كتاب :الرد على المنطقيين
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

ولكن مذهب الفلاسفة الذين نصره الفارابي وابن سينا وأمثالها كالسهروردي وردى المقتول على الزندقة وكأبي بكر بن الصائغ وابن رشد الحفيد هو مذهب المشائين اتباع ارسطو صاحب المنطق وهو الذي يذكره الغزالي في كتاب

مقاصد الفلاسفة وعليه رد في التهافت وهو الذي يذكره الرازي في الملخص و المباحث المشرقية ويذكره الامدى في دقائق الحقائق ورموز الكنوز وغير ذلك
وعلى طريقهم مشى ابو ابركات صاحب المعتبر لكن لم يقلدهم تقليد غيره بل اعتبر ما ذكروه بحسب نظره وعقله وكذلك الرازي والامدى يعترضان عليهم في كثير مما يذكرونه بحسب ما يسنح لهم وابن سينا ايضا قد يخالف الاولين في بعض ما ذكروه ولهذا ذكر في كتابه المسمى ب الشفاء ان الحق الذي ثبت عنده ذكره في الحكمة المشرقية والسهروردي ذكر ما ثبت عنده في حكمة الاشراق والرازي في المباحث المشرقية
واتباع ارسطو من الاولين اشهرهم ثلاثة برقلس والاسكندر الافرديوسي وثامسطيوس صاحب الشروح والترجمة واذا قال الرازي في كتبه اتفقت الفلاسفة فهم هؤلاء والا فالفلاسفة طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والالهيات وفي الهيئة ايضا وقد ذكروا انه اول من قال منهم بقدم العالم ارسطو

وقد ذكر محمد بن يوسف العامري وهو من المصنفين في مذاهبم ان قدماءهم دخلوا الشام واخذوا عن اتباع الانبياء داود وسليمان وان فيثاغورس معلم سقراط اخذ عن لقمان الحكيم وسقراط هو معلم افلاطن وافلاطن معلم ارسطو
والمقصود هنا ان نظار المسلمين ما زالوا يصنفون في الرد عليهم في المنطق وغير المنطق ويبينون خطاهم فيما ذكروه في الحد والقياس جميعا كما يبينون خطأهم في الالهيات وغيرها ولم يكن احد من نظار المسلمين يلتفت الى طريقتهم بل المعتزلة والاشعرية والكرامية والشيعة وسائر طوائف النظر كانوا يعيبونها و يثبتون فسادها واول من خلط منطقهم بأصول المسلمين ابو حامد الغزالي وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره

كلام النوبختي في الرد على المنطق
وهذا الرد عليهم مذكور في كثير من كتب اهل الكلام لكن اتفق اني رايت هذا الفصل اولا في كلام النوبختي فانه بعد ان ذكر طريقة ارسطو في المنطق قال
وقد اعترض قوم من متكلمي اهل الاسلام على اوضاع المنطق هذه وقالوا اما قول صاحب المنطق ان القياس لا يبنى من مقدمة واحدة فغلط لان القائل اذا اراد مثلا ان يدل على ان الانسان جوهر فقال استدل على نفس الشيء المطلوب من غير تقديم المقدمتين وهو ان يقول ان الدليل على ان الانسان جوهر انه يقبل المتضادات في ازمان مختلفة وليس يحتاج الى مقدمة ثانية هي قول القائل ان كل قابل للمتضادات في ازمان مختلفة فجوهر لان دلالته على ان كل قابل للمتضادات في ازمان مختلفة فجوهر هو نفس ما خولف فيه واراد الدلالة عليه لان الخاص داخل في العام فعلى ايهما دل استغنى عن الاخر وقد يستدل الانسان اذا شاهد الاثر على ان له مؤثرا والكتابة على ان لها

كاتبا من غير ان يحتاج في استدلاله على صحة ذلك الى المقدمتين قالوا فنقول انه لا بد من مقدمتين فاذا ذكرت احداهما استغنى بمعرفة المخاطب بالاخرى فترك ذكرها لا لانه مستغن عنها
قلنا لسنا نجد مقدمتين كليتين يستدل بهما على صحة نتيجة لان القائل اذا قال الجوهر لكل حي والحيوة لكل انسان فتكون النتيجة ان الجوهر لكل انسان فسواء في العقول قول القائل الجوهر لكل حي وقوله لكل انسان
قلت معنى ذلك انا اذا قلنا كل انسان حي وكل حي جوهر كما يقولون كل انسان حيوان وكل حيوان جوهر او جسم فسواء في العقول علمنا بان كل انسان جوهر او جسم وعلمنا بأن كل حيوان جوهر او جسم فمن علم ان كل حيوان جوهر فقد علم ايضا ان كل إنسان جوهر
ومقصوده أنهم لا يجدون مقدمتين أوليتين بديهيتين يستدل بهما على شئ من موارد النزاع التي تحتاج الى البرهان بل لا بد ان يكون إحداهما او كلاهما غير بديهية ومتى قدر أنهما بديهيتان فاحداهما تكفى كما ذكره من المثال وإن قدرت إحداهما نظرية فهى التي يحتاج الى بيانها وإذا كانتا جميعا نظريتين احتيج الى بيانهما جميعا كما لو كانت ثلاث مقدمات وما يحتاج الى انه يستدل عليه ثم يستدل به وإنما يستدل إبتداء بما هو بين بنفسه كالبديهيات
قال ولا يجدون في المطالب العلمية ان المطلوب يقف على مقدمتين بينتين بأنفسهما بل إذا كان الامر كذلك كانت إحداهما كافية
قال ونقول لهم أرونا مقدمتين أوليتين لا تحتاجان الى برهان يتقدمهما يستدل بهما على شئ مختلف فيه وتكون المقدمتان في العقول أولى بالقبول من النتيجة فاذا كنتم لا تجدون ذلك بطل ما ادعيتموه
قال أبو محمد الحسن بن موسى النوبخي وقد سألت غير واحد من رؤسائهم

ان يوجد بينة فما أوجد بينة
قال فما ذكره أرسطو طاليس غير موجود ولا معروف
قال وأما ما ذكره بعد ذلك من الشكلين الباقيين فهما غير مستعملين على ما بناهما عليه وإذا كانا يصحان بقلب مقدماتهما حتى يعودا الى الشكل الاول فالكلام حينئذ في الشكل الاول هو الكلام فيهما
وذكر كلاما آخر ليس هذا موضعه ومقصوده ان سائر الاشكال إنما تنتج بالرد إلى الشكل الاول إما بقياس الخلف الذي يتضمن إثبات الشئ بابطال نقيضه وإما بواسطة حكم نقيض القضية أو عكسها المستوى أو عكس نقيضها فبيان الاشكال ونتاجها فيه كلفة ومشقة مع انه لا حاجة اليها فان الشكل الاول يمكن ان يستعمل فيه جميع المواد الثبوتية والسلبية الكلية والجزئية وقد عرفت انتفاء فائدته فانتفاء فائدة فروعه التي لا تفيد إلا بالرد اليه أولى وأحرى
والمقصود هنا ان هذه الامة ولله الحمد لم يزل فيها من يتفظن لما في كلام اهل الباطل من الباطل ويرده وهم لما هداهم الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأيا وراية من غر تشاعر ولا تواطؤ

بطلان دعواهم ان النتائج النظرية تحتاج الى مقدمتين
وهذا الذي نبه عليه هؤلاء النظار يوافق ما نبهنا عليه فان القياس مشتمل على مقدمتين صغرى وكبرى فالكبرى هي العامة والصغرى اخص منها كما إذا قلت كل نبيذ خمر وكل خمر حرام فان النبيذ المتنازع فيه اخص من الخمر والخمر اخص من الحرام فالاول هو الحد الاصغر والاخر هو الحد الاكبر والاوسط المتكرر فيهها هو الحد الاوسط وحاصل القياس إدراج خاص تحت عام
ومعلوم ان من علم العام فقد علم شموله لافراده ولكن قد يعزب عنه دخول

بعض الافراد فيه إما لعزوب علمه بالعام او لعزوب علمه بالخاص كما مثله المنطقيون ابن سينا وغيره فيمن ظن ان هذه الدابة تحمل فيقال له اما تعلم ان هذه بغلة فيقول نعم ويقال له اما تعلم ان البغلة لا تحمل فحينئذ يتفطن لانها لم تحمل فهذا وان ذكر بشيء كان غافلا عنه لم يستفد بذلك علم ما لم يكن يعلمه فان لم يخطر بقلبه هذا لم يلزم من علمه بأنها بغلة انها لا تحمل
لكن هذا قد لا يحتاج الا الى مقدمة واحدة وهي التي يذكرها فانه ان كان يعلم ان هذه الدابة بغلة ونسى ان البغلة لا تحمل بحمل وهو قد جهل او نسى ان هذه بغلة عرف بهذه وحدها
وقد تنازع في هذا الموضع طائفتان ابن سينا ومن معه والرازي ومن معه وسبب نزاعهما الاصل الفاسد الذي اخذوه تقليدا لارسطو فقال ابن سينا لا بد مع المقدمتين من التفطن لاندراج الخاص تحت العام ومثله بهذا فقال قد يكون الرجل يعلم ان هذه الدابة المعينة بغلة ويعلم ان البغلة لا تحمل لكن يذهل عن دخول هذا المعين تحت ذلك العام فاذا تفطن لذلك حصل النتاج والا فلا
وقال الرازي وهذا يقتضى انه لا بد من ثلاث مقدمات مقدمة بأن يعلم ان هذه بغلة ومقدمة ان البغلة لا تحمل ومقدمة ان هذا يتناول هذا واختار انه لا يحتاج الا الى مقدمتين ان هذه بغلة وان البغلة لا تحمل وانه اذا كان غافلا عن هذه الكلية لم يكن عالما بها بالفعل فاذا صار عالما بها بالفعل بحيث تكون حاضرة في ذهنه امتنع مع ذلك ان لا يعلم ان هذه البغلة لا تحمل
وفصل الخطاب ان المطلوب قد يحتاج الى مقدمة والى اثنتين والى ثلاث والى اربع فأصل الاضطراب دعواهم ان النتائج النظرية تحتاج الى مقدمتين وتكفى فيها مقدمتان فجعلوا لا بد في كل مطلوب نظري من مقدمتين وادعوا انه يكفى في كل مطلوب نظري مقدمتان وكلا الامرين باطل

فالشخص المعين إذا راى دابة وظنها حاملا إن كان ممن لم يعلم أنها بغلة ولم يعلم أن البغال عقم او يعلم الامرين ونسيهها او نسى احدهما وجهل الاخر فانه يحتاج الى العلم بمقدمتين وتذكر المنسي نوع من العلم يحتاج ان يعلم انها بغلة ويعلم ان البغلات لا يحملن وإن كان يعلم ان البغلة لا تحمل لكن لم يعرف انها بغلة احتاج الى مقدمة واحدة فاذا قيل له هذه بغلة فاذا عرف انها بغلة وفي نفسه معلوم ان البغلة لا تحمل علم ان هذه المعينة لا تحمل وإن كان يعلم ان هذه بغلة وقد علم قديما ان البغلة لا تحمل لكن عزب هذا العلم عن ذهنه في هذا الوقت ونسيه فهذا قد نسى علمه والنسيان من اضداد العلم فاذا ذكر بعلمه ذكره فاذا ذكر أن البغلة لا تحمل حصل له مقدمة واحدة
والعلم يحصل بالعلم بالدليل لمن لم يكن عالما به قط ولمن يذكره بعد النسيان إذا كان قد علمه ثم نسيه ولهذا قال سبحانه أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنينها وزينها وما لها من فروج والارض مددنها والقينا فيها رواسي وأنبتنا فيه من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ق فبين سبحانه ان آياته تبصرة وتذكرة فالتبصرة بعد العمى وهو الجهل والتذكرة بعد النسيان وهو ضد العلم
وهؤلاء لما تقلدوا قول من يقول إنه لا بد من مقدمتين وبهما يحصل النتاج فرأى بعضهم ان المقدمتين معلومتان لهذا الظان أن هذه البغلة حامل مع عدم العلم قال فلا بد من التفطن فيقال له ما ذكرته من التفطن هو الذي يحتاج اليه هذا لا يحتاج الى شئ من المقدمات غير هذه وهذا التفطن هو تذكر ما نسيه وهو مقدمة واحده
ومن قال إن هذا هو إحدى المقدمتين فقد أصاب في ذلك لكن يقال له لا تحتاج إلا الى هذه المقدمة فقط لا تحتاج الى غيرها وهذا الظان متى حضر في

ذهنه أن هذه بغلة وان البغلة لا تحمل لزم قطعا ان يحضر في ذهنه انها لا تحمل
فالمدلول لازم للدليل فمتى تصور الانسان الدليل ولزوم المدلول له تصور المدلول فاذا تصور انها بغلة وتصور لازم ذلك وهو نفى الحمل عن البغلة تصور قطعا نفيه عن هذه فأما مجرد الدليل بدون تصور لزوم المدلول له فلا يحصل به العلم واللوازم البين لزومها للدليل تعلم بمجرد العلم به وبلزومها له واللوازم الخفية التي يفتقر العلم بلزومها الى وسط وهو دليل ثان على اللزوم يقف على ذلك والاذهان في هذا متفاوقة فقد يحتاج هذا الذهن في معرفة اللزوم الى وسط وهو الدليل والاخر لا يحتاج اليه
وقد تنازع النظار في العلم الحاصل بالدليل هل هو لزومه عن الدليل لزوما عاديا كما يقولونه في الشبع مع الاكل أو لزوما عقليا يسمى التضمن بحيث لا يمكن الانفكاك عنه كما يمتنع وجود العلم والارادة بدون الحيوة
والاول قول قدماء النظار كالاشعري وغيره ولهذا جعله المعتزلة من باب التولد وهذا كالرؤية مع التحديق وكالسمع مع الاصغاء وإلا فحصول العلم بالدليل دون المدلول عليه ليس ممتنعا لذاته بل الاول سبب للثاني ومقتض له وموجب له بحكم سنة الله تعالى في عباده بخلاف الحيوة مع العلم فان الاول شرط للثاني ولهذا كان العلم يوجد مع الحيوة ليست الحيوة متقدمة عليه كما يتقدم العلم بالدليل على العلم بالمدلول عليه
ونظار المسلمين مع تنازعهم في هذا متفقون على ان الدليل مقدمة واحدة كما ذكرناه وما ذكروه من البغلة موجود في سائر النظريات فان الانسان قد يعلم الخاص ولا يعلم العام وقد يعلم العام ولا يعلم الخاص كما قد يعلم ان هذه بغلة ولا يعلم ان البغلة لا تحمل وقد يعلم أن البغلة لا تحمل ولا يعلم ان هذه بغلة ولا يجب ان يكون علمه بالخاص مقدما على العام ولا متاخرا بل قد يتفق في بعض الناس علمه بالخاص قبل العام وفي بعض الناس يعلم العام قبل الخاص

وكذلك المعينات وذلك أن علمه بأن هذه البغلة لا تحمل كعلمه بأن هذه لا تحمل وبأن هذه لا تحمل فلا يجب أن يعلم ان هذا المعين مثل هذا المعين بل قد يعلم احد المعينين ولا يعلم الاخر ولا يجب ان يكون علمه بالمعينات قبل علمه بالقضية العامة ولا ان يكون بالمعينات أعلم ولا يجب ان يكون بالقضية العامة الكلية التي يستفيد بها العلم بحكم الققضايا المعينة اعلم منه بوصف القضايا المعينة أي لا يجب ان يكون علمه بأن كل بغلة لا تحمل اقوى ولا يجب ان يكون العلم العام الذي يفيده علم المعينات في نفسه اسبق من علم معين علم به انها بغلة أي العلم بأن البغلة لا تحمل لا يجب ان يكون اقوى ولا اسبق في الذهن من العلم بأن هذه الدابة بغلة بل قد يجهل انها بغلة كما قد يجهل أن البغلة لا تحمل فاذا قدر انه يعلم ان البغلة لا تحمل ومستنده في ذلك ما اشتهر من خبر الناس فذلك يتناول المعين كتناوله لما هو اعم منه مثل تناوله للبغلات الحمراء والسوداء ولما تكون امه اتانا فلو خطر له ان ما تكون امه اتانا وابوه حصانا يحمل قيل له اما تعلم ان هذا البغلة وان البغلة لا تحمل
وان كان مستنده في ان البغلة لا تحمل هو تجربته فالتجربة لا تكون عامة وانما جرب ذلك في بغلات معينة فما به يعلم مساواة سائر البغلات لها يعلم مساواة هذه البغلة لها
واعتبر هذا بنظائره يتبين لك انه يمكن الاستغناء عن القياس المنطقي بل يكون استعماله تطويلا وتكثيرا للفكر والنظر والكلام بلا فائدة وان الحاجة الى المقدمات بحسب حال المستدل فقد يحتاج تارة الى مقدمة وتارة الى ثنتين وتارة الى ثلاث وتارة الى اكثر من ذلك وانه تارة يجهل كون المعين بغلة واذا كان كذلك فمتى علم ان هذه بغلة علم انها لا تحمل اذا كان قد حصل في نفسه علم عام يتناول جميع البغلات واذا علم المعين وهو انها بغلة ولم يعلم المطلق لم يحتج الا الى علم العام وهو ان البغلة لا تحمل واعتبر هذا بسائر الامور تجده كذلك

الوجه الثالث
عدم دلالة القياس البرهاني على اثبات الصانع
الوجه الثالث ان القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة وانما تكون كلية في الاذهان لا في الاعيان واما الموجودات في الخارج فهي امور معينة كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشاركه فيها غيره فحينئذ لا يمكن الاستدلال ب القياس على خصوص وجود معين وهم معترفون بذلك وقائلون ان القياس لا يدل على امر معين وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وانما يدل على كلي والمراد بالجزئي ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وكل موجود له حقيقة تخصه يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها فاذن القياس لا يفيد معرفة امر موجود بعينه وكل موجود فانما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شيء من حقائق الموجودات وانما يفيد امورا كلية مطلقة مقدرة في الاذهان لا محققة في الاعيان
وقد بسطنا الكلام على هذا وغيره في غير هذا الموضع وبين ان ما يذكره النظار من الادلة القياسية التي يسمونها براهين على اثبات الصانع سبحانه وتعالى لا يدل شيء منها على عينه وانما يدل على امر مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
فانا اذا قلنا هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث او ممكن والممكن لا بد له من واجب انما يدل هذا على محدث مطلق او واجب مطلق ولو عين بأنه قديم ازلي عالم بكل شيء وغير ذلك فكل هذا انما يدل فيه القياس على امر مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وانما يعلم عينه بعلم اخر يجعله الله في القلوب وهم معترفون بهذا لان النتيجة لا تكون ابلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لا بد من ذلك والكلي لا يدل على معين
وهذا بخلاف ما يذكره الله في كتابه من الايات كقوله تعالى ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار الى قوله لقوم يعقلون البقرة

وقوله ان في ذلك لايات لقوم يعقلون لقوم يتفكرون وغير ذلك فانه يدل على المعين كالشمس التي هي اية النهار وقال تعالى وجعلنا اليل والنهار ايتين فمحونا اية اليل وجعلنا اية النهار مبصرة لتبتغوا الاسراء والدليل اتم من القياس فان الدليل قد يكون بمعين على معين كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة ف الايات تدل على نفس الخالق سبحانه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره فان كل ما سواه مفتقر اليه نفسه فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه

الكلام على علة الافتقار الى الصانع
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع مثل ما ذكرناه من طرق اثبات العلم بالصانع والطرق التي سلكها عامة النظار في هذا المطلوب والكلام على المحصل وغير ذلك فان المتأخرين من النظار تكلموا في علة الافتقار الى المؤثر وان شئت قلت الى الصانع هل هو الامكان او الحدوث او مجموعهما
فالاول قول المتفلسفة المتأخرين ومن وافقهم كالرازي ومقصودهم بذلك ان مجرد الامكان بدون الحدوث يوجب الافتقار الى الصانع فيمكن كون الممكن قديما لا محدثا مع كونه مفتقرا الى المؤثر وهذا القول مما اتفق جماهير العقلاء من الاولين والاخرين على فساده حتى ارسطو وقدماء الفلاسفة ومن اتبعه من متأخريهم كابن رشد الحفيد وغيره كلهم يقولون ان ما امكن وجوده وامكن عدمه لا يكون الا محدثا وانما قال هذا القول ابن سينا وامثاله واتبعهم الرازي وامثاله وهؤلاء يجعلون الشيء الممكن مفتقرا الى الفاعل في حال بقائه فقط فانه لم يكن له حال حدوث ولهذا لما جعلوا مثل هذا ممكنا اضطرب كلامهم في الممكن وورد عليهم اشكالات لا جواب لهم عنها كما ذكر في كتبه كلها الكبار والصغار ك الاربعين ونهاية العقول والمطالب العالية والمحصل وغيرها وقد بسطناه في غير هذا الموضع

والقول الثاني ان علة الافتقار مجرد الحدوث وان المحدث يفتقر الى الفاعل حال حدوثه لا حال بقائه وهذا قول طائفة من اهل الكلام المعتزلة وغيرهم وهذا ايضا قول فاسد
والقول الثالث ان علة الافتقار هي الامكان والحدوث ولم يجعل احدهما شرطا في الاخر وقد يجعل احد الشطرين وقد بينا في غير هذا الموضع ان كل واحد من الحدوث والامكان دليل على الافتقار الى الصانع وان كانا متلازمين فاذا علمنا ان هذا محدث علمنا انه مفتقر الى من يحدثه واذا علمنا ان هذا ممكن وجوده وممكن عدمه علمنا انه لا يرجح وجوده على عدمه الا بفاعل يجعله موجودا
وكونه مفتقرا الى الفاعل هو من لوازم حقيقته لايحتاج ان يعلل بعلة جعلته مفتقرا بل الفقر لازم لذاته فكل ما سوى الله فقير اليه دائما لايستغني عنه طرفة عين وهذا من معاني اسمه الصمد ف الصمد الذي يحتاج اليه كل شيء وهو مستغن عن كل شيء وكما ان غنى الرب ثبت له لنفسه لا لعلة جعلته غنيا فكذلك فقر المخلوقات وحاجتها اليه ثبت لذواتها لا لعلة جعلتها مفتقرة اليه
فمن قال علة الافتقار الى الفاعل هي الحدوث أو الامكان أو مجموعهما إن اراد ان هذه المعاني جعلت الذات فقيرة لم يصح شئ من ذلك وإن أراد أن هذه المعاني يعلم بها فقر الذات فهو حق فكل منهما مستلزم لفقر الذات وهي مفتقرة اليه حال حدوثها وحال بقائها لا يمكن استغناؤها عنه لا في هذه الحال ولا في هذه الحال
وأما تقدير ممكن يقبل أن يكون موجودا ويقبل أن يكون معدوما مع انه واجب الوجود لغيره أزلا وابدا فهذا جمع بين المتناقضين فان ما يجب وجوده أزلا وأبدا لا يقبل العدم أصلا وقول القائل إنه باعتبار ذاته مع قطع النظر

عن موجبه يقبل الوجود والعدم باطل لوجوه
منها ان هذا مبنى على أن له ذاتا محققة في الخارج غير الموجود المعين وأن تلك الذات تكون ثابتة مع عدمه وهذا باطل بل ليس له حقيقة في الخارج إلا الموجود الثابت في الخارج وما يكون حقيقة الوجود لا يقبل العدم اصلا فليس في الخارج ماهية ثابتة تكون ثابتة في الخارج في حال العدم حتى يقال إن الوجود يعرض ولكن الذات المعلومة المتصورة في الذهن تكون تارة موجودة في الخارج وتارة معدومة
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع فان هذا يتعلق بقول من يقول المعدوم شئ من المعتزلة وغيرهم ويقول من يقول الماهيات ثابتة في الخارج وهي الموجودات المعينة كقول من يقول ذلك من المتفلسفة ومن وافقهم وكلاهما باطل بل الفرق المعقول هو الفرق بين ما يعلم في الاذهان وبين ما يوجد في الاعيان فاذا قيل لما يعلم في الذهن إنه شئ في الذهن او العلم او ثابت في العلم او الذهن او سمى ذلك ماهية وقيل إن المثلث تثبت ماهيته في الذهن مع الشك في وجوده فهذا صحيح وأما إذا قيل في الخارج ذات ثابتة لا موجودة أو في الخارج ماهيه المثلث او غيره ثابتة مع انه ليس موجودا فهذا باطل يعلم بطلانه بالتصور الجيد السليم والدلائل الكثيرة كما قد بسط في موضعه
ومنها أنه لو فرض ان ل الممكن ذاتا غير وجوده فاذا كان الموجود لازما لها أبدا وأزلا واجبا بغيرها لم تقبل هذه الذات ان تكون معدومة قط وقول القائل هى في نفسها ليس لها وجود إذا قدر أن هناك ذاتا غير الوجود لا يقتضى أنه يمكن عدمها ويمكن وجودها مع القول بوجوب وجودها أزلا وأبدا
ومنها ان الفاعل لا بد أن يتقدم مفعوله المعين لا يجوز مقارنته له في الزمان وما يذكرونه من تقدم حركة اليد على حركة الخاتم ونحو ذلك ويجعلونه تقدما بالعلة ليس في شئ من ذلك علة فاعلة اصلا وإنما ذلك شرط في هذا ولا يمكن أحدا

قط أن يبين في الوجود علة فاعلة لمعلول مفعول مع مقارنتها له في الزمان اصلا وإنما يمكن المقارنة بين الشرط والمشروط ولكن لفظ العلة فيه إجمال يراد به الفاعل ويراد به القابل والشروط
وهذا أيضا مما حصل فيه تلبيس في صفات واجب الوجدود لما قالوا لو كانت له صفات لكانت معلولة للذات والواجب لا يكون معلولا فيقال لهم واجب الوجود قد يعنى به ما لايحتاج الى فاعل فالصفات واجبة بهذا الاعتبار وقد يعنى به ما لا يفتقر الى محل وعلى هذا فالذات واجبة وأما الصفات فليست واجبة بهذا التفسير والبرهان قام على ان الممكنات لا بد لها من فاعل لا يفتقر الى ما سواه لم يقم على ان صفاته كذاته لا تفتقر الى محل وهذه الامور مبسوطة في موضعها

الكلام على جنس القياس والدليل مطلقا
والمقصود هنا الكلام على جنس القياس والدليل مطلقا وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع لما تكلمنا على ما ذكروه من أن الاستدلال تارة يكون بالعام على الخاص وهو القياس وتارة بالخاص على العام وهو الاستقراء وتارة بأحد الخاصين على الاخر وهو التمثيل وبينا فساد هذا الحصر والتقسيم وفساد ما ذكر في حكم الاقسام فان من أنواع الاستدلال ما يستدل فيه بمعين على معين وبالمساوى على المساوى سواء كان معينا أو كليا
فليس من ضرورة الدليل أن يكون أعم أو اخص بل لا بد في الدليل من أن يكون ملزوما للحكم والملزوم قد يكون اخص من اللازم وقد يكون متساويا له ولا يجوز ان يكون أعم منه لكن قد يكون اعم من المحكوم عليه الموصوف الذي هو موضوع النتيجة المخبر عنه
فان المطلوب الذي هو النتيجة إذا كانت هو أن النبيذ المسكر المتنازع فيه حرام فاستدل على ذلك بان النبيذ المسكر خمر بالنص وهو قول النبي ص - كل مسكر خمر رواه مسلم وغيره ف الخمر أعم من النبيذ المتنازع فيه

أخص من الحرام والحرام هو الحكم وهو الخبر وهو الصفة وهو المطلوب بالدليل وهو الذي يسمونه الحد الاكبر ويسمونه محمول النتيجة والنبيذ هو المحكوم عليه وهو المخبر عنه وهو الموصوف وهو محل الحكم وهو الذي يسمونه الحد الاصغر وموضوع النتيجة والخمر هو الدليل وهو الحد الاوسط والمطلوب بالدليل معرفة الحكم لا معرفة عينة فهذا الدليل يجب أن لا يكون أخص من محل الحكم بل يكون إما مساويا له وإما أعم منه لانه لا بد ان يشمل جميع محل الحكم فاذا كان اخص لم يشمله
ويجب ان لا يكون أعم من الحكم بل يكون إما مساويا له وإما اخص منه لانه مستلزم للحكم والحكم لازم له فاذا كان أعم منه امكن وجوده بدون وجود الحكم فلا يصلح أن يكون دليلا مستلزما له فلا بد في الدليل أن يكون مساويا للحكم أو أخص منه ليكون مستلزما له ولا بد ان يكون أعم من المحكوم عليه او مساويا له ليتناول جميع صور المحكوم عليه وإلا لم يكن دليلا على حكمه بل على حكم بعضه
والناس هنا قد يضطرب أذهانهم في الدليل هل يجب ان لا يكون اعم من المدلول عليه أو لا يكون اخص وسبب ذلك أن المدلول عليه قد يعنى به الحكم نفسه وقد يعنى به المحكوم عليه فاذا أقمنا الدليل على ان النبيذ حرام فقد يقال المدلول عليه هو النبيذ وهذا يجب أن لا يكون أعم من الدليل بل إما مساويا وإما أخص وقد يقال المدلول عليه هو الحكم وهو حرمة النبيذ وهذا الحكم يجب ان لا يكون اخص من الدليل بل يكون إما مساويا له وإما أعم منه لان الحكم لازم للدليل والدليل لازم للمحكوم عليه فلا بد ان يكون المحكوم عليه مستلزما للدليل بحيث يكون حيث وجد وجد الدليل ليشمله الدليل ولا بد أن

يكون الحكم لازما للدليل بحيث يكون حيث تحقق الدليل تحقق الحكم حتى يثبت الحكم في جميع صور المحكوم عليه
وإذا كان كذلك فقد يستدل بالمعين على المعين المساوى له في العموم والخصوص كالاستدلال باحدى كواكب السماء على الملازم كما يستدل بالجدى على بنات نعش وببنات نعش على الجدى ويستدل بالجدى على جهة الشمال وبجهة الشمال على الجدى ويستدل بالشمس على المشرق وبالمشرق على الشمس ومن هذا الباب ما ذكر من اخبار نبينا ص - في كتب الانبياء قبله فانها صفات مطابقة له ليست اعم منه ولا أحص منه وكذلك سائر الامور المتلازمة فانه يستدل بأحد المتلازمين على ثبوت الاخر وبانتفائه على انتفائه فاذا كان المدلول معينا كانت الاية معينة
وقد تكون الاية تستلزم وجود المدلول من غير عكس كآيات الخالق سبحانه وتعالى فانه يلزم من وجوده وجدوده ولا يلزم من وجوده وجودها وهي كلها آيات دالة على نفسه المقدسة لا على أمر كلى لا يمنع تصوره من وقوع الاشتراك فيه بينه وبين غيره بل ذلك مدلول القياس
والقرآن يستعمل الاستدلال ب الايات ويستعمل ايضا في إثبات الالهية قياس الاولى وهو أن ما ثبت لموجود مخلوق من كمال لا نقص فيه فالرب احق به وما نزه عنه مخلوق من النقائص فالرب أحق بتنزيهه عنه كما ذكر سبحانه وتعالى هذا في محاجته للمشركين الذين جعلوا له شركاء فقال ضرب لكم مثلا من انفسكم هل من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقنكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم انفسكم الروم
وقال تعالى ويجعلون لله البنت سبحنه ولهم ما يشتهون وإذا بشر احدهم

بالاثنى ظل وجه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون ام يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم النحل وقال أفريتم اللت والعزى ومنوة الثالثة الاخرى الكم الذكر وله الانثى تلك إذا قسمته ضيزى النجم وكذلك في إثبات صفاته وإثبات النبوة والمعاد كما قد بسط في موضعه
وأما القياس الذي يستوى افراده ويماثل الفرع فيه أصله فهذا يمتنع استعماله في حق الله تعالى فان الله لا مثل له سبحانه وتعالى وإذا استعمل فيه مثل هذا القياس لم يفد إلا أمرا كليا مشتركا بينه وبين غيره لا يدل على ما يختص به الرب سبحانه إلا أن يضم اليه علم آخر فان هذا الكلى الذي هو مدلول القياس قد انحصر نوعه في شخصه وهذا ايضا لا يفيد التعيين بل لا بد في التعيين من علم آخر

الوجه الرابع
التصور التام للحد الاوسط يغنى عن القياس المنطقي
الوجه الرابع أن يقال القياس ثلاثة انواع قياس التداخل وقياس التلازم وقياس التعاند باعتبار القضايا الحملية والشرطية المتصلة والشرطية المنفصلة ومن ذلك تعرف المختلطات فنقول مثلا في قياس التداخل له ثلاثة حدود الحد الاصغر والحد الاوسط والحد الاكبر إذا قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام ف المسكر مثلا هو الحد الاصغر والخمر الاوسط والحرام الاكبر والاصغر لا بد ان يكون داخلا في الاوسط لانه اخص منه او مساويا له والشئ يدخل في أكثر منه وفي نظيره كما يدخل الانسان في الحيوان فان الحيوان اعم وكذلك الانسان والناطق والضحاك متلازمة فكل منها يتناول الاخر فكذلك التداخل في الاحكام الشرعية فان من شرب الخمر ثم شرب ثم شرب كفاه حد

واحد والنتيجة المطلوبة هى كل مسكر حرام
والنظر نوعان أحدهما النظر في المسئلة التي هي القضية المطلوب حكمها ليطلب دليلها الذي هو الحد الاوسط مثلا وهذا هو النظر الذي لا يجامع العلم بل يضاده لان هذا الناظر طالب للعلم بها ولو كان عالما بها لم يطلب العلم لان ذلك تحصيل الحاصل والثاني النظر في الدليل وهو العلم بالدليل المستلزم للعلم بالمدلول عليه وهو تصور الحد الاوسط المستلزم لثبوت الاكبر للاصغر مثل من يعلم ان الخمر حرام وأن كل مسكر خمر فيلزم أن يعلم أن كل مسكر حرام وهذا النظر هو ترتيب المقدمتين في النفس وهذا النظر هو الذي يوجب العلم ولا ينافى العلم
وللناس في هذا الباب اضطراب عظيم هل النظر مفيد للعلم أو غير مفيد وهل هو ضد العلم ام لا وأمثال ذلك وكثير من النظار يقول في مصنفه إن النظر يضاد العلم ويقول ايضا إنه مستلزم للعلم وهذا تناقض بين فان ملزوم الشئ لا يكون مضادا له لكن النظر الذي يستلزم العلم غير النظر الذي يضاده فذاك هو النظر الاستدلالى وهذا هو النظر الطلبي ذاك هو نظر في الدليل فاذا تصوره وتصور استلزامه للحكم علم الحكم والنظر الطلبي نظر في المطلوب حكمه هل يظفر بدليل يدله على حكمه أو لا يظفر كطالب الضالة والمقصود قد يجده وقد لا يجده وقد يعرض عنهما فان الاول انتقال من المبادئ الى المطالب والاخر انتقال من المطالب الى المبادئ
وتحقيق الامر ان النظر نوعان بمنزلة نظر العين وهو نوعان احدهما التحديق لطلب الرؤية وهو بمنزلة تحديق القلب في المسئلة لطلب حكمها وهذا قد يحصل معه العلم وقد لا يحصل ولا يكون طالب العلم حين الطلب عالما بمطلوبة تصديقا كان علمه أو تصورا على رأى من جعل التصور المطلوب خارجا عن التصديق والثاني نفس الرؤية وهو بمنزلة رؤية الدليل كترتيب المقدمتين والظفر بالحد الاوسط

