كتاب :الرد على المنطقيين
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

جسم ثم يقول كل حيوان جسم وكل جسم جوهر فكل إنسان حيوان فيلزم منهما أن كل إنسان جوهر
فيقال لهم أما المطلوب الذي لا يزيد على جزئين فذاك في النطق به والمطلوب في العقل إنما هو شئ واحد لا اثنان وهو ثبوت النسبة الحكمية او انتفاؤها وإن شئت قلت اتصاف الموصوف بالصفة نفيا أو إثباتا وإن شئت قلت نسبة المحمول الى الموضوع والخبر الى المبتدأ نفيا او إثباتا وأمثال ذلك من العبارات الدالة على المعنى الواحد المقصود ب القضية
فاذا كان النتيجة ان النبيذ حرام أو ليس بحرام او الانسان حساس او ليس بحساس او نحو ذلك فالمطلوب ثبوت التحريم للنبيذ او انتفاؤه وكذلك ثبوت الحس للانسان او انتفاؤه والمقدمة الواحدة إذا ناسبت ذلك المطلوب حصل بها المقصود وقولنا النبيذ خمر يناسب المطلوب وكذلك قولنا الانسان حيوان
فاذا كان الانسان يعلم ان كل خمر حرام ولكن يشك في النبيذ المتنازع فيه هل يسمى في لغة الشارع خمرا فقيل النبيذ حرام لانه قد ثبت في الصحيح عن النبي ص - انه قال كل مسكر حرام كانت هذا القضية وهي قولنا قد قال النبي ص - إن كل مسكر خمر يفيد تحريم النبيذ وإن كان نفس قوله قد تضمن قضية اخرى
والاستدلال بذلك مشروط بتقديم مقدمات معلومة عند المستمع وهي إن ما صححه اهل العلم بالحديث فقد وجب التصديق بأن النبي ص - قاله وإن ما حرمه الرسول فهو حرام ونحو ذلك
فلو لزم ان يذكر كل ما يتوقف عليه العلم وإن كان معلوما كانت المقدمات اكثر من اثنتين بل قد تكون اكثر من عشر وعلى ما قالوه فينبغي لكل من استدل

بقول النبي ص - ان يقول النبي حرم ذلك وما حرمه فهو حرام فهذا حرام وكذلك يقول النبي ص - اوجب وما أوجبه النبي فقد وجب فهذا قد وجب
وإذا احتج على تحريم الامهات والبنات ونحو ذلك يحتاج ان يقول إن الله حرم هذا في القران وما حرمه الله فهو حرام واذا احتج على وجوب الصلوة والزكوة والحج بمثل قول الله تعالى ولله على الناس حج البيت ال عمران يقول إن الله اوجب الحج في كتابه وما أوجبه الله فهو واجب وأمثال ذلك ما يعده العقلاء لكنه وعيا وإيضاحا للواضح وزيادة قول لا حاجة اليها
وهذا التطويل الذي لا يفيد في قياسهم نظير تطويلهم في حدودهم كقولهم في حد الشمس إنها كوكب يطلع نهارا وأمثال ذلك من الكلام الذي لا يفيد إلا تضييع الزمان وإتعاب الاذهان وكثرة الهذيان ثم إن الذين يتبعونهم في حدودهم وبراهينهم لا يزالون مختلفين في تحديد الامور المعروفة بدون تحديدهم ويتنازعون في البرهان على امور مستغنية عن براهينهم

إبطال قولهم ليس المطلوب اكثر من جزئين
وقولهم ليس المطلوب اكثر من جزئين فلا يفتقر الى اكثر من مقدمتين فيقال إن اردتم ليس له إلا اسمان مفردان فليس الامر كذلك بل قد يكون التعبير عنه بأسماء متعددة مثل من شك في النبيذ هل هو حرام بالنص أم ليس حراما لا بنص ولا قياس فاذا قال المجيب النبيذ حرام بالنص كان المطلوب ثلاثة اجزاء وكذلك لو سأل هل الاجماع دليل قطعي فقال الاجماع دليل قطعي كان المطلوب ثلاثة أجزاء فاذا قال هل الانسان جسم حساس نام متحرك بالارادة ناطق ام لا فالمطلوب هنا له ستة أجزاء
وفي الجملة فالموضوع والمحمول الذي هو مبتدأ وخبر وهو جملة خبرية قد تكون جملة مركبة من لفظين وقد تكون من الفاظ متعددة إذا كان مضمونها مقيدا قيود

كثيرة مثل قوله تعالى والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه التوبة وقوله تعالى إن الذين امنوا والذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله اولئك يرجون رحمت الله البقرة وقوله والذين امنوا من بعد وهاجروا وجهدوا معكم فأولئك منكم الانفال وأمثال ذلك من القيود التي يسميها النحاة الصفات والعطف والاحوال وظرف المكان وظرف الزمان ونحو ذلك
فاذا كانت القضية مقيدة بقيود كثيرة لم تكن مؤلفة من لفظين بل من الفاظ متعدده ومعان متعددة
وإن أريد أن المطلوب ليس إلا معنيان سواء عبر عنهما بلفظين او الفاظ متعددة قيل وليس الامر كذلك بل قد يكون المطلوب معنى واحدا وقد يكون معنين وقد يكون معاني متعددة فان المطلوب بحسب طلب الطالب وهو الناظر المستدل والسائل المتعلم المناظر وكل منهما قد يطلب معنى واحدا وقد يطلب معنيين وقد يطلب معانى والعبارة عن مطلوبه قد تكون بلفظ واحد وقد تكون بلفظين وقد تكون بأكثر فاذا قال النبيذ حرام قيل له نعم كان هذا اللفظ وحده كافيا في جوابه كما لو قيل له هو حرام
فان قالوا القضية الواحدة قد تكون في تقدير قضايا كما ذكرتموه من التمثيل ب الانسان فان هذه القضية الواحدة في تقدير خمس قضايا وهي خمس مطالب والتقدير هل هو جسم ام لا وهل هو حساس ام لا وهل هو نام أم لا وهل هو متحرك بالارادة ام لا وهل هو ناطق ام لا وكذلك فيما تقدم هل النبيذ حرام ام لا فاذا كان حراما فهل تحريمه بالنص او بالقياس
فيقال إذا رضيتم بمثل هذا وهو أن تجعلوا الواحد في تقدير عدد فالمفرد قد

يكون في معنى قضية فاذا قال النبيذ المسكر حرام فقال المجيب نعم فلفظ نعم في تقدير قوله هو حرام
وإذا قال ما الدليل عليه فقال الدليل عليه تحريم كل مسكر او أن كل مسكر حرام أو قول النبي ص - كل مسكر حرام ونحو ذلك من العبارات التي جعل الدليل فيها اسما مفردا وهو جزء واحد لم يجعله قضية مؤلفه من اسمين مبتدأ وخبر فان قوله تحريم كل مسكر اسم مضاف
وقوله ان كل مسكر حرام بالفتح مفرد ايضا فان أن وما في حيزها في تقدير المصدر المفرد وإن المكسورة وما في حيزها جملة تامة ولهذا قال النحاة قاطبة ان إن تكسر إذا كانت في موضع الجملة والجملة خبر وقضية وتفتح في موضع المفرد الذي هو جزء القضية ولهذا يكسرونها بعد القول لانهم إنما يحكون ب القول الجملة التامة
وكذلك إذا قلت الدليل عليه قول النبي ص - او الدليل عليه النص او اجماع الصحابة او الدليل عليه الاية الفلانية او الحديث الفلاني او الدليل عليه قيام المقتضى للتحريم السالم عن المعارض المقاوم او الدليل عليه انه مشارك لخمر العنب فيما يستلزم التحريم وامثال ذلك مما يعبر فيه عن الدليل اسم مفرد لا بالقضية التي هي جملة تامة ثم هذا الدليل الذي عبر عنه باسم مفرد هو إذا فصل عبر عنه بالفاظ متعدده
والمقصود ان قولكم إن الدليل الذي هو القياس لا يكون إلا جزئين فقط إن أردتم لفظين فقط وإن ما زاد على لفظين فهو أدلة لا دليل واحد لان ذلك اللفظ الموصوف بصفات تحتاج كل صفة الى دليل قيل لكم وكذلك يمكن ان يقال في اللفظين هما دليلان لا دليل واحد فان كل مقدمة تحتاج الى دليل
وحينئذ فتخصيص العدد باثنين دون ما زاد تحكم لا معنى له فانه اذا كان المقصود قد يحصل بلفظ مفرد وقد لا يحصل إلا بلفظين وقد لا يحصل إلا بثلاثة

او اربعة واكثر فجعل الجاعل اللفظين هما الاصل الواجب دون ما زاد وما نقص وان الزائد ان كان في المطلوب جعل مطالب متعددة وان كان في الدليل يذكر مقدمات جعل ذلك في تقدير اقيسة متعددة تحكم محض ليس هو اولى من ان يقال بل الاصل في المطلوب ان يكون واحدا ودليله جزء واحد فاذا زاد المطلوب على ذلك جعل ممطلوبين اوثلاثة او اربعة بحسب زيادته وجعل الدليل دليلين او ثلاثة او اربعة بحسب دلالته وهذا اذا قيل فهو احسن من قولهم لان اسم الدليل مفرد فيجعل معناه مفردا والقباس هو الدليل ولفظ القياس يقتضى التقدير كما يقال قست هذا بهذا والتقدير يحصل بواحد كما يحصل باثنين وبثلاثة فأصل التقدير بواحد واذا قدر باثنين او ثلاثة يكون تقديرين وثلاثة لا تقديرا واحدا فكون تلك التقديرات اقيسة لا قياسا واحدا
فجعلهم ما زاد على الاثنين من المقدمات في معنى اقيسة متعددة وما نقص عن الاثنتين نصف قياس لا قياس تام اصطلاح محض لا يرجع الى معنى معقول كما فرقوا بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة ل الماهية والوجود بمثل هذا التحكم

تنازع اصطلاحي في مسمى العلة والدليل
وحينئذ فيعلم ان القوم لم يرجعوا فيما سموه حدا وبرهانا الى حقيقة موجودة ولا الى امر معقول بل الى اصطلاح مجرد كتنازع الناس في العلة هل هي اسم لما يستلزم المعلوم بحيث لا يختلف عنها بحال فلا يقبل النقيض والتخصيص أو هو اسم لما يكون مقتضيا للمعلول وقد يتخلف عنه المعلول لفوات شرط او وجود مانع وكاصطلاح بعض اهل النظر والجدل في تسمية احدهم الدليل ل ما هو مستلزم للمدلول مطلقا حتى يدخل في ذلك عدم المعارض والاخر يسمى الدليل ل ما كان من شأنه ان يستلزم المدلول وإنما يتخلف استلزامه لفوات شرط او وجود مانع وتنازع اهل الجدل هل على المستدل ان يتعرض في ذكر الدليل

لتبيين المعارض جملة او تفصيلا حيث يمكن التفصيل أو لا يتعرض لتبيينه لا جملة ولا تفصيلا او يتعرض لتبيينه جملة لا تفصيلا
وهذه امور وضعية اصطلاحية بمنزلة الالفاظ التي يصطلح عليها الناس للتعبير عما في انفسهم وبمنزلة ما يعتاده الناس في بعض الافعال لكونهم رأوا ذلك اولى بهم من غيره وإن كان غيره اولى منه ليست حقائق ثابتة في انفسها لامور معقولة يتفق فيها الامم كما يدعيه هؤلاء في منطقهم
بل هؤلاء الذين يجعلون العلة والدليل يراد به هذا او هذا اقرب الى المعقول من جعل هؤلاء الدليل لا يكون إلا من مقدمتين فان هذا تخصيص لعدد دون عدد بلا موجب وأولئك لحظوا صفات ثابتة في العلة والدليل وهو وصف التمام او مجرد الاقتضاء فكان ما اعتبره اولئك اولى بالحق والعقل مما اعتبره هؤلاء الذين لم يرجعوا إلا الى مجرد التحكم

المنطق امر اصطلاحي وضعه رجل من اليونان
ولهذا كان العقلاء العارفون يصفون منطقهم بأنه امر اصطلاحي وضعه رجل من اليونان لا يحتاج اليه العقلاء ولا طلب العقلاء للعلم موقوفا عليه كما ليس موقوفا على التعبير بلغاتهم مثل فيلاسوفيا وسوفسطيقا وانولوطيقا وإثولوجيا وقاطيغورياس وإيساغوجى ومثل تسميتهم للفعل ب الكلمة وللحرف ب الاداة ونحو ذلك من لغاتهم التي يعبرون بها عن معانيهم

تعلم العربية فرض على الكفاية بخلاف المنطق
فلا يقول احد إن سائر العقلاء يحتاجون الى هذه اللغة لا سيما من كرمه الله بأشرف اللغات الجامعة لأكمل مراتب البيان المبينة لما تتصوره الاذهان بأوجز لفظ وأكمل تعريف
وهذا ما احتج به ابو سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة لمتى الفيلسوف لما اخذ متى يمدح المنطق ويزعم احتياج العقلاء اليه ورد عليه ابو سعيد بعدم الحاجة اليه وأن الحاجة انما تدعو الى تعلم العربية لان المعاني فطرية عقلية لا تحتاج الى اصطلاح خاص بخلاف اللغة المتقدمة التي يحتاج اليها في معرفة ما يجب معرفته من المعاني فانه لا بد فيها من التعلم ولهذا كان تعلم العربية التي يتوقف فهم القران والحديث عليها فرضا على الكفاية بخلاف المنطق

بطلان القول بأن تعلم المنطق فرض على الكفاية
ومن قال من المتأخرين إن تعلم المنطق فرض على الكفاية فانه يدل على جهلة بالشرع وجهله بفائدة المنطق وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الاسلام وأجهل منه من قال إنه فرض على الاعيان مع ان كثيرا من هؤلاء ليسوا مقرين بايجاب ما اوجبه الله ورسوله وتحريم ما حرمه الله ورسوله
ومعلوم ان افضل هذه الامة من الصحابة والتابعين لهم باحسان وأئمة المسلمين عرفوا ما يجب عليهم وكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يعرف منطق اليونان فكيف يقال إنه لا يوثق بالعلم إن لم يوزن به او يقال إن فطر بني آدم في الغالب لا تستقيم إلا به
فان قالوا نحن لا نقول إن الناس يحتاجون الى اصطلاح المنطق بل الى المعاني التي توزن بها العلوم قيل لا ريب أن المجهولات لا تعرف إلا بالمعلومات والناس يحتاجون الى ان يزنوا ما جهلوه بما علموه وهذا من الموازين التي انزلها الله حيث قال الله الذي انزل الكتب بالحق والميزان الشورى وقال لقد ارسلنا رسلنا بالبينت وانزلنا معهم الكتب والميزان الحديد وهذا موجود عند أمتنا وغير أمتنا ممن لم يسمع قط بمنطق اليونان فعلم أن الامم غير محتاجة إليه
ملخص دعاوي أهل المنطق وكذبها
وهم لا يدعون احتياج الناس الى نفس الفاظ اليونان بل يدعون الحاجة الى المعاني المنطقية التي عبروا عنها بلسانهم وهو كلامهم في المعقولات الثانية فان موضوع المنطق هو المعقولات الثانية من حيث يتوصل بها الى علم ما لم يعلم فانه ينظر في أحوال المعقولات الثابتة وهي النسب الثابتة للماهيات من حيث هي مطلقة عرض لها إن كانت موصولة الى تحصيل ما ليس بحاصل او معينة في ذلك لا على وجه جزئي بل على قانون كلي

ويدعون ان صاحب المنطق ينظر في جنس الدليل كما ان صاحب اصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته فيميز بين ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي وينظر في مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض وهم يزعمون أن صاحب المنطق ينظر في الدليل المطلق الذي هو أعم من الشرعي ويميز بين ما هو دليل وما ليس بدليل
ويدعون ان نسبة منطقهم الى المعاني كنسبة العروض الى الشعر وموازين الاموال الى الاموال وموازين الاوقات الى الاوقات وكنسبة الذراع الى المذروعات
وهذا هو الذي قاله جمهور علماء المسلمين وغيرهم من العقلاء إنه باطل فان منطقهم لا يميز بين الدليل وغير الدليل لا في صورة الدليل ولا في مادته ولا يحتاج ان يوزن به المعاني بل ولا يصح وزن المعاني به على ما هو عليه وإن كان فيه ما هو حق فلا بد في كلام كل مصنف من حق بل فيه امور باطلة إذا وزنت بها العلوم افسدتها
ودعواهم انه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن ان يزل في فكره دعوى كاذبة بل من أكذب الدعاوي
والكلام معهم إنما هو في المعاني التي وضعوها في المنطق وزعموا ان التصورات المطلوبة لا تنال إلا بها والتصديقات المطلوبة لا تنال إلا بها فدكروا لمنطقهم اربع دعاوي دعوتان سالبتان ودعوتان موجبتان
أدعوا أنه لا تنال التصورات بغير ما ذكروه فيه من الطريق وان

التصديقات لا تنال بغير ما ذكروه فيه من الطريق وهاتان الدعوتان من أظهر الدعاوي كذبا وأدعوا ان ما ذكروه من الطريق يحصل به تصور الحقائق التي لم تكن متصورة وهذا ايضا باطل وقد تقدم البينة على هذه الدعاوي الثلاثة وسياتي الكلام على دعواهم الرابعة التي هي امثل من غيرها وهى دعواهم ان برهانهم يفيد العلم التصديقى
فان قالوا إن العلم التصديقي او التصوري ايضا لا ينال بدونه فهم ادعوا ان طرق العلم على عقلاء بني آدم مسدودة إلا من الطريقين اللتين ذكروهما ما ذكروه من الحد وما ذكروه من القياس وادعوا ان ما ذكروه من الطريقين يوصلان الى العلوم التي ينالها بنو آدم بعقولهم بمعنى ان ما يوصل لا بد ان يكون على الطريق الذي ذكروه لا على غيره فما ذكروه آلة قانونية به توزن الطرق العلمية ويميز به بين الطريق الصحيحة والفاسدة فمراعاة هذا القانون يعصم الذهن ان يزل في الفكر الذي ينال به تصور او تصديق
هذا ملخص دعاويهم وكل هذه الدعاوي كذب في النفي والاثبات فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل ولا ما اثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي ادعوه فيه وإن كان في طرقهم ما هو حق كما ان في طرق غيرهم ما هو باطل فما احد منهم ولا من غيرهم يصنف كلاما إلا ولا بد ان يتضمن ما هو حق

ما معهم من الحق أقل مما مع اليهود والنصارى والمشركين
فمع اليهود والنصارى من الحق بالنسبة الى مجموع ما معهم اكثر مما مع هؤلاء من الحق بل ومع المشركين عباد الاصنام من العرب ونحوهم من الحق أكثر مما مع هؤلاء بالنسبة الى ما معهم في مجموع فلسفتهم النظرية والعلمية الاخلاق والمنازل والمداين

ولهذا كان اليونان مشركين كفارا يعبدون الكواكب والاصنام شرا من اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل بكثير ولولا ان الله من عليهم بدخول دين المسيح اليهم فحصل لهم من الهدى والتوحيد وما استفادوه من دين المسيح ما داموا متمسكين بشريعته قبل النسخ والتبديل لكانوا من جنس أمثالهم من المشركين
ثم لما غيرت ملة المسيح صاروا على دين مركب من حنيفية وشرك بعضه حق وبعضه باطل وهو خير من الدين الذي كان عليه اسلافهم
وقد قيل إن آخر ملوكهم كان صاحب المجسطى بطلميوس
والمشهور المتواتر ان ارسطو وزير الاسكندر بن فيلبس كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وكثير من الجهال يحسب ان هذا هو ذو القرنين المذكور في

القرآن ويعظم أرسطو بكونه كان وزيرا له كما ذكر ذلك ابن سينا وامثاله من الجهال باخبار الامم

مقالات سخيفة للمتفلسفة والمتصوفة في الانبياء المرسلين
ومن ملاحدة المتصوفة من يزعم ان ارسطو كان هو الخضر خضر موسى
وهؤلاء منهم من يفضل الفلاسفة على الانبياء في العلم ويقول إن هارون كان أعلم من موسى وإن عليا كان أعلم من النبي ص - كما يزعمون ان الخضر كان أعلم من موسى وأن عليا وهارون والخضر كانوا فلاسفة يعلمون الحقائق العقلية العلمية اكثر من موسى وعيسى ومحمد لكن هؤلاء كانوا في القوة العلمية اكمل ولهذا وضعوا الشرائع العلمية
وهؤلاء يفضلون فرعون على موسى ويسمونه أفلاطن القبطي وقد يقولون إن صاحب مدين الذي تزوج موسى بنته هو أفلاطن اليوناني استاذ ارسطو ويقولون إن موسى كان أعلم من غيره بالسحر وإنه استفاد ذلك من حموه إذ كان عندهم ليست المعجزات إلا قوى نفسانية أو طبيعية أو فلكية من جنس السحر ولكن موسى كان مبرزا على غيره في ذلك
إلى أمثال ذلك من المقالات التي تقولها الملاحدة المتفلسفة المنتمون الى الاسلام في الظاهر من متشيع ومتصوف كابن سبعين وابن عربي وأصحابه

ولهم من هذا الجنس ما يطول حكايته مما يدل على انهم من اجهل الناس بالمعقول والمنقول ولم يكفهم جهلهم بما جاءت به النبوات حتى ضموا الى ذلك الجهل بأخبار العالم وأيام الناس والجهل بالعقليات
فان أفلاطن استاذ ارسطو كان قبل المسيح بأقل من اربعمائة سنة وذلك بعد موسى بمدة طويلة تزيد على فكيف يتعلم منه

إيطال القول بحياة الخضر
وقولهم إن الخضر هو ارسطو من اظهر الكذب البارد والخضر على الصواب مات قبل ذلك بزمان طويل والذين يقولون انه حي كبعض العباد وبعض العامة وكثير من اليهود والنصارى غالطون في ذلك غلطا لا ريب فيه
وسبب غلطهم انهم يرون في الاماكن المنقطعة وغيرها من يظن انه من الزهاد ويقول انا الخضر وقد يكون ذلك شيطانا قد يتمثل بصورة آدمي
وهذا مما علمنا في وقائع كثيرة حتى في مكان الذي كتبت فيه هذا عند الربوة

بدمشق رأى شخص بين الجبلين صورة رجل قد سد ما بين الجبلين وبلغ راسه راس الجبل وقال انا الخضر وانا نقيب الاولياء وقال للرجل الرائي انت رجل صالح وانت ولي الله ومد يده الى فأس كان الرجل نسيه في مكان وهو ذاهب اليه فناوله اياه وكان بينه وبين ذلك المكان نحو ميل ومثل هذه الحكاية كثير
وكل من قال انه راى الخضر وهو صادق اما ان يتخيل له في نفسه انه راه ويظل ما في نفسه كان في الخارج كما يقع لكثير من ارباب الرياضات واما ان يكون جنيا يتصور له بصورة انسان ليضله وهذا كثير جدا قد علمنا منه ما يطول وصفه واما ان يكون راى انسيا ظن انه الخضر وهو غالط في ظنه فان قال له ذلك الجني او الانسي انه الخضر فيكون قد كذب عليه لا يخرج الصدق في هذا الباب عن هذه الاقسام الثلاثة
واما الاحاديث فكثيرة ولهذا لم ينقل عن احد من الصحابة انه راى الخضر ولا اجتمع به لانهم كانوا اكمل علما وايمانا من غيرهم فلم يكن يمكن الشيطان التلبيس عليهم كما لبس على كثير من العباد ولهذا كثير من الكفار اليهود والنصارى يأتيهم من يظنون انه الخضر ويحضر في كنائسهم وربما حدثهم بأشياء وانما هو شيطان جاء اليهم فيضلهم
ولو كان الخضر حيا لوجب عليه ان يأتي الى النبي ص - فيؤمن به ويجاهد معه كما اخذ الله الميثاق على الانبياء واتباعهم بقوله واذ اخذ الله ميثاق النبين لما اتيتكم من كتب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ال عمران والخضر قد اصلح السفينة لقوم من عرض الناس فكيف لا يكون بين محمد واصحابه
وهو ان كان نبيا فنبينا افضل منه وان لم يكن نبيا فأبو بكر وعمر افضل منه وهذا مبسوط في موضعه

حقيقة شخصيات أرسطو والاسكندر وذي القرنين
وكلامنا هنا في ضلال هؤلاء المتفلسفة الذين يبنون ضلالهم بضلال غيرهم فيتعلقون بالكذب في المنقولات وبالجهل في المعقولات كقولهم إن أرسطو وزير ذي القرنين المذكور في القرآن لأنهم سمعوا انه كان وزير الاسكندر وذو القرنين يقال له الاسكندر
وهذا من جهلهم فان الاسكندر الذي وزر له ارسطو هو ابن فيلبس المقدوني الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى وهو إنما ذهب الى ارض القدس لم يصل الى السد عند من يعرف اخباره وكان مشركا يعبد الاصنام وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الاصنام
وذو القرنين كان موحدا مؤمنا بالله وكان متقدما على هذا ومن يسميه الاسكندر يقول هو الاسكندر بن دارا

ولهذا كان هؤلاء المفلسفة إنما راجوا على ابعد الناس عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض وكجهال المتصوفة وأهل الكلام وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والايمان إما كفارا وإما منافقين كما نفق منهم من نفق على المنافقين الملاحدة ثم نفق على المشركين الترك وكذلك إنما ينفقون دائما على اعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين

مزيد الكلام على تحديدهم الاستدلال بمقدمتين فقط
وكلامنا الان فيما احتجوا به على انه لا بد في الدليل من مقدمتين لا اكثر ولا اقل وقد عرف ضعفه
ثم إنهم لما علموا ان الدليل قد يحتاج الى مقدمات وقد يكفى فيه مقدمة واحدة قالوا إنه ربما ادرج في القياس قول زائد أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد او صحيح كبيان المقدمتين ويسمونه المركب قالوا ومضمونه اقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد إلا ان المطلوب منها بالذات

ليس إلا واحدا قالوا وربما حذفت إحدى القدمات إما للعلم بها او لغرض فاسد وقسموا المركب الى مفصول و موصول كما تقدم
فيقال هذا اعتراف منكم بان من المطالب ما يحتاج الى مقدمات و منها ما يكفى فيه مقدمة واحدة ثم قلتم ان ذلك الذى يحتاج الى مقدمات هو فى معنى اقيسة متعددة فيقال لكم اذا ادعيتم ان الذى لا بد منه انما هو قياس واحد يشتمل على مقدمتين وان ما زاد على ذلك هو في معنى اقيسة كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات فقولوا ان الذي لا بد منه هو مقدمة واحدة وان ما زاد على تلك المقدمة من المقدمات فانما هو لبيان تلك المقدمة
وهذا اقرب الى المعقول فانه اذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه وهو ثبوت الخبر للمبتدا او المحمول للموضوع الا بوسط بينهما هو الدليل فالذي لا بد منه هو مقدمة واحدة وما زاد على ذلك فقد يحتاج اليه وقد لا يحتاج اليه
واما دعوى الحاجة الى القياس الذي هو المقدمتان للاحتياج الى ذلك في بعض المطالب فهو كدعوى الاحتياج في بعضها الى ثلاث مقدمات واربع وخمس للاحتياج الى ذلك في بعض المطالب وليس تقدير عدد باولى من عدد وما يذكرونه من حذف احدى المقدمتين لوضوحها او للتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة
ومن احتج على مسألة بمقدمة لا تكفي وحدها في بيان المطلوب او مقدمتين او ثلاثة لا تكفي طولب بالتمام الذي يحصل به الكفاية واذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع وعورض منها ما يقبل المعارضة حتى يتم الاستدلال كمن

طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص حين قال هذا حرام فقيل له لم قال لانه نبيذ مسكر فهذه المقدمة كافية إن كان المستمع ممن يعلم ان كل مسكر حرام اذا سلم له تلك المقدمة
وان منعه اياها وقال لا نسلم ان هذا مسكر احتاج الى بيانها بخبر من يوثق بخبره او بالتجربة في نظيرها وهذا قياس تمثيل وهو مفيد لليقين فان الشراب الكثير اذا جرب بعضه وعلم انه مسكر علم ان الباقي منه مسكر لان حكم بعضه مثل بعض وكذلك سائر القضايا التجربية كالعلم بأن الخبز يشبع والماء يروي وامثال ذلك انما مبناها على قياس التمثيل بل وكذلك سائر الحسيات التي علم انها كلية انما هو بواسطة قياس التمثيل
وان كان ممن ينازعه في ان النبيذ المسكر حرام احتاج الى مقدمتين الى اثبات ان هذا مسكر والى ان كل مسكر خمر فيثبت الثانية بأدلة متعددة كقول النبي ص - كل مسكر خمر وكل شراب اسكر فهو حرام وبأنه سئل عن شراب يصنع من العسل يقال له البتع وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر وكان قد اوتي جوامع الكلم فقال كل مسكر حرام وهذه الاحاديث في الصحيح وهي واضعافها معروفة عن النبي ص - تدل على انه حرام كل شراب اسكر
فان قال انا اعلم انه خمر لكن لا اسلم ان الخمر حرام او لا اسلم انه حرام مطلقا اثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا

مزيد البيان ان المقدمة الواحدة قد تكفي
ومما يبين لك ان المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب ان الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه كما تقدم بيانه ولما كان الحد الاول مستلزما للاوسط

و الاوسط للثالث ثبت ان الاول مستلزم للثالث فان ملزوم الملزوم ملزوم ولازم اللازم لازم فالحكم لازم من لوازم الدليل لكن لم يعرف لزومه اياه الا بوسط بينهما والوسط ما يقرن بقولك لانه
و هذا مما ذكره المنطقيون ابن سينا وغيره ذكروا الصفات اللازمة للموصوف وان منها ما يكون بين اللزوم وردوا بذلك على من فرق من اصحابهم بين الذاتي واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر الى وسط بخلاف الذاتي فقالوا له كثير من الصفات اللازمة لا يفتقر الى وسط وهي البينة اللزوم والوسط عند هؤلاء هو الدليل
واما ما ظنه بعض الناس ان الوسط هو ما يكون متوسطا في نفس الامر بين اللازم القريب واللازم البعيد فهذا خطا ومع هذا يتبين حصول المراد على التقديرين فنقول
اذا كانت اللوازم منها ما لزومه للملزوم بين بنفسه لا يحتاج الى دليل يتوسط بينهما فهذا نفس تصوره وتصور الملزوم يكفي في العلم بثبوته له واذا كان بينهما وسط فذاك الوسط اذا كان لزومه للملزوم الاول ولزوم الثاني له بينا لم يفتقر الى وسط ثان
وان كان احد الملزومين غير بين بنفسه احتاج الى وسط وان لم يكن واحد منهما بينا احتاج الى وسطين وهذا الوسط هو حد تكفي فيه مقدمة واحدة
فاذا طلب الدليل على تحريم النبيذ المسكر فقيل لانه قد صح عن النبي ص - أنه قال كل مسكر خمر او كل مسكر حرام فهذا الوسط وهو قول النبي ص - لا يفتقر عند المؤمن لزوم تحريم المسكر له الى وسط ولا يفتقر لزوم تحريم النبيذ المتنازع فيه لتحريم المسكر الى وسط فان كل احد يعلم انه اذا حرم كل مسكر حرم النبيذ المسكر المتنازع فيه وكل

مؤمن يعلم ان النبي ص - اذا حرم شيئا حرم
ولو قال الدليل على تحريمه انه مسكر فالمخاطب ان كان يعرف ان ذلك مسكر والمسكر محرم سلم له التحريم ولكنه كان غافلا عن كونه مسكرا او جاهلا بكونه مسكرا
وكذلك اذا قال لانه خمر فان اقر انه خمر ثبت التحريم واذا اقر بعد انكاره فقد يكون كان جاهلا فعلم او غافلا فذكر فليس كل من علم شيئا كان ذاكرا له

الخلاف في ان العلم بالمقدمتين كاف في العلم بالنتيجة ام لا
ولهذا تنازع هؤلاء المنطقيون في العلم بالمقدمتين هل هو كاف في العلم بالنتيجة ام لا بد من التفطن لامر ثالث وهذا الثاني هو قول ابن سينا وغيره قالوا لان الانسان قد يكون عالما ب ان البغلة لا تلد ثم يغفل عن ذلك ويرى بغلة منتفخة البطن فيقول اهذه حامل ام لا فيقال له اما تعلم انها بغلة فيقول بلى ويقال له اما تعلم ان البغلة لا تلد فيقول بلى قال فحينئذ يتفطن لكونها لا تلد
ونازعه الرازي وغيره وقالوا هذا ضعيف لان اندراج احدى المقدمتين تحت الاخرى ان كان مغايرا للمقدمتين كان ذلك مقدمة اخرى لا بد فيها من الانتاج ويكون الكلام في كيفية التيامها مع الاوليين كالكلام في كيفية التيام الاوليين ويفضى ذلك الى اعتبار ما لا نهاية له من المقدمات وان لم يكن ذلك معلوما مغايرا للمقدمتين استحال ان يكون شرطا في الانتاج لان الشرط مغاير للمشروط وهنا لا مغايرة فلا يكون شرطا واما حديث البغلة فذلك انما يمكن اذا كان الحاضر في الذهن احدى المقدمتين فقط اما الصغرى واما الكبرى واما عند اجتماعهما في الذهن فلا نسلم انه يمكن الشك اصلا في النتيجة
قلت وحقيقة الامر ان هذا النزاع لزمهم في ظنهم الحاجة الى مقدمتين فقط

وليس الامر كذلك بل المحتاج اليه هو ما به يعلم المطلوب سواء كانت مقدمة او اثنتين او ثلاثا والمغفول عنه ليس بمعلوم حال الغفلة فاذا تذكر صار معلوما بالفعل وهنا الدليل هو العلم بأن البغلة لا تحبل وهذه المقدمة كان زاهلا عنها فلم يكن عالما بها العلم الذي يحصل به الدلالة فان المغفول عنه لا يدل حين ما يكون مغفولا عنه بل انما يدل حال كونه مذكورا اذ هو بذلك يكون معلوما علما حاضرا
والرب تعالى منزه عن الغفلة والنسيان لان ذلك يناقض حقيقة العلم كما انه منزه عن السنة والنوم لان ذلك يناقض كمال الحياة والقيومية فان النوم اخو الموت ولهذا كان اهل الجنة لا ينامون كما لا يموتون وكانوا يلهمون التسبيح كما يلهم احدنا النفس
والمقصود هنا ان وجه الدليل العلم بلزوم المدلول له سواء سمي استحضارا او تفطنا او غير ذلك فمتى استحضر في ذهنه لزوم المدلول له علم انه دال عليه وهذا اللزوم ان كان بينا له والا فقد يحتاج في بيانه الى مقدمة او ثنتين او ثلاثة او اكثر
و الاوساط تتنوع بتنوع الناس فليس ما كان وسطا مستلزما للحكم في حق هذا هو الذي يجب ان يكون وسطا في حق الاخر بل قد يحصل له وسط اخر
فالاوساط هو الدليل وهو الواسطة في العلم بين اللازم والملزوم وهما المحكوم والمحكوم عليه فان الحكم لازم للمحكوم عليه ما دام حكما له والاواسط التي هي الادلة مما يتنوع ويتعدد بحسب ما يفتحه الله للناس من الهداية كما اذا كان الوسط خبر صادق فقد يكون الخبر لهذا غير الخبر لهذا
واذا راى الناس الهلال وثبت عند دار السلطان وتفرق الناس فأشاعوا ذلك في البلد فكل قوم يحصل لهم العلم بخبر من غير المخبرين الذين اخبروا غيرهم
والقران والسنة الذي بلغه الناس عن الرسول بلغ كل قوم بوسائط غير

