كتاب : زهر الأداب وثمر الألباب
المؤلف : أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني

فأجابني : إذا كان السِّفر عِنْدَك منجاةً فما أصنْع ؟
في محادثة الجليس
وقال أبو العباس : دخل رجلٌ على الحسن بن سَهْل بعد أن تأخّر عنه أياماً ، فقال : ما يَنْقَضِي يوم من عُمْرِي لا أراك فيه إلاّ علمت أنه مبتورُ القَدرِ ، منحوس الحظ ، مَغْبُون الأيام .
فقال الحسن : هذا لأنّك توصل إليّ بحضورك سُروراً لا أجده عند غيرك ، وأتنَسَّم من أرواح عِشْرَتك ما تجدُ الحواسُّ به بُغْيَتَها ، وتستوفي منه لذتها ، فنفسُك تألف مني مثل ما آلفُهُ منك .
وكان يقال : محادثة الرَجال تَلْقيح الألباب .
وقال ابن الرومي : مجزوء الكامل :
ولقد سَئِمْتُ مَآرِبي . . . فكأنَّ أطيبَها خَبِيثُ
إلاَ الحديثَ ؛ فإنهُ . . . مِثْلُ اسْمِهِ أبداً حَدِيثُ
قال مخارق : لقيني أبُو إسحاق إسماعيلُ بن القاسم قبل نسكه ، فقال : أنا والله صَبّ بك ، وَلُوع إليك ، مغمورُ القلب بشكرك ، واللسانِ بذِكْرك ، متشوِّف إلى رؤيتك ومفاوضتك ، وقد طالتِ الأيامُ على ما أعِدُ به نَفْسِي من الاجتماع معك ، ومن قضاء الوَطَر منك ؛ فما عندك ؟ أنا الفِدَاء لك وتزورني أم أزورك ؟ قلت : جعلني اللّه فِدَاك ما يكونُ عند مَنْ هو منك بهذا الموضع وفي هذا المحل إلاَ الانقياد إلى أمرك ، والسمعُ والطاعةُ لك ، ولولا أن أسيء الأدبَ في أمرٍ بدَأت فيه بالفضل لقلت : إن كثيرَ ما ابتدأتَ به من القول يقلُّ فيما عندي من الشوقِ إليك ، والشَّغف بك ، دون ما حرَك هذا القولُ مني ، فوجبَتْ لك به المنَّة عليَّ ، وأنا بين يديك ، فأثْنِ عِنَاني إلى ما أرَدْت ، وقُدْني كيف شئت ، تجدني كما قال القائل : البسيط :
ما تشْتَهِيه فإني اليوم فاعلُهُ . . . والقلبُ صَبّ فما جَشَّمْته جِشما
وذكر سهل بن هارون رجلاً ، فقال : لم أر أحسن منه فَهماً لجليل ، ولا تفهما لدقيق ، أشار إليه أبو تمام فقال : الوافر :
وكنت أعَز عِزّاً من قنوع . . . تعرَضَه صَفوح من مَلولِفصرت أذلّ من معنًى دقيقٍ . . . به فَقرٌ إلى ذِهنٍ جليلِ
وقال سعيد بن مسلم للمأمون : لو لم أشكُر اللَه تعالى إلاّ على حسن ما أبلاني من أمير المؤمنين من قصدِهِ إليَ بحديثه ، وإشارته إلي بِطَرفه ؛ لقد كان في ذلك أعظمُ الرفعة ، وأرفعُ ما تُوجِبه الحرمة . فقال : يفعل أمير المؤمنين ذلك ؛ لأن أمير المؤمنين يَجِدُ عندك من حسْن الإفهام إذا حَدثت وحسن الفهم إذا حُدثت ما لا يجدُه عند أحَدٍ ممن مضى ، ولا يظن أنه يجده عند أحد ممن بَقِي ، فإنك لتستَقصِي حديثي ، وتَقفُ عند مقاطع كلامي ، وتُخْبِر بما كنتُ أغفلته منه .
وقال المتوكل لأبي العيناء : ما تحسنُ ؟ فال : أفهَمُ وأُفهِم .
وقال بعض الحكماء لتلميذه ، وقد ضَرَب الموسيقى : أفهمت ؟ قال : نعم ، قال : بل لم تفهم ، لأني لا أرى عليك سرور الفهم وقد قيل : مَنْ نظر إلى الربيع وأنواره ، والروض وأصبْاغه ، ولم يبتهج كان عديمَ حِسّ ، أو سقيم نفس .
ومرَّ أبو تمام بأيرشهر من أرض فارس ، فسمع جارية تغني بالفارسية ، فَشَاقَه شجيّ الصوت ، فقال : الوافر :
ومُسْمِعَةٍ تروقُ السمعَ حسناً . . . ولم تصممهُ ، لا يصممْ صداها
لوت أوتارها فشجتْ وشاقت . . . فلوْ يسطيعُ حاسدُها فَدَاها
ولم أفْهم معانيها ، ولكن . . . وَرَتْ كبدي فلم أجْهل شداها
فكنت كأنني أعمى معَنًّى . . . يُحَب الغانياتِ ولا يراها
قال أبو الفضلى أحمدُ بن أبي طاهر : قلت لأبي تمام : أخذت هذا المعنى من أحد ؟ قال : نعم ، أخذتُه من قول بشار بن برد : البسيط :
يا قومِ أذْني لبعض الحيِّ عاشقةٌ . . . والأذن تعْشَقُ قبلَ العينِ أحيانا
قالوا : بمنْ لا تَرى تهذْي ؟ فقلت لهم : . . . الأُذْنُ كالْعَيْنِ تُوفي القلبَ ما كاناوقال بشار أيضاً في هذا المعنى : البسيط :
قالت عَقِيل بن كعب إذ تعلقَها . . . قَلبي فأضْحَى به من حُبّها أَثَرُ :
أنّىَ ولم تَرَها تَهْدي فقلْتُ لهم : . . . إن الفؤادَ يرى ما لا يَرَى البَصَر
وقال : الطويل :
يُزهِّدني في حُبّ عَبْدَة معشرٌ . . . قلوبُهُمُ فيها مخالِفَةِّ قلبي
فقلت : دعُوا قلبي وما اختارَ وارتضى . . . فبالْقَلْبِ لا بالعين يبْصِرُ ذو اللُبِ وما تبْصِرُ العينان في موضع الهوى . . . ولا تسمع الأذْنانِ إلاَ من القلبِ
وقد قال أبو يعقوب الخريمي في هذا المعنى ، وكان قد أعورَ ثم عمي ، وقيل : إنها للخليل بن أحمد : الكامل .
قالت أتهزأ بي غَدَاة لقيتها ؟ . . . يا للرجال لصبْوة العميانِ
فأجبتها : نفسي فداؤك إنما . . . أُذْني وعيني في الهوى سِيَّانِ
وقريب من هذا قول الحكم بن قنبر إنْ لم يكن منه : البسيط :
إن كُنْتَ لَست معي فالذكر منك معي . . . يَرْعاك قلبي وإن غُيِّبتَ عن بَصَرِي
العين تُبْصِر مَنْ تَهوَى وتفقده . . . وناظرُ القلب لا يَخلو من النظر
وقال آخر : الطويل :
أما والّذي لو شاءَ لم يخْلُق الهَوَى . . . لئن غِبْتَ عن عيْني فما غِبتَ عن قلبي
ترِينيكَ عَيْنُ الوَهْمِ حتى كأنني . . . أُناجيك من قرْبٍ وإنْ لم تكن قربي
وقال أبو عثمان سعيد بن الحسن الناجم : الطويل :
لئن كانَ عن عينيَّ أحمدُ غائباً . . . فما هو عن عين الضمير بغائبِ
له صورةٌ في القلب لم يُقْصِها النوى . . . ولم تتخَطَّفْها أكفُّ النوائبِ
إذا ساءني منه شُحُوطُ مزاره . . . وضاقت بقلبي في نَواهُ مَذَاهبيعطفتُ على شَخْصٍ له غير نازحٍ . . . مَحَلَّتُهُ بين الحَشَا والتَّرَائب
وذكر أبو عبيدة كيسان مسْتمليه في بعض الأمر ، فقال : ما فَهِمَ ، ولو فهم لوَهِمَ . وكان كيسان يوصف بالبَلادة والغفلةّ .
قال الجاحظ : كان يكتبُ غيرَ ما يسمع ، ويستقني غير ما يكتب ، ويقرأ غيرَ ما يستقني ، ويُملي غير ما يقرأ ، أمليت عليه يوماً : مجزوء الوافر :
عجبتُ لمعشرٍ عدلوا . . . بمعتمر أبا عمرِ
فكتب أبا بشر ، وقرأ أبا حفص ، واستقنى أبا زيد .
قال أبو عباد : للمحدث على جليسه ، السامع لحديثه ، أن يَجْمَع له بالَه ، ويُصغِي إلى حديثه ، ويكتم عليه سِرًهُ ، ويبسط له عذره .
وقال : ينبغي للمحدث إذا أنكر عين السامِعِ أن يستَفهمه عن مَعْنى حديثه ، فإن وجده قد أخْلَص له الاستماع أتمَّ له الحديث ، وإن كان لاهياً عنه حرمهُ حُسْنَ الإقبال عليه ، ونَفْعَ المؤانسة له ، وعرفه بسوء الاستماع والتقصير في حق المحدث .
وقال : نَشَاطُ المحدّث على قَدْر فهم المستمع .
وكان عبد اللّه بن مسعود - رضي الله عنه - يقول : حدِّثِ الناسَ ما حَدَّجُوك بأسماعهم ، ولحظوك بأبصارهم ، فإذا رأيت منهم فتوراً فأمسك .
وقال أبو الفتح البستي : الوافر :
إذا أحَسَست في لَفظي فتوراً . . . وحفظي والبلاغة والبيانِ
فلا تَرْتَبْ بفهمي إنَّ رَقْصي . . . على مقدار إيقاعِ الزِّمانِ
وقال عامر بن عبد قيس : الكلمةُ إذا خرجتْ من القلب وقعت في القلب ، وإذا خرجت من اللسان لم تُجاوز الآذان .
وقال الحسن - وقد سمع متكلِّماً يَعِظُ فلم تَقَعْ موْعِظته من قَلْبِهِ ولم يرق لها - : يا هذا ، إن بقلبك لشرًّاً ، أو بقلبي وقال محمد بن صبيح المعروف بابن السماك لجاريته : - كيف ترين ما أعِظُ الناس به ؟قالت : هو حَسَن ، إلاّ أنك تكرره ، قال : إنما أكرره ليفهمه مَنْ لم يكن فَهِمه ، قالت : إلى أن يفهمه البطيء يَثْقُل على سَمْع الذكي .
وأستعيد ابنُ عباس حديثاً فقْال : لولا أني أخافُ أن أغُضَ من بهائه ، وأُريق من مائه ، وأُخْلِق من جِدِّه ، لأعدته .
وقال أبو تمام الطائي يصف قصائده : الوافر :
مُنزهةً عن السرق المؤِّدّى . . . مكرَمةً عَنِ المَعْنَى المعادِ
أخذه البحتري فقال : مجزوء الكامل :
لا يُعْمِلُ اللفظَ المك . . . ررَ فيه واللفظَ المُرَدَدْ
والإطالة ممْلولة كما يمَلُّ التكرير .
وقد قال الحسن بن سهل : الآداب عشرة ؛ فثلاثة شهرجانية ، وثلاثة أنُوشروانية ، وثلاثة عربية ، وواحدة أرْبَتْ عليهن ؛ فأما الشهرجانية فضربُ العْود ، ولعب الشطْرنج ، ولعب الصَّوَالج . وأما الأنوشروانية فالطّب ، والهندسة ، والفروسية . وأما العربية فالشعْر ، والنَّسب ، وأيام الناس . وأما الواحدة التي أرْبَتْ عليهنّ ، فمقطعات الحديث ، والسمر ، وما يتلقَّاه الناسُ بينهم في المجالس .
وكان يُقال : خُذ من العلوم نتفها ، ومن الآداب طُرَفها . وكان يقال : مقطعَات الأدب ، قُراضاتُ الذهب .
وحضَر بشارُ بن بُرْدٍ مجلساً فقال : لا تجعلوا مَجلِسنا غِناء كلَه ، ولا شعراً كله ، ولا سَمراً كله ، ولكن انتهبوه انْتِهاباً .
وقال الحسن رحمه الله : حادثُوا هذه القلوبَ فإنها سريعةُ الدُّبُور ، واقْدَعُوا هذه الأنفس فإنها طُلعة ؛ وإنكم إلا تَزَعُوها تنزعْ بكم إلى شَر غاية .وقال أزدشير بن بابك : إن للأذهان كَلالاً ، وللقلوب ملالاً ، ففرِّقوا بين الحكمتين يكن ذلك استجماماً .
ويروى في حكمة آل داود : لا ينبغي للعاقل أن يُخْلي نفسهُ من أربع ؛ عدّة لِمَعَادِهِ ، وصلاحٌ لمَعاشه ، وفِكْرٌ يقفُ به على ما يُصْلِحُه من فساده ، ولذة في غير مُحَرم يستعينُ به على الحالات الثلاث .
وما أحسن ما قال أبو الفتح بن كشاجم : الرمل :
عَجَبِي ممَّن تَنَاهَتْ حالُهُ . . . وكفَاه اللَهُ ذِلاَتِ الطلَبْ
كيف لا يَقْسِم شَطْرَيْ عمرِه . . . بين حالَيْن نَعيم وأدَبْ ؟
ساعة يُمِتع فيها نَفْسَهُ . . . من غذاء وشراب منتخَبْ
ودُنُو من دُمًى هُنَ لَهُ . . . حين يشتاقُ إلى اللّعب لُعَبْ
فإذا ما نَالَ مِنْ ذا حَظه . . . فحديث ونشيد وكُتُبْ
مرة جِد ، وأخرى راحة . . . فإذا ما غسَقَ الليل انتْصبْ
فقضى الدنيا نَهاراً حقَّها . . . وقضى للَه ليلاً ما وَجَبْ
تلك أقسامٌ متى يَعْمَلْ بها . . . دَهْرَهُ يَسعَدْ ويَرْشُدْ ويُصِبْ
وقال أبو العباس محمد بن يزيد : قسَّمَ كسرى أيامه فقال : يَصْلُح يَوْمُ الريح للنوم ، ويوم الغَيْم للصيد ، ويومُ المَطَر للشرب واللَهو ، ويوم الشمس لقضاء الحوائج .
قال الحسين ابن خَالَويْه : ما كان أعرفهم بسياسة دُنْياهم ، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهُمْ عن الآخرة هم غافلون ، ولكن نبيَّنا ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، قَدْ جَزأ نهاره ثلاثة أجزاءَ : جُزْء لله ، وجزءٌ لأهله ، وجزءٌ لنفسه ، ثم جُزءٌ جزأه بينه وبَينَ الناس ؛ فكان يستعين بالخاصَّة على العامة ، وكان يقول : أبْلِغوني حاجةَ من لا يستطيعُ إبلاغي ؛ فإنه من أبلغَ ذا سلطان حاجةَ مَنْ لا يستطيع إبلاغَها آمنهُ اللهُ تعالى يَوْمَ الفَزَع الأكبر .
رجع إلى البلاغة
وقال شبيب بن شيبة : إن ابتُلِيت بمقام لا بدَ لك فيه من الإطالة فقدم إحكامالبلوغ في طلب السلامة من الخَطَلِ ، قبل التقدّم من إحكام البلوغ في شَرَفِ التَّجْويد ؛ ثم إياك أنْ تَعْدِل بالسلامة شيئاً ، فقليلٌ كافٍ خَيرٌ لك من كثير غير شاف .
وكان جعفر بن يحيى يقول لكتابه : إن استَطعْتم أن يكون كلامُكم كلُه مثل التوقيع فافعلوا .
وقال ثمامة بن أشرس : لم أرَ قط أنطَق من جعفر بن يحيى بن خالد ، وكان صاحبَ إيجازٍ .
وكان أبو وائلة إياس بن معاوية - على تقدمه في البلاغة ، وفضْلِ عقله وعلمه - بالإكثار مَعِيباً ، وإلى التطويل مَنْسوباً ، وقال له عبد اللّه بن شبرمة : أنا وأنْتَ لا نتفق ، أنْتَ لا تشتهي أن تسكت ، وأنا لا أشتهي أن أسْمَع . وقيل له : ما فيك عيبٌ إلاّ كَثْرة كلامك . قال : أفتسمعون صواباً أم خطأ ؟ قالوا : بل صواباً ، قال : فالزيادةُ في الخير خير .
قال الجاحظ : وليس كما قال ، بل للكلام غاية ، ولنشاط السامعين نهاية ، وما فَضَل عن مقدار الاحتمال ، ودعا إلى الاستثقال والكَلاَل ؛ فذلك هو الفِضَال والهَذَر والْخَطل والإسْهاب الذي سمِعْتُ الخطباءِ يَعيبونه .
وذكر الأصمعي أن ابن هبيرة لمّا أراد إياساً على القضاء قال : إني واللّه لا أصلح له ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : لأنِّي دميم حَدِيد ، ولأني عيَيّ ، قال ابنُ هبيرة : أما الحِدّة فإن السوْط يُقَوَمك ؛ وأما العِيُّ فقد عبَّرْتَ عما تريد ؛ وأما اللّه الدَّمامة فإني لا أريد أن أُحاسِ بك .
ولم يصفه أحد بالعيِّ ، وإنما كان يُعَابُ بالإكثار ، ولكنه أراد المدافعة عن نَفْسه والحديث ذو شجون .
قال أبو العيناء ، ذُكِرْتُ لبعض القيَان فعشقني على السماع ، فلمّا رأتْني استقبحتني ، فقلت : الطويل :
وشاطرةٍ لمّا رَأتني تنكَّرَتْ . . . وقالت : قبيحٌ أحْوَلٌ ما له جسمُفإن تُنْكري مني احوِلالاً فإنني . . . أديبّ أريبٌ لا عييّ ولا فَدْمُ فاتصل بها الشعر ، فكتبَتْ إلي : إنَّا لم نرد أن نُولَيك ديوانَ الزمام وكان عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كتب إلى عدي بن أرطاة : إن قِبَلك رَجُلَيْن من مزينة - يعني بكر بن عبد اللّه ، وإياس بن معاوية - فَوَلِّ أحَدَهما قضاءَ البَصْرَة ؛ فأحضرهما ، فقال بكر : واللَّهِ ما أحْسن القضاء ؛ فإن كنتُ صادقاً فما تَحِلُّ تَوْليتي ، وإن كنتُ كاذباً فذلك أوجْبُ لِتركي ، فقال إياس : إنكم وَقَفْتُمُوه على شَفِير جهنَّم ، فافْتَدى منها بَيَمينٍ يكفرها ، ويستَغفِرُ اللّه تعالى منها ، فقال له عديّ : أما إذ اهتديت لها فأنْتَ أحقُّ بها ، فولاّه .
ودخل إيَاس الشام وهو غلام صغيرٌ ، فقدّم خَصْماً له إلى بعض القضاة ، وكان الْخَصْمُ شَيْخاً ، فصالَ عليه إياسٌ بالكلام ، فقال له القاضي : خَفَض عليك ، فإنه شَيخ كبير ، قال : الحقُّ أكْبَر منه ، قال : اسكت قال : فمَنْ يَنطِقُ بحجتي ؟ قال : ما أراك تقولُ حقاً ، قال : لا إله إلا اللّه فدخل القاضي على عبد الملك فأخبره ؛ فقال : اقْضِ حاجتَه الساعَةَ وأخْرجه من الشام لا يُفْسِد أهلَها وقال أحمد بن الطيب السَّرَخْسِي تلميذ يعقوب بن إسحاق الكندي : كنتُ يوماً عند العباس بن خالد ، وكان ممن حبَّب اللّه إليه أن يتحدَّث ، فأخذ يحدّثني ، ويتنقلُ من حديثٍ إلى حديث ، وكنّا في صَحْنٍ له ، فلما بلغتنا الشمس انتقلنا إلى موضع آخر ، حتى صار الظلّ فَيْئاً ؛ فلمّا أكْثَر وأضْجَر ، ومللت حُسْنَ الأدبِ في حُسْنِ الاستماع ، وذكرت قول الأوزاعي : إن حسنَ الاستماع قوة للمحدث ، قلت له : إذا كنتُ وأنا أسمع قد عَيِيتُ ممّا لا كُلْفَة عليَ فيه ، فكيف أراك وأنْتَ المتكلم ؟ فقال : إنَّ الكلام يحلَلُ الفضولَ اللَزجةالغليظة التي تعرض في اللَّهَوَاتِ وأصْل اللسان ومنابِت الأسنان ، فوثَبْتُ وقلت : لا أراني معك اليوم إلاَ إيَارج الفَيقرا ، فأنت تتغَرغَر بي فاجتَهد في أن أجلِسَ فلم أفعَل .
قال أحمد بن الطيب : كنا مرَة عند بعض إخواننا ، فتكلَّم وأعجبَه من نفسه البيان ، ومِنَّا حسنُ الاستماع ، حتى أفْرَط ، فعرض لبعض مَن حضَر مَلل ، فقال : إذا بارك الله في الشيء لم يَفْنَ ، وقد جعل الله تعالى في حديث أخينا البركة ولعبد الله بن سالم الخياط في رجل كثير الكلام : المنسرح :
لي صاحبٌ في حديثه البركة . . . يزيدُ عند السكون والحَرَكةْ
لو قال لاَ في قليل أحرُفها . . . لردها بالحروف مُشتَبكة
ومن طرائف التطويل ما أنشأه البديع ، وسيمرّ من كلامه ما هو آنَق من زَهر الربيع .
في الظرف والمُلح والمزاح
قال الأصمعي : بالعلم وصَلنا ، وبالملَح نِلنَا ، وقال الأصمعي أيضاً : أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة ، وكان أعقَل من رأيْتُه : السريع :
يا أيُّها السائلُ عن مَنْزِلي . . . نزلتُ في الخانِ على نَفسِي
يغدو عليَ الْخُبزُ من خابزٍ . . . لا يقبل الرَّهن ولا ينسِي
آكُلُ مِن كِيْسِي ومن كسْرتي . . . حتى لقد أوجعني ضِرسي
فقال : اكتب لي هذه الأبيات ، فقلت : أصلحك اللّه هذا لا يُشْبِهُ مثلَك ، وإنما يَرْوِي مثل هذا الأحداثُ ؛ فقال : اكتُبْها فالأشرافُ تُعْجِبهم المُلَح .
وقد قال أبو الدَرداء رحمه الله تعالى : إني لأستَجِمُّ نفْسي ببعض الباطل ، ليكونَ أقْوَى لها على الحق .
وقال ابن مسعود رحمه الله : القلوب تمل كما تمل الأبدان ، فاطلبوا لها طَرَائِفَ الحكمة .
وقال ابن الماجِشُون : لقد كنَّا بالمدينة وإن الرجلَ ليحدّثني بالحديث من الفقه فيُمليه عليَ ، ويذكر الخبرَ من المُلَح فأستعيدُه فلا يفعل ، ويقول : لا أعطيك مُلَحِي ، وأهَبُك ظَرْفي وأدبي .وقال ابن الماجِشُون : إني لأسْمَع بالكلمة المَليحة وما لي إلاَّ قميصٌ واحدة فأدْفَعه إلى صاحبها ، وأستَكْسِي اللّه عزّ وجلّ .
وقال الزبير بن بكار ؛ رُؤي الغاضريّ يُنَازع أشْعَبَ الطمعَ عند بعض الوُلاة ، ويقول : أصْلَح اللَهُ الأمير إنّ هذا يَدْخُلُ عليّ في صناعتي ، ويطلبُ مشاركتي في بِضاعتي ، وهيْأتُه هيأةُ قاض ، والأمير يضحك ، وكانا جميعاً فرسَيْ رهان ورضيعَيْ لِبان في بَيَانهما ؛ إلاَّ أنّ الغاضري كان لا يتخلَق بالطمَعِ تَخلُقَ أشْعَب . وأتى الغاضري يوماً الحسنَ بن زيد فقال : جُعلت فِدَاك إني عصيت اللَّهَ ورسوله ، قال : بئس ما صنَعْت وكيف ذلك . قال : لأنّ رسولَ الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' لا يُفْلِحُ قومٌ ولَوا أمرَهم امرأة ' ، وأنا أطعتُ امرأتي ، فاشتريتُ غلاماً فهرب .
قال الحسن : فاخترْ واحدةً من ثلاث : إن شئتَ فثمَنُ الغلام ، قال : بأبي أنتَ قِفْ عند هذه ولا تتجاوَزها قال : أعْرِضُ عليك الخصلتين ، قال : لا ، حَسْبي هذه .
وقد رُوِي نحوُ هذا عن أشعب ، أنه قال له بعض إخوانه : لو صرتَ إليّ العشيَّة نتفرج ؟ قال : أخاف أن يجيء ثقيل ، قلت : ليس معنا ثالث ، فمضى معي ، فلفا صلّينا الظهر ودعوتُ بالطعام ، فإذا بداق يدق البابَ ، قال : ترى أنْ قد صِرْنا إلى ما نكره ، قلت له : إنه صديق ، وفية عشرُ خصال إن كرِهْتَ واحدةً منهن لم آذَنْ له ، قال : هَاتِ ، قلت : أولها أنه لا يأكل ولا يَشرب ، فقال : التسعُ لك قل له يدخل ورأى سفيان الثوْري الغاضريَّ وهو يُضْحِكُ الناسَ ؛ فقال : يا شيخُ ، أوَ ما علمتَ أن للّه يوماً يَخْسَرُ فيه المُبِطلون ؟ فوجَمَ الغاضري ، وما زَال ذاك يُعْرَفُ فيه حتى لَقِي اللّه عزّ وجل .
وأشعب الطمِع هو أشعب بن جُبير ، مولى عبد اللّه بن الزبير ، وكان أحْلَى الناسِ ، قال الزبير بن أبي بكر : كان أهلُ المدينة يقولون : تغيرَ كل شيء إلاَّ مُلَح أشعب ، وخُبْز أبي الغيث ، ومِشية بَرّة ؛ وكان أبو الغيث يعالج الخُبز بالمدينة ، وبرّة بنت سعيد بن الأسود كانت مِنْ أجمَلِ النساء وأحسنهنّ مِشيَةً ، وأشعب يضربُ به المثلُ في الطَّمع ، وكان أشْعَبُقد نشأ في حِجْر عائشة بنت عثمان - رحمها الله - مع أبي الزناد قال أشعب : فلم يزَلْ يعلو وأنحط حتى بلغنا الغاية .
وقال أشعب : أسلمتني أمي إلى بَزَّاز ، فسألتني بعد سنة ، أين بلَغت ؟ فقلت : في نصف العمل ، قالت : وكيف ؟ . قلت : تعلمت النَشْر وبقي الطَي ، قالت : أنتَ لا تفلح .
وسألتْه صديقةٌ له خاتماً ، فقالت : أذكُرُكَ به ، قال : اذْكُري أنك سألتني ومنَعْتُك وقيل له : كم كان أصحابُ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بَدْر ؟ قال : ثلاثمائة عشر درهماً ثم تنسَك في آخر عمره ، وغَزَا ومات على خَيْرٍ ، رحمه الله تعالى وقيل لأشعب : أرأيتَ أطمع منك ؟ قال : نعم ، كلبة آل فلان ، رأتْ رجلين يَمْضُغان عِلْكاً ، فتبعَتْهُما فَرْسخين تظنُّ أنهما يأكلان شيئاً .
وأهدى رجلٌ من ولد عامر بن لؤي إلى إسماعيل الأعرج قالوذجة وأشعَبُ حاضر ، فقال : كُلْ يا أشعب ، فأكل منها ؛ فقال : كيف تَراها . فقال : عليه الطلاق إن لم تكن عُمِلَت قبل أن يُوحِيَ ربك إلى النحْل أي : ليس فيها حَلاَوة .
وروى أبو هفان قال : دخل أبو نُواس الحسنُ بن هانئ على يحي بن خالد فقال : أنشدني بعض ما قُلْتَ ، فأنشده : الكامل
إني أنا الرجلُ الحكيمُ بطَبعِه . . . ويَزيد في علمي حِكايَةُ مَنْ حَكَى
أتتبعُ الظرفاء أكتبُ عنهم . . . كيما أحدث مَنْ أُحب فيضْحَكا
فقال له يحيى بن خالد ، : إن أول زَندك ليُوري بأوَلِ قَدْحةٍ ، فقال ارتجالاً في معنى قول يحيى : الكامل
أما وزَنْدُ أبي علي . . . إنه زَنْدٌ إذا اسْتَوْرَيْتَ سهَلَ قَدْحَكَا
إن الإلهَ لِعِلْمِهِ بعباده . . . قد صاغَ جَدَّك للسماح ومَنْحَكا
تَأْبى الصنائعَ همَتي وقَرِيحتي . . . من أهْلها وتَعَافُ إلاَ مَدْحَكا
ووصف أبو عبد الله الجماز أبا نواس فقال : كان أظْرفَ النَّاس منطقاً ، وأغْزَرهم أدباً ، وأقدَرهم على الكلام ، وأسْرَعَهم جواباً ، وأكثرهم حياءً ، وكان أبيضَ اللَونِ ، جميلالوَجْهِ ، مليح النغمة والإشارة ، ملتفَّ الأعْضاء ، بين الطويلِ والقصير ، مَسْنُونَ الوَجْه ، قائِم الأنف ، حسن العينين والمَضْحَك ، حُلْو الصورة ، لَطيفَ الكَفّ والأطراف ؛ وكان فصيحَ اللسان ، جَيِّدَ البيان ، عَذْب الألفاظ ، حُلْوَ الشمائل ، كثيرَ النوادر ، وأَعْلَمَ الناس كيف تكلمت العربُ ، رَاويةً للأشعار ، علامة بالأخبار ، كأن كلاَمه شعرٌ موزون .
وأقبل أبو شراعة العبسي ، والجَمَازُ في حديثه ، وكان أقبح الناسِ وجهاً ، وكانت يدُ أبي شَرَاعة كأنها كَرَبة نَخْل ؛ فقال الجماز : فلو كانت أطرافه على أبي شراعة لتمَ حُسْنُه ؛ فغَضِب أبو شراعة وانصرفَ يَشْتُمه . والجماز هو : أبو عبد الله محمد بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر ، وكانوا يَزْعمون أنهم من حِمْيَر ، نالَهُمْ سِباء في خِلاَفَةِ أبي بكر ، رضي اللّه عنه ، وهم مَوَالِيه ، وسَلْم الخاسر عمّهُ ، وكان الجماز من أحْلَى الناسِ حكاية ، وأكثرِهم نادرة .
قال بعض جلساءِ المتوكّل : كُنَّا نكْثِر عند المتوكل ذِكْرَ الجماز حتى اشتَاقه ، فكتبَ في حَمْله إليه ، فلما دخل أُفْحِم ، فقال له المتوكل : تكلمْ فإنّي أُريدُ أن أسْتَبرئكَ ، فقال : بحَيْضَةٍ أو بحَيْضَتين يا أميرَ المؤمنين ؟ فقال له الفتح : قد كلَّمتُ أميرَ المؤمنين يُولَيك على القرود والكلاب قال : أفلستَ سامِعاً مطيعاً . ؟ فضحك المتوكل وأمر له بعَشْرَةِ آلاف درهم .
وكان لا يُدْخِلُ بيتَه أكثر من ثلاثةٍ لضيقه ؛ فدعا ثلاثةً ، فجاءه ستّة ، وقَرَعوا الباب ، ووقفوا على رِجل رِجل فَعدَ أرجُلَهم من خَلْفِ الباب ، فلّما حصلوا عنده ، قال : اخرجُوا عني ، فإنما دعوتُ ناساً ولم أدعُ كَراكِي .وقال الطائي في عمرو بن طوق التغلبي : الكامل
الْجِد ُّشيمَتُه ، وفيه فكَاهَة . . . سجحٌ ولا جِدٌ لمن لم يَلْعَبِ
شَرِس ، ويتبع ذاك لينُ خَلِيقة . . . لا خيرَ في الصَهْباء ِما لم تقطَبِ
وقال في الحسن بن وَهْب : الكامل :
لِلَّهِ أيامٌ خطَبْنا لِينَها . . . في ظلِّه بالخندريس السَلْسَلِ
بمدامةٍ نَغَمُ السماع خفيرُها . . . لا خيرَ في المعلول غيرَ معللِ
يخشى عليها وهو يَجْلُو مُقلتَيْ . . . بازٍ ، ويغفلُ وهو غيرُ مُغَفل
لا طائشٌ تَهْفُو خلائقُه ، ولا . . . خَشِنُ الوقارِ كأنَه في محفلِ
فكِه يجمُ الجدّ أحياناً ، وقد . . . يُنْضَى ويُهْزَلُ عَيْشُ مَنْ لم يهْزِلِ
وقال فيه : الكامل :
ولقد رأيتكَ والكلامُ لآلئٌ . . . تُؤْمٌ فَبِكْر في النِّظَامِ وثَيبُ
وكأن قُسًّا في عُكاظٍ يَخْطُبُ . . . وابن المقفعِ في اليتيمةِ يُسْهِبُ
وكأن لَيْلَى الأخيلية تَنْدُبُ . . . وكثِيرَ عزَةَ يَوْم بَيْنٍ يَنْسِبُيَكْسُو الوقارَ ويستخف موقراً . . . طَوْراً فَيُبْكِي سامِعيهِ ويُطْرِبُ
وقال أبو الفتح البستي : الطويل :
أفِدْ طَبْعَكَ المَكْدُود بالهمَ رَاحةً . . . بِرَاح ، وعلِّلْهُ بشيءً مِنَ المَزْحِ
لكِنْ إذا أعطيْتَه المَزْحَ فَلْيَكُنْ . . . بمقدارِ ما نُعْطِي الطعامَ من المِلْحِ
وما زال الأشراف يمزَحون ويسمحون بما لا يَقْدَحُ في أديانهم ، ولا يغضُّ في مُرُوءَاتِهِم .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' بعثت بالحنيفية السَّمْحَة ' .
وقال : ' إني لأمْزَحُ ولا أقُول إلا حقاً ' .
وقيل لسعيد بن المسيب : إنَّ قوماً من أهل العراق لا يَرَوْنَ إنشادَ الشعر ، فقال : لقد نَسَكُوا نُسكاً أعْجَمِياً .
وقيل لابن سيرين : إنَّ قوماً يزعمون أن إنشادَ الشعر ينقض الوضوء ، فأنشد : الطويل
لقد أصبحَتْ عِرْس الفرزدق نَاشِزاً . . . ولو رَضِيَت رَشح آسْتِه لاستقرَتِ
وقام يصَلي وقيل : بل أنشد : البسيط
أنْبِئْتُ أن عَجُوزاً جِئتُ أَخطبها . . . عُرقوبُها مِثْلُ شَهْرِ الصَوم في الطَولِ
ما قيل في النسيب والغزل
وقيل لأبي السائب المخزومي : أترى أحداً لا يَشْتَهي النسيب ؟ . فقال : أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا .وروى مصعب بن عبد اللّه الزبيري عن عروة بن عبيد اللّه بن عروة الزبيري قال : كان عُروَة بن أُذَينة نازلاً في دار أبي بالعقيق ، فسمعتُه يُنْشِدُ لنفسه : الكامل
إنَ التي زَعَمَتْ فؤادَك مَلَّها . . . خُلِقَتْ هواك كما خُلِقْتَ هَوًى لها
فيك الذي زعمَتْ بها ، وَكِلاَكُمَا . . . أبْدى لِصَاحِبه الصبَّابَةَ كُلَّها
ولَعَمْرُها لو كان حبُك فَوقَها . . . يوماً وقد ضَحِيَتْ إذَنْ لأظَلَّهَا
فإذا وجَدْت لها وَسَاوِسَ سَلوَة . . . شَفَع الضميرُ إلى الفؤاد فَسَلَّها
بيضاء بَاكَرَها النَّعيمُ فصَاغَها . . . بِلَبَاقةٍ فَأَدَقَّهَا وَأجلَها لَمَّا عرَضْتُ مُسَلَماً ، لِيَ حاجة . . . أخْشَى صُعُوبتها ، وأرجُو ذُلّها
مَنَعَتْ تَحيَّتَها فَقُلتُ لصاحبي : . . . ما كانَ أكْثرَها لنَا وأقلَّها
فَدنا وقال : لعلّها مَعْذُورة . . . في بعضِ رِقْبتِها ، فقلت : لَعلَّها
قال : فأتاني أبو السائب المخزومي فقلتُ له بَعْدَ التَّرْحيب به : ألَكَ حاجة ؟ فقال : نعم ، أبياتٌ لعُروة بلغني أنك سمعتَه يُنشِدُها ، فأنشدته الأبيات ، فلمّا بلغت قوله :
فدنَا وقالَ لعلَها معذورَة . . البيتطرب ، وقال : هذا واللّه الدائمُ الصبَّابة ، الصادق العَهْد ، لا الذي يقول : الكامل :
إن كان أهلُكِ يمنعونَك رَغْبَةً . . . عني فأَهلْي بي أضَنُّ وأَرغَبُ
لقد عَدا هذا الأعرابي طَوْرَه ، وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحب هذه الأبيات لحُسْن الظنّ بها ، وطَلب العُذْر لها ، قال : فعرضت عليه الطعام فقال : لا واللّه ما كنت لأخْلط بهذه الأبيات طعاماً حتى الليل ، وانصرف .
وكان أبو السائب غَزِيرَ الأدب ، كثير الطَرَب ، وله فكاهاتٌ مذكورة ، وأخبار مشهورة ، وكان جَدُّه يكنى أبا السائب أيضاً ، وكان خليطاً لرسول اللّه ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكان النبيُّ ( صلى الله عليه وسلم ) ، إذا ذكره قال : نِعْمَ الخليط كان أبو السائب لا يشَارِي ولا يماريَ .
واسمُ أبي السائب عبدُ اللّه ، وكان أشرافُ أهلِ المدينة يستظرفونه ويقَدمونه لشَرَفِ منصبه ، وحلاوة ظَرْفِهِ .
وكان عروة بن أذينة - على زُهْدِه ، ووَرَعه ، وكَثْرةِ علمه وفَهمِهِ - رقيقَ الغزَل كثيره ، وهو القائل : البسيط :
إذا وجَدْتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبِدي . . . أقْبَلْتُ نحوَ سِقاءِ القوم أبْتَرِدُ
هَبْني بَرَدْتُ بِبَرْدِ الماءَ ظاهِرَهُ . . . فَمَنْ لِنارٍ على الأحْشاء تتقِدْ ؟
وقد رُوِي هذان البيتان لغيره .
ومرّت به سكينةُ بنتُ الحسين بن عليّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنهم - فقالت له : أنْتَ الذي تزعم أنَّك غيرُ عاشق ، وأنت تقول : البسيط :
قالتْ وأَبثَثْتُهَا سِرَي فَبُحْتُ به . . . قد كنتَ عندي تُحِبُّ السِّتْرَ فاسْتَتِرِ
ألسْتَ تُبْصِرُ مَنْ حَولي ؟ فقلت لها . . . غَطِّي هواكِ وما ألْقَى على بَصَريواللّه ما خرج هذا من قَلْبِ سليم .
وروى الزّبير عن رجل لم يسمِّه ، قال : قال لي أبو السائب : أنشدني لِلأَحْوًص فأنْشَدْتُه : الكامل :
قالت وقلت : تحرَّحِي وَصِليحَبْلَ امرئ بوصالِكُمْ صَب :
صَاحِبْ إذَنْ بَعْلي ؟ فقلت لها : . . . الغدرُ شيءٌ ليس من ضَرْبي
شيئان لا أدْنُو لوَصْلِهما . . . عِرْس الخليل وجَارةُ الْجَنْبِ
أمّا الخليلُ فلستُ فاجِعَهُ . . . والجارُ أوصاني به رَبِّي
عُوَجا كذا نَذْكَرْ لغانيةٍ . . . بعضَ الحديث مَطيكم صَحْبِي
ونَقُلْ لها : فيمَ الصَّدُودُ ولم . . . نُذنِبْ ، بَك أنْتِ بدَأت بالذَّنْبِ ؟
إن تُقْبِلي نُقْبِل ونُنْزِلُكم . . . مِنا بِدارِ السَهْلِ والرُحْبِ
أو تَهْجُرِي تكدرْ معيشتُنا . . . وتُصَدعي مُتَلائِمَ الشَعْبِ
فقال : هذا واللّه المحب حقاً ، لا الذي يَقُول : الوافر :
وكنت إذا حبيبٌ رامَ هَجْرِي . . . وجدت وَرَايَ مُنفَسحاً عريضا
ثم قال : اذْهَب ، فلا صَحِبك الله ، ولا وسَع عليك وخرج أبو حازم يوماً يَرْمِي الجمار ، فإذا هو بامرأة حَاسِر قد فَتَنتِ الناسَ بحُسنِ وجهها ، وألهتْهُمْ بجمالها ، فقال لها : يا هذه ، إنك بمَشْعَرٍ حرام ، وقد فتنتِ الناسَ وشَغَلْتِهم عن مَناسكهم ، فاتقي الله واستَتَري ؛ فإنّ الله ، عزَ وجل ، يقول في كتابه العزيز : ' وَلْيَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبهن ' ؛ فقالت : إني من اللاتي قيل فيهنّ : الطويل :
أماطَتْ كِساء الْخَزِّ عن حُر وَجْهها . . . وأرْخَتْ على المتنين بُرْداً مهلهلامن اللاءِ لم يحججْنَ يَبْغِين حِسبةً . . . ولكن ليَقْتلْنَ البريء المُغَفّلا الشعر للحارث بن خالد المخزومي ، فقال أبو حازم لأصحابه : تعالوا نَدْعُ اللّه لهذه الصورة الحسنة ألاَّ يعذبها اللّه تعالى بالنار فجعل أبو حازم يَدْعُو وأصحابه يُؤمَنُون ، فبلغ ذلك الشعبي ، فقال : ما أَرَقّكم يا أهلَ الحجاز وأظرفكم أما والله لو كان من قُرَى العراق لقال اعزبي عليك لَعْنَة اللّه وكان أبو حازم من فضلاء التابعين ، وله مقامات جميلة من الملوك ، وكلامٌ محفوظ يدلُّ على فضله وعقله ، وهو القائل : كل عمل تكْرَهُ من أجله الموتَ فاتركه ، ولا يضرك متى متَ . وكان يقول : ما أحببتَ أن يكون معك غداً فقدمه اليوم . وكان يقول : إنما بيني وبين الملوك يوم واحد ، أما أمس فلا يجدون لذّته ، وأنا وإياهم من غَدٍ على وَجَل ؛ وإنما هو اليوم ، فما عسى أن يكون اليوم .
