كتاب :الرد على المنطقيين
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

يقرروا ذلك قالوا التجربة والقياس مطابقان على ان للنفس الانسانية أن تنال من الغيب نيلا ما وقرروا ذلك بأن معرفة المغيبات في النوم ممكنة فوجب ان يكون ايضا في اليقظة ممكنا والمقدمة الاولى معلومة بالتجربة والتواتر وأما الثانية فهو انه لما صح ذلك في النوم لم يمكن القطع باستحالته في اليقظة بل لو قدرنا ان الناس ما جربوا وقوع ذلك في النوم لكان استبعادهم بحصول هذا حال النوم اشد من استبعادهم لحصوله حال اليقظة فانه لو قيل لواحد ان جمعا من الاذكياء مع كمال عقولهم وسلامة حواسهم وذكاء قرائحهم وقوة افكارهم وانظارهم احتالوا بكل حيلة لتحصيل معرفة بعض المغيبات فعجزوا ثم إن واحدا منهم لما صار كالميت وبطلت حركته وإدراكه عرف ذلك المغيب لقيل بأن ذلك محال ولاحتجوا عليه بأنه لما عجز عنه القوى الكامل فالضعيف الناقص أولى بالعجز عنه ولكن وقوع هذا المعنى مرارا كثيرة حال النوم مما ازال الاستبعاد والعناد فثبت ان حصول معرفة المغيبات لما كان ممكنا حال النوم فبأن يكون ممكنا حال اليقظة اولى قالوا ونحن لا نستدل بصحة إحدى الحالين على القطع بالحال الاخرى ولكن على دفع استبعاد المنكر وحصول الرأى الاخلق الاولى
قلت فهذه المقدمة التي بنوا عليها معرفة الغيب للانبياء وغيرهم ومعلوم أن النائم تتجرد نفسه عن بدنه نوع تجرد فان النوم أخو الموت وقد كان النبي ص - يقول إذا أوى الى فراشه اللهم أنت خلقت نفسي وانت تتوفاها لك مماتها ومحياها إن امسكتها فارحمها وإن ارسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ويقول ايضا باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك ارفعه إن امسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن ارسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين

وكان ذا استيقظ يقول الحمد لله الذي احيانا بعد ما اماتنا واليه النشور وقد قال الله نعالى الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى الى اجل مسمى إن في ذلك لايت لقوم يتفكرون الزمر فأخبر سبحانه أنه يتوفى الانفس حين النوم وحين الموت وأن ما يتوفاه حين النوم منه ما يقضى عليه الموت في نومه ومنه ما يرسله وبسبب تجردها عن البدن يحصل لها من العلم ما يلقيه الله اليها إما بواسطة الملك الذي يريها ويحدثها من الرؤيا وإما بغير ذلك
قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا او من ورآء حجاب او يرسل رسولا فيوحى باذنه ما يشاء إنه على حكيم الشورى قال عبادة ابن الصامت رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام وقد ثبت في الصحيح عن النبي ص - انه قال لم يبق بعدى من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له وقال الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وفي الصحيحن عن عائشة

قالت أول ما بدى به رسول الله ص - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد وقد قال تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته الانعام فلا ريب ان ما يجعله الله في النفوس وغيرها يجعله بعد إعدادها لذلك وتسويتها لما يلقى فيها فهذا ونحوه حق يقول به السلف وجمهور المسلمين وإنما ينكر ذلك من ينكر الحكم والاسباب من اهل الكلام
والنبي ص - بدى اولا بالرؤيا الصادقة فانه رؤيا الانبياء وحي معصوم كما قال ابن عباس وعبيد بن عمير وغيرهما رؤيا الانبياء وحى وقرأ قول ابراهيم عليه السلام إنى أرى في المنام أنى اذبحك الصافات ثم إن النبي ص - نقل من درجة الى درجة ثم بعد هذا جاءه الملك فخاطبه بالكلام فأحيانا يأتيه في الباطن فيكلمه وأحيانا يتمثل له في صورة رجل فيكلمه ثم عرج به الى ربه ليلة الاسراء
فما ادعوه من أن الرؤيا قد يحصل بها معرفة المغيبات حق وهذا يحتج به على من ينكر هذا الجنس مطلقا ولكن لا تجعل النبوة كلها من هذا الجنس فمن الباطل ما ادعوه في النبوة وفي كيفيتها حيث زعموا أنه ليس هناك ملك حى يأتى بالوحى من الله ولا لله كلام يتكلم به يسمعه الملك فينزل به ولا يعرف الله جزئيات الامور حتى يكتبها عنده أو حتى يخبر بها الملك والملك يخبر بها النبي او يخبر بها النبي ابتداء
وزعموا انه ليس لله ما يدبر به امر السموات والارض إلا مجرد حركة الفلك وأثبتوا نبوة حال كثير من احوال اوساط المسلمين خير منها فان كثيرا من اوساط المسلمين له من العلم والعمل أعظم مما أثبته هؤلاء للانبياء فانهم جعلوا خواص النبوة نوعين القوة العلمية التي ينال بها العلم إما بواسطة القياس المنطقي وإما بواسطة

التجرد الذي هو كتجرد النائم حتى تتصل بالنفس الفلكية والثاني القوة العملية وهو ان تكون نفسه قوية على التصرف في هيولى العالم بحيث تحدث عنه عجائب والنوع الاول يتضمن أمرين أحدهما معرفة العلوم الكلية بالقياس المنطقي والثاني معرفة الجزئيات بهذا الاتصال ثم الخيال يصور المعقولات في الصور المناسبة لها وينقشها في الحس المشترك فيرى الانسان في باطنه صورا ويسمع اصواتا وتلك الصور عندهم ملائكة الله وتلك الاصوات كلام الله
ولهذا كان الملاحدة من المتصوفة على طريقهم كابن عربي وابن سبعين وغيرهما قد سلكوا مسلك ملاحد الشيعة كأصحاب رسائل إخوان الصفا واتبعوا ما وجدوه من كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير اهلها وغير ذلك مما يناسب ذلك فصار بعضهم يرى ان باب النبوة مفتوح لا يمكن إغلاقه فيقول كما كان ابن سبعين يقول لقد زرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدى او يرى لكونه اشد تعظيما للشريعة أن باب النبوة قد اغلق فيدعى ان الولاية أعظم من النبوة وأن خاتم الاولياء اعلم بالله من خاتم الانبياء وأن خاتم الانبياء بل وجميع الانبياء إنما يستفيدون معرفة الله من مشكوة خاتم الاولياء ويقول إنه يوافق النبي في معرفة الشريعة العملية لانه يرى الامر على ما هو عليه فلا بد ان يراه هكذا وإنه أعلم من النبي بالحقائق العلمية لانه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به الى الرسول

وهذا بناء على اصول هؤلاء الفلاسفة الكفار الذين هم اكفر من اليهود والنصارى الذين سلك هؤلاء سبيلهم ولكن غيروا عباراتهم فأخذوا عبارات المسلمين الموجودة في كلام الله ورسوله وسلف الامة وعلمائها وعبادها ومن دخل في هؤلاء من الصوفية المتبعين للكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وابي سليمان الداراني ومعروف الكرخى والسري السقطي والجنيد وسهل بن عبدالله وغيرهم اخذوا معانى اولئك الملاحدة فعبروا عنها بالعبارات الموجودة في كلام من هو معظم عند المسلمين فيظن من سمع ذلك ان اولئك المعظمين إنما عنوا بهذه العبارات الموجودة في كلامهم ما أراده هؤلاء الملحدون كما فعلت ملاحدة الشيعة الاسماعيلية ونحوهم
فحمد عندهم يأخذ من الملك الذي هو عندهم خيال في نفسه وذلك الخيال يأخذ عن العقل فمحمد عندهم يأخذ عن جبريل وهذا الخيال هو جبريل وجبريل يأخذ عن ما علمه من النفس الفلكية فزعم ابن عربي انه يأخذ من العقل وهو المعدن الذي يأخذ منه جبريل فان ابن عربي وهؤلاء يعظمون طريق الكشف

والمشاهدة والرياضة والعبادة ويذمون طريق النظر والقياس وما يدعونه من الكشف والمشاهدة عامتة خيالات في انفسهم ويسمونها حقيقة ولهذا يقول باب ارض الحقيقة وهى ارض الخيال وقد ادعى ان الفتوحات الملكية القاها اليه روح بمكة وإذا كان صادقا فقد القاها اليه شيطان من الشياطين كما كان مسيلمة الكذاب يلقى اليه شيطان وكذلك الاسود العنسى وكذلك غيرهما من المتنبئين الكذابين
وكذلك الذين يدعون الولاية بدون متابعة الرسول تنزل عليهم الشياطين وتخبرهم بأشياء وتأمرهم باشياء وربما أحضرت لهم طعاما ونفقة وغيرذلك وربما حملت أحدهم في الهواء الى مكان ونحو ذلك فهم في الاولياء من جنس مسيلمة الكذاب وأمثاله في الانبياء ولهم أحوال شيطانية يظنونها من كرامات اولياء الله وأنما هى من احوال اعداء الله وهؤلاء من جنس كهان العرب الذين كان يكون لاحدهم رئي من الجن من جنس شيوخ العباد الذين للمشركين من الهند والترك والحبشة وغيرهم الكفار أو من جنس شيوخ النصارى فان هؤلاء شيوخ المشركين وأهل الكتاب لهم شياطين تقترن بهم وكذلك للداخل في المشيخة والدين والزهد والعبادة مع الخروج عن الكتاب والسنة ممن يدعى الاسلام ثم إن كانوا كفارا منافقين فجنهم من جنسهم وإن كانوا فساقا فجنهم من جنسهم وإن كانوا أهل جهل وبدعة بلا علم كان جهنم من جنسهم

كون الملائكة احياء ناطقين لا صورا خالية
الوجه العاشر إنه من المتواتر عن الانبياء صلوات الله عليهم أن الملائكة

احياء ناطقون يأتونهم عن الله بما يخبر به ويامر به تارة وينصرونهم ويقاتلون معهم تارة وكانت الملائكة احيانا تأتيهم في صورة البشر والحاضرون يرونهم وقد اخبر الله عن الملائكة في كتاب بأخبار متنوعة وذلك يناقض ما يزعمونه من ان الملك انما هوالصورة الخيالية التي ترتسم في الحس المشترك او انها العقول والنفوس

الاخبار المتواترة بمجئ الملائكة في صورة البشر
قال الله تعالى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالافق الاعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى فاوحى الى عبده ما اوحى ما كذب الفواد ما رأى أفتمرونه على ما يرى ولقد رآه نزله اخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من أيت ربه الكبرى النجم
وفي الصحيحين عن مسروق قال كنت متكئا عند عائشة رضى الله عنها فقالت يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد اعظم على الله الفريه قلت ماهن قالت من زعم ان محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفقرية ومن زعم انه يعلم ما في غد فقد اعظم على الله الفرية ومن أعظم انه كتم شيئا مما اوحى اليه فقد أعظم على الله الفرية قال وكنت متكئا فجلست فقلت يا أم المؤمنين انظري ولا تعجلينى الم يقل الله تعالى ولقد رآه بالافق المبين التكوير ولقد رآه نزله اخرى النجم فقالت أنا أول هذه الامة سأل عن ذلك رسول الله ص - فقال إنما هو جبريل لم اره على صورته التي خلق عليها هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والارض وفي لفظ فقلت فأين قوله عزوجل ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى الى عبده ما اوحى النجم