وسائط غيرهم لا سيما في القرن الثاني والثالث فهؤلاء هم مقرئون ومعلمون وهؤلاء مقرئون ومعلمون وهؤلاء هم وسائط وهم الاواسط بينهم وبين معرفة ما قاله الرسول وفعله وهم الذين دلوهم على ذلك باخبارهم وتعليمهم
وكذلك المعلومات التي تنال بالعقل او الحس اذا نبه عليها منه وارشد اليها مرشد فذلك ايضا مما يختللف ويتنوع ونفس الوسائط العقلية تتنوع وتختلف
واما من جعل الوسط في اللوازم هو وسطا في نفس ثبوتها للموصوف فهذا باطل من وجوه كما قد بسط في موضعه وبتقدير صحته فالوسط الذهني اعم من الخارجي كما ان الدليل اعم من العلة فكل علة يمكن الاستدلال بها على المعلول وليس كل دليل يكون علة في نفس الامر
وكذلك ما كان متوسطا في نفس الامر امكن جعله متوسطا في الذهن فيكون دليلا ولا ينعكس لان الدليل هو ما كان مستلزما للمدلول فالعلة المستلزمة للمعلول يمكن الاستدلال بها والوسط الذي يلزم الملزوم ويلزمه اللازم البعيد هو مستلزم لذلك اللازم فيمكن الاستدلال به
فتبين انه على كل تقدير يمكن الاستدلال على المطلوب بمقدمة واحدة اذا لم يحتج الى غيرها وقد لا يمكن الا بمقدمات فيحتاج الى معرفتهن وان تخصيص الحاجة بمقدمتين دون ما زاد وما نقص تحكم محض

لا يلتزم الاستدلال بمقدمتين فقط الا اهل المنطق
ولهذا لا تجد في سائر طوائف العقلاء ومصنفي العلوم من يلتزم في استدلاله البيان بمقدمتين لا اكثر ولا اقل ويجتهد في رد الزيادة الى ثنتين وفي تكميل النقص بجعله مقدمتين الا اهل منطق اليونان ومن سلك سبيلهم دون من كان باقيا على فطرته السليمة او سلك مسلك غيرهم كالمهاجرين والانصار والتابعين لهم باحسان

وسائر ائمة المسلمين وعلمائهم ونظارهم وسائر طوائف الملل
وكذلك اهل النحو والطب والهندسة لا يدخل في هذا الباب الا من اتبع في ذلك هؤلاء المنطقيين كما قلدوهم في الحدود المركبة من الجنس والفصل وما استفادوا بما تلقوه عنهم علما الا علما يستغني عن باطل كلامهم او ما يضر ولا ينفع لما فيه من الجهل او التطويل الكثير
ولهذا لما كان الاستدلال تارة يقف على مقدمة وتارة على مقدمتين وتارة على مقدمات كانت طريقة نظار المسلمين ان يذكروا من الادلة على المقدمات ما يحتاجون اليه ولا يلتزمون في كل استدلال ان يذكروا مقدمتين كما يفعله من يسلك سبيل المنطقيين بل كتب نظار المسلمين وخطبائهم وسلوكهم في نظرهم لانفسهم ومناظرتهم لغيرهم تعليما وارشادا ومجادلة على ما ذكرت وكذلك سائر اصناف العقلاء من اهل الملل وغيرهم الا من سلك طريق هؤلاء
وما زال نظار المسلمين يعيبون طريق اهل المنطق ويبينون ما فيها من العي واللكنة وقصور العقل وعجز النطق ويبينون انها الى افساد المنطق العقلي واللساني اقرب منها الى تقويم ذلك ولا يرضون ان يسلكوها في نظرهم ومناظرتهم لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه

الامام الغزالي وعلم المنطق
وانما كثراستعمالها من زمن ابي حامد فانه ادخل مقدمة من المنطق في اول كتابه المستصفى وزعم انه لا يثق بعلمه الا من عرف هذا المنطق

وصنف فيه معيار العلم ومحك النظر
وصنف كتابا سماه القسطاس المستقيم ذكر فيه خمس موازين الضروب الثلاثة الحمليات والشرطى المتصل والشرطى المنفصل وغير عبارتها الى امثلة اخذها من كلام المسلمين وزعم انه اخذ تلك الموازين من الانبياء وذكر انه خاطب بذلك بعض اهل التعليم
وصنف كتابا في مقاصدهم وصنف كتابا في تهافتهم وبين كفرهم بسبب مسأله قدم العالم وانكار العلم بالجزئيات وانكار المعاد
وبين في اخر كتبه ان طريقهم فاسدة لا توصل الى يقين وذمها اكثر مما ذم طريقة المتكلمين لكن بعد ان اودع كتبه المضنون بها على غير اهلها وغيرها من معاني كلامهم الباطل المخالف لدين المسلمين ما غير عبارته وعبر عنه بعبارة المسلمين

التي لم يريدوا بها ما اراده كما يأخذ لفظ الملك و الملكوت والجبروت
وكان النبي ص - يقول في ركوعه وسجوده سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة والجبروت والملكوت فعلوت الجبر والملك كالرحموت والرغبوت والرهبوت فعلوت من الرحمة والرغبة والرهبة والعرب تقول رهبوت خير من رحموت أي ان ترهب خير من من ان ترحم
ف الجبروت والملكوت يتضمن من معاني اسماء الله تعالى وصفاته ما دل عليه معنر الملك الجبار وابو حامد يجعل عالم الملك عالم الاجسام وعالم الملكوت والجبروت عالم النفس والعقل ومعلوم ان النبي ص - والمسلمين لم يقصدوا بهذا اللفظ هذا
بل ما يثبته المتفلسفة من العقل باطل عند المسلمين بل هو من أعظم الكفر فان العقل الاول عندهم مبدع كل ما سوى الله والعقل العاشر مبدع ما تحت فلك القمر وهذا من اعظم الكفر عند المسلمين واليهود والنصارى
و العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا وهو ايضا غريزة في الانسان فمسماه من باب الاعراض لا من باب الجواهر القائمة بأنفسها وعند المتفلسفة مسماه من النوع الثاني
والملئكة التي أخبرت بها الرسل وإن كان بعض من يريد بالجمع بين النبوة والفلسفة يقول إنها العقول فهذا من أبطل الباطل فبين ما وصف الله به الملئكة في كتابه وبين العقول التي يثبتها هؤلاء من الفروق ما لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته كما قد بسطنا ذلك في موضعه
والحديث الذي يروى أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتى ما خلقت خلقا أكرم على منك فبك

آخذ وبك أعطى وبك الثواب وبك العقاب هو حديث موضوع باتفاق اهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك الدارقطني وبين من وضعه وكذلك ذكر ضعفه ابو حاتم بن حيان والعقيلي وابن الجوزي وغيرهم
ومع هذا فلفظه اول ما خلق الله العقل قال له فمدلوله انه خاطبه في اول اوقاته خلقه ليس مدلوله انه اول المخلوقات وفي تمامه انه قال ما خلقت خلقا اكرم على منك فدل انه خلق قبله غيره وفيه انه مخلوق
وابو حامد يفرق بين عالم الخلق وعالم الامر فيجعل الأجسام عالم الخلق والنفوس والعقول عالم الامر وهذا ايضا ليس من دين المسلمين بل كل ما سوى الله مخلوق عند المسلمين والله تعالى خالق كل شئ
وإذا ادعو ان العقول التي اثبتوها هي الملئكة في كلام الانبياء فقد ثبت بالنص والاجماع أن الله خلق الملئكة بل خلقهم من مادة كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أن النبي ص - قال خلق الله الملئكة من نور وخلق

الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم فبين ان الملئكة مخلوقون من مادة موجودة قبلهم فأين هذا من قول من ينفى الخلق عنها ويقول إنها مبتدعة لا مخلوقة او يقول إنها قديمة أزلية لم تكن من مادة اصلا وهذه الامور مبسوطة في موضع آخر
والمقصود هنا أن كتب أبى حامد وإن كان يذكر فيها كثيرا من كلامهم الباطل إما بعبارتهم أو بعبارة أخرى فهو في آخر أمره يبالغ في ذمهم ويبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريقة المتكلمين ومات وهو مشتغل ب البخاري ومسلم والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول ما حصل له مقصوده ولا أزال عنه ما كان فيه من الشك والحيرة بل كان متوقفا حائرا فيما هو من أعظم المطالب العالية الالهية والمقاصد الساميه الربانية ولم يغن عنه المنطق شيئا
ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك صار كثير من النظار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن انه لا طريق إلا هذا وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو امر صحيح مسلم عند العقلاء ولا يعلم انه ما زال العقلاء والفضلاء من المسلمين وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات متعددة وجمهور المسلمين يعيبونه عيبا مجملا لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة على ما في اهله مما يناقض العلم والايمان ويفضى بهم الحال إلى انواع من الجهل والكفر والضلال
والمقصود هنا أن ما يدعونه من توقف كل مطلوب نظري على مقدمتين لا أكثر ليس كذلك

دعواهم إضمار إحدى المقدمتين في قياس الضمير
وهم يسمون القياس الذي حذفت إحدى مقدمتيه قياس الضمير ويقولون إنها قد تحذف إما للعلم بها وإما غلطا وإما تغليطا
فيقال إذا كانت معلومة كانت كغيرها من المقدمات المعلومة وحينئذ فليس إضمار مقدمة بأولى من إضمار ثنتين وثلاثة وأربعة فان جاز أن يدعى في الدليل الذي لا يحتاج إلا الى مقدمة ان الاخرى مضمرة محذوفة جاز أن يدعى فيما يحتاج الى ثنتين ان الثالثة محذوفة وكذلك فيما يحتاج الى ثلاث وليس لذلك حد ومن تدبر هذا وجد الامر كذلك
وجود الركة والعى في كلام اهل المنطق
ولهذا لا يوجد في كلام البلغاء أهل البيان الذين يقيمون البراهين والحجج اليقينية بأبين العبارات من استعمال المقدمتين في كلامهم ما يوجد في كلام اهل المنطق بل من سلك طريقهم كان من المضيقين لطريق العلم عقولا وألسنة ومعانيهم من جنس ألفاظهم تجد فيها من الركة والعى ما لا يرضاه عاقل
وكان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الاسلام في وقته أعنى الفيلسوف الذي في الاسلام وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين كما قالوا لبعض اعيان القضاة الذين كانوا في زماننا ابن سينا من فلاسفة الاسلام فقال ليس للاسلام فلاسفة كان يعقوب يقول في أثناء كلامه لعدم فقد وجود كذا وأنواع هذه الاضافات
ومن وجد في بعض كلامه فصاحة او بلاغة كما يوجد في بعض كلام ابن سينا وغيره فلما استفاده من المسلمين من عقولهم وألسنتهم وإلا فلو مشى على طريقة سلفه وأعرض عما تعلمه من المسلمين لكان عقله ولسانه يشبه عقولهم وألسنتهم
التباس أمر المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه
وهم أكثر ما ينفقون على من لا يفهم ما يقولونه ويعظمهم بالجهل والوهم

أو يفهم بعض ما يقولونه او اكثره او كله مع عدم تصوره في تلك الحال لحقيقة ما جاء به الرسول ص - وما يعرف بالعقول السليمة وما قاله سائر العقلاء مناقضا لما قالوه وهو انما وصل الى منتهى امرهم بعد كلفة ومشقه واقترن بها حسن الظن فتورط من ضلالهم فيما لا يعلمه إلا الله
ثم إن تداركه الله بعد ذلك كما أصاب كثيرا من الفضلاء الذين احسنوا بهم الظن ابتداء ثم انكشف لهم من ضلالهم ما أوجب رجوعهم عنهم وتبر اهم منهم بل وردهم عليهم وإلا بقى في الضلال
وضلالهم في الالهيات ظاهر لاكثر الناس ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة وإنما المنطق التبس الامر فيه على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه ولم يعرفوا ما قال سائر العقلاء في تناقضهم فيه
واتفق أن فيه امورا ظاهرة مثل الشكل الاول ولا يعرفون ان ما فيه من الحق لا يحتاج اليهم فيه بل طولوا فيه الطريق وسلكوا الوعر والضيق ولم يهتدوا فيه الى ما يفيد التحقيق
وليس المقصود في هذا المقام بيان ما أخطأوا في إثباته بل ما أخطأوا في نفيه حيث زعموا ان العلم النظري لا يحصل إلا ببرهانهم وهو من القياس

تلازم قياس الشمول وقياس التمثيل وبيانه بالامثلة
وجعلوا أصناف الحجج ثلاثة القياس والاستقراء والتمثيل وزعموا ان التمثيل لا يفيد اليقين وإنما يفيده القياس الذي تكون مادته من القضايا التي ذكروها
وقد بينا في غير هذا الموضع ان قياس التمثيل وقياس الشمول متلازمان وأن ما حصل بأحدهما من علم او ظن حصل بالاخر مثله إذا كانت المادة واحدة

والاعتبار بمادة العلم لا بصورة القضية بل إذا كانت المادة يقينية سواء كانت صورتها في صورة قياس التمثيل او صورة قياس الشمول فهى واحدة وسواء كانت صورة القياس اقترانيا اواستثنائيا بعبارتهم أو بأي عبارة شئت لا سيما في العبارات التي هي خير من عباراتهم وأبين في العقل وأوجز في اللفظ والمعنى واحد
وحد هذا في أظهر الامثلة إذا قلت هذا إنسان وكل إنسان مخلوق او حيوان او حساس او متحرك بالارادة أو ناطق أو ما شئت من لوازم الانسان فان شئت صورت الدليل على هذه الصورة وإن شئت قلت هو انسان فهو مخلوق او حساس او حيوان او متحرك كغيره من الناس لاشتراكهما في الانسانية المستلزمة لهذه الصفات وإن شئت قلت هذا إنسان والانسانية مستلزمة لهذه الاحكام فهى لازمة له وإن شئت قلت إن كان أنسانا فهو متصف بهذا الصفات اللازمة للانسان وإن شئت قلت إما ان يتصف بهذه الصفات وإما ان لا يتصف والثاني باطل فتعين الاول لان هذه لازمة للانسان لا يتصور وجوده بدونها

الاستقراء ليس استدلالا بجزئي على كلي
وأما الاستقراء فانما يكون يقينيا إذا كان استقراء تاما وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الافراد وهذا ليس استدلالا يجزئى على كلى ولا بخاص على عام بل استدلال بأحد المتلازمين على الاخر فان وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلى العام يوجب ان يكون لازما لذلك الكلى العام
فقولهم إن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق وكيف ذلك والدليل لا بد أن يكون ملزوما للمدلول فانه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه ولم يكن المدلول لازما له لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل نعلم ثبوت

المدلول معه إذا علمنا أنه تارة يكون معه وتارة لا يكون معه فانا إذا علمنا ذلك ثم قلنا إنه معه دائما كنا قد جمعنا بين النقيضين
وهذا اللزوم الذي نذكره هنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر كانت الدلالة اقوى واتم وأظهر كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى فانه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته فكل مخلوق دال على ذلك كله
واذا كان المدلول لازما للدليل فمعلوم ان اللازم إما ان يكون مساويا للملزوم وإما أن يكون أعم منه فالدليل إما أن يكون مساويا للحكم المدلول في العموم والخصوص وإما أن يكون اخص منه لا يكون الدليل أعم منه

القياس استدلال بكلى على ثبوت كلى آخر لجزئيات ذلك الكلى
وإذا قالوا في القياس يستدل بالكلى على الجزئي فليس الجزئي هو الحكم المدلول عليه إنما الجزئي هو الموصوف المخبر عنه محل الحكم فهذا قد يكون أخص من الدليل وقد يكون مساويا له بخلاف الحكم الذي هو صفة هذا وحكمه الذي اخبر به عنه فانه لا يكون إلا اعم من الدليل او مساويا له فان ذلك هو المدلول اللازم للدليل والدليل هو لازم المخبر عنه الموصوف
فاذا قيل النبيذ حرام لانه خمر كونه خمرا هو الدليل وهو لازم للنبيذ والتحريم لازم للخمر
والقياس المؤلف من المقدمتين إذا قلت النبيذ المتنازع فيه مسكر او خمر وكل مسكر او كل خمر حرام فأنت لم تستدل ب المسكر او الخمر الذي هو كلى على نفس محل النزاع الذي هو اخص من الخمر وهو النبيذ فليس هو استدلالا بذلك الكلى عل هذا الجزئي بل استدللت به على تحريم هذا النبيذ فلما كان

تحريم هذا النبيذ مندرجا في تحريم كل مسكر قال من قال إنه استدلال بالكلى على الجزئي والتحقيق ان ما ثبت للكلى فقد ثبت لكل واحد من جزئياته والتحريم أعم من الخمر وهو ثابت لها فهو ثابت لكل فرد فرد من جزئياتها فهو استدلال بكلى على ثبوت كلى آخر لجزئيات ذلك الكلى وذلك الدليل هو كالجزئي بالنسبة الى ذلك الكلى الذي هو الحكم وهو كلى بالنسبة الى تلك الجزئيات التي هي المحكوم عليها
وهذا مما لا يتنازعون فيه فان الدليل ه الحد الاوسط وهو اعم من الاصغر أو مساو له والاكبر اعم منه او مساو له والاكبر هو الحكم والصفة والخبر وهو محمول النتيجة والاصغر هو المحكوم عليه الموصوف المبتدأ وهو موضوع النتيجة

قياس التمثيل هو اشتراك الجزئيين في علة الحكم
وأما قولهم في التمثيل إنه استدلال بجزئي على جزئي فان أطلق ذلك وقيل إنه استدلال بمجرد الجزئي على الجزئي فهو غلط فان قياس التمثيل إنما يدل بحد اوسط وهو اشتراكهما في علة الحكم أو دليل الحكم مع العلة فانه قياس علة او قياس دلالة
لا تعلم صحة القياس في قياس الشبه
وأما قياس الشبة فاذا قيل به لم يخرج عن أحدهما فان الجامع المشترك بين الاصل والفرع إما أن يكون هو العلة او ما يستلزم العلة وما استلزمها فهو دليلها وإذا كان الجامع لا علة ولا ما يستلزم العلة لم يكن الاشتراك فيه مقتضيا للاشتراك في الحكم بل كان المشترك قد يكون معه العلة وقد لا يكون فلا يعلم حينئذ أن علة الاصل موجودة في الفرع فلا يعلم صحة القياس بل لا يكن صحيحا إلا إذا اشتركا فيها ونحن لا نعلم الاشتراك فيها إلا إذا علمنا اشتراكهما فيها او في ملزومها فان ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم فاذا قدرنا انهما لم

يشتركا في الملزوم ولا فيها كان القياس باطلا قطعا لانه حينئذ تكون العلة مختصة بالاصل وإن لم يعلم ذلك لم تعلم صحة القياس
وقد يعلم صحة القياس بانتفاء الفارق بين الاصل والفرع وإن لم يعلم عين العلة ولا دليلها فانه يلزم من انتفاء الفارق اشتراكهما في الحكم
وإذا كان قياس التمثيل إنما يكون تاما بانتفاء الفارق وإما بابداء جامع وهو كلى يجمعهما يستلزم الحكم وكل منهما يمكن تصويره بصورة قياس الشمول وهو يتضمن لزوم الحكم للكلى ولزوم الكلى لجزئياته وهذا حقيقة قياس الشمول ليس ذلك استدلالا بمجرد ثبوته لجزئي على ثبوته لجزئي آخر
فأما إذا قيل بما يعلم ان المشترك مستلزم الحكم قيل مما تعلم القضية الكبرى في القياس فبيان الحد الاوسط هو المشترك الجامع ولزوم الحد الاكبر له هو لزوم الحكم للجامع المشترك كما قد تقدم التنبيه على هذا
وقد يستدل بجزئي على جزئي إذا كانا متلازمين أو كان احدهما ملزوم الاخر من غير عكس فان كان اللزوم عن الذات كانت الدلالة على الذات وإن كان في صفة او حكم كانت الدلالة على الصفة والحكم
فقد تبين ما في حصرهم من الخلل وأما تقسيمهم الى الانواع الثلاثة فكلها تعود الى ما ذكروه في استلزام الدليل للمدلول

عود الاقترانى والاستثنائى الى معنى واحد
وما ذكروه في الاقترانى يمكن تصويره بصورة الاستثنائي وكذلك الاستثنائي يمكن تصويره بصورة الاقتراني فيعود الامر الى معنى واحد

وهو مادة الدليل والمادة لا تعلم من صور القياس الذي ذكروه بل من عرف المادة بحيث يعلم أن هذا مستلزم لهذا علم الدلالة سواء صورت بصورة القياس أو لم تصور وسواء عبر عنها بعباراتهم او بغيرها بل العبارات التي صقلها عقول المسلمين وألسنتهم خير من عباراتهم بكثير كثير
والاقترانى كله يعود الى لزوم هذا لهذا وهذا لهذا كما ذكر وهذا بعينه هو الاستثنائي المؤلف من المتصل والمنفصل
فان الشرطى المتصل استدلال باللزوم بثبوت الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط على ثبوت اللازم هو التالي وهو الجزاء او بانتفاء اللازم وهو التالي الذي هو الجزاء على انتفاء الملزوم هو المقدم وهو الشرط
وأما الشرطي المنفصل وهو الذي يسميه الاصوليون السبر والتقسيم وقد تسميه ايضا الجدليون التقسيم والترديد فمضمونه الاستدلال بثبوت احد النقضين على انتفاء الاخر وبانتفائه على ثبوته أو الإستدلال بثبوت أحد الضدين على انتفاء الآخر واقسامه اربعة ولهذا كان في مانعة الجمع والخلو الاستثناءات الاربعة وهو أنه إن ثبت هذا انتفى نقيضه وكذلك الآخر وإن انتفى هذا ثبت نقيضه وكذلك الاخر
ومانعة الجمع الاستدلال بثبوت احد الضدين على انتفاء الاخر والامران متنافيان

ومانعة الخلو فيها تناقض ولزوم والنقيضان لا يرتفعان فمنعت الخلو منهما ولكن جزاءها وجود شئ وعدم آخر ليس هو وجود الشئ وعدمه ووجود شئ وعدم آخر قد يكون أحدهما لازما للاخر وإن كانا لا يرتفعان لان ارتفاعهما يقتضى ارتفاع وجود شئ وعدمه معا

مدار الاستدلال على مادة العلم لا على صورة القياس
وبالجملة ما من شئ إلا وله لازم لا يوجد بدونه وله مناف مضاد لوجوده فيستدل عليه بثبوت ملزومه وعلى انتفائه بانتفاء لازمه
ويستدل على انتفائه بوجود منافيه ويستدل بانتفاء منافيه على وجوده إذا انحصر الامر فيهما فلم يمكن عدمهما جميعا كما لم يمكن وجودهما جمعيا
وهذا الاستدلال يحصل من العلم بأحوال الشئ وملزومها ولوازمها وإذا تصورته الفطرة عبرت عنه بأنواع من العبارات وصورته في أنواع من صور الادلة لا يختص شيء من ذلك بالصورة التي ذكروها في القياس فضلا عما سموه البرهان فان البرهان شرطوا له مادة معينة وهي القضايا التي ذكروها واخرجوا من الاوليات ما سموه وهميات وما سموه مشهورات وحكم الفطرة بهما لا سيما بما سموه وهميات اعظم من حكمها بكثير من اليقينيات التي جعلوها مواد البرهان
وقد بسطت القول على هذا وبينت كلامهم في ذلك وتناقضهم وأن ما اخرجوه يخرج به ما ينال به اشرف العلوم من العلوم النطرية والعلوم العملية ولا يبقى بأيديهم إلا امور مقدرة في الاذهان لا حقيقة لها في الاعيان ولولا ان هذا الموضع لا يتسع لحكاية الفاظهم في هذا وما أوردته عليهم لذكرته فقد ذكرت ذلك كله في مواضعه من العلوم الكلية والالهية فانها هي المطوبة
والكلام في المنطق إنما وقع لما زعموا انه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن

يزل في فكره فاحتجنا ان ننظر في هذه الالة هل هي كما قالوا او ليس الامر كذلك

تزييف القول بأن هذه علوم قد صقلتها الاذهان الخ
ومن شيوخهم من إذا بين له من فساد اقولهم ما يتبين به ضلالهم وعجز عن دفع ذلك يقول هذه علوم قد صقلتها الاذهان اكثر من الف سنة وقبلها الفضلاء فيقال له عن هذا أجوبة
أحدها إنه ليس الامر كذلك فما زال العقلاء الذين هم افضل من هؤلاء ينكرون عليهم ويبينون خطأهم وضلالهم
فأما القدماء فالنزاع بينهم كثير معروف وفي كتب اخبارهم ومقالاتهم من ذلك ما ليس هذا موضع ذكره
وأما ايام الاسلام فان كلام نظار المسلمين في بيان فساد ما افسدوه من اصولهم المنطقية والالهية بل والطبيعية بل والرياضية كثير قد صنف فيه كل طائفة من طوائف نظار المسلمين حتى الرافضة
وأما شهادة سائر العلماء وطوائف أهل الايمان بضلالهم وكفرهم فهذا البيان عام لا يدفعه إلا معاند والمؤمنون شهداء الله في الارض
فاذا كان اعيان الاذكياء الفضلاء من الطوائف وسائر اهل العلم والايمان معلنين بتخطئتهم وتضليلهم إما جملة وإما تفصيلا امتنع ان كون العقلاء قاطبة تلقوا كلامهم بالقبول
الوجه الثاني إن هذا ليس بحجة فان الفلسفة التي كانت قبل أرسطو وتلقاها من قبلة بالقبول طعن ارسطو في كثير منها وبين خطأهم وابن سينا وأتباعه خالفوا القدماء في طائفة من اقاويلهم المنطقية وغيرها وبينوا خطأهم ورد الفلاسفة بعضهم على بعض أكثر من رد كل طائفة بعضهم على بعض وأبو البركات وأمثاله قد ردوا على أرسطو ما شاء الله لأنهم يقولون إنما قصدنا الحق ليس قصدنا التعصب لقائل معين ولا لقول معين

الثالث إن دين عباد الاصنام اقدم من فلسفتهم وقد دخل فيه من الطوائف اعظم ممن دخل في فلسفتهم وكذلك دين اليهود المبدل أقدم من فلسفة أرسطو ودين النصارى المبدل قريب من زمن ارسطو فان ارسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة فانه كان في زمن الاسكندر بن فيلبس الذي يؤرخ به تاريخ الروم الذي يستعمله اليهود والنصارى
الرابع أن يقال فهب ان الامر كذلك فهذه العلوم عقلية محضة ليس فيها تقليد لقائل وإنما تعلم بمجرد العقل فلا يجوز ان تصحح بالنقل بل ولا يتكلم فيها إلا بالمعقول المجرد فاذا دل المعقول الصريح على بطلان الباطل منها لم يجز رده فان أهلها لم يدعوا انها مأخوذة عمن يجب تصديقه بل عن عقل محض فيجب التحاكم فيها الى موجب العقل الصريح

فصل
قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن عند المناطقة بخلاف الاستقراء
وقد احتجوا بما ذكروه من أن الاستقراء دون القياس الذي هو قياس الشمول وأن قياس التمثيل دون الاستقراء فقالوا إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن وإن المحكوم عليه قد يكون جزئيا بخلاف الاستقرا ء فانه قد يفيد اليقين والمحكوم عليه لا يكون إلا كليا
قالوا وذلك ان الاستقراء هو الحكم على كلى بما تحقق في جزئياته فان كان في جميع الجزئيات كان الاستقراء تاما كالحكم على المتحرك ب الجسمية لكونها محكوما بها على جميع جزئيات المتحرك من الحيوان والجماد والنبات

والناقص كالحكم على الحيوان ب انه إذا أكل تحرك فكه الاسفل عند المضغ لوجود ذلك في أكثر جزئياته ولعله فيما لم يستقرا على خلافه كالتمساح والاول ينتفع به في اليقينيات بخلاف الثاني وإن كان منتفعا به في الجدليات
وأما قياس التمثيل فهو الحكم على شئ بما حكم به على غيره بناء على جامع مشترك بينهما كقولهم العالم موجود فكان قديما كالباري او هو جسم فكان محدثا كالانسان وهو مشتمل على فرع واصل وعلة وحكم فالفرع ما هو مثل العالم في هذا المثال والاصل ما هو مثل الباري او الانسان والعلة الموجود او الجسم والحكم القديم او المحدث
قالوا ويفارق الاستقراء من جهة ان المحكوم عليه فيه قد يكون جزئيا والمحكوم عليه في الاستقراء لا يكون إلا كليا

إشكالات أوردها نظار المسلمين على قياس التمثيل
قالوا وهو غير مفيد لليقين فانه ليس من ضرورة اشتراك امرين فيما يعمهما اشتراكهما فيما حكم به على احدهما إلا ان يبين أن ما به الاشتراك علة لذلك الحكم وكل ما يدل عليه فظنى فان المساعد على ذلك في العقليات عند القائلين به لا يخرج عن الطرد والعكس والسبر والتقسيم
أما الطرد والعكس فلا معنى له غير تلازم الحكم والعلة وجودا وعدما ولا بد في ذلك من الاستقراء ولا سبيل الى دعواه في الفرع إذ هو غير المطلوب فيكون الاسقراء ناقصا لا سيما ويجوز ان تكون علة الحكم في الاصل مركبة من أوصاف المشترك ومن غيرها ويكون وجودها في الاوصاف متحققا فيها فاذا وجد المشترك في الاصل ثبت الحكم لكمال علته وعند انتفائه فينتفى لنقضان العلة وعند ذلك فلا يلزم من وجود المشترك في الفرع ثبوت الحكم لجواز تخلف باقي الاوصاف أو بعضها

وأما السبر والتقسيم فحاصله يرجع الى دعوى حصر اوصاف الاصل في جملة معينة وابطال كل ما عدى المستبقى وهو ايضا غير يقيني لجواز ان يكون الحكم ثابتا في الاصل لذات الاصل لا لخارج والا لزم التسلسل وان ثبت لخارج فمن الجائز ان يكون لغيرها ابدا وان لم يطلع عليه البحث عنه وليس الامر كذلك في العاديات فانا لا نشك مع سلامة البصر وارتفاع الموانع في عدم بحر من زئبق وجبل من ذهب بين ايدينا ونحن لا نشاهده وان كان منحصرا فمن الجائز ان يكون معللا بالمجموع او بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع وثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تحلف غيره من الاوصاف المقارنة له في الاصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل لجواز ان يكون في تلك معلالا بعلة اخرى ولا امتناع فيه وان كان لا علة له سواه فجائز ان يكون علة لخصوصه لا لعمومه وان بين ان ذلك الوصف يلزمه لعموم ذاته الحكم فمع بعده يستغنى عن التمثل
قالوا والفراسة البدنية هي عين التمثيل غير ان الجامع فيها بين الاصل والفرع دليل العلة لا نفسها وهو المسمى في عرف الفقهاء ب قياس الدلالة فانها استدلال بمعلول العلة على ثبوتها ثم الاستدلال بثبوتها على معلولها الاخر اذ مبناها على ان المزاج علة لخلق باطن وخلق ظاهر فيستدل بالخلق الظاهر على المزاج ثم بالمزاج على الخلق الباطن كالاستدلال ب عرض الاعلى على الشجاعة بناء على كونهما معلولي مزاج واحد كما يوجد مثل ذلك في الاسد
ثم اثبات العلة في الاصل لا بد فيها من الدوران او التقسيم كما تقدم وان قدر ان علة الحكمين في الاصل واحدة فلا مانع من ثبوت احدهما في الفرع بغير علة الاصل وعند ذلك فلا يلزم الحكم الاخر
هذا كلامهم على ما حرره لهم نظار المسلمين الذين اوردوا على قياس التمثيل هذه الاشكالات والا فكلام ائمتهم في قياس التمثيل ليس فيه هذا التحرير الذي

حرره لهم نظار المسلمين

رد المنصف اشكالاتهم على قياس التمثيل
فيقال تفريقهم بين قياس المشمول وقياس التمثيل بأن الاول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد الا الظن فرق باطل بل حيث افاد احدهما اليقين افاد الاخر اليقين وحيث لا يفيد احدهما الا الظن لا يفيد الاخر الا الظن فان افادة الدليل لليقين او الظن ليس لكونه عل صورة احدهما دون الاخر بل باعتبار تضمن احدهما لما يفيد اليقين فان كان احدهما اشتمل على امر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين وان لم يشتمل الا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد الا الظن
والذي يسمى في احدهما حدا اوسط هو في الاخر الوصف المشترك والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الاكبر للاوسط هو بيان تأثير الوصف المشترك بين الاصل والفرع فما به يتبين صدق القضية الكبرى به يتبين ان الجامع المشترك مستلزم للحكم فلزوم الاكبر للاوسط هو لزوم الحكم للمشترك
فاذا قلت النبيذ حرام قياسا على الخمر لان الخمر انما حرمت لكونها مسكرة وهذا الوصف موجود في النبيذ كان بمنزلة قولك كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فالنتيجة قولك النبيذ حرام و النبيذ هو موضوعها وهو الحد الاصغر والحرام محمولها وهو الحد الاكبر والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو الحد الاوسط المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى
فاذا قلت النبيذ حرام قياسا على خمر العنب لان العلة في الاصل هو الاسكار وهو موجود في الفرع فثبت التحريم لوجود علته فانما استدللت على تحريم النبيذ ب المسكر وهو الحد الاوسط لكن زدت في قياس التمثيل ذكر الاصل الذي ضربته مثلا للفرع وهذا لان شعور النفس بنظير الفرع اقوى في المعرفة من مجرد دخوله في الجامع الكلي واذا قام الدليل على تأثير الوصف

المشترك لم يكن ذكر الاصل محتاجا اليه
والقياس لا يخلو اما ان يكون ب ابداء الجامع او ب الغاء الفارق والجامع اما العلة واما دليلها واما القياس بالغاء الفارق فهنا الغاء الفارق هو الحد الاوسط
فاذا قيل هذا مساو لهذا ومساوي المساوي مساو كانت المساواة هى الحد الاوسط وإلغاء الفارق عبارة عن المساواة فاذا قيل لا فرق بين الفرع والاصل إلا كذا وهو مهدر فهو بمنزلة قولك هذا مساو لهذا وحكم المساوى حكم مساويه
وأما قولهم كل ما يدل على ان ما به الاشتراك علة للحكم فظنى فيقال لا نسلم فان هذه دعوى كلية ولم تقيموا عليها دليلا ثم نقول الذي يدل به على عليه المشترك هو الذي يدل به على صدق القضية الكبرى وكل ما يدل به على صدق الكبرى في قياس الشمول يدل به على علية المشترك في قياس الثمثيل سواء كان علميا او ظنيا فان الجامع المشترك في التمثيل هو الحد الاوسط ولزوم الحكم له هو لزوم الاكبر للاوسط ولزوم الاوسط للاصغر هو لزوم الجامع المشترك للاصغر وهو ثبوت العلة في الفرع
فاذا كان الوصف المشترك وهو المسمى ب الجامع والعلة أو دليل العلة او المناط او ما كان من الاسماء إذا كان ذلك الوصف ثابتا في الفرع لازما له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الصغرى وإذا كان الحكم ثابتا للوصف لازما له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الكبرى وذكر الاصل يتوصل به الى إثبات إحدى المقدمتين
فان كان القياس ب إلغاء الفارق فلا بد من الاصل المعين فان المشترك هو المساواة بينهما وتماثلهما وهو إلغاء الفارق وهو الحد الاوسط وإن كان