وقال أبو العتاهية : البسيط :
حتى متى نحن في الأيام نَحْسَبُها . . . وإنما نحْنُ فيها بين يومَيْنِ
يومٌ تولَى ، ويومٌ نحن نأمُلُه . . . لعلّه أجْلَبُ اليومين للحَيْنِ
وروى الزبير بن أبي بكر قال : قدمت امرأة من هُذَيل المدينَة ، وكانت جميلةً ، ومعها ابن لها صغير ، وهي أيِّم ، فخطبَها الناسُ وأكثروا ، فقال فيها عبيد الله بن عبد اللّه بن عُتْبَةَ بن مسعود : الطويل :
أحِبُّكِ حباً لا يحبّكِ مثلَهُ . . . قَريبٌ ولا في العالمينَ بعيدُ
أحبّكِ حبًّاً لو علمت ببعَضهِ . . . لَجُدْتِ ولم يصعُبْ عليك شديدُ
وحبُّكِ يا أمّ العلاء مُتيَّمي . . . شهيدي أبو بكر فَذَاكَ شهيدُويعلم وَجْدِي القاسمُ بن محمدٍ . . . وعُرْوَةُ ما أَلْقَى بكم وسعيدُ
ويعلم ما أُخْفي سليمانُ كلّه . . . وخارجةٌ يُبْدي لنا ويُعيدُ
متى تسألي عما أقول فتخْبَري . . . فَلَلحُبُّ عندي طارفٌ وتليدُ
فقال له سعيد بن المسيِّب : قد أَمِنَ أن تسألنا ، ولو سألَتْنا ما شهدْنا لك بزور .
وكان عبيد الله أحَدَ الفقهاء السبعة الذين انتهى إليهم علمُ المدينة ، وقد ذكرهم عبيد اللّه في هذه الأبيات ؛ وهم : أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومي . والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وعروة بن الزبير ابن العوام ، وسعيد بن المسيب بن حزن ، وسليمان بن يسار ، وخارجة بن زيد ابن ثابت الأنصاري .
وقيل لعبيد اللّه : أتقول الشعر على شَرَفِكَ ؟ فقال : لا بُدَ للمصدور أن يَنْفُث ؛ وعبيد اللّه هو القائل : الوافر :
شَقَقْتِ القلبَ ثم ذَرَرْتِ فيه . . . هَوَاكِ فَلِيمَ والتأمَ الفُطُورُ
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤادِي . . . فَبَادِيهِ مع الَخَافي يَسيرُ
تَغَلْغَلَ حيث لم يبلُغ شرابٌ . . . ولا حُزْنٌ ولم يبلغْ سرورُ
أخذه سَلْم بن عمرو الخاسر فقال : الطويل :
سقتني بعينَيْها الهوى وسقَيْتُها . . . فدَب دَبيبَ الخَمْرِ في كلِّ مَفْصِلِ
وقال أبو نُوَاس : الوافر :
أحِب اللومَ فيها ليس إلا . . . لترداد اسمها فيها أُلاَمُ
ويَدْخُل حبها في كل قَلبٍ . . . مَداخِلَ لا تَغَلْغَلُهَا المُدَامومنه قول المتنبي : الطويل :
وللسِّرِّ منّي موضِعٌ لا يَنَالُهُ . . . نَديمٌ ، ولا يُفْضِي إليه شَرَابُ
وقال بعض المحدثين : الكامل :
ما زلت تغويني وتطلبُ خُلَّتي . . . حتى حللت بحيثُ حَل شرابي
ثم انصرفت بغير جزْمٍ كان لي . . . ما هكذا الأحْبابُ للأحْبَابِ
أخذ أبو نُواس ، قوله : أحب اللوم فيها . . . البيتَ من قول أبي محمد ابن أبي أمية : الطويل :
وحدَّثني عن مَجْلِسٍ كُنْت زينَهُ . . . رسولٌ أمينٌ ، والنساءُ شهود
فقلت له رُدَّ الحديث الذي مضى . . . وَذكْركِ من بيْنِ الحديث أُريدُ
أناشدُهُ باللَّهِ إلاّ أَعَدْتَهُ . . . كأني بطيء الفهم عنه بَعِيدُ
وقول أبي نواس في البيت الأول كقوله : الوافر :
إذا غَادَيْتني بصَبُوحِ لَوْم . . . فممزوجاً بتَسْمِيَةِ الحبيبِ
فإني لا أُعِدُ اللَوْمَ فيها . . . عليكِ ، إذا فعلْتِ ، من الذنوبِ ولا أنا إن عَمدْتُ أرى جَنَانا . . . وإن ضَنَتْ بمبحوس النصيب
مقنعة بثَوْبِ الحُسْنِ تَرْعَى . . . بغير تكلُفٍ ثمَرَ القُلوبِ
وفي جنان هذه يقول أبو نواسٍ : البسيط :
يا ذا الذي عن جَنانٍ ظَل يُخْبِرُنا . . . باللَهِ قُلْ وأعِدْ يا طيبَ الخبرِ
قالوا اشتكَتْكَ وقالت ما ابتليتُ به . . . أراه من حيث ما أقبلتُ في أثرِيويرفع الطَرْفَ نحوي إن مررتُ بِه . . . حتى لَيُخْجِلُني من شِدّةِ النظر
وإن وَقَفْتُ له كيما يُكَلمني . . . في الموضع الخِلْو لم يَنْطِقْ من الحَصَر
ما زال يفعلُ بي هذا ويُدْمِنُه . . . حتى لقد صار من همَي ومن وَطَرِي
وفي جنان أيضاً يقول أبو نواس ، وكان بها صباً ، ولها محبّاً : الوافر :
جنانُ تسبني ذُكِرَتْ بخير . . . وتزعم أنني رجل خبيثُ
وأن مودَّتي كذِب ومَيْن . . . وأني للذي تطوى بَثوث
وليس كذا ، ولا ردّ عليها ، . . . ولكنَّ الملول هو النكوثُ
ولي قلبٌ يُنَازِعني إليها . . . وشوقٌ بين أضلاعي حَثيثُ
رَأَتْ كَلَفي بها وقديمَ وَجْدِي . . . فملّتني ، كذا كان الحديثُ
وكانت جنان مولاة لبعض الثقفيين .
وفي معنى قول ابن أبي أمية يقولُ العباسُ بن الأحنف : الطويل :
وحَدَّثْتني يا سعدُ عنها فَزِدْتني . . . جنوناً فزِدْني من حديثك يا سَعْدُ
وأهل المدينة أكثر الناس ظَرْفاً ، وأكثرهم طِيباً ، وأحلاهم مزاجاً ، وأشَدُهم اهتزازاً للسماع ، وحسنَ أدبٍ عند الاستماع . وقال عبد الله بن جعفر : إن لي عند السماع هِزّة لو سُئلت عندها لأَعْطَيْتُ ، ولو قاتلت لأبْلَيت .
وروى أبو العيناء قال : قال الأصمعي : مررت بدار الزبير بالبَصْرَة ، فإذا شيخٌ قديم من أهل المدينة من ولد الزبير يكنى أبَا ريحانة جالس بالباب عليه شَمْلة تَسْتُرُهُ ، فسلّمتُ عليه ، وجلستُ إليه ؛ فبينما أنا كذلك إذ طلعَتْ علينا سويداء تحمل قِرْبة ، فلما نظر إليها لم يتمالَكْ أن قام إليها ، فقال لها : بالله غَنّي صوتاً . فقالت : إن مواليَ أَعْجَلوني ، فقال : لا بدَّ من ذلك ، قالت : أما والقِرْبَة على كتفي فلا ، قال : فأنا أحْملها ، فأخذ القربة منها ، فاندفعت تُغنَي : الطويل :
فُؤادي أسِيرٌ لا يُفَكُّ ، ومُهْجَتي . . . تفيضُ ، وأحْزَاني عليك تَطُولُ
ولي مُقْلَةٌ قَرْحَى لطول اشتياقها . . . إليك ، وأجْفَاني عليك هُمُولُفديتك ، أعْدَائي كثيرٌ ، وشُقتي . . . بعيدٌ ، وأشْيَاعي لديك قليل
فطَرِب وصرخ صَرْخَةً ، وضرب بالْقِربة إلى الأرض فشقّها ؛ فقامت الجارية تبكي ، وقالت : ما هذا بِجَزَائي منك ؛ أسْعَفْتُك بحاجتك فعرضْتَني لما أكره من مواليّ . قال : لا تغتمي فإنّ المصيبة عَلَيَّ حصلت ، ونزع الشَملة ووَضع يداً من خلف ويداً مر قُدَام ، وباع الشَمْلة وابتاع لها قِرْبةً جديدة ، وقعد بتلك الحال ؛ فاجتاز به رجلٌ من ولد عليّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - فعرف حاله ، فقال : يا أبا ريحانة ، أحسبك من الذين قال الله تعالى فيهم : ' فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين ' . قال : لا يا ابنَ رسُولِ اللّه ، ولكني من الذين قال اللّه تعالى فيهم : ' فَبَشّرْ عِبَادِ الَذِين يَسْتَمِعُونَ الْقَولَ فَيَتبِعُونَ أَحْسَنه ' ، فضحك ، وأمر له بألْفِ درهم .
ومرَ بالأوقص المخزومي ، وهو قاضي المدينة ، سكرانُ وهو يتغنَّى بليل ، فأشرف عليه ، وقال : يا هذا ، شَرِبت حَرَاماً ، وأيْقَظْتُ نياماً ، وغنّيت خطأ ، خُذهُ عني ، وأصلَح له الغناء .
وسمع سعيد بن المسيب منشداً ينشد : الطويل :
فلم ترَ عيني مثلَ سرْبٍ رأيتهُ . . . خرجن من التنعيم مُعْتَمرَاتِ
مَرَرْنَ بفَخّ ثم رُحْنَ عَشِيّةً . . . يلَبينَ للرَحْمن مؤتجراتِ
ولما رأتْ ركُبَ النميري أعرضَتْ . . . وكنَ مِنَ آن يلْقَيْنَهُ حَذِرات
دعت نسوة شُمَ العرانين بُزَلاً . . . نواعم ، لا شعْثاً ولا غَبَراتِ فأبرزن لما قمن يحجبنَ دونها . . . حِجَاباً من القَسِّيّ والحبراتٍ
تَضَوَّع طيباً بَطنُ نعمان إذ مشَتْ . . . به زينبٌ في نسوةٍ عَطِرَاتِ
يُخَبئن أطرافَ البنَان من التقَى . . . ويَخْرُجْن شطر الليل مُعْتَجِراتفقَال سعيد : هذا واللّه مما يلذّ استماعه ، ثم قال : الطويل :
وليست كأُخْرى وسَّعَتْ جَيبَ درعها . . . وأبدت بَنانَ الكَفّ للجَمَراتِ
وغالَتْ بَيان المسك وَحفاً مُرَجلاً . . . على مِثلِ بَدرٍ لاَحَ في الظلمَاتِ
وقامت تَرَاءَى بين جَمْع فأفتَنَتْ . . . برؤيتها مَنْ راحَ مِن عَرَفاتِ
قال : فكانوا يرون أن الشعرَ الثاني له ، والأولى لمحمد بن عبد اللّه بن نميِر الثقفي يقوله في زينب بنت يوسف أخت الحجاج ؛ وطلبه الحجاج حتى ظَفر به فقال : أنت القائل ما قلت ؟ قال : وهل قلت أصلح اللّه الأمير إلاّ :
يخبّئن أطرافَ البَنان من التقى . . . ويخرجن شَطْر الليل مُعتَجِراتِ
قال له : كم كُنْتُم إذ تقول :
ولما رأت رَكْبَ النميري أعْرَضت
قال : والله ما كنت إلاَّ أنا وصاحب لي عَلَى حمّارٍ هَزيل فضحك وعفا عنه . وهو القائل : الوافر :
أهَاجَتْكَ الظَّعائِنُ يوم بَاتُوا . . . بنِي الزِّيّ الجميل من الأثاثِ
ظَعائن أسْلَكَت في بَطْنِ قَوٍّ . . . تَحُثّ إذا رَنَتْ أي احْتِثَاث
كأنٌ على الهوادج يَوْمَ بانوا . . . نِعَاجاً تَرْتَعي بَقْلَ البِراث
يهيِّجك الْحَمَامُ إذا تغنى . . . كما سجع النَّوَادِب بالمَراثي
وقال ابن المعتز : وَعْدُ الدنيا إلى خَلَفِ ، وبقاؤها إلى تَلَفِ ، وبَعْدَ عَطائِها المنع ، وبعد أمانها الفَجْع ، طَوَاحة طرَّاحة ، آسِيَة جَرَّاحة ، كم راقد في ظلِّها قد أيقظته ، ووافق بها قد خَانَته ، حتى يلفظَ نفسَه ، ويودعّ دنياه ، ويسْكُن رَمْسَه ، وينقطع عن أمله ، ويُشْرِف على عمله ، وقد رَجَح الموتُ بحياته ، ونقضَ قُوَى حَركاته ، وطَمس البلَى جمالَ بَهْجَته ، وقطع نظامَ صورته ، وصار كخًطٍّ من رَماد تحت صفائح أنْضاد ؛ وقد أسلمه الأحباب ، وافترش التُرَاب ، في بيت نجرتْه المَعَاوِلُ ، وفُرِشَتْ فيه الْجَنادل ، ما زال مضطرباً في أمَلِه ، حتى استقرَّ في أجَله ، ومحت الأيامُ ذِكْرَه ، واعتادتِ الأَلْحَاظُ فَقْدَه .وكتب وهو معتقل إلى أستاذه أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب يتشوّقه : الرجز :
ما وَجدُ صَادٍ بالحبال مُوثَقِ . . . بماء مزْنٍ باردٍ مُصَفَّقِ
بالرِّيح لم يَكدُر ولم يُرَنَقِ . . . جادت به أخلافُ دَجن مطبِقِ
بصخرةٍ إن تَرَ شَمساً تبرق . . . مَادَ عليها كالزّجاج الأزرقِ
صَرِيحُ غَيثٍ خالصٍ لم يُمذَق . . . إلاّ كوَجْدي بك ، لكن أتّقي
يا فاتحاً لكل باب مُغْلَقِ . . . وصَيرَفيًّاً ناقداً للمنطِقِ
إنْ قالَ هذا بَهْرج لم ينفقِ . . . إنَّا على البعاد والتفرُّقِ
لنلتقي بالذكر إن لم نَلتَقِ
فأجابه : أخذتَ ، أطال اللّه بقاءك ، أودَ هذه الأبيات مما أمليْتُه عليك من قول جميل : الطويل :
وما صادِياتٌ حُمنَ يوماً وليلةً . . . على الماء ، يخشين العصيَ حَواني
كواعبُ لم يَصدُرْن عنه لِوجْهَةٍ . . . ولا هنَّ من بَردِ الحياض دَوَاني
يَرَينَ حَبابَ الماء والموتُ دونهُ . . . فهنَّ لأصواتِ السّقاةِ رَوَاني
بأكثرَ مني غُلَّةً وَصبابةً . . . إليكِ ، ولكنَّ العدوَّ عرانيوأخَذْتَ آخرَهَا من قول رُؤْبَة بن العجاج : الرجز :
إني وإن لم تَرَني فإنّني . . . أخوك والرَّاعي إذا اسْتَرْعَيْتَني
أراك بالوُد وإنْ لَمْ تَرَني
قال : فاستخفني في ذلك ونسب إليَ سوءَ الأدب . وكان أبو العباس عبدُ اللّه بنُ المعتز في المنصب العالي من الشعر والنثر ، وفي النهاية في إشراق ديباجَةِ البيان ، والغاية من رقَةِ حاشية اللسان . وكان كما قال ابن المرزبان : إذا انصرف من بديع الشعر إلى رقيقِ النّثر أتى بحلال السحر ، وليس بعد ذي الرّمة أكثرُ افتناناً وأكبرُ تصرّفاً وإحساناً في التشبيه منه . وإنما فرقتُ جُمْلة ما اخترتُ من شعره ونثره في جملة هذا الكتاب ؛ لئلاّ أخرج عما تقدم به الشرط في البسط ، وآتي ههنا ببعض ما أختاره له ، قال : الوافر :
وفِتْيَانٍ سَرَوْا والليلُ داجٍ . . . وضوءُ الصبح متهَمُ الطّلوعِ
كأنّ بُزاتَهُمْ أُمراءُ جيش . . . على أكتافهم صدَأ الدُّروعِ
وقال أيضاً : الكامل :
في ليلةٍ أكَل المحاقُ هِلالَها . . . حتى تبلَّى مِثْلَ وَقْفِ العاجِ
والصبحُ يَتْلُو المشتَري فكأنَّهُ . . . عُرْيان يَمْشِي في الدُّجَا بِسرَاجِ
وقال أيضاً يصف فرساً : الكامل :
ولقد غَدَوْتُ على طمِر سابحٍ . . . عَقَدَتْ سنابِكُه عَجَاجَةَ قَسطَلِمتلثم لُجُمَ الحديد يَلُوكُها . . . لولا الفتاة مساوِكاً من إسْحِلِ
ومحجل غير اليمين كأنَه . . . متبختر يَمْشِي بكمٍّ مُسْبَلِ
وقال : مجزوء الرمل أو الرجز :
قد أغْتَدِي بِقَارح . . . مُسَوم يَعْبُوبِ
ينفي الْحَصى بحافرٍ . . . كالقَدَح المكبوب
قد ضحكت غُرَتُهُ . . . في موضع التقطيبِ
وقال أيضاً : الكامل :
ولقد وطئتُ الغيثَ يحملني . . . طِرْفٌ كلَوْنِ الصبح حين وَفدْ
خمَاع أطْرَافِ الصّوار فما الْ . . . أخرى عليه إذا جَرى بأشدّ
يمشي فيعرض في العِنان كما . . . صدف المعشَق ذو الدّلال وصدْ
فكأنه مَوْج يذوبُ إذا . . . أطلقتهُ فإذا حبست جمدْ
وقال أيضاً يصف سيفاً : الطويل :
ولي صارمٌ فيه المنايا كَوامِن . . . فما يُنتضَى إلاَ لسفْكِ دِمَاء
ترى فَوْقَ مَتْنيْه الفرِنْد كأنهُ . . . بقيةُ غيْمٍ رَق دُونَ سَمَاء
وقال يَصِف ناراً : الطويل :
مُشهَرة لا يحجب النخلُ ضوءَها . . . كأنَ سيوفاً بين عيدانها تُجْلى
يفرج أغصان الوقود اضطرامُها . . . كما شقّت الشقراء عن مَتْنها جُلاوقال بعض أهل العصر ، وهو السَّريّ الموصليّ : المنسرح :
يوم رذاذ مُمَسَّك الحجُب . . . يَضْحَكُ فيه السرورُ من كثَبِ
ومجلسٍ أُسْبلِت ستائرهُ . . . على شموسِ البهاء والحسبِ
وقد جرت خيلُ راحنا خَبَباً . . . في حلْيِهَا أو هممن بالخبَبِ
والتهبت نارُنَا فمنظَرُها . . . يُغْنِيك عن كل منظَرٍ عَجَبِ
إذا ارتمت بالشرار فاطَّردت . . . على ذَرَاها مَطَارِدُ اللَّهَب
رأيتَ ياقوتةَ مشبكةً . . . تطيرُ عنها قرَاضَةُ الذهب
فانهض إلى المجلس الذي ابتسمت . . . فيه رياضُ الجمالِ والأدبِ
وقال بعض أهل العصر ، وهو أبو الفرج الببغا : الخفيف :
فَحَماً قَدَّمَ الغلامُ فأَهْدَى . . . في كوانينه حياةَ النُّفُوسِ
كانَ كالآبَنُوسِ غَيْرَ محلًّى . . . فغدا وهو مُذْهَبُ الآبنوسِ
لقي النارَ في ثيابِ حِدَادٍ . . . فكَسَتْهُ مُصَبَّغَاتِ عَرُوسِ
وقال أبو الفضل الميكالي : المتقارب :
كأن الشَّرارَ على نارِنا . . . وقد راقَ مَنْظَرُها كلَّ عَيْنِ
سُحالةُ تِبْرٍ إذا ما علا . . . فإمَا هَوَى ففُتات اللُجَيْنِ
وقال ابن المعتز يصف سحابة : الوافر :
ومُوقَرة بثِقل الماءَ جاءَتْ . . . تَهَادى فوق أعناقِ الرِّياحِ
فباتَتْ ليلَهَا سَحاً ووَبْلاً . . . وهَطْلاً مثل أفواهِ الْجِرَاحِ
كأَن سماءَها لما تجلَتْ . . . خِلاَل نجومها عند الصباحِرياضُ بَنَفْسَج خَضِل ثراهُ . . . تفَتح بينه نَوْرُ الأقاحِ
وقال : البسيط : ولُجَّةٍ للمنايا خُضتُ غَمْرَتها . . . بصارم ذكرٍ صَمْصَامَةٍ خَذِم
وقارحٍ صَبَغَ الْخِيلانُ دُهْمَتَهُ . . . بشُهْبَةٍ كاختلاط الصبْح بالظلم
وقال : الطويل :
وليل ككُحْل العَيْنِ خُضْت ظلامَه . . . بأزرقَ لمَاعٍ وأبيضَ صارمِ
ومَضْبورةِ الأعضادِ حرْفٍ كأنها . . . تصافحُ رضراضَ الحصى بمنَاسم
وقال يصف حيَّة : البسيط :
نَعَتُّ رقطاء لا تَحيا لَدِيغَتُهَا . . . لوقدَّها السيف لم يعلق به بلَلُ
تلقى إذا انسلخت في الأرض جلدتها . . . كأَنها كُمّ دِرْعٍ قدَّهُ بَطَلُ
وقال أيضاً : الطويل :
وأَسْأَرَ منِّي الدَهرُ عَضْباً مُهَنَّداً . . . يفُلُّ شَبَا حَظِّي ، وقلباً مشيعَا
ورأيا كمرآة الصنَاع أرى بِهِ . . . سرائر غَيْبِ الدهر من حيث ما سَعَى
أخذه من قول المنصور لابنه المهدي : لا تُبْرِمنَّ أمراً حتى تفكّر فيه ؛ فإن فِكْره العاقل مرآته ، تريه قبحه وحسنه .
ولما دُفِن المنصور وقف الربيعُ على قبره فقال : رَحِمَك اللَهُ يا أمير المؤمنين ، وغفر لكَ فقد كان لك حِمًى من العقل لا يطيرُ به الجهل ، وكنت ترى باطنَ الأمر بمرآةٍ منالرأي ، كما ترى ظاهره . ثم التفت إلى يحيى بن محمد أخي المنصور فقال : هذا كما قال أبو دهبَل الجمحي : الكامل :
عُقمَ النساءُ فما يَلِدنَ شَبيهَهُ . . . إن النساء بمثلِه عُقْمُ
وبعده :
متهللٌ بنَعَمْ ، بِلاَ متباعِدٌ . . . سِيان منه الوَفْرُ والعدمُ
نزْرُ الكلام من الحياء تخالُه . . . ضَمِناً ، وليس بجسمه سُقْمُ
أخذ البيت الأخير من قول ليلى الأخيلية : الكامل :
لا تقْرَبَنَ الدَّهرَ آل مُطَرّفٍ . . . إن ظالماً يوماً وإنْ مظْلوما
قوم رِباطُ الخيل حَوْلَ بيوتهم . . . وأسنة زرق يُخَلنَ نُجُوما
وممزَق عنهُ القميص تَخَالَهُ . . . وسطَ البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رُفِع اللواءُ رأيتهُ . . . يوم الهياج على الخميس زعيما
وقال : البسيط :
يُشَتهون ملوكا في تجلتهمْ . . . وطول أنْصِبَة الأعنَاق واللمَمِ
إذا بَدَا المسكُ يَجرِي في مَفَارقهم . . . راحُوا كأًنهمُ مَرْضى من الكرمِ
وقال أبو علي الحاتمي : وما أحسن أبياتاً أنشدها أبو عمر المطرز غلام ثعلبيعترض في أثنائها هذا المعنى : الطويل :
تخالُهُم للحلم صُمًّاً عن الْخَنا . . . وخُرْساً عن الفَحْشاءِ عند التهاتُرِ
ومَرضَى إذا لاَقَوْا حياء وعِفّةً . . . وعند الحروب كالليوث الْخَوَادرِ
لهم عزُ إنصافٍ وذلُّ تواضع . . . بهم وًلَهُمْ ذَلتْ رِقابُ العشائر
كأن بهم وَصماً يخافون عارهُ . . . وليس بهم إلاّ اتقاءُ المَعايرِ
وأنشد : الطويل :
أحلام عادِ لا يَخَافُ جَليسهُم وإن نَطَقَ العوْراء عَيْبَ لسانِ
إذا حُدّثوا لم يُخْشَ سوءُ استماعهم . . . وإن حدَثوا أدَوْا بحُسن بيانِ
وقال ابن المعتز : الطويل :
وعاقِدِ زُنارٍ على غُصُن الآسِ . . . دقيق المَعَانِي مُخْطَفِ الخصر مَياسِ
سقاني عُقاراً صَب فيها مِزَاجها . . . فأَضْحَكَ عن ثَغْرِ الْحَبابِ فَمَ الْكاسِ
وقال : الكامل :
يا ليلةً نَسِيَ الزمانُ بها . . . أحْدَاثه ، كُوني بلا فَجْرِ
فاح المساء ببدرها ، وَوَشَتْ . . . فيها الصبّا بمواقع القَطْرِ
ثم انقضت والقَلْب يَتْبَعُها . . . في حيث ما سقطَتْ من الدَهْرِ
وقال : الكامل :
يا رُب إخوانٍ صحبتهمُ . . . لا يملكون لِسلْوة قَلْباً
لو تستطيع قلوبُهم نَفَرَتْ . . . أجسامهم فتعانقت حُبّا
هذا كقول ابن الرومي : الطويل :
أعانقه والنفسُ بَعْدُ مَشُوقَةٌ . . . إليه ، وهل بَعْد العِنَاق تَدَاني ؟
وألثم فاه كي تَزُولَ حَرَارَتي . . . فيشتد ما ألقى من الهَيمان ولم يك مِقْدَارُ الذي بي مِنَ الْهَوَى . . . ليرويَهُ ما ترشُفُ الشَفَتانكأن فؤادي ليس يشفي غليله . . . سوى أن يُرَى الروحان يمتزِجَان
ومن منثوره : لا يزالُ الإخْوَانُ يُسافرون في المودَة ، حتى يبلغوا الشُقة ، فإذا بلغوها أَلْقوا عَصا التَّسيار ، واطمأَنَّتْ بهما الدار ، وأقبلت وفودُ النصائح ، وأمنت خَبايا الضمائر ، فحلُوا عُقَد التحفّظ ، ونزعوا ملابس التَخَلُق .
وله : سار فلان في جيوش عليهم أردِيَة السيوف ، وأَقْمصَةُ الحديد ، وكأنَّ رِمَاحَهم قرونُ الوُعْولِ ، وكأنَّ دروعَهم زَبَدُ السيولِ ، على خيل تأكُل الأرض بحوافرها ، وتمدّ بالنَّقْع سُرَادِقَها ، قد نُشرت في وجوهها غُرَر كأنها صحائف الرق ، وأمسكها تحجيلٌ كأنه أَسْورة اللّجين ، وقُرِّطت عذُراً كأنها الشَنْف ، تتلقّف الأعداء أوائلُه ولم تَنْهَض أواخره ، قد صُب عليهم وقار الصبر ، وهبّت معهم ريح النَّصر .
وله في عليل : آذنَ اللَّهُ في شفائك ، وتَلَقى داءك بدوائك ، ومسحَ بيدِ العافيةِ عليك ، ووجه وَفْدَ السلامة إليك ، وجعل عِلَّتك ماحية لذنوبك ، مضاعفَةً لثوابك .
وكتب إلى عبيد اللّه بن سليمان بن وَهب في يوم عيد : أَخّرَتْني العِلَّةُ عن الوزير أعزه اللّه ، فحضرت بالدعاء في كتاب لينوبَ عنيّ ، ويَعْمُر ما أخْلَتْه العوائِقُ مني ، وأنا أسألُ اللّه تعالى أن يجعلَ هذا العيدَ أعْظَمَ الأعياد السالفة بركةً على الوزير ، ودون الأعياد المستَقْبَلة فيما يُحَبُ ويُحَبّ له ، ويَقْبل ما توسّل به إلى مَرْضَاته ، ويضاعفَ الإحسان إليه ، على الإحسان منه ، ويمتّعه بصحبة النعمة ولباسِ العافية ، ولا يُرِيَهُ في مسرَةٍ نقصاً ، ولا يقطع عنه مَزِيداً ، ويجعلني من كل سوءً فِدَاء ، ويصرف عيون الغِيَرِ عنه ، وعن حظِّي منه .
وله إلى بعض الرؤساء : لا تَشِنْ حُسْنَ الظَّفَر بقُبح الانتقامِ ، وتجاوز عن كل مُذْنِبلم يَسْلكْ من الإعذار طريقاً حتى اتّخذ من رجاء عَفْوِكَ رفيقاً .
وله اعتذار إلى القاسم بن عُبَيْدِ اللّه : ترفّع عن ظُلْمِي إن كنتُ بَرِيئاً ، وتفضل بالعفو إن كنتُ مسيئاً ، فواللّه إني لأطلب عَفوَ ذَنبٍ لم أجْنِه ، وألتَمس الإقالةَ مما لا أعرفه ؛ لتزدَاد تطوُّلاً ، وأزداد تَذَلُلاً ؛ وأنا أُعِيذُ حالي عندك بكرمك من واشٍ يَكِيدُهَا ، وأحْرُسها بوفائك من باغٍ يحاولُ إفسادها ، وأسأل اللّه تعالى أنْ يجعلَ حظِّي منك ، بقدر ودِّي لك ، ومحلّي من رجائك ، بحيث أسْتَحقُّ منك .
وله إليه : لو كان في الصَّمْتِ مَوضعٌ يَسعُ حالي لخففْت عن سَمْعِ الوزير ونَظَره ، ولم أشغل وَجْهاً من فِكْره ، وما زالت الشكوى ، تُغرِبُ عن لسان البَلْوَى ، ومن اختلّت حالته ، كان في الصَّمْتِ هَلَكَتُه ، وقد كان الصبرُ ينصرُني على سَتْر أمْرِيَ حتى خذلني .
وهذا كقول أحمد بن إسماعيل : فصاحةُ الشكوى ، على قَدْرِ البلوى ، إلاَّ أن يكونَ بالشاكي انقباض ، وبالمشكُوِّ إليه إعْرَاض .
في باب الوصف
وقد أحسن أبو العباس بن المعتز في صفة الماء في أرجوزته التي أنشدتها آنفاً ، وقد قال في قصيدة له وذكر إبِلاً : الخفيف :
فتبدَّى لهنَّ بالنَّجَفِ المُدْ . . . بِرِ ماء صافي الجِمام عَرِيُّ
يتمشّى على حَصًى يَسْلُبُ الما . . . ءَ قَذَاه فَمتْنُه مَجْليُّ
وإذا داخلته دُرّةُ شَمْسٍ . . . خِلْته كُسِّرت عليه الْحُليُّ
وقال : الكامل :
لا مثْل منزلة الدُوَيرةِ منزلٌ . . . يا دارُ ، جادكِ وَابِلٌ وسَقاكِ
بُؤساً لدَهْرٍ غَيَّرتْكِ صروفُهُ . . . لم يَمْحُ من قلبي الهوى ومَحَاكِ
لم يَحْلُ للعينين بعدك منظَرٌ . . . ذُمَ المنازل كلّهنَّ سِوَاكِأي المعاهد منكِ أنْدُبُ طِيبَهُ . . . مُمْساك بالآصال أم مَعْدَاكِ
أم بَرد ظلّك ذي الغصون وذي الجنى . . . أم أرضك الميثاء أم رَيَّاكِ
وكأنما سطعت مجامرُ عنبرٍ . . . أو فُتَّ فأْرُ المسكِ فوق ثَراكِ
وكأنما حَصْبَاءُ أرضِكِ جَوْهَرٌ . . . وكأن ماءَ الورْدِ دَمْعُ نَداكِ وكأنما أيدي الربيع ضُحيّة . . . نشَرَتْ ثياب الوَشْي فوق رُباك
وكأن دِرْعاً مُفْرغاً من فِضة . . . ماءُ الغدير جَرَتْ عليه صبَاكِ
وعشقت عاتكة المرية ابنَ عمٍّ لها فراودها عن نفسها فقالت : الطويل :
فما طَعْمَ ماءً أيّ ماء تقولهُ . . . تحدَر عن غرٍّ طوالِ الذوائبِ
بمنعرَج من بَطْنِ وَادٍ تقابلتْ . . . عليه رياحُ الصيفِ من كل جانبِ
نَفَتْ جَرْيَةُ الماء القَذَى عن متُونِه . . . فما إن به عَيْب تَرَاهُ لِشَاربِ
بأطيبَ ممن يقِصر الطَّرْفَ دونَهُ . . . تُقَى اللَّه واستحياءُ بَعْضِ العواقبِ
وأنشد الأصمعي قال : أنشدني أبو عمرو بن العلاء لجابر بن الأرق ، وقال : هو أحْسَن ما قيلَ في معناه : الطويل :
أيا وَيْحَ نَفْسِي كلّما الْتحْتُ لوحةً . . . على شَرْبَةٍ من ماء أحْوَاضِ مَارِبِ
بقايا نِطَافٍ أوْدَع الغيم صَفْوها . . . مصقلة الأرْجاءِ زُرْق المَشَارِبِ
تَرَقْرَقَ دَمْعُ المُزْنِ فيهنّ والْتَوَتْ . . . عليهن أنْفَاسُ الرياح الغرائبِ
وأنشد إسحاق بن إبراهيم للأُبيْرِد اليربوعي ، ورويت لمضرس بن رِبعي الأسدي : الطويل :
فألْقَت عَصا التسيَارِ عنها ، وخَيَّمت . . . بأرجاءَ عَذْبِ الماء زُرْقٍ مَحَافِرُهْ
أزال الْقذَى عن مائه وَافِدُ الصبّا . . . يروحُ عليه ناسماً ويُباكِرُهْوأول من أتى بهذا زهير بن أبي سُلْمى في قوله : الطويل :
فلما وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُهُ . . . وَضَعْن عِصِي الحاضِرِ المتَخَيمِ
وقال ابن الرومي : الطويل :
وماء جَلَتْ عن حُر صفحته الْقَذَى . . . من الريح مِعطارُ الأصائِل والبُكَرْ
به عَبَق ممَا تسَحَبَ فوقَهُ . . . نسيم الصبا يجْرِي على النوْر والزَهَرْ
وصف الدور والقصور
ويتعلق بهذا الباب قولُ البحتري يصف بِركة الجعفري وهو قصر ابتناه المتوكل في سر من رأى : البسيط :
يا من رَأى البركَةَ الحسنا ورونَقها . . . والآنساتِ إذَا لاَحَتْ مَغَانيها
ما بالُ دجلةَ كالغَيْرَى تُنافِسُها . . . في الحُسْنِ طوْراً وأطوَاراً تُباهيها
إذا علتْها الصبا أبْدَت لها حُبْكاً . . . مثلَ الجواشِنِ مَصقولاً حَوَاشيها
فحاجبُ الشمس أحياناً يُغَازِلُها . . . ورَيقُ الغَيثِ أحياناَ يُباكيها
إذا النجومُ تراءَتْ في جوانبها . . . لَيْلاً حَسبتَ سماءً رُكبَتْ فيها
كأنما الفِضةُ البيضاء سائلة . . . من السبائك تَجْري في مَجاريها
تنصبُّ فيها وفودُ الماء مُعجَلةً . . . كالخيل خارجةً من حَبْل مُجريها
كأن جِن سليمان الذين وَلُوا . . . إبداعَهَا فأدقُوا في مَعَانيها
فلو تَمُرُ بها بِلْقيسُ عن عُرُضٍ . . . قالت : هي الصَرْحُ تمثيلاً وتشبيها
لا يَبلُغُ السمَكُ المقصورُ غايتها . . . لبُعْدِ ما بين قاصيها ودانيهايَعُمْنَ فيها بأَوْسَاطٍ مُجَنّحةٍ . . . كالطَير تنشر في جوٍّ خَوَافيها
ولم يُنْفِق أحدٌ من خلفاء بني العباس في البناء ما أَنْفَقَه المتوكل ؛ وذلك أنه أنفق في أبنيته ثلاثمائة ألف ألف ، وفي أبنيته يقول علي بن الجهم : المتقارب :
وما زِلتُ أسمَع أنَّ الملو . . . كَ تَبْني على قَدْرِ أخْطَارِها
وأعلمُ أنَ عقولَ الرجا . . . ل يُقْضى عليها بآثارها
صُحونٌ تسافر فيها العُيون . . . فتَحْسِر من بُعْد أقْطَارِها
وقبَّة مَلْك كأنَّ النجو . . . م تُفضِي إليها بأسْرَارها
إذا أُوقِدَت نَارُها بالعراق . . . أضاء الحِجازَ سَنَا نَارِها
لها شُرُفات كأنّ الربيع . . . كساها الرّياضَ بأنْوَارِها
فهنّ كمصطحباتٍ خَرَجْنَ . . . لِفصْح النصارى وإفطارها نظمن القسِيَ كنظم الحلى . . . بعُونِ النساءَ وأبْكارِها
فمن بين عاقصةٍ شَعْرَها . . . ومُصلحة عَقْد زُنَّارها
وللبحتري فيها شعر كثير منه : الوافر :
أرى المتوكِّلِيّةَ قد تعالَتْ . . . مصانعها وأكملتِ التماما
قُصورٌ كالكواكب لامِعَاتٌ . . . يَكَدْنَ يُضِئْنَ للساري الظّلاما
وروضٌ مِثْلُ بُرْدِ الوَشْي فيه . . . جَنَى الحَوْذانِ يُنْشَرُ والخُزَامى
غرائبُ من فنون النوْرِ فيها . . . جَنَى الزَّهْرِ الفُرادَى والتؤاما
تُضَاحِكُها الضُّحى طوراً وطَوراً . . . عليه الغيم ينسجمُ انسجاماولو لم يستهل لها غَمامٌ . . . بِرَيِّقِهِ لكنتَ لها غَماما
وقال أيضاً : الكامل :
قد تمَّ حُسْنُ الجعفريِّ ولم يكن . . . لِيَتِمَّ إلاّ للخليفةِ جَعْفَرِ
ملكٌ تبوَّأَ خَيْرَ دارٍ أُنشِئت . . . في خير مبْدًى للأَنامِ ومَحْضَرِ
أفي رأس مُشْرِفَةٍ حَصاها لُؤلؤ . . . وترابُها مِسْكٌ يُشَابُ بعَنْبَرِ
مُخْضَرَّةٌ والغيثُ ليس بسَاكب . . . ومضيئةٌ والليلُ ليس بِمُقْمِرِ
رفعتْ بمُنْخَرقِ الرياح ، وجاورتْ . . . ظِلَّ الغمام الصيِّب المستعبر
وبعده :
ورَفَعْتَ بُنْياناً كأنّ زُهاءَه . . . أعلامُ رَضْوَى أو شواهقُ ضَيْبَر
عالٍ على لَحْظِ العيونِ كأنما . . . يَنْظُرْنَ منه إلى بياضِ المشتري
ملأت جوانِبُهُ الفضاءَ ، وعانَقَتْ . . . شُرفاتُهُ قِطَعَ السحابِ المُمْطِر
وتسيلُ دجلةُ تحْتَه ففِناؤه . . . من لُجّة فُرِشت ورَوْضٍ أَخْضَر
شجرٌ تُلاَعِبُهُ الرياحُ فتنثني . . . أعطافُهُ في سَائحِ متفجِّرِ
أخذ أبو بكر الصنبوري قولَ البحتري في صفة البركة فقال يصف موضعاً : المتقارب :
سقى حلباً سافِك دَمعهُ . . . بَطِيءُ الرُّقُوء إذا ما سَفَكْمَيادينُه بسطُهُن الرياض . . . وساحاتُه بينهنّ البِرَكْ
ترى الريح تَنْسِج من مائه . . . درُوعاً مُضَاعَفةً أو شَبَكْ
كأن الزجاجَ عليها أُذِيب . . . وماء اللُجَيْنِ بها فد سبك
هي الجوُّ من رقَة غير أن . . . مكانَ الطيورِ يَطِيرُ السمكْ
وقد نُظِمَ الزهر نظم النجوم . . . فمفترق النَّظم أو مشتبِك
كما درَج الماءَ مَر الصبا . . . ودبجَ وجهَ السماء الحُبُكْ
يُبَاهِين أعلامَ قُمْصِ القيان . . . ونَقْشَ عَصائبها والتكَكْ
وأخذ قوله :
إذا النجُوم تراءَتْ في جَوَانبها
فقال : الطويل :
ولما تعالى البدرُ وامتدَّ ضوؤُه . . . بدجله في تشرين في الطولِ والعرْضِ
وقد قابل الماء المفضّض نورُه . . . وبعضُ نجوم الليل يَقْفُو سَنَا بَعْضِ
تّوهم ذو العين البصيرة أنه . . . يرى باطن الأفلاكِ مِنْ ظاهِرِ الأرضِ
ولأهل العصر في هذا النجْوم كلام كثير : قال الأمير أبو الفضل الميكالي ، يصف بركة وقع عليها شعاع الشمس فألقته على مَهْو مطل عليها يقول : البسيط :
أما ترى البركة الغرّاء قد لَبِسَتْ . . . نوراً من الشمس في حافاتها سطعَا
والمَهْو من فوقها يُلْهِيك منظَرُه . . . كأنهُ ملكٌ في دَسْتِه ارتفَعَا
والماء من تحته ألقى الشعاع على . . . أعلى سماواته فارتجَ مُلْتَمِعا
كأنه السيفُ مصقولاً تُقلبه . . . كفُّ الكمي إلى ضَرْبِ الكميَ سَعَى
وقال علي بن محمد الإيادي يمدح المعز ويصف دار البحر بالمنصورية : الطويل :
ولما استطال المَجْدُ واستولت البُني . . . على النجم واشتدَ الرواق المروَّقُبنى قبةً للملك في وَسْطِ جَنَّة . . . لها منظرٌ يُزْهى به الطَّرْفُ مُونِقُ بمعشوقة الساحات ، أمَا عِراصُها . . . فَخُضْرٌ ، وأمَّا طيرها فَهْيَ نُطَّقُ
تحف بقَصْرٍ ذي قصُورٍ كأنما . . . ترى البحر في أرجائه وهو مُتْأق
له بركةٌ للماء مِلْء فَضَائِه . . . تَخُب بقصريهَا العيون وتُعْنِقُ
لها جَدْولٌ يَنْصَب فيها كأنهُ . . . حُسَامٌ جَلاَه الْقَيْنُ بالأرض مُلصَقُ
لها مَجلس قد قام في وَسْط مائِها . . . كما قام في فَيض الفرات الخَوَرْنَقُ
كأنَّ صفاءَ الماء فيها وحُسْنهُ . . . زجاج صَفَتْ أرجاؤه فهو أزرقُ
إذا بث فيها الليلُ أشْخاص نَجْمِه . . . رأيتَ وجوهَ الزنج بالنار تُحْرَقُ
وإن صافحتْها الشمس لاحَتْ كأنها . . . فرِنْد على تاج المُعزّ وروْنقُ
كأن شُرافات المَقاصر حولها . . . عَذَارَى عليهنَ المُلاءُ الممَنْطَقُ
يذوب الجفاء الجعْدُ عن وَجْهِ مائها . . . كما ذاب آلُ الصَحْصَحَان المرَقَرقُ
وقال عبد الكريم بن إبراهيم : البسيط :
يا ربَّ فتيان صِدْق رُحْتُ بينهم . . . والشمس كالدَّنِف المعشوقِ في الأُفق
مَرْضَى أصائلها حَسْرى شمائلها . . . تروح الغُصُن الممْطُور في الوَرق
معاطياً شمْسَ إبريق إذا مُزجَت . . . تقلّدَت عِقْدَ مرجان من النَزَقِ
عن ماحِل طافحٍ بالماء مُعْتلِج . . . كأنما نَفْسُه صِيغَتْ من الْحَدَق
تَضُمُهُ الرَيحُ أحياناً ، وتفَرْقُهُ . . . فالماء ما بَيْنَ محبوس ومُنْطَلق
مِنْ أخضر ناضر والطَّل يلحقه . . . وأبيض تحت قَيْظِيِّ الضحَى يَقَق
تهزهُ الريح أحياناً فيمنَحُها . . . للزجر خَفْقَ فؤادِ العاشق القلِقِ
كأنَّ حافاتِهِ نُطّقن من زَبَد . . . مَناطقاً رُصعَتْ مِنْ لؤلؤ نَسَق
كأن قَبّته من سُنْدُسِ نمط . . . حسناء مَجْلُوَّةُ اللبات والعُنُقٍإذا تبلَج فَجْرٌ فوق زُرْقَتِه . . . حسبته فرساً دهاء في بَلق
أو لازَوَرْداً جَرَى في مَتْنِهِ ذَهَب . . . فلاح في شارقٍ من مَائِهِ شرقِ
عشيّة كملت حُسناً وساعدَها . . . ليلٌ يُمَدِّدُ أطناباً على الأُفُقِ
تجلى بغُرَّةِ وَضاح الجَبِين له . . . ما شئتَ من كَرمٍ وافٍ ومن خُلُقِ
ألفاظ لأهل العصر في وصف الماء وما يتصل به
ماء كالزُّجاج الأزرق ، غدير كعين الشمس ، مَوَارِد كالمَبَارِد ، وماء كلسان الشمعة ، في صفاءِ الدَمْعَة ، يسبح في الرَّضْرَاض ، سَبْحَ النضْناض ، ماء أزرق كعين السِّنَّور ، صاف كقضيب البلور ، ماء إذا مسَّتْه يَدُ النسيم حكى سَلاَسِلَ الفضّة ، ماء إذا صافحته رَاحة الريح ، لبسَ الدِّرْع كالمسيح ، كأنّ الغَدِيرَ بترابِ الماء رداء مُصندل ، بركة كأنها مرآة السماء ، بركة مَفْرُوزةٌ بالخضرة ، كأنّها مِرآة مجلوّة ، على ديباجة خضراء ، بركة ماء كأنها مِرآةُ الصَّناعِ ، غدير ترقرقت فيه دموعُ السحائب ، وتواترَتْ عليه أنفاسُ الرياح الغرائب ماء زرق حِمامُه ، طامية أرجاؤه ، يَبُوحُ بأسْرَاره صفاؤه ، وتلوحُ في قراره حَصْبَاؤه ، ماء كأنما يفقده مَنْ يَشْهده ، يتسَلْسَلُ كالزرافين ، ويرضع أولاد الرَّياحين ، انحلَّ عقدُ السماء ، ووَهَى عقد الأنْوَاء ، انحلَّ سلكُ القطر عن دُرِّ البَحْر ، أسْعَد السحابُ جفونَ العُشَاق ، وأكُفَّ الأجواد ، وانحلَّ خَيْطُ السماء ، وانقطع شِرْيَانُ الغَمامِ ، سحابة يتجلَّى عليها ماءُ البحر ، وتفضُ علينا عقودَ الدّر ، سحابٌ حكى المحبَّ في انسكاب دموعِه ، والتهاب النارِ بين ضُلُوعه ، سحابة تحدو من الغيوم جمالاً ، وتمدُّ من الأمطار حِبالاً ، سحابة ترسلُ الأمطارَ أمواجاً ، والأمواجَ أفواجاً ، تحللت عقد السماء بالدِّيمة الهَطْلاء ، غيث أجشُّ يروي الهِضَابَ والآكام ، ويُحيي النبات والسَّوَام ، غيث كغزارة فضلِكَ ، وسلاسة طبعك ، وسلامة عقدك ، وصفاء وُدِّك ، وَبْل كالنبل ، سحابهٌ يضْحَكُ من بُكائها الرَوْض ، وتَخْضَر من سَوَادها الأرض ، سحابة لا تجف جفونُها ولا يَخفّ أنينها ،ديمة رَوَّت أديمَ الثرى ، ونبهت عيونَ النوْرِ من الْكَرى ، سحابة ركبت أعْنَاق الرياح ، وسَحَتْ كأَفْوَاه الجراح ، مطر كأفْواه القِرَب ، ووَحل إلى الركب ، أنْدِية مَنَّ اللّه معها على البيوت بالثبُوت ، وعلى السقوف بالوُقُوف ، أقْبل السَّيلُ يَنْحَدِرُ انحداراً ، ويحمل أحجاراً وأشجاراً ، كأن به جِنة ، أو في أحشائه أجِنَّة .