قالت إنما ذاك جبريل عليه السلام كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء
وفي الصحيحين ايضا عن الشيباني قال سألت زر بن حبيش عن قول الله فكان قاب قوسين او ادنى قال اخبرني ابن مسعود ان النبي ص - راى جبريل له ستمائة جناح وعن ابن مسعود ايضا قال ما كذب الفؤاد ما راى قال راى جبريل له ستمائة جناح وعنه ايضا لقد راى من ايات ربه الكبرى قال راى جبريل في صورته له ستمائة جناح وقال البخاري في بعض طرقه راى رفرفا اخضر قد سد الافق وعن عبد الله قال لقد راى من ايات ربه الكبرى قال راى رفرفا اخضر قد سد الافق وفي صحيح مسلم عن ابي هريرة ولقد رآه نزلة اخرى قال راى جبريل
وقد قال سبحانه انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين وما صاحبكم بمجنون ولقد راه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم التكوير فبين ان الرسول الذي جاء به الى محمد رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين وهذه صفة لا تنطبق على ما في النفس من الخيال ولا على العقل الفعال فانه اخبر انه مطاع والمطاع فوق السموات ليس هذا ولا هذا وكذلك قوله نزول به الروح الامين على قلبك وقوله من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكل فان الله عدو للكفرين البقرة وقال تعالى واذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما

ينزل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق النحل
وفي الصحيحين عن عائشة ان الحرث بن هشام سأل رسول الله ص - كيف يأتيك الوحي قال احيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو اشده على فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال واحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعى ما يقول قالت عائشة ولقد رايته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا
وفي الصحيحين عن عائشة قالت كان اول ما بدى به رسول الله ص - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب اليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل ان ينزع الى اهله ويتزود لذلك ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجئة الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرا قال ما انا بقارىء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني فقال اقرا قلت ما انا بقارىء فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني فقال اقرا قلت ما انا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني فقال اقرا باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرا وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم العلق وذكر الحديث بطوله وذكر فترة الوحي قال جابر في حديثه عن النبي ص - في فترة الوحي قال بينا انا امشي اذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والارض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني

زملوني فأنزل الله يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر المدثر فحمى الوحي وتتابع
وقد ثبت في الصحاح عن النبي ص - من حديث ابي هريرة وهو في الصحيحين ومن حديث عمر وهو في مسلم ومن حديث غيرهما انه جاءه اعرابي شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه منا احد فسأله عن الاسلام والايمان والاحسان فقال النبي ص - الاسلام ان تشهد ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله وتقيم الصلوة وتؤتي الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت قال صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال وسأله عن الايمان فقال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت وقال في الاحسان ان تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك وسأله عن الساعة فقال ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأله عن اشراطها فقال ما ذكروه فلما ادبر قال على بالرجل فطلب فلم يوجد فقال هذا جبريل جاءكم يعلمكم امر دينكم
وقد استفاض انه كان يأتيه في صورة دحية الكلبي وكان من اجمل الناس صورة وقد اخبر الله في القران ان الملائكة اتوا الى ابراهيم ثم لوطا في صورة رجال فقال تعالى هل اتك حديث ضيف ابراهيم المكرمين اذ دخلوا عليه فقالوا سلما قال سلم قوم منكرون فراغ الى اهله فجاء بعجل سمين فقربه اليهم

قال الا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلم عليم فاقبلت امراته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم ايها المرسلون قالوا انا ارسلنا الى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم الذاريات فأخبر انهم دخلوا على ابراهيم وسلموا عليه فرد عليهم وانكرهم لما راى من صورهم العجيبة واتاهم بالعجل السمين ضيافة لهم فلما راهم لا يأكلون او جس منهم خيفة فقالوا له لا تخف واخبروه انهم رسل الله وبشروه بالغلام العليم اسحاق بعد كبره وكبر امراته وذلك من خوارق العادات وقالوا انا ارسلنا الى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين والملائكة ارسلوا الحجارة من السماء على قرى قوم لوط وقد ذكر الله قصتهم في مواضع من القران في سورة هود والحجر والعنكبوت وفي كل موضع يذكر نوعا مما جرى
واخبر الله تعالى أنه ارسل الى مريم العذراء البتول ملكا في صورة بشر فقال تعالى واذكر في الكتب مريم اذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونه حجابا فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت اني اعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا قال انما انا رسول ربك لاهب لك غلما زكيا قالت اني يكون لي غلم ولم يمسسني بشر ولم اك بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان امرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجآءها المخاض الى جذع النخلة قالت يليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي اليك بجذع النخلة تسقط عليك رطبا جنيا فكلى واشربي وقرى عينا فاما ترين من البشر احدا فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم

اليوم انسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يمريم لقد جئت شيئا فريا يأخت هرون ما كان ابوك امرا سوء وما كانت امك بغيا فأشارت اليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال اني عبد الله آتني الكتب وجعلني نبيا وجعلني مباركا اين ما كنت واوصني بالصلوة والزكوة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلم على يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حيا ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله ان يتخذ من ولد سبحنه اذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون وان الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم مريم وقد ذكر الله النفخ في فرجها من هذا الروح في موضعين اخرين من القران
فهذه الاخبار المتواترة من مجيء الملائكة في صورة البشر

اخبار نزول الملائكة لنصر الانبياء وتأييدهم
واما نزولهم لنصر الانبياء وتأييدهم فقد ذكره الله في غير موضع من كتابه في قصة بدر اذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم اني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله الا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر الا من عند الله ان الله عزيز حكيم الى قوله اذ يوحي ربك الى الملائكة اني معكم فثبتوا الذين امنوا الانفال وقوله ولو ترى اذ يتوفي الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وادبارهم وذوقوا عذاب الحريق الانفال
وقوله تعالى في يوم احد اذ تقول للمؤمنين الن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلثة آلف من الملائكة منزلين بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلف من الملائكة مسومين وما جعله الله الا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر الا من عند الله ال عمران

وقال تعالى في يوم الخندق يأيها الذين امنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا الاحزاب
وقال تعالى ويوم حنين اذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وانزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزآء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء التوبة
وقال عند خروجه للهجرة الا تنصروه فقد نصره الله اذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وايده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم التوبة

انواع اخر من اخبار الملائكة
وقد اخبر سبحانه عن الملائكة بقوله اني جاعل في الارض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني اعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صدقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم قال يآدم انبهم اسمائهم فلما انباهم بأسمائهم قال الم اقل لكم اني اعلم غيب السموات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون البقرة
واخبر عنهم سبحانه بقوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحنه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم اني اله من دونه فذلك نجزيه جهنم الانبياء فأين هذا النعت من قول هؤلاء المتفلسفة الذين يدعون ان العقل الاول رب جميع العالمين العلوي والسفلي

وكذلك كل عقل حتى ينتهي الى الفعال فيزعمون انه رب لما تحت فلك القمر وقد قال سبحانه وكم من ملك في السموات لا تغني شفعتهم شيئا الا من بعد ان يأذن الله لمن يشاء ويرضى النجم
وقال تعالى فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له باليل والنهار وهم لا يسئمون فصلت وقال تعالى وله من في السموات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون اليل والنهار لا يفترون الانبياء وقال ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون الاعراف
وفي الصحيحين عن النبي ص - انه قال الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها قال يسدون الاول فالاول ويتراصون في الصف وهذا موافق لقوله تعالى والصفت صفا فالزجرات زجرا فالتليت ذكرا الصفات ولقوله عنهم وما منآ الا له مقام معلوم وانا لنحن الصافون وانا لحن المسبحون الصافات
وقال تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم المؤمن
وقال تعالى قوا انفسكم واهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ امرهم ويفعلون ما يؤمرون التحريم وقال

تعالى في صفة اهل النار سأصلية سقر ومآ ادراك ما سقر لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعنا اصحاب النار الا ملائكة وما جعلنا عدتهم الا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين اوتوا الكتب ويزداد الذين امنوا ايمانا ولا يرتاب الذين اوتوا الكتب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا اراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك الا هو وما هي الا ذكرى للبشر المدثر وقال تعالى فليدع ناديه سندع الزبانية العلق قال غير واحد من الصحابة والتابعين كأبي هريرة وعبد الله بن الحارث وعطاء هم الملائكة وقال قتادة الزبانية في كلام العرب الشرط وقال مقاتل هم خزنة جهنم قال اهل اللغة كابن قتية وغيره هو مأخوذ من الزبن وهو الدفع كأنهم يدفعون اهل النار اليها قال ابن دريد الزبن الدفع يقال ناقة زبون اذا زبنت حالبها دفعته برجلها وتزابن القوم تداراوا واشتقاق الزبانية من الزبن
وايضا في الصحاح من غير وجه عن النبي ص - انه اخبر ليلة المعراج بما رآه من الملائكة والجنة والنار واخبر عن البيت المعمور انه يدخله كل يوم سبعون الف ملك لا يعودون آخر ما عليهم
وما في القران والاحاديث وكلام السلف من ذكر الملائكة واحوالهم يفوق الاحصاء وكذلك عند اهل التوراة والانجيل ونبوات سائر الانبياء

بيان كذبهم على الانبياء وان النبوة ليست كما يدعونه
وما اخبر به الانبياء يناقض قول من قال عن الانبياء ان الذي راوه من الملائكة انما هو ما يخيل في انفسهم وان الذي سمعوه انما هو ما سمعوه في نفوسهم فان كان مقصوده انهم ارادوا بما اخبروا به هذا فهذا كذب صريح عليهم لا حيلة فيه وان كان مكذبا لهم يقول انهم لم يروا شيئا او انهم غلطوا فيما اخبروا به من ذلك فهذا ليس مقام من يفسر كلامهم ويبين مرادهم كما يزعمه هؤلاء المتفلسفة الذين يتكلمون على النبوة بما يدعون انه تفسير لها والمقصود هنا بيان كذبهم على الانبياء وان النبوة ليست كما يدعونه
واما الكذب للانبياء فلخطابه مقام اخر مع ان هذا من اجهل اهل الارض واكفرهم وذلك ان الانبياء عدد كثيرون وهم باجماع العقلاء العلم والعدل في غاية صفات الكمال من العقل والعلم والعدل والصدق والاخلاق الحسنة وكل منهم لم ير الآخر ولم يستمع منه لا سيما محمد ص - فانه لم يكن بمكة على عهده احد يعرف شيئا من كتب الانبياء البتة وكل منهم يخبر عما راى وسمع اخبارا يصدق بعضها بعضا فلو لم تثبت عصمة الانبياء وصدقهم بل كان المخبر بمثل هذا مجهولا لوجب تواتر جنس ما راوه كما ان العدد الكثير اذا اخبر كل منهم انه راى اسود تواتر وجود السودان عند من لم يرهم ولهذا لما اخبر كثير من المصروعين عن وجود الصرع ثبت بهذا وجوده في الجملة ولم يكن تكذيب المصروعين فيما يخبرون به مما يعاينونه بل عامة العقلاء يعلم انهم راوا الجن الاحياء الناطقين وهذا معلوم عند جمهور العقلاء علما ضروريا لا يمكنهم النزاع فيه
تدبير الله امر السماء والارض بواسطة الملائكة
وايضا فالادلة العقلية تدل على ان الملائكة بهم يدبر الله امر السماء والارض كما قد بسط الكلام على هذا في غير موضعه وبين فيه ان الحركات ثلاثة طبيعية