القياس ب إبداء العلة فقد يستغنى عن ذكر الاصل إذا كان الاستدلال على علية الوصف لا يفتقر اليه وأما إذا احتاج إثبات علية الوصف اليه فيذكر الاصل لانه من تمام ما يدل على علية المشترك وهو الحد الاكبر
وهؤلاء الذين فرقوا بين قياس التمثيل و قيلس الشمول اخذوا يظهرون كون احدهما ظنيا في مواد معينة وتلك المواد التي لا تفيد الا الظن في قياس التمثيل لا تفيد الا الظن في قياس الشمول والا فاذا اخذوه فيما يستفاد به اليقين من قياس الشمول افاد اليقين في قياس التمثيل ايضا وكان ظهور اليقين به هناك اتم
فاذا قيل في قياس الشمول كل انسان حيوان وكل حيوان جسم فكل انسان جسم كان الحيوان هو الحد الاوسط وهو المشترك في قياس التمثيل بأن يقال الانسان جسم قياسا على الفرس وغيره من الحيوانات فان كون تلك الحيوانات حيوانا هو مستلزم لكونها اجساما سواء كان علة او دليل العلة والحيوانية موجودة في الانسان فيكون جسما
واذا نوزع في علية الحكم في الاصل فقيل له لا نسلم ان الحيوانية تستلزم الجسمية كان هذا نزاعا في قوله كل حيوان جسم وذلك ان المشترك بين الاصل والفرع اذا سمى علة فانما يراد به ما يستلزم الحكم سواء كان هو العلة الموجبة لوجوده في الخارج او كان مستلزما لذلك يسمى الاول قياس علة والثاني قياس دلالة
ومن الناس من يسمى الجميع علة لا سيما من يقول ان العلة انما يراد بها المعرف وهو الامارة والعلامة والدليل لا يراد بها الباعث والداعي
ومن قال انه قد يراد بها الداعي وهو الباعث وهذا قول ائمة الفقهاء وجمهور المسلمين فانه يقول ذلك في علل الافعال واما غير الافعال فقد تفسر العلة فيها ب الوصف المستلزم كاستلزام الانسانية ل الحيوانية والحيوانية

ل الجسمية وإن لم يكن أحد الوصفين هو المؤثر في الاخر
عل أنا قد بينا في غير هذا الموضع أن ما به يعلم كون الحيوان جسما به يعلم ان الانسان جسم حيث بينا ان قياس الشمول الذي يذكرونه قليل الفائدة أو عديمها وأن ما به يعلم صدق الكبرى في العقليات به يعلم صدق أفرادها التي منها الصغرى بل وبذلك يعلم صدق النتيجة كما في قول القائل الكل أعظم من الجزء والاشياء المساوية لشئ واحد متساوية والضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان

حقيقة توحيد الفلاسفة
وهذا كقولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فانه إن ثبت لهم ان الرب تعالى بمعنى الواحد الذي يدعونه وهو انه ليس له صفة ثبوتية أصلا بل هو مسلوب لكل امر ثبوتي لا يوصف إلا بالسلب المحض او بما لا يتضمن إلا السلب كالاضافة التي هي معنى السلب وجعلوا إبداعه للعالم امرا عدميا لكونه إضافة عندهم وجعلوا العلم والعالم والمعلوم والعشق والعاشق والمعشوق واللذة كل ذلك امورا عدمية ليس فيها امر ثبوتي وادعوا ان نفس العلم والعناية والقدرة هو نفس العالم القادر المريد ونفس العلم هو نفس القدرة ونفس القدرة هو نفس العناية وهذا كله هو العشق وهو اللذة والعشق واللذة هو العاشق الملتذ والعشق واللذة هو نفس العلم ونفس القدرة وعلمه بنفسه هو علمه بالمعلومات إلى أمثال ذلك مما يتضمنه قولهم الذي يسمونه توحيد واجب الوجود
رد قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد
فان قدر ثبوت هذا المعنى الذي يسمونه توحيدا مع ان جماهير العقلاء من جميع الامم إذا تصوروا ذلك علموا بضرورة العقل ان هذا قول باطل متناقض فان قدر ثبوته قيل حئنئذ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد يقررونه بقولهم

لانه لو صدر عنه اثنان لكان مصدر الالف غير مصدر الجيم وكان المصدر مع هذا الصادر مخالفا لهذا المصدر مع هذا الصادر فيكون في المصدر جهتان وذلك ينافى الوحدة وبهذا اثبتوا ان الواحد لا يكون فاعلا وقابلا لئلا يكون فيه جهتان جهة فعل وجهة قبول فيكون مركبا
فيقال لهم إذا كان صدور الصادرات عنه هو فعله لها والفعل إضافة محضة اليه وهو عندكم لا يوصف بصفة ثبوتية بل لا يوصف إلا بما هو سلب وقلتم إن الاضافة هنا سلب لم يكن ولو صدر عنه الف صادر إلا بمنزلة سلب الاشياء عنه وإذا قلتم ليس هو بعرض ولا ممكن ولا محدث ونحو ذلك لم تكن كثرة السلوب توجب أمرا ثبوتيا والابداع عندكم لا يوجب له وصفا ثبوتيا فكثرة الابداعات منه لا توجب له وصفا ثبوتيا
هذا مع أنهم متناقضون في جعلهم الابداع أمرا عدميا بل في قولهم هو إضافة والاضافة امرأ عدميا قد قرروا في العلم الاعلى عندهم القاسم ل الوجود ولواحقه ان الوجود ينقسم الى جوهر وعرض ومن الاعراض أن يفعل ومنها الاضافة والابداع هو من مقولة أن يفعل وهو أمر وجودى وإبداع الباري أكمل من كل إبداع فكيف يكون اكمل انواع ان يفعل عدميا
ثم هم جعلوا الاضافة جنسا غير أن يفعل فان ثبت هذا بطل جعل إبداعه للعالم مجرد إضافة وإن سلم أنه إضافة ف الاضافة عندهم من جملة الاجناس الوجودية وهذا وأمثاله مما يبين فساد ما قالوه في الالهيات من التعطيل مما يطول وصفه
ثم إذا سلم هذا وسلم ان الاضافة عدمية وكثرة العدميات له لا توجب تكثر امور ثبوتية فيه مثل تكثر سائر السلوب وإذا قدر انه أبدع كل شئ بلا واسطة لم يكن في هذا إلا كثرة امور عدمية يتصف بها وتلك لا توجب كثرة في

ذاته مثل سلب جميع المبدعات عنه فاذا قيل ليس بفلك ولا كوكب ولا شمس ولا جنة ولا نار ولا هواء ولا تراب ولا حيوان ولا انسان ولا نبات كان سلبها عنه بمنزلة إضافتها اليه عندهم وإذا لم يكن هذا إثبات كثرة في ذاته فكذلك الاخر
وقولهم مصدر الف غير مصدر باء وهو مع هذا غير كونه مع هذا كما يقال سلب الف عنه غير سلب باء عنه والشئ مع سلب الف عنه ليس هو ذاك مع سلب باء عنه واذا قيل كثرة السلوب لا توجب تعدد امر ثبوتى له قيل وكثرة الاضافات كذلك عندكم
ثم يقال الاضافات اليه مثل كونه علة ومبدعا وخالقا وفاعلا ونحو ذلك إما أن يوجب كون الفعل أمرا ثبوتيا يقوم به وإما أن لا يوجب ذلك فان كان الفعل أمرا ثبوتيا قام به بطل نفيكم للصفات ولزم انه موصوف بالامور الثبوتية التي منها تهربون وإن لم يكن ثبوتيا كان عدميا فلم يكن في كثرة المفعولات إلا كثرة الافعال التي هي عدمية وكثرة العدميات لا توجب اتصافه بأمر ثبوتى وإذا كان كونه فاعلا عندكم ليس وصفا ثبوتيا فكونه قابلا كذلك بطريق الاولى وحينئذ فلا يمتنع كون الشئ فاعلا وقابلا
ومعلوم ان هذا التناقض لزمهم لكونهم جعلوا الامور الوجودية عدما كما جعلوا نفس الفعل والتأثير ليس إلا إضافة عدمية ثم ادعوا ذلك في اكمل الفاعلين فعلا وأحقهم بالوجود التام من سائر الموجودات وإلا فهم قد قرروا في العلم الكلى أن الفعل والانفعال أمران وجوديان وهما من الاعراض الموجودة وهما مقولة ان يفعل وأن ينفعل وأن يفعل هو الفعل وأن ينفعل هو القبول وأثبتوا في بعض الافعال الطبيعية انها امور وجودية وأن الفعل هناك وجودى ولكن نقضوا ما ذكروا هناك في العلم الالهي

وكان ما نفوه احق بالاثبات مما اثبتوه إذ كانوا معرضين عن الله ومعرفته وعبادته جاهلين بما يجب له ويستحقه يعبدون المخلوقات ويعظمونها ويعرفون من كمالها ما يتخذونها به آلهة إشراكا منهم بالله ويدعون رب العالمين لا يعرفونه ولا يعبدونه ولا يعرفون ما يستحقه من الكمال الذي به يجب ان يعبد بل الذي يعلم به انه لا يستحق العبادة إلا هو وهذا كله مبسوط في مواضعه
وأرسطو وأصحابه القدماء لم يثبتوا له فعلا ولا جعلوه مبدعا لبعدهم عن معرفته ولهذا كان في قولهم من الفساد ما يطول وصفه ولكن ابن سينا وأتباعه لما جعلوه مبدعا ظهر في كلامهم مثل هذا التناقض
والمقصود هنا الكلام على المنطق ومثلنا بهذا إلا ان هذا من اشرف المطالب الالهية التي يختصون هم بأثباتها والمقصود ان نبين انه لا فرق بين القياس الشمولي والتمثيلي إذا اعطى كل منهما حقه

ما أمكن إثباته ب قياس الشمول كان إثباته ب التمثيل أظهر
ثم إذا قدر ان ما ذكروه يدلهم على ان الواحد لا يصدر عنه إلا واحد بهذا الطريق أثبت ذلك ب قياس التمثيل وكان أحسن مثل أن يقال الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فالاول لا يصدر عنه إلا واحد لان الواحد بسيط والبسيط لا يصدر عنه إلا بسيط كما ان الحار لا يصدر عنه إلا الحرارة والبارد لا يصدر عنه إلا البرودة وأمثال ذلك مما يذكر في الطبيعيات
ومن هنا قالوا في الالهيات الواحد لا يصدر عنه إلا واحد لكن إذا أرادوا ان يثبتوا ذلك في الالهيات ب قياس شمولي وقدر صحته امكن جعله قياسا تمثيلا وإن قدر انهم عجزوا إما مطلقا وإما في رب العالمين لكون الوحدة التي وصفوه بها تعطيلا له في الحقيقة ونفيا لوجوده وعجزوا عنه ولم يكن معهم إلا هذا القياس التمثيلي وإذا اثبتوه ب القياس التمثيلي واثبتوا فيه ان الحكم تعلق بالقدر المشترك فقد افاد هذا ما أفاده قياس الشمول وزيادة

مثل ان يقولوا ان الواحد في مورد الاجماع إنما لم يصدر عنه إلا واحد لانه بسيط فلو صدر عنه اثنان لكان مركبا فالنار البسيطة لا تصدر عنها إلا الحرارة ومتى قدر صدور الحر والبرد جميعا لزم ان تكون مركبة فهذا إن مشى لهم في قياس التمثيل مشى لهم في قياس الشمول وإن بطل هناك كان هناك أبطل
وأما إثباته ب قياس الشمول دون التمثيل فممتنع فلا يمكن احدا ان يثبت قضية كلية ب قياس شمول إلا وإثباتها ب التمثيل أيسر وأظهر وإن عجزعن إثباتها ب التمثيل فعجزه عن إثباتها ب الشمول اقوى وأشد
فانهم إذا قالوا الحار لا يصدر عنه إلا الحار لانه واحد والواحد لا يصدر عنه إلا واحد فانه قد يقال لهم ما تعنون ب الصدور أتعنون به استقلاله بصدور الاثر عنه أو ان يكون سببا في صدور الاثر بحيث إذ انضم الى غيره حصل المؤثر التام

ليس في الوجود واحد يفعل وحده إلا الله وحده
فان أردتم الاول لم نسلم لكم أن في الوجود ما هو مؤثر تام ولا شئ مستقل بالفعل غير الله تعالى والحار الذي اثر حرارة والبارد الذي أثر برودة إنما اثر في محل قابل للتسخين والتبريد فكانت الحرارة الحاصلة في القابل بسببه وبسبب الحار معا وأيضا فذلك مشروط بانتفاء العائق المانع وإلا فلو حصل ما يمنع وصول الاثر اليه لم يحصل وكذلك الشعاع إذا قيل الشمس مستقله به لم يسلم ذلك فانه مشروط بالجسم الذي ينعكس الشعاع عليه ومشروط بعدم المانع كالسحاب والسقف
وعلى هذا فليس في الوجود واحد يفعل وحده إلا الله وحده قال تعالى ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون الذاريات قال مجاهد وغيره تذكرون فتعلمون ان خالق الارواح واحد
قال تعالى أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل

شئ وهو بكل شئ عليم الانعام فنفى التولد عنه لامتناع التولد من شئ واحد وأن التولد إنما يكون بين اثنين وهو سبحانه لا صاحبة له وأيضا فانه خلق كل شئ وخلقه لكل شئ يناقض ان يتولد عنه شئ وهو بكل شئ عليم وعلمه بكل شئ يستلزم ان يكون فاعلا بارادته فان الشعور فارق بين الفاعل بالارادة والفاعل بالطبع فيمتنع مع كونه عالما ان يكون كالامور الطبيعية التي يتولد عنها الاشياء بلا شعور كالحار والبارد فلا يجوز إضافة الولد اليه بوجه سبحانه قال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحنه وتعلى عما يصفون بديع السموات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم الانعام
والذين قالوا إن العقول والنفوس صدرت عنه خرقوا له بنين وبنات بغير علم فان اولئك لم يكونوا يجعلون شيئا من البنين والبنات مبدعة لكل ما سواه وهؤلاء يجعلون احد البنين وهو العقل أبدع كل ما سواه ويجعلون العقل كالذكر والنفس كالانثى وهذا مما صرحوا به وكانت العرب تقر بأنه خلق السموات والارض وأحدثهما بعد أن لم تكونا ولم يكونوا يقولون إنها قديمة أزلية معه لم تزل معه وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنهم لم يعلموا في الوجود شيئا واحدا صدر عنه وحده شئ عل سبيل الاستقلال فصار قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد باطلا في قياس الشمول وباطلا في قياس التمثيل لكن الغرض انه لو أثبت هذا وأمثاله ب قياس الشمول لكان إثباته ب قياس التمثيل أولى
وأيضا فهذا الحار الذي يفعل الحرارة والبارد الذي يفعل برودة إنما يفعل ذلك مع عدم العلم والارادة بخلاف ما يفعل بعلم واختيار كالانسان فان هذا

يفعل افعالا متنوعة وتصدر عنه أمور مختلفة وهم يسلمون ذلك ويقولون إن الفاعل بالطبع يتحد فعله والفاعل الاختيار يتنوع فعله وإذا كان كذلك فمعلوم أن ما يفعل بالعلم والارادة أكمل مما يفعل بلا علم ولا إرادة فالانسان أكمل من الجماد وحينئذ فان كان باب القياس صحيحا فقياس الرب بما يفعل بعلم واختيار اولى من قياسه بما يفعل بلا علم ولا اختيار فما بالهم شبهوا رب العالمين بالجمادات ونزهوه ان يشبهوه بالاحياء الناطقين
وهذا الخذلان أصابهم في باب صفاته وأفعاله فهم في باب الصفات يقولون إذا قلنا إنه حي عالم قادر مريد فقد شبهناه ب النفس الفلكية او الانسانية فيقال لهم إذا نفيم عنه العلم والحيوة والقدرة والارادة فقد شبهتموه بالجمادات كالتراب والماء فان كنتم إنما هربتم من التشبيه فالذي اليه شر مما هربتم منه
ثم إنكم تزعمون ان الفلسفة هي التشبة بالاله على قدر الطاقة وان الفلك يتشبه به بحسب الامكان فتجعلون مخلوقاته قادرة على التشبه به من بعض الوجوه فان كان التشبه به منفيا عنه من كل وجه امتنع ان يكون مقدورا للمخلوقات وإن جاز أو وجب إثباته من بعض الوجوه كان هو أقدر عليه من مخلوقاته فكان إذا كان التشبه من بعض الوجوه ممكنا أن يخلق ما فيه من صفات الكمال ما يشبهه من بعض الوجوه اولى من أن يقدر ذلك لمخلوق على ان يحدث لنفسه ما يصير به مشابها له من بعض الوجوه سواء قيل إنه خالق افعال المخلوقات او لم يقل بذلك فانه على الاول يكون هو الخالق لما فيه شبه له وحينئذ فيبطل قولهم وعلى الثاني فيكون المخلوق بدون إعانة الخالق له يقدر على ان يحدث ما يشبه الرب والرب لا يقدر على ذلك
فتبين ان قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد لا يصح استدلالهم به في حق الله تعالى بأي قياس استدلوا

وإن قالو إن الواحد من الوجه الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وان صدر منه اثنان فمن وجهين أو قالوا هذا معلوم بالضرورة فلا يحتاج الى دليل فانه لا بد بين المصدر والصادر من مناسبة والوجه الواحد لا يناسب اثنين قيل لهم هذا يبطل قولكم في نفي الصفات فان الرب قد صدر عنه مخلوقات كثيرة واذا كان الواحد لا يصدر عنه من الوجه الواحد إلا واحد امتنع ان تصدر هذه المخلوقات عن خالقها من وجه واحد فدل ذلك على انه متصف بامور متنوعه من صفات متنوعه وأفعال متنوعه صدر عنه باعتبارها ما وجد من المخلوقات فكان اصل ضلالهم توهمهم إمكان صدور المخلوقات عما قدروه من الواحد الذي لا يوجد إلا في الاذهان لا في الاعيان ولقد احسن بعض الفضلاء إذ قال الصفع احسن من توحيد الفلاسفة بل قصر فيما قال
وإذا قالوا هو واحد ليس له صفات وأفعال تقوم به فلو صدر عنه اكثر من واحد لكان قد صدر عن الواحد من الوجه الواحد اكثر من واحد قيل لهم فذلك الاول ان كان واحدا من كل وجه لزم ان لا يصدر عنه الا واحد من كل وجه وهذا خلاف المشاهدة وان كان فيه كثرة بوجه ما فقد صدر عن الواحد من الوجه الواحد اكثر من واحد وان قالوا تلك الوجوه التي في الصادر الاول امور عدمية قيل فقد صدر عنه باعتبارها كثرة واذا جاز هذا جاز ان تجعل الامور الاضافية الكثيرة في الاول مبدا الكثرة فكيفما ادير قولهم تبين انه افسد من قول النصارى في التثليث
وحقيقة قولهم الذي قرره ابن سينا وامثاله انه أي موجود فرض في الوجود كان اكمل من رب العالمين وذلك انه قرر انه وجود مشروط بسلب جميع الامور الثبوتية عنه وهو معنى قولهم هو الوجود المقيد بسلب جميع الماهيات وقولهم الوجود الذي لا يعرض له شيء من الماهيات فان هذا بناه على قوله ان وجود الماهيات عارض لها بناء على ان في الخارج لكل ممكن وجودا وماهية غير

الوجود وان ذلك الوجود عرض لتلك الماهية وان كان لازما لها ولهذا قالوا ان واجب الوجود وجوده لا يعرض لشيء من الماهيات لئلا يلزم التركيب والتعليل فيكون وجودا مقيدا بأن لا يعرض لشيء من الماهيات فلا يجوز ان يكون له حقيقة في نفسه غير الوجود المحض الذي لا يتقيد بأمر ثبوتي
فيقال له فعلى هذا التقدير قد شارك جميع الموجودات في مسمى الوجود وامتاز عنها بقيد عدمي وهو سلب كل ثبوت وامتاز به كل منها عنه بما يخصه من الحقيقة الموجودة ومعلوم ان الوجود اكمل من العدم وهم يسلمون ذلك فاذا اشترك اثنان في الوجود وامتاز احدهما عن الاخر بأمر وجودي والاخر لم يميز الا بأمر عدمي كان الممتاز بأمر وجودي اكمل من الممتاز بأمر عدمي لانه شارك هذا في الوجود المشترك وامتاز عنه بالوجود المختص وذلك لم يمتز عنه الا بعدم كل وجود خاص وسواء جعل الوجود المشترك جنسا او عرضا عاما وجعل المميز بينهما فصلا او خاصة فعلى كل تقدير يلزم ان يكون ما لم يتميز الا بعدم دون ما تميز بوجود
وهم يقولون انما فررنا الى هذا من التركيب فيقال ان كان التركيب نقصا لكان ما فررتم اليه شرا مما فررتم منه فان الذي فررتم اليه يوجب ان لا يكون له وجود في الخارج لان الموجود الذي لا يختص بأمر ثبوتي لا يوجد الا في الاذهان لا في الاعيان واذا قدر ثبوته في الخارج فكل موجود ممكن اكمل منه فيلزم ان يكون كل مخلوق ولو انه ذرة او بعوضة اكمل من رب العالمين رب الارض والسموات والقول المستلزم هذا في غاية الفساد
فالحمد لله الذي هدانا لمعرفة الحق وبيان ما التبس على هؤلاء الذين يدعون انهم اكمل الناس وهم اجهل الناس برب العالمين
والله تعالى اخبر عن المشركين ما ذكره في سورة الشعراء من قوله وازلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم اين ما كنتم

تعبدون من دون الله هل ينصرونكم او ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود ابليس اجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله ان كنا لفي ضلال مبين اذ نسويكم برب العالمين فهذا حال من سوى المخلوقات برب العالمين فكيف حال من فضل كل مخلوق على رب العالمين
واذا قيل هم لم يفهموا ولم يقصدوه قيل ونحن لم نقل انهم تعمدوا مثل هذا الباطل لكن هذا لازم قولهم وهو دليل على غاية فساده وغاية جهلهم بالله تعالى وانهم اضل من اليهود والنصارى ومشركي العرب وامثالهم من المشركين الذين يعظمون الخالق أكثر من تعظيم هؤلاء المعطلين ... فان كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وان كنت تدري فالمصيبة اعظم ...
كون لفظ التركيب مجملا يطلق على معان
وما فروا منه من التركيب قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع وبينا ان لفظ التركيب مجمل يراد به تركيب الجسم من اجزاء كانت متفرقة فاجتمعت كتركيب السكنجبين وغيره من الادوية بل ومن الاطعمة والاشربة والملابس والمساكن من اجزائها التي كانت متفرقة فألف بينها وركب بعضها مع بعض حتى صارت على الحال المركبة
وقد يراد ب المركب ما لا يمتزج فيه احد الاثنين بالاخر كما يقال ركب الباب في موضعه وركب المسمار في الباب وهذا التركيب اخص من الاول وهو المشهور من الكلام وقد قال تعالى في أي صورة ما شاء ركبك الانفطار ومعلوم ان عاقلا لا يقول ان الله تعالى مركب بهذا المعنى الاول ولا بالثاني
وقد يقال المركب على ما يمكن مفارقة بعض اجزائه لبعض كأخلاط الانسان واعضائه فانها وان لم يعقل انها كانت مفترقة فاجتمعت بل خلقه الله

من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولكن يمكن تفريق بعض اعضائه عن بعض ويعقل ايضا انه اذا مات استحال فصار بعضه ترابا وبعضه هواء فتفرقت اعضائه واخلاطه وكذلك سائر الحيوان والنبات ومعلوم ان عاقلا لا يقول ان هذا مركب بهذا الاعتبار
واما تسمية الواحد الموصوف بصفاته مركبا كتسمية الحي العالم القادر الموصوف بالحياة والعلم والقدرة مركبا فهذا اصطلاح لهم لا يعرف شيء من الشرائع ولا اللغات ولا عقول جماهير العقلاء جعلوا هذا تركيبا وان تسميته مركبا
فاذا قالوا نحن نسميه تركيبا لان فيه اثبات معان متعددة لذات واحدة ونحن نسمي ذلك تركيبا ونقيم الدليل العقلي على امتناعه قيل اذا كان الا كذلك فالنظر في المعاني المعقولة لا في الالفاظ السمعية ونحن لا نوافقكم على جعل الانسان مركبا من الحيوانية والناطقية ولا ان في الوجود شيئا مركبا من اجزاء عقلية بل المركب من الاجزاء العقلية انما يكون في الاذهان لا الاعيان وكل ما في الوجود من المركبات فانما هو مركب من اجزاء حسية موجودة في الخارج
والناس قد تنازعوا في الجسم هل هو مركب من اجزاء حسية وهو الجواهر المفردة او من اجزاء عقلية وهي المادة والصورة او لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة اقوال والصحيح عندنا القول الثالث ثم يليه قول من جعله مركبا من الاجزاء الحسية وافسد الثلاثة قول من جعله مركبا من الاجزاء العقلية كما قد بسط في موضعه
وحينئذ فمن قال ان الباري جسم وان الجسم مركب من الاجزاء الحسية او العقلية كان الاستدلال على بطلان هذا التركيب استدلالا مقبولا ممن يقوله

فان مطلوبه صحيح لكن يبقى النظر هل يحسن هذا المستدل الإستدلال عليه او لا يحسنه
واما من قال انه ليس ب مركب لا هذا التركيب ولا هذا التركيب وانما اسميه جسما او جوهرا لان الجسم و الجوهر عندي اسم لكل موجود قائم بنفسه فهذا النزاع معه في اسم الجسم والجوهر نزاع لفظي لا عقلي ولا شرعي فان الشرع لم ينطق بهذا الاسم لا نفيا ولا اثباتا والعقل انما ينظر في المعاني لا في مجرد اللفظ فالنظر مع هذا اما في اثبات كون الجسم مركبا احد التركيبين وهذا بحث عقلي معروف واما في كون لفظ الجسم في اللغة لكل مركب وهذا مركب وهذا بحث لغوي له موضع اخر
وهؤلاء ليس مقصودهم بنفي التركيب هذا المعنى فقط فان هذا يوافقهم عليه كثير من مثبتة الصفات لكن مقصودهم انه لا يتصف بصفة ثبوتية اصلا واخذوا لفظ التركيب الذي وافقتهم بعض اهل الكلام على نفي معناه وتوسعوا فيه حتى جعلوه اعم مما وافقهم عليه اولئك المتكلمون ونفوه وصاروا كالجهمية المحضة التي تنفي الاسماء والصفات او تثبتها على وجه المجاز

دليل نفاة الصفات والرد عليه
والمقصود هنا ان نقول قولهم الموصوف بالحياة والعلم والقدرة مركب من هذا وهذا يقال لهم سموا هذا تركيبا او تجسيما او ما شئتم من الاسماء فما الدليل على نفي هذا عقلا او سمعا قالوا الدليل على ذلك ان كل مركب مفتقر الى اجزائه وجزؤه غيره ف المركب مفتقر الى غيره والمفتقر الى غيره ليس واجبا بنفسه
فيقال اجزاء هذا الدليل والفاظه التي تسمونها حدودا كلها الفاظ مجملة تحتمل حقا وباطلا واستعمال الالفاظ المجملة في الحدود والقياس من باب السفسطة
فيقال لكم قد عرف ان لفظ المركب مجمل وان المراد به هنا ذات تقوم بها صفات وحينئذ فالمراد ب الافتقار تلازم الذات والصفات بمعنى

انه لا توجد الذات الا مع وجود صفتها الملازمة لها ولا توجد الصفة الا مع وجود الذات الملازمة لها ولو قدر انه اريد ب التركيب التركيب من الاجزاء الحسية او العقلية مع تلازم الاجزاء فهذا معناه
فاذا قيل كل مركب مفتقر الى جزئه ان عني به انه مستلزم لجزئه وانه لا يوجد الا بوجود جزئه فهذا صحيح فان وجود المجموع بدون كل من احاده ممتنع وان اريد انه يفتقر اليه افقار المفعول الى فاعله والمعلول الى علته الفاعلة او القابلة او الغائية او الصورية فهذا باطل فان الواحد من العشرة والجزء من الجملة لا يجوز ان يكون فاعلا ولا غاية ولا هي هو الصورة
ثم قولكم وجزؤه غيره يقال لفظ الغير يراد به ما كان مباينا للشيء وما يجوز مفارقته له وما ليس اياه فان اردتم ان جزء المجموع ما هو مباين له فهذا باطل فانه يمتنع ان يكون مباينا له مع كونه جزءا منه فيمتنع ان يكون غيرا له بهذا الاعتبار وان قلتم يجوز ان يفارقه فهذا ليس عام على الاطلاق بل يجوز في بعض الافراد ان يفارق غيره من الاجزاء ويفارق المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية ولا يلزم ذلك في كل مجموع لا سيما على اصلهم فان الفلك عندهم مركب من اجزائه وصفاته ولا يجوز عندهم على اجزائه التفرق
والمسلمون وجمهور العقلاء عندهم ان الله حي عليم قدير ولا يجوز ان يفارقه كونه حيا عالما قادرا بل لم يزل ولا يزال كذلك وكونه حيا عالما قادرا من لوازم ذاته وهي ملازمة لذاته لا يجوز عليه الافتراق بوجه من الوجوه فامتنع ان تكون صفاته هذه اغيارا بهذا الاعتبار
وان فسر الغيران بما ليس احدهما هو الاخر او بما يجوز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالاخر فلا ريب ان صفة الموصوف التي يمكن معرفتها

بدونه غير له بهذا الاعتبار لكن اذا كانت تلك الصفة لازمة له وهو لازم لها لم يكن في ذلك ما يوجب ان يكون احدهما مفتقرا الى الاخر مفعولا للاخر ولا علة فاعلة ولا غائية ولا صورية اكثر ما في ذلك ان تكون الصفة مفتقرة الى الذات افتقار الحال الى محله القابل له وهم يسمون القابل علة قابلة لكن فيما يحدث لها من المقبولات لا فيما يكون لازما لها ازلا وابدا وان قدر انهم يسمون جميع ذلك علة ومعلولا فتكون الذات علة قابلة للصفة بهذا الاعتبار وكون الصفة معلولة هو معنى كونها صفة قائمة بالموصوف

مجموع الذات والصفة لا يفتقر الى العلل الاربع
ومع هذا فليس مجموع الذات والصفة مفتقرا الى شيء من انواع العلل الاربع لا الى الفاعل ولا الى الغاية ولا الى القابل ولا الى الصورة فبطل ان يقال المجموع مفتقر الى جزئه افتقار المعلول الى علته بوجه من الوجوه لكن غايته ان فيه افتقار الصفة الى الموصوف افتقار الحال اللازم لمحله الى محله المستلزم له فيقال لهم واي شيء في كونه موجودا بنفسه لا فاعل له ما يوجب نفي هذا التلازم الذي سموه افتقار نحو ذاته وصفاته
وقولهم ما افتقر الى غيره لم يكن واجبا بنفسه يقال لهم قد علم ان المراد ب الافتقار التلازم والمراد ب الغير ما هو داخل في المجموع اما الذات واما الصفات ليس المراد به ما هو مباين له وما يجوز مفارقته له وغايته ان يراد ان الصفة لا بد لها من الموصوف فليس المراد افتقار المعلول الى علته الفاعلة وحينئذ فليس في هذا التلازم الذي سميتموه افتقارا ولا في هذه الصفات التي سميتموها اغيارا ما يوجب ان يكون شيء من ذلك مفعولا لفاعل ولا لعلة فاعلة
و واجب الوجود الذي دلت الممكنات عليه هو الموجود بنفسه القائم بنفسه رب العالمين الذي لا يفتقر الى فاعل ولا علة فاعلة بل هو بنفسه وصفاته

لا يفتقر الى شيء من العلل الاربع

كون صفاته تعالى واجبة الوجود
واما نفس صفاته فليس لها فاعل ولا علة فاعلة ولا علة غائية ولا صورية فهي واجبة الوجود اذا عنى ب واجب الوجود احد هذه المعاني
وان عنى ب واجب الوجود ما هو اعم من ذلك حتى يدخل فيه ما ليس له محل يقوم به فليست واجبة الوجود بهذا التفسير بل هي ممكنة الوجود والذات مستلزمة لها وهي محل لها
واذا قيل فيلزم ان يكون الذات فاعلة وقابلة وذاك باطل قيل كلا المقدمتين ممنوعة فان كون الذات مستلزمة لصفتها القائمة بها لا يقتضى ان تكون فاعلة لها بل يمتنع ان تكون الذات فاعلة للصفة اللازمة في الممكن فكيف في رب العالمين بل يمتنع ان يكون الرب فاعلا لما هو لازم له وان كان بائنا عنه كالفلك فكيف يكون فاعلا لصفته اللازمة له وان قدر انهم سموا هذا الاستلزام فعلا وقالوا هي فاعلة بهذا الاعتبار قيل لهم فلا نسلم انه لا يجوز كون الشيء الواحد فاعلا وقابلا بهذا الاعتبار بل ولا باعتبار اخر
فان استدلوا على ذلك بحجتهم المعروفة المبينة على نفي التركيب فلا يمكنهم جعل ذلك مقدمة في نفس الدليل لان هذا مصادرة على المطلوب وهو جعل المطلوب مقدمة في اثبات نفسه بعبارة اخرى فانهم اذا نفوا التركيب عن الواجب بناء على مقدمات منها ان الواحد لا يكون فاعلا وقابلا واثبتوا هذه المقدمة بناء على نفي التركيب كانوا قد اثبتوا كلا من المقدمتين بالاخرى فلا تكون واحدة منهما ثابتة
والدليل الدال على اثبات واجب الوجود دل على اثبات فاعل مبدع ل الممكنات والمبدع لها يمتنع ان يكون صفة قائمة بغيره فان ذلك الموصوف هو الفاعل حينئذ دون مجرد الصفة وهذا الواجب الذي دلت عليه اياته ليس

يفتقر الى علة من العلل الاربع مع اتصافه بصفاته اللازمة له

اذا جاز استلزام الذات للمفعولات فاستلزامها للصفات اولى
ومن اعظم تناقض هؤلاء انهم يقولون الذات اذا استلزمت الصفات كان ذلك افتقارا منها الى الغير فلا تكون واجبة وهم يقولون ان الذات مستلزمة لمفعولاتها المنفصلة عنها ولا يجعلون ذلك منافيا لوجوب وجودها بنفسها فان كان الاستلزام للمفعولات لا ينافي وجوب الوجود فالاستلزام للصفات اولى ان لا ينافيه
وان كان ذلك الاستلزام ينافي وجوب الوجود كان حينئذ قد عرض له ان يفعل بعد ان لم يكن فاعلا وهذا ممتنع عندهم وهذا اظهر المعقولات التي قهروا بها المتكلمين الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الاشعرية والكلابية واتباعهم ولم يميز الطائفتان بين فاعل النوع وفاعل العين
ثم إذا جاز ان يفعل ف الفعل ثبوتي فيلزم قيامه به ودعوى ان المفعول عين الفعل مكابرة للعقل واذا جاز قيام الفعل به كان قيام الصفات بطريق الاولى
فساد القول بأن المفعول عين الفعل
والذين جعلوا المفعول عين الفعل من اهل الكلام كالاشعرية ومن وافقهم من حنبلي وشافعي ومالكي وغيرهم انما الجاهم الى ذلك فرارهم من قيام الحوادث بالقديم وتسلسل الحوادث وهذان كل منهما غير ممتنع عند هؤلاء الفلاسفة مع ان اولئك المتكلمين النفاة حجتهم على النفي ضعيفة
وجماهير المسلمين وطوائفهم على خلاف ذلك والقول بأن الخلق غير المخلوق هو مذهب السلف قاطبة وذكر البخاري في كتاب خلق افعال العباد

انه قول العلماء مطلقا بلا نزاع وهو قول ائمة الحديث وجمهورهم وقول اكثر طوائف الكلام كالهشامية والكلابية والكرامية وقول جمهور الفقهاء من اصحاب ابي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي وقول الصوفية كما حكاه عنهم صاحب التعرف لمذهب التصوف وهو قول اهل السنة فيما حكاه البغوي صاحب شرح السنة
وحجة هؤلاء انه لو كان الخلق غير المخلوق لكان اما قديما واما حادثا فان كان قديما لزم قدم المخلوق فيلزم قدم العالم وان كان حادثا فانه يفتقر الى خلق اخر ويلزم التسلسل ويلزم ايضا كون الرب محلا للحوادث
فيقال لهم جميع هذه المقدمات مما ينازعكم الناس فيها ولا تقدرون على اثبات واحدة منها فقولكم لو كان قديما لزم قدم المخلوق يقول لكم من توافقونه على قدم الارادة نحن وانتم متفقون على قدم الارادة وان تأخر المراد فتأخر المخلوق عن الخلق كذلك او اولى وهذا جواب الحنفية والكرامية