فهذا يوجب العلم كما توجب رؤية العين العلم بالمرئى ولا ينافى هذا النظر العلم فهذا الثاني نظر في الدليل كالذي ينظر في القرآن والحديث فيعلم الحكم والاول نظر في الحكم كالذي ينظر في المسئلة لينال دليلها من القرآن والحديث
فنقول من المعلوم أن معرفة القلب بثبوت المحمول للموضوع وهو ثبوت الصفة للموصوف وهو ثبوت الحكم المسئول عنه مثل حرمة المسكر قد تحصل بواسطة هذا الحد وهو أن يعلم ان هذا خمر مع علمه أن الخمر حرام وهذا قياس الشمول وقد يحصل بغير هذا مثل أن يرى ان المسكر مساو لخمر العنب في مناط التحريم فيستوى بينهما في التحريم وهذا قياس التمثيل وقد يحصل بأن يرى فيه المفسدة التي في الخمر فيحكم بالتحريم لدرء تلك المفسدة وهذا قياس التعليل
وقياس التمثيل وقياس التعليل يشملهما جنس القياس لكن القياس قد يحتاج في إثبات الحكم في الفرع الى اصل معين فيلحق الفرع به إما لابداء الجامع وإما لالغاء الفارق فان إبداء الجامع وهو علة الحكم في الاصل يسمى قياس العلة وأما ما يدل على العلة وهو قياس الدلالة فهذا صار قياس تمثيل وتعليل معا وإن قاس بالغاء الفارق وهو أن يبين له أنه ليس بينهما فرق مؤثر وإن لم يعلم عين العلة فهذا قياس تمثيل لا تعليل وقد يقوم دليل على ان الوصف الفلاني مستلزم للحكم وإن لم يعرف له أصل معين وهذا قياس تعليل وهو يشبه قياس الشمول
وقياس الشمول وقياس التمثيل متلازمان فكل ما ذكر بهذا القياس يمكن ذكره بهذا القياس فان قياس الشمول لا بد فيه من حد أوسط مكرر وذاك هو مناط الحكم في قياس التمثيل وهو القدر المشترك وهو الجامع بين الاصل والفرع مثال ذلك إذا قيل النبيذ حرام قياسا على الخمر لان فيه الشدة المطربة

وهذه هى العلة في التحريم أو لانه مسكر والمسكر هو علة التحريم وبين ذلك بدليله كان قياسا صحيحا وإذا قيل النبيذ مسكر وكل مسكر حرام أو النبيذ فيه الشدة المطربة وما فيه الشدة المطربة فهو حرام فهذا أيضا صحيح وكل ما امكن أن يستدل به على صحة المقدمة الكبرى أمكن ان يستدل به على كون الوصف المشترك علة للحكم في الاصل وكل ما أمكن يستدل به على الصغرى فانه يستدل به على ثبوت الوصف في الفرع
ثم إن كان ذاك الدليل قطعيا فهو قطعي في القياسين وإن كان ظنيا فهو ظنى في القياسين وأما دعوى من يدعى من المنطقيين وأتباعهم أن اليقين إنما يحصل ب قياس الشمول دون قياس التمثيل فهو قول في غاية الفساد وهو قول من لم يتصور حقيقة القياسين كما قد بسط في موضعه
وقد يعلم الحكم المطلوب بنص علىأن كل مسكر حرام كما قد ثبت هذا الحديث في الصحاح عن النبي ص - وإذا كان كذلك لم يتعين قياس الشمول لافادة الحكم بل ولا قياس من الاقيسة فانه قد يعلم بلا قياس
وإذا علم بقياس الشمول فكل ما يعلم بقياس الشمول فانه يعلم بقياس التمثيل أيضا كما تقدم ويجعل الحد الاوسط هو الجامع بين الاصل والفرع والدليل الذي يقيمه صاحب قياس الشمول على صحة المقدمة الكبرى الكلية يقيمه صاحب قياس التمثيل على علية الوصف وإن الجامع وهو الوصف المشترك الذي هو الحد الاوسط في قياس الشمول هو مستلزم للحكم وهو علية في الاصل كما يقيمه في ذاك على أن الحد الاكبر لازم للحد الاوسط فالحد الاكبر في قياس الشمول هو الحكم في قياس التمثيل والحد الاوسط هو الجامع المشترك ويسمى المناط والحد الاصغر هو الفرع ويمتاز قياس التمثيل بأن فيه ذكر اصل يكون نظيرا للفرع الذي هو الحد الاصغر وقياس الشمول ليس فيه هذا فصار في قياس التمثيل ما

في قياس الشمول وزيادة وقد بسط هذا في موضع آخر
وقد لا يحتاج الى دليل آخر ذى مقدمتين ولا قياس ولا غيره بل يكفيه مقدمة واحدة وقد يستغنى ايضا عن تلك المقدمة بتصوره التام ابتداء مثل أن يكون نفس علمه بأن الخمر حرام قد تصور معه مسمى الخمر أنها المسكر فصار علمه بجميع مفردات الخمر سواء فيعلم ان هذا المسكر خمر حرام وهذا المسكر خمر حرام وامثال ذلك او يعلم ان الخمر حرام ولا يعلم أن كل مسكر يسمى خمرا بل يظن ذلك الاسم مختصا ببعض المسكرات فاذا علم بنص الشارع أو باستعمال الصحابة الذين نزل فيهم القرآن أو بأنها لما حرمت لم يكن عندهم من عصير الاعناب شئ وإنما كان الذي يسمونه خمرا هو المسكر من نبيذ التمر او بغير ذلك من الادلة إذا علم هذه المقدمة الواحدة وهو أن كل مسكر خمر علم الحكم
فتبين أن قولهم إن المطلوب لا بد فيه من القياس وذلك القياس يجب أن يكون القياس المنطقى الشمولي ولا بد فيه من مقدمتين ليس بصواب وهذا يبطل قولهم لا علم تصديقى إلا بالقياس المنطقي كما تقدم وأما هنا فالمقصود بيان قلة منفعته او عدمها وذلك أن هذا المطلوب إن كان معه قضية علمت من جهة الرسول تفيده العموم وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه فالقضايا الكلية المتلقاه عن الرسل تفيد العلم في المطالب الالهية
وأما ما يستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه إما منتقضة وإما أنها بمنزلة قياس التمثيل وإما انها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة بل بالمقدرات الذهنية كالحساب والهندسة فانه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس بل بالحس فلم يكن القياس محصلا للمقصود أو تكون مما لا اختصاص لهم بها بل يشترك فيها سائر الامم بدون خطور منطقهم بالبال مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول

وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفا على شئ من الاقيسة بل يعلم بالايات الدالة على شئ معين لا شركة فيه ويحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر الى نظر وما يحصل منها بالقياس الشمولي فهو بمنزلة ما يحصل بقياس التمثيل فهو أمر كلى لا يحصل به العلم بما يختص به الرب وما يختص به الرسول إلا بانضمام علم آخر اليه
والعلم بصدق المخبر المعين وإن لم يكن نبيا يعلم بأسباب متعددة غير القياس ويعلم ايضا بقياس التمثيل كما يعلم بقياس الشمول فكيف العلم بصدق النبي الصادق ص - وقد ذكرنا طرقا من الطرق التي يعلم بها صدق الانبياء في غير هذا الموضع
والناس يعلمون الامور الموجودة وصفاتها وأحوالها من غير قياس شمولي فضلا عن أن يقال لا بد هنا من مقدمتين صغرى وكبرى فالصغرى هي المشتملة على الحد الاصغر والكبرى المشتملة على الحد الاكبر والحد الاوسط متكرر فيها خبر محمول في الصغرى ومبتدأ موضوع في الكبرى كقولك كل خمر حرام فيقال إذا علم أن كل خمر حرام فقد يعلم ابتداء مفردات الخمر وأنها شاملة لكل مسكر بل يظن انها متناولة لبعض المسكر كعصير العنب النى المشتد ثم يعلم بعد ذلك شمولها لكل مسكر وهو إذا تجدد له هذا العلم فانما يجدد له علمه بالعموم وعلمه بالعموم إنما يعود بتصوره التام لمسمى الخمر فانه كان قبل ذلك لم يتصورها تصورا جامعا بل تصورا غير جامع ولو حصل له هذا التصور الجامع لم يحتج الى قياس فقد تبين أن القياس المفيد للتصديق يغنى عنه التصور التام للحد الاوسط

كل تصور يمكن جعله تصديقا وبالعكس
وهذا يؤول الى امر وهو أن كل ما يسمونه تصورا يمكن جعله تصديقا وما يسمونه تصديقا يمكن جعله تصورا فان القائل إذا قال ما الخمر

المحرمة فقال المجيب هى المسكر كان هذا عندهم تصورا واحدا وهو تصور مسمى الخمر وهذا في الحقيقة تصديق مركب من موضوع ومحمول وإذا قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام كان هذا قياسا وهو يفيد التصديق الذي هو المسكر حرام ويفيد ان المسكر داخل في مسمى الخمر وإن أريد بيان الحد المطرد المنعكس قيل المسكر هو الخمر وكل خمر حرام فيفيد هذا القياس تصور معنى الخمر
وسبب ذلك أن كل ما يتكلم به في الحد والقياس هو قضية تامة وهي الجملة في اصطلاح النحاة والجواب في السؤال عن التصور وعن التصديق هو بقضية تامة هي جملة خبرية فكلاهما قول مركب في السؤال والجواب وكلاهما فيه إثبات صفة لموصوف كاثبات الخمرية للمسكر وهو إثبات محمول لموضوع والانسان هو في الموضعين قد تصور ان المسكر هو الخمر وصدق بأن المسكر هو الخمر فأما التصور المفرد الذي لا يعبر عنه إلا ب اسم مفرد فذلك لا يسأل عنه باللفظ المفرد ولا يجاب عنه باللفظ المفرد حتى يفصل نوع تفصيل يصلح لمثله لان يكون جملة
وهذا قد بسط في غير هذا الموضع كما بسط في الكلام على المحصل وغيره وبين ان قولهم العلم ينقسم الى تصور وتصديق وأن التصور وهو التصور الساذج العرى عن جميع القيود الثبوتية والسلبية كلام باطل فان كل ما عرى عن كل قيد ثبوتى وسلبى يكون خاطرا من الخواطر ليس هو علما أصلا بشئ من الاشياء فان من خطر بقلبه شئ من الاشياء ولم يخطر بقلبه صفة لاثبوتية ولا سلبية لم يكن قد علم شيئا
وإذا قيل الانسان حيوان والعالم مخلوق ونحو ذلك فهنا قد تصور إنسانا علم انه موجود لم يتصور شيئا تصورا ساذجا لا نفى فيه ولا إثبات بل تصور وجوده وغير ذلك من صفاته وكذلك العالم قد تصور وجوده وإذا تصور بحر زئبق وجبل ياقوت فان لم يتصور مع هذا عدمه في الخارج

ولا امتناعه ولا شئ من الاشياء كان هذا خيالا من الخيالات ووسواسا من الوساوس ليس هذا من العلم في شئ فان تصور مع ذلك عدمه في الخارج كان قد تصور تصورا مقيدا بالعدم لم يكن تصوره خاليا من جميع القيود
فان قلت فما التصور القابل للتصديق المشروط فيه قيل هو التصور الخالي عن معرفة ذلك التصديق ليس هو الخالي عن جميع القيود السلبية والثبوتية فاذا كان يشك هل النبيذ حرام ام لا فقد تصور النبيذ وتصور الحرام وكل من التصورين متصور بقيود فهو يعلم أن النبيذ شراب وأنه موجود وأنه يشرب وأنه يسكر وغير ذلك من صفاته لكن لم يعلم أنه حرام فليس من شرط التصور المشروط في التصديق أن يكون ساذجا خاليا عن كل قيد ثبوتى وسلبى بل أن يكون خاليا عن التقييد بذلك التصديق
وقول القائل التصديق مسيوق بالتصور مثل قوله القول مسبوق بالعلم فليس لأحد أن يتكلم بمالا يعلم كذلك لا يصدق ولا يكذب لما لا يتصوره وحينئذ فالتصور التام مستلزم للتصديق والتصور الناقص يحتاج معه الى دليل يثبت له حكم
وهذا يقرر ما عليه نظار المسلمين كما قررنا ذلك من قبل من أن التصورات المفردة لا تعلم بمجرد الحد وأن المطلوب بالحد هو تصديق يفتقر إلى ما تفتقر اليه التصديقات فكما ذكرنا هناك ان الذي يحعلونه حدا هو تصديق يفتقر الى دليل فيقال هنا ما يجعلونه قياسا يعود في الحقيقة الى الحد والتصور كما يعود هذا القياس الى ان يعلم مسمى الخمر وإذا كان كذلك فاذا كانوا يقولون إن الحد لا يقام عليه دليل ولا يحتاج الى قيام دليل فنقول العلم بمسمى الخمر لا يحتاج الى قياس بل قد يعلم بما يعلم به سائر التصورات المفردة ومسميات جميع الاسماء من تفطن النفس لشمول ذلك المعنى لهذه الصورة وثبوته فيها
وكلما تدبر العاقل هذا وعرفه معرفة جيدة تبين له أن الصواب ماعليه نظار المسلمين

وجماهير العقلاء من أن الحدود بمنزلة الاسماء وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالاجمال وأن المطلوب من الحد هو التمييز بين المحدود وغيره وذلك يكون بالوصف الملازم له طردا وعكسا بحيث يكون الحد جامعا مانعا
وأنه مع ذلك ليس لاحد ان يدعي دعوى غير بديهية إلا بدليل فالحاد إن كان يحد مسمى اسم كما يقول في الخمر إنها المسكر وفي الغيبة إنها ذكرك أخاك بما يكره وفي الكبر إنه بطر الحق وغمط الناس فعليه ان يبين أن ما ذكره مطابق لمسمى ذلك الاسم إما بالنقل عن الشارع المتكلم بهذه الاسماء مثل أن يقول قد ثبت في الصحيح عن النبي ص - أنه قال كل مسكر خمر وما ليس بمسكر فليس بخمر بالاجماع فيثبت ان الخمر هو المسكر او يقول ثبت في الصحيح عن النبي ص - انه قيل يا رسول الله ما الغيبة قال ذكرك أخاك بما يكره فقال أرأيت إن كان في أخى ما أقول فقال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته
فاذا عورض هذا بما ثبت في الصحيح عن النبي ص - أنه قال لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت خطبني أبو جهم ومعاوية فقال أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء وفي لفظ لا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحى اسامة فاذا قال المعترض هنا قد ذكر كلا منهما بما يكره والغيبة محرمة كان الجواب مع إحدى المقدمتين بأن يقال لا نسلم أن هذا داخل في حد الغيبة وإن سلم دخوله في الحد دل على جواز الغيبة لمصلحة راجحة مثل نصيحة المستشير فانها لما استشارته وجب نصحها ومثل ذلك الكلام في جرح الرواة الكاذبين والغالطين وشهادة الشاهد الكاذب وشكاية المظلوم وغير

ذلك عما دل الشرع على جوازه
فانه يقال فيه أحد الامرين لازم إما أن يقال المؤمن لا يكره ذلك إذا كان صادق الايمان لان المؤمن لا يكره ما امر الله ورسوله به وهذا مما أمر الله به ورسوله ويقال إن كرهه فهو من هذه الجهة ناقص الايمان فيه شعبة نفاق فلا يكون هو الاخ الذي قيل فيه ذكرك أخاك بما يكره وهذا مبنى على ان الشخص الواحد يكون فيه طاعة ومعصية وبر وفجور وخير وشر وشعبة إيمان وشعبة نفاق أو يقول إذا سلم شمول اللفظ له هذا من الغيبة المباحة فلا بد من التزام أحد أمرين إما أنه لم يدخل في مسمى الغيبه وإما انه لم يدخل فيما حرم منها ولهذا نظائر
والقصود التنبيه على المثال وأن من ادعى حد اسم فلا بد له من دليل وكذلك إن ادعى حدا بحسب الحقيقة
وهذا الذي عليه نظار المسلمين وغيرهم أصح مما عليه أهل المنطق اليوناني من وجوه فان أولئك يدعون ان الحد يفيد تصوير الماهية في نفس المستمع ويدعون أن ذلك يحصل بمجرد قول الحاد من غير دليل اصلا
ثم إنهم عمدوا الى الصفات اللازمة للموصوف ففرقوا بينها وجعلوها ثلاثة اصناف ذاتية داخلة في الماهية وخارجة لازمة للماهية دون وجودها وخارجة لازمة لوجودها وهذا كله باطل إذا اريد ب الماهية الموجودات الخارجية وهي التي تقصد بالحد والتعريف وأما إذا قدر ان الماهية هي مجرد ما يتصوره النفس فقدر تلك الماهية وصفتها يتبع تصور المتصور فتارة يتصور جسما حساسا ناميا متحركا بالارادة ناطقا فتكون الماهية هي هذه الاجزاء كلها وتارة يتصور حيوانا ناطقا وتارة يتصور حيوانا ضاحكا وتارة يتصور ضاحكا فقط وتارة يتصور ناطقا فقط فاذا جعل ما دخل في تصوره داخلا فيه وما

خرج عنه لازما له او غير لازم كما ذكر ذلك بعضهم وكما ذكروه من دلالة المطابقة والتضمن الالتزام كان هذا صحيحا لكن ليس فيه منفعة في العلوم والحقائق ومعرفة صفاتها الذاتية وغير الذاتية أصلا بل هذا يرجع الى تصور مراد المتكلم سواء كان حقا أو باطلا
وأما نظار المسلمين فالحد عندهم يكون بالوصف الملازم والوصف الواحد الملازم كاف لا يذكرون معه الوصف المشترك لا الجنس ولا العرض العام بل يعيبون على من يذكر ذلك في الحدود وهل يحد بالتقسيم لهم فيه قولان والصفات تنقسم الى قسمين لازمه للموصوف وغير لازمة والذي عليه نظار أهل السنة وسائر المثبتين للصفات والقدر أن وجود كل شئ في الخارج عين حقيقته فاللازم للموجود الخارجي لازم للحقيقة الخارجية ولا يقبل من أحد دعوى غير معلومة إلا بدليل فأين هذا المنطق وأين هذا الميزان المستقيمة العادلة من ميزان أولئك الجائرة الغائلة التي ليس فيها لا صدق ولا عدل وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلمته الانعام

الوجه الخامس
من الاقيسة ما تكون مقدمتاه ونتيجته بديهية
الوجه الخامس ان يقال هذا القياس هو قياس الشمول وهو العلم بثبوت الحكم لكل فرد من الافراد
فنقول قد علم وسلموا انه لا بد ان يكون العلم بثبوت بعض الاحكام لبعض

أفرادها بديهيا فان النتيجة إذا افتقرت الى مقدمتين فلا بد ان ينتهي الامر الى مقدمتين تعلم بدون مقدمتين وإلا لزم الدور أو التسلسل الباطلان ولهذا كان من المقرر عند أهل النظر انه لا بد في التصورات والتصديقات من تصورات بديهية وتصديقات بديهية
ولفرض المقدمتين البديهيتين كل مسكر خمر وكل خمر حرام وإن لم يكن هذا بديهيا لكن المقصود التمثيل ليعلم بالمثال حكم سائر القضايا فاذا قدر انه علم بالبديهة أن كل فرد من أفراد الخمر حرام وعلم بالبديهة ان كل فرد من افراد المسكر خمر كان علمنا بالبديهة ان هذه الافراد حرام من أسهل الاشياء
وإنما يخفى ذلك لكون أكثر المقدمات لا يكون بديهية بل مبينة بغيرها كا في هذا المثال فان المقدمة الثانية ثابتة بالنص والاجماع والاولى ثابتة بالسنة الصحيحة لكن لم يعرفها كثير من العلماء فطريق العلم بالمقدمتين يختلف
وأما إذا أفردنا ذلك في مقدمتين طريق العلم بهما واحد لم نحتج الى القياس مثل العلم بأن كل إنسان حيوان وكل حيوان حساس متحرك بالارادة فهنا قد يكون العلم بأن كل إنسان حساس متحرك بالارادة أبين وأظهر وكذلك إذا قلنا كل إنسان جسم أو جوهر أو حامل للصفات ثم قلنا كل ما هو جسم او جوهر او حامل للصفات فليس بعرض أو هو قائم بنفسه او هو موصوف بالصفات ونحو ذلك كان العلم بأن كل انسان هو كذلك مما لا يحتاج الى هذا التطويل فالمقدمتان إن كان طريق العلم بهما واحدا وقد علمتا فلا حاجة الى بيانهما وإن كان طريق العلم بهما مختلفا فمن لم يعلم إحداهما احتاج الى بيانها وإن لم يحتج الى الاخرى التي علمهاوهذا ظاهر في كل ما تقدره
فتبين أن منطقهم يعطي تضييع الزمان وكثرة الهذيان وإتعاب الاذهان وكذلك إذا علمنا أن كل رسول نبي وكل نبي فهو في الجنة فعلمنا ان كل

رسول فهو في الجنة أبين من هذا وهذ كثير جدا

الوجه السادس
من القضايا الكلية ما يمكن العلم به بغير توسط القياس
وهو يتضح بالوجه السادس وهو أن يقال لا ريب أن المقدمة الكبرى أعم من الصغرى أو مثلها لا يكون أخص منها والنتيجة اخص من الكبرى أومساوية لها واعم من الصغرى أو مساوية لها كالحدود الثلاثة فان الاكبر أعم من الاصغر او مثله والاوسط مثل الاصغر أو اعم ومثل الاكبر أو اخص ولا ريب ان الحس يدرك المعينات اولا ثم ينتقل منها الى القضايا العامة فان الانسان يرى هذا الانسان وهذا الانسان وهذا الانسان ويرى أن هذا حساس متحرك بالارادة ناطق وهذا كذا وهذا كذا فيقضى قضاء عاما أن كل إنسان حساس متحرك بالارادة ناطق
فنقول العلم بالقضية العامة إما ان يكون بتوسط قياس او بغير توسط قياس فان كان لا بد من توسط قياس والقياس لا بد فيه من قضية عامة لزم ان لا يعلم العام إلا بالعام وذلك يستلزم الدور أو التسلسل فلا بد ان ينتهى الامر الى قضية كلية عامة معلومة بالبديهة وهم يسلمون ذلك
وإن أمكن علم القضية العامة بغير توسط قياس أمكن علم الاخرى فان كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفا لازما لها يجب استواء جميع الناس فيه بل هو امر نسبى إضافي بحسب حال علم الناس بها فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له ومن احتاج الى نظر واستدلال بدليل كانت نظرية له
وكذلك كونها معلومة بالعقل أو الخبر المتواتر أو خبر النبي الصادق أو الحس ليس هو أمرا لازما لها بل كذب مسيلمة الكذاب مثلا قد يعلم بقول

النبي الصادق إنه كذاب وقد يعلم ذلك من باشره ورآه يكذب ويعلم ذلك من غاب عنه بالتواتر ويعلم ذلك بالاستدلال فانه ادعى النبوة وأتى يناقض النبوة فيعلم بالاستدلال وكذلك الهلال قد يعلم طلوعه بالرؤية فتكون القضية حسية ويعلم ذلك من لم يره بالاخبار المتواترة فتكون القضية عنده من المواترات ويعلم ذلك من علم أن تلك الليلة إحدى وثلاثون بالحساب والاستدلال ومثل هذا كثير فالمعلوم الواحد يعلمه هذا بالحس وهذا بالخبر وهذا بالنظر وهذه طرق العلم لبني آدم وهكذا القضايا الكلية إذا كان منها ما يعلم بلا قياس ولا دليل وليس لذلك حد في نفس القضايا بل ذلك بحسب احوال بنى آدم لم يمكن ان يقال فيما علمه زيد بالقياس إنه لا يمكن غيره ان يعلمه بلا قياس بل هذا نفى كاذب

الوجه السابع
الادلة القاطعة على استواء قياسي الشمول والتمثيل
الوجه السابع أن يقال هم يدعون ان المفيد لليقين هو قياس الشمول فأما قياس التمثيل فيزعمون انه لا يفيد اليقين ونحن نعلم ان من التمثيل ما يفيد اليقين ومنه ما لا يفيده ك الشمول فان الشيئين قد يكون تماثلهما معلوما وقد يكون مظنونا كالعموم وإن جمع بينهما بالعلة فالعلة في معنى عموم الشمول
يوضح هذا أن يقال قياس الشمول يؤول في الحقيقة الى قياس التمثيل كما ان الاخر في الحقيقة يؤول الى الاول ولهذا تنازع الناس في مسمى القياس فقيل هو قياس التمثيل فقط وهو قول اكثر الاصوليين وقيل قياس الشمول فقط وهو قول اكثر المنطقيين وقيل بل القياسان جميعا وهو قول اكثر الفقهاء والمتكلمين وذلك أن قياس الشمول مبناه على اشتراك الافراد في الحكم العام وشموله لها وقياس التمثيل مبناه على اشتراك الاثنين في الحكم الذي يعمهما

ومآل الامرين واحد وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
ونحن نذكر هنا ما لم نذكره في غير هذا الموضع فنقول قد تبين فيما تقدم ان قياس الشمول يمكن جعله قياس تمثيل وبالعكس فاذا قال القائل في مسئلة القتل بالمثقل قتل عمد عدوان محض لمن يكافئ القاتل فأوجب القود كالقتل بالمحدد فقد جعل القدر المشترك الذي هو مناط الحكم القتل العمد العدوان المحض للمكافئ وهذا يسمى العلة والمناط والجامع والمشترك والمقتضى والموجب والباعث والامارة وغير ذلك من الاسماء فاذا أراد أن يصوغه ب قياس الشمول قال هذا قتل عمد عدوان محض للمكافئ وما كان كذلك فهوموجب للقود
والنزاع في الصورتين هو في كونه عمدا محضا فان المنازع يقول العمدية لم تتمحض وليس المقصود هنا ذكر خصوص المسئلة بل التمثيل وهذا نزاع في المقدمة الصغرى وهو نزاع في ثبوت الوصف في الفرع فان قياس التمثيل قد يمنع فيه ثبوت الوصف في الاصل ويمنع ثبوته في الفرع وقد يمنع كونه علة الحكم
ويسمى هذا السؤال سؤال المطالبة وهو اعظم أسئلة القياس وجوابه عمدة القياس فان عمدة القياس على كون المشترك مناط الحكم وهذا هو المقدمة الكبرى وهو كما لو قال في هذه المسئلة لا نسلم ان كل ما كان عمدا محضا يوجب القصاص وكذلك منع الحكم في الاصل أو منع الوصف في الاصل وهو منع للمقدمة الكبرى في قياس الشمول
أللهم إلا ان يقيم المستدل دليلا على تأثير الوصف في غير أصل معين وهذا قياس التعليل المحض كما لو قال النبيذ المسكر محرم لان المعنى الموجب للتحريم

وهو كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلوة موجود فيها وهذا المعنى قد دل النص علىانه علة التحريم وقد وجد فيثبت فيه التحريم
وهم في قياس الشمول إذا أرادوا إثبات المقدمة الكبرى التي هي نظير جعل المشترك بين الاصل والفرع مناط الحكم فلا بد من دليل يبين ثبوت الحكم لجميع أفراد المقدمة باعتبار القدر المشترك الكلى بين الافراد وهذا هو القدر المشترك الجامع في قياس التمثيل فالجامع هو الكلى والكلى هو الجامع
ومن قال من متأخرى النظار كأبي المعالى وأبي حامد والرازي وابي محمد إن العقليات ليس فيها قياس بل الاعتبار فيها بالدليل فهذا مع انهم خالفوا فيه جماهير النظار وأئمة النظر فنزاعهم فيها يرجع الى اللفظ فانهم يقولون العقليات لا تحتاج الى ان يعين فيها أصل يلحق فيه الفرع وليس جعل احدهما اصلا والاخر فرعا بأولى من العكس بل الاعتبار بالدليل الشامل للصورتين فيقال لهم لا ريب انه في العقليات والشرعيات لم يقع النزاع في جميع أفراد المعنى العام الذي يسمى الجامع المشترك بل وقع في بعضها وبعضها متفق عليه فتسمية هذا أصلا وهذا فرعا أمر إضافي ولو قدر أن بعض الناس علم حكم الفرع بنص وخفى عليه حكم الاصل لجعل الاصل فرعا والفرع أصلا والجمع إما ان يكون بالغاء الفارق وإما أن يكون بابداء الجامع وهذا يكون في العقليات قطعيا وظنيا كما يكون في الشرعيات

فاذا قيل الاحكام والاتقان يدل على علم الفاعل شاهدا فكذلك غائبا او قيل علة كون العالم عالما قيام العلم به في الشاهد فكذلك في الغائب أو قيل الحيوة شرط في العلم شاهدا فكذلك غائبا او قيل حد العالم في الشاهد من قام به العلم فكذلك في الغائب فهذه الجوامع الاربعة التي تذكرها الصفاتية من الجمع بين الغائب والشاهد في الصفات الحد والدليل والعلة والشرط فذكر الشاهد حتى يمثل القلب صورة معينة ثم يعلم بالعقل عموم الحكم وهو ان الاحكام والاتقان مستلزم لعلم الفاعل فان الفعل المحكم المتقن لا يكون إلا من عالم وكذلك سائرها
وهذا كسائر ما يعلم من الكليات العادية إذا قيل هذا الدواء مسهل للصفراء ومنضج للخلط الفلاني ونحو ذلك فان التجربة إنما دلت على اشياء معينة لم تدل على امر عام لكن العقل يعلم ان المناط هو القدر المشترك بما يعلم من انتفاء ما سواه ومناسبته او لا يعلم مناسبته وهذا قد يكون معلوما تارة كما يعلم ان أكل الخبز يشبع وشرب الماء يروي وأن السقمونيا مسهل للصفراء وإن كان قد يتخلف الحكم بفوات شرطه إذ قدمنا ان الطبيعيات التي هي العاديات ليس فيها كليات لا تقبل النقض بحال فكان ذكر الاصل في القياس العقلي لتنبيه العقل على المشترك الكلى المستلزم للحكم لا لأن مجرد ثبوت الحكم في صورة يوجب ثبوته في أخرى بدون أن يكون هناك جامع يستلزم الحكم
وإذا قيل فمن أين يعلم أن الجامع مستلزم للحكم قيل من حيث يعلم القضية الكبرى في قياس المشول فاذا قال القائل هذا فاعل محكم لفعله وكل محكم لفعله فهو عالم فأي شئ ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل وزيادة ان هناك اصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك وفي قياس الشمول لم يذكر شئ من الافراد التي يثبت الحكم فيها ومعلوم أن ذكر الكلى المشترك مع

بعض افراده اثبت في العقل من ذكره مجردا عن جميع الافراد باتفاق العقلاء
ولهذا هم يقولون إن العقل بحسب إحساسه بالجزئيات يدرك العقل بينها قدرا مشتركا كليا فالكليات في النفس تقع بعد معرفة الجزئيات المعينة فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الاسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفا للقياس ويكون عدم ذكرها موجبا لقوته وهذه خاصة العقل فان خاصة العقل معرفته الكليات بتوسط معرفته بالجزئيات فمن أنكرها انكر خاصة عقل الانسان ومن جعل ذكرها بدون شئ من محالها المعينة أقوى من ذكرها مع التمثيل لمواضعها المعينة كان مكابرا والعقلاء باتفاقهم يعلمون ان ضرب المثل الكلى مما يعين على معرفته وانه ليس الحال إذا ذكر مع المثال كالحال إذا ذكر مجردا عن الامثال
ومن تدبر جميع ما يتكلم فيه الناس من الكليات المعلومة بالعقل في الطب والحساب والطبيعيات والصناعات والتجارات وغير ذلك وجد الامر كذلك فاذا قيل يسخن جوف الانسان في الشتاء ويبرد في الصيف لانه في الشتاء يكون الهواء باردا فيبرد ظاهر البدن فتهرب الحرارة الى باطن البدن لان الضد يهرب من الضد والشبيه ينجذب الى شبيه فتظهر البرودة الى الظاهر لان شبه الشئ منجذب اليه كان هذا أمرا كليا مطلقا فاذا قيل ولهذا يسخن جوف الارض في الشتاء وجوف الحيوان كله ولهذا تبرد الاجواف في الصيف لسخونة الظواهر فتهرب البرودة الى الاجواف كان كلما تصور الانسان النظائر قويت معرفته بتكلك الكلية وهو ان الضد يهرب من ضده والنظير ينجذب الى نظيره وهذا معلوم في الطبيعيات والنفسانيات وغيرهما لكن إذا ذكرت النظائر قوى العلم بذلك وقد يعبر عن ذلك بأن الجنسية علة الضم
وكذلك إذا قيل الشمس إذا وقعت على البحر أو غيره تسخنه فتصاعد منه بخار لان الحرارة تحلل الرطوبة ثم قيل كما يتصاعد البخار من القدر التي فيها الماء الحار

كان هذا المثال مما يؤكد معرفة الاول
والاقيسة التي يستعملها الفلاسفة في علومهم ويجعلونها كلية كلها يعتضدون فيها بالامثلة وليس مع القوم إلا ما علموه من صفات الامور المشاهدة ثم قاسوا الغائب على المشاهد به بالجامع المشترك الذي يجعلونه كليا فان لم يكن هذا صحيحا لم يكن مع أحد من أهل الارض علم كلى يشترك فيه ما شهده وما غاب عنه حتى قوله الخبز يشبع والماء يروي ونحو ذلك فانه لم يعلم بحسه إلا امورا معينة فمن أين له أن الغائب بمنزلة الشاهد إلا بهذه الطريق والانسان قد ينكر امرا حتى يرى واحدا من جنسه فيقر بالنوع ويستفيد بذلك حكما كليا
ولهذا يقول سبحانه كذبت قوم نوع المرسلين كذبت عاد المرسلين كذبت ثمود المرسلين ونحو ذلك وكل من هؤلاء إنما جاءه رسول واحد لكن كانوا مكذبين بجنس الرسل لم يكن تكذيبهم بالواحد لخصوصه وهذا بخلاف تكذيب اليهود والنصارى لمحمد ص - فانهم لم يكذبوا جنس الرسل إنما كذبوا واحدا بعينه بخلاف مشركي العرب الذين لم يعرفوا الرسل فان الله يحتج عليهم في القرآن باثبات جنس الرسالة
ولهذا يجيب سبحانه عن شبه منكري جنس الرسالة كقولهم أبعث الله بشرا رسولا الاسراء فيقول وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون النحل أي هذا متواتر عند أهل الكتاب فاسئلوهم عن الرسل الذين جاءتهم أكانوا بشرا أم لا وكذلك قوله وقالوا لو لا انزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون الانعام فانهم لا يستطيعون الاخذ عن الملك في صورته فلو أرسلنا اليهم ملكا لجعلناه رجلا في صورة الانسان وحينئذ كان يلتبس عليهم الامر ويقولون هو رجل والرجل لا يكون رسولا وكذلك الرسل قبله قال تعالى او عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل

منك لينذركم الاعراف كما قال تعالى أكان للناس عجبا أن اوحينا الى رجل منهم ان انذر الناس يونس وكما قال تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل الاحقاف ونحو ذلك
فكان علمهم بثبوت معين من هذا النوع يوجب العلم بقضية مطلقة وهو ان هذا النوع موجود بخلاف ما إذا اثبت ذلك ابتداء بلا وجود نظير فانه يكون اصعب وإن كان ممكنا فان نوحا اول رسول بعثه الله الى اهل الارض ولم يكن قبله رسول بعث الى الكفار المشركين يدعوهم الى الانتقال عن الشرك الى التوحيد وآدم والذين كانوا بعده كان الناس في زمهنم مسلمين كما قال ابن عباس كان بين آدم ونوح عشر قرون كلهم على الاسلام لكن لما بعث الله نوحا وانجى من آمن به وأهلك من كذبه صار هذا المعين يثبت هذا النوع أقوى مما كان يثبت ابتداء
والذين قالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كان مبدأ كلامهم في الامور الطبيعية فانهم رأوا البارد إنما يقتضى التبريد فقط والحار إنما يقتضي التسخين فقط وكذلك سائرها لكن هذا ليس فيه إحداث واحد لواحد فان البرودة الحاصلة لا بد لها مع السبب من محل قابل وارتفاع موانع فلم يحصل السبب إلا عن شيئين لا عن واحد لكن هذا كان مبدأ كلامهم
وأما احتجاج ابن سينا وامثاله بأنه لو صدر اثنان لكان مصدر هذا غير مصدر هذا ولزم التركيب المنافي للوحدة فهذه الحجة تبع لحجة التركيب وهذه اخذوها من أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم ليست هذه من كلام أئمة الفلاسفة كأرسطو وأتباعه لا سيما أكثر أساطين الفلاسفة فانهم كانوا يقولون باثبات الصفات لله تعالى بل وبقيام الامور الاختيارية كما ذكرنا كلامهم في غير هذا الموضع وهو اختيار ابي البركات صاحب المعتبر ومن قال إنه خالف اكثر الفلاسفة فمراده المشائين وأما الاساطين قبل هؤلاء فكلام كثير منهم يدل على هذا الاصل كما هو مذكور في موضعه

ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف فاذا رأى الشيئين المتماثلين علم ان هذا مثل هذا يجعل حكمهما واحدا كما إذا رأى الماء والماء والتراب والتراب والهواء والهواء ثم حكم بالحكم الكلى على القدر المشترك وإذا حكم على بعض الاعيان ومثله بالنظير وذكر المشترك كان أحسن في البيان فهذا قياس الطرد إذا رأى المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما وهذا قياس العكس
وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس فانه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم كان من الاعتبار ان يعلم ان من فعل ما فعلوا أصابه ما أصابهم فيتقى تكذيب الرسل حذرا من العقوبة وهذا قياس الطرد ويعلم أن من لم يكذب الرسل بل أتبعهم لا يصيبه ما اصاب هؤلاء وهذا قياس العكس وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين فان المقصود ثبت في الفرع عكس حكم الاصل لا نظيره والاعتبار يكون بهذا وبهذا قال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لاولى الالباب يوسف وقال قد كان لكم أية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار ال عمران

الميزان المنزل من الله هو القياس الصحيح
وقد قال سبحانه وتعالى الله الذي انزل الكتب بالحق والميزان الشورى وقال لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط الحديد والميزان يفسره السلف بالعدل ويفسره بعضهم بما يوزن به وهما متلازمان وقد أخبر انه انزل ذلك مع رسله كما أنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط
فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات فمعرفة أن هذه الدارهم أو غيرها من الاجسام الثقيلة

بقدر هذه تعرف بموازينها وكذلك معرفة أن هذا الكيل مثل هذا يعرف بميزانه وهو المكاييل وكذلك معرفة أن هذا الزمان مثل هذا الزمان يعرف بموازينه التي يقدر بها الاوقات كما يعرف به مظلال وكما يعرف بجرى من ماء ورمل وغير ذلك وكذلك معرفة أن هذا بطول هذا يعرف بميزانه وهو الذارع فلا بد بين كل متماثلين من قدر مشترك كلى يعرف به ان احدهما مثل الاخر
فكذلك الفروع المقيسة على اصولها في الشرعيات والعقليات تعرف بالموازين المشتركة بينهما وهي الوصف الجامع المشترك الذي يسمى الحد الاوسط فانا إذا علمنا أن الله حرم خمر العنب لما ذكره من انها تصد عن ذكر الله وعن الصلوة وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء ثم رأينا نبيذ الحبوب من الحنطة والشعير والرز وغير ذلك يماثلها في المعنى الكلى المشترك الذي هو علة التحريم كان هذا القدر المشترك الذي هو العلة هو الميزان التي انزلها الله في قلوبنا لنزن بها هذا ونجعله مثل هذا فلا نفرق بين المتماثلين والقياس الصحيح هو من العدل الذي امر الله تعالى به
ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط والمقصود بها وزن الامور الموجودة في الخارج وإلا فالكليات لولا جزئياتها المعينات لم يكن بها اعتبار كما أنه لولا الموزونات لم يكن الى الميزان من حاجة ولا ريب أنه إذا احضر احد الموزونين واعتبر بالاخر بالميزان كان اتم في الوزن من ان يكون الميزان وهو الوصف المشترك الكلى في العقل أي شئ حضر من الاعيان المفردة وزن بها فان هذا ايضا وزن صحيح وذلك احسن في الوزن فانك إذا وزنت بالصنجة

قدرا من النقدين ثم وزنت بها نظيره والاول شاهد والناس يشهدون ان هذا وزن به هذا فظهر مثله او اكثر او اقل كان احسن من ان يوزن احدهما في مغيب الاخر فانه قد يظن ان الوازن لم يعدل في الوزن كما يعدل إذا وزنها معا فان هذا يعتبر بأن يوزن أحدهما بالاخر بلا صنجة وهكذا الموزونات بالعقل
وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع وبينا ان القياس الصحيح هو من العدل الذي انزله وانه لا يجوز قط ان يختلف الكتاب والميزان فلا يختلف نص ثابت عن الرسل وقياس صحيح لا قياس شرعي ولا عقلي ولا يجوز قط ان الادلة الصحيحة النقلية تخالف الادلة الصحيحة العقلية وأن القياس الشرعي الذي روعيت شروط صحته يخالف نصا من النصوص وليس في الشريعة شئ على خلاف القياس الصحيح بل على خلاف القياس الفاسد كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد وذكرنا في كتاب درء تعارض العقل والنقل ومتى تعارض في ظن الظان الكتاب والميزان النص والقياس الشرعي او العقلي فأحد الامرين لازم إما فساد دلالة ما احتج به من النص إما بأن لا يكون ثابتا عن المعصوم او لا يكون دالا على ما ظنه او فساد دلالة ما احتج به من القياس سواء كان شرعيا او عقليا بفساد بعض مقدماته او كلها لما يقع في الاقيسة من الالفاظ المجملة المشتبهة
وأبو حامد ذكر في القسطاس المستقيم الموازين الخمسة وهي منطق اليونان بعينة غير عبارته ولا يجوز لعاقل ان يظن ان الميزان العقلي الذي انزل الله هو منطق اليونان لوجوه احدها إن الله انزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وابراهيم وموسى وغيرهم وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلثمائة سنة فكيف كانت الامم المتقدمة تزن بهذا الثاني إن امتنا أهل

الاسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية ولم يسمع سلفنا بذكر هذا المنطق اليوناني وإنما ظهر في الاسلام لما عربت الكتب الرومية في دولة المأمون او قريبا منها الثالث انه ما زال نظار المسلمين بعد ان عرب وعرفوه يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا الى اهله في موازينهم العقلية والشرعية
ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا إصطلاحات لفظية وإلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الامم فانه ليس الامر كذلك بل فيه معان كثير فاسدة ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الاقيسة العقلية وزعموا انه آله قانونية

تعصم مراعاتها الذهن ان يزل في فكره وليس الامر كذلك فانه لو احتاج الميزان الى ميزان لزم التسلسل وايضا فالفطرة إن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي وإن كانت بليدة او فاسدة لم يزدها المنطق لوكان صحيحا إلا بلادة وفسادا ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه لا بد ان يتخبط ولا يأتي بالادلة العقلية على الوجه المحمود ومتى اتى بها على الوجه المحمود اعرض عن اعتبارها بالمنطق لما فيه من العجز والتطويل وتبعيد الطريق وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط

كل قياس في العالم يمكن رده الى القياس الاقتراني
فان قيل ما ذكرته من أن قياس الشمول يرجع الى قياس التمثيل يتوجه في قياس الاقترانى دون الاستثنائى فان الاستثنائى ما تكون النتيجة او نقيضها مذكورة فيه بالفعل بخلاف الاقترانى فان النتيجة إنما هي فيه بالقوة والاستثنائي مولف من الشرطيات المتصلة وهو التلازم ومن المنفصلة وهو التقسيم ولا ريب أن الحد الاوسط في الاقترانى يمكن جعله الجامع المشترك في القياس التمثيلي بخلاف الاستثنائى قيل الجواب من وجوه
منها ان التلازم والتقسيم إذا قيل هذا مستلزم لهذا حيث وجد وجد فان هذا قضية كلية فتستعمل على وجه التمثيل وعلى وجه الشمول بأن يقاس بعض أفرادها ببعض ويجعل القدر المشترك هو مناط الحكم وكذلك إذا قيل هذا إما كذا وإما كذا فهو أيضا كلى يبين بصيغة التمثيل وبصيغة الشمول ولهذا كانت الاحكام الثابتة بصيغة العموم يمكن استعمال قياس التمثيل فيها بأن يقاس بعض أفرادها ببعض ويجعل المعنى المشترك هو مناط الحكم
ومنها أن كل قياس في العالم يمكن رده الى الاقترانى فاذا قيل بصيغة الشرط إن كانت الصلوة صحيحة فالمصلى متطهر أمكن أن يقال كل مصل فهو متطهر وأن يقال الصلوة مستلزمة الطهارة ونحو ذلك من صور القياس الاقتراني والحد الاوسط فيه ان استثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض

المقدم وهذا معنى قولنا إذا وجد الملزوم وجد اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فان المقدم هو الملزوم والتالي هو اللازم وهكذا كل شرط وجزاء فالشرط ملزوم والجزاء لازم له
وهذا إذا جعل بصيغة الاقترانى فقيل هذا مصل وكل مصل متطهر فهذا متطهر أو قيل هذا ليس بمتطهر ومن لا يكون متطهرا ليس بمصل فهذا ليس بمصل والقضية الكلية فيه ان كل مصل متطهر وأن كل من ليس بمتطهر فليس بمصل فالسالبة والموجبة كلاهما كليتان وهذه الكلية معروفة بنص الشارع ليست مما عرفت بالعقل ولو كانت مما تعرف بالعقل المجرد لعرفت ب قياس التمثيل مع انها تصاغ ب قياس التمثيل فيقال هذا مصل فهو متطهر كسائر المصلين او هذا ليس بمتطهر فليس بمصل كسائر من ليس بمتطهر ثم يبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم كما في الاول
وكذلك الشرطي المنفصل الذي هو التقسيم والترديد إذا قيل هذا إما أن يكون شفعا أو وترا ونحو ذلك قيل هذا لا يخلو من كونه شفعا او وترا ولا يجتمع هذاوهذا معا وهو شفع فلا يكون وترا أو هو وتر فلا يكون شفعا وهذه القضية معلومة بالبديهة لكن تصور أفرادها أبين من تصور كليتها فلا يحتاج شئ من أفرادها أن يبين بالقياس الكلى المنطقي فانه أي شئ علم انه شفع علم انه ليس بوتر بدون ان يوزن بامر كلى عنده ولا بقياس على نظيره فلا يحتاج ان يقال وكل شفع فليس بوتر أو كل وتر فليس بشفع
وهذا كما تقدم التنبيه عليه ان ما يثبتونه بالقضايا الكلية تعلم مفرداتها بدون تلك القضايا بل وتعرف بدون قياس التمثيل فاذا عرف ان هذا الثوب او غيرة اسود عرف انه ليس بأبيض بدون أن يقال كل اسود فانه ليس بابيض وهذه الكلية من أن كل أسود لا يكون ابيض يعرف بدون أن يعرف أن كل ضدين لا يجتمعان ولو أثبت تلك المعينات بهذه الكلية لا حتيج أن يبين أنهما ضدان فانه لا يعلم انهما

ضدان حتى يعلم انهما لا يجتمعان وإذا علم انهما لا يجتمعان أغنى ذلك عن الاستدلال عليه بكونهما ضدين
فعلم انه لا يحتاج أن يبين ما يندرج في هذا الكلى لا من الانواع ولا من الاعيان المعينة به بل العلم بها أبين من العلم بهذه الكلية بل إذا أرادوا أن يبينوا ان الضدين لا يجتمعان قالوا المراد بالضدين هما الوصفان الوجوديان الذان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض فيعود الامر الى تعريفهم مرادهم بهذا اللفظ وأما بيان ما دل عليه من المعاني المعقولة فلا يحتاج الى الاستدلال عليه بالكلى وكذلك في النقيضين وكذلك في الشرط والمشروط والعلة والمعلول وسائر هذه الامور الكلية

إبطال القول باقتران العلة والمعلول في الزمان
ولهذا من لم يحكم معرفة هذا وإلا التبست عليه المعقولات ودخل عليه غلطهم سواء كانوا قد غلطوا هم في التصور وهو الغالب على أئمتهم أو كانوا يقصدون التغليط كما يفعله بعضهم
مثال ذلك انه إذا قيل لهم في مسئلة حدوث العالم كيف يكون العالم مفعولا مصنوعا للرب وهو مساوق له أزلا وأبدا مقارن له في الزمان هذا مما يعلم فساده بضرورة العقل فان المفعول لا يكون مقارنا للفاعل في الزمان قالوا بل هذا ممكن وهو أن تقدم العلة على المعلول تقدما عقليا لازما كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم الذي فيها وتقدم الشمس على الشعاع وتقدم الحركة على الصوت الناشئ عنها ثم إن كان ممن تكلم في العلة والمعلول المذكور في الصفات والاحوال وهو يقول العلم علة كون العالم عالما كما يقوله مثبتوا الاحوال من النظار كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي في أول قوليه والقاضي أبي يعلى وأمثالهم فانه قد ألف أن العلة والمعلول متلازمان مقترنان فلا يستنكر مثل هذا هنا

ولهذا غلط بسبب متابعتهم في هذا طوائف من الفقهاء في الفقه كأبي المعالي واتباعه ابي حامد والرافعي وغيرهم فادعوا شيئا خالفوا فيه جميع أئمة الفقه المتقدمين من اصحاب الائمة الاربعة وغيرهم ولم يقله الشافعي ولا احد من ائمة أصحابه ولا غيرهم وهو انه إذا قال لامرأته إذا شربت أو زنيت أو فعلت كذا فأنت طالق وقصده أن يقع بها الطلاق إذا وجد ذلك الشرط أو قال إذا أعطيتني الفا فأنت طالق أو قال إذا طلقتك فانت طالق طلقة أخرى أو إذا وقع عليك طلاقي فانت طالق أو قال مثل ذلك في العتق فزعموا ان الحكم المعلق بشرط يقع هو والشرط معا في زمن واحد بناء على أن الشرط علة للحكم والمعلول يقارن العلة في الزمان
وهذا خطأ شرعا ولغة وعقلا أما الشرع فان جميع الاحكام المعلقة بالشروط لا تقع شئ منها إلا عقيب الشروط لا تقع مع الشروط والفروع المنقولة عن الائمة تبين ذلك واما لغة فإن الجزاء عند أهل اللغة يكون عقب الشرط وبعده ولا يكون الجزاء مع الشرط في الزمان ولهذا قد يكون الجزاء مما يتأخر زمانه كقوله تعالى ف من يعلم مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره الزلزال وفي النذر إذا قال إن شفى الله مريضى فعلى صوم سنة فلا يجب عليه الصوم إلا بعد الشفاء لا مقارنا للشفاء ولا في زمن الشفاء وكذلك إذا قال إن سلم الله مالى الغائب وكذلك إذا قال من رد عبدي الآبق أو بنى لى هذا الحائط ونحو ذلك وأيضا فهذا يذكر بحرف الفاء والفاء للتعقيب يوجب ان يكون الثاني عقيب الاول لا معه وأما عقلا فلأن الاول هنا كالفاعل

الموجب للثاني ولا يعرف قط أن الفاعل يقارنه مفعوله
وما ذكروه من اقتران العلة العقلية لمعلولها ك العلم والعالمية فجوابه أنه عند جماهير العقلاء ليس هنا علة ومعلول بل العلم هو العالمية وهذا مذهب جمهور نظار اهل السنة والبدعة وهو نفي الاحوال فلا علة ولا معلول وإن جعلت المعلول الحكم بكونه عالما والخبر عنه بكونه عالما فهذا قد يتأخر عن العلم وعلى قول من أثبت الحال هو يقول إنها ليست موجودة ولا معدومة فليست نظير المعلولات الوجودية
وأيضا فهولاء يقولون إن العالم فاعل للعالمية ولا هو جاعل العالمية ولا هذا عنده من باب تأثير الوجود كالاسباب والعلل فان كونه عالما لازم للعلم بما يلزم العلم انه علم ليس هذا مثل كون قطع الرقبة سببا للموت ولا كون الاكل سببا للشبع من الاسباب التي خلقها الله فكيف بالاسباب التي يصنعها العباد كقوله إذا زنيت فأنت طالق فهنا علق حادثا بحادث وحكم بكون ذلك الاول سببا للثاني فأين هذا من العلم والعالمية وإنما غرهم الاشتراك في لفظ العلة
وكذلك المتفلسفة ليس في جميع ما مثلوا به علة فاعله قارنت مفعولها في الزمان فحركة اليد ليست هي الفاعلة لحركة الخاتم بل المحرك لهما واحد ولكن حركتهما متلازمة لاتصال الخاتم باليد كحركة بعض اليد مع بعض وكما يقال حركت يدى فتحرك الخاتم وكما يقال حركت كفى فتحركت اصابعي وليست حركة الكف فاعلة لحركة الاصابع وإن قدر انها بعدها لم يسلم اقترانهما في الزمان بل تكون كأجزاء الزمان المتصل بعضها ببعض فانه لا فصل بينهما وإن كان الجزء الثاني متصلا بالاول كذلك أجزاء الحركة كحركة الظل وغيره كل جزء منها يحدث بعد الاخر وفي الزمان الذي يلى حركة الجزء الاول فأما أن يقال الحركتان وجدتا معا وأحدهما فاعلة للاخرى فهذا باطل
وأيضا فان المعروف أنه إذا قيل حركت يدى فتحرك خاتمى او المفتاح في

كمى ونحو ذلك إذا تحرك بحركة تخصه مثل ان يكون الخاتم ملقى فاذا حرك يده علق في يده فتحرك وهذه الحركة بعد حركة اليد في الزمان واما إذا كان الخاتم متصلا بالاصبع ثابتا فيها وإنما يتحرك كما تتحرك الاصابع فالمحرك للجميع واحد ولو كان الانسان نائما او ميتا فرفع رجل يده وفيها الخاتم لكانت أيضا متحركة بحركة اليد وهى حركة واحدة شملت الجميع لاتصال بعضه ببعض ليس هنا حركتان إحداهما سبب الاخرى فضلا عن ان تكون فاعلة لها ومن قال في مثل هذا حركت يده فتحرك خاتمه فانما هو كقوله فتحركت اليد فانما يريد بذلك أن الحركة شملت الجميع ولم يرد بذلك أن حركة اليد كانت سببا للحركة الاولى ولا نعرف عاقلا يقول هذا ويقصد هذا وإن قدر انه وجد فليس قوله حجة على سائر العقلاء ومن رفع يد ميت أو نائم وفيها خاتم لم تكن حركة بعض ذلك سببا لبعض بل الجميع موجود في زمان واحد لفاعل واحد وسبب واحد
فبطل أن يكون في الوجود سبب يقارن مسببه في الزمان بل لا يكون إلا قبله فكيف بالفاعل المستقل وإنما الذي يقارن الشئ في الزمان شرطه وتقدم الواحد على الاثنين هو من هذا الباب لا من باب تقدم الشرط على المشروط وحركة الخاتم مع اليد هي من باب المشروط مع الشرط ليست من باب المفعول مع الفاعل ولكن لفظ العلة فيه إجمال
وكذلك الصوت مع الحركة فان الصوت يحدث عقيب الحركة وغايته أن يكون معها كالجزء الثاني من الحركة مع الاول والحركة المتصلة والزمان المتصل ليس بعضه مع بعض في الزمان فغاية الصوت مع الحركة أن تكون كذلك وكذلك الشعاع مع ظهور الشمس مع أن الشمس ليست فاعلة للشعاع بل الشعاع يحدث في الارض إذا قابل الشمس ما ينعكس الشعاع عليه وكذلك الحركة ليست

هى الفاعلة للصوت ولكن الشمس شرط في الشعاع والحركة شرط في الصوت
وأما فاعل يبدع مفعوله ويكون مقارنا له في الزمان فهذا لا يوجد قط لكن لفظ العلة فيه إجمال ف العلة الفاعلة شئ والعلة التي هي شرط شئ آخر والشرط قد يقارن المشروط في زمانه بخلاف الفاعل فانه لا بد ان يتقدم فعله على المعين وإذا قدر انه لم يزل فاعلا فكل جزء من أجزاء الفعل مسبوق بجزء آخر وإن كان نوع الفعل لم يزل فلا يتصور أن يكون فعله أو مفعوله معينا مع الله أزلا وابدا وإن قيل إنه لم يزل فاعلا بمشيئته فدوام نوع الفعل شئ ودوام الفعل المعين والمفعول المعين شئ آخر
والذي أخبرت به الرسل ودلت عليه العقول واتفق عليه جماهير العقلاء من الاولين والاخرين أن الله خالق كل شئ وأن كل ما سواه فهو مخلوق له وكل مخلوق محدث مسبوق بالعدم وأما تغيير هولاء للفظ المحدث وقولهم إنا نقول إنه محدث حدوثا ذاتيا بمعنى أنه معلول فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه فان المحدث معلوم انه قد كان بعد أن لم يكن وأنه مفعول أحدثه محدث إحداثا وما لم يزل ولا يزال فلا يسميه أحد من العقلاء في لغة من اللغات محدثا بل ولا يقول أحد من العقلاء أنه مفول مصنوع مخلوق ولا يقول أحد أنه ممكن يمكن وجوده ويمكن عدمه إلا هذه الشرذمة من الفلاسفة

الميزان العقلي هو المعرفة الفطرية للتماثل والاختلاف
وهذه الامور مبسوطة في مواضعها وإنما المقصود هنا أنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات الى اقيسة كلية وضعوا الفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة وكانوا فيها من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون

وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون المطففين واين البخس في الاموال من البخس في العقول والاديان مع ان اكثرهم لا يقصدون البخس بل هم بمنزلة من قد ورث موازين من ابيه يزن بها تارة له وتارة عليه ولا يعرف أهى عادلة ام عائلة
والميزان التي انزلها الله مع الكتاب حيث قال الله تعالى الذي انزل الكتب بالحق والميزان وقال لقد أرسلنا رسلنا بالبينت وانزلنا معهم الكتب والميزان هي ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشئ بمثله وخلافه فيسوى بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين بما جعله الله في فطر عبادة وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف
فان قيل إذا كان هذا مما يعرف بالعقل فكيف جعله الله تعالى مما أرسلت به الرسل قيل لان الرسل ضربت للناس الامثال العقليه التي يعرفون بها التماثل والاختلاف فان الرسل دلت الناس وارشدتهم الى ما به يعرفون العدل ويعرفون الاقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية فليست العلوم النبوية مقصورة على مجرد الخبر كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام ويجعلون ما يعلم بالعقل قسيما للعلوم النبوية بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علما وعملا وضربت الامثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه او كانت الفطرة قد فسدت بما حصل لها من الاراء والاهواء الفاسدة فأزالت ذلك الفساد وبينت ما كانت الفطرة معرضة عنه حتى صار عند الفطرة معرفة الميزان التي أنزلها الله وبينها رسله
والقرآن والحديث مملوء من هذا يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والامثال المضروبة ويبين طرق التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله ام حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين امنوا وعملوا الصلحت سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون الجاثية وقوله أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون القلم أي هذا

حكم جائر لا عادل فان فيه تسوية بين المختلفين وقال ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصلحت كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار ص ومن التسوية بين المتماثلين قوله أكفاركم خير من أولئكم ام لكم برآءة في الزبر القمر وقوله أم حسبتهم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباسآء والضرآء وزلزلوا البقرة
والقرآن مملوء من ذلك لكن ليس هذا موضعه وإنما المقصود التنبيه على جنس الميزان العقلى وانها حق كما ذكر الله في كتابه وليست هي مختصة بمنطق اليونان وإن كان فيه قسط منها بل هى الاقيسة الصحيحة المتضمنة التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل وصيغ التمثيل هى الاصل وهي أكمل والميزان القدر المشترك وهو الجامع وهو الحد الاوسط
وإنزاله تعالى الميزان مع الرسل كانزاله الايمان وهو الامانة معهم والايمان لم يحصل إلا بهم كما قال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتب ولا الايمان ولكن جعلنه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي الى صراط مستقيم الشورى وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله ص - حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الاخر حدثنا ان الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة وحدثنا عن رفع الامانة قال ينام الرجل النومة فتقبض الامانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام الرجل النومة فتقبض الامانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منترا وليس فيه شئ فقد بين في هذا الحديث

أن الامانة التي هى الايمان أنزلها في أصل القلوب فان الجذر هو الاصل وهذا إنما كان بواسطة الرسل لما اخبروا بما اخبروا به فسمع ذلك ف ألهم الله القلوب الايمان وانزله في القلوب
وكذلك أنزل الله سبحانه الميزان في القلوب لما بينت الرسل العدل وما يوزن به عرفت القلوب ذلك فأنزل الله على القلوب من العلم ما تزن به الامور حتى تعرف التماثل والاختلاف وتضع من الالات الحسية ما يحتاج اليه في ذلك كما وضعت موازين النقدين وغير ذلك وهذا من وضعه تعالى الميزان قال تعالى والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان الرحمن وقال كثير من المفسرين هو العدل وقال بعضهم ما يوزن به ويعرف العدل وهما متلازمان

الوجه الثامن
ليس عندهم برهان على علومهم الفلسفية
إنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا الحسيات والاوليات والمتواترات والمجربات والحدسيات ومعلوم أنه لا دليل على نفى ما سوى هذه القضايا كما تقدم البينة عليه
ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرهما ما جرت العادة باشتراك بنى آدم فيه وتناقضوا في ذلك وذلك ان بنى آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات فانهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق وإن لم يكن ما رآه هؤلاء من ذلك هو ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد وأما ما يسمعه بعضهم من كلام

بعض وصوته فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم وكذلك اكثر المرئيات فانه ما من شخص ولا أهل درب ولا مدينة ولا إقليم إلا ويرون من المرئيات ما لا يراه غيره وأما الشم والذوق واللمس فهذا لا يشترك جميع الناس في شئ معين فيه بل الذي يشمونه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين كما يتفقون في شرب جنس الماء ومس جنس النساء
وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس فانه قد يتواتر عند هؤلاء ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ولم يجربوه ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الادوية ويجرب الاخرون جنس تلك الادوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب
ثم هم مع هذا يقولون في المنطق إن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره فيقال لهم وكذلك المشمومات والمذوقات والملموسات بل اشتراك الناس في المتواترات اكثر فان الخبر المتواتر ينقله عدد كثير فيكثر السامعون له ويشتركون في سماعه من العدد الكثير لا سيما إذا كان العدد الكثير مئين وألوفا فبطائفة من هؤلاء يحصل العلم المتواتر فاذا نقل هؤلاء لقوم وهولاء لقوم وهؤلاء لقوم حصل العلم المتواتر لامم لا يحصى عددهم إلا الله بخلاف ما يدرك بالحواس فانه يختص بمن احسه فاذا قال رأيت او سمعت او ذقت او لمست او شممت فكيف يمكنه ان يقيم من هذا برهانا على غيره ولو قدر انه شاركه في تلك الحسيات عدد فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم احسها ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر فاذا ادعوا أن الخبر المتواتر مختص بالحسيات فلا يقوم به البرهان على المنازع فالحسيات اعظم اختصاصا فيلزم ان لا يقوم بها برهان على المنازع وليس في الحسيات اكثر اشتراكا

الرؤية فان الناس يشتركون في رؤية الانوار العلوية كالشمس والقمر والكواكب ولكن مواد البرهان لا يختص بذلك
وإن قالوا الحسيات تحصل ب الاشتراك في جنسها كاشتراك الناس في معرفة الالوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة وإن لم يكن عين ما احسه هؤلاء هو عين ما احسه هؤلاء لكن اشتركا في الجنس قيل والمتواترات والمجربات قد يشتركون في جنسها كما تقدم بل وجود الشبع والري عقيب الاكل والشرب هو من المجربات والناس يشتركون في جنسه وكذلك وجود اللذة بذلك وبالجماع وغير ذلك بما إذا فعله الانسان وجد عقيبه اثرا من الاثار ثم يتكرر ذلك حتى يعلم ان ذاك سبب هذا الاثر فهذا هو التجربيات
والقضايا الظنية أصلها التجربيات وهو من هذا الباب فان المراد أنه إذا استعمل الدواء الفلاني وجد زوال المرض أو حصل به ألم المرض فوجود المرض بهذا ووجود زواله بهذا هو من التجربيات وكذلك الالام واللذات التي تحصل بالمشمومات والمسموعات والمرئيات والملموسات فان الحس ينال كذا ويرى هذا ويسمع هذا ويذوق هذا ويلمس هذا ثم وجود اللذة في النفس هو من الوجديات المعلومة بالحس الباطن وهو من جنس الحسيات الظاهرة
وأما الاعتقاد الكلى القائم في النفس من أن هذا الجنس يحصل به اللذة وهذا الجنس يحصل به الالم فهذا من التجربيات إذ الحسيات الظاهرة والباطنة ليس فيها شئ كلى فالقضاء الكلى الذي يقوم بالقلب هو مركب من الحس والعقل وهو التجربيات كما في اعتقاد حصول الشبع والري بما يعرف من المأكولات والمشروبات والموت والمرض بما يعرف من السموم القاتلة والاسباب الممرضة وزوال ذلك بالاسباب المعروفة وكل هذا من القضايا التجربية فالحس به يعرف الامور المعينة ثم إذا تكررت مرة بعد مرة أدرك العقل ان هذا بسبب القدر المشترك الكلى فقضى فضاء كليا أن هذا يورث اللذة الفلانية وهذا يورث الالم الفلاني

والحدسيات هى كذلك فبالحس يعرف أعيانها ثم يتكرر فتعلم بالعقل القدر المشترك لكن ذلك التكرر لا يكون بفعل الانسان بل هو كما يعرف من الامور السماوية مثل ان يرى اختلاف انوار القمر عند اختلاف مقابلته للشمس فيحدس أن ضوءه مستفاد منها ومثل ما يرى الثوابت لا تختلف حركتها بالطول والعرض بل حركتها حركة واحدة فيحدس أن فلكها واحد وإلا فيجوز أن يكون لكل واحد فلكا حركته مثل حركة الاخر ومثل ما يرى اختلاف حركات السبعة فيحدس عن اختلاف أفلاكها وهذا يسمى في اللغة تجربيات وكثير منهم ايضا يسميه تجربيات ولا يجعل قسما غير المجربات
وبالجملة الامور العادية سواء كان سبب العادة إرادة نفسانية أو قوة طبيعية فالعلم بكونها كلية هو من التجربيات او الحدسيات إن جعلت نوعا أخر حتى العلم بمعانى اللغات هو من الحدسيات فان الانسان يسمع لفظ المتكلم ثم قد يعلم مراده المعين بإشارة إليه أو بقرينة أخرى ثم إذا تكرر تكلمه بذلك اللفظ مرة بعد مرة وهو يريد به ذلك المعنى علم ان هذه عادته الارادية وهو إرادة هذا المعنى بهذا اللفظ إذا قصد إفهام المخاطب وهذا مما يسمونه الحدسيات إذ ليس كلام المتكلم موقوفا على اختيار المستمع وهو من التجربيات العامة فان السمع إنما عرف به الصوت والمعنى المعين قد يفهم أولا بأسباب متعددة إما كون هذا المتكلم من عادته ولغته انه إذا تكلم بهذا اللفظ أراد ذلك المعنى فهذا من هذا الباب وكذلك سائر ما يعلم من عادات الناس وعادات البهائم وعادات النبات وعادات سائر الاعيان هو من هذا الباب
وقد يعلم احد الشخصين بعادة نظيره فاذا كان من عادة شخص إذا قال أو فعل أمرا اراد به شيئا ورأى نظيره يقول ذلك او يفعله فقد اعتقد انه اراد ما اراد لان العادة عرف أنها للنوع لا للشخص كعادة الناس في اللغات والافعال

من العبادات وغير العبادات فاذا رأى الرجل يدخل المسجد قرب صلوة الجمعة وعليه أهبة أهل الصلوة اعتقد أنه يدخله للصلوة لان هذا عادة هذا النوع وكذلك إذا رأى قاعدا في محل التطهير شارعا فيما يشرع فيه المتطهر عرف أنه يتطهر ثم العاديات قد تنتقض وقد يعلم ما يفعله الفاعل من العلم بصفاته ويعلم صفاته من افعاله لكن ذاك من باب الاستدلال النظري العقلي وهو الاستدلال بالملزوم على اللازم فليس ذاك من هذا

كون العلوم الفلسفية من المجربات
فعامة ما عند الفلاسفة بل وسائر العقلاء من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هو من العلم بعادة ذلك الموجود وهو مما يسمونه الحدسيات وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية والعلوم الفلكية كعلم الهيئة فهو من هذا القسم من المجربات ان كان علما فان هذه لا يقوم فيها برهان على المنازع فليس عند القوم برهان على المنازع وايضا فان كون هذه الاجسام الطبيعية جربت وكون الحركات الفلكية جربت لا يعرفه اكثر الناس الا بالنقل والتواتر في هذا قليل وانما الغاية ان تنتقل التجربة في ذلك عن بعض الاطباء او بعض اهل الحساب
وعلم الهيئة الذي هو اعظم علومهم الرياضية العقلية الذي جعله ارسطو اهله هم ائمة الفلاسفة وعلمهم اصل الفلسفة فانه منه تعرف عدد الافلاك وحركاتها والا فالحس لا يرى الا حركة الاجسام المعينة فيرى الشمس متحركة والقمر متحركا والكواكب متحركة هذا الذي يعلم بالحس واما كون هذه مذكورة في افلاك متحركة فهذا انما يعلمونه من علم الهيئة والعلم بأن بعض الافلاك فوق بعض علموه بكسوف الاعلى الاسفل فلما راوا القمر يكسف سائرها استدلوا بذلك على انه تحت الجميع ولما راوا زحل لا يكسف شيئا والجميع تكسفه استدلوا بذلك على انه فوق