وقسرية وارادية لان المتحرك انما يتحرك بقوة فيه او خارجة عنه والثاني هو المقسور المتحرك قسرا والاول ان لم يكن له شعور فهي الحركة الطبيعية وان كان له شعور فهي الارادية والقسرية تابعة للقاسر فلولا هو لم يتحرك المقسور والطبيعية انما يكون اذا خرج الجسم الطبيعي عن محله فيطلب بطبعه العود الى محله فاذا عاد سكن كالتراب اذا سقط على الارض والماء اذا وصل الى مقره ونحو ذلك فلم يبق هنا متحرك ابتداء الا المتحرك بالحركة الارادية فعلم ان جميع الحركات مبداها حركة ارادية ومعلوم ان الادميين لا يحركون الهواء والسحاب وغير ذلك من الاجسام فالمحرك لها احياء يحركون لها بالارادة وهؤلاء هم الملائكة
والملك معناه الرسول واصله ملاك على وزن مفعل ولكن القيت حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفت وهذه المادة معناها الرسالة سواء تقدمت اللام على الهمزة كما في صيغة الملك او تقدمت الهمزة على اللام وهذه الامور لبسطها موضع آخر
وانما المقصود ان نعرف ان ما يفسرون به الملائكة والوحي مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول انه مناقض لما جاء به فعلم ان ما يثبتونه من النبوة لا حقيقة له وان ادعاءهم ان علم الانبياء انما يحصل بالقياس المنطقي واما باتصال نفسه بالنفس الفلكية من ابطل الكلام وذلك مما يبين فساد ما ذكروه في المنطق من حصر طرق العلم مادة وصورة وهو المطلوب في هذا الموضع ويبين انهم اخرجوا من العلوم الصادقة اجل واعظم واكبر مما اثبتوه وان ما ذكروه من الطرق انما يفيد علوما قليلة خسيسة لا كثيرة ولا شريفة وهذه مرتبة القوم فانهم من اخس الناس علما وعملا وكفار اليهود والنصارى اشرف منهم علما وعملا من وجوه كثيرة

كون حصول العلم في قلوب الانبياء من الملائكة
ومما يبين ذلك ان يقال ما يحصل في قلوب الانبياء وغيرهم من العلم بأمور معينة اما ان يكون له سبب يقتضى حصول ذلك العلم او يحصل بلا سبب كما يقول ذلك من اهل الكلام من ينكر الاسباب في الوجود فان لم يكن له سبب بطل قولهم ان ذلك من العقل والنفس وان كان له سبب امكن ان يكون ذلك هو ملائكة تعلمهم بذلك او جن تعلم بعض الناس وهم ليس لهم حجة اصلا على نفي ذلك بتقدير ما يقولونه من قدم الافلاك وصدورها عن علة مستلزمة لها كما يقوله ابن سينا او ان العلة تحركها تحريك القدوة للمقتدى به على قول ارسطو واتباعه فعلى قول ارسطو واتباعه وعلى كل قول ليس في العقل حجة تنفي ذلك واذا امكن كون ذلك من الملائكة بطل قولهم بل نقول يجب ان يكون ذلك من الملائكة اذا كان له سبب فان كون ذلك من النفس الفلكية قد ظهر بطلانه فوجب ان يكون ذلك من الملائكة وهو المطلوب
وقد اثبت طائفة من نظار المسلمين والفلاسفة وجود الملائكة والجن بهذه الطريق وقالوا نحن نجد امورا تحدث في نفوسنا بغير قصد منا من العلوم والارادات وما هو من جنس العلوم والارادات من الخواطر خواطر الشبهات والشهوات فلا بد لتلك من فاعل يحدثها في قلوبنا والله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء لكن لم يخلق شيئا الا لسبب كما دل على ذلك استقراء خلقه للموجودات ولا يحدث حادثا الا بسبب حادث والانسان يكون قلبه خاليا من اعتقاد الضدين ومن ارادة الضدين فيحدث احدهما في قلبه فلا بد لذلك من سبب حادث اوجب ذلك ولا يجوز اضافة ذلك الى مجرد حركات الفلكية فان نسبة الحركة الفلكية في اليوم المعين الى الاشخاص نسبة واحدة والناس مختلفون في هذه الخواطر اختلافا لا مزيد عليه والشخص الواحد يختلف حاله فتارة يكون مؤمنا وتارة يكون كافرا وتارة برا

وتارة فاجرا وتارة عالما وتارة جاهلا وتارة ناسيا وتارة ذاكرا بدون حدوث سبب فلكي يرجح احد هذين الحالين على الآخر واهل الارض الواحدة والبلد الواحد والاقليم الواحد تختلف احوالهم في ذلك مع ان طالع البلد لم يختلف ومع ان المتجدد من الاشكال الفلكية قد يكون متشابه الاحوال واحوالهم مع هذا تختلف وهذا لبسطه موضع اخر
فان ظن هؤلاء ان الحوادث التي تحت الفلك ليس سببها الا تغير اشكال الفلك واتصالات الكواكب من افسد الاقوال ولهذا كان اصحاب هذا القول من اكثر الناس جهلا وكذبا وتناقضا وحيرة
استطراد

حيرة الفلكيين في امر الكعبة وما لها من التعظيم والمهابة
ولهذا حاروا في مكة شرفها الله واي شيء هو الطالع الذي بنيت عليه على زعمهم حتى رزقت هذه السعادة العظيمة وهذا البناء العظيم مع طول الازمان مع انه لم يقصدها احد بسوء الا انتقم الله منه كما فعل بأصحاب الفيل ولم يعل عليها عدو قط والحجاج بن يوسف لم يكن عدوا لها ولا اراد هدمها ولا اذاها بوجه من الوجوه ولا رماها بمنجنيق اصلا ولكن كان محاصرا لابن الزبير وكان ابن الزبير واصحابه في المسجد وكانوا يرمون بالمنجنيق له ولاصحابه لا لقصد الكعبة وإن يهدموا الكعبة ولا وقع فيها شرعي من جهارة الحجاج

بل كان ابن الزبير قد بناها على قواعد ابراهيم والصقها بالارض وجعل لها بابين كما اخبرته عائشة عن النبي ص - انه قال لولا قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضة الكعبة والصقتها بالارض وجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه ووصف لعائشة من الحجر ما هو من البيت قريبا من سبعة ازرع موضع انحناء الحجر وكانت القريش قد بنتها فقصرت بها النفقة فتركوا ما تركوه من الحجر ورفعوها
فلما ولي الزبير شاور الناس في ذلك فمنهم من راى ذلك مصلحة ومنهم من اشار عليه بأن لا يفعل وقال هذه الكعبة هي التي كانت على عهد النبي ص - وعليها اسلم الناس وهذا كان راي ابن عباس وطائفة
والفقهاء متنازعون في هذه المسئلة منهم من يرى اقرارها كقول ابن عباس وهو قول مالك وغيره ويقال ان الرشيد شاوره ان يفعل كما فعل ابن الزبير فأشار عليه ان لا يفعل وراى ان هذا يفضي الى انتقاض حرمة الكعبة باختلاف الملوك في ذلك هذا يهدمها ليبنيها كما فعل ابن الزبير وهذا يرى أن يعيدها

كما كانت ومنهم من يرى تصويب ما فعله ابن الزبير ويقال ان الشافعي يميل الى هذا
فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج الى عبد الملك بن مروان يخبره بما فعل ابن الزبير فيخبره بأنهم وجدوا قواعد ابراهيم وانه ارى ذلك لاهل مكة فكتب اليه عبد الملك ان يعيدها كما كانت الا ما زاده من الطول فلا يغيره ويذكر ان ما فعله ابن الزبير لا يعلم اصله
ثم ان عبد الملك حدثه بعض الناس بحديث عائشة فقال وددت اني وليت ابن الزبير من ذلك ما تولى
والمقصود انه ولله الحمد لم يردها احد من المسلمين بسوء لا الحجاج ولا غيره ولكن قرامطة البحرين بعد ذلك بمدة اخذوا الحجر الاسود وبقي عندهم مدة فانتقم الله منهم وجرت فيهم المثلات
فصار هؤلاء الفلكيون حائرين في امرها لما جعل الله لها من العز والمهابة والتعظيم مع المحبة ومع كون الناس من مشارق الارض ومغاربها يأتونها بمحبة ورغبة وذل مع المشاق العظيمة التي تزيد على مشقة عامة الاسفار من الجوع والعطش والخوف والتعب وانه ليس بمكة بساتين ولا انهار ولا غير ذلك مما تطلبه النفوس حتى الجا بعضهم الحيرة الى ان زعم ان تحتها مغارة فيها طلاسم موجهة الى جميع الجهات

وانها تبخر في شهر رجب او غيره لتصرف وجوه الناس اليها ونحو هذه الاقوال المكذوبة التي يعلم كل من له علم بمكة انها كذب مختلق وانه لا ينزل احد قط الى اسفل الكعبة ولا مغارة تحتها
ونفس التبخير لا يفعله المسلمون عبادة وقربانا كما كان يفعل ذلك من قبلهم بل هو عندهم من جنس الطيب فتقصد رائحته ومن كان قبل المسلمين من اهل الكتاب كانوا يقربون القرابين فتنزل النار تأكله وقد يدخنون بدخن وأما المشركون من عباد الكواكب والأصنام فالتدخين عندهم من اصول العبادات
بل وجود مكة مما يدل على القادر المختار وانه يخلق بمشيئته وقدرته وعلمه كما قال تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ذلك لتعلموا انالله يعلم ما في السموات وما في الارض وان الله بكل شيء عليم وقد قال ابن عباس لو ترك الناس الحج سنة واحدة لما نوظروا ولهذا كان حج البيت كل عام فرضا على الكفاية كما ذكر ذلك الفقهاء من اصحاب الشافعي كالقاضي ابي بكر وغيره
والمقصود هنا انه اذا علم ما يحدث في النفوس ليس سببه مجرد حركة الفلك مع انه لا بدل منه من سبب دل ذلك على وجود الملائكة والجن وهذا سلف الامة والتابعين لهم بأحسان وائمة المسلمين فأنهم يقولون ان الشياطين توسوس في نفوس بني ادم كالعقائد الفاسدة والامر باتباع الهوى وان الملائكة بالعكس انما تقذف في القلوب الصدق والعدل قال ابن مسعود ان للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك ايعاد

بالخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالحق وفي الصحيح عن النبي ص - انه قال ما منكم من احد الا وقد وكل به قرينه من الملائكة ومن الجن قالوا واياك يا رسول الله قال واياي الا ان الله اعانني عليه فأسلم وفي لفظ فلا يأمرني الا بخير
قال تعالى قل اعوذ برب الناس ملك الناس اله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس الناس والقول الصحيح الذي عليه اكثر السلف ان المعنى من شر الموسوس من الجنة ومن الناس من شياطين الانس والجن
وقال وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطان الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا وقال النبي ص - لابي ذر يا ابا ذر تعوذ بالله من شياطين الانس والجن قال يا رسول الله او للانس وشياطين قال نعم شر من شياطين الجن قال تعالى اذا لقوا الذين امنوا قالوا امنا واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم انما نحن مستهزءون وهم شياطينهم من الانس كما قال ذلك عامة السلف وكما يدل

عليه سباق القران فان شياطين الجن لم يكونوا يحتاجون الى ان يخلوا بهم و لا هم يقولون لهم انا معكم انما نحن مستهزءون

كون الصواب من الهام الملك و الخطا من القاء الشيطان
وقد تنازع الناس في العلم الحاصل في القلب عقيب النظر والاستدلال على اقوال فهؤلاء المتفلسفة يقولون ان ذلك من فيض العقل الفعال عند استعداد النفس والمعتزلة يقولون هو حاصل على سبيل التولد والاشعري وغيره يقولون هو حاصل بفعل الله تعالى كما تحصل سائر الحوادث عندهم لا يجعلون لشيء من الحوادث سببا ولا حكمة
والذي عليه السلف والائمة ان الله جعل للحوادث اسبابا وحكمة وهذه الحوادث قد تحدث باسباب من الملائكة اومن الجن وان ما يحصل في القلب من العلم والقوة ونحو ذلك قد يجعله الله بواسطة فعل الملئكة كما قال تعالى إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الاخر يوآدون من حاد الله و رسوله و لو كانوا اباءهم او ابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه المجادلة وكما قال النبي ص - من سأل القضاء واستعان عليه وكل اليه ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه انزل الله اليه ملكا يسدده والتسديد هو القاء القول السداد في قلبه وقال تعالى واوحينا الى ام موسى ان ارضعيه قصص وقال تعالى واذ اوحيت الى الحواريين ان آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا المائدة وهؤلاء لم يكونوا انبياء بل ذلك الهام وقد يكون بتوسط الملك كما قال تعالى وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب او يرسل

