كتاب : زهر الأداب وثمر الألباب
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني

المنبر فجأة لافتضح ؛ فأمر رسولاً فأخذ بيده فصعد به المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال : إن لأمير المؤمنين أشباهاً أربعة : الأسد الخَادِر ، والبحر الزاخر ، والقمر الباهر ، والربيع الناضر ؛ فأما الأسد الخادر فأشبه صولته ومَضَاءَه ، وأما البحر الزاخر فأشبه جودَه وعطاءه ، وأما القمرُ الباهر فأشبه نورَه وضياءه ، وأما الربيعُ الناضرُ فأشبه حُسْنَه وبهاءه ، ثم نزل .
وهذا الكلام ينْسَبُ إلى ابن عباس يقوله في علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما .
وكان شبيب بن شيبة من أفصح الناس وأخطبهم ، ويشبَّه بخالد بن صفوان ؛ غير أن خالداً كان أعلى منه قدراً في الخاصة والعامة . وذكر خالد شبيباً فقال : ليس له صديقُ في السر ولا عدوّ في العلانية . وكانت بينهما معارضة للنسب والجوار والصناعة ، ولما قال الشاعر : الطويل :
فنَحِّ شبيباً عن قراع كتيبةٍ . . . وأدْنِ شبيباً من كلامٍ مُلَفّقِ
وكأن لا ينظر إليه أحد وهو يخطب إلا تبين فيه الخجل .
وقال أبو تمام لعلي بن الجهم : الكامل :
لو كنت يوماً بالنجوم مُصَدِّقاً . . . لزعمت أنَّك نِلْتَ شكلَ عُطَارِدِ
أو قدمَتك السنُّ خِلتُ بأنّه . . . من لَفْظِك اشتقتْ بلاغَةُ خَالِد
وقالت له امرأة : إنكَ الَجميل يا أبا صفوان . قال : كيف تقولين هذا وما فيَّ عمودُ الجمال ولا رِدَاؤه ، ولا بُرْنُسه ؟ عمودُه الطول ، ولست بطويل ، ورِدَاؤه البياض ، ولست بأبيض ، وبُرْنسه سواد الشَّعَرِ ، وأنا أشمط ولكن قولي : إنك لمليح .
وكان خالد حافظاً لأخبار الإسلام ، وأيام الفتن ، وأحاديث الخلفاء ، ونوادر الرواة ، وكل ما تصرّف فيه أهل الأدب ، وله يقول مكي بن سوادة : الطويل :
عليم بتنزيل الكتاب ملقَّنٌ . . . ذَكُورٌ لما سدَّاهُ أولَ أولا
يَبُذّ قَرِيعَ القوم في كل مَحْفل . . . ولو كان سحبانَ الخطيبُ ودَغفلاترى خُطَبَاءَ الناس يومَ ارتجاله . . . كأنهمُ الكروانُ صَادف أَجْدَلاَ
أما سَحْبَان الذي ذكره فهو خطيبُ العربِ بأسْرِها غير منازع ولا مدافع ، وكان إذا خطب لم يُعِدْ حرفاً ، ولم يتوقّف ، ولم يتحبَّسْ ، ولم يفكر في استنباط ، وكان يسيل غَزباً ، كأنه آذيُّ بَحْرٍ .
ويقال : إنّ معاوية قدم عليه وفد من خراسان وجَّههم سعيد بن عثمان ، وطلب سَحْبان فلم يوجد عامّة النهار ، ثم اقْتُضِبَ من ناحية كان فيها اقتضاباً ، فدخل عليه فقال : تكلَّم ، فقال : انظروا لي عصاً تُقيم من أودي ، فقال له معاوية : ما تصنعُ بها ؟ فقال : ما كان يَصْنَع موسى عليه الصلاة والسلام وهو يخاطبُ ربَّه وعصاه بيده ، فجاءوه بعصا فلم يَرْضَها . فقال : جيئوني بعصاي ، فأخذها ، ثم قام فتكلّم منذ صلاة الظهر إلى أن فاتت ، صلاةُ العصر ، ما تَنَحْنَحَ ، ولا سَعَلَ ، ولا توقف ، ولا تحبّس ، ولا ابتدأ في معنى فخرج منه إلى غيرِه حتى أتمّه ولم يبق منه شيء ، ولا سأل عن أي جنس من الكلام يخطب فيه ، فما زالت تلك حالَه وكلّ عين في السماطين شاخصةٌ إلى أن أشار له معاويةُ بيده أن اسكُت ، فأشار سحبان بيده أن دَعْني لا تَقْطَعْ عليّ كلامي ، فقال له معاوية : الصلاة ، فقال : هي أمامك ونحن في صلاة يتبعها تحميد وتمجيد ، وعظة وتنبيه وتذكير ووعد ووعيد ، فقال معاوية : إنك أخطبُ العرب ، فقال سحبان : والعجم ، والجن ، والإنس .
بعض ما قيل في عجلان بن سحبان
وكان ابنه عجلان حُلْوَ اللسان ، جيَّدَ الكلام ، مليح الإشارة ، يجمعُ مع خطابته شعراً جيداً ، ويضرب الأمثال إذا خطب ، وينزع النادرَ من الشعر ، والسائرَ من المثل ، فتَحْلُو خُطبته ، وكان يَزنُ كلامَه وَزْناً .
دغفل بن حنظلة النسابة
وأما دغفَل الذي ذكره مكي بن سَوادة فهو دَغْفَل بن حَنْظلة بن يزيد أحد بني ذهل بن ثعلبة النسّابة ، وكان أعلمَ الناس بأنساب العرب ، والآباء والأمهات ، وأحفظهم لمَثَالبها ، وأشدّهم تنقيراً وبحثاً عن معايب العرب ، ومثالب النسب .قال له معاوية يوماً : والله لئن قلت في هذا البيت من قريش ما تجد في آل حَرْبٍ مقالاً ، فتبسم دَغفل ؛ فقال له معاوية : والله لتخبرنّي بتبسمك ، وما انضمَّتْ عليه جوانحُك ، أو لأضربنَّ عنقك ، وما آمَنُ أن تكْذب أو تزيد .
فقال : يا أمير المؤمنين ، أنتم من بني عبد مناف كسَنَام كَوْماء فتيّة ، ذاتِ مرعًى خصيب ، وماءٍ عَذْب ، وأكَمةٍ بارزة ، فهل يوجد في سَنام هذه مَدَبّ قُرَاد من عاهة ؟ فقال له معاوية : أَوْلى لك لو قلمتَ غير هذا ؛ أما على ذلك لو رأيت هنداً وأباها ، وزوجها ، وأخاها ، وعمّها ، وخالها ، لرأيت رجالاً تَحَارُ أبصارُ مَن رآهم فيهم ، فلا تجاوزهم إلى غيرهم ، جلالةً وبهاءً .
فيٍ ذكر العصا
وعلى ذكر العصا لقي الحجَّاج أعرابياً فقال : من أين أقبلت ؟ قال : من البادية ، قال : ما بيدك ؟ قال : عصا أركِزُها لصَلاَتِي ، وأُعِدُّها لِعُدَاتي ، وأسوقُ بها دابَّتي ، وأقْوَى بها على سَفري ، وأَعْتَمدُ بها في مشيتي ، لِيَتّسِعَ بها خَطْوِي ، وأعْبُرُ بها النهر فتؤمنني ، وأُلقي عليها كسائي فتسترُني من الحرّ ، وتقيني من القُرِّ ، وتُدْني ما بعد مني ، وهي مِحْمَل سُفْرتي ، وعَلاقة إدَاوَتي ، ومِشجَب ثيابي ، أعتمدُ بها عند الضَراب ، وأَقْرَع بها الأبواب ، وأتقِي بها عَقُور الكِلاَب ، تنوبُ عن الرُّمح في الطّعان ، وعن الْحِرْز عند منازلة الأقْرَان ، ورِثْتُها عن أبي ، وأورثُهَا بعدي ابني ، وأَهُشُّ بها على غَنَمِي ، ولي فيها مآرِب أخرى ، كثيرة لا تُحْصَى .
الخليل بن أحمد
قال النضر بن شميل : كتب سليمان بن علي إلى الخليل بن أحمد يستدعيه الخروج إليه ، وبعث إليه بمال كثير ، فردّه وكتب إليه : البسيط :
أبلغْ سليمانَ أني عنه في سَعَةٍ . . . وفي غنًى غيرَ أني لَسْتُ ذا مَالِيسخُو بنفسيَ أني لا أرى أحداً . . . يموت هُزْلاً ولا يَبْقَى على حَال
والفَقْرُ في النفس لا في المال نَعْرِفهُ . . . ومِثْلُ ذاك الغنى في النفس لا المالِ
والمالُ يَغْشَى أناساً لا خَلاقَ لهم . . . كالسَّيْلِ يَغْشَى أُصول الدِّنْدِنِ البالي
كلُّ امرئ بسبيل الموت مرتَهَنٌ . . . فاعمَلْ لنفسك ؛ إني شاغلٌ بالي
أخذ هذا الطائي فقال : الكامل :
لا تُنكِري عطلَ الكريم من الغِنَى . . . فالسيلُ حربٌ للمكانِ العالي
وقال أيضاً يصف قوماً خصّوا بابن أبي دوادٍ الخفيف :
نَزَلُوا مركز النّدَى وذَرَاهُ . . . وَعَدَتْنَا من دون ذاك العَوَادِي
غير أن الرُّبا إلى سُبُل الأَن . . . واء أَدْنَى ، والحظُ حظّ الوِهَادِ
وهذا الشعر من أصلح شعر الخليل ، وكان شعره قليلاً ضعيفاً ، بالإضافة إليه وهو أستاذ النحو والغريب ، وقد اخترع علم العروض من غير مثال تقدمه ، وعنه أخذ سيبويه ، وسعيد بن مسعدة ، وأئمة البصريين ، وكان أوسع الناس فِطنَةً ، وألطفهم ذهناً . قال الطائي : الوافر :
فلو نُشر الخليل إذاً لعفَّت . . . رَزاياه على فِطَنِ الخليلِ
في التعزية
وكتب أبو إسحاق الصابي إلى محمد بن عباس يعزيه عن طفل : الدنيا ، أطال الله بقاء الرئيس ، أقدارٌ تَرِدُ في أوقاتها ، وقضايا تَجْرِي إلى غاياتها ، ولايُرَدُ منها شيءٌ عن مَدَاه ، ولا يصدُ عن مطلبه ومَنْحَاه ؛ فهي كالسهام التي تثبت في الأغراض ؛ ولا ترجعُ بالاعتراض ، ومن عرف ذلك معرفَة الرئيس لم يغض من الزيادة ، ولم يَقْنَط من النقيصة ، وأَمِنَ أن يستخفّ أحدُ الطرفين حلمه ، ويستنزل أحدُ الأمرين حَزْمَه ، ولم يدَعْ أن يوطِّن نفسه على النازلة قبلَ نزولها ، ويأخذ الأُهْبَة للحادثة قبل حلولها ، وأن يجاور الخيرَ بالشكر ، ويساورَ المِحْنَة بالصبر ، فيتخيّر فائدةَ الأولى عاجلاً ، ويستمرئ عائدةَ الأخرى آجلاً . وقد نفَذَ من قضاء الله تعالى في المولى الجليل قَدْراً ، الحديث سناً ، مَا أَرْمَض ، وأَومَض ، وأَقْلَق وأقضَّ ؛ ومسني من التألم له ما يحق على مثلي ممن توافَتْ أيادي الرئيس إليه ، ووجبت مشاركتُه في الملمّ عليه ، ف ' إنّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ ' وعند الله نحتسبه غُصْناً ذَوي ، وشهاباً خَبَا ، وفرعاً دَلّ على أَصله ، وخَطِّياً أنبته وَشِيجُه ، وإياه أسألُ أن يجعلَه للرئيس فَرَطاً صالحاً ، وذُخْراً عتيداً ، وأَن ينفَعه يوم الدين ، حيث لا ينفعُ إلا مثلُه بين البنين ، بجوده ومَجْدِه .
ولئن كان المصابُ عظيماً ، والحادثُ فيه جسيماً ، لقد أحسن الله إليه ، وإلى الرئيس فيه ؛ أما إليه فإن الله نزّهه بالاخترام ، عن اقترافِ الآثام ، وصانه بالاحتضار ، عن ملابسة الأوزار ، فورد دنْياه رشيداً ، وصدَر عنها سعيداً ، نقي الصحيفة من سوادِ الذنوب ، بري الساحة من دَرَن العيوب ، لم تدنِّسه الجرائرُ ، ولم تعلَقْ به الصغائر والكبائر ، قد رفع الله عنه دقيقَ الحساب ، وأَسْهَم له الثواب مع أهل الصواب ، وأَلحقه بالصدّيقين الفاضلين في المَعَاد ، وبَوَّأه حيث أفضلهم من غير سَعْي ولا اجتهاد .
وأما الرئيس ، فإن الله ، عزَ وجل ، لما اختار ذلك له قبضَه قبل رؤيته إياه على الحالة التي تكون معها الرقة ، ومعاينته التي تتضاعفُ معها الحُرْقة ، وحَمَاه من فِتْنَة المرافقة ، ليرفعَه عن جزع المفارقة ، وكان هو المبقي في دنياه ، وهو الواحدُ الماضي الذخيرة لأخراه ، وقد قيل : إن تسلم الجِلَّةُ فالسَّخْل هدر ؛ وعزيز عليّ أن أقول قولَ المهون للأمر من بعده ، وألا أوفي التوجع عليه واجبَ فَقْدِه ، فهو له سُلاَلة ، ومنه بَضعة ، ولكن ذلك طريقُ التسلية ، وسبيل التعزية ، والمنهَجُ المسلوك في مخاطبة مثله ، ممن يقبل منفعةالذكرى وإن أغناه الاستبصار ، ولا يأبى ورودَ الموعظة ، وإن كَفَاه الاعتبار ، والله تعالى يقي الرئيسَ المصاب ، ويعيذُه من النوائب ، ويرعاه بعينه التي لا تنامُ ، ويجعله في حِمَاهُ الذي لا يُرام ، ويُبْقيه موفوراً غير منتقَص ، ويقدِّمنا إلى السوء أمامه ، وإلى المحذور قدّامه ، ويبدأ بي من بينهم في هذه الدعوة ، إذْ كنت أراها من أَسعد أحوالي ، وأَعُدُها من أبلغ أمانيّ وآمالي .
وكتب إلى بعض الرؤساء : قد جَرَتِ العادةُ - أطال الله بقاءَ الأمير - بالتمهيد للحاجة قبل موردها ، وإسلاف الظنون الداعية إلى نجاحها ، وسالكُ هذه السبيل يسيء الظن بالمسؤول ؛ فهو لا يلتمسُ فضلَه إلا جزاء ، ولا يستدعي طَوْله إلا قضاء ؛ والأميرُ بكرمه الغريب ، ومذهبه البديع ، يؤثر أن يكون السلفُ له ، والابتداءُ منه ، ويوجب للمهاجم برغبته عليه حقَّ الثقة به منه ، والحمدُ لله الذي أَفرده بالطرائق الشريفة ، وتوحّده بالخلائق المنِيفة ، وجعله عين زمانه البصيرة ، ولمْعته الثاقبة المنيرة .
وكتب البديع في بابه إلى بعض أصحابه : لك ، أعزَك الله ، عادةُ فضل ، في كل فصل ، ولنا شِبْهُ مَقْت ، في كل وقت ؛ ولعمري إن ذا الحاجة مَقِيتُ الطَّلْعَة ، ثقيل الوطأة ، ولكن ليسوا سواء ؛ أولو حاجة تحتاج إليهم الأموال ، وأولو حاجة تحوجهم الآمال .
والأمير أبو تمام عبدُ السلام بن الفضل المطيعُ لله أمير المؤمنين - أيده الله - إن أحوجه الزمانُ فطالما خَدَمه ، وإن أهانه فكثيراً ما أكرمه ونعّمه . وقديماً أقلّه السرير ، وعرَفه الخَوَرْنَقُ والسدير . وإن نقصه المال فالعِرْضُ وافر ، وإن جفاه الملك فالفَضْلُ ظاهر ، وإن ابتلاه الله فلِيَبْتَليكم به فينظر كيف تفعلون . وأنت تقابلُ مورده عليك من الإعظام ، بما يستحقّ من الإكرام ، فلا تنظرن إلى ثوبٍ بال ، فتَحْتَهُ شرفٌ عال ، ولا تقس على البُرْدِ ، ما وراءه من المجد ، ولكن إن نظرت ففي شامخ أصلِه ، وراسخ عقله ، وشهادة الفراسة له . ثم ليأت بعد هذه الآيات ما هو قضية المروءة معه ، والأخوة معي ، بَالِغاً في ذلك غاية جهده ، والسّيْفُ لا يرى في غِمْده ، والحمد لله حق حَمْده .
وله إلى أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن حمزة :لو كانت الدنيا ، أطال الله بقاءَ الشيخ - على مراديَ تجري ، لاخترت أن أضرب بهذه الحضرة أطناب عمري ، وأنفق على هذه الخدمة أيام دهري ، ولكن في أولاد الزنا كثرة ، ولعين الزمان نظرة ، وقد كنت حَظِيتَ من خدمة الشيخ المحسن بشرعة أنس نغصها بعض الوشاة عليّ ، وذكر أني اقمت بطوس بعد استئذْاني إلى مَرْوَ وفي هذا ما يعلمه الشيخ ، فإن رأى أن يحسن جَبرِي بكتاب يطرز به مقدمي فعل إن شاء الله تعالى .
وله في هذا الباب إلى أبي نصر الميكالي : الشيخ - أعزه الله - مَلَكَ من قلبي مكاناً فارغاً ، فنزله غير منزل قلعَة ، ومن مودتي ثوبَاً سابغاً ، فلبسه غير لبْسَةِ خلعة ، ومن نصب تلك الشمائل شبكاً ، وأرسل تلك الأخلاق شركاً ، قَنَصَ الأحرار فاستحثّهم ، وصاد الإخوان واسترقهم .
وتاللّه ما يُغبَنُ إلا من اشترى عبداً وهو يجدُ حرّاً بأرخص من العبد ثمناً ، وأقلّ في البيع غبناً ، ثم لا يهتبل غرّةَ وجوده ، وينتهز فرصة امتلاكه بجوده ، وأنا أنم للشيخ على مكرمة يتيمة ، ونعمة وسيمة ، فليعتزل من الرأي ما كان بهيماً ، وليطلق من النشاط ما كان عقيماً وليحلل حَبوة التقصير ، وليتجنبْ جانب التأخير ، وليفتضَّ عُذْرَتها ، وينقض حجّتها وعُمْرتها ، برأي يجذبُ المجد باعه ، ويعمر النشاط رِباعَه ؛ وتلك حاجة سيدي أبي فلان وقد ورد من الشيخ بحراً ، وعقد به جسراً ، وما عَسُر وَعْدٌ هو مستنجزُه ، ولا بَعُدَ أمرٌ هو منتهزه ، ولا ضاعت نعمة أنا بَرِيدُ شكرها ، وعزيم نشرها ، ووليّ أمرها ؛ وهذا الفاضل قرارة مائها ، وعماد بنائها ؛ وقد شاهدت من ظَرْفه ، ما أعجز عن وصفه ، وعرفت من باطنه ما لم يُدرَ بظاهره ، ورأيتُ من أوله ما نَمَّ على آخر ، ه ثم له البيت المرموق ، والنسب الموموق ، والأولية القديمة ، والشيمة الكريمة ؛ وقد جَمَعَتْنا في الودّ حلْقة ، ونظمَتْنا في السفر رفقة ، وعرفني بما أنهض له وفيه ، فضمنت له عن الشيخ كَرَماً لا يغلَق بابه ، وغَدَقاً لا يُخْلف سحابه ؛ فليخرجني الشيخ من عهدة هذه الثقة ، زادها إليه تأكدأً ، وإن رأى أن أسأل الشيخ في معناه عرفني كيف المأتى له ، وإنما أطَلْتُ ليعلم صِدْقَ اهتمامي ، وفَرْطَ تقليدي للمنّة والتزامي .
وله جواب عن صنيعة بصاحب هذه العناية : ورد فلان ، سيدي ، وهو عينُ بلدتنا وإنسانُها ، ومُقْلتها ولسانها ؛ فأظهر آياتفضله لا جرم أنه وصلَ إلى الصميم ، من الإيجاب الكريم ، وهو الآن مقيمٌ بين رَوْح ورَيحان وجنّة نعيم ، تحيته فيها سلام ، وآخر دعواه ذكرك وحسن الثناء عليك بما أنت أهله ، وأنا أصدق دعواه ؛ وأفتخر به افتخار الخصيّ بمتاع مولاه ؟ وقد عرفته ولسَنه ، وكَيف يَجرُّ في البلاغة رَسَنَه ، فما ظنّك به ، وقد ملكتها المجالس ولحظتها العيون ، وسلّ صارماً من فيه ، يعِيدُ شكرك ويبدِيه ، وينشر ذكرك ويطويه ؛ والجماعة تمدحُ لمدحه ، وتجرح بجرحه ، فرأيك في تحفظ أخلاقك التي أثمرت هذا الشكر ، وأنتجت هذه المآثر الغرّ ، موفقاً إن شاء الله تعالى .
ومن إنشائه في مقامات الإسكندري ، قال : حدّثنا عيسى بن هشام ، قال : لما نَطّقَني الغِنى بفاضل ذَيلِه ، اتُّهمت بمال سلَبتُه ، أو كنز أصبتُه ، فخَفَرَني الليلُ ، وسرَت بي الخيلُ . وسلكْتُ في هربي مسالِكَ لم يَرُضها السيرُ ، ولا اهتدَتْ إليها الطيرُ ، حتى طويت أرضَ الرُّعْبِ وتجاوزتُ حدّه ، وصِرت إلى حِمَى الأمنِ ووجدتُ بَردَه ، وبلغتُ أذربيجان وقد حَفِيَت الرواحلُ ، وأكلتها المراحل ، ولما بلغتها : الطويل :
نزلنا على أن المقام ثلاثةٌ . . . فطابَتْ لنا حتى أقمنا شهْرا فبينا أنا يوماً في بعض أسواقِها إذ طلع رجل برَكْوَةٍ قد اعتضدها ، وعصا قد اعتمدها ، ودنيّة قد تَقَلَّسَها ، وفوطةٍ قد تطَيْلَسَها ؛ فرفع عقيرته وقال : اللهمّ يا مبدئ الأشياء ومعيدَها ، ومحيي العظام ومبيدَها ، وخالق المصباح ومديره ، وفالقَ الإصباح ومنيره ، وموصِلَ الآلاءِ سابغة إلينا ، ومُمْسِك السماءِ أن تقعَ علينا ، وبارئ النَّسَم أزواجاً ، وجاعل الشمس سراجاً ؟ والسماءِ سَقْفاً ، والأرض فراشاً ، وجاعلَ الليل سكَناً والنهار معاشاً ، ومنشئ السحاب ثِقالاً ، ومرسل الصواعق نكالاً ، وعالِمَ ما فوق النجوم ، وما تحت التخوم . أسألُك الصلاة على سيد المرسلين محمد وآلِه الطاهرين ، وأن تعينني على الغربة أثني حَبْلَها ، وعلى العُسْرَةِ أعدو ظلَّها ، وأن تُسهِّل لي على يدَيْ مَنْ فَطَرَتْهُ الفِطْرة ، وأطلعَتْه الطُهْرَة ، وسعِد بالدِّين المتين ، ولم يَعْمَ عن الحق المُبين ، راحلةُ تطْوي هذا الطريق ، وزاداً يسعني والرفيق .
قال عيسى بن هشام : فناجيتُ نفسي بأنَّ هذا الرجلَ أفصحُ من إسكندريّنَا أبيالفتح ، والتفتُّ لفتةً ، فإذا هو أبو الفتح ، فقلتَ : يا أبا الفتح ، بَلَغ هذه الأرضَ كيدُك ، وانتهى إلى هذا الشِّعْبِ صيدك ؟ فأنشأ يقول : مجزوء الخفيف :
أنا جَوَّالةُ البلا . . . دِ وجَوَّابةُ الأُفُق
أنا خُذْرُوفَةُ الزما . . . نِ وعَمَّارة الطُرُقْ
لا تَلُمْنِي لك الرش . . . دُ على كُدْيَتي وذُقْ
وقال الطرماح بن حكيم : الطويل :
وما أنس م الأشياء لا أنس بيعةً . . . من الدهر إذ أهل الصفاء جميعُ
وإذ دهرُنا فيه اعتزاز ، وطَيْرُنا . . . سَواكِنُ في أوكَارهنّ وقوعُ
فهل لليالينا بنعف مليحة . . . وأيامهنَّ الصالحات رُجوعُ ؟
كأن لم يَرُعكَ الظاعنون إلى بلًى . . . ومثل فراق الظاعنين يَرُوعُ
شعر في وصف الشباب والمشيب
وقال علي بن محمد بن الحسن العلوي : مجزوء الكامل :
واهاً لأيام الشبا . . . ب وما لَبِسْنَ من الزخارفْ
وذهابهنَّ بما عرفْ . . . نَ من المناكر والمَعَارِفْ
أيام ذكْرك في دوا . . . وين الصِّبا صدْزَ الصحائفْ
واهاً لأيَّامي وأَيام الشهياتِ المَرَاشفْ
الغارسات البَان قُضْ . . . باناً على كُثُبِ الرَوَادِفْ
والجاعلاتِ البَدْرَ ما . . . بين الحواجبِ والسوالِفْ
أيام يُظْهِرْنَ الخلا . . . فَ بغير نِيَّاتِ المخالفْ
وقف النعيم على الصِّبَا . . . وزللت من تِلْكَ المواقِفْ
وقال ابن المعتز : الطويل :
دَعَتْنِي إلى عهد الصِّبا رَبَّةُ الخدْرِ . . . وأَلقت قناعَ الخزِّ عن وَاضح الثغْروقالت وماءُ العينِ يخلطُ كُحْلَها . . . بصُفْرَةِ ماء الزعفران على النَّحرِ
لمن تطلبُ الدنيا إذا كنت قابضاً . . . عنانك عن ذات الوِشاحين والشذْرِ ؟
أراك جعلتَ الشيب للهَجْرِعِلةً . . . كأن هلالَ الشهرِ ليس من الشهر
وقال أحمد بن أبي طاهر : مجزوء الكامل :
يا من كَلِفتُ بحبِّهِ . . . كلَفي بكاساتِ العقارْ
وحياة ما في وجنتي . . . ك من الشقائق والبَهار
وولوع رِدْفِكَ بالترَجْ . . . رج تَحْتَ خَصْرك في الإزار
ما إن رأيت لحسن وج . . . هك في البريَّة من نِجار
لما رأيت الشَيب من . . . وجهي بما يحكي الخمار
قالت غبار قد علا . . . ك فقلت ذا غير الغبار
هذا الذي نقل الملو . . . ك إلى القبور من الديار
قالت ذهبت بحجَّتي . . . عني بحسن الاعتذار
يا هذه أرأيت لي . . . لاً مذ خلقتِ بلا نَهَار ؟
وقال خالد الكاتب : الكامل :
نظرتْ إليَ بعينِ مَنْ لم يَعْدلِ . . . لمّا تمكَنَ طَرْفُهَا مِنْ مَقْتَلي
لما رأتْ شيباً ألمَّ بمفرَقي . . . صَدَّتْ صدودَ مُفَارقٍ متحمِّلِ وظللْتُ أطلُب وَصْلَها بتملُّقٍ . . . والشيبُ يغمزها بألا تَفْعَلي
وقال ابن الرومي : الطويل :
كفى حَزَناً أن الشباب معجلٌ . . . قَصيرُ الليالي والمشيبُ مخلّدُ
وعَزَّاك عن ليل الشباب مَعاشرٌ . . . فقالوا : نَهار الشيب أهْدَى وأرْشَدُ
فقلت : نهارُ المرء أهْدَى لسعيِه . . . ولكنّ ظِل الليلِ أنْدى وأبْرَدُ
مَحَارُ الفتى شيخوخة أو منية . . . ومرجوعُ وهَّاج المصابيح رِمْدِدُ
وقال : البسيط :
كان الشبابُ وقلبي فيه منغمسٌ . . . في لذةٍ لستُ أدرِي ما دواعيهارَوْح على النفس منه كادَ يُبْرِدُها . . . بَرْدَ النسيم ولا ينفكُّ يحييها
كأنَّ نفسيَ كانت منهُ سارحةً . . . في جنَّةٍ بات ساقي المُزْن يسقيها
يمضي الشباب ويبقى من لبَانته . . . شَجْوٌ على النفس لا ينفكّ يُشْجيها
ما كان أعظم عندي قَدْرَ نعمته . . . لنفسه لا لحلم كان يُصبيها
ما كان يُوزَن إعجاب النساء بهِ . . . والنفسُ أوجب إعجاباً بما فيها
وقال : الطويل :
إذا ما رأتك البِيضُ صَدَّت ، ورُبّما . . . غدوتَ وطَرْفُ البيض نحوك أَصْوَرُ
وما ظلَمتك الغانياتُ بصدِّها . . . وإن كان في أحكامها ما يُجَوَّرُ
أعِرْ طَرْفَكَ المرآةَ وانظرْ ؛ فإنْ نبا . . . بعينيك عنك الشيبُ فالبِيضُ أعذرُ
إذا شَنِئت عين الفتى شَيْب نفسه . . . فعيْنُ سِوَاء بالشناءة أجْدَر
وقال كشاجم : الخفيف :
وَقَفَتْنِي ما بين حُزْنٍ وبُوس . . . وثنَتْ بَعْدَ ضحْكَةٍ بعُبوسِ
إذْ رأتني مشَطْتُ عاجاً بعاج . . . وَهِيَ الآبنوس بالآبنوسِ
وقال أبو نواس : الكامل :
بكرت تبصَّرني الرَّشاد كأنني . . . لا أهتدي لمذاهب الأبرارِ
وتقول : وَيْحَكَ قد كبرت عن الصِّبا . . . ورَمَى الزمانُ إليك بالأَعْذَارِ
فإلى متى تصبُو وأنت متيَّمٌ . . . متقلّبٌ في راحةِ الإقتارِ
فأَجَبْتُها إني عَرَفْتُ مذاهبي . . . فصَرَفْتُ معرفتي إلى الإِنكارِ
وقال أحمد بن زياد الكاتب : الطويل :
ولمّا رأيتٌ الشيبَ حلَّ بياضه . . . بمَفْرَق رأسي قلت : أهلاً ومرحبا
ولو خِلْتُ أني إن تركت تحيتي . . . تنكَّبَ عني رُمْتُ أنْ يتنكّبا
ولكن إذا ما حلَّ كرهٌ فسامحت . . . به النفسُ يوماً كان للكُرْه أَذْهَبَاكأنّ هذا البيت ينظر إلى قول الأول : الطويل :
وجاشت إليَّ النفس أولَ مرةٍ . . . فَرُدَّت إلى معروفها فاستقرَّتْ
أبو الطيب : الكامل :
أنكَرْت طارقةَ الحوادثِ مرّةَ . . . ثم اعترفتُ بها فصارت دَيْدنَا
ابن الرومي : الخفيف :
لاح شَيْبي فصرتُ أمْرَحُ فيه . . . مَرَحَ الطِّرْف في العِذَارالمُحَلى
وتولى الشبابُ فازددْتُ غَيّاً . . . في ميادين بَاطِلِي إذ تولّى
إنَ من ساءه الزمانُ بشيء . . . لأحقُّ الورى بأن يتسلّى
المتنبي : الخفيف :
أتراني أسوء نفسيَ لمّا . . . ساءني الدهر ؟ لا ، لعمريَ ، كلاّ
المتنبي : الكامل :
تَصْفُو الحياةُ لجاهِلٍ أوغافلٍ . . . عَمّا مَضَى فيهما وما يُتَوَقَّعُ
ولمنْ يُغالِطُ في الحقائق نَفْسَه . . . ويَسُومُها طَلَبَ المُحالِ فَيَطْمَعُ
البحتري : الكامل :
يكفيك من حَقَّ تَخَيُّلُ باطلٍ . . . تردى به نَفْسُ اللَّهيف فترجعُ
وقلّما تصحّ مغالطات أهل العقول ، عند أهل التحصيل ، وما أحسن ما قال الطائي : الخفيف :
لعِبَ الشيبُ بالمَفَارِقِ ، بل جَدَّ فَأَبْكَى تُمَاضراً ولعوبا
يا نسيبَ الثَّغام ذنبُك أبقى . . . حسناتي عند الحسان ذُنُوبالو رأى الله أنً في الشيب فَضْلاً . . . جاوَرَتْهُ الأبرار في الخُلْدِ شِيبا وقد جاء في التشاغل عن الدهر وأحداثه ، ونكباته ، ومصائبه ، وفجعاته ، والتسلي عن الهموم ، بماء الكروم ، شعرٌ كثير ؛ فممّا يتعلّق منه بذكر الشيب قول ابن الرومي : الطويل :
سأعْرِض عَمّنْ أَغرَضَ الدهرُ دونهُ . . . وأشربها صِرْفاً وإن لامَ لُوَّمُ
فإني رأيت الكأس أكرَمَ خُلَّةً . . . وَفَتْ لي ورأسي بالمشيب مُعَمَّمُ
وصَلْتُ فلم تَبْخَلْ عليَّ بوصْلِها . . . وقد بخِلَتْ بالوصلِ عنّيَ تكْتُم
ومَنْ صارمَ اللذات إنْ خان بعضها . . . لِيُرْغِمَ دهراً ساءهُ فهو أرغم
أمِنْ بعد مَثْوَى المرءِ في بَطْن أُمِّهِ . . . إلى ضيق مَثْوَاه من القبر يَسْلَم
ولم يَبْقَ بين الضيق والضيق فرجة . . . أبى الله إن الله بالعبد أرحم
وقال العَطوي : الخفيف :
أعَجِبْتُنَّ إنْ أناخَ بيَ الده . . . ر فَحاكَمْتُهُ إلى الأقداحِ ؟
لا ترَدّ الهمُوم يُنْشِبْنَ أظفا . . . راً حِدَاداً بِشُرْبِ ماءِ قراحِ
أحمد الله ، صارت الكأس تَأْسُو . . . دون إخوانيَ الثقاتِ جراحي
وقال ابن الرومي ونحله بشاراً : الطويل :
وقد كنت ذا حال أُطِيلُ ادِّكارها . . . وإرعاءها قلبي لأهتز معجبا
فبُذِّلْت حالاً غير هاتيك ، غايتي . . . تناسيَّ ذِكراها لِتَغْرُبَ مَغْرِبا
وكُنْتُ أُدير الكأس مَلأى رَوِيَّةً . . . لأجْذَلَ مسروراً بها ولأطْرَبَا
وكانت مزيداً في سروري ومُتْعَتِي . . . فَأَضْحَتْ مَفَرّاً من همومي ومَهْربَا
وهذا كما قال في قَيْنَة وإن لم يكن من هذا الباب : البسيط :
شاهدت في بعض ما شاهدتُ مُسْمِعَةً . . . كأنّما يَوْمُها يومان في يومِ
ظللْتُ أشربُ بالأرطال ، لا طَرَباً . . . بذاك ، بل طلباً للسُّكْرِ والنومِومن مليح شعره في الشيب : الطويل :
ومِنْ نكد الدنيا إذا ما تنكَّرتْأمورٌ وإن عدّت صِغَاراً عظائمُ
إذا رُمْتُ بالمنقاش نتفَ أَشَاهبي . . . أُتِيح له من بينهنّ الأداهِمُ
يرَوِّعُ منقاشي نجوم مسائحي . . . وهُنَ لعَيْني طالعاتٌ نَوَاجِمُ
وقال أبو الفتح كشاجم : الطويل :
أخي ، قُمْ فعاوِنّي على نَتْفِ شَيْبَةٍ . . . فإنيَ منها في عذاب وفي حَرْبِ
إذا ما مضى المنقلاش يأتِي بها أَتَتْ . . . وقد أخذت من دونها جارة الجَنْبِ
كجانٍ على السلطان يُجْزَى بذَنْبِهِ . . . تَعَلَّقَ بالجيرانِ من شِدَّةِ الرُّعْبِ
وقد وشَّحت هذا الكتاب بقطع مختارة في الشيب والشباب ، وجئت ههنا بجملة ، وهذا النوغ أعظم من أن نحيط به اختياراً ، أو نبلغه اختباراً .
شذور لأهل العصر في وصف الشيب ومدحه وذمّه
ذَوَى غُصْنُ شبابه . بَدَت في رأسه طلائع المشيب ، أخذ الشيب بعِنَان شبابه ، غزاه الشَّيْب بجيوشه ، طَرَّز الشيبُ شبابَهُ ، أَقْمَرَ ليلُ شبابه ، أَلجمه بلجامه ، وقاده بزِمامه ، علاه غبارُ وقائع الدهرِ . وزن هذا لابن المعتز : الكامل :
هذا غبارُ وقائعِ الدهرِ بينا هو راقد في ليل الشباب ، أيقظه صبحُ المشيب . طوى مراحلَ الشباب ، وأنفق عمره بغير حساب . جاوز من الشباب مَرَاحل ، ووردَ من الشَّيبِ مَنَاهل . فَلَّ الدهرُ شبَا شبابه ، ومَحا محاسنَ رُوَائه . قضى باكورة الشباب ، وأنْفَقَ نَضَارَةَ الزمان . أَخْلَق بُرْدَة الصِّبا ، ونهاه النهي عن الهوى . طار غرابُ شبابه . انتهى شبابه ، وشاب أترابه . استبدل بالأدهم الأبْلَقَ ، وبالغراب العَقْعق 0 انتهى إلى أَشُدِّ الكهل ، واستعاض من حَلَك الغراب بقادمةِ النَّسر . افترّ عن نَابِ القارح ، وقرع نَاجِذَ الحلم ، وارتاضَ بلِجام الدَّهرِ ، وأدرك عصر الْحُنكة وأوان المسكة . جمع قوَّة الشباب إلى وَقَار المشيب . أسفر صبحالمشيب ، وعَلَتْه أبهة الكِبَر . خرج عن حد الحداثة ؛ وارتفع عن غِرَّةِ الغَرَارة . نَفَض حِبَرَةَ الصبا ، ووَلى داعية الحجا . لما قام له الشيب مقام النصيح ، عدل عن علائق الحداثة بتَوْبة نَصُوح . الشيب حِلية العقل وشِيمة الوقار . الشيب زبدةٌ مخَضَتها الأيام ، وفِضّة سبكتها التجارب . سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب . عصى شياطين الشباب ، وأطاع ملائكة الشَّيْب . الشيخ يقول عن عيِان ، والشاب عن سَماع . في الشيب استحكام الوَقَار وتناهي الجلال ، ومِيسَم التجرِبة ، وشاهد الحنكة . في الشيب مقدَّمَة الموت والهَرَم ، والمؤْذِن بالخَرَف ، والقائد للموت . الشيبُ رسول المنية . الشيب عنوَان الفساد . والموتُ ساحل ، والشيبُ سفينة تقرب من الساحل . صفا فلان على طول العمر ، صفاء التِّبْر على شغب الجمر . لقد تناهت به الأيامُ تهذيباً وتحليماً ، وتناهت به السّن تجريبَاً وتحنيكاً . قد وعظه الشَّيْبُ بوَخْطِه ، وخَبطه السنُّ بابنه وسِبطه ، قد تضاعفت عقودُ عمره ، وأخذت الأيام من جسمه . وجَد مَسّ الكبر ، ولحقه ضَعْفُ الشيخوخة ، وأساء إليه أثر السنّ ، واعتراض الوهن . هو من ذوي الأسنان العالية ، والصحبَة للأيام الخالية . هو هِمُّ هَرِم ، قد أخذ الزمانُ من عَقْله ، كما أخذ من عمره . ثَلَمَه الدهر ثَلْمَ الإناء ، وتركه كذِي الغارب المنكوب ، والسَّنام المجبوب . رماه من قوسه الكِبَر . أُريق ماءُ شبابه ، واستشنَّ أديمه . كسر الزمانُ جناحَه ، ونقض مِرَّته . طوى الدهر منه ما نشر ، وقيّده الكبر ، يرسف رسَفَان المقيّد ، هو شيخ مجتثّ الجثّة ، واهِي المُنَّة ، مغلول القوة ومفلول الفتوة ، ثقُلَت عليه الحركة ؟ واختلفت إليه رسل المنية . ما هو إلا شمسُ العصر ، على القصر . أركانه قد وهَتْ ، ومدَّتُه قد تناهَتْ . هل بعد الغاية منزلة ، أو بَعْدَ الشيب سوى الموت مرحلة ؟ ما الذي يُرْجَى ممن كان مثله في تعاجز الْخُطا ، وتخاذُل ، القُوَى ، وتَدَاني المدى ، والتوجّه إلى الدار الأُخرى ، أبعد دِقَّة العظم ، ورقَّة الجلد ، وضَعْف الحسّ ، وتخاذل الأعضاء ، وتفاوت الاعتدال ، والقُرْب من الزوال . والذي بقي منه ذَماء يَرقُبه المنُون بمَرْصد ، وحُشاشة هي هَامَة اليوم أو غد . قد خَلق عمره ، وانطوى عيشُه ، وبلغ ساحلَ الحياة ، ووقف على ثَنِيَّةِ الوداع ، وأشرف على دار المقام ، فلم يبق إلا أنفاسٌ معدودة ، وحركات محصورة . نَضب غديرُ شَبابه .فقر لغير واحد في المشيب
قيس بن عاصم : الشيبُ خطام المنية . أكثم بن صيفي : المَشِيب عنوان الموت . الحجاج بن يوسف : الشيب نذير الآخرة . غيره : الشيبُ نومُ الموت . العتبي : الشيبُ مجمع الأمراض . العتابي : الشيبُ نذير المنيّة . محمود الوراق : الشيبُ أحد الميتتين . ابن المعتز : الشيبُ أولَ مَواعد الفَناء . وقال : عظِّم الكبير فإنه عَرف الله قَبلك ، وارحَم الصغير فإنه أغرُّ بالدنيا منك . غيره : الشيب قِنَاعُ الموتِ . الشيب غَمامٌ قَطْرُه الغموم . الشيبُ قَذَى عين الشباب .