وكثير من الحنبلية والشافعية والمالكية والصوفية واهل الحديث لهم
واما قولهم ان كان محدثا افتقر الى خلق اخر فهذا ايضا ممنوع فانهم يسلمون ان المخلوقات محدثة منفصلة بدون حدوث خلق فاذا جاز هذا في الحادث المنفصل عن المحدث فلان يجوز حدوث الحادث المتصل به بدون خلق بطريق الاولى والاخرى
ولهذا كان كثير من هؤلاء او اكثرهم هم يقولون ان الخلق الذي قام به حادث لا محدث ويقولون ما قام به من الفعل حدث بنفس القدرة والارادة لا يفتقر الى خلق وانما يفتقر الى الخلق المخلوق والمخلوق ما كان منفصلا عنه وكثير منهم يسمونه محدثا ويقولون هو محدث ليس ب مخلوق فان المخلوق ما خلقه بائنا عنه واما نفس فعله وكلامه ورضاه وغضبه وفرحه الذي يقوم بذاته ب قدرته فانه وان كان حادثا ومحدثا فليس ب مخلوق وليس كل حادث ولا محدث مخلوقا عند هؤلاء
فان قيل النزاع في ذلك لفظي قيل هذا لا يضرهم فان من سمى ذلك القائم به مخلوقا قالوا له غايته ان المخلوق الذي هو نفس الخلق لا يفتقر الى خلق اخر ولا يلزم من ذلك ان المخلوق الذي ليس ب خلق لا يفتقر الى الخلق فان من المعقول ان المخلوق لا بد له من خلق واما الخلق نفسه اذا جوز وجود مخلوق بلا خلق فتجويز خلق بلا خلق اولى والمنازع لهم يجوز وجود كل مخلوق بلا خلق فاذا جوزوا هم نوعا منه بلا خلق كان ذلك اولى بالجواز والفرق بين نفس الخلق الذي به خلق المخلوق وبين المخلوق معقول

البحث في قيام الحوادث به تعالى
وكذلك احتجاجهم بامتناع حلول الحوادث لا ينفع الفلاسفة فان هذا انما نفوه لامتناع قيام الحادث بالقديم وهؤلاء الفلاسفة يجوزون قيام الحادث

بالقديم ومن جوز قيام الصفات بالباري منهم جوز قيام الحوادث به مثل كثير من اساطينهم القدماء والمتأخرين كأبي البركات وغيره فهذان قولان معروفان لهم اما القول الثالث وهو تجويز الصفات دون الافعال فهذا لا اعرف به قائلا منهم فان كان قد قاله بعضهم فالكلام معه كالكلام مع من قال ذلك من اهل الكلام
وعلى هذا فلا يلزم التسلسل وان لزم فانما هو تسلسل في الاثار وهو وجود كلام بعد كلام او فعل بعد فعل والنزاع في هذا مشهور وانما يعرف نفيه عن الجهمية والقدرية ومن وافقهم من كلابي وكرامي ومن وافقهم من المتفقه واما ائمة السلف وائمة السنة فلا يمنعون هذا بل يجوزونه بل يوجبونه ويقولون ان الله لم يزل متكلما اذا شاء بل يقولون انه لم يزل فاعلا يقوم به الافعال الاختيارية بمشيئته وقدرته وهذا كله مبسوط في مواضعه
والمقصود هنا انه يلزم من كونه فاعلا قيام الصفات به فان الفعل امر وجودى وان يفعل من اقسام الوجود ووجود المخلوق المفعول بلا خلق ولا فعل ممتنع واذا قام الخلق به ف العلم والقدرة لازمة الخلق وقيامهما به اولى
وانهم ان قالوا يستلزم المفعول ولا يستلزم الصفة لكون الملزوم مفتقرا الى اللازم فهذا من اعظم التناقض وان قالوا انه لا يستلزمه كان ذلك ادل على بطلان قولهم في الصفات والافعال وكان الدليل يدل على قيام الافعال به والصفات وقيام الصفات به اولى من قيام الافعال فبطل ما نفوا به الصفات وسموه تركيبا
والواحد الذي قالوا انه لا يصدر عنه الا واحد هو الواحد المسلوب عنه الصفات كلها بل هو الوجود المقيد بكل سلب وهذا لا حقيقة له الا في الذهن واي موجود مخلوق قدر فهو اكمل من هذا الخيال الذي لا حقيقة له في الخارج

والتعظيم له انما نشأ من اعتقاد انه رب العالمين وانه واجب الوجود ونحو ذلك من الصفات التي تظهر كمالها واما من هذه الجهة النافية السلبية فما من وجود الا وهو اكمل منه واذا كانوا قد جمعوا بين وصفه بذلك الكمال وهذا النقصان الذي يكون كل موجود اكمل منه دل على تناقضهم وفساد قولهم وكان ما قالوه من الحق حقا وما قالوه من الباطل باطلا وهذه المسائل الالهية مبسوطة في موضعها

رد القول بأن قياس التمثيل لا يفيد الا الظن
والمقصود هنا الكلام على المنطق وما ذكروه من البرهان وانهم يعظمون قياس الشمول ويستخفون ب قياس التمثيل ويزعمون انه انما يفيد الظن وان العلم لا يحصل الا بذلك وليس الامر كذلك بل هما في الحقيقة من جنس واحد وقياس التمثيل الصحيح اولى بافادة المطلوب علما كان او ظنا من مجرد قياس الشمول ولهذا كان سائر العقلاء يستدلون ب قياس التمثيل اكثر مما يستدلون ب قياس الشمول بل لا يصح قياس الشمول في الامر العام الا بتوسط قياس التمثيل وكل ما يحتج به على صحة قياس الشمول في بعض الصور فانه يحتج به على صحة قياس التمثيل في تلك الصورة ومثلنا هذا بقولهم الواحد لا يصدر عنه الا واحد فانه من اشهر اقوالهم الالهية الفاسدة
واما الاقوال الصحيحة فهذا ايضا ظاهر فيها فان قياس الشمولي لا بد فيه من قضية كلية موجبة ولا نتاج عن سالبتين ولا عن جزئيتين باتفاقهم والكلي لا يكون كليا الا في الذهن فاذا عرف تحقق بعض افراده في الخارج كان ذلك مما يعين على العلم بكونه كليا موجبا فانه اذا احس الانسان ببعض الافراد الخارجية انتزع منه وصفا كليا لا سيما اذا كثرت افراده فالعلم بثبوت الوصف المشترك لاصل في الخارج هو اصل العلم بالقضية الكلية وحينئذ ف القياس التمثيلي اصل

ل القياس الشمولي اما ان يكون سببا في حصوله واما ان يقال لا يوجد بدونه فكيف يكون وحده اقوى منه
وهؤلاء يمثلون الكليات بمثل قول القائل الكل اعظم من الجزء و النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان والاشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك وما من كلي من هذه الكليات الا وقد علم من افراده الخارجة امور كثيرة واذا اريد تحقق هذه الكلية في النفس ضرب لها المثل بفرد من افرادها وبين انتفاء الفارق بينه وبين غيره او ثبوت الجامع وحينئذ يحكم العقل بثبوت الحكم لذلك المشترك الكلي وهذا حقيقة قياس التمثيل
ولو قدرنا ان قياس الشمول لا يفتقر الى التمثيل وان العلم بالقضايا الكلية لا يفتقر الى العلم بمعين اصلا فلا يمكن ان يقال اذا علم الكلي مع العلم بثبوت بعض افراده في الخارج كان انقص من ان يعلمه بدون العلم بذالك المعين فان العلم بالمعين ما زاده الا كمالا فتبين ان ما نفوه من صورة القياس اكمل مما اثبتوه

ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل هو من كلام متأخريهم
واعلم انهم في المنطق الالهي بل والطبيعي غيروا بعض ما ذكره ارسطو لكن ما زادوه في الالهي خير من كلام ارسطو فاني قد رايت الكلامين وارسطو واتباعه في الالهيات اجهل من اليهود والنصارى بكثير كثير واما في الطبيعيات فغالب كلامه جيد واما المنطق فكلامه فيه خير من كلامه في الالهي
وما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل والاحتجاج عليه بما ذكروه هو من كلام متأخريهم لما راوا استعمال الفقهاء له غالبا والفقهاء يستعملونه كثيرا في المواد الظنية وهناك الظن حصل من المادة لا من صورة القياس فو صوروا تلك المادة ب قياس الشمول لم يفد ايضا الا الظن لكن هؤلاء ظنوا ان الضعف من جهة الصورة فجعلوا صورة قياسهم يقينيا وصورة قياس الفقهاء ظنيا

ومثلوه بأمثلة كلامية ليقرروا ان المتكلمين يحتجون علينا بالاقيسة الظنية كما مثلوه من الاحتجاج عليهم بأن الفلك جسم او مؤلف فكان محدثا قياسا على الانسان وغيره من المولدات ثم اخذوا يضعفون هذا القياس لكن انما ضعفوه بضعف مادته فان هذا الدليل الذي ذكره الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الاشعرية وغيرهم على حدوث الاجسام ادلة ضعيفة لاجل مادتها لا لكون صورتها ظنية ولهذا لا فرق بين ان يصوروها بصورة التمثيل او الشمول
والآمدى ونحوه ممن يصنف في الفلسفة ويكره التمثيل بمثل هذا لما فيه من التشنيع على المتكلمين فيمثل بمثال متفق عليه كقوله العالم موجود فكان قديما كالباري فان احدا من العقلاء لا يحتج على قدم العالم بكونه موجودا والا لزم قدم كل موجود وهذا لا يقوله عاقل

ابطال القول بأن الدوران والتقسيم لا يفيدان الا الظن
وما ذكروه من ان قياس التمثيل انما يثبت ب الدوران او التقسيم وكلاهما لا يفيد الا الظن قول باطل ويلزمهم مثل ذلك في قياس الشمول
اما التقسيم فانهم يسلمون انه يفيد اليقين اذا كان حاصرا واذا كان كذلك فانه يمكن حصر المشترك في اقسام لا يزيد عليها وابطال التعليل بجميعها الا بواحد وان لم يمكن ذلك لم يمكن جعل ذلك المشترك حدا اوسط فلا يفيد اليقين ولو استعمل فيه قياس الشمول
جواب اعتراضهم على السبر والتقسيم بقولهم
واما قوله يجوز ان يكون الحكم ثابتا في الاصل لذات الاصل والا لزم التسلسل فنقول لا يلزم التسلسل الا اذا كان لا يثبت الا لخارج اما اذا كان تارة يثبت لخارج وتارة لغير خارج لم يلزم التسلسل وحينئذ فلا يمتنع ان

تعلم ان الحكم في هذا الاصل المعين لم يثبت لما يختص به بل لوصف مشترك بينه وبين غيره

فائدتان في تعليل الحكم ب علة قاصرة
وهذا كما يقول الفقهاء ان الحكم يعلل تارة ب علة متعدية وتارة ب علة قاصرة والتعليل ب القاصرة اذا كانت منصوصة جائز باتفاق الفقهاء وانما تنازعوا فيما اذا كانت مستنبطة والاكثرون على جواز ذلك وهو الصحيح وهو مذهب مالك والشافعي واحمد بن حنبل في المنصوص عنه فانه دائما يعلل ب العلل القاصرة وهو اختيار ابي الخطاب وغيره من اصحابه
ولكن القاضي ابو يعلى وطائفه وافقوا اصحاب ابي حنيفة في منعهم التعليل ب القاصرة وهذا من كلام متأخريهم وسبب ذلك النزاع في مسئلة تعليل الربو في المذهب والفضة وامثالهما هل العلة فيه متعدية او قاصرة واما ابو حنيفة نفسه وصاحباه لم ينقل عنهم في ذلك شيء والذي يليق بعقلهم وفضلهم انهم لا يمنعون ذلك مطلقا كما لا يمتنع في المنصوصة
وفي ذلك فائدتان قصر الحكم على مورد النص ومنع الالحاق لئلا يظن الظان ان الحكم يثبت فيما سوى مورد النص كما يعلل تحريم الميته بعلة تمنع دخول المذكي فيها ويعلل تحريم الدم بعلة تمنع دخول العرق والريق وغيرهما فيها ويعلل اختصاص الهدى والاضحية بالانعام بعلة تمنع دخول غيرها فيها ويعلل وجوب الحد في الخمر بعلة تمنع دخول الدم والميتة فيها وامثال ذلك كثيرة بل من يقول ان جميع

الاحكام يثبت بالنص يقول انها معللة ب علل قاصرة لكن انما يعلل ب العلة المتعدية نص يتناول بعض انواع الحكم فيعلل ذلك الحكم بعلة تتعدى الى سائر النوع الذي دل على ثبوت الحكم فيه نص اخر
والفائدة الثانية معرفة حكم الشرع وما اشتمل عليه من مصالح العباد في المعاش والمعاد فان ذلك مما يزيد به الايمان والعلم ويكون اعون على التصديق والطاعة واقطع لشبه اهل الالحاد والشناعة وانصر لقول من يقول ان الشرع جميعه انما شرع لحكمة ورحمة لم يشرع لا لحكمة ورحمة بل لمجرد قهر التعبد ومحض المشيئة
واذا كانت الاوصاف في الاصل قد تكون مختصة بذات الاصل وقد تكون مشتركة بينه وبين غيره خارجة عنه لم يلزم اذا كان هذا الاصل ثبت الحكم فيه لخارج مشترك ان يكون الحكم في كل اصل لخارج مشترك

جواب قولهم
قوله وان ثبت لخارج فمن الجائز ان يكون لغير ما ابدى وان لم يطلع عليه مع البحث عنه بخلاف الحسيات فيقال اما ان يكون التقسيم في العقليات قد يفيد اليقين واما ان لا يفيده بحال فان كان الاول بطل جعلهم الشرطى المنفصل من صور القياس والبرهان وان كان الثاني بطل كلامهم هذا ومعلوم ان هذا احق بالبطلان من ذاك فان القائل اذا قال الوجود اما ان يكون واجبا واما ان يكون ممكنا واما ان يكون قديما واما ان يكون حادثا واما ان يكون قائما بنفسه واما ان يكون قائما بغيره واما ان يكون مخلوقا واما ان يكون خالقا ونحو ذلك من التقسيم الحاصر لجنس الوجود كان هذا حصرا

لكلي عقلي بل الوجود اعم الكليات واذا امكن العقل ان يحصر اقسامه فحصر اقسام بعض انواعه اولى وهم يسلمون هذا كله وهذا هو العلم الاعلى عندهم فكيف يقولون ان السبر والتقسيم لا يفيد اليقين

تمثيل التقسيم الحاصر في مسئلة الرؤية
ثم اذا اختلف الناس في ما يجوز رؤيته فقال بعضهم المصحح للرؤية امر لا يكون الا وجوديا محضا فما كان وجوده اكمل كان احق ان يرى وقال اخر بل المصحح لها ما يختص بالوجود الناقص الذي هو اولى بالعدم مثل كون كل الشيء محدثا مسبوقا بالعدم او ممكنا يقبل العدم كان قول من علل امكان الرؤية بما يشترك فيه القديم والحادث والواجب والممكن اولى من هذا فان الرؤية وجود محض وهي انما تتعلق بموجود لا بمعدوم فما كان اكمل وجودا بل كان وجوده واجبا فهو احق بها مما يلازمه العدم ولهذا يشترط فيها النور الذي هو بالوجود اولى من الظلمة والنور الاشد كالشمس لم يمتنع رؤيته لذاته بل لضعف الابصار فهذا يقتضى انا نعجز عن رؤية الله مع ضعف ابصارنا ولهذا لم يطق موسى رؤية الله في الدنيا لكن لا يمتنع ان تكون رؤيته ممكنه والله قادر على تقوية ابصارنا لنراه
واذا قيل هي مشروطة ب اللون و الجهة ونحو ذلك مما يمتنع على الله قيل له كل ما لا بد منه في الرؤية لا يمتنع في حق الله فاذا قال القائل لو رؤى للزم كذا واللازم منتف كانت احدى مقدمتيه كاذبة وهكذا كل ما اخبر به الصادق الذي اخبر بأن المؤمنين يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر كل ما اخبر به وظن الظان ان في العقل ما يناقضة لا بد ان يكون احدى مقدماته باطلة
فاذا قال لو رؤى لكان متحيزا او جسما او كان في جهة او كان ذا لون وذلك منتف عن الله قيل له جميع هذه الالفاظ مجملة لم يأت شرع بنفي

مسماها حتى تنفى بالشرع وإنما ينفيها من ينفيها فيستفسر عن مراده إذ البحث في المعاني المعقولة لا في مجرد هذه الالفاظ
فيقال ما تريد بأن المرئي لا بد أن يكون متحيزا فان المتحيز في لغة العرب التي نزل بها القرآن يعنى به ما يحوزه غيره كما في قوله تعالى أو متحيزا الى فئة الانفال فهذا تحيز موجود يحيط به موجود غيره الى موجودات تحيط به وسمى متحيزا لانه تحيز من هؤلاء الى هؤلاء والمتكلمون يريدون ب التحيز ما شغل الحيز والحيز عندهم تقدير مكان ليس أمرا موجودا فالعالم عندهم متحيز وليس في حيز وجودى والمكان عند أكثرهم وجودى
فاذا أريد ب المتحيز ما يكون في حيز وجودى منعت المقدمة الاولى وهو قوله كل مرئى متحيز فان سطح العالم يمكن أن يرى وليس في عالم آخر وإن قال بل أريد به لا بد أن يكون في حيز وإن كان عدميا قيل له العدم ليس بشئ فمن جعله في الحيز العدمى لم يجعله في شئ موجود ومعلوم انه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق فاذا كان الخالق بائنا عن المخلوقات كلها لم يكن في شئ موجود وإذا قيل هو في حيز معدوم كان حقيقته انه ليس في شئ فلم قلت إن هذا محال
وكذلك إذا قال يلزم ان يكون جسما ففيه إجمال التنبيه عليه
وكذلك إذا قال في جهة فان الجهة يراد بها شئ موجود وشئ معدوم فان شرط في المرئي ان يكون في جهة موجودة كان هذا باطلا برؤية سطح العالم وإن جعل العدم جهة قيل له إذا كان بائنا عن العالم ليس معه هناك غيره فليس في جهة وجودية وإذا سميت ما هنالك جهة وقلت هو في جهة على هذا التقدير منعت انتفاء اللازم وقيل لك العقل والسمع يدلان على ثبوت هذا اللازم لا

على انتفائه
وهذا التقسيم مثلنا به في مسئلة الرؤية فانها من أشكل المسائل العلقية وأبعدها من قبول التقسيم المنحصر ومع هذا فان حصر الاقسام فيها ممكن فكيف يغيرها
وحيئنذ فاذا احتج عليها ب قياس التمثيل فقيل المخلوقات الموجودة يمكن رؤيتها فالخالق احق بامكان الرؤية لان المصحح للرؤية في المخلوقات امر مشترك بين الخالق والمخلوق لا يختص بالمخلوق وإذا كان المشترك مستلزما لصحة الرؤية ثبتت صحة الرؤية
ولا يجعل المشترك المصحح هو مجرد الوجود كما يسلكه الاشعري ومن اتبعه كالقاضي أبى بكر وطائفة من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي ابى يعلى بل يجعله القيام بالنفس كما يسلكه ابن كلاب وغيره من مثبتي الرؤية من اصحاب احمد وغيرهم كأبي الحسن الزاغونى أو لا يعين المصحح بل يجعل قدرا مشتركا

كالتقسيم الحاصر وهو أيضا يفيد اليقين كما قد بسط في موضعه
وإذا كانت مسئلة الرؤية والمصحح لها أمكن تقريره على هذا الوجه فكيف فيما هو أوضح منها إذا قيل الفاعل منا مريد وهو متصور لما يفعله فالخالق آولى أن يعلم ما خلق او قيل إذا كان الفعل الاختياري فينا مشروطا بالعلم فهو في حق الخالق أولى لأن ما به استلزمت الإرادة العلم إما أن يختص بالعبد أو يكون مشتركا والاول باطل فتعين الثاني لان استلزام الارادة العلم كمال للفاعل لا نقص فيه والواجب احق بالكمال الذي لا نقص فيه من الممكن المخلوق فاذا كان العبد يعلم ما يفعل فالباري آولى أن يعلم ما يفعل
وإذا قيل إذا كان الرب حيا امكن كونه سميعا بصيرا متكلما وما جاز له من الصفات وجب له لان ثبوت صفاته له لا تتوقف على غيره ولا يجعله غيره متصفا بصفات الكمال لان من جعل غيره كاملا فهو أحق بالكمال منه وغيره مخلوقه ويمتنع ان يكون مخلوقه اكمل منه بل ويمتنع ان يكون هو الذي اعطاه صفات الكمال لان ذلك يستلزم الدور القبلي او غير ذلك من الادلة التي بسطت في غير هذا الموضع
وهم في كلامهم في جنس القياس لم يتعرضوا لآحاد المسائل ونحن لا نحتاج الى ذلك لكن الغرض التمثيل لمسائل قد يشكل على كثير من الناس استعمال القياس فيها لأجل المادة فتبين أن لها مادة يمكن ان يستخرج منها أدلة تلك المطالب وتلك المادة تصور بصورة الشمول تارة وبصورة التمثيل أخرى لكن إذا صورت بصورة الشمول علم ان افرادها لا تتساوى وإذا صورت بصورة التمثيل علم أن الرب أحق بكل كمال لا نقص فيه ان يثبت له واحق بنفى كل نقص عنه من نفيه عن سائر الموجودات

جواب قولهم
وإن كان منحصرا فمن الجائز ان يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع

وأما قولهم إذا انحصرت الاقسام فمن الجائز ان يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع فيقال هذا ممكن في بعض الصور كالمسائل الظنية من الفقه او غيره إذا قيل خيار الامة المعتقة تحت العبد كقصة بريرة إما أن يكون ثبت لكونها كانت تحت ناقص وإما ان يكون لكونها ملكت نفسها أمكن أن يقال وإما أن يكون لمجموع الامرين
لكن تعليله بما يختص الاصل سواء كان هو المجموع او بعض منه إنما يمكن العلم بنفيه كما يمكن العلم بغيره من المنفيات كما إذا قيل الانسان إنما كان حساسا متحركا بالارادة لحيوانيته لا لانسانيته والحيوانية مشتركة بينه وبين الفرس وسائر الحيوان فيكون حساسا متحركا بالارادة فلا يمكن ان يدعى في مثل هذه ان المختص بالانسان هو علة كونه حساسا متحركا بالارادة بل العلة ليست إلا المشترك بينه وبين الحيوان
وكذلك إذا قيل القديم لا يجوز عدمه لان قدمه إما بنفسه أو بموجب يجب قدمه بنفسه وما كان قديما بنفسه كان موجودا بنفسه بالضرورة فان القدم أخص من الوجود فيلزم من ثبوته ثبوت الوجود فاذا قديما بنفسه فهو موجود بنفسه بالضرورة وما كان موجودا بنفسه فهو واجب بنفسه وإلا لافتقر الى فاعل فالقديم إما واجب بنفسه وإما لازم للواجب بنفسه وكلاهما ممتنع العدم لانه يستلزم عدم الواجب بنفسه ولو عدم لكان قابلا للعدم فلا يكون واجبا بنفسه ولهذا اتفق العقلاء على هذا وهو ان القديم إما موجود واجب بنفسه وإما لازم لما هو كذلك

فاذا قال القائل لو كانت الافلاك قديمة لامتنع عدمها لكن عدمها ممكن بالادلة الدالة عليه فلا تكون قديمة لم يجز ان يقال بل القديم لا يجوز عدمه لعلة مختصة بالقديم بنفسه دون ما كان معلولا لغيره فالافلاك وإن قيل هي قديمة فهى ممكنة العدم فان هذا باطل لما ذكرناه من ان المشترك بين الواجب بنفسه والواجب بغيره هو مستلزم لقدم المشترك بين القديم الموجود بنفسه والقديم الموجود بغيره فمن ادعى قديما موجودا بغيره وقال إنه مع هذا يمكن عدمه فقوله متناقض كما بسط في موضعه ولهذا لم يقل احد من العقلاء إنها قديمة يمكن عدمها الامكان المعروف وإنما ادعوا ان لها ماهية باعتبار نفسها فقيل الوجود والعدم ولكن وجب لها الوجود من غيرها
وقد تبين بطلان هذا في غير هذا الموضع وبين ان هذا قول مخالف لجميع العقلاء حتى ارسطو واتباعه لا يكون عندهم ممكنا الا المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه او حتى هؤلاء الذين قالوا بأنها قديمة يمكن وجودها وعدمها كابن سينا واتباعه تناقضوا ووافقوا سلفهم وسائر العقلاء فذكروا في عدة مواضع ان الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون الا محدثا وان كل ما كان دائما لا يكون ممكنا واما القديم الذي لا يمكن عدمه فليس عندهم ممكنا وان كان وجوبه بغيره
وانما خالف في هذا طائفة من الفلاسفة كابن سينا وامثاله الذين ارادوا ان يجمعوا بين قول سلفهم وبين ما جاءت به الرسل مع دلالة العقول عليه فلم يمكنهم ذلك الا بما خالفوا به الرسل مع مخالفة العقول مع مخالفة سلفهم فيما اصابوا فيه وموافقتهم فيما اخطئوا فيه وكان كفرا في الملل ومع تناقضهم ومخالفة جميع العقلاء
واما قولهم ب ثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تخلف غيره من الاوصاف المقارنة له في الاصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل لجواز ان يكون الحكم في تلك معللا بعلة اخرى فيقال هذا غلط وذلك انه متى ثبت الحكم مع المشترك في

صورة تمتنع ان تكون الاوصاف الزائدة المقارنة له في الاصل مؤثرة في الحكم مع تخلف غيره من الاوصاف فانها مختصة بالاصل فلو كانت مؤثرة لم يجز ان يوجد الحكم في غير الاصل وحينئذ فعدمها لا يؤثر والصورة الاخرى قد يثبت فيها وجود المشترك
واما امكان وجود وصف اخر مستقل بعلة فهذا لا بد من نفيه اما بدليل قاطع او ظاهر او بأن الاصل عدمه ويكون القياس حينئذ يقينيا او ظنيا
والكلام فيما اذا حصرت اقسام العلة ونفي التعليل عن كل منها الا واحد والنفي قد يكون لنفي التعليل بها من الاصل وقد يكون لنفي التعليل مطلقا فالاول يحتاج معه الى الثاني في تلك الصورة وأما الثاني فهو يتناول النفي في تلك الصورة وغيرها
وقولهم وإن كان لا علة له سواه فجائز ان يكون علة لخصوصه لا لعمومه فيقال هذا هو في معنى السؤال الاول وهو ان يكون الحكم ثبت لذات المحل لا لامر منفصل وهو التعليل بالعلة القاصرة الواقفة على مورد النص
وأما قولهم إن بين أن ذلك الوصف يستلزم الحكم وأن الحكم لازم لعموم ذاته فمع بعده يستغنى عن التمثيل فيقال لا بعد في ذلك بل كلما دل عل ان الحد الاوسط يستلزم الاكبر فانه يستدل به على جعل ذلك الحد وصفا مشتركا بين أصل وفرع ويلزمه الحكم
وأما قوله إنه يستغنى عن التمثيل فيقال نعم والتمثيل في مثل هذا يذكر للايضاح وليتصور للفرع نظير لان الكلى إنما وجوده كلى في الذهن لا في الخارج فاذا عرف تحققه في الخارج كان أيسر لوجود نظيره ولان المثال قد يكون ميسرا لاثبات التعليل بل قد لا يمكن بدونه وسائر ما تثبت به العلة من الدوران والمناسبة وغير ذلك إذا اخذ معه السبر والتقسيم أمكن كون القياس قطعيا

وأيضا فقد يكون قياس التمثيل يقينيا في كذا فان الجمع بين الاصل والفرع كما يكون بابداء الجامع يكون بالغاء الفارق وهو ان يعلم ان هذا مثل هذا لا يفترقان في مثل هذا الحكم ومساوى المساوى مساو والعلم بالمساواة والمماثلة مما قد يعلم بالعقل كما يعلم بالسمع فاذا علم حكم أحد المتماثلين علم ان الاخر مثله لا سيما إذا كان الكلام فيما تجرد من المعقولات مثل القول بأن شيئا من السواد عرض مفتقر الى المحل فيقال سائر أفراد السواد كذلك بل ويقال وسائر الالوان كذلك وكذلك إن قيل إن حركة الكواكب تحدث شيئا بعد شئ قيل وسائر الحركات كذلك
وبالجملة فقد بينا أن كل قياس لا بد فيه من قضية كلية إيجابية وبينا أن تلك القضية لا بد أن يعلم صدق كونها كلية وكل ما به يعلم ذلك به يعلم ان الحكم لازم لذلك الكلى المشترك فيمكن جعل ذلك الكلى المشترك هو الجامع بين الاصل والفرع فكل قياس شمول يمكن جعلة قياس تمثيل فاذا أفاد اليقين لم يزده التمثيل إلا قوة

إذا علمت إحدى المقدمتين بنص المعصوم فاستعمال الشمول اولى
وقياس التمثيل يمكن جعله قياس شمول لكن قد يكون بيان صحته محتاجا الى بيان إحدى مقدمتيه لا سيما الكبرى فانها هى في الغالب التي تحتاج الى البيان وإذا كان كذلك الاصل المقيس عليه أولا أسهل في البيان ف قياس التمثيل أعون على البيان إلا إذا كانت القضية الكلية معلومة بنص المعصوم فهنا يكون الاستدلال بها اولى من الاستدلال بقياس التمثيل لكن الدليل هنا يكون شرعيا لم تعلم إحدى مقدمتيه إلا بنص المعصوم أو الاجماع المعصوم لم تعلم بمجرد العقل وهم
والكلام مع من يجعل مواد البرهان القضايا الكلية المعلومة بدون قول

المعصوم بل قد يسمون القياس المستدل على إحدى مقدماته بقول المعصوم من الخطابي والجدلى لانهم يجعلون تلك القضايا من المسلمات والمقبولات لا من البرهانيات اليقينيات
وهذا ايضا من ضلالهم فان القضية اليقينية ما علم انها حق علما يقينيا فاذا علم بدليل قطعي أن المعصوم لا يقول إلا حقا وعلم بالضرورة أنه قضى بهذه القضية الكلية كما قضى ب ان الله بكل شئ عليم وأن الله خالق كل شيء وانه لا نبي بعده ونحو ذلك من القضايا الخبرية التي علم بالضرورة ان المعصوم أخبر بها عامة كلية كان هذا من أحسن الطرق في حصول اليقين وهذا الطريق لا يدخل في قياسهم البرهاني ولكن هذا لما كان مبنيا على مقدمات سمعية لم نقررها في هذا الموضع لم نحتج به عليهم بل احتججنا عليهم بما يسلمونه
وما بيناه بمجرد العقل من ان قولهم العلوم الكسبية لا تحصل إلا بقياسهم البرهاني قول باطل بل هو من ابطل الاباطيل
هذا في جانب النفي

المقام الرابع
المقام الايجابي في الاقيسة والتصديقات
في قولهم إن القياس يفيد العلم بالتصديقات
فصل
وأما المقام الثاني وهو المقام الرابع من المقامات الاربعة المذكورة أولا وهو أدق المقامات

تبصرة على ما تقدم من المقامات
فان ما نبهنا عليه خطأهم في منع إمكان التصور إلا ب الحد بل ومن نفى دعوى حصول التصور ب الحد وبقى انحصار التصديق فيما ذكروه من والقياس مدركه قريب والعلم به ظاهر وخطأ المنطقيين فيه واضح بأدنى تدبر وإنما يلبسون على الناس بالتهويل والتطويل
المقامان الاول والثاني
وأظهرها خطأ دعواهم ان التصورات المطلوبه لا تحصل إلا بما ذكروه من الحد ثم أن مجرد الحد يفيد تصور الحقائق الثابتة في الخارج بمجرد قول الحاد سواء جعل الحد هو الجملة التامة الخبرية التي يسمونها القضية والتقييد الجزئي او جعل الحد هو خبر المبتدأ المفرد وإن كان له صفات تقيده وتميزه
فإنه إذا قال ما الانسان فقيل الحيوان الناطق أو قيل الانسان الحيوان الناطق فقد يقال الحد هو قولك الانسان هو الحيوان الناطق وقد يقال بل الحد الحيوان الناطق وهذا في حكم المفرد وليس هذا كلاما تاما يحسن السكوت عليه إن لم يقدر له مبتدأ يكون خبرا عنه أو جعل مبتدأ خبر محذوف ومن جعل هذا وحده هو الحد وجعله بمجرده يفيد تصور الحقيقة فقوله أبعد عن الصواب
المقام الثالث
وبعد ذلك قولهم إن شيئا من التصديقات المطلوبة لا ينال إلا بما ذكروه من القياس فان هذا النفي العام امر لا سبيل الى العلم به ولا يقوم عليه دليل أصلا وقد اشرنا الى فساد ما ذكروه مع انه معلوم البطلان بما يحصل من التصديقات المطلوبة بدون ما ذكروه من القياس كما يحصل تصورات مطلوبة بدون ما يذكرونه من الحد
بخلاف هذا المقام الرابع فان كون القياس المؤلف من مقدمتين يفيد

النتيجة هو امر صحيح في نفسه

كون القياس المنطقي عديم التأثير في العلم
لكن الذي بينه نظار المسلمين في كلامهم على هذا المنطق اليوناني المنسوب الى أرسطو صاحب التعاليم أن ما ذكروه من صور القياس ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية بل كل ما يمكن علمه ب قياسهم المنطقي يمكن علمه بدون قياسهم المنطقي وما لا يمكن علمه بدون قياسهم لا يمكن علمه ب قياسهم فلم يكن في قياسهم لا تحصيل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه ولا حاجة به الى ما يمكن العلم به بدونه فصار عديم التأثير في العلم وجودا وعدما ولكن فيه تطويل كثير متعب فهو مع انه لا ينفع في العلم فيه إتعاب الاذهان وتصنييع الزمان وكثرة الهذيان
والمطلوب من الادلة والبراهين بيان العلم وبيان الطرق المؤدية الى العلم وقالوا يعنى نظار المسلمين هذا لا يفيد هذا المطلوب بل قد يكون من الاسباب المعوقة له لما فيه من كثرة تعب الذهن كمن يريد أن يسلك الطريق ليذهب الى مكة أو غيرها من البلاد فاذا سلك الطريق المستقيم المعروف وصل في مدة قريبة بسعى معتدل وإذا قيض له من يسلك به التعاسيف والعسف في اللغة الاخذ عل غير طريق بحيث يدور به طرقا دائرة ويسلك به مسالك منحرفة فانه يتعب تعبا كثيرا حتى يصل الى الطريق المستقيمة إن وصل وإلا فقد يصل الى غير المطلوب فيعتقد اعتقادات فاسدة وقد يعجز بسبب ما يحصل له من التعب والاعياء فلا هو نال مطوبه ولا هو استراح هذا إذا بقى في الجهل البسيط وهكذا هؤلاء
ولهذا حكى من كان حاضرا عند موت إمام المنطقيين في زمانه الخونجي صاحب الموجز وكشف الاسرار وغيرهما انه قال عند موته اموت وما

علمت شيئا إلا علمى بأن الممكن يفتقر الى الواجب ثم قال الافتقار وصف سلبي اموت وما علمت شيئا
فهذا حالهم إذا كان منتهى احدهم الجهل البسيط وأما من كان منتهاه الجهل المركب فكثير والواصل منهم الى علم يشبهونه بمن قيل له أين أذنك فأدار يده فوق رأسه ومدها إلى أذنه بكلفة وقد كان يمكنه أن يوصلها الى أذنه من تحت رأسه فهو أسهل وأقرب

