَمُجَلي الشبهة ، وموجبالحجة ، والحاكم عند اختصام الظنون ، والمفرِّقُ بين الشَكِّ واليقين ، وهو من سلطان الرُسُل الذي انْقَاد به المصعَب ، واستقام الأصْيد ، وبهت الكافر ، وسَلَم الممتنع ، حتى أَشِب الحقُّ بأنصاره ، وخَلاَ ربْعُ الباطلِ من عُمَّاره ، وخيرُ البيان ما كان مصرَحاً عن المعنى ؛ ليُسْرعَ إلى الفهم تلقّيه ، وموجَزاً ليخفّ على اللفظ تعاطيه . وفَضل القرآن على سائر الكلام معروف غيرُ مجهول ، وظاهر غيرُ خفي ؛ يشهدُ بذلك عَجْز المتعاطين ، وَوَهن المتكلّفين ، وتحيّرُ الكذابين ، وهو المبلِّغ الذي لا يُمل ، والجديد الذي لا يَخْلُق ، والحقّ الصادع ، والنورُ الساطع ، والماحِي لظُلَم الضلال ، ولسانُ الصِّدق النافي للكذب ، ونذيرّ قدَّمَتْه الرحمة قبل الهلاك ، ونَاعِي الدنيا المنقولة ، وبَشِيرُ الآخرةِ المخلَدة ، ومِفْتاح الخير ، ودليل الجنة ، إنْ أوْجَزَ كان كافياً ، وإنْ أكثر كان مُذَكِّراً ، وإن أوْمَأ كان مُقنِعاً ، وإن أطال كان مُفهِماً ، وإن أمر فَناصحاً ، وإن حكم فَعَادِلاً ، وإن أخبر فصادقاً ، وإنْ بيَّن فشافياً ، سَهْلٌ على الفهم ، صَعْبٌ على المتعاطي ، قريب المَأْخَذَ ، بعيدُ المرام ، سِرَاجٌ تستضيءُ به القلوب ، حُلوٌ إذا تذوَّقَتْه العقول ، بَحْرُ العلوم ، وديوانُ الْحِكَم ، وجَوْهَر الكلم ، ونُزْهَة المتوسِّمين ، ورَوْح قلوب المؤمنين ، نزل به الرُوح الأمِينُ على محمد خاتم النبيين ، صلى اللّه عليه وعلى آله الطيبين ، فخصمَ الباطل ، وصَدع بالحق ، وتألف من النفرة ، وأنْقَذَ من الهَلَكة ، فوصل الله له النصر ، وأضرع به خَدَّ الكفر .
قال علي بن عيسى الرماني : البلاغةُ ما حُطَّ التكلّفُ عنه ، وبُني على التبيين ، وكانت الفائدةُ أغْلب عليه من القافية ، بأَنْ جَمَعَ مع ذلك سهولةَ المخرج ، مع قُرْبِ المتناوَل ؛ وعذوبةَ اللفظ ، مع رشاقَةِ المعنى ؛ وأن يكون حُسْنُ الابتداءَ كحُسْن الانتهاء ،وحسن الوَصل ، كحُسْنِ القطع ، في المعنى والسمع ، وكانت كلُّ كلمة قد وقَعتْ في حقِّها ، وإلى جَنب أُختها ، حتى لا يقالَ : لو كان كذا في موضع كذا لكان أولى وحتى لا يكونَ فيه لفظٌ مختلف ، ولا معنى مُستَكرَه ، ثم أُلبسَ بَهَاءَ الحكمة ، ونورَ المعرفة ، وشرفَ المعنى ، وجَزالة اللّفظ ، وكانت حلاوتُه في الصدر وجلالته في النفس تفتِّقُ الفهم ، وتنثر دقائقَ الحكم ، وكان ظاهرَ النفع ، شريفَ القَصْد ، معتدلَ الوَزْنِ ، جميل المذهَبِ ، كريمَ المطلب ، فصيحاً في معناه ، بيناً في فَحْواه ؛ وكلُّ هذه الشروط قد حواها القرآن ، ولذلك عَجَزَ عن معَارَضته جميعُ الأنام .
ألفاظ لأهل العصر في ذكر القرآن
القرآن حبل اللَّه الممدود ، وعَهده المعهود ، وظلُه العميم ، وصرَاطه المستقيم ، وحجَّتُه الكبرى ، ومحجّته الوسطَى ، وهو الواضح سبيلُه ، الراشدُ دليلُه ، الذي سَنِ استضاءَ بمصابيحه أبْصَر ونَجَا ، ومَنْ أعرض عنه ضَلَّ وهَوَى ؛ فضائل القرآن لا تُسْتقصى في ألفِ قرن ، حجّة اللّه وعهْده ، ووعيدُه ووعده ، به يعلمُ الجاهلُ ، ويعملُ العامِلُ ، ويتنبَّه الساهي ، ويتذكَّر اللاهي ، بَشِيرُ الثواب ، ونَذِيرُ العقابِ ، وشفاءُ الصدور ، وجَلاءُ الأمورِ ؛ من فضائله أنه يُقْرَأُ دائماً ، ويُكتَبُ ، ويُمْلَى ، ولا يَملّ . ما أهْون الدنيا على مَنْ جعل القرآن إمامه ، وتصوَّر الموتَ أمامه ، طوبى لمن جعل القرآن مصباح قلبه ، ومفتاح لُبِّه . من حقّ القرآن حِفْظُ ترتيبه ، وحسْنُ ترتيله .
قال بعض الحكماء : الحكمة مُوقِظَةٌ للقلوب من سِنَة الغفْلة ، وَمُنْقذَة للبصائر من سَكْرَةِ الْحَيْرَة ، ومُحْيِيَة لها من مَوْتِ الجهالة ، ومُسْتَخْرِجة لها من ضيقِ الضَلالَة ؛ والعلمُ دواء للقلوب العليلة ، ومِشْحَذٌ للأذهان الكليلة ، ونورٌ في الظلمة ، وأُنْسٌ في الوَحْشَةِ ، وصاحبٌ في الوَحْدَة ، وسَمِيرٌ في الْخَلْوةِ ، ووصْلَةٌ في المجلس ، ومادَّةٌ للعقل وتَلْقيحٌ للفهم ، ونَافٍ للعِيّ المُزْرِي بأهْلِ الأحْسَابِ ، المقصِّرِ بذوي الألباب ؛ أنطق اللّه سبحانه أهله بالبيان الذي جعله صفةً لكلامه في تنزيله ، وأيدَ به رُسُلهُ إيضاحاً للمشكلات ، وفصْلاً بين الشبهات : شَرَّفَ به الوضيعَ ، وأعزَّ به الذليلَ ، وسوَّدَ به المَسُود ، من تحلَى بغيره فهو معطَّلُ ، ومن تَعَطَّل منه فهو مغفّل ، لا تُبْلِيه الأيام ، ولا تَخْتَرِمُه الدهور ، يتجدَدُ على الابتذال ، ويَزْكُو على الإنفاق ؛ للّه على ما منَّ به على عبادِه الحمدُ والشُّكْرُ .رجع إلى البلاغة
قيل لعمرو بن عبيد : ما البلاغة ؟ قال : ما بلَغك الجنَة ، وَعَدَلَ بك عنِ النار ، وبصَرَك مَوَاقع رُشْدِك ، وعواقبَ غَيّك . قال السائل : ليس هذا أُريد ، قال : من لم يُحسِن أن يسكُتَ لم يُحْسِنْ أن يَسْتَمِع ، ومن لم يُحسِنْ الاستماعَ لم يُحْسِن القولَ ، قال : ليس هذا أُريد ، قال : قال النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إنَّا معشرَ الأنبياء فينا بَكْءٌ ' أي قِلَةُ كلام ؛ وكانوا يكرهون أن يزيد منطقُ الرجل على عَقْله ، قال السائل : ليس هذا أريد ، قال : كانوا يخافون من فِتْنَة القولِ ومن سقطَاتِ الكلام ما لا يخافون من فِتنَةِ السكوت ، وسقَطَاتِ الصَمْتِ ، قال : ليس هذا أُريد ، قال عمرو : يا هذا ، فكأَنك تريدُ تَحْبير اللفظ في حسن الإفهام ، قال : نعم ، قال : إنَك إن أردتَ تقريرَ حُجَّةِ اللَّهِ عزَّ وجلّ في عقول المكلّفين ، وتخفيف المؤونة عن المستمعين ، وتَزْيين تلك المعاني في قلوب المُريدين ، بالألفاظ المستحسنة في الآذان ، المقبولة في الأذهان ، رغبةً في شرْعة إجابتهم ، ونَفْيِ الشواغلِ عن قلوبهم ، بالموعِظَة الحسنة على الكتاب والسنة - كنت قد أُوتيت الحكمةَ وفَصْلَ الخطابِ ، واستوجَبْت من اللّه جزيلَ الثواب ، فقيل لعبد الكريم بن روح الغِفاري : مَنْ هذا الَذِي صَبَرَ له عَمْرو هذا الصبر ؟ قال : سألتُ عن ذلك أبا حفص الشمري ، فقال : ومن يَجْتَرِئ عليه هذه الجرأة إلاَ حفص بن سالم .
وعمرو بن عبيد بن باب هو رئيسُ المعتزلة في وَقْته ، وهو أوَلُ من تكلّم على المخلوق ، واعتزلَ مجلسَ الحسن البصري ، وهو أول المعتزلة .
ودخل عمرو بن عبيد على أبي جعفر المنصور ، فقال : عِظْني ، فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إنَ اللّه أعطاكَ الدنيا بأسْرِها ، فاشْتَرِ نفسَك منه ببعضها ؛ يا أميرَ المؤمنين ، إن هذا الأمرَ لو كان باقياً لأحَدٍ قبلَك ما وصل إليك ، أَلمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُكَ بِعَادِ إرَمَ ذاتِ العِمادِ ؟ قال : فبكى المنصور حتى بَل ثوبه . ثم قال : حاجتَك يا أبا عثمان وكان المنصور لَمَّا دخل عليه طرَح عليه طَيْلَساناً ، فقال : يُرْفَعُ هذا الطيلسان عني فرُفع ، فقال أبو جعفر : لا تَدَعْ إتياننا ؛ قال : نعم ، لا يضمُني وإياك بلد إلاّ دخلتُ إليك ، ولا بَدَتْ لي حاجة إلاَ سألتُكَ ، ولكن لا تُعْطِني حتى أسألك ، ولا تَدْعُني حتى آتيك ، قال : إذاً لا تأتينا أبداً .وقد رُوي مثل هذا لابن السماك مع الرشيد .
وقوله : لو كان هذا الأمر باقياً لأحدٍ قبلَك ما وصل إليك كقول ابن الرومي : الطويل :
لعمرُك ما الدُّنيا بدارِ إقامةٍ . . . إذا زال عن عَيْنِ البصيرِ غِطاؤها
وكيف بقاءُ الناسِ فيها وإنما . . . يُنال بأسْبَاب الفَنَاء بقاؤها ؟
ووعظ شبيب بن شبة المنصور ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن اللّه لم يجعل فوقك أحداً ، فلا تَجْعَلْ فوق شكره شكراً .
ودخل عمرو بن عبيد على المنصور وعنده المهدي فقال له : هذا ابنُ أخيك المهدي ، وليُ عهد المسلمين ، فقال : سمَيْتَه اسماً لم يستحقّ حمله ، ويفضي إليكَ الأمر وأنت عنه مشغول .
وكان عمرو بن عبيد يقول : اللهمَ أغْنِنِي بالافتقارِ إليك ، ولا تُفْقرْني بالاستغناء عنك .
وقال له المنصور : يا أبا عثمان ، أعِنَي بأصْحَابك : قال : يا أميرَ المؤمنين ، أظْهِرِ الحق يَتْبَعْكَ أهلُه .
وقال عمر الشمري : كان عمرو بن عبيد لا يكادُ يتكلَم ، وإنْ تكلَم لم يَكَدْ يُطيل ؛ وكان يقول : لا خيرَ في المتكلِّم إذا كان كلامُه لمن يَشْهَدهُ دونَ قائله ، وإذا طال الكلامُ عرضَتْ للمتكلّم أسبابُ التكلف ، ولا خيرَ في شيء يَأْتيك به التكلف . قال معمر بن الأشعث : قلت لبَهْلَةَ الهندي أيام اجتلَبَ يحيى بن خالدٍ أطباءَ الهند : ما البلاغةُ عند أهلِ الهند ؟ قال بهلة : عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة ، ولكنني لا أحسِن ترجمتَها ، ولم أُعالجْ هذه الصناعَةَ ، فأَثِقَ من نفسي بالقيام بخصائصها ، ولطيفِ معانيها . قال ابنُ الأشعث : فلقيت بتلك الصحيفة التراجمة فإذا فيها : أولُ البلاغة اجتماعُ آلة البلاغة ، وذلك أن يكونَ الخطيب رابطَ الجأش ، ساكنَ الجوارحِ ، قليل اللَحْظِ ، متخير اللفظ ، لا يكلم سيدَ الأمَة بكلام الأمة ، ولا الملوكَ بكلام السُّوقة ، ويكون في قُوَاهُ فَضْلُ التصرف في كل طبقة ، ولا يدقّق المعاني كلَّ التدقيق ، ولا يُنقحُ الألفاظ كل التنقيح ، ولايصفيها كل التصفية ، ولا يهذّبها غايةَ التهذيب ، ولا يفعل ذلك حتى يصادفَ حكيماً ، أو فيلسوفاً عليماً ، ومن قد تعوَّد حَذْفَ فُضُول الكلام ، وإسقاطَ مشتركات الألفاظ ، وقد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة ، لا على جهة التصفِّح والاعتراض ، ووجه التظرُّف والاستظراف .
قال إسحاق بن حسان بن قوهي : لم يفسّر أحد البلاغة تفسيرَ عبد اللّه ابن المقفع إذ قال : البلاغةُ اسمٌ لمعانٍ تَجْرِي في وجوهٍ كثيرة ، فمنها ما يكونُ في الاستماع ، ومنها ما يكونُ في السكوت ، ومنها ما يكون في الإشارة ، ومنها ما يكونُ في الحديث ، ومنها ما يكونُ في الاحتجاج ، ومنها ما يكون شعراً ، ومنها ما يكون ابتداءً ، ومنها ما يكونُ جواباً ، ومنها ما يكون سَجْعاً ، ومنها ما يكون خُطَباً ، ومنها ما يكون رسائلَ ، فغايةُ هذه الأبواب الوَحْيُ فيها والإشارة إلى المعنى ؛ والإيجازُ هو البلاغة ، فأمّا الخطب فيما بين السِّماطين ، وفي إصلاح ذات البين ، فالإكثارُ في غير خَطَل ، والإطالةُ في غير إملال ، ولكن لِيَكن في صَدْرِ كلامِك دليلٌ على حاجتك ، كما أَنَّ خيرَ أبياتِ الشعر البيتُ الذي إذا سمعتَ صَدْرَه عرفتَ قافيته كأنه يقول فرِّق بين صدر خطبة النكاح وخطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة التَّوَاهُب ، حتى يكونَ لكل فَنٍّ من ذلك صَدْرٌ يدل على عجُزِهِ فإنه لا خيرَ في كلام لا يدلُ على معناك ، ولا يشيرُ إلى مَغْزاك ، وإلى العمود الذي إليه قَصَدْت ، والغرض الذي إليه نزعْت .