نظر سليمان بن وهب في المرآة فرأى الشيب ، فقال : عَيْبٌ لا عدمناه .
وقيل لأبي العيناء : كيف أصبحت . فقال : في داء يتمنّاه الناس .
ابن المعتز : المديد :
أنكَرَتْ شرّ مشيبي ووَلَّتْ . . . بدموع في الرداءِ سُجُومِ
اعذري يا شرّ شيبتي بهمّ . . . إنَّ شيبَ الرأسِ نَوْرُ الهمومِ
مسلم بن الوليد : البسيط :
الشَيْبُ كرهٌ ، وكُرهٌ أن أفارقُه . . . أعْجِبْ لشيء على البغضاء مَوْدُودِ
يَمْضِي الشبابُ فيأتي بعده بدلٌ . . . والشيبُ يذهبُ مفقوداً بمفقودِ
وقال آخر : مخلع البسيط : لو أنَ عُمْرَ الفتى حِسَابٌ . . . كان له شَيْبُه فَذَالِكْ
وقال بعضهم : الطويل :
ولي صاحب ما كنتُ أَهوى اقترابَهُ . . . فلمَّا التقيْنا كان أكْرَمَ صَاحبِ
عزيزٌ علينا أنْ يفارقَ بعدما . . . تمنَيتُ دهراً أن يبهونَ مُجَانبي
يعني الشيب ، يقول : لم أكن أشتهي اقترابه ، فلما حلّ كان أكرم صاحب ، عزيز عليَّ مجانبته ، لأنه لا يجانَبُ إلا بالموت .
أبو إسحاق الصابي : مجزوء الكامل :
والعمرُ مثلُ الكاس ير . . . سب في أواخرها القَذَىأبو الفضل الميكالي : البسيط :
أمْتِعْ شبابك من لَهْوٍ ومن طرَب . . . ولا تُصِخْ لملامٍ سَمْعَ مُكتَرِثِ
فخير عُمْرِ الفتى رَيْعَانُ جدَّتهِ . . . والعمرُ من فضة والشيبُ من خبَثِ
في ذكر الخضاب : الخضاب أحدُ الشبابين .
عبدان الأصبهاني : الخفيف :
في مشيبي شمَاتةٌ لعدَاتي . . . وهو ناعٍ منغِّصٌ لي حياتي
ويعيب الخِضابَ قَوْمٌ ، وفيهِ . . . ليَ أنسٌ إلى حضور وَفاتي
لا ومَنْ يعلم السرائرَ إني . . . ما تطلّبت خَلّة الغانيات
إنما رُمْتُ أنْ يُغَيَّبَ عنِّي . . . ما تُرِينيه كلَّ يومٍ مِرَاتي
وهو ناعٍ إليَ نفسي ، ومَن ذا . . . سرّهُ أن يرى وجوهَ النعَاة ؟
ابن المعتز : الطويل :
رأت شيبةً قد كُنتُ أغفلْتُ قصَّها . . . ولم تتعهَّدها أكُفّ الْخَواضبِ
فقالت : أَشْيَبٌ ما أرى ؟ قلت : شامةٌ . . . فقالت : لقد شانتكَ عند الحبائب
الأمير أبو الفضل الميكالي : الخفيف :
قد . أبى لي خِضَابَ شَيبي فؤاد . . . فيه وَجدٌ بكتم ِسِرِّي وَلوعُ
خافَ أن يحدث الخضابُ نُصُولاً . . . ونصولُ الخِضاب شيءٌ بَدِيعُ
وقالوا : الخضاب من شهود الزور ، والخضاب حدادُ المشيب ، إن خضب الشعر ، فكيف يخضب الكِبَر . الخضاب كفن الشيب .
ابن الرومي : الخفيف :
ليس تُغْنِي شهادةُ الشَّعَر الأس . . . ود شيئاً إذا استشنَّ الأديمُ
أفيرجو مُسَوّدٌ أن يُزَكَّى . . . شاهد الخضب ؟ أين ضلَّ الحليمُ ؟
لا لعمري ما لِلخِضاب لدَى الأبْ . . . صار إلا التكذيبُ والتأثيمُيدَّعي للكبير شَرْخَ شبابٍ . . . قد تولّى به الشبابُ القديمُ
والسوادُ الدَّعِيُّ أوْجَب تكذي . . . باً إذا كذّب السوادُ الصميمُ
وله أيضاً في هذا المعنى : الطويل :
كما لو أردْنا أنْ نُحِيلَ شبابنا . . . مَشيباً ولم يَأْتِ المشيبُ تعذَّرا
كذلك يُعْنينا إحالةُ شيبنا . . . شباباً إذا ثوبُ الشباب تحسَّرا
أَبى الله تدبير ابن آدم نفسه . . . وأنى يكون العبد إلا مُدَبَّرا ؟
وقال : الكامل :
قل للمسوَّد حين شيب : هكذا . . . غِشُّ الغَوَانِي في الهوَى إيّاكا
كَذَبَ الغوانِيَ في سوادِ عذارِهِ . . . فكذبنه في ودهنّ كَذَاكا
هيهات غَرّك أن يُقَال غرائرٌ . . . أيّ الدواهي غيرهنّ دَهَاكا ؟
لا تحسبن خَدَعْتَهُنّ بحيلةٍ . . . بل أَنْتَ ويحك خادَعَتْكَ مُنَاكا
وقال أبو الطيب المتنبي : البسيط :
ومِنْ هَوَى كلِّ منْ ليستْ مُموّهة . . . تركْتُ لونَ مَشِيبي غيرَ مخضوب
ومِنْ هوى الصِّدْقِ في قولي وعادتهِ . . . رغِبتُ عن شَعَرٍ في الوجهِ مكذوب
ليتَ الحوادثَ باعَتْنِي الذي أخذَتْ . . . مِنِي بحِلْمِي الذي أعطتْ وتجريبي
فما الحداثَةُ مِنْ حِلْمٍ بمانعةٍ . . . قد يوجد الحلْم في الشبَّانِ والشيبِ
غيره : البسيط :
يا خاضبَ الشيب بالحنَّاء يَسْتُرهُ . . . سَلِ الإلهَ له سِتْراً من النارِ
وقد سلك أبو القاسم مسلكاً طريفاً قوله : الكامل :
أَفْدِي المغاضبة التي أتْبَعْتُهَا . . . نَفَساً يشيع عِيسَها إذْ آبا
والله لولا إنْ يُسَفِّهني الصبا . . . ويقولَ بعضُ القائلين تَصَابَى لكسرت دُملُجَها لضِيق عِنَاقهِ . . . ولثَمْتُ من فِيهَا البرودَ رُضَابا
بِنتُم فلولا أن أغير لمّتي . . . عتباً وألقاكم عليَّ غضابالخضبت شَيْباً في عِذَاري كامناً . . . ومحوتُ مَحْوَ النّقْس منه شَبابا
وخلعته خَلْعَ النجاد مذمماً . . . واعتضت من جِلبابه جِلبَابا
ولبست مبْيَضَّ الحِدَاد عليكم . . . لو أَنني أَجِدُ البياض خِضَابا
وإذا أردتَ إلى المشيب وفادةً . . . فاجْعل إليه مطيّك الأَحْقَابَا
فلتأخذنَّ من الزمان حمامة . . . ولتدفعنَّ إلى الزمانِ غُرَابا
ماذا أَقول لِرَيب دَهْرٍ خائن . . . جَمَع العِدَاةَ وفرَّقَ الأحْبَابا
من أخبار الوليد بن يزيد
وقيل للوليد بن يزيد بن عبد الملك لَمَّا غلبت عليه لذَّاته ، وملكته شهواته : يا أميرَ المؤمنين ، إن الرعيّة ضاعت بتضييعك أَمْرَها ، وتركك ما يجب عليك من مصْلحتها . فقال : ما الذي أَغفلْناه من واجب حقّها ، وأسقطناه من مفروض ذمامها ؟ أَمَا كَرمُنا دائم ، ومعروفُنا شامل ، وسلطانُنا قائم ؟ وإنما لنا ما نحن فيه ، بُسِط لنا في النعمة ، ومُكَن لَنا في المكرمة ، وأذلّت لنا الأمة ، ومُذَ لنا في الحُرمة ، فإن تركتُ ما به وسع ، وامتنعت عمّا به أنعم ، كنت أنا المزيل لنعمتي بما لا ينال الرعيّةَ ضرّه ، ولا يؤُودُهم ثِقْلُه . يا حاجب ، لا تَأْذَنْ لأحد في الكلام .
وقال عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد ، وكان خاصّاً به : يا أمير المؤمنين ، أنطقتني بالأُنْس ، وأنا أَسكت بالهَيْبَة ، وأَراك تأمرنا بأَشياء أنا أخافُها عليك ، أفأَسكت مطيعاً أم أقول مشفقاً ؟ قال : كل مقبولٌ منك ، معلوم فيه ثقتك ، ولله فينا عِلْمُ غيب نحن صائرون إليه وتعود فتقول : فقتل الوليد بعد ذلك بشهر .
الحجاج وأهل العراق
وقال عبد الملك بن مَرْوان للحجاج : إني استعملتك على العراق ، فاخْرُج إليها كَمِيشَ الإزار ، شديد الغِرَار ، قَليل العثار ، مُنْطَوِي الخصيلة ، قَلِيل الثميلة ، غرار النوم ، طويل اليوم ، واضغط الكوفة ضَغْطة تَحْبِق منها البصرة .وشكا الحجاجُ يوماً سوءَ طاعةِ أهل العراق ، وسقم مذهبهم ، وسخط طريقتهم ، فقال له جامع المحاربي ؛ أَما إنهم لْو أَحبّوك لأطاعوك ، على أنهم ما شنِئُوك لبلدك ، ولا لذاتِ يَدِك ، إلا لِمَا نَقَمُوه من أفعالك ؛ فدَع ما يُبعِدهم عنك إلى ما يدنيهم منك ، والتمس العافية ممن دونك تُعْطَها ممن فوقك ، وليكن إيقاعك بعد وعيدك ، ووعيدُك بعد وَعْدك ثلاثاً .
فقال له الحجاجُ : واللّه ما أَرى أن أردّ بني اللَخناء إلى طاعتي إلا بالسيف . فقال جامع : أيها الأمير ، إنّ السيف إذا لاقى السيفَ ذهب الخيارُ . قال الحجاج : الخيارُ يومئذ لله . قال جامع : أجل ، ولكن لا ندري لمن يجعله اللّه . فغضب الحجاج وقال : يا هَنَاه ، إنك من محارب ، فقال جامع : الطويل :
وللحرب سُمِّينا وكئا محارباً . . . إذا ما القنَا أَمْسَى من الطعن أحمرا
فقال له الحجاج : والله لقد هممتُ أن أَخْلع لسانك ، فأَضربَ به وجهك . فقال جامع : إن صَدَقْناك أغضبْناك ، وإن كذَبْناك أغْضبَنَا اللّه . فقال الحجاج : أجل ، وسكن سلطانه ، وشغل ببعض الأمر ، وخرج جامع وانسلَّ من صفوف الناس ، وانحاز إلى جبل العراق .
وكان جامعِ لَسِناً مُفَوَّهاً ، وهو الذي يقولُ للحجاج حين بنى واسطاً : بَنَيْتَها في غير بَلدك ، وأَورثْتَها غيْرَ ولدك .
وكان الحجاجُ من الفصحاء البلغاء ، ويقال : ما رُئي حضَرِيّ أَفْصح من الحجاج ومن الحسن البصري . وكان يحبُّ أهل الجهارَة والبلاغة ، ويؤثرهم ويقربهم .
ولما دخل أيوب بن القرَّية على الحجاج - وكان فيمن أُسر من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي - قال له : ما أعددتَ لهذا الموقف ؟ قال : ثلاثة حروف ، كأنها ركب وُقوف : دُنْيا ، وآخرة ، ومعروف .
فقال له الحجاج : بئسما مَنَيْتَ به نفسك يا ابْنَ القرّية ، أتراني ممن تخدعُه بكلامك وخُطبك ؟ والله لأنت أقربُ إلى الآخرة من موضع نَعْلي هذه .
قال : أقِلْني عَثْرتي ، وأَسِغْني رِيقي ، فإنه لا بد للجواد من كَبْوة ، والسيف من نَبْوة ، والحليم من صَبْوَة . قال : أنت إلى القبر أقربُ منك إلى العفو ، ألستَ القائل وأنت تحرض حِزْبَ الشيطان ، وعدو الرحمن : تغدُّوا بالحجاج قبل أن يتعشى بكم ؟ وقد رُويت هذه اللفظة للغضبان بن القبعثرى . ثم قدمه فضرب عنقه .قال الخُرَيْمي لأبي دلف وأخذه من قول ابن القّرية : المتقارب :
له كَلِمٌ فيك معقولةٌ . . . إزاءَ القلوب كرَكْب وقوفْ
وبعث الحجاجُ إلى عامله بالبصرة : اخْتَرْ لِي عشَرة من عندك ، فاختار رجالاً فيهم كثير بن أَبي كثير ، وكان عربيّاً فصيحاً ، فقال كثير : ما أراني أفْلِتُ من يد الحجاج إلا باللَّحْن ، فلمّا دخلْنا عليه دعاني فقال : ما اسمُك ؛ فقلت : كثير ، قال : ابن مَنْ ؟ فقلت في نفسي : إن قلت ابن أبي كثير لم آمن أن يتجاوَزَها ، قلت : ابن أبا كثير ، فقال : أَعْزِبْ ، لعنك الله ولعن مَنْ بعث معك .
فقر في المديح
وقال النابغة الذبياني يمدحُ آل جَفْنَة : الطويل :
ولله عيناَ من رأى أَهْلَ قُبةٍ . . . أَضرَّ بمن عادى وأكثر نافعا
وأَعْظَم أحلاماً وأكثر سيّداً . . . وأفضل مشفوعاً إليه وشَافِعا
متى تَلْقَهُم لا تَلْقَ للبيت عورة . . . فلا الضيف ممنوعاً ولا الجارُ ضَائِعا
وأنشد محمد بن سلام الجمحيّ للنابغة الجعدي : الطويل :
فتى كَمُلَتْ أخلاقُه غيرَ أنهُ . . . جوادّ فما يُبْقي من المال باقيا
فتى تمّ فيه ما يَسُرُّ صديقَهُ . . . على أنَ فيه ما يسوءُ الأعاديا
أشمّ طويل الساعدين شَمَرْدل . . . إذا لم يَرُحْ للمجد أصبح غاديا
ومن حُرِّ المدح وجيّد الشعر قول الحطيئة : الطويل :
تزور امْرَأً يُعْطِي على الحمدِ ماله . . . ومَن يُعْطِ أثمانَ المحامدِ يُحْمَدِ
يَرى البخلَ لا يُبْقِي على المرء ماله . . . ويعلم أنّ المرءَ غيرُ مخلَدِ
كَسُوبٌ ومِتلافٌ إذا ما سألتهُ . . . تهلَلَ واهتزَّ اهتزازَ المهنَّدِ
متى تأتِه تَعْشُو إلى ضوء ناره . . . تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خَيْرُ مُوقدِ
وسمع عمر بن الخطاب ، رضي الله تعالى عنه ، هذا البيت فقال : ذاك رسول اللّه ،( صلى الله عليه وسلم ) ، وقوله : الطويل :
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتُها . . . وإن غضبوا جاء الحفيظةُ والجِدُّ
أقِلُّوا عليهم لا أَباً لأبيكُم . . . من اللومِ أوسُدّوا المكانَ الذي سَدُّوا
أولئك قومٌ إن بَنَوْا أحسنوا البنا . . . وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شَدُّوا
وإن كانت النعماءُ فيهم جَزَوْا بها . . . وإن أنعموا لا كدَّرُوها ولا كَدُّوا
مَطَاعِين في الهيجا مَكَاشِيفُ للدجَى . . . بَنَى لهمُ آباؤهم وبَنَى الجَدُّ
وتعذلني أبناءُ سَعْدٍ عليهمُ . . . وما قلت إلاَّ بالذي عَلِمَتْ سَعْدُ
وقال منصور النمري : الطويل :
ترى الخيل يوم الحرب يَظْمَأن تحتهُ . . . وَيرْوَى القَنَا في كَفِّهِ والمَنَاصِلُ
حلالٌ لأطْرَاف الأسِنّة نَحْرُهُ . . . حرامٌ عليها منه مَتْنٌ وكاهِلُ
وقال آخر : الطويل :
فتًى دهره شَطْرَانِ فيما يَنُوبهُ . . . قفي بَأْسِه شطرٌ وفي جودِه شَطْرُ
فلا مِنْ بُغَاة الخير في عينه قذى . . . ولا مِنْ زئير الحرب في أُذْنِه وَقْرُ
الشارب
وقال بعضُ الظرفاء : الشرابُ أولُ الخراب ، ومِفْتَاح كل باب ، يَمْحَق الأموال ، ويُذهِبُ الجمال ، ويَهْدِم المروءة ، ويُوهِنُ القوة ، ويَضع الشريف ، ويُهِين الظريف ، ويُذِلُ العزيز ، ويفلس التجار ، ويَهْتِك الأستار ، ويورث الشَّنَار .
وقال يزْيد بن محمد المهلبي : الطويل :
لعمرُك ما يُحْصَى على الكأس شَرُّها . . . وإن كان فيها لَذَةٌ ورَخاءُ
مراراً تُريك الغَيَّ رشداً ، وتارةً . . . تخيّل أن المحسنين أساءواوأن الصديق الماحض الودّ مبغِضٌ . . . وأنّ مديحَ المادحين هِجَاء وجرَّبت إخوان النبيذ فقلما . . . يدومُ لإخوان النبيذ إخاء
التطفيل
عوتِب طفيلي على التطفيل فقال : ولله ما بُنِيت المنازلُ إلا لِتُدْخَل ، ولا نصبت الموائد إلا لتُؤكل ، وإني لأجمع فيها خلالاً ؛ أدخل مُجالِساً ، وأَقعد مؤانساً ، وأنبسط وإن كان ربُّ الدار عابساً ؛ ولا أتكلّف مَغْرَماً ، ولا أنفِق درهماً ، ولا أتعب خادماً .
وقال ابن الدراج الطفيلي لأصحابه : لا يهولنَّكم إغلاقُ الباب ، ولا شدّة الحِجاب ، وسوء الجواب ، وعبوس البواب ، ولا تحذير الغراب ، ولا منابذة الألقاب ؛ فإنَّ ذلك صائر بكم إلى محمول النوال ، ومُغِنٍ لكم عن ذُلِّ السؤال ، واحتملوا اللَّكْزَة المُوهِنة ، واللَّطْمَة المزمنة ، في جنب الظفر بالبُغْيَة ؟ والدرَك للأُمنية ، والزَموا الطَوْزَجَة للمعاشرين ، والخِفّة للواردين والصادرين ، والتملّق للمُلْهين والمطربين ، والبشاشة للخادمين والموكلين ؛ فإذا وصلتم إلى مُرَادكم فكلُوا محتكرين ، وادِّخروا لغؤكم مجتهدين ؛ فإنكم أحقّ بالطعام ممن دعِي إليه ، وأولَى به ممن وُضع له ، فكونوا لوقته حافظين ، وفي طَلبه مُشَمّرين ، واذكروا قول أبي نواس : الطويل :
لِنَخمس مالَ الله من كلِّ فاجر . . . وفِي بِطْنَةٍ للطيِّبَاتِ أَكُولِ
هذا يقوله أبو بواس في أبيات تُسْتَنْدَر كلُّها ، ويستظرف جلُّهَا ، وهي
وخَيْمةِ نَاطورٍ برَأسِ مُنِيفةٍ . . . تَهُمُّ يدَا مَنْ رامَها بِزَليل
إذا عارضتها الشمسُ فاءت ظلالُها . . . وإن وَاجهَتْها آذنَتْ بدُخولِ
حطَطْناَ بها الأثْقالَ فَلَّ هجيرةٍ . . . عَبُورِيَّةٍ تُذْكى بغَيْرِ فَتِيل
تأنَّت قليلا ًثم فاءَتْ بمَذْقَةٍ . . . من الظلِّ في رثِّ الإناء ضَئيلِكأنَّا لدَيْها بين عِطفَيْ نَعَامةٍ . . . جَفَا زَوْرُها عن مَبْرَكٍ ومَقِيل
حَلَبت لأصحابي بها دِرَّةَ الصِّبا . . . بصفراءَ من ماءِ الكروم شَمُولِ
إذا ما أتت دون اللّهَاةِ من الفتى . . . دعا همُّهُ من صدْرِه برَحِيلِ
فلمّا توافَى الليل جنْحاً من الدُّجى . . . تصابَيْت واستجملتُ غيرَ جميلِ
وأعطيت مَن أهوى الحديثَ كما بَدَا . . . وذلَّلْتُ صَعْباً كان غير ذلول
فغنَّى وقد وَسَّدت يُسرايَ خَدَّه . . . إلا ربما طالبتُ غَيْرَ مُنيلِ
فأنزلْتُ حاجاتي بحِقْوَي مُساعدي . . . وإن كان أدنى صاحبٍ ، وخليل
فأصبحت أَلحَى السُكْرَ والسكرُ محسنٌ . . . إلا ربَّ إحسان عليكَ ثقيل
كفى حَزَناً أنّ الجواد مقتَّرٌ . . . عليه ، ولا معروفَ عند بخيل
سأبغي الغِنى إما وزيرَ خليفة . . . يقومُ سواءً أو مخيفَ سبيلِ
بكل فتًى لا يُسْتَطارُ فؤادهُ . . . إذا نوَّه الزحْفَانِ باسم قتيل
لنَخْمُس مالَ الله من كل فاجرٍ . . . وذي بِطْنَةٍ للطيبات أكُول
ألم تر أنَّ المال عَوْنٌ على الثُقى . . . ولَيْسَ جَوَادٌ مُعْدِمٌ كبَخِيلِ
ألفاظ لأهل العصر في صفة الطفيليين والأكلة وغيرهم
شيطان مَعدته رَجِيم ، وسلطانها ظلوم . هو آكَلُ من النار ، وأشرَبُ من الرمل . لو أكل الفيلَ ما كفَاه ، ولو شرب النيلَ ما أَرْوَاه ، يجوبُ البلاد ، حتى يقع على جَفْنَة جَوَاد . يرى ركوبَ البريد ، في حضور الثّريد أصابعه ألزم للشَواء ، من سَفُّود الشَّوّاء وأنامله كالشبكة ، فى صيد السمكة . هو أجْوَعُ من ذئب مُعْتَس بين أعاريب .العيون قد تقلّبت ، والأكباد قد تلهبت ، والأفواه قد تحلبت . امتدت إلى الخوان الأعناق ، واحتدت نحوه الأحداق ، وتحلّبت له الأشداق .
وصف طائر
سأل المهدي صباح بن خاقان عن طائر له جاء من آفاق الغابة فقال : يا أمير المؤمنين ، لو لم يَبنْ بحسن الصفة لَبَانَ بحسن الصورة . قال : صِفْه لي . قال : نعم ، يا أمير المؤمنين ، قُدَّ قَدَّ الْجَلَم ، وقوِّم تقويم القلَم ، ينظر من جَمْرَتين ، ويلفظ بدرَّتين ، ويمشي على عقيقتين ، تكفيه الحبَّة ، وتُرويه الغُبَّة ، إن كان في قفص فَلَقه ، أو تحت ثوب خرقه ، إذا أقبل فَدَيْنَاه ، وإذا أدبر حميناه .
من أخبار المهدي
: ودخل عبد الله بن مصعب الزبيري على المهدي ، فقال : ويحك ب زبيري ؛ دخَلتُ على الخيزران ، فلمّا قامت ِلتُصلِح من شأنها نظرت إلى حُسنة فقلت : يا أمير المؤمنين ؛ أدركك في ذلك ما أدرك المخزومي حيث قال : الخفيف : ؟ بينما نحنُ بالبَلاَكِثِ بالْقا - عِ سِرَاعاً والعِيسُ تَهْوي هُوِيّا
خَطَرتْ خَطْرَةٌ على القلب من ذك . . . راكِ وَهْناً فما استطَعْتُ مُضِيا
قلتُ : لبَّيكِ إذ دعاني لكِ الشَوْ . . . قُ وللحادِيَيْنِ : كُرَّا المُطِيَّا
فأمر فرفعت الستور عن حُسْنة .
ثم قال لي : يا زبيري ، واسوأتاه من الخيزران ثم انثنى راجعاً إليها فقلت : يا أمير المؤمنين ، أدركك في هذا ما أدرك جميلاً حيث يقول : الطويل :
وأنْتِ التى حَبّبْتِ شَغْباً إلى بَداً . . . إليَّ وأوطاني بلادٌ سواهماحَلَلْتِ بهذاحَلَّةً ثم حَلَّةً . . . بهذا فطاب الوادِيَانِ كِلاهُمَا
فدخل على الخيزران ، فما لبث أَنْ خرج ، قال الزبيري : فدخلت ، فقال : أنشدني فأنشدته لصخر بن الجعد : الطويل :
هنيئاً لكأس جَذّها الحيلَ بعدما . . . عقدنا لكأس موثِقاً لا نخونها
وإشماتُهَا الأعداء لما تألَّبوا . . . حواليَّ واشْتَدَّتْ عَلَيَّ ضغونها
فإن تصبحي وكَّلْتِ عينيّ بالبكا . . . وأشمتّ أعدائي فقرَّت عيونها
فإن حراماً أن أخونك ما دعا . . . بيَلْيَل قُمريُّ الحمامِ وجُونُها
وما طرد الليلُ النهار ، وما دَعَتْ . . . على فَنَنٍ وَرْقَاء شاكٍ رَنينها
فأمر لي على كل بيت بألف دينار ، وكانت الخيزران وحسنة أحظى النساء عند المهدي .
وصف الغلام
ووصف اليوسفي غلاماً فقال : كان يعرفُ المراد باللَحْظ ، كما يعرفه باللَفْظ ، ويُعايِنُ في الناظر ، ما يجري في الخاطر ، أقرب إلى داعيه ، من يد مُعَاطِيهِ ؛ حديدُ الذهن ، ثاقبُ الفهم ، خفيفُ الجسم ، يُغنيك عن الملامة ، ولا يحوجك إلى الاستزادة .
وقال أبو نواس : الطويل :
ومنتظرٍ رَجْعَ الحديث بِطَرْفِهِ . . . إذا ما انثنى من لينه فَضَح الغُصْنَا
إذا جعل اللحْظَ الخفيّ كلامَهُ . . . جعلت له عيني لتفهمه أُذْنَا
وقال : الطويل :
وإني لطَرْفِ العَيْن بالعَيْنِ زَاجِر . . . فقد كدْتُ لا يَخفَى عليَّ ضميرُ
وقد طرق هذا المعنى وإن لم يكن منه من قال : المتقارب :
بَلَوتُ أخِلَّاءَ هذا الزمان . . . فأَقْلَلْتُ بالهَجر منهم نَصِيبيوكلُّهُمُ إن تَصفَحْته . . . صديقُ العِيَان عدوُّ المغيبِ
تفقّدْ مساقِطَ لَحْظِ المريب . . . فإنّ العُيونَ وجوهُ القلوبِ
وهو كقول المهدي : الطويل :
ومطّلع من نفسه ما يَسُرُهُ . . . عليه من اللحظ الخفيّ دليلُ
إذا القلبُ لم يُبْدِ الذي في ضميرِه . . . ففي اللَّحْظ والألفاظ منه رَسُولُ
بين خالد بن صفوان وعلي بن الجهم
ودخل خالد بن صَفْوان عَلى عليّ بن الجهم بن أبي حذيفة ، فألفاه يريد الركوب ، فقُرِّب إليه حمار ليركبه ، فقال خالد : أما علمت أن العيْر عار ، والحِمَار شَنار ، مُنكَر الصوت ، قبيح الفَوْت ، مُتَزلِّج في الضَّحْل ، مرتطم في الوحل ، ليس بركوبه فحل ، ولا بمطيّة رَحْل ، راكبهُ مقرف ، ومسايره مُشرف . فاستوحش أبن أبي حذيفة من ركوب الحمار ونزل عنه ، وركب فرساً ودُفع الحمار إلى خالد فركبه ، فقال له : ويحك يا خالد أتَنْهي عن شيء وتأتي مثله ؟ فقال : أصلحك اللّه عَيْر من بنات الكُرْبال ، واضح السربال ، مختلج القوائم ، يحمل الرَّجْلَة ، ويبلغ العقبة ، ويمنعني أن أكونَ جَباراً عنيداً ، إن لم أعترف بمكاني فقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين .
تنقل الزمان
قال ابن دأب : خرجت مع بعض الأمراء في سفر إلى الشام ، فمرَّ بي رجل كنت أعرفه حَسَنَ الحالِ من أصحاب الأموال الظاهرة في حال رثّة ، فسلّم عليّ فقلت : ما الذي غيَّر حالك . فقال : تنقلُ الزمان ، وكَرُّ الحِدْثان ؛ فآثرت الضرْب في البُلْدَان ، والبُعْدَ عن المعارف والخُلاّنِ ، وقد كان الأمير الذي أنت معه صديقاً لي فاخترت البُعْدَ من الأشكال ،حين حَصَّني الإقلال ، واستعملت قول الشاعر : الطويل :
سَأُعْمِل نَصَّ العِيسِ حتى يكفّنِي . . . غنى المال يوماً أو غِنَى الحَدَثَانِ
فَللمَوتُ خيرٌ من حياة يُرى لهَا . . . على المرءِ في العلياء مَسُّ هَوَانِ
متى يتكلّم يلغَ خكْمُ كلاَمِهِ . . . وإنْ لم يَقُلْ قالوا عَدِيمُ بَيَانِ
كأن الفتى في أهله بورك الفتى . . . بغير لسانٍ ناطق بلسانِ
قال ابن دَأْب : فلمّا اجتمعتَ مع الأمير في المنزل وصفت له الرجل ، فقال لي : ويحك اطلبه حتى أُصلح من حاله ، فطلبته فأَعْوَزَني .
باب الرثاء
وقال أبو الشيص يرثي قتيلاً : الخفيف :
خَتَلَتْهُ المنونُ بَعْدَ اختيالٍ . . . بَيْنَ صَفَّيْنِ مِنْ قنَاَ ونِصَالِ
في رداءٍ من الصَّفيحِ صقيلِ . . . وقميصٍ من الحديد مُذَالِ
وقال حارثة بن بدر الغُداني يرثي زياداً : البسيط :
صَلَّى الإِلهُ على قَبْرٍ وطهَّرَهُ . . . عند الثوبَّة يُسْفَى فَوْقَهُ المُورُتهدي إليه قريشٌ نَعْشَ سَيِّدها . . . فثمَ حَلَّ الندى والعزُّ والخِيرُ
أبا المغيرة ، والدنيا مفجّعة . . . وإنَّ مَنْ غَرَّت الدنيا لمَغْرُور
قد كان عندك للمعروف عَارِفَةٌ . . . وكان عندك لِلنكْرَاء تَنكِيرُ
وكنت تُغْشَى فتُعْطِي المالَ من سَعَةٍ . . . فالآنَ بابُك أمسى وهو مهجور
ولا تلين إذا عوشِرت معتسراً . . . وكان أَمْرَك ما يُوسِرْتَ مَيْسُورُ
لم يَعْرِف الناسُ مذ غيّبْتَ فتْيَتَهُمْ . . . ولم يُجَلِّ ظلاماً عَنْهُمُ نور
فالناس بعدك قد خفّت حلومهمُ . . . كأنما نفَّخَتْ فيها الأعَاصِيرُ
أخذ هذا البيت من قول مهلهل بن ربيعة في أخيه كليب ، وكان إذا انتدى لم تحلّ حَبْوَته ، ولم ينطق أحد إلا مجيباً له ، إجلالاً ومهابة : الكامل :
أنبئت أنَّ النار بعدك أوقدت . . . واستبَّ بعدك ياكليبُ المجلسُ
وتحدّثوا في أمرِ كل عظيمة . . . لو كنت حاضر أَمْرِهم لم يَنْبِسوا
وكان حارثة ذَا بيان وجَهارة وأدب ، وكان شاعراً عالماً بالأخبار والأنساب ، وكان قد غلب على زياد ، وكان حارثة منهوماً في الشراب ، فعُوتب زيادٌ في الاستئثار به ، فقال : كيف أطَّرِح رجلاً يُسايرني مذ دخلت العراق ، ولم يصكُكْ ركابُه ركابي ، ولا تقدَّمني فنظرت إلى قَفَاه ، ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه ، ولا أخذ عليّ الشمس في شتاء قطّ ، ولا الرَّوْح في صيف ، ولا سألته عن باب في العلم إلا قدّرت أنه لا يحسن غيره .
وقال له زياد : من أخطب ؟ أنا أم أنت ؟ فقال : الأمير أخطب إذا تَوَعّد أو وعد ، وبرَق ورَعد ، وأنا أخطبُ في الوفادة ، والثناء ، والتحبير ، وأنا أكْذب إذا خطبت ، وأحشو كلامي بزيادات مليحة ، شهيّة ، والأمير يَقْصد إلى الحقّ ، وميزانِ العدل ، ولا يزيدُ في كلامه ، ولا ينقص منه .
فقال له زياد : قاتلك اللّه ، لقد أجدتَ تخليص صفتي وصفتك . ولمّا مات زياد جفاه عبيدُ الله ابنهُ ، فقال له حارثة : أيها الأمير ، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة ؟ فقال له عبيد اللّه : إن أبا المغيرة بلغ مبلغاً لا يلحقه فيهعيب ، وأنا أنسَب إلى من يغلبُ عليّ ، وأنت تُدِيمُ الشرابَ ، وأنا حديثُ السنّ ؛ فمتى قرَّبتك فظهرت منك رائحة الشراب لم آمَنْ أن يُظَنّ بي ذلك ، فدَع الشراب وكُنْ أول داخل وآخر خارج .
فقال له حارثة : أنا لا أدعه لمن يملك ضرّي ونَفْعي ، أَأَدَعهُ للحال عندك ؟ ولكن صَرّفني في بعض أعمالك . فولاّه سُرَّق من بلاد الأهواز .
وقال أبو الأسود الدؤلي ، وكان صديقاً لحارثة : الطويل :
أحارِ بنَ بَدْرٍ ، قد وَليتَ ولايةً . . . فكنْ جُرَذاً فيها تَخُونُ وتَسْرقُ
ولا تَدَعَنْ للناس شيئاً تصيبه . . . فحظُك مِنْ مُلْكِ العِراقين سُرَّقُ
فما الناسُ إلا قائل فمكذِّبٌ . . . يقول بما يَهْوَى وإمَّا مُصَدِّقُ
يقولون أقوالاً بظنٍّ وتهمة . . . فإن قيل هاتوا حقِّقوا لم يحقَقوا
فقال له حارثة : الطويل :
جزاك إلهُ العرش خَيْرَ جزائهِ . . . فقد قلت معروفاً وأوْصيت كافيا
أمرتَ بشيء لو أمَرْتَ بغيرهِ . . . لألفيتني فيهِ لأَمرك عَاصِيا
وصف امرأة
قال الأصمعي : سمعت امرأة من العرب تصفُ امرأةً وهي تقول : سَطعاء بَضَّةٌ ، بيضاء غضَّة ، عَرْماء رَخْصَة ، قَبَّاء طَفْلة ، تنظر بعينَيْ شادنٍ ظَمآن ، وتبسم عن مُنَوِّر الأقحوان ، في غبّ التّهتَان ، وتشير بأساريع الكُثبَان ، خلقها عميم ، وكَلاَمُها رخيم ، فهي كما قال الشاعر : الرجز :
كأنها في القُمُصِ الرقاق . . . مُخَّة ساق بين كَفَّيْ ساقِ
أعْجَلَها الشاوي عن الإِحراقِووصف أعرابي امرأة يحبّها فقال : هي زينة في الحضور ، وباب من أبواب السُّرور ، ولَذكرها في المغيب ، والبعد من الرقيب ، أشهى إلينا من كل ولد ونسيب ، وبها عرفت فضل الحور العين ، واشتقت بها إليهن يوم الدين .
عود إلى كلام الأعراب
وسئل أعرابي عن سفر أكْدى فيه ، فقال : ما غنمنا إلا ما قَصَرنَا من صلاتنا ، فأمَّا ما أكلته منّا الهواجر ، ولقيَتْه منا الأباعر ، فأمر استخففناه ، لما أمّلناه .
وقال عبد قيس بن خُفَاف البرْجمي لحاتم الطائي ، وقد وَفد عليه في دماء حملها ، قام ببعضها وعجز عن بعض : إني حملت دماء عَوَّلتُ فيها على مالي وآمالي ، فأمَّا مالي فقدَّمته ، وكنتَ أكبرَ آمالي ، فإن تحْمِلْها فكم من حقٍّ قضيت ، وهمّ كفيت ، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك ، ولم آيس من غَدِك .
وقيل لأعرابي : لم لا تَضْرِبُ في البلاد ؟ فقال : يمنعني من ذلك طفل بارك ، ولِصّ سافك ، ثم إني لستُ مع ذلك واثقاً بِنُجْحٍ طَلِبتي ، ولا معتقداً بقضاء حاجتي ، ولا راجياً عطف قرابتيَ ؛ لأني أقْدم على قوم أَطغَاهم الشيطان ، واستمالَهم السلطان ، وساعدهم الزّمان ، وأسكرتْهُم حداثة الأسنان .
وخرج المهدي بعد هَدْأَة من الليل يطوفُ بالبيت ، فسمع أعرابية من جانب المسجد تقول : قوم متظلّمون ، نَبَتْ عنهم العيون ، وفدَحَتهم الدُّيون ؛ وعضَّتْهم السنون ، بَادَ رجالهم ، وذهبت أموالهم ، وكثر عِيَالهم ، أبناءُ سبيل ، وأَنْضَاء طريق ، وصية الله ، ووصية رسول الله ، فهل آمِرٌ بخير ، كلأَه الله في سَفَره ، وخلفه في أهله . فأمر نصراً الخادم ، فدفع إليها خمسمائة درهم .
من إنشاء بديع الزمان
ومن إنشاء البديع في مقامات أبي الفتح الإسكندري : حدثني عيسى بن هشام قال : كنت ببغداد ، في وقت الأزاذ ؛ فخرجتُ إلى السوق أَعتامُ من أنواعه ، لابتياعه ،فسرتُ غير بعيد إلى رجل قد أخذ أنواعَ الفواكه وصفّفها ، وجمع أنواع الرُّطَب وصنّفها ؛ فقبضتُ من كل شيء أحسنه ، وقرضتُ من كل نوع أجوده ؛ وحين جمعت حواشيَ الإزار على تلك الأوزار ، أخذَتْ عينايَ رجلاً قد لفَّ رأسه ببرقع ، حياء ، ونصب جسده ، وبسط يدَه ؛ واحتضَنَ عِيالَه ، وتأبَّط أطفالْه ، وهو يقول بصوت يَدفَع الضعف في صدره والحَرضَ في ظهره : لرجز :
ويلي على كَفّين من سَويقِِ . . . أو شَحْمَة تُضْرَبُ بالدقيقِِ
أو قصعة تُملأ من خِرْدِيق . . . تَفْثَأ عنَّا سَطَوَاتِ الرِّيقِِ تُقيمنا عَنْ مَنْهَج الطريق . . . يا رازِقَ الثروةِ بعد الضيقِِ
سَهِّلْ على كفّ فتًى لبيق . . . ذي حسَبٍ في مَجدِه عريقِِ
يُهدي إلينا قدم التوفيق . . . يُنْقذ عَيْشي من يد الترنيقِِ
قال عيسى بن هشام : فأخذت من فاضل الكيس أخذةً وأنَلْته إياها ، فقال : الرجز :
يا من حَباني بجميل برّه . . . أَفْضَى إلى الله بِحُسن سرّه
وأستحفظ الله جميل ستره . . . إن كان لا طاقةَ لي بشكْرِه
فاللهُ ربِّي من وراءَ أمره
قال عيسى بن هشام : فقلت : إنّ في الكيس فَضْلاً ، فابْرُزْ لي عن باطنك أخرج لك عن آخره ، فأماط لِثامه ، فإذا شيخنا أبو الفتح السكندري ، فقلت : ويحك أي داهية أنت . فقال : مجزوء الوافر :
نُقضّي العمر تشبيهاً . . . على الناس وتَمْويهَا
أرى الأيامَ لا تَبْقى . . . عنى حال فأحكيها
فيوماً شرُّها فيّ . . . ويوماً شِرَّتِي فِيها
من رسائل بديع الزمان
وسأل البديع أبا نصر بن المرزبان - عاريَةً - بعضَ ما يتجمَّل به ، فأمسك عن إجابته ؛ فأعاد الكتاب إليه بما نسخته :لا أزالُ - أَطال الله تعالى بقاء مولانا الشيخ - لسوء الانتقّاد ، وحسن الإعتقاد ، أمْسَحُ جبينَ الخجل ، وأمدُّ يمين العَجَل ، ولضعف الحاسّة ، في الفِراسة ، أحسب الوَرَمَ شحماً ، والسرابَ شراباً ، حتى إذا تجشمت موارده ، لأَشرب بَارِده ، لم أَجِدْ شيئاً .
وما حسبت الشيخَ سيدي ممن لعنيه هذه الجملة حتى عرضت على النار عودَه ، ونشرت بالسؤال جُودَه ، وكاتَبْتُه أستعيره حلية جمال ، سحابةَ يوم أو شَطْرَه ، بل مسافةَ ميل أو قَدْرَه ، فغَاص في الفِطْنَة غوصاً عميقاً ، ونظَر في الكَيْسِ نَظراً دقيقاً ، وقال : هذا رجل مشحوذ المُدْية ، في أبواب الكُدْية ، قد جعل استعارة الأعلاق طريقَ افتراسها ، وسبب احتباسها ، وقد منَّى ضِرسه ، وحدَّثَ بالمحال نفسه ، ولا لطيفة في هذا الباب ، أحسن من التغافل عن الجواب ، فَضْلاً عن الإيجاب ، وكلا فما في أبواب الردِّ أقبح مما قرع ، ولا في شرائع البخل أوحش ممّا شَرع ؛ ثم العُذر له من جهتي مبسوط إن بسطه الفَضْل ، ومقبوك إن قَبِله المجد ، وإنما كاتبتهُ لأعيد الحال القديمة ، وأشرط له على نفسي أن أُريحه من سَوْم الحاجات من بعد ، فمن لم يَسْتَحْي من أعْطِنِي ، لم يستحْي له من أعفني ؛ وعلى حسب جوابه أجري المودّة فيما بعد ، فإن رأى أن يجِيبَ فعل إن شاء اللّه .