الجميع وكذلك كون الثوابت في الثامن ادعوا علمه بأنها لا تكسف شيئا بل قد يكسفها غيرها واما افلاكها فاستدلوا عليها بالحركات
والعلم بقدر حركاتها وبكسوف بعضها لبعض ونحو ذلك مداره على الارصاد وغايته ان بعض الناس راى هذا فأخبر به غيره وليس هذا خبرا متواترا بل غالبه خبر واحد ثم ان الارصاد يقع فيها من الغلط ما هو معروف ولهذا اختلفت ارصاد المتقدمين والمتأخرين في حركة الثوابت هل تقطع درجة فلكية في كل مائة سنة او في ستة وستين وثلثي سنه كما زعمه اهل الرصد المأموني ولما اخبرهم اهل الهيئة بحركة الفك استدلوا بذلك على ان لها نفسا تحركه بالارادة لان حركته دورية ليست طبيعية واستدلوا على عدد النفوس التسعة بالافلاك التسعة وعلى العقول العشرة بالافلاك التسعة مع العقل العاشرة الذي هو اول صادر عن واجب الوجود وجعلوا الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الاولى ليخرج ما فيه من الايون والاوضاع وغاية الفلسفة عندهم التشبه بالعلة الاولى بحسب الامكان فهذا هو العلم الالهي الذي هو الفلسفة الاولى والحكمة العليا وفيه من المقدمات الضعيفة ما ليس هذا موضع بسطه
وانما المقصود ان مبناه على قضايا يخبر بها بعض الناس عن قضايا حدسية فاذا قالوا ان هذه لا يقوم فيها برهان على المنازع والقضايا الطبيعية مبناها على ما ينقله بعض الناس من التجارب فاذا لم يكن في هذا ولا هذا برهان لم يكن عند القوم برهان على ما يختصون به واما ما يشتركون فيه هم وسائر الناس فهذا ليس مضافا اليهم ولا هو من علمهم فأين البرهان على العلوم الفلسفية مع العلم بأن العاديات التي هي عامة علومهم الكلية منتقضة كما بيناه في غير هذا الموضع فنحن نعلم انه ليس معهم في عامة ما يدعونه برهانيا برهان يقيني ولكن مع هذا نذكر بعض تناقضهم

سنة الله التي لا تنتقض بحال
ولكن العادة التي لا تنتقض بحال ما اخبر الله انها لا تنتقض كقوله تعالى لئن لم ينته المنفقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها الا قليلا ملعونين اينما ثقفلوا اخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا الاحزاب وقال ولو قتلكم الذين كفروا لولا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيراه سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا الفتح وقال واقسموا بالله جهد ايمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدى من احدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم الا نفورا استكبارا في الارض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء الا بأهله فهل ينظرون الا سنت الاولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا تحويلا فاطر
فهذه سنة الله وعادته في نصر عباده المؤمنين اذا قاموا بالواجب على الكافرين وانتقامه وعقوبته للكافرين الذين بلغتهم الرسل بعذاب من عنده أو بأيدى المؤمنين هى سنة الله التي لا توجد منتقضة قط وكما قال قبل هذا ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان امر الله قدرا مقدورا الاحزاب لم يقل هنا ولن تجد لان هذه سنة شرعية لا ترى بالمشاهدة بل تعلم بالوحي بخلاف نصره للمؤمنين وعقوبته للمنذرين فانه امر مشاهد فلن يوجد منتقضا
وقد أراد بعض الملاحدة كالسهروردي المفتول في كتابه المبدأ والمعاد الذي سماه الالواح العمادية أن يجعل له دليلا من القرآن والسنة على إلحاده فاستدل

بهذه الاية على ان العالم لا يتغير بل لا تزال الشمس تطلع وتغرب لانها عادة الله فيقال له انخراق العادات امر معلوم بالحس والمشاهدة بالجملة وقد أخبر في غير موضع أنه سبحانه لم يخلق العالم عبثا وباطلا بل لأجل الجزاء فكان هذا من سنته الجميلة وهو جزاؤه الناس باعمالهم في الدار الاخرة كما أخبر به من نصر أوليائه وعقوبة أعدائه فبعث الناس للجزاء هو من هذه السنة وهو لم يخبر بان كل عادة لا تنتقض بل أخبر عن السنة التي هى عواقب أفعال العباد باثابته أولياءه ونصرهم على الاعداء فهذه هى التي اخبر لن يوجد لها تبديل ولا تحويل كما قال فهل ينظرون إلا سنت الاولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا فاطر
وذلك لان العادة تتبع إرادة الفاعل وإرادة الفاعل الحكيم هى إرادة حكيمة فتسوى بين المتماثلات ولن يوجد لهذه السنة تبديل ولا تحويل وهو إكرام اهل ولايته وطاعته ونصر رسله والذين آمنوا على المكذبين فهذه السنة تقتضيها حكمته سبحانه فلا انتقاض لها بخلاف ما اقتضت حكمته تغييره فذاك تغييره من الحكمة ايضا ومن سنته التي لا يوجد لها تبديل ولا تحويل لكن في هذه الايات رد على من يجعله يفعل بمجرد إرادة ترجح أحد المتماثلين بلا مرجح فان هؤلاء ليس عندهم له سنة لا تتبدل ولا حكمة تقصد وهذا خلاف النصوص والعقول فإن السنة تقتضي تماثل الآحاد وأن حكم الشيء نظيره فيقتضي التسوية بين المتماثلات وهذا خلاف قولهم

المتواتر عن الانبياء أعظم من المتواتر عن الفلاسفة
والمقصود هنا الكلام على الفلاسفة فنقول معلوم أن من شياطينهم من يقول المتواترات لا يقوم بها البرهان على المنازع ليدخل في ذلك ما تواتر عن الانبياء صلوات الله عليهم من الايات والبراهين والمعجزات التي بعثوا بها كما

يدخلون ما اخذ عن الانبياء من المقبولات
فيقال لهم من المعلوم بالاضطرار أن تواتر خروج محمد ص - ومجيئه بهذا القرآن أعظم عند أهل الارض من تواتر وجود الفلاسفة كلهم فضلا عما يخبرون به من القضايا التجربية والحدسية التي استدلوا بها على الطبيعيات والفلكيات وكذلك ما تواتر من سائر معجزاته وما تواتر من اخبار موسى والمسيح صلوات الله عليهما هذا معلوم عند الناس أعظم من تواتر وجود أولئك فضلا عن تواتر ما يخبرون به
ولهذا صار ظهور الانبياء مما تؤرخ به الحوادث في العالم بظهور أمرهم عند الخاصة والعامة فان التاريخ يكون بالحادث المشهور الذي يشترك الناس فيه ليعرفوا به كم مضى بعده وقبله كما ان النهار يعرف بطلوع الشمس والشهر بالهلال لانه نور ظاهر يشترك الناس في رؤيته ولهذا جعل عمر تاريخ المسلمين من الهجرة النبوية فانها أظهر أحوال الرسول المشهورة وهو خروجه من بلد الى بلد وبها اعز الله الاسلام وكانت العرب قبل الاسلام تؤرخ بالحوادث المشهورة وكذلك الروم والفرس والقبط وسائر الامم يؤرخون مثل ذلك فنحن اليوم إذا اردنا ان نعرف زمان واحد من هؤلاء المتفلسفة قلنا كان قبل المسيح بكذا وكذا سنة
بل ارسطو إنما عرف زمانه لانه قد عرف أنه كان وزير الاسكندر بن فيلبس المقدوني ملك اليونان وكانوا مشركين يعبدون الكواكب والاصنام ويعانون السحر ارسطو وملكه وغيرهما وهذا الاسكندر لما جاء الى الشام اقام ايام بني اسرائيل غلب عليهم فذكروا أنه طلب ان يكتب في التوراة فقالوا ما يمكن هذا فقال اجعلوا لي تأريخا فصار التاريخ الرومي الذي تؤرخ به اليهود والنصارى مؤرخا به وأرسطو وزيره فعرف وقته من هذا الوجه وكان قبل المسيح بثلثمائة سنة

والتواريخ التي تختص بها اليهود هي من الانبياء وأحوال بيت المقدس يقولون في البيت الاول في البيت الثاني
ثم عرف أرسطوا بهذه الكتب المنسوبة اليه كما عرف بطليموس المجسطى وكما عرف ابقراط وجالينوس بما ينسب اليهما من كتب الطب وإلا فأي شئ هو الذي تواتر عند الناس من أخبار هؤلاء فضلا عن ان يتواتر عنهم ما يذكرونه في كتبهم من القضايا التجربية والحدسية وغاية ما يوجد أن يقول بطلميوس هذا مما رصده فلان وأن يقول جالينوس هذا مما جربته أنا أو ذكر لى فلان انه جربه او نحو ذلك من الحكايات التي ملأ بها جالينوس كتابه وليس في هذه شئ من المتواتر وإن قدر ان غيره جرب ايضا فذاك خبر واحد
ولكن ما يدعى في تجارب الاطباء من الادوية أقرب الى التسليم مما يدعونه في تجاربهم الرصدية وذلك لاشتراك كثير من الاطباء في تجربة الدواء الواحد وأيضا فلكثرة وجود ما يدعى فيه التجربة من النبات وتواطؤ المجربين له وليس كذلك ما يدعونه من فلسفتهم فانا رأينا تجارب الاطباء على غير منوالهم وعلمنا صدقها كثيرا وليس القصد إلا بفساد تأصيلهم فقط وإلا فالاطباء في تجاربهم أسد حالا منهم لان القوم إنما يذكرون دواء موجودا يمكن تجربته كثيرا لوجوده ولكثرة المحتاجين اليه ممن يصيبه ما يقال إن ذلك الدواء يؤثر فيه شفاء والله فاعل ذلك الشفاء في ذلك الدواء فبينهم حينئذ فرق من حيث ما قررته

فالتواتر عزيز عندهم جدا واكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه ولا علموا بالارصاد ما ادعوا انهم علموه وإذا قيل قد اتفق على ذلك رصد فلان وفلان كان غاية ما عندهم أن يذكروا جماعة رصدوا وهذا غاية ان يكون من المتواتر الخاص الذي ينقله طائفة
فمن زعم انه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الانبياء كيف يمكنه أن ان يقيم على غيره برهانا بمثل هذا التواتر ويعظم علم الهيئة والفلسفة ويدعى انه علم عقلى معلوم بالبرهان

كون الفلاسفة من أجهل الخلق برب العالمين
وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله فما الظن بالالهيات التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الاول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين وصار يتعجب تعجبا لا ينقضى ممن يقرن علم هؤلاء بالالهيات الى ما جاءت به الانبياء ويرى ان هذا من جنس من يقرن الحدادين بالملئكة بل من يقرن دهاقين القرى بملوك العالم فهو أقرب الى العلم والعدل ممن يقرن هؤلاء بالانبياء فان دهقان القرية متول عليها كتولى الملك على مملكته فله جزء من الملك
وأما ما جاءت به الانبياء فلا يعرفه هؤلاء ألبتة وليسوا قريبين منه بل كفار اليهود والنصارى أعلم بالامور الالهية ولست اعنى بذلك ما اختص الانبياء بعلمه من الوحي الذي لا ينال غيرهم فان هذا ليس من علمهم ولا من علم غيرهم وإنما أعنى العلوم العقلية التي بينها الرسل للناس بالبراهين العقلية في امر معرفة الرب وتوحيده ومعرفة اسمائه وصفاته وفي النبوات والمعاد وما جاءوا به من مصالح الاعمال التي تورث السعادة في الاخرة فان كثيرا من ذلك قد بينه الرسل بالادلة العقلية فهذه العقليات الدينية الشرعية الالهية هي التي لم يشموا رائحتها ولا في علومهم ما يدل عليها وأما ما اختصت الرسل بمعرفته واخبرت به من الغيب فذاك

امر أعظم من ان يذكر في ترجيحه على الفلسفة وانما المقصود الكلام في العلوم العقلية التي تعلم بالادلة العقلية دع ما جاءت به الانبياء فانه مرتبة عالية
وهؤلاء المتكلمون من اهل الملل الذين يدعهم اهل السنة من اهل الملل كالجهمية والمعتزلة وما يفرع على هؤلاء من جميع طوائف الكلام فان الفلاسفة تقول ان هؤلاء اهل جدل ليسوا اصحاب برهان ويجعلون نفوسهم هم اصحاب البرهان ويسمون هؤلاء اهل الجدل ويجعلون ادلتهم من المقاييس الجدلية اذ كانوا قد قسموا القياس خمسة اقسام برهاني وخطابي وجدلي وشعري وسوفسطائي كما سنتكلم عليه ان شاء الله ولهذا تجد ابن سينا وابن رشد وغيرهما من المتفلسفة يجعل هؤلاء اهل الجدل وان مقدماتهم التي يحتجون بها جدلية ليست برهانية ويجعلون انفسهم اصحاب البرهان
ونحن لا ننازعهم ان كثيرا مما يتكلمه المتكلمون باطل لكن اذا تكلم بالانصاف والعدل ونظر في كلام معلمهم الاول ارسطو وامثاله في الالهيات وفي كلام من هم عند المسلمين من شر طوائف المتكلمين كالجهمية والمعتزلة مثلا وجد بين ما يقوله هؤلاء المتفلسفة وبين ما يقوله هؤلاء من العلوم التي يقوم عليها البرهان العقلي من الفروق التي تبين فرط جهل اولئك بالنسبة الى هؤلاء ما لا يمكن ضبطه وهذا كلام ارسطو موجود وكلام هؤلاء موجود فان هؤلاء المتكلمين يتكلمون بالمقدمات البرهانية اليقينية اكثر من اولئك بكثير كثير وارسطو اكثر ما يبني الامور الالهية على مقدمات سوفسطاية في غاية الفساد ولولا ان هذا ليس موضع ذكره لذكرت كلامه في مقالة اللام التي هي اخر علومه بالفاظها وكذلك كلامه في اثولوجيا

6 - وهذا ابن سينا افضل متأخريهم الذي ضم الى كلامه في الالهيات من القواعد التي اخذها عن المتكلمين اكثر مما اخذه عن سلفه الفلاسفة اكثر كلامه فيها مبني على مقدمات سوفسطائية ملبسة ليست خطابية ولا جدلية ولا برهانية مثل كلامه في توحيد الفلاسفة وكلامه في اسرار الايات وكلامه في قدم العالم كما بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع

الوجه التاسع
الرد على ابن سينا والرازي في كلامهما في القضايا المشهورة المشتمل على
ثمانية انواع
الوجه التاسع انهم اخرجوا القضايا التي يسمونها الوهميات والتي يسمونها الاراء المحودة عن ان تكون يقينيات وقد بينا في غير هذا الموضع انها وغيرها من العقليات سواء ولا يجوز التفريق بينهما وان اقتضاء الفطرة لهما واحد
اما المشهورات فان ابن سينا قال في اشاراته
اصناف القضايا المستعملة فيما بين القائسين ومن يجري مجراهم اربعة مسلمات ومظنونات وما معها ومشبهات بغيرها ومتخيلات والمسلمات اما معتقدات واما مأخوذات والمعتقدات اصنافها ثلاثة الواجب قبولها والمشهورات والوهميات والواجب قبولها اوليات ومشاهدات ومجربات وما معها من الحدسيات والمتواترات وقضايا قياساتها معها الى ان قال
فأما المشهورات في هذه الجملة فمنها ايضا هذه الاوليات ونحوها مما يوجب قبوله لا من حيث هي واجب قبولها بل من حيث عموم الاعتراف بها

قال ومنها الاراء المسمات ب المحمودة وربما خصصناها باسم المشهورة اذ لا عمدة لها الا الشهرة وهو انه لو خلى انسان وعقله المجرد ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبول قضاياها ولم يفد الاستقراء ظنه القوى الى حكم لكثرة الجزئيات ولم يستدع اليها ما في طبعه الانساني من الرحمة والخجل والانفة والحمية وغير ذلك لم يقض بها الانسان طاعة لعقله او وهمه او حسه مثل حكمنا ان سلب مال الانسان قبيح وان الكذب قبيح لا ينبغي ان يقدم عليه
قال ومن هذا الجنس ما يسبق وهم كثير من الناس وليس شيء من هذا يوجه العقل الساذج ولو توهم الانسان بنفسه انه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع ادبا ولم يطع انفعالا نفسانيا او خلقا لم يقض في امثال هذه القضايا بشيء بل امكنه ان يجهله ويتوقف فيه وليس كذلك حال قضائه ان الكل اعظم من الجزء
وهذه المشهورات قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وان كانت صادقة ليست تنسب الى الاوليات ونحوها اذا لم تكن بينة عند العقل الاول الا بنظر وان كانت محمودة عنده والصادق غير المحمود وكذلك الكاذب غير الشنيع ورب شنيع حق ورب محمود كاذب
والمشهورات اما من الواجبات واما من التأديبات الصلاحية وما تطابق عليها الشرائع الالهية واما خلقيات وانفعاليات واما استقرائيات وهي اما بحسب الاطلاق واما بحسب اصحاب صناعة وحكمة
وقد ذكر الرازي في شرحه للاشارات تقرير الفرق بين الاوليات العقلية والمشهوارات والوهميات
وقالوا المشهورات تشبه بالاوليات ووجه الفرق ظاهر فان الاولى

هو الذي يكون حكمه على موضوعه في الوجودين حملا اولا لا ثانيا أي لا يكون حمله بتوسط فان المحمول على غيره بتوسط شئ اخر كان بعد حمل ذلك الشئ فلا يكون حمله عليه اولا بل ثانيا
وهذا إنما يظهر إذا لم يكن للعقل في ذلك الحكم موجب آخر إلا مجرد حضور طرفى الموضوع والمحمول أما إذا كان هناك اسباب أخر من الرقة او الانفة أو الحمية او العادة او الحمد على النظام الكلى والمصلحة العامة فحينئذ لا يعرف ان الموجب لحكم العقل بذلك هو نفس حضور طرفي الموضوع والمحمول او ذلك لاسباب اخر
فاذا اردت ان تمتحن ذلك فعليك ان تقدر نفسك كأنك خلقت في هذه الحال ولا تلتفت الى مقتضيات العادات واحكام سائر القوى من الرأفة والرقة وتجرد عما تعودته والفتة من القضايا المصلحية ثم تعرض على نفسك طرفى الموضوع والمحمول فان كان نفس حضورهما يوجب حكم العقل بتلك النسبة كانت القضية اولية وإلا كانت مشهورة وهو مثل قولنا الكذب قبيح فان السبب في شهرته تعلق المصلحة العامة به وقولنا الايلام قبيح والسبب فيه الرقة والدليل على ان ذلك ليس من الاوليات انا عند الفرض المذكور إذا عرضنا على العقل ان الشئ لا يخلو عن النفى والاثبات وعرضنا عليه ان الكذب قبيح وجدنا العقل جازما بالاول متوقفا في الثاني فعرفنا أن ذلك ليس من المحولات الاولية
ثم إن المشهور قد يكون صادقا وقد يكون كاذبا فالصادق قد يكون أوليا وقد لا يكون بل يحتاج في إثباته الى البرهان فان كل اولى لا بد ان يكون مشهورا لكن لا ينعكس فان السبب في الشهرة إما كونه اوليا أو تعلق النظام به او الانفعالات النفسانية كما ذكرنا او الاستقراء العام فان لكل مذهب أمورا مشهورة عندهم ربما لا تكون

مشهورة عند من يخالفهم
قلت والكلام على هذا بأنواع متعددة

النوع الاول
الكلام على تفريقهم بين الاوليات والمشهورات
النوع الاول إن التفريق بين الاوليات وغيرها بأن الاوليات ما كان ثبوت الموضوع للمحمول وهو ثبوت الصفة للموصوف والمحكوم به للمحكوم عليه والمخبر به للمخبر عنه كثبوت الخبر للمبتدأ بالتفريق بين الاولى وغيره بان الموضوع إن ثبت للمحمول بنفسه في الوجودين الذهنى والخارجي فهو اولى وإن افتقر الى وسط فليس بأولى فرق بنى على اصل فاسد وهو ان الصفات اللازمة للموصوف منها ما يلزم بنفسه ليس بينه وبين الموصوف وسط في نفس الامر ومنها ما لا يلزم بنفسه بل بوسط في نفس الامر يكون ذلك الوسط لازما للموصوف ويكون هذا المحمول لازما لذلك اللازم
وهذا الفرق قد ذكره غير واحد كالرازي وغيره في الصفات اللازمة وابن سينا ذكره ايضا لكن ابن سينا ذكر انه إنما اراد ب الوسط الحد الاوسط في القياس وهو ما يقرن باللام في قولك لانه وهذا هو الدليل والدليل هو وسط في الذهن للمستدل ليس هو وسطا في نفس ثبوت الصفة للموصوف فانه قد يستدل بالمعلول على العلة كما يستدل بالعلة على المعلول ويستدل بأحد المعلولين على الاخر ويستدل بثبوت احد الضدين على انتفاء الاخر وبثبوت احد المتلازمين على تحقق الاخر
ولا ريب أن الصفات اللازمة للموصوف تنقسم الى ما لزومه بين للإنسان والى ما ليس هو بينا بل يفتقر ملزومه الى دليل وكونه بينا للانسان وغير بين ليس هو صفة الشئ في نفسه وإنما هو إخبار عن علم الانسان به وتنبيه له فهو

إخبار عن الوجود الذهني لا الخارجي فما كان بينا للانسان معلوما له موجودا في ذهنه لم يحتج فيه الى دليل وما لم يكن كذلك احتاج فيه الى دليل وكون الشئ بينا وغير بين نسبة وإضافة بين المعلوم والانسان العالم وهذا يختلف فيه احوال الناس فقد يتبين لزيد ما لا يتبين لعمرو فان اسباب العلم وقوة الشعور وجودة الاذهان متفاوته فلا يلزم إذا تبين لانسان ثبوت بعض الصفات او لزومها او اتصاف الموصوف بها ان يتبين ذلك لكل احد ولا يلزم اذا خفى على بعض الناس ان يكون خفيا على كل احد
وحينئذ فإذا فرق بين الاولى وغيره بان الاولى لا يحتاج الى وسط فبين كون القضية اولية او غير اولية فرق إضافي بحسب احوال الناس فيكون ذلك بمنزلة ان يقال القضية إما ان تكون معلومة وإما ان لا تكون وإما ان تكون ظاهرة وإما ان لا تكون وإما ان تكون واضحة وإما ان لا تكون وإما ان تكون جلية وإما ان لا تكون وإما ان يتصور الانسان صدقها وإما ان لا يتصور وهذا فرق صحيح فإن كل قضية بالنسبة الى كل احد إما ان تكون بينة له وإما ان لا تكون بينة له ولكن ليس هذا الفرق يميز بين اجناس القضايا حتى يجعل جنس منها بتمامه من قبيل غير البين وجنس آخر بتمامه من جنس البين فإن هذا الفرق لا يعود الى صفة لازمة للقضية كما ادعاه من ان اللازم البين ما ثبت للموصوف بلا وسط في نفس الأمر واللازم غير البين ما كان ثبوته بوسط في نفس الأمر بل جميع اللوازم للموصوف ليس بينها وبين الموصوف وسط اصلا في نفس الأمر وإن احتجاج الانسان في علمه بثبوتها الى دليل فليس كل ما لا يعلم لزومه للموصوف إلا بدليل لايكون ثبوته له إلا بوسط كما تقدم بيانه فإن المعلول لازم لعلته المعينة لا يمكن تخلف المعلول عن علته التامة التي دخل فيها وجود الشروط وانتفاء الموانع ومع هذا فقد لا يعلم ثبوت المعلول إلا بوسط بأن يستدل بمعلول آخر على العلة

ثم بالعلة على المعلول كما يستدل بالرائحة التي في الشراب على انه مسكر ويستدل بالمسكر على التحريم كقوله ص كل مسكر خمر وكل مسكر حرام رواه مسلم وكما يستدل بثبوت كفارة اليمين في الالتزام على انه يمين ويستدل بأنه يمين على انعقاد الايلاء به وكذلك بالعكس وكما يستدل بالشعاع المنتشر على طلوع الشمس وبطلوعها على فوات الفجر وكما يستدل بفيء الظلال على زوال الشمس وبزوالها على دخول وقت الظهر فانها لا تفيء من المغرب الى المشرق إلا اذا زالت الشمس ولا يسمى فيئا إلا ما كان بعد الزوال والظل اسم عام لما كان في اول النهار وآخره وإن شئت تستدل بتزايد الظلال بعد تناهي قصرها على الزوال وبه على دخول وقت الظهر وكما يستدل بالجدي على جهة الشمال ويستدل بها على جهة الكعبة بأن يعلم ان الكعبة في تلك الأرض من جهة الجنوب والقطب شماليها إما محاذيا للركن الشامي سواء كما في أرض حران وما سامتها وإما مائلا الى المشرق وجهة الباب فينحرف الى المغرب كما في ارض العراق ومثل هذا كثير
وبالجملة ف الدليل باتفاق العقلاء اعم من العلة بل كل ملزوم يستلزم غيره يمكن الاستدلال به عليه مطلقا ولا يفرق في هذا بين لازم ولازم ولا يقال من اللوازم ما يلزم بوسط فلا يمكن العلم به إلا بعد ذلك الوسط بل يمكن الاستدلال به عليه كما يمكن الاستدلال بكل ملزوم على لازمه فإن شرط ذلك العلم بالملزوم متى علم ان هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم
فقد يكون ما هو لازم بغير وسط عندهم ولا يعرف لزومه إلا بالوسط 2الذي هو الدليل كالمعلول مع العلة وقد يكون ما يزعمون انه لازم بوسط ويمكن العلم بلزومه بلا وسط كما ذكروه من المثال في ذلك فزعموا ان اللونية للسواد والجسمية للحيوان ذاتية لثبوتها بلا وسط وزعموا ان الزوجية والفردية للعدد عرضية قالوا لأنا وإن علمنا ان الأربعة زوج والثلاثة فرد فلا يعلم ذلك في كل الأعداد بل يفتقر علمنا بأن المائتين واثنين وستين زوج والاحدى

وستون فرد الى وسط وهو ان يقسم هذه فاذا انقسمت بقسيمين متساويين علمنا انها زوج
وقد بينا في كلامنا على فساد قولهم في الفرق بين الذاتي واللازم ان الفرق لا يعود الى صفة الموصوف في نفس الامر بل كون الزوجية والفردية لازمة للزوج والفرد كلزوم العددية للعدد ولزوم اللونية للبياض والسواد ولزوم الجسمية للحيوان ولكن بعض اللوازم بين لبعض الناس انه لازم لجميع الافراد وبعضها يخفي ثبوته لبعض الافراد وهذا فرق يعود الى الانسان كما ان من الاشياء ما نراها ومن الاشياء ما لا نراها وكذلك من الاشياء ما نعلمها ومن الاشياء ما لا نعلمها ولا يقتضى ذلك ان يكون ما علمه من الصفات هو اجزاء للماهية تركبت منها لو جاز ان تتركب الماهية من الاوصاف وما لم يعلمه لا يكون اجزاء للماهية فكيف اذا كان تركب الماهية الموجودة في الخارج من صفات قائمة بها ودعوى ان تلك الصفات اجزاء لها مقومة وهي سابقة عليها في غاية الفساد
والرازي وامثاله لما شاركوا المنطقيين في هذا الخطأ زعموا ان الوسط الذهني هو وسط خارجي فهذا باطل وما علمت قدماء المنطقيين يقولونه ولا رايته في كلام ابن سينا وامثاله وانما الذي رايته في كلامه ان الوسط هو الدليل

برهان للرازي على هذا التفريق وبيان تناقضه من ثلاثة عشر طريقا
فالرازي لما ادعى ما ادعاه لزمه تناقض زائد على تناقض المنطقيين
قال الرازي والبرهان على ان ما يكون لزومه بغير وسط كان بينا هو ان الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم فاذا عقلنا الماهية وجب ان نعقل منها انها

لما هي هي تقتضى ذلك اللازم والا لما كنا عقلنا الماهية لما هي هي واذا عقلنا منها لما هي مقتضية للازم الفلاني وجب ان نعقل اللازم الفلاني لان العلم باضافة امر الى امر يتضمن العلم بكل المضافين
قال فهذا ما قيل في هذا الباب وفيه بحث لا بد من ذكره فان لقائل ان يقول ان ما يحصل لزومه من العلم بالماهية العلم بلازمها القريب وذلك القريب علة قريبة للازم الثاني فحينئذ يجب ان يعلم اللازم الثاني وان يعلم من ذلك الثاني اللازم الثالث فكان يجب ان يكون العلم بالماهية مقتضيا للعلم بجميع لوازمها القريبة والبعيدة وذلك محال فثبت ان العلم بالماهية لا يقتضى العلم بلازمها
قال ايضا فان ماهية العلة غير مقولة بالقياس الى المعلوم وعلته والعلة مقولة بالقياس الى المعلول فاذن ماهية العلة مغايرة لعلتها فاذن لا يلزم من العلم بماهية العلة العلم بدليل المعلول
ثم قال لكنا نقول في جواب هذا الشك العلم بماهية العلة لا يقتضى العلم بالمعلول الا بشرط اخر وهو حصول تصور المعلول فان العلية امر اضافي لا يحصل بمجرد ذات العلة فلا يكون العلم بذات العلة كافيا في العلم بالعلية لكن ذات العلة وذات المعلول هما لذاتيهما يقتضيان الوصف الاضافي وهو العلية والمعلولية لا جرم عند حصول تصورهما يجب حصول التصديق بانتساب احدهما الى الاخر وهذا هو المعنى بقولنا اللازم الذي يكون بغير وسط يكون بين الثبوت
قال واذا ثبت ان تصور العلة انما يوجب التصديق بثبوت المعلول القريب له عند تصور المعلول ثم من الجائز ان لا يحصل تصور المعلول عند تصور العلة لا جرم لا يلزم من العلم بحقيقة العلة العلم بثبوت كل

اللوازم القريبة والبعيدة
قال واما الشك الثاني فهو ايضا خارج لانا لا نسلم ان العلية مغايرة لحقيقة ذات العلة لكنا ندعي ان تصور حقيقة العلة مع تصور حقيقة المعلول القريب يوجب العلم بكون العلة علة لذلك المعلول
قلت فهذا الكلام الذي زعموا انه برهان قرروا به الاصول الكلية ل الحد والبرهان وفيه من الفساد والخطأ والتناقض ما يطول وصفه لكن ننبه على بعضه وذلك من طرق

الطريق الاول
ان قوله الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم ان عني به ان الماهية الملزومة هي العلة في حصول لازمها في نفس الامر كما يقتضية كلامه فهذا من ابطل الباطل فليس كل ما كان لازما لغيره يكون ذلك الغير هو العلة المقتضية لوجوده في نفس الامر فان العلة نفسها لازمة لمعلولها المعين لا يوجد المعلول المعين الا بتلك العلة وان قدر وجود ما هو من جنسه بغير تلك العلة فليس هو ذلك المعين والعلة لا تكون معلولة لمعلولها وهي لازمة له
وكذلك احد المعلولين يلازم المعلول الاخر كالابوة والبنوة هما متلازمان وليس وجود احدهما علة للاخر بل كلاهما معلول علة اخرى وكذلك جميع المتلازمات كالناطقية والضاحكية للانسان متلازمان وليس احدهما علة للاخر وكذلك الحس والحركة الارادية متلازمان وليس احدهما علة الاخر ونظير هذا كثير في الحسيات والعقليات والشرعيات وكل شيء فان نجوم الثريا متلازمة ما دام الفلك موجودا على هذه الصفة وليس بعضها علة لبعض وكذلك الاخلاط الاربعة في جسد ابن ادم متلازمة وليس بعضها علة لبعض وصفات الرب تعالى كعلمه وقدرته متلازمة وليس احدى الصفتين علة للاخرى والادلة الدالة على

الصانع جل جلاله وهي جميع مخلوقاته ملزومة لوجوده وليس فيها والعياذ بالله ما يجوز ان يقال انه علة له
وبالجملة فكل دليل فهو مستلزم لمدلوله والمدلول لازم للدليل وهذا متفق عليه بين العقلاء ومتفق بين العقلاء على ان الدليل لا يختص بان يكون معلولا لمدلوله بل الدليل اعم وكل من هذين امر بين مع اتفاق العقلاء عليه فكيف يجوز ان يقال ان كل ما لزم غيره فان الملزوم هو العلة المقتضية للازم وكل مدلول فهو لازم لدليله مع انتفاء هذا الاقتضاء في اكثر الادلة
فان قيل نحن لا نعني اللازم هنا الا الصفات اللازمة لموصوف وتلك الماهية الموصوفة مقتضية لذاتها لتلك الصفات قيل هذا خطأ من وجوه
احدها انهم لم يعنوا ذلك كما حكينا كلامهم بل جعلوا القضايا التي ليست اولية هي ما يفتقر الى هذا الوسط الذي جعلوه هنا معلولا للماهية كما قد حكينا كلامهم وان الاوليات حمل محمولها على موضوعها في الوجودين الذهني والخارجي حملا اوليا بلا وسط فجعلوا الوسط الذهني هو الخارجي والخارجي هو الذي ذكروه هنا وجعلوه معلول الماهية وايضا فانهم بهذا فرقوا بين اللازم البين واللازم غير البين
الوجه الثاني ان يقال هب انهم ارادوا الصفات اللازمة للماهية فكل دليل فهو ملزوم لمدلوله فكونه مستلزما لمدلوله صفة له لازمة له وهي على قولهم اما ان تكون بوسط واما ان تكون بغير وسط فآيات الله المخلوقة وهي العالم جميعه مستلزمة لوجود الرب تعالى ووجوده لازم لها وكونها ملزومة لذلك صفة لها لازمة لا يتصور قط ان يزول عنها هذا اللازم فانها مفتقرة بالذات الى الخالق وهذا الفقر لازم لها لا يفارقها البتة وحدوثها دليل على الباري وليست هي التي اقتضت وجوده وكذلك المعلول تقوم به صفات لازمة له وهو وصفاته تستلزم العلة