وبعض ما مرّ من هذه الألفاظ محلول نظام ما تقدّم إنشاده .
ولهم في مقدمات المطر
لبست السماءُ جلبَابها ، وسحبت السحائِبُ أذيالها ، قد احتجبت الشمسُ في سُرَادق الغَيم ، ولبس الجوُّ مُطْرَفَهُ الأدكَنَ ، باحت الريحُ بأَسْرارِ النَّدَى ، وضربت خيمَة الغمام ، ورشّ جيش النسيم ، وابتلّ جناحُ الهواء ، واغرورقت مُقْلة السماء ، وبَشَرَ النسيم بالندى ، واستعدت الأرضُ للقطر ، هبّت شمائل الجنائِب ، لتأليف شمل السحائب . تألّفت أشتاتُ الغيوم ، وأسبلت السُّتُور على النجوم .
وفي الرعد والبرق
قام خطيبُ الرَّعْدِ ، ونبض عِرْق البَرْقِ ، سحابة ارتجزت رَوَاعدها ، وأذهبت ببروقها مطاردها ، نطقَ لسانُ الرعد ، وخفق قَلْبُ البرق ، فالرعْدُ ذو صَخَبٍ ، والبَرْقُ ذو لَهَبٍ ، ابتسم البَرْقُ عن قهقهة الرعد ، زأرت أسْد الرعد ، ولمعت سيوف البَرْقِ ، رعدت سيوفُ الغمائم ، وبَرَقَتْ ، وانحلّت عَزَاليُ السماء فطبقت ، هَدَرت رَوَاعِدها ، وقربت أبَاعدها ، وصدقت مَوَاعدها ، كأن البرق قلب مَشُوق ، بين التهاب وخُفُوق .
ويتصل بهذه الأنحاء
ما حكاه عمر بن علي المطوعي قال : رأى الأمير السيد أبو الفضل عبيد اللّه بن أحمد - أدام الله عزَّه - أيام مُقامِهِ بجُوَيْن أن يطالع قريةً من قرى ضيَاعه تدعى نجاب على سبيل التنزّه والتفرُّج ، فكنت في جملة مَن استصحبه إليها من أصحابه ، واتفق أنّا وصلنا والسماء مُصْحِية ، والجوُّ صاف لم يطرز ثوبه بعلم الغمام ، والأفق فًيْرُوزَج لم يعبق به كافور السحاب ؛ فوقع الاختيار على ظل شجرة باسقة الفروع ، متّسِقة الأوراقوالغصون ، قد سترت ما حوالَيْها من الأرْض طولاً وعرضاً ، فنزلنا تحتها مستظلِّين بسَماوَةِ أفْنَانِها ، مستَتِرينَ من وَهَج الشمس بستارة أغصانها ، وأخذنا نتجاذبُ أذيال المذاكرة ، ونتسالب أهْدَاب المُناشَدَة والمحاورة ؛ فما شعرنا بالسَماء إلاَ وقد أرْعَدَت وأبرقت ، وأظلمَتْ بعد ما أشرقت ، ثم جادت بمَطَرٍ كأَفْوَاه القِرَب فأَجادت ، وحكت أنامل الأجْوَاد ومدامع العشاق ، بل أوْفَتْ عليها وزادت ، حتى كاد غيثها يعود عَيْثاً ، وهَمَّ وَبْلها أن يستحيل وَيْلاً ، فصبرنا على أذاها ، وقلنا : سَحَابة صيفٍ عما قليل تَقَشَّع ، فإذا نحن بها قد أمطرتنا بَرَداً كالثغُورِ ، لكنها من ثغور العَذَاب ، لا من الثغورِ العِذَاب ، فأَيقنَا بالبَلاَء ، وسلَمنَا لأسباب القضاء ؛ فما مرت إلا ساعة من النهار ، حتى سمعنا خَرِيرَ الأنهار ، ورأينا السيْلَ قد بلغ الزُبَى ، والماء قد غَمَرَ القِيعان والرُبى ؛ فبادرنا إلى حِصْن القرية لائِذين من السَيْل بأفنيتها ، وعائذين من القطر بأبنيتها ، وأثوابنا قد صَندل كافوريها ماءُ الوَبْل ، وغلَف طِرازيها طينُ الوَحْل ، ونحن نحمدُ الله تَعالى على سلامة الأبدان ، وإن فقدنا بياضَ الأكمام والأردان ، ونشكره على سلامةِ الأنفس والأرواح ، شُكرَ التاجر على بقاء رأسِ المال إذا فجِع بالأرباح ؛ فبِتْنا تلك الليلة في سماءً تكِفُ ولا تكف ، وتبكي علينا إلى الصباح بأدمعٍ هَوَام ، وأربعة سِجام ؛ فلما سُلَّ سيفُ الصبح من غِمد الظلام ، وصُرِفَ بِوَالي الصحو عَامِلُ الغمام ، رأينا صوابَ الرأي أن نوسِع الإقامة بها رَفْضاً ، ونتخذ الارتحالَ عنها فَرْضاً ؛ فما زِلْنَا نطوي الصحارى أرضاً فأرضاً ، إلى أن وافينا المستقر ركضَاً ؛ فلمّا نَفَضْنَا غُبَارَ ذلك المسير ، الذي جمعنا في رِبْقَةِ الأسير ، وأفضيْنَا إلى ساحةِ التيسير ، بعد ما أُصبْنَا بالأمر العسير ، وتذاكَرْنا ما لقينا من التعب والمشقة ، في قطع ذلك الطريق وَطَي تلك الشقة ، أخذ الأمير السيد - أطال الله بقاءه - القلم فعلق هذه الأبيات ارتجالاً : المتقارب
دهتْنَا السماء غداة السحَاب . . . بغيثِ على أفْقهِ مُسْبِل
فَجَاء برَعْدٍ له رَنة . . . كَرنةِ ثَكلى ولم تثكل
وثنى بوًبْل عَدا طَورَه . . . فعاد وَبَالاً على المُمْحِلوأشرف أصْحابُنَا مِنْ أذَاه . . . على خطرٍ هائل مُعْضِل
فَمِنْ لائِذٍ بِفِناءِ الجِدَار . . . وآوٍ إلى نَفَق مُهْمَل
ومن مستجير يُنَادي : الغريقَ . . . هناك ، ومن صارخٍ مُعْوِلِ
وجادَتْ علينا سَمَاءُ السقوف . . . بِدَمْعٍ من الوَجْدِ لم يهمل
كأن حَرَاماً لها أن تَرَى . . . يَبيساً من الأرض لم يُبْلَل
وأقبَلً سيْلٌ له رَوْعةٌ . . . فأَدْبرَ كُلَ عن المُقْبِل
يُقلِّعُ ما شاء من دَوْحَةٍ . . . وما يَلْق من صخرةٍ يَحْمِلِ
كأنَ بأَحْشائِه إذ بَدَا . . . أَجنَّةَ حُبْلَى ولم تحبل
فمنْ عامرٍ ردَّة غامراً . . . ومن مُعْلَم عادَ كالمَجْهَل
كفانا بليَّتَه ربّنا . . . فقد وجب الشكْرُ للمُفْضِلِ
فَقُلْ للسماء ارعُدي وابْرُقي . . . فإنّا رجعنا إلى المنزلِ
أخذ المطوعي قوله : فلما سُلَّ سيفُ الصبحِ من غِمْدِ الظلام من قول أبي الفتح البستي : الرمل :
رُب ليل أغمد الأنوار إلاّ . . . نُورَ ثَغْر أو مدام أو ندامِ
قد نعمنا بدَيَاجيه إلى أن . . . سُل سيف الصبحِ مِنْ غَمْدِ الظلامِ وقال بعض أهل العصر ، وهو أبو العباس الناشئ الطويل :
خليليَّ ، هل للمُزن مُقْلةُ عاشق . . . أم النار في أحشائها وهي لا تَدْرِي ؟
أشارت إلى أرض العراق فأصبحتْ . . . وكاللؤلؤ المنثورِ أدْمُعها تجْري
سحاب حكَتْ ثَكْلَى أُصيبَتْ بواحد . . . فعاجَتْ له نحوَ الرياض على قَبْرِ
تَسّربَل وَشْياً من حُزون تطرزتْ . . . مَطارفُها طرزاً من البَرْق كالتبرِ
فوشْي بلا رقمٍ ، ورقم بلا يدِ . . . ودمْع بلا عَيْن ، وضِحْكٌ بلا ثَغْرِ
وقال آخر : المتقارب :
أرقْتُ لبَرْقٍ شديد الوَميض . . . تَرامَى غواربه بالشُهُبْ
كأنَ تألُقه في السماء . . . سُطُور كُتِبْنَ بماءَ الذهبْوقال ابن المعتز : الطويل :
كأن الرَّباب الْجَوْنَ دون سحابهِ . . . خليع من الفِتْيان يسحب مِئزَرا
إذا لحقته خيفةً من رعودهِ . . . تلفتَ واستل الحُسام المُذكَرا
وقد قال حسان بن ثابت : المتقارب :
كأن الربَّاب دُوَيْنَ السحاب . . . نعامٌ تعلّقَ بالأرْجُل
وقال ابن المعتز : الرجز :
باكية يضحك فيها برقها . . . موصلة بالأرض مُرْخاة الطُنُبْ
رأيت فيها برقها منذ بدا . . . كمثل طرف العين أو قلب يجِبْ
جرت بها ريح الصبا حتى بدا . . . منها لِيَ البرقُ كأمثال الشهب
تحسبه طوراً إذا ما انصدعَتْ . . . أحشاؤها عنه شجاعاً يضطربْ
وتارة تحسبه كأنه . . . أبْلَقُ مَالَ جُلَّهُ حين وَثْبْ
وتارةً تحسبه كأنه . . . سلاسلُ مفصولة من الذهبْ
وقال الطائي : الرجز :
يا سهمُ للبَرْقِ الذي استطارا . . . صار على رغم الدُجى نَهَارا
آض لنا ماء وكان نارا
وينشد أصحاب المعاني : البسيط :
نارٌ تجدَدُ للعينين نضرتُها . . . والنار تلفحُ عيداناً فتحترقُوقال ابنُ المعتز يمدح الشُرْب في الصَحْوِ ، ويذمّه في المطر : الخفيف :
أنا لا أشتهي سماءً كبطن الْ . . . عَيْر والشَرْب تحتها في خرابِ
بين سَقْفٍ قد صار مُنخلَ ماء . . . وجدارٍ ملقًى وتَل تُراب
وبيوت يوقِّع الوَكْف فيه . . . ن وإيقاعُهُ بغَيْرِ صوابِ
إنما أشتهي الصَّبوحَ على وَج . . . هِ سماءً مَصقولةِ الجِلْبَابِ
ونَسيم منَ الصبا يتمشّى . . . فوق رَوْضٍ نَدٍ جديدِ الشَبابِ
وكأنّ الشمس المضيئة دِينا . . . رٌ جَلَتْه حدائِدُ الضرَاب
في غدَاة وكأسها مثلُ شمسٍ . . . طَلَعتْ في ملاءَة من شَرابِ
أو عروس قد ضُمِّخت بخَلُوقٍ . . . فَهْيَ صَفْراء في قميص حَباب
وغناء لا عُذْر للعودِ فيه . . . بتَنَدَي الأوْتَارِ والمضراب
ونَقاء البساط من وَضَرِ الطي . . . ن ومَسْحِ الأقدام في كل بَابِ
ونشاط الغلمان إن عرضَتْ حا . . . جاتنا في مجيئهم والذّهابِ
وجفاف الريحان والنرَّجس الغ . . . ضّ بأيدي الخلاّن والأصحابِ
لا تندَى أنوفُهم كلما حُي . . . وا بضغث ندى أنوف الكلاب
ذاك يومٌ أراه غنْماً وحظاً . . . من عَطاء الْمُهَيْمِنِ الوَهَابِ
وقال الصَّنَوْبَري : المتقارب :
أنيس ظباءً بوحش الظبا . . . وصبغ حَياً مثل صبغ الحيَا
ويوم تكلله الشمس من . . . صَفاء الهوَى وصفاء الهوا
بشَمْسِ الدَنان وشمس القِيانِ . . . وشمسِ الجنَانِ وشمسِ السَما
وشَبِيهٌ بالأبيات التي كتبها ثَعْلب إلى أبي العباس بن المعتز لجميل قول الآخر : الطويل :
وما وَجْدُ مِلْواح من الهِيْمِ خُلَيَتْ . . . عن الوِرْد حتى جَوْفُها يتصَلْصَل
تحوُم وتَغْشاها العِصِيُّ وحَوْلها . . . أقاطيعُ أنْعام تُعَل وتَنْهَلُ بأكثر مِنَي لوعةً وصبابةً . . . إلى الوِرْد إلاّ أنني أتجمَلُوقال أبو حيّة النميري : الطويل :
كفى حَزَناً أنِّي أرَى الماءَ مُعْرَضاً . . . لعيني ولكِنْ لا سبيلَ إلى الوِرْدِ
وما كنت أخْشَى أن تكون منيّتي . . . بكفّ أعزّ الناسِ كلّهم عِنْدي
قال ابنُ المقفَّع : كان لي أخ أعظم الناس في عيني ، وكان رَأس ما عظمه في عيني صِغر الدنيا في عينه ، وكان خارجاً من سلطان بَطْنِه ، فلا يشتهي ما لا يجد ، ولا يُكْثِر إذا وجد ، وكان خارجاً من سُلْطانِ فَرْجه ، فلا تدعوه إليه مؤنة ، ولا يتسخفّ له رأياً ولا بدناً ، وكان لا يتأثر عند نِعْمَةٍ ، ولا يستكينُ عند مصيبة . وكان خارجاً من سُلْطانِ لسانه ، فلا يتكلَمُ بما لا يعلم ، ولا يُماري فيما علم ، وكان خارجاً من سُلْطانِ الجهالة ، فلا يتقدَم أبداً إلا على ثقة بمنفعة ، وكان أكثر دَهره صامتاً ، فإذا قالَ بَزَ القائلين ، وكان ضعيفاً مستضْعَفاً ، فإذا جد الجدّ ، فهو اللَيثُ عادياً . وكان لا يدخل في دَعْوَى ، ولا يُشارِكُ في مِرَاء ، ولا يُدْلي بحُجة حتى يَرَى قاضياً فَهما ، وشهوداً عُدُولا . وكان لا يلومُ أحداً فيما يكونُ العُذْرُ في مثله حتى يعلَم ما عُذْرُه .
وكان لا يَشْكُو وجعه إلا عند مَنْ يرجو عنده البُرْء ، ولا يستشيرُ صاحباً إلا أنْ يرجوَ منه النصيحة . وكان لا يتبرَم ولا يتسخط ، ولا يتشكّى ولا يتشهّى ، ولا ينتقم من العدو ، ولا يَغْفُل عن الولي ، ولا يَخُصُّ نفسه بشيء دون إخوانه من اهتمامه وحيلته وقوتِه . فعليك بهذه الأخلاق إن أطقتها ، ولَنْ تطيق ، ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع .
وعلى ذكر قوله : وإن قال بَرَّ القائلين قال ابن كناسة - واسمه محمد بن عبد الله ، ويكنى أبا يحيى - في إبراهيم بن أدهم الزاهد : الطويل :
رأيْتُك لا تَرْضَى بما دونه الرضا . . . وقد كان يَرْضَى دون ذاك ابنُ أدْهَماوكان يَرى الدنْيَا صغيراً عظيمُها . . . وكان لأمْرِ اللَهِ فيها مُعَظِّما
وأكْثرُ ما تلْقَاهُ في الناس صامِتاً . . . وإنْ قال بَز القائلين فأفْحَما
يُشِيعُ الغِنَى في الناس إن مَسَّهُ الغِنى . . . وتلقى به البأْساءُ عيسى بن مريما
أَهان الهوى حتى تجنَّبه الهوى . . . كما اجتنب الجاني الدم الطالبَ الدَّما
ألفاظ لأهل العصر في ذكر التقى والزهد
فلان عَذْب المَشْرب ، عَفّ المَطْلَب ، نَقيّ الساحة من المآثم ، بَرِيء الذمة من الجرائم ، إذا رضي لم يَقُلْ غيرَ الصدق ، وإذا سخِط لم يتجاوَزْ جانِبَ الحق ، يرجعُ إلى نفسٍ أمَّارة بالخير ، بعيدةٍ من الشر ، مدلولة على سبيل البِر ؛ اعْرَض عن زِبْرجِ الدنيا وخُدَعها ، وأقبل على اكتساب نِعَم الآخرة ومُنَعِها . كَفَ كَفَه عن زُخْرف الدنيا ونَضْرَتها ، وغَضَّ طَرْفَه عن متاعها وزَهْرتها ، وأعرض عَنهَا وقد تعرَضتْ له بزينتها ، وصدَ عنها وقد تصدَّت له في حِلْيتها .
فلانٌ ليس ممن يَقِف في ظل الطمع ، فيُسِف إلى حَضيض الطَّبَع ، نَقيّ الصحيفة ، عَلي عن الفضيحة ، عَف الإزار ، طاهر من الأَوْزَار ، قد عاد لإصلاح المعاد ، وإعداد الزاد .
وكان ابن المقفع من أشراف فارس ، وهو من حكماء زمانه ، وله مصنّفات كثيرة ، ورسائلُ مختارة ، وكان مُحْجِماً عن قول الشعر ، وقيل له : لم لا تقولُ الشعر ؟ فقال : الذي أرضاه لا يَجِيئني ، والذي يجيءُ لا أَرْضاه .
أخذ هذا بعضُهم فقال : الطويل :
أبى الشعرُ إلا أن يَفيءَ رَدِيهُ . . . إليَ ، ويَأْبى منه ما كانَ مُحْكَما
فيا ليتني إذْ لم أجِدْ حَوْكَ وَشْيِهٍ . . . ولم أكُ من فرْسانه كنت مُفْحَماوكان ظريفاً في دينه ، وذكر أنه مرّ ببيت النار فقال : الكامل :
يا بيتَ عاتكةَ الّذي أتعزلُ . . . حَذَرَ العِدَا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ
أصبحتُ أمنحُك الصدودَ ، وإنني . . . قَسَماً إليك مع الصدود لأَمْيَلُ البيتان للأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري ، أخي بني عمرو بن عوف . وعاصم بن ثابت حَمِيُّ الدَبْر ، قتله بنو لحيان من هُذَيل يوم الرَجيع ، فأرادوا أن يَبْعَثوا برَأسِه إلى مكة ، وكانت سلافة بنتُ سعد نذرت لَتَشْرَبَن في رأسه الخَمْر ، وكانْ قتلَ بعضَ ولدها من طلحة بن أبي طلحة أحد بني عبد الدار يوم أُحد ، فلمّا أرادوا أخْذَ رأسه حمته الدَبْر - وهي النحل - فلم يَجِدُوا إليه سبيلاً ، وجعلوا يقولون : إنّ الدّبر لو قد أمسى صِرْنا إلى حَشْوِ استه ، فلما أمسوا بعثَ اللّه أتِيا فوارَاه منهم . وعاتكة التي ذكر هي عاتكة بنت يزيد بن معاوية .
ولمّا دخل أبو جعفر المنصورُ المدينة قال للربيع : ابغِني رجلاً عاقلاً عالماً بالمدينة ليَقِفَني على دُورِها ؛ فقد بَعُد عَهْدي بديار قومي ؛ فالْتَمس لَه الربيع فتًى من أعقل الناس وأعلمهم ، فكان لا يبتدِئُ بإخْبَارٍ حتى يسأله المنصور فيجيبه بأَحْسَن عبارة ، وأجود بيان ، وأوفى معنى ، فأُعْجِب المنصور به ، وأمر له بمالٍ ، فتأخّر عنه ، ودعتهُ الضرورة إلى استنجازِه ، فاجتاز ببيت عاتكة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا بيتُ عاتكة الذي يقول فيه الأحوص : يا بيت عاتكة الذي أتعزَّل . . . البيتَ ، ففكر المنصور في قوله ، وقال : لم يُخَالف عادتَه بابتداء الإخبار دون الاسْتِخبار إلاّ لأمر ، وأقبل يردّد القصيدة ويتصفّحها بيتاًبيتاً حتى انتهى إلى قوله فيها :
وأراكَ تَفْعَلُ ما تقولُ وبعضُهُمْ . . . مَذِقُ اللسان يقولُ ما لا يَفْعلُ
فقال : يا ربيع ، هل أوصَلْتَ إلى الرجلِ ما أمَرْنَا له به ؟ فقال : أخرتَه عنه - لعلَّةٍ ذكرها الربيع - فقال : عَجلْه له مُضَاعَفاً ، وهذا ألطف تعريض من الرجل ، وحُسْنُ فهم من المنصور .
في الحسد
ومن كلام ابن المقفع : الحاسِدُ لا يزالُ زارياً على نعمة اللّه ولا يَجِدُ لها مَزَالاً ، ومكدَراً على نفسه ما به من النعمة فلا تَجِدُ لها طَعْماً ، ولا يزالُ ساخطاً على مَنْ لا يترضَاه ، ومتسخِّطاً لما لا ينال ، فهو كَظُوم هَلُوع جَزُوع ، ظالم أشْبه شيء بمظلوم ، محروم الطلِبَة ، منغَّص العيشة ، دائم التسخّط ، لا بما قُسِمَ له يَقْنَع ، ولا على ما لم يُقْسَم له يغلب ، والمحسودُ يتقلّب في فَضْلِ نعم اللّه مباشراً المسرور ، ممْهَلاً فيه إلى مُدَةٍ لا يقدر الناسُ لها على قطْعٍ ولا انتقاص ، ولو صبر الحاسِدُ على ما به لكان خيراً له ؛ لأنه كلما أراد أن يُطفِئَ نورَ اللّه أعْلاَهُ ، وَيأْبى اللَهُ إلاَ أن يُتمَ نورَه ولو كَرِه الكافرون .
قال الطائي :
لولا التخَوُفُ للعَوَاقِبِ لم تَزَلْ . . . لِلْحَاسِدِ النُّعْمَى عَلَى المحسودِ
وإذا أراد الله نَشْرَ فضيلة . . . طُوِيَتْ أتَاحَ لها لسانَ حَسُودِ
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرَتْ . . . ما كان يعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ
أخذه البحتري فقال : الطويل :
ولَنْ تَسْتَبِينَ الدهرَ مَوْضعَ نِعْمَةٍ . . . إذَا أنْتَ لم تُدْلَلْ عليها بحَاسِدِ
ولقد أحسنَ القائل : والبسيط :
إن يحسدوني فإني غيرُ لائمِهِمْ . . . قَبْلي من الناس أهْلِ الفضلِ قد حُسِدوافدام لي ولَهُمْ ما بي وما بهمُ . . . وماتَ أكثرُنا غَيْظاً بما يَجِدُ
أنا الذي يَجِدُوني في صدورِهمُ . . . لا أرْتَقي صَدَراً عنها ولا أَرِدُ
وقال ابن الرومي لصاعد بن مَخْلَد : الطويل :
وضدّ لكم لا زَال يَسْفُل جَده . . . ولا برحَتْ أنفاسه تتصَعَدُ
يَرَى زِبْرِجَ الدنيا يُزَف إليكم . . . ويُغْضِي عن استحقاقكم فهو يُفَأَدُ
ولو قاس باستحقاقكم ما مُنِحْتُمُ . . . لأَطْفَأَ ناراً في الْحَشا تتوَقَدُ
وآنقُ من عِقْدِ العقيلةِ جيدُها . . . وأحسنُ من سِربالها المتجَرَدُ
وقال معن بن زائدة : البسيط :
إني حُسِدْتُ فزادَ اللّه في حَسدِي . . . لا عاشَ مَنْ عاش يوماً غَيْرَ محسودِ
ما يُحْسَدُ المرءُ إلا مِنْ فضائلهِ . . . بالعلم والظرْفِ ، أو بالبَأسِ والْجُودِ
ألفاظ لأهل العصر في ذكر الحسد
دَبت عقارِبُ الحسَدَة ، وكمنت أفاعِيهم بكل مَرْصَدٍ . فلان مَعْجُون من طِينَةِ الحسد والمُنَافَسَة ، مضروبٌ في قالب الضَيق والمناقشة . قد وكلَ بي لَحظاً ينتضِلُ بأَسهُمِ الحسد . فلان جَسدٌ كلُه حسد ، وعقد كلُه حِقْد . الحاسدُ يَعمَى عن محاسن الصُبح ، بعين تُدْرِكُ حقائقَ القُبْحِ .
كتب محمد بن حماد يُعَرض في حاجة له ببيتي شعر إلى الواثق يقول : الطويل :
جذبتَ دَواعي النفسِ عن طلبِ المُنى . . . وقلت لها كُفي عن الطلب المُزْرِي
فإن أميرَ المؤمنين بكفهِ . . . مَدار رحًى بالرزق دائبة تَجْرِي
فوقع تحتها : جَذْبك نفسَك عن امتهانها بالمسألةِ دعاني إلى صَوْنِك بِسَعَةِ فَضلي عليك ، فخُذْ ما طلَبتَ هنيئاً .
قال علي بن عبيدة : أتيت الحسن بن سَهل بفم الصلح ؛ فأقَمتُ ببابه ثلاثة أشهر لاأحظَى منه بطائل ، فكتبت إليه : الطويل :
مَدَحْتُ ابن سهل ذا الأيادي وما لهُ . . . بذاك يدٌ عندي ولا قَدَم بَعْدُ
وما ذَنْبُه ، والناس إلاَّ أقلّهم عيالٌ له ، إن كان لم يَكُ لي جَدُ
سأحمده للناس حتى إذا بَدَا . . . له فيَّ رَأيٌ عادَ لي ذلك الحمد
فكتب إليَ : باب السلطان يَحْتَاج إلى ثلاث خِلال : عقل وصَبْرٌ ومال ، فقلت للواسطة : تؤدّي عني ؟ قال : نعم . قلت : تقول له : لو كان لي مال لأغْناني عن الطلب إليك ، أو صبْرٌ لصبرت عن الذلَ ببابك ، أو عَقْل لاستدللت به على النزاهة عن رِفْدك فأمر لي بثلاثين ألف درهم .
وقال علي بن عبيدة الريحاني يوماً ، وقد رأى جارية يَهْوَاها : لولا البُقيا على الضمائر لَبُحْنا بما تُجِنه السرائر ، لكن نِيران الْحُبّ تتدارك بالإخفاء ، ولا تُعاجَل بالإبداء ؛ فإن دوامَها مع إغلاق أبواب الكِتْمان ، وزوالَها في فَتْحِ مَصَارعِ الإعلان . وقد قال محمد بن يزيد الأموي : مجزوء الخفيف :
لا وحُبيك لا أُصَا . . . فِحُ بالدَّمع مدمعا
من بكى حبَّه اسْتَرَا . . . ح وإن كان مُوجَعا
ومن كلام عليّ بن عبيدة : اجعَل أنْسَك آخرَ ما تَبْذُل من وُدّك ، وصن الاسترسال منك ، حتى تجد له مستحقاً ، فإن الأُنْسَ لِباسُ العِرض ، وتُحْفة الثقة ، وحِبَاء الأكفاء ، وشِعار الخاصَة ، فلا تُخلق جِدَّته إلاَ لمن يعرف قَدْرَ ما بذلتَ له منك .
وقال : لولا حركاتٌ من الابتهاج أجِد حِسَها عند رؤيتك في نفسي لا أعْرِف لها مُثيراً من مظانها إلاّ مُؤَانَستك لي ، لأبقَيْت عليك من العناء ، وخففت عنك مؤونة اللقاء ، لكني أجد من الزيادة بك عندي أكْثر من قَدْرِ راحتك في تأخرك عني ، فأضيق عن احْتِمال الخسران بالوَحدة منك .
وقال : لِوجلي من طُلُوع الملالة بكَرّ اللقاء أَسْتَخِف التَّجَافي مع شدَة الشوقِ ، لتبقى جدَة الحالِ عند من أُحِب دوامه لي ؛ ورد طَرْفِ الشوق باطناً أيْسَر من مُعاناةِ الجفاء مع الود ظاهراً .
وقال بعض المحدثين : البسيط :
كم استَراحَ إلىِ صبر فلم يُرَحِ . . . صَبٌّ إليكم من الأشواق في تَرَحِ
تركتم قَلْبَه من حُزْنِ فُرْقَتكم . . . لو يُرزَق الوصل لم يَقْدر على الفَرَحِوقال أعرابي : الطويل :
ألاَ قُلْ لدارٍ بَيْنَ أكْثِبَةِ الْحِمَى . . . وذات الغَضَى : جادَتْ عليك الهَواضِبُ
أجِدكَ لا آتيك إلاّ تتابَعَتْ . . . دموع ، أضاعت ما حفظتُ ، سَواكِبُ
ديار تنسمْتُ المُنَى نَحْوَ أَرْضِها . . . وطاوَعَني فيها الهَوَى والْحبائِبُ
لياليَ لا الهجرانُ محْتَكِمٌ بها . . . على وَصلِ مَنْ أَهْوَى ولا الظن كاذِب
آداب الجلوس
تنازع إبراهيمُ بن المهدي وابن بختيشوع الطبيبُ بين يدي أحمد بن أبي دُواد في مجلس الحكم في عقار بناحية السَواد ، فأرْبَى عليه إبراهيمُ وأغْلَظَ له ، فأحفظ ذلك ابنَ أبي دُوَاد ، فقال : يا إبراهيم ، إذا نازعتَ في مجلس الحكم بحضرتنا امرءاً فلا أعلمنَّ أنكَ رفعْتَ عليه صَوْتَاً ، ولا أَشَرْتَ بيد ، وليكن قَصْدُك أمَماً ، وريحُك ساكنة ، وكلامُك معتَدِلاً ، مع وفاء مجالس الخليفة حقَوقها من التَّعْظيم ، والتوقير ، والاستكانة ، والتوجّه إلى الواجب ؛ فإن ذلك أَشْكَل بك ، وأَشمَلُ لمذهبك في مَحْتدِك ، وعظيم خَطرك ، ولا تعجَلن ، فرُبَّ عَجَلة تَهَبُ رَيْثاَ ، واللهُ يعصمك من خَطَل القول والعمل ، ويتَمّ نعمتَه عليك كما أتَّمها على أبويك من قبل ، إن ربك حكيم عليم .
فقال إبراهيم : أصْلَحك الله تعالى : أمَرْتَ بسَدَاد ، وخضَضْتَ على رشاد ؛ ولستُ عائداً لما يَثْلِمُ مُرُوءَتي عندك ، ويُسْقطني من عينك ، ويخرجني من مقدارِ الواجب إلى الاعتذار ، فها أنا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذارَ مُقِرّ بذنبه ، معْتَرِف بجُرْمِه ، ولا يزال الغضبُ يستفزني بمواده ، فيردني مثلُكَ بحلمه ، وتلك عادةُ اللّه عندك وعندنا منك ؛ وقد جعلتُ حقي من هذا العقار لابن بختيشوع ، فليتَ ذلك يكون وأفياً بأَرْش الجناية عليه ؛ ولم يَتْلفْ مال أفادَ موعظةً ؛ و ' حسْبُنا اللَهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ ' .
لفا استوثق أَمْرُ أردشير بن بابك وجَمَعَ ملوكَ الطوائف ، وتم له مُلْكه ، جمع الناسَ فخطبهم خطبة حضّ فيها على الألفة والطاعة ، وحذرهم المعصية ومفارقَة الجماعة ، وصف الناسَ أربعة صفوف ؛ فخزُوا له سُجَداً ، وتكلَّم متكلِّمهم فقال :لا زلت أيها الملك محبوّاً من اللّه تعالى بعزّ النصر ، ودَرَك الأمل ، ودوام العافية ، وتمام النّعمة ، وحُسْن المزيد ، ولا زلت تتَابَعُ لديك المكرمات ، وتَشفع إليك الذمَامات حتى تبلغَ الغاية التي يِؤمَنُ زوالها ، وتصل إلى دار القرار التي أعدَها الله تعالى لنظرائك من أهْل الزّلفَى عنده والمكانة منه ، ولا زال ملكك وسلطانك باقيين بقاءَ الشمسِ والقمر ، زائِدَيْن زيادة النجوم والأنْهَار ، حتى تستوي أقْطَارُ الأرض كلّها في علو قَدْرِك عليها ، ونفاذِ أمْرِك فيها ، فقد أشْرَقَ علينا من ضياء نورك ما عمنا عمومَ ضياء الصبح ، ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأَنفُسِنا اتصال النسيم ؛ فأصبحت قد جمع اللهُ بك الأيدي بعد افتراقها ، وأَلف القلوبَ بعد توقد نيرانها ، ففضلُكَ الذي لا يُدْركُ بوصف ، ولا يُحدُ بنَعْت .
فقال أردشير : طوبَى للممدوح إذا كان للمدح مستَحِقاً ، وللداعي إذا كان للإجابة أهلاً .
وقيل لأردشير : أيها الملك الرفيع الذي حَلَب العصور ، وجرّب الدهور ، أي الكنوزِ أعْظمُ قدراً ؟ قال : العلم الذي خفّ محمله ، فثقُلَتْ مفارقته ، وكَثُرَتْ مرافقته ، وخَفيَ مكانه ، فأُمنَ من السَّرَقِ عليه ؛ فهو في الملأ جَمَال ، وفي الوَحدَة أنيس ، يرأسُ به الْخَسيس ، ولا يمكن حاسدك عليه انتقاله عنك . قيل له : فالمال ؟ قال : ليس كذلك . مَحمْلُه ثقِيل ، والهمُّ به طَويل ؛ إن كنت في مَلأ شغلك الفِكْرُ فيه ، وإن كنت في خَلْوَة أتعبتك حراسته .
سير الملوك وأخبارهم
قال الجاحظ : حدّثني الفضل بن سهل قال : كانت رسلُ الملوك إذا جاءت بالهدايا يُجْعَلُ اختلافهم إليّ ، فتكون المؤامراتُ فيما معهم من ديواني ، فكنت أسأًلُ رَجُلاً رجلاً منهم عن سِيَر ملوكهم ، وأخبار عظمائهم ، فسألتُ رسولَ ملك الروم عن سيرة ملكهم ، فقال : بَذَلَ عُرفَه ، وجرَّدَ سَيْفَه ، فاجتمعت عليه القلوبُ ركبةً ورهبةً ، لا ينظر جُنده ، ولا يُحْرج رعيته ؛ سَهْلُ النَّوال ، حَزْن النكال ، الرجاءُ والخوف معقودان في يده .
قلت : فكيف حُكْمُه ؟ فقال : يردُ الظّلم ، ويرْدَع الظالم ، ويعْطِي كل ذي حق حقه ؛ فالرعية اثنان : راضِ ، ومغتبط .
قلت : فكيف هيبَتُهم له ؟ قال : يتَصور في القلوب ، فتُغْضِي له العيون .قال : فنظر رسولُ ملك الحبشة إلى إصْغائي إليه ، وإقبالي عليه ، فسأل الترجمان : ما الذي يقولُه الروميّ ؟ قال : يَذكُرُ ملكهم ، ويصِفُ سيرتَه ؛ فتكلم مع الترجمان بشيء ، فقال لي الترجمان : إنه يقول : إن ملِكَهم ذو أناة عند القُدرة ، وذو حلم عند الغضبِ ، وذو سَطْوة عند المغالبة ، وذو عقوبةٍ عند الاجْتِرَام ، قد كسا رعيَّته جميلَ نِعْمَته ، وخوفهم عسف نِقْمَته ؛ فهم يتراءونه رَأيَ الهلال خيالاً ، ويخافونه مخافةَ الموتِ نكالاً ، وَسِعَهم عَدْلُه ، ورَدعَتْهم سَطْوَته ، فلا تَمتَهِنْهُ مَزْحَة ، ولا تؤمنه غَفلة ؛ إذا أعطى أوسع ، وإذا عاقب أوجع ؛ فالناس اثنان : راجٍ وخائف ، فلا الراجي خائِبُ الأمل ، ولا الخائف بعيد الأجل . قلت : فكيف هيبتهم له ؟ قال : لا ترفعُ إليه العيون أجفانَها ، ولا تتبِعُهُ الأبصارُ إنسانَهَا ، كأن رعيتَه قَطاً رفرفت عليها صقور صوائد .
فحدثْتُ المأمون بهذين الحديثين فقال : كم قيمتُهما عندك ؟ قلت : ألفا درهم . قال : يا فضل ؛ إن قيمتهما عندي أكْثَرُ من الخلافة ، أما عرفت قول علي بن أبي طالب ، كرَم اللّه وجهه : قيمةُ كلِّ امرئً ما يحسن . أفتعرِفُ أحداً من الخطباء البُلَغاء يُحْسِنُ أن يصف أحداً من خلفاء اللّه الراشدين المهديين بهذه الصّفة ؟ قلت : لا . قال : فقد أمَرْت لهما بعشرين ألف دينار ، واجعل الْعذْر مادة بيني وبينهما في الجائزة على المعوز ؛ فلولا حقوقُ الإسلام وأهله لرأيْتُ إعطاءهما ما في بيتِ مال الخاصة والعامة دون ما يستحقانِه .