وله إلى سهل بن محمد بن سليمان : أنا إذا طويت عن خِدْمَة مولاي - أطال الله بقاءه - يوماً لم أرفع له بصَري ، ولم أعدّه من عمري ، وكأني بالشيخ - أعزّه اللّه - إذا أغفلت مفروض خِدْمته ، من قَصْدِ حضرته ، والمثولِ في حاشيته ، وجملة غاشيته ، يقول : إن هذا الجائع لَمّا شَبع تضلّع ، واكتسى وتلفَّع ، وتجلّل وتَبَرْقَع ، تربَّع وترفَّع ، فما يطوفُ بهذا الْجَناب ، ولا يَظْهَرُ بهذا الباب ؛ وأنا الرجل الذي آواه من قَفْرِ ، وأغناه من فَقْرِ ، وآمنه من خَوْف ، إذ لا حَرَّ بوالِي عَوف ؛ حتى إذا وردت عليه رقعتي هذه ، وأعارها طَرْف كرمه ، وظَرْف شِيَمِه ، ونَظَر في عنوانها اسْمِي قال : بُعداً وسحقاً ، وسبّاً وتبّاً وحتّا ونحتاً ، وطَعْناً ولَعْناً ، فما أكذبَ سَرَابَ أخلاقه ، وأكثر أسْراب نفاقه ، فالآن انحلَّ من عقدته ، وانتبه من رَقْدَته . وكاتبني يستعيدني ، كلاَّ لا أزَوِّجُهُ الرّضَا ولا قلاَمة ، ولا أمنحه المُنَى ولا كرامة ، بل أدعهُ يركب رَأسه ، ويُقاسي أنفاسَه ، فستأتيني به الليالي ، والكيس الخالي ، ثم أُرِيه ميزانَ قَدْره ، وأُذِيقُه وبالَ أمره ، خى إذا بلغ موضع الحاجة من الرقعة قال : مَأرُبةٌ لا حَفَاوة ، ووَطر سَاقَهُ ، لا نِزَاعٌشَاقَه ، فهذا بِذَا ، ولا أبعد من تلك الهمم العالية ، والأخلاق السامية أن يقول : مرحباً بالرّقعة وكاتبها ، وأهلاً بالمخاطبة وصاحبها وقضاء الحاجة بإنْحَائها ، وإبرازها ، وهي الرقعة التي سالت إلى من التمسته ، كما اقترحته بما طالبته ، فرأيهُ فيه موفق إن شاء الله تعالى .
وله أيضاً إلى بعض الرؤساء يسأله إطلاق محبوس بسببه . الشيخ - أطال الله بقاءه - إذا وصل يدي بيده لم ألمس الجوْزَاء ، إلا قاعداً ، وقد نَاطَها مِنّةً في عُنُق الدهر ، وصاغها إكليلاً لجبين الشكر . وما أقْصَر يَدِي عن الجزاء ، ولساني عن الثناء . وهذا الجاهل قد عرف نفسَه ، وقلع ضرسه ، ورأى ميزان قدْرِه ، وذاق وبال أمره ، وجهز إليّ كتيبة عجائز عاجزات ؛ فأَطْلَقْن العويل والأليل ، وبعثنني شفيعاً إليّ ، واستعنَّ بي علي ، وتوسَّلْن بكلمة الاستسلام ، ولحمة الإسلام ، في فَكِّ هذا الغلام ؛ فإن أَحبَّ الشيخُ أن يجمعَ في الطَّوْلِ بين الحوض والكوثر ، وينظم في الفَضْل ما بين الروض والمطر ، شفع في إطلاقه مَكَارِمَه ، وشرَّف بذلك خادمه ، وأنجزنا بالإفراج عنه ، مُوَفَّقاً إن شاء الله تعالى .
تسامح المأمون
وقال رجل لإبراهيم بن المهدي : اشفعْ لي إلى أمير المؤمنين في فَكّ أخي من حَبْسه ، وكان محبوساً في عِدَاد العُصاة ، فقال للمأمون : ليس للعاصي بعد القُدْرة عليه ذَنب ، وليس للمصاب بعد الملك عذر . فقال : صدقت ، فما طَلِبَتك ؟ قال : فلان هَبْه لي . قال : هولك .
وسأل أبو عبادة أحمد بن أبي خالد أن يطلق له أسارى ، ففعل ، فقال له : قد فككْنا أسْرَاكَ . فقال : لا فَك الله رِقَابَ الأحرار من أياديك .
ألفاظ لأهل العصر في التهنة بالإطلاق من الأسر
الحمدُ لله حَمْدَ الإخلاص ، على حسن الخَلاَصِ ، الذي أفْضى بك من ذِلَةِ رِق ، إلى عزَة عِتْق ، ومن تَصلِيَةِ جحيم ، إلى جنَةِ نعيم . خَرج من العِقَال ، خروج السيفِ منالصِّقال . خرج من إساره ، خروج البَدرِ من سِرارِه . الحمدُ لله الذي فكَّ أسراً ، وجعل من بعد العُسرِ يُسْراً . خرج من البلاء ، خروج السيف من الجلاء . قد جعل الله لك من مَضَايق الأمور مخرجاً نَجِيحاً ، ومن مغالق الأهوال مسْرحاً فسيحاً .
باب المديح
مدح أبو نواس الأمين محمداً في أول خلافته بقصيدته التي يقول فيها : البسيط :
أقول والعِيسُ تَعْرَوْرى الفَلاةَ بنا . . . صُعْرَ الأزِمّة من مَثْنى ووُحْدانِ
يا ناقُ ، لا تسأمي أو تَبْلُغي مَلِكاً . . . تقبيلُ راحته والرُّكْن سِيّانِ
مقابلاً بين أَمْلاكٍ تفضّله . . . ولا دتان من المنصور ثِنْتانِ
متى تُحِطِّي إليه الرَّحْلَ سالمةً . . . تَسْتَجْمِعِي الْخلقَ في تمثال إنسانِ
قال الحسن : هذا لأنَّ محمداً ولدهُ المنصور مرتين من قِبَل أن أباه هارون الرشيد بن المهدي بن أبي جعفر المنصور ، ومن قِبل أنّ أمه أمة العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر ، المنصور ، وكان المنصور دخل عليها وهي طفلة تلعب ، فقال : ما أنت إلا زُبَيْدة ، فغلب عليها هذا اللقب ، ولم يَلِ الخلافة مَنْ أبواه هاشميان غير علي بن أبي طالب وأَمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وابنه الحسن ، وأمّه فاطمة بنت النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، والأمين محمد بن الرشيد .
رجع القول - فلمَّا أنشده القصيدة قال : ما ينبغي أن يُسْمَع مدحُك بعد قولك في الخصيب بن عبد الحميد : الطويل :
إذا لم تَزُز أرضَ الخصيب ركابُنا . . . فأيُّ فتًى بَعْدَ الخصيبِ تزورُ ؟
فتًى يَشْتري حُسنَ الثناء بمالهِ . . . ويَعْلَمُ أنّ الدائراتِ تدورُفما فاته جودٌ ، ولا حَلَّ دونه . . . ولكنْ يسيرُ الجود حيث يسيرُ
فقال : يا أمير المؤمنين ، كلُّ مدح في الخصيب وغيره فمَدْح فيك ؛ لأني أقول ، ثم أرتجل : الطويل :
ملكْتَ على طير السعادة واليُمنِ . . . وجاءت لك العلياءُ مُقْتَبِلَ السِّنِّ
بمحيا وجود الدّين تحيا مهنأ . . . بحسن وإحسان مع اليُمْن والأمْن
لقد طابتِ الدنيا بطيبِ ثنائِه . . . وزادت به الأيامُ حُسْناً إلى حُسْن
لقد فكَّ أرقاب العُفاة محمدٌ . . . وأسكن أهل الخوف في كَنَفِ الأمْنِ
إذا نحْنُ أثْنَينا عليكَ بصالحٍ . . . فأَنتَ كما نُثني وفوق الذي نثْني
وإن جَرَت الألفاظُ يوماً بِمِدْحَةٍ . . . لغيركَ إنساناً فأنْتَ الذي نَعْني
قال : صدقت ، مَدْحُ عبدي مدحٌ لي ؛ ووَصَلَهُ وقرَّبه .
وأما قول أبي نواس :
إذا نحنُ أثنينا عليك بصالح
فمن قول الخنساء : الطويل : فما بلغ المُهْدُونَ للناسِ مِدْحَةً . . . وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفْضَلُ
وما بلغتْ كفُّ امرئ متناوَلاَ . . . من المجد إلا والذي نِلْتَ أطْوَلُ
وفد الأخطل على معاوية ، فقال : إني قد امتدحْتُك بأبيات فاسمعْها ، فقال : إن كنت شَبّهْتَني بالحيّة ، أو الأسد ، أو الصقر ، فلا حاجةَ لي بها ، وإن كنت قلت كما قالتالخنساء ، وأنشد البيتين ، فقلْ . فقال الأخطل : والله لقد أحسَنَتْ ، وقد قلت فيك بيتين ما هما بدونهما ، ثم أنشد : الطويل :
إذا مُتّ ماتَ العُرْفُ وانقطع النَدَى . . . فلم يبق إلاّ من قليل مُصَرَّدِ
ورُدَّت أكفُّ السائلين وأمسكوا . . . عن الدين والدنيا بحزن مجدَّدِ
وقول أبي نواس :
وإن جَرَت الألفاظ يوماً بمِدْحَةٍ
من قول كثير في عبد العزيز بن مروان : الطويل :
مَتى ما أقلْ في سالف الدهْر مِدْحَةً . . . فما هي إلا لابن ليلى المعَظّمِ
وقال الفرزدق : الطويل :
وما أمرتني النفس في رِحْلَةٍ لها . . . إلى أَحَدٍ إلا إليك ضَمِيرُهَا
ولما أنشد أبو تمام أحمد بن أبي دُوَاد قصيدته : الوافر :
سقى عَهْدَ الحمى صوبُ العِهاد
وانتهى إلى قوله :
وما سافرْتُ في الآفاق إلا . . . ومِنْ جَدْوَاك راحِلَتي وزادي
مُقيمُ الظنَ عندكَ والأماني . . . وإنْ قَلِقَتْ رِكابي في البلادِ
قال له ابن أبي دُوَاد : هذا المعنى لك أو أخذته ؟ قال : هُو لي ، وقد ألممت فيه بقول أبي نواس :
وإنْ جَرَت الألفاظ يوماً بمِدْحَةٍ . . . لغيرك إنساناً فأنتَ الذي نَعْني
وأخذه المتنبي فقال : الوافر :
أَشَرْتَ أبا الْحُسَيْن بمدحِ قَوْمٍ . . . نزلْتُ بهمْ فرحت بغير زَادِ
وظَنُّوني مَدَحْتُهُمُ قَدِيماً . . . وأنتَ بما مَدَحْتُهُمُ مُرَادِيوأما قول أبي تمام : وما سافرتُ في الآفاق - البيت فمن قول المثقب العبدي ، وذكر ناقَته : الوافر :
إلى عَمْرِو بن حمدَانٍ أبيني . . . أخي النَّجْدَات والمجد الرصين
وأما قولُ أبي نواس :
فما فاته جود ولا حَلَّ دونه
البيت ، فمن قول الشمردل بن شريك اليربوعي : البسيط :
ما قَصّرَ المجدُ عنكُمْ يا بني حكم . . . ولاتجاوزكُمْ يا آلَ مسعودِ
يحل حيث حللْتم لا يَرِيمكُمُ . . . ما عاقبَ الدَّهْر بين البيض والسُّودِ
إن يشهدوا يوجد المعروف عندهم . . . خِدْناً وليس إذا غابوا بمَوْجُودِ
وقد قال الكميت الأسلمي : المتقارب :
يسير أبان قريع السما . . . ح والمكرمَات مَعاً حيث سَارَا
وقول أبي نواس أيضاً :
فتًى يَشْتَرِي حُسْنَ الثناء بماله
مأخوذ من قول الراعي : الطويل :
فتى يشتري حُسْنَ الثناء بمالِه . . . إذا ما اشترى المَخْزَاةَ بالمَجْدِ بَيْهَسُ
بين السفاح وأبي نخيلة
دخل أبو نُخَيْلة على أبي العباس السفاح ، فاستأذنه في الإنشاد ، فقال : لعنك الله ألستَ القائل لمسلمة بن عبد الملك : الطويل :
أمسلمةٌ يا نَجْلَ خير خليفةٍ . . . ويا فارس الهَيْجَا ويا جبلَ الأرضِ
شكرتك إن الشكر حَبْلٌ من التقى . . . وما كلُّ من أَوليته نعمةً يقضِي
وألقيتَ لما أن أتيتك زائراً . . . عليَّ لحافاً سابغَ الطولِ والعرضِ
ونبهْتَ من ذكرى وما كان خاملاً . . . ولكن بعض ، الذكر أنبَهُ من بعضثم أمره بأن ينشد ، فأنشده أرجوزة يقول فيها : الرجز :
كنا أناساً نرهَبُ الهُلاَّكا . . . ونركب الأعْجَاز والأوراكا
وكلّ ما قد مَرّ في سواكا . . . زُورٌ ، وقد كفّرَ هذا ذاكا
واسم أبي نخيلة الجنيد بن الجون ، وهو مولى لبني حماد ، كان مقصّداً راجزاً .
قيل للخنساء : لئن مدحْت أخاك لقد هجوت أباك فقالت : الكامل :
جارَى أباهُ فأقبلا وهُما . . . يتعاوَرَانِ مُلاءةَ الحُضْر
حتى إذا جَدَّ الجراء وقَدْ . . . ساوَى هناك القدر بالقدر
وعَلاَ صياح الناسِ : أيهما ؟ . . . قال المجيب هناك : لا أدْرِي برقتْ صحيفَةُ وَجْهِ والدهِ . . . ومضى على غُلَوائه يَجري
أولى فأولى أن يُسَاوِيَهُ . . . لولا جَلالُ السِّنِّ والكِبْرِ
وهما كأنهما وقد بَرَزا . . . صَقْرَانِ قد حَلطَّا على وَكْر
وقيل لأبي عبيدة : ليس هذا في شعر الخنساء . فقال : العامّة أسقط من أن يجاد عليها بمثل هذا .
وقد أحسن البحتري في نحو هذا ؛ إذ يقول في يوسف بن أبي سعيد ، ومحمد بن يوسف الطائي : الكامل :
جِدٌّ كجِدِّ أبي سعيدٍ إنهُ . . . تَرَكَ السِّماكَ كأنه لم يَشرُفِ
قاسَمْتَهُ أخلاقَهُ وَهْيَ الرَّدَى . . . لِلمُعْتدي وهي النَّدى للمُعْتَفِيوإذا جرى في غايةٍ وَجَرَيْتَ في . . . أخرى التقى شَأواكما في المَنْصَف
قول الخنساء :
يتعاوَرَان ملاءة الحُضْر
أبرع استعارة ، وأنصع عبارة ؛ وقد قال عدي بن الرقاع : الكامل :
يتعاوران من الغُبَار مُلاءَةً . . . غبْرَاء محكمة هما نَسَجَاها
تطوَى إذَا وردا مكاناً جاسياً . . . فإذا السنابكُ أِسهلتْ نَشَرَاها
وإلى هذا أشار الطائي في قوله : الوافر :
تُثِيرُ عَجَاجةٌ في كل ثَغرٍ . . . يهيمُ بها عديُّ بنُ الرِّقاعِ
وأول من نظر إلى هذا المعنى شاعر جاهلي من بني عقيل فقال : الطويل :
ألاَ يا ديارَ الحيِّ بالسَّبُعَانِ . . . عَفَت حِججاً بعدي وهُنَّ ثمان
فلم يبق منها غيرُ نُؤيٍ مُهَدّمٍ . . . وغيرُ أثَافٍ كالرُّكِيِّ رِعَانِ
وآياتُ هابٍ أورقِ اللونِ سافَرَتْ . . . به الريحُ والأمطارُ كلَّ مكان
قِفَارٌ مَرَوْرَاةٌ تحارُ بها القطا . . . وتمسي بها الجابان تقتربانيثيرانِ مِنْ نَسْجِ الغُبار عليهما . . . قميصين أسمالاً ويَرْتديانِ
ومن مستحسن رثاء الخنساء وليلى وغيرهما من النساء :
قال أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي : أنشد أبو السائب المخزومي قول الخنساء : البسيط :
وإنَّ صخراً لمَوْلاَنا وسيِّدُنا . . . وإنّ صَخْراً إذا نَشْتُو لنحّارُ
وإن صخراً لَتَأْتمُّ الهداةُ بهِ . . . كأنه عَلَمٌ في رأسه نَارُ
فقال : الطلاق لي لازم إن لم تكن قالت هذا وهي تتبختر في مشيها ، وتنظر في عطفها .
ومن مستحسن رثاء الخنساء قولُها ترثي أخاها صخراً : البسيط :
اذهبْ فلا يبعدَنْكَ الله من رجل . . . منّاعِ ضيمٍ وطَلاَّبٍ لأوتارِ
قد كنتَ فينا صريحاً غير مؤتشب . . . مركَّباً في نصابٍ غير خَوّار
فسوف أبكيك ما نَاحَتْ مُطوَّقةٌ . . . وما أضاءت نجومُ الليلِ للسارِي
أبكي فتى الحيّ نالتْه منيّته . . . وكلُّ نفسٍ إلى وقتٍ بمقدار
وقولها تعنيه : البسيط :
شهّاد أنجيةٍ شدَّاد أوهية . . . قطّاع أودية للوِتْرِ طلابا
سُم العُداة وفكاك العُناة إذا . . . لاقَى الوغَى لم يكن للموت هيّابايهدي الرَّعيلَ إذا جار السبيلُ بهم . . . نَهْدَ التليل لزُرْق الشُمْرِ رَكابا
والخنساء اسمها تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عُصَيّة بن خُفاف بن امرئ القيس ، وتكنى أم عمرو ، ومِصْدَاقُ ذلك قول أخيها صخر : الطويل :
أرى أم عمرو لا تملُّ عيادتي . . . وملَّتْ سليمى مَضْجَعِي ومكاني
سليمى : امرأته ، وإنما لقبت الخنساء كناية عن الظبية ، وكذلك تسميتهم الذلفاء .
والذلف : قصر في الأنف ؛ وإنما يريدون به أيضاً أن ذلك من صفات الظباء ، وهي أشعر نساء العرب عند كثير من الرُّواة ؛ وكان الأصمعي يقدم ليلى الأخيلية ، وهي ليلى بنت عبد الله بن كعب بن ذي الرحَالة بن معاوية بن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وقيل لها الأخيلية لقول جدِّها كعب : الكامل :
نحن الأخايل ما يَزَالُ غلامُنا . . . حتى يَدِبّ على العصا مذكورا
قال أبو زيد : هذا البيت لها فسُمّيت به ، وليلى أغزر بحراً ، وأكثر تصرّفاً ، وأقوى لفظاً ؛ والخنساء أذهب في عمود الرثاء . قال المبرد : كانت الخنساءُ وليلى الأخيلية في أشعارهما متقدمتين لأكثر الفحول ، وقلّما رأيت امرأةً تتقدّم في صناعة ، وإن قلّ ذلك ، فالجملة ما قال الله تعالى : ' أَوَ مَنْ يُنَشَأُ في الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ ' .
ومن أحسن المراثي ما خلط فيه مدحٌ بتفجّعٍ على المرثي ، فإذا وقع ذلك بكلام صحيح ، ولَهْجَة معربة ، ونظام غير متفاوت ، فهو الغاية من كلام المخلوقين .
واعلمْ أنّ من أجَلّ الكلام قولُ الخنساء : البسيط :
يا صَخْرُ ورّاد ماءٍ قد تناذَرَه . . . أهْلُ المياهِ فما في ورْدِه عَارُمَشْيَ السَّبَنْتَى إلى هَيْجَاء مُعْضلةٍ . . . لها سِلاَحَان : أنيابٌ وأظفارُ
وما عجولٌ على بَوٍّ تُطِيفُ بهِ . . . لها حنينان : إعلانٌ وإسرارُ
ترتع في غفلة حتى إذا ادَّكرَتْ . . . فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
يوماً بأَوْجَع مني حين فارقني . . . صَخْرٌ ، وللعيش إحْلاءٌ ، وإمْرَارُ
لم تَرَهُ جارةٌ يمْشِي بساحتها . . . لريبةٍ حين يُخْلِي بيتَه الجارُ
قال : ومن كامل قولها : الوافر :
فلولا كثرةُ الباكِين حولي . . . على إخوانهم لقتَلْتُ نَفْسِي
وما يبكون مثلَ أَخي ، ولَكِنْ . . . أُسَلِّي النفسَ عنه بالتأَسِّي
يذكّرُنىِ طلوعُ الشمسِ صَخْراً . . . وأَذْكُره لكلِّ غروبِ شمس
يعني أنَّها تذكره أول النهار للغارة ، ووقت المغيب للأضياف .
وقد قال ابن الرومي فيما يتعلّق بطَرف من هذا المعنى : الوافر :
رأَيتُ الدهرَ يَجْرَحُ ثم يَأْسو . . . ويُوسِي أو يعوّض أو يُنَسِّي
أبتْ نفسي الهُلاَع لرُزْءِ شيء . . . كفى شجواً لنفي رُزء نفسي
أتجزعُ وحشة لفراق إلْف . . . وقد وطنتُها لحلو رَمْسِ
وقد أنكر على من تعلَّل بالتأسي بما قال غيرُه ، فقال في ذلك : الطويل :
خليليّ قد علّلتمانيَ بالأسى . . . فأنعمتما لو أنني أتَعَلّلُ
أللناس آثارِي ، وإلاَّ فما الأسى . . . وعيشكما إلا ضلالٌ مضَلّلُ
وما راحةُ المرزوء في رُزْء غيره . . . أيَحْمِلُ عنه بعضَ ما يتحمَّلُ
كِلا حامِلَيْ عِبْء الرزيّة مُثْقَلٌ . . . وليس معيناً مُثْقَل الظهرِ مُثْقَلُوضربٌ من الظلم الخفيِّ مكانه . . . تعزيكَ بّالمرزوء حين تأملَ
لأنك يأسوك الذي هو كلمهُ . . . بلا بَصَر لو أن جورَك يَعْدِل
وقالت الخنساء : الطويل :
وقائلةٍ والنعش قد فات خطوها . . . لتدركه : يا لَهفَ نفسي على صَخْرِ
ألا ثكلتْ أُمُّ الذين غَدَوْا بهِ . . . إلى القبر ماذا يَحْمِلُونَ إلى القبر ؟
وماذا يُوَارِي القبرُ تحت ترابهِ . . . من الجود يا بُؤْسَ الحوادثِ والدهر
فشأْنُ المنايا إذا أصابكَ رَيْبُها . . . لتغدو على الفِتْيَانِ بعدك أو تَسْرِي
وهذا المعنى كثير قد مرّت منه قطعة جيدة ، ولم تزل الخنساء تبكي على أخويها صخرٍ ومعاوية ، حتى أدركت الإسلام ؛ فأقبل بها بنو عمّها وهي عجوز كبيرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، هذه الخنساء ، وقد قرّحت آماقَها من البكاء في الجاهلية والإِسلام ، فلو نَهَيْتَهَا لرجونا أن تنتهي ، فقال لها عمر رضي الله عنه : اتّقي الله وأيقني بالموت ، قالت : أبكي أبي وخَيْرَ بني مضر صخراً ومعاوية ، وإنّي لموقِنَة بالموت ، قال : أتبكِين عليهم وقد صاروا جَمْرَة فىِ النار ؟ قالت : ذلك أشدّ لبكائي عليهم فرقَّ لها عمر وقال : خلّوا عن عجوزكم لا أبا لكم فكل امرئ يبكي شَجْوَهُ ، ونام الْخَليُّ عن بكاء الشجي .
وكان عمرو بن الشريد يَأخُذُ بيد ابنيه معاوية وصخر في الموسم ، ويقول : أنا أبو خَيْرَى مضر ، فمن أنكر فليغيّر ، فلا يغير ذلك عليه أحد ، وكان يقول : من أتى بمثلهما أخوين من قبل فله حكمه ، فتُقرّ له العرب بذلك .
وكان النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، يقول : ' أنا ابن الفواطم من قريش ، والعواتك من سُليم ، وفي سُليم شرف كثير ' . وكان يقال لمعاوية : فارس الجَوْن ، والجَوْن من الأضداد ، يقال للأسود والأبيض ، وقتلته بنو مرّة ، قتله هاشم بن حَرْمَلة ، فطلبه دُرَيد بن الصِّمَّة حتى قتله ، وأما صخر فغزا أسد بن خزيمة فأصاب فيهم ، وطعنه ثوْر بن ربيعة الأسدي ، فأدخل في جوفه حلقاً منالدرع فانْدَمَل عليه ، فنتأت قطعة من جنبه مثل اليد ، فمرض لها حولاً ، ثم أشير عليه بقطعها ، فأحموا له شفرة ثم قطعوها ، فما عاش إلا قليلاً .
ومن جيد شعر ليلى الأخيلية ترثي تَوْبَةَ بن الحُمَيِّر الخفاجي ، وكان لها محبّاً ، وله فيها شعرٌ كثير ، وقتله بنو عوف بن عُقيل ، قتله عبد الله بن سالم : الطويل :
نظرتُ ورُكْنٌ من عَمَايَة دوننا . . . وأركان جسمي أيّ نظرة ناظرِ
فآنست خيلاً بالرُّقَيِّ مُغيرةً . . . سَوابقُها مثل القَطَا المتواترِ
فإنْ تَكُنِ القَتْلَى بَوَاءً فإنكم . . . فتى ما قتلتمْ آل عَوْفِ بن عامرِ
فلا يُبْعِدَنْك الله يا تَوْبَ إنما . . . لقاءُ المنايا دَارِعاً مثل حاسِرِ
أتتْهُ المنايا بين دِرْعِ حصينةٍ . . . وأسمرَ خَطيٍّ وجرداء ضَامِرِ
كأنَّ فتَى الفتيان تَوْبَة لم يُنخْ . . . قلائص يَفْحَصْنَ الحصَى بالكَراكِرِ
ولم يُدْعَ يوماً لِلْحِفَاظِ وللنُهى . . . وللحرب تَرْمِي نَارُها بالشَرَائرِ
وللبازل الكَوْمَاء يَرْغُو حُوَارُها . . . وللخيل تَعْدُو بالكُمَاةِ المَسَاعِرِ
فتى لا تَخَطَّاه الرِّفَاق ، ولا يَرَى . . . لِقِدْرٍ عِيَالاً دون جارٍ مُجَاوِرِ
فتى كان أَحْيَا من فتاةٍ حَيِيةٍ . . . وأشجع من لَيْثٍ بخفَّانَ خادرِفتى لا تراهُ النَّابُ إلْفاً لِسَقبِها . . . إذا اخْتَلَجَتْ بالناس إحْدَى الكبائر
وكنتَ إذا مولاه خاف ظلاَمة . . . أتاكَ فلمْ يقنعْ سِوَاك بِنَاصِرِ
وقد كنت مَرْهُوبَ السّنان وبِيّن ال . . . لِّسَان ومدلاج السُّرَى غيرَ فاترِ
ولا تأخذ الكُومُ الجِلادُ سلاحَها . . . لتوبةَ في حدّ الشتاء الصَّنَابِرِ
وقال بعض الرواة : بينا معاوية يسير إذ رأى راكباً ، فقال لبعض شُرَطه : ائتني به وإياك أن تَرُوعه . فأتاه فقال : أجب أمير المؤمنين ، فقال : إياه أردت ، فلما دنا الراكب حدَر لثامه فإذا ليلى الأخيلية ، فأنشأت تقول : الوافر :
معاوِيَ لم أكَدْ آتيك تَهْوي . . . برَحْلي نحو ساحتك الركابُ
تجوبُ الأرضَ نحوك ما تَأنَّى . . . إذا ما الأَكَمُ قَنعها السَّرَابُ
وكنتَ المرتجى وبك استغاثت . . . لِتَنْعشها إذا بخل السحابُ
قال : فقال : ما حاجتُك ؟ قالت : ليس مثلي يَطْلُب إلى مثلك حاجة ، فتخيّر أنت فأعطاها خمسين من الإبل ؛ ثم قال : أخبريني عن مُضَر ، قالت : فاخِرْ بمضر ، وحَارِب بقيس ، وكاثِرْ بتميم ، وناظر بأسد ، فقال : ويحك يا ليلى أكما يقول الناس كان تَوْبة ؟ قالت : يا أمير المؤمنين ، ليس كل الناس يقول حقّاً ، الناسُ شجرهُ بَغْي ، يحسدون النّعم حيث كانَتْ ، وعلى مَنْ كانَتْ ؛ كَان يا أمير المؤمنين سَبْطَ البنان ، حديدَ اللسان ، شَجَى الأقران ، كريم المَخْبَر ، عفيف المِئزر ، جميل النظر ، وكان كما قُلت ، ولم أتعدّ الحقّ فيه : الطويل :
بعيدُ الثرى لا يبلغُ القَوْمُ قَعْرَهُ . . . أَلدُّ مُلِدٌّ يَغْلِبُ الحق باطِلُهْ
فقال معاوية : ويحك يا ليلى يزعم الناس أنه كان عاهراً خارباً ، فقالت من ساعتها مرتجلة : الطويل :
مَعَاذَ إلهي كان والله توبةٌ . . . جواداً على العِلاَّت جَمّاً نوافلُهْأغرَّ خَفَاجِيّاً يرى البخلَ سُبّةً . . . تحَالِف كفَّاه النَّدَى وأنامِلُهْ
عفيفاً بَعِيدَ الهَمِّ صُلباً قَنَاتُهُ . . . جميلاً محَيّاهُ قليةً غوائِلُة
وكان إذا ما الضيفُ أَرْغَى بعيرهُ . . . لديه أتاه نَيْلُه وفَوَاضِلُهْ وقد علم الجوعُ الذي كان ساريَاً . . . على الضيف والجيرانِ أنك قاتلُة
وأنك رَحْبُ الباع يا تَوْبُ بالقرَى . . . إذا ما لئيمُ القوم ضَاقَتْ مَنَازِلُهْ
يَبيت قريرَ العين مَنْ كان جَارَهُ . . . ويُضحِي بخيرٍ ضَيْفُهُ ومُنَازِلُهْ
فقال لها معاوية : ويحك يا ليلى لقد جُزْتِ بتوبة قَدْرَه ، فقالت : يا أمير المؤمنين ، والله لو رأيتَهُ وخبَرْتَهُ لعلمت أني مقصّرة في نَعْتِهِ ، لا أبلغ كُنْهَ ما هو له أهل . فقال لها معاوية : في أي سنٍّ كان ؟ فقالت : يا أمير المؤمنين : الطويل :
أتتْهُ المنايا حين تَمَّ تَمَامُهُ . . . وأقْصرَ عنه كلُّ قِرْن يُنَاضِلُهْ
وصار كليثِ الغابِ يَحْمي عَرينَه . . . فترضى به أشبالُه وحلائِلُهْ
عطوفٌ حليمٌ حين يُطْلَبُ حِلْمُهُ . . . وسُمٌّ ذُعَافٌ لا تصَابُ مَقَاتلُهْ
فأمر لها بجائزة ، وقال : أي ما قلت فيه أشعر ؟ قالت : يا أمير المؤمنين ، ما قلت شيئاً إلا والذي فيه من خِصال الخير أكثر ، ولقد أجَدْتُ حيث أقول : الطويل :
جَزَى الله خيراً والجزاءُ بكَفّهِ . . . فتًى من عُقيلٍ سادَ غيرَ مُكَلَّفِ
فتى كانت الدنيا تَهُون بأسْرِها . . . عليه فلم ينفكَّ جَمَّ التَّصَرُّفِ
ينالُ عَلِيّاتِ الأمور بِهَوْنَةٍ . . . إذا هي أَعْيَتْ كلَّ خِرْقٍ مُسَوِّف
هو المِسْك بالأَرْي الضحاكيِّ شِبْتُهُ . . . بِدِرْيَاقَةٍ من خَمْر بَيْسَانَ قَرْقَفِويقال : إنها دخلت على مروان بن الحكم فقال : ويحك يا ليلى أكما نَعَتِّ توبة كان ؟ قالت : أصلح اللهُ الأمير والله ما قلتُ إلا حقّاً ، ولقد قصرت ، وما رأيت رجلاً قطّ كان أرْبَطَ على الموت جَأْشاً ، ولا أَقل انحياشاً حين تحتدم بَرَاكاءُ الحرب ، ويَحْمَى الوطيس بالطَّعن والضرب ، كان والله كما قلت : الطويل :
فتى لم يَزَلْ يزداد خَيْراً لَدُن نَشا . . . إلى أن عَلاَهُ الشَّيْبُ فوق المسايحِ
تراه إذا ما الموت حَلَّ بوردِه . . . ضَرُوباً على أقْرَانِهِ بالصفائحِ
شجاعٌ لدى الهيجاء ثَبْتٌ مشَايحٌ . . . إذا انْحَازَ عن أقْرَانِه كلُّ سَابحِ
فعاش حميداً لا ذميماً فعالهُ . . . وَصُولاً لقُرْباه يُرَى غيرَ كالحِ
فقال لها مروان : كيف يكون تَوبة على ما تقولين وكان خارباً ؟ والخارب سارق الإبل خاصة ، فقالت : واللهِ ما كان خارباً ، ولا للموت هائباً ، ولكنه كان فتًى له جاهِلية ، ولو طال عمره وأَنسأَه الموتُ لارْعَوَى قلبه ، ولقضى في حبِّ الله نَحْبه ، وأقصر عن لهوه ، ولكنه كما قال ابن عمِّه مسلمة بن زيد : الطويل :
فلله قوم غادروا ابن حُمَيِّرٍ . . . قتيلاً صريعاً للسيوف البواترِ
لقد غادَرُوا حَزْماً وعزماً ونائلاً . . . وصَبْراً على اليوم العبوس القُماطرِ
إذا هابَ وِرْدَ الموت كلُّ غَضَنْفَر . . . عظيم الحوايا لُبُّهُ غيْرُ حاضرِ
مضى قدُماً حتى يلاقِيَ وِرْدَهُ . . . وجاد بسَيْبٍ في السنين القواشر
فقال لها مروان : يا ليلى ، أعوذ بالله من درك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ، فوالله لقد مات تَوْبة ، وإن كان من فتيان العرب وأشدّائهم ، ولكنه أدركه الشقاءُ ؛ فهلك على أحوالِ الجاهلية ، وترك لقومه عداوة .
ثم بعث إلى ناس من عقيل فقال : والله لئن بلغني عنكم أمرٌ أكرهُه من جهة توبة لأصلبنكم على جُذوع النخل ، إياكم ودَعْوَى الجاهلية ، فإن الله قد جاء بالإسلام ، وهَدَم ذلك كلّه .وروى أبو عبيدة عن محمد بن عمران المرزباني قال : قال أبو عمرو بن العلاء الشيباني : قدمَتْ ليلى الأخيلية على الحجاج بن يوسف وعنده وجوهُ أصحابه وأشرافهم ، فبينا هو جالسٌ معهم إذ أقبلت جارية فأشار إليها وأشارت إليه ؛ فلم ثلبث أن جاءت جارية من أجمل النساء وأكملهن ، وأتمهنّ خَلْقاً ، وأحسنهنّ محاورةً ؛ فلمّا دنتْ منه سلّمتْ ؛ قالتْ : أتأذنُ أيها الأمير . قال : نعم ، فأنشدت : الطويل :
أحجَّاجُ إن الله أعطاك غايةً . . . يُقَصَّرُ عنها منْ أراد مَداها أحجَّاجُ لا يُفْلَلْ سِلاحُك إنما ال . . . منايا بكفِّ الله حيثُ يَرَاها
إذا ورد الحجاجُ أرضاً مريضةً . . . تتبَّع أقصى دائها فشفاهَا
شفاها من الداء العَياء الذي بها . . . غُلامٌ إذا هَزَّ القناةَ ثَناها
إذا سَمِع الحجاجُ صَوْت كتيبةٍ . . . أعدَّ لها قَبْلَ النزولِ قِراها
أعدّ لها مَصْقُولةً فَارِسيَّةً . . . بأيدي رجال يَحْلُبون صَراها
حتى أتت على آخرها . فقال الحجاج لمنْ عنده : أتعرفون مَنْ هذه ؟ قالوا : ما نعرفها ، ولكن ما رأينا امرأة أطْلَقَ لساناً منها ، ولا أجملَ وَجْهاً ، ولا أحسن لَفْظاً ، فمَنْ هِيَ أصلح الله الأمير ؟ قال : هي ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحمير التي يقول فيها : الطويل :
ولو أن ليلى الأخْيَليّة سَلَّمَتْ . . . عليّ ودوني جَنْدَلٌ وصفائحُ
لسلَّمْتُ تسليمَ البشاشة أو زَقَا . . . إليها صدًى من جانب القبر صَائِحُ
ثم قال لها : يا ليلى ، أنشدينا بعضَ ما قاله فيك توبة ، فأنشدته : الطويل :
نَأَتْكَ بِليلى دارُها لا تَزُورُها . . . وشطَّتْ نواها واستمرَّ مَرِيرُها
وكنتُ إذا ما زُرْتُ ليلى تبرْقَعَتْ . . . وقد رَابني منها الغَداةَ سفورُهاعليّ دِماءُ البُدْن إن كان زَوْجُها . . . يَرَى لي ذَنباً غيرَ أني أزورُها
وأني إذا ما زرْتُها قلت : يا اسْلَمي . . . فهل كان في قول اسْلَمي ما يَصِيرُها ؟
حمامةَ بَطْن الوادِيَيْنِ تَرَنّمي . . . سقَاك من الغُرِّ الغوادي مَطيرُها
أبيني لنا لا زال رِيشُك ناعماً . . . ولا زِلْتِ في خَضْراءَ دانٍ بَرِيرُها
وقد تذهب الحاجات يطلبها الفتى . . . شَعاعاً وتَخْشَى النفسُ ما لا يَضِيرُها
أيذهب رَيْعَان الشباب ولم أَزرْ . . . عَرَائرَ من هَمْدَانَ بيضاً نُحُورُها ؟
ولو أن ليلى في ذُرَى مُتَمَنّع . . . بنَجْرَانَ لالتفَّتْ عليَّ قصورُها
يقرّ بعيني أنْ أرى العِيسَ تَرْتمي . . . بنا نحو ليلى وهي تجري صقورُها
وأشْرِفُ بالغَوْرِ اليَفاع لعلّني . . . أرى نَار ليلى أو يَرَاني بَصِيرُها
أرتنا حِمَام المَوْتِ ليلى ، ورَاقَنا . . . عيونٌ نَقِيّاتُ الحواشي تُدِيرُها
حتى أتت على آخرها . فقال : يا ليلى ، ما رابه من سفورك ؟ فقالت : أيها الأمير ، ما رآني قطّ إلا متبرقعة ، فأرسل إليّ رسولاً إنه ملمٌّ بنا ، فنظر أهلُ الحيّ رسوله فأعدُّوا له وكمنوا ؛ ففَطِنْتُ لذلك من أمرهم ، فلمّا جاء ألقيت بُرقعي وسَفَرْت فأنكر ذلك ، فما زاد على التسليم وانصرف راجعاً . فقال لها الحجاج : لله درّك فهل كانت بينكما ريبة قط ؟ قالت : لا والذي أسأله صلاحك ، إلا أني رأيت أنه قال قولاً فظننْتُ أنه خضع لبعض الأمر ، فقلت : الطويل :
وذِي حاجة قلْنا له : لا تبحْ بها . . . فليس إليها ما حَيِيتَ سبيلُ
لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نَخُونَهُ . . . وأنت لأُخْرى صاحبٌ وخليلُ
فما كلّمني بشيء بعد ذلك حتى فرَّق الموت بيني وبينه . فقال لها : حاجَتكِ ؟ قالت : أن تحملني إلى قتيبة بن مسلم على البريد إلى خراسان ، فحملها فاستظرفها قتيبة ووَصلها ، ثم رجعت فماتت بساوَة ، وقَبْرُها هناك .وروى المبرّد أنها لمّا أنشدته الأبيات ' أحجاج إنّ الله أعطاك ' . . . إلى قولها : ' غلام إذا هزّ القناة ثناها ' قال لها : لا تقولي غلام ، ولكن قولي : همام ، ثم قال لها : أي نسائي أحَبُّ إليك أن أُنزلك عندها ؟ قالت : ومن نساؤك أيها الأمير ؟ قال : أم الجلاس بنتُ سعيد بن العاص الأموية ، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزارية ، وهند بنت المهلب بن أبي صفْرة العَتَكية . قالت : هذه أحبُّ إليّ . فلمّا كان الغد دخلت إليه فقال : يا غلام ، أعطها خمسمائة . قالت : أيها الأمير ، اجعلْها أُدماً . قيل لها : إنما ، أمر لك بشاء ، فقالت : الأميرُ أكرم من ذلك ، فجعلها إبلاً أُدماً استحياء ؛ وإنما كان أمر لها بشاء أولاً ، والأدم أكرمها . وأول هذا الحديث عن رجل من بني عامر بن صعصعة يقال له وَرْقاء قال : كنت عند الحجاج فدخل الآذِن فقال : أصلح الله الأمير بالباب امرأة تَهْدِرُ كما يَهْدِرُ البعير النادّ ، قال : أَدْخِلْها ، فلمّا دخلت نَسبها فانتسبَتْ له . فقاد : ما أَتى بك يا ليلى ؟ قالت : إخلافُ النجوم ، وقلّةُ الغيوم ، وكلَبُ البَرْد ، وشدّة الجَهْدِ ، وكنت لنا بعد الله الرّفْدَ .