فقيل له : فإنْ ملَّ المستمعُ الإطالة التي ذكرت أنها أحق بذلك الموضع ؟ قال : إذا أعطيت كل مقام حقه ، وقمتَ بالذي يجب من سياسة الكلام ، وأرضيتَ مَنْ يعرف حقوقَ ذلك ، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو ؛ فإنهما لا يَرْضَيَان بشيء ؛ فأمّا الجاهِلُ فلستَ منه وليس منك ، ورضا جميع الناس شيءٌ لا يُنَال .الإطالة والإيجاز
وقد مدحوا الإطالة في مكانها ، كما مدحوا الإيجازَ في مكانه . قال أبو داود ابن جرير في خطباء إياد : الكامل :
يَرْمُونَ بالخطب الطوال ، وتارةً . . . وَحْيَ المَلاحظِ خِيفَة الرقباء
قال أبو وَجْزة السعدي يصف كلام رجل : الكامل :
يَكْفي قليلُ كلامِه ، وكثيرُهُ . . . ثَبتٌ ، إذا طَالَ النِّضَالُ ، مُصِيبُ
وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد المبرَد ولم يسمِّ قائلَه ، وهو مولّد ولم ينقصه توليدُه من حظّ القديم شيئاً : المتقارب :
طَبِيبٌ بداء فُنُون الكلا . . . م لَمْ يَعْيَ يوماً ولم يَهْذُرِ
فإنْ هو أَطْنَبَ في خُطْبَةٍ . . . قَضَى للمُطِيل على المُنْزر
وإن هو أَوْجَزَ في خُطبَةٍ . . . قَضى للمُقِلِّ على المُكْثِرِ
وقال آخر يصف خطيباً : الكامل :
فإذا تكلَّم خِلْتَهُ متكلّماً . . . بجميع عِدَّةِ أَلْسُنِ الخطباءِ
فكأن آدم كان علّمه الّذِي . . . قد كان عُلِّمَهُ مِنَ الأسماءِ
وكان أبو داود يقول : تلخيص المعاني رِفق ، والاستعانة بالغريب عَجْز ، والتشدق في الإعراب نقْصٌ ، والنظرُ في عيون الناس عِيّ ، ومسُّ اللحية هُلك ، والخروجُ عما بُنِي عليه الكلام إسهاب .
وقال بعضهم يهجو رجلاً بالعيّ : الطويل :
مَلِيءٌ بِبُهْرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ . . . ومَسْحَةِ عثُنُونٍ وفَتْل الأصابعووصف العتابي رجلاً بليغاً فقال : كان يُظْهِر ما غَمض من الحجة ، ويصور الباطلَ في صورة الحقّ ، ويُفْهِمك الحاجةَ من غيرِ إعادة ولا استعانة . قيل له : وما الاسْتِعَانة ؟ قال : يقول عند مقاطع كلامه يا هناة ، واسْمَع ، وفَهِمت وما أشبهَ ذلك . وهذا من أَمَاراتِ الْعَجْزِ ، ودلائل الحصَرِ وإنما ينقطعُ عليه كلامه فيحاولُ وصْلَه بهذا ، فيكون أشدَ لانْقطَاعِه .
وكان أبو داود يقول : رَأسُ الخَطَابة الطَّبْع ، وعمودها الدربة ، وجَناحَاها رِوَاية الكلام ، وحَلْيُها الإعراب ، وبهاؤُهَا تخيرُ اللفظ ؛ والمحبةُ مقرونة بقلة الاستِكْراه .
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ : قال بعض جهابِذَةِ الألفاظ ، ونفاد المعاني : المعاني القائمةُ في صدور الناس ، المختلجة في نفوسهم ، والمتصورة في أذهانهم ، المتصلة بخواطرهم ، والحادثة عن فكرهم ، مستورة خفية ، وبعيدة وحشية ، ومحجوبة مكنونة ، وموجودة في معنى معدومة ، لا يعرفُ الإنسانُ ضميرَ صاحبه ، ولا حاجةَ أخيه وخليطِهِ ، ولا معنى شريكه والمعاون له على أمره ، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلاّ بغيره ، وإنما يحيي تلك المعاني ذِكْرهم لها ، وإخبارهم عنها ، واستعمالهم إياها .
وهذه الخصالُ هي التي تقرّبها من الفهم ، وتجليها للعقل ، وتجعل الخفيَّ منها ظاهراً ، والغائب شاهداً ، والبعيدَ قريباً . وهي التي تلخص الملتبس ، وتحل المنعقد ، وتجعل المهمل مقَيداً ، والمقيّد مطلقاً ، والمجهول معروفاً ، والوَحْشِي مألوفاً ، والغفل موسوماً ، والموسوم معلوماً ؛ وعلى قدْرِ وضوحِ الدلالة ، وصواب الإشارة ، وحُسْنِ الاختصار ، ودقة المدْخَلِ ، يكون ظهورُ المعنى . وكلما كانت الدلالة أوضَحَ وأفصَحَ ، وكانت الإشارة أَبْيَن وأنور ، كانت أنفع وأنجع في البيان . والدلالةُ الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله يمْدَحه ، ويَدْعُو إليه ، ويحث عليه ؛ بذلك نطق القرآن ، وبذلك تفاخرت العرب ، وتفاضلت أصناف العجم .
والبيان : اسمٌ لكل شيء كَشَفَ لك عن قناع المعنى ، وهَتَك لك الْحُجُبَ دون الضمير ، حتى يُفْضِيَ السامعُ إلى حقيقته ، ويهجم على محصوله ، كائناً ما كان ذلك البيان ، ومن أي جنس كان ذلك الدليل ؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائْلُوالسامع إنما هو الفهم والإفهام ؛ فبأيّ شيء بلَغْتَ الإفهامَ وأوضحتَ عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع .
ثم اعْلَمْ - حَفِظَكَ اللَهُ - أن حُكْمَ المعاني خلافُ حكم الألفاظ ؛ لأَنَّ المعاني مبسوطة إلى غير غاية ، وأسماء المعاني محصورة معدودة ، ومحصلة محدودَة .
وجميعُ أصْنَافِ الدلالات على المعاني من لفظٍ أو غيره خمسةُ أشياء لا تنقص ولا تزيد : أولها اللَفظ ، ثم الإشارة ، ثم العُقد ، ثم الخطّ ، ثم الحال التي تسمى نُصبة . والنُّصبَة هي الحالُ الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف ، ولا تَقْصُرُ عن تلك الدلالات .
ولكل واحدةِ من هذه الدلائل الخمسة صورةٌ بائنةٌ من صورةِ صاحبتها ، وحِلْيَةٌ مخالفة لِحِليَةِ أختها ؛ وهي التي تكشف لك عن أَعْيَان المعاني في الجملة ، وعن حقائقها في التفسير ، وعن أجناسها وأَقْدَارِها ، وعن خاصّها وعامِّها ، وعن طبقاتها في السار والضارّ ، وعما يكون منها لَغْواً بَهْرَجاً ، وساقطاً مُطَّرَحاً .
وفي نحو قول أبي عثمان : إنَ المعاني غير مقصورة ولا محصورة يقول أبو تمام الطائي لأبي دُلَفَ القاسِمِ بن عيسى العجْلِيَ الطويل :
ولو كان يَفْنَى الشعرُ أَفْنته ما قَرَتْ . . . حِيَاضُكَ منه في العصورِ الذَّوَاهِبِ
ولكنه فَيْضُ العقولِ إذا انجلَتْ . . . سحائبُ منه أُعْقِبَتْ بَسَحَائِبِ
كما أشار إلى قول أوْس بن حَجر الأسدي : الطويل :
أقول بما صَبتْ عليَّ غمامتي . . . وجهديَ في حبل العشيرة أحطِبُ
وقال بعضُ البلغاء : في اللسان عشرُ خصالٍ محمودة ، أداةٌ يظهر بها البيان ، وشاهد يخبر عن الضمير ؛ وحاكمٌ يفصل الخطاب ، وواعظٌ يَنْهَى عن القبيح ، وناطق يردُ الجواب ، وشافع تُدْرَك به الحاجة ، وواصف تعرف به الأشياء ، ومُعْرِبٌ يُشْكَر به الإحسان ، ومُعَز تذهب به الأحْزان ، وحامِدٌ يذهبُ الضغينةَ ، ومونق يلهي الأسماع .وقال أبو العباس بن المعتز : لحظةُ القلب أسرع خطرةً من لحظة العين ، وأبعدُ مَجالاً ، وهي الغائصة في أعماق أوْدِيةِ الفكر ، والمتأملة لوجوه العواقب ، والجامعةُ بين ما غاب وحَضَر ، والميزانُ الشاهدُ على ما نَفَع وضَرَّ ، والقلبُ كالمُمْلِي للكلام على اللسان إذا نطق ، واليد إذا كتبت ، والعاقل يكسو المعاني وَشْيَ الكلام في قلبه ، ثم يُبديها بألفاظ كَوَاسٍ في أحسن زينة ، والجاهلُ يستعجلُ بإظهار المعاني قبل العناية بتزيين مَعَارضها ، واستكمال محاسنها .
وقيل لجعفر بن يحيى البرمكي : ما البيان ؟ قال : أن يكونَ الاسمُ يحيط بمعناك ، ويَكْشِف عن مَغْزَاكَ ، ويخرجه من الشركة ، ولا يُسْتَعان عليه بالفكر ، ويكون سليماً من التكلُفِ ، بعيداً من الصَّنعة ، بَرِيئاً من التعقيد ، غَنِيًّاً عن التأويل .
وذكر سهل بن هارون - وقيل ثُمَامة بن أشرس - جعفرَ بن يحيى فقال : قد جَمَع في كلامه وبلاغته الهَذَّ والتمهل ، والجزالة والحلاوةَ ، وكان يُفهم إفهاماً يُغْنيه عن الإعادة للكلام . ولو كان يَسْتَغني مستغنٍ عن الإشارة بمنطقه لاستغنى عنها جعفر . كما استغنى عن الإعادة فإنه لا يتَحبَّسُ ولا يتوقف في منطِقه ولا يتلَجْلَجُ ، ولا يتسعَّل ، ولا يترقّب لفظاً قد استدعاه من بُعْد ، ولا يتلّمس معنًى قد عصاه بعد طلبه له .
وقيل لبشَّار بن بُرْد : بِمَ فقْتَ أهل عمرك ، وسبقتَ أهْلَ عصرك ، في حسن معاني الشعر ، وتهذيب ألفاظه ؟ فقال : لأني لم أقبل كل ما تُورِدُهُ علي قريحتي ، ويُنَاجيني به طَبْعِي ، ويبعثه فكري ، ونظرت إلى مغارس الفطن ، ومعادن الحقائق ، ولطائف التشبيهات ، فسِرْتُ إليها بفهمٍ جيد ، وغريزة قوية ، فأحكمت سَبْرَها ، وانتقيت حُرها ، وكشفتُ عن حقائقها ، واحترزتُ من متكلَفها ، ولا والله ما ملك قيادي قَطُ الإعجابُ بشيء مما آتي به .
وكان بشارُ بن برد خطيباً ، شاعراً ، راجزاً ، سجاعاً ، صاحب منثور ومزدوج ، ويلقب بالمرعَّث لقوله : مجزوء الخفيف :مَنْ لِظَبْي مُرعَثٍ . . . ساحر الطَّرْفِ والنظَرْ
قال لي لن تنالني . . . قلت أو يغلب القَدَرْ
وليس هذا موضع استقصاء ذكره ، واختيار شعره ، وسأستقبل ذلك إن شاء اللّه .
وقال الوليد بن عبيد البحتري : كُنْتُ في حَدَاثَتي أرُومُ الشِّعْرَ ، وكنتُ أرْجِعُ فيه إلى طبْعٍ ، ولم أكُنْ أقِف على تسهِيل مَأْخَذِهِ ، ووجوه اقتضابه ، حتى قصدْتُ أبا تمام ، وانقطعت فيه إليه ، واتكَلْتُ في تعريفه عليه ؛ فكان أول ما قال لي : يا أبا عُبَادة ؛ تخير الأوقاتَ وأنت قليلُ الهموم ، صِفْرٌ من الغموم ، واعلم أن العادةَ جرت في الأوقاتَ أن يقصد الإنسانُ لتأْلِيفِ شيءً أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَر ؛ وذلك أن النَّفْسَ قد أخذَتْ حظها من الراحة ، وقِسْطَها من النوم ، وإن أردتَ التشبيب فاجعل اللفظ رشيقاً ، والمعنى رقيقاً ، وأكْثِر فيه من بيان الصَّبابة ، وتوجُّع الكآَبة ، وقلق الأشواق ، ولَوْعَة الفراق ، فإذا أخذتَ في مديح سيّد ذي أيادٍ فأشْهِر مناقبَه ، وأظهر مناسبه ، وأبِنْ معالمه ، وشَرِّفْ مقامه ؛ ونَضِّدِ المعاني ، واحذر المجهولَ منها ، وإيَّاك أن تَشين شِعْرَك بالألفاظ الرديئة ، ولتكن كأنك خيَّاط يقطع الثيابَ على مقادير الأجساد . وإذا عارضك الضجَرُ فأَرحْ نفسَك ، ولا تعمل شعرك إلاّ وأنْتَ فارغُ القلبِ ، واجعل شهوتَكَ لقولِ الشعر الذريعةَ إلى حسن نظمه ؛ فإن الشهوة نِعْمَ المعين ، وجملةُ الحال أنْ تعتبر شعرَك بما سلف من شعر الماضين ، فما استحسن العلماءُ فاقصده ، وما تركوه فاجتنبه ، ترشد إن شاء اللّه .
قال : فأعملت نفسي فيما قال فوقفت على السياسة .
وقالوا : البليغ مَنْ يَحُوك الكلامَ على حسب الأماني ، ويخيط الألفاظ على قدُود المعاني . ولذكر الطائي الليل ذكر بعض أهل العصر - وهو أبو علي محمد بن الحسن ابن المظفَّر الحاتمي - الليلَ فقال : فيه تَجُمُّ الأذهانُ ، وتنقطع الأشغال ، ويصحّ النظر ،وتؤلّف الحكمة ، وتدرّ الخواطرَ ، ويتسع مَجَالُ القلب ، والليل أَضْوَأ في مذاهب الفكر ، وأَخْفى لعمل البر ، وأعون على صَدَقة السّرّ ، وأصحّ لتلاوة الذكر ، ومُدبِّرُو الأمور يختارون الليلَ على النهار ، فيما لم تصف فيه الأناة لرياضة التدبيرِ وسياسة التقدير ، في دَفْع الملّم ، وإمضاء المهمّ ، وإنشاء الكتب ، وتصحيح المعاني ، وتقويم المباني ، وإظهار الْحُجَج ، وإيضاح المَنْهَج ، وإصابة نَظْمِ الكلام ، وتقريبه من الأفهام .