استعمال طرق غير الفطرية تعذيب للنفوس بلا منفعة
والامور الفطرية متى جعل لها طرق غير الفطرية كانت تعذيبا للنفوس بلا منفعة لها كما لو قيل لرجل اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية فان هذا ممكن بلا كلفة فلو قال له قائل اصبر فانه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدها وتميز بينها وبين الضرب فان القسمة عكس الضرب فان الضرب هو تضعيف آحاد العددين بآحاد العدد الآخر والقسمة توزيع آحاد أحد العددين على آحاد العدد الاخر ولهذا إذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه عاد المقسوم وإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد المضروبين خرج المضروب الاخر ثم يقال ما ذكرته في حد الضرب لا يصح فانه إنما يتناول ضرب العدد الصحيح لا يتناول ضرب المكسور بل الحد الجامع لهما أن يقال الضرب طلب جملة تكون نسبتها الى احد المضروبين كنسبة الواحد الى المضروب الاخر فاذا قيل اضرب النصف في الربع فالخارج هو الثمن ونسبته الى الربع كنسبة النصف الى الواحد
فهذا وإن كان كلاما صحيحا لكن من المعلوم أن من معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية إذا ألزم نفسه أنه لا يقسمه حتى يتصور هذا كله كان هذا

تعذيبا له بلا فائدة وقد لا يفهم هذا الكلام وقد يعرض له فيه إشكالات

الدليل ما كان موصلا الى المطوب
فكذلك الدليل والبرهان فان الدليل هو المرشد الى المطلوب والموصل الى المقصود وكل ما كان مستلزما لغيره فانه يمكن ان يستدل به عليه ولهذا قيل الدليل ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا الى علم أو ظن وبعض المتكلمين يخص لفظ الدليل بما يوصل الى العلم ويسمى ما يوصل الى الظن أمارة وهذا اصطلاح من اصطلح عليه من المعتزلة ومن تلقاه عنهم
فالمقصود ان كل ما كان مستلزما لغيره بحيث يكون ملزوما له فانه يكون دليلا عليه وبرهانا له سواء كانا وجوديين أو عدميين أو أحدهما وجوديا والاخر عدميا فأبدا الدليل ملزوم للمدلول عليه والمدلول لازم للدليل
ثم قد يكون الدليل مقدمة واحدة متى علمت علم المطلوب وقد يحتاج المستدل الى مقدمتين وقد يحتاج الى ثلاث مقدمات وأربع وخمس وأكثر ليس لذلك حد مقدر يتساوى فيه جميع الناس في جميع المطالب بل ذلك بحسب علم المستدل الطالب بأحوال المطلوب والدليل ولوازم ذلك وملزوماته
فاذا قدر أنه قد عرف ما به يعلم المطلوب إلا مقدمة واحدة كان دليله الذي يحتاج الى بيانه له تلك المقدمة كمن علم أن الخمر محرم وعلم ان النبيذ المتنازع فيه مسكر لكن لم يعلم أن كل مسكر هو خمر فهو لا يحتاج إلا الى هذه المقدمة فاذا قيل ثبت في الصحيح عن النبي ص - أنه قال كل مسكرخمر حصل مطلوبه ولم يحتج إلى ان يقال كل نبيذ مسكر وكل مسكر خمر ولا ان يقال كل مسكر خمر وكل خمر حرام فان هذا كله معلوم له لم يكن يخفى عليه إلا ان اسم الخمر هل هو مختص ببعض المسكرات كما ظنه طائفة من علماء المسلمين أو هو شامل لكل مسكر فاذا ثبت له عن صاحب الشرع

أنه جعله عاما لا خاصا حصل مطلوبه وهذا الحديث في صحيح مسلم ويروى بلفظين كل مسكر خمر وكل مسكر حرام
ولم يقل كل مسكر خمر وكل خمر حرام كالنظم اليوناني وإن كان روى في بعض طرق الحديث فليس بثابت فان النبي ص - اجل قدرا في عمله وبيانه من أن يتكلم بمثل هذيانهم فانه إن قصد مجرد تعريف الحكم لم يحتج مع قوله الى دليل وإن قصد بيان الدليل كما بين الله في القران عامة المطالب الالهية التي تقرر الايمان بالله ورسله واليوم الاخر فهو ص - أعلم الخلق بالحق وأحسنهم بيانا له
فعلم أنه ليس جميع المطالب يحتاج الى مقدمتين ولا يكفى في جميعها مقدمتان بل يذكر ما يحصل به البيان والدلالة سواء كان مقدمة او مقدمتين أو اكثر وما قصد به هدى عاما كالقرآن الذي انزله الله بيانا للناس يذكر فيه من الادلة ما ينتفع به الناس عامة
وأما ما قد يعرض لبعضهم في بعض الاحوال من سفسطة تشككه في المعلومات فتلك من جنس المرض والوساوس وهذه إنما يمكن بيان أنواعها العامة وأما ما يختص به كل شخص فلا ضابط له حتى يذكر في كلام بل هذا يزول بأسباب تختص بصاحبه كدعائه لنفسه ومخاطبة شخص معين له بما يناسب حاله ونظرة هو فيما يخص حاله ونحو ذلك
وأيضا فما يذكرونه من القياس لا يفيد إلا العلم بأمور كلية لا يفيد العلم بشئ معين من الموجودات ثم تلك الامور الكلية يمكن العلم بكل واحد منها بما هو أيسر من قياسهم فلا تعلم كلية ب قياسهم إلا والعلم بجزئياتها ممكن بدون

قياسهم الشمولى وربما كان أيسر فان العلم بالمعينات قد يكون أبين من العلم بالكليات وهذا مسبوط فى موضعه

ليس في قياسهم إلا صورة الدليل من غير بيان صحته او فساده
والمقصود هنا أن المطلوب هو العلم والطريق اليه هو الدليل فمن عرف دليل مطلوبه عرف مطلوبه سواء نظمه بقياسهم ام لا ومن لم يعرف دليله لم ينفعه قياسهم ولا يقال إن قياسهم يعرف صحيح الادلة من فاسدها فان هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم فان قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته وأما كون الدليل المعين مستلزما لمدلوله فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا إثبات وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التي اشتمل عليها الدليل وليس في قياسهم بيان صحة شئ من المقدمات ولا فسادها وإنما يتكلمون في هذا إذا تكلموا في مواد القياس وهو الكلام في المقدمات من جهة ما يصدق بها وكلامهم في هذا فيه خطأ كثير كما نبه عليه في موضع آخر
الحقيقة المعتبرة في كل دليل هو اللزوم
والمقصود هنا ان الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم هو اللزوم فمن عرف ان هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم وإن لم يذكر لفظ اللزوم ولا تصور معنى هذا اللفظ بل من عرف أن كذا لا بد له من كذا او أنه إذا كان كذا كان كذا وأمثال هذا فقد علم اللزوم كما يعرف ان كل ما في الوجود فهو أية لله فانه مفتقر اليه محتاج اليه لا بد له منه فيلزم من وجوده وجود الصانع
وكما يعلم ان المحدث لا بد له من محدث كما قال تعالى ام خلقوا من غير شئ ام هم الخلقون الطور وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم انه لما قدم في فداء الاسرى عام بدر سمع النبي ص - يقرأ في المغرب ب الطور قال فلما سمعت قوله ام خلقوا من غير شئ ام هم الخلقون الطور

أحسست بفؤادي قد انصدع
فان هذا تقسيم حاصر يقول أخلقوا من غير خالق خلقهم فهذا ممتنع في بداية العقول ام هم خلقوا أنفسهم فهذا أشد امتناعا فعلم ان لهم خالقا خلقهم وهو سبحانه وتعالى ذكر الدليل بصيغة استفهام الانكار ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس لا يمكن أحدا إنكارها فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعى وجود حادث بدون محدث أحدثه ولا يمكنه أن يقول هو أحدث نفسه
وقد بسطنا الكلام على ما قاله الناس في هذا المقام من الحدوث والامكان وعلة الافتقار الى المؤثر وذكرنا عامة طرائق اهل الارض في إثبات الصانع من المتكلمين والفلاسفة وطرق الانبياء صلوات الله عليهم وما سلكه عامة نظار الاسلام من معتزلي وكرامى وكلابي واشعري وفيلسوف وغيرهم في غير موضع مثل كتاب تعارض العقل والنقل وغير ذلك

وكذلك بينا طرق الناس في إثبات العلم بالنبوات في شرح الاصبهانية وكتاب الرد على النصارى وغيرهما
وبينا أن كثيرا من النظار يسلك طريقا في الاستدلال على المطلوب ويقول لا يوصل الى المطلوب إلا بهذا الطريق ولا يكون الامر كما قاله في النفى وإن كان مصيبا في صحة ذلك الطريق فان المطلوب كلما كان الناس الى معرفته أحوج يسر الله على

عقول الناس معرفة أدلته فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا وطرق الناس في معرفتها كثيرة وكثير من الطرق لا يحتاج اليه اكثر الناس وإنما يحتاج اليه من لم يعرف غيره أو من أعرض عن غيره وبعض الناس يكون الطريق كلما كان ادق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان انفع له لان نفسه اعتادت النظر الطويل في الامور الدقيقة فاذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به ومثل هذا قد يستعمل معه الطريق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته لا لكون العلم بالمطلوب متوقفا علهيا مطلقا فان من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الاذكياء معرفته لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم فيجب معرفة الامور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات وهذا يسلك معه هذه السبيل
وأيضا فان النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدر به ويقويه على العلم فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال وهذا مقصد حسن
ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرايض والوصايا والدور لشحذ الذهن فانه علم صحيح في نفسه ولهذا يسمى الرياضي فان لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة انواع في رياضة الابدان بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الاطباء وغيرهم وفي رياضة النفوس بالاخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة وفي رياضة الاذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الامور الغامضة
ويروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه انه قال إذا لهوتم فالهوا بالرمي وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض اراد إذا لهوا بعمل ان يلهوا بعمل ينفعهم في دينهم وهو الرمي وإذا لهوا بكلام لهوا بكلام ينفعهم ايضا

في عقلهم ودينهم وهو الفرائض
وعلم الفرائض نوعان احكام وحساب
فالاحكام ثلاثة انواع احدها علم الاحكام على مذهب بعض الفقهاء وهذا اولها ويليه علم أقاويل الصحابة والعلماء فيما اختلف فيه منها ويليه علم ادلة ذلك من الكتاب والسنة
وأما علم حساب الفرائض فمعرفة أصول المسائل وتصحيحها والمناسخات وقسمة التركات وللفرائض في ذلك طريق معلومة وكتب مصنفة وهذا الثاني كله علم معقول يعلم بالعقل كما يعلم بالعقل سائر حساب المعاملات وغير ذلك من الانواع التي يحتاجها اليها الناس
ثم قد ذكروا حساب المجهولات الملقب بحساب الجبر والمقابلة وهو علم قديم لكن إدخاله في الوصايا والدور ونحو ذلك اول من عرف انه ادخله في ذلك محمد بن موسى الخوارزمي وبعض الناس يذكر عن علي بن ابي طالب رضى الله عنه انه تكلم في ذلك وانه تعلم زيادة ذلك من يهودي وهذا كذب على علي رضى الله عنه

ونحن قد بينا في الكتاب المصنف في الدور لما ذكرنا فيه ان لفظ الدور يقال على ثلاثة انواع
الدور الكوني الذي يذكر في الادلة العقلية أنه لا يكون هذا حتى يكون هذا ولا يكون هذا حتى يكون هذا وطائفة من النظار كالرازي يقولون هو ممتنع والصواب انه نوعان كما يقوله الامدي وغيره دور قبلي ودور معي في الدور القبلي ممتنع والدور المعى ممكن
ف الدور القبلي الذي يذكر في العل وفي الفاعل والمؤثر ونحو ذلك مثل ان يقال لا يجوز ان يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر لانه يفضى الى الدور
وهو ان يكون هذا قبل ذاك وذاك قبل هذا وذاك فاعل لهذا وهذا فاعل لذاك فيكون الشئ فاعلا لفاعله ويكون قبل قبله وقد اورد الرازي وغيره عليه إشكالات ذكرناها وبينا وجه حلها طرق إثبات الصانع
وأما الدور المعى فهو كدور الشرط مع الشروط وأحد المتضائفين مع الاخر إذا قيل صفات الرب لا تكون إلا مع ذاته ولا تكون ذاته إلا مع صفاته فهذا صحيح وكذلك إذا قيل لا تكون الابوة إلا مع النبوة ولا تكون النبوة إلا مع الابوة
والنوع الثاني مما يسمى دورا الدور الحكمى الفقهي المذكور في المسئلة السريجية وغيرها وقد افردنا في هذا مصنفات وبينا حقيقة هذا الدور وأنه باطل عقلا وشرعا وبينا في مصنف آخر هل في الشريعة شئ من هذا الدور ام لا
والنوع الثالث الدور الحسابي وهو ان يقال لا يعلم هذا حتى يعلم هذا فهذا هو الذي يطلب حله بحساب الجبر والمقابلة

وقد ذكر كثير من متأخرى الفقهاء مسائل وذكروا أنها لا تنحل إلا بطريق الجبر والمقابلة وقد بينا انه يمكن الجواب عن كل مسئلة شرعية جاء بها الرسول ص - بدون حساب الجبر والمقابلة وإن كان ايضا حساب الجبر والمقابلة صحيحا وقد كان لابي وجدي رحمهما الله فيه من النصيب ما قد عرف

ليست شريعة الاسلام موقوفة على شئ من علومهم
فنحن قد بينا ان شريعة الاسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شئ يتعلم من غير المسلمين أصلا وإن كان طريقا صحيحا بل طريق الجبر والمقابلة فيها تطويل يغنى الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق
وهكذا كل ما بعث به الرسول ص - مثل
العلم بجهة القبلة
والعلم بمواقيت الصلوة والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال فكل هاذ يمكن العلم به بالطرق المعروفة التي كان الصحابة والتابعون لهم باحسان يسلكونها ولا يحتاج معها الى شئ آخر وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقا أخر وكثير منهم يظن انه لا يمكن المعرفة بالشريعة إلا بها وهذا من جهلهم
العلم بجهة القبلة
كما قد يظن طائفة من الناس ان العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها

وعرض البلد هو بعد ما بينه وبين خط الاستواء والموازي كدائرة معدل النهار وذلك يعرف بارتفاع القطب الشمالي فان القطبين إذا كانا على دائرة الافق كان بعد كل منها عن خط الاستواء بعدا واحدا وليس لخط الاستواء عرض فاذا بعد الانسان عن خط الاستواء مقدار درجة فلكية ارتفع القطب في قطره عن دائرة الافق مقدار درجة ثم إذا بعد درجتين ارتفع القطب درجتين وهلم جرأ ف عرض البلد يعرف بارتفاع القطب فاذا كان البلدان عرضهما سواء ك دمشق وبغداد وعرض كل منهما ثلاثا وثلاثين درجة يكون ارتفاع القطب فيهما واحدا
وأما الطول فليس له حد في السماء يضبط به إذ هو بحسب المعمور من الارض فيجعل الطول مبدأ العمارة وكانوا يحدون بجزائر تسمى جزائر الخالدات من جهة الغرب ويمكن ان تفرض بلدة ويجعل الطول شرقيا وغربيا كما فعل بعضهم حيث جعل مكة شرفها الله تعالى هي التي يعتبر بها الطول لانها باقية محفوظة محروسة وجعل الطول نوعين شرقيا وغربيا
فهذا علم صحيح حسابي يعرف بالعقل لكن معرفة المسلمين بقبلتهم في الصلوة ليست موقوفة على هذا بل قد ثبت عن صاحب الشرع صلوات الله عليه انه قال ما بين المشرق والمغرب قبلة قال الترمذي حديث صحيح وبهذا كان عند جماهير العلماء أن المصلى ليس عليه ان يستدل ب القطب ولا الجدى ولا غير ذلك بل إذا جعل من في الشام ونحوها المغرب عن يمينه والمشرق

عن شماله كانت صلوته صحيحة فان الله إنما امر باستقبال شطر المسجد الحرام وفي الحديث المسجد قبلة مكة ومكة قبلة الحرم والحرم قبلة الارض ولهذا لم يعرف عن الصحابة انهم ألزموا الناس في الصلوة ان يعتبروا الجدى

كون اعتبار الجدى لمعرفة القبلة بدعة
ولهذا انكر الامام احمد وغيره من العلماء على من ألزم الناس باعتبار الجدي فضلا عن طول البلاد وعرضها بل المساجد التي صلى فيها الصحابة كمسجد دمشق وغيره فيه انحراف يسير عن مسامتة عين الكعبة وكذلك غيره فكان هذا من الحكمة أن يعرف إجماع الصحابة والتابعين لهم باحسان على ان المصلى ليس عليه مسامتة عين الكعبة بل تكفيه الجهة التي هي شطر المسجد الحرام
من بدع المتكلمين ردهم ما صح من الفلسفة
وكذلك ما يعلم بالمشاهدة والحساب الصحيح من أحوال الفلك علم صحيح لا يدفع والافلاك مستديرة ليست مضلعة ومن قال إنها مضلعة أو جوز ذلك من أهل الكلام فهو وأمثاله ممن يرد على الفلاسفة وغيرهم ما قالوه من علم صحيح معقول مع كونه موافقا للمشروع وهذا من بدع اهل الكلام الذي ذمه السلف وعابوه فانهم ناظروا الفلاسفة في العلم الالهي في مسئلة حدوث العالم وإثبات الصانع ومسائل المعاد والنبوات وغير ذلك بطرق فاسدة حائدة من مسلك الشرع والعقل
وكان ذلك من أسباب ضلال كثير من الناس حيث ظنوا ان ما يقوله هؤلاء المبتدعون هو الشرع المأخوذ عن الرسول وليس الامر كذلك بل كلما علم بالعقل الصريح فلا يوجد عن الرسول إلا ما يوافقه ويصدقه
إجماع المسلمين على أن الفلك مستدير
وما نحن فيه من كرية الافلاك واستدارتها من هذا الباب بل هذا مما أجمع

عليه سلف الامة من الصحابة والتابعين لا يعرف بينهم نزاع في ان الفلك مستدير وقد حكى إجماع علماء المسلمين على ذلك غير واحد منهم ابو الحسين بن المنادى الامام الذي له أربعمائة مصنف وكان من الطبقة الثانية من اصحاب احمد ومنهم ابو محمد بن حزم ومنهم ابو الفزج بن الجوزي والاثار بذلك معروفة ثابتة عن السلف كما دل على ذلك الكتاب والسنة
وقد ذكرنا طرفا من ذلك في جواب مسئلة سئلنا عنها في هذا الباب فذكرنا دلالة الكتاب والسنة على ذلك موافقا لما علم بالحساب العقلي
وقد قال تعالى وهو الذي خلق اليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون الانبياء وقال تعالى لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون يس

تفسير قوله تعالى كل في فلك يسبحون
وقد ذكر الامام ابو محمد عبد الرحمن بن ابي حاتم في تفسيره ثنا ابى يعنى الامام ابا حاتم الرازي ثنا نصر بن علي حدثني ابي عن شعبة بن الحجاج عن الاعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله كل في فلك يسبحوق قال في فلكة مثل فلكة المغزل
وذكر عن احمد الزبيري عن شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في

قوله يسبحون قال يدورون في أبواب السماء كما يدور المغزل في الفلكة
وقال ثنا الحسن بن الحسن ثنا إبراهيم بن عبدالله بن الهروى ثنا حجاج عن ابي جريج اخبرني عبدالله بن كثير انه سمع مجاهدا يقول وكل في فلك يسبحون قال النجوم والشمس والقمر فلكة كفلكة المغزل وقال مثل ذلك الحسبان يعنى مجاهد حسبان الرحى وهو سفودها القائم الذي يدور عليه والحسبان في اللغة سهام قصار الواحدة حسبانة وكان مجاهد يفسر قوله والشمس والقمر بحسبان الرحمن بهذا وقال غيره هو من الحساب قيل هو مصدر وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان
قال مجاهد ولا يدور المغزل إلا بالفلكه ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل ولا يدور الحسبان إلا بالرحى ولا يدور الرحى إلا بالحسبان قال فكذلك النجوم والشمس والقمر هي في فلك لا يدمن إلا به ولا يدوم إلا بهن قال فنقر بأصبعه قال فقال مجاهد يدمن كذلك كما نقر قال فالحسبان والفلك يصيران الى شئ واحد غير ان الحسبان في الرحى والفلك في المغزل كل ذلك عن مجاهد
قلت قوله لا يدوم إلا به أي لا يدور إلا به ومنه الدوامة بالضم والتشديد وهي فلكة يرميها الصبي بخيط فتدوم على الارض أي تدور ومنه تدويم الطير وهو تحليقه وهو دورانه في طيرانه ليرتفع الى السماء وقوله نقر بأصبعه يعنى نقر بها من الارض وأدارها ليشبه بذلك دوران الفلك
وقال ابن ابي حاتم قرى على يونس بن عبد الاعلى ثنا ابن وهب ثنا السري ابن يحيى قال سأل رجل الحسن البصري عن قوله كل في فلك يسبحون

قال يعنى استدارتهم
وقال بندة ثنا أبي ثنا عبيد الله بن عائشة ثنا عبدالواحد بن زياد ثنا ابو روق سمعت الضحاك في قوله كل في فلك يسبحون قال يدور ويذهب
ثنا ابي ثنا مسروق بن المرزبان ثنا يحي بن ابي زائدة ثنا ورقاء عن ابن ابي نجيح عن مجاهد كل في فلك يسبحون قال الفلك كحديدة الرحى يعنى قطب كحديدة الرحى وهو قطب الرحى وهو السفود القائم الذي يسمى أيضا حسبانا
ثنا بن على الحسين بن حنيد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا مروان بن معاوية عن جويبر عن الضحاك في فلك يسبحون قال الفلك السرعة والجري في الاستدارة ويسبحون يعملون يريد أن لفظ الفلك يدل على الاستدارة وعلى سرعة الحركة كما في دوران فلكة المغزل ودوران الرحى
وقال ثنا أبي ثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله في فلك يقول دوران وقوله يسبحون يعني يجرون
وعن إياس بن معاوية قال السماء على الأرض مثل القبة
وقد بسط القول في ذلك بدلائله من الكتاب والسنة في غير هذا الموضع
ولفظ الفلك في لغة العرب يدل على الاستدارة قال الجوهري فلكة المغزل سميت بذلك لاستدارتها والفلكة قطعة من الأرض أو

الرمل تستدير وترتفع على ما حولها والجمع فلك وقال ومنه قيل فلك ثدى الجارية تفليكا وتفلك استدار قلت والسباحة تتضمن الجري بسرعة كما ذكر ذلك أهل اللغة

العلم بالهلال
وكذلك أيضا الهلال فان الشارع جعله معلقا بالرؤية فقال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وقال إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا وقال صوموا من الوضح الى الوضح
والعارفون بالحساب لا يتنازعون في ان الهلال لا يمكن ضبط وقت طلوعه بالحساب فانهم وإن عرفوا أن نور القمر مستفاد من الشمس وعرفوا انه إذا اجتمع القرصان عند الاستسرار لا يرى له ضوء فاذا فارق الشمس صار فيه النور فهم أكثر ما يمكنهم ان يضبطوا بالحساب كم بعده عند غروب الشمس عن الشمس هذا إذا قدر صحة تقويم الحساب وتعديله فانهم يسمونه علم التقويم والتعديل لانهم يأخذون اعلى مسير الكواكب وادناه فيأخذون معدله فيحسبونه
فاذا قدر انهم حزروا ارتفاعه عند مغيب الشمس لم يكن في هذا ما يدل على ثبوت الرؤية ولا انتفائها لان الرؤية امر حسى لها اسباب متعددة من صفاء الهواء وكدره وارتفاع المنظر وانخفاضه وحدة البصر وكلاله فمن الناس من لا يراه ويراه من هو أحد بصرا منه ويرى من مكان عال ولا يرى من منخفض

ويكون الجو صافيا فيرى ويكون كدرا فلا يرى
فلما كانت اسباب الرؤية لا تنضبط بالحساب لم تمكن معرفة وقت الرؤية بالحساب ولهذا كان قدماء علماء الهيئة كبطلميوس صاحب المجسطي وغيره لم يتكلموا في ذلك بحرف وإنما تكلم فيه بعض المتأخرين مثل كوشيار الديلمي ونحوه لما رأوا الشريعة قد جاءت باعتبار الرؤية احبوا ان يعرفوا ذلك بالحساب فضلوا وأضلوا
ومن قال إنه لا يرى على اثنتي عشرة درجة أو عشر او نحو ذلك فقد أخطأ فان من الناس من يراه على أقل من ذلك ومنهم من لا يراه على ذلك بل قد يراه نصف النهار إذا فارق الشمس أدنى مفارقة فلا للعقل اعتبروا ولا للشرع عرفوا ولهذا انكر عليهم ذلك حذاق ضاعتهم

العلم بطلوع الفجر
وهكذا امر الفجر فان الزمان يوم واسبوع وشهر وعام فأما اليوم فيعلم بالحس والمشاهدة وكذلك الشهر والعام يعرف بالعدد في القمرية وبالرؤية في الشمسية قال تعالى ولبثوا في كهفهم ثلث مائة سنين وازدادوا تسعا الكهف كانت ثلثمائة شمسية وثلثمائة وتسع هلالية
وأما الاسبوع فليس له حد يعرف بالحس والعقل وإنما عرف باخبار الانبياء ان الله خلق هذا العالم في ستة ايام ثم استوى على العرش ولهذا شرع الله لاهل الملل ان يجتمعوا في الاسبوع يوما لعبادة الله وحده ويكون ذلك سببا لحفظ الاسبوع

الذي به يعلم ان الله خلق هذا العالم في ستة ايام ولهذا لا توجد اسماء الاسبوع في لغة من لا يعرفون شرائع الانبياء كالمشركين من الترك وغيرهم فانهم لا يعرفونه والعادة تتبع التصور فمن لم يتصور شيئا لم يعرفه
واليوم يعرف بطلوع الفجر وهو النور الذي يظهر من جهة المشرق وهو أول نور الشمس المتصل الذي لا ينقطع بخلاف الفجر الاول فانه يأتي بعده ظلمة والاعتبار في الشرع في الصلوة والصيام وغير ذلك بالثاني ويعرف بالحس والمشاهدة كما يعرف الهلال ويعرف بالقياس على ما قرب منه تقريبا إذا عرف عند طلوعه مواضع الكواكب من السماء فيستدل في اليوم الثاني بذلك على وقت طلوعه
وأما تقدير حصة الفجر بأمر محدود من حركة الفلك مساو لحصة العشاء كما فعله طائفة من الموقتين فغلطوا في ذلك كما غلط من قدر قوس الرؤية تقديرا مطلقا وذلك لان الفجر نور الشمس وهو شعاعها المنعكس الذي يكون من الهواء والارض وهذا يختلف باختلاف مطارحة التي ينعكس عليها فاذا كان الجو صافيا من الغيوم لم يظهر فيه النور كما يظهر اذا كان فيه بخار فان البخار لغلظه وكثافته ينعكس عليه الشعاع ما لا ينعكس على الهواء الرقيق الا ترى ان الشمس اذا طلعت انما يظر شعاعها على الارض والجبال ونحو ذلك من الاجسام الكثيفة وان كانت صقيلة كالمراة والماء كان اظهر واما الهواء فانه وان استنار بها فان الشعاع لا يقف فيه بل يخرقه الى ان يصل الى جسم كثيف فينعكس
ففي الشتاء تكون الابخرة في الليل كثيرة لكثرة ما يتصعد من الارض بسبب رطوبتها ولا يحلل البخار فيها فينعكس الشعاع عليه فيظهر الفجر حينئذ قبل ما يظهر لو لم يكن بخار واما الصيف فان الشمس بالنهار تحلل البخار فاذا غربت الشمس لم يكن للشعاع التابع لها بخار يرده فتطول في الصيف حصة العشاء بهذا

السبب وتطول في الشتاء حصة الفجر بهذا السبب وفي الصيف تقصر حصة الفجر لتأخر ظهور الشعاع اذ لا بخار يرده لان الرطوبات في الصيف قليلة وتقصر حصة العشاء في نهار الشتاء لكثرة الابخرة في الشتاء فحاصلة ان كلا من الحصتين تتبع ما قبلها في الطول والقصر بسبب البخار لا بسبب فلكي
والذين ظنوا ان ذلك يكون عن حركة الفلك قدروه بذلك فغلطوا في تقديرهم وصاروا يقولون حصة الفجر في الشتاء اقصر منها في الصيف وحصة العشاء في الصيف اقصر منها في الشتاء فان هذه جزء من الليل وهذه جزء من النهار فتتبعه في قدره ولم يعرفوا الفرق بين طلوع الشمس وغروبها وبين طلوع شعاعها فان الشمس تتحرك في الفلك فحركتها تابعة للفلك والشعاع هو بحسب ما يحمله وينعكس عليه من الهواء الابخرة وهذا امر له سبب ارضي ليس مثل حركة الفلك
ولهذا كان ما قالوه بالقياس الفاسد امرا يخالقه الحس ويعرف كذب ما قالوه باتفاق طوائف بني ادم فالذي يعرف بالحس والعقل الصريح لا يخالفه شرع ولا عقل ولا حس فان الادلة الصادقة لا تتعارض مدلولاتها ولكن ما يقال بقياس فاسد وظن فاسد يقع فيه الاختلاف

كون عدد الافلاك تسعة ليس عليه دليل
وعدد الافلاك وكونها تسعة ليس امرا معلوما ولا قام دليل على انه ليس وراء التسعة شيء بل صرح ائمتهم بأنه يجوز ان تكون اشياء اخر وهذه التسعة انما اثبتوها بما راوه من اختلاف حركات الكواكب وكذلك اثبتوا لكل كوكب من الخمسة المتحيزة عددا من الافلاك بسبب اختلاف حركاته وعرفوا ارتفاع بعضها فوق بعض بكسوف الاسفل للاعلى وبينهم اختلاف كثير يطول وصفه في الامور الفلكية التي لا تعرف بالحس وكثير مما يقولونه في ذلك لا يقوم عليه دليل
ولهذا لما اخبرت الانبياء بعرش الرب وكرسيه ظن بعضهم ان الكرسي هو الفلك الثامن والعرش هو الفلك التاسع وهذا القول مع انه لا دليل عليه اصلا فهو

باطل من وجوه كثيرة قد بينا بعضها في مسئلة الاحاطة
وجمهورهم يقولون بحدوث هذا العالم وانما عرف القول بقدمه من ارسطو ومتبعيه وقد رايت كلام ارسطو في ذلك في مقالة اللام وهي اخر العلم الالهي ومنتهى فلسفته وتكلمنا على ما ذكره هو وغيره من الفلاسفة وبينا ان ما قاله خالف فيه جمهور الفلاسفة واساطينهم وليس معه قط دليل يدل على قدم شيء من العالم وانما تدل على دوام الفاعلية وتوابع ذلك
وقد بسطنا الكلام على ذلك في الكلام على هذا الاصل وما اضطربوا فيه وهم المبتدعون من المتكلمين الذين يضيفون الى الشريعة ما لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا قاله احد من سلف الامة ولا ائمتها فيجمعون في كلامهم بين حق وباطل والمتفلسفة في كلامهم حق وباطل وكلا الطائفتين لا يوافق ما دل عليه العقل الصريح المطابق لما جاءت به الرسل

اختلافهم في مدة بقاء العالم
ثم الجمهور منهم القائلون بحدوث هذا العالم تكلم منهم طوائف في بقائه وفي وقت فنائه من الروم والهند وغيرهم لكن بلا دليل صحيح وسبب ذلك انهم لم يعرفوا للحوادث التي في هذا العالم سببا الا حركة الفلك وما يتجدد فيه من الاشكال واتصالات الكواكب فقاسوا بقاءه على ذلك فمنهم من قال يبقى اثني عشر الف سنة ومنهم من قال ستة وثلاثين الف سنة ومنهم من قال ثلثمائة الف وستون الف سنة ومنهم من قال ثمانية واربعين الف سنة او اربعة وعشرين الف سنة وكل ذلك قول بلا علم

فإن منشأ النزاع ان الثوابت كان المعروف عندهم انها تقطع الفلك كل مائة سنة درجة من درجات الفلك التي هي ثلثمائة وستون درجة فلما رصدوها زمن المأمون زعموا ان الصحيح انها تقطعها في ثلثي هذه المدة كل سنة وستين سنة وثلثي سنة والصواب ان الرصد الاول هو الصحيح وقد اعتبر ذلك بمواضع الكواكب التي ذكرها غير واحد من القدماء في كتبهم واصطرلاباتهم ومواضعها الان تدل على اعتبار ذلك على ان الرصد القديم هو الصحيح وانها تقطع الدرجة في مائة سنة
واذا ضرب ذلك في ثلثمائة وستين كان على القول الاول ستة وثلاثين الفا وعلى القول الثاني اربعة وعشرين الفا ومن قال ثلثمائة الف وستون الفا قال هذا دور في عشرة ادوار ومن قال اثنا عشر الف سنة جعل لكل برج الف سنة وليس معهم دليل يدل على ان هذه المدة هي مدة بقاء الفلك
والاصل الذي بنوا عليه فاسد وهو ظنهم ان الحوادث جميعها سببها حركات الفلك

تقابلهم لمنكري تأثير حركات الفلك في الحوادث مطلقا
وهذا الاصل قد تقابلوا فيه هم والمبتدعة من اهل الكلام فأولئك يقولون ليس لشيء من حركات الفلك تأثير في هذا العالم ولا شيء منها سبب في حدوث شيء

بل يطردون هذا في جميع الموجودات فلا يجعلون الله خلق شيئا لسبب ولا لحكمة ولا يجعلون للانسان قدرة تؤثر في مقدورها ولا لشيء من الاجسام طبيعة ولا غريزة بل يقولون فعل عنده لا به وخالفوا بذلك الكتاب والسنة واجماع السلف والائمة وصرائح العقول
فان الله تعالى يقول ان في خلق السموات والارض واختلف اليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما انزل الله من السماء من ماء فأخيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايت لقوم يعقلون البقرة وقال تعالى وهو الذي يرسل الريح بشرا بين يدى رحمته حتى اذا أقلت سحابا ثقالا سقنه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون الاعراف وقال ونزلنا من السماء ماء مبركا فانبتنا به جنت وحب الحصيد ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يذكر سبحانه انه فعل هذا بهذا كما ذكر انه انزل الماء بالسحاب وانه احيا الارض بالماء
والعلماء متفقون على اثبات حكمة الله في خلقه وامره واثبات الاسباب والقوى كما قد ذكرنا اقوالهم في موضعها وليس من السلف من انكر كون حركات الكواكب قد تكون من تمام اسباب الحوادث كما ان الله جعل هبوب الرياح ونور الشمس والقمر من اسباب الحوادث
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ص - انه قال ان الشمس والقمر ايتان من ايات الله لا تنكسفان لموت احد ولا لحياته ولكنهما ايتان من ايات الله يخوف الله بهما عباده فاذا رايتموهما فافزعوا الى الصلوة

وامر رسول الله ص - عند الكسوف بالصلوة والذكر والدعاء والصدقة والعتاقة والاستغفار وكذلك عند سائر الايات التي يخوف الله بها عباده
وقوله لا تنكسفان لموت احد ولا لحياته رد لما كان قد توهمه بعض الناس من ان كسوف الشمس كان لاجل موت ابراهيم ابن النبي ص - وكان قد مات وكسفت الشمس فتوهم بعض الجهال من المسلمين ان الكسوف كان لاجل هذا فبين لهم النبي ص - ان الكسوف لا يكون سببه موت احد من اهل الارض ونفى بذلك ان يكون الكسوف معلولا عن ذلك وظنوا ان هذا من جنس اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ كما ثبت ذلك في الصحيح فنفى النبي ص - ذلك وبين ان ذلك من ايات الله التي يخوف بها عباده
والتخويف انما يكون بما يكون سببا للشر قال تعالى وما نرسل بالايت الا تخويفا فلو كان الكسوف وجوده كعدمه بالنسبة الى الحوادث لم يكن سببا لشر وهو خلاف نص الرسول
وايضا في السير ان النبي ص - نظر الى القمر وقال لعائشة يا عائشة تعوذي بالله من شر هذا فان هذا هو الغاسق اذا وقب والاستعاذة انما تكون مما يحدث عنه شر
وامر ص - عند انعقاد اسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئتة الله تعالى وقدرته من الصلوة والدعاء والذكر والاستغفار والتوبة والاحسان بالصدقة والعتاقة فان هذه الاعمال الصالحة تعارض الشر الذي انعقد سببه كما في الحديث