قال لها : أخبريني عن الأرض . قا لت : الأرض مُغْبَرَّة ، والفجَاج مقشعرّة ، وأصابتْنا سنون مُجْحِفة مُظْلِمة ، لم تَدَعْ لنا هُبَعاً ولا رُبَعاً ، ولا عافِطة ولا نافطة أهلكت الرجال ، ومزَقت العِيَال ، وأفسدت الأموال ، وأنشدت الأبيات التي مضت آنفاً ، فالتفتَ الحجاج إلى أصحابه . وقال : هل تعرفون هذه ؟ قالوا : لا . قال : هذه ليلى الأخيلية التي تقول : الكامل :
نحن الأخايلُ لا يزالُ غُلامُنا . . . حتى يَدِبَّ على العَصَا مذكورا
تبْكِي الرماحُ إذا فَقَدْنَ أَكُفَّنا . . . حُزْناً وتلقانا الرِّفاقُ بُحوراوفي آخر حديثها قال لها : أنشدينا بعض شعرك ، فأنشدته : الطويل :
لعَمْرك ما بالموتِ عارٌ على الفتى . . . إذا لم تُصِبْهُ في الحياة المَعَايِرُ
ومن كان ممّا يُحدِثُ الدهر جازعاً . . . فلا بُدَّ يوماً أن يُرَى وَهْوَ صَابِرُ
فلا يُبْعِدَنْكَ الله يا تَوْبُ هالكاً . . . لدى الحرب إن دارَت عليك المقادرُ
فكل جديد أو شباب إلى بِلًى . . . وكل امرئ يوماً إلى الله صائرُ
وكل قَرِيْنَيْ ألفَةٍ لِتَفَرُّقٍ . . . شَتَاتٍ وإن ضَنَّا وطال التعَاشُر
فأقسمت أبكي بعد توبةَ هالكاً . . . وأحْفلُ من دارتْ عليه الدوائرُ
فقال الحجاج لصاحب له : اذهب بها فاقطعْ عني لسانها ، فدعا لها بالحجّام ليقطع لسانها . فقالت له : ويحك إنما قال لك الأمير : اقطع لساني بالعطاء ، فارجع إليه فاسْأَله ، فسأله فاستشاط غيظاً ، وهّم بقطع لسانه ، ثم أمر بها فأدخلت فقالت : أيها الأمير ، كاد يقطع مِقْولي ، وأنشدته : البسيط :
حجّاجُ أنت الذي ما فوقَه أَحَدٌ . . . إلا الخليفةَ والمُسْتَغْفَرُ الصَّمَدُ
حجّاجُ أَنتَ شهابُ الحَرْب إن لقحتْ . . . وأَنْتَ للناس نورٌ في الدُّجَا يَقدُ
احتذى الحجاجُ في قوله : ' اقطع لسانها ' قولَ النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، لمّا أعطى المؤلفة قلوبهم يوم حُنَين مائة من الإبل ، وأعطى العباس بن مرداس أربعين فسخطها وقال : المتقارب :
أتجعل نَهْبِي ونَهْبَ العُبَيْ . . . دِ بين عُيَيْنَةَ والأقرعِ
وما كان حِصنٌ ولا حَابسٌ . . . يفوقان مِرْداسَ في مَجْمَعِ
وما كنت إلا امرأً منهُمُ . . . ومن تَضَع اليوم لا يرفعِالعُبيد : اسم فرسه ، وحصن الذي ذكره ، هو أبو عُيَيْنة بن حِصْن بن حذيفة بن بَدْر سيد فزارة ، وحابس : أبو الأقرع بن حابس ، وقد تقدّم نسبه - فأمر النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، بإحضاره ، فقال : أنت القائل : المتقارب :
أتجعل نهبي ونهب العبي . . . د بين الأقرع وعيينة . . . . . . .
وكان النبي ، عليه الصلاة والسلام ، كما قال الله ، عزَ وجل : ' وما علَّمْناهُ الشِّعْرَ وماينبغي لهُ ' . فقال : قم يا علي فاقطع لسانه . قال العباس : فقلت : يا عليّ ، وإنك لَقَاطِعٌ لساني ؟ قال : إني مُمْضٍ فيك ما أمرت ، فمضى بِي حتى أدخلني الحظائر ، فقال : اعتدّ ما بين الأربعين إلى مائة ، قلت : بأبي أنت وأمي ما أَحلمكم وأعلمكم وأعدلكم وأكرمكم فقال : إن رسولَ الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أعطاك أربعين ، وجعلك من المهاجرين فإن شئت فخُذْها ، وإن شئت فخُذْ مائة ، وكن من المؤلَفة قلوبهُم . فقلت : أشِرْ عليَّ ؟ فقال : إني آمرك أن تأخذ ما أعطاك . فأخذتها .
وكانت ليلى الأخيلية قد حاجَّت النابغة الجَعْدي فأَفحمته .
ودخلت على عبد الملك ابن مروان وقد أسنّت فقال : ما رأى تَوْبَةُ فيك حتى أحبك ؟ قالت : رأى فيّ ما رأى الناسُ فيك حين ولّوك فضحك عبدُ الملك حتى بدَتْ له سن سوداء كان يُخْفيها .
وقالت هند بنت أسد الضبابية : الطويل :
لقد مات بالبيضاء من جانب الحِمَى . . . فتى كان زَيْناً للمواكب والشَّرْبِ يلوذُ به الجاني مخافة ما جَنَى . . . كما لاَذتِ العَصْماء بالشاهقِ الصعب
تظلُّ بناتُ العمِّ والخالِ حَوله . . . صَوادِيَ لاَ يرْوَيْن بالبارِدِ العَذْبِ
وقالت أم خالد النميرية تشبب بأثال الكلابي : الطويل :
إذا ما أتتْنا الريحُ من نحو أرضهِ . . . أتتْنا بريَّاه فطابَ هبوبُها
أتتْنا بِمِسك خالط المِسْك عَنْبَرٌ . . . وريح خزامى باكَرَتْهَا جَنُوبُها
أحِن لذِكراه إذا ما ذَكَرْتهُ . . . وتنهلّ عبراتٌ تَفِيضُ غُروبها
حنينَ أسيرٍ نازح شُدّ قيدُهُ . . . وإعوالَ نَفْسٍ غاب عنها حَبِيبُهاوأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، لأمّ الضحاك المحاربية وكانت تحبُّ رجلاً من الضِّباب حبّاً شديداً : البسيط :
يا أيها الراكب الغادي لِطيًّتِهِ . . . عرَّجْ أبثَّك عن بعض الذي أَجِدُ
ما عالَج الناسُ من وَجْدٍ تَضَمَّنَهُمْ . . . إلا وَجَدْتُ به فوق الذي وجَدوا
حسبي رِضاه وأنّي في مَسَرَّتِه . . . وودّه آخر الأيام أجتهد
وقالت : الطويل :
هل القلبُ إن لاَقَى الضبَابيَّ خالياً . . . لدى الرُكْنِ أو عند الصَّفَا يَتَحَرَّجُ
وأَزْعَجنا قُرْبُ الفراقِ ، وبيننا . . . حديثٌ كتنفيس المريضين مُزْعجُ
حديثٌ لَوَ أنّ اللحمَ يُشْوَى بحرِّه . . . غَرِيضاً أَتى أصحابَه وهو منْضَجُ
وأنشد الزبير بن بكار لحليمة الخُضرية ، وقد أنشدها المبرد لنبهان العَبْشَمِيّ وهو أشبه : الطويل :
يقرُّ بعيني أن أَرى مَن مكانُهُ . . . ذُرَى عَقداتِ الأبرعِ المُتَقَاودِ
وأَنْ أَرِدَ الماءَ الذي شَرِبَتْ به . . . سُلَيْمَى وإن ملَّ السُّرى كل واخِدِ
وألصِقَ أحْشائي ببَرْدِ تُرَابِه . . . وإنْ كان مخلوطاً بسمِّ الأَساوِدِ
وقالت الفارعَة بنت شداد ترثي أخاها مسعوداً : البسيط :
يا عينُ بَكي لمسعود بن شدَّادِ . . . بكاءَ ذِي عَبَرات شَجْوُه بادِي
من لا يذابُ له شَحْمُ السَّديفِ ولا . . . يَجْفُو العِيالَ إذا ما ضُنَّ بالزادِ
ولا يحل إذا ما حلَّ مُنتبِذاً . . . يخشى الرزِيّة بين المالِ والنادِي
قوال مُحْكَمة ، نَقّاضُ مُبْرَمَةٍ . . . فتّاحُ مُبْهَمَةٍ ، حبَّاس أَوْرَادِ
قتَّالُ مَسغَبةٍ ، وَثَّابُ مَرْقَبَةٍ . . . مَنَّاعُ مَغْلَبَة ، فكَاكُ أقيادِ
حَلالُ مُمرِعَة ، فَرَّاج مُفْظِعة . . . حمّالُ مُضْلِعَة ، طَلاَّعُ أنجاد
حَمَّالُ ألويةٍ ، شهَّادُ أنْدية . . . شدَّاد أَوهِيَة ، فرَّاج أَسْدَادِ
جمَّاع كل خصال الخير قد علموا . . . زَيْنُ القَرِين ونِكْل الظالمِ العادِي
أبا زُرَارة لا تَبعَدْ فكلُّ فتًى . . . يَوْماً رهينُ صفيحاتٍ وأَعْوَادِهلا سقيْتُمْ ، بني جَرْمٍ ، أسيرَكَم . . . نَفْسِي فداؤُك من ذي كرْبة صَادِي
نعم الفتى ، ويمينِ الله ، قد علموا . . . يَخْلُو به الحيُّ أو يَغْدو به الغَادِي
هو الفتى يحمدُ الجيرانُ مشهدَهُ . . . عند الشتاءِ وقد هَمُّوا بإخماد
الطاعن الطعنةَ النّجلاَء يَتبَعُها . . . مُثعَنْجِراً بعد ما تَغْلي بإزْبَاد
والسابئ الزُّقَّ للأضيافِ إن نزلُوا . . . إلى ذَرَاهُ وغيثُ المُحْوَجِ الغَادِي
والمحسنات من النساء كثير ، وقد تفرّق لهنّ في أضعاف هذا الكتاب ما اختير .
دموع العاشقين
وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب : الطويل :
ومستنجد بالحُزْنِ دَمْعاً كأنه . . . على الخدِّ ممّا ليس يَرْقَأ حائرُ
إذا ديمةٌ منه استقلَّتْ تهلّلتْ . . . أوائلُ أخرى ما لهنّ أواخرُ
مَلاَ مقْلتيه الدمعُ حتى كأَنه . . . لِمَا انهلَّ من عينيه في الماءِ ناظر وينظر من بين الدموعِ بمُقْلةٍ . . . رمَى الشوقُ في إنسانِها فَهْوَ سَاهِرُ
وقال آخر - ورُوِيَتْ لقيس بن الملوّح : الطويل :
نظرْتُ كأني من وراءِ زجاجةٍ . . . إلى الدار من ماء الصبابة أنظرُ
فعيناي طوْراً يَغْرقانِ من البُكا . . . فأَعشى ، وطوراً تحسِرانِ فأُبصرُ
وقال غيلان : الطويل :
وما شَنَّتا خَرْقاءَ واهية الكُلَى . . . سقَى بهما ساقٍ ولمّا تَبَلَّلابأَضيعَ من عينيكَ للدَّمع كلّما . . . توهمْتَ رَبعاً أو توسَّمْتَ منزلا
وقال آخر : الطويل :
وممّا شجاني أنها يوم ودّعت . . . تولت وماءَ الجفن في العين حَائرُ
فلمّا أعادت من بَعيد بنَظرةٍ . . . إليّ التفاتاً أسْلَمَته المحَاجِرُ
أبو عبَادة البحتري : الوافر :
وقفْنَا والعيون مُشَغَّلاتٌ . . . يُغالِبُ طَرفَها نَظرٌ كَلِيلُ
نَهَتْه رِقبةُ الواشِين حتى . . . تَعَلَّقَ لا يَغيضُ ولا يَسِيلُ
وأنشد أبو الحسن جحظة : الطويل :
ومن طاعتي إياه أَمْطَرَ ناظري . . . إذا هو أبدى من ثناياه لي بَرْقا
كأَنَّ دموعي تبْصرُ الوَصلَ هارباً . . . فمن أجله تَجْرِي لتدركه سَبْقا
أخذ البيت الأول المتنبي فقال : المنسرح :
يبتلُّ خَدّايَ كلّما ابتسمت . . . منْ مَطَرٍ بَرْقُهُ ثنايَاهَا
وقال أبو الشيص ، واسمه محمد بن عبيد الله ، وهو ابن عمّ دعبل : الوافر :
وقائلةٍ وقد بَصُرَتْ بِدَمْعٍ . . . على الخدّين مُنْحَدِرٍ سَكوبِ
أتكذبُ في البكاء وأنتَ جَلْدٌ ؟ . . . قديماً ما جَسَرْتَ على الذنوبِ
قميصُك والدموعُ تجولُ فيهِ . . . وقلبك ليس بالقلب الكَئيبِ
كمثل قميص يوسف حين جاءوا . . . عليه عشيةً بدَمٍ كَذوب
فقلت لها : فداك أبي وأمي . . . رَجَمْتِ بسوء ظنِّك في الغيوبِأما واللَّهِ لو فتّشت قلبِي . . . لسرَّك بالعويلِ وبالنحيب
دموعُ العاشقين إذا تلاقَوْا . . . بظهْر الغيب أَلسِنةُ القلوبِ
من أخبار العباس بن الأحنف
وقال بشار بن برد : ما زال فتى من بني حَنِيفة يُدْخِلُ نفسَه فينا ويُخرِجُها منّا حتى قال : الكامل :
نزف البكاءُ دموعَ عينك فاسْتَعِرْ . . . عيناً لغيرك دَمْعُها مِدْرَارُ
مَنْ ذَا يعيرك عينَه تَبْكي بها . . . أرأيت عَيْناً للبكاء تُعَار ؟
قال : وهذا الذي عناه بشار هو أبو الفضل العباس بن الأحنف بن طلحة بن هارون بن كلدة بن خزيم بن شهاب بن سالم بن حبة بن كليب بن عدي بن عبد الله بن حنيفة ، وكان كما قال بعض مَنْ وصفه : كان أحسن خَلْقِ الله إذا حَدّث حديثاً ، وأحسنهم إذا حُدِّث استماعاً ، وأمسكهم عن مُلاَحاةٍ إذا خُولف ، وكان ملوكيّ المذهب ، ظاهر النِّعمة ، حسنَ الهيئة ، وكانت فيه آلاتُ الظَّرْفِ ، كان جميلَ الوجه ، فَارِه المركب ، نظيفَ الثَّوْب ، حَسَنَ الألفاظ ، كثير النوادر ، رطيب الحديث ، باقياً على الشراب ، كثيرَ المساعدة ، شديد الاحتمال ، ولم يكن هجّاءً ، ولا مدّاحاً ، كان يتنزّهُ عن ذلك ، ويُشَبَّه من المتقدّمين بعمر بن أبي ربيعة .
وسُئل أبو نواس عن العباس وقد ضمَّهما مجلس فقال : هو أرق من الوَهْم ، وأحسن من الفهم .
وكان أبو الهُذَيل العلاف المعتزلي إذا ذكره لَعَنه وزنَّاه لأجل قوله : البسيط
وضعتُ خدِّي لأدنى من يُطِيف بكم . . . حتى احْتُقرْتُ وما مِثْلِي بمحتَقَرِ
إذا أرَدْتُ انتصاراً كان ناصرَكم . . . قلبي ، وما أنا من قلبي بمُنتصَرِ
فأكثروا أو أقِلُّوا من ملامكم . . . فكل ذلك محمول على القَدرِ
وقوله في البيت الأوسط كقوله : السريع :
قلبي إلى ما ضرّني داعِي . . . يُكثرُ أَسْقامي وأَوْجاعي
لَقلّما أبْقَى على ما أرى . . . يوشك أن ينعانيَ الناعيكيف احتراسي من عدوي إذا . . . كان عدوي بين أضلاعي ؟
وقيل لعنان جارية الناطفي : من أشعرُ الناس ؟ قالت : الذي يقول : الطويل : وأهجركُمْ حتى يقولوا : لقد سَلاَ . . . ولستُ بسالٍ عن هواك إلى الحَشْرِ
ولكن إذا كان المحبّ على الذي . . . يحبّ شفيقاً نازع الناس بالهَجْرِ
وقال العباس : الطويل :
جرى السيلُ فاستبكانيَ السيلُ إذْ جرى . . . وفاضَتْ له من مقلتيَّ غروبُ
وما ذاك إلا أن تيقنْتُ أنهُ . . . يمرُّ بوادٍ أنْتِ منه قريب
يكون أجاجاً دونكُمْ فإذا انتهى . . . إليكُمْ تلقَّى طِيَبكُمْ فيَطِيب
فيا ساكِنِي شَرْقِيّ دجلةَ كلّكُمْ . . . إلى القلب من أجل الحبيبِ حبيبُ
وقال الصولي : ناظرَ أبو أحمد علي بن يحيى المنجم رجلاً يُعْرَف بالمتفقه الموصلي في العباس بن الأحنف والعتّابي ، فعمل عليٌّ في ذلك رسالة أنفذها لعلي بن عيسى ؛ لأن الكلامَ في مجلسه جَرَى . وكان ممّا خاطبه به أن قال : ما أَهل نفسَه قطّ العتَّابي لتقديمها على العباس في الشعر ، ولو خاطبه مخاطبٌ لَدَفَعه وأنكَره ؛ لأنه كان عالماً لا يُؤتَى من قلّة معرفة بالشعر ، ولم أر أحداً من العلماء بالشعر مثل العتَّابي والعباس ، فضلاً عن تقديم العتَّابي عليه لتباينهما في ذلك وإن العتابي متكلِّف ، والعباس يتدفق طبعاً ؛ وكلامُ هذا سهل عَذْب ، وكلامُ ذاك متعقّد كَزُّ ، وفي شعر هذا رقّةٌ وحلاوة ، وفي شعر ذاك غِلَظ وجَسَاوة ، وشِعْرُ هذا في فنّ واحد وهو الغزل ؛ وأكْثَرَ فيه وأحسن ، وقد افتنَّ العتَّابي فلم يخرج في شيء منه عمَّا وصفْناه .
وإن من أحسن شعر العتابي قصيدته التي مدح بها الرشيد وأولها : البسيط :
يا ليلةً ليَ في حورانَ ساهرةً . . . حتى تكلَّمَ في الصبح العصافيرُ
وقال فيها :
أفي الأمَاقي انقباضٌ عن جفونِهما . . . أمْ في الجفون عَنِ الآماقِ تَقْصِيرُ ؟وهذا البيت أخذه من قول بشار الذي أحسن فيه كل الإحسان ، وهو قوله : الوافر :
جَفَتْ عَيْني عن التغميضِ حتَّى . . . كأنَ جفونَها عنها قِصارُ
فمسخه العتابي ، على أن بشاراً أخذه من قول جميل : المتقارب :
كأنَّ المحبّ لِطول السّهَادِ . . . قصيرُ الجفون ولم تَقْصُرِ
إلاّ أنّ بشاراً أحسن فيه ؛ فنازعهما إياه فأساء ، وإنَّ حقَّ من أخذ معنًى قد سُبق إليه أن يصنعه أجود من صَنْعَة السابق إليه ، أو يزيد عليه ، حتى يستحقّه ، وأمّا إذا قصّر عنه فهو مسيءٌ مَعِيب بالسرقة ، مذموم على التقصير .
ولقد هاجى أبا قابوس النصرانيّ فغُلَّبَ عليه في كثيرٍ ممّا جرى بينهما على ضَعْفِ مُنّة أبي قابوس في الشعر ، ثم قال في هذه القصيدة : البسيط :
ماذا عسى مَادِحٌ يُثْنِي عليك وقد . . . نادَاك بالوَحْي تقديسٌ وتطهيرُ
فُتَّ الممادحَ إلا أنَّ ألسننا . . . مستعلنات بما تُخْفي الضمائير
فختم البيت فيها بأثقل لفظة لو وَقعت في البَحر لكدَّرته ، وهي صحيحة ، وما شيء أملك بالشعر بعد صحَّةِ المعنى من حُسْنِ صِحَّة اللفظ ، وهذا عمل التكلف ، وسوء الطبع .
وللعباس بن الأحنف إحسان كثير ، ولو لم يكن إلا قوله : الخفيف :
أنكرَ الناسُ ساطِعَ المِسْكِ من دجْ . . . لةَ قد أَوْسَع المشارعَ طِيبا
فهمُ يحجَبُون منه وما يَدْ . . . رُون أنْ قد حَلَلْت منه قريبا
قاسميني هذا البلاءَ ، وإلاّ . . . فاجعلي لي من التعزِّي نصيبا
إنّ بعضَ العتابِ يدعو إلى العَتْ . . . بِ ، ويؤذِي به المحبُّ الحبيبا
وإذا ما القلوبُ لم تُضْمر العَطْ . . . فَ فلن يَعْطِفَ العِتَابُ القلوبا
وقوله : الكامل :
قالت مرضتُ فَعُدْتُها فتبرَّمَتْ . . . وَهْيَ الصحيحةُ والمريضُ العائدُ
تاللهِ لو أَنَّ القلوبَ كقَلْبها . . . ما رَقَّ للولد الصغيرِ الوالدُ
إنْ كان ذنبي في الزيارة فاعْلَمِيٍ . . . إني على كَسْبِ الذنوب لَجَاهِدُ
ألقيت بين جفون عيني فُرْقَةً . . . فإلى متى أنا سَاهِرٌ يا رَاقِدُ ؟يقع البلاءُ ويَنْقضِي عن أَهله . . . وبلاءُ حُبِّك كل يوم زائِدُ سمَّاك لي ناسٌ وقالوا : إنها . . . لَهِيَ التي تَشْقَى بها وتُكابدُ
فجحدتهم ليكونَ غيرك ظَنّهم . . . إني ليعجبني المحبُّ الجاحِدُ
وقوله : المنسرح :
إني وإن كنتِ قد أسأت بيَ ال . . . يَوْمَ لراجٍ للعَطْفِ منك غدا
أستمتع الله بالرجاء وإن . . . لم أر منكم ما أرتجي أبدا
وله : الكامل :
أهْدَى له أحبابه أُترُجَّةً . . . فبكى وأشفق من عِيافة زاجرِ
متطيراً منها أتَته وجِسْمُها . . . لونان بَاطنها خِلاَفُ الظّاهِر
ولئن وفَّى أبو أحمد العباسَ حقّه ، لقد ظلم العتّابي ما كان مستحقّه ، من سرّ الكلام ، وجَوْدَةِ رصف النظام . قال الصولي في نسب العباس - وكان من خؤولته - : هو العباس بن الأحنف بن الأسود بن قُدامة بن هيمان من بني هفّان بن الحارث بن ذهل بن الديل بن حنيفة . وله يقول الصريع يهجوا : البسيط :
بنو حنيفةَ لا يَرْضَى الدَّعِيُّ بهمْ . . . فاتْرُكْ حنيفةَ واطْلُبْ غيرها نَسَبَا
اذهبْ إلى عَرَبٍ تَرْضَى بنسبتِهم . . . إني أرى لك لوناً يُشبه العربا
وقال أبو أحمد : قال ، العباس : البسيط :
حُرٌّ دعاهُ الهوَى سِرّاً فَلَبَّاهُ . . . طَوْعاً فأَضْحَكَ مَوْلاَهُ وأبكاه
فشاهَدَتْ بالذي يُخْفي لَوَاحِظُه . . . وعَدَّلَتْها بفِيض الدمع عَيْنَاه
جازَيْتِني إذا رعيتُ الودَّ بعدكِ أن . . . وكَّلْتِ طَرْفِي بنجم الليل يرعاه
اللهُ يشهدُ أني لم أخُنْك هوًى . . . كفاك بيّنة أنْ يَشْهَد اللهُ
وقال : الكامل :
يا من يُكاتمني تَغيُّر قَلْبِه . . . سأكفُّ نفسي قبل أن تتبرّما
وأصُدّ عنك وفي يديَّ بقيّةٌ . . . من حَبْلِ ودِّك قبل أن يتصرَّمَا
يا للرجال لعاشقين تَواقَفا . . . وتخاطَبا من غَيْرِ أنْ يتكلّماحتى إذا خافَا العيونَ وأشفقا . . . جعلا الإشارةَ بالأنامل سُلّمَا
وقال : الكامل :
الله يعلمُ ما أردْتُ بهجركُم . . . إلا مساترةَ العدوِّ الكاشحِ
وعلمْتُ أنّ تسُّري وتباعدي . . . أبْقَى لوَصْلِك من دُنوٍّ فَاضحِ
وقال : الطويل :
يَهِيمُ بحرّان الجزيرة قَلْبُه . . . فيها غَزالٌ فاترُ الطَرْفِ سَاحِرُهْ
يُؤَازِرُه قَلْبي عليّ وليس لي . . . يَدَانِ بمَنْ قلبي عَلَيَّ يُؤَازِرُهْ
فقر في الغزل
وقد قال سهل بن هارون : البسيط :
أعان طَرْفي على قلبي وأعضائي . . . بنَظْرَةٍ وَقَفَتْ جسْمِي على دَائي
وكنتُ غِرَّاً بما يجني على بَدَني . . . لا عِلْمَ لي أن بعضِي بعضُ أعدائي
وقال النظام : الكامل :
إنَ العيونَ على القلوبِ إذا جَنَت . . . كانت بَلِيَّتَها على الأجسادِ
البحتري : البسيط :
ولستُ أَعْجَبُ من عِصْيَان قلبكَ لي . . . حقّاً إذا كان قلبِي فيك يَعْصيني
وقال الأصمعي : سمعتُ الرشيد يقول : قَلْبُ العاشق عليه مع مَعْشُوقِه . فقلت : هذا والله يا أميرَ المؤمنين أحْسَنُ من قول عُروة بن حزام لعَفْراء في أبياته التي أنشدها : الطويل :
وإنّي لتَعْرُوني لذِكْراكِ روعة . . . لها بين جِلْدِي والعظام دبيبُوما هو إلا أن أراها فيه فُجاءةً . . . فأُبْهَتَ حتى لا أكاد أجِيبُ
وأُصْرَفُ عن دائي الذي كُنْت أرتئي . . . ويقرب مِنّي ذِكْرُه ويَغِيبُ
ويضمر قَلْبي غدرها ويُعِينها . . . عليَّ ، وما لي في الفؤاد نَصِيبُ
فقال الرشيد : من قال ذلك وَهْماً ، فقد قلته علماً .
باب الحكمة
قال علي بنُ عبيدةَ الريحاني : اِحْمِ ودَّكَ فإنه عِرْضُك ، وصُنِ الأنس بك فإنه يُغْزِر حظّك ، ولا تستكثر من الطمأنينة إلا بعد استحكام الثّقة ؛ فإن الأنس سريرةُ العقل ، والطمأنينة بذلَة المتحابّين ، وليمس لك بعدهما تحفَة تَمْنحها صاحِبَك ، ولا حِبَاء تُوجب به الشكر على من اصطفيت . وقال : ما أنصف مَنْ عاتب أخاه بالإعراض على ذَنْبٍ كان منه ، أو هجرِه لخلافٍ بما يكْرَه عنده ، إذا كان لا يعتدُّ في سالف أيام العشرة إلا بالرضا عنه ، ومشاكلته فيما يُؤْنسه منه . فإن كان العاتِب شَكَا جميع ما ستَره من أخيه أو لا ، فلقد تُتَمِّمُ الموافقة حظَّ الاغتفار ، وإن لم يكن وفَى له بكلّ ما استحقّ منه فليقتصّ مِمَّا وجَب منه عليه لأخيه بقدر ذنبه ، ثم العودة إلى الألفة أولى من تشتُّت الشَّمْلِ ، وأَشبَهُ بأهل التصافي ، وأكرَمُ في الأحدوثة عند الناس .
وقال : الحياءُ لِبَاسٌ سابغ ، وحِجَاب وَاق ، وسِتْر من المساوي ، وأَخُو العفاف ، وحَلِيف الدّين ، ومُصَاحب بالصّنع ، ورَقيب من العِصْمَة ، وعين كَالِئَةٌ تذودُ عن الفساد ، وتنْهى عن الفحشاء والأدناس .
وقال : لا يخلو أحد من صَبْوَةٍ إلا أن يكونَ جَاسِيَ الْخِلْقَةِ ، منقوص البِنْية ، أو على خلاف تركيب الاعتدال .
وصف الهوى
ورأى سعيد بن سلم بن قتيبة ابناً له قد شرع في رقيق الشعر وروايته ، فأنكر عليه ،فقيل له : إنه قد عشق ، فقال : دعُوه فإنه يلطُف ، وينظُف ، ويَظْرُف .
وقال الفضل بن أحمد بن أبي طاهر واسم أبي طاهر طيفور : وَصَف الهوى قوم وقالوا : إنه فضيلة ، وإنه ينتج الحيلة ، ويشجع قَلْبَ الجبان ، ويسخِّي قَلْبَ البخيل ، ويصفِّي ذِهن الغبي ، ويطلق بالشِّعر لسات المُفحَم ، ويبعث حَزْم العاجز الضعيف ، وإنه عزيز تذلُ له عزَّةُ الملوك ، وتَضْرع فيه صولَةُ الشجاع ، وتَنْقَاد له طاعةُ كل ممتنِع ، ويذَلّل كلّ مستصعَب ، ويُبرز كل محتجب ، وهو داعية الأدب ، وأولُ باب به تُفتَّقُ به الأذهان والفطَن ، وتستخرج به دقائقُ المكايد والحِيَل ، وإليه تستريح الهِمَم ، وتسكن نوافِرُ الأخلاق والشِّيَم ، يُمتّع جليسه ، ويُؤْنس أليفَه ، وله سرورٌ يجول في النفس ، وفرَحٌ مستكِن في القلب ، وبه يتعاطف أَهلُ المودَّة ، ويتّصل أهْل الأُلفة ، وعليه تتألَّف الأشكال ، وله صَوْلاَت على القدر ، ومكَايد تُبْطِلُ لطائف الحيل ، وظَرْف يَظْهَرُ في الأخلاق والخِلَق ، وأرواح تَسْطَع من أهلها ، وتَعْبق من ذويها .
وقال اليماني بن عمرو مولى ذي الرياستين . كان ذو الرياستين يَبْعَثُ بي وبأحداثٍ من أهله إلى شيخ بخراسان ويقول : تعلَّمُوا منه الحكمة ؛ فكنَّا نَأْتيه ، وإذا انصرفنا من عنده اعترضَنَا ذُو الرياستين يسألُنا عمّا أفادنا فنخبره ؛ فسِرْنا إلى الشيخ يوماً فقال لنا : أنتم أدباء ، وقد سمِعْتُم الحكمة ، وفيكم أحداث ، ولكم نِعَم ، فهل فيكم عاشق ؟ قلْنا : لا ، قال : اعشقوا ؛ فإنّ العشق يُطْلِق الغبيّ ، ويَفْتَحُ جِبِلَّة البليد ، ويسخِّي كفَّ البخيل ، ويَبْعَثُ على النظافة وحُسنِ الهيئة ، ويَدْعُو إلى الحركة والذكاء ، وشرف الهمّة وإياكم والحرام .
قال : فانصرفنا ، فسألنا عمّا أَفادنا في يومنا ؛ فهبْناه أَن نخبره ، فعزَم علينا . فقلنا له : أمرنا بكذا وكذا ، قال : صَدَقَ ، أتعلمون من أين أَخذَ هذا الأدب ؟ قلنا : لا . قال : إنّ بَهْرَام جور كان له ابن رشَّحَه للملك من بعده ، فنشأ ساقطَ الهِمّة ، خامل المروءة ، دَنيء النفس ، سِّيئ الأدب ، كليل القريحة ، كَهَام الفِكْرِ ؛ فغمَّه ذلك ، ووكَّل به من المؤدِّبين والمنجّمين والحكماء مَنْ يُلازِمُه ويُعَلّمه ، وكان يسألهم فَيحكُون له ما يسوءُه ، إلى أن قال له بعض مؤدبيه : قد كنّا نخافُ سوءَ أدبه فحدَث من أَمره ما صِرْنَا إلى اليأس منه ، قال : وما ذلك ؟ قال : رأى ابنةَ فلان المرزُبان فعَشقها فغلبَتْ عليه ، فهو لا يهذِي إلا بأمرها ، ولا يتشاغَلُ إلا بذِكرها ، فقال بهرام جُور : الآن رَجوتُ صلاحه .ثم دعا بأبي الجارية فقال : إني مسِرِّ لك سرّاً فلا يَعْدُوَنّك . فضَمن له سَتْره فأعلمه أن ابنَه قد عشقَ ابنته ت وأنه يريد أن يُنكِحها إياه ، وأَمره أن يأخذها بإطماعه بنفسها ، ومراسلته من غير أَن يراها ، أو تَقَع عَينه عليها ؛ فإذا استحكم طَمَعه فيهما تجنَّتْ عليه ، وهجَرَتْه ، فإذا استعتبها أَعلمته أنها لا تَصْلُح إلا لملك ، أو مَنْ هِمَّتُه همةُ ملك ، وأن ذلك يمنعها من مُوَاصلته ، ثم ليعلمه خَبَرَها وخَبَرَه ، ولا يُطلِعها على ما أَسَرَّ إليه ، فقبل ذلك أبوها منه . ثم قال للمؤدّب : خوِّفْه بي ، وشجِّعْه على مراسلة الجارية ، ففعل ذلك ، وفعلت الجاريةُ ما أمرها به أبوها ؛ فلمّا انتهت إلى التجنّي عليه ، وعلم الفتى السببَ الذي كرِهَته من أجله أخذَ في الأدب ، وطلب الحكمة ، والعلم والفروسية ، ولعب الصَّوالجة ، والرماية ، حتى مَهَر في ذلك ، ورُفع إلى أبيه أنه يحتاجُ من المطاعم والآلات والدوابّ والملابس والوزراء فوق الذي كان له ؛ فسُرَّ الملِك بذلك ، وأمر له بما أراد ، ودعا بمؤدِّبه ، فقال : إنَّ الموضع الذي وَضع ابني نفسَه فيه بحبِّ هذه المرأة لا يُزْرِي به ، فتقدمْ إليه أن يرفع أمرَها إليَّ ويسألني أن أزوِّجَه إياها ، ففعل ، فزوَّجها منه ، وأمر بتعجيل نَقْلِها إليه ، وقال له : إذا اجتمعت أَنت وهي فلا تُحْدِثْ شيئاً حتى أَصير إليك . فلمّا اجتمعا صار إليه فقال : يا بني ، لا يضعنَّ منها عندك مراسَلَتُها إياك ، وليست في حِبالِك ، فأَنا أمرْتُها بذلك ، وهي من أَعظم الناسِ مِنّةً عليك ، بما دَعَتك إليه من طلب الحكمة ، والتخلُق بأخلاق الملوك ، حتى بلَغْتَ الحدَّ الذي تصلحُ منه للمُلْكِ بعدي ؛ فزِدْهَا في التشريف والإكرام بقدْرِ ما تستحقّ منك . ففعل الفتى ذلك ، وعاش مسروراً بالجارية ، وأبوه مسروراً به ، وزاد في إكرام المرزبان ، ورَفع مرتبته وشرفه بِصيانته لسرّه وطاعته ، وأحسن جائزته وجائزة المؤدّب بامتثاله أمره ، وعَقَدَ لابنه الملك من بعده . قال اليماني : وكان الشيخ الحسن بن مصعب .
ثم قال ذو الرياستين ، قال علي بن بلال : الطويل :
سيهلك في الدنيا شَفيق عليكُمُ . . . إذا غالهُ مِنْ حادِثِ الدَّهرِ غائلُهْ
ويُخْفي لكم حبّاً شديداً ورهْبَة . . . وللناس أَشغالٌ ، وحبُّك شَاغِلهْ
كريمٌ يُمِيت السِّرَّ حتى كأنه ، . . . إذا استخبروه عن حديثك ، جَاهِلُهْ
يَوَدُّ بأن يُمْسِي عليلاً لعلّها . . . إذا سمعت عنه بشكوى تُرَاسِلُهْويَرْتَاحُ للمعروف في طَلَب العُلاَ . . . لِتُحْمَد يوماً عند لَيْلَى شَمائِلُه
وذكر أعرابي الهوى فقال : هو أَعظمُ مَسْلَكاً في القَلْب من الرُوح في الجسم ، وأَملك بالنفس من النّفس ، يَظْهَر ويبطن ، ويَكْثُف ويَلْطُف ، فامتنعَ عن وَصْفِه اللسانُ ، وعَيِيَ عنه البيانُ فهو بين السَّحْرِ والجفون ، لطيفُ المسلك والكُمُون . وأنشد : الطويل :
يقولون لو دبّرتَ بالعَقْلِ حبَّها . . . ولا خَيْرَ في حُبٍّ يُدَبَّر بالعقل
من إنشاء الميكالي وشعره
فصل للأمير أبي الفضل الميكالي : لا زالت الأَيام تَزِيدُ رُتْبَتَه ارتفاعاً ، وباعَه اتَساعاً ، وعزَتَه غلبةً وامتناعاً ، فلا يبقى مجدٌ إلا شيَّدَتْه معاليه ومكارِمُه ، ولا ملك إلا افْتَرَعَتْهُ صرائِمُه وصوَارِمُه .
وله فصل : لا زالت حياة الأحرار بفضله متسِمة ، ووجوهُ المكارم بغُرَرِ أيامه مبتسمة ، وأهواء الصدور بخِدْمة وُدَه مرتسمة ، وغنائم الشكر بين محاسن قوله وفعله مقتسمة .
وله : الله يُديم رايةَ الأمير الجليل محفوفةً بالفَلْج والنصر ، مكنوفة بالغَلبة والقهْر ، حتى لا يزاول خَطْباً إلا تذلّلت به صِعَابُه ، ولا يُمَارِس أمراً إلا تيسَّرَتْ أسبابُه ، ولا يَرُوم حالاً إلا أذْعَن لهيبته وسُلْطانه ، وخَضَع لسيفه وسِنانِه ، وذلَّ لمعْقد لوائه ، ومنثنى عنانه ، إلى أن ينالَ من آماليه أَقاصِيهَا ، ويَمْلِك من مَبَاغِيه أَزِمَّتها ونواصيهَا ويُسامِي الثريّا بعلوِّ هقته ويناصيها .
وله فصل : إنما أَشكو إليك زماناً سَلَب ضِعْفَ ما وَهب ، وفَجع بأكثَرَ مما أَمْتَع ، وأوحش فوق ما آنس ، وعنف في نزعِ ما ألبس ؛ فإنه لم يُذِقْنَا حلاوة الاجتماع ، حتى جَرَّعَنا مرارةَ الفراق ، ولم يمتعنا بأنس الالتقاء ، حتى غادَرَنا رَهْنَ التلهُّفِ والاشتياق ، والحمدُ لله تعالى على كلّ حال يُسيء ويسر ، ويَحْلو ويُمر ، ولا أَيأس من رَوْح الله في إباحة صُنْع يجعل رَبْعَه مُنَاخي ، ويُقَصِّر مدّةَ البِعَاد والتراخي ، فأُلاحظ الزمانَ بعين راض ، ويُقْبِلُ إليّ حظّي بعد إعراض ، وأستأنف بعزَّته عيشاً سابغَ الذيول والأعطاف ، رقيقَ المعانىِ والأوصاف ، عَذْب الموارِدِ والمناهل ، مأمونَ الآفاتِ والغوائل .وله فصل : انا أسأل الله تعالى أَن يردَّ علي بَرْدَ العيش الذي فَقًدْتُه ، وفسحة السرور الذي عَهدْتُه ؛ فيَقْصر منِ الفراق أَمدُه ، ويعلو للالتقاء حكمه ويَدُه ، ويَرْجِع ذلك العهدُ الذي رَقَّت غلائله ، وصفت من الأقْذَاء مَنَاهله ، فلم أتهنأ بعده بأُنس مقيم ، ولا تعلّقت يوماً إلا بعيش بَهيم : الطويل :
فلو تَرْجع الأيامُ بيني وبينهُ . . . بذي الأثْلِ صَيْفاً مثل صيفي ومَرْبعي
أَشُدُّ بأَعناق النوى بعد هذهِ . . . مرائرَ إن جاذَبْتُهَا لم تَقَطعِ
وما على الله بعزيز أن يقرِّبَ بعيداً ، ويَهَب طالعاً سعيداً ، ويُسَهّل عسيراً ، ويفكّ من رقّ الاشتياق أسيراً .
وله فصل من كتاب إلى أبي منصور عبد الملك الثعالبي : قرأتُ خبرَ سلامته ، فسَرَى السرورُ في الجوانح ، واهتزَت النفسُ له اهتزازَ الغُصن تحت البارح : الطويل :
أَليس لأِخبار الأحبّةِ فرحةٌ . . . ولا فرحة العطشان فَاجأَهُ القَطْرُ
يقولون : قد أَوْفَى لوقتِ كتابهِ . . . فتَنتشر البشرى وينشرِحُ الصَّدْرُ
ثم سألت الله تعالى أن يحرسَ علينا سلامَته سابغةَ الملابس والمطَارف ، موصولة التالِدِ بالطَارِف .