وقال الجاحظ : حدثني حميد بن عطاء قال : كنتُ عند الفَضْل بن سهل ، وعنده رسولُ ملك الخزَرِ ، وهو يحدَثنا عن أُخْتٍ لملكهم ، قال : أصابتنا سَنَة احتدم شِوَاظُها علينا بحر المصائب ، وصنوفِ الآفاتِ ؛ ففَزع الناسُ إلى الملك ، فلم يدرِ ما يُجِيبُهم به ، فقالت أخته : أيها الملك ، إن الخوفَ لله خُلُق لا يخْلُقُ جديدهُ ، وسبب لا يمتهن عزيزه ، وهو دالّ المَلِكِ على اسْتِصْلاَح رَعِيَّته ، وزاجِرُهُ عن استفسادها ، وقد فَزِعَتْ إليك رعيتُك بفضل العَجْزِ عن الالتجاء إلى مَنْ لا تزيدُه الإساءَة إلى خلقه عِزاً ، ولا يَنقُصه العَوْدُ بالإحسان إليهم مُلْكاً ، وما أحد أوْلَى بحفظ الوصية من الموصي ، ولا بركوب الدلالة من الدال ، ولا بِحُسْنِ الرعاية من الراعي . ولم تزل في نعمة لم تغبرها نِقْمَة ، وفي رِضاً لم يكدره سُخْط ، إلى أن جَرَى القَدَرُ بما عَمي عنه البصر ، وذُهِل عنه الْحَذَر ، فسلب الموهوب ، والواهب هو السالب ؛ فعُدْ إليه بشُكْرِ النعم ، وعُذْ بِه من فظيع النقم ، فمتى تَنْسَهُ يَنسَك ، ولا تجعلن الحياء من التذلل للمعزّ المذِل ستراً بيْنك وبين رعيتك ، فتستحق مذمومَ العاقبة ؛ ولكن مُرْهُم ونفسك بصرف القلوب إلى الإقرار له بكُنْهِ القدرة ، وبتذلل الألْسُن في الدعاء بمَحْضِ الشُكْرِ له ؛ فإن الملك ربما عاقب عَبده ليرجعه عن سَيئ فِعلإلى صالح عمل ، أو لَيْبَعثه على دائبِ شُكْرٍ ليُحْرِز به فَضْلَ أجْر .
فأمرها الملك أن تقومَ فيهم فتنذرهم بهذا الكلام ، ففعلت ، فرجع القومُ وقد علم الله منهم قبولَ الوَعْظِ في الأمر والنهي ؛ فحال عليهم الْحَول وما منهم مفتقد نِعمةٍ كان سُلِبَها ، وتواترت عليهم الزيادات بجميل الصنع ؛ فاعترف لها الملك بالفضل ، فقلدها المُلْك ؛ فاجتمعت الرعية لها على الطاعة في المكروه والمحبوب .
قال : وهذا وهم أعداء الله تعالى ، وضرائر نِعمته ، ومستوجبو نِقْمَته ، أعادَ لهم بالشكر ما أرادوا ، وأعطاهم بالإقرار له بكُنْه قدرته ما تمنوا ، فكيف بمن يجمَعُه على الشكر نورانِ اثنان : قرآن منزل ، ونبي مرسل ، لو صدقت النياتُ ، واجتمعت على الافتقار إليه الطلبات ؛ لكنهم أنكروا ما عرفوا ، وجهلوا ما علموا ، فانْقَلبَ جدُهم هَزلاً ، وسكوتُهم خَبلاً .
قطعة صادرة من أقوال الملوك دالة على فضل كرمهم وبعد هممهم
غضِب كسرى أنو شروان على بعض مَرَازبته ، فقال : يُحَطُ عن مرتبته ، ولا ينقص من صِلَته ؛ فإن الملوك تؤدب بالهجران ، ولا تعاقِب بالحِرْمَان .
واصطنع أنو شروان رجلاً فقيل له : إنه لا قديمَ له . قال : اصطناعُنا إياه شرفه . قال معاوية ، رضي الله عنه : نحن الزمان ، من رَفَعْناهُ ارتفع ، ومن وضعْناه اتضع . وكان يقول : إني لآنفُ من أن يكون في الأرض جَهْل لا يسَعُهُ حِلْمِي ، وذَنْبٌ لا يسَعُهُ عفوي ، وحاجة لا يَسَعُها جُودي .
عبد الملك بن مروان - أفضل الناس مَن تَوَاضَعَ عن رفعة ، وعَفا عن قُدْرَة ؛ وأنْصَف عن قُوة .
زياد - استشفعوا لِمَن وراءكم ؛ فليس كل أحدٍ يصلُ إلى السلطان ، ولا كل من وصل إليه يَقدِرُ على كلامه .
المهلب - عَجبتُ لمن يشتري المماليك بماله ، كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه وقد روى هذا لابن المبارك . وقال لبنيه : يا بني ، أحسن ثيابكم ما كان على غيركم .
قال أبو تمام الطائي يَستهدِي فَرواً ، وعرض بقول المهلب : الطويل :
فهل أنتَ مُهدِيه بمثل شكيره . . . من الشُكر يعلو مُصعِداً ويصوبُ ؟فأنت العليمُ الطَّبُّ أيُّ وصيّةِ . . . بها كان أوْصَى في الثياب المهلَّبُ
يزيد بن المهلب - استكْثِرُوا من الحمد ؛ فإنّ الذمَّ قلَّ من ينجُو منه .
السفاح - ما أقْبَح بنا أن تكون الدنيا لنا وأولياؤُنا خالُون من أثرها .
المأمون - إنما تُطْلَبُ الدنيا لتُملك ، فإذا مُلكت فلتوهب . وقال : إنما يتكثَّر بالذهب والفضة من يَقلاَن عنده .
الحسن بن سهل - الأطراف مَنَازِل الأشراف ؛ يتناولون ما يزيدون بالقُدْرَة ، وينتابهم من يريدهم بالحاجَةِ . وتعرض له رجل فقال له : من أنت ؟ قال : أنا الذي أحسنتَ إليَّ يوم كذا وكذا . فقال : مرحباً بمن توسَل إلينا بنا .
ولما أراد المعتصم أنْ يشرف أشناس التركي بعقب فَتْح الخزمية أمر أصحابَ المراتب بالترجّل إليه ، فترحل إليه الحسنُ بن سهل ، فنظر إليه حاجبُه يَمشي ويتعثّر في مشيه ، فبكى ، فقال : ما يبكيك ؟ إن الملوك شرّفتنا وشرفت بنا .
ومن كلام أهل العصر
للأمير شمس المعالي قابوس بن وَشْمَكير - مَن أقْعَدَتْهُ نكاية الأيام أقامته إغاثة الكرام ؛ ومن ألبسه الليلُ ثوب ظلماته نزعَه النهار عنه بضِيائه .
وله : ابتناءُ المناقب باحتمال المتاعب ، وإحرازُ الذكر الجميل بالسَّعْي في الخطب الجليل .
الصاحب بن عباد : المتقارب :
وقائلةٍ : لِمْ عَرَتْك الهمومُ . . . وأَمْرُك مُمْتثَل في الأُمَمْ ؟
فقلت : ذَرِيني لما أشتكي . . . فإنَ الهمومَ بِقدرِ الهِمَمْأبو الطيب المتنبي : البسيط :
أَفاضِلُ الناس أغْرَاضٌ لِذَا الزمَنِ . . . يَخْلُو من الهَمَ أخْلاهُمْ من الْفطَنِ
أبو الفتح البستي : الرمل :
صاحبُ السلطان لا بُدَ له . . . من هُمُوم تَعْتَرِيهِ وغُمَمْ
والَذِي يَركَبُ بحْراً سَيَرى . . . قُحَم الأهْوالِ من بَعْدِ قُحَمْ
ومن كلام الملوك الجاري مجرى الأمثال
أردشير - إذا رغبت الملوكُ عن العَدْلِ رغبت الرعيةُ عن الطاعة .
أفريدون - الأيام صحائفُ آجالِكم ، فخلِّدُوها أحْسَن أعمالِكم .
وقيلَ للإسكندر : ما بالُ تعظيمك لمؤدِّبك أكثر من تعظيمك لأبيك ؟ قال : لأنَ أبي سبَبُ حياتي الفانية ومؤدِّبي سببُ حياتي الباقية .
ودخل محمد بن زياد مؤدِّب الواثق على الواثق ، فأظهر إكرامه ، وأكثر إعظامَه ، فقيل له : مَنْ هذا أيا أمير المؤمنين ؟ قال هذا أولُ من فَتق لساني بِذِكْرِ اللَهِ ، وأدْناني من رحمة اللّه .
وأُشِير على الإسكندر بتبييت الفرس ، فقال : لا أجعل غلبتي سَرِقة . وقيل له : لو تزوَّجت بنت دارا ؟ فقال : لا تغلُبني امرأةٌ غلبتُ أباها .
أنوشروان - الملك إذا كثر مالُه مما يأخذ من رعيته كان كمن يعمر سَطْحَ بيته بما يَقْتَلِعه من قواعد بُنْيانه .
أبرويز - أطِعْ مَنْ فوقك يطعك مَن دونك .
السفاح - إن من أدنَى الناس ووضعائهم من عدَ البخل حَزْماً ، والعفو ذُلاً . وكان يقول : إذا كان الحلم مَفْسَدَة كان العفوُ معْجَزة ، والصبرُ حَسن إلاّ على ما أوقع بالدّين ، وأوْهَى السلطان ؛ والأناةُ محمودة إلاّ عند إمكان الفرصة .وقد قال ابن المعتز : الكامل :
كم فرصةٍ ذَهَبتْ فعادَتْ غُصّةً . . . تُشْجِي بطُول تَلَهُفِ وتَنَدُّمِ
ولما عزم المنصور على الفَتْك بأبي مسلم فزع من ذلك عيسى بن موسى ، فكتب إليه : الطويل :
إذا كنت ذَا رَأي فكن ذا تَدَبرِ . . . فإن فسادَ الرَأي أَنْ تتعجَّلاَ فأجابه المنصور : الطويل :
إذا كنتَ ذَا رأي فكن ذا عزيمةٍ . . . فإنَ فسادَ الرأي أن تتردَدا
ولا تُمْهِل الأعداء يوماً بغُدْوة . . . وبادِرْهُمُ أن يملكوا مِثْلها غَدَا
وهذا في موضعه كقول الإمام علي ، كرّم الله وجهه : من فكَر في العواقب لم يشجع .
وقال سعد بن ناشب فأفرط : الطويل :
عليكم بداري فاهدموها ؛ فإنها . . . تُرَاثُ كريمٍ لا يَخَافُ العواقبا
إذا هَمَّ ألقى بين عينيه عَزْمَهُ . . . وكبَ عن ذِكْرِ العواقب جانبا
ولم يَسْتَشِرْ في رأيه غيرَ نفسِهِ . . . ولم يَرْضَ إلاَّ قائمَ السَيْفِ صاحبا
سأغسل عنيّ العارَ بالسيف جالباً . . . عليَّ قضاءُ اللَّه ما كان جالِبا
ويَصْغُرُ في عيني تِلادِي إذا انثنتْ . . . يميني بإدْرَاكِ الذي كُنْتُ طالِبا
وكان سَعْد من مَرَدَةِ العرب وشياطين الإنس ، وفيه يقول الشاعر : الطويل :
وكيف يُفيقُ الدهرَ سَعْدُ بن ناشبٍ . . . وشَيْطانُهُ عند الأهِلَةِ يُصْرَعُ ؟
كتب مروان بنُ محمد الجَعْدِي إلى عبد الله بن علي يسأله حفظَ حرمه ، فقال له : الحقّ لنا في دَمِكَ ، وعلينا في حُرْمِك .وقال الرشيد لإسماعيل بن صبيح : إياك والدالة فإنها تفسد حرمة ، ومنها أتي البرامكة .
وقال المأمون : الملوك تَحتَمِلُ كلَّ شيء إلا ثلاثاً : إفْشَاءَ السر ، والقدح في الملك ، والتعرّض للحُرَم .
المعتصم : إذا نُصِر الهوى بطل الرَأي .
المنتصر - لَذَّةُ العَفْوِ أَطْيَبُ من لذة التَشَفي ؛ وذلك أن لذةَ العَفْوِ يلحقها حَمد العاقبة ، ولذّةُ التشفّي يلحقها ذم الندم .
والمنتصر يقول عن تجربة ، لأنه قتل أباه المتوكل ، والأمْرُ في ذلك أَشْهَرُ من أن يُذكَرَ ، ولكني أُلْمِعُ منه بالسير : كان المتوكِّلُ قد عَقَدَ لولده المنتصر والمعتزّ والمؤيد ولايةَ العهد ، ثم تغيّر على المنتصر دون أَخَوَيْهِ ، وكان يسميه المُنتظِر ، ويقول له : أنتَ تتمنى موتي ، وتنتظر وَقتي ويأمرُ الندماء أن يعبثوا به ، إلى أن أوْغَر صدْره ، وأقلَّ صبره ؛ فلما كانت ليلة الأربعاء لثلاثِ خَلْونَ من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين كان المتوكّلُ يَشْرَب مع الفَتْحِ في قصره المعروف بالجعفري ، ومعه جماعة من الندماء والمغنيّن ، وكأن المنتصر معهم ، فلما انصرمت ثلاثُ ساعاتٍ من الليل قال لزرَافَة التركي : ألا تَسَعُني ساعةً حتى أشكو إليك ما يمرّ بي ؟ قال : بلى ، وجعل يماطله ويطاوله ، وغَلّقَ بُغا الشرابي الأبوابَ كلَّها إلاَّ باب الماء ، ومنه دخل الذين قتلوه ، فأوّل مَنْ ضربه باغر التركي ضربة قطع بها حبل عاتقه ، وتلقاه الفَتْح بنفسه فأكَبّ عليه ، فقُتِلا جميعاً ، وبويع المنتصر من ساعته ، وكانت مدّة المنتصر في الخلافة مدة شيرويه ابن كسرى - حين قتل أباه - ستة أشهر .
وقال إبراهيم بن أحمد الأسدي يرثي المتوكّل : الخفيف :
هكذا فَلْتَكُنْ مَنايا الكِرامِ . . . بين نايٍ ومِزْهَرٍ ومُدَامِ
بين كأسين أرْوَتَاه جميعاً . . . كأس لذاته وكأس الحِمام
يَقظٌ في السرور حتى أتاه قدر اللَهُ حَتْفُه في المنامِوالمنايَا مَراتب يتفاضل . . . نَ وبالمُرهَفات مَوتُ الكرام
لم يزرْ نفسه رسولُ المنايا . . . بصنوفِ الأوْجاع والأسقَام
هابَه مُعْلناً فدَب إليه . . . في سُتُور الدُّجَى بحدِّ الحسَام
أخذ هذا المعنى عبد الكريم بن إبراهيم التيمي ، فقال يرثي عيسى بن خلف ، صاحب خراج المغرب ، وكان قد تناول دواءً فمات بسببه : الطويل :
منايا سدَدْتَ الطرْقَ عنها ولْم تَدع . . . لها مِن ثنايا شاهِق مُتَطلعا
فلماّ رأت سُورَ المهابة دونها . . . عليك ولما لم تَجِدْ فيك مَطْمَعا
ترقّت بأسبابٍ لِطَافٍ ولم تكد . . . توَاجه موفور الجَلالَةِ أروَعا
فجاءتك في سِرَ الدواء خَفِيَّةً . . . على حينِ لم تَحذَر لداء تَوَقُعا
فلم أر ما لا َيُتّقى مثل سَهْمها . . . ولا مثلها لم تخْشَ كيداً فترجعا وقد رثاه البحتري ويزيد المهلبي بمرثيتين من أَجودِ ما قيل في معناهما ، وكانا حاضِرَيْن ليلة قَتْله . فاختفى أحدُهما في طيّ الباب ، والآخر في قناة الشاذَرْوَان ؛ فمن قصيدة البحتري : الطويل :
تَغَيَّرَ حسنُ الجْعَفَرِيِّ وأُنْسه . . . وقُوِّض بادي الجعفريِّ وحاضرهْ
تحَمَلَ عنه ساكنوهُ فُجَاءةً . . . فآضت سواءً دُورُه ومقابرُه
ولم أرَ مثل القَصرِ إذ رِيعَ سِرْبُهُ . . . وإذ ذُعِرَتْ أطلاؤه وجآذِرْه
وإذْ صِيحَ فيه بالرّحيل فَهُتِّكَتْ . . . على عجَل أَسْتَارُهُ وستائرُهْ
إذا نحن زُرْناه أجَدَ لنا الأَسَى . . . وقد كان قبلَ اليوم يُبْهَجُ زائرُهْ
فأين عميدُ الناسِ في كل نَوْبَةٍ . . . تَنُوبُ وناهِي الدهر فيهم وآمرُهْ
تَخَفَّى لهُ مُغتَالُهُ تحتَ غِرَّةٍ . . . وأولى لمن يغْتَالُه لو يجَاهِرُهْ
صريع تقاضاه السيوفُ حُشاشةً . . . يَجُودُ بها والموتُ حُمْرٌ أظافِرُهْ
حَرام عليَّ الراحُ بَعدَكَ أو أَرى . . . دماً بدم يجري على الأرض مائِرُهْ
وهلَ يُرْتَجى أن يَطْلُبَ الدمَ طالبٌ . . . مَدَى الدهر والموتورُ بالدم وَاتِرُهْفلا ملِّيَ الباقي تُرَاثَ الذي مضى . . . ولا حمّلت ذاك الدعاءَ مَنَابرهْ
وهي طويلةٌ ، وكان أبو العباس ثعلب يقول فيها : ما قيلت هاشمية أحسن منها ، وقد صرّح فيها تصريحَ مَنْ أذهلته المصائبُ عن تخوّف العواقب .
وقد كان البحتري يرتاح في كثير من شعره إلى ذكره وذكر الفتح بن خاقان ، فمن ذلك قوله لبعض من يمدحه : الطويل :
تداركَني الإحسانُ منكَ ، ونالني . . . على فاقةٍ ذاك النَّدى والتطوُلُ
ودافَعْتَ عني حين لا الفَتْحُ يُرْتَجَى . . . لدفْعِ الأذى عني ولا المتوكّلُ
وقال : الطويل :
مضى جعفرٌ والفَتْحُ بين مُوَسَّدٍ . . . وبين قتيل في الدماء مضَرَج
أأطْلُبُ أنْصاراً على الدهر بعدما . . . ثَوَى منهما في التربِ أوْسِي وخَزْرَجي ؟
وقال في غلام له : الطويل :
عسى آيسٌ من رَجْعَةِ الوصل يوصَلُ . . . ودَهْرٌ تَوَلَّى بالأحبَّةِ يُقْبِلُ
أياً سكناً فاتَ الفراقَ بنفسه . . . وحالَ التَّعادي دونه والتزيلُ
أتعجبُ لَّما يَغُلْ جِسْمي الضَّنا . . . ولم يخترمْ نفسي الحِمامُ المُعَجَّلُ ؟
فَقَبْلَكَ بانَ الفَتْحُ منِّي مودِّعاً . . . وفارقني شَفْعاً له المتوكّلفما بَلَغَ الدّمعُ الذي كنتُ أرتجي . . . ولا فَعَلَ الوجدُ الذي خِلْتُ يَفْعَلُ
وقال أبو خالد يزيد بن محمد المهلبي في قصيدة أولها : البسيط :
لا وَجْدَ إلاَ أراه دُونَ ما أجدُ . . . ولا كَمَنْ فَقدَتْ عَيْنَاي مفتقَدُ
يقول فيها :
لا يَبْعَدَنْ هالك كانت مَنِيّتُهُ . . . كما هَوَى من عضاهِ الزُبية الأَسَدُ
جاءت مَنِيتُهُ والعينُ هادِية . . . هلاَ أتتْه المنايا والقنَا قُصُدُ ؟
فخرَ فوق سرير الملك مُنْجَدِلاً . . . لم يَحمِهِ مُلْكُه لمّا انْقَضى الأمَدُ
لا يدفع الناسُ ضَيْماً بعد ليلتهم . . . إذ لا يهزُ إلى الجاني عليك يَدُ
علَتْك أسياف مَنْ لا دونَه أحدٌ . . . وليس فوقك إلاَّ الواحدُ الصَمَدُ
إذا بكيتُ فإن الدمعَ مُنهَمِلٌ . . . وإن رثَيْتُ فإن الشعرَ مُطَرِدُ
إنَا فَقَدْناكَ حتى لا اصطبارَ لنا . . . وماتَ قَبْلك أقوامٌ فما فُقِدُوا
قد كنتُ أُشرِفُ في مالي فتُخْلِفُهُ . . . فعلمَتْني الليالي كيف أقْتَصِدُ
وقال فيها يذكر الأتراك ، ويحضّ على اصطناع العرب :
لما اعتقدتم أُناساً لا حِفَاظَ لهم . . . ضِعْتم وضيعتمُ مَنْ كان يُعتَقدُ
ولو جعلتم على الأحرارِ نعمَتكُم . . . حمتكم الذَادة المنسوبة الحُشُدُ قوم همُ الأصلُ والأسماءُ تجمعكم . . . والدينُ والمجدُ والأرحامُ والبلدُ
إن العبيدَ إذا أذللتهم صلحُوا . . . على الهوَان وإنْ أكرمتهم فَسَدُوا
وقال أبو حية النميري : الطويل :
رَمَتْهُ فتاة من ربيعة عامرٍ . . . نَؤوم الضحى في مَأتمٍ أي مأْتمِ
فقلن لها في السر : نفْدِيك لا يَرُح . . . صحيحاً وإلاَ تقتُليهِ فألْمِمِي
فأَلْقَت قِناعاً دونه الشمسُ واتُّقَتْ . . . بأحسَن موصولَين كف ومعصموقالت فلمّا أفرَغتْ في فؤاده . . . وعينيه منها السحرَ قالت له نَمِ
فأصبح لا يَدْرِي أفي طلعة الضحى . . . تَرَوَح أم داجٍ من الليل مُظْلِمِ
أخذ قوله : فألقت قناعاً دونه الشمس من قول النابغة الذبياني : الكامل :
قامت تَرَاءى بين سَجفَي كِلَةٍ . . . كالشمس يومَ طلوعِها بالأسعُدِ
سَقَطَ النَصِيفُ ولم تُرِد إسقاطَه . . . فَتناولته واتقتْنا باليدِ
وقال أبو حية يرثي سلمة بن عياش : الطويل :
كأنَ أبا حفص فتى البَأس لم يُجَبْ . . . به الليل والبِيض القِلاَص النجائبُ
إلى الغاية القُصوَى ، ولم تهد فتيةً . . . كراماً وتخطوه الخطوبُ النوائبُ
ويُعْمِلُ عتَاقَ العيِسِ حتى كأنها . . . إذا وُضِعَتْ عنها الْعَلاَيا المشاجب
بعيد مثاني الهم يُمْسِي ومالُه . . . سوى الله والعَضْبِ السُرَيجْي صاحب
يَرُومُ جسيمات العُلا فينالها . . . فتى في جسيمات المكارم راغبُ
فإن يمسِ وَحْشاً بابُه فَلربُما . . . تَوَاتَرُ أفواجاً إليه المواكب
يحيون بساماً كأنَّ جبينهُ . . . هِلال بَدَا وانجاب عنه السحائبُ
وما غائب مَنْ غاب يُرجَى إيابهُ . . . ولكنه من ضُمِّنَ اللَحْدَ غائبُ
وزعم الصولي أن أبا حية إنما قالها في محمد بن سليمان بن علي بن عبيد الله بن العباس . وكان أبو حية جَيد الطبع ، مألوفَ الكلام ، رقيق حواشي الشعر .
وسُئِلَ الأصمعي عن قيس بن الملوح المجنون ، فقال : لم يكن مجنوناً ، وإنما كانت به لُوثة كلوثة أبي حَية ، وهو القائل : الطويل :
رمتني وسِتْرُ اللَّه بيني وبينها . . . عشية أحجارِ الكِناسِ رَمِيمُ
رميمُ التي قالت لجارات بيتها : . . . ضَمِنْتُ لكم ألا يَزَالَ يهيمُألا رُبَّ يوم رمتْني رميتها . . . ولكنّ عهدي بالنضار قديم
فيا عجباً من قاتلِ لي أودُّهُ . . . أشَاطَ دَمِي شخصٌ عليَ كريم
يرى الناسُ أني قد سَلَوْتُ ، وإنني . . . لمدنَف أحْناءِ الضلوع سَقيم
وأنشدني إسحاق بن إبراهيم المَوصلي في مثله ، ولم يسَمَّ قائله : الطويل :
هل الأُدْم كالآَرام والزُّهرُ كالدُّمَى . . . مُعاوِدَتي أيامُهنَّ الصوالح
زمانَ سِلاحي بينهنّ شبيبتي . . . لها سائفٌ من حسنهن ورامحُ
فأقسمْنَ لا يسقينني قَطْرَ مُزنَةٍ . . . لِشَيْبِي ولو سَالَتْ بهن الأباطحُ
وقال هارون بن علي بن يحيى المنجِّم : مجزوء الكامل :
الغانيات عهودُهُ . . . نَّ إلى انصرام وانْقِضَابِ
مَنْ شابَ شِبْنَ له المودَّ . . . ةَ بالخديعة والكِذابِ
فانْعَمْ بهنَّ وزَنْدُ سِنِّ . . . كَ في الشبيبة غيرُ خابي
ما دُمْتَ في رَوْق الصِّبَا . . . وغصُونه الخُضر الرِّطابِ
فافْخَرْ بأيام الصِّبا . . . واخْلَع عِذَارَكَ في التصابي
وَاعْطِ الشبابَ نصيبهُ . . . ما دُمتَ تعذر بالشبابِ
وقال أشجع بن عمرو السلمي : الطويل :
وما ليَ لا أُعْطي الشبابَ نصيبهُ . . . وغصناهُ يهتَزَّانِ في عُوده الرَّطْبِ
رأيتُ الليالي ينتهبن شبيبتي . . . فأسرعتُ باللذات في ذلك النَّهْبِفإنَّ بنات الدَّهر يخلسنَ لذّتي . . . فقد جُزن سَلمي وانتهين إلى حَرْبي
وقد حوَّلَت حالي الليالي وأسرَجت . . . على الرأس أمثال الفتيل من العَطْب
ومَوْت الفتى خيرٌ له من حياته . . . إذا كان ذا حالين يَصبُو ولا يُصبي
وقال آخر : مجزوء الكامل :
ما العَيش إلا أن . . . تحب وأن يحبك مَن تُحبه
فِقَرّ تتصل بهذه الأبيات ، وفي وصف الشباب
أطاع الشبابَ وغِرَّته ، وأجاب الصبا وشرَتَهُ ، جرَّ إزارَ الصبا ، وأذَالَ ذيولَ الهوى ، ورَكَضَ في ميدان التصابي ، وجنى ثمرات الملاهي . هو في إقتبال شبَابه ، وحداثة أترابه ، ورَيْعَان عمره ، وعُنفوان أمره . هو في إبان شبابه واعتداله وريعان إقباله واقْتباله . بعثَه على ذَلك أشَر الصبا ، ولينَ الغصنِ ، وشَرْخُ الشبيبة ، وسكر الحَدَاثة ، فَتي السن ، رطيب الغصنِ ، عمره في إقباله ، ونشاطُه في استقباله ، وشبابُه في اقتباله ، وماؤه بحاله . فلانّ في حكم الأطفال ، الذين لم يَعضّوا على نَوَاجِذ الرجال . هو في عنفَوان شبيبةٍ تُخاف سقطاتُها وهَفواتُها ، ولا يُؤمن جَيحاتها ونَزواتُها . هو في سكرَى الشباب والشراب ، وبين نزوات الشبان ، ونزغَات الشيطان . شبابُه أَعمَى عن الرشد ، أصمُّ عن العَذل ، قد لبَّى دَاعِيَ هَواه ، وانغمس في لُجَّةِ صِبَاه . قد هَجَم بسكْرِ الحداثَة على سكرات الحوادث ، يَجْرِي إلى الصِّبا جَرْيَ الصَبَا . فلان غُفْلٌ من سِمةِ التَّجْرِبة ، جامحٌ في عِذار الغَفْلَة ، صَعْبُ المراس على لجام العظَة . هو مِنْ سلطان الصِّبا في النَّوْبَة الأولى . قد خلع عِذَاره ومِقوَده ، وألْقَى إلى البطالة باعَه ويَدَه . هو بين خُمَار الغَدَاة وسكر العَشِي لا يعرف الصَّحو ، ولا يفارق اللهو . فلان لا يفيق ، ولا يذكر التوفيق . هو بين غرَرِ الشباب ، وغُرَر الأحباب .
ويتعلّق بهذه الألفاظ ألفاظ لهم في نجابة الشباب وترشحهم للمعالي
قد جمع نَضَارة الشباب إلى أُبّهة المشيب ، وهو على حدوث ميلادِه وقُرْب إسناده شيخ قَدْرٍ وَهَيْبَة ، وإن لم يكن شيخَ سِنٍّ وشَيْبة . هو بين شباب مُقْتبل ، وعقل مكْتَمِل ، قد لبس بُرْدَ شبابه على عَقْل كهل ، وَرَأي جزل ، وَمَنْطِق فصل . للدهر فيه مقاصد ، وللأيام فيهمَواعد ، أرى له عي فصل ضمانِ الأيام وَدائَع الحظوظ والأًقسام ، تَبَاشِيرَ نجح ، ومَخايلَ نضْرٍ وفتح . قد استكَمل قوَّة الفَضل ، ولم يتكامَل له سِنّ الكَهْلِ . ما زالت مَخَايِلُه وليداً وناشئاً ، وشمائله صغِيراً ويافعاً ، نواطِق بالحسن عنه وضوامِنَ النجحِ فيه قد سما إلى مراتب أعْيَان الرجال ، التي لا تدرك إلاَ مع الكمال والاكتهال . حمِدَت عزائمه ، قبل أن حُلَت تمائمه ؛ وشهِدت مكرماته ، قبل أن تدرجَ لِذَاته .
وقال البحتري : البسيط :
لا تنظرن إلى العباس من صغر . . . في السن وانظر إلى المجد الذي شَادَا
إن النجوم نجومَ الأفقِ أصغرها . . . في العين أذهبها في الجوَ إصْعَادا
وقال آخر : الوافر :
رأيت العقل لم يكن انتهاباً . . . ولم يقسَم على قَدرِ السنينا
فلو أن السنين تقسَمته . . . حوى الآباءُ أنصبةَ البنينا
وقال الفضل بن جعفر الكاتب : الطويل :
فإن خلّفته السن فالعَقلُ بالغ . . . به رُتْبَةَ الكَهْلِ المؤهَل للمَجْدِ
فقد كان يحْيَ أُوتِيَ الْحُكْم قبله . . . صبِياً وعيسى كلَم الناسَ في المهْدِ
وكان أبو حيَّة كثير الرواية عن الفرزدق ، وعُمَر حتى التقى بابن مناذر فاستنشده شعره ، فأنشده أبو حية : الطويل :
ألاَ حَيِّ من أجل الحبيب المَغَانيا . . . لبِسْنَ البِلى مِما لَبِسْنَ اللّياليا
إذا ما تَقَاضى المرءَ يومٌ وليلة . . . تقاضاه شيءٌ لا يملّ التقَاضيا
حَنتكَ الليالي بعدما كنت مرةً . . . سَوِيَ الْعَصَا لو كُنَ يُبْقِينَ باقيا
فقال ابن مناذر : أوَ شعرٌ هذا ؟ فقال أبو حيّة : ما في شعري عيب ، غير أنك تسمعه .
وفي هذه القصيدة يقول أبو حيّة : الطويل :
ولما أبتْ إلاّ التَّواءَ بِوُدَها . . . وتكَديرَها الشرْبَ الذي كان صافيا شربتُ برَنْقٍ مِنْ هَوَاها مُكَدَّرٍ . . . وكيف يعاف الرَنْقَ من كان صَادِيا ؟وقد قال عَمرُو بن قَميئةَ في معنى قول أبي حية : الكامل :
كانت قَنَاتي لا تَلِينُ لغامزٍ . . . فألانها الإصباحُ والإمْساءُ
ودعوتُ ربي في السلامة جاهداً . . . ليُصِحنِي فإذا السلاَمَةُ داءُ
وقال النّمر بن تولب : الطويل :
يَوَدُ الفتى طولَ السلامة والبَقا . . . فكيف يرى طولَ السلامة يفْعَلُ ؟
يعود الفتى من بَعْدِ حُسنٍ وصحةٍ . . . ينوءُ إذا رَامَ القيام ويُحْمَلُ
وقد روي في الحديث الشريف : ' كفى بالسلامة داءً ' .
وقد أحسن حُمَيد بن ثور في قوله : الطويل :
أرَى بَصَرِي قد رَابَني بعد صِحَةٍ . . . وحَسْبكَ داءً أن تَصح وتَسْلَما
ولن يَلبَثَ العصْران يوم وليلةٌ . . . إذا طلبا أن يدركا ما تيمّما
وهذان البيتان من قصيدة طويلة ، وهي أجود شعر حُمَيد ، ومن أجوَد ما فيها : الطويل :
ومَا هاجَ هذا الشوقَ إلاّ حَمَامَةٌ . . . دَعَتْ ساقَ حُر تَرحَةً وتَرنُمَا
تَروح عليه وَالهاً ثم تَغْتَدِي . . . مولّهَةً تَبغي له الدَهرَ مطْعَمَا
تؤمل منه مُؤْنِساً لانْفرَادِها . . . وتَبكي عليه إنْ زَقَا وتَرَنَّما
كأنَ على إشراقه نورَ خمرةٍ . . . إذ هُوَ مَدَ الجيد منهُ لِيطْعَمافلمَا اكْتَسَى الريشَ السُحامَ ولم تَجِد . . . لها مَعهُ في ساحةِ الحي مجْثَما
تنحَّتْ قريباً فوقَ غُصنٍ تَذَءَّبتْ . . . به الريح صِرْفاً أيّ وجه تَيَمَّما
فأهوى لها صَقْرٌ مُسِفّ فلم يَدَعْ . . . لها وَلَداً إلاّ رِماماً وأعْظُما
فأوْفَتْ على غُصْنٍ ضُحَيًّا ولم تَدعْ . . . لنائحةٍ في نَوْحِها مُتَلوَما
عَجِبْتُ لها أنى يكونُ غِناؤها . . . فصيحاً ولم تَفْغَرْ بمَنْطِقها فما
فلم أر مِثلِي شاقَهُ صَوْتُ مِثْلِها . . . ولا عَرَبيًّا شاقَهُ صَوتُ أعْجَمَا
ومن خبيث الهجاء قولُه في هذه القصيدة يخاطب رجلين بعثهما : الطويل :
وقولا إذا جاوزتُما أَرْضَ عامرٍ . . . وجاوزتما الحيَّيْنِ نَهْداً وخَثْعَما
تريعان مِنْ جَرْمِ بنِ زَيَّانَ أنهم . . . أبوْا أن يريقوا في الهَزاهِزِ مِحْجَمَا
وما هُجِيت جَرْم بأشدَ من هذا ، يريد أنهم لذلتهم لم يَتِروا أحداً فيطالبهم بِذَحْل .
وقال الأصمعي : قيل لبعض الصالحين : كيف حالُك ؛ قال : كيف حالُ من يَفْنَى ببقائه ، ويَسْقَم بسلامَتِه ، ويُؤتى من مَأمنه .
وقال محمود الوراق : الطويل :
يُحِب الفتى طولَ البقاء كأنهُ . . . على ثقةٍ أنَّ البقاءَ بَقَاءُ
إذا ما طوى يوماً طوى اليومُ بَعْضَهويَطْويه إنْ جَن المساء مَساءُ
زيادته في الجسم نقصُ حَيَاته . . . وأنى على نَقْصِ الحياة نماءُ ؟
جديدان لا يَبْقَى الجميعُ عليهما . . . ولا لهما بَعْدَ الجميع بقاءُوقال المتنبي : الطويل :
زيادةُ شَيْبٍ وَهْيَ نَقْصُ زِيادتي . . . وقُوةُ عِشقٍ وَهْيَ مِنْ قُوَّتي ضَعْفُ
وبيت محمود الأخير كقول البحتري : الوافر :
أناةً أيها الفَلك المُدارُ . . . أَنَهْب ما تُصَرّف أم جُبارُ ؟
سَتَفْنَى مثلَ ما تفْني وتَبْلَى . . . كما تُبْلي فيدرَكُ مِنْكَ ثارُ
تُنابُ النائباتُ إذا تناهَتْ . . . ويَدْمُرُ في تَصَرُّفه الدَّمارُ
وما أهْلُ المنازِلِ غَيْر رَكْبٍ . . . مطاياهُمْ رَواحٌ وابْتِكار
ويقول فيها :
لنا في الدَهر آمال طوالٌ . . . نرَجِّيها وأعمارٌ قِصارُ
أما وأبي بني حار بْنِ كعبٍ . . . لقد طَرَدَ الزمانُ بهمْ فساروا
أصاب الدَهْرُ دولةَ آلِ وَهْبٍ . . . ونالَ الليلُ منهم والنهارُ
أعارَهُم رداءَ العِز حتى . . . تقاضاهُمْ فَرَدُوا ما استعاروا وقد كانوا وأوْجُهِهُمْ بُدُور . . . لمبصرِها وأيديهمْ بِحَارُ
أخذ قوله : ستفْنَى مثل ما تُفْنى أبو القاسم بن هانئ فقال : الكامل :
تَفْنى النجومُ الزّهرُ طالِعَةً . . . والنيرانِ : الشَّمْسُ والقمرُ
ولَئِنْ تبَدَتْ في مَطالِعها . . . منظومةً فَلَسوْف تَنتثِرُ
ولئن سعى الفَلَكُ المدارُ بها . . . فلسوف يُسْلِمُها وَيَنْفَطِرُ
وقد استقصى علي بن العباس الرومي المعنى الأول فقال : البسيط :
والدَّهرُ يُبْلي الفتى من حيْثُ يُنْشِئُهُ . . . حتى تَكُرَ عليه لَيلةُ القَرَبِيَغْذُوهُ في كل آنٍ وَهْوَ يأْكُله . . . ويحْتسي نغَباً مِنْهُ على نُغَبِ
يُودي بحالٍ فَحالٍ من شَبيبتهِ . . . تسرّب الماء في مُسْتأنَفِ الكُتَبِ
حَسْب امرئ مِنْ خَنَى دهْرٍ تطاوُلُهُ . . . وإنْ أجم فلَمْ يُنكَبْ ولم يُنَب
في هُدْنَةِ الدَهْرِ كافٍ من وَقائِعِهِ . . . والعمْرُ أقْدَح مِبرَاةً من الوَصَبِ
وقال أيضاً : البسيط :
يَا بَانِي الحِصْنِ أرساه وشَيدَهُ . . . حرزاً لِشِلو من الأعْداء مشجونِ
انظر إلى الدهر هل فاتته بغيتُهُ . . . في مطمح النسر أو في مَسْبَح النونِ
ومن تحصن مَنْخُوباً على وَجَل . . . فإنما حِصَتُه سِجْن لمسجونِ
أشكو إلى الله جَهْلاً قد أضَرَ بنا . . . بل ليس جهلاً ولكنْ عِلْمُ مفتونِ
وقال الطائي : الطويل :
وإن تُبْنَ حيطان عليه فإنما . . . أولئك عُقالاَتُهُ لا مَعاقِلُه
ودخل يحيى بن خالد على الرشيد وقد ابتدأت حاله في التغير ، فأُخبر أنه مشغول ، فرجع ، فبعث إليه الرشيد : خُنْتني فاتهمتني ، فقال : إذا انقَضَت المدة كان الْحَتفُ في الحيلة ، والله ما انصرفتُ إلا تخفيفاً .
أخذه ابن الرومي فقال وقد فصده بعضُ الأطباء ، فزعم أن الفَصدَ زاد في علّته : الكامل :
غلط الطبيبُ عليَ غَلطَةَ مُوردٍ . . . عجزت محالته عن الإصدارِ
والناسُ يَلْحَوْنَ الطبيب ، وإنما . . . غَلَطُ الطبيبِ إصابةُ المقدارِما قيل في الثغر
وقال أبو حية النميري : الطويل :
سَقَتْنِي بكَأْسِ الحبِّ صِرْفاً مروَقاً . . . رِقَاق الثنَايَا عَذْبَةَ المترَنَقِ
وخُمصانَةٍ تَفْتَرُ عن متنشق . . . كنَوْرِ الأقاحي طيب المتذوَق
إذا امتضغت بعد امتتاع من الضحى . . . أنابيبَ من عُودِ الأراك المخلَقِ
سَقَتْ شُعَبَ المسواك ماءَ غمامةٍ . . . فضيضاً بخرْطُوم الرَحيقِ المرَوّقِ
وأنشد الثوري : الطويل :
ترى الدّر منثوراً إذا ما تكلَّمت . . . وكالدر منظوماً إذا لم تكلَّمِ
تُعبِّد أحرارَ القلوبِ بِدلها . . . وتملأُ عَيْنَ الناظر المتوسّمِ
والبيت الأول من هذين كقول البحتري : الطويل :
فمن لؤلؤ تَجْلُوهُ عند ابتسامِها . . . ومن لؤلؤ عند الحديث تُساقِطُهْ
وقد تقدم .