ان الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والارض فيعتلجان
وهذا كما لو جاء عدو فانه يدفع بالدعاء وفعل الخير وبالجهاد له واذا هجم البرد يدفع باتخاذ الدفء فكذلك الاعمال الصالحة والدعاء
وهذا ما اتفق عليه الملل واساطين الفلاسفة حتى يذكر عن بطلميوس انه قال واعلم ان ضجيج الاصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات يحلل ما عقدته الافلاك الدائرات
وكسوف الشمس انما يكون وقت استسرار القمر اخر الشهر وخسوف القمر انما يكون ليالي الابدار الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر كما ان الهلال قد يكون ليلة الثلاثين او الحادي والثلاثين هذا الذي اجرى الله به عادته في حركات الشمس والقمر
وما ذكره بعض الفقهاء من تقدير اجتماع الكسوف وصلوة العيد فهذا لم يقله احد من الصحابة ولا ذكره اكثر العلماء لا احمد ولا غيره ولكن ذكره طائفة من الفقهاء من اصحاب الشافعي واحمد وغيرهما تبعا لما ذكره الشافعي وانه رضي الله عنه لما تكلم فيما اذا اجتمع صلوتان كيف يصنع وذكر انه يقدم ما يفوت على ما لا يفوت ذكر من جملة التقدير صلوة العيد والكسوف طردا للقاعدة مع اعراضه عن كون ذلك يقع او لا يقع كما يقدر الفقهاء مسائل كثيرة لطرد القياس مع اعراضهم عن وقوع ذلك في الوجود بل يقدرون ما يعلمون انه لا يقع عادة كعشرين جدة وفروع الوصايا فجاء بعض الفقهاء فأخذ يكابر ويقول ان هذا قد يقع

وذكروا عن الواقدي انه قال ابراهيم مات يوم العاشر وذلك اليوم كسفت الشمس وهذا كله باطل والواقدي ليس بحجة بالاجماع اذا اسند ما ينقله فكيف اذا كان مقطوعا وقول القائل انها كسفت يوم العاشر بمنزلة قوله طلع الهلال في عشرين من الشهر لكن هذه عادة ظاهرة يعرفها الناس كلهم وتلك عادة يعرفها من استقراها وعرف اسبابها ومجاري النيرين من الناس

التكلم بلاعلم في الشرعيات وفي العقليات وضرره
فليس لاحد ان يتكلم بلا علم بل يحذر ممن يتكلم في الشرعيات بلا علم وفي العقليات بلا علم فان قوما ارادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة واقيستهم الفاسدة فكان ما فعلوه مما جرا الملحدين اعداء الدين عليه فلا للاسلام نصروا ولا لاعدائه كسروا
واقوام يدعون انهم يعرفون العلوم العقلية وانها قد تخالف الشريعة وهم من

اجهل الناس بالعقليات والشرعيات واكثر ما عندهم من العقليات امور قلدوا من قالها لو سئلوا عن دليل عقلي يدل عليها لعجزوا عن بيانه والجواب عما يعارضه ثم من العجائب انهم يتركون اتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون الا الحق ويعرضون عن تقليدهم ثم يقلدون في مخالفة 2ما جاءوا به من يعلمون هم انه ليس بمعصوم وانه قد يخطىء تارة ويصيب اخرى
وهؤلاء عندهم امور معلومة من الحسابيات مثل وقت الكسوف والخسوف ومثل كرية الافلاك ووجود السحاب من البخاري ونحو ذلك من الامور الطبيعية والرياضية فيحتجون بها على من يظن انه من اهل الشرع فيسرع ذلك المنتسب الى الشرع برد ما يقولونه بجهله فيكون رد ما قالوه من الحق سببا لتنفيرهم عما جاء به الرسول من الحق بسبب مناظرة هذا الجاهل
والله تعالى امرنا ان لا نكذب ولا نكذب بحق وانما مدح سبحانه من يصدق فيتكلم بعلم ويصدق ما يقال له من الحق قال تعالى ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا او كذب بالحق لما جاءه اليس في جهنم مثوى للكفرين العنكبوت والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون الزمر وهاتان صفتان لنوع واحد وهو من يجى بالصدق ويصدق بالحق اذا جاءه فهذا هو المحمود عند الله واما من كذب او كذب بما جاءه من الحق فذلك مذموم عند الله تعالى
وكذلك قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم أي لا تقل ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا الاسراء

وقال تعالى قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والائم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون الاعراف وقال تعالى ان يتبعون الا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا النجم ومثل هذا متعدد في كتاب الله تعالى

حقيقة ملائكة الله تعالى وعقول الفلاسفة
ثم ان حركات الافلاك وان كانت من جملة الاسباب فليس الحوادث كلها صادرة عن حركة الفلك بل فوق ذلك من مخلوقات الله امور اخر
وملائكة الله الذين يدبر بهم امر السماء والارض وهم المدبرات امرا والمقسمات امرا التي اقسم الله بها في كتابه ليست هي الكواكب عند احد من سلف الامة وليست الملائكة هي العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة المشاون اتباع ارسطو ونحوهم كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وبين خطأ من يظن ذلك ويجمع بين ما قالوه وبين ما جاءت به الرسل
ويقول ان قوله اول ما خلق الله العقل هو حجة لهم على العقل الاول ويسمونه القلم ليجعلوا ذلك مطابقا لقوله اول ما خلق الله القلم بسطنا الكلام على ذلك في نحو مجلد في الكلام على السبعينية وغيرها وذكرنا ان حديث العقل ضعيف باتفاق اهل المعرفة بالحديث كأبي حاتم بن حبان وابي جعفر العقيلي وابي الحسن الدار قطني وابي الفرج بن الجوزي وغيرهم بل هو موضوع عندهم

ومع هذا فلفظه اول ما خلق الله العقل قال له اقبل فأقبل فقال له ادبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا اكرم على منك فبك اخذ ربك اعطى وبك الثواب وبك العقاب فان كان الحديث صحيحا فهو حجة عليهم لان معناه انه خاطب العقل في اول اوقات خلقه بهذا الخطاب وفيه انه لم يخلق خلقا اكرم عليه منه فهذا يدل على انه خلق قبله غيره
وايضا ف العقل في لغة الرسول وأصحابه وامته عرض من الاعراض يكون مصدر عقل يعقل عقلا كما في قوله لعلهم يعقلون ولعلكم تعقلون ولهم قلوب لا يعقلون بها ونحو ذلك وقد يراد به الغريزة التي في الانسان قال احمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما ان العقل غريزة
والعقل في لغة فلاسفة اليونان جوهر قائم بنفسه فأين هذا من هذا ولهذا قال في الحديث فبك اخذ وبك اعطى وبك الثواب وبك العقاب وهذا يقال في عقل بني ادم
وهم يزعمون ان اول ما صدر عن رب العالمين جوهر قائم بنفسه وانه رب جميع العالم وان العقل العاشر هو رب كل ما تحت فلك القمر ومنه تنزلت الكتب على الانبياء

وعندهم ان الله لا يعرف عين موسى ولا عيسى ولا محمد ولا غير ذلك من جزئيات هذا العالم فضلا عن علمه بتفاصيل ما جرى يوم بدر ويوم احد ويوم الاحزاب وغير ذلك من الاحوال التي يذكرها الله في القران ويخبر بما كان ويكون من الامور المعينة الجزئية
ولهذا كان قولهم في النبوة انها مكتسبة وانها فيض يفيض على روح النبي اذا استعدت نفسه لذلك فمن راض نفسه حتى استعدت فاض ذلك عليه وان الملائكة هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية وكلام الله هو ما يسمعه في نفسه من الاصوات بمنزلة ما يراه النائم في منامه
ومن عرف ما اخبر الله به عن ملائكته جبريل وغيره في غير موضع علم ان هذا الذي قالوه اشد مخالفة لما جاءت به الرسل من اقوال الكفار المبدلين من اليهود والنصارى فان الله اخبر عن الملائكة لما جاءوا الى ابراهيم في صورة البشر اضيافا ثم ذهبوا الى لوط في غير موضع واخبر عن جبريل حين ذهب الى مريم وتمثل لها بشرا سويا ونفخ فيها
وكان جبريل يأتي النبي ص - في صورة دحية الكلبي غير مرة واتاه مرة في صورة اعرابي وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ان الحرث بن هشام قال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي قال يأتيني احيانا

في مثل صلصلة الجرس وهو اشد على فيفصم عني وقد وعيت ما قال واحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعى ما يقول قالت عائشة لقد رايته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا
وقد قال تعالى انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين وما صاحبكم بمجنون ولقد راه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم التكوير واكثر القراء يقرءون بظنين يعني بمتهم وقد قرى بضنين أي ببخيل وزعم بعض المتفلسفة ان هذا هو العقل الفعال لانه دائم الفيض فيقال قد قال لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم والعقل الفعال لو قدر وجوده فلا تأثير له فيما ثم وانما تأثيره فيما تحت فلك القمر فكيف ولا حقيقة له
بل ما يدعونه من المجردات والمفارقات غير النفس الناطقة ك العقول والنفوس انما وجودها في الاذهان لا في الاعيان كما بسط الكلام عليها في الصفدية وغيرها فان ما يقولونه من العقليات في الطبيعيات غالبه صحيح وكذلك في الحساب المجرد حساب العدد والمقدار الكم والكيف فان هذا كله صحيح وانما يغلط الانسان فيه من نفسه

ابن سينا والعبيديون الاسماعيلية
واما الالهيات فكلام ارسطو واصحابه فيها قليل جدا ومع قلته فكثير منه بل اكثره خطأ ولكن ابن سينا اخذ ما ذكروه وضم اليه امورا اخر من اصول المتكلمين واخذ يقول ما ذكره على بعض الفاظ الشرع وكان هو 8واهل

بيته من الملاحدة الباطنية اتباع الحاكم وعيرة من العبيديين الاسماعيلية وأولئك كانوا يستعملون التأويل الباطن في جميع امور الشريعة علميها وعمليها حتى تأولوا الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت لكن كانوا يأمرون بالشريعة لعوامهم فانهم كانوا يتظاهرون بالتشيع
وكانت الرافضة الاثناعشرية تدعى ان الامامة بعد جعفر في ابنه موسى بن جعفر فادعى هؤلاء انها في ابنه إسمعيل بن جعفر وانتقلت الى ابنه محمد بن إسمعيل وادعوا ان ميمون القداح بن محمد هذا وسموا محمد هذا هو الامام المخفى وإنما كان ميمون هذا يعرف بالانتساب الى باهلة وقد ذكر غير واحد من اهل المعرفة أنه كان يهوديا وكان من أبناء المجوس كما ذكر ذلك القاضي ابو بكر ابن الطيب في كتاب كشف اسرارهم وهتك أستارهم وغيره من علماء المسلمين
وأما قرامطة البحرين ابو سعيد بن الجنابى واصحابه فأولئك كانوا يتظاهرون بالكفر الصريح ولهذا قتلوا الحجاج والقوهم في بئر زمزم واخذوا الحجر

الاسود وبقى عندهم مدة
بخلاف العبيديين فانهم كانوا يتظاهرون بالاسلام ويقولون إنهم شيعة فالظاهر عنهم الرفض لكن كان باطنهم الالحاد والزندقة كما قال ابو حامد الغزالي في كتاب المستظهري ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض وهذا الذي قاله ابو حامد فيهم هو متفق عليه بين علماء المسلمين وكانوا يأمرون عامتهم بالعبادات وهم على درجات مرتبة عندهم كلما ارتفع درجة عبروا الشريعة عنده فاذا انتهى اسقطوا عنه الشرع
وكان ابن صباح من أتباعهم احنا عن المستنصر الذي جرى في ايامه فتنه البساسيرى وهو الذي احدث السكين واصحاب الالموت من اتباعه والذين كانوا بالشام كسنان ونحوه هم من اتباع اولئك وباطنهم مركب من مذهب 4المجوس والفلاسفة واخذوا عن المجوس الاصلين النور والظلمة واخذوا عن الفلاسفة العقل والنفس وعبروا هم عن ذلك ب السابق والتالي

فلما دخل معهم المتفلسفة كابن سينا وأمثاله تبين لهم ان ما يدعونه على الرسول من التأويلات مما يعلم بطلان كثير منها بالضرورة والفيلسوف من حيث هو فيلسوف ليس له غرض فيما يعلم أنه باطل فسلكوا مسلكا بين مسلك هؤلاء الملاحدة وبين دين المسلمين فالشرائع الظاهرة أقروها ولم يتأولوها لكن قد يقولون إن بعضها يسقط عن الخاصة ودخل معهم في هذا طائفة من متصوفة الفلاسفة كابن عربي وابن سبعين وغيرهما وأما العلميات فتأولوا بعضها كاللوح قالوا هو النفس الكلية والقلم هو العقل الفعال وربما قالوا عن الكوكب والشمس والقمر التي رآها إبراهيم إنها النفس والعقل الفعال والعقل الاول وتأولوا الملئكة ونحو ذلك
وأما صفات الرب ومعاد الابدان وغير ذلك فمذهب محققيهم كابن سينا وأمثاله أنها لا تتأول وأن ما دلت عليه ليس ثابتا في نفس الامر ولا يستفاد منها علم قالوا بل المراد منها خطاب الجمهور بما يخيل اليهم ما يعتقدونه في امر الايمان بالله واليوم الاخر لينتفعوا بذلك الاعتقاد وإن كان باطلا لا حقيقة له في نفس الامر فان هذا غايته ان الانبياء كذبوا لمصلحة الجمهور وهم يرون مثل ذلك من تمام حكمتهم وهم يعظمون شرائع الانبياء العملية وأما العلمية فعندهم العلم في ذلك بما يقوله الفلاسفة وأما الانبياء فلا يستفاد من جهتهم علم بذلك
ثم منهم من يقول النبي أعظم من الفيلسوف فيقولون النبي كان في الباطن على مذهب هؤلاء الفلاسفة لكن خاصته التخييل وإن كان كذبا في الحقيقة لمصلحة الجمهور ومنهم من يقول بل الفيلسوف أعظم من النبى والنبي قد لا يكون عارفا في الباطن بما يجوز على الله وما لا يجوز وحقيقة الامر في المعاد لكن هو حاذق في وضع الشرائع العملية
وكثير من ملاحدة المتصوفة كابن عربي وابن سبعين والقونوي

والتلمساني وغيرهم يوافقونهم في أصولهم لكن يغيرون العبارات فيعبرون بالعبارات الاسلامية عما هو قولهم وفي الكتب المضنون بها على غير اهلها وغيرها من كتب مصنفيها قطعة من هذا وبسبب ذلك وقع ابن عربي وامثاله من ملاحدة المتصوفة مع هؤلاء ولهذا كثر كلام علماء المسلمين في مصنفيها ومن الناس من ينكر ان تكون من كلام ابي حامد لما رأى ما فيها من المصائب العظيمة وآخرون يقولون بل رجع عن ذلك وختم له بالاشتغال بالبخاري ومسلم كما قد ذكر ذلك في سيرته
وهؤلاء المتفلسفة ومتصوفوهم كابن سبعين وأتباعه يجوزون ان يكون الرجل يهوديا او نصرانيا او مشركا يعبد الاوثان فليس الاسلام عندهم واجبا ولا التهود والتنصر والشرك محرما لكن قد يرجحون شريعة الاسلام على غيرها وإذا جاء المريد الى شيخ من شيوخهم وقال اريد ان اسلك على يديك يقول له على دين المسلمين أو اليهود أو النصارى فاذا قال له المريد اليهود والنصارى أما هم كفار يقول لا ولكن المسلمون خير منهم وهذا من جنس جهال التتر أول ما أسلموا فان الاسلام عندهم خير من غيره وإن كان غيره جائزا لا يوالون عليه ويعادون عليه
وهذا أيضا اكثر اعتقاد علماء النصارى أو كثير من اليهود يرون دين المسلمين واليهود والنصارى بمنزلة المذاهب في دين المسليمن فيجوز للرجل عندهم ان

ينتقل من هذه الملة الى تلك إما لرجحانها عنده في الدين وإما لمصلحة دنياه كما ينتقل الانسان من مذهب بعض ائمة المسلمين الى مذهب إمام آخر كما ينتقل من مذهب مالك إلى الشافعي ومن مذهب ابي حنيفة الى مذهب احمد ونحو ذلك

أرسطو ومشركوا اليونان
واما ارسطو واصحابه فكانوا مشركين يعبدون الاصنام والكواكب وهكذا كان دين اليونان والروم قبل ظهور دين المسيح فيهم وكان ارسطو قبل المسيح بنحو ثلثمائة سنة وكان وزير الاسكندر بن فيلبس المقدوني الذي تؤرخ له اليهود والنصارى التأريخ الرومي وكان قد ذهب الى ارض الفرس واستولى عليها
وطائفة من الناس تظن انه كان وزير الاسكندر ذي القرنين المذكور في القران وهذا جهل فان ذا القرنين كان مقدما على ارسطو بمدة عظيمة وكان مسلما يعبد الله وحده لم يكن مشركا بخلاف المقدوني وذو القرنين بلغ اقصى المشرق والمغرب وبنى سد يأجوج ومأجوج كما ذكر الله في كتابه والمقدوني لم يصل لا الى هذا ولا الى هذا ولا وصل الى السد
واخر ملوكهم كان بطلميوس صاحب المجسطي وبعده صاروا نصارى وكانت اليونان والروم مشركين كما ذكر يعبدون الشمس والقمر والكواكب ويبنون لها هياكل في الارض ويصورون لها اصناما يجعلون لها طلاسم من جنس شرك النمرود بن كنعان وقومه الذين بعث اليهم ابراهيم الخليل صلوات الله

وسلامه عليه
وبقايا هذا الشرك في بلاد الشرق في بلاد الخطا والترك يصنعون الاصنام على صورة النمرود ويكون الصنم كبيرا جدا ويعلقون السبح في اعناقهم ويسبحون باسم النمرود ويشتمون ابراهيم الخليل
وكان من النفر القادمين الى دمشق سنة 699 تسع وتسعين وستمائة بعض هؤلاء وهو يجمع بين أن يصلي الصلوات الخمس وبين ان يسبح باسم نمرود وهذا ايضا مذهب كثير من هؤلاء المتفلسفة وعلمائهم وعبادهم يصلون الصلوات الخمس ويعبدون الشمس والقر او غيرهما من الكواكب ومن هؤلاء طوائف موجودون في الشام ومصر والعراق وغير ذلك
وسبب ذلك انه يحصل لهم احيانا من جنس ما يظهر للمشركين الذين كانو يعبدون الكواكب والاصنام فأنه كانت من الشياطين تدخل في الصنم وتكلم عابديه فتخبرهم بأمور مكاشفة لهم وتأمرهم بأمور يطلبون منهم قضاء حوائجهم
قال الله تعالى ان يدعون من دونه الا انثا وان يدعون الا شيطنا مريدا قال ابن عباس كان في كل صنم شيطان يترااى للسدنة فيكلمهم وقال ابي بن كعب مع كل صنم جنية
ولهذا لما ارسل النبي ص - خالد بن الوليد الى العزى وكانت العزى عند عرفات خرجت منها عجوز ناشرة شعرها وقال النبي ص - هذه شيطانة العزى وقد يئست العزى ان تعبد بأرض العرب وكان خالد يقول يا عزى كفرانك لا سبحانك اني رايت الله قد اهانك وأما اللات فكانت عند الطائف ومناة الثالثة الاخرى كانت حذو قديد بالساحل

فان المدائن التي للمشركين بأرض الحجاز كانت ثالاثة مكة والمدينة والطائف وكان لكل أهل مدينة طاغوت من هذه الثلاثة ولهذا خصصها سبحانه بالذكر في قوله آفرءيتم اللت والعزى ومنوة الثالثة الاخرى آلكم الذكر وله الانثى تلك اذا قسمة ضيزى أي قسمة جائرة أن هي الا اسماء سميتموها انتم واباؤكم ما انزل الله بها من سلطن النجم فانهم كانوا يجعلون لله أولادا إناثا وشركاء إناثا فقال الكم الذكر وله الانثى تلك اذا قسمة ضيزى

اصل الشرك من تعظيم القبور وعبادة الكواكب
والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين
أولهما تعظيم قبور الصالحين وتصوير تماثيلهم للتبرك بها وهذا اول الاسباب التي بها ابتدع الادميون الشرك وهو شرك قوم نوح قال ابن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام وقد ثبت في الصحيح عن النبي ص - ان نوحا اول رسول بعث الى اهل الارض ولهذا لم يذكر الله في القرآن قبله رسولا فان الشرك إنما ظهر في زمانه
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس وذكره اهل التفسير والسير من غير واحد من السلف في قوله تعالى وقالوا لا تذرن الهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا نوح أن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم وأن هذه الاصنام صارت الى العرب وذكر ابن عباس قبائل العرب التي كانت فيهم مثل هذه الاصنام

والسبب الثاني عبادة الكواكب فكانوا يصنعون للاصنام طلاسم للكواكب ويتحرون الوقت المناسب لصنعة ذلك الطلسم ويصنعونه من مادة تناسب ما يرونه من طبيعة ذلك الكوكب ويتكلمون عليها بالشرك والكفر فتأتى الشياطين فتكلمهم وتقضى بعض حوائجهم ويسمونها روحانية الكواكب وهي الشيطان او الشيطانة التي تضلهم
والكتاب الذي صنفه بعض الناس وسماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم فان هذا كان شرك الكلدانيين والكشدانيين وهم الذين بعث إليهم الخليل صلوات الله عليه وهذا أعظم انواع السحر ولهذا قال النبي ص - في الحديث الذي رواه ابو داود وغيره من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد
ولهذا صنف تنكلوشاه البابلي كتابه في درجات الفلك وكذلك

شرك الهند وسحرهم من هذا مثل كتاب طمطم الهندي وكذلك ابو معشر البلغي له كتاب سماه مصحف القمر وكذلك ثابت بن قرة الحراني صاحب الزيج

حران دار الصابئة
فان حران كانت دار هؤلاء الصابئة وفيها ولد إبراهيم أو انتقل اليها من العراق على اختلاف القولين
وكان بها هيكل العلة الاولى هيكل العقل الاول هيكل النفس الكلية هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس وكذلك الزهرة وعطارد والقمر
وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانيه فيهم ثم ظهرت النصرانيه فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين حتى جاء الاسلام ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الاسلام الى آخر وقت ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها أطباء وكتابا وبعضهم لم يسلم
ولما قدم الفارابي حران في اثناء المائة الرابعة دخل عليهم وتعلم منهم وأخذ

عنهم ما أخذ من المتفلسفة وكان ثابت بن قرة قد شرح كلام ارسطو في الالهيات وقد رايته وبينت بعض ما فيه من الفساد فان فيه ضلالا كثيرا
وكذلك كان دين اهل دمشق وغيرها قبل ظهور دين النصرانية وكانوا يصلون الىالقطب الشمالي ولهذا توجد في دمشق مساجد قديمة فيها قبله الى القطب الشمالي وتحت جامع دمشق معبد كبيرله قبلة الى القطب الشمالي كان لهؤلاء
فان الصابئة نوعان صابئة حنفاء موحدون وصابئة مشركون فالاولون هم الذين اثنى الله عليهم بقوله تعالى ان الذين أمنوا والذين هادوا والنصرى والصبئين من امن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون البقرة فأثنى على من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا من هذه الملل الاربع المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين
فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ و التبديل و كذلك الذين دانوا بالانجيل قبل النسخ و التبديل و الصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين لملة ابراهيم امام الحنفاء صلى الله عليه وصلى الله على محمد وعلى ال محمد كما صلى على ابراهيم وعلى ال ابراهيم انه حميد مجيد قبل نزول التوراة والانجيل
وهذا بخلاف المجوس والمشركين فأنه ليس فيهم مؤمن فلهذا قال الله تعالى ان الذين امنوا والذين هادوا الصابئين والنصرى والمجوس والذين اشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شيء شهيد فذكر الملل الست هؤلاء واخبرانه يفصل بينهم يوم القيمة لم يذكر في الست من كان مؤمنا انما ذكر ذلك في الاربعة فقط

ثم ان الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين اما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ويقرون بمعاد الابدان فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين اثنى الله عليهم
ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب تقر بحدوثه وكذلك المشركون من الهند وقد ذكر اهل المقالات ان اول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين هم ارسطو

قسطنطين اول ملك اظهر دين النصارى
وكان دين المسيح لما دخل فيه طائفة من أهل حران وفيهم هيلانة الحرانية الفندقانية فهولها ملك الروم أبو قسطنطين فتزوجها فولدت له قسطنطين فنصرت ابنها قسطنطين وهو الذي اظهر دين النصارى وبنى القسطنطينية وفي زمنه ابتدع النصارى هذه الامانة التي اتفقت عليها طوائفهم اليوم فانه اتفق عليها ثلثمائة وبضعة عشرة من علمائهم وعبادهم
قالوا وهو الذي ابتدع الصلوة الى الشرق وإلا فلم يصل قط أحد من انبيائهم وأتباعهم الى الشرق ولم يشرع الله مكانا يصلى اليه إلا الكعبة
والانبياء الخليل ومن قبله إنما كانوا يصلون الى الكعبة وموسى ص - لم يكن يصلى الى بيت المقدس بل قالوا إنه كان ينصب قبة العهد الى

العرب ويصلى إليها في التيه فلما فتح يوشع بيت المقدس بعد موت موسى نصب القبة على الصخرة فكانوا يصلون اليها فلما خرب بيت المقدس وذهبت القبة صارت اليهود يصلون الى الصخرة لانه موضع القبة والسامرة يصلون الى جبل هناك قالوا لانه كان عليه التابوت
ولما رأى علماء النصارى وعبادهم أن الروم واليونان مشركون واستصعبوا نقلهم الى التوحيد المحض وضعوا لهم دينا مركبا من دين الانبياء ودين المشركين فكان اولئك اليونان والروم يتخذون الاصنام المجسدة التي لها ظل فاتخذ النصارى الصور المرقومة في الحيطان والسقوف التي لا ظل لها وكان أولئك يسجدون للشمس والقمر فصارت النصارى يسجدون اليها وجعلوا السجود اليها بدلا من السجود لها

فضل محمد ص
- إمام التوحيد وأمته على من تقدم
ولهذا لما بعث الله خاتم المرسلين وافضل النبيين محمدا ص - إمام التوحيد الذي بعث الله به الرسل قبلة وأظهره وخلصه من شوائب الشرك فظهر التوحيد بسببه ظهورا فضله الله به وفضل به امته على سائر من تقدم
الانبياء كلهم كانوا مسلمين
فان الانبياء جميعهم وأممهم كانوا مسلمين مؤمنين موحدين لم يكن قط دين يقبله الله غير الاسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى وسئل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن الهة يعبدون الزخرف وقال تعالى وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحي اليه انه لا اله الا انا فاعبدون الانبياء وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت النحل
وفي الصحيحين عن النبي ص - انه قال انا معشر الانبياء ديننا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي وقد أخبر

الله في القرآن عن جميع الانبياء وأممهم من نوح الى الحواريين أنهم كانوا مسلمين مؤمنين كما قد بسط في موضع آخر
وقد قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه الشورى فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم وذكرهم الله في آيتين من كتابه هذه السورة وفي قوله واذ اخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى ابن مريم واخذنا منهم ميثاقا غليظا الاحزاب
وقال تعالى يايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا انى بما تعملون عليم وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاتقون فتقطعوا امرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون المؤمنون
وقال تعالى فاقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون منيبين اليه واتقوه واقيموا الصلوة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون الروم
وقال تعالى كان الناس امة واحدة فاختلفوا كما قال في يونس فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين امنوا لما

اختلفوا فيه من الحق باذنه والله يهدى من يشاء الى صراط مستقيم البقرة
فالمرسلون صلوات الله عليهم أجمعين أولهم وأخرهم بعثوا بدين الاسلام وهو عبادة الله وحدة لا شريك له يعبد في كل وقت بما امر ان يعبد به في ذلك الوقت فالصلوة الى بيت المقدس كان لما امر الله به من دين الاسلام ثم لما نهى عنه وأمر بالصلوة الى الكعبة صارت الصلوة الى الكعبة من دين الاسلام دون الصلوة الى الصخرة
فتنوع شرائع الانبياء كتنوع الشريعة الواحدة ولهذا قال تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا المائدة فالشرعة الشريعة والمنهاج الطريق والسبيل فالشرعة كالباب الذي يدخل منه والمنهاج كالطريق الذي يسلك فيه والمقصود هو حقيقة الدين بان يعبد الله وحده لا شريك له وهذه الحقيقة الدينية التي اتفق عليها الرسل هي دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره والشرك الذي حرمه على السن رسله ان يعبد مع الله غيره
ومن لم يعبد الله اصلا كفرعون ونحوه ممن قال الله فيهم ان الذي يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين المؤمن فهولاء معطلة وهم شر الكفار ومع هذا يكون لهم ما يعبدونه دون الله كما قال تعالى في قوم فرعون ويذرك والهتك الاعراف فقال غير واحد من السلف كان له آلهة يعبدها
ومن عبد مع الله إلها آخر فهو مشرك الشرك الاكبر الذي لا يغفره الله وإن

كان مع ذلك يعتقد ان الله وحده خالق العالم وهذا كان شرك العرب كما أخبر الله عنهم في غير موضع من القرآن انهم كانوا يقولون إن الله خلق العالم ولكن كانوا يتخذون الالهة شفعاء يشفعون لهم يتقربون بهم الى الله كما قال تعالى لئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله الزمر ولقمان
وقال تعالى ويعبدن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل اتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض يونس وقال تعالى والدين اتخذوا من دونه اولياء ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى الزمر وبسط هذا له موضع آخر
والمقصود هنا ان الحوادث كان لها أسباب وإن كانت حركات الفلك من جملة الاسباب

فصل
القياس مع صحته لا يستفاد به علم بالموجودات
فصورة القياس لا يدفع صحتها لكن يبين أنه لا يستفاد به علم بالموجودات كما أن اشتراطهم للمقدمتين دون الزيادة والنقص شرط باطل فهو وإن حصل به يقين فلا يستفاد بخصوصه نفس مطلوب شئ من الموجودات بل ما يحصل به قد يحصل بدونه وقد يحصل بدونه ما لا يحصل به
فنقول إن صورة القياس إذا كانت مواده معلومة فلا ريب أنه يفيد اليقين وإذا قيل كل أ ب وكل ب ج وكانت المقدمتان معلومتين فلا ريب ان هذا التأليف يفيد العلم بأن كل أ ج وهذا لا نزاع فيه
فصورة القياس لا يتكلم على صحتها فان ذلك ظاهر سواء في ذلك الاقترانى المؤلف من الحمليات الذي هو قياس التداخل والاستثنائي المؤلف

من الشرطيات المتصلة الذي هو التلازم والتقسيم
وكذلك ما ذكروه من أن الشكل الاول من الاقتران يفيد المطالب الاربعة النتائج الاربعة الموجبة والسالبة والجزئية والكلية وان الثاني يفيد السالبة الكلية والجزئية وأن الثالث يفيد الجزئية سالبة كانت أو موجبة
وفي التلازم استثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم وهو قول نظار المسلمين وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم وانتفاء اللازم يقتضى انتفاء الملزوم بل هذا مع اختصاره فانه يشمل جميع أنواع الادلة سواء سميت براهين او اقيسة او غير ذلك فان كل ما يستدل به على غيره فانه مستلزم له فيلزم من تحقق الملزوم الذي هو الدليل تحقق اللازم الذي هو المطلوب المدلول عليه ويلزم من انتفاء اللازم الذي هو المدلول عليه انتفاء الملزوم الذي هو الدليل
ولهذا كان من عرف ان المدعى باطل علم انه لا يقوم عليه دليل صحيح فانه يمتنع ان يقوم على الباطل دليل صحيح ومن عرف ان الدليل صحيح علم ان لازمه الذي هو المطلوب حق فانه يجب إذا كان الدليل حقا ان يكون المطلوب المدلول عليه حقا وإن تنوعت صور الادلة ومقدماتها وترتيبها
ولهذا كان الدليل الذي يصور بصورة القياس الاقترانى يصور ايضا بصورة الاستثنائي ويصور بصورة اخرى غيرما ذكروه من الالفاظ وترتيبها والمقصود هنا الكلام على ما ذكروه كما ذكرنا الكلام على الشرطي المتصل
والتقسيم قد يكون مانعا من الجمع والخلو كما يقال العدد إما شفع وإما وتر وهما في معنى النقيضين الذين لا يجتمعان ولا يرتفعان فقد يكون مانعا من الجمع دون الخلو كالضدين الذين لا يجتمعان وقد يرتفعان كما يقال هذا إما أسود وإما أحمر وقد يخلو منهما

وقد يكون مانعا من الخلو دون الجمع كعدم المشروط ووجود الشرط والمراد بالشرط هنا ما يلزم من عدمه عدم الحكم سواء عرف ذلك بالشرع او بالعقل مثل كون الطهارة شرطا في الصلوة والحيوة شرطا في العلم ليس المراد ما يسميه النحاة شرطا كالجملة الشرطية المعلقة ب إن واخواتها فان هذا في المعنى سبب لوجود الجزاء ولفظ الشرط يقال على هذا وهذا بالاشتراك
ومن جعل لفظ الشرط ينقسم الى الثلاثة فقد غلط فانه قد يجتمع عدم المشروط ووجود الشرط إذ وجود الشرط لا يستلزم وجود المشروط ولكن لا يرتفعان جميعا فلا يرتفع وجود الشرط وعدم المشروط لانه حينئذ يعدم الشرط ويوجد المشروط وهذا لا يكون كما إذا قيل هذا غرق بغير ماء او صحت صلوته بغير وضوء او وجب رجمه بغير زناء فيقال هذا إما أن يكون في ماء وإما أن لا يغرق وإما أن يكون متطهرا وإما ان لا تصح صلوته وإما ان يكون زانيا وإما أن لا يجوز رجمه
وكذلك لو قيل ليس في الوجود واجب ولا ممكن ولا قديم ولا محدث فقيل لا بد في الوجود من واجب او ممكن او قديم او محدث فهذان لا يجتمعان ولا يرتفعان
وكذلك إذا قيل الوجود إما قائم بنفسه ك الجسم وإما قائم بغيره ك العرض فهذان لا يرتفعان وقد يجتمعان فكل ما لا يخلو الوجود عنهما مع إمكان اجتماعهما او لا يخلو بعض الانواع عنهما مع إمكان اجتماعهما فهو من هذا الباب كما إذا قيل الوارث بطريق الاصالة إما أن يرث بفرض وإما ان يرث بتعصيب وقد يجتمع في الشخص الواحد ان يكون ذا فرض وعصبة كالزوج إذا كان ابن عم او معتقا
فالشرطى المتصل هو من التلازم والمنفصل هو في الثاني كما في الضدين والنقيضين وهذه الصورة صورة التقسيم الذي هو الشرطي المنفصل هي