وله فصل من كتاب تَعْزية عن أبي العباس بن الإمام أبي الطيب : لئن كانت الرزيَّة مُمِضَّة مؤلمة ؛ وطُرُقُ العَزاء والسلوة مُبْهمة ، لقد حلَّت بساحةِ من لا تَنتفِض بأمثالها مَرَائِرُه ، ولا تَضْعُف عن احتمالها بَصَائِره ، قد يتلقَّاها بصَدْرٍ فسيح ، يحمي أن يبيح الحُرن جنابَه ، وصَبْرٍ مشيح ، يحمي أن يُحْبِطَ الجَزعُ أجرَه وثوابَه ؛ كيف لا وآدابُ الدين من عنده تُلْتَمس ؛ وأحكامُ الشرع من لسانه ويده تُستفاد وتُقْتَبس ، والعيون تَرْمُقه في هذه الحال لتَجْري على سنَنه ، وتأخذَ بآدابه وسُنَنه ، فإن تعرت القلوب فبحَسب تماسكه عزاؤُها ، وإن حسنت الأفعال فإلى حميد أفعاله ومذاهبه اعتزاؤُها .من شعر الميكالي
جملة من شعره في تحسين القوافي والغزل : قال : الوافر :
عذِيري من جفونٍ رامياتٍ . . . بسَهْمِ السّحْرِ من عينَيْ غزالِ
غزاني طَرْفُه حتى سَبَاني . . . لأنتصرن منه بمَنْ غَزَالي
وله أيضاً : المتقارب :
أَمَا حان أَنْ يشتفي المُستَهامُ . . . بزَوْرَةِ وَصلٍ وتأوي لهُ ؟
يجمجم عن سُؤله هَيْبة . . . ويعلم عِلمُك تأويلَهُ
وقال أيضاً : الطويل :
شكوتُ إليه ما أُلاقي فقال لي : . . . رويداً ففي حكم الهوى أنْتَ مُؤْتلي
فلو كان حقّاً ما ادَّعيتَ من الجوى . . . لقلّ بما ألْقَى إذاً أن تموتَ لي
وقال أيضَاً : الطويل :
تفرق قلبي في هواه ، فعنده . . . فريقٌ وعندي شُعبةٌ وفَرِيقُ
إذا ظَمئَت نفسي أقول لها : اسقِني . . . فإن لم يكن راحٌ لديك فَرِيقُ
وقال أيضاً : مجزوء الرجز :
شَافَهَ كَفِّي رَشأ . . . بقُبْلَةٍ ما شَفَتِفقلت إذ قَبّلَها . . . يا ليت كفَي شفتِي
وقال : البسيط :
يا شادناً غاب نجم الحسن لولاه . . . قد كان يوسف لمّا مات وَلاَّه
ولاّه رقِّيَ ظرفٌ في شمائلهِ . . . فاشتطّ في الحكم لولا أنْ تولاّهُ
ارحمْ فتًى مُدنَفاً مَا إنْ يُخَلّصهُ . . . من غَمْرَةِ الوَجْدِ إلا أنت وَاللهُ
قضاء الحاجة
قال أبو عثمان عمرو بن بَحْرٍ الجاحظُ : حدّثني أبو الهيثم بن السندي بن شاهك قال : قلت في أيام ولايتي الكوفة لرجل من أهلها لا يجفُّ قلمه ولا تستريح يَدُه ، ولا تسكُن حركتُه في طلب حوائج الناس ، وإدخال المنافع على الضعفاء ، وكان رجلاً مفوّهأ : أخبرني عن الشيء الذي هوَّن عليك النصب ، وقوَّاك على التَّعبِ ، ما هو ؟ قال : قد ، واللَّهِ ، سمعتُ تغريدَ الأطيار بالأسْحَارِ على أفنان الأشجار ، وسمعتُ خَفْق أوتارِ العيدان ، وترجيحَ أصوات القيَان ، فما طَرِبْتُ من صوتٍ قطُ طَرَبي من ثناء حسن ، على رجلٍ قد أحسن ، ومن شاكر مُنعِم ، ومن شفاعة شفيع محتسب لطالب ذاكر . فقال أبو الهيثم : فقلت له : للّه أبوك لقد خشيت كرماً فبأي شيء سَهُلَتْ عليك المُعَاوَدة والطلب ؟ قال : لا أبلُغ المجهود ، ولا أسأل إلا ما يجوز ، وليس صدق العذر بأَكره إليّ من إنجاز الوعد ، ولست لإكراه السائل بأَكرهَ مني لإجحاف المسؤول ، ولا أرى الراغب أوْجَبَ حقاً عليَّ للذي قدم من حُسْنِ ظنه من المرغوب إليه للذي احتمل من كله . قال إبراهيم : ما سمعتُ كلاماً قطّ أشدّ مؤالفة لموضعه ، ولا أليق بمكانه ، من هذا الكلام .
بين أسيد بن عنقاء الفزاري وعميله الفزاري
وروى أبو بكر بن شُقَير النحوي عن أحمد بن عبيد قال : كان أُسيد بن عنقاء الفزاري مِنْ أكبر أهل زمانه ، وأشدّهم عارضةً ولساناً ، وطال عمرُه ، ونكبَه دهرُه ؛ فاختلّت حالُه ، فخرج يتبقّل لأهله ؛ فمرَّ عليه عُمَيلة الفزاري ، فسلّم عليه ، وقال : يا عمّ ؛ ما أصارك إلى ما أرى ؟ قال : بُخْلُ مثلك بماله ، وصَوْنُ وجهيعن مسألة الناس . قال : أما واللّه لئن بقيتُ إلى غدٍ لأغيرَن من حالك ما أرى ، فرجع ابن عَنْقاء إلى أهله فأخبرهم بما قال عُميلة ، فقالوا له : غرَّك كلامُ غلامٍ جُنْحَ ظلام فكأنما ألقموا فاهُ حجراً ؛ فباتَ متَمَلْمِلاً بين رجاء ويأس ، فلقا كان السحَر سَمع رُغاء الإبل ، وثُغَاء الشاء ، وصهيل الخيلِ ، ولَجَبَ الأموال ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : عُمَيلة قد ساق إليك مالَه ، فخرج ابن عنقاء له ، فقسم مالَه شَطْرَين ، وساهمَ عليه ، فأنشأ ابن عنقاء يقول : الكامل :
رآني على ما بي عُمَيلةُ فاشتكى . . . إلى ماله حالِي ، أَسَرَّ كما جَهَرْ
دعاني فواساني ، ولو ضَنَّ لم يُلَمْ . . . على حينَ لا بَدْوٌ يُرَجَّى ولا حَضَرْ
فقلت له خيراً ، وأَثنيت فِعْلَهُ . . . وأوفاك ما أوليت مَنْ ذَمّ أو شكرْ
ولمّا رأى المَجْدَ استُعيرتْ ثيابُهُ . . . تردّى بثوبٍ سابغ الذيل واتزَرْ
غلامٌ رماه الله بالحسن يافعاً . . . له سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ على البصرْ
كأنَّ الثريا عُلِّقَتْ في جبينهِ . . . وفي أنفه الشَعْرَى وفي خدِّه القمرْ
إذا قيلت العوراءُ أغْضى كأنهُ . . . ذليلٌ بلا دُلٍّ ، ولو شاء لانتصرْ
كلابي يمدح غنوياً
وأنشد أبو حاتم عن أبي عبيدة لِلْعَرَنْدَس أحد بني بكر بن كلاب يمدح بني عمرو الغَنَويين ، وكان الأصمعي يقول : هذا من المحال ، كلابيٌّ يمدح غَنَوياً : البسيط :
هَيْنُون لَيْنُون أيسارٌ ذوو كرم . . . سُوَّاسُ مَكْرُمَةٍ أبناءُ أيسارِ
إن يُسْألوا العُرْفَ يُعْطُوهُ ، وإن خُبروا . . . في الجَهْدِ أُدْرِكَ منهم طيبُ أخبار
لا يَنْطقون عن الأهواء إن نَطَقُو . . . ولا يُمارونَ إن مارَوْا بإكثار
مَنْ تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقيتُ سيّدَهم . . . مثلَ النجوم التي يسري بها السارِيمنهم وفيهم يُعَدُّ الخيرُ متلِداً . . . ولا يُعَدُّ نَثَا خِزْيٍ ولا عارِ
الدهر لا ينصف
فصل لبعض الكتاب - ما تعجُّبك ممّا لقيت من الحَيْفِ هل ضمن الدهرُ أن يُنْصِف ولا يَحِيفَ ، أو يُبْرِم فلا يَنْقُض ، أو يُعَافي فلا يُمْرِض ، أو يصفو فلا يكدّر ، أو يَفي فلا يَغْدر . قَدر أن تَعْذب لي مَشَارِبُه ، وتَلين لي جوانبُهُ ، فَحُكْمُ الدنيا لا تترك حامداً لها إلا أسكتته ، ولا ضاحكاً إلا أبكتْه ، أقوى ما كان بها ثقة ، وأشذ ما كان لها مِقَة ، وأوكد ما كان رُكوناً إليها ، وأعظم ما كان حرصاً عليها .
الاستخفاف بحقّ النعم
وقال بعض الكتّاب يصف رجلاً بالذمّ : ما ظنك بمن يعنف بالنعم عنف من ساءَتْهُ مجاوَرَتُها ، ويستخفُّ بحقِّها استخفافَ من ثَقُلَ عليه حَمْلُها ، ويَطَرِحُ الشكر عليها اطِّراح مَنْ لا يَعْلَمُ أنّ الشكرَ يَرْتَبِطها .
فقر في المدح
وقال أبو الشيص : البسيط :
يا من تمنّى على الدنيا مَبَالِغَها . . . هلا سَأَلْتَ أبا بشْر فتُعْطاها ؟
ما هبّت الريحُ إلا هَبَّ نَائِلُهُ . . . ولا ارْتَقى غاية إلا تخطَّاها
غيره : الطويل : طِلاَبُ العُلاَ إلا عليك يسِيرُ . . . وباعُ الأعادِي عن مَدَاكَ قَصِيرُ
إذا عُدَّ أهلُ الفضل كنت الذي لهُ . . . وللفَضْلِ فيه أولٌ وأخِيرُ
وقال أبو الحجناء الأصغر نُصيب يصف إسحاق بن صباح : الطويل :
كأن ابنَ صباحٍ ، وكندةُ حَوْلهُ . . . إذا ما بَدَا ، بَدْرٌ تَوَسَّط أنجماعلى أنّ في البدر المحاقَ ، وإن ذا . . . تمامٌ فما يزداد إلا تتما
ترى المنبر الغربي يهترُّ تحتهُ . . . إذا ما علا أعْوادَهُ وتكلّما
فأنت ابن خير الناس إلاَّ نبوةً . . . ومن قبلها كنت السنام المقَدّما
ونُصيب هو القائل في البرامكة ، وكان منقطعاً إليهم : الكَامل :
عند الملوك مَضرَّةٌ ومنافعُ . . . وأرى البرامكَ لا تَضُرُّ وتنفعُ
إن العروق إذا استسرَّ بها الثَّرى . . . أثّ النبات بها وطاب المَزرَع
فإذا جهلتَ من امرئ أعراقَهَ . . . وقَديمَة فانظر إلى ما يَصنَع
أخذ هذا من قول سَلم الخاسر : المنسرح :
لا تسأل المرءَ عن خلائٍقِه . . . في وَجْهِه شاهدّ من الخبرِ
وقال نُصَيب في بني سليمان بن علي : البسيط :
بنِي سليمانَ حزْتُم كلَّ مَكرمةٍ . . . وليس فوقكَم فَخرٌ لمفتخرِ
لا تسأل المرءَ يوماً عن خلائقه . . . في وجهِهِ شَاهِدٌ ينبِيك عن خَبَرِ
حَسبُ أمرئ شرفاً أن ساد أُسرَتَهُ . . . وأنت سُدْتَ جَميعَ الجنِّ والبشَر
سأَل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت رجلاً حاجة ، فلم يقضها ، وسأل آخر ، فقضاها ، فقال للأول : الطويل :
ذُممت ولَمْ تُحمد ، وأبًّتُ بحاجة . . . تَوَلّى سواكُمْ شكرَها واصطناعها
أبى لك فعلَ الخيرِ رأيٌ مقصّرٌ . . . ونَفسٌ أضاق الله بالبخل بَاعَها
إذا ما أرادته على الخيرِ مَرَّةً . . . عصاها ، وإن هَمَّتْ بشرٍّ أطاعَها
الجود والعطاء
قال رجلٌ لهشام بن عبد الملك : قد افتقرْتُ يا أميرَ المؤمنين إلى ظهور حسْنرأيك ، فإن رأيتَ إظهارَه بسرور الصَّديق ، ورَغم العدوّ ، فعلت ، قال هشام : أوجزت وملحتَ فيما سألت ، فلا تردّ لك طَلِبَة ، فما سأله شيئَاً إلا أعطاهُ أكثر منه .
قال حميد بن بلال : ولي عَمْرو بن مَسعَدة فارس وكرمان ، فقال له بعض أصحابه : أيها الأمير ، لو كان الحياءُ يظهر سؤالاً لدعاك حيائي من كرمك في جميع أهليك إلى الإقبال عَلَيَّ بما يكثر به حَسَد عدوي ، دون أن أسألك ، فقال عمرو : لا تَبغ ذلك بابتذالك ماءَ وجهك ، ونحن نُغنِيك عن إراقته في خوض السؤال ، فَارفع ما تريده في رُقعة يصل إليك سرّاً ففعل .
وقال رجل من أهل فارس : قدم على محمد بن طيفور ، وهو عامل على بلاد أصبهان لبعض أهلها : كم تقدّرون صلات محمد في كلِّ سنة للشعراء والمتوسّلين ؟ قالوا : مائة ألف دينار ، سوى الخِلع والحُملان .
وورد عليه يوماً كتابٌ من بعض إخوانه في شأن رجل استماحه له في دَرجِه : أنتَ أعَزَّك الله تعالى أجَلّ من أن يُتَوَسَّلَ بغيرك إليك ، وأن يُسْتَماح جُودُك إلا بك ، غير أني أذكرك بكتابي في أمر حامله ، ما شرَع كرمُك من الشكر وزَرَع إحسانك من الأجر ، قِبَل الصادرين والوارِدِين ؛ فهنَّاك الله تعالى ذلك ، ولازالَت يَدُ الله بجميل إحسانه ونعمته متواترةً عليك .
فقال محمد للرجل : احتكم لك وله ؛ فأخذ منه ألفَ دينار ، ولمن كتب له مثلي .
وقال رجلي لإبراهيم بن المهديّ : قد أوحشني منك ترَدُّدُ غليلِ في صدري أهابُك عن إظهاره ، وأجِلّك عن كَشْفه ، فقال له إبراهيم : لكني أكشف لك معروفي ، وأُظهر إحساني ؛ فإن يكن غير هذين في خَلَدِك ، فاكتُبْ رقعة يخرج توقيعي سرّاً لتقِفَ على ما تحب ، فبلَغ كلامه المهدي فقال : هذا واللّه غاية الكرم .
وكتب محمد بن طيفور لبعض خاصته بمالٍ وصّاه به ، فكتب الرجلُ إليه : قد استغوقَتْ نِعْمَتكَ وجوهَ الشكر لك ، وغُرَرَ الحمدِ فيما سلف منك ، ولولا فَرْطُ عجزي عن تلقّي ما يجب لك من الحمد لقبلْتُ ما أنفذتَه .فكتب إليه محمد : قد صغَّرَ شكرُك لنا ما أسلفناه إليك ؛ فخُذْ ما أنفذْناه ثواباً عن معرفتك بِشُكرِ التافه عندي ، وإلاَّ سمح شكرُك بما رأيناك له أهلاً إلى أَنْ يتَّسع قبول مثلك ، ما يستحق به جميلَ الدعاء ، وجزيلَ الثناء ، إن شاء الله تعالى .
رثاء قرد وثور
ولما مات قِرْدُ زُبيدة بنت جعفر ساءها ذلك ، ونالها من الغمّ ما عَرَفه الصغير والكبير من خاصَّتها ، فكتب إليها أبو هارون العبديّ : أيتها السيدة الخطيرة ؛ إنَّ موقعَ الخَطْب بذهاب الصغير المعجب كموقع السرور بنيْلِ الكثير المفرِح ، ومَن جهل قَدْرَ التعزية عن التافِهِ الخفي ، عَميَ عن التهنئة بالجليل السَّنيّ ، فلا نَقَصَكِ الله الزائدَ في سرورك ، ولا حَرَمَكِ أجرَ الذاهب من صغيرك .
فأمَرَتْ له بجائزة .
وكتب أبو إسحاق الصابي عن ابن بقية في أيام وزارته إلى أبي بكر بن قريعة يعزِّيه عن ثور أبيض بقوله ، وجلس للعزاء عنه تَرَاقُعاً وتحامُقاً : التعزيةُ على المفقود أطال الله بقاءَ القاضي إنما تكونُ بحسب محلِّه من فاقِدِه ، من غير أن تُرَاعَى قِيمتُهُ ولا ، قَدْرُهُ ، ولا ذاتُهُ ولا عينُهُ ؛ إذ كان الغرض فيها تبريدَ الغُلَّة ، وإخْمَادَ اللَوْعَة ، وتسكين الزَّفْرَة ، وتَنْفيس الكُزبة ، فربَّ وَلَدٍ عاق ، وشقيق مُشَاقّ ، وذي رحم أصبح لها قاطعاً ، ولأهله فاجعاً ، وقريب قوم قد قلدَهم عاراً ، وناطَ بهم شَنَاراً ، فلا لوم على تَرْك التعزية عنه ، وأحْرِ بها أن تستحيل تهنئةً بالراحة منه ؛ وربَّ مالٍ صامتٍ غيرِ ناطقٍ ، قد كان صاحبُه به مستظهراً ، وله مستثْمراً ، فالفجيعةُ به إذا فقد موضوعه موضعها ، والتعزيةُ عنه واقعةٌ منه موقعها . وقد بلغني أن القاضي أصيب بثور كان له ، فجلس للعزاء عنه شاكياً ، وأَجْهَش عليه باكياً ، والتدَم عليه وَالِهاً ، وحُكيت عنه حكاياتٌ ، في التأبين له ، وإقامة النَدبة عليه ، وتعديد ما كان فيه من فضائل البقْر التي تفرقتْ فيغيره ، واجتمعَتْ فيه وَحدَه . فصار كما قال أبو نواس ، في مثله من الناس : السريع :
ليس على الله بمستنكَرٍ . . . أن يجمع العالم في وَاحِدِ لأنه يَكْرُب الأرض مغمورة ط ويُثيرها مزروعة ، ويرقص في الدواليب ساقياً وفي الأرحاء طاحناً ، ويحمل الغلاَّتِ مستقلاًّ ، والأثقالَ مستخفّاً ؛ فلا يَؤُوده عظيم ، ولا يعْجزه جسيم ، ولا يجري في الحائط مع شقيقه ، ولا في الطريق مع رفيقه ، إلا كان جَلداً لا يُسبَق ، ومبرِّزاً لا يُلحق ، وفائتاً لا يُنال شَأْوه وغايتُه ، ولا يبلغ مَدَاه ونهايتُه . ويشهدُ الله أن ما ساءه ساءني ، وما آلمه آلمني ، ولم يَجُزْ عندي في حق ودّه استصغارُ خَطْبٍ جلَّ عنده ، فأرَّقه وأمَضَّه وأقلقه ، ولا تهوين صعبٍ بلغ منه وأرمضه ، وشَفَّه وأمرضه ؛ فكتبت هذه الرقعة ، قاضياً بها من الحقّ في مصابه هذا بقَدْرِ ما أظهر من إكباره إيّاه ، وأبانَ من إعظامه له ، وأسأل الله تعالى أن يخصَّه من المعوضة بأفضل ما خصّ به البشر ، عن البقر ، وأن يُفْرِدَ هذه البهيمة العجماء بأثَرَةٍ من الثواب ، يضيفها إلى المكلَّفين من أهل الألباب ؛ فإنها وإن لم تكن منهم ، فقد استحقت إلا تُفرد عنهم ، بأن مسّ القاضي سببُها ، وصار إليه منتسبُها ، حتى إذا أنجز الله ما وعد به عباده المؤمنين ، من تمحيص سيئاتهم ، وتضعيف حسناتهم ، والإفضاء بهم إلى الجنة التي رَضيَها لهم داراً ، وجعلها لجماعتهم قَرَاراً ؛ وأورد القاضي - أيّده الله تعالى - مواردَ أهل النعيم ؛ مع أَهْل الصراط المستقيم ، جاء وثَوْرُه هذا مجنوب معه ، مسموح له به ؛ وكما أن الجنةَ لا يدخلها الخبث ، ولا يكون من أهلها الحدث ، ولكنه عَرَق يجري من أعواضهم ، كذلك يجعل الله ثَوْر القاضي مركباً من العَنْبَرِ الشِّحري ، وماءِ الوَرْد الجُوري ؛ فيصير ثوراً له طورا ؛ وجُونَةَ عطرٍ له طورا وليسذلك بمستبعد ولا مستنكر ، ولا مستصعَب ولا متعذّر ؛ إذ كانت قدرةُ الله بذلك محيطةً ، ومواعيده لأمثاله ضامنة ؛ بما أعدَّه اللّه في الجنة لعبادِه الصادقين ، وأوليائه الصالحين ؛ من شهوات أنفسهم وملاذّ أعينهم ، وما هو سبحانه مع غامر فضله وفائِض كرمه ، بمانعه ذلك مع صالح مساعيه ، ومحمود شيَمه ؛ وقلبي متعلّق بمعرفة خبره ، أدام اللَّهُ عزه فيما ادرعه من شعار الصبر ، واحتفظ به من إيثار الآخر ، ورفع إليه من السكون لأمْرِ الله تعالى في الذي طَرَقَه ، والشكر له فيما أزعجه وأقلقه ، فليعرفني القاضي من ذلك ما أكُونُ ضاربَاً معه بسَهمِ المساعدة عليه ، وآخذاً بقسطِ المشاركة فيه .
فصل من جواب أبي بكر : وصل توقيعُ سيّدنا الوزير أطال الله بقاه ، وأدام تأييده ونعماه ، وأكمل رفعته وعُلاه ، وحَرس مهْجته ووَقاه ، بالتعزية عن الثور الأبيض ، الذي كان للحَرْثِ مثيراً ، وللدواليب مُدِيراً ، وبالسبْقِ إلى سائر المنافع شهيراً ، وعلى شدائد الزمان مساعداً وظَهيراً . لعمرُك لَقد كان بِعَملِه ناهضاً ، ولحماقات البقر رافضَاً ، وأنّى لنا بمثله وشَرْواه ، ولا شروى له ؛ فإنه كان من أعيان البقر ، وأنفع أجناسه للبشر ، مضاف ذلك إلى خَلاّتٍ لولا خَوفي من تجدُّد الحزن عليه ، وتهييج الجزَع وانصرافه إليه لعدَدتُها ؛ ليعلمَ - أدام الله عزّه - أنّ الحزينَ عليه غير مَلُوم . وكيف يُلام امرؤ فقَد من ماله قطعةً يجب في مثلها الزكاة ، ومن خَدم معيشته بهيمة تُعين على الصوم والصلاة ، وقد احتذيتُ ما مثّله الوزير من جميل الاحتساب ، والصبر على المُصَاب ؛ فقلت : ' إنَّا للَّهِ وإنَّا إليه راجِعونَ ، قول من علم أنه أملك لنفسه وماله وأهله ، وأنه لا يملك شيئَاً دونه ؛ إذ كان جلَّ ثناؤه ، وتقدَّست أسماؤه ، هو الملك الوهّاب ، المرتجع ما ارتجع ممّا يعوض عليه نفيس الثواب . وقد وجدت - أيّد الله الوزير - للبقر خاصة فضيلةً على سائر بهيْمة الأنعام ، تشهد بها العقولُ والأفهام ، وذكَر جملة من فضائلها .
وكأنَّ أبَا نواس في قوله : السريع :
ليس على الله بمستنكر . . . أن يجمع العالم في واحد
نَظَر في هذا المعنى إلى قول جرير : الوافر :
إذا غضِبَتْ عليك بنو تميمٍ . . . حَسِبْتَ الناسَ كلَّهُمُ غِضابارثاء الأشخاص
وقالت امرأة من العرب ، يقال : إنها امرأةُ العباسِ عمّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ترثي بنيها : البسيط :
رَعَوا من المجد أكنافاً إلى أجل . . . حتى إذا كملت أظماؤهمْ ورَدُوا
مَيت بمصر ، ومَيتٌ بالعراق ، ومَي . . . تٌ بالحجاز ، مَنايا بينهم بَدَدُ كانت لهم هِمَمٌ فرقن بينهمُ . . . إذا القعاديدُ عن أمثالهمْ قعدوا
بَث الجميل ، وتفريغ الجليل ، وإع . . . طاء الجزيل الذي لم يعطِه أحدُ
وقال عبدة بن الطبيب في قيس بن عاصم : الطويل :
عليك سلامُ الله قيس بنَ عاصمٍ . . . ورحمتُهُ ما شاء أن يترحَّما
تحيةَ مَن أَلبَسْتَه منك نعمةً . . . إذا زار عن شَحطٍ بلاَدك سلَّما
فما كان قَيسٌ هُلكُهُ هلْكَ واحِدٍ . . . ولكنه بنْيانُ قومٍ تَهَدّما
وقيس بن عاصم هو القائل : الكامل :
إني امرُؤٌ لا يَعتَرِي حَسَبي . . . دَنَسٌ يُغيِّره ولا أَفنُ
من مِنقَر في بيتِ مَكَرمةٍ . . . والأصل يَنْبتُ حوله الغصْنُ
خُطباء حين يقول قائلهمْ . . . بِيضُ الوجوهِ أعفّةٌ لُسْنُ
لا يَفطِنون لِعَيبِ جارِهُم . . . وهُمُ لحُسْن جوارِه فُطْنُوقالت أخت الوليد بن طريف الشيباني ترثيه : الطويل :
أبا شجَر الخابورِ ما لكَ مُورِقاً . . . كأنك لم تَجْزَعْ على ابنِ طَريفِ
فتى لا يَعُدّ الزادَ إلاّ من التّقى . . . ولا المالَ إلا من قَناً وسيوفِ
عليك سلامُ الله وقفاً ؛ لأنني . . . أرى الموت وَقَّاعاً بكل شريف
فقدناك فِقْدَان الربيع ، وليتنا . . . فَدَيْنَاك من فتياننا بأُلوف
وخرج الوليد في أيام الرشيد ، فقتله يزيد بن مَزْيد ، وفي ذلك يقول بكر بن النطاح الحنفي : الخفيف :
يا بني تغلبٍ ، لقد فَجَعَتْكُمْ . . . من يزيدٍ سيوفُهُ بالوليدِ
لَوْ سيوفٌ سوى سيوفِ يزيدٍ . . . قارَعَتْهُ لاقَتْ خِلافَ السعودِ
واترٌ بعضُها يُقَتِّلُ بَعْضاً . . . لا يَفلُّ الحديدَ غيرُ الحديدِ
عود إلى المديح
وكان بكر كثيرَ التعصب لربيعة والمدحِ فيهم ، وهو القائل : الطويل :
ومن يَفْتقرْ مِنّا يَعِشْ بحُسامِه . . . ومن يفتقرْ من سائر الناس يَسْأَلِ
ونحن وُصِفْنَا دون كل قبيلةٍ . . . بشدّةِ بأْس في الكتاب المنزَّلِوإنّا لنَلْهُو بالسيوف كما لَهَتْ . . . فتاةٌ بعِقْد أو سِخَابِ قَرَنْفِلِ
يريد قول اللّه عزّ وجل : ' سَتُدْعَوْنَ إلى قوم أَولي بَأْسٍ شديدٍ ' . جاء في بعض التفاسير أنهم بنو حنيفة قوم مُسيلمة الكذاب .
وبكر القائل أيضاً في أبي دُلَفَ : الكامل :
يا عصمة العرب الذي لو لم يكن . . . حيّاً لقد كانت بغير عِمَادِ
إنّ العيون إذا رأَتْك حِدادُها . . . رجعت من الإجلال غيرَ حِدَادِ
وإذا رميت الثغر منك بعَزْمةٍ . . . فتَّحْتَ منه مواضعَ الأسداد
فكأن رمحَك مُنْقَعٌ في عصفُرٍ . . . وكأنَّ سيفك سُلَّ من فرْصَاد
لو صال من غَضَبٍ أبو دلف على . . . بِيض السيوف لذُبْنَ في الأغماد
أَذكى وأَوقد للعداوة والقِرَى . . . نارَين ؛ نارَ وغًى ونار زناد
وأبو دلف هو القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير بن شنج بن معاوية بن خُزَاعي بن عبد العزّى بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم .
وقد روِيت الأبيات التي مرت لأخت الوليد بن طريف لعبد الملك بن بجرة النميري .
وقال أبو هَفّان واسمه منصور بن بجرة ، قال : أنشدني دعبل لنفسه : المتقارب :
وَدَاعُك مثل وَدَاع الربيع . . . وفقدُك مثل افتقاد الدِّيَم
عليك السلام فكم من وفاءٍ . . . أفارق منك وكمْ من كَرَمْ
فقلت : أحسنت ، ولكن سرقت البيتين من ربيعيين : الأول من قول القَطَامي : البسيط :
ما للكواعب ودَّعْنَ الحياةَ كما . . . وَدَّعْنَني واتَّخَذْنَ الشَّيْبَ ميعاديوالثاني من قول ابن بجرة :
فقدناك فقدان الربيع وليتنا
وأنشد البيت . فقال : بلى ، واللّه سرق الطائي من ابن بجرة بيتاً كاملاً فقال : الطويل :
عليك سلام الله وقفاً فإنني . . . رأيت الكريمَ الحُرَّ ليس له عُمرُ كذا وردت الحكاية من غير وجه ، وكان يجب إذا كان من ربيعيين أن يكون فَقَدناك فقدان الربيع لأخت الوليد .
وقد قار السموأل في قصر العمر : الطويل :
يقربُ حبُّ الموتِ آجالَنا لنا . . . وتَكْرَهه آجالُهُم َفتطولُ
وقال ابن قتيبة : أخذ النميريَ قوله : أيا أيا شجر الخابور من قول الجن في عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الطويل :
أبعد قتيلٍ بالمدينة أظلمت . . . له الأرض تهتزّ العِضَاه بأسْواقِ
وقد أنشده أبو تمام الطائي للشماخ في أبيات أولها : الطويل :
جزى الله خيراً من أميرٍ وباركت . . . يدُ الله في ذاك الأدِيمِ الممزَّقِ
ومن يَسعَ أو يركب جناحي نعامةٍ . . . ليدرك ما قدمت بالأمس يُسْبَقِ
قضيتَ أموراً ثم غادرتَ بعدها . . . نوافج في أكمامها لم تفتَّق
وما كنت أخشى أن تكونَ وفاتُه . . . بكفَّي سَبَنْتَى أزرق العين مُطرِق
تظلّ الحَصَان البِكر تلقى جنينها . . . نثا خبر فوق المطيّ معلّقوقد قال بشار قريباً من قوله : ولا المال إلاَّ من قنا وسيوف : الطويل :
على جَنبات الملك منه مَهَابةٌ . . . وفي الدَّرع عَبْلُ الساعدَين قَرُوعُ
إذا اختزنَ المال البخيلُ فإنما . . . خزائنهم خَطِّيةٌ ودُروعُ
وهذا كقول أبي الطيب المتنبي في فاتك الإخشيدي : الكامل :
كنا نَظنُّ دِيارَه مَملوءَةً . . . ذَهباً فماتَ وكلُّ دَارٍ بَلقعُ
وإذا المكارمُ والصَّوارمُ والقنا . . . وبناتُ أعوَجَ كلُّ شيءٍ يَجمعُ
ومن بارع هذا النحو قول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي : الطويل :
وإني لأرباب القبور لغابطٌ . . . لسُكنى سعيدٍ بين أهل المقابر
وإني لمفجوعٌ به إذ تكاثرت . . . عداتي ولم أهتف سِواه بنَاصِر
وكنت كلمغلوبٍ على نَصل سَيفه . . . وقد حزَّ فيه نصل حَرَّان باترِ
أتيناه زوَّاراً فأمجدَنا قرى . . . من البَث والداء الدخيل المخامِر
وأُبنَا بِزَرعٍ قد نما في صدورنا . . . من الوجد يُسقَى بالدمُوع البَوادِرِ
ولمّا حضَرنَا لاقتسام تُراثِه . . . أصبْنا عظيمات اللُّهى والمآثِرِ
أي لم نصب مالاً ، ولكنا أصبنا فعَالاً .
من نوادر الأعراب
دخلت أعرابية على عبد الله بن أبي بكرة بالبصرة ، فوقفت بين السماطين ، فقالت : أصلح الله الأمير ، وأَمتَعَ به ؛ حَدَرتنَا إليك سَنَةُ اشتدّ بلاؤها ، وانكشفغطاؤها ، أقودُ صِبية صغاراً ، وآخرين كباراً ، في بلد شاسعة ، تَخفِضُنا خافضة ، وترفعُنا رافعة ، لِمُلماتٍ من الدهر بَرَين عَظْمي ، وأذهبْنَ لحمي ، وتركْنَني والهة أدورُ بالحضيض ، وقد ضاق بي البلدُ العريض ، فسألت في أحياءِ العرب : مَن الكاملةُ فضائلُه ، المُعْطَى سائلُه ، المكفيُّ نَائله ، فَدُلِلْت عليك - أصلحك الله تعالى - وأنا امرأة من هوازن ؛ وقد مات الوالد ، وغاب الرَّافد ، وأنْتَ بعد الله غياثي ، ومنتهى أمَلي ، فافعلْ بي إحدَى ثلاث ، أما أن تردّني إلى بلدي ، أو تحسن صَفَدي ، أو تقيم أوَدي فقال : بل أجمعها لك ، فلم يَزَلْ يُجرِي عليها كما يُجْرِي على عياله ، حتى ماتت .
قال العتبي : وقف أعرابيّ بباب عبيد الله بن زياد ، فقال : يا أهل الغَضَارة ، حَقِبَ السحابُ ، وانقشعَ الرِّبَابُ ، واستأسدت الذِّئَاب ، وردم الثًمَد ، وقل الحَفَد ، ومات الولد ، وكنت كثيرَ العفَاةِ ، صخِب السقاة ، عقيمَ الدُّلاة ، لا أتضاءك للزمان ، ولا أحفل بالْحِدثَان ، حَيٌّ حِلاَل وعدَدٌ ومالٌ ، قتفرَقنا أيْدِي سَبَا . بعد فقد الأبناء والآباء ، وكنت حسنَ الشارة ، خصيب الدَارَة ، سليم الجارةِ وكان محلّي حِمَى ، وقومي أسى ، وعَزمي جَداً ؛ قضى الله ولا رجْعان لما قضى ، بِسَوَافِ المال ، وشتات الرجال ، وتَغَيّر الحال ، فأغيثوا مَن شَخْصُه شاهدُه ، ولسانُه وَافدُه ، وفقْرُه سائقُهُ وقائِدُه .
ومن مقامات الإسكندري ، من إنشاء بديع الزمان ، قال : حدثنا عيسى بن هشام قال : دخلت البَصرة وأنا من سنيَّ في فَتاء ، ومن الزِّيِّ في حِبرٍ ووِشاء ، ومن الغنى في بَقَرٍ وشَاء ؛ فأتيت المِرْبَد مع رفْقَة تأخذهم العيون ،ودخلْنا غير بعيد في بعض تلك المتنزهات ، ومشَيْنا في تلك المُتَوَجَّهات ، وملكتنا أرضٌ فحللْناها ، وعَمَدنا لِقِدَاح اللَهو فأجَلْنَاهَا ، مُطَّرِحِينَ للحِشْمَةِ ، إذْ لم يكن فينا إلا منَّا ، فما كان إلا بأَسْرَع من ارتداد الطَرْف حتى عنَّ لنا سَوَادٌ ، تخفِضُه وهاد ، وترفعه نِجَاد ، وعلمنا أنه يهمّ بنا ، فأتلعْنا له ، حتى انتهى إلينا سيرُه ، ولقينا بتحية الإسلام ، ورددنا عليه مقتضى السلام ؛ ثم أجال فينا طَرْفه وقال : يا قوم ، ما منكُمْ إلا من يلحظني شَزْراً ، ويوسعني زَجراً ، ولا ينبئكم عني ، بأصدقْ مني ؛ أنا رجلَ من أهل الإسكندرية ، من الثغور الأموية ، وقد وطّأ لي الفضل كنَفَه ، ورحبت بي عبس ، ونَمانِي بيت ، ثم جَعْجَعَ بي الدهرُ عن ثمِّهِ ورمِّهِ ، وأَتْلانِي زغاليلَ حُمْر الحواصل : الرجز :
كأنهُمْ حُيَّاتُ أرض مَحْلَةٍ . . . فلو يَعَضُّونَ لَذَكَّى سَمُّهُمْ
إذا نزَلْنَا أرسلوني كاسباً . . . وإن رَحَلنَا رَكِبُوني كُلُّهُمْ
ونشرت علينا البيض ، وشمسَتْ منا الصُّفْر ، وأكلتْنا السُّودُ ، وحطمتنا الحمر ، وانتابنا أبو مالك ، فما تَلَقَّانا أبو جابر إلا عن عُفْر ، وهذه البصرة ماؤها هَضوم ، وفقيرها مهضوم ، والمرءُ من ضِزسِه في شُغل ، ومن نفسه في كلّ ، فكيف بمن : الوافر :
يطَوِّف ما ايطَوِّف ثم يَأوي . . . إلى زُغْبٍ محَدَّدَة العيونِ
كَسَاهُنَّ البِلَى شُعْثاً فتمْسِي . . . جِيَاع الناس ضامِرَةَ العيونِ
ولقد أصْبَحْنَ اليَوْمَ وقد سَرَّحْنَ الطرف في حيٍّ كمَيْتٍ ، وفي بيت كلا بيت ، وقلبْنَالأكفّ على لَيت ، فقَضَضْنَ عقد الضلوع ، وأفَضْنَ ماء الدموع ، وتَدَاعَينَ باسمِ الجوع : مجزوء الكامل :
والفَقْر في زَمَنِ اللثا . . . مِ لكلِّ في كَرَمٍ عَلاَمَهْ
وقد اخترتُكم يا سادة ، ودلّتني عليكم السعادة ، وقلت : قسماً ، إن فيهم شِيماً ، فهل من فتى يعشّيهنّ ، أو يغشِّيهِنّ ؟ وهل من حرٍّ يغَذِّيهنّ ، أو يردّيهن ؟ .
قال عيسى بن هشام : فواللّه ما استأذن على سَمْعِي كلام رائع ابرع ممّا سَمعت ، لا جرمَ أنا استَمَحْنا الأوساط ، ونَفَضنا الأكمام ، وبَحَثنا الجيوب ؛ وأنلْتُهُ مُطرَفي ، وأخذت الجماعةُ أَخْذي ، وقلْنا له : الحقّ بأطفالك ، فأعرض عَنَّا بعد شكر وفّاه ، ونشرٍ مَلأَ بِهِ فَاهُ .
ومن رسائله إلى بعض الرؤساء : خُلقت - أطال الله بقاء السيد وأدام تأييده - مشروحَ جَنَانِ الصدر ، جموح عِنَانِ الحلم ، فسيح رُقعة الصدر : الطويل :
حَمُولاً صبوراً لو تَعَمَّدَني الردى . . . لسِرْتُ إليه مشْرِقَ الوَجْهِ راضيا
ألوفاً وفَياً لو رُدِدت إلى الصِّبَا . . . لفارقت شَيْبي فوجَعَ القلب باكِيا
واللّه لأَحيلنَّ السيد على الأيام ، ولأكِلَنَّ استحالة رأيه فيَّ على الليالي ؛ ولا أزال أصفيه الولاء ، وأسنيه الثناء ، وأفرش له من صدري الدَّهنَاء ، وأُعيره أذناً صماء ، حتى يعلم أيّ عِلقٍ باع ، وأيّ فتى أضاع ، وليقفَنَّ موقف اعتذار ، وليعلمنَّ بِنُصح أتى الواشون أم بِحبول ، ولا أقول : يا حالف اذكر حِلاًّ ولكن يا عاقِد إذكر حَلاًّ ولست كمن يشكو إلى رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، أَذَى رَهطِهِ ، ويَسْتَاقُ إلى رمي يزيد لِسِبْطه ، ولكني أقول : الطويل :
هنيئاً مريئاً غيرَ داءِ مخَامِرٍ . . . لعَزَّةَ مِنْ أَعراضنا ما اسْتَحَلِّتِ
وأنا أعلم أنّ السيدَ لا يخرج عن تلك الحلية ، بهذه الرُّقْية ، وأنّ جوابَه أخشنُ منلقائه ، فإن نشط للإجابة فلتكن المخاطبةُ قرأت رقعتك ، فهو أخفّ مؤنة ، وأقلّ تَبِعة .
وله إلى الشيخ العميد : أنا - أطال الله بقاء الشيخ العميد - مع إخوان نيسابور ، في ضيعة لا فيها أعان ، ولا عنها أصان ، وشيمة ليست بي تناط ، ولا عنّي تمَاط ، وحرفة لا عَنّي تزَال ، ولا فيها أدَال ، وهي الكُدية التي عليّ تبِعتُها وليس لْي منفعَتهإ ، فهل للشيخ العميد أن يلطف بصنيعته لطفاً يحط عنه دَرَنَ العار ، وشيمة التكسب بالأشعار ، ليخفَّ على القلوب ظلُّه ويرتفع عن الأحرار كَلُّه ولا يثقل على الأجفان شَخْصُهً ، بإتمام ماكان عَرَضَه عليه من أشغاله ، ليعلَقَ بأذياله ، ويستفيدَ من خلاله ؛ فيكون قد صان العلم عن ابتذاله ، والفضلَ عن إذلاله ، واشترى حُسنَ الثناء بجاهه ، كما يشتريه بماله ، والشيخ العميد فيما يوجبه من وَعدٍ يعتمده ، ووفاء يَتلو ما يَعده ، عالٍ رأيه إن شاء الله .