قال أبو الفرج الرياشي : سمعت الأصمعي يقول : أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذي الرمة : الطويل :
وَتَجلُو بِفَرْعٍ من أراكٍ كأنه . . . من العَنْبَرِ الهِنْدِيِّ والمِسْكُ يُصْبَحُ
ذُرَى أقْحُوان وَاجَه الليل وارْتَقَى . . . إليِهِ الندَى من رامةَ المتروَحُهِجان الثنَايا مُعْرِب لو تَبَسَّمَتْ . . . لأَخْرَسَ عنه كاد بالقولِ يُفْصِحُ
ومن قديم هذا المعنى وجيّده قولُ النابغة الذبياني في صفة المتَجَرِّدَةِ امرأةِ النعمان بن المنذر : الكامل :
تَجْلو بقادِمَتَي حَمامةِ أيْكَة . . . بَرَداً أُسِفَ لِثاتُه بالإثمدِ
كالأُقْحُوَان غَدَاةَ غبِّ سمائِه . . . جَفَّت أعاليه وأَسْفَلُه نَدي
زَعَم الهُمَامُ بأنَّ فَاهَا بَارِدٌ . . . عَذبٌ مقَبَّلهُ شَهِيُ المَوْرِد زَعم الهمامُ ولم أَذُقه أنه . . . يشفي بريَّا رِيقها العَطِشُ الصَّدِي
ومن قوله - ولم أذقه أخذ كلّ من أتى بهذا المعنى ، ففتقه الناس بَعْدَهُ ، قال المتوكل الليثي : الوافر :
كأنَّ مدامةً صهباءَ صِرْفاً . . . تَرَقرَقُ بَيْنَ راوُوقٍ ودَنَ
تُعَلُّ بها الثَّنايَا من سليمى . . . فِراسةُ مُقلتي وصَحِيحُ ظَني
وقال بشَّار : البسيط :
يا أطْيَبَ الناس رِيقاً غيرَ مختَبرِ . . . إلاَّ شهادةَ أطرافِ المساويكِ
قد زُرْتِنا مرةً في الدهر واحدةً . . . ثَنِّي ولا تجعليها بَيَضةَ الدَيكِ
يا رَحمةَ اللّه حُلِّي في منازلنا . . . حَسبي برائحة الفرْدَوس مِنْ فيكِ
وقيل لبشار : يا أبا معاذ ، كم بين قولك ، وأنشد هذه الأبيات . وبين أن تقول : الرمل :
إنما عَظْم سُلَيمى خُلَّتي . . . قَصَبُ السُكَرِ لا عَظْمُ الجمل
وإذا قُرَب منها بَصَلٌ . . . غلب المِسكُ على ريح البَصلْفقال : إنما الشاعر المطبوع كالبحر ؛ مرةً يقذِف صَدَفهُ ، ومرةً يقذف جِيَفَه .
وقد تناول هذا المعنى أبو الحسن عليّ بن العباس الرومي من أقْرَب متناول فقال : وكَشَفه بأوْضح عبارة - في صفته لجارية أبي الفضل عبد الملك بن صالح السوداء بعد أن استوفى جميعَ صفاتها وكان قد اقْتُرِح عليه وصْفُها : المنسرح :
وصَفْت فيها الَّذِي هَويت على ال . . . وهم ولم نَخْتَبِرْ ولم نَذقِ
إلاّ بأخبارك التي رُفعَتْ . . . منك إلينا عن ظبية البُرَقِ
حاشا لسَوْداء منظرٍ سكَنَتْ . . . ذراك إلاَ عَنْ مَخْبَرٍ يَقَقِ
وهذه الأبيات من قصيدة له وصف فيها السواد ، واحتجّ بتفضيله على البياض ، حتى أغْلق فيه الباب بعده ، ومنع أن يَقْصد فيه أحد قصده ، إلاَّ كان مقصّر السهم عن غرض الإحسان . وقد نبّه علي بن عبد اللّه بن العباس المسيب على فضائلها ، وأجاد التشبيه ، وكشف عن وجوه الإبداع ، وضروب الاختراع .
وقد مدح الناسُ السوادَ والسّود فأكثروا ؛ فمن جيد ما قالوا فيه قول أبي حفص الشطرنجي : السريع :
أشبَهك المِسكُ وأشبهتِهِ . . . قائمةً في لوْنه قاعِدَهْ
لا شكَّ إذا لَوْنكما واحدٌ . . . أنكما من طينةٍ واحدهْ
فأخذ ابنُ الرومي هذا المعنى ، وأضاف إليه أشياء أخر توسعاً واقتداراً ، فقال :
يذكرك المسك والغَوالي والسّكّ . . . ذوات النسيم والعَبَقِ
وهذه الأشياء وإن كانت ناقِصةً عن المسك ، فهي ممدوحة بالطيب ، غير مستغنى عن ذكرها في التشبيه ، فأما زيادَتُه على جميع مَنْ تعاطى مدح السواد فقوله : المنسرح :
سوداء لم تنتسب إلى برَص الشّ . . . قر ولا كُلْفَةٍ ولا بَهَقوالأبيض الشديد البياض مَعِيب ، وقد دل عليه قوله : المنسرح :
وبَعْض ما فُضّلَ السوادُ بهِ . . . والحق ذو سلّمٍ وذو نَفَقِ
ألا يعيبَ السَّوادَ حَلْكَتُهُ . . . وقد يُعابُ البياضُ بالبَهَقِ
قوله : الحق ذو سُلّم وذو نَفَق أراد أنَّ الحقِّ يتصرًفُ في جهات ، وضَربَ الصعودَ والنزولَ لذلك مثلاً ؛ ثم قصد لوَصْفِ هذه السوداء بالكمال في الصفة ؛ ومن عيب السُودان أن أكفّهم عابسة متشققة ، وأطرافهم ليست بناعمة ليّنة ، وكذلك لا يزال الفَلْحُ في شفاههم ، وهي الشقوق المذمومة الموجودة في أكثر السودان في أوساط الشفاه ، وأيضاً فإن الأسود مهجو بخبث العَرَق ، فنفى هذه الصفات المذمومة الموجودة في أكثر السودان عنها ، فقال : المنسرح :
لَيسَت من العُبْسِ الأكُفّ ولا ال . . . فُلْحِ الشَفاهِ الخبائثِ الْعَرَقِ
ثم عاج بخاطره على وصف هذه السوداء بأضداد تلك الصفات المذمومة ، فقال : المنسرح :
في لِينِ سَمُّورة تخيرها الْ . . . فرَاء أَو لِينِ جيدِ الدلَق
ومن بديع مدح السوداء قوله : المنسرح :
أكسبها الحبّ أنها صُبِغت . . . صبغة حَب القلوب والْحَدَقِ
فانصرفت نحوها الضمائِرُ والْ . . . أبصار يَعْشَقْنَ أيما عَشَقِ فأخبر أن القلوب إنما أحبتها بالمجانسة التي بينها وبين حَب القلوب من السواد ، وكذلك الْحَدَق .
ومن جيّد تشبيهات أبي نواس وقد نبه نديماً للصبوح فأخبر عن حاله وقال : البسيط :
فقام والليل يَجْلُوهُ الصباحُ كما . . . جَلاَ التبسُم عن غُر الثنياتِولعلي بن العباس عليه التقدم بقوله : المنسرح :
يفتَرُّ ذاك السوادُ عن يَقق . . . من ثغرها كاللآَلئ النّسقِ
كأنها والمزاحُ يُضْحِكُها . . . ليل تَعَرَى دُجاه عن فَلَقِ
وفضلُ هذا الكلام على ذاك أن هذا قدَمَ لمعناه في التشبيه مقدمة أيَّدَتْه ، ووطَأَتْ له الآَذان ، وأصغت الأفهام إلى الاستحسان ، وهي قوله :
يَفَترّ ذاك السوادُ عن يقق
وفي هذه السوداء يقول ، وقد سأله أبو الفضل الهاشمي أن يستغرقَ صفات محاسنها الظاهرة والباطنة ، فقال : المنسرح :
لها حِرٌ يستعير وَقْدَته . . . من قلب صبٍّ وصدرِ ذي حَنق
كأنما حرُه لِخَابرِهِ . . . ما ألهبتْ في حشاه من حُرَق
يَزْداد ضيقاً على المِراس كمَا . . . تَزْدَاد ضيقاً أُنْشُوطةُ الوَهَق
ثم فكَرَ فيما فكَرَ فيه النابغة ، وقد أمره النعمانُ بوصف المتجرِّدة ، فوصف ما يجوز ذكره من ظاهر محاسنها ، ثم كره أن يذكر من فضائلها ما لا يسوغ بمثله أن يذكر منها ، فرد الإخبار عن تلك الفضائل إلى صاحبها ، وهو الملك ، فقال : الكامل :
زعمَ الهُمام بأن فاها باردٌ . . . عذْب إذا قبَّلته قلتَ أزْدَدِ
فاحتذى عليّ بن العباس هذا ، فقال بعد ما سأله أن يستغرقَ في وصف فضائلها الظاهرة والباطنة : المنسرح :
خُذْها أبا الفضل كسوةً لك مِنْ . . . خَزِّ الأماديح لا مِنْ الْخِرَقِ
وصفت فيها التي هَوِيتَ على الْو . . . هْمِ ولم نَخْتَبِرْ ولم نَذُقِ
إلاَّ بأخبارك التي وَقَعَتْ . . . منكَ إلينا عن ظَبْيَةِ البُرَقِ
حاشا لسوداء مَنْظَرٍ سَكَنَتْ . . . ذُرَاكَ إلاَ عنْ مخبر يقَقِ
وهذا المعنى أومأ إليه النابغة إيماءً خفيّاً تذهبُ معرِفتُه عن أكثرِ الناس ، ولو آثرَ النابغةُتركَ الاختصار ، وهمَ بكَشْفِ المعنى وإيضاحه ، ما زادَ على هذا الكشف الذي كشفه ابن الرومي .
وأصحابه المعاني ينشدون للفرزدق : الطويل :
وجِفْنِ سِلاَحٍ قد رُزئتُ فلم أنح . . . عليه ولم أبْعَث عليه البَوَاكِيَا
وفي بَطْنِه مِنْ دَارِم ذو حَفِيظةٍ . . . لَو أن المنايا أنْسَأَتْه ليَاليا
ومعناه عندهم أنه رثى امرأة توفَيت حاملاً ، فقال علي بن العباس وقد وصف هذه المرأة السوداء : المنسرح :
أخلِقْ بها أن تقومَ عن ذَكَرٍ . . . كالسيف يفري مُضَاعَفَ الحلَقِ
إنَّ جفونَ السيوفِ أكْثرها . . . أسْوَدُ والحق غير مُخْتَلقِ
فْهذه زيادةٌ بيّنة ، وعبارة واضحة ، لم تحتج إلى تفاسير أصحاب المعاني ، وقال ممّا لم ينشده المتنبي : المنسرح :
غُصْن من الآبَنُوس رُكَبَ في . . . مؤتَزَرٍ مُعجب ومنتطقِ
يهتز من ناهديه في ثمرٍ . . . ومن دواجي ذُرَاه في ورَقِ
وهذا معنى قد بلغ قائلُه من الإجادة ، فوق الإرادة ، وامتثل أبو الفضل الهاشمي ما أشار به ابن الرومي ، فأولدها ، فأنجبت .
وفي معنى قول الفرزدق قال الطائي وأحسن وذكر وَلَدَيْنِ تَوْأَمَيْنِ ماتا لعبد الله ابن طاهر : الكامل :
إن تُرْزَ في طَرَفَيْ نهارٍ واحدٍ . . . رُزأيْن هاجَا لَوْعةً وبَلاَبِلا
فالثّقلُ ليس مضاعفاً لمطِيةٍ . . . إلا إذا ما كان وَهْماً بازِلا
لهفي على تلك المشاهد منهما . . . لو أُمهلتْ حتى تكون شمائلالَغَدا سكونُهما حِجًى ، وصباهُما . . . حُكماً ، وتلك الأريحيّة نائلا
إن الهلالَ إذا رأيت نماءَهُ . . . أيقنْتَ أنْ سيكون بدراً كاملاَ
وعلى ذكر التوأمين ألفاظ لأهل العصر في التهنئة بتوأمين
تيسرت مِنحَتَانِ في وطن ، وانتظمت مَوهِبتان في قَرَن ، طلع في أفق الكمال نجمَا سَعْد ، وشِهاباَ عِزّ ، وكَوْكَبا مَجْد ، فتأهلت بهما رُبوع المحاسن ، ووُطِّئت لهما أكنافُ المكارم ، واستشرقَتْ إليهما صدور الأسرَّةِ والمنَابر . بلغني خَبَرُ الموهبة المشفوعة بمِثْلها ، والنَعْمَة المقرونة بِعِدْلها في الفارسين المقبلين ، رضيعي العز والرفعة ، وقَريني المجد والمنعة ، فشملني من الاغتباط ما يُوجِبُه ازْدِوَاج البُشْرى ، واقترانُ غادِيةٍ بأُخْرَى .
والشيءُ يُذْكَر بما قارب ناحيةً من أنْحائه ، وجاذبَ حاشيةَ من رِدائه .
في الهجاء
وقال بعض أهل العصر يهجو رجلاً وضمَّن قول النابغة : الكامل :
كالأقحوان غَدَاةَ غِب سَمَائه
وأزاحه عن بابه ؛ فجاءَ مليحاً في الطبع ، مقبولاً في السمع : الكامل :
يا سائلي عن جعفر ، عَهْدِي بِهِ . . . رَطْبَ العِجَانِ وكفه كالْجَلْمَدِ
كالأُقْحُوان غَدَاة غِب سمائِهِ . . . جَفَّتْ أعاليه وأسْفَلُه نَدِيَ
ومن مستحسن ما روي في هذا التضمين قول الآخر وضمّن بيتاً لمهلهل ابن ربيعة : الوافر :
وسائلةٍ عن الحَسَن بن وهبٍ . . . وَعَمّا فيه من كَرَم وخِيرِفقلت هو المهذّب ، غيرَ أني . . . أراه كثيرَ إرخاء الستورِ
وأكثر ما يغنَيه فَتاهُ . . . حُسَيْنٌ حين يخلو بالسُرور
فلولا الريح أُسْمِعَ مَنْ بِحُجْرٍ . . . صَليلَ البيض تُقْرَع بالذُكورِ
وهذا البيت لمهلهل ممّا يعدُونه من أول كذب العرب ، وكانت قبل ذلك لا تكذب في أشعارها ، وكان بين الموضع الذي كانت فيه هذه الواقعة وهي بالجزيرة وبين حُجْر وهي قَصَبَة باليمامة مسافةٌ بعيدة ، فأخرجَه هذا الشاعر بقوة مُنّته ، ونفاذِ فِطنته ، إلى معنىً آخر مستظرف في بابه . وهذا المذهبُ أحسَن مَذاهب التضمين . ومن مليح ما في هذا الباب تضمينات الحمدوني في طيلسان أحمد بن حرب المهلبي ، وسيأتي ما أختارَه من ذلك في غير هذا الموضع .
رجع إلى ما قيل في الثغر
وقد جاء في صفةِ الثغور والأفواه والرِّيق شعرٌ كثير . قال جميل : الطويل :
تمنيْتُ منها نظرةً وهي واقِفٌ . . . تُرِيك نَقِيًّا واضِحَ الثغر أشْنَبا
كأن عَرِيضاً من فَضيض غمامةٍ . . . هزيمُ الذُّرى تَمْرِي له الريحُ هَيْدَبا
يُصَفِّقُ بالمسك الذكيَ رُضابهُ . . . إذا النجْمُ من بعد الهدو تَصَوَبا
وقال : الكامل :
وكأن طارقَها على عَلَلِ الكرى . . . والنجْمُ وَهْناً قد بَدَا لِتَغَوُرِ
يَسْتَافُ ريحَ مُدامةٍ معلولةٍ . . . برُضابِ مسكٍ في ذكيَ العنبرِوقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي : الطويل :
يَمُج ذَكِيَ المِسْكِ منها مُفَلج . . . نَقي الثنايا ذو غُرُوب مُؤشَرُ
يَرِفّ إذا تَفْتَرُ عنه كأنه . . . حَصَى بَرَدٍ أو أُقحوانٌ مُنَوِّرُ
وقال الهذلي : الوافر :
وما صَهْبَاءُ صافيةٌ لضبّ . . . كلون الصّرْف مُنْجابٌ قَذاها
تُشَخ بنُطْفَةٍ مِن ماء مُزْن . . . أحلته برَضراضٍ عُراها
بأطْيَبَ مَشْرَعاً من طَعْمِ فيها . . . إذا ما طار عن سِنَةٍ كَراها
وقال آخر : البسيط :
وشق عنها قِناع الخز عن بَرَدٍ . . . كالدُرّ لا كَسَس فيه ولا ثَعَلُ
كأنه أقْحوانٌ باتَ يَضْرِبُه . . . طَل من الدَجْنِ سقاطُ النَّدَى هَطِل
كأن صِرْفاً كميتَ اللَوْنِ صافية . . . شُجت بماء سماء شَنَّه جَبَلُ
فوُها إذا ما قَضَتْ من نومها سِنَةً . . . أو اعتراها سُباتُ النَوم والكسلُ
وقال الآخر : الوافر :
هِجانُ اللَوْنِ واضِحَةُ المحيا . . . قطيع الصَوتِ آنِسَةٌ كسولُ
تَبسمُ عن أغَرَّ له غُرُوبٌ . . . فُرات الريقِ ليس به فلولُ
كأنَ صَبِيبَ غادية لصبّ . . . تُشَجُ به شآميةٌ شمولُ
على فيها إذا الجَوْزاء عالَتْ . . . مُحَلقَةً وأرْدَفها رَعِيلُ وقال ابن المعتز : المديد :
يا نديميَ أشربا واسقِيانا . . . قد بَدا الصبحُ لنا واستباناواقتلا همّي بصرفٍ عقارٍ . . . واتركا الدَهْر فما شاءَ كانا
إن للمكروه لَذْعةَ شَرٍّ . . . فإذا دامَ على المَرْء هانا
وامزجا كأسي بريقةِ ألْمَى . . . طاب للعطشان وِرداً وحَانا
من فمٍ قد غُرِس الدُّرُ فيهِ . . . ناصح الريق إذا الرّيق خَانَا
وقال ابن الرومي : السريع :
يا رُبَّ ريقٍ بات بَدْرُ الدُّجى . . . يمجه بين ثَناياكا
يروي ولا ينهاك عن شربِهِ . . . والماءُ يُرْوِيك ويَنْهاكا
وقال عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر : الكامل :
وإذا سأَلتُكِ رَشْفَ ريقِكِ قُلت لي : . . . أخْشَى عُقُوبةَ مَالِكِ الأملاكِ
ماذا عليك ؟ جُعلت قبلك في الثرى . . . من أنْ أكُونَ خليفة المسوَاكِ
أيجوزُ عندك أن يكون مُتَيَّمٌ . . . صَب بحبك دون عُودِ أراكِ ؟
وهذا المعنى يجاوُز الإحصاء ، ويفوتُ الاستقصاء ؛ وكلّه مأخوذ من قول امرئ القيس : المتقارب :
كأنَّ المُدَامَ وصَوْبَ الغمام . . . وريحَ الخُزَامَى ونَشْرَ القُطُرْ
يُعَل به بَرْدُ أنْيابها . . . إذا طرَبَ الطائرُ المُسْتحِرْ
فجمع ما فرَقوه ، وأخذه الجعفري فقصَّر عنه : المتقارب :
كأن المُدامَ وصَوْبَ الغمامِ . . . وريحَ الخُزَامى وذوْبَ العَسَلْ
يُعَل به بَرْدُ أنيابها . . . إذا النَّجْمُ وَسْطَ السماء اعْتَدَلْ
ويلحق بهذه المعاني من شعرِ أهل العصر قولُ أبي علي محمد بن الحسين بن المظفر الحاتمي - وذكر خمراً : الكامل :
مِنْ كفِّ ساقٍ أهْيَفٍ حَرَكاتُه . . . فِتَنٌ تَقَنَّعَ بالملاحةِ واعتَجَرناولته كأسِي وكسرُ جُفونِهِ . . . يُوحي إليَّ أن ارتقبهم واصْطَبرْ
فثنى لها أَقْلامَ دُرٍّ رَخْصَةٍ . . . تهْوى إلى أفراد دُرّ ذِي أشَرْ
فتحدِّرَتْ من كأْسِهِ في ثَغرِهِ . . . كالشمس تَغْرُب في هِلالٍ من قمرْ
وأهدى أبو الفتح كشاجم لبعض القيان مِسْواكاً وكتب إليها : الرمل :
قد بعثْنَاهُ لكي تَجْلُو بِهِ . . . واضحاً كاللؤلؤ الرَّطْبِ أغَرّ
طابَ منه العَرْفُ حَتى خِلْتُهُ . . . كان من ريقِك يُسْقَى في السحَرْ
وَأما واللّه لو يَعلَمُ مَا . . . حَظّهُ منكِ لأثْنَى وشَكَرْ
ليتني المهدَى فيَروِي عَطَشِي . . . بَردُ أنيابِكِ في كلِّ سَحَرْ
أملح الشعر وأرقّه
وكان ذُكرَ بحضرة ابن أبي عتيق شعر عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزوميين ، فقال رجل من وَلد خالد بن العاص بن هشام بن المغيرةّ : صاحِبُنا الحارث أشعر ، فقال ابنُ أبي عتيق : دَعْ قولَك يَا بْنَ أخي ، فلِشِعْرِ ابنِ أبي ربيعة لَوْطةٌ بالقلب ، وعَلَق بالنفسِ ، ودَرْك للحاجَة ليس لشِعْرِ الحارث ، وما عُصِي اللَّهُ بشعرٍ قطّ أكثر مما عُصِي بشعر ابن أبي ربيعة ، فخُذْ عنّي ما أصِفُ لك : أشعَرُ قريش مَنْ رَفّ معناه ، ولَطُف مَدْخَله ، وسَهُل مَخْرَجه ، وتعطَّفَتْ حواشيه ، وأنارت معانيه ، وأعْرَب عن صاحبه ، فقال الذي من ولد خالد بن العاص : صاحبُنا الذي يقول : الكامل :
إني وما نَحرُوا غَداةَ مِنَى . . . عند الجِمار تَؤودها العُقْلُ
لو بُدِّلَتْ أعْلى منازلها . . . سُفْلاً وأصبح سُفلها يَعْلُو
فيكادُ يَعْرِفها الخبيرُ بها . . . فيرده الإقواءُ والمَحل
لعرفت مغناها بما احتَمَلتْ . . . مني الضلوعُ لأهلها قَبْلُ
فقال ابنُ أبي عتيق : يا ابن أخي ، اسْتُرْ على صاحبك ، ولا تشاهد المحاضر بمثل هذا ، أما تطَير الحارثُ عليها حين قَلَبَ رَبْعَها فجعل عالِيه سافلَه ؟ ما بقي إلاَ أن يسألَ اللّهحجارةً من سجيل وعذاباً أليماً . ابنُ أبي ربيعة كان أحْسَنَ الناسِ للرَّبع مخاطبةً وأجملَ مصاحبةً إذ يقول : الخفيف : سائِلا الرَبْعَ بالبُلَيِّ وقولا . . . هجتَ شوقاً لي الغَدَاةَ طويلا
أين أهلٌ حَلُوك إذ أَنتَ مَسرو . . . ر بِهمْ آهِلٌ أَراك جَميلا ؟
قال : سارُوا وَأمْعَنُوا ، واستقلُوا . . . وبكُرْهِي لو استطعتُ سَبيلا
سَئمُونَا ما سَئمْنَا مُقَاماً . . . واستحبوا دَمَاثَةً وسهولا
وهاهنا حكاية تَأْخُذُ بطَرَفِ الحديث ، دخل مزيد المدني على مَوْلى لبعض أهل المدينة ، وهو جالس على سرير ممهد ، ورجلٌ من ولد أبي بكر الصديق وآخرُ من ولد عمر - رضي الله عنهما - جالسان بين يَدَيه على الأرض ، فلمّا رأى المولى مَريداً تجهَمه ، وقال : يا مَزْيد ، ما أكثَر سؤالك وأشد إلْحَافك جئتَ تسألني شيئاً ؟ قال : لا والله ، ولكني أردتُ أن أسأَلك عن معنى قول الحارث بن خالد : الكامل :
إنِّي وما نَحرُوا غَداة مِنَى . . . عند الْجِمار تَؤودها العُقْل
لو بُدِّلَتْ أعْلَى منازلها . . . سُفْلاً وَأَصْبَحَ سُفْلَهَا يَعْلُو
فلّما رأيتك ورأيتُ هذين بين يديك عرفتُ معنى الذي قال . فقال : أعزُب في غير حِفْظِ اللّه وضَحِكَ أهلُ المجلس .
وأخذ الحارث قوله : الكامل :
لعرفت مَغْناها بما احتَمَلَت . . . مني الضلوعُ لأهْلِها قَبْلُ
من قول امرئ القيس ؛ قال علي بن الصباح وَرَاقُ بن مُحلم : قال لي أبو محلم : أتعرفُ لامرئ القيس أبياتاً سينية قالها عند موته في قُرُوحه والحلة المسمومة ، غير قصيدته التي أولها : الطْويل :
ألمَا عَلَى الرَبع القديم بعَسْعَسَافقلت : لا أعرف غيرها ، فقال : أنْشَدَني جماعةٌ من الرُواة : المتقارب :
لِمَنْ طَلَل دَرَسَت آيَهُ . . . وغيرَه سالفُ الأحْرُسِ
تَنكَّرُهُ الْعَيْنُ من حادِثٍ . . . ويعرفه شَغَفُ الأنفسِ
وفد أخذه طريح بن إسماعيل الثقفي ، فقال : الكامل :
تَسْتَخْبِرُ الدِّمَنَ القِفار ولم تكنْ . . . لترد أخْبَاراً على مُسْتَخْبِر
فَظَلْلتَ تحكم بين قلْبٍ عارفٍ . . . مَغْنى أحبته وطرْفٍ مُنكِرِ
وقال الحسن بن وهبٍ ، إشارة إلى هذا المعنى : المنسرح :
أبْلَيْتَ جِسمي من بعدِ جِدَّتهِ . . . فما تكادُ العيونُ تُبْصرُهُ
كأنه رَسمُ منزلٍ خَلق . . . تَعْرفُهُ العينُ ثم تنكرُهُ
وقال يحيى بن منصور الذهلي : الطويل :
أما يستفيقُ القلب إلاَّ انبَرى لهُ . . . تذكُر طيفِ من سُعاد ومَرْبعِ
أُخادع مِنْ عِرْفَانِهِ العينَ ؛ إنهُ . . . متى تعرف الأطلالَ عينيَ تَدْمَعِ
وقال آخر : مجزوء الوافر :
هي الدارُ التي تَعرِ . . . ف لِمْ لا تعرف الدَارَا
ترى منها لأحباب . . . كَ أعلاماً وآثارَا
فيبدي القلبُ عِرْفاناً . . . وتبدي العينُ إنكارَا
وقال أبو نُوَاس ، وتعلّق أولُ قوله بهذا المعنى ، وأنا أنشد الأبيات كلّها لِمَلاَحتها ؛ إذ كان الغرض في هذا التصرف هو إرادة الإفادة : الطويل :
أَلاَ لا أَرَى مثلي امتَرَى اليومَ في رَسمِ . . . تَغضُّ به عيني ويَلْفظُهُ وَهْمِي
أتت صُوَرُ الأشياءً بيني وبينه . . . فظني كَلاَ ظن وعِلمي كَلاَ عِلْمِ
فطِبْ بحديثٍ من حبيبٍ مساعدٍ . . . وساقية بين المرَاهق والْحُلْمِ
ضعيفة كرَ الطَرْفِ تحسب أنها . . . قَرِيبَة عَهْدٍ بالإفَاقَةِ مِنْ سُقْميفوّق مَالي من طَرِيفِ وتَالِدٍ . . . تفوّقيَ الصهباءَ من حَلَبِ الكَرْمِ
وإني لآتي الوَصْلَ من حيثُ يُبْتَغَى . . . وتَعْلَم قوسي حِين أنزع مَن أرْمي ورَوَى أبو هفان قال : كان أبو عبد اللّه محمد بن زياد الأعرابي يطعن على أبي نواس ، ويَعِيبُ شعْرَه ، ويضعفه ، ويستلينه ، فجمعه مع بَعْضِ رُوَاةِ شعر أبي نواس مجلسٌ والشيخُ لا يَعْرِفُه ، فقال له صاحبُ أبي نواس : أتعرفُ - أعزَّكَ اللّه - أحْسَنَ من هذا ؟ وأنشده : ضعيفة كرّ الطَّرْفِ . . . الأبيات ، فقال : لا واللّه ، فَلِمَنْ هو ؟ قال : للذي يقول : الكامل :
رَسْمُ الكَرَى بين الجفون مُحِيلُ . . . عَفَّى عليه بكاٌ عليك طًوِيلُ
يا ناظراً ما أقْلَعَتْ لحظاتُه . . . حتى تشحَطَ بينهنَّ قَتِيلُ
فطربَ الشيخُ ، وقال : وَيْحك لمنْ هذا ؟ فوالله ما سَمِعْتُ أجْوَد منه لقديم ولا لمحدَث فقال : لا أُخْبرك أو تكتبه ؛ فكتبه ، وكتب الأول ، فقال : للذي يقول : البسيط :
رَكْب تَسَاقَوْا على الأكوار بينهمُ . . . كَأْس الكَرَى فانتَشَى المَسْقيُّ والساقي
كأن ، أرْؤُسهمْ والنوْمُ وَاضِعُها . . . على المناكب لم تُخْلَقْ بأعناقِ
ساروا فلم يقطعوا عَقْداً لرَاحِلَة . . . حتى أناخُوا إليكم قَبْلَ إشراقي
مِنْ كل جائلةِ الطَرْفين ناجيةً . . . مشتاقةٍ حَمَلَتْ أوصالَ مُشْتَاقِفقال : لمن هذا ؟ وكتبه . فقال : للذي تَذُمُّه ، وتَعِيب شعره ، أبي علي الحكمي قال : اكْتُم عليّ ، فوالله لا أعود لذلك أبداً .
أخذ قولَه : كَأَنَ أرْؤُسهم والنوم واضعها أبو العباس بن المعتز ، فقال يصف شَرْباً : الطويل :
كأن أبارِيقَ اللُجَيْن لديهمُ . . . ظِباءٌ بأَعْلى الرَقْمَتَيْنِ قيامُ
وقد شربوا حتى كأن رُؤوسهم . . . من اللِّين لم يُخْلَقْ لَهُن عِظَامُ
البيت الأول من هذين من قول علقمة بن عبدة : والبسيط :
كأنَّ إبريقَهم ظَبْيٌ على شَرفٍ . . . مُفَدَمٌ بسَبَا الكَتَّانِ مَلْثُومُ
أراد بسبائب ، فحذف . وقد أحسن مسلم بن الوليد في قوله : الكامل :
إبْرِيقُنَا سَلَبَ الغزالةَ جِيدَها . . . وحكى المديرُ بمُقَلَتَيْهِ غَزَالا
يَسْقيك بالألحاظ كأسَ صَبَابةٍ . . . ويُديرها من كَفًّه جِرْيَالا
وأنشد الحارث بن خالد أبياتَهُ : الكامل :
إني وما نَحَرُوا غَدَاةَ مِنًى . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لعبد الله بن عمر ، فلما بلغ إلى قوله : الكامل :
لعرَفْتُ مَغناها بمَا احتملتْ . . . مِني الضلوعُ لأهْلِها قَبْلُ
قال له ابن عمر : قلْ إن شاء الله ، قال : إذاً تفسد الشعر يا أبا عبد الرحمن ، فقال : لا خَيْرَ في شيءً يُفْسده إن شاء الله .
وكان الحارث بن خالد أحدَ المجيدين في التشبيب ، ولم يكن يعتقد شيئاً من ذلك ، وإنما يقولُه تظرفاً وتخلّعاً ، وكان أكثر شعره في عائشة بنت طَلْحَة ، فلما قُتِلَ عنها مُصْعَبُ بن الزبير قيل له : لو خطبتَها قال : إني لأكْرَه أن يتوهَم الناسُ عليَ أني كنتمعتقداً لِمَا أقول فيها ، وهو القائل : البسيط :
يا أمَّ عِمْرانَ ما زَالَتْ وما بَرِحَتْ . . . بنا الصبابَةُ حتى مسَّنا الشًفَقُ
القلبُ تاقَ إليكم كيْ يلاقيَكم . . . كما يتوقُ إلى مَنْجَاتِهِ الغَرِقُ
تُوفيك شيئاً قليلاً وهي خائفة . . . كما يمسُ بظَهْر الحية الفَرِقُ
أخذ هذا الطائيُ فحسَّنه فقال : الكامل :
تَأبى على التصْرِيدِ إلاَ نَائِلاً . . . إلاَّ يكنْ ماءً قَرَاحاً يُمذَقِ
نزراً كما استكرَهْتَ عابرَ نفحةٍ . . . من فَأْرة المِسْكِ التي لم تُفْتَق
وحَجَّت عائشةُ بنْتُ طلحة ، فوجه إليها يستأذنها في الزيارة ، فقالت : نحن حَرام ، فأخِّر ذلك حتى نحلّ ، فلمّا أحلَتْ أدْلَجَتْ ولم يعلم ، فكتب إليها : الكامل :
ما ضركُمْ لو قُلْتُمُ سَدَداً . . . إنَّ المنيةَ عاجلٌ غَدُها
ولها علينا نِعْمةٌ سلَفتْ . . . لسنا على الأيام نَجْحَدُها
لو تَمَّمَتْ أسبابَ نِعْمَتها . . . تَمَتْ بذلك عندنا يَدُها
إني وإياها كمفتَتِنٍ . . . بالنار تَحْرِقهُ ويعْبُدُها وابنُ أبي عتيق هذا هو عبد اللّه بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه وكان من أفاضل زَمانِهِ عِلْماً وعَفافاً ، وكان أحْلَى الناس فكَاهةً ، وأظرفهم مزاحاً ، وله أخبار مستظرفة سيمرُ منها ما يُسْتَحسن إن شاء الله .
روى الزبير بن أبي بكر أنه دخل على عائشة - يعني بنت طلحة ، رضي الله عنهما - وهي لما بها ؛ فقال : كيف أنت ، جُعِلْتُ فداكِ ؟ قالت : في الموت ، قال : فلا إذاً ، إنما ظننت في الأمر فُسْحَة ، فضحكت ، وقالت : ما تَدَعُ مَزْحك بحَالٍ .
وفيه يقول عمر بن أبي ربيعة القرشي : المديد :
ليْت شعري هل أقولنْ لركب . . . بفلاةٍ هُمْ لديها خُشُوعُطَالَما عرَّسْتُمُ فاسْتَقِلُوا . . . حان من نَجْمِ الثريا طلوعُ
إنَّ هَمِّي قد نَفَى النومَ عَنّي . . . وحديثُ النفس مِنّي يَرُوعُ
قال لي فيها عَتيقٌ مقالاً . . . فجرَتْ ممّا يقولُ الدموعُ
قال لي : وَدَعْ سليمى ودَعْها . . . فأجاب القلبُ : لا أستطيع
لا تَلُمْنِي في اشتياقي إليها . . . وابكِ لي ممّا تُجِنُّ الضّلُوعُ
قال أبو العباس محمد بن يزيد : قوله : حان من نجم الثريا طلوع كناية ، وإنما يريد الثريا بنت علي بن عبد اللّه بن الحارث بن أميَّة الأصغر ، وكانت موصوفةً بالجمال ، وتزوّجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، فنقلها إلى مصر ، وفي ذلك يقول عمر ، وضرب لهما المثل بالنجمين : الخفيف :
أيها المُنكِحُ الثريا سُهَيْلاً . . . عَمْرَكَ اللَهَ ، كيفَ يَلْتَقيَانِ ؟
هي شامية إذا ما استقلَتْ . . . وسهيلٌ إذا استَقَلَّ يَمَانِي
فمات سُهيل عنها ، أو طلَقها ، فخرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة دمشق تَطْلب في دَين عليها ، فبينما هي عند أمّ البنين ابنة عبد العزيز إذ دخل الوليدُ فقال : مَنْ هذِه عندكِ ؟ قالت : الثريا ، جاءتك تطلبُ في دَيْنٍ ارتكبها ، فأقبل الوليد عليها ، فقال : أتروِين من شعرِ عُمَر بن أبي ربيعة شيئاً ؟ قالت : نعم ، أما إنه رحمه الله كان عفيفاً ، عفيف الشعر ، أروي له قوله : الخفيف :
ما عَلَى الرَسْمِ بالبُلييْنِ لو بي . . . ن رَجْعَ السلامِ أوْ لو أجَابَا
فإلى قَصْرِ ذِي العُشَيرة بالصا . . . ئف أمْسى من الأنِيس يَبَابا
وبما قد أَرَى به حَيَ صِدْقٍ . . . ظاهري العيشِ نعمةً وشَبَابَاوحِساناً ، جَوَارياً ، خَفرَاتٍ ، . . . حافظاتٍ عند الهوى الأحْسَابَا
لا يُكَثِّرْنَ بالحديث ولا يت . . . بَعْن ، يَنْعَقْنَ بالبِهَامِ ، الظرَابا
فلما خلا الوليد بأمِّ البنين قال : للّه درُ الثريا ؛ أتدرين ما أرادَتْ بإنشادها ما أنشدَتْ من شعر عمر ؟ قالت : لا ، قال : فإنّي لما عرَضْت لها بعمر عرّضت بأن أمي أعرابية ؛ وأمّ الوليد وَلاّدة ابنةُ العباس بن جزء بن الحارث بن زُهير العبسي ، وهي أمُ سليمان ، ولا تُعلم امرأة ولدت خليفتين في الإسلام غيرها ، وغير الخيزُرَان ، وهي سَبِية من خَرشَنة ، ولدت موسى الهادي وهارون الرشيد ابني محمد المهدي ، وشاهسفرم بنت فيروز بن يزدجر بن شهريار بن كِسْرى أبروير ؛ فإنها ولدت للوليد بن عبد الملك يزيدَ بن الوليدِ الناقصَ وإبراهيمَ بن الوليد المخلوع ؛ جلس في الخلافة بَعْد أخيه يزيد مدةً يسيرة ، ثم جاء مروان بن محمد بن مروان آخر ملوك بني أمية فخلعه ووُلِّي بعده .
وشَبِيه بقول الثريّا في باب التعريض أنه دخَلتْ عَزَّةُ على عبد الملك بن مروان ، فقال لها : أنْتِ عزَةُ كثير ؟ قالت : أنا أمّ بكر الضمْرِية ، قال لها : يا عزَّةُ ؟ هل تروين من شعر كثيِّر شيئاً ؟ قالت : ما أعرفه ، ولكن سمعت الرواة ينشدون له : الطويل :
قَضَى كل ذي دَيْنٍ فوفى غريمَهُ . . . وعَزّةُ ممطولٌ مُعَنًّى غَرِيمُها
قال : فتروين قوله : الطويل : ِ
وقد زعمتْ أني تَغَيرْتُ بَعْدَها . . . ومَنْ ذا الذي يا عزّ لا يَتغيّرُ ؟
تغيّر حالي والخليقة كالذي . . . عَهِدْتِ ولم يُخْبَرْ بسرّك مُخْبَرُ
قالت : ما سمعت هذا ، ولكن سمعتُهم ينشدون : الطويل : كأنّي أُنادي صَخْرَةً حين أعرضَتْ . . . من الصّم لو تَمْشِي بها العُصْمُ زَلَتِ
غَضُوباً فما تَلْقَاك إلاَ بَخيلةً . . . فمنْ مَل منها ذلك الوصلَ مَلَتِ
قال : وكُلُّ ما ذَكَر ابنُ أبي ربيعة في شعره من عتيق ، أو أبي عتيق ، فإنما هو ابنُ أبيعتيق ، وكان عمرُ بن عبد اللّه بن أبي ربيعة ، واسمُ أبي ربيعة حذيفة ، ابن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ، ويكنى أبا الخطاب ، أمُّه أم ولد سبيّة من حضرموت ، ويقال من حمير ، ومن ثم أتاه الغَزَل ؛ لأنه يقال : عِشْقٌ يماني ، ودَل حجازي . قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي : الخفيف :
إن قلبي بالتلِّ تَلِّ عزاز . . . مع ظَبْي من الظّباء الجوازي
شَادِنٍ لم يَرَ العِراقَ وفيه . . . مَعَ ظَرْفِ العراق دَلُّ الحِجازِ
وقال الطائي وذكر نفسه : الكامل :
قد ثَقَّفَتْ مِنْه الحجازُ ، وسَهَّلَتْ . . . منه العراق ، ورفَقته المشرِقُ
وهجرت الثريا غمَر ، فقال : الخفيف :
قال لي صاحبي ليَعْلَم ما بي : . . . أتُحِبُّ القَتُولَ أخْتَ الرَّبَاب ؟
قلتُ : وَجْدِي بها كوَجْدِك بالما . . . ء إذا ما فَقَدتَ بَرْدَ الشَّرابِ
أَزْهَقَتْ أُمُّ نَوْفَل إذ دعَتْها . . . مُهْجتي ؟ ما لقاتلي من مَتَابِ
أبرزوها مثلَ المهاة تَهَادَى . . . بَيْنَ خمسي كواعبٍ أَتراب
وهي مكنونةٌ تحدَّر منها . . . في أَديم الخدَيْن ماءُ الشباب
ثم قالوا : تُحِبّها ؟ فلتُ : بَهْراً . . . عَدَد الرَمْل والحَصَى والتُراب
ولما بلغ ابنَ أبي عتيق قولُه :
مَنْ رسولي إلى الثريّا ؟ فإني . . . ضِقْتُ ذرعاً بهجرها والكِتاب
قال : إياي أراد ، وبي هَتَف ونَوَّه ، لا جَرَمَ لا ذُقْتُ طعاماً أو أشخص إليها ، وأصلح بينهما ؛ قال مولى لبني تميم : فنهض ونهضتُ معه ، ثم خرج إلى السوق إلى الضمرتين ،فأَتى قوماً من بني الديل بن بَكْرٍ يَكْرونَ النجائب ، فقال : بكم نكرُونَني راحلتين إلى مكة ؟ قالوا : بكذا وكذا درهماً ، فقلت لبعض التجار : اسْتَوضِعوا شيئاً ، فقال ابن أبي عتيق : ويحك إن المِكَاس لَيس من أخلاق الناس . ثم ركب واحدةً وركبتُ أخْرَى ، وأجدَّ السير ، فقلت : ارفقْ بنفسك ، فقال : ويحك أُبادر حَبْلَ الوصل أن يتقَضّبا . وما أملح الدنيا إذا تمَ الوصلُ بين عمر والثريّا فقدمنا مكة وأتى بابَ الثريا ، فقالت : والله ما كنتَ لنا زَوَارا ، فقال : أجل ، ولكن جئتُ برسالة ، يقول لك ابن عمك عمر : ضِقتُ ذَرْعاً بهجرها والكِتابِ . فلامَه عمر ، فقال ابن أبي عتيق : إنما رأيتك مبادراً تَلْتَمِسُ رسولاً ، فخفَفت في حاجتك ، فإنما كان ثوابي أن أُشْكَر .
ووصف ابن أبي عتيق لعمر امرأةً من قومه ، وذكر جمالاً رائعاً ، وعقلاً فائقاً ، فرآها عمر ، فشّبب بها ، فغضِب ابنُ أبي عتيق وقال : تشبّب بامرأة من قومي ؟ فقال عمر : الخفيف :
لا تَلُمْني عتيقُ حَسْبي الَذي بي . . . إنَّ بي يا عتيقُ ما قد كَفَاني
إن بي مُضْمَراً من الحبِّ قد أبْ . . . لَى عِظامي مكنونُهُ وبراني
لا تَلُمني فأنْتَ زَيَّنتهَا لي .