أيضا تعود الى اللزوم فانه يلزم من وجود احد الضدين عدم الاخر ومن عدمه وجوده وهذه مانعة الجمع والخلو
فهذه الاشكال وإن تكثرت فجميعها يعود الى ان الدليل يستلزم المدلول ويمكن تصوير ذلك بصور متعددة مما ذكروه ومما لم يذكروه
فهم يقولون البرهان ينحصر في الاقترانى والاستثنائى فان الاقترانى ينحصر في أربعة اشكال والاستثناي ينحصر في الشرطى المتصل والشرطى المنفصل فيعود الى ستة أشكال وجمهورهم لا يذكرون الشكل الرابع من الاقترانيات لبعده عن الطبع وحصروها في أربعة بناء على حصرهم الدليل في مقدمتين تشتركان في حد أوسط ثم الاوسط إن كان محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى فهو الشكل الاول المنتج للمطالب الاربعة وإن كان موضوعا فيهما فهو الثاني المنتج للسلبيات وإن كان محمولا فيهما فهو الثالث المنتج للايجابيات وإن كان محمولا في الكبرى موضوعا في الصغرى عكس الاول فهو الرابع وهو أبعدها عن الطبع وأكثرهم لا يذكونه فيجعلون الاشكال خمسة هذه الثلاثة مع الاستثنائي الشرطى المتصل والشرطى المنفصل
فهذه الاشكال إذا قدر إفادتها فهى صورة من صور الادلة لا ينحصر تصوير الادلة في هذه الاشكال كما لا ينحصر تصوير الدليل في مقدمتين بل هذا الحصر خطأ في النفي والاثبات فقد يكون الدليل مقدمة وقد يكون مقدمات وهذه الاشكال تكثر تصوير الدليل على أشكال اخر غير هذه فللا تنحصر في خمسة أو سته وقد يؤتى بالدليل بدون هذه الاشكال جميعها وبدون المقدمتين إذا كان مقدمة واحدة
وإذا قالوا إن جميع ما يذكر من الادلة يرجع الى هذه الاشكال قيل لهم بل جميع الادلة يرجع الى ان الدليل مستلزم للمدلول وحينئذ فاما أن يكون الاعتبار بما ذكروه من صور الاشكال ولفظها أو بما ذكروه من المعنى فان كانت العبرة

بالصورة لم يكن تخصيص صورة الدليل بخمسة أو ستة صوابا كما لم يكن تخصيصه بمقدمتين صوابا إذ كان يمكن تصويره بصور كثيرة متنوعة ليس فيها لفظ شرط لا متصل ولا منفصل ولا هو على صورة القياس الحملى كما ذكروه وإن كانت العبرة بالمعنى كان ذلك أدل عل فساد ما ذكروه فان المعنى هو ان يكون ما يستدل به مستلزما لما يستدل به عليه سواء كان مقدمة او مقدمتان او اكثر وسواء كان على الشكل والترتيب الذي ذكروه او غيره
والصواب في هذا الباب ان يقال ما ذكروه إذا كان صوابا فانه تطويل للطريق وتبعيد للمطلوب وعكس للمقصود فانهم زعموا انهم جعلوه آلة قانونية تمنع الذهن أن يزل في فكره وما ذكروه إذا كلفوا الناظر المستدل ان يلزمه في تصوراته وتصديقاته كان اقرب الى زلله في فكره وضلاله عن مطلوبه كما هو الواقع فلا تجد أحدا التزم وضع هؤلاء واصطلاحهم إلا كان أكثر خطأ واقل صوابا ممن لم يلتزم وضعهم وسلك الى المطلوب بفطرة الله التي فطر عباده عليها ولهذا لا يوجد أحد ممن حقق علما من العلوم كان ملتزما لوضعه
ولهذا يقال كثرة هذه الأشكال وشروط نتاجها تطويل قليل الفائدة كثير التعب فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل فانه متى كانت المادة صحيحة أمكن تصويرها بالشكل الأول الفطري فبقية الأشكال لا يحتاج إليها وإنما تفيد بالرد إلى الشكل الأول إما بابطال النقيض الذي يتضمنه قياس الخلف وإما بالعكس المستوي أو عكس النقيض فان ثبوت أحد المتناقضين يستلزم نفي الآخر إداء روعي التناقض من كل وجه فهم يستدلون بصحة القضية على بطلان نقيضها وعلى ثبوت عكسها المستوي وعكس نقيضها بل تصور الذهن بصورة الدليل يشبه حساب الانسان لما معه من الرقيق والعقار
والفطرة تصور القياس الصحيح من غير تعليم والناس بفطرهم يتكلمون بالأنواع الثلاثة التداخل والتلازم والتقسيم كما يتكلمون بالحساب ونحوه والمنطقيون

قد يسلمون ذلك
ويقولون إن المقدمتين لا بد منها لا أكثر ولا اقل ويقولون اكثر الناس يحذفون احدى المقدمتين لظهورها اختصارا ويسمون هذا قياس الضمير وإن احتجاج المطلوب إلى مقدمات جعلوا القياس معنى أقيسة متعددة بناء على قولهم إنه لابد في القياس من مقدمتين ويسمونه القياس المركب ويقسمونه الى موصول وهو ما لا يذكر فيه إلا نتيجة واحدة والى مفصول وهو ما يذكر فيه عقب كل مقدمتين نتيجة فالاول كقولك هذا نبيذ وكل نبيذ مسكر وكل مسكر خمر وكل خمر حرام فهذا حرام والثاني كقولك هذا نبيذ وكل نبيذ مسكر فهذا مسكر ثم تقول وكل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام ثم تقول هذا مسكر وكل مسكر حرام فهذا حرام
وهذا كله مما غلطوا فيه والصواب الذي عليه جماهير النظار من المسلمين وغيرهم أن الدليل قد يتوقف على مقدمة تارة وقد يتوقف على مقدمتين تارة وعلى ثلاث تارة وعلى أكثر من تلك فما كان من المقدمات معلوما لم يحتج ان يستدل عليه وإنما يستدل على المجهول والمطلوب المجهول يعلم بدليله ودليله ما استلزمه وكل ملزوم فانه يصح الاستدلال به على لازمه وحينئذ فاذا كان المطلوب ملزوم يعلم لزومه له استدل عليه به وكفى ذلك وإن لم يكن المستدل يعلم إلا ملزوم ملزومه احتاج الى مقدمتين وإن لم يعلم إلا ملزوم ملزوم ملزومه احتجاج الى ثلاث وهلم جرا

بيان ان حصول العلم لا يتوقف على القياس المنطقي
وإذا كان كذلك فنقول لا ننكر أن القياس يحصل به علم إذا كانت مواده يقينية لكن نحن نبين ان العلم الحاصل به لا يحتاج فيه الى القياس المنطقي بل يحصل بدون ذلك فلا يكون شئ من العلم متوقفا على هذا القياس

ونبين ان المواد اليقينية التي ذكروها لا يحصل بها علم بالامور الموجودة فلا يحصل بها مقصود تزكو به النفوس
بل ولا علم بالحقائق الموجودة في الخارج على ما هي عليه إلا من جنس ما يحصل ب قياس التمثيل فلا يمكن قط ان يحصل ب القياس الشمولى المنطقي الذي يسمونه البرهاني علم إلا وذلك يحصل ب قياس التمثيل الذي يستضعفونه فان ذلك القياس لا بد فيه من قضية كلية والعلم بكون الكلية كلية لا يمكن الجزم به إلا مع الجزم بتماثل أفراده في القدر المشترك وهذا يحصل ب قياس التمثيل
وكلا القياسين ينتفع به إذا تلقت بعض مقدماته الكلية عن خبر المعصوم إذا استعملت في الالهيات بطريق الاولى كما جاء به القران واما بدون هذين فلا ينفع في الالهيات ولا ينفع ايضا في الطبيعيات منفعة علمية برهانية وإنما يفيد قضايا عادية قد تنحرف فتكون من باب الاغلب
وأما الرياضي المجرد عن المادة كالحساب والهندسة فهذا حق في نفسه لكن ليس له معلوم في الخارج وإنما هو تقدير عدد ومقدار في النفس لكن ذلك يطابق أي معدود ومقدر واقعه في الخارج والبرهان لا يقوم إلا على ما في النفس لا يقوم على ما في الخارج واكثر ما تعبوا في الهندسة ليتوصلوا بذلك الى علم الهيئة كصفة الافلاك والكواكب ومقادير ذلك وحركاته وهذا بعضه معلوم ب البرهان وأكثره غير معلوم ب البرهان وبينهم فيه من الاختلاف ما يطول وصفه فصار المعلوم ببراهينهم من الرياضي وغيره امر لا تزكو به النفوس ولا يعلم به الامور الموجودة إلا كما يعلم ب قياس الثمثيل
وهذا يظهر بالكلام في مادة القياس فنقول هم لا ريب عندهم انه لا بد في كل قياس من قضية كلية ولا قياس في جميع الاشكال لا عن سالبتين ولا عن جزئيتين ولا عن صغرى سالبة مع كبرى جزئية لكن قد يكون عن صغرى جزئية مع كبرى سالبه كلية والمقصود انه لا بد في القياس في جميع صورة من قضية كلية وفي أكثر

القياس لا بد من موجبة كلية بل النتيجة الكلية لا تكون إلا عن موجبة كلية والسالبة الكلية لا تفيد حكما كليا إلا مع موجبه كلية

بيان أصناف اليقينيات عندهم التي ليس فيها قضية كلية
فاذا كان لا بد في كل قياس من قضية كلية فنقول المواد اليقينيات قد حصروها في الاصناف المعروفة عندهم
أحدها الحسيات ومعلوم ان الحس لا يدرك امرا كليا عاما أصلا فليس في الحسيات المجردة قضية كلية عامة تصلح ان تكون مقدمة في البرهان اليقيني وإذا مثلوا ذلك ب ان النار تحرق ونحو ذلك لم يكن لهم علم بعموم هذه القضية وإنما معهم التجربة والعادة التي هي من جنس قياس التمثيل لما يعلمونه من الحكم الكلى لا فرق بينه وبين قياس الشمول وقياس التمثيل وإن علم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة محرقة فالعلم بأن كل نار لا بد فيها من هذه القوة هو ايضا حكم كلى
وإن قيل إن الصورة النارية لا بد ان تشتمل على هذه القوة وأن ما لا قوة فيه ليس بنار فهذا الكلام إذا قيل إنه صحيح قيل إنه لا يفيد الجزم بأن كل ما فيه هذه القوة تحرق كل ما لاقاه وإن كان هو الغالب فهذا يشترك فيه قياس والتمثيل والشمول والعادة والاستقراء الناقص ومعلوم ان كل من قال إن كل نار تحرق كل ما لاقته فقد أخطأ فانه لا بد من كون المحل قابلا للاحراق إذ قد علم انها لا تحرق كل شئ كما لا تحرق السمندل والياقوت وكما لا تحرق الاجسام المطلية بأمور مصبوغة وأما خرق العادة فمقام آخر
ولا أعلم في القضايا الحسية كلية لا يمكن نقضها مع ان القضية الكلية ليست حسية وإنما القضية الحسية ان هذه النار تحرق فان الحس لا يدرك إلا شيئا خاصا وأما الحكم العقلي فيقولون إن النفس عند رؤيتها هذه المعينات تستعد لان

تفيض عليها قضية كلي بالعموم ومعلوم ان هذا من جنس قياس التمثيل ولا يوثق بعمومه إن لم يعلم أن الحكم العام لازم للقدر للمشترك وهذا إذا علم علم في جميع المعينات فلم يكن العلم بالمعينات موقوفا على هذا
مع انه ليس من القضايا العاديات قضية كلية لا يمكن نقضها باتفاق العقلاء بل والفلاسفة يجوزون خرق العادات لكن يذكرون أن لها أسبابا فلكية او قوى نفسانية أو أسبابا طبيعية فهذه الثلاثة هي أسباب خرق العادات عندهم والى ذلك ينسبون معجزات الانبياء وكرامات الاولياء والسحر وغير ذلك وقد بسطنا الكلام على ذلك في مسئلة معجزات الانبياء هل هي قوى نفسانية ام لا وبينا فساد قولهم هذا حتى عند جماهير أساطين الفلاسفة بالادلة الصحيحة بما ليس هذا موضعه وهي المعروفة ب مسئلة الصفدية
والثاني الوجديات الباطنة كادراك كل احد جوعه وعطشه وحبه وبغضه وألمه ولذته وهذه كلها جزئيات وإنما يعلم الانسان حال غيره والقضية الكلية ب قياس التمثيل بل هذه لا يشترك الناس في إدراك كل جزئي منها كما قد يشتركون في إدراك بعض الحسيات المنفصلة كالشمس والقمر ففيها من الخصوص في المدرك والمدرك ما ليس في الحسيات المنفصلة وإن اشتركوا في نوعها فهى تشبه العاديات

زعمهم تساوي النفوس سبب ضلالهم في معرفة النبوات
ولم يقيموا حجة على وجوب تساوي النفوس في هذه الاحوال بل ولا على النفس الناطقة أنها مستوية الافراد وهذا من أسباب ضلالهم في معرفة النبوات فانهم عرفوا كثيرا من الاحكام التي تشترك فيها النفوس عادة وإن جاز أنخرامها

ثم بلغهم أمور أخرى خارجة عن قياسهم فأرادوا إجراء تلك على ذلك القياس فرأوا ان لبعض النفوس قوة حدسية وانه قد يكون لها تأثير في بعض الامور وقد يتخيل اليها ما تعلمه كما يتخيل الى النائم ما يراه فظنوا ان جميع ما يحصل للنفوس من الوحي ونزول الملائكة وسمع كلام الله هو من هذا الباب وجعلوا خاصة النبوة هي هذه الثلاث فمن وجدت فيه كان نبيا وقالوا النبوة مكتسبة وصار فضلاؤهم تتعرض لان يصيروا انبياء كما جرى للسهرودي المقتول ولابن سبعين وغيرهم
وابن عربي لما علم انه لا يمكن دعوى النبوة ادعى ختم الولاية وادعى ان خاتم الاولياء اكمل في العلم بالله من خاتم الانبياء وانه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به الى النبي وكان سبب هذا اعتقاد قول هؤلاء المتفلسفة الملاحدة ان النبي يأخذ عن جبريل الذي هو خيال في نفسه وذلك الخيال يأخذ عن العقل قال فالنبي يأخذ عن هذا الخيال وانا اخذ عن العقل الذي يأخذ منه الخيال
وضموا هذا الى ان جميع الحوادث انما تحدث عن حركة الفلك وهو من افسد اصولهم التي ضلوا بها
والثالث المجريات وهي كلها جزئية فان التجربة انما تقع على امور معينة وكذلك المتواترات فان المتواترات انما هو ما علم بالحس من مسموع او مرئي فالمسموع قول معين والمرئي جسم معين او لون معين او عمل معين او امر ما معين
واما الحدسيات ان جعلت يقينية فهي نظير المجريات اذا الفرق بينهما لا يعود الى العموم والخصوص وانما يعود الى ان المجريات تتعلق بما هو من افعال المجربين والحدسيات تكون عن افعالهم وبعض الناس يسمى الكل تجربيات

لا تستعمل القضايا الكلية في شيء من الموجودات
فلم يبق معهم الا الاوليات التي هي البديهيات العقلية والاوليات الكلية انما هي قضايا مطلقة في الاعداد والمقادير ونحوها مثل قولهم الواحد نصف الاثنين

والاشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك وهذه مقدرات في الذهن ليست في الخارج كلية
فقد تبين ان القضايا الكلية البرهانية التي يجب القطع بكليتها التي يستعملونها في قياسهم لا تستعمل في شيء من الامور الموجودة المعينة وانما تستعمل في مقدرات ذهنية فاذا لا يمكنهم معرفة الامور الموجودة المعينة ب القياس البرهاني وهذا هو المطلوب

لا دليل لهم على حصر اقسام الوجود في المقولات العشر
ولهذا لم يكن لهم علم بحصر اقسام الوجود بل أرسطو لما حصر أجناس الموجودات من المقولات العشر الجوهر والكم والكيف والاين ومتى والوضع وأن يفعل وان ينفعل والملك وقد مجعها بعضهم في بيتين فقال ... زيد الطويل الاسود ابن مالك ... في داره بالامس كان يتكى ... في يده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوى ...
لما حصرهم المعلم الاول في الجوهر والاعراض التسعة اتفقوا على انه لا سبيل الى معرفة صحة هذا الحصر حتى جعل بعضهم اجناس الاعراض ثلاثة وقيل غير ذلك
لا دليل لهم على حصر الموجودات في الجواهر الخمسة
وكذلك لما قسموا الجوهر الى خمسة اقسام العقل والنفس والمادة والصورة والجسم وجعلوا الجسم قسمين فلكيا وعنصريا و العنصري الاركان التي هي الاستقصاآت والمولدات الحيوان والنبات والمعدن كان هذا التقسيم مع فساده في الاثبات ليس حصر الموجودات فيه معلوما فانه لا دليل لهم على حصر الاجسام في الفلكيات والعنصريات وهم معترفون بامكان وجود اجسام وراء

الافلاك فلا يمكن الحصر فيما ذكر حتى يعلم انتفاء ذلك وهم لا يعلمون انتفاءه فكيف وقد قامت الادلة على ثبوت اعيان قائمة بأنفسها فوق الافلاك كما قد بسط في موضعه
وهم منازعون في واجب الوجود هل هو داخل في مقولة الجوهر فأرسطو والقدماء كانوا يجعلونه من مقولة الجوهر وابن سينا امتنع من ذلك لكن ارسطو واتباعه لم يكونوا يقولون واجب الوجود انما يقولون العلة الاولى والمبدا وليس في كلام ارسطو تقسيم الموجودات الى واجب بنفسه وممكن بنفسه مع كونه قديما ازليا بل كان الممكن عندهم الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون الا محدثا وانما قسمه هذه القسمة متأخروهم من الملاحدة الذين انتسبوا الى الاسلام كابن سينا وامثاله وجعلوا هذا عوضا عن تقسيم المتكلمين الموجود الى قديم وحادث وسلكوا طريقة وركبوها من كلام المتكلمين ومن كلام سلفهم مثل استدلال اولئك ب التركيب على الحدوث فاستدل هو ب التركيب على الامكان

الكلام على قول الخليل عليه السلام هذا ربي
واولئك زعموا ان قول ابراهيم لا احب الآفلين الانعام المراد به المتحركين لان الحركة حادثة والحادث لا يقوم الا بحادث فهي سمة الحدوث فاستدل بالحدوث على حدوث المتحرك والمعنى لا احب المحدثين الذين تقوم بهم الحوادث
فقال هؤلاء بل الافول الذي هو الحركة دليل على ان المتحرك ممكن وان كان قديما ازليا قالوا و الافول هوى في حظيرة الامكان وقوله لا احب الافلين أي الممكنين وان كان الممكن قديما
وكان قدماء المتكلمين يمثلون الدليل العقلي بقولهم كل متغير محدث والعالم متغير فهو محدث فجاء الرازي في محصله فجعل يمثل ذلك بقوله كل متغير ممكن والعالم متغير فهو ممكن

وابراهيم ص - لم يرد هذا ولا هذا كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين ان كل واحد من الاستدلال بالحركة على الحدوث او الامكان دليل باطل كما يقول ذلك اكثر العقلاء من اتباع الانبياء واهل الكلام واساطين الفلاسفة
ولكن كان قومه يعبدون الكواكب مع اعترافهم بوجود رب العالمين وكانوا مشركين يتخذ احدهم له كوكبا يعبده ويطلب حوائجه منه كما تقدم الاشارة اليه ولهذا قال الخليل عليه السلام افرء يتم ما كنتم تعبدون انتم واباؤكم الاقدمون فانهم عدو لي الا رب العالمين الشعراء
وقال تعالى ايضا قد كانت لكم اسوة حسنة في ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم انا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا و بينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده الا قول ابراهيم لا بيه لاستغفرن لك وما املك لك من الله من شيء الممتحنة فأمر سبحانه بالتأسي بابراهيم والذين معه في قولهم لقومهم انا برآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله
وكذلك ذكر الله عنه في سورة الصافات انه قال لقومه فما ظنكم برب العالمين الصفت وقال لهم اتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون الصفت
فالقوم لم يكونوا جاحدين لرب العالمين ولا كان قوله هذا ربي الانعام هذا الذي هو خلق السموات والارض على أي وجه قاله سواء قاله الزاما لقومه او تقديرا او غير ذلك ولا قال احد قط من الادميين ان كوكبا من الكواكب او ان الشمس والقمر ابدعت السموات كلها

ولا يقول هذا عاقل بل عباد الشمس والقمر والكواكب يعبدونها كما يعبد عباد الاصنام للاصنام وكما يعبد عباد الانبياء والصالحين لهم ولتماثيلهم وكما يعبدون اخرون الملائكة واخرون يعبدون الجن لما يرجون بعبادتها من جلب منفعة او دفع مضرة لا لاعتقادهم انها خلقت العالم
بل قد يجعلونها شفعاء ووسائط بينهم وبين رب العالمين كما قال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل ااتنبتون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض يونس وقال تعالى والذين اتخذوا من دونه اولياء ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى الزمر وقال تعالى وانذر به الذين يخافون ان يحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع الانعام وقال تعالى ان تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع الانعام وقال تعالى الله الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة ايام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع السجدة
والشفاعة التي اخبرت بها الرسل هي ان يأذن الله للشفيع فيشفع فيكون الامر كله لله كما قال تعالى من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه البقرة وقال لا يشفعون الا لمن ارتضى الانبياء وهذا بخلاف ما اتخذه المشركون من الشفعاء
واما الفلاسفة القائلون بقدم العالم فالشفاعة عندهم ان يفيض على المستشفع من الشفيع ما يقصده من غير قصد الشفيع ولا سؤال منه كما ينعكس شعاع الشمس من المرآة على الحائط وقد ذكر ذلك ابن سينا ومن تلقى عنه كصاحب الكتب المضنون بها على غير اهلها ومن اخذ عنه

وهذا الشرك اعظم من شرك مشركي العرب والنصارى ونحوهم فان اولئك كانوا يقولون صانع العلم فاعل مختار وان الشافع يستله ويدعوه لكن يثبتون شفاعة بغير اذنه وشفاعة لما ليس له شفاعة ويعبدون الشافع ويسألونه من دون الله ويصورون على تمثاله صورة يعبدونها وكانت الشياطين تدخل في تلك الاصنام وتكلمهم وتتراأي للسدنة احيانا كما يوجد نظير ذلك في هذا الزمان مواضع كثيرة

بقية الكلام على الجواهر الخمسة
وايضا فدعواهم ان الجوهر جنس تحته اربعة وهي العقل والنفس والمادة والصورة والخامس هو الجسم اذا حقق الامر عليهم كان ما يثبتونه من العقليات إنما هو موجود في الذهن والعقل بمنزلة الكليات لا وجود لها في الخارج وقداعترف بهذا من ينصرهم ويعظمهم كابن حزم وغيره
رد لقول من زعم ان عالم الغيب هو العالم العقلي
ومن زعم ان عالم الغيب أخبرت به الرسل هو العالم العقلي الذي يثبته هؤلاء فهو من اضل الناس فان ابن سينا ومن سلك سبيله في هذا كالشهرستاني ستانى والرازي وغيرهما يقولون إن الالهيين يثبتون العالم العقلي ويردون على الطبيعيين منهم الذين لا يثبتون إلا العالم الحسي ويدعون ان العالم العقلي الذي يثبتونه هو ما اخبرت به الرسل من الغيب الذي امروا بالايمان به مثل وجود الرب والملئكة والجنة
وليس الامر كذلك فان ما يثبتونه من العقليات إذا حقق الامر لم يكن لها وجود إلا في العقل وسميت مجردات ومفارقات لان العقل يجرد الامور الكلية على المعينات
وأما تسميتها مفارقات فكان أصله أن النفس الناطقة تفارق البدن وتصير حينئذ عقلا وكانوا يسمون ما جامع المادة بالتدبير لها كالنفس قبل الموت

نفسا وما فارقها بالكلية فلم يتعلق بها لا تعلق تدبير ولا غيره عقلا ولا ريب ان النفس الناطقة قائمة بنفسها باقية بعد الموت منعمة او معذبة كما دل على ذلك نصوب الكتاب والسنة وإجماع سلف الامة وائمتها ثم تعاد الى الابدان ومن قال من أهل الكلام إن النفس عرض من أعراض البدن أو جزء من أجزائه فقوله بدعة ولم يقل ذلك أحد من سلف الامة
ولكن ما يدعون ثبوته في الخارج من المجردات العقلية لا يثبت على السير العقلي له تحقق إلا في الذهن

إثبات المجردات في الخارج هو مبدأ فلسفتهم
وهذا كان مبدأ فلسفة هؤلاء فانهم نظروا في الاجسام الطبيعية فعلموا القدر المشترك الكلى فصاروا يظنون ثبوته في الخارج فكان اولهم فيثاغورس وشيعته أثبتوا أعدادا مجردة في الخارج ثم رد ذلك عليهم أفلاطون وشيعته وأثبتوا ماهيات كلية مجردة مثل إنسان كلى وفرس كلى أزلى ابدى خارج الذهن وأثبتوا ايضا زمانا مجردا سموه الدهر وأثبتوا مكانا مجردا سموه الخلاء واثبتوا مادة مجردة عن الصور وهي المادة الاولى والهيولى الاولى عندهم
فجاء أرسطو وشيعته فردوا ذلك كله عليهم ولكن أثبتوا هذه المجردات في الخارج مقارنة للاعيان وفرقوا بين الشئ الموجود في الخارج وبين ماهيتة الكلية المقارنة لافرادها في الخارج كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله وغلط هؤلاء في هذا وكذلك أثبتوا العقول العشرة وظنوا وجودها في الخارج وهم غالطون في ذلك وأدلتهم عليها في غاية الفساد واما النفوس الفلكية فكان قدماؤهم يجعلونها أعراضنا لكن ابن سينا وطائفة رجحوا أنها جواهر قائمة بنفسها كنفس الانسان وهذا لبسطه موضع آخر
كون منتهى محققيهم الوجود المطلق الكلى الخيالي
والمقصود هنا ان ما يثبتونه من العقليات إذا حققت لم تكن إلا ما ثبت في

عقل الانسان كالامور الكلية فانها عقلية مطابقة لأفرادها الموجودة في الخارج وكذلك العدد المجرد عن المعدود والمقدار المجرد عن المقدور والماهية المجردة عن الوجود والزمان المجرد عن الحركة والمكان المجرد عن الجسم وأعراضهم
ولهذا كان منتهى محققيهم الوجود المطلق وهو الوجود المشترك بين الموجودات وهذا انما يكون مطلقا في الاذهان لا في الاعيان والمتفلسفة يجعلون الكلي المشترك موضوع العلم الالهي
واما الوجود الواجب فتارة يقولون هو الوجود المقيد بالقيود السلبية كما يقوله ابن سينا وتارة يجعلونه المجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي كما يقوله بعض الملاحدة من باطنية الرافضة والاتحادية وتارة يجعلونه نفس وجود الموجودات فلا يجعلون للممكنات وجودا غير الوجود الواجب وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع
وغايتهم انهم يجعلون في انفسهم شيئا ويظنون ان ذلك موجود في الخارج ولهذا تمدهم الشياطين فان الشياطين تتصرف في الخيال وتلقى في خيالات الناس امورا لا حقيقة لها ومحققو هؤلاء يقولون ارض الحقيقة هي ارض الخيال

كون امور الغيب موجودة ثابتة مشهودة
واما ما اخبرت به الرسل ص - من الغيب فهو امور موجودة ثابتة اكمل واعظم مما نشهده نحن في هذه الدار وتلك امور محسوسة تشاهد وتحس ولكن بعد الموت وفي الدار الاخرة ويمكن ان يشهدها في هذه الدار من يختصه الله بذلك ليست عقلية قائمة بالعقل ولهذا كان الفرق بينها وبين الحسيات

التي تشهدها ان تلك غيب وهذه شهادة قال تعالى الذين يؤمنون بالغيب البقرة
وكون الشيء غائبا وشاهدا امر اضافي بالنسبة الينا فاذا غاب عنا كان غيبا واذا شهدناه كان شهادة وليس هو فرقا يعود الى ان ذاته تعقل ولا تشهد ولا تحس بل كل ما يعقل ولا يمكن ان يشهد بحال فانما يكون في الذهن
والملائكة يمكن ان يشهدوا ويروا والرب تعالى يمكن رؤيته بالابصار والمؤمنون يرونه يوم القيامة وفي الجنة كما تواترت النصوص في ذلك عن النبي ص - واتفق على ذلك سلف الامة وائمتها
وامكان رؤيته يعلم بالدلائل العقلية القاطعة لكن ليس هو الدليل الذي سلكه طائفة من اهل الكلام كأبي الحسن وامثاله حيث ادعوا ان كل موجود يمكن رؤيته بل قالوا ويمكن ان تتعلق به الحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس فان هذا مما يعلم فساده بالضرورة عند جماهير العقلاء

اغاليط المتكلمين والمتفلسفة
وهذا من اغاليط بعض المتكلمين كغلطهم في قولهم ان الاعراض يمتنع بقاؤها وان الاجسام متماثلة وانها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل قسمة ولا يتميز منها جانب من جانب فان هذا غلط وقول المتفلسفة بأنها مركبة من المادة والصورة العقليين ايضا غلط كما قد بسط هذا كله في غير هذا الموضع
وكذلك غلط من غلط من المتكلمين وادعى ان الله لم يخلق شيئا لسبب ولا لحكمة ولا خص شيئا من الاجسام بقوى وطبائع وادعى ان كل ما يحدث فان الفاعل المختار الذي يخص احد المتماثلين بلا تخصيص اصلا يحدثه وانكر ما في

مخلوقات الله وما في شرعه من الحكم التي خلق وامر لاجلها
فان غلط هؤلاء مما سلط اولئك المتفلسفة وظنوا ان ما يقول هؤلاء وامثالهم هو دين المسلمين او قول الرسول واصحابه ولهذا كانت مناظرة ابن سينا وامثاله في كتبهم لمبتدعة اهل الكلام فعامة مناظرة ابن سينا هي للمعتزلة وابن رشد للكلابية وكانوا اذا بينوا فساد بعض ما يقوله مبتدعة اهل الكلام يظنون انه لم يبق حق إلا ما يقولونه هم وذلك بالعكس وليس الأمر كذلك بل ما يقوله مبتدعة اهل الكلام فيه خطأ مخالف للشرع والعقل
والخطأ فيما تقوله المتفلسفة في الالهيات والنبوات والمعاد والشرائع اعظم من خطأ المتكلمين وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية والرياضية فقد يكون صواب المتفلسفة اكثر من صواب من رد عليهم من اهل الكلام فإن اكثر كلام اهل الكلام في هذه الأمور بلا علم ولا عقل ولا شرع
ونحن لم نقدح فيما علم من الأمور الطبيعية والرياضية لكن ذكرنا ان ما يدعونه من البرهان الذي يفيد علوما يقينية كلية بالأمور الطبيعية ليس كما يدعونه بل غالب الطبيعيات إنما هي عادات تقبل التغير ولها شروط وموانع وهم لايريدون بالقضايا البرهانية الواجب قبولها إلا ما يكون لزوم المحمول منها للموضوع لزوما ذاتيا لايقبل التغير بحال فاذا قالوا كل ا ب لم يريدوا ان كل ما هو في الوجود ا فهو ب ولا كل ما جد او سيوجد وإنما يريدون ان كل ما يفرض ويقدر في العقل بل في نفس الأمر مع قطع النظر عن الوجودين الذهني والخارجي فهو ب كما قالوا كل انسان حيوان فالطبيعة الانسانية من حيث هي تستلزم الحيوانية
وهم يدعون ان الماهية قد تنفك عن الوجودين الخارجي والذهني وهي من اغاليطهم ومعلوم ان هذا إن اريد به الإنسان المعروف فالانسان المعروف لا يكون إلا حيوانا وهذا امر واضح ليس هو مما يطلب علمه بالبراهين فالصفات

اللازمة للموصوف التي لايكون له حقيقة إلا بها لاتوجد بدونها
وقد بسط الكلام على فرقهم بين اللازمة وبين الذاتية المقومة الداخلة في الماهية وبين اللازمة للماهية واللازمة لوجودها وبين ان هذا كله باطل إلا اذا اريد ب الماهية ما يتصور في الذهن وبالوجود ما يكون في الخارج فالفرق بين مصورات الأذهان وموجودات الأعيان فرق صحيح وأما ان يدعي في الخارج جوهرين قائمين بأنفسهما أحدهما الانسان المحسوس والاخر إنسان معقول ينطبق على كل واحد من افراد الانسان ويدعي ان الصفات اللازمة التي لا يمكن تحقق الموصوف إلا بها منها ما هو داخل مقوم لما هيته الموجودة في الخارج ومنها ما هو خارج عارض لماهيته الموجودة في الخارج فهذا كله باطل كما قد بسط في غير هذا الموضع

أقيستهم مبنية على القضايا الكلية لا علم لهم بها
والمقصود ان ما يذكرونه من الألهية في العلوم الاهية والطبيعية ومايتعلق بها فلا يفيد يقينا إلا كما يفيد قياس التمثيل إذ هي مبنية على قضية كلية لا يقين عندهم بأنها كلية إلا كاليقين الذي عندهم بقياس التمثيل ولا سبيل لهم الى ذلك مثل قولهم في العلم الالهي الواحد لايصدر عنه إلا واحد والشيء الواحد لايكون فاعلا وقابلا وامثال هذه القضايا الكلية التي لاعلم لهم بها ولا يستدلون على ذلك إلا بقياس فيه قضية كلية لاعلم لهم بها وإن كان يمكن إبطالها
لكن المقصود هنا بيان انه لاعلم بالموجود يحصل عن قياسهم وهذا باب واسع يظهر بالتدبر
الكلام على الواحد البسيط الذي يجعلونه مبدأ المركبات
فإن قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قضية كلية وهم لم يعرفوا في الوجود قط شيئا واحدا من كل وجه صدر عنه شيء لا واحد ولا اثنان

والواحد البسيط الذي يصفون به واجب الوجود من جنس الواحد البسيط الذي يجعلونه مبدأ المركبات اذا قالوا الانسان مركب من الحيوانية والناطقية وينتهي الامر الى واحد بسيط لا تركيب فيه فان هذا الواحد لا يوجد الا في الذهن لا في الخارج
فان قولهم انسان مركب من الحيوان والناطق والحيوانية والناطقية لا يصح منه الا ما يتصور في الذهن فان المتصور يتصور في نفسه انسانا ناطقا وجسما حساسا متحركا بالارادة ناطقا فيكون كل من هذه الاجزاء جزءا مما تصوره في نفسه واللفظ الدال على جميعها يدل عليها بالمطابقة وعلى ابعاضها بالتضمن وعلى لازمها بالالتزام ومجموعها هي تمام الماهية المتصورة في الذهن والداخل فيها هو الداخل في تلك الماهية والخارج عنها هو الخارج عن تلك الماهية وتلك الماهية بحسب ما يتصوره الذهن فاذا تصور انسانا ضاحكا كان الضاحك جزء هذه الماهية
واما دعوى المدعي ان الانسان الموجود في الخارج مركب من وهذا فلا يصح الا اذا اريد به انه متصف بهذين الوصفين وهما قائمان به وهو حامل لهما كما يحمل الجوهر اعراضه والموصوف صفاته
واما ان يقال ان الجوهر مركب من اعراض او مركب من جواهر احدها جسم والاخر حساس والاخر نام والاخر متحرك بالارادة وان هذا الانسان المعين فيه جواهر متعددة بتعدد هذه الاسماء وان الجوهر الذي هو الحساس ليس هو الذي هو متحركا بالارادة ولا الذي هو جسم ولا الذي هو ناطق ولا الناطق هو الحساس فهذا مما يعلم فساده بعد تصوره بالصورة

توحيد واجب الوجود عند الفلاسفة
وكذلك الواحد الذي يصفون به واجب الوجود وانه مجرد عن جميع