رجع إلى المديح
وقال بعضُ أهل العصر ؟ وهو أبو العباس الناشئ ، يمدحُ سعد الدولة أبا المعالي شريف بن سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان : البسيط :
كأنَّ مرآةَ فهمِ الدَهرِ في يدهِ . . . يَرَى بها غائبَ الأشياء لم يَغِبِ
ما يرفع الفَلكُ العالي سماءَ عُلاً . . . إلا علاها شريفٌ كوكبُ العربِ
يا من بعَيْنِ الرضا يلقَى مُؤمَلهُ . . . والبُخْلُ يُطْبِقُ أجفاناً على الغَضَبِ
لو يكتب المَلْك أسماء الملوك إذاً . . . أعطاك موضع بسم الله في الكُتُبِ
غرّبت في كل يوم منك مكرمةً . . . فليس ذِكْرُك في أرض بمغترِبِ
بيته الأول كقول القائل : الطويل :
أطل على الأشياء حتى كأنما . . . له من وراء الغَيْب مُقْلَةُ شاهدِ
وكما قال أبو تمام الطائي : الوافر :
أطَل على كِلاَ الأفقين حتى . . . كأنَّ الأرضَ في عينيه دارُوأفرط ابن الرومي فقال : المنسرح :
أحَاطَ علماً بكلِّ خافيةٍ . . . كأَنما الأرضُ في يديه كُرَهْ
وقال محمد بن وهيب : الطويل :
عليمٌ بأعقاب الأمور ، كأنما . . . يخاطبه من كلّ أمر عواقبُهْ
وقال بعض شعراء بني عبد الله بن طاهر : المتقارب :
وقوفك تحت ظلال السيوف . . . أقرَّ الخلافة فيَ دارها
كأنك مطّلع في القلوب . . . إذا ما تناجَتْ بأسرارها
وقال البحتري للفتح بن خاقان : الطويل :
كأنك عينٌ في القلوب بصيرةٌ . . . تَرَى ما عليه مستقيمٌ ومائل
وقال في سليمان بن عبد الله بن طاهر : البسيط :
ينال بالظن ما فات اليقين به . . . إذا تَلَبّس دون الظَّنِّ ايقانُ
كأنّ آراءَه والظن يجمعُها . . . تريه كل حفي وهْوَ إعلان
ما غاب عن عينه فالقلبُ يذكره . . . وإن تَنَمْ عينه فالقلب يَقْظانُ
وقال أبو الحسن أحمد بن محمد الكاتب يمدح عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير : البسيط :
إذا أبو قاسمٍ جادَتْ لنا يدُهُ . . . لم يحْمَدِ الأجْوَدَانِ البحرُ والمطَرُ
وإنْ أضاءتْ لنا أنوارُ غُرَّتِه . . . تضاءَل الأنورانِ الشمسُ والقمرُ
وإن مضى رأيه أو حَدُّ عزمته . . . تأخّر الماضيانِ السيفُ والقَدَرُ
من لم يبت حَذِراً من خوف سَطوَته . . . لم يَدرِ ما المُزْعِجَانِ الخوف والحذر
ينال بالظنّ ما يَعْيَا العِيَانُ بهِ . . . والشاهدانِ عليه العَيْنُ والأثر
كأنه الدهر في نُعمى وفي نعمٍ . . . إذا تعاقب منه النفع والضرر
كأنه وزِمامُ الدهر في يدهِ . . . يرى عواقبَ ما يأتي وما يَذَرُوأصل هذا قولُ أوسِ بن حَجَر : المنسرح :
الألمعيُّ الذي يظنّ بك الظنَّ كأن قد رأى وقد سمعَا
وهذا المعنى قد مرَّ في أثناء الكتاب .
قال أبو الحسن جحظة ألبرمكي : قلت لخالد الكاتب : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت أرقَّ الناس شعراً ، قلت : أتعرف قولَ الأعرابي : الطويل :
فما وَجد أعرابية قَذَفَت بها . . . صُروف الليالي حيث لم تَكُ ظَنّتِ
تمنَّت أحاليبَ الرعاء ، وخَيمَةً . . . بنَجْدٍ ، فلم يُقدَرْ لها ما تمنّتِ
إذا ذكرتَ ماءَ العضَاهِ وطِيبَهُ . . . وريح الصبا من نحو نجدٍ أرنّتِ بأعظم من وجدٍ بليلى وَجدته . . . غداة غدَوْنَا غدوة واطمأنَّتِ
وكانت رياح تحمل الحاجَ بيننا . . . فَقَدْ بًخِلَتْ تلك الرياح وضَنّتِ
فصاح خالد وقال : ويحك ويلَك يا جحظة هذا واللهِ أرَقّ من شعرِي .
فصل لأبي العباس بن المعتز
لن تكَسب - أعزّك اللهُ - المحامد ، وتستوجب الشرفَ ، إلا بالحَمْلِ على النفس والجال ، والنهوض بحمل الأثقال ، وبَذْل الجاهِ والمالِ ، ولو كانت المكارمُ تُنَال بغير مؤونة لاشترك فيها السفَل والأحرَار ، وتساهَمَها الوُضعَاء مع ذوي الأخطار ؛ ولكن الله تعالى خصَّ الكُرماء الذين جعلهم أهْلَها ، فخفّف عليهم حملها ، وسوغهم فَضْلَها ، وحَظَرها على السَّفِلَة لصِغَر أقدارهم عنها ، وبُعد طباعهم منها ، ونفورِها عنهم ، واقشعرارها منهم .
وقال أبو الطيب المتنبي : البسيط :
لولا المشقّةُ سادَ الناسُ كلُّهُمُ . . . الجُوْدُ يُفْقرُ والإقدامُ قَتَّالُوقال الطائي : الكامل :
والحمد شَهْدٌ لا يرى مشتارُه . . . يجنيه إلا من نقيع الحَنظلِ
شْرٌ لحامله ، ويسحبهُ الذي . . . لم يؤذ عاتقه خفيفَ المحملِ
آخذه الطائي من قول مسلم بن الوليد ، وقيل غيره : البسيط :
الجودُ أخشن مسًّاً يا بَنِي مطَرٍ . . . من أن تبزّكمو كَفَّ مُستلبِ
ما أعلَم الناس أن الجودَ مدفعةَ . . . للدَّمِّ لكنه يأتي على النّشبِ
وقال بعض الأجواد : إنا لنجِد كما يجد البخلاء ، ولكنا نصبر ولا يصبرون .
وقال الجاحظ : قيل لأبي عبّادٍ وزير المأمون ، وكان أسرعَ الناس غضباً : إنَّ لقمان الحكَيم قال لابنه : ما الحمل الثقيل ؟ قال : الغَضب . قال أبو عباد : لكنه واللَّه أخفُّ عليّ من الريش قيل له : إنما عنى لقمان أنً احتمالَ الغضَب ثقيل ، فقال : لا ، واللّه لا يَقوَى على احتمال الغضب من الناس إلا الجمل .
وغضب يوماً على بعضِ كتابه ، فرماه بدَوَاةٍ كانت بين يديه فشجه فقال أبو عبّاد : صدق الله تعالى في قوله : ' والذينَ إذا ما غَضِبوا هم يَعْقِرون ' . فبلغ ذلك المأمونَ فأحضره وقال له : ويحك مأ تُحسِن تقرأ آيةً من كتاب الله تعالى ؟ قال : بلى يا أمير المؤمنين ، إني لأحفظ من سورة واحدة ألفَ آية ؛ فضحك المأمون وأمر بإخراجه .
نبذة من لطائف ابن المعتز وفضل تحققه بالبديع والاستعارات ممّا تتعيَّن العناية بمطالعتها :
قال أبو بكر الصولي : اجتمعت مع جماعةِ من الشعراء عند أبي العباس عبد الله بن المعتز ، وكان يتحقّق بعلم البَديع تحققاً يَنصُره دعواه فيه لسانُ مذكراته ، فلم يَبقَ مَسْلَك من مسالك الشعراء إلا سلك بنا شِعَباً من شِعابه ، وأوردنا أحْسَنَ ما قيلَ في بابه ، إلى أن قالأبو العباس ما أحسن استعارة أشتمل عليها بيت واحد من الشعر ؟ قال الأسدي : قول لبيد : الكامل :
وغداةِ ريح قد كشفتُ وقَرَّةٍ . . . إذ أصبحَتَ بيدِ الشَّمالِ زمامها
قال أبو العباس : هذا حسن ، وغيره أحمد منه ، وقد أخذ من قول ثعلبة بن صغَيرة المازني : الكامل :
فتذَاكرَا ثَقلاً رَثيداً بعدما . . . ألقَت ذُكاءُ يمينَها في كَافرِ
وقول ذي الرمة أعجب إليّ منه : الطويل :
ألا طرقت ميٌّ هَيُوماً بذكرها . . . وأيدِي الثّريَّا جُنَّحٌ في المغاربِ
وقال بعضُنا : بل قول لبيد أيضَاً : الكامل :
ولقد حَمَيْتُ الخيلَ تحمل شِكّتيفُرُط ، وِشاحي إن غدوت لجامُها
قال أبو العباس : هذا حسن ، ولكن نَعدل عن لبيد .
وقال آخر : قول الهذلي : الطويل :
ولو أنني استودَعته لاهتدَتْ . . . إليه المنايا عَيْنُها ورَسُولُها
وقال أبو العباس : هذا حسن ، وأحسن منه - في استعارة لفظِ الاستيداع - قول الحصَين بن الحَمام ؛ لأنه جمع الاستعارة والمقابلة في قوله : الطويل :
نطَارِدهُم نستودعُ البيضَ هامَهُمْ . . . ويستودِعُونا السّمْهَرِيَّ المُقوَّماوقال آخر : بل قول ذي الرُّمة : الطويل :
أقامَتْ به حتى ذَوَىَ العودُ في الثّرى . . . وسَاقَ الثُّريَّا في ملاَءَتِهِ الفَجْرُ قال أبو العباس : هذا لعمري نهايةُ الخبرة ، وذو الرمة أبدع الناسِ استعارة ، وأبرعهم عبارة ، إلا أنَّ الصواب حتى ذوى العود والثرى ؛ لأن العود لا يَذْوي ما دام في الثرى ، وقد أنكره على ذي الرمة غير ابنِ المعتز . قال أبو عمرو بن العلاء : كانت يدي في يد الفرزدق فأَنشدته هذا البيت ، فقال : أُرشِدك أم أدَعُك . قال : فقلت : بل أرْشِدْنِي ، فقال : إن العود لا يَذوِي في الثّرى ، والصوابُ : حتى ذوىَ العود والثرى .
قال الصولي : وكأنه نبّه على ذي الرمة ؛ فقلت : بك قوله : الطويل :
ولمَّا رأيت الليل والشمس حيّةٌ . . . حياةَ الذي يقضي حشاشَةَ نَازعِ
وقال أبو العباس : اقتدحْتَ زَندك يا أبا بكر فأَوْرَى ، هذا بارعٌ جداً ، وقد سبقَه إلى هذه الاستعارة جرير حيث يقول : الكامل :
تحيي الروامس ربعها وتجِدّه . . . بعد البِلَى فتُمِيتهُ الأَمْطارُ
وهذا بيت جمع الاستعارةَ والمطابقة ، لأنه جاء بالإحياء والإماتة ، والبلى والجِدّة ، ولكِن ذو الرمة قد إستوفى ذِكْرَ الإحياءِ والإماتة في موضع آخر فأحْسَن ، وهو قوله : الطويل :
ونَشْوَانَ من طولِ النُّعاسِ كأنهُ . . . بحَبْلَيْن في مَشْطُونةٍ يَترجَّحُ
إذا مات فوق الرَّحْلِ أحييت روحهُ . . . بذكرك والعِيسُ المراسِلُ جُنَّحُ
فما أحد من الجماعة انصرف من ذلك المجلس إلا وقد غمره من بَحْرِ أبي العباس ما غاض معه مَعِينة ، ولم ينهض حتى زودناه من برّه ولطفه نهاية ما اتسعت له حالُه .
وقال ابن المعتز : الكامل :
لما رأيت الحبَّ يفضحنِي . . . ونَمَتْ عليَّ شواهدُ الصَّبِّ
ألقيتُ غيرَكِ فى ظنونهم . . . وسَتَرت وَجْهَ الحبِّ بالْحُبِّوقال العباس بن الأحنف في هذا المعنى : البسيط :
قد جرَّر الناسُ أذيالَ الظنون بنا . . . وفرَّق الناسُ فينا قولَهُمْ فِرَقا
فكاذبٌ قد رمى بالظَّن غيركُم . . . وصادقٌ ليس يَدْري أنه صدَقا
وقريب من هذا المعنى قول الفارضي رضي الله عنه ، وإن لم يكن منه : الطويل :
تخالفت الأقوال فينا تبايناً . . . برَجْم أُصولٍ بيننا ما لها أصلُ
فشنع قومٌ بالوِصَالِ ، ولم أصل . . . وأرْجفَ بالسلوان قومٌ ولم أسْلُ
وما صَدَقَ التشنيعُ عنها لشقْوَتي . . . وقد كَذَبَتْ عني الأرَاجِيفُ والنقل
وقال ابن المعتز : الطويل :
لنا عَزْمَة صمَّاء لا تسمعُ الرُّقى . . . تُبيت أُنوفَ الحاسدين علَى رَغْمِ
وإنّا لنعطي الحقَّ من غير حاكم . . . علينا ، ولو شِئْنَا لمِلْنا مع الظلمِ
وقد أخذه أبو العباس من قول أعرابي الطويل :
ألا يا شفاءَ النفسِ ليس بعالمٍ . . . بك الناسُ حتى يعلموا ليلةَ القدْرِ
سوى رَجْمهم بالظنَ والظنُ كاذِبٌ . . . مراراً وفيهم مَنْ يُصِيب ولا يَدْرِي
وقال الحسين بن مطير : الطويل :
لقد كنتُ جَلْداً قبل أن تُوقِد النوى . . . على كَبِدِي ناراً بَطيئاً خُمُودُها
ولو تُرِكتْ نارُ الهوى لتضرَّمَتْ . . . ولكنَّ شوقاً كل يوم يَزِيدُها
وقد كنتُ أرجو أن تموتَ صبابتي . . . إذا قَدِمتْ أيامُها وعهودُها
فقد جعلتْ في حبَّةِ القلبِ والحشَا . . . عِهَادُ الهوَى تُولَى بشوقٍ يُعِيدُها
بمرتَجةِ الأرداف هِيفٌ خُصُورُها . . . عِذابٌ ثناياها عجافٌ نهودُها
وصُفْر تَراقيها ، وحُمْرٌ أكفُّهَا . . . وسودٌ نواصيها ، وبيض خدودُها
مُخَضَّرة الأوساطِ ، زانتْ عقودَها . . . بأحْسَن ، مّا زيّنتْها عقودُها
يمنّينَنَا حتى تَرِفَّ قلوبُنا . . . رفيفَ الْخُزامَى بات طَلٌّ يَجُودُهاوفيهنّ مِقْلاق الوِشاح كأنها . . . مَهاة بتُرْبَانٍ طوِيلٌ عمودُها
وقال : الطويل :
قضى الله يا أسماءُ أنْ لَسْتُ بارحاً . . . أُحبّك حتى يُغمض العينَ مُغْمِضُ فحبّك بَلْوَى غير أن لا يَسُرُّني . . . وإن كان بَلْوَى أنني لك مُبْغِضُ
فوا كبداً من لَوْعَةِ البَيْن كلما . . . ذكرتُ ومن رفض الهوى حين يرفض
ومن عبرة تُذْري الدموع وزفرة . . . تقضقض أطرافَ الحشَا ثم تنهض
فيا ليتني أقْرَضْت جَلْداً صبابَتي . . . وأقرضَني صبْراًعلى الشوق مُقْرِضُ
إذا أنا رُضْتُ القلب في حُب غيره . . . بَدَا حُبُّها من دونه يتعرّض
وكان الحسين قويّ أَسْرِ الكلام ، جَزْلَ الألفاظ ، شديدَ العارِضة ، وهو القائل في المهدي : الطويل :
له يومُ بُؤسٍ فيه للناس أبؤُسٌ . . . ويومُ نعيمٍ فيهِ للناس أنْعُمُ
فيُمطر يوم الجودِ مِنْ كفِّه النَّدَى . . . ويَقْطرُ يومَ البؤس من كفَه الدمُ
فلو أن يومَ البُؤْس خلّى عقابهُ . . . على الناس لم يصبح على الأرض مُجْرمُ
ولو أنّ يوم الجود خَلَّى نَوَالهُ . . . على الأرض لم يصبح على الأرض مُعْدِمُ
وأنشد أبو هفان له : الخفيف :
أين أهلُ العتاب بالدَهناء ؟ . . . أين جيرانُنا على الأحْساء ؟
جاورونا والأرض ملبَسة نَوْ . . . رَ الأقاحي تُجَادُ بالأنْواء
كل يوم بأقحوان جَديد . . . تَضْحَكُ الأرضُ من بكاء السماء
أخذ هذا المعنى دعبل ، ونقله إلى معنى آخر ، فقال : الكامل :
أين الشبابُ ؟ وأيةً سلكا ؟ . . . أم أين يُطلَب ؟ ضَلَّ ، بل هلكا
لا تَعْجبي يا سَلْمَ مِنْ رجلٍ . . . ضَحِك المشيبُ برأْسِه فبَكَى
وقال مسلم بن الوليد في هذا المعنى : السريع :
مُستعبر يبكي على دمنةٍ . . . ورأسُه يَضْحَك فيه المشيبُوأنشد الزبير بن بكّار : الوافر :
أُحبّ معاليَ الأخلاق جَهْدِي . . . وأكره أنْ أعيبَ وأنْ أُعابا
وأصفح عن سباب الناسِ حِلْماً . . . وشرُّ الناسِ مَنْ حَبَّ السبابا
وأترك قائل العوراء عَمْداً . . . لأِهْلكه وما أَعْيَا الجوابا
ومَنْ هابَ الرجال تهيِّبُوهُ . . . ومن حقر الرجالَ فلن يُهابا
رياضة النفس على الفراق
وعلى ذكر قوله : الطويل :
إذا أنا رُضْتُ القلبَ في حُبِّ غيرها
أنشد الأصمعي لغلام من بني فزارة : الطويل :
وأُعرِضُ حتى يحسَبَ الناسُ أنما . . . بيَ الهَجْرُ ، لا والله ما بي لها هَجْرُ
ولكنْ أروضُ النفسَ أنظر هل لها . . . إذا فارقتْ يوماً أحبّتَها صَبْرُ
قال إسحاق الموصلي : قال لي الرشيد : ما أحْسَنُ ما قيل في رياضة النفس على الفراق ؟ قلت : قول أعرابي : الطويل :
وإني لأسْتَحْيِي عيوناً ، وأتَّقي . . . كثيراً ، وأسْتَبقي المودَّة بالهجْرِ
فأُنذِرُ بالهجران نفسي أرُوضها . . . لأعلم عند الهَجْر هل ليَ من صَبْر
فقال الرشيد : هذا مليح ، ولكني أستملح قول أعرابي آخر : الطويل :
خشيت عليها العَيْنَ من طول وَصْلِها . . . فهاجَرْتُها يومين خوفاً من الهَجْرِ
وما كان هِجْراني لها عن مَلالةٍ . . . ولكنني جرَّبْتُ نفسي بالصبرِ
قال الصولي : قال لي المبرد : عمّك إبراهيم بن العباس أَحزمُ رأياً من خاله العباس بن الأحنف في قوله : المنسرح :
كان خُروجي من عندكُمْ قدَراً . . . وحادثاً من حوادثِ الزمنِ
من قبل أن أعرض الفراق على . . . قَلْبي ، وأن أستعدَّ للحَزَنِ
وقال عمك إبراهيم : الطويل :
وناجيتُ نفسي بالفراق أرُوضُها . . . فقالت : رُوَيْداً لا أغرُّك من صَبْري
فقلت لها : فالهَجْرُ والبَيْنُ وَاحِدٌ . . . فقالت أأمْنَى بالفراقِ وبالهَجْرِ ؟فقلت له : إنه نقلَ كلامَ خاله : الطويل :
عرضْتُ على قلبي الفِراق فقال لي . . . من الآن فايْأَسْ لا أَغرك من صَبْري
إذا صَدّ من أهْوَى رجوتُ وِصالَه . . . وفرقةُ مَنْ أهوى أحرُّ من الجَمْرِ
وقال العباس بن الأحنف : الطويل : أرُوض على الهِجْرَانِ نفسي لعلَّها . . . تَماسَكُ لي أسبابُها حين أهجُرُ
وأعلم أنّ النفسَ تكذِبُ وَعْدَها . . . إذا صدق الهجرانُ يوماً وتغدرُ
وما عرضَتْ لي نظرةٌ مُذْ عرفْتُها . . . فأَنظرُ إلا مُثِّلَتْ حين أنظرُ
وقال المتنبي من المعنى : الطويل :
حَبَبْتُكَ قَلْبي قبلَ حُبِّيَ مَنْ نأَى . . . وقد كان غداراً فكن أنتَ وافيا
وأَعْلَمُ أنْ البيْنَ يُشْكِيكَ بعدها . . . فلستَ فؤادي إن وجدْتُكَ شاكيا
قال الحاتمي : والذي أراه وأذهب إليه أنّ أحسن من هذا المعنى قول أبي صخر الهذلي : الطويل :
ويمنعني من بعضِ إنكارِ ظُلْمِها . . . إذا ظلمت يوماً وإن كان لي عُذْرُ
مخافةُ أنّي قد علمت لئن بَدَا . . . ليَ الهَجْرُ منها ما على هَجْرِها صَبْرُ
وإني لا أدري إذا النفسُ أشرفت . . . على هَجْرِها ما يَبْلغنَ بيَ الهجرُ
فيا حبَّها زِدْنِي جوًى كل ليلةٍ . . . ويا سَلْوَة الأحزان مَوْعِدُكِ الحَشْرُ
شذور من كلام أهل العصر في مكارم الأخلاق
ابن المعتز - العقلُ غريزة تزيّنها التجارب . وله : العاقلُ من عَقَل لسانه ، والجاهلُ من جَهِل قَدره .
غيره : إذا تم العقلُ نقص الكلام ، حُسْنُ الصورة الجمالُ الظاهر ، وحسن الخلق الجمالُ الباطن . ما أبينَ وجوه الخيرِ والشرَ في مِرْآةِ العقل إذا لم يُصْدِئها الهوى . العاقلُ لا يَدَعُه ما ستر الله من عيوبه أن يفْرَحَ بما أظهر من محاسنه . بأَيدي العقولِ تُمْسَكُ أعنَةالنفوس عن الهوى . أحْر بمن كان عاقلاً أن يكونَ عمّا لا يَعْنِيه غافلاً . التواضعُ من مصايد الشرف . من لم يتَّضِعْ عند نفسه لم يرتفع عند غيره .
يحيى بن معاذ - التكبُّر على المتكبر تواضع . الحلم حجابُ الآفات . أحيوا الحياءَ بمجاورة من يُسْتَحْيَا منه . مَنْ كساه الحياءُ ثوبَه ، ستر عن الناس عَيْبَه . الصبرُ تجرّع الغُصص ، وانتَظارُ الفُرَص . قلوبُ العقلاء حصون الأسرار . انفَرِدْ بسرّك ولا تودعْه حازماً فيزل ، ولا جاهلاً فيخون . الأناة حُسْنُ السلامة ، والعجلة مفتاح الندامة . من حَسُنَ خُلقه وجَب حقه . إنّما يستحقِّ اسم الإنسانية مَنْ حَسُنَ خُلقه . يكاد سيئ الخلق يُعَدُّ من البهائم والسباع .
أرسطاطاليس - المروءة استحياءُ المرءَ نفسه . المعروف حصْنُ النعم من صروف الزمن . للحازم كنز في الآخرة من علمه ، وفي الدنيا من معروفه . لا تستحي من القليل فإن الحرمان أقل منه .
أبو بكر الخوارَزْمي - الطَرف يجري وبه هُزَال والسيف يمضي وبه انفلال ، والحرُّ يُعْطِي وبه إقلال . بَذلُ الجاه أحدُ المالين . شفاعةُ اللسانِ أفضلُ زكاة الإنسان . بَذلُ الجاهِ رِفْدٌ للمستعين . الشفيعُ جناحُ الطالب . التقوى هي العُدّة الباقية ، والجُنة الواقية . ظاهرُ التقوى شرفُ الدنيا ، وباطنها شرف الآخرة . من عفت أطرافه ، حسنت أوصافه . قال أبو الطيب المتنبي الطويل :
ولا عِفَةٌ في سيفهِ وسِنانهِ . . . ولكنها في الكَفِّ والفَرْجِ والفمِ
لقمان - الصَمْتُ حُكْمٌ وقليل فاعِلُه . أرْبعُ كلمات صدرت عن أربعة ملوك كأنما رُمِيت عن قَوْسٍ واحدة ؛ قال كسرى : لم أندم على ما لم أقل ، وندِمْتُ على ما قلت مراراً .قيصر : أنا على ردّ ما لم أقل أقدرُ مني على ردِّ ما قلت . ملك الصين : إذا تكلّمت بالكلمة ملكتني ، وإذا لم أتكلّم بها ملكتها . ملك الهند : عَجِبْتُ ممن يتكلّمُ بالكلمة إن رُفِعَتْ ضَرَّته ، وإن لم تُرْفَع لم تنفعه . ما الدّخان على النار ، ولا العَجَاج على الريح ، بأدلَّ من ظاهر الرجل على باطنه ، وأنشد : الكامل :
قد يُستدلّ بظاهر عن باطنٍ . . . حيث الدخان فثَمَّ مَوْقِدُ نارِ
مَنْ أَصلح ماله فقد صان الأكرَمين المالَ والعِرْضَ . من لم يجمد في التقدير ولم يَذب في التدبير فهو سديد التدبير . عليك بالقَصْدِ بين الطرفين ، لا مَنعَ ولا إسراف ، ولا بخل ولا إتراف . لا تكن رطباً فتُعْصَر ، ولا يابساً فتكسر ، ولا حلواً فتسْتَرط ، ولا مرّاً فتُلفَظ .
المأمون بن الرشيد - الثناء أكثر من الاستحقاق مَلَقٌ وهذَر ، والتقصير عِيّ وحَصَر . إكرامُ الأضياف ، من عادة الأشراف . وفي الخبر : لا تتكلَّفوا للضيف فتبغضوه ؛ فمن أبغض الضيفَ أبغضه اللِّه . ينبغي لصاحب الكريم أن يصبر عليه إذا جَمَعتهما نَبْوة الزمان ، فليس ينتفع بالجوهرة الكريمة من لم ينتظر نَفَاقها .
مواعظ عقلها بعض أهل العصر تتعلّق بهذا الفصل
أُغْضِ على القَذَى ، وإلاّ لم تَرْضَ أبداً . أجْمِل الطلبَ فسيأتيك ما قُدِر لك ، صُنْ عرضك ، وإلاَّ أخْلَقْت وجهك . جاور الناسَ - بالكفّ عن مساويهم . انْسَ رِفْدَك ، ولا تَنْسَ وعدَك ، كَذِّبْ أسواء الظنون بأحسنها . أغْنِ من ولَيته عن السرقة ، فليس يكفيك من لم تكفه . لا تتكلفْ ما كُفِيتَ فيضيع ما أوليت .
ابن المعتز - لا تسرعْ إلى أرفع موضع في المجلس ، فالموضع الذي تُرْفَعُ إليه خيرٌ من الموضع الذي تُحَطُ منه . لا تذكر الميتَ بسوء فتكون الأرض أكتم عليه منك . ينبغي للعاقل أن يُدَاري زمانه مداراةَ السابح للماء الجاري .
العتابي - المداراةُ سياسة رفيعة تجْلِبُ المنفعة ، وتدفع المضرَّة ، ولا يستغني عنها ملك ولا سُوقَة ، ولا يدع أحدٌ منها حظَّه إلا غمرته صروف المكاره .أخبار العتابي
وكتب العتابي إلى بعض إخوانه : لو اعتصم شوقي إليك بمثل سلوِّك عني لم أبذل وَجْهَ الرغبة إليك ، ولم أتجشّم مرارةَ تماديك ، ولكن استخفتْنَا صبابتنا ، فاحتملْنا قَسْوَتك ، لعظيم قَدْرِ مودّتك ، وأنت أحقُّ من اقتصَّ لصلتنا من جفائه ، ولشوقنا من إبطائه .
وله : كتبتُ إليك ونفسي رهينة بشكرك ، ولساني علق بالثناء عليك ، والغالبُ على ضميري لائمة لنفسي ، واستقلالٌ لجهدي في مكافأتك ، وأنت - أصلحك اللَّهُ - في عزِّ الغنى عني ، وأنا تحت ذُلِّ الفاقةِ إلى عطفك ، وليس من أخلاقك أن تُوليَ جانبَ النَّبوَة منك مَنْ هو عَانٍ في الضَّراعة إليك .
ودخل العتابي على الرشيد فقال : تكلَّم يا عتابي ؛ فقال : الإيناسُ قبل الإبساس ، لا يُحْمَدُ المرءُ بأول صوابه ، ولا يُذَمُّ بأول خطئه ؛ لأنه بين كلام زوَّره ، أو عِيٍّ حَصره .
ومرَّ العتابي بأبي نُوَاس وهو ينشد الناس : الخفيف :
ذكر الكَرْخَ نازح الأوطان . . . فبكى صَبْوَةً ولاَت أَوانِ
فلمّا رآه قام إليه ، وسأله الجلوس ، فأتى وقال : أين أنا منك وأنت القائل ، وقد أنصفك الزمان : الخفيف :
قد عَلِقْنا من الخصيب حِبَالاً . . . أمَّنتنا طوارقَ الحدثَانِ
وأنا القائل وقد جار عليَّ ، وأساء إليّ : الخفيف :
لفظتني البلادُ ، وانطوت الأك . . . فاء دوني ، ومَلَّني جِيرَاني
والتَقت حَلْقة عليّ من الدَّه . . . رِ فماجَتْ بكَلْكَل وجِرانِ
نازعتْني أحداثُها مُنْيَة النف . . . س وهدَّت خطوبُها أرْكانيخاشعٌ للهموم معترف القل . . . ب كَئيبٌ لنائبات الزمانِ
من كلام الأعراب
قال عبد الرحمن بن أخي الأصمعي : سمعت عمِّي يحدث قال : أرِقْتُ ليلةً من الليالي بالبادية ، وكنت نازلاً عند رجل من بني الصَّيْدَاء ، وكان واسعَ الرَّحْل ، كريم المَحَلّ فأصبحتُ وقد عزَمْتُ على الرجوع إلى العراق ، فأتيت أبا مَثْوايَ ، فقلت : إني قد هَلِعْتُ من الغُرْبَة ، واشتقْتُ إلى أهلي ، ولم أُفِدْ في قَدْمتي هذه كبيرَ علم . وإنما كنت أغتفِرُ وحشة الغربة وجفاءَ البادية للفائدة ، فأظهر الجفاوة حتى أبرز غداء له فتغدّيت ، وأمر بناقة مَهْرِيَّةٍ كأنها سبيكة لجَيْن فارتحلها واكتفلها ، ثم رَكبَ وأَرْدَفني ، وأقبلها مطلعَ الشمس ؛ فما سِرْنَا كبير مسير حتى لَقِينَا شيخ على حمارٍ ، له جُمَّة قد صَبَغها بالوَرْسِ ، كأنها قنبيطة ، وهو يترنَّم ، فسلّم عليه صاحبي ، وسأله عن نسبه فاعْتزى أسدياً من بني ثَعْلبة . قال : أتروي أم تقول ؟ قال : كُلاًّ قال : أين تؤُمُ ؟ فأشار إلى موضعٍ قريبٍ من الموضع الذي نحن فيه فأناخ الشيخ ، وقال لي : خُذْ بيد عمّك فأنزله عن حماره ، ففعلت ، وأَلقى له كساءً قد اكتفل به ، ثم قال : أنشدْنا ، يرحمك الله ، وتصدق على هذا الغريب بأبيات يبثهنّ عنك ، ويذكرك بهن ، فأنشدني له : الطويل :
لقد طال يا سَوْداء مِنْكِ المَواعدُ . . . ودون الجَدَا المأمولِ منك الفرَاقد تُمَنِّينَنَا بالوصل وَعْداً ، وغَيْمكم . . . ضَبابٌ ، فلا صَحْوٌ ، ولا الشَيْمُ جائد
إذا أنْتَ أُعْطِيتَ الغِنى ثم لم تَجُدْ . . . بفَضْلِ الغِنى أُلفِيتَ ما لَكَ حامدُ
وقلّ غناءً عنك مالٌ جَمَعْتَهُ . . . إذا صار ميراثاً ووَاراك لاحِدُ
إذا أنت لم تَعْرُك بجنبيك بَعْضَ ما . . . يَرِيبُ من الأدنى رماكَ الأباعدُ
إذا الحِلْمُ لم يَغْلِبْ لك الجهلَ لم تَزَلْ . . . عليكَ بُروقٌ جَمّةٌ ورواعِدُإذا العزمُ لم يَفْرُجْ لك الشكَّ لم تَزلْ . . . جَنِيباً كما استَتْلَى الجنيبةَ قَائِدُ
إذا أنت لم تترك طعاماً تُحِبُّهُ . . . ولا مَقْعَداً تَدْعُو إليه الولائدُ
تجللْتَ عاراً لا يزالُ يَشُبُّهُ . . . عليك الرجال نثرُهم والقَصَائِدُ
وأنشدني لنفسه : الطويل :
تَعَزَ فإنَ الصبرَ بالحُرِّ أجملُ . . . وليس على رَيْبِ الزمان مُعَوَّلُ
فلو كان يُغْني أن يُرى المرءُ جازعاً . . . لنازلةٍ أو كان يُغْنِي التذلُلُ
لكان التعزِّي عند كل مُصيبةٍ . . . ونازلةٍ بالحرِّ أولى وأجْمَلُ
فكيف وكلٌّ ليس يَعْدُو حِمامَهُ . . . وما لامْرِئ ممّا قضى الله مَزْحَلُ
فإن تكن الأيامُ فينا تبدَّلَتْ . . . بنعمى وبؤسَى والحوادثُ تَفْعلُ
فما ليّنَت منا قَنَاةً صَلِيبةً . . . ولا ذَلَلَتْنَا للذي ليس يَجْمُلُ
ولكن رحَلْناها نفوساً كريمةً . . . تُحَمَّل ما لا يستطاعُ فتَحْملُ
وقَيْنَا بحدِّ العَزْم منا نفوسَنا . . . فَصَحَّت لنا الأعراضُ والناسُ هُزَّلُ
قال : فقمت إليه ، وقد نسيت أهلي ، وهانَ علي طولُ الغربة ، وضَنْكُ العيش ، سروراً بما سمعت ، ثم قال : يا بني ؛ من لم يكن الأدب والعلمُ أحَبَّ إليه من الأهل والولد لم يَنْجُب .
بين قرشي وعمر بن عثمان
خاصم بعضُ القرشيين عُمَر بن عثمان بن موسى بن عبيد الله بن معمَر ، فأسرع إليه القرشي فقال : على رِسْلك ، فإنك لسريعُ الإيقاد ، وَشِيكُ الصريمة ، وإني والله ما أنا مكافئك دون أن تبلغَ غايةَ التعدّي ، فأبلغ غايةَ الإعذار .ادّعاء
قال عبد الله بن عبد العزيز ، وكان من أفاضل أهل زمانه : قال لي موسى بن عيسى : أنهِيَ إلى أمير المؤمنين ، يعني الرشيد ، أنك تشتمه ، وتَدْعُو عليه ، فبأيّ شيء استجزت ذلك . قال : إمّا شَتْمُه فهو واللّه إذاً أكرمُ عليّ من نفسي ، وأمّا الدعاء عليه فوالله ما قلتُ : ' اللهم إنه أصبح عبئاً ثقيلاً على أكتافنا ، لا تطيقه أبدانُنا ، وقَذى في عيوننا ، لا تنطبق عليه أجفانُنا ، وشجى في حلوقنا ، لا تسيغه أفواهنا ؛ فاكْفِنا مؤنته ، وفرّق بيننا وبينه ' ولكني قلت : ' اللهمّ إن كانَ تَسمّى الرشيد ليرشد فأرْشِدْه ، أو أتى غير ذلك ، فراجع به ، اللهم إْن له في الإسلام بالعباس حقّاً على كلِّ مسلم ، وله بنبيّك قرابة ورَحِماً ، فقرِّبْه من كل خير ، وباعِدْهُ من كلّ شرّ ، وأَسْعِدْنا به ، وأَصْلحْه لنفسه ولنا ' . فقال له : يغفر الله لك يا عبد العزيز ، كذلك بلغنا .
من أخبار الخليفة الرشيد
ولمّا حج الرشيد سنة ست وثمانين ومائة دخل مكة وعديله يحيى بن خالد ؛ فانبرى إليه العُمَري فقال : يا أمير المؤمنين ، قف حتى أكُلّمك فقال : أرسلوا زِمَام الناقة ، فأرسلوه ، فوقفت فكأنما أوتِدَت ، فقال : أقول ؟ قال : قل ، فقال : اعزل عنّا إسماعيل بن القاسم قال : ولم ؟ قال : لأنه يقبل الرشوة ، ويُطِيل النَّشوة ، ويضرب بالعشوة ، قال : قد عزلناه عنك ، ثم التفت إلى يحيى فقال : أعندك مثل هذه البديهة ؟ فقال : إنه ليجب أن يحسن إليه ، قال : إذا عزلنا عنه من يريد عَزْله فقد كافَأْنَاه .
حُرْمَة الكعبة
ولمَا وجَّه عبدُ الملك بن مروان الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبير وأَوْصاه بما أراد أن يُوصِيَه ، قال الأسود بن الهيثم النخعي : يا أمير المؤمنين ، أَوْصِ هذا الغلام الثقفي ، بالكعبة ألا يَهْدِم أحجارَها ، ولا يَهْتِكَ أستارَها ، ولا يُنفِّر أطيارها ، وليأخذ على ابنِ الزبير شِعابها ، وعِقابها ، وأنقابها ، حتى يموتَ فيها جوعاً ، ويخرج مخلوعاً .من أخبار عبد الله بن طاهر
وكتبَ عبدُ الله بن طاهر إلى نَصْر بن شبيب وقد نزل به ليحارِبَه في جُنْده ، فوجده متحصّناً منه ، فكتب إليه : اعتصامُك بالقِلاَل قيَّد عزمَك عن القتَال ، والتجاؤُك إلى الحصون ليس ينجيك من المَنُون ، ولستَ بمُفْلتٍ من أمير المؤمنين ، فإمّا فارس مُطَاعِن ، أو راجل مستَأْمن . فلمّا قرأه حصره الرعب عن الجواب ، فلم يلبث أن خرج مستَأْمناً .
من حكم الفرس
قال بزرجمهر بن البختكان لبعض الملوك : أَنعم تُشكر ، وأَرهِبْ تُحْذَر ، ولا تهازل فتحقَر فجعلهنّ الملك نَقْشَ خاتمه بدلاً من اسمه واسم أبيه .
ولما قتل أنوشروان بزرجمهر وجد في منطقته رقعةً فيها مكتوبٌ : إذا كانت الحظوظ بالجدود فما الحِرْص ؟ وإذا كانت الأمور ليست بدائمة فما السرور ؟ وإذا كانت الدنيا غرَّارة فما الطمأنينة ؟ .
قال سقراط : من كثر احتمالُه وظهر حِلمُه قلّ ظلمُه وكثر أعوانه ، ومن قلّ همُّه على ما فاته استراحت نفسُه وصفا ذِهْنه وطال عمره . وقال : من تعاهد نفسَه بالمحاسبة أمن عليها المُدَاهنة . وقال : الأمانيُّ حِبَالُ الجهل ، والعِشْرَةُ الحسنة وقايةٌ من الأسواء .
وشَتَمه بعضُ الملوك - وكان على فرس وعليه حُلَل وبِزّة - فقال له سقراط : إنما تفخر عليّ بغير جِنْسك ، ولكن ردّ كلّ جنس إلى جنسه وتعال الآن فلنتكلّم .
وقال سقراط : من أُعطي الحِكْمة فلا يجزع لِفَقْدِ الذهب والفضّة ؛ لأن من أعطى السلامة والدَّعة لا يجزع لفَقْدِ الألم والتعب ؛ لأن ثمارَ الحكمة السلامة والدّعة ، وثمار الذهب والفضة الأَلم والتعب ، وقال : القُنية ينبوع الأحزان ، فأقلّوا القنية تقلّ همومكم . وقال : القُنْية مخدومة ، ومن خدم غير نفسه فليس بحرّ .
وقال أبو الطيب : الخفيف :
أبداً تَسْتَرِدُّ ما تَهَبُ الدن . . . يا فيا ليتَ جُودَها كان بُخْلاَوكفَتْ كَوْنَ فَرْحَةِ تُورِثُ الهَمَّ وخِلٍّ يُغادِرُ الوَجْدَ خِلاً
من حكم الهند
وفي كتاب الهند : العاقلُ حقيقٌ أنْ تسخو نفسه عن الدنيا ، عِلْماً بأنه لا ينالُ أحدٌ منها شيئاً إلا قل إمتاعه به وكَثُر عناؤه فيه ، ووبالُه عليه ، واشتدت مؤنته عند فِراقِه ، وعلى العاقل أن يدوم ذِكْرُه لما بعد هذه الدار ، ويتنزه عمّا تسيره إليه نفسه من هذه العاجلة ، ويتَنحَّى عن مشاركة الكَفَرةِ والجهال في حبِّ هذه الفانية التي لا يألفها ولا ينخدع بها إلا المغترون .
وفيه : لا يجدَّن العاقلُ في صحبة الأحباب والأخلاء ، ولا يحرصن على ذلك كل الحِرْص . فإن صُحْبَتهم على ما فيها من السرور كثيرةُ الأذى ، والمؤنات ، والأحزان ، ثم لا يفي ذلك بعاقبة الفراق .
وفيه : ليس من شهواتِ الدنيا ولذاتِها شيء إلا وهو مولِّدٌ أذًى وحُزْناً ، كالماء المالح الذي كلّما ازداد له صاحبُه شرباً ازداد عطشاً ، وكالقطْعة من العسَل في أَسْفَلها سم للذائق ؛ فيه حلاوة عاجله ، وله في أسفلها سم ذُعاف ، وكأحلام النائم التي تسرُه في منامه ، فإذا استيقظ انْقَطَع السرور ، وكالبرق الذي يُضِيء قليلاً ، ويذهب وشيكاً ، ويبقى صاحبُه في الظلام مُقيماً ، وكدودة الإبْرِيْسَم ما ازدادَتْ عليه لفاً إلا ازدادَتْ من الخروج بعداً .
وفيه : صاحبُ الدين قد فكر ؛ فَعَلَتْه السكينة ، وسكَن فتواضع ، وقَنع فاستغْنَى ، ورَضي فلم يهتمّ ، وخلع الدنيا فَنَجا من الشرور ، ورفض الشهوات فصار حراً ، وطرح الحسد فظهرت له المحبَة ، وسخَتْ نفسه عن كل فَانٍ ، فاستَكْمَل العقل ، وأبصَر العاقبة ، فأَمِنَ الندامة ، ولم يُؤْذِ الناسَ فيخافهم ، ولم يُذْنِب إليهم فيسألهم العفو .