وقال بعض رؤساء الكتاب : ليس الكِتَابُ في كل وقتٍ على غير نسخة لم تُحَرَر بصواب ؛ لأنه ليس أحدٌ أولى بالأناة وبالرويّة من كاتب يَعْرِض عقله ، وينشرُ بلاغته ؛ فينبغي له أن يعمل النسخ ويرويها ، ويقبل عَفْوَ القريحة ولا يستكرهها ، ويعمل على أن جميعَ الناس أعداء له ، عارفون بكتابه ، منتقدون عليه ، متفرغون إليه .
وقال آخر : إنّ لابتداء الكلام فتنةً تروق ، وجِدّةً تعجب ، فإذا سكنت القريحة ، وعدل التأمل ، وصَفَت النَفس ، فليعد النظر ، وليكن فَرًحُه بإحسانه ، مساوياً لغمَه بإساءته ؛ فقد قالت الخوارج لعبد الله بن وهب الراسي : نبايعك الساعة فقد رأينا ذلك ، فقال : دَعُوا الرأي حتى يبلغ أناته ، فإنه لا خيرَ في الرأي الفَطير ، والكلام القضيب .
وقال معاوية بن أبي سفيان ، رحمه الله ، لعبد الله بن جعفر : ما عندك في كذا وكذا . فقال : أريد أن أًصْقُلَ عقلي بنَوْمَة القائلة ، ثم أروح فأقول بعدُ ما عندي .
قال الشاعر : البسيط :
إن الحديث تَغُر القومَ جَلْوَتُهُ . . . حتى يغيّرَه بالوَزْنِ مضمارُ
فعند ذلك تستكفي بلاغتهُ . . . أو يستمرّ به عِيّ وإكْثَارُ
وقالوا : كل مُجْرٍ بالْخَلاء يُسَرُ ، وقال أبو الطيب المتنبي : الخفيف :
وإذا ما خَلاَ الْجَبانُ بأَرْضٍ . . . طَلَبَ الطعْنَ وَحْدَه والنّزالاَوكان قلم بن المقفع يَقفُ كثيراً ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن الكلام يَزْدَحِمُ في صدري ، فيقف قلمي ليتخير .
وقالوا : الكِتابُ يُتصفح أكثر ممّا يتصفح الخطاب ؛ لأنَ الكاتب متخير ، والمخاطِبَ مضطرّ ، ومن يَرِدُ عليه كتابك فليس يعلم أأَسْرعْتً فيه أم أبطأت ؛ وإنما ينظر أأخطأتَ أم أَصبتَ ؛ فإبطاؤك غيرُ قادح في إصابتك ، كما إن إسراعك غير مُغَط على غَلَطِك .
ووصف بعضُ الكتّاب النسخ فقال : ينبغي أن يصحَبها الفكر إلى استقرارها ، ثم تُستبرأ بإعادة النظر فيها بعد اختيارها ، ويوسَّع بين سُطُورِها ، ثم تحرر على ثقةٍ بصحتها ، وتُتأمل بعد التحرير حَرْفاً حرفاً إلى آخرها .
فقد كتب المأمون مُصْحفاً اجتمع عليه ؛ فكان أوله : بسم الله الرحيم ، فأغفلوا الرحمن ؛ لأن العينَ لا تَعتبرُ ذلك ؛ ثقة أنه لا يُغْلَط فيه ، حتى فَطِنَ المأمون له .
وقال محمد بن عبد الملك الزيات للحسن بن وهب : حرر هذه النسخة وبكَر بها ، فتصبح الحسن فقال له : لم تصبحت ؟ قال : حتى تصفحت وقال أحمد بن إسماعيل بَطاحَة : كان بعض العلماء الأغبياء ينظر في نسخهِ بعد نفوذ كُتُبه ، فقال بعض الكتاب : السريع :
مُستَلَبُ اللُب غَوِيُ الشباب عذَّبه الهَجْر أشدَ العذابْ
يؤمل الصبر وأنى لَهُ . . . به وقد مُكّن منه التَّصَابْ
كناظرٍ في نسخهٍ يبتغي . . . إصلاحَها بعد نفوذِ الكتابْ
أوصاف بليغة في البلاغات على ألسنة أقوام من أهل الصناعات
قال بعضُ من ولَد عقائل هذا المنثور ، وألَف فواصل هذه الشذور : تجمَع قوم من أهل الصناعات ، فوصفوا بلاغاتِهم ، من طريق صناعاتهم : فقال الجوهري : أحسنُ الكلام نِظاماً ما ثقبته يَد الفكرة ، ونظمته الفِطْنة ، ووُصِل جَوْهَرُ معانيه في سُموط ألفاظه ، فاحتملته نحورُ الرواة .وقال العطار : أطيبُ الكلامِ ما عُجِنَ عَنْبَر ألفاظه بمسْك مَعَانيه ، ففاح نسيمُ نَشَقِه ، وسطعت رائحة عبَقه ، فتعلّقت به الرُوَاة ، وتعطَرت به السَّراة .
وقال الصائغ : خيرُ الكلام ما أَحْمَيْتَه بكِير الفِكر ، وسبَكْتَه بمشَاعِل النّظر ، وخلَّصته من خَبَث الإطناب ، فبرز بروزَ الإبريز ، في معنى وَجيز . وقال الصيرفي : خيرُ الكلام ما نَقَدَتْهُ يدُ البصيرة ، وجلَته عين الروية ، ووزنْتَه بمِعْيار الفصاحة ، فلا نظر يُزَيّفه ، ولا سماعَ يُبَهْرِجُه .
وقال الحداد : أحسن الكلام ما نصبت عليه مِنْفَخة القريحة ، وأشعلْتَ عليه نارَ البصيرة ، ثم أخرجتَه من فحم الإفحام ، ورقَّقته بفطِّيس الإفهام .
وقال النجار : خيرُ الكلام ما أحكمتَ نَجْرَ معناه بقدُوم التقدير ، ونَشَرْتَه بمنشار التدبير ، فصار باباً لبيت البيان ، وعارِضة لسَقفِ اللسان .
وقال النجاد : أحسنُ الكلام ما لطُفت رَفَارِف ألفاظه ، وحسُنت مَطارح معانيه ، فتنزّهت في زَرَابيِّ محاسنه عيونُ الناظرين ، وأصاخت لنمارِق بَهْجَتهِ آذان السامعين .
وقال الماتح : أبْيَن الكلام ما علقتْ وَذَمُ ألفاظه ببكرة معانيه ، ثم أرسلته في قَلِيب الفطَن فمتحت به سقاء يكشِفُ الشبهات ، واستنبطت به معنى يروي من ظمإ المشكلات .
وقال الخياط : البلاغة قميص ؛ فجُربانه البيان ، وجَيْبُه المعرفة ، وكُفَاه الوجازة ، ودَخَارِيصه الإفهام ، ودُرُوزُه الحلاوة ، ولابس جَسَدُه اللفظ ، وروحُه المعنى .وقال الصباغ : أحسن الكلام ما لم تنْضَ بهجة إيجازه ، ولم تكشف صبغة إعجازه ، قد صَقَلتْه يَدُ الروِيةِ من كُمُود الإشكال ، فَرَاعَ كواعِبَ الآداب ، وألَف عَذَارَى الألْبَابِ .
وقال الحائِك : أحسنُ الكلام ما اتَّصَلت لُحمة ألفاظه بسَدَى معانيه ، فخرج مُفوَّفاً مُنيراً ، وموشَّى محبراً .
وقال البزار : أحسن الكلام ما صدقَ رقم ألْفاظه ، وحسن نَشْرُ معانيه فلم يستَعْجِم عنك نَشر ، ولم يستبهم عليك طَيّ .
وقال الرائض : خيرُ الكلام ما لم يخرج عن حَدِّ التَّخْليع ، إلى منزلة التَّقْرِيب إلاَّ بعد الرياضة ، وكان كالمُهْرِ الذي أطمع أوَل رياضته في تمام ثَقافته .
وقال الجمَال : البليغُ من أخذَ بخِطام كلامه ، فأناخَه في مَبْرك المعنى ، ثم جعل الاختصار له عِقَالاً ، والإيجاز له مَجالاً ، فلم يَندَّ عن الآذان ، ولم يشذَّ عن الأذهان .
وقال المخنَّث : خيرُ الكلام ما تكسرَت أطرافُه ، وتثنَّت أعطافه ، وكان لفظه حُلَّة ، ومعناه حِلْية .
وقال الخمّار : أبلغُ الكلام ما طبَخَتْه مَرَاجِلُ العلم ، وصَفَاه رَاوُوق الفَهْمِ ، وضمَّته دِنَان الحكمة ، فتمشَّت في المفاصل عُذُوبَتُه ، وفي الأفكارِ رِقَته ، وفي العقول حِدّته .
وقال الفقاعي : خيرُ الكلام ما رَوَّحَتْ ألفاظُه غَبَاوَةَ الشكّ ، ورفعت رِقَته فظاظةَ الجهل ، فطاب حِساءُ فطنته ، وعذُب مَصُّ جُرَعِهِ .
وقال الطبيب : خيرُ الكلام ما إذا باشر دواءُ بيانه سَقَمَ الشُبهة استطلقت طبيعةُ الغباوة ؛ فشُفِي من سوء التفهّم ، وأورث صحة التوهم .
وقال الكحَّال : كما أن الرمَد قذى الأبصارِ ، فكذا الشبهة قَذَى البصائر ، فاكْحَلْ عَيْنَ اللكنة بميلِ البلاغة ، واجْلُ رمَصَ الغَفْلة بِمرْوَدِ اليقظة .ثم قال : أجمعوا كلّهم على أن أبلغ الكلام ما إذا أشرقت شمْسُه ، انكشف لَبْسه ، وإذا صدقت أنواؤه اخضرّت أحماؤه .
فِقرٌ في وصف البلاغة لغير واحد
قال أعرابي : البلاغةُ التقرّب من البعيد ، والتباعد من الكُلْفَة ، والدلالة بقليل على كثير .
قال عبد الحميد بن يحيى : البلاغة تقريرُ المعنى في الأفهام ، من أَقْرَب وجوه الكلام .
ابن المعتز : البلاغةُ البلوغ إلى المعنى ولم يطل سَفَر الكلام .
سهل بن هارون : البيان ترجمان العقول ، وروْض القلوب ، وقال : العقل رائدُ الروح ، والعلم رائدُ العقل ، والبيان تَرجمان العلم .
إبراهيم ين الإمام : يكفي من البلاغة ألا يُؤْتَى السامع من سوء إفهام الناطق ، ولا يؤتَى الناطق من سوء فهم السامع .
العتَّابي : البلاغة مدُ الكلام بمعانيه إذا قَصر ، وحُسن التأليف إذا طال .
أعرابي : البلاغة إيجاز في غير عَجْز ، وإطناب في غير خَطَل .
وكتب إبراهيم بن المهدي إلى كاتب له ورآَه يتبع وَحْشِيَ الكلام : إياك وتتبع الوحشي طمعاً في نَيْلِ البلاغة ؛ فإن ذلك العِيُ الأكبر ، وعليك بما سهل مع تجنبك ألفاظ السفل .
وقال الصولي : وصف يحيى بن خالد رَجُلاً فقال : أخذ بزمام الكلام ، فقاده أسهل مَقَاد ، وساقه أجمل مَسَاق ؛ فاسترجع به القلوبَ النافرة ، واستصرف به الأبصار الطامحة .
وسمع أعرابي كلامَ الحسن البصري رحمه الله ، فقال : والله إنه لفصيح إذا نطق ، نصيح إذا وَعَظ . قال الجاحظ : ينبغي للكاتب أن يكون رقيقَ حَوَاشي الكلام ، عَذْبَ ينابيع اللسان ؛ إذا حاور سدَد سهمَ الصواب إلى غرض المعنى ، لا يكلم الخاصة بكلام العامة ، ولا العامة بكلام الخاصة .وقال أبو العباس المبرد : قال الحسن بن سهل لسالم الحراري : ما المنزلة التي إذا نزل بها الكاتب كان كاتباً في قوله وفعله واستحقاقه ؟ قال : أن يكون مطبوعاً على المعرفة ، مُحْتَنكاً بالتجربة ، عارفاً بحلال الكتاب وحرامه ، وبالدهور في تصرّفها وأحكامها ، وبالملوك في سِيَرِها وأيامها ، وأجناس الخط ، وبادية الأقلام ، مع تشاكل اللفظ وقرب المأخذ . قال الحسن : فليس في الدنيا إذاً كاتب .
وقيل لليوناني : ما البلاغة ؟ قال : تصحيح الأقسام ، واختيار الكلام .
وقيل للرومي : ما البلاغة ؟ قال : حسنُ الاقتضاب عند البَدَاهة ، والغزارة يومَ الإطالة .
وقيل للهندي : ما البلاغة ؟ قال : وضوح الدلالة ، وانتهاز الفرصة ، وحُسْن الإشارة .
وقيل للفارسي : ما البَلاَغة ؟ قال : مَعْرِفة الفَصْل من الوصل .
وقال علي بن عيسى الرُمّاني : البلاغةُ إيصال المعنى إلى القَلْبِ في أحسن صورة من اللفظ .
ومن كلام أهل العصر في صفة البلاغة والبلغاء
قال علي بن عيسى الرماني : أبلغ الكلام ما حَسُنَ إيجازه ، وقلَّ مَجازه ، وكثر إعجازه ، وتناسبَتْ صدوره وأعجازه .
أبلغ الكلام ما يُؤْنِس مُسْمِعَه ، ويُوئس مضيّعه .
البليغ من يجتني من الألفاظ أنوارَها ، ومن المعاني ثمارها .
ليست البلاغةُ أن يُطال عِنانُ القلم أو سِنَانه ، أو يُبْسِط رهان القول ومَيْدَانه ، بل هي أنْ يبلغ أمد المراد بألفاظ أعْيان ، ومعان أَفْراد ، من حيث لا تَزَيُّدٌ على الحاجة ، ولا إخْلاَل يُفْضِي إلى الفاقة .
البلاغة ميدان لا يُقْطَع إلا بسوابق الأذهان ، ولا يُسْلَك إلاَّ ببصائر البيان .
فلان يعبث بالكلام ، ويقوده بأَلين زمام ، حتى كأنَّ الألفاظ تتحاسدُ في التسابق إلى خواطره ، والمعاني تتغايَرُ في الانْثِيَال على أنامِله .