الصفات الثبوتية ليس له حياوة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ويقولون مع ذلك هو عاقل ومعقول وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق ويقولون ان كل صفة من هذه الصفات هي الاخرى فاللذة هي العقل والعقل هي العشق ويقولون ان كل صفة من هذه الصفات هي الموصوف والعلم هو العالم واللذة واللذة هي الملتذ والعشق هو العاشق فهذا ونحوه من اقوالهم في صفات واجب الوجود مما اذا تصوره المتصور تصورا صحيحا كان مجرد تصوره يوجب العلم الضروي بفساده
وقد بسطنا الكلام عليه وبينا ما الجاهم الى القول بهذا وكلامهم في التركيب وبينا ان اكثر الفلاسفة المتقدمين قبل ارسطو وكثير من المتأخرين كأبي البركات صاحب المعتبر وغيره لا يقولون بهذا بل ردوا على من قاله واصل هذا كله ما ادعوه من ان اثبات الصفات تركيب ممتنع وهذا اخذوه عن المعتزلة ليس هذا من كلام ارسطو وذويه وقد تكلمنا في بيان فساده في مصنف مفرد في توحيد الفلاسفة وفي شرح الاصبهانية والصفدية وغير ذلك
ثم بنوا هذا على ان الواحد لا يكون فاعلا وقابلا لان ذلك يستلزم التركيب وان الواحد لا يصدر عنه الا واحد لان صدور اثنين يقتضى تعدد المصدر فمصدر ج غير مصدر ب وذلك يستلزم التركيب الممتنع
فمدار كلامهم في التوحيد والصفات كله على لفظ التركيب وقد بسطنا القول فيه وبينا ما في هذا اللفظ من اجمال فان التركيب خمسة انواع احدها تركب الذات من وجود وماهية والثاني تركيبها من وصف عام

ووصف خاص كالمركب من الجنس والفصل والثالث تركيب من ذات وصفات والرابع تركيب الجسم من المادة والصورة والخامس تركيبه من الجواهر المنفردة
وقد بينا أن ما يدعونه من التركيب من الوجود والماهية ومن الجنس والفصل باطل واما تركيب الجسم من هذا وهذا فاكثر العقلاء يقولون الجسم ليس مركبا لا من المادة والصورة ولا من الجواهر المنفردة لم يبق الا ذات لها صفات
وقد بينا ان المركب يقال على ما ركبه غيره وعلى ما كانت اجزاؤه متفرقة فاجتمعت وعلى ما يقبل مفارقة بعضه بعضا وهذه الانواع الثلاثة منتفية عن رب العالمين باتفاق المسلمين
وهم جعلوا ما يوصف بالصفات تركيبا وهذا اصطلاح لهم وحقيقة الامر تعود الى موصوف له صفات متعددة فتسمية المسمى هذا تركيبا اصطلاح لهم والنظر انما هو في المعاني العقلية واما الالفاظ فان وردت عن صاحب الشرع المعصوم كان لها حرمة والا لم يلتفت الى من اخذ يعبر عن المعاني الصحيحة المعلومة بالعقل والشرع بعبارة مجملة توهم معاني فاسدة وقيل لهم البحث في المعاني لا في الالفاظ كما بسط في موضعه

الوجه الثاني
ان المعين المطلوب علمه بالقضايا الكلية يعلم قبلها وبدونها
الوجه الثاني ان يقال اذا كان لا بد في كل قياس من قضية كلية فتلك القضية

الكلية لا بد ان تنتهي الى ان تعلم بغير قياس والا لزم الدور والتسلسل فاذا كان لا بد ان تكون لهم قضايا كلية معلومة بغير قياس فنقول
ليس في الموجودات ما تعلم الفطرة له قضية كلية بغير قياس الا وعلمها بالمفردات المعينة من تلك القضية الكلية اقوى من علمها بتلك القضية الكلية مثل قولنا الواحد نصف الاثنين والجسم لا يكون في مكانين والضدان لا يجتمعان فان العلم بأن هذا الواحد نصف هذين الاثنين اقدم في الفطرة من العلم بأن كل واحد نصف كل اثنين وهكذا كل ما يفرض من الاحاد
فيقال المقصود بهذه القضايا الكلية اما ان يكون العلم بالموجود الخارجي او العلم بالمقدرات الذهنية اما الثاني ففائدته قليلة واما الاول فما من موجود معين الا وحكمه بعلم تعينه اظهر واقوى من العلم به عن قياس كلى يتناوله فلا يحصل بالقياس كثير فائدة بل يكون ذلك تطويلا وانما يستعمل القياس في مثل ذلك لاجل الغالط والمعاند فيضرب له المثل وتذكر الكلية ردا لغلطه وعناده بخلاف من كان سليم الفطرة
وكذلك قولهم الضدان لا يجتمعان فأي شيئين علم تضادهما فانه يعلم انها لا يجتمعان قبل استحضار قضية كلية بأن كل ضدين لا يجتمعان وما من جسم معين الا يعلم انه لا يكون في مكانين قبل العلم بأن كل جسم لا يكون في مكانين وكذلك قولهم النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان فان مرادهم بذلك ان وجود الشيء وعدمه لا يجتمعان ولا يرتفعان فما من شيء معين الا ويعلم انه لا يكون موجودا معدوما وانه لا يخلو عن الوجود والعدم قبل العلم بهذه القضية العامة وامثال ذلك كثير لمن تدبره
ويعلم ان المعين المطلوب علمه بهذه القضايا الكلية الاولية يعلم قبل ان تعلم هذه القضية الكلية ويعلم بدونها ولا يحتاج العلم به الى القضية الكلية وانما يعلم بالقضية الكلية ما يقدر في الذهن من امثال ذلك مما لم يوجد في الخارج واما الموجودات

الخارجية فتعلم بدون هذا القياس

قياس الشمول مبناه على قياس التمثيل
واذا قيل ان من الناس من يعلم بعض الاعيان الخارجية بهذا القياس فيكون مبناه على قياس التمثيل الذي ينكرون انه يقيني فهم بين امرين ان اعترفوا بأن قياس التمثيل من جنس قياس الشمول ينقسم الى يقيني وظني بطل تفريقهم وان ادعوا الفرق بينهما وان قياس الشمول يكون يقينيا دون التمثيل منعوا ذلك وبين لهم ان اليقين لا يحصل في مثل هذه الامور الا ان يحصل ب التمثيل فيكون العلم بما لم يعلم من المفردات الموجودة في الخارج قياسا على ما علم منها وهذا حق لا ينازع فيه عاقل
بل هذا من اخص صفات العقل التي فارق بها الحس اذا الحس لا يعلم الا معينا والعقل يدركه كليا مطلقا لكن بواسطة التمثيل ثم العقل يدركها كلها مع عزوب الامثلة المعينة عنه لكن هي في الاصل انما صارت في ذهنه كلية عامة بعد تصوره لامثال معينة من افرادها واذا بعد عهد الذهن بالمفردات المعينة فقد يغلط كثيرا بأن يجعل الحكم اما اعم واما اخص وهذا يعرض للناس كثيرا
انواع المفروضات الذهنية
ومن هنا يغلط كثيرا ممن يسلك سبيلهم حيث يظن ان ما عنده من القضايا الكلية صحيح ويكون عند التحقيق ليس كذلك وهم يتصورون الشيء بعقولهم ويكون ما تصوروه معقولا بالعقل فيتكلمون عليه ويظنون انهم تكلموا في ماهية مجردة بنفسها من حيث هي هي من غير ان تكون ثابتة في الخارج ولا في الذهن فيقولون الانسان من حيث هو هو والوجود من حيث هو هو والسواد من حيث هو هو ونحو ذلك ويظنون ان هذه الماهية التي جردوها عن جميع القيود السلبية والثبوتية محققة في الخارج على هذا التجريد وذلك غلط كغلط اوليهم فيما جردوه

من العدد و المثل الافلاطونية وغيرها بل هذه المجردات المسلوب عنها كل قيد ثبوتي وسلبي لا تكون الا مقدرة في الذهن
واذا قال القائل فأنا افرض الانسان مجردا عن الوجودين الخارجي والذهني قيل له هذا الفرض في الذهن ايضا كما تفرض سائر الممتنعات في الذهن مثل ان يفرض موجودا لا واجبا ولا ممكنا ولا قائما بنفسه ولا بغيره ولا مبائنا لغيره ولا مجانبا له وهذا كله مفروض في الذهن وليس كل ما فرضه الذهن امكن وجوده في الخارج وليس كل ما حكم به الانسان على ما يقدره ويفرضه في ذهنه يكون حكما صحيحا على ما يوجد في الخارج ولا كل ما امكن تصور الذهن له يكون وجوده في الخارج
بل الذهن يتصور اشياء ويقدرها مع علمه بامتناعها ومع علمه بامكانها في الخارج ومع عدم علمه بالامتناع الخارجي والامكان الخارجي وهذا الذي يسمى الامكان الذهني فان الامكان يستعمل على وجهين امكان ذهني وامكان خارجي ف الامكان الذهني ان يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه بل يقول يمكن هذا لا لعلمه بامكانه بل لعدم علمه بامتناعه مع ان ذاك الشيء قد يكون ممتنعا في الخارج
واما الامكان الخارجي فأن يعلم امكان الشيء في الخارج وهذا يكون بأن يعلم وجوده في الخارج او وجود نظيره او وجود ما هو ابعد عن الوجود منه فاذا كان الابعد عن قبول الوجود موجودا ممكن الوجود فالاقرب الى الوجود منه اولى

طريقة القران في بيان امكان المعاد
وهذه طريقة القران في بيان امكان المعاد يبين ذلك بهذه الطريق
فتارة يخبر عمن اماتهم ثم احياهم كما اخبر عن قوم موسى بقوله واذ قلتم يموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فاخذتكم الصعقة وانتم تنظرون ثم بعثنكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون البقرة

وكما اخبر عن المضروب بالبقرة بقوله فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى البقرة وكما اخبر عن الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم احياهم البقرة
وكما اخبر عن الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال انى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما او بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر الى حمارك ولنجعلك اية للناس وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال اعلم ان الله على كل شيء قدير البقرة وعن ابراهيم اذ قال رب ارني كيف تحي الموتى قال اولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن ياتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم البقرة وكما اخبر عن المسيح عليه السلام انه كان يحيى الموتى باذن الله
وكما اخبر عن اصحاب الكهف انهم لبثوا نياما في كهغهم ثلث مائة سنين وازدادوا تسعا وقال تعالى وكذلك اعثرنا عليهم ليعلموا ان وعد الله حق وان الساعة لا ريب فيها اذ يتنازعون بينهم امرهم الكهف وقد ذكر غير واحد من العلماء ان الناس كانوا قد تنازعوا في زمانهم هل يبعث الله الارواح فقط او يبعث الارواح والاجساد فأعثر الله هؤلاء على اهل الكهف وعلموا انهم بقوا نياما لا يأكلون ولا يشربون ثلثمائة سنة شمسية وهي ثلثمائة وتسع هلالية فأعلمهم الله بذلك امكان اعادة الابدان

فهذه احدى الطرق التي يبين الله بها امكان المعاد
وتارة يستدل على ذلك بالنشأة الاولى وان الاعادة اهون من الابتداء كما في قوله يا يها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم الحج وكما في قوله وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي انشأها اول مرة وهو بكل خلق عليم ياسين وكما قوله وقالوا اذا كنا عظاما ورفاتا انا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة او حديدا او خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطر كم اول مرة الاسراء وكما في قوله تعالى وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو اهون عليه الروم
وتارة يستدل على امكان ذلك بخلق السموات والارض فان خلقها اعظم من اعادة الانسان كما في قوله وقالوا اذا كنا عظاما ورفاتا انا لمبعوثون خلقا جديدا او لم يروا ان الله الذي خلق السموات والارض قادر على ان يخلق مثلهم وجعل لهم اجلا لا ريب فيه الاسراء وكما في قوله تعالى او ليس الذي خلق السموات والارض بقدر على ان يخلق مثلهم بلى وهو الخلق العليم ياسين وقوله او لم يروا ان الله الذي خلق السموات والارض ولم يعى بخلقهن بقدر على ان يحي الموتى بلى انه على كل شيء قدير الاحقاف
وتارة يستدل على امكانه بخلق النبات كما في قوله وهو الذي يرسل الريح بشرا بين يدى رحمته حتى اذا أقلت سحابا ثقالا سقنه لبلد ميت

فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون الاعراف وكما في قوله والله الذي ارسل الريح فتثير سحابا فسقنه الى بلد ميت فاحيينا به الارض بعد موتها كذلك النشور فاطر
وقد بسطنا الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع وبين أن ما عند ائمة النظار اهل الكلام والفلسفة من الدلائل العقلية على المطالب الالهية فقد جاء القران بما فيها من الحق وما هو اكمل وابلغ منها على احسن وجه مع تنزهه عن الاغاليط الكبيرة الموجودة عند هؤلاء فأن خطأهم فيها كثير جدا ولعل ضلالهم اكثر من هداهم وجهلهم اكثر من علمهم
ولهذا قال أبو عبدالله الرازي في اخر عمره فىكتا به اقسام اللذات لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروى غليلا ورايت اقرب الطرق طريقة القران اقرأ في الاثبات الرحمن على العرش استوى إليه يصعد الكلم الطيب واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي

فساد اثبات الامكان الخارجي بمجرد عدم العلم والامتناع
والمقصود هنا ان الامكان الخارجي يعرف بالوجود لا بمجرد عدم العلم بالامتناع كما يقوله طائفة منهم الامدى اذا ارادوا واثبات امكان امر قالوا لو

قدرنا هذا لم يلزم منه ممتنع فأن هذه القضية الشرطية غير معلومة فان كونه لا يلزم منه محذور ليس معلوما بالبديهة ولا اقام عليه دليلا نظريا
وابعد من اثباته الامكان الخارجي بالامكان الذهني ما يسلكه طائفة من المتفلسفة والمتكلمة كابن سينا والرازي وغيرهما في اثبات الامكان الخارجي بمجرد امكان تصوره في الذهن كما ان ابن سينا واتباعه لما أداروا اثبات موجودفي الخارج معقول لا يكون محسوسا بحال استدلوا على ذلك بتصور الانسان الكلي المطلق المتناول للافراد الموجودة في الخارج وهذا انما يفيد امكان وجود هذه المعقولات في الذهن فإن الكلي لا يوجد كليا إلا في الذهن وهذا ليس مورود النزاع وإنما النزاع في امكان وجود مثل هذا المعقول في الخارج وليس كل ما تصوره الذهن يكون موجودا في الخارج كما يتصور الذهن فأن الذهن يتصور ما يمتنع وجوده في الخارج كما يتصور الجمع بين النقيضين والضدين
وقد تبعه الرازي على الاستدلال بهذا واستدل هو غيره على امكان ذلك بأن قال يمكن ان يقال الموجود اما ان يكون مجانبا لغيره و اما ان يكون مبائنا لغيره و اما ان لا يكون لا مجانبا لا مبائنا فظنوا انه بامكان هذا التقسيم العقلى يستدل على امكان وجود كل من الاقسام فى الخارج وهذا غلط فان هذا التقسيم كقو ل القائل الموجود اما ان يكون واجبا و اما ان يكون ممكنا وإما ان لا يكون واجبا ولا ممكنا وإما ان يكون قديما وإما ان يكون محدثا وإما ان لا يكون قديما ولا محدثا وإما ان يكون قائما بنفسه وإما ان يكون قائما بغيره وإما ان لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره وأمثال ذلك من التقسيمات التي يقدرها الذهن ومعلوم ان هذا لا يدل على إمكان وجود موجود لا واجب ولا ممكن ولا قديم ولا حادث ولا قائم بنفسه ولا بغيره وكذلك ما تقدم فأين طرق هؤلاء في إثبات الامكان الخارجي من طريقة القران

محاولتهم معارضة الفطر وتعاليم الرسل
ثم إنهم بمثل هذه الطرق الفاسدة يريدون خروج الناس عما فطروا عليه من المعارف اليقينية والبراهين العقلية وما جاءت به الرسل من الأخبار الالهية عن الله تعالى واليوم الاخر
وبينوا لرب العالمين من الوجود ما يستلزم الجمع بين النقيضين فيكذبوا بصريح المعقول وصحيح المنقول كقولهم لاهو مبائن للمخلوقات ولا مجانب لها ولا يشار إليه ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصفون بها رب العالمين مما لا يتضمن وصفه بصفة كمال بل يشاركه فيها الممتنعات والمعدومات وتستلزم كون الموصوف بها معدوما بل ممتنعا
ويريدون ان يجعلوا مثل هذه القضايا الكاذبة والخيالات الفاسدة اصولا عقلية يعارض بها ما ارسل الله به رسله وأنزل به كتبه من الايات وما فطر الله عليه عباده وما تقوم عليه الأدلة العقلية التي لا شبهة فيها
ولهذا كان أساطين الفلاسفة القدماء وكثير من المتأخرين منهم على خلاف قول هؤلاء النفاة وكانوا أقرب إلى موافقة الأنبياء وأتباع الأنبياء من هؤلاء النفاة من المتفلسفة والجهمية والمتكلمة كما قد بسطت اقوالهم في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على اصول سلموها أفسدوا بها العلوم العقلية والسمعية فإن مبنى العقل على صحة الفطرة وسلامتها ومبنى السمع على تصديق الأنبياء صلواة الله عليهم
كون تعليم الأنبياء جامعا للأدلة العقلية والسمعية جميعا
ثم الأنبياء ص كملوا للناس الأمرين فدلوهم على الأدلة العقلية التي بها تعلم المطالب الالهية التي يمكنهم علمهم بها بالنظر والاستدلال وأخبروهم مع ذلك من تفاصيل الغيب بما يعجزون عن معرفته بمجرد نظرهم واستدلالهم

وليس تعليم الأنبياء ص مقصورا على مجرد الخبر كما يظنه كثير من النظار بل هم بينوا من البراهين العقلية التي بها يعلم العلوم الالهية ما لا يوجد عند هؤلاء البتة فتعليمهم ص جامع للادلة العقلية والسمعية جميعا بخلاف الذين خالفوهم فان تعليمهم غير مفيد للادلة العقلية والسمعية مع ما في نفوسهم من الكبر الذي ما هم ببالغيه كما قال تعالى ان الذين يجادلون في ايت الله بغير سلطن اتهم ان في صدورهم الا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله انه هو السميع البصير المؤمن وقال الذين يجادلون في ايت الله بغير سلطن اتهم كبر مقتا عند الله وعند الذين امنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار المؤمن وقال تعالى فلما جاءتهم رسلهم بالبينت فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون المؤمن ومثل هذا كثير في القران وقد بسطنا القول فيه في بيان درء تعارض الشرع والعقل
ولهذا لما كانوا يتصورون في اذهانهم ما يظنون وجوده في الخارج جعلوا علومهم ثلاثة انواع ادناها عندهم الطبيعي وهو ما لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو الكلام في الجسم واحكامه واقسامه واوسطها الرياضي وهو ما بتجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج مثل الحساب والهندسة فانه

لا يوجد في الخارج ذو مقدار إلا جسما ولكن يجرد المقدار في النفس واعلاها عندهم ما يسمونه علم ما بعد الطبيعة باعتبار الوجود العيني وقد يسمونه العلم الالهي ويسمونه الفلسفة الأولى والحكمة العليا وهو ما تجرد عن المادة في الذهن والخارج
وإذا تأمل الخبير بالحقائق كلامهم في هذه الأنواع لم يجد عندهم علما بمعلومات موجودة في الخارج إلا القسم الذي يسمونه الطبيعي وما يتبعه من الرياضي وأما الرياضي المجرد في الذهن فهو الحكم بمقادير ذهنية لا وجود لها في الخارج والذي سموه علم ما بعد الطبيعة وهو ما جردوه عن المادة في الذهن والخارج إذا تدبر لم يوجد فيه علم بمعلوم موجود في الخارج وإنما تصوروا أمورا مقدرة في أذهانهم لا حقيقة لها في الخارج ولهذا كان منتهى نظرهم وآخر فلسفتهم وحكمتهم هو الوجود المطلق الكلى او المشروط بسلب جميع الامور الوجودية
فموضوع العلم الالهى الناظر في الوجود ولواحقه هو الوجود الكلى المنقسم الى جوهر وعرض وعلة ومعلول وقديم وحادث وهذا لا وجود له في الخارج وإنما يوجد في الذهن وهو العلم الاعلى عندهم فهذا العلم الاعلى مقدر في الذهن والعلى الاعلى الموجود في الخارج هو الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل قوله سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي اخرج المرعى فجعله غثاءا احوى الاعلى
وأما واجب الوجود الذي يثبتونه فاما ان يجعلوه وجودا مجردا عن كل قيد ثبوتي وعدمى وإما أن يقولوا بل هو مقيد بالامور السلبية دون الثبوتية كقول ابن سينا وأمثاله وهذا إنما يوجد في الذهن لا في الخارج فانه يمتنع ثبوث موجود خارجي لا يوصف بشئ من الامور الثبوتية أو لا من الثبوتية ولا السلبية بل أي موجود حقير فرضته كان خيرا من هذا الذي لا يوصف بشئ ثبوتي فانه قد شارك ذلك الموجود الحقير في مسمى الوجود ولم يمتز عنه إلا بوصف عدمى

وذلك الموجود الحقير امتاز عنه بأمر وجودى الوجود خير من العدم فكان ما امتاز به ذلك الموجود الحقير خيرا مما ميزوا به واجب الوجود يزعمهم وقد بسط هذا في موضع آخر وبين أن ما يثبتونه ويجعلونه واجب الوجود هو ممتنع الوجود ولكن يفرض في الذهن كما يفرض سائر الممتنعات
والمقصود هنا أنهم كثيرا ما يدعون في المطالب البرهانية من الامور العقلية ما يكونوا قد قدروه في أذهانهم ويقولن نحن نتكم في الامور الكلية والعقليات المحضة وإذا ذكر لهم شئ قالوا نتكلم فيما هو أعم من ذلك وفي الحقيقة من حيث هى هى ونحو هذه العبارات فيطالبون بتحقيق ما ذكروه في الخارج ويقال يبنوا هذا أي شئ هو فهنالك يظهر بجهلهم وأن ما يقولونه هو امر مقدر في الاذهان لا حقيقة له في الاعيان وهذا مثل ان يقال لهم اذكروا مثال ذلك والمثال امر جزئي فاذا عجزوا عن التمثيل وقالوا نحن نتكم في الامور الكلية فاعلم انهم يتكلمون بلا علم وفيما لا يعلمون ان له معلوما في الخارج بل فيما ليس له معلوم في الخارج وفيما قد يمتنع ان يكون له معلوم في الخارج وإلا فالعلم بالامور الموجودة إذا كان كليا كان له معلومات ثابتة في الخارج
ولفظ الكلى يريدون به ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ثم قد يكون ممتنعا في الخارج كشريك الباري وقد يكون معدوما وإنما يقدره الذهن كما يقدر عنز ايل وهذا تمثيل أرسطو
وقد يكون موجودا في الخارج لكن لا يقبل الشركة وقد يمكن وقوع الشركة فيه ولم تقع وهم يمثلون هذا باسم الاله والشمس ويجعلون مسمى هذا كليا لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإنما امتنعت الشركة فيه لسبب خارجي فانحصر نوعه في شخصه لا لمجرد تصور معناه وهذا مشهور بينهم
وإنما يصح هذا إذا كان لفظ الاله ولفظ الشمس اسم جنس بحيث لا يقصد به الشمس المعينة ولا الاله المعين المعروف فان الكلى عندهم مثل

اسم جنس في اصطلاح النحاة وهو ما علق على الشئ وعلى كل ما اشبهه والناس لا يقصدون بلفظ الشمس إلا الشمس المعينة واللام فيها لتعريف العهد لا للجنس كما قال تعالى وهو الذي خلق اليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون الانبياء فمسمى الشمس والقمر هنا جزئي لا كلى بخلاف لفظ الكوكب والنجم ونحو ذلك فانه كلى وكذلك اسم الاله عند المسلمين إنما يريدون به إلههم وهو الله لا إله إلا هو
وعلى هذا فليس هذا ولا هذا كليا مشتركا بل نفس تصور معناه يمنع من وقوع الشركة فيه فهو معين مختص وهو الذي يسمونه الجزئي ليس مطلقا مشتركا وهو الذي يسمونه الكلى
وكان الخسر وشاهى من أعيانهم وأعيان اصحاب الرازي وكان يقول ما عثرنا إلا على هذه الكليات وكان قد وقع في حيرة وشك حتى كان يقول والله ما أدرى ما أعتقد والله ما أدرى ما أعتقد والله ما أدري ما اعتقد

الاستدلال بالكيات على أفرادها استدلال بالخفي على الجلي
والمقصود أن الذي يدعونه من الكليات هو إذا كان علما فهو مما يعرف ب قياس التمثيل لا يقف على القياس المنطقى الشمولي أصلا بل ما يدعون توقفه على هذا القياس تعلم أفراده التي يستدل عليها بدون هذا القياس وذلك أيسر وأسهل فيكون الاستدلال عليها بالقياس الذي يسمونه البرهاني استدلالا على الاجلى بالاخفى
وإذا قيل فالبرهان يفيد قضية كلية قيل اما البرهان الذي يستحق اسم البرهان عندهم وهو ما كان مؤلفا من المقدمات اليقينية المحضة الواجب قبولها التي يمتنع

نقيضها فانها بهذه المنزلة واما ما لا يكون كذلك بل يكون مؤلفا من القضايا التجريبة العادية كالقضايا الطبيعية والطبية والنحوية ونحو ذلك فهذه كثيرا ما تكون منتقضة ولا يجزم العقل بامتناع انتقاضها إلا بشروط فان العاديات يجوز انتقاضها والقضية الكلية إذا جاز انتقاضها لم يكن عندهم مادة للبرهان بل للجدل والخطابة
فان قيل وأنتم تجزمون بمراد المتكلم بكلامه في غالب المواضع كما تجزمون بمراد الرسول ومراد علماء الشرع والطب والنحو والعلم باللغات مبناه على القضايا العادية قيل الجزم بمراد الشخص المعين ليس هو قضية كلية بل هو علم بمراد شخص معين وهذا وإن كان علمنا بلغته وعادته هو مما يعين على العلم بمراده فلا بد مع ذلك من علم يختص به يعرف أنه إنما تكلمه بتلك العادة ليفهمنا مراده وحينئذ فليس هذا مما نحن فيه ولهذا لا نستدل على هذا بمجرد ما ذكروه من برهانهم
وهم يعيبون في صناعة الحد أن يعرف الجلى بالخفي وهذا في صناعة البرهان اشد عيبا فان البرهان لا يراد به إلا به إلا بيان المدلول عليه وتعريفه وكشفه وإيضاحه فاذا كان هو أوضح وأظهر كان هذا بيانا للجلى بالخفي وأما الحد فالصواب أن المراد به التمييز بينه وبين المحدود لا تعريف الماهية وإذا كان مطلوبه هو التمييز فقد يكون المميز اخفى وقد يكون أجلى

المقدمات الخفية قد تنفع بعض الناس وفي المناظرة
ومع هذا فلما كان الجلاء والخفاء من الامور النسبية فقد ينتفع بالدليل الخفي والحد الخفي بعض الناس وكثير من الناس إذا ذكر له الواضح لم يعبا به وقد لا يسلمه حتى يذكر له دليل مستلزم ثبوته فانه يسلمه وكذلك إذا ذكر له حد يميزه وهذا في الغالب يكون من معاند أو ممن تعودت نفسه انها لا تعلم إلا ما تعنت عليه وفكرت فيه وانتقلت فيه من مقدمة الى مقدمة فان العادة طبيعة ثانية فكثير ممن تعود البحث والنظر صارت عادة نفسه كالطبيعة له لا يعرف ولا يقبل ولا يسلم

إلا ما حصل له بعد بحث ونظر بل وجدل ومنع ومعارضة فحينئذ يعرف به ويقبله ويسلمه وإن كان عند اكثر الناس من الامور الواضحة البينة لا تحتاج الى بحث ونظر فالطريق الطويلة والمقدمات الخفية التي يذكرها كثير من النظار تنفع لمثل هؤلاء في النظر وتنفع في المناظرة لقطع المعاند وتبكيت الجاحد
فان السفسطة امر يعرض لكثير من النفوس وهي جحد الحق وهي لفظه معربة من اليونانية أصلها سوفسطيا أي حكمه مموهة فلما عربت قيل سفسطة
وأما ما يذكره طائفة من أهل الكلام وناقلي المقالات أن في الناس رجل يقال له سوفسطا وانه وأصحابه ينكرون جميع الحقائق والعلوم فهذا باطل لا حقيقة له ولا يتصور ان يعيش احد من بني آدم بل ولا من البهائم مع جحد جميع الحقائق والشعور بها فان الانسان مدنى بالطبع فلا بد ان يعرف بعض الناس بعضا ويعرف الانسان جوعه وشبعه وعطشه وريه ولذته وألمه ويميز بين ما يأكله وما لا يأكله وما يلبسه وما لا يلبسه وبين مسكنه ومسكن جاره وبين الليل والنهار وغير ذلك من الامور التي هي ضرورية في الحياة
وكذلك ما يذكرونه ان في السمنية قوم ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات حتى ينكروا المتواترات غلط على القوم فانهم انكروا وجود ما لا يمكن الاحساس به لم ينكروا وجود ما لا يحسونه مم به وقد ذكر الامام احمد مناظرتهم للجهم بن صفوان وهي تقتضى ذلك وإلا فهؤلاء من عقلاء

الهند وحكمائهم وإن كانوا مشركين يعبدون الاصنام فلا يتصور ان احدهم ينكر ما كان قبل مولده فلا ينكر وجود البلاد والانهار والجبال والدور التي لم يرها ولا ينكر وجود كل إنسان أو بهمة لم يرها فان هذا ليس عليه أحد من بنى آدم بل بنو آدم كلهم متفقون على ان ما شاهدوه علموه بالمشاهدة وما غاب عنهم علموه بالاخبار فلا يتصور ان كل طائفة من الطوائف تتفق على حجد جنس الاخبار
ولكن قد تعرض السفسطة لبعض الطوائف ولبعض الاشخاص في بعض المعارف فان أمراض القلوب كأمراض الاجسام فكما أنها ليس في الوجود أمة ولا شخص يمرض بكل مرض فليس فيهم من هو جاهل بكل شئ وفاسد الاعتقاد في كل شئ وفاسد القصد في كل شئ بل قد يوجد فيهم من هو مريض ببعض الامراض بل قد يوجد بعض الطوائف يكثر فيهم بعض الامراض وهؤلاء المرضى لا ينتفعون بالاغذية الفطرية بل يحتاجون الى علاج وادوية تناسب مزاجهم
وكذلك من كان به سفسطة ومرضت فطرته في بعض المعارف لا يستعمل معه الادلة النظرية بل يستعمل معه نوع من العلاج والادوية فقد تكون الحدود والادلة التي تحوجه الى النظر والفكر إذا تصورها مقدمة مما يزيل

سفسطته وتحوجه الى الاعتراف بالحق وهذا بمنزلة من يغلط في الحساب والحساب لا يحتمل وجهين وقد يكون غلطه ظاهرا وهو لا يعرفه أو لا يعترف به فيسلك معه طريق طويل يعرف بها الحق ويقال له أخذت كذا وأخذت كذا فصار كذا وأخذت كذا واخذت كذا فصار كذا
وكذلك للمناظر قد تضرب له الامثال فان المثال يكشف الحال حتى في المعلومات بالحس والبديهة وقد تستسلف معه المقدمات وإلا فقد يجحد إذا عرف أنه يلزمه الاعتراف بما ينكره وهي طريقة المتقدمين من نظار المسلمين وقدماء اليونان في المناظرة يكون المستدل هو السائل لا المعترض فيستسلف المقدمات ويقول ما تقول في كذا وفي كذا أو يقول ليبين كذا وكذا مقدمة مقدمة فاذا اعترف بتلك المقدمات بين ما تستلزمه من النتائج المطلوبه
فيجب الفرق بين ما يقف معرفة الحق عليه ويحتاج اليه وبين ما يعرف الحق بدونه ولكن قد يزال به بعض الامراض ويقطع به بعض المعاندين والله سبحانه اعلم
وكثير من النظار يسلك في معرفة المطلوب طريقا يقولون لا طريق إلا هو وكذلك في الحدود وقد تكون تلك الطريق فاسدة وقد تكون صحيحة ولكن للناس طرق اخرى كما قد يقوله كثير منهم في معرفة الصانع أو معرفة صدق رسوله إنه لا طريق إليها إلا هذه الطريق ويكون للناس طرق خير منها

كتاب الآراء والديانات للنوبختي
وكنت قد علقت الكلام على أهل المنطق في مجلس واحد بسرعة لسبب اقتضى ذلك ثم بعد مدة نظرت في كتاب الآراء والديانات لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختى فرأيته قد ذكر نحو هذا المعنى عمن تقدم من متكلمى المسلمين فانه

ذكر كلام أرسطوا مختصرا

اختلاف الفلاسفة فيما بينهم
وأرسطو هو المعلم الاول لاصحاب هذه التعاليم الذي يسمون المشائين وهم اصحاب هذا المنطق اليوناني الذي وضعه ارسطو وما يتبعه من الطبيعي والالهي فان الفلاسفة ليسوا امة واحدة لها مقالة في العلم الالهي والطبيعي وغيرهما بل هم أصناف متفرقون وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله اعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى اضعافا للضاعفة
كلما كان القوم عن اتباع الرسل أبعد كان اختلافهم اكثر
فان القوم كلما بعدوا عن اتباع الرسل والكتب المنزلة كان أعظم في تفرقهم واختلافهم فانهم يكونوا أضل كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابي امامة عن النبي ص - انه قال ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ قوله ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون الزخرف إذ لا يحكم بين الناس فيما تنازعوا فيه إلا كتاب منزل ونبي مرسل كما قال تعالى كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينت بغيا بينهم فهدى الله الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه والله يهدى من يشاء الى صراط مستقيم البقرة

ولهذا قال تعالى يايها الذن امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولى الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تاويلا النساء وقد أنزل مع رسله الكتاب والميزان كما قال تعالى لقد ارسلنا رسلنا بالبينت وانزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه باس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ان الله قوى عزيز الحديد وقال الله الذي انزل الكتب بالحق والميزان
والميزان قال كثير من المفسرين هو العدل وقال بعضهم هو ما به توزن الامور وهو ما به يعرف العدل وكذلك قالوا في قوله والسماء رفعها ووضع الميزان الرحمن الامثال المضروبة والاقيسة العقلية التي تجمع بين المتماثلات وتفرق بين المختلفات وإذا أطلق لفظ الكتاب كما في قوله وانزلنا معهم الكتب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه البقرة دخل فيه الميزان لان الله تعالى بين في كتابه من الامثال المضروبة والمقاييس العقلية ما يعرف به الحق والباطل
وهذا كلفظ الحكمة تارة يقرن ب الكتاب كما في قوله وانزل الله عليك الكتب والحكمة النساء وتارة يفرد الكتاب كقوله الحمد لله الذي انزل على عبده الكتب الكهف وإذا افرد دخلت الحكم في معناه وكذلك في لفظ القرآن والايمان قال تعالى وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدرى ما الكتب ولا الايمان ولكن جعلنه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي الى صراط مستقيم

الشورى وإذا أفرد لفظ القرآن فهو يدل على الايمان كما الايمان يدل على القرآن فهما متلازمان وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا وقد امر الله بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف فقال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ال عمران وقال تعالى ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ الانعام وقال ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينت ال عمران وقد اخبر ان اهل الرحمة لا يختلفون فقال تعالى ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك هود
ولهذا يوجد اتبع الناس للرسول اقلهم اختلافا كأهل الحديث والسنة فانهم اقل اختلافا من جميع الطوائف ثم من كان إليهم اقرب من جميع الطوائف المنتسبة الى السنة كانوا أقل أختلافا فأما من بعد من السنة كالمعتزلة والرافضة فتجدهم اكثر الطوائف اختلافا

كثرة اختلاف الفلاسفة
وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره احد وقد ذكر ابو الحسن الاشعري في كتاب المقالات مقالات غير الاسلاميين عنهم من المقالات ما لم يذكره الفارابي وابن سينا وامثالهما وكذلك القاضي ابو بكر بن الطيب في كتاب الدقائق الذي رد فيه على الفلاسفة والمنجدمين ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة ذكروا انواعا من المقالات وردوها

أقسام الكتاب
1 2 3 4