وصية عتبة بن أبي سفيان لمولاه سعد القصر
: وقال سعد القصر مولى عُتبة بن أبي سفيان : وَلأَني عُتْبَة أموالَه بالحجاز ، فلما ودَّعته قال : يا سعد ، تعاهَدْ صغيرَ مالي فيكبر ، ولا تجف كبيره فيصغر ؛ فإنه ليس يمْنَعنيكثير ما عندي ، من إصلاح قليل ما في يدي ، ولا يمنعني قليلُ ما عندي من كثير ما ينوبني . قال : فقدمت الحجازَ ، فحدثت به رجالاً من قريش ، ففرّقوا به الكتبَ إلى الوكلاء .
من حكم يزيد بن معاوية
وقال يزيد بن معاوية لعبيد الله بن زياد : إن أباك كفَى أخاه عظيماً ، وقد استكفيتُك صغيراً ، فلا تتَّكِلن مني على عُذْر ، فقد اتكلت منك على كِفاية ، ولأَنْ أقولَ لك : إياك ، أحبُّ إليّ من أن أقول : إياي ؛ فإن الظنّ إذا أخلف فيك أخلف منك ، فلا تُرِحْ نفسَك وأَنت في أدنى حظّك ، حتى تَبْلُغ أقصاه ؛ واذكرْ في يومك أخبارَ غَدِك ، واستَزِدْنِي بإحسانك إلى أهل الطاعة ، وإساءتك إلى أهل المعصية ، أَزِدْك إن شاء الله تعالى .
أبو الأسود الدؤلي والعمامة
ذكرت العمامة عند أبي الأَسود الدؤلي فقال : جُنَةٌ في الحرب ، ودِثَارٌ في البرد ، وكنَّة في الحرِّ ، وَوَقَار في النَدِيّ ، وشرف في الأحدوثة ، وزيادةٌ في القامة ، وهي بعد عادةٌ من عاداتِ العرب .
من إنشاء ابن العميد
وكتب أبو الفضل بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري : وقفت على ما وصفت من برِّ مولانا الأمير لك ، وتَوَفُّره بالفَضْل عليك ، وإظهار جميل رَأْيِه فيك ، وما أنزله من عارفةٍ لديك ؛ وليس العجب أن يتناهى مِثْلُه في الكرم إلى أبْعدِ غاية ، وإنما العجَبُ أن يَقْصُر شيء من مساعِيه عن نَيْلِ المجد كلّه ، وحِيازة الفضلِ بأَجمعه ؛ وقد رجوتُ أن يكونَ ما يغرسه من صنيعةٍ عندك أجدر غرس بالزَكاء ، وأضْمَنه للرّيع والنَمَاء ، فارْعَ ذلك ، واركب في الخِدْمَة طريقة تُبْعدك من الملاَل ، وتوسطك في الحضور بين الإكثار والإقلال ، ولا تَسْتَرْسِلْ إلى حسن القبول كل الاسترسال ؛ فلأن تُدعَى من بعيد خيرٌ من أنْ تُقْصَى من قريب ، وليكن كلامُك جواباً تتحرَّزفيه من الخطَلِ ومن الإسهاب ، ولا يعجبنّك تَأتي كلمة محمودة فيلج بك الإطنابُ تَوَقُّعاً لمثلها ؛ فربما هدمت ما بنتْه الأولى ، وبضاعَتك في الشرف مُزْجاة ، وبالعقل يزمّ اللسان ، ويرام السَّداد ، فلا يستفزّنك طَرَبُ الكلام على ما يفسد تمييزك ؛ والشفاعة لا تعرض لها فإنها مُخْلِقَةٌ للجاه ؛ فإن اضطررت إليها فلا تهجم عليها حتى تعرفَ موقعها ، وتحصِّلَ وزنها ، وتطالعَ موضعها ؛ فإن وجَدتَ النفس بالإجابة سَمْحَة ، وإلى الإسعاف هَشّة ، فأَظْهر ما في نفسك غير محقّق ، ولا توهم أنّ عليك في الرد ما يُوحشك ، ولا في المَنع ما يغيظك ، وليكن انطلاقُ وجهك إذا دُفِعْت عن حاجتك أكثر منه عند نجاحها على يَدك ، ليخفّ كلامك ، ولا يثقل على سامعه منك . أقول ما أقولُ غَيْرَ واعظ ولا مُرشدِ ، فقد جَمّل اللَّهُ خصالَك ، وحسَّن خلالك ، وفضَّلك في ذلك كلّه ؛ لكني أُنبّه تنبيه المشارِك له ، وأعلم أنِّ للذكرى موضعاً منك لطيفاً .
وله أيضَاَ : سأَلتَني عمن شفّني وَجْدِي به ، وشغفني حُبّي له ، وزَعمت أني لو شئت لذهلت عنه ، ولو أردت لاعتَضت منه : الكامل :
زعماً ، لعَمرُ أبيك ، ليس بمزعَم كيف أَسلُو عنه وأنا أراه ، وأَنساهُ وهو لي تُجاه ؛ هو أغلب عليّ وأَقربُ إليَّ ، من أن يُرخي لي عناني ، أو يخِيلني واختياري ، بعد إختلاطي بملكه ، ونْخِرَاطِي في سِلكِه ، وبعد أن ناط حُبَّه بقلبي نَائِط وسَاطَه بدمي سائط . وهو جارٍ مَجْرَى الرُّوح في الأَعضاء ، متنَسم تَنَسُّم روح الهواء ؛ إن ذهَبْتُ عنه رجعت إليه ، وإن هرَبْتُ منه وقَعتُ عليه وما أحِبّ السلوّ عنه مع هنَاتِه ، وما أُوثر الخلوَّ منه مع مَلاته ؛ هذا على أنه إنْ أَقبل عليّ بَهَتني إقبالُه ، وإن أَعْرض عني لم يَطْرُقنِي خياله ، يبعد عني مثاله ، ويقرب من غيري نَوالُه ، ويردُّ عيني خاسئة ، ويَثْني يدي خالية ، وقد بسط آفات العيون المقاربة ، وصدَق مرامي الظنون الكاذبة ، وَصلُه يُنْذِرُ بصدِّه ، وقُرْبه يُؤْذِن ببعده ، يُدْنِي عندما ينزح ، ويَأْسُو مثل ما يجرح ، محالتُه أحوال ، وخلّته خِلال ، وحكمه سِجَال ، الحُسْنُ في عَوَارِفه ، والجَمَالُ من منائحه ، والبهاءُ من أُصوله وصِفَاته ، والسَّنَاءُ من نعوته وسِماتِه ، اسمُه مطابقٌ لمعناه ، وفَحْواه موافقٌ لنَجْواه ، يتشابه حالاه ، ويتضارَع قُطْراه ، من حيث تلقاه يستنير ، ومن حيث تَنْسَاهُ يستدير .وباء الكوفة
وقع بالكوفة وباءٌ ، فخرج الناسُ وتفرّقوا بالنجف ، فكتب شريح إلى صديق له خرج بخروج الناس : أما بعد ، فإنك بالمكان الذي أَنت فيه بعَيْن من لا يُعْجزه هرَب ، ولا يَفُوتُه طلب ؛ وإن المكانَ الذي خلَّفْتَ لا يعجِّلِ لأحد حِمامَه ، ولا يظلمه أَيّامه ، وإنّا وإياك لعلى بساطٍ واحد ، وإنّ النجف من ذي قدرة لقريب .
وهرب أعرابي ليلاً على حمار حِذَاراً من الطاعون ، فبينما هو سائر إذ سمع قائلاً يقول : الرجز :
لن يُسبق اللهُ على حمارِ . . . ولا على ذِي مَيْعَةٍ طيارِ
أَو يأتيَ الحَتفُ على مقدار . . . قد يصبح اللهُ أَمام الساري
فكرّ راجعاً ، وقال : إذا كان الله أمام الساري فلاتَ حين مَهرب .
جوى الشوق
قال الأصمعي : أخبرني يونس بن حبيب قال : أتى قومٌ إلى ابن عباس بفتًى محمول ضَعفاً ، فقالوا : استشفِ لهذا الغلام ، فنظر إلى فتًى حُلْو الوجه ، عاري العظام ، فقال له : ما بك ؟ فقال : الطويل :
بنا من جوى الشوق المبرِّح لَوْعَةٌ . . . تكادُ لها نفسُ الشفيق تَذُوبُ
ولكنما أبقَى حُشاشة ما نَرَى . . . على ما به عُودٌ هناك صَلِيبُ
فقال ابنُ عبّاس : أرأيتم وجهاً أعتق ، ولساناً أذْلَق ، وعُوداً أصلب ، وهوًى أغلب ، ممّا رأيتم اليوم . هذا قتيل الحبّ ، لا قوَد ولا دِيَة .
وكان ابنُ عباسٍ ، رضي الله عنهما ، حَبْرَ قريش وبَحْرَها ، وله يقول رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) : ' اللهمّ فقِّهْه في الدين وعَلِّمْه التأويل ' . وفيه يقول حسان بن ثابت : الطويل :
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل . . . بملتقطات لا ترَىَ بينها فصلاً
شفَى وكفَى ما في النفوس ؛ فلم يَدَعْ . . . لذي لَسَنٍ في القول جِدَّاً ولا هَزْلا
سموتَ إلى العَلْيا بغير مَشقَّةٍ . . . فنِلْتَ ذُرَاها لا دَنِيَّاً ولا وَغْلاَمن أخبار مسلم بن الوليد وشعره
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
أُعَاوِدُ ما قدَّمْتُهُ مِنْ رَجائها . . . إذا عاودَت باليأسِ فيها المطامِعُ
رأتنِي غَنيَّ الطَّرْفِ عنها فأعْرضتْ . . . وهل خِفتُ إلا أن تثير الأصابع ؟
وما زيّنَتْها النفْسُ لي عن لَجاجةٍ . . . ولكنْ جَرَى فيها الهوى وهو طَائع
فأقسمت أنْسَى الداعياتِ إلى الصِّبا . . . وقد فاجأتْها العينُ والسّتْرُ واقع
فغطتْ بأيديها ثِمَارَ نُحُورِها . . . كأيدي الأسارى أثْقلَتْهَا الجوامِعُ
وكان مسلم أنصارياً صريحاً ، وشاعراً فصيحاً ، ولقَّب صريعاً أيضاً لقوله : الطويل :
سأنقاد للَّذَات مُتّبَع الهوى . . . لأمْضِيَ همّاً أو أُصيب فتًى مثلي
هل العيش إلا أن تروح مع الصبا . . . صريعَ حُمَيّا الكأس والأعين النجْلِ ؟
واجتلب له هذا الاسم لأجل هذا البيت ؛ وقد قال القطامي : الطويل : صريع غوانٍ راقهنَّ ورُقْنَهُ . . . لَدُنْ شبَّ حتى شاب سودُ الذَّوائبِ
ومسلم أول من لطّف البديع ، وكسا المعاني حُلل اللفظ الربيع ، وعليه يعوّل الطائي ، وعلى أبي نواس ، ومن بديع شعره الذي امتثله الطائي قوله : الطويل :
تُساقِطُ يُمْنَاه الندى وشِمالُه الرَّدى وعيونَ القول مَنْطقُهُ الفَصلُ
كأنّ نَعَم في فِيه تجري مكانَها . . . سُلاَفة ما مجَّتْ لأفراخها النَّحْلُ
له هَضْبَة تَأْوِي إلى ظل بَرْمَكٍ . . . مَنُوط بها الآمالُ ، أَطْنابُها السُّبْلُ
عَجُولٌ إلى أن يُوْدِعَ الحمدُ مالهُ . . . يَعُدُّ النَّدى غُنْماً إذا اغتُنِمَ البُخْلُ
وقد حَرَّمَ الأعْراضَ بالبيض والندى . . . فأموالُهُمْ نَهْبٌ وأعراضُهُمْ بَسْلحباً لا يَطِيرُ الجَهْلُ في عرَصَاتها . . . إذا هي حُلتْ لم يَفُتْ حَلَّها ذَحْلُ
بِكَفِّ أبي العباس يُسْتَمْطَرُ الغِنَى . . . وتُسْتَنْزَلُ النُعْمَى ويُسْتَرعَفُ النَصْلُ
متى شِئْتَ رَفَعْتَ السُتورَ عن الغِنَى . . . إذا أنت زُرْتَ الفَضْلَ أو أَذِنَ الفَضْل
وقوله أيضاً : الطويل :
إذا كنت ذا نَفْسٍ جوادٌ ضميرُها . . . فليس يضر الجودَ أن كُنْت مُعْدِما
رآني بعَيْنِ الجود فانتهز الذي . . . أردت فلم أفْغَرْ إليه به فَمَا
ظلمتك إنْ لم أجزل الشكرَ بعدما . . . جعلتَ إلى شكري نوالَك سُلَّما
فإنك لم يترك نداك ذخيرةً . . . لغيرك من شكري ولا متلوّما
وقال ليزيد بن مَزْيَد : البسيط :
مُوفٍ على مُهَجٍ في يوم ذي رَهَجٍ . . . كأنه أَجَلٌ يَسْعَى إلى أملِ
ينال بالرِّفْق ما يَعْيَا الرجالُ بهِ . . . كالموت مُسْتَعْجِلاً يأْتي على مَهَلِ
لا يَرْحَلُ الناسُ إلا نحو حَجْرَتِه . . . كالبيت يُضْحي إليه مُلْتقى السُّبُلِ
يَقْرِي المنيَّةَ أرواحَ الكُماةِ كما . . . يَقْرِي الضيُوفَ شحومَ الكُوم والبُزُلِ
يكسو السيوفَ رؤوسَ الناكثين به . . . ويجعلُ الهامَ تِيجانَ القَنَا الدُّبُلِ
قد عَوَّدَ الطيرَ عاداتٍ وَثِقْنَ بها . . . فهُنَّ يَتْبَعْنَهُ في كل مُرْتَحل
وهذا المعنى كثير .
أبيات في وصف الجيش
قال عمرو الوراق : سمعت أبا نُوَاس ينشد قصيدته المديد :
أيُّها المُنْتابُ عُفُرِهْ . . . لستَ مِنْ لَيْلي ولا سَمَرِهْلا أَذودُ الطَّيرَ عن شَجَرٍ . . . قد بَلَوْتَ المرَّ من ثَمَرِهْ
فحسدته عليها ، فلمّا بلغ إلى قوله :
وإذا مَجَّ القَنَا علَقاً . . . وتراءى الموتُ في صُوَرِهْ
راحَ في ثِنْيَيْ مُفاضَتِهِ . . . أَسَدٌ يَدْمَى شَبَا ظُفُرِه
تتأبَّى الطيرُ غَزوته . . . ثقةً بالشِّبع من جَزَرهْ
تحت ظلّ الرمحِ تتبعهُ . . . فهي تتلوه على أثره
فقلت : ما تركت للنابغة شيئاً حيث يقول : الطويل :
إذا ما غزَوْا بالجيش حَلَّقَ فوقَهُمْ . . . عصائب طيْرٍ تهتدِي بعصائبِ
جَوَانِح قد أيقنّ أنّ قبيلَهُ . . . إذا ما التَقى الجمعان أَوَّلُ غالبِ
فقال : اسكت ، فلئن أحسن الاختراع ، لما أسأت الاتباع .
أخذه الطائي فقال : الطويل :
وقد ظُلِّلت عِقْبانُ راياته ضُحًى . . . بعقبانِ طيرٍ في الدماءِ نواهِلِ
أقامتْ على الراياتِ حتى كأنها . . . من الجيش إلا أنها لم تقاتِلِ
وقال المتنبي يصف جيشاً : الطويل :
وذي لَجَبٍ لا ذو الجنَاحِ أمامَهُ . . . بِنَاجٍ ، ولا الوحْشُ المُثارُ بِسالِم
تمرُّ عليه الشمس وَهْيَ ضعيفةٌ . . . تُطالِعُهُ من بين ريش القَشاعمِ
إذا ضَوْءُهَا لاقَى من الطيرِ فُرْجَةً . . . تَدَوَّرَ فوق البَيْضِ مثلَ الدراهِمِ
وصف شِعْبُ بَوَّان
ونظير قول أبي الطيب في هذا البيت وإن لم يكن في معناه قولُه يصف شِعببَوّان ، وسيأتي ، وفي هذا الشِّعب يقول أبو العباس المبرد : كنت مع الحسن بن رجاء بفارس ؛ فخرجتُ إلى شِعب بَوّان ، فنظرت إلى تُرْبة كأنها الكافور ، ورياض كأنها الثوب الموشَّى وماء ينحدر كأنه سَلاسِلُ الفضة ، على حصباء كأنها حَصَى الدرّ ؛ فجعلت أطوف في جَنباتها ، وأدور في عَرَصاتها ، فإذا في بعض جدرانها مكتوب : الطويل :
إذا أشرفَ المكروب من رَأسِ تَلْعَةٍ . . . على شِعْبِ بوّانٍ أفاق من الكَرْب
وأَلهاه بَطْنٌ كالحرير لطافَةً . . . ومطَّرِد يَجْرِي من البارد العَذْبِ
وطيبُ رِياض في بلادٍ مَرِيعَةٍ . . . وأغصانُ أشجارٍ جَناها على قُرْبِ
يدِير علينا الكاسَ من لوِ لَحَظْتَهُ . . . بعينك ما لُمْتَ المحبين في الحبّ
فبالله يا ريحَ الشمال تحمَّلي . . . إلى شِعْب بوّان سلامَ فتًى صَبِّ
قال أبو العباس : فأخبرت سليمان بن وهب بما رأيت ، فقال : وقد رأيت تحت هذه الأبيات : الخفيف :
ليت شعري عن الذين تَرَكنَا . . . خَلْفَنا بالعراق هل ذَكَرُونا ؟
أم يكون المدَى تطاوَلَ حتى . . . قَدُمَ العَهْدُ بيننا فَنسُونَا ؟
إن جفَوْا حرمة الصَّفاء فإنا . . . لهمُ في الهوى كما عهدوناوشعر المتنبي : الوافر :
مَغاني الشِّعب طِيباً في المَغاني . . . بمنزلة الربيع من الزمانِ
ولكنّ الفتى العَربيَّ فيها . . . غرِيبُ الوجه واليدِ واللسانِ
مَلاعِبُ جِنَةٍ لو سار فيها . . . سليمانٌ لسارَ بِتُرْجُمان
طَبَتْ فُرْسانَنا والخيلَ حتى . . . خشِيتُ وإن كَرُمْنَ من الحِرانِ
غَدَوْنا تَنْفُضُ الأغصانُ فيه . . . على أَعْرافِها مِثْلَ الْجُمانِ
فجِئْتُ وقد حَجَبْنَ الشمسَ عني . . . وجئْن من الضياء بما كفانِي
وألْقَى الشَّرْقُ منها في بَنانِي . . . دَنانيراً تَفِرُّ مِن البَنانِ
ومنها :
يقول بِشِعْبِ بَوَّانٍ حِصاني : . . . أعَنْ هذا يُسارُ إلى الطِّعانِ ؟
أبوكُمُ آدمٌ سَنَّ المعاصي . . . وعَلّمَكُمْ مُفارقَةَ الجِنانِ
إنما أردت هذا البيت . ومنها :
لها ثَمَرٌ تُشيرُ إليكَ منه . . . بأشْربةٍ وَقَفْنَ بلا أوانِي
وأَمْوَاهٌ يَصِلُّ بها حَصاها . . . صَلِيلَ الْحَلْيِ في أَيْدِي الغوانِي
رَجْعٌ إلى وصف الجيش
وأول من ابتكر هذا المعنى الأول الأفوه الأودي في قوله : الرمل :
وأرى الطير على آثارنا . . . رأْيَ عَيْن ثقةً أَنْ ستُمارْوقال حميد بن ثور وذكر ذئباً : الطويل :
إذا ما غدا يَوْماً رأيتُ غيابة . . . من الطير يَنْظرْنَ الذي هو صانعُ
فهمّ بأمْرٍ ثم أَزمع غيْره . . . وإن ضاق أمرٌ مرةً فهو وَاسِعُ
وقال مسلم بن الوليد : الطويل :
وإني لأستحيي القُنوع ومَذْهبي . . . فسيح وَأَقلى الشَحَّ إلا على عِرْضِي
وما كان مثلي يعتريك رَجَاؤهُ . . . ولكن أساءت نعمة منْ فتى مَحضِ
وإني وإشرافي عليك بهمَّتي . . . لكالمبتَغي زُبْداً من الماءِ بالمَخْضِ
أخذه أبو عثمان الناجم فقال : الخفيف :
لم تُحَصّل بمخْضِك الماء إلاَّ . . . زَبَداً حين رمت بالجهل زُبْدا
في وصف سفينة
وقال مسلم أيضاً يصف السفينة : الطويل :
كَشَفْتُ أهاويلَ الدُّجَى عن مَهُولهِ . . . بجاريةٍ محمولةٍ حَاملٍ بِكْرِ
إذا أقبلَتْ راعَتْ بقُنَّةِ قَرْهَبٍ . . . وإن أَدبرتْ راقتْ بقادمَتَيْ نَسْرِ
أطلَّتْ بمجْدَافينِ يَعْتوِرانِها . . . وقوَّمَها كبْحُ اللِّجام من الدُّبْرِ
كأنَّ الصَّبا تحكي بها حين واجَهَتْ . . . نسيمَ الصَّبَا مَشْيَ العروس إلى الخِدْرِ
في وصف الأساطيل
وقال أبو القاسم بن هانئ يصف أسطول المعز بالله : الطويل : أمَا والجوارِي المنشآتِ التي سَرَتْ . . . لقد ظاهَرَتْها عُدَّةٌ وعَدِيدُقِبابٌ كما تُرْخَى القبابُ على المَهَا . . . ولكنَّ من ضُمَّت عليه أُسُودُ
وما راع مَلْكَ الروم إلا اطّلاعُها . . . تُنَشَّرُ أعلامٌ لها وبُنُود
ولله ممّا لا يرون كتائبٌ . . . مُسَوَّمةٌ يجري بها وجنودُ
أطال لها أنّ الملائكَ خَلْفَها . . . فمن وقفتْ خَلْفَ الصفوفِ رُدُودُ
وأنّ الرياح الذارياتِ كتائبٌ . . . وأنّ النجومَ الطالعاتِ سُعودُ
عليها غَمامٌ مُكْفَهرٌّ صَبِيرُهُ . . . له بارقاتٌ جَمَّةٌ ورُعُودُ
مواخِرُ في طامي العُبَاب كأنها . . . لِعزمك بَأْسٌ أو لِكَفِّك جودُ
أنأفَتْ بها آطامُها وَسَما بها . . . بناءٌ على غير العَرَاء مَشِيد
من الطير إلا أنهن جوارحٌ . . . وليس لها إلاَّ النفوسَ مَصِيدُ
وليسو بأعلى كَبْكَبٍ وهو شاهِقٌ . . . وليس من الصُّفَّاح وهو صَلُودُ
من الراسيات الشُّمِّ لولا انتقالُها . . . فمنها قِنَانٌ شُمَّخٌ ورُيُودُ
من القادحات النارَ تُضْرَمُ للصِّلَى . . . فليس لها يومَ اللقاء خُمودُ
إذا زَفرَتْ غَيْظاً ترامَتْ بمارجٍ . . . كما شُبَّ من نارِ الجحيم وقُودُ
تُعَانِق مَوْجَ البحرِ حتى كأنه . . . سَليطٌ له فيه الذُّبَالُ عَتِيدُ
ترى الماء فيها وهو قَانٍ خِضَابهُ . . . كما باشَرَتْ رَدْعَ الخَلُوق جُلودُفأنفاسُهن الحامياتُ صواعِقٌ . . . وأفواهُهُن الزافراتُ حديدُ
يُشَبُّ لآلِ الجَاثَلِيقِ سَعِيرُها . . . وما هي من آل الطريد بَعِيدُ
لها شُعَلٌ فوق الغِمَار كأَنها . . . دِماءٌ تلقّيها مَلاَحِفُ سُودُ
وغيرُ المذاكي نَجْرُهَا غيرَ . . . أنها مُسَوَّمَةٌ تحت الفوارس قُودُ
فليس لها إلا الرياحَ أَعِنَّةٌ . . . وليس لها إلا العُبَابَ كَدِيد
ترى كلَّ قوداءِ التليلِ كما انثنتْ . . . سوالفُ غِيدٍ أعرضت وخُدود
رحيبةُ مَدِّ الباعِ وهي نضيجة . . . بغيرِ شَوًى عذراءُ وهي وَلُود
تكَبّرْنَ عن نَقْعٍ يُثارُ كأنها . . . مَوَالٍ وجُرْدُ الصافنات عَبِيدُ
لها من شُفوف العَبْقَرِيّ مَلاَبسٌ . . . مُفَوَّفَةٌ فيها النُّضَارُ جَسِيدُ
كما اشتملتْ فوق الأرائك خُرَّدٌ . . . أو التَفَعَتْ فوق المنابر صِيدُ
لبوسٌ تكفُّ المَوْجَ وهو غُطامِطٌ . . . وتدرَأُ بَأْسَ اليَمِّ وهو شديد
فمنه دُروعٌ فوقها وجَواشنٌ . . . ومنها خَفَاتينٌ لها وبُرودوقال علي بن محمد الإيادي يصف أسطول القائم فأجاد ما أراد : الكامل :
اِعْجَبْ لأسطول الإمام محمدٍ . . . وَلحسنه وزمانه المُستغربِ
لبِست به الأمواجُ أحسنَ منظر . . . يبدو لعين الناظرِ المتعجّبِ
من كل مُشرِفَة على ما قابلت . . . إشراف صَدْرِ الأجدل المتنصِّبِ
دَهْمَاء قد لبِسَت ثيابَ تَصَنع . . . تَسْبِي العقولَ على ثياب تَرَهُّبِ
من كل أبيض في الهواء منشَّر . . . منها وأسحمَ في الخليج مُغَيَّبِ
كمُلاَءة في البرّ يقطع شدّها . . . في البحر أنفاسُ الرياح الشذَّب
محفوفة بمجاذِف مصفوفة . . . في جانبين دُوَيْنَ صُلْبِ صُلّبِ
كقَوَادم النَّسر المرفرِفِ عُرِّيَتْ . . . من كاسيات رِياشه المتهدِّبِ
تَحْتَثُّها أيدي الرجال إذا وَنَتْ . . . بمصعّد منه بُعَيْد مُصَوَّبِ خرقاء تذهبُ إن يدٌ لم تهدها . . . في كل أوْبٍ للرياح ومَذْهَبِ
جَوفاء تحمل موكباً في جَوْفِها . . . يومَ الرهان وتستقلّ بمَوْكبِ
ولها جناحٌ يستعار يُطِيرُها . . . طوعَ الرياح وراحةِ المتطرِّب
يعلو بها حدَبُ العُبَاب مُطارةً . . . في كل لجّ زاخرٍ مُغْلَوْلَب
تسمو بأجردَ في الهواء متوَّجٍ . . . عريان منسوج الذؤابة شَوْذَبِ
يتنزّل الملاّحُ منه ذؤابةً . . . لو رام يركبها القَطَا لم يَرْكَب
فكأنما رام استراقَةَ مَقْعَدٍ . . . للسمع إلا أنه لم يُشْهَبِ
وكأنما جنُّ ابنِ دَاودٍ هُمُ . . . ركبوا جوانبها بأعْنَفِ مَرْكَب
سجَروا جواحِمَ نارِها فتقاذفوا . . . منها بألْسُن مارج متلهِّبِمن كلّ مسجورِ الحريق إذا انبرى . . . من سجنه انْصَلَتَ انصلاتَ الكوكبِ
عُريان يقدمه الدخانُ كأنهُ . . . صبحٌ يكرُّ على الظلام الغَيهَبِ
ولواحق مثل الأهِلّة جُنَحٌ . . . لحق المَطَالب فائتات المَهْرَبِ
يَذهَبْن فيما بينهن لَطافةً . . . ويجئن فعل الطائر المتغلِّبِ
كنضائض الحيّاتِ رُحنَ لواعباً . . . حتى يَقَعْنَ ببرك ماء الميزَب
شرعوا جوانبها مجادفَ أتعبتْ . . . شَأْوَ الرياح لها ولمّا تَتْعَبِ
تنصاع من كَثَبٍ كما نفر القَطَا . . . طوراً ، وتجتمع اجتماع الرَّبْرَبِ
والبحرُ يجمع بينها فكأنه . . . ليلٌ يقرِّبُ عقرباً من عَقْرَب
وعلى كواكبِها أُسود خِلاَفةٍ . . . تختالُ في عُدَد السلاح المُذْهَب
فكأنما البحرُ استعار بزيِّهم . . . ثوبَ الجمال من الربيع المعجب
في المودة
كتب العباس بن جرير إلى الفضل بن يحيى : لا أعلم منزلةً توحشني من الأمير ولا توحشه مني ، لأنني في المودّة له كنفسه ، وفي الطاعة كَيَدِه ، وإنما أُلطِفُه من فضله ، وقد بعثت بعض ما ظننت أنه يحتاج إليه في سفره . وذكر ما بعث .
وكتب غيره في هذا المعنى : إذا كان اللَّطَفُ دليل محبَّةٍ ، ومِيسَم قُربة ، كفى قليلُه عن كثيره ، وناب يسيرُه عن خطيره ، لا سيما إذا كان المقصودُ به ذا همةٍ لا يستعظم نفيساً ، ولا يستصغر خسيساً ؛ وقد حُزْت من هذه الصفة أجَلَّ فضائلها ، وأرفع منازلها .
وفي هذا المعنى : إن يَد الأنس طويلة بكلّ ما بلغت ، منبسطة بكلّ ما أدركت ، من حيث يدُ الحشمة قصيرة عن كلّ ما حَوَتْ ، مقبوضة دون ما أمَّلَتْ ؛ لأن بابَ القول مطلقٌ لذوي الخصوص ، محظور عند ذوي الهموم ، ولتمكّن ما بيننا عاطيتك من لَطفي ما لا دونه قلّة ، ثقةً منك بأنه يَرِد على ما لا فوقَه كَثْرة .
ومن ألفاظ أهل العصر في إقامة رسم الهدية في المهرجان والنيروز :
لمثل هذا اليوم الجديد والأوانِ السعيد سنةٌ ، وعلى مثلي فيها أن يتحف ويُلطف ،وعلى مثل سيدنا ، ولا مِثْلَ له ، أن يَقْبَل ويشرف . لليوم رسمٌ إن أخلَّ به الأولياءُ عُدَّ هفوة ، وإن منع منه الرؤساء حُسب جَفْوة ، ومولاي يسوّغني الدّالة فيما اقترن بالرّقعة ، ويكسبني بذلك الشرف والرفعة . الهدايا تكونُ من الرؤساء مكاثرةً بالفضل ، ومن النظراء مقارضة بالمثل ، ومن الأولياء ملاطفة بالقُلّ ، وقد سلكت في هذا اليوم مع مولاي سبيلَ أَهلِ طبقته من الأرباب ، وقد حملت إلى مولاي هدية الملاطف ، لا هدية المُحتَفِل ، والنفس له ، والمال منه .
ولهم في التهنئة بالنيروز والمهرجان وفصل الربيع :
هذا اليوم غُرَّةٌ في أيام الدهر ، وتاجٌ على مفرق العَصْر . أَسْعد الله مولانا بنَوْرُوزِه الوارِد عليه ، وأَعاده ما شاء وكيف شاء إليه . أَسعد الله تعالى سيدنا بالنوروز الطالع عليه ببركاته ، وأيْمنَ طائرَه في جميعِ أيامه ومتصرّفاته ، ولا يزالُ يلبَس الأيامَ ويُبليها وهو جديد ، ويقطعُ مسافة نَحْسها وسَعْدها وهو سعيد . أقبل النيروزُ إلى سيدنا ناشراً حُلَله التي استعارها من شيَمتِه ، ومُبْدياً حالته التي اتخذها من سَجِيّتهِ ، ومستصحباً من أنواره ما اكتساه من محاسن فضلِه وإكرامه ، ومن أنظاره ما اقتبسه من جوده وإنعامه . ويوكد الوعد بطُولِ بقائه حتى يمل العمر ، ويستغرق الدهر . سيدُنا هو الربيع الذي لا يَذْبل شجرُه ، ولا يزول سَحَرُه ، ولا ينقطعُ ثمرُه ، ولا يُقْلِعُ غَمَامه ، ولا تتبدّلُ أيامه ؛ فأسعده الله تعالى بهذا الربيع المتشبّه بأخلاقه ، وإن لم ينَلْ قدرها ، ولم يحمل فَضْلها ، ولم يجد بُدّاً من الإقرار بها .
سيدُنا هو الربيع الذي يتصل مطرُه ، من حيث يُؤمَن ضررهُ ، ويَدُومُ زهرُه ، من حيث يتعجّل ثمرُه ؛ فلا زال آمراً ناهياً ، قاهراً عالياً ، تتهيَّأ الأعيادُ بمصادفة سلطانه ، وتستفيدُ المحاسنُ من رياض إحسانِه . أسعد الله سيدنا بهذا النَّوْرُوز الحاضر ، الجديد الناضر ، سعادةٌ تستمرُّ له في جميع أيامه على العموم دون الخصوص ، لتكونَ متشابهات في اكتناف المواهب لها ، واتصالِ المسار فيها ، لا يفرق إلا بمقدار يزيد التالي على الخالي ، ويدرج الآني على الماضي . عرّف الله سيدَنا بركة هذا المهرجان ، وأسعدَه فيه ، وفي كل زمان وأَوان ، وأَبقاه ما شاء في ظلالِ الأماني والأمان . هذا اليومُ من محاسن الدهر المشهورة ، وفضائلِ الأزمنة المذكورة ، فلقى الله تعالى سيدنا بركة وُرُودِهِ ، وأجزل حظَّه من أقسام سعوده ، هذا اليومُ من غُرَر الدهور ، ومواسم السرور ، معظّم في الملك الفارسي ، مستظرَف في الملك العربي ؛ فوفر الله تعالى فيه على مولاي السعادات ، وعرّفه في أيامه البركات ، على الساعات واللحظات .صاحب الشرطة
وقال الحجاج بن يوسف : دلُوني على رجل للشرطة ، فقيل : أي رجل تريد ؟ فقال : أُريد رجلاً دائمَ العبُوس ، طويلَ الجلوس ، سمينَ الأمانة ، أعْجَفَ الخيانة ، يهونُ عليه سِبَالُ الشريف في الشفاعة فقالوا : عليك بعبد الرحمن بن عبد الله التميمي ، فأرسل إليه يستعمله ، فقال : لست أَعمل لك عملاً إلا أن تكفيني ولدكَ ، وأهل بيتكَ ، وعيالك وحاشيتك ، فقال : يا غلام ، ناد : مَنْ طلب إليه حاجة منهم فقد برئت منه الذمّة .
وقال أشجع بن عمرو السُّلمي يمدحُ في هذا المعنى إبراهيم بن عثمان بن نَهيك صاحب شرطة الرشيد ، وكان جباراً عنيداً : الكامل :
في سيفِ إبراهيمَ خوفٌ واقعٌ . . . بذوي النفاق ، وفيه أمْنُ الَمسلمِ
ويبيت يَكْلأُ والعيونُ هواجعٌ . . . مالَ المُضِيع ومُهْجَةَ المُسْتسلمِ
شَدّ الخطامَ بأَنفِ كل مُخالفٍ . . . حتى استقام له الذي لم يُخْطَم
لا يُصْلِحُ السلطانَ إلا شِدّةٌ . . . تَغْشى البريَّ بفَضْلِ ذَنْبِ المُجْرمِ
ومِنَ الولاة مُفَخَّمٌ لا يَتَّقي . . . والسيفُ تَقْطُرُ شَفْرَتَاهُ من الدم
مَنَعَتْ مهابتُكَ النفوسَ حديثَها . . . بالأمر تكرَهُهُ وإن لم تَعْلَمِ
من كلام الأعراب
عذلَتْ أعرابية أباها في الجود وإتلاف ماله ، فقالت : حَبْس المالِ ، أنْفعُ للعِيَال ، مِنْ بِذْل الوَجْه في السؤال ؛ فقد قلَّ النوالُ ، وكثر البُخَّالُ ، وقد أتلفت الطارِفَ والتِّلاد ، وبقيت تطلبُ ما في أَيدِي العباد ، ومن لم يحفظ ما ينفعه ، أوشك أن يسعى فيما يضرّه .
قال الأصمعي : سمعت أعرابية تقول : اللهمَّ ارْزُقني عمل الخائفين ، وخوفَ العاملين ، حتى أتنعّم بترك التنعّم ، رجاءً لما وعَدْتَ ، وخوفاً ممّا أوعدت .وقال آخر : اللهمّ من أراد بنا سوءاً فأَحِطْه به كإحاطةِ القلائد ، بأَعناق الولائد ، وأَرْسِخْه على هَامَتِه ، كرسوخ السِّجيل ، على هامِ أصحاب الفيل . وقال بعضُ الأعراب : نالنا وَسْمِيّ ، وخلَفَه وَليّ ؛ فالأرضُ كأنها وَشْيٌ عبقريّ ؛ ثم أتتْنا غُيُوم جَرَاد ، بمناجل حِدَادة فخرَّبت البلادَ ، وأهلكت العبادَ ؛ فسبحان من يُهلك القويّ الأكول ، بالضعيف المكول .
من أخبار أبي العباس السفاح وخالد بن صفوان :
وقال عمارة بن حمزة لأبي العباس السفاح - وقد أمر له بجوائز نفيسة ، وكُسْوَة وصلة ، وأَدْنى مجلسه - : وصلك الله يا أمير المؤمنين وبَرَّك ، فوالله لئن أَردنا شكْرَك على كُنْهِ صلتك ، فإنَ الشكرَ لَيَقْصُرُ عن نعمتك ، كما قَصُرْنَا عن منزلتك ، غير أن الله تعالى جعل لك فضلاً علينا بالتقصير منّا ، ولم تَحرِمْنَا الزيادة منك لِنَقْصِ شكرنا .
وقال أبو العباس السفاح لخالد بن صفوان : كيف عِلْمُك بأَخْوالي بني الحارث بن كعب ؟ قال : يا أميرَ المؤمنين ، هم هامَةُ الشرف ، وعِرْنينُ الكَرَم ، وفيهم خصالٌ ليست في غيرهم من قومهم ، هم أحسنهم أمماً ، وأكرمهم شِيَماً ، وأَهْناهم طعماً ، وأَوْفاهم ذِمماً ، وأَبعدهم هِمماً ، هم الجَمْرَة في الحَرب ، والرأْسُ في كل خطب ، وغيرهم بمنزلة العَجْب .
وعزَّى خالدُ بن صَفْوَان عمر بن عبد العزيز وهنَّأَه بالخلافة ، فقال : الحمد لله الذي مَنَّ على الخَلْقِ بك ، والحمدُ لله الذي جعل نبوّتكم رَحمة ، وخلافتكم عِصْمَة ، ومصائبكم أُسوة ، وجعلكم قُدْوَة .
وقال خالدُ بن صَفْوان لبعض الولاة : قدمت وأعطيت كلأً بقِسْطِه من نظرك وَمجْلسك ، في صوتك وعَدْلك ، حتى كأنك من كل أحد ، وحتى كأنك لست من أُحد .
وقال رجل لخالد : إن أباك كان دَميماً ، ولكنه كان حليماً ، وإنّ أمّك كانت حسناء ، ولكنها كانت رَعْنَاء ، فيا جامع شَرِّ أبويه .شذور في المقابح ومساوي الأخلاق
علي بن عبيدة الريحاني - أدْنسُ شعارِ المرء جهلُهُ .
ابن المعتز : نعَم الجاهلِ ، كالرياض في المزابل . كلما حسُنَتْ نعمةُ الجاهل ازداد فيها قُبْحاً . لسانَ الجاهل مفتاحُ حَتْفه . لا ترى الجاهلَ إلا مُفْرطاً أو مُفَرِّطاً .
الجاحظ - البخلُ والجُبْنُ غريزةٌ واحدة ، يجمعهما سوءُ الظن بالله . البخل يَهْدِمُ مبانيَ الشرف .
وقال ابن المعتز : لمّا عرف أهلُ النَقْصِ حالَهم عند ذوي الكمال ، استعانوا بالكِبْر ليعظِّمَ صغيراً ، ويرفَعَ حقيراً ، وليس ينفعُ الطمع في وثاق الذل . الغضب يصدئ العقلَ حتى لا يرى صاحبُه صورةَ حَسَنٍ فيرتكبه ، ولا صورة قبيح فيجتنبه . الغضبُ ينبئ عن كامن الحقد . من أطاع غضبَه أضاع أدبه . حدَّةُ الغضب تعثر المنطق ، وتقطع مادَة الحجَّة ، وتفرق الفَهْم . غضب الجاهل في قوله ، وغضبُ العاقل في فِعْله . عقوبة الغضبِ تبدأُ بالغضبان : تقبِّح صورتَه ، وتثلِّم دِينَه ، وتعجل نَدَمه . ما أقبح الاستطالة عند الغِنى ، والخضوع عند الفقْر . من يهتك سِتْر غيره تكَشّفَتْ عورات بيته . نفاق المرءِ من ذلّةٍ .
الشرير لا يظنُ بالناس خيراً لأنه يراهم بعين طبعه . من عدد نعمه محق كرمه . خُلفُ الوعد خُلُق الوَغْد ، من أَسرع كَثُر عثَاره .
في المفاخراتْ
فاخر كاتبٌ نديماً ، فقال الكاتب : أَنا مَعُونة ، وأنت مَؤُونة ، وأنا للجدّ ، وأنت للهَزْل ؛ وأنا للشدة وأنت للَّذة ؛ وأنا للحرب ، وأنت للسلم . فقال النديم : أنا للنعمة ، وأنت للخِدْمة ؛ وأنا للحضرة ، وأنت للمهنة ؛ تقوم وأنا جالس ، وتحتشم وأنا مُؤانس ؛ تَدْأَب لراحتي ، وتَشْقَى لسعادتي ؛ فأنا شريك ، وأنتَ معِين ، كما أنك تابع ، وأنا قَرِين .