هذا كقول أبي تمام الطائي : البسيط :
تغَايَرَ الشعرُ فيه إذ سَهِرْتُ لَهُ . . . حتى ظننتُ قوافيهِ ستَقْتَتِلُفلان مشرفي المشرق ، وصَيْرَفيّ المنطق . البيان أصغر صفاته ، والبلاغة عفوُ خطراته . كأنما أوحى بالتوفيق إلى صَدْره ، وحسن الصواب بين طَبْعه وفكره .
فلان يحزّ مَفَاصِل الكلام ، ويسبق فيها إلى دَرك المرام ، كأَنما جمع الكلام حولَه حتى انتقى منه وانتخَب ، وتناول منه ما طَلَب ، وترك بعد ذلك أذْنابَاً لا رؤوساً ، وأَجْساداً لا نفوساً .
فلان يَرْضَى بعَفْو الطَّبْع ، ويقنع بما خفَّ على السمع ، ويُوجِز فلا يخِلُّ ، ويطُنِب فلا يُمِلّ ، لله فلان أخذ بأزمَّة القول يقودُها كيف أراد ، ويَجْذبُها أنَى شاء ؟ فلا تعصيه بين الصَّعب والذُّلُول ، ولا تسلمه عند الحُزونة والسّهول ، كلامه يشتدّ مرَّة حتى تقول الصخْر الأملس ، ويَلين تارةً حتى تقولَ الماء أو أَسْلَس ، يقول فيَصُول ، ويُجِيب فيصيب ، ويَكْتُب فيطبِّقُ المَفْصِل ، أو يُنَسِّقُ الدرَّ المفَصَّلَ ، ويَرِدُ مشارعَ الكلامِ وهي صَافِيَة لم تُطرَق ، وجامَة لم تُرَنَّق ، خاطِرُهُ البَرْقُ أو أسرَع لمعاً ، والسيْفُ أو أحَدُّ قَطْعاً ، والماء أو أَسلَس جَرياً ، والفلك أو أقْوَم هَدْياً ؛ هو ممن يسهلُ الكلام على لفظه ، وتتزاحَمُ المعاني على طَبْعِه ، فيتناول المَرْمَى البعيدَ بقريب سَعْيِه ، ويستَنْبِطُ المَشْرَع العميق بيسيرِ جَرْيِه ، لسانُه يَفلِق الصّخُور ، ويغيض البحور ، ويُسْمِع الصم ، ويستنزل العُصْمَ ، خَطيب لا تنالُه حُبْسة ، ولا ترتهنه لُكْنَة ، ولا تتمشّى في خطابه رنة ، ولا تتحيَّف بيانه عُجْمَة ، ولا تعترض لسانه عُقْدة . فلان رقيق الأَسَلَة ، عذب العذَبَة لو وُضِع لسانُه على الشَّعْر حَلَقه ، أَوْ على الصَّخْر فَلَقه ، أو على الجمر أحرقه ، أو على الصَفَا خرقه ، قد أحسن السّفارة ، واستوفى العبارة ، وأدى الألفاظ ، واستغرق الأغراض ، وأصاب شواكِلَ المراد ، وطبَّق مفَاصِلَ الشَداد ، وبسط لسانَ الخطابِ ، ومدَّ أطناب الإطناب ، وطلب الأمَدَ في الإسهاب ، قالَحتى قال الكلامُ : لو أُعفيت وكتَب حتى قالت الأقلامُ : قد أحفيت ، قد اتَسَع له مَشْرَعُ الإطناب ، وانفرج له مَسْلَك الإسهاب ، أرسل لسانَه في مَيْدانِهِ ، وأرخى له من عنانه ، قال وأطال ، وجَالَ في بَسْطِ الكلام كلَّ مَجال ، إذا اسْحَنْفَر في الكلام طَفَح آذِيه ، وسَال أتِيُّه ، وانثال عليه الكلام كانثِيَال الغمام ، واستجاب له الخِطاب كصَوْب الرَباب . ألفاظٌ كغمزات الألْحَاظ ، ومَعان كأنها فكُّ عَانٍ ألفاظ كما نوَّرت الأشجار ، ومَعَانٍ كما تنفَّست الأسْحَار ، ألفاظ قد استعارت حلاوةَ العِتابِ بين الأحباب ، واستلانَتْ كتشكَي العُشاق يوم الفراق . كلامٌ قريب شاسِع ومُطمع مانِع ، كالشمس تَقرب ضياءً ، وتبعد علاءً ، أو كالماء يَرْخُص موجوداً ، ويغلو مفقوداً . كلامٌ لا تمجه الآَذان ، ولا تُبليه الأزمان ، كالبُشْرَى مسموعة ، أو أزاهير الرياض مجموعه ، ومعان كأنْفَاس الرياح ، تَعْبَقُ بالرَيْحَان والراح .
كلام سَهْلُ متسلسل ، كالمدام بماء الغمام ، يقرب إذنه على الأفهام .
كلام كبَرْد الشَّراب على الأكبادِ الحِرَار ، وبُرْد الشباب في خلع العِذار .
كلام كثيرُ العيونِ ، سَلِسُ المتون ، رقَيقُ الحواشي ، سَهْل النواحي .
كلام هو السِّحْرُ الحلالُ ، والماء الزُّلال ، والبُرُود والحِبَر ، والأمثال والعِبَر ، والنعيم الحاضر ، والشباب النَّاضِرِ .
نظرت منه إلى صورةِ الطرف بَحْتاً ، وصورة البلاغة سَبْكاً ونحتاً ، ألفاظ هي خُدَع الدهر ، وعُقَد السحر .
كلام يسرّ المحزون ، ويُسَهِّل الْحُزون ، ويعطل الدرّ المخزون . كلامٌ بعيد من الكُلَف ، نقيّ من الكَلَف .
كلام كما تنفّس السَّحَر عن نسيمه ، وتبسّم الذُرُّ عن نظيمه ، ألفاظ تأنَّقَ الخاطر فيتَذْهِيبها ، ومعَانٍ عُنِي الفهمُ بتهذيبها . ألفاظ حسبتها من رِقتها منسوخة في صحيفة الصّبا ، وظننتها من سلاستها مكتوبةً في نَحْر الهوى .
كلام كالبُشْرى بالولد الكريم ، قُرعَ به سَمْعُ الشيخ العقيم .
كلام قرُب حتى أطْمع ، وبَعُد حتى امتنعَ ، وقرُب حتى صار قابَ قوْسَيْن أو أدنى ، ثم سما وعلا حتى صار بالمنزل الأعْلى . رقيق المزاج ، حُلْو السماع ، نقيُ الشَبْك ، مقبول اللَفْظ . قرأت لفظاً جلياً ، حَوى معنًى خفيّاً ، وكلاماً قريباً ، رَمَى غرضاً بعيداً . لو أنَّ كلاماً أُذِيبَ به صَخْر ، أو أُطْفئَ به جَمْر ، أو عُوفي به مريض ، أو جُبر به مَهِيض لكان كلامَه الذي يقودُ سامعيه إلى السجود ، ويجري في القلوب كجَرْي الماء في الْعُود . ألفاظه أنوار ، ومعانيه ثمار . كلامُه أنْسُ المقيم الحاضر ، وزادُ الراحل المسافر . كلامُه يُصغِي إليه المقبور ، وينتفض له العُصفور ، كلامٌ يقضي حق البيان ، ويملك رِقّ الْحُسْنِ والإحسان ، كلامٌ منه يجتني الدر ، وبه يُعْقَدُ السحْر ، وعنده يُعْتِب الدهر ، وله يَنْشَرِحُ الصدر .
ومن ألفاظهم في وصف النظم والنثر والشعر والشعراء
نثر كنثر الورد ، نَظْمٌ كنظمِ العِقد . نثر كالسحر أو أَدَقُّ ، ونظمٌ كالماء أو أرقُّ . رسالة كالرَوْضَة الأنيقة ، وقصيدة كالمخدرة الرشيقة . رسالة تَقْطُر ظَرْفاً ، وقصيدة تمزجُ بماء الرَاح لطفاً . نثره سِحْرُ البيان ، ونَظْمه قِطَعُ الْجُمان . نثرٌ كما تفتح الزهَر ، ونظم كما تنفَّس السَحَر . نثر ترقُّ نواحيه وحَوَاشِيه ، ونَظْمٌ تروقُ ألفاظه ومعانيه . نثر كالحديقة تفتَّحت أَحْدَاق ورْدِها ، ونظم كالْخَرِيدة تورَدَتْ أسرارُ خَدِّها . رسالة تَضْحَك عن غُرَر وزَهَر ، وقصيدة تنطوي على حِبَر ودرَر . لم تَرْضَ في بِرك ، بأخوات النّثرة من نثرك ، حتى وصلتها ببنات الشِّعرى من شِعْرك . كلام كما هَبَ نَسيمُ السحر ، على صفحات الزهر ، ولذَ طعمُ الكَرَى بعد برْحِ السَهر . وشِعْر في نفسه شاعر ، تُوسم به المواسم والمشاعر . كلام أنْسَى حلاوة الأولاد بحلاوته ، وطلاوَةَ الربيع بطلاوته ، وشِعْر من حلَّةِ الشباب مسروق ، ومن طِينة الوِصال مَخْلُوق . قصيدة ، في فنها فرِيدة ، هي عروس كُسْوَتُها القوافي ، وحِلْيَتُها المعاني . شِعرٌ يترقْرَقُ فيه ماء الطبع ، ويرتفع له حجابُ القَلْب والسمع . شعر لا مزية الإعجاز أَخْطَأَتْه ؛ ولا فضيلة الإيجاز تخطته شعرٌ رَوَيْتُه لما رأَيتْه ، وحَفِظْتُهلما لحظته . أبياتٌ لو جُعلت خلعاً على الزمان لتحَلَى بها مُكاثراً ، وتجلَى فيها مُفَاخراً . شِعْرٌ رَاقَني ، حتى شاقني ، فإنه مع قُرْبِ لفظه بعيدُ المرام ، مُمَرَّ النظام ، قويّ الأسْر ، صافي البَحْر . نظمٌ قد ألبِس من البداوة فَصَاحَتها ، وغُشًي من الحضارة سَجَاحتها فإن شئت قلت عَبِيد ولَبِيد ، وإن شئتَ حَبيب والوليد قصيدتُه رَوْضَة تجتنىَ بالأفكار ، ونَقْل يتَناوَلُ بالأسماع والأبصار ، ونَقْلُ العلم والأدب ، ألَذُ من نَقْل المأكْل والمشرب ، وفاكهةُ الكلام ، أطيبُ من فاكهة الطعام . نظم كنظم الْجُمَان ، ورَوْض كالجنَان ، وأمنِ الفؤاد ، وطيبِ الرُقاد . قصيدةٌ لم أَرَ غيرها بكْراً ، استوفَتْ أقسامَ الْحُنكة ، واستَكْملَتْ أحْكامَ الدُّرْبَة ؛ فعليها روْنَق الشباب ، ولها قُوَةُ المُذْكيَات الصلاب ، روح الشعرِ ، وتاجُ الدهر ، ومقدمة عساكر السحر . كل بيت شعر خيرٌ من بيت تِبْر . شعر يُحكم له بالإعجاز والتَّبْريز ، ويشبه في صفاء سَبْكه بالذّهب الإبريز . شعر تَأتِلفُ القلوب على دُرَرِه ائتلافاً ، وتصير الآذان له أصدافاً . للّه دره ما أحْلى شعره وأنقى دُرَه ، وأعْلى قدره ، وأعجب أمْره قد أخذ برِقاب القوافي ، ومَلك رِقّ المعاني ، فَضْله بُرْهان حق ، وشعره لِسَان صدق . فلان يُغرب بما يَجْلِب ، ويُبْدِعُ فيما يصنع ، حَسَنُ السبك ، مُحْكم الرَصْف ، بديع الوَصْفِ ، مرغوب في شِعْرِه ، مُتَنافس في سحره . هو ضارِب في قِدَاح الشعر بأَعْلى السهام ، آخِذٌ في عيون الفضل بأَوْفى الأقسام ، شِعَاره أشعارُه ، ودأبه آدابه ، هو ممن يَبْتَدِهُ فيبتدع ، طبعه يُمْلي عليه ، ما لا يُمَل الاستماع إليه . قَرِيحة غير قَرِيحة ، وطَبْعٌ غير طَبع ، وخِيم غيرُوخيم ، لبيد عنده بَليد ، وعَبِيد لديه من العَبيد ، والفرزدقُ عنده أقل من فرزدقة خَمير ، وجريرُ يُقَاد إليه بجَرير ، قد نسجَ حُلَلاً لا يُبْلي جدَّتها الجديدان ، ولا تزداد إلا حُسْناَّ عَلى تردُدِ الأزْمَان . نَظْمُه قد نظم حاشيتي البَرِّ والبَحْر ، وأَدركَ ناحيتي الشرْقِ والغرب . أشعار قد وردَتِ المياه ، وركِبت الأفواه ، وسارت في البلاد ، ولم تَسِرْ بِزَاد ، وطارَتْ في الآفاق ، ولم تَمْشِ على ساق . شعرُه أسيَر من الأمثال ، وأسْرَى من الخيال ، سار مسيرَ الرياح ، وطار بغير جَناح . أشعارُه سارت مَسِيرَ الشمس ، وهبًتْ هبوب الريح ، وطبقت تخُومَ الأرض ، وانتظمت الشرق إلى الغرب . قد كادت الأيامُ تنشدها ، والليالي تَحْفَظُها ، والجنّ تدرسها ، والطير تتغنَّى بها . أبيات أسْفَر عنها طَبع المَجْدِ ، فعلمت كيف يتكسّر الزَّهر على صفحات الحدائق ، وكيف يغرس الدرّ في رياض المَهَارق . شِعْر قد أَحْسَن خِدْمَته بكمالِ فِكْره ، ووقف كيف شاء عند عَالي أَمْره . شعرٌ يُعَلَق في كَعْبَةِ المجد ، ويتوّج به مَفْرِقُ الدهر . جاءت القصيدة ومعها عِزّةُ المُلك ، وعليها رواءُ الصدق ، وفيها سِيماء العلم ، وعندها لِسَانُ المجد ، ولها صِيَال الحقِّ ، لا غروَ إذا فاضَ بَحْرُ العلم على لسانِ الشَعْرِ أن ينتج ما لا عين وقعَت على مثله ولا أذن سَمِعَتْ بشبهه . شعر يكتب في غُرّة الدهر ، ويشرح في جَبْهَة الشمس والبدر . عَت على مثله ولا أذن سَمِعَتْ بشبهه . شعر يكتب في غُرّة الدهر ، ويشرح في جَبْهَة الشمس والبدر .
وهذه جملة من فصول أهل العصر تليق بهذا الموضع
كتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي محمد خلاد الرامهرمزي القاضي .