رسولا فيوحي باذنه ما يشاء
والاراء والخطا في الراي من القاء الشيطان ولو كان صاحبها مجتهدا معذورا كما قال غير واحد من الصحابة كأبي بكر وابن مسعود في بعض المسائل اقول فيها برأيي فان يكن صوابا فمن الله وان يكن خطا فمني ومن الشيطان والله ورسوله برىء منه
وما يكون من الشيطان اذا لم يقدر الانسان على دفعه لا يأثم به كما يراه النائم من اضغاث الشيطان وكاحتلامه في المنام فانه وان كان من الشيطان فقد رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ
وكذلك ما يحدث به الانسان نفسه من الشر قد تجاوز الله له عنه حتى يتكلم به او يعمل به وإن كان من الشيطان ففي الصحيحين عن النبي ص - أنه قال إن الله تجاوز لامتي عما حدثت به انفسها ما لم تتكلم به وفي الصحيحين من غير وجه عن ابي هريرة وابن عباس ان النبي ص - ذكر انه اذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة فان عملها كتبت له عشر حسنات واذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه فان عملها فاكتبوها سيتئة وان تركها فاكتبوها له حسنة فانه انما تركها من جرائي
وفي الصحيح ان الصحابة سألوا النبي عن الوسوسة التي يكرهها

المؤمن وهي ما يلقي في قلبه من خواطر الكفر فقالوا يا رسول الله ان احدنا ليجد في نفسه ما لان يحرق حتى يصير حممة او يخر من السماء الى الارض احب اليه من ان يتكلم به قال ذلك صريح الايمان وفي حديث اخر الحمد لله الذي رد كيده الى الوسوسة
وفي الصحيحين عن النبي ص - قال اذا اذن المؤذن ادير الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فاذا قضى التأذين اقبل فاذا اقيمت الصلوة ادبر فاذا قضيت اقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه فيقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل ان يدري كم صلى فاذا وجد ذلك احدكم فليسجد سجدتين فقد اخبر ان الشيطان يوسوس في الصلوة ولم يأمر باعادة الصلوة
فالاعتقادات والارادات الفاسدة تحصل بسبب شياطين الانس والجن والاعتقادات الصحيحة والارادات المحمودة قد تحصل بسبب الملائكة وصالحي الانس فان سماع الكلم قد يؤثر في قلب المستمع فالمتكلم فاعل فان كان السامع قابلا انتقش كلامه في قلبه وان لم يكن قابلا لم ينتقش فيه

ابطال القول بمعرفة الغيب بدون توسط الانبياء
وما يذكره طوائف من الباطنية باطنية الشيعة كأصحاب رسائل اخوان الصفا وباطنية الصوفية كابن سبعين وابن عربي وغيرهما وما يوجد في كلام ابي حامد وغيره من اهل الرياضة وتصفية القلب وتزكية النفس بالاخلاق المحمودة قد يعلمون

حقائق ما اخبرت به الانبياء من امر الايمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الاخر ومعرفة الجن والشياطين بدون توسط خبر الانبياء هو بناء على هذا الاصل الفاسد وهو انهم اذا صفوا نفوسهم نزل على قلوبهم ذلك اما من جهة العقل الفعال او غيره

كلام في الغزالي قادح فيه
وابو حامد يكثر ذكر هذا وهو مما انكره عليه المسلمون وقالوا فيه اقوالا غليظة بهذا السبب الذي اسقط فيه توسط الانبياء في الامور الخبرية وجعل ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة لا يفيد معرفة شيء من الغيب ولا يعرف معنى كلامه وما يتأول منه وما لا يتأول لكن اذا ارتاض الانسان انكشفت له الحقائق فما وافق كشفه اقره وما لم يوافقه تأوله ولهذا قالوا كلامه يقدح في الايمان بالانبياء وذلك ان هذا مأخوذ من اصول هؤلاء الفلاسفة ولهذا كانوا يقولون ابو حامد امرضه الشفاء وانشد فيه ابن العربي الابيات المعروفة عنه حيث قال ... برئنا الى الله من معشر ... بهم مرض من كتاب الشفا

وكم قلت يا قوم انتم على ... شفا جرف من كتاب الشفا ... فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا الى الله حتى كفى ... فماتوا على دين رسطالس ... وعشنا على ملة المصطفى ...
وكلامه في مشكوة الانوار وفي كيمياء السعادة هو قول هؤلاء ولهذا يذكر ان صاحب الرياضة قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران عليه السلام وامثال هذه الاقاويل التي انكرها علماء المسلمين العارفين بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة من الطوائف كلها من اصحاب الشافعي ومالك وابي حنيفة واحمد بن حنبل والصوفية المحققين المتبعين للرسول واهل الحديث ونظار اهل السنة
وقد انكر عليه طائفة من اهل الكلام والراي كثيرا مما قاله من الحق وزعموا ان طريقة الرياضة وتصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم واخطاوا ايضا في هذا النفي بل الحق ان التقوى وتصفية القلب من اعظم الاسباب على نيل العلم
لكن لا بد من الاعتصام بالكتاب والسنة في العلم والعمل ولا يمكن ان احدا بعد الرسول يعلم ما اخبر به الرسول من الغيب بنفسه بلا واسطة الرسول ولا يستغني احد في معرفة الغيب عما جاء به الرسول وكلام الرسول مبين للحق بنفسه ليس كشف احد ولا قياسه عيارا عليه فما وافق كشف الانسان وقياسه وافقه وما لم يكن كذلك خالفه بل ما يسمى كشفا وقياسا هو مخالف للرسول فهذا قياس فاسد وخيال فاسد وهو الذي يقال فيه نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي
والانسان قد يصفي نفسه ويلقى الشيطان في نفسه اشياء فان لم يعتصم بالذكر المنزل والا اقترن به الشيطان كما قال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطنا فهو له قرين الزخرف وقوله فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى طه

الفرق بين طرق متكلمي الاسلام وطرق المناطقة الفلاسفة
فإن قيل ما ذكره أهل المنطق من حصر طرق العلم يوجد نحو منه في كلام متكلمي

المسلمين بل منهم من يذكره بعينه اما بعباراتهم واما بتغيير العبارة قيل الجواب من وجهين
احدهما ان ليس كل ما يقوله المتكلمون حقا بل كل ما جاء به الرسول فهو حق وما قاله المتكلمون وغيرهم مما يخالف ذلك فهو باطل وقد عرف ذم السلف والائمة لاهل الكلام المحدث المشتمل على الباطل المخالف للكتاب والسنة وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع ومر ان الكلام المذموم الذي ذمه السلف الطيب اتباع الصحابة والتابعين لهم باحسان هو الكلام الباطل وهو المخالف لما جاء به الرسول
وهذان وصفان ملازمان فكل ما خالف ما جاء به الرسول فهو باطل وكل كلام في الدين باطل فهو مخالف لما جاء به الرسول وبطلان ذلك قد يعلم بالادلة العقلية مع دلالة الشرع على بطلانه ودلالة الشرع تكون تارة بالاخبار عن الحق والباطل وتارة بالارشاد والهداية الى الادلة التي بها يعرف الحق وينظر العاقل في تلك الادلة التي ارشد الرسول اليها ودل عليها
الثاني ان يقال متكلموا الاسلام لم يسلكوا طريق هؤلاء الفلاسفة فانه ليس فيهم احد يحصر طرق العلم حصرا يدخل فيه الانبياء كما فعل هؤلاء حيث جعلوا ما علمه الانبياء داخلا في طريقهم فجعلوا النبوة من جنس ما يكون لبعض الناس اذا كان فيه ذكاء وزهد بل المتكلمون متفقون على ان النبي يعلمه الله بما لا يعلم به غيره بمشيئة الرب وقدرته فانهم متفقون على ان الله يفعل بمشيئته وقدرته وانه يرسل ملكا الى النبي وهو يعلم الملك ويعلم ما يقول وما يقوله للنبي ليس فيهم من يقول ان الله لا يعلم الجزئيات ولا ان الله ليس بقادر مختار ولا ان الافلاك قديمة ازليه ولا من ينكر معاد الابدان ولا من يقول ان ملائكة الله مجرد ما يتخيل في النفوس كما يتخيل للنائم ولا كلام الله مجرد ما يتخيل في النفوس من الاصوات ولا من يقول ان ما يعلمه الانبياء من الغيب انما يفيض على نفوسهم من النفس الفلكية

ولا يجعل احدهم اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية
ولا يقول احد منهم ان شيئا غير الله ابدع ما سواه كما يقوله هؤلاء ان العقل الاول ابدع كل ما سواه من الممكنات ويسميه من ينتسب الى الاسلام منهم القلم ويظنون ان الحديث المروي ان اول ما خلق الله العقل قال له اقبل فأقبل ثم قال له ادبر فأدبر هو هذا العقل والحديث لفظه حجة عليهم لا لهم ومع هذا فلو كان حجة لهم لم يجز التمسك به لانه موضوع باتفاق اهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك الدارقطني وابن حبان وابو الفرج ابن الجوزي وغيرهم

بطلان جعلهم النبوة جزءا من الفلسفة
والمتكلمون اذا حصروا طرق العلم حصروا طرق مثلهم وامثالهم فيذكرون الحسيات والعقليات الضرورية والنظرية سواء كان ذلك الحصر مطابقا او ليس بمطابق لم يقصدوا ان يذكروا الطريق التي بها يعلم النبي ما يوحي اليه بل هذه الطريق خارجة عما يقدرون عليه هم وامثالهم من الطرق وليست من جنسها عندهم بخلاف المتفلسفة فان النبي عندهم من جنس غيره من الاذكياء الزهاد لكنه قد يكون افضل والنبوة عندهم جزء من الفلسفة وهذا هو الضلال العظيم فان الفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل فضلا عن درجتهم قبل ذلك فضلا عن درجة المؤمنين اهل القران كالصحابة والتابعين فضلا عن درجة واحد من الانبياء فضلا عن الرسل فضلا عن اولي العزم منهم بل عامة اذكياء الناس وازهد الناس ان يكون مشبها للتابعين باحسان للسابقين الاولين
فأما درجة السابقين الاولين كأبي بكر وعمر فتلك لا يبلغها احد وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ص - انه قال قد كان في الامم قبلكم محدثون فان

يكن في امتي فعمر وفي حديث اخر ان الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وقال على كنا نتحدث ان السكينة تنطق على لسان عمر وفي الترمذي وغيره لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر ولو كان بعدي نبي ينتظر لكان عمر
ومع هذا فالصديق اكمل منه فان الصديق كمل في تصديقه للنبي فلا يتلقى الا عن النبي والنبي معصوم والمحدث كعمر يأخذ احيانا عن قلبه ما يلهمه ويحدث به لكن قلبه ليس معصوما فعليه ان يعرض ما القي عليه على ما جاء به الرسول فان وافقه قبله وان خالفه رده ولهذا قد رجع عمر عن اشياء وكان الصحابة يناظرونه ويحتجون عليه فاذا بينت له الحجة من الكتاب والسنة رجع اليها وترك ما راه والصديق انما يتلقى عن الرسول لا عن قلبه فهو اكمل من المحدث وليس بعد ابي بكر صديق افضل منه ولا بعد عمر محدث افضل منه

كون معيار الولايات عند العارفين هو لزوم الكتاب والسنة
ولهذا كان الشيوخ العارفون المستقيمون من مشايخ التصوف وغيرهم يأمرون اهل