وفاخر صاحبُ سيفٍ صاحبَ قلم ، فقال صاحبُ القلم : أنا أقتل بلا غرَر ، وأنت تقتل على خَطر . فقال صاحب السيف : القلمُ خادمُ السيف إن تم مراده ، وإلا فإلى السيفِ مَعَاده .قال أبو تمام : البسيط :
السيفُ أصدَقُ إنباءً من الكتُب . . . في حَدِّهِ الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ
إبراهيم بن المهدي : البسيط :
فقد تلينُ ببعض القولِ تَبْذُلُ . . . والوصل في جبَل صَعْبٌ مَرَاقِيهِ
كالخيزران مَنِيعٌ حين تكسِرهُ . . . وقد يُرى ليِّناً في كفِّ لاَوِيهِ
أبو الهَيْذام عامر بن عمارة المرّي يرثي : الطويل :
سأبكيك بالبيض الرِّقاق وبالقَنَا . . . فإنّ بها ما أدرك الواتِرُ الوِتْرَا
ولسنا كمن يَبْكِي أخاه بعَبْرَةٍ . . . يُعَصِّرها من ماءِ مُقْلَتِه عَصْرا ولكنني أشْفي فؤادي بغَمْرةٍ . . . وأُلهب في قُطْرَيْ جوانبه جَمْرا
وإنّا أُناس ما تَفيضُ دموعُنا . . . على هالكٍ منّا وإن قَصَمَ الظهْرا
من وصايا الحكماء
لقي رجل حكيماً فقال : كيف تَرَى الدهر ؟ قال : يُخْلِقُ الأبدان ، ويجدِّدُ الآمال ، ويقرِّبُ المنيّة ، ويباعِدُ الأمْنِيّة . قال : فما حالُ أهله ؟ قال : من ظفر به منهم تعب ، ومن فاته نَصِب . قال : فما الغنى عنه ؟ قال : قَطعُ الرجاء منه ، قال : فأيّ الأصحاب أبرّ وأَوْفى ؟قال : العمل الصالح والتقوى . قال : أيهم أضرّ وأَرْدَى ؟ قال : النفس والهوى ، قال فأين المخرج ؟ قال : سلوكُ المَنهَج . قال : وما هو ؟ قال : بَذْل المجهود ، وترك الراحة ، ومداومة الفكرة . قال : أَوْصني . قال : قد فعلت .
وقال بعض الملوك لحكيم من حكمائه : عِظْني بعِظَة تنفي عني الْخُيَلاء ، وتزهّدني في الدنيا . قال : فكَر في خَلْقك ، واذْكُر مبدأك ومصيرك ، فإذا فعلت ذلك صَغُرَتْ عندك نفسُك ، وعَظُم بصغرها عندك عَقْلُك ؛ فإن العقلَ أنفعهُما لك عِظَماً ، والنفس أَزْينهُما لك صِغَراً ؛ قال الملك : فإن كان شيء يُعِينُ على الأخلاق المحمودة فصفتك هذه . قال : صفتي دليل ، وفَهْمُك محجَّة ، والعلم عليّة ، والعمل مَطيّة ، والإخلاص زمامها ، فخُذْ لعقلك بما يزيّنه من العلم ، وللعلم بما يَصُونُه من العمل ، وللعمل بما يحقّقه من الإخلاص ، وأنت أنت قال : صدقت .
باب المديح
وقال ابن الرومي : البسيط :
تَغْنَوْنَ عن كل تقريظ بمجدكُم . . . غِنَى الظباء عن التكحيل بالكَحَلِ
تلوح في دُول الأيام دولتكم . . . كأنها مِلّةُ الإسلامِ في المِللِ
وقال أيضاً : البسيط :
كلُّ الخِصالِ التي فيكُمْ محاسِنكُمْ . . . تشابهَتْ منكُمُ الأخلاقُ والخلقُ
كأنكم شجرُ الأتْرُجُّ طابَ معاً . . . حَملاً ونَوْراً ، وطاب العودُ والورقُ
وقال البستي في نحو هذا : الطويل :
فتى جَمَعَ العلياءَ عِلْماً وعِفَّةً . . . وبأساً وجوداً لا يفيق فُواقا
كما جمع التفاحُ حسناً ونَضْرَةً . . . ورائحةً محبوبةً ومَذاقَا
قال أبو العباس المبرد : حدّثني عجل بن أبي دلف قال : امتدح رجلٌ أبي بكلمةٍ ،فوصله بخمسمائة دينار ولم يره ، وهي : البسيط :
مَالِي ومالك قد كلفتني شططاً . . . حمل السلاح وقول الدَّارعين قِفِ
أَمِن رجالِ المنايا خِلْتنِي رجلاً . . . أمسِي وأصبحُ مشتاقاً إلى التَّلَفِ
أرى المنايا على غيري فأكرهها . . . فكيف أَمْشِي إليها بارزَ الكَتِفِ ؟
أخِلْتِ أنَ سواد الليل غيَّرني . . . وأن قلبيَ في جَنبَيْ أبي دُلَفِ ؟
قلت : هذا كحديث الذي دخل في قوم على شراب فسقوه غير الشراب الذي يشربون ، فقال : المتقارب :
نبيذانِ في مجلس واحد . . . لإيثار مُثرٍ على مُقترِ
فلو كنتَ تفعل فِعلَ الكرام . . . فعلت كفعل أبي البَخْتري
تتَبَّعَ إخوانه في البلاد . . . فأغنى المُقلَّ عن المكثر
فاتصل شعره بأبي البختري فأعطاه ألف دينار ولم يَرَه .
والأبيات التي مُدِح بها أبو دلف هي لأحمد بن أبي فنن ، وكان شاعراً مجيداً ، وهو القائل : الطويل :
ولما أَبتْ عينايَ أن تملكَ البُكَى . . . وأن تحبسا سَحَّ الدموعِ السواكب
تثاءَبت كي لا يُنكِرَ الدمعَ منكرٌ . . . ولكن قليلاً ما بقاء التثاؤب
أعَرّضتماني للهوى ونمتُما . . . عليّ ؟ لبئس الصاحبانِ لصاحبِوقال : الكامل :
وحياة هجرك غير معتَمِدٍ . . . إلا لقَصدِ الْحِنثِ في الحلفِ
ما أنت أَمْلَحُ مَنْ رأيت ولا . . . كلَفي بحبِّك مُنتهَى كَلَفِي
وقال الصولي : كنا بحضرة أبي العباس المبرد فأنشد هذين البيتين فاستظرفهما وأنشدنا في ذلك : الكامل :
وحياة غيرك غير معتمد بهِ . . . حِنْثاً ولكن مُعْظِماً لحياتكا
ما ينقضي طمَعِي وإن أطمعتني . . . في الوعد منك إلى اقتضاء عِدَاتكا
وقال الخثعمي : الطويل : ولم أر مثلَ الصدِّ أَدعى إلى الهوى . . . إذا كان ممن لا يخافُ على وَصْلِ
وآلَتْ يميناً كالزجاج رقيقةً . . . وما حَلَفَتْ إلا لتَحْنَثَ من أَجْلي
وكان أحمد بن أبي فنن أسود ، ولذلك قال : البسيط :
أَخِلْتَ أنْ سَوَادَ الليل غيرني
ولما أُدخل على المعتزّ وامتدحه قال : هذا الشاعرُ الآدَم ، قال بعض من حضر : لا يَضِرْه سوادُه مع بياض أياديك عنده ، قال : أجَلْ ، ووصله .
أخذ قوله : البسيط :
أرى المنايا على غيري فأكرهها
من قول أعرابي قيل له : ألا تَغْزو ؟ قال : أنا والله أكره الموت على فراشي ، فكيف أمشي إليه رَكْضاً ؟ .
علم البديع : الاستطراد
وهذا المذهب الذي سلكه أحمد ضربٌ من البديع يسمَّى الاستطراد ، وذلك أنّ الفارس يظهر أنه يستطرد لشيء ويُبْطِنُ غيره ، فيكرُّ عليه ، وكذلك هذا الشاعر يظهِرُ أنهيذهبُ لمعنى فيعن له آخر فيأتي به ، كأنه على غير قصد ، وعليه بناه ، وإليه كان مَعْزَاه ، وقد أكثر المحدَثون منه فأحسنوا في ذلك .
قال الأصمعي : كنت عند الرشيد فدخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فقال : أنشدني من شعرك ، فأنشده : الطويل :
وآمرةٍ بالبُخْل قلت لها اقْصِرِي . . . فليس إلى ما تأمرينَ سبيلُ
أرى الناس خُلاَّنَ الجوادِ ، ولا أرى . . . بخيلاً له في العالَمين خَلِيلُ
ومِنْ خير حالاتِ الفتى لو علمتهِ . . . إذا نال شيئاً أن يكونَ منيل
فَعالي فعالُ المُكْثِرين تجمُّلاً . . . ومالي كما قد تعلمين قَليلُ
وكيف أخافُ الفقرَ أو أُحرم الغنى . . . ورَأْيُ أمير المؤمنين جميلُ ؟
فقال الرشيد : يا فضل ؛ أَعطه عشرين ألف درهم . ثم قال : لله أبيات تأتينا بها يا إسحاق ما أتقن أصولها ، وأبين فصولها ، وأقل فضولها فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لا قبلتُ منها درهماً واحداً . قال : ولم ؟ قال : لأنّ كلامك ، والله ، خيرٌ من شعري . فقال : يا فضل ؛ ادفع إليه أربعين ألفاً . قال الأصمعي : فعلمت أنه أصيد لدراهم الملوك مني .
ومن ذلك قول أبي تمام يصف فرساً : البسيط :
وسابح هَطلِ التعْدَاءِ هَتَّانِ . . . على الجِرَاء أمينٍ غير خَوَّانِ
أظْمى الفُصوص ولم تَظمأْ قوائمهُ . . . فَخَلِّ عَيْنَيك في رَيَّانَ ظمآنِ
فلو تراهُ مُشيحاً والحصى زِيَمٌ . . . بين السنابك من مَثْنى ووُحْدَانِ
أيقنْتَ إن لم تثبَّت أَن حافِرَهُمن صَخْر تَدْمُرَ أو من وَجْهِ عثمانِ
وقد احتذى البحتري هذا الحذْوَ في حمدَويْه الأحول ، وكان حمدويه هذا عدواً للممدوح ، فقال : الكامل :
وأَغَرَّ َفي الزمنِ البهيم مُحَجَّل . . . قد رُحْتُ منه على أغرّ مُحَجَّلٍكالهيكَلِ المبنيِّ إلا أنهُ . . . في الحُسْنِ جاء كصورةٍ في هَيْكَلِ
ملَكَ العيونَ ؛ فإنْ بَدا أعْطَيْنَهُ . . . نَظَرَ المُحِب إلى الحبيب المُقْبلِ
ما إنْ يَعافُ قذًى ولو أورَدْتَهُ . . . يوماً خلائقَ حَمْدَوَيْه الأحْولِ
وفي قصيدته هذه يحكى أن البحتري قال له أصحابه : إنك ستُعاب بهذا البيت ؛ لأنك سرقته من أبي تمام ط قال : أعاب من أخذي من أبي تمام ؟ والله ما قلتُ شعراً قط إلا بعد أن أحضرت شعره في فكري ، قال : وأسقط البيت بعد ، فلا يوجد في أكثر النسخ .
وهذا معنى قد أعجَب المُحدَثين ، وتخيَّلوا أنهم لم يُسْبَقُوا إليه ، وقد تقدّم لمن قبلهم ، قال الفرزدق : الطويل :
كأن فِقَاح الأزد حولَ ابن مِسْمَع . . . إذا جلسوا أَفْواهُ بكْرِ بن وائلِ
قال الحاتمي : وأتى جرير بهذا النوع فحثا في وَجْهِ السابق إلى هذا المعنى فضلا عمن تلاه ؛ فإنه استطرد في بيتٍ واحد ، فهجا فيه ثلاثة ، فقال : الكامل :
لما وضعْتُ على الفرزدق مِيسَمِي . . . وعلى البعيث جَدَعْتُ أَنْفَ الأخطلِ
وقيل هذا البيت مما يَرُدّ على الحاتمي ، وهو قوله : الكامل :
أعددت للشعراءَ كأساً مُرة . . . فسقيت آخرهمْ بكأس الأولِ
قال أبو إسحاق : وأوَل من ابتكره السموأل بن عاديَاء اليهودي ، وكل أحد تابع له فقال : الطويل : وإنّا أنُاسٌ لا نرى القَتْلَ سُبّةً . . . إذا ما رأَتهُ عامرٌ وسلولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالنَا لنا . . . وتكْرَهُهُ آجالُهُمْ فَتطُولوقد قال طرفة في هذا المعنى : الطويل :
فلو شاء ربي كنت قيسَ بن خالد . . . ولو شاء ربي كنت عَمْرَو بن مَرْثَدِ
فأصبحتُ ذا مالٍ كثير ، وعادني . . . بَنُونَ كِرَامٌ سادةٌ لمسَوّدِ
قيس بن خالد : ذو الجَدَين الشيباني . وعمرو بن مَرْثد : سيد بني قيس بن ثعلبة ، فدعا عمرو طرفة لما بلغه ذلك ، فقال : أما البنون فإن الله يعطيك ، ولكن لا تَرِيمُ حتى تكون من أوسطنا حالاً ؛ وأمر بنيه وكانوا عشرة ، فدفع إليه كل واحد منهم عشراً من الإبل ؟ فانصرف بمائة ناقة .
وكان ابن عَبْدَلٍ منقطعاً إلى عبد اللّه بن بشر بن مروان ، فتأخر عنه بِرُه ، وغاب أياماً ، ثم أتاه فسأله عن غَيْبَته ، فقال : خطبتُ ابنةَ عم لي بالسواد ، فزَعمَتْ أنَ لها ديوناً وأَسْلافاً هناك ، وأني إذا جمعتها لها صارت إلى محبتي ، ففعلت ذلك ، فلما استنجزتها كتبت إليّ : الوافر :
سَيُخْطِئُك الذي أمَّلْتَ مِنَّي . . . إذا انتقَصَتْ عليك قُوَى حِبَالي
كما أخطاك معروفُ ابنِ بشر . . . وكنتَ تَعُدُّ ذلك رأْسَ مالِ
فقال : ما أحسن ما ألطفت بالسؤال وأجْزل صِلَتَه .
ومن بديع هذا الباب قول بشار بن برد : الطويل :
خليلي من كَعْبٍ ، أَعِينَا أخاكما . . . على دَهرِهِ ؛ إن الكريمَ مُعِينُ
ولا تَبْخَلا بُخْلَ ابن قَزْعَة ؛ إنهُ . . . مخافةَ أنْ يُرجى نَدَاهُ حزينُ
إذا جئتَه في حاجةٍ سدَّ بابَهُ . . . فلم تَلْقَه إلا وأنْتَ كمينُ
فقل لأبي يحيى متى تبلغ العُلاَ . . . وفي كل معروفٍ عليك يمين
وقال بكر بن النطاح يمدح مالكَ بن طَوْق : الطويل :
عَرَضْتُ عليها ما أرادَتْ من المُنَى . . . لترضى فقالت : قم فجئني بكوكبفقلت لها : هذا التعنّتُ كلّهُ . . . كمن يشتهي لحمَ عنقّاء مُغْرِبِ
سَلي كلَّ أمرٍ يستقيمُ طِلاَبهُ . . . ولا تذهبي يا درّ في كلّ مَذْهَبِ
فأقسمُ لو أصبحت في عزّ مالك . . . وقُدْرَتِه ما رام ذَلك مطلبي
فتًى شَقيَتْ أموالُه بسماحِهِ . . . كما شقِيَتْ قيسٌ بأرماح ثعلبِ
واعتذر رجلٌ إلى رجل بحضرة عبد الأعلى بن عبد اللّه فلم يُقْبَلْ عذره ، فقال عبد الأعلى : أمَا والله لئن كان احتمل إثْمَ الكذب ودناءته ، وخضوعَ الاعتذارِ وذِلَته ، فعاقبته على الذَّنْب الذاهب ، ولم تشكر له إنابة التائب ، إنك لممن يُسيء ولا يُحسن .
وقال الحطيئة : الطويل :
يَسُوسُونَ أحلاماً بعيداً أناتُهَا . . . وإن غضِبوا جاء الحفيظة والجدُّ
أقلُّوا عليهم لا أَبا لأَبيكُم . . . من اللومِ أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا
أُولئك قوم إنْ بَنَوْا أَحسنوا البنَا . . . وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شدُّوا
وإن كانت النعْماء فيهم جَزَوْا بها . . . وإن أنعموا لا كَدّروها ولا كدُّوا
وإن قال مولاهم على جُلِّ حادث . . . من الدهر رُدُّوا فضل أحلامكم ردُّوا
ويعذلني أبناءُ سَعْدٍ عليهمُ . . . وما قُلْتُ إلا بالذِي عَلِمَتْ سَعْدُ
من أخبار الرشيد
ووَصلَ سعيدُ بن سَلْمٍ إلى الرشيد شاعراً باهلياً ، فأنشده قصيدةً حسنة ، فاسترابَهُ الرشيد ، قال : أسمعك مستحسِناً ، وأنكرك متّهماً ؛ فإن كنتَ صاحب هذا الشعر فقُلْ في هذين ، وأشار إلى الأمين والمأمون وكانا جالسين .
فقال : يا أمير المؤمنين ، حمَلتْني على غير الجَدَد ' هَيبَةُ الخلافة ، ووَحْشَة الغُرْبة ، ورَوعَة المفاجأة ، وجلالة المقام ، وصعوبة البديهة ، وشرود القوافي ، على غير الرويَّة ، فليُمْهِلْني أميرُ المؤمنين حتى يتألفَ نافرُ القول .
فقال الرشيد : لا عليك ألا تقول ؛ قد جعلت اعتذارك عِوَض امتحانك . فقال : ياأميرَ المؤمنين ، نفَّسْت الخناق ، وسهَّلْتَ ميدان السباق ، ثم قال : الطويل : بنيتَ بعبد الله بعد محمد . . . ذُرَى قُبَّة الإسلام فاخْضَرَّ عودُها
هما طُنباها بارَك الله فيهماوأنت أميرَ المؤمنينَ عمودُها
فقال الرشيد : وأَنت بارك الله فيك ، سَلْ ولا تكن مسألتك دون إحسانك ، فقال : الهنيدة يا أمير المؤمنين فأمر له بها ، وبِخِلعٍ نفيسة ، وصِلةٍ جزيلة .
من أخبار سليمان بن عبد الملك
دخل يزيد بن أبي مُسْلم ، كاتبُ الحجاج ، على سليمانَ بن عبد الملك ، فازدَرَاه ونَبَت عينه عنه ، فقال : ما رأَت عيني كاليوم قطِّ ، لَعن الله امرأ أَجرَّك رَسَنَه ، وحكّمك في أمره . فقال : يا أميرَ المؤمنين ، لا تَقُلْ ذلك ؛ فإنك رأيتَني والأمر عني مُدْبر ، وعليك مُقْبِل ، فلو رأيتني والأمر عليّ مقبل ، وعنك مُدْبِر ، لاستعظمتَ منّي ما استصغرتَ ، واستكبرتَ ما استقلَلْت .
قال : عزمت عليك يا ابْنَ أبي مُسلم لتخبرني عن الحجاج ، أتراه يَهوِي في جهنم أم قد قرَّبها ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا تَقُلْ هذا في الحجاج ، وقد بذل لكم النصيحةَ ، وأمَّن دولتكم ، وأخاف عدوَّكم ، وكأني به يوم القيامة وهو عن يمين أبيك ، ويَسار أخيك ، فاجعله حيثُ شئت .
فقال له سليمان : اُعْزُبْ إلى لعنة اللّه فخرج ، فالتفت سليمانُ إلى جلسائه فقال : قاتله اللّه ما أَحْسَنَ بديهتَهُ ، وترفيعه لنفسه ولصاحبه وقد أحسن المكافأة في الصنيعة ، خَلُّوا عنه .
من أخبار إبراهيم بن العباس الموصلي وشعره
قال إبراهيم بن العباس الموصلي : والله ما اتّكَلْتُ في مكاتبةٍ قطّ إلا على ما يجلبه خاطري ، وَيجِيشُ به صَدْرِي ، إلا قولي في فصل وصار ما كان يحْرِرهم يُبْرِزهم ، وما كان يعقلهم يعتقلهم . وقولي في رسالة أخرى : ' فأنزلوه من معقل إلى عُقال ، وبدّلوه آجالاً بآمال ' ، فإني ألممت في هذا بقول الصريع : البسيط :
مُوفٍ على مُهَجٍ في يومِ ذي رَهَجٍ . . . كأنه أجَلٌ يَسْعَى إلى أملِوفي المعنى الأول يقول أبو تمام : الطويل :
فإنْ يَبْنِ حيطاناً عليه فإنما . . . أُولئك عُقّالاتُهُ لا مَعَاقِلُهْ
وكان يقول : ما تمنّيت كلامَ أحدٍ أن يكون لي إلا قولَ عبر الحميد بن يحيى : الناس أصنافٌ متباينون ، وأطوار متفاوتون ، منهم عِلق مضنّة لا يُبَاع ، وغلّ مظنَّة لا يبتَاع .
ورد كتاب بعض الكتّاب إلى إبراهيم بن العباس بذمّ رجل ومدح آخر ؛ فوقّع في كتابه : . إذا كان للمحسن عن الجزاء ما يُقْنِعهُ ، وللمسِيء من النكال ما يَقْمَعه ، بَذَل المحسن الواجبَ عليه رغبة ، وانقاد المسيء للحقّ رهبةً ؛ فوثب الناس يقبّلون يده .
ووقع لرجل مَتَّ إليه بحُرْمة : تقدمت بحرمة مألوفة ، ووسيلة معروفة ، أقوم بواجبها ، وأرْعاها من جميع جوانبها .
وإبراهيم بن العباس هو القائل : الطويل :
لنا إبِل كُومٌ يَضِيق بها الفَضا . . . وتَغْبَرُّ منها أرْضُها وسماؤُها
فمن دونها أن تُستباحَ دماؤُنا . . . ومن دُوننا أن يُستذمَّ دماؤها
حمًى وقِرًى فالموتُ دونَ مرامها . . . وأيْسَرُ خَطبٍ يومَ حُقَّ فَنَاؤها
وقاد الصولي : وجدت بخط عبد الله بن أبي سعيد إبراهيم بن العباس أنشده لنفسه : الطويل :
وعلمتنِي كيف الهوى وجَهِلْتِهِ . . . وعَلَّمَكُمْ صَبْري على ظُلْمِكُمْ ظُلْميوأعلمُ مالِي عندكُمْ فيردّني . . . هَوَايَ إلى جَهْلي فأرجعُ من عِلْمي
فقلت : أسبقك إلى هذا أحد ؟ فقال : العباس بن الأحنف بقوله : الطويل :
تجنبَ يَرْتَادُ السلوَّ فلم يَجِدْ . . . له عنك في الأرض العريضة مَذْهَبا
فعاد إلى أنْ راجع الوَصْلَ صاغراً . . . وعاد إلى ما تشتهين وأعْتبا
قال الصولي : وأظن أنّ ابن أبي سعيد غلط في هذه الرواية ؛ لأن الأشبه بقول ابن العباس : فعاد إلى أن راجع الوصل صاغراً قوله : البسيط :
كم قد تجرَّعْتُ من غَيْظٍ ومن حَزَنٍ . . . إذا تجدَّدَ حُزْنٌ هَوَّنَ الماضي
وكم سخِطْتُ وما بَالَيْتُمُ سَخَطي . . . حتى رَجَعْتُ بقلبٍ ساخطٍ راضي
وأنشد له : الطويل :
لمن لا أرى أعرضْتُ عن كلِّ من أرى . . . وصِرْت على قلبي رقيباً لقاتِلِهْ أُدافِعهُ عن سَلْوَةٍ وأردّهُ . . . حياءً إلى أوصابه وبَلابِلمهْ
وقال في هذا النحو : المتقارب :
وأنت هوى النفسِ من بينهمْ . . . وأنت الحبيبُ وأنت المطاعْ
وما بك إنْ بَعدوا وَحْدَةٌ . . . ولا معهم إنْ بعدْت اجتماعْ
وقال الطائي : الطويل :
إذا جئتَ لم أحْزَنْ لبُعْدِ مفارقٍ . . . وإن غِبْتَ لم أفرحْ بقُرْبِ مقيمِ
فيا ليتني أفديك من غُرْبَةِ النوى . . . بكلِّ أخٍ لي واصل وحميمِ
وأصل هذا من قول مالك بن مسْمَع للأحنف بن قيس : ما أشتاق للغائب إذا حَضَرْتَ ، ولا أنتفع بالحاضر إذا غِبْتَ .وقال إبراهيم بن العباس : الطويل :
تدانَتْ بقوم عن تَنَاءً زيارة . . . وشَطَّ بليلى عن دُنُوٍّ مَزَارُها
وإنَ مُقيماتٍ بِمُنْعَرَجِ اللوى . . . لأَقربُ من ليلى وهاتيكَ دَارُها
وليلَى كمثل النارِ ينفعُ ضوءُها . . . بعيداً نَأى عنها ويُحرّقُ جَارُها
كأنه نظر إلى قول النّظار الفَقْعَسِي : الطويل :
يقولون هذي أُمُّ عمرٍ وقريبةٌ . . . دَنتْ بك أرْضٌ نحوها وسماءُ
ألا إنما بُعْدُ الخليل وقُرْبهُ . . . إذا هو لم يُوصَل إليه سواءُ
وقوله : وليلى كمثل النار كقول العباس بن الأحنف : المنسرح :
أحْرَمُ منكمْ بما أقولُ وقد . . . نال بهِ العاشقون مَنْ عَشِقُوا
صِرْتُ كأني ذُبَالةٌ نُصِبَتْ . . . تُضِيء لِلناسِ وَهْيَ تَحْتَرِقُ
وقال إبراهيم بن العباس : الوافر :
أميلُ مع الصديق على ابن عمي . . . وآخُذُ للصديق من الشقيقِ
وإن ألفَيتَنِي حُرّاً مُطَاعاً . . . فإنك وَاجدي عَبْدَ الصَديقِ
أفرّق بين معروفي ومَنِّي . . . وأجْمَعُ بين مالي والحقوقِ
في رثاء مصلوب
قال العقيلي يَرْثي صديقاً له أخذ في خِرْبة فقتل وصلب : الطويل :
لعمري لئن أصبحتَ فوق مشدَّب . . . طويلٍ تُعَفِّيكَ الرياحُ مع القَطْرِلقد عشتَ مبسوطَ اليدين مرزّأ . . . وعُوفيت عند الموت من ضَغْطَةِ القبرِ
وأَفْلَتَّ من ضيقِ التراب وغَمِّهِ . . . ولم تفقد الدنيا ؛ فهل لكَ من شُكْرِ ؟
فما تشتَفي عيناي من دائِم البُكَى . . . عليكَ ، ولو أني بكيتُ إلى الحشر
فطُوبَى لمن يبكي أخاه مُجَاهراً . . . ولكنني أَبكي لفقدك في سِترِ
عود إلى أخبار الرشيد
وكتب محمد بن كثير إلى هارون الرشيد : يا أمير المؤمنين ، لولا حظّ كرم الفعل في مَطَالع السؤال ، ؛ لأَلهى المَطْلُ قلوبَ الشاكرين ولصرف عيونَ الناظرين إلى حسن المحبة ، فأيّ الحالين يُبْعِدُ قولَك عن مجاز فعلك ؟ .
فقال هارون الرشيد : هذا الكلامُ لا يحتمل الجواب ؛ إذ كان الإقرار به يمنعُ من الاحتجاج عليه .
قضاء الحاجة
وقال يحيى بن أكثم للمأمون يذكر حاجةً له قد وعده بقضائها وأغفل ذلك : أنتَ ، يا أمير المؤمنين ، أكرمُ من أن نعرِّضَ لك بالاستنجاز ، ونقابلك بالادِّكار ، وأنت شاهدي على وَعْدِك ، وأن تأمر بشيء لم تتقدَّمْ أيامه ، ولا يقدر زمانه ، ونحن أضعفُ من أن يستوليَ علينا صبرُ انتظارِ نعمتك ، وأنت الذي لا يؤوده إحسان ، ولا يُعْجِزُه كرَم ، فعجِّل لنا يا أميرَ المؤمنين ما يزيدك كرماً ، وتزدادُ به نعماً ، ونتلقَّاه بالشكر الدائم .
فاستحسن المأمون هذا الكلام ، وأمر بقضاء حاجته .
قدم على المأمون رجل من أبناء الدهاقين وعظمائهم ، من أهل الشام ، على عِدَة سلَفتْ له من المأمون ، من تَوْليته بلده ، وأن يضمّ إليه مملكته ، فطال على الرجل انتظارُ خروجِ أمْرِ أمير المؤمنين بذلك ، فقصد عَمْرَو بن مسعدة وسأله إيصالَ رقعةٍ إلى المأمون من ناحيته ، فقال : اُكْتُبْ بما شئت فإني مُوصِلُه ، قال : فتولّ ذلك عني ، حتى تكون لك نعمتان . فكتب عمرو : إن رأى أميرُ المؤمنين أنْ يفكَّ أسْر عِدَتِه من رِبْقَة المَطْلِ ، بقضاء حاجة عَبْدِهِ ،والإذْنِ له بالانصراف إلى بلده ، فعل مُوَفَّقاً . فلما قرأ المأمون الرقعة دعا عَمْواً ، وجعل يعجب من حُسن لفظها ، وإيجازِ المرادِ فيها ، فقال له عمرو : فما نتيجتُها يا أميرَ المؤمنين ؟ قال : الكتابة له في هذا الوقت بما سأل ، لئلاَّ يتأخر فَضلُ استحساننا كلامه ، وبجائزة تنفي دناءة المطل .
ومن كلام عمرو بن مسعدة : أعظمُ الناسِ أَجْراً ، وأنْبَهُهم ذِكراً ، من لم يرضَ بحياة العَدْلِ في دولته ، وظهور الحجَّةِ في سلطانه ، وإيصال المنافع إلى رعيته في حياته ، حتى احتالَ في تخليدِ ذلك في الغابرين بعده ، عنايةً بالدين ، ورحمةً بالرَّعية ، وكفايةً لهم من ذلك ما لو عنوا باستنباطه لكان يعرض أحد الأمرين ، إمّا الإكداء عن إصابة الحقّ فيه لكثرة ما يعرض من الالتباس ، وإما إصابةُ الرأي بعد طول الفكر ، ومقاساةِ التجارب ، واستغلاق كثير من الطرق إلى دَرَكه ؛ وأسعد الرُعاةِ من دامت سعادةُ الحق في أيامه ، وبَعْدَ وفاتِه وانقرَاضِه .
في إطالة الخطبة
وقال رجل لسويد بن مَنْجُوف ، وقد أطال الخطبة بكلام افتتحه لصلح بين قوم من العرب : يا هذا ، أتيت مرعًى غَيْرَ مَرْعَاك ، أفلا أدلُك عليه . قال : نعم . قال : قُلْ : أما بعد فإنّ في الصلح بقاءَ الآجال ، وحفظ الأموال ، والسلام . فلمِّا سمع القوم هذا الكلام تعانَقُوا وتواهبوا التّرات .
من أخبار الأمير أبي مسلم
قال عبد الله بن مسعود : لما أُمِرَ أبو مسلم بمحاربة عبد الله بن علي ، دخَلْتُ عليه فقلت : أيها الأمير ، تريد عظيماً من الأمر ؟ ، قال : وما هو ؟ قلت : عمَّ أمير المؤمنين وهو شيخُ قومه ، مع نَجْدَةٍ ، وبأس ، وحَزْم ، وحسن سياسة . فقال لي : يا ابن شبرمة ، أنت بحديثٍ تعلم معانيه ، وشِعْرٍ توضح قوافيه ، أَعلمُ منك بالحرب ؛ إن هذه دولة قد اطردَتْأعلامها ، وامتدّت أيامها ، فليس لمناوئها والطامِع فيها يدٌ تنيله شيئاً من الوثوب عليها ، فإذا ولَّت أيامها فدَعِ الوزَغ بذَنَبه فيها .
قال بعض حكماء خراسان : لما بلغني خروج أبي مسلم أتيتُ عَسْكَره لأنظر إلى تدبيره وهيبته ، فأقمت فيه أياماً ، فبلغني عنه شدة عُجْب ، وكِبرٌ ظاهر ، فظننت أنه تحلى بذلك لعيّ فيه أراد أن يَسْتُرَه بالصَمْتِ ، فتوصَلت إليه بحديث أسمع كلامه ، وأغيب عن بصره ، فسلمت فردَّ ردّاً جميلاً ، وأمر بإدخال قوم يريد تنفيذَهم في وجه من الوجوه ، وقد عقدوا لرجل منهم لواءً ، فنظر إليهم ساعة متأملاً لهم ، وقال : افهموا عني وصيتي إياكم ؟ فإنها أجْدَى عليكم من أكثر تدبيركم ، وباللّه توفيقكم . قالوا : نعم أيها السالار ، ومعناه السيد بالفارسية ، فسمعْتُه يقول ، ومترجم يحكي كلامه بالفارسية لمن عبَّر له منهم بالعربية : أَشعروا قلوبكم الجرأة فإنها سببُ الظَّفَر ، وأكثروا ذِكرَ الضغائن فإنها تبعث على الإقدام ، والزموا الطاعة فإنها حُصْنُ المحارب ، وعليكم بعصبيَّةِ الأشراف ، ودَعُوا عصبية الدناءة ؛ فإن الأشرافَ تظهر بأفعالها ، والدناءة بأقْوَالها .
وذكر إدريس بن معقل أبا مسلم فقال : بمثل أبي مسلم يُدرَك ثار ، ويُنفى عار ، ويُؤكد عَهْد ، ويُبرم عقد ، ويسهّل وَعر ، ويُخَاض غَمر ، ويُقلع ناب ، ويُفتح باب .
من أخبار أبي جعفر المنصور
وقال رجل لأبي جعفر المنصور : أيْنَ ما تُحُدِّثَ به في أيام بني أمية ؟ إن الخلافة إذا لم تقابل بإنصاف المظلومين ، ولم تعامل بالعدل في الرعية ، وقسمة الفيء بالسويَّة ، صار عاقبةُ أمرها بَوارأ ، وحاقَ بِوُلاَتها سوءُ العذاب .
قال : فتنفس ثم قال : قد كان ما تقولُ ، ولكنا يا أخي استعجَلْنا الفانية على الباقية ، وكأن قد انْقَضَتْ هذه الدار . فقال له الرجل : فانظرْ على أي حالة تنقضي .
وقال أبو الدوانيق وكان فصيحاً بليغاً : عجباً لمن أَصار عِلمَه غَرَضاً لسِهَامِ الخطايا ، وهو عارفٌ بسُرعَةِ المنايا ، اللهمّ إن تقض للمسيئين صَفحاً فاجعلني منهم ، وإن تَهَبْ للظالمين فسحاً فلا تحْرِمني ما يتطول به المولى على أَخس عبيده .من أخبار الأحنف بن قيس
سُئِل الأحنف بن قيس عن العقل ؟ فقال : رأس الأشياءة فيه قوامُها ، وبه تمامُها ؛ لأنه سراجُ ما بَطَن ، وملاك ما عَلَن ، وسائس الجسَدِ ، وزينة كل أحد ، لا تستقيم الحياة إلا به ، ولا تدور الأمور إلا عليه . ولما خطب زياد خطبته المشهورة قام الأحنف بن قيس ، فقال : الفرس بشَدِّه ، والسيف بحده ، والمرء بجدِّه ، وقد بلغ بك جدّك ما أَرى ، وإنما الثناءُ بعد البلاء ، فإنا لا نُثْني حتى نَبْلُو .
عهد الواثق بقلم ابن الزيات
وكتب ابنُ الزيات عَهْدَ الواثق على مكة بحضرة المعتصم : إذا بعد ، فإن أمير المؤمنين قد قلَّدك مكة وزمزم ، تُرَاثَ أبيك الأقْدم ، وجِدَّك الأكرم ، وركْضَة جبريل ، وسُقْيَا إسماعيل ، وحَفْرَ عبد المطلب ، وسِقَايةَ العباس ، فعليك بتقوى الله تعالى ، والتوسعة على أهل بيته .
وكتب : لو لم يَكُنْ من فضل الشكر إلا أنك لا تراه إلا بين نعمة مقصورة عليه ، وزيادة منتظرة له ، ثم قال لمحمد بن رَباح : كيف ترى ؟ قال : كأنهما قُرْطان بينهما وَجْه حسن ، ومع ذلك ذكر ابن الزيات أمرَ الحرم بتعظيمٍ وتفخيم .
ألفاظ لأهل العصر في التهنئة بالحج وتفخيم أمر ، الحرم و تعظيم ، أمر المناسك والمشاعر ، وما يتصل بها من الأدعية :
قصدَ البيتَ العتيق ، والمَطَاف الكريم ، والملتَزم النبيه ، والمستلَم النزيه . وقف بالمُعَرَّفِ العظيم ، ووردَ زمزم والحَطِيم . حَرَمُ الله الذي أوسعه للناس كرامة ، وجعلهلهم مَثابة ، وللخليل خُطة ، وللذبيح خُلة ، ولمحمد ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، قِبْلَة ، ولأُمّته كَعْبة ، ودعا إليه حتى لبَّى من كل مكان سحيق ، وأسرع نحوه من كل فجّ عميق ، يعودُ عنه مَنْ وُفِّق وقد قُبلت توبتُه ، وغُفرت حَوْبَته ، وسَعِدت سفرته ، وأنجحت أَوْبَتُه ، وحُمِد سَعْيه ، وزكا حجه ، وتقبل عَجه وثَجه . انصرف مولاي عن الحجّ الذي انتضى له عَزَائمه ، وأنضى فيه رَوَاحله ، وأتعب نفسه بطلب راحتها ، وأَنفق ذخائره بشراء سَعَة الجنّة وساحتها ؛ فقد زَكَتْ ، إن شاء الله تعالى ، أفعاله وتُقبِّلت أعماله ، وشكر سعيه ، وبلغ هديه . قد أسقطْتَ عن ظَهْرِك الثقلَ العظيمَ ، وشهدْتَ المَوْقِف الكريم ، ومحصْتَ عن نفسك بالسّعْي من الفجّ العميق ، إلى البيت العتيق . حمداً لمن سهّل عليك قضاء فريضة الحج ، ورُؤْية المَشْعَر والمَقَام ، وبركةَ الأدعية والموسم ، وسعادةَ أفنية الحطيم وزمزم ، قَصَد أكْرَمَ المقاصد ، وشَهِدَ أشرفَ المشاهدة فورد مَشَارعَ الجنّة ، وخيَّم بمنازل الرحمة . وقد جُمعت مواهب الله لديك : فالحجُّ أدَّيتَ فرضَه ، وحَرَمُ الله وَطِئْتَ أرضَه ، والمقام الكريم قُمْتَه ، والحجر الأسود استَلَمْتَه ، و زُرْتَ قبرَ النبي ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، مشافهاً لمشهده ، ومشاهداً لمسجده ، ومباشراً باديه ومَحْضره ، وماشياً بين قبره ومنبره ، ومصلّياً عليه حيث صلّى ، ومتقرباً إليه بالقرابة العظمى ، وعدت وسَعْيُك مشكور ، وذَنْبُك مغفور ، وتجارتك رابحة ، والبركات عليك غَادية ورائحة . تَلَقَّى الله دعاءك بالإجابة ، واستغفارك بالرضا ، وأملك بالنُجْح ، وجعل سَعْيَك مشكوراً ، وحجّك مبروراً . عَرَفَ الله تعالى مولاي مناهجَ ما نواه ، وقَصَده وتوخاه ، ما يسعده في دنياه ، ويحمد عُقْبَاه .
قَطَري بن الفُجَاءة
قال أبو حاتم : أتيت أبا عبيدة ومعي شعر عُرْوة بن الورد ، فقال لي : ما معك ؟ قلت : شعر عروة ، قال : شعر فقير ، يحمله فقير ، ليقرأه على فقير قلت : ما معي شعرُ غيره ؛ فأنشدني أنت ما شئت ، فأنشدني : البسيط :
يا رُبّ ظِل عُقابٍ قد وقَيْتُ بهِ . . . مُهْرِي من الشمس والأبطالُ تَجْتَلِدُوربَّ يوم حمًى أرْعَيْتُ عَقْوَتَهُ . . . خَيْلي اقتساراً وأطرافُ القَنا قِصَدُ
ويوم لَهْو لأهل الخَفْضِ ظلّ بهِ . . . لهْوي اصْطِلاء الوغى وَنَارُه تقدُ
مُشَهّراً مَوْقِفي والحربُ كاشِفَةٌ . . . عنها القناعَ وبَحْرُ الموت يطَّرِدُ
وربَّ هَاجِرةٍ تَغْلي مراجِلُها . . . مَخَرْتُها بمَطَايا غَارَةٍ تَخِدُ
تَجتَابُ أوديةَ الأفزاع آمِنةً . . . كأنها أسُد يصطادُها أَسد
فإن أَمُتْ حَتفَ أنفي لا أمُتْ كمداً . . . على الطعان وقَصْرُ العاجزِ الكَمَدُ
ولم أقل لم أُساقِ الموتَ شارِبَهُ . . . في كأسه والمنايا شُرَّغ وُرُد
ثم قال : هذا والله هو الشعر ، لا ما يتعلّلون به من أشعار المخانيث . والشعْرُ لقَطَري بن الفجاءة المازني ، وكان يُكْنَى في السلم أبا محمد ، وفي الحرب أبا نَعَامةٍ ، وكان أطولَ الخوارج أياماً ، وأحدّهم شوكة ، وكان شاعراً جواداً ، وهو القائل أيضاً : الكامل :
لا يركَنَنْ أحدٌ إلى الإحجامِ . . . يوم الوغى متهيّباً لحِمامِ
فلقد أراني للرماحِ دريئَة . . . من عن يميني تارةً وأمامي
حتى خضَبْتُ بما تحدّر من دمي . . . أكنافَ سَرْجِي أو عِنَان لِجامي
ثم انصرفْتُ وقد أصبت ولم أصَب . . . جَذَعَ البصيرة قارح الإقدامِ
باب المديح
وقال المُسَيب بن عَلَس : المتقارب :
تبيتُ الملوكُ على عَتْبِها . . . وشيبانُ إن غضبتْ تُعْتَبُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8