وصل كتابُك الذي وصلت جَناحَه بفنونِ صلاتك وتفقُدك ، وضروبِ برك وتعهُّدك ؛ فارتَحْتُ لكلِّ ما أوْلَيْت ، وابتهَجْتُ بجميع ما أهْدَيت ، وأضَفْت إحسانَك في كل فصل إلى نظائره التي وكلت بها ذِكري ، ووقفت عليها شُكْري ، وتأمَلْتُ النظم فملكني العُجْب به ، وبَهَرَنِي التعجُّبِ منه ، وقد رُمْتُ أن أجْري على العادة في تشبيهه بمستَحْسنِ من زهر جَني ، وحُلَل وحُلي ، وشذور الفرائد ، في نحُور الخرائد : الخفيف :
والعذارى غَدَوْنَ في الحلل البي . . . ض وقد رُحنَ في الخطوط السُودِ
فلم أره لشيء عَدْلاَ ، ولا أرْضى ما عددتُهُ له مثلاً ؛ واللّه يزيدك من فضله ، ولا يُخْليكَ من إحسانه ، ويلهمك مِنْ بر إخوانِكِ ما تتمم به صنيعَك لديهم ، ويُرَب معه إحسانك إليهم .وكتب أبو القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب إلى أبي سعيد الشبيبي : قد رأى شيخُ الدولتين كيف الْكَلَفُ بسادتي من أهل ميكال - أيدهم الله - بين ود أُضْمِره على البُعْد ، وإيثار أُظهره على تراخي المزار ، وتقريظٍ يمليه عليَ المَلَوان ، ومَدْحٍ أنْطِقُ فيه بلسان الزَّمَان ، حتى إن ذِكْرهم إذا جَرَى على لساني اهتزتْ له نَفْسي ، وفَضلَهم إذا جرى على سَمْعِي انفرج له صَدْرِي ، فتلك عصبةُ خير فَضْلُها باهِر ، وشرفُها على شرف النماء زاهِر ، وشجرةٌ طيبة أصلُها ثابت وفَرْعُها في السماء ناظر ، والله يتمَمُ أعدادها ، ولا يعدمني وِدَادها ، وإذا كان إكباري لهم هذا الإكبار فكلّ منتسب إلى جنبهم أثِيرٌ لديَّ ، كثير في يديَّ . وطرأ عليَ فلان منتسباً إلى جملتهم ، وحبذا الجملة ، ومُعتزِياً إلى خدمتهم ، ونِعْمَت الخدمة ، ففررناه عن طَبْعٍ سَمْح ، ولَفْظٍ عَذْب ، وصلةِ نثرٍ بنظم ؛ فإن شاء قال : أنا الوليد ، وإن شاء قال : أنا عبد الحميد ؛ ولم أعظِم بمن خرَجته تلك النعمة ونتجته تلك السدَة أن يأخذَ من كلِّ حسنة بعُرْوة ، ويقدح في كل نارٍ بجَدْوَة ؛ وآنسَنا بالمقام مُدة ، أكدتها شوافِع عِدَّة ، إلى أن تذكَّر مَعاهدَ رَأى فيها الدَهْرَ طَلْقاً ، والزمان غُلاماً ، والفضلَ رهناً ، والإفضال لِزاماً ؛ فحنَّ حنينَ الرِّكاب ، ورَكبَ عَزِيم الإياب .
فصل من كتاب كتبه الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي إلى أبي القاسم الداوودي جواباً عن كتاب له ورد عليه ، وأبو الفضل رئيس نيسابور وأعمالها في وقتنا هذا ، وسيمرُّ من كلامه ونثره ونظامه ما يغني عن التنويه ، ويَكْفِي عن التنبيه ، ويجل عن التشبيه ، ويكون كما قال أبو الحسن الأخفش علي بن سليمان : استهدى إبراهيم بن المدبر أبا العباس محمد بن يزيد جليساً يَجْمَعُ إلى تأديب ولده الإمتاعَ بإيناسه ؛ فندَبني لذلك ، وكتب إليه معي : قد أنفذت إليك - أعزَك الله - فلاناً ، وجملة أمره أنه كما قال الشاعر : الوافر :
إذا زُرت الملوك فإن حسبي . . . شفيعاً عندهمْ أن يَخْبُرونيوفصل أبي الفضل : وقفتُ على ما أتحفني به الشيخ : من نَظمِه الرائق البديع ، وخَاله المُزْري بزهر الربيع ، مُوشَّحاً بغُرَرِ ألفاظه ، التي لو أعِيرت حِلْيَتُها لعطَّلَت قلائد النحور ، وأبكارِ معانيه التي لو قُسمت حَلاَوتها لأعْذَبَتْ مَوَارِدَ البحور ، فسرَحْتُ طَرْفي منها في رياضٍ جادتْها سحائبُ العلوم والْحِكم ، وهبَّ عليها نسيمُ الفضل والكرَم ، وابتسمَتْ عنها ثغورُ المعالي والهِمَم ، ولم أدرِ - وقد حيرَتْني أصنافُها ، وبهرتني ثغورُها وأوصافها ، حتى كستْني اهتزازاً وإعجاباً ، وأنشأت بيني وبين التماسك سِتْراً وحجاباً ، ولم أدْرِ أدهَتْني لها نَشْوَة راح ، أم ازْدهَتْني نغمةُ ارتياح ، وانتظم عندي منها عِقد ثَناء وقَريض ، أم قَرَع سَمْعِي منها غناء مَعْبَدٍ وغَريض ، وكيفما كان فقد حَوَى رتبة الإعجاز والإبداع ، وأصبح نزهة القلوب والأسماع ، فما من جَارِحةٍ إلا وهي تودُ لو كانت أذناً فتلتَقط دررَه وجواهره ، أو عيناً تَجْتَلي مطالَعه ومناظره ، أو لساناً يَدْرُس محاسنَه ومفاخره . وله فصل من كتاب إلى أبي منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبي : وصل كتابُ مولاي وسيدي ، أبْدَع الكتب هَوَاديَ وأعجازا ، وأبرعها بلاغةً وإعجازاً ، فحسِبْت ألفاظَه دَرَ السحاب ، أو أصفى قطراً ودِيمة ، ومعانيه دُرّ السخاب ، بل أوفى قدْراً وقيمة . وتأمّلتُ الأبياتَ فوجدتها فائقةَ النظْمِ والرَّصْفِ ، عَبِقَة النسيم والعَرف ، فائزة بقدَاح الْحسْن والطرْف ، مالكةً لِزمام القَلْبِ والطرْف ؛ ولا غَرْوَ أن يصدر مثلُها عن ذلك الخاطر ، وهو هَدَف الفقَر والنوادر ، وصَدَف الدرر والجواهر ، واللّه يُمَتعُه بما منحه من هذه الغُرَر والأوضاح ، كما أطلق فيه ألسنة الثناء والامتداح .
وأبو منصور هذا يعيش إلى وقتنا هذا على طريق التخمين لا على حقيقة اليقين وهو فريدُ دهره ، وقريع عصره ، ونسيجُ وَحْدِه ، وله مصنفات في العلم والأدب ، تشهدُ لهبأعلى الرتب ، وقد فرَّقْت ما اخترته منها في هذا الكتاب ، مع ما تعلق بشاكلته من الخطاب ؛ منها كتاب سماه سحر البلاغة قال في صدر هذا الكتاب : ' أخرجتُ بعضه من غُرَر نجوم الأرض ، ونكَت أعيان الفضل ، من بُلَغاء العصر ، في النثر ، وحللت بعضه من نظم أمراء الشعر ، الذين أوردت مُلَح أشعارهم في كتابي المترجم بيتيمة الدهر ، فلفقْت جميع ذلك وحرّرته ، وسقته ونسَقته ، وأنفقت عليه ما رُزِقته ، وعملته بكد الناظر ، وجهد الخاطر ، وتَعَبِ اليمين ، وعرق الجبين ، وتعمَدْتُ فيه لَذةَ الجِدة ، ورَوْنق الحداثة ، وحلاوة الطَراوة ، ولم أَشُبْهُ بشيء من كلام غير أهل العصر ، إلاَّ في قلائل وقلائد من ألفاظِ الجاحظ وابن المعتز ، تخلّلَت أثناءَه ، وتوشحت تضاعيفه ، ولم أُخْل كلماتِه - التي هي وسائط الآداب ، وصياقل الألباب ، وما تستَمْتِعُه أنْفسُ الأدباء ، وتلذّ أعين الكتاب - من لفظ صحيح ، أو معنًى صريح ، أو تجنيس أنيس ، أو تشبيه بلا شَبيةٍ ، أو تمثيل بلا مَثيل ولا عَديل ، أو استعارة مُختارة ، أو طِباق ، في رَوْنق باق ؛ فمن رَافَقَ هذا الكتاب قَرُبَ تناوُلُه من الكتاب ، إذا وشَّوا ديباجةَ كلامهم بما يقتبسونه من نُوره ، وسماحة قيادِه لأفراد الشعراء إذا رصَعوا عقودَ نظامِهم بما يلتقطونه من شذُوره ، فأمَا المخاطبات والمحاورات ، فإنها تتبرَج بغرَّة من غُرره ، وتتوَج بدرة من درَرِه .
وقد ذكر جملة مَنْ أخرج معظم كتابه من نثرهم ونظمهم ، وهم : الصابيان ، والخالِديان ، وبديع الزمان ، وأبو نصر بن المَرْزُبَان وعلي بن عبد العزيز القاضي ،وأبو محمد القاضي ، وأبو القاسم الزعفراني ، وأبو فراس الحمداني ، وابن أبي العلاء الأصبهاني ، وأبو الطيب المتنبي ، وأبو الفتح البُستْي ، وأبو الفضل الميكالي ، وشمس المعالي ، والصاحب بن عباد ، وجماعة يكثر بهم التعداد ، قد ذكرهم في كتابه ، فكل ما مرَّ أو يمر من ذكر ألفاظ أهل العصر فمن كتابه نَقَلْتُ ، وعليه عَوَّلت .
وفي أبي منصور يقول أبو الفتح علي بن محمد البُستي : البسيط :
قلبي رهينٌ بنيسابورَ عند أخ . . . ما مثلُهُ حين تُسْتَقرَى البلاد أخ
له صحائف أخْلاَق مهذّبةٍ . . . من الحِجَا والعُلا والطرْفِ تُنتسَخُ
وأما الذين ذكر أسماءهم في كتابه فسأُظهر من سرائر شعرِهم الرصين ، وأجلو من جواهر نثرهم الثمين ، ما أخذ من البلاغة باليمين .
فصل لأبي الفضل : وصل كتابُ الشيخ المبشر من خبر سلامته التي هي غُرَّة الزمان البهيم ، وعذر الدهر المليم ، بما أشرقت له آفاقُ الفَضْلِ والكرم ، وتمَت به نفائِسُ الآلاء والنعم ، فسرَحْتُ طَرْفي من محاسن ألفاظه ، في أنْوار تَرُوق أزاهِرُها ، وقلائِدَ تروعُ دُرَرُها وجواهرها ، ومَبَار يسترق الرِّقابَ باطنها وظاهرها .
وله إلى أبي سعيد بن خلف الهمداني : وصل كتابُك متحملاً من أخبار سلامتك ، وآثارِ نعمِ اللّه بساحتك ، ما أدى روحَ البَرِّ ونسيمه ، وجمع فنونَ الفضل وتقاسيمه ، ومجدَداً عندي من عمر مواصلته ، ومعسول كلامه ومحاوَرته ، ما ترك غُصنَ المِقَة غضاً تروق أوْراقه ، ووَجْهَ الثقة طَلْقاً يتهلّلُ إشراقه ، فكم جنيت عنه من ثمر مَسَرّة كانت عوائقُ الأيام تُحاذِنِيهِ ، وحويت به من عِلْق مَضنَّة قلما يجود الدهر بمثله لبنيه .
وله فصل إلى بعض الحكام بجُوَيْن : وصل كتابُ الحاكم وقد وشَّحه بمحاسن فِقَره ، ونتائج فِكَره ، من لفظ شهيً أعطتهالقلوبُ فَضلَ المقادة ، ومعنى سنيٍّ جاده صَوْبُ الإصابة والإجادة ، وبِرٍّ هنيٍّ اتَّفَقَتْ على الاعتراف بفضله ألسنةُ الثناء والشهادة ، فسرَّحْتُ طَرْفي فيما حواه من بدائع وطُرَف ، قد جمعت في الحسن والإحسان بين واسطة وطَرَف ، حتى لم تبقَ في البلاغة يتيمة إلاَّ جبرتها وتمِّمتها .
وله إلى الأمير السيد أبيه يهنئه بالقدوم .
كتبت وأنا بمنزلة من ارتدَّ إليه شبابُه بعد المشيب ، وارتدى بردَاء مِنَ العمر قَشِيب ، والحمد للّه رب العالمين ، وصل كتابُ مولاي مبشِّراً من خبر عَوْده إلى مقرَ عزّه وشَرَفه ، محروساً في حفظ اللّه وكَنَفه ، بما لم تزل الآمال تتنسَّم روائحه ، وتترقّب غاديَ صُنْع اللّه فيه ورائحَه ، واثقةً بأنّ عادةَ اللّه الكريمة عنده تُسَايره وتُرافقه ، وتلزم جنابه فلا تُفارِقه ، حتى تْخرجَه من غَمْرة الغَماء خروجَ السيف من الغِمْدِ ، والبدر بعد السِّرَار إلى الانجلاء ، فعددْتُ يوم وُرودِهِ عيداً ، أعاد عهد السُّرور جَدِيداً ، وردَ طَرْفَ الحسود كليلاً وقد كان حَدِيداً ، ولم أُشَبِّهْهُ في إهداء الرَّوح والشفاء ، وتلافي الرُّوح بعد أن أشْفَى على المكروه كل الإشفاء إلا بقميص يوسف حين تلقّاه يعقوبُ عليه السلام من البشير ، وألقاه على وجهه فنظر بعَيْنِ البصير ، فكم أوسعتُه لثماً واستلاماً ، والتقطت منه بَرْداً وسلاماً ، حتى لم تبق غُلَّة في الصدر إلاَّ بَرَدْتُهَا ، ولا غُمّة في النفس إلاَ طَرَدْتها ، ولا شريعة من الأنس إلاَّ وردْتها .