والمعلول وصفاته من العلة ليس هو علة لصفاته
الوجه الثالث ان يقال لا نسلم ان في الموصوفات ما هو علة فاعلة لصفته اصلا بل هو محل لصفاته القائمة به والموصوف ان كان رب العالمين فلا فاعل لصفاته كما لا فاعل لذاته وان كان مخلوقا فالفاعل لذاته هو الفاعل لصفاته اما كون ذاته علة فاعلة لصفاته فهذا باطل قطعا
ومما يتبين بطلانه ان الكلام في صفاته اللازمة وتلك لا تفارقه ولا يتصور ان يكون فاعلا الا بعد وجودها فيمتنع كونه هو الموجد لها واما صفاته المقومة فتلك عندهم هي المقومة لذاته ليست ذاته السابقة لها وهي كالعلة فجعلوا بعض صفاته اللازمة علة لذاته وهي الصفات المقومة وبعضها معلولة وهي اللازمة غير المقومة والقسمان خطأ فليس في صفات الموصوف اللازمة ما هو علة للذات ولا معلول للذات بل هي صفات قائمة بالذات وفاعل الذات فاعل صفاتها ان كانت الذات من الذوات المفعولة والذي خلق الانسان خلق الحيوانية والناطقية وخلق الضاحكية وغيرها ليس بعض هذه الصفات سابقا لذات الانسان او مادة لها ولا علة لها ولا بعضها معلول لها بل هي صفات قائمة بالانسان لازمة له والذي خلقه خلق هذه الصفات اللازمة له وكذلك سائر المخلوقات
الوجه الرابع ان يقال ما تعني بقولك وتلك الماهية الموصوفة مقتضية بصفاتها ان عنيت انها مستلزمة لها فحينئذ جميع الملزومات كذلك كما تقدم فبطل كونهم ارادوا بعض الملزومات وان عنيت انها فاعلة للزومها فليس في الماهيات ما يفعل شيئا من صفاتها

الطريق الثاني
ان يقال لو سلم انها مقتضية لذلك اللازم بمعنى انها علة كما ادعاه او بمعنى انها ملزومة لذلك اللازم كما هو الحق في نفس الامر فان كون الملزوم ملزوما واللازم لازما له هو ثابت لا ريب فيه واما كون الملزوم فعل اللازم او علة للازم

فهذا قد يكون في بعض الملزومات كالمعلول المعين اللازم لعلته والا فأكثر اللوازم ليست معلولة لملزوماتها وسواء قدر انها معلولة او لم يقدر فقوله الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم كلام مجمل فان كون الشيء ملزوما لغيره هو انه متى تحقق الملزوم تحقق اللازم فقوله الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم كلام فيه اجمال فان كونها ملزومة حقيقة معقولة فقول القائل لما هي هي يقتضى ان اللزوم قسمان لزوم لما هي هي ولزوم لغير ما هي هي
فان قيل نعم عندي اللزوم نوعان فاللازم البين الذي لا يفتقر الى وسط هو اللازم لما هي هي واللازم الذي يفتقر الى وسط هو اللازم لاجل الوسط لا لما هي هي قيل له الكلام في هذا الفرق فأنت تريد ان تقيم البرهان على ان ما كان لزومه بغير وسط كان بينا لا يفتقر الى دليل بل كان من الاوليات فمجرد تصور طرفي القضية كاف في العلم به والمنازع يقول لك قد يكون اللازم بغير وسط كالعلة مع معلولها لا يعلم الا بدليل ووسط فيكون وسطا في العلم والذهن لا وسطا في الخارج وانت قد ادعيت ان كل ما كان مفتقرا الى وسط في الذهن فانه يفتقر الى وسط في الوجود وان ما لا يفتقر الى وسط في الوجود لا يفتقر الى وسط في الذهن وعلى هذا ادعيت اقامة البرهان
ونحن نقول مجرد التصور التام لما ادعيته يوجب العلم الضروري بفساده لكن نبين مع ذلك فساد ما دللت به على دعواك كما نبين فساد شبه السوفسطائية وان سموها براهين وهو انك صادرت على المطلوب فجعلت المطلوب مقدمة في اثبات نفسه فانك لم يمكنك الاستدلال حتى اخذت مسلما ان اللوازم تنقسم الى البين الذي يلزم لما هي هي والى اللازم بوسط الذي يفتقر الى وسط في نفس الامر والمنازع لك يقول لا نسلم افتقار شيء من اللوازم الى وسط في نفس الامر بل جميع اللوازم يلزم الملزوم نفسه وان كان بعض الملزومات شرطا في البعض كما ان العلم مشروط بالحيوة والارادة مشروطة بالعلم فليس الشرط وسطا ملزوما للازم الثاني كما

ادعيته بل الذات مستلزمة الجميع ومتى تحققت تحقق الجميع ولا يتحقق شيء منها الا مع الذات وبعضها لا يتحقق الا مع بعض بل قد تكون متلازمة كصفات الله تعالى لا يتحقق شيء منها الا مع الاخرى فحياته لازمة لعلمه وقدرته ومشيئته وكذلك قدرته ملازمة لعلمه وحياته فهي كلها متلازمة وهي ايضا لازمة للذات والذات لازمة لها وليس شيء من الصفات هو وسطا للاخرى كما ادعيته من ان بعض اللوازم لازم للذات وبعضها لازم اللازم وبعضها لازم لازم اللازم بل جميعها لازمة للذات وهي ايضا متلازمة
والذي ذكرناه من ان بعض الصفات قد يكون شرطا وهو من جنس الصفات واما الصفات اللازمة للموصوف مطلقا سواء كان هو الخالق او كان الملزوم مخلوقا كصفات الانسان اللازمة كلها متلازمة فحيوانية الانسان وناطقيته وضاحكيته متلازمة لا يوجد واحد منها دون الاخر وان وجدت حيوانية في غيره فتلك حيوانية غير حيوانيتة والفصول والخواص كلها متلازمة كالناطقية والضاحكية واذا كانت متلازمة وبعضها شرطا في بعض امتنع ان يكون الشرط هو الوسط الذي به يثبت المشروط كما ادعوه لان ذلك مستلزم ان يكون كل صفة لازمة وسطا للاخرى وان يكون ليس شيء من الصفات اللازمة يلزم بنفسه فيلزم الجمع بين النقيضين فعلم ان كون احدى الصفتين شرطا في الاخرى لا يقتضى كونها وسطا في الثبوت كما ادعوه واذا كان المنازع يمنع انقسام اللوازم الى ما لا يلزم بنفسه وبوسط وبرهانك مبنى على اخذ هذا التقسيم مسلما كنت مصادرا على المطلوب مثبتا للشيء بنفسه
فان قلت انا اقيم هذا البرهان على من يسلم لي من المنطقيين ان من اللوازم ما يلزم بوسط وبغير وسط قيل لك فهذا ايضا خطأ من وجوه احدها ان القياس يكون حينئذ جدليا لا برهانيا وانت جعلته برهانيا الثاني ان المنطق الذي هو ميزان العلوم عندكم لا يجوز ان تجعل المقدمات المبينة له جدلية فانه حينئذ لا

يكون علما بل يكون شيئا اتفق بعض الناس على دعواه ونحن نعلم ان كثيرا من الناس يدعون صحة المنطق ولكن أي فائدة في هذا الثالث ان يقال ولو سلم لك هذا التقسيم فالبرهان خطأ كما سيأتي بيانه وخطأه دليل على فساد اصل التقسيم واذا كان اصل التقسيم خطا كان البرهان باطلا وكان التقسيم باطلا وهو المطلوب

الطريق الثالث
ان يقال قولكم فاذا عقلنا الماهية وجب ان نعقل منها انها لما هي هي تقتضى ذلك اللازم يقال هذا ممنوع وذلك ان قول القائل عقلنا الماهية وتصورنا الماهية ونحو ذلك من العبارات لفظ مجمل فانه قد يعني به التصور التام والعقل التام الذي يتضمن تصور الملزوم وقد نعني به انا عقلناها وتصورنا نوعا من العقل والتصور وان لم يكن تاما ولا شك ان مثل هذا لا يستلزم تصور الملزوم فدعواك ان كل عقل للماهية يوجب ان نعقل منها انها لما هي هي تقتضى ذلك اللازم ممنوع وهو خلاف الواقع فان الناس لا يزالون يعقلون بعض الماهيات نوعا من العقل فلا يعقلون انها لما هي هي تقتضى اللازم وبالجملة فنحن في هذا المقام يكفينا المنع فان الدعوى ليست بديهية ولم يقم عليها دليلا الا قوله والا لما عقلنا الماهية لما هي هي فان اراد بهذا اللازم المنفي العقل التام الذي هو التصور التام فنحن نسلم ذلك ونقول ليس كل من تصور ماهية ما وعقلها نوعا من العقل والتصور يكون قد عقلها وتصورها عقلا تاما وتصورا تاما وان اراد بهذا اللازم المنفي انا لا يكون حصل لنا شيء من التصور والعقل فهذا ممنوع
الطريق الرابع
ان يقال ما ذكره يستلزم ان لا يعقل شيء من المفردات البسائط ولا يعقل شيء وحده بل كل من عقل شيئا فلا بد ان يعقل لازمه القريب فيكون قد عقل اثنين وتصور اثنين لم يعقل واحدا ولم يتصور واحدا وهذا مناقض لما زعموه من

ان العلم ينقسم الى تصور وتصديق وان التصور هو التصور الساذج الذي لا يكون معه حكم بشيء اصلا لا بنفي ولا باثبات ونحن وان كنا قلنا ان مثل هذا ليس بعلم وانه لا يسمى علما الا ما تضمن العلم بنفي او اثبات فلا يمتنع ان يتصور الشيء من بعض الوجوه وان لم يتصور انه ملزوم للوازم له يلزمه بنفسها فقد ثبت ان قوله باطل باتفاق العقلاء

الطريق الخامس
ان يقال لو كان ما ذكرته صحيحا للزم ان من عقل شيئا عقل لوازم الشيء جميعها فانه اذا عقل الملزوم وجب ان يعقل لازمه الذي بغير وسط ثم عقل ذلك اللازم يوجب عقل الاخر وهلم جرا فيلزم ان يكون قد عقل اللوازم جميعها وهذا كما انه يبطل حجته فهو يبطل اصل قولهم ان اللازم بغير وسط لا يفتقر الى دليل في حق احد
فانه لو كان كذلك لكان من تصور شيئا تصور جميع لوازمه ويلزم ان من عرف الله عرف جميع ما يعلمه الله فيعلم كل شيء لان علمه سبحانه من لوازم ذاته بل يلزم ان من علم شيئا من مخلوقاته علم كل شيء فان المخلوق مستلزم للخالق والخالق مستلزم لعلمه بكل شيء بل وهو مستلزم لمشيئته ومشيئته مستلزمة لجميع ما خلقه فانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلو كان من علم الملزوم لا بد ان يعلم لازمه لزم ان من علم شيئا فقد علم كل شيء
وفساد هذا بين مع ان فساد هذه الدعوى اظهر من ان يحتاج الى دليل لكن اذا عرف شناعة لوازمها كان ادل على قبحها وفسادها وهذا يتضمن السؤال الذي ذكره وقال فيه بحث لا بد من ذكره كما تقدم حكاية لفظه والجواب الذي ذكره عنه باطل وقد تناقض فيه وذلك يتبين بذكر

الطريق السادس
وهو ان قوله العلم بماهية العلة لا يقتضى العلم بالمعلول الا بشرط اخر وهو حضور تصور المعلول فيقال المعلول عندكم هنا هو اللازم الاول الذي كان الموصوف علة له في ذاته لم يفتقر في كونه علة له إلى المعلول فان العلة لو افتقرت في كونها علة الى المعلول لم تكن وحدها علة وللزم تقدم المعلول على علية علته وعلية علته متقدمة على ذاته وهذا دور ممتنع باتفاق العقلاء
وانتم جعلتم ما كان يفتقر لزومه الى وسط افتقر العلم به الى وسط وما لزم بلا وسط علم بلا وسط فاذا جعلتم العلم بلزومه موقوفا على تصور المعلول والعلة والملزوم واللازم جميعا وقلتم لا يعلم اللزوم الا بعد هذين التصورين واللزوم الخارجي موقوف على العلة وحدها لا على الاثنين بطل قولكم ان الوسط الذهني هو الخارجي فان هذا يتوقف العلم بلزومه على تصورين ولزومه في الخارج انما هو لازم لواحد لا لاثنين
الطريق السابع
قولك في الجواب ان الماهية وحدها لا تكفي في حصول العلية لان العلية امر اضافي والامور الاضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين كلام باطل سواء كانت العلية امرا عدميا او وجوديا فانها ان كانت عدمية بطل هذا الكلام وان كان امرا وجوديا فمعلوم ان العلة وحدها هي الموجبة للمعلول والا لم تكن علة له بل جزء علة والمعلول لا يكون الا بعد العلة فاذا كانت وحدها موجبة وهو لا يوجد الا بوجود العلة علم انها وحدها توجب المعلول والعلية
الطريق الثامن
قولك الامور الاضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد تعني به في الذهن او في الخارج فان هذا الموضع فيه التباس ان عنيت انها لا تتصور الا بتصور

شيئين فهذا صحيح ولا ريب ان العلية لا تتصور الا بتصور العلة والمعلول فحصولها في التصور الذهني مشروط بحصول تصور المضافين في الذهن وان عنيت انها لا توجد في الخارج الا بالشيئين فهذا باطل بالضرورة واتفاق العقلاء فان ذات الرب وحدها مستلزمة لكل ما يتصف به من الامور الثبوتية والاضافية وهذا متفق عليه بين المسلمين والفلاسفة وسائر الناس فان كونه خالقا للعالم وربا وفاعلا هو الذي يسمونه علة ومؤثرا والناس متنازعون في الخلق هل هو امر عدمي وهو نفس المخلوق كما يقوله اكثر المعتزلة والاشعرية ام الخلق زائد على المخلوق كما هو قول جماهير المسلمين وهو قول السلف والائمة وذكر البخاري انه قول العلماء مطلقا لم يذكر فيه نزاع وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا انه على كل قول فلا يقول عاقل ان المخلوق اوجب كونه خالقا ولا المعلول جعل العلة علة ولا انه شرط في ذلك بل الخالق سبحانه هو وحده خلق جميع المخلوقات وكونه خالقا على قول الجمهور حاصل بقدرته ومشيئته عند المسلمين ليس خاصا بالمخلوقات بل خلق المخلوق متقدم عليه في نفس الامر فكيف يكون الخلق معلولا ل المخلوق وكذلك علية العلة متقدمة على المعلول في نفس الامر فكيف يكون المعلول جزء علية العلة فقوله ان العلية امر اضافي والامور الاضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين فيه تغليط بسبب الاجمال في قوله فالشيء الواحد لا يكفي في حصولها فان ما ذكره صحيح في الحصول في العلم والتصور واما الحصول الخارجي فالشيء الواحد قد يكون علة لامور كثيرة اضافية والعلة علة المعلول وعلة عليتها وهما جميعا حاصلان بالعلة وكذلك الابوة والبنوة من المتضائفات وهما لازمان للايلاد فعلة الايلاد اوجبت هذين المتضائفين

فان قيل اراد ان الامور الاضافية لا توجد الا بوجود المضافين وان كان احدهما مستقلا بوجود المضافين قيل عن هذا جوابات احدها بأنه لم يرد هذا ولو اراده لم ينفعه وكان خطأ فهذه ثلاثة اجوبة
وذلك ان كلامه في وجود علية العلة هو حصل بالعلة وحدها او بها وبالمعلول فلا بد ان يدخل صورة الدعوى في دليله ولفظه تقدم قال فيه وبيانه ان ماهية العلة وحدها لا تكفي في حصول العلية لان العلية امر اضافي والامور الاضافية لا تكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين فاذا لم تكن ذات العلة مستقلة باقتضاء حصول صفة العلية لا جرم لم يكن العلم بذات العلة كافيا في حصول العلم بالعلية فقد تبين مراده وهو ان العلة لا تستقل باقتضاء صفة العلية بل المقتضى بحصول هذه الصفة العلة والمعلول جميعا وهذا باطل
ولو قدر انه اراد ان الامور الاضافية تتوقف على وجود المضافين وان لم يكن احدهما علة بل شرطا أي لا توجد الاضافة الا مع وجود المضافين لم ينفعه هذا فانه يقول العة اوجبت الامرين معا ولم يوجد احدهما الا مع الاخر ويلزمه ان يقول في العلم مثل ذلك فيقول العلم بالملزوم يوجب العلم باللازم وبالملزوم فان الملزوم هو العلة عندهم في هذا موضع واللازم هو المعلول
ثم انه لا يسلم له ان كل اضافة تتوقف على وجود المضافين في ان واحد فان التقدم والسبق ونحو ذلك من الامور الاضافية توجد قبل وجود احد المضافين وكذلك علية العلة التي ليست تامة توصف بها العلة قبل وجود المعلول وهي التي يسميها الفقهاء الاسباب فيقال ملك النصاب سبب لوجوب الزكوة والسببية من الأمور الإضافية والنصاب موصوف بها قبل وجوب الزكاة وكذلك يقال هذا موجود قبل هذا او هو متقدم على هذا او هو اسبق من هذا

ومثل هذا كثير

الطريق التاسع
انه قال ان ذات العلة والمعلول يعني اللازم والملزوم بغير وسط عند تصورهما يجب حصول التصديق بانتساب احدهما الى الاخر فيقال هذا اول الدعوى فانه ان اراد بالتصور التام الذي يحصل معه تصور الملزوم فهذا حق ولكن لا ينفعه فانه ادعى ان مطلق عقل الماهية يوجب ذلك وايضا فانا نلزمه مثل ذلك في جميع الملزومات انها متى تصورت تصور اللازم وهو باطل وايضا فانا نحن نلتزم مثل ذلك في التصور التام فنقول في جميع اللوازم متى تصور الملزوم تصورا تاما يحصل به تصور الملزوم حصل معه العلم بأن هذا لازم وان لم يحصل هذا التصور لم يجب العلم باللازم في شيء من الامور كما سيأتي ذكر ذلك
وقوله متى تصورنا حقيقة العلة وحقيقة المعلول امتنع عند ذلك ان لا نصدق بثبوت احدهما للاخر ان اراد التصور التام فهذا مشترك بين جميع اللوازم وان اراد غيره فالحكم ممنوع وهو انما ادعى ان مطلق عقل الماهية يوجب ذلك وقد بينا ان عقلها او تصورها ينقسم الى تام وغير تام وان ما ذكره انما يلزم في التام
الطريق العاشر
ان يقال ان كنت تعني باللزوم البين هذا فهكذا يفسر به لازم اللازم فيقال اذا تصور اللازم الاول وتصور لازم لازمه امتنع حينئذ ان لا بعرف ان احدهما علة للاخر فيلزم ما فررت منه وهو انه متى تصور شيئا تصور جميع لوازمه
الطريق الحادي عشر
قوله اذا اثبت ان تصور العلة انما يوجب التصديق بثبوت المعلول القريب عند تصور المعلول ثم من الجائز ان لا يحصل تصور المعلول عند تصور العلة لا جرم لا يلزم من العلم بحقيقة العلة العلم بكل اللوازم القريبة والبعيدة فيقال له انت فرقت

بين اللوازم القريبة والبعيدة بأن القريبة ما كان بين اللزوم وادعيت ان ما كان بين اللزوم وهو ما ثبت بغير وسط يجب ان يعلم إذا تصور الملزوم فلا يفتقر الى وسط وقد فسرت ذلك في آخر الأمر بأن المراد إذا تصور الملزوم واللازم جميعا فيجب ان يعلم الملزوم فيقال لك وهكذا ايضا إذا تصور اللازم الأول ولازمه الثاني فقد تصور الملزوم ولازمه القريب فيجب ان يتصور لزومه له وقد كان تصور لزوم الأول فيلزم ما فررت منه من انه إذا عرف لزوم الأول عرف لزوم سائر اللوازم فإذا شرطت في العلم بلزوم الأول حضورهما جميعا فكذلك فاشرطه في العلم بلزوم الثاني وإن حذفت الشرط في الثاني فاحذفه من الأول حتى يكون الكلام عدلا
وعلى التقديرين يلزم بطلان الفرق بين لازم ولازم بأن هذا بوسط وبأن هذا بغير وسط اذا فسر الوسط بوسط في نفس الأمر وبطلان ما ادعوه من ان اللازم بغير وسط يجب العلم به بلا دليل وان اللازم بوسط لا يعلم إلا بالعلم بالوسط فما ادعوه من هذا وهذا باطل فبطل ما ذكروه من دليل الفرق بين الأوليات والمشهورات وهو المطلوب

الطريق الثاني عشر
انه قال في جواب السؤال الثاني لا نسلم ان العلية مغايرة لحقيقة ذات العلة لكنا ندعي ان تصور حقيقة العلة مع تصور حقيقة المعلول القريب يوجب العلم بكون العلة علة لذلك المعلول فيقال هذا كلام مناقض لما تقدم مع تناقضه في نفسه فان العلية ان لم تكن مغايرة لذات العلة بطل قولك ان ماهية العلة وحدها لا تكفي في حصول العلية لان العلية امر اضافي والامور الاضافية لا تكفي في حصولها الشيء الواحد فانها اذا لم تغايرها لم يكن هناك شيء يكون معلولا لا للعلة ولا لها ولغيرها بل ولا هناك شيء يتصور اذا تصورت العلة والمعلول وان قيل هي مغايرة في العلم لا في الاعيان فانها امر عدمي قيل وهذا يبطل قوله فان العدم المحض لا

حصول له فضلا عن ان يفتقر الى علة لحصوله ولكن تصورها في الذهن يتوقف على المضافين وهذا مما قدمنا انه حق وهو مبطل لما قاله

الطريق الثالث عشر
انهم قد زعموا ان اللوازم مترتبة في نفسها بالذات مستلزمة للاول والثاني مستلزم للثالث والثالث للرابع وان ما كان لزومه بغير وسط كان بينا لا يحتاج الى دليل وقد تناقض تفسيره لذلك لتناقض القول في نفسه فيقال له أي شيء قلته في لزوم الاول للملزوم الاول يقال في اللازم الثاني للاول سواء بسواء من كل وجه وحينئذ فأي شيء فسرت به العلم بلزوم الاول لا يفتقر الى وسط يلزمك مثله في الثاني فيكون موجب برهانك ان من علم شيئا علم جميع لوازمه وهذا في غاية الفساد
فصل برهان اخر للرازي على هذا التفريق
ثم ذكر برهانا اخر على ما ادعاه من ان ما كان لزومه بغير وسط كان بينا فقال برهان اخر وهو انا اذا عقلنا ماهية فانه تبقى بعض لوازمها مجهولة ويمكننا تعرف تلك اللوازم المجهولة فلو لا وجود لوازم بينه الثبوت للشيء والا لزم التسلسل واما عدم تعرف تلك اللوازم وكلاهما باطلان
قال وهذا البرهان كاف في اثبات اصل المقصود من ان الصفات اللازمة في نفسها يلزم بعضها بوسط في نفس الامر وبعضها بغير وسط وانما يدل هذا على ان الانسان قد يتبين له لزوم بعض اللوازم بلا دليل وبعضها لا يتبين الا بدليل
وهذا لا ريب فيه لكن الدليل كل ما كان مستلزما للمدلول لا يختص بما يكون علة للمدلول ولا بعض اللوازم في نفس الامر علة لبعض ولا كل ما كان بينا لزيد يجب ان يكون بينا لعمرو
فتبين ان الفرق الذي ذكره بين الاوليات والمشهورات من ان الاولى هو الذي يكون حمله على موضوعه اولا في الوجودين حملا ثانيا غلط لا يستقيم الا

في الوجود الخارجي فانه ليس في اللوازم ترتيب حتى يكون بعضها اولا وبعضها ثانيا ولا في الذهن فان الوسط انما هو الدليل فيعود الفرق الى ان الاوليات ما لا يفتقر الى دليل والنظريات ما يفتقر الى دليل وهذا كلام صحيح متفق عليه لا يحتاج الى ما ذكروه ولكن هذا يوجب كون القضية اولية ونظرية هو من الامور الاضافية فقد تكون بديهية لزيد نظرية لعمرو باعتبار تمام التصور فمتى تصور الشيء تصورا اتم من تصور غيره تصور من لوازمه ما لم يتصوره ذو التصور الناقص فلم يحتج في معرفته بتلك اللوازم الى وسط واحتاج صاحب التصور الناقص الى وسط وايضا فهذا لا يوجب كون المشهورات ليست يقينية كما سنذكره ان شاء الله

رد ابن سينا تفريقهم بين الصفات الذاتية واللازمة
ولفظ ابن سينا في اشاراته قال واما اللازم غير المقوم يخص باسم اللازم فان كان المقوم ايضا لازما فهو الذي يصحب الماهية ولا يكون جزءا منها مثل كون المثلث مساوي الزوايا القائمتين
قال وامثال هذا ان كان لزومها بغير وسط كانت معلومة واجبة اللزوم وكانت ممتنعة الرفع من الوهم مع كونها غير مقومة وان كان لها وسط بين يبين به علمت واجبة به
قال واعني ب الوسط ما يقرن بقولنا لانه كذا وهذا الوسط ان كان مقوما للشيء لم يكن اللازم مقوما له لان مقوم المقوم مقوم بل كان لازما له ايضا فان احتاج الى وسط تسلسل الى غير نهاية فلم يكن وسطا وان لم يحتج فهناك لازم بين اللزوم بلا وسط وان كان الوسط لازما متقدما واحتاج الى توسط لازم اخر او مقوم غير منته من ذلك الى لازم بلا وسط تسلسل الى غير النهاية فلا بد في كل حال من

لازم بغير وسط وقد بان انه ممتنع الرفع في الوهم فلا يلتفت اذا الى ما يقال ان كل ما ليس بمقوم فقد يصح رفعه من الوهم ومن امثلة كون كل عدد مساويا للاخر او مفاوتا
قلت مقصوده بهذا الرد على من قال من المنطقيين ان الفرق بين الصفة الذاتية والعرضية اللازمة ان ما ليس بذاتي يمكن رفعه في الوهم فيمكن تصور الموصوف بدون تصوره بخلاف الذاتي فتبين ان اللوازم لا بد ان تنتهي الى لازم بين لا يفتقر الى وسط وذاك يمتنع رفعه في الوهم اذا تصور الموصوف وهذا الذي قاله جيد وهو يبطل الفرق الذي هو عمدتهم
ولهم فرق ثان بأن الذاتي ما لا يفتقر الى علة واللازم ما يفتقر الى علة والعلة هي الوسط وهذا الفرق افسد من الذي قبله فان كون بعض الصفات اللازمة تفتقر الى علة دون بعض باطل ثم سواء قيل يفتقر الى علة او وسط وسواء جعل ذلك هو الدليل او هو ايضا علة لثبوته في الخارج فان من اللوازم ما لا يفتقر الى علة فبطل هذا الفرق الثاني
والفرق الثالث التقدم في الذهن او في الخارج وهو ان الذاتي ما لا يمكن تصور الموصوف الا بعد تصوره بخلاف اللازم العرضي فانه متصور بعد تصور الملزوم والذاتي هو المقوم وهذا الفرق ايضا فاسد فان الصفة لا تتقدم على الموصوف في الخارج اصلا واما في الذهن فقد تتصور الصفة والموصوف جميعا فلا يتقدم تصور الصفة وبتقدير التقدم فهذا يختلف باختلاف التصور التام والناقص لا باختلاف اللوازم نفسها
فعلى هذه الفروق الثلاثة او احدها يعتمدون حتى الذين صاروا يجعلون المنطق في اول اصول الفقه من المتأخرين هذا عمدتهم كما يذكر ذلك الامدي وابن الحاجب وغيرهما وكلها باطلة اما التقدم الخارجي فمن المعلوم بصريح العقل

ان الصفة القائمة بالموصوف والعرض القائم بالجوهر لا يعقل تقدمه عليه بوجه من الوجوه بل اذا اعتبر تقدم عقلي او غيره فالذات متقدمة على الصفات
واما في التصور فالتصور مراتب متعددة يكون مجملا ومفصلا فالانسان قد يخطر له الانسان ولا يستحضر شيئا من صفاته فهذا تصوره تصورا مجملا وقد يخطر له مع ذلك انه ناطق كما قد يخطر له مع ذلك انه ضاحك واذا تصور الحيوان قد يخطر له انه حساس كما قد يخطر له انه متحرك بالارادة وكما يخطر له انه متألم او متلذذ وانه يحب ويبغض واذا تصور ان الانسان حيوان ناطق ولم يتصور الحيوان مفصلا لم يكن قد تصور الانسان مفصلا فما من صفة لازمة الا ويمكن وجودها في التصور المفصل وحذفها في التصور المجمل
وحينئذ فقول القائل ان الذاتي ما لا يتصور الموصوف الا بعد تصوره ان ادعاه في كل تصور فهذا باطل وهو ممن يسلم بطلانه فانه يقول قولك عن الانسان انه حيوان ناطق حمد تام يفيد تصور حقيقته ومع هذا لم يتصور الذاتيات مفصلة فانه لم يستحضر في ذهنه ان الحيوان هو الجسم الحساس النامي المتحرك بالارادة فثبت انهم يجعلونه متصور الحقيقة بدون استحضار الذاتيات على وجه التفصيل فلا يجب في كل ذاتي ان يتقدم تصوره المفصل
واما التصور المجمل فلا يجب فيه استحضار شيء من الصفات وتصور الانسان مجملا كتصور الحيوان مجملا ومعلوم ان الموصوف يشاركه غيره في صفات ويفارقه في صفات فاذا لم يجب ذكر جميع الصفات المشتركة على وجه التفصيل فدعوى الاكتفاء ببعضها دون بعض تحكم محض واذا كانت حقيقة الانسان عندهم متصورة بدون تصور الصفات الذاتية المشتركة على وجه التفصيل علم ان ما ذكروه من ان

الذاتي ما لا يمكن تصور الموصوف بدونه باطل وان اكتفوا بالتصور المجمل فمن تصور الانسان مطلقا فقد دخل في جميع ذلك صفاته وبسط هذا له موضع اخر
والمقصود هنا الكلام على ما فرقوا به بين الاوليات والمشهورات من ان الاوليات ليس بين الموصوف وصفته وسط في نفس الامر بخلاف غيره وقد تبين بطلان هذا الفرق طردا وعكسا وانه قد يكون من اللوازم التي لا وسط لها في نفس الامر ما يفتقر الى دليل ومن اللوازم التي يدعون افتقارها الى وسط ما يعلم ثبوته بلا دليل وان التفريق بين اللوازم بوسط في نفس الامر باطل وان الوسط الذي هو الدليل يختلف باختلاف احوال الناس ليس هو امرا لازما للقضايا فهذه عدة اوجه من هذا الطريق الاول

النوع الثاني
لا دليل على دعواهم ان المشهورات ليست من اليقينيات
النوع الثاني ان يقال المراد ب المشهورات عندهم هي القضايا العلمية كلها مثل كون العدل حسنا والظلم قبيحا والعلم حسنا والجهل قبيحا والصدق حسنا والكذب قبيحا والاحسان حسنا ونحو ذلك من الامور التي تنازع الناس هل حسنها وقبحها بالعقل ام لا
المثبتة والنفاة للحسن والقبح العقليين
واكثر الطوائف على اثبات الحسن والقبح العقليين لكن لا يثبتونه كما يثبته نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم بل القائلون بالتحسين والتقبيح من اهل السنة والجماعة من السلف والخلف كمن يقول به من الطوائف الاربعة وغيرهم يثبتون القدر والصفات ونحوهما مما يخالف فيه المعتزلة اهل السنة ويقولون مع هذا باثبات الحسن والقبح العقليين وهذا قول الحنفية ونقلوه ايضا عن ابي حنيفة نفسه وهو قول كثير من المالكية والشافعية والحنبلية كأبي الحسن التميمي وابي الخطاب وغيرهما

من ائمة اصحاب احمد كأبي علي بن ابي هريرة و ابي بكر القفال الشاشي وغيرهما من الشافعية وكذلك من اصحاب مالك وكذلك اهل الحديث كأبي نضر السجزي وابي القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما
بل هؤلاء ذكروا ان نفي ذلك هو من البدع التي حدثت في الاسلام في زمن ابي الحسن الاشعري لما ناظر المعتزلة في القدر بطريق الجهم بن صفوان ونحوه من ائمة الجبر فاحتاج الى هذا النفي قالوا والا فنفي الحسن والقبح العقليين مطلقا لم يقله احد من سلف الامة ولا ائمتها بل ما يؤخذ من كلام الائمة والسلف في تعليل الاحكام وبيان حكمة الله في خلقه وامره وبيان ما فيما امر الله به من الحسن الذي يعلم بالعقل وما في مناهيه من القبح المعلوم بالعقل ينافي قول النفاة
والنفاة ليس لهم حجة في النفي اصلا وقد استقصى ابو الحسن الآمدي ما ذكروه من الحجج وبين انها عامتها فاسدة وذكر هو حجة اضعف من غيرها وهو ان الحسن والقبح عرض والعرض لا يقوم بالعرض فان اثبات هذا لا

يحتاج الى قيام العرض بالعرض كما توصف الاعراض بالصفات وجميع ذلك قائم بالعين الموصوفة فنقول هذا سواد شديد وهذه حركة سريعة وبطيئة وهم يسلمون ان كون الفعل صفة كمال او صفة نقص او ملائما للفاعل او منافرا له قد يعلم بالعقل وهذه صفات للفعل وهي قائمة بالموصوف
ومن الناس من يظن ان الحسن والقبح صفة لازمة للموصوف وان معنى كون الحسن صفة ذاتية له هذا معناه وليس الامر كذلك بل قد يكون الشيء حسنا في حال قبيحا في حال كما يكون نافعا ومحبوبا في حال وضارا وبغيضا في حال والحسن والقبح يرجع الى هذا وكذلك يكون حسنا في حال وسيئا في حال باعتبار تغير الصفات
والحسن والقبح من افعال العباد يرجع الى كون الافعال نافعة لهم وضارة لهم وهذا مما لا ريب فيه انه يعرف بالعقل ولهذا اختار الرازي في اخر امره ان الحسن والقبح العقليين ثابتان في افعال العباد واما اثبات ذلك في حق الله تعالى فهو مبني على معنى محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه وفرحه بتوبة التائب ونحو ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع وهل ذلك صفات ليست هي الارادة كما اتفق عليه السلف والائمة او ذلك هو الارادة بعينها كما يقوله من يقوله من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم

بيان ان قضايا التحسين والتقبيح من اعظم اليقينيات
والمقصود هنا ذكر هذه القضايا المشهورة من بني ادم كلهم كقولهم العدل حسن وجميل وصاحبه يستحق المدح والكرامة والظلم قبيح مذموم سيء وصاحبه يستحق الذم والاهانة فان هؤلاء نفوا كونها من اليقينيات وهذا يستلزم ان لا يقول الفلاسفة بالحسن والقبح العقليين اذ لم يكن في العقل قضية برهانية عقلية ومن الناس