القلوب ارباب الزهد والعبادة والمعرفة والمكاشفة بلزوم الكتاب والسنة قال الجنيد بن محمد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرا القران ويكتب الحديث لا يصلح له ان يتكلم بعلمنا وقال الشيخ ابو سليمان الداراني انه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا اقبلها الا بشاهدين الكتاب والسنة وقال ايضا ليس لمن الهم شيئا من الخير ان يفعله حتى يسمع فيه بأثر وقال ابو عثمان النيسابوري من امر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن امر الهوى على نفسه نطق بالبدعة فان الله يقول وان تطيعوه تهتدوا النور وقال اخر من لم يتهم خواطره في كل حال فلا تعده في ديوان الرجال
وقيل لابي يزيد البسطامي قد قدم شيخ من اصحابك فذهب ليزوره فراه قد بصق في القبلة فقال ارجعوا بنا هذا رجل لم يأتمنه الله على ادب من اداب الشريعة فكيف يأتمنه على سره وهذا الذي فعله ابو يزيد يستدل عليه بما في السنن سنن ابي داود وغيره ان رجلا كان اماما في مسجد من مساجد الانصار فان كل قبيلة كان لها مسجد فجاء النبي ص - فراى بصاقا في القبلة فقال من فعل هذا فذكرا الامام فنهاهم ان يصلوا خلفه فلما جاء ليؤمهم منعوه وقالوا ان رسول الله ص - نهانا ان نصلي خلفك فجاء اليه فذكر ذلك له فقال صدقوا انك آذيت الله ورسوله
وقال غير واحد من الشيوخ والعلماء لو رايتم الرجل يطير في الهواء ويمشي

على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الامر والنهي ومثل هذا كثير في كلام المشائخ والعارفين وائمة الهدى وافضل اولياء الله عندهم اكملهم متابعة للانبياء ولهذا كان الصديق افضل الاولياء بعد النبين فما طلعت شمس ولا غربت على احد بعد النبيين والمرسلين افضل من ابي بكر لكمال متابعته وهم كلهم متفقون على انه لا طريق للعباد الى الله الا باتباع الواسطة الذي بينهم وبين الله وهو الرسول
ولكن دخل في طريقهم اقوام ببدع وفسوق والحاد وهؤلاء مذمومون عند الله وعند رسوله وعند اوليا الله المتقين وهم صالحوا عباده مثل من يظن ان لبعض الاولياء طريقا الى الله بدون اتباع الرسول او يظن ان من الاولياء من يكون مثل النبي او افضل منه او انه يكون من هو خاتم الاولياء افضل من السابقين الاولين او اعلم بالله من خاتم الانبياء وامثال هذه المقالات التي تقولها من دخل فيهم من الملاحدة الضالين ومن هذا الوجه صار قوم متصوفون يتفلسفون
وتكلم ابن سينا في اشاراته على مقامات العارفين وقال الرازي في شرحه هذا الباب اجل ما في الكتاب فانه رتب علم الصوفية ترتيبا ما سبقه اليه من قبله ولا يلحقه من بعده وهذا الذي قاله الرازي قاله بحسب معرفته فانه لم يكن عارفا بطريق الصوفية العارفين المتبعين للكتاب والسنة ولعله قد راى من صوفية وقته وفيه من الجهالات والضلالات ما راى ان هذا الكلام احسن ما يرتب عليه طريقهم وقد ذكر في مقامات العارفين امر النبوة التي يثبتونها الفناء المذموم والفناء المحمود
وآخر ما انتهى إليه العارفون في تسليكه هو الفناء عما سوى الحق الذي أثبته والبقاء

به وهذا لو كان سالكه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر ويفعل ما امر الله به وينتهي عما نهى الله عنه فيسلك سلوك اتباع الرسل لكانت هذه الغاية سلوكا ناقصا عند ائمة العارفين فان الفناء الذي اثبته انما هو الفناء عن شهود السوي وكذلك من اتبعه مثل ابن الطفيل المغربي صاحب رسالة حي بن يقظان وامثاله وهذا فناء عن ذكر السوى وشهوده وخطوره بالقلب وهذا حال ناقص يعرض لبعض السالكين ليس هو الغاية ولا شرطا في الغاية
بل الغاية الفناء عن عبادة السوي وهو حال ابراهيم ومحمد الخليلين ص - فانه قد ثبت في الصحاح عن النبي ص - من غير وجه انه قال ان الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا
وحقيقة هذا الفناء هو تحقيق الحنيفية وهو اخلاص الدين لله وهو ان يغني يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبالحب فيه والبغض فيه عن الحب فيما سواه والبغض فيه فلا يكون لمخلوق من المخلوقين لا لنفسه ولا لغير نفسه على قلبه شركة مع الله تعالى ولهذا امر ابراهيم الخليل بذبح ابنه فانه كان قد سأل الله ان يهبه اياه ولم يكن له ابن غيره
فان الذبيح هو اسمعيل على اصح القولين للعلماء وقول اكثرهم كما دل عليه الكتاب والسنة فقال الخليل رب هب لي من الصلحين الصافات قال

الله فبشرنه بغلم حليم الصافات والغلام الحليم اسماعيل واما اسحاق فقال فيه فبشرنه بغلام عليم واسحاق بشرت به سارة ايضا لما غارت من هاجر والله ذكر قصته بعد قصة الذببح فانه لما ذكر قصة الذببح قال بعدها وبشرناه باسحق نبيا من الصلحين والمقصود هنا أن الله امر الخليل بذبح ابنه بكره امتحانا له وابتلاء ليخرج من قلبه محبة ما سوى الله ليتم كونه خليلا بذلك فهذا هو الكمال
واما مجرد شهوده الحق من غير فعل ما يحبه ويرضاه فهذا ليس بايمان ينجي من عذاب الله فضلا عن ان يكون هذا غاية العارفين
ثم الذي لا يشهد السوي مطلقا ان شهده عين السوي فهذا قول الملاحدة القائلين بوحدة الوجود وان كان ذلك لغيبته واعراضه عن شهود السوي فمن شهد ما سواه مخلوقا له اية له وشهد ما فيه من اياته كان اكمل ممن لم يشهد هذا وهؤلاء قد يبلغ بهم الامر الى ان يروا ان شهود الذات مجردة عين الصفات هو اعلى مقامات الشهود وهذا من جهلهم فان الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج وليس ذاك رب العالمين ولكن هم في انفسهم جردوها عن الصفات وشهدوا مجرد الذات كما يشهد الانسان تارة علم الرب وتارة قدرته فهؤلاء شهدوا مجرد ذات مجردة فهذا في غاية النقص في معرفة الله والايمان به فكيف يكون هذا غاية ومنهم من ينظر هذا شرطا في السلوك وليس كذلك بل السابقون الاولون اكمل الناس ولم يكن مثل هذا يخطر بقلوبهم ولو ذكره احد عندهم لذموه وعابوه

الفرق بين شهود الخلق وشهود الشرع
ومن جعل من الصوفية هذا الفناء غاية وقال انه يفني عن شهود فعل الرب حتى لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة فهذا غلط عند ائمة القوم واصحاب هذا الفناء

يسمون هذا اصطلاما ومحوا وجمعا وكان الجنيد رضي الله عنه لما راى طائفة من اصحابه وصلوا الى هذا امرهم بالفرق الثاني وهو ان يفرقوا بين المأمور والمحظور وما يحبه الله وما يسخطه حتى يحبوا ما احب ويبغضوا ما ابغض والا فاذا شهدوا خلقه لكل شيء ولم يشهدوا الا هذا الجمع استوت الاشياء كلها في شهودهم لشمول الخلق والمشيئة والقدرة لكل شيء وهذا شهود لقدره لا لشرعه ودينه فلم يبق في قلوبهم حب لما يحبه وبغض لما يبغضه وموالاة لما يواليه ومعاداة لما يعاديه وكانوا ممن انكر عليهم سبحانه بقوله ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصلحت كالمفسدين في الارض ام نجعل المتقين كالفجار وقال فيهم ام حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصلحت سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون الجاثية وقال افنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون القلم
ونفس ولاية الله مخالفة لعداوته واصل الولاية والعداوة الحب والبغض فأولياء الله هم الذين يحبون ما احب ويبغضون ما ابغض واعداؤه الذين ما يحب ويحبون ما يبغض وقد قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم او ابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه المجادلة وقال تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم المائدة وقال ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ال عمران
فمن لم يشهد بقلبه الا خلقه الشامل ومشيئته العامة وربوبيته الشاملة لكل شيء لم يفرق بين وليه وعدوه ولم تتميز عنده الفرائض والنوافل وغيرها وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابي هريرة عن النبي ص - قال يقول الله من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب الى عبدي بمثل ما افترضت عليه

ولا يزال عبدي يتقرب الى بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لاعطينه ولئن استعاذني لاعذته وما ترددت عن شيء انا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولا بد له منه
فالناظر الى القدر لا يفرق بين مأمور ومحذور سواء كان فرضا او نفلا وهو مع هذا لا بد لنفسه ان تميل الى شيء وتنفر عن شيء فان خلو الحي عن الارادة مطلقا محال فان لم يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه احب ما تحبه نفسه وابغض ما تبغضه نفسه فيخرج عن الفرق الالهي النبوي الذي هو حقيقة قول لا اله الا الله وحقيقة دين الاسلام الى الفرق النفساني الشيطاني
ثم هؤلاء صاروا فرقا اما ابن سينا وامثاله من الملاحدة فانهم يأمرون بهذا مع سائر الحادهم من نفي الصفات وقدم الافلاك وانكار معاد الابدان وجعل النبوة تنال بالكسب كالذكاء والزهد وانما يفيض عليها فيض من العقل الفعال فيخرج من دين المسلمين واليهود والنصارى
بل الفناء المحمود عند العارفين هو تحقيق شهادة ان لا اله الا الله فلا يشهد لمخلوق شيئا من الالهية فيشهد انه لا خالق غيره ويشهد انه لا يستحق العبادة غيره ويتحقق بحقيقة قوله اياك نعبد واياك نستعين الفاتحة وقوله فاعبده وتوكل

عليه هود والا فاذا شهدت انه المستحق للعبادة مع رؤيتك نفسك لم تشهد حقيقة اياك نستعين واذا شهدت حقيقة انه الفاعل لكل شيء ولم تشهد انه المستحق للعبادة دون ما سواه وان عبادته انما تكون بطاعة رسوله لم تشهد حقيقة اياك نعبد واذا تحققت بقوله اياك نعبد واياك نستعين تحققت بالفناء في التوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه قال الله تعالى واذكر اسم ربك وتبتل اليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا اله الا هو فاتخذه وكيلا المزمل
وقال تعال فاعبده وتوكل عليه هود وقال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق وقال تعالى قل هو ربي لا اله الا هو عليه توكلت واليه متاب الرعد
ولهذا لما سلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما هذه الطريق الفاسدة اورثهم ذلك الفناء عن وجود السوي فجعلوا الموجود واحدا ووجود كل مخلوق هو عين وجود الحق وحقيقة الفناء عندهم ان لا يرى الا الحق وهو الرائي والمرئي والعابد والمعبود والذاكر والمذكور والناكح والمنكوح والامر الخالق هو الامر المخلوق وهو المتصف بكل ما يوصف به الوجود من مدح وذم وعباد الاصنام ما عبدوا غيره وما ثم موجود مغاير له البتة عندهم وهذا منتهي سلوك هؤلاء الملحدين
فحقيقته قول فرعون لان فرعون كان في الباطن عالما بأن ما يقوله باطل وكان جاحدا مريدا للعلو والفساد ولهذا جحد وجود الصانع بالكلية واما هؤلاء فجهال ضلال يحسبون ان ما يقولونه هو حقيقة اثبات الرب وتعظيمه وهو في الحقيقة قول فرعون فان فرعون ما كان ينكر وجود هذا العالم ولا ينكر ان الموجودات تشترك في مسمى الوجود وانما كان ينكر ان لهذا الوجود خالقا مباينا له ولهذا امر ببناء ليكذب موسى بزعمه ان للعالم آلها فوقه قال تعالى وقال فرعون