وله فصل من رسالة : وكان فرطُ التعجب مَرَّة وعِظَمُ الإعجاب تارة يقفُ بي عند أول فصل من فصوله ، ويثبّطني عن استيفاء غُرَره وحُجُوله ، ويُوهمني أنَّ المحاسنَ ما حَوَتْه قلائدُه ، ونَظمته فرائدُه ؛ فليس في قوس إحسان وراءها مِنْزَع ، ولا لاقتراح جَنَان فوقها مُتطلَع ، حتى إذا جاوزته إلى لففه وتَزْيِينه ، وأجَلْتُ فكري في نكتِه وعُيونه ، رأيتُ ما يُحَيِّر الطَّرْف ، ويُعْجِز الوَصْفَ ، ويَعْلُو على الأول مَحَلاً ومكاناً ، ويفوقه حسناً وإحساناً ، فرتَعْتُ كيف شئتُ في رياضِه وحدَائِقه ، واقتبست نُورَ الحِكَم من مطالعه ومَشارقه ، وسلّمت لمعانيه وألفاظهفضيلةَ السَبق والبَرَاعةِ ، وتلقيتها بواجبها من النَشرِ والإذاعة ؛ فإنها جمعت إلى حسْنِ الإيجاز درجةَ الإعجاز ، وإلى فضيلة الإبداع جلالةَ الموقع في القلوب والأسماع .
وله من فصل : وصل كتاب الشيخ فَنَشَر عندي من حُلل إفضاله وإكرامه ، ومحاسن خطابه وكلامه ، ما لم أشبّهه إلا بأنْوَار النُّجُود ، وحِبَر البرود ، وقلائد العُقُود .
وذكر أبو منصور الثعالبي الأمير أبا الفضل في كتاب ألفهُ ، فقال في بعض فصوله : مَنْ أراد أن يسمعَ سِرَّ النظم ، وسِحْرَ الشعر ، ورُقْيَةَ الدهر ، ويرى صَوْب العَقْل ، وذَوْب الظرْف ، ونتيجة الفَضل ؛ فليستنشد ما أسفْر عنه طبعُ مَجْده ، وأثْمَرَه عالي فكره ، من مُلَحِ تمتزجُ بالنفوس لنفاستها ، وتشرَب بالقلوب لسلاستها : المتقارب :
قوافِ إذا ما رَوَاها المشو . . . ق هزَت لَها الغانيات القُدُودا
كَسَوْنَ عَبِيداً ثياب العَبِيد . . . وأضحى لَبيد لديها بَلِيدا
وأيْمُ الله ما مرَّ يوم أسعفني فيه الزمانُ بمواجهة وَجْهه ، وأسْعَدَني بالاقتباس من نُوره والاغتراف من بَحْرِه ، فشاهدت ثِمارَ المجدِ والسؤود تنَتثِرُ من شمائله ، ورأيت فضائلَ الدهرِ عيالاً على فضائله ، وقرأتُ نسخة الفَضْلِ والكرم من ألْحَاظِه ، وانتهَبْتُ فضائل الفوائد من ألفاظه ، إلاَ تذكرت ما أنشدنيه ، أدام الله تأييده لابن الرُومي : البسيط :
لولا عجائب صُنْعِ اللّه ما ثبتت . . . تلك الفضائلُ في لَحمِ ولا عَصَبِ
وقول الطائي : الوافر :
فلو صورْتَ نفسَك لم تَزِدْها . . . على ما فيكَ من كَرَمِ الطِّبَاعِ
وقول كُشاجم : الكامل :
ما كان أحوج ذا الكمال إلى . . . عَيْبٍ يُوَفيه مِنَ العَيْنِ
وربعت بقول أبي الطيب : الوافر :
فإن تَفُقِ الأنامَ وأَنْتَ مِنهُم . . . فإن المسكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِثم استعرت فيه بيانَ أبي إسحاق الصابي حيث يقول للصاحب وَرثَهُ الله أعمارها ، كما بلغه في البلاغة أنوارها : السريع :
الله حسبي فيك من كلِّ ما . . . تعوَد العبدُ على المولى
فلا تَزَل ترْفُلُ في نعمةٍ . . . أَنْتَ بها من غَيْرِك الأَوْلَى
وقال في فصل منه : وما أنس لا أنسَ أيامي عنده بفيروزاباد ، إحدى قُرَاه برستاق جُوين ، سقاها اللّه ما يحكي أخلاقَ صاحبها من سَيْل القَطْرِ ، فإنها كانت - بطَلْعَتِه البَدْرِية ، وعِشْرَته العِطْرِية ، وآدابه العلوية ، وألفاظِه اللؤلؤية ، مع جلائل نِعَمِهِ المذكورة ، ودقائق كرمه المشكورة ، وفوائد مجالسه المعمورة ، ومحاسِن أقواله وأفعاله التي يَعْيا بها الواصفون - أنموذجات من الجنّة ، التي وُعِد المتقون ، وإذا تذكرتها في المَرابع التي هي مَرَاتِع النوَاظر ، والمصانع التي هي مطالع العيش الناضر ، والبساتين التي إذا أخذَتْ بدائعَ زخارفها ، ونشرت طرائفَ مطارفها ، طُوِي لها الديباج الْخُسْرُوَاني ، ونُفي معها الوَشْي الصّنعاني ، فلم تُشَبه إلاَّ بشِيَمِهِ ، وآَثار قَلمه ، وأزهارِ كلمه ، تذكرت سِحراً وسيماً ، وخيراً عميماً ، وارتياحاً مُقيماً ، وروحاً ورَيْحاناً ونعيماً .
وكثيراً ما أحْكِي للإخوان أني استغرقتُ أربعة أشهر بحضرته ، وتوفّرت على خِدْمَته ، ولازَمْتُ في أكثر أوقاتي عَالي مَجْلسه ، وتعطَّرت عند ركوبه بغُبار مَوْكِبه ؛ فبالله يميناً كنتُ غنياً عنها لو خفت حِنْثاً فيها إني ما أنكَرت طَرَفاً من أخلاقه ؛ ولم أشاهد إلاَ مَجْداً وشرفاً منْ أحواله . وما رأيتُه اغْتَابَ غائباً ، أو سبَّ حاضِراً ، أو حَرَم سائلاً ، أو خيَّب آملاً ، أو أطاع سلطانَ الغَضَبِ في الحضَر ، أو تَسلَى بنار الضَّجَر في السَّفَر ، أو بطش بَطْشَ المُتجبِّر ؛ ولا وجدت المآثرَ إلاَّ ما يتعاطاه ، والمآثمَ إلاَّ ما يتخطَاه .
وقال في فصل منه يصفه : وأما فنونُ الأدب فهو ابن بَجْدتها ، وأخو جملتها ، وأبو عُذْرتها ، ومالِك أزِمَتها ، وكأنما يُوحَى إليه في الاستئثار بمحاسنها ، والتفرُد ببدائعها ، ولله هو إذا غرس الدُرَّ في أرض القراطيس ، وطَرّزَ بالظلام رِدَاء النهار ، وألقت بِحَارُ خواطره جواهِرَ البلاغة على أنامله ، فهناك الْحُسْنُ برُمَّته ، والْحُسْن بكلَيته .وذكر عمر بن علي المُطَوَعي في كتاب ألّفه في شعر أبي الفضل ومنثوره والشعراء ، فقال : رأيتُ أهل هذه الصناعة قد تشعّبوا على طُرُق ، وانقسموا على ثلاث فرق ، فمنهم من اكتسى كلامه شرف الاكتساب دون شرف الانْتِساب كالمكتسبين من الشعراء بالمدائح ، المترشحين بها لأخْذِ الجوائز والمنائح ، وهم الأكثرون من أهل هذه الصناعة ؛ ومنهم من شَرُفت بناتُ فكره عند أهل العقول ، وجلبت لديهم فضائل القَبُول ، لِشَرَف قائلها ، لا لِكَثرة عقائلها ، وكرم واشيها ، لا لرِقَة حواشيها ، كالعدد الكثير ، والجمّ الغفير ، من الخلفاء والأمراء والجِلّة والوزراء ؛ ومنهم من أخذ بحبل الْجَوْدة من طَرَفَيْه ، وجمع رداءَ الْحُسْنِ من حاشِيَتَيه ، كامرئ القيس ابن حُجْر الكندي في المتقدّمين ، وهو أميرُ الشعراء غير مُنازع ، وسيّدهم غير مجاذَب ولا مدافع ، وعبد الله بن المعتز بالله أمير المؤمنين في المولدين ، وهو أشعر أبناء الخلافة الهاشمية ، وأبرع أنشاء الدولة العباسية ، ومَنْ جلَّ كلامه في التشبيه ، عن أن يُمثَّل بنظير أو شبيه ، وعَلَت أشعاره في الأوصاف ، عن أن تتعاطاه ألسنةُ الوُصَّاف ؛ والأمير أبي فراس بن حَمْدان فارس البلاغة ، ورجل الفصاحة ، ومن حكمت له شعراءُ العصر قاطبةً بالسيادة ، واعترفت لكلامه بالإحسان والإجادة ، حتى قال أبو القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب : بُدِئ الشعرُ بملك وخُتِم بملك ، يعني أمرأ القيس وأبا فراس ؛ وهذه الطائفة أشهر الثلاثة تقدّماً ، وأثبتها في مواطن الفَخْرِ ومواطئ الشرف قَدَما ، وأسبق الشعراء في مَيْدان البلاغة ، وأرجَحهُم في ميدان البَرَاعة ؛ فإنَّ الكلامَ الصادرَ عن الأعيان والصدور ، أقرُ للعيون وأشفى للصدور ، فشرف القلائد بمن قُلدها ، كما أن شرف العقائل بمن وَلَدَها : الوافر :
وخَيْرُ الشِّعْرِ أكْرَمُه رِجَالاً . . . وشَرُّ الشّعْرِ ما قالَ العَبِيدُ وإذا اتفق مَن اجتمعت فيه هذه الشرائط ، وانتظمت عنده هاتيك المحاسن ، كان خليقاً بأن تُخلَّد في صحائف القلوبِ أشعارُه ، وتُدوَن في ضمائر النفوس آثارُه ، وتكتَب على الأحداق والعيون أخبارُه ، وجديراً بأن يختصنَ بسرعة المجال في المجالس ، وخِفة المدار في المدارس ، كالأمير الجليل السيد مولانا : الطويل :
أبى الفضل مَنْ نال السماءَ بفضلِهِ . . . ومن وَعَدَتْهُ نفسُهُ بمزيدِ
تودُ عقودُ الدرّ لو كانَ لفظَهُ . . . فينظمها من تَوْأَم وفريدِوهذه مقطعات لأهل العصر في وصف البلاغة
قال أبو الفتح البُسْتي : الطويل :
مدحْتُك فالتامتْ قَلائد لم يَفُزْ . . . بأمثالها الصِّيدُ الكِرَامُ الأعاظمُ
لأنك بَحْرٌ والمعاني لآلِئُ . . . وفكرِيَ غَوَّاصٌ وشعْرِي ناظم
وقال أيضاً : البسيط :
ما إن سمعتُ بنُوَّارٍ له ثمرٌ . . . في الوقت يُمْتِعُ سَمْعَ المرء والبَصَرا
حتى أتاني كتابٌ منك مبتسِمٌ . . . عن كل لفظٍ ومعنى يشبه الدُرَرَا
فكان لَفْظك في لأْلاَئه زَهَراً . . . وكان معناه في أثنائه ثمرا
تسابقَا فأصابَا القَصْدَ في طَلَقٍ . . . للَّهِ من ثمرٍ قد سابقَ الزَهَرَا
وقال أيضاً : البسيط :
لَمَا أتاني كتاب منك مبتسمٌ . . . عن كلّ بِر ولفظ غَيْرِ محدودِ
حكَتْ معانيه في أثناء أسْطُرِهِ . . . آثارَكَ البيضَ في أحواليَ السُّود
كأنه ألم بقول الطائي : الطويل :
يرى أقبحَ الأشياء أوْبَةَ آمل . . . كَسَتْها يَدُ المأمولِ حُلّةَ خَائِبِ
وأحسنَ من نَوْر تُفتّحُه الصّبا . . . بياضُ العطايا في سَوَادِ المَطَالِبِ
وقال أبو الفتح البستي في أبي نصر أحمد بن علي الميكالي : الخفيف :
جمع اللَه في الأمير أبي نص . . . ر خِصالاً تَعْلو بها الأقدارُ
راحةً برةً وصَدْراً فَضاءً . . . وذكاءً تبدو له الأسرارُ
خَطُهُ روضةٌ وألفاظُه الأز . . . هار يَضْحَكن ، والمعاني ثِمارُوقال عمر بن علي المطوعي يَمْدَح أبا الفضل الميكالي من قصيدة : الكامل :
وإلى الأمير ابن الأمير المعتلي . . . بكمال سُؤددهِ على الأمراء
وطِئتْ بيَ الوَجْناءُ وَجْنَةَ مَهْمَهِ . . . متقاذفِ الأكْنَافِ والأرْجاءِ
كيما ألاحظَ منه في أفق العُلاَ . . . فَلَكاً يُدِير كواكِبَ العَلْيَاء
كالْبَدْرِ غير دَوَامِه متَكامِلاً . . . كالْبَحْرِ غير عذوبةٍ وصفاء
بالفضل يُكْنى وهو فيه كامن . . . كالرّيَ يَكْمُن في زُلال الماءِ
يا من إذا خَطَ الكتابَ يمينه . . . أهْدَى إلينا الوشْيَ من صَنْعاء
لم تجر كفُك في البياض مُوقعاً . . . إلا تحلتْ عن يَد بيضاءِ
قَرْم يداه وقَلْبُه ما منهما . . . في النظْم والإعطاء إلاَّ الطائي
وقال فيه أيضاً : الطويل :
كلامُ الأمير النَّدْبِ في ثنْي نَظْمهِ . . . يَنُوبُ عن الماء الزلال لمن يَظْما
فنرْوى متى نَرْوي بدائعَ نَظْمه . . . ونَظْمَا إذا لم نرْو يوماً له نَظْما
وكتب إليه أيضاً : الطويل :
أقول وقد جادت جُفوني بأدْمُعٍ . . . كأني قد استَمْليْتُهُن من السُحْبِ
وقد علِقتْ بي للنزاع نَوَازعُ . . . كتْبنَ معاناةَ العناء على قلبي
إلى سيّدٍ أوفى على الشمسِ قدرُهُ . . . وزادت معاليه ضياء على الشهب
أبي الفضل مَنْ راحت فواضلُ كفّه . . . وراحتِهِ تُربي على عَدَدِ التربِ
سقى اللَهُ أرضاً حلّ فيها سحائباً . . . كنائله الفياض أو لفظِهِ العذْب
سحائبَ يَحْدُوها نسيم كخُلْقهِ . . . ويقدمها بَرْق كصارمه العَضْبِ
ولا زال أفْلاَك السعود مُطِيفةً . . . بحضرته تنتابها وهو كالقُطْبِ