فقال ابن أبي عتيق :
أنْتَ مِثْلُ الشيطانِ للإنسانِ
فقال عمر : هكذا ورَبّ الكعبة قلت .
فقال ابن أبي عتيق : إن شَيْطَانك وربّ القَبْر ربما ألمَّ بي وحَجتْ رملة بنت عبد الله بن خلف أخت طلحة الطلحات ، فقال عمر فيها : الخفيف :
أصبح القلبُ في الحبال رَهِيناً . . . مُقْصَداً يوم فارَقَ الظاعنيناولقد قلت يومَ مكةَ سِراً . . . قبلَ وَشْكٍ من بينكم : نَولّينا
أنتِ أهوى العباد قُرْباً وبُعْداً . . . لو تُوَاتينَ عاشقاً محزونا
قاده الحينُ يوم سرْنا إلى الح . . . ج جهاراً ولم يَخَفْ أنْ يَحينا
فإذا نعجة تراعي نِعَاجا . . . ومَهاً نُجلَ النواظر عِينَا
فَسَبَتْني بمقلة وبِجِيدٍ . . . وبوجه يضيء للناظرينا
قلتُ من أنتم ؟ فصَدَتْ وقالت . . . أمُبِد سؤالَكَ العالَمِينا ؟ قلت بالله في الجلالة لما . . . أن تبَلْتِ الفؤادَ أن تصدقينا
أيُ من تجمُع المواسِمُ أنتمْ . . . فأبيني لنا ولا تكذبينا
فرأت حِرْصِيَ الفتاةُ ، فقالت . . . أخْبريه بعلم ما تكتمينا
نحن من ساكني العراق ، وكنّا . . . قبلها قَاطنينَ مكَةَ حينا
قد صَدَقْناكَ إذ سألْتَ فمن أن . . . ت ؟ عسى أن يجر شأنٌ شؤونا
وترى أننا عَرَفْناك بالنْع . . . ت ظنوناً وما قَتلْنا يقينا
بسوادٍ الثَّنِيَّتينِ ونعْتٍ . . . قد نراه لناظرٍ مُسْتبينا
قولها : وكنا قبلها قاطنين مكّة حينا أرادت إذ كانت مكةُ لخزاعة . وكان آخرَ من نَبَذَ مفتاح الكعبة من خُزَاعة أبو غُبْشان ، فباعه من قصَي بزق خمر ؛ فقيل في المثل : أخسر صفقةً من أبي غُبْشان . وكان أبو غُبشان إذ باعَ المفتاحَ قُصَياً مريضاً قد يئس من نفسه ، فلما أبلّ من مرضه لامه قومه ، وسألوه استرجاعه ، وذلك الذي هاج الحربَ بين خُزَاعة وقريش ، فظفر قُصَي واستولى على مكة ، وجمع قريشاً بها ؛ ولذلك سمي مجمعاً ، قال مطرف الخزاعي : الطويل :
أبوكُمْ قُصي كان يُدْعَى مُجَمعاً . . . به جمع الله القبائلَ من فِهْرِوقال الطائي : الطويل :
ولمّا نَضَا ثوبَ الحياةِ وأوْقَعَتْ . . . به نائباتُ الدهر ما يُتَوقَعُ
غدا ليس يَدْري كيف يصنع مُعْدم . . . ذرى دَمْعه في خدِّه كيف يصنعُ
ولم أنس سَعْيَ الجودِ خَلْفَ سريره . . . بأكْسفِ بَالٍ يستقلُّ ويظْلَعُ
وتكبيرهُ خَمْساً عليه مَعاً لنَا . . . وإن كان تكبيرَ المُصَلِّين أرْبَعُ
وما كنتُ أدري يَعلَمُ اللَهُ قَبْلَها . . . بأنّ النَدَى في أهْلِه يتشَيّعُ
غَدَوْا في زَوايا نعشِه وكأنَمَا . . . قريشٌ قريش يوم ماتَ مُجَمَعُ
وقال الشاعر في أمر قصيّ وأبي غُبْشان : الوافر :
أبو غُبْشَانَ أظْلَمُ مِنْ قُصَيً . . . وأظْلَمُ مِنْ بني فهرٍ خزاعَهْ
فلا تَلْحَوْا قُصَيًّا في شِرَاهُ . . . ولوموا شَيْخَكُمْ إذْ كانَ باعَهْ
وكان عمر أسود الثنيتين .
قال مولى ابن أبي عتيق بلال : أتيتُ الثريّا مسلماً عليها ، فقالت : أنشدني لعمر ، فأنشدتها : الخفيف :
أصْبَح القلبُ في الْحِبَال رَهِيناً
فقالت الثريّا : إي واللّه ، لئن سلِمت له لأردَّن من شَأوه ، ولأثنينَّ من عِنَانه ، ولأعرفنَّه نفسه فمررت فيها حتى انتهيت إلى قوله : الخفيف :
قُلْتُ مَن أنتمُ فَصدَّتْ وقالت . . . أمُبِد سؤَالكَ العالَمِينا ؟
فقالت : أو قد أجابته بهذا ؟ أي وقت ؟ فلما انتهيت إلى قوله : الخفيف :
وترى أننا عرفناك بالنَّعتِ
قالت : جاءت النَّوْكاءُ بآخِر ما عندها من مَوْقِف واحد .
وسأله أخوه الحارث - وهو المعروف بالقُبَاع ، وكان من أفاضل أهْل دهره - أن يترك الشعر ، ورغب إليه في ذلك ، ووعظه ، فقال : أمَّا ما دمتُ بمكة فلا أقدِرُ ، ولكني أخرجإلى اليمن ، فخرج ؛ فلما سار إلى هناك لم تَدَعْهُ نفسُه وتَركَ الشعر ، فقال : البسيط :
هيهات مِنْ أمَّةِ الوهابِ منزلُنا . . . إذا نزلْنا بِسِيفِ البحر من عَدَنِ
واحتلَّ أهلُكَ أجياداً ، وليس لنا . . . إلا التذكر أو حظ من الحَزَنِ
بل ما نسيت غداة الْخَيْف موقفَها . . . وموقفي ، وكِلانا ثَمَّ ذُو شجَنِ
وقولها للثريّا وهي مطرقةٌ . . . والدمعُ منها على الخدَّين ذُو سَنَنِ
باللَّه قولي له في غير مَعْتبةٍ . . . ماذا أردتَ بطُولِ المُكْثِ في اليمن
إن كنت حاولت دُنْيا أو ظفِرْتَ بها . . . فما أخذتَ بترك الحجِّ من ثَمنِ
فلمّا بلغ الشعرُ الحارثَ قال : قد علمنا أنه لا يَفي . وروى سفيانُ بن عيينة عن ابن جريج قال : لزمَني دَين مرَّةً فضاقَتْ ساحتي وبلادي بي ، فتوجهت إلى مَعْن بن زائدة باليمن ، فقال : ما أقْدَمك هذه البلدة : قلت : ديْن طردني عن وطني ، قال : يُقْضَى دَيْنُكَ ، وتُردّ إلى وطنك محبوًّا مَحْبُوراً ، قال : فأقمت عنده ، ثم رأيتُ الناس يرحَلُون إلى الحجّ ، فحننت إلى مكة ، وذكرت قول ابن أبي ربيعة ، وذكر الأبيات . . . فأتيتُ باب مَعْن ، فقلت للحاجب : استأْذِنْ لي على الأمير ، فلمّا دخلت عليه قال : إنَّ لك لحادثَ خَبر قلت : أسْتَوْدِعُ الله الأمير وأستحفظه عليه . قال : وما هاج هذا مِنْك ؟ فقلت : رأيت خروجَ الناس إلى الحجّ ، وذكرت قولَ عمر ، فحننت إلى مكّة ، فقال : أَنْتَ وحنينك ، وإن كنتُ بفراقك ضَنينا ، وسيتْبَعُك ما تحتاجُ إليه ؛ فسِرْ مُصَاحَبا ، قال : فسرْتُ إلى رَحْلي ، فأتبعني بمالٍ وثياب ومَطَايا ودوابّ ، وسرت إلى مكَّةَ من فًوْري .
وكان عمر - على غَزَله ، وما يذكره في شعره - عفيفاً . حدّث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : دخلت مع أبي مكةَ ، فجاءه عمر ، فسلّم عليه ، وأنا غلام شابّ وعليّ جبَّة ، فجعل يَأْخُذُ بخصلة من شَعْرِي فتمتدّ في يده ، يُرْسِلها فترجع ، فيقول : واشباباه فمّال لي : يا ابن أخي ، قد سمعتَ قولي : قُلت لها وقالت لي ؛ وكل مملوك لي حرّ إن كنت قط كشفت عن فرج حَرَام قال : فقمت وفي نَفْسِي من يمينه شيء ؛ فسألتُ عن رَقيقه ، فقيل لي : أما في هذا الحول فسبعون .ويستحسن قول عمر في المساعدة : الوافر :
وخِلّ كنتُ عَيْنَ النّصْح منهُ . . . إذا نظرَتْ ومستمِعاً مُطِيعا
أطاف بِغَيَّةٍ فَنَهَيْتُ عَنْها . . . وقلتُ له : أرى أمراً شنيعا
أرَدْتُ رَشادَه جُهْدي ، فلمّا . . . أبى وعَصَى أتيْنَاها جميعا
وهذا مأخوذ من قول دريد بن الصِّمة الجُشَمي : الطويل :
أَمَرْتُهُمْ أمْرِي بمُنْعَرَج اللَوى . . . فلم يستبينوا الرُشْدَ إلاَ ضُحَا الغَدِ
فقلت لهم ؛ ظُنوا بألفَيْ مُدَججٍ . . . سَرَاتُهُمُ في الفارسي المسرَّدِ
فلما عصوني كنتُ منهم وقد أرى . . . غوايتهم وأنني غَيْرُ مُهْتَدي
وما أنا إلاّ من غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ . . . غَوَيْتُ ، وإن تَرْشُدْ غَزِيةُ أرْشُدِ
ومن جيد شعره : الطويل :
يقولون إني لستُ أصْدُق في الهَوَى . . . وإنيَ لا أرعاكِ حين أغِيب
فما بال طرْفِي عف عمّا تَسَاقَطَتْ . . . له أنْفُس من مَعْشَرٍ وقُلُوبُ
عشيةَ لا يستنكرُ القومُ أن يَرَوْا . . . سَفَاه حِجًى ممن يقال لبيب
ولا فتنةً من ناسكٍ أوْمَضتْ له . . . بَعَيْنِ الصّبا كَسْلَى القيام لَعُوبُ
تروَّحَ يَرْجُو أن تُحَط ذُنُوبه . . . فآبَ وقد زيدَت عليه ذُنُوبُ
وما النَّسْكُ أسْلاَنِي ، ولكِنَ لِلْهَوى . . . على العين منّي والفؤادِ رقيبُ
ونظر عمرُ بن أبي ربيعة إلى فتَى من قريش يكلّم امرأة في الطواف ، فعاب ذلك عليه ، فذكر أنها ابنةُ عمه ، فقال : ذلك أشْنَع لأمرك ، فقال : إني خطبتُها إلى عمي ، وإنه زعم أنه لا يزوجني حتى أصدقَهَا أربعمائة دينار ، وأنا غيرُ قادر على ذلك ، وذكر مِنْ حالهوحبّه لها ؛ فأتى عُمَرُ عمَه ، فكلّمه في أمرها ، فقال : إنه مُمْلَقٌ ، فزوَجه ، وساق عُمَرُ عنه المَهر .
وكان عمر حين أسنّ حَلَف ألاَ يقول بيتاً إلاَّ أعتق رقبة ، فانصرف إلى منزله يحدّث نفسَه ، فجعلت جاريته تكلّمه ولا يجيبُها ؛ فقالت : إن لك لشأنا ، وأراك تريدُ أن تقولَ شعراً ، فقال : الوافر :
تقول وليدتي لمّا رأتْنِي . . . طَرِبْتُ وكُنْتُ قد أقْصرْتُ حِينا
أراكَ اليومَ قد أحْدَثْتَ أمْراً . . . وهاجَ لكَ الهوى داءً دَفِينا
وكنتَ زعمتَ أنك ذُو عَزَاءً . . . إذا ما شئتَ فارقْتَ القَرِينا
لعمرك هل رأيتَ لها سميًّا . . . فشاقَك أمْ لقيتَ لها خَدِينا ؟
فقلتُ : شكا إلي أخٌ مُحِب . . . كبعْضِ زَماننا إذْ تَعْلَمِينا
فقصَ عليَ ما يَلْقَى بهندٍ . . . فذكَّر بَعْضَ ما كنّا نَسِينا وذُو الشوقِ القديم وإنْ تعزى . . . مَشُوق حين يَلْقَى العاشقينا
فكم من خُلة أعرضْتُ عنها . . . لغير قِلىً ، وكنتُ بها ضَنِينا
أردْتُ بِعَادَها فصَدَدْتُ عَنْهَا . . . وإن جُنَّ الفؤادُ بها جُنُونا
ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم .
قال عثمان بن إبراهيم : حججت أنا وأصحابٌ لنا ، فلما رَجَعْنا من مكّة مررْنا بالمدينة ، فرأينا عمر بن أبي ربيعة ، وقد نَسَك وتَرَك قول الشعر ، فقال بعضنا لبعض : هل لكم فيه ؟ فمِلنَا إليه ، وسلمنا عليه ، وجَلَسْنَا وهو ساكتٌ لا يكلمنا . فقال له بعضنا : أيعجبك قول الفرزدق : البسيط :
سَرَتْ لعيْنك سَلْمَى بعد مَغْفَاها . . . فبِتّ مُسْتَلهياً من بعد مَسرَاها
فقلتُ : أَهْلاً وسَهْلاً مَنْ هَدَاكِ لنا ؟ . . . إن كنتِ تِمْثَالَهَا أو كُنْتِ إياهَا
تأتي الرياح التي من نحو بَلدتكم . . . حتى نقول : دَنَتْ منا برياهاوقد تراختْ بهم عَنّا نوًى قذفٌ . . . هيهات مصبَحها مِنْ بَعْدِ مُمساها
من أجلها أتمنى أن يُلاَقيني . . . من نحو بَلدَتِها نَاع فَيَنْعَاهَا
كيما أقول : افتراقٌ لا اجتماعَ لهُ ، . . . وتضميِرُ النفس يأساً ثم تسلاها
ولو تموتُ لراعتني وقلتُ لَهَا : . . . يا بؤْس للدهر ليتَ الدهرَ أبقاها
فلم يهشَ لذلك فقال الآخر : أيعجبك قول العُذْري : البسيط :
لو حزَّ بالسيف رَأسي في مَوَدَتها . . . لمرَ يَهْوِي سَرِيعاً نَحْوهَا رَاسِي
ولو بَلى تحتَ أطْبَاق الثرَى جَسَدِي . . . لكنت أَبْلَى وما قلبي لكم نَاسي
أو يَقبض الله رُوحي صَارَ ذِكْركُمْ . . . رُوحاً أعيشُ به ما عشتُ في الناس
لولا نسيم لذكراكُمْ يُرَوِّحني . . . لكنتُ محترقاً من حَرِّ أنفاسِي
فتحرّك ثم قال : يا وَيحَه أبعد ما يحزّ رأسه يَميل إليه ؟ ثم أنشأ يحدّثنا ، فقال : أتاني خالد الدليل ، فقال : إن هنداً وأَتْرابها بموضع كذا وكذا من الصحراء أيام الربيع ، فقلت : كيف الحيلة ؟ فقال : تتلثّم وتكْتَفل كأنك طالبُ ضالّة ، ففعلت ، فدُفعت إليهنّ ، فقلْن : يا أعرابي ، ما تطلب ؟ قلت : ضالّة لي ، فقلْن : قد كلِلت يا أعرابي ، فلو جلست فأصبت منْ حديثنا وأصبْنا من حديثك ، ولعلّك تروح إلى وجود ضالتك ، فنزلت ؛ فلمّا امتدّ الحديثُ بنا حسرت هِنْدٌ لِثَامي ، وقالت : أتُرَاك خدعْتنا ؟ نحن واللّه خَدَعْنَاك ، وبعْثنا إليك خالداً ، رأينا خلاءً ومنظراً فأرَدْنَاك ، ونظرت في دِرْعِي فأعجبني ما رَأَيت ، فقلت : يا أبا الخطاب ، قال عمر : فقلت : لبَّيْك ، وفي ذلك أقول : الطويل :
ألمْ تسأل الأطلالَ والمُتَرَبعا . . . بِبَطْنِ حُليَّاتٍ ، دوَارِسَ بلقعا ؟
إلى السّرح من وادي المغمَس بُدِّلَتْ . . . معالُمُه وَبْلاً وكباء زَعْزَعافيبخَلْنَ أو يُخبِرْنَ بالْعِلْم بَعْدَما . . . نكَأْنَ فؤاداً كان قِدْماً مُوَجَّعاً
لهند وأترابٍ لهند إذِ الهوى . . . جميعٌ وإذ لم نًخْش أن يتَصَدَّعا
وإذ لا نطيعُ العاذلين ولا نَرَى . . . لواشٍ لدينا يَطْلُبُ الهجْرَ مطمعا
وإذ نحنُ مثلُ الماء كان مِزَاجُهُ . . . كما صفق الساقي الرحيقَ المُشَعْشَعا
تُنُوعتنَ حتى عاودَ القلبَ خَبْلُه . . . وحتى تذكَّرت الحبيبَ المودّعا
فقلت لمُطرِيهنّ بالْحُسن : إنما . . . ضَرَرْتَ ، فهل تسْطِيعُ نَفْعا فتنفعا ؟
وأشريتَ فاستشرى وقد كان قد صَحَا . . . فؤاد بأَمْثَال المَهَا كان مولَعا
لئن كان ما حُدِّثْتُ حَقّاً فما أرى . . . كمثل الأُلى أطْريت في الناس أربعا
فقال : فقم فانظر ، فقلتُ : وكيفَ لي ؟ . . . أخافُ حديثاً أن يشاع فيَشْنُعا
فقال : اكتفل ثم التثمْ فأْتِ باغيا . . . فسلمْ ولا تُكثر بأَن تتورَّعا
فأقبَلْتُ أَهوِي مثل ما قال صاحبي . . . لموعدِهِ أَبْغي قَلُوصاً موقّعا فلمّا تواقفنا وسلَّمتُ أقبلت . . . وجُوه زَهَاهَا الحسنُ أنْ تتقنعَا
تبالَهْنَ بالعِرْفان لَمَّا رأينني . . . وقلْنَ : امرُؤ باغ أَكَلَّ وأَوْضَعا
وقَرَّبْنَ أسبابَ الهوى لمتيَّمٍ . . . يَقيسُ ذِراعا كلّما قِسْنَ إصْبَعا
فلمّا تنازعْنَ الأحاديثَ قُلْن لي . . . أخِفْتَ علينا أن نُغَرَ ونُخْدَعا ؟فبالأمس أرْسَلْنَا بذلك خالداً . . . إليكَ ، وَبينَا له الأمرَ أجمعا
فما جئتنا إلاَ على وَفْقِ مَوْعدٍ . . . على ملأ منَا خَرَجْنا له مَعا
رأينا خلاءً من عُيُونٍ ومنظراً . . . دَمِيثَ الرُبى سَهْل المحلة مُمرِعا
وقلن : كريمٌ نال وَصْلَ كرائمٍ . . . فحقّ له في اليوم أن يتمتَّعَا
وقوله : وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا يقول : هذه الوجوهُ مُدِلَة بجمالها فلا تختمر ، فتستر شيئاً عن الناظرين إليها . وقد أشار إلى هذا المعنى الشماخ بن ضِرَارٍ يصف ناقته : الطويل :
كأنَ ذِرَاعَيْها ذراع مُدِلَةٍ . . . بُعَيْد الشباب حاولت أن تُعَذَّرَا
من البيض أعطافا إذا اتّصَلت دعَتْ . . . فِراسَ بن غَنْمٍ أو لَقِيط بن يَعْمُرا
بها شَرَق من زعفران وعَنبر . . . أطارت من الحسن الرَدَاء المحبَّرا
في معانٍ أخرى
قال : وكانت عائشة بنت طلحة بن عبيد اللّه لا تستُر وجهها ، فلمّا دخلت على مُصْعب بن الزبير قال لها في ذلك ، فقالت : إن الله تعالى وسَمني بميسَم جمال ، فأحببتُ أن يراه الناس ، والله ما بي وَصمة أسْتتر لها .
وقال علي بن العباس الرومي يصف قينة : المنسرح :
لم يَعْتَصِمْ عودُها بزامرةٍ . . . ولا انْضَوَى وَجْهُها إلى السترِ
وقد ردّد معنى قوله : لم يعتصم عودها بزامرة فقال : يصف بَرعَة الكبيرة : السريع :
غَتتْ فلم تحوجْ إلى زامِر . . . هل تحوجُ الشمسُ إلى شَمْعَهْ ؟
كأنما غنّت لشَمْس الضحى . . . فألبستها حُسنها خِلْعَهْ
كأنما رَنّةُ مسموعها . . . رقّة شَكْوَى سبقت دَمْعَهْتُهْدِي إلى قلبك ما يشتهي . . . كأنها قد أطلعت طلعهْ
يجتمع الظرفُ لجلاَّسِها . . . والحسنُ والإحسانُ في بُقْعَهْ
طَفل على من حصلت عندَهُ . . . فبعض تطفيل الفَتَى رفْعَهْ
ربيع غيثٍ فانتجِعْ رَوْضَهُ . . . فلن يُعابَ الحر بالنُّجْعَه
وكان ابن الرومي لا يزال معتمًّا ، وكان يغضب إذا سُئل عن ذلك ، وسأله بعضُ الرؤساء : لِمَ تَعْتَمّ ؟ فقال بديها : المنسرح :
يا أيها السائلي لأُخبرَهُ . . . عَنيَ لِمْ لا أرَاكَ مُعْتَجِرا
أستر شيئاً لو كان يمكنني . . . تعريفُهُ السائلينَ مَا سُتِرَا
وقد بيًن العلة التي أوجبت اهتمامه في قوله : الطويل :
تعممت إحصاناً لِرأسيَ بُرْهَةً . . . من القَرَ يوماً والْحَرُورِ إذَا سَفَعْ
فلما دَهى طولُ التعمم لِمتَى . . . وأودى بها بعد الإطالة والفَرَعْ
عزمت على لُبْسِ العمامة حيلةً . . . لتستر ما جَزَتْ عليَ من الصَلعْ
فيا لك من جانٍ عليَ جِنايةً . . . جعلت إليه من جنايته الفزَعْ
وأعجب شيء كان دائي جعلته . . . دَوَائي على عَمْد وأعجِبْ بأَنْ نَفعْ
وهذا كقوله ، وإن لم يكن في معناه ، وقد رأيت من ينسبه إلى كشاجم : الوافر :
طربتُ إلى الْمِرَاةِ فرَوَعَتْنِي . . . طوالِعُ شيبتينِ ألمتَا بي
فأمّا شَيْبَة فَفَزِعتُ منها . . . إلى المِقْرَاضِ حُبًّا للتصابي
وأما شَيْبَة فصفَحْتُ عنها . . . لتَشْهَد بالبَراءةِ من خِضَابي
فأعجِبْ بالدَليل على مَشيبي . . . أقمْتُ بهِ الدَليل على شَبَابي
وهو القائل في صفة رجل أصلع : السريع :
يجذب من نقرته طُرَةً . . . إلى مَدًى يقصرُ عن ميلهِ فوجْهُه يَأْخُذُ من رأسِهِ . . . أَخْذَ نهار الصيْفِ من لَيْلِهِوقال أعرابي : الرجز :
قد ترك الدَهْرُ صَفَاتِي صَفْصَفَاً . . . فصار رَأسِي جَبْهَةً إلى القَفَا
كأنه قد كان رَبْعاً فَعَفَا
قال أعرابيّ لسليمان بن عبد الملك : إني أكلّمك يا أميرَ المؤمنين بكلام فاحتمله ، فإنَّ وراءَه إن قبِلتَه ما تحبّه ، قال : هاته يا أعرابي ، فنحن نَجُودُ بسعَةِ الاحتمال على مَنْ لا نأْمن غَيْبته ، ولا نرجُو نصيحته ، وأنت المأمون غيباً ، الناصح جَيْباً . قال : فإني سأُطْلِقُ لساني بما خَرِست عنه الألسن ، تأديةً لحقّ الله تعالى ؛ إنه قد اكتنفك رِجَالٌ أساءوا الاختيارَ لأنفسهم ؛ وابتاعوا دُنْيَاك بدينهم ، ورضاكَ بسَخَطِ ربّهم ، وخافوك في الله ولم يخافوا اللَّه فيك ، فهم حرب للآخرة ، وَسَلْم للدنيا ، فلا تأْمَنْهم على ما ائتمنك اللَّهُ عليه ؛ فإنهم لم يَأْلُوا الأمانةَ تضييعاً ، والأمة كسفاً وخَسْفاً ، وأنت مسؤول عما اجترموا ، وليسوا مسؤولين عمّا اجترمْت ؛ فلا تُصلِحْ دنياهم بفساد آخرتك ؛ فإن أعظَم الناسِ عند اللّه غَبَناً مَنْ باع آخِرَتَه بدُنْيَا غيره .
فقال سليمان : أما أنت يا أعرابي ، فقد سللت لسانك وهو سَيْفُك ، قال : أجل يا أمير المؤمنين ، لك لا عليك .
وروى العتبي عن أبيه عن مولى لعمرو بن حريث قال : شخصت إلى سليمان بن عبد الملك ، فقيل لي : إنك تَرِدُ على أفصح العرب ، وسيسألك عن المطر ، فانْظُرْ ما تجيبه ، فقلت : ما عندي من الجواب إلاّ ما عند العامّة ، فقيل لي : ما ذلك بمُقْنِع عنده ، فلقيني أعرابي فقلت : هل لكَ في درهمين . فقال : إنّي واللّه محتاج إليهما ، حريصٌ عليهما ، فما شَأنُك ؟ فقلت : لو سألك سائل عَنْ هذا المطر بمَ كنت تُجيبه ؟ قال : أو يَعْيَا بهذا أحد ؟ قلت : نعم ، سَائِلُكَ قال : أَتَعْيَا أن تقول : أصابتنا سماءٌ ، عَمد لها الثَّرى ، واتصَل بها العُرَى ، وقَامَتْ منها الغُدُر ، وأتتك في مثل وِجَار الضَّبُعِ ؟ فكتبتُ الكلامَ ، وأعطيتُه درهمين : فكان هِجِّيرَايَ على الرَاحلة ، فإذا نزلت أقْبَلت عليه وأمثل نفسي كأني واقفٌ بين يديه ، وقد سلَّمت عليه بالخلافة وهو يَسْأَلني عن المطرفلمّا انتهيتُ إليه سألني فاقتصَصْت الكلامَ ، فكَسَر إحْدَى عينيه ، وقال : إني لأَسمَع كلاماً ما أنت بأبي عُذْرته . قلت : صدقت وحياتك يا أمير المؤمنين اشتريته بدرهمين فاستغرب ضَحِكاً ، ثم أحْسَنَ صِلَتي .
وقال أعرابي يمدح رجلاً : الطويل :
حَليمٌ مع التقْوَى ، شُجَاعٌ مع الْجَدَا . . . نَدٍ حينَ لا يَنْدَى السَّحابُ سَكُوبُ
ويَجْلو أموراً لو تَصيَّفْنَ غيرهُ . . . لمات خُفاتاً أو لكادَ يذوبُ
شديد مَنَاطِ الْقَلْبِ في الموقف الذي . . . به لقلوبِ العالَمينَ وَجيبُ
فتًى هو مِنْ غَيْر التخلّق ماجِدٌ . . . ومن غَيْر تأديبِ الرِّجالِ أدِيب
وقال بعض المحدّثين يمدح : الطويل :
فتًى يَجْعَلُ المعروفَ قبل سُؤَالِهِ . . . ويَجْعل دون العُذْر فضل التَّكَرُّمِ
أغرُّ متى تَقْصِدْ به فَضْل حظهِ . . . تُصبْ ومتى تطلب به الغُنْم تَغْنَمِ
على رأيه ينضمّ مُنْصَدِعُ الصَفا . . . وينحلُّ من عَقْدِ العُرى كل مُبْرَمِ
له عَزْمة أغنى من الجيش في الوَغَى . . . وخَطْرَةُ رام كالْحُسَام المصمِّمِ
جملة من كلام أبي الفضل أحمد بن الحسين الهمداني ، بديع الزمان
وهذا اسمٌ وافق مُسَمَاه ، ولفظ طابقَ مَعْناه ، وكلام غَضُّ المكاسر ، أنِيق الجواهر ، يكادُ الهواء يسرقه لُطْفاً ، والهوى يعْشَقَه ظَرْفاً . ولمّا رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغْرب بأربعين حديثاً ، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره ، واستنخبها من معادِن فِكْرِه ، وأبداها للأَبصار والبَصائر ، وأهداها للأفكارِ والضمائر ، في معارض أعجمية ، وألفاظ حُوشِية ، فجاء أكثرُ ما أظْهر تَنْبُوعن قبوله الطباعُ ، ولا ترفعُ له حُجُبَهَا الأسماعُ ، وتوسَع فيها ؛ إذ صرَف ألفاظَها ومعانيها ، في وجوه مختلفة ، وضروس متصرّفة ، عارضها لأربعمائة مقامة في الكُدْيَة ، تذوب ظَرْفاً ، وتقطر حُسْناً ، لا مناسبةَ بين المقامتين لفظاً ولا معنى ، وعطف مُسَاجلتها ، ووقَفَ مناقلتها ، بين رجلين سمَى أحدهما عيسى بن هشام والآخرَ أبا الفتح الإسكندري ، وجعلهما يتهاديان الدّر ، ويتنافثان السحر ، في معانٍ تُضْحِكُ الحزين ، وتحرّك الرَصِينَ ، يتطلع منها كل طريفة ، ويُوقِفُ منها على كلِّ لطيفة ، وربما أفرد أحَدهما بالحكاية ، وخصَ أحدهما بالرواية ؛ وسأذكر منها ما لا يُخِل طولُه بالشرط المعقود ، ولا ينافي حصولُه الغرضَ المقصود .
كتب إلى أبي نصر أحمد بن علي الميكالي : كتابي - أعَزَ الله الأمير - وبودي أن أكُونَه ، فأسعد به دُونَه ، ولكن الحريصَ محروم ، لو بلغ الرزق فاه ، لولاه قَفَاه . فرَق الله بين الأيام ، تفريقَها بين الكِرام ، وألهمها أن تورد بعقل ، وتُصدر بتمييز ، وما ذلك على الله بعزيز ، وأنا في مفاتحة الأمير ، بين ثقة تعِد ، وَيدٍ تَرْتَعِد ، ولم لا يكونُ ذلك . والبحْرُ وإن لم أره ، فقد سمعتُ خبرَه ، ومن رأى مِنَ السيف أثره ، فقد عاين أكثرَه ، والليث وإن لم ألْقَه ، فلم أجهل خلقه ، وما وراء ذلك من تالِد أصْل وحَسَب ، وطارفِ فَضْل وأدب ، وبُعْد همة وصِيت ، فمعلوم تَشْهَد به الدفاتر ، والخبرُ المتواتر ، وتنطق به الأشعارُ ، كما تصدق به الآثارُ ، والعين أقل الحواس إدراكاً ، والأذن أكثرها استمساكاً ، وإن بعدت الدار فلا ضَير ؛ إنَّ أيْسَر البعدين بُعْدُ الدارين ، وخيرَ القربين قُرْبُ القلبين .
وكتب إليه في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة : الأمير الفاضل ، والشيخ الرئيس ، رفيع مُنَاطِ الهمة ، بعيد منال الحرمة ، وفسيح مجال الفضل ، رَحِيبُ مُنْخَرَقِ الجود ، رطيب مكْسِرِ العود : المجتث :
فلو نَظَمْتُ الثريا . . . والشعرَيَيْن قَرِيضا
وكاهل الأرض ضربا . . . وشعب رَضْوَى عَرُوضا
وصُغْتُ للدر ضدا . . . وللهواء نقيضابل لو جَلَوْتُ عليهِ . . . سُودَ النوائب بِيضَا
أو ادَّعيت الثريا . . . لأخمصيه حَضِيضا
والبحر عند لُهَاهُ . . . يوم العطاء مَغِيضَا
لما كنت إلاَّ في ذمّة القُصُور ، وجانب التقصير ، فكيف وأنا قاعدُ الحالة فيُ المدح ، قاصِرُ الآلة عن الشَرْح ؟ ولكني أقول : الثناء مُنْجحٌ أنَى سلك ، والسخيّ جوده بما ملك ، وإن لم تكن غُرَّةٌ لائحة فَلَمْحَةٌ دالّة ، وإن لم يكن صَدَاء فماء ، وإن لم يكن خمر فَخَل ، وإن لم يُصِبْها وابل فَطَلّ ، وبَذْلُ الموجود غاية الجود ، وبعض الجهد آخر المجهود ، وماش خير من لا ش ، ووجود ما قلَّ خيرٌ من عدم ما جَلَّ . وقليل في الجيب خير من كثير في الغَيْبِ ، وجهد المقلّ خيرٌ من عذر المخل ، وحمار أيْس خير من فرسِ لَيْس ، وكوخ في العِيان خيرٌ من قصر في الوهم . وذَيْتَ خير من ليت ، وما كان أجود من لوْ كان ، وقد قيل : عصفور في الكف أجودُ من كُرْكي في الجو ، ولأنْ تقطف خَيْرٌ من أن تقف ، ومن لم يجد الجميم رعى الهشيم ، ومن لم يحسن صهيلاً نَهق ، ومن لم يجد ماء تيمَّمَ ؛ والأمير الرئيس - أدام اللّه نعماه - لا ينظر في قوافي صنيعته إلى رَكَاكة ألفاظها ، وبُعْدِ أغراضها ، ولكن إلى كثرة جذرها ، وثقل مهرها ، وقِلَّة كفئها ، وإنني منذ فارقت قَصَبَة جرجان ، ووطئت عَتبة خراسان ، ما زففتها إلاَ إليه ، ولا وقَفْتُها إلاَّ عليه ، هذا على تمرغي في أعطاف المحن ، وضرورتي إلى أبناء الزمن ، وإن كان الأمير الرئيس يرفعُ لكل لفظٍ حجابَ سمعه ، ويُفْسِحُ لكلِّ شعر فِناء طبعه ، فهاك من النثر ما ترى ، ومن النظم ما يترى : مجزوء الرمل :
أدْهِقِ الكاسَ فعَرْفُ الْ . . . فَجرِ قد كادَ يلوحُ
فهو للناس صباحٌ . . . ولذي الرأي صَبُوحُوالذي يمرح بي في . . . حَلْبة اللَهو جَمُوحُ فاسقنيها والأمانِيّ . . . لها عَرْفٌ يفوحُ
إنّ للأيام أسرا . . . راً بها سوف تَبُوحُ
لا يغرَنّكَ جسمٌ . . . صادقُ الحِسِّ وروح
إنما نحن إلى الآ . . . جال نَغْدُو ونروح
ويْك هذا العمر تبري . . . ح وهذا الروح ريح
بينما أنْتَ صحيح الْ . . . جسم إذ أنتَ طرِيح
فاسقنيها مثل ما يل . . . فظه الدّيك الذّبيح
قبل أن يضرب في الده . . . رِ بيَ القِدْحُ السَّنِيح
إنما الدَّهرُ غَرُورٌ . . . ولمنْ أَصْغَى نصيحُ
ولسان الدَّهر بالْوَع . . . ظِ لوَاعيهِ فَصِيحُ
نستبيح الدَّهرَ والأيا . . . م منّا تَسْتَبِيح
نحن لاهون وآجا . . . لُ المنايا لا تريح
يا غلامُ الكأْسَ فاليأ . . . سُ من الناس مُرِيحُ
ضاع ما نحميه من أن . . . فسنا وَهْوَ مبيح
وقنوعاً فمقام الذّ . . . ل بالمرء قبيح
أنا يا دهر بأبنا . . . ئك شِقٌّ وسَطيحُ
وبأبكار القوافي . . . لا على كُفْءً شَحِيحُ
يا بني ميكال والجو . . . دُ لعِلاَتي مُزِيح
شرفاً إن مجال الْ . . . فضل فيكمْ لفسيحُ
وعلى قدر سَنَا المم . . . دوح يَأْتيكَ المديح
فهناك الشرف الأَر . . . فع والطَّرْف الطمُوح
والنَّدى والخُلُقُ الطا . . . هر والخَلْق الصَّبِيحُ
مرتَقَى مجدٍ يحار الط . . . رف فيه ويطيح
أيهَذا الكرم الما . . . ثل والخُلْقُ السَجِيحُكان هذا الجود ميتاً . . . عادَه منك المسيح
هذه - أطال الله بقاءَ الأمير - هديّة الوقت ، وعَفْو الساعة ، وفَيْضُ البديهة ، ومسارقة القلم ، ومسابقة اليَدِ للفم ، وجمرات الحدّة ، وثمرات المدّة ، ومجاراة الخاطر للناظر ، ومباراة الطَّبْع للسَّمْع ، ومجاذبة الجنان للبيان ، والشعر إذا لم تقدّمه روّية ، ولم تنضجه نيّة ، لم يفتح له السمع بابه ، ولم يرفع له القلب حجابه ، وإذا لبس الأمير هذه على علاّتها رجوت أن يكون بعدها ما هو أفتن وأحسن وأرصن ، فرأيه أيّده اللّه في الوقوف عليها موفقاً إن شاء الله .
وله إليه معاتبة : الطويل :
لَئِنْ سَاءَني أَنْ نِلْتني بمسَاءَةٍ . . . لقد سرَّني أنّي خَطَرْتُ ببالِكَ
الأمير الفاضل الشيخ الرئيس ، أطال اللَّهُ بقاءهُ إلى آخر الدعاء ، في حَال برّه وجفائه مُتَفَضل ، وفي يومَيْ إبعاده وإدْنَائِه مُتَطَوِّل . وهنيئاً له من حِمَانا ما يُحِلُه ، ومن عُرَانا ما يَحُله ، ومن أعْرَاضِنا ما يستحلُّه ، بلغني أنه - أدام اللَّهُ عِزه - استزاد صنيعته ، وكنت أظنني مجنيًّا عليه ، مُساءً إليه ، فإذا أنا في قرارة الذَّنْبِ ، وبمثابة العتْب ، وليت شعري أيّ محظور في العشرة حَضَرْته ، أو مفروض من الخِدْمة رَفَضْتُه ، أو واجبٍ في الزيارة أهْمَلْتُهُ . وهل كنتُ إلاَ ضيفاً أهداه بَلدٌ شاسع ، وأدَّاه أمل واسع ، وحَداه فَضْلٌ وإن قلّ ، وهدَاهُ رأيٌ وإنْ ضَلّ ، ثم لم يُلْقِ إلاَّ في آلِ مِيكَالَ رَحْلَه ، ولم يَصِلْ إلاَ بهم حَبْلَه ، ولم يَنْظِم إلاَّ فيهم شِعْرَه ، ولم يَقفْ إلاّ عليهمِ شُكْرَه ، ثم ما بَعُدَت صحبةٌ إلاَّ دَنَتْ مَهَانةً ، ولا زادت حُرْمَة إلاَّ نقصت صيانة ، ولا تضاعَفتْ مِنّة إلاّ تراجعت مَنْزِلة ، ولم تزل الضعَة بنا حتى صار وابلُ الإعظام قَطْرَة ، وعاد قميصُ القيام صُدْرَة ، وذلك التقربُ أزْوِرَاراً ، وطويل السلام اختصاراً ، والاهتزازُ إيماء ، والعبارة إشارة ؛ وحين عاتبته آمل إعتابه ، وكاتبته أنْتِظِر جوابه ، وسألته أرجو إيجابه ، أجاب بالسكوت ، وأَعْتَب بالقُنُوت ، فما ازددت إلا له ولاءً ، وعليه ثناءً ؛ لا جَرَم إني اليوم أبيضُ وَجْهِ العهد ، واضح محجَّةِ الوُد ، طويلُ عِنَان القول ، رفيع حِكْمَةِ العُذْر ؛ وقد حمَلت فلاناً من الرسالة ما تجافَى عنه القلم ؛ والأمير الرئيس أطال الله بقاءَه يُنْعِمُ بالإصغاء لما يورده موفقاً إنْ شاء اللّه . وله إليه في هذا الباب : أنا في خدمة الأمير الرئيس - أطال الله بقاءَه - مترجحٌ بين أَنْ أشْرَبها رنقة ولاأُسِيغُها ، وألجلج منها مُضْغة ولا أُجيزها ، وبين أَنْ أَطْوِيها على عَرَها ، ولا أرتضع أَخلاف دَرَها : الوافر :
فلا نَفْسِي تُطاوعني لِرَفْض . . . ولا هِممي تُوَطنُني لَخْفضِ
وبقي أن أقْرُصَه بأنامل العَتْبِ ، وأَحشمَه بأَلحاظ العَذْل ، وأعرفه أني ما أطوي مسافَة مزار إلاّ متجشّماً ، ولا أطأُ عَتبة دار إلاَ متبرَماً ؛ ولستُ كمن يَبْسُط يدَهُ مُسْتَجْدياً ، أو ينْقل قدمَه مُسْتَعْدِياً ؛ فإن كان الأميرُ الرئيس - أيّده اللَهُ - يسرحُ طَرْفة مني في طامح أو طامِع ، فلْيُعِد للفِراسةِ نَظرا : الطويل :
فما الفقْرُ من أرض العشيرة سَاقَني . . . إليك ، ولكنّا بِقُرْباكَ ننجحُ
وأجِدُني كلما استفزّنِي الشوق إلى تلك المحاسن ، أطِير إليها بجناحين عَجِلا ، وأرجع بعَرجاوَيْن خَجِلا ، ولولا أنّ الرضا بذلك ضربٌ من سقوط الهمة ، وأن العتابَ نوعٌ من أنواع الخدمة ، لصُنْتُ مجلسه عن قَلمي ، كما أصُونه عن قَدَمي ، ولَمِلْتُ إلى أرْض الدعاء فهو أنْجَع ، وإلى جانبِ الثناء فهو أوْسع ، وسأَفعل لتخف مؤْنتي ، ولا تثقل وَطْأتي : المتقارب :
إذا ما عَتَبْتُ فلم تُعْتِبِ . . . وهُنْتُ عليك فلم تُعْنَ بي
سلَوْت ، ولو كان ماء الحياة . . . لعِفْتُ الورُودَ ولم أشْرَبِ
قطعة من مفردات الأبيات لأهل العصر في معان شتّى تجري مجرى الأمثال
أبو فراس الحمداني : الطويل :
إذا كان غيرُ اللَهِ للمَرْء عُدَةَ . . . أتتْهُ الرَزايا من وجوهٍ المَكَاسِبِ
وله : الطويل :
عَفَافكَ عي ، إنما عِفَةُ الفَتى . . . إذا عَف عن لَذَاتِه وَهوَ قادِرُ
وقال المتنبي : الخفيف :
كل حِلْم أتى بغَيْرِ اقتِدارِ . . . حُجة لاجِئ إليها اللئاموله : الخفيف :
وإذا كانتِ النفُوسُ كِباراً . . . تَعِبَتْ في مرادِها الأجْسَامُ
وله : الكامل :
وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من ناقص . . . فَهْيَ الشَهادَةُ لي بأنيّ كامِل
وله : البسيط :
لا يُعْجِبَنَّ مَضِيماً حُسْنُ بِزَّتِهِ . . . وهل تَرُوقُ دَفيناً جَوْدَةُ الكَفَنِ ؟
وله : الخفيف :
من أطاقَ التِمَاسَ شيءً غِلاباً . . . واغْتِصاباً لم يَلْتَمِسْهُ سُؤالا
وله : الكامل :
والظلْم من شِيَمِ النفوسِ ، فإنْ تَجِدْ . . . ذا عِفَةٍ فلِعِلَةٍ لا يَظْلِمُ
وله : البسيط :
ماذا لقيتُ من الدنيا وأَعْجَبُهُ . . . أني بما أنا بَاك مِنْه مَحْسُودُ
وله : البسيط :
ذِكْرُ الْفتى عُمْره الثاني ، وحاجَتُهُ . . . ما قَاتَه ، وفُضولُ الْعَيْشِ أشغالُ
والمتنبي اكْثَرُ المحدَثين افْتِناناً وإحساناً في الإغراب بهذا البابِ ؛ والاستقصاء يخرج عن شرط الكتاب .