يهامن ابن لي صرحا لعلي ابلغ الاسباب أسباب السموات فأطلع الى اله موسى واني لا ظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء علمه وصد عن السبيل وما كيد فرعون الا في تباب الغافرة وقال تعالى وقال فرعون يأيها الملا ما علمت لكم من اله غيري فأوقد لي يهامن على الطين فاجعل لي صرحا لعلى اطلع الى اله موسى واني لا ظنه من الكذبين واستكبر هو وجنوده في الارض بغير الحق وظنوآ انهم الينا لا يرجعون فأخذنه وجنوده فنبذنهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلنهم ائمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين القصص
واكثر هؤلاء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود يقولون ان فرعون اكمل من موسى وان فرعون صادق في قوله انا ربكم الاعلى لان الوجود فاضل ومفضول والفاضل يستحق ان يكون رب المفضول ومنهم من يقول مات مؤمنا وان تغريقه كان ليغتسل غسل الاسلام فانهم مع قولهم بأن الوجود واحد قد يقولون اما بقول بعضهم ان الثبوت غير الوجود وان ماهيات الممكنات ثابتة وان وجود الحق قاض عليها كما يقول ذلك ابن عربي وغيره واما ان يفرق بين المطلق والمعين كما يقوله صاحبه القونوي وابن سبعين قوله قريب من هذا وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وانما ذكروا هنا لان هؤلاء هم آخر مراتب فلاسفة الصوفية الذين يقولون انهم اهل التحقيق والعرفان وكل من سواهم عندهم ناقص بالنسبة اليهم وقد رايت من هؤلاء غير واحد
وهم يرتبون الناس طبقات ادناها عندهم الفقيه ثم المتكلم ثم الفيلسوف ثم الصوفي أي صوفي الفلاسفة ثم المحقق ويجعلون ابن سينا وامثاله من الفلاسفة في الثانية وابا حامد وامثاله من الصوفية من العشرة ويجعلون المحقق هو الواحد

ولهذا ذكر ابن عرابي في الفتوحات له اربع عقائد الاول عقيدة ابي المعالي وامثاله مجردة عن الحجة ثم هذه العقيدة بحجتها ثم عقيدة الفلاسفة ثم عقيدة المحققين وذلك ان الفيلسوف يفرق بين الوجود والممكن والواجب وهؤلاء يقولون الوجود واحد والصوفي الذي يعظمه هؤلاء هو الصوفي الذي عظمه ابن سينا وبعده المحقق
وهؤلاء ليسوا مسلمين ولا يهودا ولا نصارى بل كثير من المشركين احسن حالا منهم وهؤلاء ائمة النظار المتفلسفة وصوفيتهم وشيعتهم كان من اسباب تسلطهم وظهورهم هو بدع اهل البدع من الجهمية والمعتزلة والرافضة ومن نحا نحوهم في بعض الاصول الفاسدة فان هؤلاء اشتركوا هم واولائك الملاحدة في اصول فاسدة يجعلونها قضايا عقلية صادقة وهي باطلة كاذبة مخالفة للشرع والعقل

مقالات للفلاسفة لم يذهب اليها احد من طوائف المسلمين
ثم أراد هؤلاء المتكلمون الرد عليهم في إلحادهم الظاهر الذي يظهر فيه فخالفتهم للمسلمين مثل القول بقدم العالم وانكار علم الله بالجزئيات والقول بانكار المعاد وهذه الثلاثة هي التي يكفرهم بها ابو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة وطائفة يقولون ان سائر اقوالهم الباطلة هي البدع التي ذهب اليها بعض اهل الكلام كانكار الصفات وليس الامر كما قاله هؤلاء بل مقالاتهم التي لم يذهب اليها احد من طوائف المسلمين لا اهل البدعة ولااهل السنة كثيرة مثل قولهم في النبوات والملائكة وكلام الله وقولهم في الشفاعة وانكار مشيئة الله وقدرته وليس هذا من لوازم القول بقدم العالم بل في القائلين بذلك من يقول ان الله يفعل بمشيئته وقدرته كأحد القولين الذين ذكرهما ابو البركات واختاره وكذلك ما يقولونه في الملائكة انها مجرد ما يتخيل في النفوس او انها العقول وان الواحد منها ابدع كل ما سواه وان العقل الفعال هو المدبر لكل ما تحت الفلك وان الوحي على

الانبياء انما يجيء منه وانه منتهى معاد الانفس
فانكارهم لقدرة الله ومشيئته اعظم من انكارهم لعلمه بالجزئيات فان كثير من الناس كان لا يعرف ذلك ولكن يعلم ان الله قادر خلق الاشياء بمشيئته كما في الصحيحين عن ابن معسود قال اجتمع عند البيت ثلثة نفر قرشيان وثقفى او ثقفيان وقرشى كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم أترون الله يسمع ما نقول فقال الثاني يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا فقال الثالث إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا اخفينا فأنزل الله وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولآ ابصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعلمون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخسرين فصلت وهؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والارض بمشيئته وقدرته وكذلك كان بعض أحداث من المسلمين قد يجهل هذه المسئلة فيقول يا رسول الله مهما يكتم الناس يعلمه الله فيقول له النبي ص - نعم ولم يكن هؤلاء يجهلون أن الله خلق كل شئ بمشيئته وقدرته بل كان هذا من أظهر الأمور وأعرفها عند عامة المسلمين بل وعامة المشركين الذين كانوا يعبدون الاصنام وهم كفار وهم مشركون وهم الذين قاتلهم النبي ص - وهم اول من يتناوله ذم القرآن للمشركين ومع هذا فكانوا مقرين بأن الله خلق السموات والارض وما بينهما وخلق كل شئ بقدرته ومشيئته فكانوا احسن حالا من هؤلاء الفلاسفة في الاقرار بأن الله خالق كل شئ وربه ومليكه وانه خلق الاشياء بمشيئة وقدرته
فان هؤلاء حقيقة قولهم أنه لم يخلق شيئا ومتقدموهم كأرسطو وأتباعه على انه علة يتحرك الفلك للتشبه بها فليس هو عندهم لا موجبا بالذات ولا فاعلا بالمشيئة وأما ابن سينا وأمثاله ممن يقول إنه موجب بذاته فهم يقولون ما يعلم جماهير العقلاء

أنه مخالف لضرورة العقل إذ يثبتون مفعولا ممكنا يمكن وجوده ويمكن عدمه وهو مع هذا قديم أزلى لم يزل ولا يزال وهو مفعول معلول لعلة فاعلة لم يزل مقارنا لها في الزمان فكل من هذين القولين مما خالفوا فيه جماهير العقلاء من الاولين والاخرين حتى سلفهم كأرسطو ونحوه فانهم لم يقولوا بهذا ولا بهذا بل أولئك يقولون إن الفلك قديم أزلى بنفسه ليس له مبدع ولكن يتحرك للتشبه بالعلة الاولى فهو مفتقر إليها من هذه الجهة لا من جهة أنها مبدعة له وحقيقة قوله أنها شرط في وجود العالم مع وجوبه بنفسه فيجعلون الواجب بنفسه مفتقرا الى غيره وهذا مما ينكره متأخروهم كابن سينا وامثاله
وكذلك القائلون بالعلة الموجبة كابن سينا وابن رشد والسهروردى وغيرهم حقيقة قولهم أنه شرط في وجود الممكنات لا مبدع لها ولا فاعل فانهم لا يثبتون للحوادث محدثا اصلا في نفس الامر إذ الفلك عندهم ممكن له مبدع وهو متحرك باختياره كما يتحرك الانسان باختياره وله نفس فلكية كما للانسان نفس وليس عندهم فوقه شئ يحدث عنه شئ
وإن قالوا إنه معلول فقولهم في الفلك أقبح من قول القدرية في أفعال الحيوان فان القدرية يقولون إن الله خلق الحيوان بقدرته ومشيئته فجعل له قدرة تصلح للضدين فهو يحدث إرادته وأفعاله بقدرته ومشيئته وهؤلاء لا يجعلون الفلك مخلوقا في الحقيقة وإن قالوا هو معلول ولو جعلوه مخلوقا فعندهم هو متحرك حركة إختيارية نفسانية بمشيئة وقوة فيه وليس فوقه شئ يحدث هذه الحركة ولا يفعلها وإنما الفلك متحرك للتشبه بالاول لاستخراج أيونه وأوضاعه إذ هى غاية كماله
وإن قالوا إن حركته تصدر عن الاول فكلام لا حقيقة له فانهم وكل عاقل يعلم أن الشئ البسيط الذي هو على حال واحدة أزلا وأبدا لا يحدث عنه شئ فضلا عن حوادث مختلفة ويعلمون أن المتغيرات لا تصدر عن بسيط ألبتة وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا التنبيه على ان الكفر الذي يوجد فيهم قولا وفعلا أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين هم أول من بعث إليه النبي ص - ونزل فيه القرآن بكفره واستحقاقه النار

الشفاعة الشركية المنفية والشفاعة الشرعية الثابتة
ومن ذلك ان أولئك المشركين كانوا يجعلون ما يشركون به شفعاء يشفعون لهم الى الله والله يقبل شفاعتهم وهو سؤالهم ودعاؤهم بقدرته ومشيئته كما ذكر الله ذلك في مواضع من كتابه فقال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعآؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض يونس
ولهذا نفى الله شفاعة احد إلا باذنه في غير موضع من القرآن بقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه البقرة وقوله وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع الانعام وقال وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به أن تبسل اى تحبس وتحبس وتؤخذ وترتهن نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين ابسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون الانعام وقال الله الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة ايام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع افلا تتذكرون 6 السجدة وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحنه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظلمين الانبياء وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم

من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له سباء وقال تعالى وكم من ملك في السموات لا تغنى شفعتهم شيئا إلا من بعد أن بأذن الله لمن يشاء ويرضى النجم
فهذه الشفاعة التي نفاها القرآن تتضمن نفى ما كان يقوله مشركوا العرب وأمثالهم من المشركين وهى من جنس شرك النصارى ونحوهم من الضلال المنتسبين إلى الاسلام حيث يعتقدون في الملائكة او الانبياء أو الشيوخ انهم شفعاء لهم عند الله كما يشفع الشفعاء الى ملوك الدنيا ويضربون لله مثلا فيقولون من أراد أن يتقرب الى ملك عظيم فلا ينبغى له ان يأتيى اليه اولا بل يتقرب الى خاصته وهم يرفعون حوائجه ويقربونه اليه قال تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى الزمر أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى ذكر سبحانه هذا بعد قوله تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا انزلنا اليك الكتب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كذب كفار الزمر
وقال في هذه السورة أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهدي الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن ارادني الله بضر هل هن كشفت ضرة أو أرادنى برحمة هل هن ممسكت رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون الزمر وقال فيها قل إنى امرت أن اعبد الله مخلصا له الدين

وامرت لان اكون اول المسلمين الزمر وقال فيها قل أفغير الله تأمرونى أعبد ايها الجهلون ولقد اوحى اليك وإلى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخسرين بل الله فاعبدوكن من الشكرين الزمر

تفسير قوله تعالى
اولئك الذين يدعون يبتغون الاية
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا الاسراء
روى ابن ابي حاتم وغيره بأسانيد ثابتة عن شعبة عن السدي سمع ابا صالح عن ابن عباس في قول الله أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة هو عيسى وامه وعزير والملائكة وكذلك في تفسير عطية عن ابن عباس قال كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا وعن اسرائيل عن السدي عن ابي صالح عيسى وعزير والملائكة وكذلك في تفسير أسباط عن السدي قال ذكروا انهم اتخذوا الالهة وهو حين عبدوا الملائكة والمسيح وعزيرا قال الله أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة
وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن مسعود قال كان ناس من الانس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك الاخرون بعبادتهم فنزلت أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ايهم اقرب ويرجون رحمته الى اخر الاية وكذلك