وقال أبو منصور الثعالبي للأمير أبي الفضل : الكامل : لك في الفضائل معجزات جَمة . . . أبداً لغيرك في الوَرى لم تُجْمَعبحرانِ بحرٌ في البلاغة شابَهُ . . . شِعْرُ الوليد وحُسْن لفظِ الأصمعي
كالنَورِ أو كالسِّحر أو كالدُّر أو . . . كالوَشْي في بُرْدٍ عليه مُوشَع
شكراً فكم من فَقْرَةِ لك كالغِنَى . . . وافى الكريمَ بُعَيْدَ فَقْرٍ مُدْقِع
وإذا تفتق نَوْرُ شِعْرِك ناضراً . . . فالحسنُ بين مُرَصَّع ومُصَرَعِ
أرْجَلْتَ فُرسان الكلام ورُضْت أف . . . راسَ البديع وأنت أمْجَدُ مُبدِع
ونقشت في فصّ الزمان بدائعاً . . . تُزْرِي بآثارِ الربيع المُمْرعِ
وقال في وصف فرس أهداه إليه ممدوحه : الكامل :
يا مُهْدِي الطّرْف الجوادِ كأنما . . . قد أنعلوه بالرياح الأربعِ
لا شيء أسرعُ منه إلا خاطري . . . في شكر نائلك اللطيف المَوْقَع
ولو أنَّني أنصفْتُ في إكرامِهِ . . . لجلال مُهْدِيه الكريم الأروَعِ
أنظمته حَب القلوب لِحُبه . . . وجعلت مربطه سَوادَ المَدْمَعِ
وخلعت ثم قطعت غير مضيق . . . بُرْد الشباب لجله والبُرْقع
وكتب إليه في جواب كتاب ورد عليه : الخفيف :
أنسيمُ الرياض حَوْلَ الغدير . . . مازَجَتْه رَيا الحبيب الأثيرِ
أم وُرُود البشير بالنجْح من ف . . . ك أسيرٍ أو يُسْر أمرٍ عسيرِ
في مُلاء من الشباب جديدٍ . . . تحت أيْكٍ من التصابي نضير
أم كتاب الأمير سيدنا الفَرْ . . . دِ ؛ فيا حبّذا كتابُ الأميرِ
وثمار الصدور ما أجتنيه . . . من سُطورٍ فيها شفاءُ الصدورِ
نمقَتْها أنامل تَفْتقُ الأن . . . وارَ والزهر في رياض السطورِ
كالمُنى قد جُمِعْنَ في النعم الغَ . . . رَ مع الأمن من صروفِ الدهور
يا أبا الفضل وابنَهُ وأخاهُ . . . جل باريكَ من لطيفٍ خبيرشِيَمٌ يَرتَضعْنَ دَرَّ المعالي . . . ويُعبّرْن عن نسيم العبير
وسجايا كأنهنّ لدى النش . . . رِ رُضابُ الحَيا بأَرْيٍ مَشورِ
ومحيا لدى الملوك محيّا . . . صادق البشر مُخْجل للبدورِ
فأجابه أبو الفضل بأبياتٍ يقول فيها في صفة أبياته : الخفيف :
وهَدِيٍّ زُفَّتْ إلى السَّمْعِ بِكْرٍ . . . تتهادى في حِليَةٍ وشُذُورِ
عجب الناس أنْ بدَتْ مِنْ سَوَادٍ . . . في بياضٍ كالمِسْكِ في الكافورِ
نُظِمت في بلاغة ومعانٍ . . . مثل نظم العقود فَوْقَ النحور
كم تذكَرت عندها من عُهُودٍ . . . للتلاقي في ظلّ عيْش نَضِير
فذممْتُ الزمانَ إذْ ضنَ عنّا . . . باجتماع يَضُمُّ شَمْلَ السرورِ
ولئن راعَنَا الزمانُ ببينٍ . . . ألْبَس الأُنس ذِلَة المهجورِ
فعسى اللَهُ أنْ يُعيدَ اجتماعاً . . . في أمانٍ من حادثاتِ الدهورِ
إنه قادر على ردَ ما فا . . . ت وتَيْسير كلِّ أمْرٍ عَسِيرِ
وقال أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن هلال الصابي في الوزير المهلَبي : الكامل :
قل للوزير أبي محمدٍ الَذي . . . قد أعجزت كلَّ الوَرَى أوصافُهُ
لك في المجالس مَنْطِق يَشْفي الْجَوَى . . . ويَسُوغُ في أُذُنِ الأديب سُلافهُ
وكأنَ لفظَك جَوْهَرٌ متنخل . . . وكأنما آذانُنا أصدافُه
والمهلبي هذا هو أبو محمد الحسن بن هارون بن إبراهيم بن عبد اللّه بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلَّب ، وَزَرَ لأحمد بن بُوَيْه الدَّيْلمي ، وكانت وزارته سنة تسعوثلاثين وثلثمائة ، وكان أبو محمد من سَرَوات الناس وأدبائهم وأجوادهم وأعِفَّائهم ؛ وفيه يقول أبو إسحاق الصابي : الخفيف :
نِعَم اللّه كالوحوش فما تأ . . . لَفُ إلاَّ الأخايرَ النساكا
نَفّرَتها آثامُ قوم وصيَّر . . . ن لها البر والتُّقَى أشرَاكا وكان قبلَ اتِّصاله بالسلطان سائحاً في البلاد ، على طريق الفقْرِ والتصوّف ، قال أبو علي الصوفي : كنت معه في بعض أوقاته ، أُماشِيه في إحدى طرقاته ، فضجِر لضيق الحال ، فقال : الوافر :
ألا موتٌ يُبَاعُ فأشتريهِ . . . فهذا العيشُ ما لا خَيْرَ فيهِ
ألا رَحِمَ المهيمن نفس حرٍّ . . . تصدّقَ بالوفاةِ على أخيهِ
ثم تصرَّف بما يُرْضِيه الدهر ، وبلغ المهلبي مَبْلغه . قال أبو علي : دخلت البصرة فاجتزت بسُرَّ مَنْ رأى ، وإذا أنا بناشطيات وحراقات وَزَيارب وطَيَّارات في عُدَّة وعُدَد ، فسألتُ : لِمَنْ هذا ؟ فقيل : للورْير المهلبي ، ونعتوا لي صاحبي ؛ فوصلتُ إليه حتى رأيته ، فكتبتُ إليه رقعة ، وتوصّلت حتى دخلتُ فسلَّمت ، وجلستُ حتى خلا مجلسه ، فدفعتُ إليه الرقعةَ وفيها : الوافر :
ألاَ قُلْ للوزير بلا احْتِشام . . . مقال مُذَكِّرٍ ما قد نَسيه
أتذكر إذ تقولُ لضيق عيشي . . . ألاَ مَوْت يُباعُ فأَشْتَرِيهِ
فنظر إليَ وقال : نعم ، ثم نهض وأنهضني معه إلى مجلس الأُنس ، وجعل يُذَاكِرني ما مَضى ، ويَذْكُرُ لي كيف ترقَت حالُه ، وقُدِّم الطعام فَطعِمنا ، وأقبل ثلاثةٌ من الغلمان على رأسِ أحدِهم ثَلاَثُ بِدَر ، ومع الآخر تخوتٌ وثياب ، ومع الآخر طِيب وبخور ، وأقَبلَتْ بَغْلَة رائعة بسَرجٍ ثقيل ؛ فقال : يا أبا علي ، تفضَّلْ بقبول هذا ، ولا تتخلَّف عن حاجة تَعْرِضُ لك ، فشكرته وانصرفت ، فلمّا هممْتُ بالخروج من الباب استردّني وأنشدني بديها : مجزوء الكامل :
رَقَّ الزمان لفاقتي . . . ورَثَى لطول تحرُقي
وأنالني ما أرتَجي . . . وأجارَ ممَّا أتَّقي
فلأغفرنَّ له الكثي . . . رَ من الذنوب السُبَّقِإلا جنايَته التي . . . فعلَ المشيب بمَفْرِقي
قال بعضُ العلماء : العقول لها صُوَر مثلُ صورِ الأجسام ، فإذا أَنْتَ لم تسلُكْ بها سبيلَ الأدب حارَتْ وضلَت ، وإن بعثْتَها في أَوْدِيتها كلت وملّت ، فاسْلُكْ بعقلك شِعَاب المعاني والفهم ، واسْتَبْقِهِ بالجِمَام للعلم ، وارْتَدْ لعقلك أفْضَلَ طبقاتِ الأدب ، وتَوَقَّ عليه آفةَ العَطَب ؛ فإن العقلَ شاهدُك على الفَضْل ، وحارسُك من الجهل .
واعْلَمْ أن مغارِسَ العقول كمغارس الأشجار ؛ فإذا طابت بِقَاعُ الأرض للشجر زكا ثمرُها ، وإذا كَرُمَت النفوسُ للعقول طاب خَيْرُها ، فاغْمُز نفسَك بالكرم ، تَسْلَمْ من الآفَةِ والسَقَم .
واعلَمْ أَنَّ العقل الحسن في النفسِ اللئيمة ، بمنزلة الشجرة الكريمة في الأرض الذميمة ، ينتفع بثمرها عَلَى خُبْثِ المَغْرِس ؛ فاجْتَنِ ثمرَ العقول وإن أتاك من لِئَام الأنفس . وقال النبي عليه السلام : ' رب حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هو أوعى له ' . وقيل : رب حامل فقه غير فقيه ، ورب رَمْيَةٍ من غير رام .
وقيل : الحِكْمَةُ ضالَةُ المؤمن ، أينما وجدها أخذها . وسمع الشَّعبيُ الحجاجَ ابن يوسف وهو على المنبر يقول : أمّا بعد ، فإنّ الله كتب على الدنيا الفنَاءَ ، وعلى الآخرة البقاء ، فلا فناءَ لما كُتِب عليه البقاء ، ولا بَقاء لما كتِب عليه الفناء ، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائبِ الآَخرة ، وأقْصِرُوا من الأملِ ، لقِصَر الأجل . فقال : كلامُ حكمة خَرَجَ من قلب خَرَابٍ وأخرج ألواحَه فكتب .
وقد روى ذلك عن سفيان الثوري .
وقد سمع إبراهيم بن هشام وهو يَخْطُب على المنبر ويقول : إن يوماً أشاب الصغير ، وأسْكَر الكبير ، ليومٌ شَرُه مُسْتَطِير
وصف الكتب
قال الجاحظ : الكتاب وعاء مُلئ عِلْماً ، وظرف حُشِي ظَرفاً ، وبُسْتَان يُحْمَلُ فيرُدْن ، ورَوْضَةٌ تقلَّب في حِجر ، ينطق عن الموتى ، ويُتَرْجِمُ كلامَ الأحياء .
وقال : من صنَف كتاباً فقد استهدف ؛ فإنْ أحسن فقد استعطف ، وإن أساء فقد استقذف . وقال : لا أعلم جاراً أبرّ ، ولا خليطاً أنْصَف ، ولا رفيقاً أطوع ، ولا مُعَلماً أخضع ، ولا صاحباً أظْهَر كفاية ، وأقل جناية ، ولا أقل إملالاً وإبراماً ، ولا أقل خلافاً وإجراماً ، ولا أقل غِيبةً ، ولا أبعد من عضيهِة ، ولا أكثر أعجوبة وتصَرّفاً ، ولا أقل صَلَفاً وتكلفاً ، ولا أبعد من مِرَاء ، ولا أترك لشِغْب ، ولا أزهد في جِدال ، ولا أكف عن قتال ، مِنْ كتاب . ولا أعلم قريناً أحْسَن مُواتاة ، ولا أعجل مكافأة ، ولا أحْضر مَعْونة ، ولا أقل مَؤُونة ، ولا شجرة أطولَ عمراً ، ولا أجمع أمراً ، ولا أطيب ثمرة ، ولا أقْرب مُجْتَنى ، ولا أسرع إدراكاً في كل أوَانٍ ، ولا أوجد في غير أبان ، مِنْ كتاب . ولا أعلم نتاجاً في حداثة سنّه ، وقرب ميلاده ، ورِخَص ثمنه ، وإمكان وجوده ، يجمع من التدابير الحسنة ، والعلوم الغريبة ، ومن آثار العقول الصحيحة ، ومحمود الأخبار عن القرون الماضية ، والبلاد المُتَراخِية ، والأمثال السائرة ، والأمم البائدة ما يَجْمع الكتاب .
ودخل الرشيد على المأمون ، وهو يَنْظر في كتاب ، فقال : ما هذا ؟ فقال : كتاب يَشْحَذ الفِكْرَة ، ويُحسن العِشرة . فقال : الحمدُ للّه الذي رزَقنِي مَنْ يرى بعَيْن قلبه أكْثَر مما يرى بعين جسمه .
وقيل لبعض العلماء : ما بَلَغ من سرورك بأدبك وكُتُبك ؟ فقال : هي إن خَلَوْت لذتي ، وإن اهتممتُ سَلْوَتي ، وإن قلتَ : إنَ زهْرَ البستان ، ونوْر الجِنان ، يَجْلُوانِ الأبصار ، ويمْتِعانِ بحسنهما الألحاظ ؛ فإنَ بستانَ الكتب يَجْلُو العقل ، ويَشْحَذُ الذّهن ، ويُحيي القلب ، ويقوَي القريحة ، ويُعِينُ الطبيعة ، ويَبْعثُ نتائج العقول ، ويستثِير دفائنَ القلوب ، ويُمتِعُ في الْخَلْوةِ ، ويُؤْنِسُ في الوَحْشَة ، ويُضْحِكُ بنوادره ، وَيُسرُ بغرائبه ، ويفيد ولا يَستفيد ، ويُعْطي ولا يأخذ ، وتَصِلُ لذته إلى القلب ، من غير سآمة تدْرِكُك ، ولا مشقّةٍ تَعْرِض لك .وقال أبو الطيب المتنبي : الطويل :
وللسِّرِّمنِّي مَوْضِعٌ لا يَنَالُهُ . . . نديمٌ ، ولا يُفْضِي إليه شَرَابُ
وللْخَوْدِ مني ساعةٌ ، ثم بَيْنَنا . . . فَلاَةٌ إلى غَيْرِ اللقاءَ تُجَابُ
وما العشْقُ إلا غِرَّةٌ وطمَاعَة . . . يُعَرَضُ قلْبٌ نَفْسَهُ فيُصَاب
وغَيْرُ فؤادي لِلْغَواني رَمِيَّةٌ . . . وغَيْرُ بَنَاني للرِّخَاخِ رِكَابُ
تَركْنَا لأطرافِ القَنَا كلَّ لَذَّةٍ . . . فليس لنا إلا بهن لِعاب
نُصرِّفُه للطَّعْنِ فَوْقَ سَوَابحٍ . . . قد انقَصَفَتْ فيهنَّ مِّنْهُ كِعَابُ
أَعَز مكانٍ في الدُّنا سَرْجُ سابحٍ . . . وخَيرُ جَلِيسٍ في الزّمانِ كِتَابُ
فِقر في الكتب
إنفاق الفضّة على كُتب الآداب ، يُخلفك عليه ذَهَبَ الألباب . إنّ هذه الآداب شَوَارد ، فاجعلُوا الكتبَ لها أزِمّة . كتاب الرجل عُنوان عقله ، ولسانُ فضله .