من حكى عنهم القول بذلك والتحقيق انهم في ذلك متنازعون مضطربون كما في امثال ذلك
فنقول دعوى المدعي ان هذه القضايا ليست من اليقينيات دعوى باطلة بل هذه من اعظم اليقينيات المعلومة بالعقل وذلك ان التصديق مسبوق بالتصور فينبغي ان ننظر معنى قولنا العدل حسن والظلم قبيح ثم ننظر في ثبوت هذا المحمول لهذا الموضوع ولنتكلم في عدل الناس وظلمهم
فنقول الناس اذا قالوا العدل حسن والظلم قبيح فهم يعنون بهذا ان العدل محبوب للفطرة يحصل لها بوجوده لذة وفرح نافع لصاحبه ولغير صاحبه يحصل به اللذة والفرح وما تتنعم به النفوس واذا قالوا الظلم قبيح فهم يعنون به انه ضار لصاحبه ولغير صاحبه وانه بغيض يحصل به الالم والغم وما تتعذب به النفوس ومعلوم ان هذه القضايا هي في علم الناس لها بالفطرة وبالتجربة اعظم من اكثر قضايا الطب مثل كون السقمونيا تسهل الصفراء فلم كانت التجربيات يقينية وهذه التي هي اشهر منها وقد جربها الناس اكثر من تلك لا تكون يقينية مع ان المجربين لها اكثر واعلم واصدق وجزئياتها في العالم اكثر من جزئيات تلك والمخبرون بذلك عنها ايضا اكثر واعلم واصدق
فان الانسان من نفسه يجد من لذة العدل والصدق والعلم والاحسان والسرور بذلك ما لا يجده من الظلم والكذب والجهل والناس الذين وصل اليهم ذلك والذين لم يصل اليهم ذلك يجدون في انفسهم من اللذة والفرح والسرور بعدل العادل وبصدق الصادق وعلم العالم واحسان المحسن ما لا يجدونه في الظلم والكذب والجهل والاساءة ولهذا يجدون في انفسهم محبة لمن فعل ذلك وثناء عليه ودعاء له وهم مفطورون على محبة ذلك واللذة به لا يمكنهم دفع ذلك من انفسهم كما فطروا على وجود اللذة بالاكل والشرب والالم بالجوع والعطش فلم كانت تلك القضايا من اليقينيات المعلومة بالحس والعقل كالتجربة وغيرها ولم تكن هذه من القضايا

العقلية المعلومة ايضا بالحس والعقل والامر فيها اعظم واللذة التي توجد بهذه لذة روحانية عقلية شريفة والانسان كلما كمل عقله كانت هذه اللذة احب اليه من تلك اللذة
ثم الفلاسفة اثبتوا معاد الارواح واللذة العقلية وهي مبنية على هذه القضايا التي سموها المشهورات فان لم تكن معلومة كان ما اثبتوه من ذلك ليس فيه شيء من العلم بل يقولون ما يقوله غيرهم من ان اللذات الباطنة اقوى واشرف من اللذات الظاهرة ويدعون الضرورة في اثبات لذة وراء اللذات الحسية الظاهرة واذا كانت اللذة اما ادراك الملائم كما قد يزعمونه او هي تابعة ولازمة للادراك الملائم كما يقوله غيرهم وهو الصحيح فمعلوم ان العلم والعدل والصدق والاحسان ملائم لبني آدم فيكونوا ملتذين بذلك بل يكون التذاذهم بذلك اعظم من غيره وهذا معنى كون الفعل حسنا ومعنى كونه قبيحا ضد ذلك
واذا تصور معنى الحسن والقبح علم ان هذه المشهورات من اعظم اليقينيات فانها ما اتفقت عليها الامم لما علموه بالحس والعقل والتجربة بل اتفاق الناس على هذه اعظم من اتفاقهم على عامة ما يذكرونه وقد يعيش طوائف من الناس زمانا لا تخطر لهم القضايا الكلية العقلية التي جعلوها مبادى العلم كقول القائل النفي والاثبات لا يجتمعان وان يعلم ان هذا الشيء المعين اذا كان موجودا لم يكن معدوما لكن قد لا تخطر لهم القضية الكلية بل وقد لا يخطر لهم تقدير اجتماع وجوده وعدمه فان هذا التقدير ممتنع فلا يخطر لاكثر الناس ولا توجد طائفة الا وهي تحسن العدل والصدق والعلم وتقبح ضد ذلك
وايضا ف الحكمة عندهم وعند سائر الامم نوعان علم وعمل وهذه الحكمة عند المسلمين قال مالك رحمه الله الحكمة معرفة الدين والعمل به ولذلك قال ابن قتيبة الحكمة عند العرب العلم و العمل و الحكمة العملية عندهم و عند غيرهم

تتضمن علم الأخلاق وسياسة المنزل وسياسة المدنية وبنى ذلك كله على هذه القضايا المشهورة بل وكل عمل يؤمر به فلا بد فيه من العدل فالعدل مأمور به في جميع الأعمال والظلم منهى عنه نهيا مطلقا
ولهذا جاءت أفضل الشرائع والمناهج بتحقيق هذا كله وتكلميه فأوجب الله العدل لكل أحد على كل أحد في كل حال كما قال تعالى يأيها الذين أمنوا كونوا قومين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن فقيرا أو غنيا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا و قال تعالى وقال تعالى يأيها الذين امنوا كونوا قومين لله شهدآء بالقسط ولا يجر منكم شنان قوم أي يحملنكم بغض قوم كعدوكم الكفار على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى وقال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينت وأنزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقال تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الامنت الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل النساء وقال تعالى إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتآئى ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون النحل ومثل هذا كثير
وكذلك تحريم الظلم بمجموع أنواعه كثير في النصوص الالهية حتى في الحديث الالهى حديث ابي ذر الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي ص - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي إنى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني اغفر لكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى يا عبادي لو ان أولكم وأخركم وإنسكم

وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا يا عبادي لو ان أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا يا عبادي لو أن اولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكى إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط يا عبادي إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم اوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
والمقصود أن الحكمة العملية كلها مبنية على هذه القضايا والنفس لها قوتان العلمية والعملية والعمل لا بد ان يكون بعلم فان لم يكن هذه القضايا معلومة لم يكن شئ من الحكمة العملية معلوما ولا شئ من الاعمال والاخلاق المحمودة والمذمومة معلوما وهذا مع ما فيه من المناقضة لما يقولونه هو وغيرهم من العقلاء فهو مكابرة ظاهرة مع أنا في هذا النوع من الكلام لم نقصد إقامة الدليل على فساد قولهم بل صورناه لتعلم حقيقته وطالبناهم بالدليل على أن هذه المشورات ليست يقينية فانهم لم يذكروا على ذلك دليلا اصلا وسنتكلم على ما توهموه دليلا من

النوع الثالث
في بيان كون المشهورات من جملة القضايا الواجب قبولها
قولهم هذه القضايا ليست بأولية لما ذكروه من الفرق بين الاولى

وغيره قد تقدم بطلان هذا الفرق ولكن نحن نسلم ان من القضايا ما يكون بديهيا أوليا لبعض الناس أو لكلهم ويكون مجرد تصور طرفى القضية موجبا للحكم لكن ليس علة ذلك كون المحمول لازما للموضوع بلا وسط في نفس الامر كما ذكر ذلك الرازي ونحوه وإن كان هذا لم نجده في كلام ابن سينا وامثاله بل الوسط عنده الدليل كما تقدم بل ولا ذاك امرا لازما للقضية بل قد تكون بديهية لزيد ونظرية لعمرو بحسب المتصور لتمامه ونقضانه
وهذا مما قد تنازع فيه بعضهم ويدعون أن كل ما كان اوليا لزيد فهو اولى لغيره كما يدل كلامهم على ذلك وأن الادميين يشتركون في العلم بكل ما هو أولى لكل شخص منهم لانها موجب العقل والعقل مشترك وهذا القول إن كنا نبطله ونقول القضية قد تكون ضرورية لزيد نظرية لعمرو كذلك غير ذلك من القضايا قد تكون المتواترة لهذا محسوسة لهذا والمجربة لهذا معلومة بالاستدلال لهذا ونحو ذلك
وإذا كان كذلك فنحن ليس مقصودنا أن هذه القضايا المشهورة أولية أو ليست أولية ولا انها اوليه لجميع الناس أو لبعضهم بل المقصود انها من جملة القضايا الواجب قبولها التي يجب التصديق بها وتكون مادة للبرهان فانهم جعلوا المعتقدات ثلاثة الواجب قبوها والمشهورات والوهميات والمقصود هنا ان المشهورات العامة مثل حسن العدل وقبح الظلم هى من الواجب قبولها وإن لم نقل هى اولية فان الواجب قبولها قد جعلوها اصناقا اوليات ومشاهدات ومجربات وحدسيات ومتواترات وقضايا قياساتها معها
وهذه المشهورات إذا لم تكن اولية لم تكن بدون كثير من المجربات والحدسيات ونحو ذلك فتكون مادة للبرهان اليقيني كالمتواترات والمجربات فان المتواترات

والمجربات ليست اوليات وهذه المشهورات ابلغ من كثير من المجربات والعلم بها والتصديق بها في نفوس الامم قاطبة أقوى واثبت من العلم بكثير من المجربات والمتواترات التي تواترت عند بعض الامم دون بعض
وبهذا الاعتبار فلم يذكروا حجة على انها ليست من اليقينيات فان قولهم موجب الحكم بها العادات او الاحوال النفسانية أو مصلحة النظام هذا لا ينافي كونها يقينية بل هو دليل على ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى فان المجربات كلها عاديات فكونها عاديات لا ينافى كونها يقينيات وكذلك كون قوى النفس تقتضيها فان هذا يدل على الملائمة والمنافرة وهذا هو معنى الحسن والقبح فلذلك لا ينافى كونها قضايا صادقة معلومة الصدق وكذلك كون نظام العالم مربوطا بها لا ينافى كونها صادقة معلومة فليس فيما ذكروه ما ينافي العلم بها ولا يدعى كونها أولية بالمعنى الذي ذكروه كما لا يدعى ذلك في المجربات والمتواترات وذلك لا ينافى كونها من اليقينيات

النوع الرابع
خاصة العقل والفطرة استحسان الحسن واستقباح القبيح
النوع الرابع أن يقال قوله لا عمدة لها إلا الشهرة وهو أنه لو خلى الانسان وعقله المجرد ووهمه وحسه الى قوله لم يقض بها الانسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه مثل حكمنا بأن سلب مال الانسان قبيح وأن الكذب قبيح لا ينبغي ان يقدم عليه
فيقال لا نسلم هذا فان هذا دعوى مجردة وقوله سلب مال الانسان قبيح لفظ عام وقد يسلب ماله بعدل وقد يسلب بظلم والكلام فيما إذا علم الانسان أنه سلب ماله ظلما مثل أن يعلم ان الاثنين المشتركين في المال من كل وجه استولى أحدهما على الاخر فسلبه أكثر من نصف ونحو ذلك فان عقول العقلاء قاطبة

وأوهامهم تقضى بقبح هذا
أما الوهم فانه قد فسره بقوله في الاشارات
وايضا فان الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئية معانى جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها
فهذه القوة التي سموها الوهم هى التي يدرك بها الانسان صداقة الصديق وعدواة العدو ويدرك بها كل من الزوجين ما في الزوج الاخر من الامر المحبوب وبها يميل الانسان الى غيره وبها ينفر عنه ولهذا يقولون اكبر حاكم على النفوس الوهم
ومعلوم أن هذه القوة تميل الى الشخص الذي تعلم انه عادل صادق محسن وتنفر عن الشخص الذي تعلم انه كاذب ظالم مسئ بل تميل الى هذا الشخص وإن لم يصل اليها من جهته نفع وضرر والنفوس مجبولة على محبة العدل وأهله وبغض الظلم وأهله وهذه المحبة التي في الفطرة هو المعنى بكونه حسنا وهذا البغض هو المعنى بكونه قبيحا كما يقال في الصورة الظاهرة هذا حسن وهذا قبيح فالحسن الظاهر ما يحسه الحس الظاهر والحسن الباطن ما يحسه القلب الباطن وإذا كانت النفوس مجبولة على محبة هذا وبغض هذا فهذا معنى الحسن والقبح فكيف يقال لو ترك الانسان وحسه وعقله ووهمه لم يقض بها ونفوس بنى آدم مجبولة على استحسان هذا واستقباح هذا
وأما العقل فأخص صفات العقل عند الانسان ان يعلم الانسان ما ينفعه ويفعله ويعلم ما يضره ويتركه والمراد بالحسن هو النافع والمراد بالقبيح هو الضار فكيف يقال إن عقل الانسان لا يميز بين الحسن وبين القبيح وهل اعظم تفاضل

العقلاء إلا بمعرفة هذا من هذا بل وجنس الناس يميل الى من يتصف بالصفات الجميلة وينفر عمن يتصف بالقبائح فذاك يميل جنس الانسان الى سمع كلامه ورؤيته وهذا ينفر عن رؤيته وسمع كلامه

النوع الخامس
في بيان كون هذه المشورات معلومة بالفطرة
النوع الخامس إن مبادى هذه القضايا أمر ضروري في النفوس فانها مفطورة على حب ما يلائمها وبغض ما يضرها والمراد بالحسن ما يلائمها وبالقبيح ما يضرها وإذا كانت مفطورة على حب هذا وبغض هذا فالمراد بقولنا حسن إنه ملائم نافع والمراد بقولنا قبيح إنه ضار مؤذ وهذا أمر فطري فعلم ان الناس بفطرتهم يعلمون هذه القضايا المشهورة بينهم
النوع السادس
في بيان كون الموجب لاعتقاد هذه المشهورات من لوازم الانسانية
النوع السادس ان يقال لو لم يكن لهذه القضايا مبدأ في قوى الانسان لم تشتهر في جميع الامم فان المشهور في جميع الامم لا بد ان يكون له موجب في الفطرة المشتركة بين جميع الامم فعلم أن الموجب لاعتقاد هذه القضايا امر اشتركت فيه الامم وذلك لا يكون إلا من لوازم الانسانية فان الامم لم تشترك كلها في غير لوازم الانسانية
النوع السابع
رد ابن سينا على نفسه في قوله بأن المشهورات لا تدرك بقوى النفس
النوع السابع قوله لو توهم الانسان بنفسه أنه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع ادبا ولم يطع انفعالا نفسانيا ولا خلقا لم يقض في امثاله بشئ هذا ممنوع بل إن كان تام العقل علم ان العلم والعدل والصدق ينفعه وتصلح به نفسه وتلتذ وأن الكذب والظلم يضره ويفسد نفسه ويؤلمها ولو قدر أنه لا يعلم به أحد غير

علم العقل بأنه إذا ظلم أبغضه الناس وعادوه وغير علمه بأن الله يعاقبه
فان قيل الانسان يلتذ بما يراه قبيحا كما قد يلتذ بما يأخذه ظلما فيأكله ويشربه قيل وإن التذ بدنه فان قلبه وعقله لا يلتذ بذلك بل يلتذ إذا عدل وإن قدر انه يلتذ به لذة حاضرة فانه يتألم بقبح عاقبته عنده وإذا لم يتألم فلغيبة عقله عن إدراك المؤلم كما قد يحصل للسكران وغيره من أمور تؤلمه ولا يتألم بها لغيبة عقله عن إدراكها
وهذا مما قد ذكره ابن سينا نفسه فقال في نمط البهجة والسعادة
إنه قد يسبق الى الاوهام العامية أن اللذات القوية المستعلية هي الحسية وأن ما عداها لذات ضعيفة وكلها خيالات غير حقيقة
وقد يمكن ان ينبه من جملتهم من له تمييز ما فيقال له اليس الذ ما يصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات والمطعومات وأمور تجرى مجراها وانتم تعلمون ان المتمكن من غلبة ما ولو في امر خسيس كالشطرنج والنرد قد يعرض له منكوح ومطعوم فيرفضه لما يعتاضه من لذة الغلبة الوهمية وقد يعرض منكوح ومطعوم لطالب العفة والرياسة مع صحة جسمه في صحبة حشمه فينفض اليد منهما مراعاة للحشمة فيكون مراعاة الحشمة آثر وألذ لا محالة هناك من المنكوح والمطعوم
وإذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بانعام يصيبون موضعه أثروه على الالتذاذ بمشتهى حيوانى متنافس فيه وآثروا فيه غيرهم على انفسهم مسرعين الى الانعام به

وكذلك فان كبير النفس يستصغر الجوع والعطش عند المحافظة على ماء الوجه ويستحقر هول الموت ومفاجاة العطب عند مناجزة المبارزين وربما اقتحم الواحد على عدد دهم ممتطيا ظهر الخطر لما يتوقعه من لذة الحمد ولو بعد الموت كأن تلك تصل اليه وهو ميت
فقد بان ان اللذات الباطنة مستعلية على اللذات الحسية وليس ذلك في العاقل فقط بل وفي العجم من الحيوانات فان من كلاب الصيد ما يقنص الصيد على الجوع ثم يمسكه على صاحبه وربما حمله اليه والراضعة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها وربما خاطرت محامية عليه اعظم من مخاطرتها في ذات حمايتها نفسها
فاذا كانت اللذات الباطنة اعظم من الظاهرة وإن لم تكن عقلية فما قولك في العقلية
فيقال له هذا كله حجة عليك في قولك إن استحسان الحسن واستقباح القبيح لا يدركه الانسان لا بحسه ولا بعقله ولا بوهمه وانت قد ذكرت ان الانسان بل الحيوان يلتذ بالحمد والثناء ويلتذ بالغلبة ويلتذ بالانعام والاحسان والرحمة أعظم من التذاذة بالأكل والشرب ومعلوم ان لذة الاكل والشرب مما يعلم بالحس الظاهر فهذه اللذه الباطنة يعلم بالحس الباطن وبالوهم فكيف تقول إن الحسن والوهم والعقل لا يعلم به حسن الحسن وقبح القبيح وما ذكرته من التذاذ الانسان بالايثار وتركه الطعام الشهى مراعاة الحشمة ونحو ذلك إنما هو لكونه يرى ذاك قبيحا وهذا جميلا ويلتذ بفعل الجميل لذة باطنة يحس بها فكيف يقال إن الحسن والقبيح لا ينال بشئ من قوى النفس وإنما يصدق به لمجرد الشهرة فقط من غير موجب حسي ولا وهمى ولا عقلى

النوع الثامن
رد قولهم إن العقل بمجرده لا يقضى في المشهورات بشئ
النوع الثامن انه قال
تنبيه إن اللذة هى إدراك ونيل ما لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك والالم هو إدراك ونيل ما لوصول ما هو عند المدرك نقص وشر من حيث هو كذلك وقد يختلف الخير والشر بحسب القياس فالشئ الذي هو عند الشهوة خير هو مثل المطعم الملائم والملمس الملائم والذي هو عند الغضب خير فهو الغلبة والذي عند العقل فتارة وباعتبار فالحق وتارة وباعتبار فالجميل ومن العقليات نيل الشكر ووفور الحمد والمدح والكرامة وبالجملة فان همم ذوي العقول في ذلك مختلفة
وكل خير بالقياس4 الى شيء ما فهو الكمال الذي يختص به وينحوه باستعداده الأول وكل لذة فانها تتعلق بأمرين بكمال خيري وبادراك له من حيث هو كذلك
فيقال هذا تصريح بان العقل يحب الحق ويلتذ به ويحب الجميل ويلتذ به وان محبة الحمد والشكر والكرم هي من العقليات وهذا صحيح فان للانسان قوتين قوة علمية فهى تحب الحق وقوة عملية فهى تحب الجميل والجميل هو الحسن والقبيح ضده
وتفريقه بين الحق والجميل هو بحسب اصطلاحه وإلا فاللغة التي جاء بها القرآن وتكلم بها الرسول لفظ الحق منها يتضمن النوعين كقوله ص

كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق وقوله الوتر حق فمن شاء أوتر بركعة ومن شاء اوتر بثلاث ومن شاء اوتر بخمس او سبع ومثل هذا موجود في غير موضع من كلامه ومن هذا الباب قوله اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شئ ما خلا الله باطل
ومنه قوله تعالى ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل الحج وقوله فدلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال يونس ومعلوم أن ما عبد من دونه موجود مخلوق ولكن عبادته باطلة وهو باطل لان المقصود منه بالعبادة معدوم ولهذا يقول الفقهاء بطلت العبادة وبطل العقد وقد قال تعالى ولا تبطلوا اعمالكم محمد والابطال ضد الاحقاق وقال تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله اضل أعمالهم والذين امنوا وعملوا الصلحت وامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سياتهم واصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وان الذين امنوا اتبعوا الحق من ربهم

وقد بين الله ان الاعمال السيئة القبيحة باطلة في مثل قوله والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمت في بحر لجي يغشه موج النور فهذا الثاني مثل ما يصدر عن الجهل البسيط والاول الجهل المركب وقال تعالى يايها الذين امنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والادى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدون على شئ مما كسبوا البقرة فهذا مثل إبطال العمل بالمن والاذى وبالرياء والكفر والمقصود انها لم تبق نافعة بخلاف العمل الحق المحمود فانه نافع ومنه قوله تعالى وقدمنا الى ما عملوا من علم فجعلنه هباء منثورا الفرقان
وبالجملة فما ذكروه تصريح منهم بأن العقل يميز بين الجميل والقبيح وأن العاقل يلتذ بالجميل ويتألم بالقبيح وأن الجميل كمال وخير للقوة العاقلة من حيث هى كذلك وهذا مناقض لقولهم إن العقل بمجرده لا يقضى في أمثال هذا بشئ لا بحسن ولا بقبيح وهكذا تناقضوا في نفس الوهميات كما سنذكره إن شاء الله وسبب ذلك انهم تارة يقولون بموجب الفطرة فيكون كلامهم صحيحا وتارة يقولون بمقتضى الفطرة الفاسدة التي قد فسدت بالاعتقادات الفاسدة فيقولون باطلا

كون الوجود كله مبنيا على الحق والعدل
وهذه القضايا التي اتفقت الامم عليها مثل حسن الصدق والعدل وقبح الكذب والظلم داخلة في مسمى الحق كما تقدم في كلام الله ورسوله وكذلك كلام العقلاء قاطبة يسمون هذا كله حقا ويقولون لصاحب الدين له عليه حق

وأعطيه حقه وإذا حكم بينهما بعدل وقسم بانصاف يقولون هذا حق وإن حكم بخلاف ذلك يقولون هذا ظلم وجور وإذا لم يكن عنده شيء حق بل هو يدعى الباطل فيسمون الصدق حقا والكذب باطلا كما في كلام الله ورسوله قال النبي ص - إن لصاحب الحق مقالا وفي لفظ إن لصاحب الحق اللسان واليد وقال ص - لكعب بن مالك لما طلب غريمه أي كعب دع الشطر قال قد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه
وذلك لان الامور الحسنة تتضمن امرا موجودا ماضيا ومستقبلا ففيها وجود وكمال الوجود والامور القبيحة تتضمن عدما ماضيا او مستقبلا ففيها نفى الوجود أو كمال الوجود فان كان موجودا كان العلم بوجوده حقا مطابقا له والاخبار عن وجوده كذلك وأما الكذب المتضمن نفيه والجهل الذي هو عدم العلم به فهو عدم علم وعدم قول حق بل الكذب من جنس الجهل المركب وأيضا العلم كمال وجود والصدق كمال وجود والجهل والكذب صفة نقص
وكذلك العدل كالتسوية بين المتماثلين والتفصيل بين المختلفين هو تحقيق الامور على ما هى عليه وتكميلها ولهذا مبنى الوجود كله على العدل حتى في المطاعم والملابس والابنية ونحو ذلك فالبيت المبنى إن لم تكن حيطانه معتدلة بل كان بعضها اطول من بعض طولا فاحشا او كان منحنيا غير مستقيم فسد السقف وكذلك الثياب إن لم تكن على مقدار لا بسيها معادلة لهم وإلا لم ينتفعوا بها وكذلك ما يضع من المطاعم والادوية إن لم أجزاؤه معتدلة في الصفة والقدر في الكم والكيف فسد وكان مضرا لا نافعا فهذا موجود في الامور المحسوسة ان العدل فيها حسن أي تحصل به المنفعة والمصلحة والظلم فيها قبيح أي تحصل به المضرة والفساد

وعلم الاخلاق والسياسة عندهم وعند سائر العقلاء مبنى على العدل ولهذا جعلوا كمال الانسان العملى اربعة امور إصلاح الشهوة والغضب والعدل بينهما وفي العلم بذلك والذي ذكروه هو بعض صفات الكمال التي أرسل الله بها رسله وانزل بها كتبه والاقتصار على ما ذكروه لا تحصل به السعادة التي هى كمال الانسان ولكنه من الامور المعتبرة فيها
وقد بسطنا هذه الامور وبينا قصور فلسفتهم عن حصول السعادة والكمال بها وأنها ابلغ في القصور من دين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل وان ما عندهم إذا اخذ منه الحق وترك الباطل كان جزءا من الاجزاء المحصلة للسعادة وفيه امور كثيرة باطلة وأمور هي حق لكن ليس مما تحصل به السعادة والكمال

الوجه العاشر
لا حجة على تكذيبهم بأخبار الانبياء الخارجة عن قياسهم
الوجه العاشر ان الانبياء والاولياء لهم من علم الوحي والالهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه بل الفراسة ايضا وامثالها فان ادخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات لم يمكنهم نفى ما لم يدركوه ولم يبق لهم ضابط وهذا موضع ينبغى تحقيقه
وهم اعنى ابن سينا واتباعه جعلوا القضايا من جهة ما يصدق بها المستعملة بين القائسن ومن يجرى مجراهم أربعة اصناف الاول الواجب قبولها التي هى مادة البرهان وهي الاوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات وربما ضموا الى ذلك قضايا معها حدودها ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر ولهذا اعترف المنتضرون لهم ان هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه
وإذا كان كذلك لم يلزم ان كل ما لم يدخل في قياسهم أن لا يكون معلوما وحينئذ

فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ فانه إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذه الطرق لم يمكن وزنها بهذه الالة وعامة هؤلاء المنطقيون يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم وهذا في غاية الجهل لا سيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الانبياء فيكونون ممن قال الله فيه بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله يونس وهذا صار بمنزلة المنجم إذا كذب بعلم الطب أو الطبيب إذا كذب بعلم النجوم والناس أعداء ما جهلوا ومن جهل شيئا عاداه
فاذا كان اشرف العلوم لا سبيل الى معرفتها بطريقهم لزم امران أحدهما انه لا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه والثاني أن ما علموه خسيس بالنسبة الى ما جهلوه فكيف إذا علم انه لا يفيد النجاة ولا السعادة

الوجه الحادى عشر
بطلان قولهم إن البرهانى والخطابي والجدلى هي المذكورة في قوله تعالى ادع
الى سبيل ربك بالحكمة الاية
الوجه الحادي عشر إنهم يجعلون ما هو حق وعلم يجب تصديقه ليس علما وما هو باطل ليس بعلم علما وذلك أن هؤلاء جعلوا اجناس الاقيسة باعتبار مادتها خمسة البرهان والخطابة والجدل والشعر والسفسطة اصله سوفسطيقا وكذلك سائرها لها اسماء باليونانية ولسائر اجناس المنطق لكنها الفاظ طويلة مثل قاطيغورياس وانولوطيقا الى غير ذلك واللغة العربية اوجز وأبين فهى أكمل بيانا واوجز لفظا
ويجعلون القياس باعتبار صورته قسمين الاقترانى والاستثنائى لتأليفه من الحمليات والشرطيات المتصلة والمنفصلة ويتكلمون قبل القياس في القضايا واقسامها

وأحكامها مثل النقيض والعكس المستوى وعكس النقيض فانها إذا صحت بطل نقيضها وصح عكسها وعكس نقيضها فاذا قيل كل إنسان حيوان فنقيضه باطل وهو انه ليس شيء من الانسان حيوان وصح عكسه وهو ان بعض الحيوان إنسان وعكس نقيضه وهو ان ما ليس بحيوان فليس بانسان فإن التناقض اختلاف القضيتين بالسلب والايجاب على وجه يلزم من صدق احدهما كذب الأخرى وإن العكس جعل الموضوع محمولا والمحمول موضوعا مع بقاء الصدق وعكس النقيض والسالبة هو ان يجعل الموضوع محمولا مع جعل الايجاب سلبا
واقسامها الكلية والجزئية والموجبة والسالبة أي العامة والخاصة والمثبتة والنافية وقبل ذلك يتكلمون في مفردات القضية وهي المعاني المفردة مثل الكلام في الكلي والجزئي والذاتي والعرضى وقبل ذلك في الالفاظ الدالة على المعاني كدلالة المطابقة والتضمن والالتزام
والمقصود في هذا كله هو الحد والقياس والقياس هو المطلوب الاعظم والمطلوب الاعظم من انواع القياس هو القياس البرهاني قالوا والبرهان ما كانت مواده يقينية وهي التي يجب قبولها كما تقدم واما الخطابي فمواده هي المشهورات التي تصلح لخطاب الجمهور سواء كانت علمية او ظنية والجدلي هو الذي مواده ما يسلمها المجادل سواء كانت علمية او ظنية او مشهورة او غير مشهورة وهذا احسن ما تفسر به هذه الاصناف الثلاثة
وكثير منهم يقول بل البرهاني ما كانت مقدماته واجبة القبول كما تقدم والجدلي ما كانت مقدماته مشهورة سواء كانت حقا او باطلا او واجبة او ممتنعة او ممكنة والخطابي ما كانت مقدماته ظنية كيف كانت فالخطابي هو الذي يفيد الظن مطلقا سواء كانت مقدماته مسلمة او مشهورة والجدلي ما يكون مقدماته مشهورة

ومنهم من يقول بل البرهاني مؤلف من الواجبات والجدلي من الاكثريات والخطابي من المتساويات والشعري من الممتنعات وهذا ليس بشيء فان الشعري ما تشعر به النفس فيقصد به تنفيرها وترغيبها وترهيبها وقد يكون صدقا وقد يكون كذبا ولكن المقصود بالشعريات تحريك النفس لا لإفادتها علما
وابن سينا رد هذا القول فقال ولا يلفت الى ما يقال من ان البرهانيات واجبة والجدلية ممكنة اكثرية والخطابية ممكنة متساوية لا مثل فيها ولا قدرة والشعرية كاذبة ممتنعة فليس الاعتبار بذلك ولا اشار اليه صاحب المنطق لكنه مع رده لهذا ذكر القول الثاني فقال القياسات البرهانية مؤلفة من المقدمات الواجب قبولها والجدلية مؤلفة من المشهورات والتقريرية ما كانت واجبة او ممكنة او ممتنعة والخطابية مؤلفة من المظنونات والمقبولات التي ليست بمشهورة وما يشبهها كيف كانت ولو ممتنعة والشعرية مؤلفة من المقدمات المخيلة من حيث يشعر من يخيلها كانت صادقة او كاذبة واما السوفسطائية فهي التي تستعمل الشبهة ويشاركها في ذلك الممتحنة المجربة على سبيل التغليط فان كان التشبيه بالواجبات ونحو استعمالها سمي صاحبها سوفسطائيا وان كان بالمشهورات سمي صاحبها مشاغبا ومماريا والمشاغب بازاء الجدلي والسوفسطائي بازاء الحليم
وهذا الذي ذكره في مواد الجدلي والخطابي ضعيف ايضا بل مواد الجدلي هي المسلمات التي يسلمها المجادل سواء كانت مشهورة او لم تكن وسواء كانت حقا او باطلا ومواد الخطابي هي المشهورات ونحوها التي يخاطب بها الجمهور وكل من ذلك يكون برهانيا وغير برهاني ويكون صادقا وكاذبا هذا مراد قدمائهم وهو اشبه باللفظ والتقسيم 8
واما كون الخطابيات هي الظنيات مطلقا فهذا خطا عند القوم فانه اذا كانت الجدليات قد تكون علمية فالخطابيات التي هي اشرف منها اولى انها قد تكون علمية فان

الخطاب ارفع من الجدل عندهم والتفسير الاول تفسير محققيهم المتقدمين فانه ليس من شرط الخطابي ولا الجدلي ان لا يكون علميا كما انه ليس من شرط البرهاني ان لا يخاطب به الجمهور وان لا يجادل به المنازع بل البرهاني اذا كان مشهورا صلح للبرهان والخطابة والجدلي اذا كان برهانيا صلح للبرهان والجدل واذا كانت القضية مبرهنة وهي مشهورة مسلمة من المناظر صلحت للبرهان والخطابة والجدل بخلاف الشعري فان المقصود به تحريك النفس ليس المراد به ان يفيد لا علما ولا ظنا فلهذا لم يدخل مع الثلاثة وايضا فالخطابيات يراد بها خطاب الجمهور وهذا انما يكون بالقضايا المشهورة عند الجمهور وان كانت ظنية واذا كانت علمية فهو اجود فليس من شرطها ان لا تكون علمية واما الجدلي فانما هو خطاب لناس معينين فاذا سلموا تلك المقدمات حصل مقصود الجدلي وان لم تكن مشهورة
واما السوفسطائي فهو المشبه الملبس وهو الباطل الذي اخرج في صورة الحق والمراد بيان فساده والا فليس لاحد ان يتكلم به فانه كذب في صورة صدق وباطل في صورة حق لكن المقصود بذكره تعريفه وامتحان الاذهان بحل شبه السوفسطائية
ثم قد يقول من يقول من حذاقهم ومن يروم ان يقرن بين طريقهم وطريق الانبياء ان الاقسام الثلاثة البرهان والجدل والخطابة هي المذكورة في قوله تعالى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن النحل

كلام اهل الفلسفة في الانبياء عليهم السلام
ثم يقولون ان ما جاءت به الانبياء فهو من جنس الخطابة التي قصد بها خطاب الجمهور لم يقصد به تعريف الحقائق هذا في الامور العملية فان مبادى الامور العلمية قد لا يجعلونها من البرهانيات بل من المشهورات كالعلم بحسن العدل وقبح

الظلم واما العلميات فيقولون ان الانبياء لم يذكروا حقائق الامور في معرفة الله والمعاد وانما اخبروا الجمهور بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في اقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا بذلك الحق ويقولون انهم ارادوا بخطابهم للناس ان يعتقدوا الامور على خلاف ما هي عليه وهي من جنس الكذب لمصلحة الناس وهم يعلمون هذه المرتبة ثم النبي عندهم هل يعرف الامور العلمية فيه نزاع بينهم
وهم يعظمون محمدا ص - يقولون لم يأت الى العالم ناموس افضل من ناموسه ويفضله كثير منهم على الفيلسوف ومنهم من يفضل الفيلسوف عليه وهم حائرون في امور الانبياء ولهذا كلامهم في الانبياء في غاية الاضطراب ولم ينقلوا عن ارسطو واتباعه فيهم شيئا بل ذكروا من كلام افلاطون وغيره في النواميس ما جعلوا به واضعى النواميس من اليونان وغيرهم من جنس الانبياء الذين ذكرهم الله في القران ونحن نعلم ان الرسل جميعهم دعوا الى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى وسئل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن الهة يعبدون الزخرف وقال تعالى ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت النحل والنواميس التي يذكرونها فيها شرك لا يأمر به احد من انبياء الله فعلم ان كل من ذكروه من واضعى النواميس المخالفة لما اتفقت عليه الرسل فليس بني ولا متبع لنبي بل هو من جنس واضعي النواميس من ملوك الكفار ووزرائهم وعقلائهم وعلمائهم وعبادهم
وهم وان عظموا الانبياء ونواميسهم فلاجل انهم اقاموا قانون العدل الذي لا تقوم مصلحة العالم الا به ويوجبون طاعة الانبياء والعمل بنواميسهم وهي الشرائع التي جاؤا بها ولكنهم لم يأتوا بالامور العلمية بل بالعمليات النافعة والعلميات عندهم اما ان تكون التي علمها وما امكنه اظهارها بل اظهر ما يخالف الحق عنده لمصلحة الجمهور واما انه لم يعلمها والا فهم يجوزون للرجل ان يتمسك بأي ناموس كان ولا يوجبون اتباع نبي بعينه لا محمد ولا غيره الا من جهة مصلحة دنياهم بذلك