روى ابن ابي حاتم وغيره إن ابن شوذب عن مطر الوراق قال انزلها الله في حى من العرب كانوا يعبدون حيا من الجن وفي تفسير مقاتل إن المشركين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هى تشفع لنا عند الله فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين قيل لهم ادعوا الذين زعمتم
والاية تتناول كل من دعى غير الله وذلك المدعو يبتغى الى الله الوسيلة اى القربى والزلفى ويرجو رحمة الله ويخاف عذابه وهذا يدخل فيه الملائكة والانبياء والصالحون الانس والجن وقد قرأ طائفة اولئك الذين تدعون فبين ان الذين يدعونهم المشركون هم يتقربون الى الله ويرجونه ويخافونه فكيف يجوز دعاؤهم وهذا كقوله أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دونى اولياء الكهف

حصر اقسام المدعوين من دون الله ونفى كل واحد منهم
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له سبأ فذكر سبحانه الاقسام الممكنة فان المشرك الذي يدعو غير الله ويرجوه ويخافه إما أن يجعله مالكا أو شريكا أو ظهيرا أو شفيعا وهكذا كل من طلب منه امر من الامور إما أن يكون مالكا مستقلا به وإما أن يكون شريكا فيه وإما أن يكون عونا وظهيرا لرب الامر وإما أن يكون سائلا محضا وشافعا الى رب الامر فاذا انتفت هذه الوجوه امتنعت الاستغاثة به
ولهذا كان الناس بعضهم مع بعض من الملوك وغيرهم فيما يتسأءلونه لا يخرجون عن هذه الاقسام إما إن يكون لكل منهما ملك متميز عن الاخر فيطلب من هذا ما في ملكه ومن هذا ما في ملكه وإما أن يكون أحدهما شريكا للاخر فيطلب منه ما يطلب من الشريك وإما ان يكون أحدهما من أعوان الاخر وانصاره وظهرانه

كأعوان الملوك فهو محتاج اليهم فيطلب منهم ما يحتاج اليه وإذا انتفت هذه الوجوده لم يبق إلا مجرد طلب محض وسؤال من غير حاجة بالمسئول الى السائل الشافع
والمشركون بالله كل منهم في نوع من هذه الانواع منهم من اثبت فاعلا مستقلا غير الله لكن لم يثبتوه مماثلا له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في افعاله وهذا كالمجوس الذين أثبتوا قديما شريرا يستقل بفعل الشر وكذلك القائلون منهم انه خلق الشر والقدرية من جميع الامم أثبتوا غير الله يحدث أشياء ينفرد باحداثها دون الله وإن كان الله خالقا له ولهذا قال السلف القدرية مجوس هذه الامة
والقائلون بقدم العالم كلهم لا بد لهم من إثبات غير الله فاعلا اما ارسطو وأتباعه فان الفلك عندهم بحركته هو المحدث للحركات وما يتولد عنها ثم من أثبت له شريكا من العقول والنفوس جعله مستقلا باحداث شئ وذاك مستقلا باحداث شئ ومن قال منهم بالعلة المشبهة بها ومن قال بالموجب بالذات فان الطائفتين لا يثبتون في الحقيقة ان الله احدث شيئا ولا خلقه
والله سبحانه نفى ان يكون لغير ملك أو شرك في الملك او يكون له ظهير فانه سبحانه هو وحده خالق كل شئ وربه ومليكه وهذا هو مذهب اهل السنة المثبتين للقدر القائلين بأن الله خالق كل شئ بمشيئته وقدرته لكن السلف والائمة وأتباعهم يثبتون قدره العبد وفعله ويثبتون الحكمة والاسباب وجهم ومن اتبعه من اهل الكلام ينفون ذلك كله كما قد بسط في موضعه

تفسير قوله تعالى
حتى إذا فزع عن قلوبهم الاية
ولم يثبت سبحانه إلا الشفاعة لكن اثبت شفاعة مفيدة ليست هي الشفاعة

التي يظنها المشركون فقال تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن اذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير 6 سبا وقد جاءت الاحاديث الصحيحة والاثار عن الصحابة والتابعين تخبر بما يوافق تفسيرهذه الاية من حال الملائكة مع الله كما وصفهم تعالى في الاية الاخرى فقال بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ففي الحديث الصحيح الذي رواه احمد والبخاري وغيرهما عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابي هريرة يبلغ به النبي ص - قال ان الله اذا قضى الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فاذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير فيسمعها مسترقو السمع وهم هكذا ووصف سفيان بيده فأقامها منحرفة فربما ادرك الشهاب المسترق قبل ان يرمى بها الى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه فيرمى بها الى الذي يليه ثم يرمى بها الى الذي يليه الى الذي يليه ثم يلقيها الى الارض فتلقى على لسان الساحراو لسان الكاهن فيكذب عليها مائة كذبة فيقولون قد اخبر يوم كذا وكذا بكذا وكذا فوجدنا حقا للكلمة التي سمعت من السماء
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن الزهرى عن علي بن الحسين عن عبدالله بن عباس حدثني رجل من الانصار انهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله ص - رمى بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله ص

ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية قالوا كنا نقول ولد عظيم او مات عظيم قال فانه لا يرمى بها لموت احد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى امرا سبحه حمله العرش ثم سبحه اهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح اهل السماء الدنيا ثم يقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير فيقولون كذا وكذا فيخبر اهل السموات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر اهل السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيلقونه الى أوليائهم فيلقون الى اوليائهم فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو الحق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون
وكذلك في الحديث الاخر المعروف من رواية نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن ابي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان قال قال رسول الله ص - إذا اراد الله ان يوحى بأمره تكلم بالوحي فاذا تكلم اخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة من خوف الله فاذا سمع بذلك اهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون اول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما اراد فيمضي به جبريل على الملئكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ما ذا قال ربنا يا جبريل فيقول قال الحق وهو العلى الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهى جبريل بالوحى إلى حيث امره الله من السماء والارض وقد رواه ابن ابي حاتم والطبري وغيرهما
وقوله فزع عن قلوبهم أي ازال عنها الفزع وكذلك قال غير واحد من

السلف جلى عن قلوبهم وهذا كما يقال قرد البعير إذا ازال عنه القراد ويقال تحرج وتحوب وتأثم وتحنث إذا أزال عنه الحرج والحوب والاثم والحنث
وروى ابن أبي حاتم ثنا الحسن بن محمد الواسطي ثنا يزيد بن هارون عن شريك عن يزيد بن ابي زياد عن مقسم عن ابن عباس في قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم قال كان إذا نزل الوحي كان صوته كوقع الحديد على الصفوان قال فيصعق اهل السماء حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالت الرسل الحق وهو العلى الكبير وقال عن الحادث الدمشقي ثنا أبى عن عن جعفر بن ابي المغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قال تنزل الامر الى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع اهل السموات فيقولون ما ذا قال ربكم ثم يرجعون الى انفسهم فيقولون الحق وهو العلى الكبير
ويروى من تفسير عطية عن ابن عباس حتى إذا فزع عن قلوبهم الاية قال لما اوحى الله الى محمد دعا الرسول من الملئكة ليبعثه بالوحي سمعت الملئكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا ان الله لا يقول إلا حقا وانه منجزة قال ابن عباس وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا فلما سمعوه خروا سجدا فلما رفعوا رؤسهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير
وباسناده من تفسير قتادة رواية عبد الرزاق عن معمر عنه حتى إذا فزع عن قلوبهم قال لما كانت الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد ص - فنزل الوحى مثل صوت الحديد فأفزع الملئكة ذلك فقال الله حتى إذا فزع

الملائكة والنبيين اربابا فهو كافر مع ان المشركين إنما كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بهم الى الله زلفى فاذا كان هؤلاء الذين دعوا مخلوقا ليشفع لهم عند الله كما يشفع المخلوق عند المخلوق فيسأله ويرغب اليه بلا إذنه وقد جعلهم الله مشركين كفارا مأواهم جهنم فكيف بشرك هؤلاء الفلاسفة وما يثبتونه من الشفاعة فانهم يجوزون دعاء الجواهر العلوية الشمس والقمر والكواكب وكذلك الارواح التي يسمونها العقول والنفوس ويسميها من انتسب الى اهل الملل الملائكة وهؤلاء المشركون قد تنزل عليهم أرواح تقضى بعض مطالبهم وتخبرهم ببعض الامور وهم لا يميزون بين الملائكة والجن بل قد يسمون الجميع ملائكة وارواحا ويقولون روحانية الشمس روحانية عطارد روحانية الزهرة وهى الشيطان والشيطانة التي تضل من اشرك بها كما ان لنفس الاصنام وهي التماثيل المصنوعة على اسم الوثن من الانبياء والصالحين او على اسم كوكب من الكواكب أو روح من الارواح والاصنام ايضا لها شياطين تدخل فيها وتكلم أحيانا بعض المشركين وقد تترايا احيانا فيراها بعض الناس من السدنة وغيرهم
فالمشركون من الفلاسفة القائلين بقدم العالم هم اعظم شركا وما يدعونه من الشفاعة لالهتم أعظم كفرا من مشركى العرب فانهم لا يقولون إن الشفيع يسأل الله والله يجيب دعوته كما يقوله المشركون الذين يقولون إن الله خالق بقدرته ومشيئته فان هؤلاء عندهم انه لا يعلم الجزئيات ولا يحدث شيئا بمشيئته وقدرته وإنما العالم فاض عنه
فيقولون إذا توجه الداعى الى من يدعوه كتوجه الى الموتى عند قبورهم وغير قفبورهم وتوجهه الى الارواح العالية فانه يفيض عليهم ما يفيض من ذلك المعظم الذي دعاه واستغاث به وخضع له من غير فعل من ذلك الشفيع ولا سؤال منه لله تعالى كما يفيض شعاع الشمس على ما يقابلها من الاجسام الصقيلة كالمرآة وغيرها ثم ينعكس الشعاع من ذلك الجسم الصقيل الى حائط أو ما ء وهذا قد ذكره غير

واحد من هؤلاء كابن سينا ومن اتبعه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره
وهؤلاء يزورون القبور الزيارة المنهى عنه بهذا القصد فان الزيارة الشرعية مقصودها مثل مقصود الصلوة على الجنازة يقصد بها السلام على الميت والدعاء له بالمغفرة والرحمة وأما الزيارة المبتدعة التي هى من جنس زيادة المشركين فمقصودهم بها طلب الحوائج من الميت أو الغائب إما ان يطلب الحاجة منه او يطلب منه ان يطلبها من الله وإما ان يقسم على الله به ثم كثير من هؤلاء يقول إن ذلك المدعو يطلب تلك الحاجة من الله او أن الله يقضيها بمشيئته واختياره للاقسام على الله بهذا المخلوق وأما أولئك الفلاسفة فيقولون بل نفس التوجه الى هذه الروح يوجب ان يفيض منها على المتوجه ما يفيض كما يفيض الشعاع من الشمس من غير ان تقصد هى قضاء حاجة احد ومن غير ان يكون الله يعلم بشئ من ذلك على اصلهم الفاسد
فتبين ان شرك هؤلاء وكفرهم اعظم من شرك مشركى العرب وكفرهم وأن اتخاذ هؤلاء الشفعاء الذين يشركون بهم من دون الله اعظم كفرا من اتخاذ اولئك

ليس توسط البشر عند الحنفاء كتوسط العلويات عند الفلاسفة
ولهذا كانت مناظرة كثير من أهل الكلام لهم مناظرة قاصرة حيث لم يعرف أولئك حقيقة ما بعث الله به رسله وانزل به كتبه وما ذمه من الشرك ثم يكشفون بنور النبوة ما عند هؤلاء من الضلال كما ناظرهم الشهر ستانى في كتاب الملل والنحل لما ذكر فصلا في المناظرة بين الحنفاء وبين الصابئة المشركين فان الحنفاء يقولون بتوسط البشر وأولئك يقولون بتوسط العلويات فأخذ يبين أن القول بتوسط البشر