ابن المعتز : مَن قرأ سَطْراً من كتاب قد خطّ عليه فقد خان كاتِبه ؛ لأن الخطّ يُحْرز ما تحته .
بزرجمهر : الكتبُ أصْدَاف الحِكم ، تنشقُّ عن جواهر الكلم .
بعض الكتاب : إعجام الخطّ يمنع من استعجامه ، وشَكْله يؤمن من إشكاله .
كأن هذا الكاتب نَحَا إلى قول أبي تمام : الطويل :
ترى الحادثَ المستعجمَ الخطبِ معجَماً . . . لديهِ ، ومشكولاً إذا كان مُشكِلاَ
ما كُتب قرَ ، وما حُفِظ فرَّ . الخطوط المعجَمَة ، كالبرود المعَلَمة .وقال ابن المعتز يصف كتاباً : الوافر :
وذي نكَت موشًّى نمقّتْهُ . . . وحاكَتْه الأناملُ أيَ حَوْكِ
بشكل يَرْفَع الإشكال عنه . . . كأن سطورَه أغصانُ شَوْكِ
جملة من ألفاظ أهل العصر في صفة الكتب وتهاديها ، وما يتعلّق بأسمائها ومعانيها
حضرة مولاي تَجَلُّ عن أنْ يُهْدى إليها غيرُ الكتب ، التي لا يترفّع عنها كبير ، ولا يَمْتَنع منها خطير ، وقد فكّرت فيما أنفذت به مقيماً للرَّسْم في جملة الخدَم ، وحافِظاً للاسم في غمارِ الْحَشم ، فلم أجِدْ إلاَّ الرّقَّ الذي سبق ملْكه له ، والمال الذي مَنَحه وخَوَّله ، فعدَلْتُ إلى الأدَب الذي تَنْفُقُ سوقُه بباب سيِّدنا ولا تكْسد ، وتهب ريحُه بجانبه ولا تَرْكُد ، وأنفذت كتابي هذا راجياً أن أشَرَّف بقبوله ، ويوقّع إليَّ بحصوله ؛ ولمَا وجب على ذوي الاختصاص لسيدنا إهداء ما جرت العادةُ بتسابق الأولياء إلى الاجتهاد في إهدائه ، وجب العدولُ في إقامة رسم الخدمة إلى اتباع ما صدر عنه من الرخصة فيما تسهُلُ كلفته ، وتجلّ عند ذوي الألباب قيمتُه ، وتحلو ثمرتُه : وهو علْمٌ يُقْتَنى ، وأدبٌ يُجْتَنى .
قال أبو الحسن ابن طَبَاطَبا العَلَوي : الكامل :
لا تُنكِرَنْ إهْدَاءَنَا لك مَنْطِقاً . . . منكَ استفدْنا حُسْنَهُ ونظامَهُ
فاللَّهُ عزَّ وجل يشكر فِعْلَ مَن . . . يَتْلُو عليه وَحْيَهُ وكلامَهُ
وأهدى أحمد بن يوسف إلى المأمون في يوم مِهْرجانٍ هديةً قيمتُها ألف ألف درهم ، وكتب : الطويل :
على العَبْدِ حقّ فَهْوَ لا بدَّ فاعلُهْ . . . وإنْ عَظُمَ المَوْلَى وجَلَّت فضائلُهْ
ألَمْ تَرَنا نُهْدي إلى اللَه ما لهُ . . . وإن كان عنه ذا غِنًى وَهْوَ قابِلُهْوقال أبو الفتح البستي : البسيط :
لا تُنكِرنَّ إذا أهديت نحوك مِن . . . علومك الغُرّ أو آدابك النتفا
فقيمُ الباغِ قد يُهْدِي لمالكهِ . . . برسم خدمته من بَاغه التّحَفا
وكتب أبو إسحاق الصابي إلى عضد الدولة في هذا المعنى : العبيد تُلاطِف ولا تكاثر الموالي في هَداياها ، والموالي تَقْبَل الميسور منها قبولاً هو محسوبٌ في عطاياها . ولما كان - أدام الله تعالى عزّه - مبرزاً على ملوك الأرض في الخطر الذي قَصَروا عنه شديداً ، والسعي الذي وقفوا منه بعيداً ، والآداب التي عجزوا عن استعلامها فَضْلاً عن علْمها ، والأدوات التي نكِلوا عن استفهامها فضلاً عن فهْمِها ، وجب أن يُعْدَلَ عن اختياراتهم ما تَحْظَى به الجسومُ البهيمية ، إلى اختيارِه فيما تخطَى به النفوسُ العليَّة ، وعما يَنْفُق في سوقهم العامية ، إلى ما يَنْفُق في سوقه الخاصية ، إفراداً لرُتْبَتِه العُلْيا ، وغايته القصْوى ، وتمييزاً له عمن لا يجْري معه في هذا المضمار ، ولا يتعلقُ منه بالغُبار : وقد حملت إلى خِزانة - عمرها الله - شيئاً من الدفاتر وآلة النجوم ، فإنْ رآى مولانا أن يتطوَل على عبده بالإذن في عَرْضِ ذلك عليه مُشَرَفاً له وزائداً في إحسانِه إليه فَعَلَ إنْ شاء الله تعالى .
وأهدى أبو الطيب المتنبي إلى أبي الفضل بن العميد في يوم نوروز قصيدة مدحه فيها ، يقول في آخرها : الخفيف :
كَثُرَ الفِكْرُ كيف نُهْدِي كما ته . . . دي إلى ربها الرئيسِ عِبَادُهْ
والَذي عندَنا من المالِ والْخَي . . . ل فَمِنْه هِباتُهُ وقيادُهْ
فبعثنا بأرْبَعينَ مِهَاراً . . . كُل مُهْرٍ مَيْدَانُهُ إنْشَادُهْ
فارْتَبِطْها فإنَ قَلْباً نَماها . . . مَرْبِطٌ تَسْبِقُ الجيادَ جِيَادُه
وفي هذه الكلمة يقولُ وقد احتفل فيها ، واجتهد في تجويد ألفاظها ومعانيها ، فعقَّب عليه أبو الفضل في مواضع وقف عليها فقال : الخفيف :هل لُعذرِي إلى الهُمام أبي الفض . . . ل قَبُولٌ سَوَادُ عيني مدادُهْ ؟
أنا من شدة الحياء عليْلٌ . . . مكْرُماتُ المُعِلَةِ عُوَادُهْ
ما كفاني تَقْصيرُ ما قُلْتُ فيه . . . عن عُلاَهُ حتى ثناه انتقادُهْ
ما تَعَوَدْتُ أن أرى كأبي الفض . . . ل ، وهذَا الَذي آتاهُ اعْتيادُهْ
غَمرَتْني فوائد شاءَ منها . . . أن يكونَ الكلامُ مِمَّا أفادُهْ
ما سَمِعْنَا بمن أحَبَّ العطايا . . . فاشتهى أن يكونَ مِنْها فؤادُهْ
وقد كان مدحه بقصيدته التي أولها : الكامل :
بادٍ هواكَ صَبَرْت أم لم تَصْبِرَا . . . وبُكاكَ إن لم يجر دَمْعُكَ أوْ جَرَى وفيها معانٍ مخترعة ، وأبيات مبتدعة ، يقول فيها : الكامل :
مَنْ مُبلغُ الأعرابِ أنّي بَعْدها . . . جالَسْتُ رَسْطاليسَ والإسكندرا
ومَللتُ نَحْرَ عِشارِها فأضافني . . . مَنْ يَنْحَرُ البِدَرَ النضَار لمنْ قَرَى
وسمعْتُ بطْلِيموسَ دارِسَ كُتْبِهِ . . . مُتَمَلكاً مُتبدياً مُتحَضرا
ورأيت كلَّ الفاضلين كأنما . . . ردَّ الإلهُ نفوسَهم والأعْصُرَا
نُسِقوا لنا نسق الحساب مقدَماً . . . وأتى فذلك إذْ أتيت مُؤخّرَا
وفيها يقول :
فدعاك حُسَدك الرئيسَ وأمسكُوا . . . ودَعاكَ خالِقُك الرئيسَ الأكْبَرا
خَلَفَتْ صفاتُكَ في العيون كلامَهُ . . . كالخطّ يمْلأُ مِسْمَعَيْ منْ أبْصَراأخذه من قول الطائي يصف قصائده : الطويل :
بقُرْبٍ يَرَاها مَنْ يراها بِسَمْعِه . . . ويَدْنُو إليها ذو الحجا وَهْوَ شاسعُ
نموذج في وصف الكتب
كتاب كَتَبَ لي أماناً من الدَّهر ، وهنَّاني في أيام العمر . كتاب أوجب من الاعتداد فوق الأعداد ، وأودع بياض الوداد سواد الفؤاد . كتاب النظر فيه نعيم مقيم ، والظفرُ به فتح عظيم . كتاب ارتحت لعيانه ، واهتززت لعُنوانه . كتاب هو من الكتب المَيَامين ، التي تأْتي من قبل اليمين . كتاب عددته من حجول العُمرِ وغُرَره ، واعتَدَدته من فُرَص العيش وغُرَره . كتابٌ هو أنفس طالع ، وأكرم متطلع ، وأحْسن واقع ، وأجلُّ متوقع . كتابٌ لو قُرئ على الحجارةِ لانْفجرَت ، أو على الكواكب لانتثَرت . كتاب كِدتُ أُبْليه طيًّاً ونشراً ، وقبّلتهُ ألفاً ، ويَدَ حامله عشراً . كتاب نسيتُ لحسنه الرَوْضَ والزّهر ؛ وغفرتُ للزمان ما تقدّم من ذنبه وما تأخر . كتابٌ أمْلَيْته هِزّة المجدِ على بنانكَ ، ونطقَ به لسانُ الفَضلِ عن لسانك . أنا ألتقطُ من كلِّ حَرفٍ تُديرُه أنامُلك تُحفة ، وآخُذ من كل سطرٍ تتجشَّمُ تخطيطَه نزهة . إذا قرأت من خطك حَرْفاً ، وجدتُ على قلبي خِفًّاً ، وإذا تأمّلت من كلامك لفظاً ، ازددت من أُنْسي حظاً . كتاب كتبَ لي أماناً من الزمان ، وتوقيعٌ وقعَ مِنِّي مَوْقِعَ الماء من العطشان . كتاب هو تَعِلَّةُ المسافر ، وأُنْسَةُ المستوحش ، وزبدة الوصال ، وعُقْلة المستوفز . كتاب هو رُقية القلب السليم ، وغرة العيش البهيم ، كتاب هو سَمَرٌ بلا سَهَر ، وصَفْوٌ بلا كدَر . كتاب تمتَّعت منه بالنعيم الأبيض ، والعيش الأخضر ، واستلمته استلام الحجر الأسود ، ووكلتُ طرفي من سُطُورِهِ بوشْي مُهلَّل ، وتاج مُكَلَّل ، وأَوْدَعْتُسمعي من محاسنه من أنساني سماعَ الأغاني من مطربات الغواني . نشأت سَحَابة من لفظك ، غَيْمُها نِعمةٌ سابغَة ، وغيْثها حِكْمَةٌ بالغهٌ ، سقَتْ رَوْضة القلب ، وقد أجهدتها يَدُ الْجَدْبِ ؛ فاهتزت وَرَبَتْ ، واكتست ما اكتسَبَتْ . كتابٌ حسبته ساقطاً إليّ من السماء ، اهتزازاً لمطلعه ، وابتهاجاً بحسْنِ موقعه ، تناولتُه كما يُتناول الكتابُ المرقومُ ، وفضضْتُهُ كما يَفضُ الرَّحيق المختوم . كتاب كالمشتري شَرُفَ به المسير ، وقميص يوسفَ جاء به البشير . كتاب هو من الحسن ، رَوضة حَزن ، بل جَنةُ عَدْنٍ ، وفي شرح النفس وبَسْطِ الأنس برد الأكباد والقلوب ، وقميص يوسف في أجفان يعقوب . قد أهديت إليّ محاسنَ الدنيا مجموعةً في ورقه ، ومباهج الحلى والحلل محصورة في طبقه . كتابّ ألصقْتُه بالقَلْبِ والكبد ، وشممته شمَّ الولد . ورَدَ منك المسْكُ ذكياً ، والزهرُ جَنِيًّاً ، والماء مريّاً ، والعيش هنيًّاً ، والسحر بابليًّاً . كتاب مَطلعهُ أهِلّة الأعياد ، وموقعه موقع نَيْل المراد . كتاب وجدته قصيرَ العمر ، كليالي الوصال بعد الهجْر ، لم أبدأ به حتى استكمل ، وقارَبَ الآَخِر منه الأوّل . كتاب منتقض الأطراف ، منقطع الأكتاف ، أبتَرُ الجوارح ، مضطرب الجوانح ، كتاب كأنه توقيع متحرَز ، أو تعريض مُتبرز . كاد يلتقي طَرَفاهُ ، ويتقارب مُفْتتحه ومُنتهاهُ . كتاب التقَتْ طرفاه صِغَراً ، واجتمعت حاشيتاه قِصراً . ما أظنني ابتدأْتُهُ حتى ختمته ، ولا استفتحته حتى أتممته ، ولا لمحته حتى استوفيته ، ولا نشرته حتى طويته ، وأحسبنْي لو لم أجوّد ضبطه ، ولم أُلْزم يَديَّ حفظَهُ ، لطار حتى يختلط بالجوّ ، فلا أَرَى منه إلاَّ هباءً منثوراً ، وهواءً منشوراً . كتاب حسبته يطيرُ من يدي لخفّته ، ويلطف عن حِسّي لقلّته ، وعجبتُ كيف لم تحمله الرياحُ قبل وصوله إليّ ، وكيف لم يختلط بالهواء عند وصوله لديّ . كتاب قصَّ الاقتصارُ أجنحته ، فلم يَدَع له قوادم وَلا خوَافِي ، وأخذ الاختصار جثِّته ، فلم يبق ألفاظاً ولا معاني . طلعَ كتابُكَ كإيماء بطَرْفٍ ، أو وَحْيٍ بَكَفّ .
وقال أبو العباس عبد اللّه بن المعتز : استعرت من علي بن يحيى المنجم جُزْءاً فيه أخبار مَعْبد بخط حماد بن إسحاق الموصلي ، وكان وعدني به ، فبعث إليّ بستّ ورقات لِطَاف ، فرددتها وكتبت إليه : إن كنت أردتَ بقولك جُزْءاً الجزء الذي لا يتجزّأ فقد أصبت ، وإن كنت أردتَ جُزْءاً فيه فائدة للقارئ ، ومُتْعَةٌ للسامع ، فقد أحَلْت : وقد ردَدْته عليك بعد أن طار اللَّحْظ عَلَيْهِ طيرة .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8