وقّال السري الموصلي : البسيط :
خُذُوا من العيشِ فالأعمار فائتةٌ . . . والدهر مُنْصَرِمٌ والعيشُ منْقَرِضُوله : الوافر :
فإنك كلَّما استُودِعْتَ سِرًّا . . . أَنمُ مِن النَّسيمِ على الرِّياضِ
وقال أبو إسحاق الصابي : البسيط :
الضب والنّون قد يُرْجَى التقاؤُهما . . . وليس يُرْجَى التقاءُ اللبِّ والذهبِ
وقال ابن نباتة : الكامل :
مثَل خَلَعْتُ على الزمان رِداءَهُ . . . عَوَزُ الدَّرَاهمِ آفةُ الأجْوَادِ
وله : الكامل :
يهوى الثناءَ مبرِّزٌ ومُقَصِّرٌ . . . حبُّ الثناء طبيعةُ الإنسانِ
وقال أبو الحسن السَّلامي : الوافر :
تبسَطنا على اللَّذات لمَا . . . رَأَيْنَا الْعَفْوَ من ثَمَرِ الذُنوبِ
وقال ابن لنكك البصري : الطويل :
وماذا أُرجي من حَياةٍ تكدَّرَتْ . . . ولو قد صَفَتْ كانَتْ كأحلامِ نائمِ
وقال أبو طالب المأموني : الكامل :
لي في ضَمير الدهر سرٌّ كامِن . . . لا بدَ أن تستَلهُ الأقدارُ
وقال أبو الفضل بن العميد : الكامل :
الرأي يَصْدَأ كالْحُسام لعارِضٍ . . . يَطْرَا عليه وصَقْلُهُ التذكيرُ وقال أبو الفتح : الطويل :
بطِرْتم فطِرْتم والعَصَا زَجْرُ مَنْ عَصَى . . . وتقويم عَبْد الهُون بالْهُونِ رادِعُ
وله : المتقارب :
إذا بلغ المرء آمالهُ . . . فليس له بعدها مُقْتَرحْ
وقال الصاحب إسماعيل بن عباد : مجزوء الرمل :
إن أُمَّ الصقر في الودْ . . . دِ لَمِقْلاَةٌ نَزُورُوله : مخلع البسيط :
من لم يَعُدْنا إذا مَرِضْنَا . . . إنْ مات لم نَشْهَد الجنازَهْ
وله : الرجز :
حِفْظُ اللسانِ راحةُ الإنسانِ . . . فاحْفَظْهُ حِفْظَ الشكر للإحسان
وقال إسماعيل الناشئ : الطويل :
وكنتُ أرَى أنَّ التجاربَ عُدَّةٌ . . . فخانتْ ثِقَاتُ الناسِ حتى التجارب
وقال أبو الفتح البستي : السريع :
لا تَرْجُ شيئاً خالصاً نَفْعُه . . . فالغيثُ لا يَخْلُو من الْعَيْثِ
وله : الطويل :
ولم أر مثل الشكر جَنة غارسٍ . . . ولا مثل حُسْنِ الصبر جُبة لابِس
وله : الطويل :
وطول مُقام الماء في مستقرِّهِ . . . يُغَيره ريحاً ولوناً ومَطْعما
وله : الخفيف :
ما استقامت قَنَاةُ رأييَ إلا . . . بعدما عَوَجَ المَشِيبُ قَنَاتِي
وقال أبو الفضل الميكالي : الطويل :
هو الشوك لا يُعْطيك وافرَ منةٍ . . . يدَ الدهر إلاَّ حين تَضْرِبه جَلْدَا
وله : السريع :
ذو الفضل لا يسلَم من قَدْح . . . وإن غَدَا أقْوَم من قِدْحِ
وقال شمس المعالي : البسيط :
وفي السماء نجومٌ ما لها عَدَدٌ . . . وليس يُكْسَفُ إلاَ الشمسُ والقمرُهذا مأخوذ من قْول الطائي : البسيط :
إن الرياحَ إذا ما استعصفت قَصَفَتْ . . . عيدانَ نجْدٍ فلم يعبأْنَ بالرًتَمِ
بناتُ نعشٍ ونَعْش لا كُسوفَ لها . . . والشمسُ والبَدْرُ منها الدهر في الرَقم
وقال أبو الحسن علي بن عبد العزيز القاضي : البسيط :
الهجر أَرْوَحُ من وَصْل على حَذَرٍ . . . والموتُ أَطيَب من عَيْشٍ على غَرَرِ
وقال أبو بكر الخوارزمي : الخفيف :
لا تغرّنكَ هذه الأوجه الْغُرّ . . . فَيَا رُب حَيةٍ في رِياضِ
قال أبو العيناء : كان عيسى بن فَرْخان شاه يَتِيهُ عليَ في ولايته الوِزَارَة ، فلمَا صُرِف رهَبَتي ، فلقيني فسلّم عليَّ فأَحْفَى ، فقلت لغلامي : مَنْ هذا ؟ قال : أبو موسى ؛ فدنوتُ منه وقلت : أعزَّك الله ، واللّه لقد كنْتُ أقْنَع بإيمائك دون بَيانِكَ ، وبلَحْظِكَ دُونَ لَفْظك ، فالحمدُ لله على ما آلَتْ إليه حالُك ، فلئن كانت أخْطَأَتْ فيك النعمة ، فلقد أصابت فيك النقْمَةُ ، ولئن كانت الدنيا أَبْدَتْ مقابِحَها بالإقبال عليك ، لقد أظهرَتْ محاسنها بالانصرافِ عنك ، وللهِ المنّة إذ أَغْنانا عن الكَذِب عليك ، ونزَّهَنَا عن قول الزورِ فيك ، فقد واللّه أًسَأْتَ حَمْلَ النعم ، وما شَكَرْتَ حقّ المُنْعِم ، فقيل له : يا أبا عبد الله ، لقد بالغت في السب ، فما كان الذنب ؟ قال : سألته حاجةً أقل من قيمتهِ ، فردَ عنها بأقْبَحَ من خِلْقَتِه .
وقال عليّ بنُ العباس الرومي لأبي الصقر إسماعيل بن بلبل لمّا نكبه الموفق بن أحمد وألَمَ في بعض قوله بقول أبي العيناء : الكامل :
لا زالَ يومُك عِبرةَ لِغدكْ . . . وبَكَت بشجْو عين ذي حَسَدِكْ
فلئن نكِبْتَ لطالما نكبَتْ . . . بك هِمّةٌ لجأَتْ إلى سَنَدِك
لو تسجد الأيام ما سجدتْ . . . إلاّ لِيَوْم فَت في عَضُدك
يا نِعْمَةً ولّتْ غَضَارَتُها . . . ما كان أقْبَحَ حسنَهَا بِيَدك
فلقد غَدَتْ بَرْداً على كَبدي . . . لَمَا غَدَتْ حَراً على كَبِدك
ورأيْت نُعْمى اللهِ زائدةً . . . لما اسْتبانَ النقص في عَددِك
ولقد تمنّتْ كلّ صاعقة . . . لو أنها صُبتْ على كتَدكلَمْ يَبْقَ لي ممّا بَرَى جسدي . . . إلا بقاء الرّوح في جَسَدِك
وله فيه أَهَاجٍ كثيرة لما نكب ، منها قوله : السريع :
خَفّضْ أبا الصَّقر فكَمْ طائرٍ . . . خَرَ صَرِيعاً بَعْدَ تحليقِ رُوِّجْتَ نعمى لم تكن كُفْأها . . . فَصَانها المحه بتطليق
لا قُدِّسَتْ نُغمَى تَسَرْبَلْتَها . . . كم حجَّةِ فيها لِزِنْديق
وكان أبو الصقر لمَا ولي الوزارة مَدَحَه ابن الرومي بقصيدته النونية التي أولها : البسيط :
أجْنَيْنَكَ الوردَ أغصانٌ وكُثْبانُ . . . فيهنّ نوعان تُفَّاحٌ ورمانُ
وفوق ذَيْنك أعناب مُهَدَلةٌ . . . سود لهن من الظَلماء ألوانُ
وتحت هاتيك عُنَّاب تَلُوح بهِ . . . أطرافهنّ قلوب القوم قِنوانُ
غصونُ بانِ عليها الزهر فاكِهة . . . وما الفواكِهُ مما يَحْمِلُ البان
ونرجس بات سَارِي الطِّل يَضْرِبُه . . . وأقحوان منير اللون رَيان
ألّفن من كل شيِء طيبٍ حسنٍ . . . فهن فاكهة شتى ورَيْحان
ثمار صِدْقٍ إذا عاينْتَ ظاهرَها . . . لكنها حين تبلُو الطعْمَ خُطبَان
ولا يَدُمْنَ على عَهْدٍ لمعتقدٍ . . . والغانيات كما شُبهْنَ بستَان
يَميلُ طوراً بحمل ثم يعدُمُه . . . وَيَكتَسِي ثم يُلْفَى وهو عُريان
وهي أكثر من مائتي بيت ، مرَ له فيها إحسان كثير ، فأنشدها أبا الصقر ، فلما سمع قوله :
قالوا أبو الصقر من شَيْبَان قلت لهم . . . كلا لعمري ولكِن منه شَيْبانُ
قال : هجاني ، قيل له : إنٌ هذا من أحسن المدح ؛ ألاَ تسمع ما بعده :
وكم أبِ قد عَلاَ بابن ذُرًى شَرَفٍ . . . كما عَلَتْ برسول اللَهِ عَدْنان
قال : أنا بشيِبان لا شيبان بي . فقيل له فقد قال :
ولم أقَصر بشَيبَان التي بلغت . . . بها المبالغ أعراقٌ وأغْصانُللّه شيبان قوم لا يشوبُهُم . . . رَوْع إذا الروع شابَتْ منه ولْدَانُ
فقال : لا واللّه لا أثيبه على هذا الشعر ، وقد هجاني .
قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي : كنت يوماً عند عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر ، وقد ذكروا قصيدة ابن الرومي هذه النونية ، فقال : هذه دارُ البطيخ ، فاقرأوا تشبيهاتها تعلَموا ذلك فضحك جميع من حضر .
وفي هذه القصيدة يقول من المختار في النسيب :
يا رُب حُسّانة منهّن قد فعلت . . . سوءًا ، وقد يفعل الأسْوَاءَ إحسانُ
تُشْكي المُحِبَّ وتلفى الدهرَ شاكِيةً . . . كالقَوْس تُصْمِي الرَّمايا وهي مِرْنان
وهذا كقوله في قصيدة يَصِفُ فيها قوس البندق : الطويل :
لها رَنّة أَوْلَى بها من تصيبهُ . . . وأَجْدَر بالإعوال مَنْ كان مُوجَعَا
يقول فيها :
لا تَلْحَياني وإيّاها على ضَرَعي . . . وزَهْوها ، لجَّ مَفْتُونٌ وُفتان
إني ملكت فبي للرِّقِّ مَسَكَنةٌ . . . ومُلّكت فلها بالمُلْك طُغْيَانُ
لي مُذْ نَأَتْ وَجْنَةٌ رَيّا بمشْرَبِها . . . من عَبْرتي وفمٌ ما عِشتُ ظمآنُ
وفيها في مدح بني شيبان :
قوم سماحتهم غيثٌ ، ونَجْدَتُهُمْ . . . غَوْثٌ ، وآراؤُهم في الخَطْبِ شُهْبَانُ
تَلْقَاهُمُ ورِماحُ الخَطِّ حَوْلَهُمُ . . . كالأُسد ألبسها الآجامَ خَفّانُ
صانوا النفوس عن الفَحْشاء وابتذلوا . . . مِنهنَّ في سُبُل العلياء ما صَانوا
المنعمون وما منُّوا على أَحَدٍ . . . يَوْماً بنُعْمى ، ولو منُوا لما مَانَوايقول فيها في أبي الصقر :
يَفْدِيه مَنْ فيه عن مِقْدار فِدْيَتِه . . . عن المفاداة تَقْصِيرٌ ونُقْصَانُ
قوم كأنهُمُ مَوْتى إذا مُدِحُوا . . . وما لهم من حَبِير الشعر أكْفان
صاحي الطباع إذا سالت هَواجسُه . . . وإن سألت يَدَيْهِ فهوَ نَشْوانُ
يُصْحِيه ذِهن وَيَأْبَى صَحْوَهُ كرم . . . مُسْتَحْكِم فَهْو صاحٍ وَهْو سكْرانُ
فرد جميعٌ يَرَاه كلُ ذي بَصَرٍ . . . كأنه الناس طُرًّا وهو إنسانُ
وهذا كقول أبي الطيب : الكامل :
ولَقيتُ كلَّ الفاضلِينَ كأنَّما . . . رَدّ الإلهُ نفوسَهُمْ والأعْصرَا نُسِقوا لنا نَسَقَ الحِسابِ مُقدَما . . . وأتى فَذَلِكَ إذْ أتيتَ مُؤخَّرَا
وقد تقدّم .
وقال : الطويل :
فإنْ يكُ سَيَّارُ بْن مكْرم انْقَضَى . . . فإنك ماءُ الوَردِ إنْ ذَهَبَ الوردُ
مَضَى وبَنوه وانْفَرَدْتَ بفَضلهمْ . . . وأَلْف إذا ما جُمِّعَتْ واحِدٌ فَردُ
وقال البحتري : الطويل :
ولم أرَ أمْثَال الرجالِ تفاوتاً . . . لدى المجد ، حتى عُدَّ ألْفٌ بواحدِ
ومدحَه وعاتبه بقصائد كثيرة فما أنجحت ، فمن ذلك قوله في قصيدة طويلة يمدحه : البسيط :
مي وَجْهِه رَوْضَةٌ للحسن مونِقَة . . . ما راد في مثلها طَرْف ولا سَرَحا
طَلُّ الحياء عليها ساقط أبداً . . . كاللؤلؤ الرَطْبِ لو رَقْرَقتَه سَفَحا
أنا الزعيم لمكحولٍ بغُرَتهِ . . . ألاَ يرى بعدها بُؤساً ولا تَرَحا
مهما أتى الناس من طَوْلٍ ومن كَرَم . . . فإنما دخلوا البابَ الَّذِي فَتحا
يُعْطِي المزاحَ ويعطي الجدَّ حقَّهما . . . فالموت إن جدَّ ، والمعروف إن مَزَحاوافى عُطَاردَ والمرَيخ مَوْلده . . . فأَعْطَياه من الحظَيْنِ ما اقْتَرَحا
إن قال : لا ، قالها للآمريه بها . . . ولم يقُلْها لمن يستَمْنِحُ المِنَحَا
في كَفهِ قلم ناهيك من قلمٍ . . . نُبلاً ، وناهيك من كَفّ بما اتشَحا
يَمْحُو ويُثْبتُ أرْزَاقَ العبادِ بهِ . . . فما المقاديرُ إلاَ ما مَحا ووحَى
كأنما القلمُ العُلْوي في يَدِهِ . . . يُجْرِيه في أي أنحاءِ البلادِ نَحا
لمَا تبَسمَ عنك المَجْدُ قلتَ لهُ . . . قَهْقِه فلا نَغَلاً تُبْدِي ولا قَلَحا
أُثني عليك بنعماك التي عًظُمَتْ . . . وقد وجدت بها في القوْلِ مُنْفَسحا
أمطرْ بِذَاك جَنَاني تَكْسُهُ زَهَراً . . . أنْتَ المحيا برياه إذا نَفَحا
أنشدتها على متوالي الاختيار ، وكذلك أجري في كثير من الأشعار .
وقال يعاتبه ويستبطئه : الطويل :
عَقيدَ الندَى ، أطلِق مَدائِحٍ جَمَّةً . . . حَبائسَ حَسْرى قد أبت أن تَسَرَّحا
وكُنت مَتى تنشد مديحاً ظلمته . . . يُرى لكَ أهجَى ما يُرى لك أمدحا
عَذَرْتُك لو كانت سماءٌ تَقَشَعَتْ . . . سَحائبُها أو كان رَوْضٌ تَصَوَحا
ولكنها سُقيا حُرِمْت رَوِيها . . . وعَارِضُهَا مُلْق كلاكِلَ جُنَحا
وأكْلاَء مَعْروفٍ حَرَمْتَ مَريعَهَا . . . وقد عاد منها السهْلُ والحَزْن مَسْرَحا
عَرَضْتَ لأورادي وبَحْرُكَ زاخِرٌ . . . فلمَا أردْنَ الوِرْدَ أَلْفَيْنَ ضَحْضَحَا
فلو لم ترِدْ أذْواد غَيْرِي غِمَارَه . . . لقُلتُ : سَرَابٌ بالمِتَانِ تَوَضحا
فيا لك بحْراً لم أجدْ فيه مَشْرباً . . . وإن كان غيري واجداً فيه مَسْبحا
مديحي عصا مُوسى ، وذلك أنني . . . صَرَبْتُ به بَحْرَ الندَى فتَضَحْضَحاسأمْدح بعضَ الباخلين لعَلّه . . . إذا اطّرَدَ المِقْيَاسُ أنْ يتسمَّحا
فيا لَيْتَ شِعْرِي إن ضَرَبْتُ به الصفَا . . . أيَبْعَثُ لي منه جداوِلَ سُيحا ؟
كتِلْكَ التي أبْدَتْ ثَرَى الأرض يابساً . . . وشَقتْ عيوناً في الحجارة سُفَحا
مَلكْتَ فأَسْجِحْ يا أبا الصقْرِ إنهُ . . . إذا مَلَكَ الأحرارَ مِثْلُكَ أسْجَحا
وما ضرع إلى أحد هذه الضرَاعة ، ولا في طوْقه هذا الاحتمال ؛ وهذه الأبيات الأخيرة إنما ولّد أكثرها من قول أبي تمام الطائي لمحمد بن عبد الملك الزيات : الطويل :
فلو حارَدَتْ شَوْل عَذَرْتُ لقَاحَها . . . ولكن حَرمْتُ الدَرَ والضّرْعُ حافلُ
أكابَرنا عطفاً علينا ؛ فإننا . . . لنا ظَمأ بَرْحٌ وأنتمْ مناهلُ
وفيه يقول : السريع : هذا مقامي يا بَني وائل . . . مات مستجير بكم عائِذِ
أنْشَبَ فيه الدهر أظفارَه . . . وعضه بالنابِ والناجِذِ
فأنْصِفوا منه أخَا حُرْمَةٍ . . . لاذَ بكُمْ منه مع اللائذِ
فما أرى الدهر على جَوْرهِ . . . يَخْرج مِنْ حكمكم النافذِ
وقال أيضاً : المنسرح :
يا أيُّها السيدُ الذي وَهَنَتْ . . . أنصارُ أمواله ولَمْ يَهنِ
فأصْبَحَت في يَدِ الضّعيف وذي ال . . . قوَة والَبَاقِليَ واللسِنِ
غيري على أنني مؤمِّلُك الْأقدم سائِلْ بذاك وامتحِنِ
مادح عشرين حجة كَمَلاً . . . محرومها عنك غَيْر مضطغنِفضلك أو عدلك الذي ائتمن الل . . . ه عليه أجَلّ مؤتَمن
إن كُنت في الشعر ناقداً فطنا . . . فلتعطني حقّ حصه الفطِنِ
وإن أكُن فيه ساقطاً زمناً . . . فلتعطني حق حصه الزَّمِنِ
سم بِيَ ديوانك الذي عدلت . . . جَدْوَاهُ بين الصحيح والضَّمِن
كثر بشخصي مَنِ استطعت من الن . . . اس فإن لم أزِنْكَ لم أشِنِ
ما حَق من لانَ صدره لَكَ بالْ . . . ود لقاءٌ بجانبٍ خَشِنِ
وقال أبو العباس الرومي لرجل مدحه في كلمة : الوافر :
أبعْدَ لِقايَ دونك كل قَفرٍ . . . يَدِق الشخصُ فيه أن يُلاقَى
وإعمالي إليك به المطايا . . . وقد ضَرَبَ الظلامُ له رِواقا
ورَفْضِي النومَ إلاّ أن تراني . . . أعانق واسط الكُور اعتناقَا
تسوق بنا الحُداةُ فليس تَدْرِي . . . أشوقاً كان ذَلك أَمْ سياقا
أصادف دِرَةَ المعروف شَكْرَى . . . لَدَيك ولا أذوق لها ذواقا
يقول فيها :
غَدا يَعْلُو الجيادَ وكانَ يَعْلُو إذا ما استَفْرَهَ السبْتَ الرَقاقا
أعِنتها الشُسُوعُ فإنْ عَراها . . . حَفاءُ الكَدِّ أنْعَلَها طِراقا
فزُوَج بَعْدَ قَفْرٍ منه نُعْمى . . . أراني اللَهُ صُبْحَتَها الطَّلاقا
أبو العيناء
قال أبو القاسم عليّ بن حمزة بن شمردل : حدثني أبي قال : سأَلتُ أبا العَيْنَاء عن نسبه ، فقال : أَنا محمدُ بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان ، وأصْلُ قومي من بني حنيفة من أهْلِ اليمامة ، ولَحِقهم سِباءٌ في أيام المنصور ؛ فلمّا صار ياسر في قَيْدِهِ أعْتَقَه ، فولاؤُنا لبني هَاشم ؛ وكان أبو العيناء ضَريرَ البَصرَ ؛ ويقال : إن جَدَه الأكبر لقيَ علي بن أبيطالب - رضي اللّه عنه - فأَساءَ مُخاطَبَتَه ؛ فدعا عليه وعلى ولده بالعَمَى ، فكلّ من عمي منهم صحيحُ النسب قال الصولي : حدّثني أبو العيناء ، قال : لما أُدْخِلْتُ على المتوكلِ فدعوتُ له وكلّمتُه استحسنَ كلامي ، وقال لي : بلغني أنَّ فيك شرًّا فقلتُ : يا أميرَ المؤمنين ، إن يكن الشرُ ذِكْرَ المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقد زَكّى الله تعالى وذم ، فقال في التزكية : ' نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَابٌ ' ، وقال في الذمّ : ' هَمَازٍ مَشَّاءً بنَميمٍ ، مَنّاعٍ للخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ' . وقال الشاعر : الطويل :
إذا أنا لم أمْدَحْ على الخير أهْلَهُ . . . ولم أذُممِ الجِبْسَ اللئيمَ المذمّما
ففيمَ عَرَفْتُ الخيرَ والشرَ باسْمهِ . . . وشقَّ ليَ اللَهُ المسامَع والفَما ؟
وإن كان الشرّ كفعل العَقْرَب التي تَلْسَعُ السَّنيَ والدنيَ بطَبْعٍ لا بتمييز ، فقد صَانَ اللَّهُ عبدَك عن ذلك فقال لي : بلغني أنك رَافِضيٌ ، فقلتُ : يا أميرَ المؤمنين ، وكيف أكونُ رافضيًّا وبلدي البصْرَة ومَنْشَئي في مَسْجِد جامِعها ، وأستاذِي الأَصْمَعي ، وليس يَخْلو القومُ أن يكونوا أرادُوا الدين أو الدنْيا ؛ فإن كانوا أرادوا الدَين فقد أجمع الناس على تقديم مَنْ أَخّروا ، وتأخير من قدموا ، وإن كانوا أرادوا الدنيا فأَنتَ وآباؤك أمراءُ المؤمنين ، لا دِينَ إلاّ بك ، ولا دنْيَا إلاّ معك .
قال : كيف ترى دَارِي هذه ؟ قال : قلت : رأيت الناس بَنَوْا دُورهم في الدنيا ، وأنت بنيتَ الدنيا في دارك . فقال لي : ما تقول في عبيد الله بن يحيى ؟ قلت : نِعْمَ العَبْد لله ولك ، مقَسَم بين طاعته وخدمتك ، يؤثِر رِضَاك على كل فائدةٍ ، وما عاد بصلاحِ ملكك على كل لذّةٍ .
قال : فما تَقول في صاحب البريد ميمون بن إبراهيم ؟ - وكان قد علم أني واجدٌ عليه بتقصير وقَعَ منه في أَمْرِي - فقلت : يا أميرَ المؤمنين ، يدٌ تَسْرِق واستٌ تضرط ؛ وهو مثل اليهوديّ سرق نصف جزْيتَه ، فلَه ، إقدامٌ بما أَدى ، وإحجام بما أبْقَى ، إساءتُه طبيعة ، وإحسانه تكلّفقال : قد أَرَدْتك لمجالستي ، قلت : لا أطيق ذاك ، وما أقول ذلك جهلاً بما لي في هذا المجلس من الشرَفِ ، ولكني محجوب ، والمحجوب تختلف عليه الإشارة ، ويَخْفَى عليه الإيماء ، ويجوز أن يتكلّم بكلام غَضْبان ووَجْهُك راضٍ أو بكلام راضٍ ووَجْهُك غضبان ، ومتى لم أُميز بين هذين هلكت ، قال : صدقت ، ولكن تلزمنا ، قلت : لزومَ الفَرْضِ الواجبِ اللازم ، فوصَلنِي بعشرة آلاف درهم .
ولأبي العيناء مع المتوكل مجالس أدْخَلَ الروَاة بَعْضها في بَعْضِ ، وسأُورد مستظرفها إن شاء اللّه : قال له المتوكل يوماً : يا أبا العَيناء ، لا تُكثِر الوقيعةَ في الناس ، قال : إن لي في بصَرِي لَشُغْلاً عن الوقيعة فيهم ، قال : ذلك أشَد لحيفك في أهل العافية وقال له يوماً : هل رأيتَ طالبياً حسنَ الوَجْهِ قطّ ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، أرأيت أحداً قطّ سأَل ضريراً عن هذا ؟ قال : لم تكن ضريراً فيما تقدّم ، وإنما سألتُك عما سلف ، قال : نعم ، رأيت منهم ببغداد منذ ثلاثين سنة فتًى ما رأيت أجمل منه ، قال المتوكِّل : تَجِدُه كان مؤاجراً ، وتَجِدُك كنت قوَاداً عليه فقال أبو العيناء : وفرغت لهذا يا أمير المؤمنين ، أتراني أدَعُ مَوَاليَّ على كَثْرَتِهم ، وأقُودُ على الغرَباء ؟ قال : اسكتْ يا مَأْبون ؟ قال : مَوْلَى قوم منهم قال المتوكل : أردتُ أن أشتفي به منهم فاشْتَفى لهم مني .
وكان أبو العيناء أحذ الناسِ خاطراً ، وأحْضَرَهم نادرة ، وأسْرَعهم جواباً ، وأبلغهم خطاباً .
والمتوكلُ أوّلُ من أظهرَ من خلفاء بني العباس الانهماكَ على شَهْوَته ، وكان أصحابه يتسخَّفون ويستخفّون بحضْرَته ، وكان يُهاتِرُ الجلساء ، ويفاخِر الرؤساء ، وهو مع ذلك من قلوب الناس مُحبَّب ، وإليهم مُقَرَب ؛ إذْ أماتَ ما أحياهُ الواثق من إظهار الاعتزالِ ، وإقامة سوق الجِدَال .
قال محمد بن مكرم الكاتب : مَنْ زعم أن عبدَ الحميد أكتَبُ من أبي العيناء إذا أحسّ بكرم ، أو شرع في طمع ، فَقَد ظلم .
كتب إلى أبي عبيد الله بن سليمان وقد نكبه وأباهُ المعتمدُ ، وهما يُطالَبان بمال يبيعان له ما يَمْلكانِه من عَقَار وأثَاثٍ وعَبْدٍ وأمَةِ ، وقد أعْطِي بخادم أَسْوَد لعبيد الله خمسون ديناراً :قد علمت - أصْلَحك اللهُ - أنّ الكريمَ المنكوب أجْرَأ على الأحرار من اللئيم الموفور ؛ لأن اللئيم يزيدُ مع النّعْمَةِ لُؤْماً ، والكريم لا يزيدُ مع المِحْنَةِ إلاَ كرماً ، هذا متَّكِلٌ على رازقه ، وهذا يُسيء الظنّ بخالقه ، وعبدك إلى مِلك كافور فقيرٌ ، وثمنه على ما اتَّصلَ بي يَسير ؛ لأنه بخدمته السلطان يعرّفني الرؤساء والإخوان ؛ ولست بواجدٍ ذلك في غيره من الغلمان ؛ فإنْ سمحت به فتِلك عَادَتُك ، وإن أمرت بأَخْذِ ثمنه فَمالُكَ مادَتي ، أدام الله دَوْلَتَك ، واستقبل بالنعمة نكْبَتَك . فأَمَر لَهُ به .
وسمع ابن مكرم رجلاً يقول : من ذهب بَصَرُه قلَّت حيلته ، قال : ما أَغْفَلك عن أبي العَيْناء وكتب أبو العيناء إلى عبيد الله بن سليمان : أنا - أعزك اللّه تعالى - ووَلَدِي وعيالي زَرْع من زَرعك ، إن سقيتَه راعَ وزَكا ، وإن جفَوْتَه ذَبُل وَذوَى ؛ وقد مسّني مِنْكَ جَفاءٌ بعد بر ، وإغفالٌ بعد تعاهُد ، حتى تكلم عدو ، وشَمِت حاسِدّ ، ولعبت بي ظنونُ رجالٍ كُنْتُ بهم لاعباً ، ولهم مجرساً ، وللَّهِ درُ أبي الأسود في قوله : الرمل :
لا تُهِني بعد إذ كْرَمْتَني . . . وشديد عادةٌ مُنتزَعًهْ فوقع في رقعته : أنَا - أَسعدك الله - على الحال التي عَهِدْتَ ، ومَيْلي إليك كما علمت ، وليس من أنْسَأنَاه أهْمًلْناه ، ولا من أخرْنَاه تركْناه ، مع اقتطاع الشغل لنا ، واقتسام زماننا ، وكان من حقَكَ علينا أن تذكرَنا بنفسك ، وتعلمنا أمْرَك ؛ وقد وقعت لك برزْقِ شَهْرَين ؛ لتريح غلتك ، وتعرفني مبلغَ استحقاقك ، لأُطْلِقَ لك باقيَ أرزاقك ، إنْ شاء الله ، والسلام .
وكان إذا خرج من داره يقول : اللهم إنّي أعوذُ بك من الركبِ والرُكُب ، والآجر والخَشب ، والزوَايا والقِرَب .
قطعة من خطابه وجوابه : دخل على أبي الصقر بعدما تأخَّرَ عنه ، فقال : ما أخرَكَ عنا ؟ قال : سُرِق حماري ،قال : وكيف شرِق ؟ قال : لم أكُنْ مع اللصّ فأخبرك قال : فلِمَ لم تأتِنا على غَيْرِهِ ؟ قال : قَعَدَ بي عن الشراء قِلّةُ يساري ، وكرهتُ ذِلَة المُكارِي ، ومِنّة العَوَاري .
وزحمه رجل بالجسر على حِمَاره ، فضرب بيديه على أُذُنَي الحمار ، وقال : يا فَتى ، قُلْ للحمارِ الذي فَوْقَك يقول : الطَّريق ودخل على إبراهيم بن المدبر ، وعنده الفَضْل بن اليزيدي ، وهو يُلقى على ابنه مسائل من النحو ، فقال : في أي باب هذا ؟ قال : في باب الفاعل والمفعول به ، قال : هذا بابي وباب الوالدة حفظها اللّه فغضب الفَضْل وانصرف ؛ وكان البحتري حاضراً فكتب بعد ذلك بقصيدته إلى إبراهيم بن المدبر التي أولها : الخفيف :
ذَكَّرَتْنِيكَ رَوْحَة للشَمُولِ . . . أَوْقَدَتْ لوْعتي وهَاجَت غَليلي
أي شيءً أَلْهَاكَ عن سرّ من را . . . ءَ وظل للعيش فيها ظَليلِ
وفيها يقول :
اقْتِصاراً على أحاديثِ فَضْل . . . وهو مستكرَه كثير الفُضُولِ
فعلامَ اصْطَفَيْتَ مُنكسف البا . . . لِ مُعادَ المِخْراق نزر القَبولِ
إن تَزُرْه تَجِدْه أَخْلَقَ من شَيْ . . . بِ الغَوَاني ومنْ تَعَفِّي الطُلُولِ
مُسْرِجاً ملجِماً وما مَتَعَ الصُبْ . . . ح ادّلاجاً للشَحْذِ والتَّطْفيلِ
غَيْرَ أن المعلمين على حَا . . . لٍ قليلو التمييز ضَعْفَى العُقُولِ
فإذا ما تَذاكرَه النَّاسُ معنى . . . مِنْ متينِ الأشعار والمجهول
قال : هذا لَنا ونحن كشفْنا . . . غَيْبَه للسّؤال والمسؤول
ضرب الأصمعيُّ فيهم أم الأح . . . مرُ أم ألقحوا بأير الخَلِيل
جُلُّ ما عنده التردّد في الفا . . . علِ مِنْ وَالِدَيْهِ والْمَفْعُولِوعَزَّى بَعْضَ الأمراءِ ، فقال : أيُّها الأمير ، كان العزاءُ لك لا بِك ، والفناءُ لنا لا لك ، وإذا كنتَ البقيّة فالرزيَّةُ عطيّة ، والتعزية تَهْنية .
وسئل أبو العيناء عرْ مالك بن طَوْق ، فقال : لو كان في زَمَنِ بني إسرائيل ونزل ذَبْحُ البقرة ما ذُبحَ غيره قيل : فأَخوه عمر ؟ قال : كسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُه الظَّمْآنُ ماءً حتى إذا جاءَه لم يَجدْه شيئاً .
وكان موسى بن عبد الملك قد اغتال نجاح بن سلمة في شراب شَرِبه عنده ، فقال المتوكّل بعد ذلك لأبي العيناء : ما تقول في نجاح بن سلمة ؟ قال : ما قال اللّه تعالى : فوكَزَه موسَى فَقَضى عليه فاتَّصَل ذلك بموسى ، فلقي الوزير عُبيد اللّه بن يحيى ابن خاقان ، فقال : أيّها الوزير ، أرَدْتَ قتلي فلم تَجِدْ إلى ذلك سبيلاً إلاّ بإدخال أبي العيناء إلى أمير المؤمنين مع عَدَاوتِه لي ؛ فعاتب عبيدُ اللّه أبا العيناء في ذلك ، فقال : والله ما استَعْذَبتُ الوقيعةَ فيه حتى ذَمَمْتُ سريرته لك ؛ فأَمْسَك عنه .
ثم دخل بَعْدَ ذلك أبو العَيْناء على المتوكل فقال : كيف كنتَ بعدُ ؟ قال : في أحوالٍ مختلفة ، خَيْرُها رُؤُيتك وشرُّها غَيْبَتُك ، فقال : قد واللَّه اشتَقْتُكَ قال : إنما يَشْتَاقُ العَبْد ؛ لأنه يتعذّرُ عليه لقاءُ مولاه ، وأما السيّدُ فمتى أراد عَبْدَه دعاه . وقال له المتوكل : مَنْ أَسْخَى مَنْ رأيت ؟ قال : ابنُ أبي دُوَاد ، قال المتوكّل : تأتي إلى رجل رفضته فتنسبه إلى السخاء ؟ قال : إنَّ الصدقَ يا أميرَ المؤمنين ليس في موضعٍ من المواضع أَنْفَق منه في مجلسك ؛ وإنَّ الناس يغلطون فيمن يَنْسبونَه إلى الجود ؛ لأنَّ سخاء البرامكة منسوب إلى الرشيد ، وسخاءَ الفضل والحسن ابنْي سَهْل منسوب إلى المأمون ، وجودُ ابن أبي دواد منسوبٌ إلى المعتصم ؛ فإذا نَسَب الناسُ الفَتْحَ وعبيد الله ابني يحيى إلى السخاء فذلك سَخَاؤُك يا أَمير المؤمنين ، قال : صدقت ؛ فمن أبخلُ من رأيت ؟ قال : موسى بن عبد الملك ، قال : وما رأيتَ من بُخْله ؟ قال : رأيته يخدم القريب كما يخدم البعيد ، ويَعْتَذِر من الإحسان كما يعتذِرُ من الإساءة ، فقال له : قد وَقَعْتَ فيه عندي مرتين ، وما أحبّ لك ذلك ؛ فألْقَهُ واعتذر إليه ، ولا يعلم أنّي وجهت بك ، قال : يا أمير المؤمنين ، من يستكتمني بحضرة ألف ؟ قال : لن تخاف ، قال : على الاحتراس من الخوف .
فصار إلى موسى فاعتذَر كلُّ واحد منهما إلى صاحبه ، وافترقا عن صلح ؛ فلقيه بعد ذلك بالجعفري ، فقال : يا أبا عبد اللّه ، قد اصطلحنا ، فما لك لا تَأْتينا ؟ قال : أتريد أن تقتلَني كما قتلت نَفْساً بالأِمس ؟ فقال موسى : ما أرانا إلاّ كما كُنّا .
وقال له المتوكل : إبراهيم بن نوح النصراني وَاجِدٌ عليك ، قال : ولن تَرْضَى عنكاليهودُ ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم قال : إن جماعة من الكتاب يلومونك فقال : الطويل :
إذا رضِيَتْ عَنّي كِرَامُ عشيرتي . . . فلا زال غَضْباناً عليَّ لِئَامها
قال المتوكل له : أكان أبوك في البلاغة مِثْلَكَ ؟ قال : لو رأى أمير المؤمنين أني لرأى عَبْداً له لا يَرْضَاني عبداً له .
وقيل لأبي العيناء : إن المتوكل قال : لولا أنه ضرير البصر لنَادَمْتُه ، فقال : إن أعفاني من رُؤية الأهلّة ، وقراءة نَقْشِ الفصوص ، فأنا أصْلُح للمنادمة .
ولقيه رجل من إخوانه في السَّحَر ، فجعل يُعْجَبُ من بُكُوره ، فقال : أراك تشاركني في الفعل وتُفْرِدُني بالتعجب ووقف به رجل من العامَّة فأحَسً به ، فقال : مَنْ هذا ؟ قال : رجل من بني آدم قال : مرحباً بك ، أطال اللّه بقاك وبقيت في الدنيا ، ما ظننتُ هذا النَسْل إلاَ قد انقطع ودخل على عبيد الله بن سليمان فقال : اقْرُب منّي يا أبا عبد الله ، فقال : أعزَّ الله الوزير ، تقريبُ الأولياء ، وحِرْمانُ الأعداء ، قال : تقريبُك غُنْمٌ ، وحِرْمانك ظُلْم ؛ وأنا ناظرٌ في أمرك نظراً يُصْلِحُ مِنْ حالك إن شاء اللّه .
وقال له يوماً : اعذرني فإنّي مشغول ، فقال له : إذا فرغت من شغلك لم نَحْتَجْ إليك ، وأنشده : الطويل :
فلا تَعْتَذِرْ بالشُغْل عنَّا ؛ فإنًما . . . تُناطُ بك الآمالُ ما اتَّصَلَ الشُغْلُ
ثم قال : يا سيِّدي ، قد عذرتك ، فإنه لا يَصْلُحُ لشُكْرك مَنْ لا يَصْلُح لعُذْرِك .
وأقبل إليه يوماً فقال : مِن أين يا أبا عبدِ الله ؟ قال : من مَطَارح الجَفَاء وقال له مرّة : نحن في العطلة مَرْحُومُون ، وفي الوزارة محرومون ، وفي القيامةِ كل نَفْسٍ بما كسبَتْ رهِينة .
وسار يوماً إلى باب صاعد بن مخلد ، فقيل : هو مشغولٌ يُصَلِّي ، قال : لكل جديدٍ لذةٌ وكان صاعدٌ نصرانياً قَبْلَ الوزارة .