أولى من القول بتوسط العلويات ومعلوم انه إذا اخذ التوسط على ما يعتقدونه في العلويات كان قولهم اظهر فكان رده عليهم ضعيفا لضعف العلم بحقيقة دين الاسلام
فان الحنفاء ليس فيهم من يقول باثبات البشر وسائط في الخلق والتدبير والرزق والاحياء والاماتة وسماع الدعاء وإجابة الداعي بل الرسل كلهم وأتباع الرسل متفقون على انه لا يعبد إلا الله وحده فهو الذي يسأل ويعبد وله يصلى ويسجد وهو الذي يجيب دعاء المضطرين ويكشف الضر عن المضرورين ويغيث عباده المستغيثين ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده الفاطر وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فاليه تجئرون النحل
وليس عند الحنفاء ان احدا غير الله يستقل بفعل شئ بل غايته أن يكون سببا والاثر لا يحصل إلا به وبغيره من الاسباب وبصرف الموانع والله تعالى هو الذي يخلق بتأثير الاسباب وبدفع الموانع مع خلقه سبحانه ايضا لهذا السبب لكن المقصود انه ليس في الوجود ما يستقل باحداث شئ ولا ثم شئ يوجب كل اثر إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
والرسل هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالاته وامره ونهيه ووعده ووعيده كما قال تعالى وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين الانعام والكهف وقال إنا أرسلناك شهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا الاحزاب فاخبر انه ارسله شاهدا كما قال لكيون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس الحج وقال فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا النساء وقال وكذلك جعلنكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا البقرة ولما دفن النبي ص - شهداء احد قال اما انا فشهيد

على هؤلاء وقوله مبشرا ونذيرا بالوعد والوعيد وداعيا الى الله باذنه بالامر والنهى
وقال تعالى وسئل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن الهه يعبدون 6 الزخرف وقال ولقد بعثنا في كل امة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضللة النحل وقال تعالى ومأ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه انه لا اله إلا انا فاعبدون الانبياء وقد اخبر الله عن اول الرسل نوح عليه السلام ومن بعده من الرسل انهم قالوا لقومهم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره الاعراف وقال نوح ولا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول غنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله اعلم بما في انفسهم إنى إذا لمن الظالمين هود وكذلك قال لخاتم الرسل قل لا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا ما يوحى الى الانعام
فتوسط البشر بالرساله مثل توسط الملك بالرسالة كما قال تعالى الله يصطفى من الملئكة رسلا ومن الناس الحج وقال تعالى إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم امين التكوير فهذا جبريل ثم قال وما صاحبكم بمجنون التكوير وقوله وما صاحبكم كقوله في الاية الاخرى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى النجم

استطراد

الحكمة في إرسال الرسول البشري الى البشر دون الملكى
فقوله صاحبكم تنبيه على نعمته على البشر واحسانه اليهم إذ بعث اليهم من يصحبهم ويصحبونه بشرا مثلهم فانهم لا يطيقون الاخذ عن الملك كما قال تعالى وقالوا لولا انزل عليه ملك ولوانزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون الانعام
وروى ابن ابي حاتم عن ابي زرعة عن منجاب بن الحرث عن بشر بن عمارة عن ابي روق عن الضحاك عن ابن عباس ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر لأهلكناهم ثم لا ينظرون لا يؤخرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا يقول لو اتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل لانهم لا يستطيعون النظر الى الملئكة وكذلك قال غيره من المفسرين وللبسنا عليهم قالوا لخلطنا ولشبهنا عليهم ما يخلطون ويشبهون على انفسهم حتى يشكوا فلا يدروا املك هو او ادمى
فبين سبحانه انه لو أنزل ملكا لم يمكنهم ان يروه إلا في صورة بشر كما كان جبريل يأتى النبي ص - إذا رآه الناس في صورة دحية الكلبى او في صورة اعرابي لما اتاه وسأله عن الاسلام والايمان والاحسان وكذلك لما اتوا إبراهيم ولوطا ورأتهم سارة وقم لوط لم يأتوا إلا في صورة رجال وكذلك لما اتى جبريل مريم علهيا السلام لينفخ فيها اتاها في صورة رجل قال تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلما زكيا مريم وإذا كانوا لا يستطيعون ان يروا الملك إلا في صورة رجل فلو جاءهم لقالوا هذا بشر ليس بملك واشتبه الامر واختلط والتبس الامر عليهم فلم تكن هذه شبهة تنقطع بانزال ملك

وهذا كما قال في السورة الاخرى ويسئلونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ولئن شئنا لنذهبن بالذي اوحينا اليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى اكثر الناس إلا كفورا الى قوله وما منع الناس ان يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الارض ملئكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا الاسراء
وايضا في قوله صاحبكم بيان انه عربي بعث بلسانهم كما قال ومآ ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ابراهيم وقد قال تعالى لقد جآءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم التوبة
قيل المراد من انفس العرب فالخطاب لهم
وقيل من انفس بني ادم فهو بشر لا ملك ولا جني لان الخطاب لجميع الخلق الذين ارسل اليهم لا سيما وهذه في سورة براءة وهي من اخر القران نزولا وقيل ان هذه الاية اخر ما نزل وقد نزلت بعد دعوة الروم والفرس والقبط وهو بالمؤمنين من هؤلاء كلهم رؤف رحيم ولا ريب انه صلى الله عليه و سلم من الانس ومن العرب افضل الانس ومن قريش افضل العرب ومن بني هاشم افضل قريش والانفس يراد بهم جنس الانسان كما قال تعالى لولآ اذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنت بأنفسهم خيرا النور فقوله صاحبكم مثل قوله من انفسكم ومثل قوله اكان للناس عجبا ان اوحينآ الى رجل منهم ان انذر الناس يونس
وقوله سبحاني ربي هل كنت الا بشرا رسولا الاسراء لم يقصد بهذا اللفظ تفضيل الملك عليه كما توهمه بعض الناس كما ان قوله ان اوحينا الى رجل

منهم وقوله سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا لم يقصد به ان غيره افضل منه
استطراد آخر

كون الرسول مبلغا للقرآن عن الله لا محدثا له
وقال سبحانه وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطن رجيم التكوير فالرسول هنا هو الرسول الملكي جبريل وقال في السورة الاخرى انه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من احد عنه حجزين الحاقة فالرسول هنا محمد ص -
واضافه الى هذا الرسول تارة والى هذا تارة لان كلا من الرسولين بلغه واداه ولفظ الرسول يتضمن مرسلا ارسله فكان في اللفظ ما يبين ان الرسول مبلغ له عن غيره لا ان الرسول احدث شيئا منه كما توهمه بعض الناس وظن ان اضافته الى رسول يقتضى انه هو الذي احدث القران العربي فانه قد اضافه الى هذا تارة والى هذا تارة فلو كان المراد الاحداث لتناقض الخبران
ولانه اضافه اليه باسم رسول لم يقل انه لقول ملك ولا قول بشر بل قد كفر من قال انه قول البشر في قوله ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا الى قوله انه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم ادبر واستكبر فقال ان هذا الا سحر يؤثر ان هذا الا قول البشر ساصليه سقر المدثر والكلام

الذي توعد بسقر من قال انه قول البشر هو الكلام الذي اضافه الى رسول من البشر تارة والى رسول من الملئكة تارة لان المراد هناك انه بلغه والذي كفره قال انه انشأه وانه كلام نفسه سواء كان المراد المعنى او اللفظ او كلاهما فان الذي لعنه الله هو الذي قال ان هذا الا قول البشر
فمن قال ان هذا القران قول البشر فهو من جنس قوله من بعض الوجوه ولهذا قال تعالى وان احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه التوبة فأخبر ان ما يسمعه المستجير هو كلام الله والمستجير يسمعه بصوت القارىء والصوت صوت القارى والكلام كلام الباري كما قال النبي ص - زينوا القران بأصواتكم وقال لله اشد اذنا الى الرجل الحسن الصوت بالقران من صاحب القينة الى قينته
وكذلك ذكر في غير موضع ان الصوت المسموع من العبد هو صوت العبد كما قال تعالى يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض الحجرات وقال ان الذين يغضون اصواتهم عند رسول الله اولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى الحجرات وقال لقمن لابنه واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان انكر الاصوات لصوت الحمير لقمان
وفي سنن ابي داود عن جابر ان النبي ص - كان يقول في الموسم الا رجل يحملني الى قومه لابلغ كلام ربي فان قريشا قد منعوني ان ابلغ كلام ربي

عود الى اصل الموضوع
فرسل الله وسائط في تبليغ رسالاته كما قال تعالى يأيها الرسول بلغ مآ انزل اليك من ربك المائدة وقال تعالى الا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم ان قد ابلغوا رسالات ربهم الجن وقال تعالى عن نوح ولكني رسول من رب العلمين ابلغكم رسلات ربي الاعراف وكذلك قال هود الاعراف
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي ص - انه قال بلغوا عني ولو اية وحدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوا مقعده من النار وفي السنن عن زيد بن ثابت وابن مسعود ان النبي ص - قال نضر الله امرا سمع منا حديثا فبلغه الى من يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه الى من هو افقه منه وفي الصحيحين عن النبي ص - انه قال في حجة الوداع ليبلغ الشاهد الغائب فرب من مبلغ اوعى من سامع
والمقصود هنا ان الحنفاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له وهم مسلمون وجميع الانبياء واممهم كانوا مسلمين مؤمنين ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل

منه ال عمران لان الدين عند الله الاسلام ال عمران في كل زمان ومكان وقد اخبر الله عن نوح وابراهيم واسرائيل وغيرهم الى الحواريين انهم كانوا مسلمين ونوح اول رسول بعث الى اهل الارض كما ثبت ذلك في الحديث المتفق على صحته حديث الشفاعة عن النبي ص -
فمن جعل ما يثبته الحنفاء من توسط البشر او توسط الملئكة من جنس ما يثبته المشركون واخذ يفاضل بين البشر والملئكة لم يكن عارفا بدين الاسلام
بل قول الحنفاء هو ما قاله الله تعالى في كتابه حيث قال ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربايين بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم ان تتخذوا الملئكة والنبين اربابا ايأمركم بالكفر بعد اذ انتم مسلمون ال عمران فمن اتخذ هؤلاء او هؤلاء اربابا كما يقول من يجعلهم وسائط في العبادة والدعاء ونحو ذلك فهو كافر
وصاحب الكتب المضنون بها قد جعل الملئكة والنبيين وسائط وجعل هذه شفاعتهم موافقة للفلاسفة كما تقدم من ان هذا القول شر من قول مشركي العرب
وجاء بعده صاحب كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم فذكر فيه الشرك الصريح من عبادة الكواكب والجن والشياطين ودعواتها وبخورها وخواتيمها واصنامها التي تجعل لها على مذهب المشركين الكلدانيين والكشدانيين الذين بعث اليهم ابراهيم الخليل وبنى على ذلك القول بقدم العالم وان لا سبب

لحدوث الحوادث الا مجرد حركة الفلك كما يقوله هؤلاء القائلون بقدم العالم الذين هم شر من مشركي العرب
وكذلك ذكر في تفسير حديث المعراج ما هو مبني على اصول هؤلاء الذين هم اكفر الكفار كقوله ان الانبياء الذين رآهم النبي ص - هم الكواكب فآدم القمر ويوسف الزهرة ونحو هذا الهذيان وان المعراج انما هو رؤية قلبه الوجود كما يذكر ابن عربي وغيره مثل هذا المعراج ويثبتون لانفسهم اسراء ومعراجا
وهذه خيالات تلقيها الشياطين مناسبة لما يعتقدونه من الالحاد على عادة الشياطين في إضلال بني آدم فانما يضلونهم بما يقبلونه منهم وما يوافق اهواءهم
والحمد لله رب العالمين

أقسام الكتاب
1 2 3 4