لا لانه يعذب في الاخرة على مخالفة شريعة محمد او غيره
ولهذا لما ظهرت الترك الكفار واراد من أراد منهم ان يدخل في الاسلام قبل ظهور الاسلام عليهم اشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بأن لا يفعل فان ذاك لسانه عربي ولا يحتاجون الى شريعته ونحو هذا الكلام يبين ان الشريعة التي جاء بها محمد لا يحتاج اليها مثلكم وامثالكم وقد قيل ان الذي اراد الدخول في الاسلام وقال له منجمه هذا هو هولاكو ولما قدم هلاكو الشام وتقلد القضاء من جهته بعض قضاة الشام الذين كانوا يعظمون صوفية الفلاسفة كابن عربي ونحوه ودخل الى البلد اخذ يثني على ملك الكفار ويعظمه ويذكر ما يذكر من فضائله بزعمه فقال له بعض الحاضرين ياليته كان مسلما فقال القاضي واي حاجة لهذا الى الاسلام سواء كان مسلما او لم يكن وهذا بناء على هذا الاصل
فالنبي عندهم يشبه من بعض الوجوه ائمة المذاهب عند المتكلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وسفيان الثوري والليث بن سعد والاوزاعي وداود بن علي وغير هؤلاء من ائمة الفقهاء

فان المتكلمين يعظمون هؤلاء في علم الشريعة العملية والقضايا الفقهية واما في الكلام واصول الدين مثل مسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوات والمعاد فلا يلتزمون موافقة هؤلاء بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين افضل منهم في ذلك وقد يقولون انهم وان علموا ذلك لكن لم يبسطوا القول فيه ولم يبينوه كما فعل ذلك شيوخ المتكلمين
فالنبي عند هؤلاء المتفلسفة يشبه المجتهد المتبوع عند المتكلمين ولهذا يقول من يقرنهم بالانبياء كأصحاب رسائل اخوان الصفا وامثالهم اتفقت الانبياء والحكماء او يقولون الانبياء والفلاسفة كما يقول الاصوليون اتفق الفقهاء والمتكلمون وهذا قول الفقهاء والمتكلمين ونحو ذلك والذين يعظمونهم يريدون التوفيق بين ما يقولونه وبين ما جاءت به الانبياء كما تقدم انهم يجعلون الاقيسة الثلاثة هي المذكورة في صورة النحل ويجعلون الملائكة هي هي العقول والنفوس ومنهم طائفة ادعت كثرة الملائكة كأبي البركات صاحب المعتبر وهؤلاء اقرب عندهم فان الانبياء صرحوا بكثرة الملائكة وقد يجعلون الجن والشياطين هي قوى النفوس الصالحة والفلسفة وقد بسط القول عليهم في غير هذا الموضع وبين ان الملائكة التي اخبرت بها الرسل من ابعد الاشياء عما يدعونه من العقول والنفوس وان الجن والشياطين احياء ناطقون موجودون ليسوا اعراضا قائمة بغيرها

الكلام على جعلهم الاقيسة الثلاثة من القران
والمقصود هنا كلامهم في المنطق فنقول قوله تعالى ادع الى سبيل ربك

بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن النحل ليس المراد به ما يذكونه من القياس البرهاني والخطابي والجدلي فان الاقيسة التي هي عندهم برهانية قد تقدم بعض وصفها وانها لا تفيد قط الا امرا كليا لا يدل على شيء معين وتلك الكليات غالبها انما توجد في الاذهان لا في الاعيان والذي جاء به الرسول امران خبر وامر
فأما الخبر فانه اخبر عن الله بأسمائه وصفاته المعينة وهذا امر يعترفون هم انه لا يعرف ببرهانهم وما اخبر به الرسول عن ربه عز و جل فهم من ابعد الناس عن معرفته وكفار اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل اقرب الى الرسول فيه منهم اليه وكذلك ما اخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والحنة والنار ليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم وليس المراد بالعرش الفلك التاسع ولا بالكرسي الثامن كما قد بسط في موضع اخر ولو قدر انه كذلك فليس هذا مما يعلم بالقياس المنطقي
والرسول اخبر عن امور معينة مثل نوح وخطابه لقومه واحواله المعينة ومثل ابراهيم واحواله المعينة ومثل موسى وعيسى واحوالهما المعينة وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم لا البرهاني ولا غيره فان اقيستهم لا تفيد الا امورا كلية وهذه امور خاصة
وكذلك اخبر عما كان وعما سيكون بعده من الحوادث المعينة حتى اخبر عن التتر بما ثبت في الصحيحين عنه من غير وجه انه قال لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الاعين ذلف الانوف حمر الخدود ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة فهل يتصور ان قياسهم وبرهانهم يدل على ادمي معين او امة معينة فضلا عن ان يوصف بهذه الصفات قبل ظهورهم بنحو سبعمائة سنة

وكذلك قوله الثابت في الصحيح لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من ارض الحجاز تضيء بها اعناق الابل ببصرى وهذه النار قد خرجت قبل مجيء اكثر الكفار الى بغداد سنة خمس وخمسين وستمائة وقد تواتر عن اهل بصرى انهم راوا ببصرى اعناق الابل من ضوء تلك النار وخبر هذه النار مشهور متواتر بعد ان خرجت بجبال الحجاز وكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم وفزع لها الناس فزعا شديدا فهل يدل قياس برهاني او غير برهاني على هذا الامر المعين ويخبر به المخبر قبل حدوثه بأكثر من ستمائة وخمسين سنة فان هذا اخبر به النبي ص - في اخر ايام النبوة وابو هريرة انما اسلم عام خير سنة سبع من الهجرة وصحب النبي ص - اقل من اربع سنين فأخباره كلها متأخرة
وكذلك سائر ما اخبر به من الامور الماضية والمستقبلة والامور الحاضرة مما يعلمون هم انه يمتنع ان يعرف ذلك بالقياس البرهاني وغيره فان ذاك انما يدل على امر مطلق كلي لا على شيء معين
واما العمليات التي امر بها فهم وان ادعوا ان ما عندهم من الحكمة الخلفية والمنزلة والمدنية تشبه ما جاء به من الشريعة العملية فهذا من اعظم البهتان وذاك ان حكمتهم العملية انما مبناها على انهم عرفوا ان النفس لها قوة الشهوة والغضب الشهوة لجلب

الملائم والغضب لدفع المنافي فجعلوا الحكمة الخلقية مبناها على ذلك فقالوا ينبغي تهذيب الشهوة والغضب لكون كل منهما بين الافراط والتفريط وهذا يسمى عفة وهذا يسمى شجاعة والتعديل بينهما عدلا وهذه الثلث تطلب لتكميل النفس بالحكمة النظرية العلمية فصار الكمال عندهم هذه الامور العفة والشجاعة والعدل والعلم
وقد تكلم في هذا طوائف من الداخلين في الاسلام واستشهدوا على ذلك بما وجدوه في القران والحديث وكلام السلف في مدح هذه الامور والذين صنفوا في الاخلاق والاعمال على طريق هؤلاء مثل كتاب موازين الاعمال لابي حامد ومثل اصحاب رسائل اخوان الصفا ومثل كتب محمد بن يوسف العامري وغيره يبنون كلامهم على هذا الاصل
لكن غلطوا فان مراد الله ورسوله بالعلم الذي يمدحه ليس هو العلم النظري الذي هو عند فلاسفة اليونان بل الحكمة اسم يجمع العلم والعمل به في كل امة قال ابن قتيبة وغيره الحكمة عند العرب العلم والعمل به وسئل مالك عن الحكمة فقال هو معرفة الدين والعمل به وكل امة لها حكمة بحسب علمها ودينها فالهند لهم حكمة مع انهم مشركون كفار والعرب قبل الاسلام كانت لهم حكمة وكان فيهم حكماء العرب مع كونهم مشركين يعبدون الاوثان فكذلك اليونان لهم حكمة كحكمتهم
وحكماء كل طائفة هم افضل تلك الطائفة علما وعملا لكن لا يلزم من ذلك ان يكونوا ممدوحين عند الله وعند رسوله فان الممدوح عند الله وعند رسوله لا يكون قط الا من المؤمنين المسلمين الذين امنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وعبدوا الله وحده لم يشركوا به شيئا ولم يكذبوا نبيا من انبيائه ولا كتابا من كتبه

ولا يثنى الله قط الا على هؤلاء كما قال تعالى ان الذين امنوا والذين هادوا والنصرى والصبئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يجزنون البقرة وقال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصرى تلك امانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صدقين بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون البقرة وقال ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا النساء
وقد ذكر الله عن الانبياء واتباعهم انهم كانوا مسلمين مؤمنين من نوح الى الحواريين وقال تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخسرين ال عمران وهذا عام في الاولين والاخرين وقال ان الدين عند الله الاسلام ال عمران وقال ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة النحل وقوله تعالى اسلم وجهة لله وهو محسن أي اخلص قصده وعمله لله وهو محسن يفعل الصالحات وهذا هو الاسلام وهو ان يكون عمله عملا صالحا ويعمله لله تعالى وهذا هو عبادة الله وحده لا شريك له وبهذا بعث الله الرسل جميعهم

سبب نزول قوله ان الذين آمنوا والذين هادوا الآية
وكذلك لما ذكر الملل الاربعة الذين فيهم من هو محمود سعيد قال تعالى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يزنون البقرة وروى الناس كابن أبي حاتم وغيره بالاسانيد الثابتة عن سفيان عن ابن ابي نجيح عن مجاهد قال قال سلمان سألت النبي ص

عن اهل دين كنت معهم فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصرى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا وكذلك ذكر السدي عن اشياخه في تفسيره المعروف قال نزلت هذه الاية في اصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي ص - اذ ذكر اصحابه فأخبره فقال كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ويشهدون انك ستبعث نبيا فأنزل الله هذه الاية ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصرى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر فقال كان ايمان اليهود انه من تمسك بالتوراة وبسنة موسى حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة واخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا وايمان النصارى ان من تمسك بالانجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد ص - فمن لم يتبع محمدا ص - منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والانجيل كان هالكا قال ابن ابي حاتم وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا
و الذين آمنوا أولا المراد بهم امة محمد
واما ما يذكره طائفة من المفسرين في قوله ان الذين آمنوا ان فيهم اقوالا احدها انهم هم الذين آمنوا بعيسى قبل ان يبعث محمد قاله ابن عباس والثاني انهم الذين آمنوا بموسى وعملوا بشريعته الى ان جاء عيسى فآمنوا به وعملوا

بشريعته لما أن جاء محمد وقالوا هذا قول السدى عن اشياخه والثالث انهم طلاب الدين كحبيب النجار وقس بن ساعدة وسلمان الفارسي وابي ذر وبحيرا الراهب آمنو بالنبي قبل مبعثه فمنهم من ادركه وتابعه ومنهم من لم يدركه والخامس انهم المنافقون والسادس انهم الذين آمنوا بالانبياء الماضين والكتب المتقدمة فلا يؤمنوا بك ولا بكتابك
فهذه الاقوال ذكرها الثعلبي وامثاله ولم يسموا قائلها وذكرها ابو الفرج ابن لجوزي الا السادس وسمي قائل الاولين وذكر انهم المنافقون عن الثورى وهذه الاقوال كلها مبتدعة لم يقل الصحابة والتابعون لهم باحسان شيئا منها وما نقل عن السدي غلط عليه وقد ذكرنا لفظه الموجود في تفسيره المنقول بالاسناد الثابت في تفاسير الذين يذكرون الاسانيد كتفسير عبد الرحمن بن ابي حاتم وتفسير ابي بكر بن المنذر وتفسير محمد بن جرير الطبري وامثال هذه التفاسير وما

نقل عن ابن عباس لا يثبت
وهي أقوال باطلة فان من كان متمسكا بشريعة عيسى قبل ان يبعث محمد ص - من غير تبديل فهم النصارى الذين اثنى الله عليهم وكذلك من تمسك بشريعة موسى قبل النسخ و التبديل فهم اليهود الذين اثنى الله عليهم و طلاب الدين كحبيب النجار كان على دين المسيح و كذلك بحيرا الراهب و غيره و كل من تقدم من الانبياء و امتهم يؤمنون بمحمد فليس هذا من خصائص هذا النفر القليل

الكلام على اخذ الله ميثاق النبيين على الايمان بمحمد
قال تعالى و اذا اخذ الله ميثاق النبيين لما اتيتكم من كتب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال اقررتم و اخذتم على ذلكم اصرى قالوا اقررنا قال فاشهدوا و انا معكم من الشهدين و عن علي بن ابى طالب انه قال لم يبعث الله نبيا ادم و من بعده الا اخذ عليه العهد فى محمد و امره و اخذ العهد على قومه ليؤمنن به و لئن بعث و هم احياء لينصرنه و كذلك عن ابن عباس انه قال ما بعث الله نبيا الا اخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به و امره ان ياخذ الميثاق على أمته ان بعث محمد و هم احياء ليؤمنن به و لينصرنه
و قال بعض العلماء اخذ الميثاق على النبيين و امتهم فاجتزا بذكر الانبياء عن ذكر الامم لان فى اخذ الميثاق على المتبوع دلالة على اخذه على التابع و حقيقة الامر ان الميثاق اذا اخذ على الانبياء دخل فيه غيرهم لكونه تابعا لهم و لانه اذا وجب على الانبياء الايمان به و نصره فوجوب ذلك على من اتبعهم اولى و احرى و لهذا ذكر عن الانبياء فقط

و قد قيل ان المراد باخذ الميثاق على الأنبياء هو اخذه على قومهم فإنهم هم الذين يدركون النبي الآتي وقالوا هي في قراءة ابن مسعود و ابي بن كعب وإذ اخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وزعم بعضهم ان هذه القراءة هي الصواب والأولى غلط من الكتاب وهذا قول باطل ولولا انه ذكر لما حكيته فإن ما بين لوحي المصحف متواتر والقرآن صريح في ان الله اخذ الميثاق على النبيين فلا يلتفت الى من قال إنما اخذ على اممهم
لكن الأنبياء امروا ان يلتزموا هذا الميثاق مع علم الله وعلم من اعلمه منهم انهم لا يدركونه كما نؤمن نحن بما تقدمنا من الأنبياء والكتب وإن لم ندركهم وأمر الجميع بتقدير إدراكه ان يؤمنوا به وينصروه كما ان النبي ص - اخبرنا بنزول عيسى ابن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق واخبر انه يقتل المسيح الدجال فنحن مأمورون بالايمان بالمسيح ابن مريم وطاعته إن ادركناه وإن كان لا يأمرنا إلا بشريعة محمد و مامورون بتكذيب المسيح الدجال و اكثر المسلمين لا يدركون ذلك بل انما يدركه بعضهم
قال طاوس اخذ الله ميثاق النبيين بعضهم على بعض ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه فقال هذه الاية لاهل الكتاب اخذ الله ميثاقهم ان يؤمنوا بمحمد و يصدقوه يعني بذلك ان من ادرك نبوة محمد منهم يعنى هم الذين ادركهم العمل بالاية و الا فذكر ان الميثاق اخذ على النبيين بعضهم على بعض لكن ذلك عهد واقرار مع العلم بانهم لا يدركونه و كذلك عن السدى لم يبعث الله نبيا قط من لدن نوح الا اخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد و لينصرنه ان خرج و هو حى و الا اخذ على قومه ان يؤمنوا به و ينصروه ان خرج و هم احياء و قال محمد بن اسحق ثم ذكر ما اخذ عليهم و على انبيائهم الميثاق بتصديقه اذا هو جاءهم ه

واقرارهم به على انفسهم فقال واذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتب وحكمة ثم جاءكم الاية
وقوله رسول مصدق لما معكم متناول لمحمد بالاتفاق فان رسالته كانت عامة وقد قال الله له وانزلنا اليك بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليه المائدة فكتابه مهيمن على ما بين يديه من كتب السماء وقد اوجب الله على اهل الكتابين وسائر اهل الارض الايمان به وهذا مذكور في غير موضع من القران والحديث وهو مع انه اجماع من المسلمين فهو معلوم بالاضطرار من دينه متواتر عنه كما تواتر عنه غزوه اليهود والنصارى
وهل يدخل في ذلك غيره من الرسل فيه قولان قيل ان الله اخذ ميثاق الاول من الانبياء ان يصدق الثاني وينصره وامره ان يأخذ الميثاق على قومه بذلك وقيل بل هذا الرسول هو محمد خاصة وهذا قول الجمهور وهو الصواب لان الانبياء قبله انما كانت دعوتهم خاصة لم يكونوا مبعوثين الى كل احد فاذا لم يدخل في دعوته جميع اهل زمنهم ومن بعدهم كيف يدخل فيها من ادركهم من الانبياء قبلهم والله تعالى قد بعث في كل قوم نبيا كما قال تعالى انا ارسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وان من امة الا خلافيها نذير فاطر وقال ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبو الطاغوت النحل وكذلك قوله لتؤمنن به ولتنصرنه والنصرة مع الايمان به هو الجهاد ونوح وهود ونحوهم من الرسل لم يؤمروا بجهاد ولكن موسى وبنوا اسرائيل امروا بالجهاد
وقوله لما هذه اللام تسمى الموطئة للقسم فان الكلام اذا كان فيه شرط متقدم وقسم كان جواب القسم يسد مسد جواب الشرط والقسم جميعا وادخلت اللام الموطئة على اداة الشرط وما هنا شرطية واللام في قوله لتؤمنن به هي جواب القسم ونظير اللام المؤطئة في قوله ولئن اتيت الذين اوتوا الكتب بكل آية ما تبعوا قبلتك البقرة ونظير هذه الآية قوله ولئن

جآء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم العنكبوت وقوله ولئن شئنا لنذهبن بالذي اوحينا اليك الاسراء ولئن اخرنا عنهم العذاب الى امة معدودة ليقولن ما يحبسه هود
ولهذا قال النحاة كالمبرد والزجاج هذه لام التحقيق دخلت على ما الجزاء أي الشرطية كما تدخل على ان ومعناه لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به واللام في لتؤمنن به جواب الجزاء وكذلك قال الفراء من فتح اللام جعلها لاما زائدة بمنزلة اليمين اذا وقعت على جزاء صرف بعد ذلك الجزاء على جهة فعل وحرف جوابه كجواب اليمين والمعنى أي كتاب اتيتكم ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به وجواب الجزاء في قوله لتؤمن به ومعنى قولهم جواب الجزاء في هذا أي جواب القسم تضمن ايضا جواب الجزاء فهو جواب لهما في المعنى
والمقصود ان ما عليه جميع الامم من حكمة علمية وعملية اذا لم يكونوا ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا فان الله لا يمدحهم ولا يثني عليهم وهؤلاء الفلاسفة ارسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الاوثان ويبنون الهياكل للكواكب فليست حكمتهم من الحكمة التي اثنى الله عليها وعلى اهلها ومن كان من الفلاسفة الصابئة المشركين فهو من جنسهم

الصابئة وصواب التحقيق عنهم
واما الصابئون الحنفاء فهم في الصابئين بمنزلة من كان متبعا لشريعة التوراة والانجيل

قبل النسخ والتبديل من اليهود والنصارى وهؤلاء ممن حمدهم الله واثنى عليهم وبعض الناس يقول ان بقراط كان من هؤلاء
ووهب بن منبه من اعلم الناس بأخبار الامم المتقدمة وقد روى ابن ابي حاتم بالاسناد الثابت انه قيل لوهب بن منبه ما الصابئون قال الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا وكذلك روى عن الثورى عن ليث عن مجاهد قال هم قوم من المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين قال وروى عن علماء نحو ذلك أي ليس لهم شريعة مأخوذة عن نبي ولم يرد بذلك انهم كفار فان الله قد اثنى على بعضهم فهم متمسكون بالاسلام المشترك وهو عبادة الله وحده وايجاب الصدق والعدل وتحريم الفواحش والظلم ونحو ذلك مما اتفقت الرسل على ايجابه وتحريمه فان هذا دخل في الاسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره وكذلك قال عبد الرحمن بن زيد هم قد يقولون لا اله الا الله فقط وليس لهم كتاب ولا نبي
وهذا كما كانت العرب عليه قبل ان يبتدع عمرو بن لحي الشرك وعبادة الاوثان فانهم كانوا حنفاء يعبدون الله وحده ويعظمون ابراهيم واسماعيل ولم يكن لهم كتاب يقرؤنه ويتبعون شريعته وكان موسى قد بعث الى بني اسرائيل بشريعة التوراة وحج البيت العتيق ولم يبعث الى العرب لا عدنان ولد اسماعيل ولا قحطان والناس

متفقون على ان عدنان ولد اسماعيل وربيعة ومضر واما قحطان فقال بعضهم هم ايضا من ولد اسماعيل والصحيح انهم كانوا موجودين قبل ابراهيم بأرض اليمن ومنهم جرهم الذين سكنوا مكة ومنهم تعلم اسماعيل العربية
واما من قال من السلف الصابئون فرقة من اهل الكتاب يقرؤن الزبور كما نقل ذلك عن ابي العالية والضحاك والسدي وجابر بن يزيد والربيع ابن انس فهؤلاء ارادوا من دخل في دين اهل الكتاب منهم وكذلك من قال هم صنف من النصارى كما يروى عن ابن عباس انه قال هم صنف من النصارى وهم السائحون المحلقة اوساط رؤسهم فهؤلاء عرفوا منهم من دخل في اهل الكتاب
ومن قال انهم يعبدون الملائكة كما يروي عن الحسن قال هم قوم يعبدون الملائكة وعن ابي جعفر الرازي قال بلغني ان الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرؤن الزبور ويصلون فهذا ايضا صحيح وهم صنف منهم وهؤلاء كثير من الصابئين يعبدون الروحانيات العلوية لكن هؤلاء من المشركين منهم ليسوا من الحنفاء
وكذلك اختلاف الفقهاء في الصابئين هل هم من اهل الكتاب ام لا ويذكر فيه عن احمد روايتان وكذلك قولان للشافعي والذي عليه محققوا الفقهاء انهم صنفان فمن دان بدين اهل الكتاب كان منهم والا فلا
وقال ابو الزناد الصابئون قوم مما يلى العراق وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون الى الشمس كل يوم خمس صلوات فهؤلاء الصابئة الذين ادركهم الاسلام وكانوا بأرض حران والذين خبروهم عرفوا انهم ليسوا من اهل الكتاب بل مشركون يعبدون الكواكب ولا يحل اكل

ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وان اظهروا الايمان بالنبيين فهو من جنس ايمان الفلاسفة بالنبيين والفلاسفة الصابئون من هؤلاء
واما قبول الجزية منهم فهو على خلاف المشهور فمن قبلها من غير اهل الكتاب كما يقبل من المجوس قبلها من هؤلاء وهذا مذهب مالك وابي حنيفة واحمد في احدى الروايتين ومن لم يقبلها الا من اهل الكتاب لم يقبلها من هؤلاء كما اذا لم يدخلوا في دين اهل الكتاب كما هو قول الشافعي واحمد في الرواية الاخرى عنه وكان ابو سعيد الاصطخري افتى بأن لا تقبل منهم الجزية ونازعه في ذلك جماعة من الفقهاء

كون ايمان الفلاسفة كايمان المنافقين
وهذا كما ان كثيرا من الفلاسفة وغيرهم من الزنادقة يدخلون في دين المسلمين واليهود والنصارى من الشرائع الظاهرة وان لم يكونوا في الباطن مقرين بحقيقة ما جاءت به الانبياء كالمنافقين في المسلمين يجري عليهم احكام الاسلام في الظاهر وهم في الاخرة في الدرك الاسفل من النار
فان قيل هؤلاء الفلاسفة يؤمنون بالله واليوم الاخر فانهم يقرون بواجب الوجود وبمعاد الارواح قيل النصارى خير منهم ومن اسلافهم وهم مع هذا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين

الحق فلا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يعملون صالحا فكيف هؤلاء قال تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يد ينون دين الحق من الذين اوتوا الكتب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون التوبة مع ان النصارى يقرون بمعاد الابدان لكن لما انكروا ما اخبر به الرسول من الاكل والشرب ونحو ذلك صاروا ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر وهؤلاء الفلاسفة لا يقرون بمعاد الابدان
ولهم في معاد النفوس ثلاثة اقوال والثلاثة تذكر عن الفارابي نفسه انه كان يقول تارة هذا وتارة هذا وتارة هذا منهم من يقر بمعاد الانفس مطلقا ومنهم من يقول انما تعاد النفوس العالمة دون الجاهلة فان العالمة تبقى بالعلم فان النفس تبقى ببقاء معلومها والجاهلة التي ليس لها معلوم باق تفسد وهذا قول طائفة من اعيانهم ولهم فيه مصنفات ومنهم من ينكر معاد الانفس كما ينكر معاد الابدان وهو قول طوائف منهم وكثير منهم يقول بالتناسخ

اليوم الآخر كما هو مذكور في القران
وليس شيء من ذلك ايمانا باليوم الاخر فان اليوم الاخر هو الذي ذكره الله في قوله تعالى ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ال عمران وقوله تعالى قل إن الأولينوالآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم الواقعة وقوله تعالى زعم الذين كفروا ان لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فامنوا بالله ورسوله والنور الذي انزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن التغابن وقوله تعالى واذا الرسل اقتت لاي يوم اجلت ليوم الفصل وما ادراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين الى قوله انطلقوا الى ما كنتم به تكذبون انطلقوا الى ظل ذي ثلث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب انها ترمي بشرر كالقصر كأنه جملت صفر ويل يومئذ

للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعنكم والاولين فان كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين المرسلت وقوله تعالى ان في ذلك لاية لمن خاف عذاب الاخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره الا لاجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس الا باذنه فمنهم شقي وسعيد هود وقوله ويل للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم او وزنوهم يخسرون الا يظن اولئك انهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العلمين المطففين وفي الصحيح عن النبي ص - انه قال يوم يقوم الناس لرب العالمين يقوم احدهم في العرق الى انصاف اذنيه
وقوله القارعة ما القارعة ومآ ادراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش القارعة وقوله فاذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على ارجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمنية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية الحاقة وقوله اذا متنا وكنا ترابا وعظاما انا لمبعثون او آبآؤنا الاولون قل نعم وانتم داخرون فانما هي زجرة واحدة فاذا هم ينظرون وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وازواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم الى صراط الجحيم وقفوهم انهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون الصافات وقوله تعالى سأل سآئل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره

الى قوله يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسئل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه المعارج وقوله تعالى فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذين يوعودن يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم الى نصب يوفضون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون وقوله فتول عنهم يوم يدع الداع الى شيء نكر خشعا ابصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين الى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر وقوله تعالى فكيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا وقوله تعالى ان زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكرى وما هم بسكرى ولكن عذاب الله شديد ومثل هذا في القران كثير
فهولاء لا يؤمنون باليوم الاخر فلم يدخلوا في من مدح من الصابئين

بيان بعض ضلالات من معتقدات الفلاسفة
وايضا لأنبياء واتباعهم بل وجماهير الأمم متفقون على ان الله خلق السموات والأرض فهي محدثة بعد ان لم تكن وكذلك اساطين الفلاسفة والقول بقدمها هو عن ارسطو وشيعته ومن وافقهم فكيف يجوز ان يقال إن الحكمة التي امر الله نبيه ان يدعو الخلق بها هو هذا
وايضا فحكمتهم غايتها تعديل اخلاق النفس لتستعد للعلم الذي هو كمالها وهذا من اقل ما جاء به الرسل ومن توابعه والمقصود بالعبادات التي امرت بها الرسل تكميل النفس بمحبة الله تعالى وتألهه فإن النفس لها قوتان علمية وعملية وهؤلاء جعلوا كمالها في العلم فقط ثم ظنوا ذلك هو العلم بالوجود المطلق حتى يصير الانسان عالما معقولا موازيا للعالم الموجود ومنهم من يقول النفس إنما تبقى ببقاء

معلومها وهم يعتقدون بقاء الأفلاك والعقول والنفوس فجعلوا كمالها في العلم بالموجودات التي اعتقدوا بقاءها ومن تقرب الى الاسلام منهم يقول بل كمالها في العلم بواجب الوجود وهذا يشبه قول الجهم بن صفوان ومن وافقه في ان الايمان مجرد العلم بالله
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع في جواب المسئلة الصفدية وغير ذلك وبينا انهم غلطوا من وجوه منها ظنهم ان كمال النفس في مجرد العلم ومنها ظنهم ان هذا الكمال يحصل بمعرفة امور كلية لا موجودات معينة ومنها ظنهم ان ما عندهم في الالهيات علم واكثر جهل ولهذا كان الغاية عندهم التشبه بالفلك
ولهذا يصنف من يصنف منهم في الصلوة فليس المقصود منها عبادة الله ولا دعاؤه فانه لا يعلم الجزئيات عندهم ولا يميز بين المصلي وغير المصلي بل مقصود الصلوة هو العلم بالوجود المطلق الذي يزعمون انه كمال النفس والصلوة الظاهرة يطلب منها سياسة البدن ورياضته وانما قالوا ان يسأل القمر ويستعيذه فانه يدبر هذا العالم بواسطة العقل الفعال فهو عندهم الرب الذي يسأل ويستعاذ به ومنه فاضت العلوم على الانبياء وغيرهم
وربما قالو المقصود بالصلوة تذكر الشرع الذي شرعه الشارع ليحفظ به القانون الذي شرعه لهم لمصلحة الدنيا كما يذكر ذلك ابن سينا وغيره وذلك انهم لا يثبتون ان الله يسمع كلام العباد ولا يرى افعالهم ولا يجيب دعاءهم بل الدعاء عندهم هو تصرف النفس في هيولي العالم فيحصل لها بما تهتم به من تجردها عن البدن نوع تجريد حتى تتصرف في هيولي العالم واما الرب تعالى فليس هو عندهم لا بكل شيء عليم ولا على كل شيء قدير ولا يعلم لا السر ولا النجوى ولا غير ذلك من

احوال العباد ولا له ملئكة كثير ينزلون ويصعدون اليه عندهم ولا يصعد اليه لا الكلم الطيب ولا العمل الصالح وغاية الانفس عندهم ان تكون متصلة بالعقل الفعال الذي هو ربها عندهم لا تصعد الى الله
واذا قالوا سعادة النفس ان تشهد الله وتراه فحقيقة ذلك عندهم هو العلم بما تصورته من الوجود المطلق او من وجود واجب الوجود وصاحب الكتب المضنون بها على غير اهلها اذا تكلم في رؤية الحق ورؤية وجهه في كتابه الاحياء او غيره قال هذا يعود مراده وهو معرفة النفس الناطقة بربها هذه هي الرؤية عندهم كما قد بين ذلك في غير موضع لان الاصول التي اعتقدوها من اقوال النفاة المعلطلة الجأتهم الى هذه العقائد الفاسدة كما قد بسط في موضعه فكيف تكون الحكمة العلمية التي امر الله بها ورسوله موافقة لحكمة هؤلاء

ضلالهم في نفي علم الله وغيره من الصفات ورده
ونحن قد بسطنا الكلام على فساد قولهم في العلم وغيره من الصفات وبينا اصولهم التي اوجبت ان قالوا مثل هذه الاقوال التي هي من اعظم الفرية على الله

وبينا فسادها ولهذا لما تفطن ابو البركات لفساد قول ارسطو افرد مقالة في العلم وتكلم على بعض ما قاله في المعتبر وانتصف منه بعض الانتصاف مع ان الامر اعظم مما ذكره ابو البركات واعظم عمدهم في نفيه انه يستلزم التكثر والتغير
ف التكثر يريدون به اثبات الصفات ثم ابن سينا وغيره اثبتوا علمه بنفسه وبلوازم نفسه معينا كالافلاك كليا كغيرها فيلزمهم ما فروا منه من تعدد الصفات وهم يقولون انه عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ولذة وربما قالوا مبتهج وهي معان متعددة ثم يكابرون فيقولون العلم هو الحب وهو القدرة وهو اللذة فيجعلون كل صفة هي الصفة الاخرى ويزيدون مكابرة اخرى فيقولون العلم هو العالم والحب هو المحب والذة هو الملتذ فيجعلون الصفات عين الموصوف ولما راى الطوسي شارح الاشارات ما لزم صاحبها سلك طريقة اخرى جعل فيها العلم بالمعقولات هو نفس المعقولات مع انهم ليس لهم قط حجة على نفي الصفات الا ما تخيلوه من ان هذا تركيب وقد بينا فساده من وجوه كثيرة
اما التغير فقالوا العلم بالمتغيرات يستلزم ان يكون علمه بأن الشيء سيكون غير علمه بأن قد كان فيلزم ان يكون محلا للحوادث وهم ليس عندهم على نفي هذه اللوازم حجة اصلا لا بينة ولا شبهة وانما نفوه لنفيهم الصفات لا لامر يختص بذلك بخلاف من نفي ذلك من الكلابية ونحوهم فانهم لما اعتقدوا ان القديم لا تقوم به الحوادث قالوا لانها لو قامت به لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث وقد بين اتباعهم كالرازي والامدي وغيرهم فساد المقدمة الاولى التي يخالفهم فيها جمهور العقلاء ويقولون بل القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده اما المقدمة الثانية فهي حجة المتكلمين الجهمية والقدرية ومن وافقهم من اهل الكلام على اثبات حدوث الاجسام باستلزامها للحوادث وقالوا ما لا يخلو عن

الحوادث او ما لا يسبقها فهو حادث لبطلان حوادث لا اول لها وهو التسلسل في الاثار
والفلاسفة لا يقولون بشيء من ذلك بل عندهم القديم تحله الحوادث ويجوزون الحوادث لا اول لها ولهذا كان كثير من اساطينهم ومتأخريهم كأبي البركات يخالفونهم في اثبات الصفات وقيام الحوادث بالواجب وقالوا لا خوانهم الفلاسفة ليس معكم حجة على نفي ذلك بل هذه الحجة اثبتموها من جهة التنزيه والتعظيم بلا حجة والرب لا يكون مدبرا للعالم الا بهذه القضية فكان من تنزيه الرب واجلاله تنزيهه عن هذا التنزيه واجلاله عن هذا الاجلال
وللنظار في جوابهم عن هذا طريقان منهم من يمنع المقدمة الاولى ومنهم من يمنع الثانية فالاول جواب كثير من المعتزلة والاشعري واصحابه وغيرهم ممن ينفي حلول الحوادث فادعى هؤلاء ان العلم بأن الشيء سيكون هو عين العلم بأنه قد كان وان المتجدد انما هو نسبته بين المعلوم والعلم لا امر ثبوتي والثاني جواب هشام وابن كرام وابي الحسين البصري وابي عبد الله بن الخطيب وطوائف غير هؤلاء قالوا لا محذور في هذا وانما المحذور في ان لا يعلم الشيء حتى يكون فان هذا يستلزم انه لم يكن عالما وانه احدث بلا علم وهذا قول باطل