ودخل إلى عميد اللّه بن سليمان ، فشكا إليه حالَه ، فقال : ألَيْسَ قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبّر ؟ فقال : كتبتَ إلى رجل قد قصَرَ من همَته طولُ الفقْر ، وذُل الأسْر ، ومعاناةُ مِحَنِ الدَّهْرِ ، فأخفقته في طَلِبَتي قال : أنْتَ اخترته ؟ قال : وما علي - أعزَّ اللهالوزير - في ذلك : قد اختار موسى قومه سَبعِينَ رجلاً ، فما كان منهم رَشيد ، واختار النبيّ ، ( صلى الله عليه وسلم ) ابنَ أبي سَرحٍ كاتباً ، فرجع إلى المشركين مرتداً ، واختار علي بن أبي طالب أبا موسى حاكماً فحكَمَ عليه
هروب إبراهيم بن المدبر من السجن
وكان إبراهيم بن المدبر أسَرَهُ صاحبُ الزّنج بالبصرَة وحبَسه ؛ فاحتال حتى نقب السجن وهَرَب ، فلذلك ذكر أبو العيناء ذُلَّ الأسْر ، وكان قد ضُرِب في وجهه ضَرْبَةً بَقِي أثرها إلى أن مات ؛ ولذلك قال البحتري : الكامل :
ومبِينَةٍ شَهَرَ المنازِل وَسْمَها . . . والخيل تَكْبُو في العَجاجِ الكابي كانت بوجهك دون عرضك إذ رأَوْا . . . أنَّ الوُجوهَ تُصانُ بالأحْساب
ولئن أُسِرْتَ فما الإسارُ على امرئ . . . نَصَرَ الإسارَ على الفرار بِعابِ
نامَ المضلل عن سُراكَ ولم تَخَفْ . . . عَيْنَ الرقيب وقَسْوَةَ البوَابِ
فَرَكِبْتَها هَوْلاً مَتى تُخْبِرْ بها . . . يَقلِ الجَبَانُ : أتيتَ غَيْر صَواب
ما راعَهُمْ إلاَّ استراقُكَ مُصْلَتاً . . . في مِثْلِ بُرْدِ الأرْقَمِ المُنْساب
تَحْمِي أُغَيلِمَةً وطائشةُ الخُطى . . . تَصِلي التلَفُتَ خَشيَةَ الطُلاّب
قد كان يوم ندى بِطَوْلكَ باهراً . . . حتى أضفْتَ إليه يَوْمَ ضِراب
ذِكْرٌ من البأس استعذْتَ إلى الَذي . . . أُعْطِيتَ في الأخْلاقِ والآدابِ
ووحيدة أنْتَ انْفَرَدْتَ بِفَضْلها . . . لولاكَ ما كُتِبَتْ على الكُتَّابِ
أخبار صاحب الزنج
قال أبو بكر الصولي : حدثني محمد بن أبي الأزهر ، وقد ذاكرْتُه خبرَ علي صاحب الزنج ، قال : ادَّعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي ابن الحسين بنعلي بن أبي طالب ، رضي اللّه عنهم ، فنظرت مولده ومولد محمد ابن أحمد الذي ادعاه فكان بينهما ثلاث سنين ؛ وكان لمحمد بن أحمد ولدٌ اسمه علي ، مات بعد هذا المدعي اسمَه ونسبَه بزمَانٍ . ثم رجع عن هذا النسب فادَعى أنه علي بن محمد بن عبد الرحيم بن رحيب بن يحيى المقتول بخرَاسان ابن زيد بن علي .
قال أبو عبيدة محمد بن علي بن حمزة : ولم يكن ليحيى وَلَد يقال له رحيب ولا غيره ؛ لأنَّه قُتل ابنَ ثماني عشرة سنَةَ ولا وَلَدَ له .
قال بشر بن محمد بن السَّرِيِّ بن عبد الرحمن بن رحيب : هو ابن عم أبي لحاً علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب ، ورحيب رجل من العجم من أهل وَرتين من ضياع الريّ ، وهو القائل لبني العباس : الطويل :
بني عمِّنا إنّا وأنتم أناملٌ . . . تضمنها من راحَتَيْها عُقُودها
بني عمِّنا ولَيتُم الترك أمْرَنا . . . ونحن قديماً أصلُها وعمودُها
فما بالُ عُجْم التركِ تقسم فَيْئَنا . . . ونحن لديها في البلادِ شُهُودُها
فأُقسِم لا ذقْتُ القَراح وإن أذقْ . . . فبُلْغَةُ عَيْشِ أو يُبَاد عميدُها
وقال أيضاً : الخفيف :
لَهْفَ نفسي على قصورٍ ببغدا . . . دَ وما قد حَوَتْهُ مِنْ كلِّ عاصِ
وخُمورٍ هُناك تُشْرَبُ جَهْراً . . . ورجالٍ على المعاصي حِراصِ
لستُ بابْنِ الفواطمِ الزُهْرِ إنْ لم . . . أُقْحِم الْخَيْلَ بين تِلْكَ العراصِ
وله في هذا المعنى شعرٌ كثير قد ناقضَه البغداديون ، وكانت مدّتُه حين نَجَم إلى أن قتل أرْبع عشرةَ سنةً ، وجملة مَن قتل ألفُ ألفٍ وخمسمائة ألف .
رجع إلى أخبار أبي العيناء
وذكر أبو العيناء رجلاً ، فقال : ضَحِكٌ كالبكاء ، وتودّد كالعزاء ، ونوادر كنَدْب الموتى وكان يُهاتر ابن مكرم كثيراً ، وكتب إليه ابنُ مكرم يوماً : قد ابْتَعْتُ لك غلاماً من بني ناشر ، ثم من بني نَاعِظ ، ثم من بني نهد . فكتب إليه : فأتنا بما تَعِدُنَا إن كُنْتَ من الصادقين .ووُلد لأبي العيناء ولد ، فأتى ابنُ مكرم فسلمّ عليه ، ووضع حجراً بين يديه وانصرف ، فأحس به ، فقال : مَن وضع هذا ؟ فقيل : ابن مكرم ؟ قال : لعنه الله إنما عرَض بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : الولَد للفراش وللعاهر الحجر .
وقال لابن مكرم ، وقد قدم من سفر : ما لك لم تُهدِ إلينا هديةً ؟ قال : لم آتِ بشيء ، وإنما قدمت في خُف . قال : لو قدمت في خفّ لخَلَّفتَ رُوحَكَ وأتى إلى باب إبراهيم بن رياح ، فحجب ، فقال : إذا شغل بكأس يمناه وبحر يسراه ، وانتسب إلى أبٍ لا يعرف أباه ، ولا يَحْفِل بحِجاب مَنْ أتاه .
وقدم إليه أبو عيسى بن المتوكل سِكباحةْ ، فجعل لا تقعُ يده إلاَّ على عظم ؛ فقال : جعلت فِدَاك هذه قِدر أو قبر ؟ ودعا ضريراً ليعشيه ، فلما يَدَعْ شيئاً إلاَّ أكله ، فقال : يا هذا ، دعوتك رحمةً فتَرَكتني رحمة .
ألفاظ لأهل العصر في صفات الطعام ومقدّماته ، وموائده ، وآلاته
افرش طعامَك اسمَ اللّه ، وألحُفهُ حَمْدَ الله . لا يَطِيبُ حضور الخِوان ، إلاّ مع الإخوان . البخلُ بالطعام ، من أخلاق الطَّغَام . الكريم لا يَحظُر ، تقديمَ ما يَحضُر . قد قامت خطباءُ القدور . قدورٌ أبكار ، بخواتِم النَّار . قِدْر طار عَرْفُها ، وطاب غَرْفُها . دَهْمَاء تهدِر كالفَنِيق ، وتَفُوح كالمِسكِ الفَتِيقِ . مائدة كدَارَة البَدر ، تباعد بين أنفاس الجلاَّس . مائدة مثلُ عروس . مائدة لطيفة ، محفوفةٌ بكل طَرِيفة . مائدة تشتمل على بدائع المأكولات ، وغرائب الطيِّبات . مائدةٌ كأنما عملها صنَّاع صنعاءَ ، تجمع بين أنوار الربيع ، وثِمَارِ الخريف .
وقال الجماز : جاءنا فلان بمائدةٍ كأنّها زَمَنُ البرامكة على العُفَاة وذَمَّ آخر رجلاً فقال : لا يَحْضُرُ مائدتَه إلاَّ أكرمُ الخَلْق وألأَمهم - يريد الملائكَةَ والذُّبَاب .وقال ابن الحجاج لرجل دعاه وأخًر الطعام : السريع :
قد جُنَ أصحابك من جُوعِهمْ . . . فاقرَأ عليهمْ سورةَ المائِدَهْ
ولبعض أهل العصر يذم رجلاً : الوافر :
خوَانٌ لا يِلِمُّ به ضيوفٌ . . . وعِرضٌ مثل مِنْدِيل الخِوَان
رغْفَانٌ كالبدور الممنطقة بالنّجوم . حَمَلٌ ذهبي الدَثار ، فِضَيُ الشعار . أطْيَبُ ما يكون الْحَمَلُ ، إذا حلًت الشمس الحَمَل . جَدْي كأنما نُدِف على جَبينه القَز . زِيْربَاجة ، هي للمائدة دِيباجة ، تَشفِي السَّقام ، ولونها لونُ السقيم . سِكْبَاجة تفتقُ الشهوة ، واسفيذباجة تُغَذي القَرِم ، وطَباهِجَة يَتَفَكّه بها ، وخَبيص يختم بخير . طَبَاهِجَة من شرط الملوك ، كأَعْرَافِ الديوك ، وقَلِيَّة كالعود المُطرَى . مغمومة تفرج غَمَّ الجائع . هريسةٌ نَفِيسة ، كأنها خيوط قَزّ مشتبكة ، كأَنَ المُرِّي عليها عُصَارَةُ المسك على سبيكة الفِضَة . أرزة مَلبونة ، في السكر مدفونة . شِواء رشراش ، وفالوذج رَجْرَاج . طَيَاهِجَة تغذى ، وفالوذجة تعزى ، واسفيذباجة تصفع قَفا الجوع . ولا فِراشَ للنبيذ ، كالحمَل الحنِيذ . دجاجةٌ سميطة ، لها من الفضة جسم ، ومن الذهب قشرة . دجاجة دِينارية ثمناً ولوناً .
وهذا محلول من قول علي بن العباس الرومي يصف طعاماً أكله عند أبي بكر الباقطاني : الكامل :
وَسَمِيطةٍ صفراءَ دينارية . . . ثمناً ولَوْناً زَفها لَك حَزْوَرُ
عظمت فكادَتْ أن تكونَ إِوَزَّةً . . . وغلت فكاد إهَابُها يتفطّرُطفقت تجودُ بذَوْبها جَوْذَابَة . . . فأتى لباب اللَوز فيها السكرُ
ظَلْنَا نقشِّر جِلْدَها عن لحمها . . . فكأن تِبْراً عن لجَيْن يُقْشَرُ
وتقَدَمَتْهَا قبل ذَاك ثَرَائِدٌ . . . مثل الرِّياضِ بمثل ذاك تُصَدَّرُ
ومرقَّقات كلُهُنَّ مزخرفٌ . . . بالبيض منها مُلْبَس ومُدَثَرُ
وأتتْ قطائِفُ بَعْدَ ذاك لطائفٌ . . . ترضَى اللهَاةُ بها ويَرْضَى الحنجَر
ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها . . . دمع العيان مِنَ الدّهان يُعَصرُ قال البديع : حدّثني عيسى بن هشام قال : اشْتَهَيْتُ الأَزَاذَ ، وأنا ببَغْداذَ ، وليس مَعِي عَقْد ، عَلَى نَقْد ، فخرجتُ أَنتهِزُ محالة ، حتى أحَلَني الكَرْخَ ؛ فإذا أنا بسَوَادِيّ يَحْدُو بالْجَهْدِ حمارَه ، ويُطَرَفُ بالْعَقْدِ إزارَه ؛ فقلت : ظَفرْنا واللّه بصَيدٍ ، وحَياكَ اللَّهُ أبا زَيْد مِنْ أيْنَ أقبلْتَ ؟ وأينَ نَزلْتَ ؟ ومتى وافَيْتْ ، فهَلُمَ إلى البيتْ . فقال السوادي : لستُ بأبي زيد ، وإنما أبو عُبَيْد فقلتُ : نعم ، لَعَنَ اللَّهُ الشيطانَ ، وأبْعَدَ النسيانَ ، أنْسَاني طول العَهْدِ بِكَ ، كَيْفَ أبوك ، أشَاب كَعَهْدِي ، أم شابَ بَعْدِي . قَالَ : قد نَبَتَ المَرْعى على دِمْنَتِه ، وأرجو أن يُصَيِّرَه اللَهُ إلى جَنَّتِه ، فقُلْتُ : إنّا للَهِ ، ولا قوة إلاَ باللّه ، ومددت يدَ البِدار ، إلى الصِّدَار أريد تمزيقه ، وأُحاول تخريقه ، فقبض السواديّ على خَصرِي بجُمْعه . وقال : نَشَدتُكَ باللّه لا مزَّقْتَه ، فقلت : فهلّم إلى البيت نُصِبْ غداء ، أو إلى السوق نشتري شِوَاء ؛ والسوقُ أقرب ، وطعامه أطيب ، فاستفزّتهُ حُمَةُ القَرَم ، وعَطَفَتهعطفة النَّهم ، وطمِع ، ولم يعلم أنه وقع ، ثم أتيت شَوَّاءً يتقاطرُ شِوَاؤه عرقَاً ، ويتسايل جُوذابه مرقَاً فقلت : أبرز لأبي زيد من هذا الشِّواء ، ثم زِن له من تلك الحَلواء ، واختر من تلك الأطباق ونضد علي أوراق الرقاق ، وشيئَاً من ماء السمَّاق ، ليأكلَه أبو زيد هنياً . فأنحى الشًوَّاء بساطُوره ، على زُبدَة تنورِه ، فجعلها كالكحل سَحقاً ، وكالطين دَقاً ، ثم جلس وجلست ، ولا نبَس ولا نبست ، حتى استوفيناه ، وقلت لصاحب الحلواء : زِن لأبي زيد من اللوزِينَج رطلين ، فإنه أجرى في الحلوق ، وأسرَى في العروق ، وليكن ليليَ العُمر ، يوميَّ النشر ، رقيق القشر ، كثيف الحَشو ، لؤلؤيّ الدهن كَوكبي اللون ، يذوب كالصَّمغ ، قبل المضغ ، ليأكله أبو زيد هنيّاً . فوزنه ، ثم قعد وقعدت ، وجردَ وجرَدت ، واستوفيناه ، ثم قلت : يا أبا زيد ، ما أحوجنا إلى ماء يَشَعشَع بالثلج ، ليقمَع هذه الصَّارة ، ويَفثَأ هذه اللقم الحارة ؛ أجلس أبا زيد حتى آتيك بسقاء ، يحيِينا بشَربَة من ماء ، ثم خرجت ، وجلست بحيث أراه ولا يراني ، أنظر ما يَصنع به . فلّما أبطأتُ عليه قام السَّوَادي إلى حماره ، فاعتلق الشَوَاء بإزاره ، وقال : أين ثمن ما أكلتَ ؟ قال : ما أكلته إلاَ ضيفاً قال الشواء : هاك وآك متى دعوناك ؟ زِن يا أخا القحبة عشرين ، وإلاَ أكلت ثلاثاً وتسعين فجعل السواديِّ يبكي ويمسح دموعه بأردانه ، ويحُلّ عقدَة بأَسنانه ، ويقول : كم قلت لذلك القرَيد ، أنا أبو عبيد ، وهو يقول : أنت أبو زيد ؟ فأنشدت : مجزوء الكامل :
اعمَل لرزقك كل آلَه . . . لا تَقعدَنّ بذُلِّ حاله
وانهض بكلِّ عزيمة . . . فالمرء يَعجزُ لا المَحَاله
ومن مليح ما قيل في القطائف قول عليّ بن يحيى بن أبي منصور المنجم : الرجز :
قطائِفٌ قَد حُشيَتْ باللَّوْزِ . . . والسُكّر الماذِيِّ حَشوَ الموزِيسبح في آذِيَ دهن الجَوز . . . سرِرت لما وقَعَت في حَوزيَ
سرور عَباس بقرب فَوزِ
ومن ألفاظ أهل العصر في الحلواء : فالوذج بلبَاب البُرّ ، ولعَاب النَّخل ، كأنَ اللوز فيه كواكب دُر ، في سماء عَقيق .
ولم يقل أحد في صفة اللوزِينَج أَحسن من قول ابن الرومي : السريع :
لا يُخطِئَنّي مِنك لوزِينج . . . إذا بدا أعجَبَ أو عجًبا
لو شاء أن يَذهَبَ في صَخرَة . . . لسهَّل الطِّيبُ له مَذهَبا
لم تَغلِق الشهوَةَ أبوابها . . . إلاَّ أبَت زلفَاه أن يحجَبا
يَدور بالنَّفحَة في جامِه . . . دَوراً ترَى الذهنَ له لولبا
عاوَن فيه مَنظَر مَخبَرَا . . . مستَحسَن ساعَدَ مستعذَبا
مَستكثف الحَشوِ ولكنه . . . أرَقُ جِلداً عن نَسِيمِ الصبا
كأنما قدّت جَلابيبه . . . من نقطة القَطرِ إذا حَبَّبا
يخالُ من رِقَّة خرشائِه . . . شارَك في الأجنِحَة الجُندبا
لو أنَّه صُوِّرَ من خَبزِهِ . . . ثَغر لكان الواضحَ الأشنَبَا
من كلِّ بيضاء يَوَدُّ الفتَى . . . أن يجعلَ الكفَ لها مَركَبا مَدهونَة زَرقاءَ مَدقوقة . . . صَهباء تحكي الأزرَق الأشهَبا
قرّة عَينٍ وفَمٍ حُسِّنَت . . . وطُيِّبَتْ حتى صَبا مَن صبا
ديفَ له اللوز ؛ فما مرَّة . . . مَرَّت على الذائق إلاَ أَبَىوانتقَدَ السُكَرَ نُقاده . . . وشاوَرُوا في نَقْدِهِ المذهبا
فلا إذا العَيْنُ رَأَته نَبَتْ . . . ولا إذا الضرْسُ عَلاه نَبَا
لا تُنكِروا الإدلالَ من وامِق . . . وَجَه تلقاءَكُمُ المطْلَبا
هذه الأبيات يقولها في قصيدة طويلة يمدح فيها أبا العباس أحمد بن محمد ابن عبد اللّه بن بشر المرثدي ، ويهنيه بابن ولده ، وأولها :
شمسِّ وبدر وَلَدَا كَوْكَبا . . . أَقْسمتُ باللَّهِ لَقَدْ أَنْجبا
قال أبو عثمان سعيد بن محمد الناجم : دخلت على أبي الحسن وهو يعمل هذه القصيدة ، فقّلت : لو تَفَاءَلْتَ فيها لأبي العباس بسبعة من الولد ؛ لأن أبا العباس منكوساً سابعٌ ، لجاء المعنى ظريفاً ، فقال : السريع :
وقد تفاءَلتُ له زاجِراً . . . كنْيَته ، لا زاجِراً ثَعْلَبا
إنّي تأمّلْتُ له كُنْيَةً . . . إذا بدا مَقْلوبُها أعْجَبا
يَصُوغُها العكْسُ أبا سابع . . . لا كَذَّب اللهُ ولا ، خيبا
بل ذاكَ فألٌ ضامِنٌ سَبْعَة . . . مِثْلَ الصّقُور استْشرَفَتْ مَرْقَبا
يأتون من صلْبِ فتًى مَاجِدٍ . . . وذاك فأْلٌ لم يَعُدْ مَعْطَبا
وقد أتانا منهمُ واحِد . . . فلننتظرهُمْ سِتةً غُيبا
في مُدةٍ تَغْمُرها نِعْمةٌ . . . يجعلها اللَهُ له تُرْتبا
حتى نراهُ جالساً بينهُمْ . . . أجَلَّ من رَضْوَى ومن كَبْكَبا
كالبدر وَافَى الأرضَ من نُورهِ . . . بين نجومٍ سبعَةٍ فاحْتَبى
ولْيُشْكَرِ النَّاجِمُ عن هذِهِ . . . فإنها من بَعضِ ما بَوَّبَا
سَدَى وألْحَمْتُ أخ لم أزَلْ . . . أشْكُر ما أسْدَى وما سَببا
وكان ابنُ الرومي منهوماً في المآَكل ، وهي التي قتَلَتْهُ ، وكان مُعْجَباً بالسمك ، فوعدهأبو العباس المرثدي أن يبعثَ إليه كل يوم بوظيفة لا تَنْقَطِع ، فبعث إليه يومَ سَبْتٍ ، ثم قطعه ، فقال : الخفيف :
ما لِحيتانِنَا جَفَتْنَا وأنَى . . . أخلَفَ الزائرونَ منتظريهمْ
جاء في السبت زَورُهُمْ فأتينا . . . من حِفَاظِ عليه ما يَكفِيهِمْ
وجعلناه يوم عيد عظيمٍ . . . فكأَنَّا اليهودُ أو نَحْكِيهمْ
وأراهُمْ مُصَمَمِينَ على الهَج . . . رِ فَلِمْ يُسْخِطُون مَن يُرْضيهمْ
قد سَبْتنا وما أتتْنا وكانُوا . . . يوم لا يَسْبِتُون لا تأْتيهمْ
فاتصل ذلك بالناجم ، فكتب إلى الرومي : المتقارب :
أبا حسنٍ ، أنْتَ مَنْ لا تزا . . . لُ نَحْمَدُ في الفَضْلِ رُجْحانَهُ
فكم تُحْسِنُ الظن بالمرثدي . . . وقد قلَلَ اللَهُ إحسانَهُ
ألم تَدْرِ أنَ الفتى كالسَرَاب . . . إذا وَعَدَ الْوَعْدَ إخوانَهُ
فبَحْرُ السرابِ يَفُوتُ الطلوبَ . . . فَقُل في طِلابك حيتانَهُ
وخرج ابنُ الرومي إلى بعض المتنزهات وقصدوا كَرْماً رازِقيًّا ، فشربوا هناك عامَة يومهم ، وكانوا يتهمونه في شِعْره ، فقالوا : إن كان ما تُنْشِدنا لكَ فقُلْ في هذا شيئاً ، فقال : لا تَرِيموا حتى أقول فيه ، وأنشدهم لوقته : الرجز :
ورازقي مُخْطَفِ الخصُورِ . . . كأنه مَخازِنُ البلُورٍ
قد ضُمِّنت مِسْكاً إلى الشطور . . . وفي الأعالي ماء وَرْد خوري
بلا فَريد وبلا شُذُورِ . . . له مَذاق العَسَل المَشُورِ
وبَرْدُ مَمنَ الخَصِر المقْروِر . . . ونكْهَة المِسْك مع الكافورِ
ورقة الماء على الصدورِ . . . باكَرْتُه والطيْرُ في الوُكُورِ
بِفتْيَةٍ من وَلَدِ المنصورِ . . . أملأُ للعَيْنِ من البُدورِحتى أتَيْنا خَيْمَة الناطور . . . قبل ارتفاع الشمس للذَّرورِ
فانحَطّ كالطَّاوِي من الصقور . . . بطاعةِ الرّاغِبِ لا المقهورِ
والحرُ عَبْد الحَلَبِ المشطورِ . . . حتى أتانا بِضُروع حورِ
مملوءةٍ من عَسَلِ محصورِ . . . والطَلُّ مثل اللؤلؤ المنثورِ
ثمّ جلَسْنا جِلْسَة المحبورِ . . . بين حِفافَي جَدوَل مَسجورِ
أبيض مثل المُهرق المنشورِ . . . أو مثل متن المُنصل المشهورِ
يَنْسَابُ مثل الحيَّةِ المذعورِ . . . بَين سِمَاطَي شَجرٍ مَسطورِ
ناهيك للعقود من ظُهورِ . . . فنِيلَت الأوطار في سُرُورِ
وكل ما يُقضَى مِنَ الأُمورِ . . . تَعِلَة من يَومِنا المنظورِ
ومُتْعةٌ منَ مُتَعِ الغُرورِ
ألفاظ تناسب هذا النحو لأهل العصر في صفات الفواكه والثمار
كَرْم نُسْلِفه الماء القَرَاح ، ويَقْضِينا أُمَهات الرّاح . عنقود كالثريَّا ، وعِنَبٌ كمخازن البلّور ، وضروبِ النُور ، وأوعيةِ السرور . أمّهات الرحيق ، في مخازن العَقِيق . نَخْل نُسْلِفه الماء ، ويقضينا العسل . رُطَب كأنها شُهْدة بالعقيق مقَنَّعة ، بالعِقْيان مُقَمَّعة . رُمَان كأنه صُرَر الياقوت الأحمر . سَفرجل يَجْمَع طيباً ، ومنظراً حسناً عجيباً ، كأنه زِئبر الخزّ الأغبر ، على الديباج الأصفر . تفَّاحٌ نَفَّاحٌ ، يجمع وَصْفَ العاشق الوَجِل ، والمعشوق الْخَجِل ، له نسيمُ العبير ، وطَعْمُ الكرّ ، رسولُ المحب ، وشبيه الحبيب . تِين كأنه سُفر مضمومة على عَسَل . مشمش كأنه الشَّهد في بَيَادِق الذهب .
ما قيل في وصف الليل والصيد واللهو
قال بعضُ الرواة : أنشدت أعرابياً قولَ جرير بن عطية بن الْخَطَفي :
أبدل الليلُ لا تَسْرِي كواكبُهُ . . . أمْ طال حتى حسبت النجمَ حَيْرَانا ؟فقال : هذا حسَنٌ في معناه ، وأعوذ باللّه من مثله ؛ ولكني أنشدك في ضدّه من قولي ، وأنشدني : الوافر :
وليل ثم يُقَصَرْهُ رُقادٌ . . . وقصَّر طولَه وَصْلُ الحبيبِ
نَعيمُ الحبّ أوْرق فيه حَتَّى . . . تناوَلَنا جَناهُ من قريبِ
بمجلس لذَّةٍ لم نَقْوَ فيه . . . على شكْوَى ولا عَدِّ الذنوبِ
بَخِلْنا أن نقطّعه بلَفْظٍ . . . فتَرْجَمَتِ العيونُ عن القُلوبِ
فقلت له : زدني فما رأيت أظرفَ منك شعراً ؛ فقال : أمَّا هذا الباب فحسبك ، ولكن أنشدك من غيره : الوافر :
وكنت إذا عَلِقْت حبالَ قوم . . . صَحِبْتُهُمُ وَشِيمَتيَ الوفاءُ
فأحسِنُ حين يُحْسِنُ محسنوهُمْ . . . وأجتنب الإساءَة إن أساءوا
أشاء سوى مشيئتهمْ فآتي . . . مشيئتهمْ وأتركُ ما أشاء
قال الأصمعي : قرأت على أبي مُحْذر خلف بن حيّان الأحمر شعرَ جرير ، فلمّا بلغت إلى قوله : الطويل :
ويوم كإبهامِ القَطاةِ محبّبٍ . . . إليّ صباهُ غالبٌ ليَ باطِلُهْ
رُزِقْنا به الصّيد العزيزَ ولم نكن . . . كمن نَبْلُهُ مَحْرُومةٌ وحبَائِلُهْ
فيا لك يومٌ خَيْرُه قبل شرِّهِ . . . تغيّب واشيه وأقْصرَ عاذِلُهْ
فقال خلف : وَيْحَه فما ينفعه خيرٌ يؤول إلى شرّ ؟ فقلت له : كذا قرأته على أبي عمرو بن العلاء ، فقال لي : وكذا قال جَرير ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلاَّ ما سمعَ ، قلت : فكيف كان يَجبُ أن يكونَ ؟ قال : الأجْوَد أن يقولَ : خيرُهُ دون شرِّه ، فارْوِه كذلك ، فقد كانت الرواةُ قديماً تُصْلِحُ أشعارَ الأوائل ، فقلت : واللّه لا أرويه بعدها إلاَ كذا .
ومن أجود ما قيل في قِصَر الليل قول إبراهيم بن العباس : الرجز :
وليلةٍ من الليالي الغُرِّ . . . قابلتُ فيها بَدْرَها ببَدْرِي
لم تَكُ غير شفَق وفَجْرِ . . . حتى تَقَضَّت وهي بِكْرُ الدَهْرِ
وقال محمد بن أحمد الأصبهاني فيما يتعلّق بهذا المعنى وإن كان في ذكر النهار : الخفيف :
كيف يُرْجَى لمقلتيَّ هُدُو . . . ورُقادي لطَرْفِ عَيْني عَدُوّ ؟ بأبي مَنْ نَعِمْتُ منه بِيَوْم . . . لم يَزَلْ للسرورِ فيه نمُويوم لهْوٍ قَدِ الْتَقَى طرفاهُ . . . فكأنَ العَشِي فيه غُدُوُ
إذ لشَخْصِ الرقيب فيه ثناءٌ . . . ولبَدْرِ السَماء مني دُنُوُ
وقال ابن المعتز : السريع :
يا رب ليل سَحَر كلّهُ . . . مفتضَح البدْرِ عليل النسيمْ
تلتقطُ الأنفاسُ بَرد النَّدَى . . . فيه فنهديه لِحَر الهُمومْ
لا أعرفُ الإصباحَ لمَا بدا . . . في ضوئه إلاَ بِسُكْر الندِيمْ
لبستُ فيه بالتذاذ الهوى . . . ولذّةِ الرَاح ثيابَ النعيمْ
وصف منبج
أخذ قوله : سَحَر كله من قول عبد الملك بن صالح بن علي ، وقد قال له الرشيد لما دخل منبج : أهَذا منزلك ؟ قال : هو لك ، ولي بك يا أميْرَ المؤمنين ، قال : كيف بناؤه ؟ قال : دون منازل أهْلي ، وفوق منازل الناس ، قال : وكيف ذلك وقَدْرُك فوق أقدارهم ؟ قال : ذلك خُلق أميرِ المؤمنين أتأسَى به ، وأَقْفُو أَثره ، وأخذوا حَذْوَهُ ، قال : فكيف طِيبُ مَنْبج ؟ قال : عَذْبَة الماء ، قليلة الأدْوَاء ، قال : فكيف لَيْلُها ؟ قال : سحر كله ؟ وأخذ هذا الطائي فقال : الكامل :
أيامنا مصقولة أطرافها . . . بك ، والليالي كلُها أسحارُ
ولأهل العصر ، قال أبو علي محمد بن الحسين بن المظفر الحاتمي : البسيط :
يا رب ليل سُرور خِلْته قِصَراً . . . كعارضِ البَرْقِ في أُفْق الدُجَا بَرَقا
قد كَادَ يعثر أولاَه بآخرهِ . . . وكادَ يسبق منه فًجْرُه الشَفَقا
كأنَما طرَفَاه طَرْفٌ اتفق الْ . . . جَفْنَانِ مِنْهُ على الإطْبَاق وافْتَرَقا
ألفاظ في هذا المعنى لأهل العصر
ليلة من حسنات الدهر ، هواؤها صحيح ، ونسيمُها عليل ، ليلة كبُرْدِ الشباب ، وبَرْدِ الشراب . ليلة من ليالي الشباب ، فِضيَة الأديم ، مِسكِيّة النسيم . ليلة هي لمْعَةُ العمر ، وغُرةُ الدهر . ليلة مِسْكيّة الأديم ، كافورية النجوم . ليلة رَقَد الدّهر عنها ، وطلعتسعودُها ، وغابت عُذالُها . ليلة كالمسك منظَرُها ومَخْبَرُها . ليلة هي باكورةُ العُمْر ، وبِكْرُ الدهر : ليلة ظلماتها أنوار ، وطِوال أوقاتها قِصَار .
الفضل بن سهل
كان سبب اتصال سعيد بن هُرَيْم بذي الرياستين الفَضلِ - وسمي ذا الرياستين ؛ لأنه جمع بين رياسة القلم ورياسة التدبير للَمأمون - أنه دخل عليه يوماً ، فقال : الأَجَل آفَةُ الأمل ، والمعروف ذُخْرُ الأَبد ، والبِرُ غنيمة الحازم ، والتفريط مصيبةُ أخي القدرة ، وإنا لم نَصُنْ وجوهَنا عن سؤالك ، فصُنْ وجهك عن ردِّنا ، وضَعْنا من إحسانك بحيث وضَعْنَا أنْفُسَنا من تأميلك .
فأمر أن يُكْتَب كلامُه ، وسماه سعيداً الناطق ، ووصله المأمون فخص به .
فلحقته في بعض الأوقات جَفْوَة من الفضل ، فكتب إليه : يا حافظَ مَنْ يَضع نفسَه عنده ، ويا ذَاكِرَ مَنْ نَسِيَ نصيبه منه ، ليس كتابي إذا كتبتُ استبطاءً ، وما إمساكي إذا أمسكتُ استغناء ، فكتبت مذكِّراً لا مستقصراً فِعْلَك . فوصله وأَحْسَن إليه .
وقد رُوِي بعضُ هذا الكلام المنسوب إلى سعيد بن هريم لأبي حفص الكرماني مع ذِي الرِّياستين .
ويقول أبو محمد عبد اللّه بن أيوب التميمي : الطويل :
لعَمْرُكَ ما الأَشْرَافُ في كلِّ بَلْدة . . . وإنْ عَظُمُوا لِلَفضْل إلاَ صَنَائِعُ
تَرَى عُظَماءَ الناس لِلْفَضْل خُشَعاً . . . إذا ما بَدَا ، والفَضْلُ لِلَهٍ خاشعُ
تَوَاضَعَ لمَّا زاده اللَهُ رِفعةً . . . وكلّ جليل عنده مُتَواضِعُ
وقال إبراهيم بن العباس : مجزوء المتقارب :
لفضل بن سَهْل يد . . . تقاصرَ عَنْهَا المَثَلْ
فباطِنُها للندى . . . وظاهِرُها للقُبَلْ
وبَسْطَتُها لِلْغِنَى . . . وسَطْوَتُها لِلأَجَلْ
أخذه ابنُ الرومي فقال لإبراهيم بن المدبر : الكامل :
أصْبَحْتُ بين ضَرَاعةٍ وتَجمل . . . والمرءُ بينهما يموتُ هزيلافامددْ إليَّ يداً تعوَّدَ بَطْنُها . . . بَذْلَ النوالِ وظَهْرُها التقبيلا وقال يمدح عبيد اللّه بن عبد الله بن طاهر ، وزاد في هذا المعنى تشبيهاً ظريفاً : الطويل :
مقبَّل ظَهْرِ الكفِّ وَهَّاب بَطْنها . . . لها راحةٌ فيها الحطيمُ وزَمْزَمُ
فظاهِرُها للناسِ رُكْنٌ مقَبَّلٌ . . . وباطنها عَيْنٌ من العُرْف عَيلَمُ
وكان ذو الرياستين يَقْبَلُ صوابَ القائلين بما في قوَته من صَفَاءَ الغريزة ، وجَودَة النَّحيزة ، فهو كما قال أبو الطيب : الخفيف :
مَلك مُنْشِدُ القَرِيض لَدَيْهِ . . . يضع الثوبَ في يَدَيْ بَزَّازِ
وكانت مخايل فَضلِه ، ودلائل عَقله ، ظهرت ليحيى بن خالد وهو على دِين المجوسية ، فقال له : أَسْلِم أجِد السبيلَ إلى اصْطِنَاعِك ، قال : فأسلم على يَدِ المأمون ، ولم يزل في جَنْبَته ، إلى أنْ رُقِّي إلى رُتْبته .
وذكره يحيى عند الرشيد فأجْمَل الثناء ، فأمر بإحضاره ، فلمّا رآه أُفْحِمَ ؛ فنَظَرَ الرشيد إلى يحيى كالمستفهم ؛ فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إنِّ من أدلّ دليل على فَرَاهَةِ المملوك أن تمْلك هيْبَةُ مولاه لسانَه وقلبَه ، فقال الرشيد : لئن كنت سكتَّ لكي تقولَ هذا فقد أحْسَنْت ، ولئن كان هذا شيئاً اعتراك عند الْحَصَر لقد أجدْتَ ؛ وزاد في إكرامه وتقريبه ، وجعل لا يسأله بعد ذلك عن شيء إلاّ أجابه بأفْصَحِ لسان ، وأجود بَيانِ .
قال سهل بنُ هارون : وممّا حُفظ من كلام ذي الرياستين ممّا رأينا تَخْلِيدَه في الكتب ، ليُؤْتَمّ به ، ويُنْتَفَعَ بمقْوَلِ حكمته ، قولُه : مَن تركَ حقًّا فقد غبن حظًا ، ومَن قْضَى حقًّا فقد أحْرَزَ غُنْماً ، ومَن أتَى فَضلاً فقد أوْجَب شكراً ، ومن أحْسَن توكّلاً لم يعدم مِنَ اللّه صنْعاً ، ومَن ترك لله شيئاً لم يَجِدْ لِما تَركَ فَقْداً ، ومَنِ التمسَ بمعصية اللَهِ حَمْداً عادَ ذلك على مُلْتَمِسِه ذمًّا ، ومن طلب بخلاف الحقِّ له دَرَكاً عاد ما أدرك من ذلك له مُوبقاً ؛وذلك أَوْجَب الفَلاح للمحسنين ، وجعل سوءَ العاقبة للمسيئين المقصَرينَ .
ووقَّع في رَقعَة ساعٍ : نحن نرى قبولَ السعاية شَرًّا منها ، لأنَّ السِّعاية دلالةٌ ، والقبول إجازة ، وليس مَن دَل على شيءٍ وأخبر به كمن قبِلَه وأجازهُ ؛ فاتَّقوا الساعِي ، فإنهُ لو كان في سِعَايَتِه صَادِقاً لكان في صدقه آثماً ؛ إذ لم يحفظ الحرمة ، ولم يستر العورَة .
والشيءُ يُقرَنُ مع جِنسِه : كتب محمد بن علي إلى محمد بن يحيى بن خالد ، وكان والياً على أرمينية للرشيد : إن قوماً صاروا إلى سبيل النّصح فذكروا ضِيَاعاً بأرمينية قْد عَفَت ودَرَسَت ، يرجع منها إلى السلطان مَال عظيم ، وإني وقفتُ عن المطالبةِ حتى أَعرِفَ رأيَك .
فكتب إليه : قرأتُ هذه الرقعةَ المذمومة ، وفَهِمْتُها ، وشوقُ السعاية بحَمْد اللّه في أيامنا كاسِدَة ، وألْسِنَة السُّعاةِ في أيامنا كَلِيلة خاسئة ؛ فإذا قَرَأْتَ كتابي هذا فاحْمِل الناسَ على قانونك ، وخُذْهم بما في ديوانِك ؛ فإنا لم نولِّك الناحية ، لِتتبعَ الرسوم العافية ، ولا لإحياء الأعْلام الداثرة ، وجنّبني وتجنب بيتَ جريرٍ يخاطبُ الفرزدق : الوافر :
وكنتَ إذا حَلَلْتَ بدارِ قوْم . . . رَحَلْتَ بِخًزْيَةٍ وتَرَكْتَ عَارَا
وأجْرِ أمورَك على ما يكسب الدُّعاء لنا لا علينا ، واعلم أنها مدّة تنتهي ، وأيامٌ تَنْقَضي ، فإمَا ذِكْرٌ جميلٌ ، وإما خِزْيٌ طَوِيل .
وقال رجلٌ للمَهدي : عندي نصيحةٌ يا أمير المؤمنين ، فقال : لِمَنْ نَصيحتك هذه ؟ لنا ، أمْ لِعامَةِ المسلمين ، أم لنفسك ؟ قال : لك يا أمير المؤمنين ، قال : ليس الساعي بأعظم عورةً ولا أقبَحَ حالاً ممّن قَبِل سِعَايته ، ولا تخلو من أن تكونَ حاسِدَ نعمة ، فلا نَشْفِي غَيْظك ، أَوْ عَدُوًا فلا نعاقب لك عدوَك ؛ ثم أقبل على الناس فقال : لا يَنْصَحْ لنا نَاصِح إلاَّ بما فيه لله رضاً ، وللمسلمين صَلاَح ، فإنما لنا الأبدانُ وليس لنا القلوبُ ؛ ومن استَتَر عنَّا لم نكشفه ، ومن بادَانا طلبْنا تَوْبته ، ومن أخطأ أقَلْنَا عَثْرَته ؛ فإني أرى التأديبَ بالصفْحِ أبْلغَ منه بالعقوبة ، والسلامة مع العفو أكْثر منها مع المُعاجَلة ، والقلوب لا تبقى لِوالٍ لا يَنْعَطِف إذا استُعْطِفَ ، ولا يعفو إذا قَدَر ، ولا يغفر إذا ظفر ، ولا يَرْحَمُ إذا استُرحم . ووقّع ذو الرياستين إلى تميم بن خزيمة : الأمور بتمامها ، والأعمال بخَوَاتمها ، والصنائعُ باستدامتها ، وإلى الغاية يَجْرِي الجواد ؛ فهناك كشفَتِ الْخِبْرَةُ قِناعَ الشَّكّ ؛ فحمد السابق ، وذم الساقط .
وذو الرياستين هوِ القائل : البسيط :
أنضيتِ أحرف لا ممَا لَفَظْتِ بها . . . فحوّلي رَحْلَها عنَّا إلى نَعَمأو صَيِّريها إليها منك منعمةً . . . إن كنتِ حاولت فيها خِفّة الْكَلِم
قِسْتُم علينا فعارَضْنَا قياسَكُمُ . . . يا أَحْسَن الناسِ من قَرْن إلى قَدَمِ
ولما قتل ذُو الرياستين دخَل المأمون على أمّه فقال : لا تَجْزَعِي فإني ابْنُك بعد ابنك . فقالت : أفلا أَبْكي على ابنٍ أَكسَبَنِي ابناً مِثْلَكَ ؟
في وصف الخيل
ووصف ابن القِرّية فرساً أَهْدَاه الحجاجُ إلى عبد الملك بن مروان فقال : حَسَنُ القَدَ ، أسِيلُ الخَد ، يسبق الطَّرْفَ ، ويستَغرِقُ الوَصْفَ .
وأهدى عبد الله بن طاهر إلى المأمون فرساً وكتب إليه : قد بعثتُ إلى أمير المؤمنين بفرسٍ يلحق الأرانب في الصَّعْداء ، ويجاوٍزُ الظِّباءَ في الاستواء ، ويسبق في الْحَدور جَرْيَ الماء ، فهو كما قال تأبّط شرّاً : الطويل :
ويَسْبِقُ وَفْدَ الرِّيح من حيث يَنتحِي . . . بمُنْخَرِقٍ من شَدَهِ المُتَدارِكِ
وقال رجل لبعض النخاسين : اشْتَرِ لي فرساً جَيدَ القَمِيص ، حسَنَ الفُصوص ، وثيق القَصَبِ ، نقيَ العَصَبِ ، يُشيرُ بأُذُنيه ، ويَنْدِسُ برجْلِيه ، كأنه موجٌ في لُجة ، أو سَيْلٌ في حَدُور .
جمع محمد بن الحسين ، هَذَيْنِ الكلامين وزاد فقال يصف فرساً : هو حَسَنُ القميص ، جَيد الفصوص ، وثيق القَصَب ، نقيُ العَصَب ، يُبْصِرُ بأذنيه ، وَيَتنوَّع بيديه ؛ ويُدَاخِل برجْلَيه ، كأنه موجٌ في لجة ، أو سيلٌ في حَدُور ، يناهبُ المشي قبل أن يُبْعث ، ويلحق الأرانب في الصعداء ، ويجاوِزُ جواري الظباء في الاستواء ، ويسبِق في الحَدُور جَرْيً الماء ، إنْ عُطِف جَارَ ، وإن أرسِل طار ، وإنْ كلّف السير أَمْعَن وسار ، وإن حُبس

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8