ادلة القران والحديث على اثبات العلم لله تعالى
وعامة من يستشكل الايات الواردة في هذا المعنى كقوله الا لنعلم حتى

نعلم يتوهم ان هذا ينفي علمه السابق بأن سيكون وهذا جهل فان القران قد اخبر بأنه يعلم ما سيكون في غير موضع بل ابلغ من ذلك انه قدر مقادير الخلائق كلها وكتب ذلك قبل ان يخلقها فقد علم ما سيخلقه علما مفصلا وكتب ذلك واخبر بما اخبر به من ذلك قبل ان يكون وقد اخبر بعلمه المتقدم على وجوده ثم لما خلقه علمه كائنا مع علمه الذي تقدم انه سيكون فهذا هو الكمال وبذلك جاء القران في غير موضع بل وباثبات رؤية الرب له بعد وجوده كما قال تعالى وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون التوبة فأخبر انه سيرى اعمالهم
وقد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الامة ودلائل العقل على انه سميع بصير والسمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم فاذا خلق الاشياء راها سبحانه واذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم كما قال تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاور كما المجادلة أي تشتكي اليه وهو يسمع التحاور والتحاور تراجع الكلام بينها وبين الرسول قالت عائشة سبحان الذي وسع سمعه الاصوات لقد كانت المجادلة تشتكي الى النبي ص - في جانب البيت وانه ليخفي على بعض كلامها فأنزل الله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما وكما قال تعالى لموسى وهارون لا تخافا انني معكما اسمع وارى طه وقال ام يحسبون انا لا نسمع سرهم ونجويهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون الزخرف
وقد ذكر الله علمه بما سيكون بعد ان يكون في بضعة عشر موضعا في القران مع اخباره في مواضع اكثر من ذلك انه يعلم ما يكون قبل ان يكون وقد اخبر في القران من المستقبلات التي لم تكن بعد بما شاء الله بل اخبر بذلك نبيه وغير

نبيه ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء بل هو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لو كان كيف كان يكون كقوله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه الانعام بل وقد يعلم بعض عباده بما شاء ان يعلمه من هذا وهذا وهذا ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء
قال تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه البقرة وقال ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ويعلم الصبرين ال عمران وقوله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين امنوا ويتخذ منكم شهداء ال عمران وقوله ومآ اصابكم يوم التقي الجمعن فباذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ال عمران وقوله ام حسبتم ان تتركوا ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة التوبة وقوله ثم بعثنهم لنعلم أي الحز بين احصى لما لبثوا امدا الكهف وقوله ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكذبين الى قوله وليعلمن الله الذين امنوا وليعلمن المنفقين العنكبوت وقوله ولنبلونكم حتى نعلم المجهدين منكم والصبرين ونبلو اخباركم محمد وغير ذلك من المواضع
روى عن ابن عباس في قوله الا لنعلم أي لنرى وروي لنميز وهكذا قال عامة المفسرين الا لنرى ونميز وكذلك قال جماعة من اهل العلم قالوا لنعلمه موجودا واقعا بعد ان كان قد علم انه سيكون ولفظ بعضهم قال العلم على منزلتين علم بالشيء قبل وجوده وعلم به بعد وجوده والحكم للعلم به بعد وجوده لانه يوجب الثواب والعقاب قال فمعنى قوله لنعلم أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب ولا ريب انه كان عالما سبحانه بأنه سيكون لكن لم يكن المعلوم قد وجد وهذا كقوله قل اتنبئون الله بما لا يعلم في

السموات ولا في الارض يونس أي بما لم يوجد فانه لو وجد لعلمه فعلمه بأنه موجود ووجوده متلازمان يلزم من ثبوت احدهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاوه والكلام على هذا مبسوط في موضع اخر
والمقصود ان يعرف الانسان انهم يقولون من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال فرارا من لازم ليس لهم قط دليل على نفيه ولو قدر شبهة تعارض ثبوت العلم فأين هذا من هذا واين الادلة الدالة على ثبوت علمه والمحذور في نفي علمه مما يظن انه يدل على نفي الصفات او نفي بعضها دليلا ومحذورا
بطلان قولهم الثلاثة المذكورة في النحل هي البرهان والخطابة والجدل
والمقصود هنا ان ما يجعلونه من القران مطابقا لاصولهم ليس كما يقولون فان قيل لا ريب ان ما جاء به الرسول من الحكمة والموعظة الحسنة والجدل يخالف اقوال هؤلاء الفلاسفة اعظم من مخالفته لاقوال اليهود والنصارى لكن المقصود ان الثلاثة المذكورة في القران هي البرهان الصحيح والخطابة الصحيحة والجدل الصحيح وان لم تكن هي عين ما ذكره اليونان اذ المنطق لا يتعرض لشيء من المواد وانما الغرض ان هذه الثلاثة هي جنس هذه الثلاثة
قيل وهذا ايضا باطل فان الخطابة عندهم ما كان مقدماته مشهورة سواء كانت علما مجردا او علما يقينيا والوعظ في القران هو الامر والنهي والترغيب والترهيب كقوله تعالى ولو انهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم واشد تثبيتا واذا لآتينهم من لدنا اجرا عظيما ولهدينهم صراطا مستقيما النساء فقوله ما يوعظون به أي ما يؤمرون به وقال يعظكم الله ان تعودوا لمثله ابدا ان كنتم مؤمنين النور أي ينهاكم عن ذلك
وايضا فالقرآن ليس فيه انه قال ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بل قال ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم وذلك

لان الانسان له ثلاثة احوال اما ان يعرف الحق ويعمل به واما ان يعرفه ولا يعمل به واما ان يجحده فأفضلها ان يعرف الحق ويعمل به والثاني أن يعرفه لكن نفسه تخافه فلا توافقه على العمل به والثالث من لا يعرفه بل يعارضه فصاحب الحال الاول هو الذي يدعى بالحكمة فأن الحكمة هي اللم بالحق والعمل به فالنوع الاكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيدعون بالحكمة والثاني من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعضة الحسنة فهاتان هما الطريقان الحكمة والموعظة وعامة الناس يحتاجون الى هذا وهذا فأن النفس لها اهواء تدعوها الى خلاف الحق وان عرفته فالناس يحتاجون الى الموعظة الحسنة والى الحكمة فلا بد من الدعوة بهذا وهذا
واما الجدل فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل فاذا عارض الحق معارض جودل بالتي هى أحسن ولهذا قال وجادلهم فجعله فعلا مأمورا به مع قوله ادعهم فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره ان يجادل بالتي هى أحسن وقال في الجدال بالتي هى أحسن ولم يقل بالحسنة كما قال في الموعظة لان الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي احسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل فما دام الرجل قابلا للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعا لم يحتج الى مجادلة فاذا مانع جودل بالتي هى أحسن
والمجادلة يعلم كما أن الحكمة بعلم وقد ذم الله من يجادل بغير علم فقال تعالى هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ال عمران والله لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم إن لم تكن علما فلو قدر انه قال باطلا لم يأمر الله ان يحتج عليهم بالباطل لكن هذا قدر يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه لا لبيان الدعوة الى القول الحق والقرآن مقصوده بيان الحق ودعوة العباد إليه وليس المقصود ذكر ما تناقضوا فيه من أقوالهم ليبين

خطأ احدهما لا بعينه فالمقدمات الجدلية التي ليست علما هذا فائدتها وهذا يصلح لبيان خطأ الناس مجملا
ثم إنهم تارة يجعلون النبوة إنما هى من باب الخطابة وتارة يجعلون الخطابة احد انواع كلامها فيتناقضون وسبب ذلك أن القرآن أمر عظيم باهر لم يعرفوا قدره ولا دروا ما فيه من العلم والحكمة وأرادوا أن يشبهوا به كلام قوم كفار اليهود والنصارى أقل ضلالا منهم في معرفة الله ومعرفة أنبيائه وكتبه وامره ونهيه ووعده ووعيده ولو شبه مشبه القرآن بالتوارة والانجيل لظهر خطأه غاية الظهور والجميع كلام الله تعالى فكيف بكلام هؤلاء الملاحدة

الوجه الثاني عشر
كون نفيهم وجود الجن والمئلكة والوحي قولا بلا علم
الوجه الثاني عشر أن يقال هم معترفون بالحسيات الظاهرة وبالحسيات الباطنة التي يحس بها الانسان ما في نفسه كاحساسه بجوعه وعطشه ولذته وألمه وشهوته وغضبه وفرحه وغمه وكذلك ما يتخيله في نفسه من أمثلة الحسيات التي أحسها فانه يتخيل ذلك من نفسه
وقد فرقوا بين قوة التخيل والوهم فالتخيل ان يتخيل الحسيات والوهم أن يتصور في الحسيات معنى غير محسوس كما يتصور الصداقة والعداوة فان الشاة تتصور في الذئب معنى هو العداوة وهو غير محسوس ولا تتخيل وتتصور في التيس معنى الصداقة فالموالات والمعادات يسمون الشعور بها توهما وهم لم يتكلموا في ذلك بلغة العرب فان الوهم في لغة العرب معنى آخر كما قد بين في موضعه
ولسي معهم ما ينفى وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس بالباطن كالملائكة والجن بل ولا معهم ما ينفى تمثل هذه الارواح أجساما حتى ترى بالحس

الظاهر ولا معهم ان النفس قد ترى غيرهما ما هو من أحوالها مثل ان ترى عند الموت امورا موجودة لم تكن تراها وهي متعلقة بالبدن وكذلك النائم وإن كان قد يتخيل فليس معهم علم بأن كل ما يراه يكون تخيلا مع إمكان أن يرى في منامه من جنس ما يراه الميت عند مفارقة روحه بدنه فان النفس الناطقة هى الرائية وإنما يمنعها من ذلك تعلقها بالبدن فاذا تم تجردها بالموت رأت ما لم تكن تراه كما قال تعالى فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ق وقال تعالى فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب اليه منكم ولكن لا تبصرون الواقعة قال المفسرون يعنى الملائكة وكذلك بالنوم قد يحصل لها نوع تجريد ولهذا من الناس من يرى في منامه شيئا فيأتى كما يراه من غير تغيير أصلا بل يكون المرئى في المنام هو الموجود في اليقظة
وأما رؤية كثير من الناس للجن حال الصرع وغير الصرع فهذا أكثر وأشهر من أن يذكر وما يدعيه الاطباء من أن الصرع كله من الاخلاط فغلطه ظاهر فان دخول الجنى بدن الانسى وتكلمه على لسانه بأنواع من الكلام وغير ذلك أمر قد علمه كثير من الناس بالضرورة وقد اتفق عليه أئمة الاسلام كما اتفقوا على وجود الجن وقد رآهم غير واحد من الناس وخاطبوهم فهذا باب واسع فما الظن بالملائكة الكرام التي يراهم الانبياء صلوات الله عليهم يرونهم بباطنهم وظاهرهم
وايضا فقد تواتر في الكتب الالهية والاحاديث النبوية ان الملائكة تتصور بصورة البشر وكذلك الجن ويرون في تلك الصورة كما أخبر الله عن ضيف إبراهيم في غير موضع من كتابه وكما اخبر عن مريم انه ارسل اليها الروح وهو جبريل فتمثل لها بشرا سويا قالت إنى اعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلما زكيا مريم
وجميع هذه الامور ليس معهم على نفيها إلا ما هو من أضعف الشبه فنفيهم مثل هذه الحسيات الباطنة والظاهرة قول بلا علم ولهذا صاروا يحملون ما جاءت به

الانبياء على أنه من باب التخيل في النفس ويجعلون الملئكة وكلام الله الذي بلغوه هو ما يتخيل في نفس النبي من الصور والاصوات كما يتخيل للنائم وذلك من أعراضه القائمة به ليس هناك عندهم ملك منفصل ولا كلام نزل به الملك من الله عندهم
وكل ما ينفونه من هذا ليس معهم فيه إلا الجهل المحض فهم يكذبون بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله مع ان عامه أساطين الفلاسفة كانوا يقرون بهذه الاشياء وكذلك ائمة الاطباء كأبقراط وغيره يقر بالجن ويجعل الصرع نوعين صرعا من الخلط وصرعا من الجن ويقول في بعض الادوية هذا ينفع من الصرع الذي يعالجه الاطباء لا الصرع الذي يعالجه أرباب الهياكل ونقل عنه أنه قال طبنا بالنسبة الى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة الى طبنا وهذه الامور لبسطها موضع آخر
وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفى ما لم يعلم نفيه اوجب لهم من الجهل والكفر ما صاروا به اسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى وادعى ابن سينا وموافقوه ان اسباب العجائب في العالم إما قوة فلكية وإما قوة نفسانية وإما قوة طبيعية وأهل السحر منهم والطلسمات يعلمون من وجود الجن ومعاونتهم لهم على الامور العجيبة ما هو متواتر مشهور عندهم فضلا عما يعلمه المسلمون وسائر أهل الملل من ذلك فضلا عن العلم بالملئكة وما وكلهم الله من الامور التي يدبرونها كما قال فيهم المدبرات امرا النازعات وقال ف المقسمات امرا الذاريات وهم الملئكة باتفاق السلف وغيرهم من علماء المسلمين لم يقل أحد من السلف إنها الكواكب

الوجه الثالث عشر
طريقهم لا يفرق بين الحق والباطل بخلاف طريقة الانبياء
الوجه الثالث عشر ان يقال كون القضية برهانية معناه عندهم انها معلومة

للمستدل بها وكونها جدلية معناه كونها مسلمة وكونها خطابية معناه كونها مشهورة او مقبولة او مظنونة وجميع هذه الفروق هى نسب وإضافات عارضة للقضية ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها فضلا عن ان تكون ذاتية لها على أصلهم بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها ومعلوم أن القضية قد تكون حقا والانسان لا يشعر بها فضلا عن أن يظنها او يعلمها وكذلك قد تكون خطابية او جدلية وهى حق في نفسها بل قد تكون برهانية ايضا كما قد سلموا ذلك
وإذا كان كذلك فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هى حق في نفسها لا تكون كذبا باطلا قط وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق تلك القضايا ما هو مشترك ينتفع به جنس بني آدم وهذا هو العلم النافع للناس
وأما هؤلاء المتفلسفة فلم يسلكوا هذا المسلك بل سلكوا في القضايا الامر النسبى فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل وغير ذلك لم يجعلوه برهانيات وإن علمه مستدل آخر والجدليات ما سلمه المنازع وإن لم يسلمه غيره وعلى هذا فتكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة ما ليس من البرهانيات عند إنسان وطائفة أخرى فلا يمكن ان تحد القضايا العلمية بحد جامع مانع بل تختلف باختلاف احوال من علمها ومن لم يعلمها حتى إن اهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم
وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الامر عليه في نفسه ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الادميين بخلاف طريقة الانبياء فانهم اخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب فكل ما ناقض الصدق فهو كذب وكل ما ناقض الحق فهو باطل فلهذا جعل الله ما انزله من الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه وانزل ايضا الميزان وهو ما يوزن به ويعرف به الحق من الباطل ولكل حق ميزان

يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون فانه لا يمكن ان يكون هاديا للحق ولا مفرقا بين الحق والباطل ولا هو ميزان يعرف بها الحق من الباطل واما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقا لما جاءت به الانبياء فهو منه وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعا وعقلا
فان قيل نحن نجعل البرهانيات اضافية فكل ما علمه الانسان بمقدماته فهو برهاني عنده وان لم يكن برهانيا عند غيره قيل لم يفعلوا ذلك فان من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في اشياء معينة مع امكان علم كثير من الناس لامور اخر بغيرتلك المواد المعينة التي عينوها واذا قالوا نحن لا نعين المواد فقد بطل احد اجزاء المنطق وهو المطلوب

الوجه الرابع عشر
فساد جعلهم علوم الانبياء تحصل بواسطة القياس المنطقي
الوجه الرابع عشر إنهم لما ظنوا ان طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم مع ان الامر ليس كذلك وقد علم الناس إما بالحس وإما بالعقل وإما بالاخبار الصادقة علوما كثيرة لا تعلم بطرقهم التي ذكروها ومن ذلك ما علمته الانبياء صلوات الله عليهم من المعلوم فأرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد فقالوا النبي له قوة أقوى من قوة غيره في العلم والعمل وربما سموها قوة قدسية وهو أن يكون بحيث ينال الحد الاوسط من غير تعليم معلم له فاذا تصور طرفي القضية أدراك بتلك القوة القدسية الحد الاوسط الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم لان قوى الانفس في الادراك غير محدودة فجعلوا ما تخبر به الانبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي وهذا في غاية الفساد
فان القياس المنطقي إنما يعرف به أمور كلية كما تقدم وهم يسلمون ذلك والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة كما في القرآن من قصة نوح والخطاب والاحوال التي جرت بينه وبين قومه وكذلك هود وصالح

وشعيب وسائر الرسل وكذلك ما أخبر به النبي ص - من المستقبلات فعلم بذلك أن ما علمه الرسول لم يكن بواسطة القياس المنطقي
بل قد جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته من هذا الباب فانه يعلم نفسه والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فجعل علمه يحصل بهذه الواسطة وهذا يصلح ان يكون دليلا على علمه بمخلوقاته لا ان يكون علمه بمخلوقاته يفتقر الى حد اوسط مع انه لم يعط هذا البرهان موجبه بل انكر علمه بالجزئيات التي في الموجودات الاخرى فان لم يعلم الجزئيات لم يعلم شيئا من المخلوقات مع ان العقول والنفوس والافلاك كلها جزئية ونفسه أيضا معينة ولهذا أراد بعضهم جبر هذا التناقض فقال إنما نفى علمه بالجزئيات في الامور الممتغيرة فيقال التغير من لوازم الفلك فلا يكون الفلك إلا متغيرا وصدور المعلول المتغير عن علة غير متغيرة ممتنع بالضرورة كما قد بسط في موضعه

جعلهم معرفة النبي بالغيب مستفادة من النفس الفلكية وبيان فساده من عشرة
وجوه
فان قيل هم يذكرون لمعرفة النبي بالغيب سببا آخر وهو انهم يقولون إن الحوادث التي في الارض تعلمها النفس الفلكية ويسميها من أراد الجمع بين الفلسفة والشريعة ب اللوح المحفوظ كما يوجد في كلام أبى حامد ونحوه وهذا فاسد فان اللوح المحفوظ الذي وردت به الشريعة كتب الله فيه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين الف سنة كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي ص - واللوح المحفوظ لا يطلع عليه غير الله والنفس الفكلية تحت

العقول ونفوس البشر عندهم تتصل بها وتنقش في نفوس البشر ما فيها
ولهذا يقول بعض الشيوخ الذين يتكلمون باللوح المحفوظ على طريقة هؤلاء إما عن معرفة بأن هذا قولهم وإما عن متابعة منهم لمن قال ذلك من شيوخهم الذين أخذوا ذلك عن الفلاسفة كما يوجد في كلام أبن عربي وابن سبعين والشاذلى وغيرهم يقولون إن العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ وأنه يعلم أسماء مريديه من اللوح المحفوظ أو انه يعلم كل ولى كان ويكون من اللوح المحفوظ ونحو هذه الدعاوى التي مضمونها انهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرهم من أتباع الرسل
والمقصود هنا أنهم يقولون إن النفس إذا حصل لها تجرد عن البدن إما بالنوم وإما بالرياضة وإما بقوتها في نفسها اتصلت بالنفس الفلكية وانتقش فيها ما في النفس الفلكية من العلم بالحوادث الارضية ثم ذلك العلم العقلى قد تخبر به النفس مجردا وقد تصوره القوة المخيلة في صور مناسبة له ثم تلك الصور تنتقش في الحس المشترك كما أنه إذا احس اشياء بالظاهر ثم تخيلها فانها تنتقش في الحس المشترك فالحس المشترك يرتسم فيه ما يوجد من الحواس الظاهرة وينتقش فيه ما تصوره القوة المتخيلة في الباطن وما يراه الانسان في منامه والمحرور في حال مرضه من الصور الباطنة هو من هذا لكن نفس النبي عليه السلام لها قوة كاملة فيحصل لها تجرد في اليقظة فتعلم وتتخيل وترى ما يحصل لغيرها في النوم
قيل هذا الكلام أولا ليس من كلام قدماء الفلاسفة كارسطو واصحابه ولا جمهورهم إنما هو معروف عن ابن سينا وأمثاله وقد انكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموه أن هذا كلام باطل لم يتبع فيه سلفه وثانيا

إنه مبنى على أصول فاسدة كثيرة
الاول إنه لا سبب للحوادث إلا الحركة الفلكية وهذا من ابطل الاصول
الثاني إثبات العقول والنفوس التي يثبتونها وهو باطل

هل منبع الفيض هو النفس الفلكية أو العقل الفعال
الثالث إثبات كون الفيض يحصل من النفس الفلكية فانهم لو سلم لهم ما يذكرونه من أصولهم فعندهم ما يفيض على النفوس إنما هو من العقل الفعال المدبر لكل ما تحت فلك القمر ومنه تفيض العلوم عندهم على نفوس البشر الانبياء وغيرهم والعقل الفعال لا يتمثل فيه شئ من الجزئيات المتغيرة بل إنما فيه امر كلى لكنه بزعمهم دائم الفيض فاذا استعدت النفس لان يفيض عليها منه شئ فاض وذلك الفيض لا يكون بجزئي فانه لا جزئى فيه فكيف يقولون هنا إن الفيض على النفوس هو من النفس الفلكية
فان قيل هم يقولون إن الجزئيات معلومة للعقول على وجه كلى وللنفوس الفلكية على وجه جزئي قيل العلم بالكلى وهو القدر المشترك بين الجزئيات لا يفيد العلم بشئ من الجزئيات البتة فان علم الانسان بمسمى الوجود أو بمسمى الجسم او بمسمى الحيوان أو الانسان او البياض او السواد لا يفيده العلم قط بموجود معين ولا بجسم معين ولا حيوان معين ولا إنسان معين ولا بياض معين ولا سواد معين ولو كانت الجزئيات تعلم من الكليات لكان من علم مسمى شئ قد علم كل شئ فانها كلها جزئيات هذا المسمى
وهذا أيضا مما يدل على فساد قول ابن سينا ومن وافقه على ان الباري يعلم الجزئيات على وجه كلى بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذره في السموات 1ولا في الارض فان هذا تناقض بين لمن تصور حقيقة الأمر فان من لم يتصور إلا كليا ويمتنع عنده ان يتصور جزئيا معينا إما مطلقا وإما إذا كان متغيرا كان قد عزب عن علمه كل شئ في الوجود إما مطلقا واما إذا كان متغيرا وعلمه الكلى لا

يفيده شيئا من معرفة المعينات وهم دائما ما يشبعون انفسهم بالمحال بمثل هذه الكليات
ولهذا كان موضوع الفلسفة الاولى والحكمة العليا هو الوجود الكلى المشترك بين الموجودات المنقسم الى جوهر وعرض وعلة ومعلول وهذا الموضوع ليس له وجود في الخارج ولا يعلم بمعرفة الوجود المطلق شئ من الموجودات الثابته في نفس الامر اصلا فان كل موجود فانه موجود خاص متميز عما سواه وصفاته القائمة به إن كانت جوهرا فهى مختصة به وإن كان عرضا فهو عرض معين في محل معين فمن لم يعرف إلا الكلى المشترك لم يعرف شيئا من الموجودات التي هى في نفسها موجودات وانما علم امرا كليا لا يكون كليا إلا في الاذهان لا في الاعيان

إن نفس فلك القمر لا تعلم إلا جزءا من الحوادث
الرابع إن النفوس عندهم تسعة بعدد الافلاك وحركات الافلاك عندهم هى تسبب الحوادث ومعلوم ان كل نفس تعلم حركة فلكها فنفس فلك القمر لا تعلم ما في نفس الفلك الاطلس وفلك الثوابت وغيره والنفوس البشرية إنما تتصل إن اتصلت بنفس فلك القمر كما أنه إنما يفيض عليها ما يفيض من العقل الفعال وحينئذ فلا تعلم إلا جزءا يسيرا من أسباب الحوادث فمن اين تعلم الحوادث المنفصلة
ليست حركة الافلاك علة تامة للحوادث
الخامس إنه لو قدر انها تعلم حركات الافلاك كلها وانه لا سبب للحوادث إلا حركة الافلاك فحركة الافلاك ليست علة تامة للحوادث بل تختلف افعالها باختلاف القوابل فتؤثر في كل شئ بحسبه فمن لم يعلم احوال القوابل مع الفواعل لم يعلم الحوادث فلا يكون عالما بها والنفوس الفلكية غايتها ان تعلم حركات أفلاكها لا تعلم ما ليس داخلا فيها

وإذا قيل إن حركات العناصر والمتولدات إنما تختلف لاختلاف حركة الافلاك فالعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول قيل تختلف باختلاف القوابل كما تختلف باختلاف الفواعل والعناصر موجودة قبل حركات الافلاك فلا يلزم من العلم بها العلم بنفس العناصر ومقاديرها ليعلم بحركات الافلاك العلم بالحوادث الارضية وقول القائل العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول إنما يستقيم في العلة التامة المستلزمة للمعلول وحركات الافلاك غايتها أن تكون جزءا صغيرا من أسباب الحوادث

لا يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الامور
السادس إنه بتقدير ان تكون للفلك نفس فلكية متحركة كما تحرك نفس الانسان لبدنه فانها تتصور ما تريد فعله كما يتصور الانسان ما يريد فعله وأما الامور المتولدة الحاصلة بأسباب منفصلة مع فعله فلا يجب أن يكون شاعرا بها فمن أين يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الامور الحاصلة لحركاتها وبأمور اخر فانهم يقولون الفلك إذا تحرك حرك العناصر فامتزجت نوعا من الامتزاج وتحرك العناصر وامتزاجها ليس هو نفس حركة الفلك ولا حركة الفلك تامة له ثم إذا امتزجت فاض عليها من العقل الفعال ما يفيض فبتقدير أن تستعد نفس الانسان لان يفيض عليها من العقل الفعال ما يفيض لا يجب ان تعلم النفس الفلكية ذلك مع ان كلامهم في هذا الموضع قد عرف تناقضه وفساده فان العقل إن كان يفيض عنه ما ليس هو فيه كان في المعلول ما ليس في العلة وإن كان لا يفيض إلا ما فيه فليس فيه إلا الكليات ليس فيه صور جسمانية ولا علم بجزئيات ولا مزاج ولا غير ذلك مما يدعون فيضه عن العقل
بيان أن الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية
السابع إن النفس الفلكية تحرك الفلك دائما فيلزم أن تعلم كل وقت الحركة التي تريدها وإذا سلم له انها تعلم ما تولد عنها وعن غيرها قيل لهم لا ريب أن ما مضى قبل تلك الحركة المعينة من الجزئيات لا يكون معلوما للنفس على سبيل

التفصيل فانه لو كان معلوما للنفس على سبيل التفصيل للزم وجود ما لا نهاية له في آن واحد فان الحوادث الماضية لا نهاية لها فلو كان العلم بكل منها موجودا على سبيل التفصيل في النفس الفلكية للزم وجود أمور لا نهاية لها في آن واحد وهذا ممتنع
فان قيل هم يجوزون هذا كما يجوزون وجود نفوس لا نهاية لها في آن واحد فان قاعدتهم في هذا ان ما هو مجتمع وله ترتيب طبيعي كالفلك أو وضعي كالاجسام يمتنع وجود ما لا نهاية فيه فاذا انتفى احد القيدين جوزوا وجود ما لا نهاية له إما بأن لا يكون مجتمعا كالحوادث المتعاقبة وإما ان يكون مجتمعا غير مترتب كالنفوس الفلكية قيل الجواب من وجوه أحدها إن هذا قول طائفة منهم كابن سينا وغيره وقد انكر عليه ذلك إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموا أن هذا ليس هو قول أئمتهم الفلاسفة وبينهم في ذلك مشاجرات ليس هذا موضعها الثاني إن الحركات الفلكية مترتبة كل واحد على ما قبلها فاذا قدر اجتماع العلم المفصل بها كان قد اجتمع حوادث مترتبة والعلوم ايضا مجتمعة في النفس الفلكية والجزئيات عندهم لا تنطبع عندهم إلا في قوى جسمانية فيلزم وجود ما لا يتناهى من الاعراض في صورة جسمانية وهذا هو أعظم ما ينكرونه فان القوة الجسمانية عندهم لا تقوى على أفعال لا تتناهى فضلا عن ان تقوى عى أعراض لا نهاية لها الثالث أن يقال إن قالوا إن جميع ما يحدث لم تزل نفس الفلك عالمة به على التفصيل كان علمها قديما أزليا والحركات حادثة شيئا بعد شئ والحوادث الجزئية لا بد لها من تصورات جزئية حادثة معها وهم يسلمون ذلك وإن قالوا إنها لم تعلمها مفصلة إلا شيئا بعد شئ حصل المقصود ايضا وعلى التقديرين لا بد عندهم للنفس الفلكية من علوم متعاقبه كما يحصل لنفس الانسان وحينئذ فان كانت علومها باقية لم تزل الامور المرتبة تحدث شيئا بعد شئ وهى مجتمعه في محل واحد بل في قوة جسمانية فيلزم وجود أعراض مجتمعة لا نهاية لها في محل واحد بل في قوة جسمانية وهذا من أعظم الامور إحالة عندهم في نفس الامر

وإذا كان كذلك تبين ان الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية
والانبياء بل وغير الانبياء يخبرون بالحوادث المتقدمة كالاخبار بما جرى في زمن نوح وقبل نوح وبعد نوح فيمتنع ان يكون الخبر بذلك استفادة من النفس الفلكية التي يسميها الملاحدة الذين ينزلون الكتاب والسنة على أصول هؤلاء المشركين المعطلين يسمونها اللوح المحفوظ وهكذا العلم بالحوادث المستقبلة قبل أن تكون بمئين من السنين او بألوف من السنين فان تلك لم تنتقش بعد عندهم في النفس الفلكية وقد يخبر بها الانبياء كما بشر متقدموهم بممحد وكما أخبر محمد بما سيأتي بل ويعلم ايضا بالرؤيا وغير ذلك

لا سبيل لنفى كون الارواح تلقى الاخبار في نفوس البشر
الوجه الثامن إنه لو قدر ان النفوس الفلكية تعلم الجزئيات فالجزم بكون ما يحدث في نفوس البشر من العلم بالجزئيات هو منها او من العقل الفعال لو قدر وجوده إنما يجوز إذا علم انتفاء سبب آخر وهذا لا سبيل لهم الى العلم بنفيه فلم لا يجوز ان يكون ذلك مما يلقيه الملائكة بل ومما يلقيه الجن أيضا كما تواترت الاخبار عن الانبياء صلوات الله عليهم بأنهم يذكرون أن الملائكة تخبرهم بما تخبرهم به وكما تواتر إخبار الجن لبنى آدم تارة بما يسترقونه من خبر السماء وتارة بغير ذلك والعلم بالمغيبات من هذا الوجه هو مما اتفق عليه الانبياء وأتباعهم المسلمون واليهود والنصارى واتفق عليه جماهير بنى آدم من غير أهل الملل كالمشركين من العرب ومن الهند ومن الكلدانيين وغيرهم كلهم يذكرون ما تخبر به الارواح إما مطلقا وإما إن تعين
وقد ذكرنا ان الصابئة نوعان حنفاء ومشركون فالحنفاء هم من المسلمين المؤمنين وأما المشركون كالصابئة الذين بعث الله اليهم الخيل عليه السلام وغيرهم فهؤلاء يقرون بهذا والصابئة الحرانيون لهم نبي على أصلهم يقال له البابا وله مصحف يذكر فيه كثيرا من الاخبار المستقبلة ويذكرون أن سيدته يعنى روحانية الزهرة

أخبرته بذلك وكثير منها صحيح كإخبار بدخول المسلمين بلاد حران وغيرها وفتحهم البلاد وإهانتهم لطائفته وكان بحران بئر يقال لها بئر عزون يعظمونها تعظيما كثيرا وكان يذكر ان الارواح تجتمع اليها ويذكر أنواعا من هذه الامور في مصحف له وهو موجود قد قرأته أنا وغيرى
وهذه الارواح منهم من يطلق عليها اسم الارواح والروحانيات ولا يفصل ومنهم من يسميها جميعها الملائكة ولا يفرقون بين الجن والملائكة لا سيما وطائفة من أهل الكلام وغيرهم يجعلون الجن والملائكة جنسا واحدا وإنما يفرقون بالاعمال الصالحة والفاسدة كالادميين ومن هذا تنازع العلماء في إبليس هل كان من الملائكة ام لا وقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وأما من يعرف حقيقة الامر من علماء المسلمين فيعلمون ان الارواح التي تعين المشركين هى الشياطين ويفرقون بين الملائكة وبين الجن كما هو ثابت بالكتاب والسنة والاجماع

بيان كون الغلط في هذه الاخبارات أكثر من الصواب
التاسع إنه بتقدير أن يكون سبب الاخبارات هو اتصال النفس بالقوة النفسانية الفلكية أو هو إخبار الارواح كما تقدم فمعلوم ان الغلط في هذا أكثر من الصواب أما على اصلهم فلأن الخيال يصور للحس المشترك ما علمته النفس من الصور المناسبة والخيال يكذب اكثر مما يصدق وأما على قول المسلمين وغيرهم فلأن الجن يكذبون كثيرا في إخبارهم وقد ثبت في الصحيح عن النبي ص - انه لما ذكر إخبار الكهان قال إنهم يسمعون الكلمة فيكذبون مائة كذبة وهذا امر معلوم بالتجربة والتواتر فان الذين يخبرون بما يخبرون به عن الجن يكثر الكذب في إخبارهم

وأما الرؤيا فقد ثبت في الصحيح عن النبي ص - انه قال الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام ورؤيا من الشيطان فقد بين الصادق المصدوق أن من الرؤيا ما هو من حديث النفس ومنها ما هو من وسوسة الشيطان وقد امرنا سبحانه أن نستعيذ من هذين الواسواسين في قوله قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس الناس
ولا بد من التمييز بين الصدق والكذب وليس فيما ذكروه ولا فيما يذكره غيرهم ما يميز بين هذا وهذا ولا يميز بين هذا وهذا مطلقا إلا الانبياء ولهذا أمرنا الله ان نؤمن بكل ما جاؤا به الانبياء فانهم معصومون لا يقرون على الخطأ فيما يبلغونهه عن الله باتفاق المسلمين قال تعالى قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا وما انزل الى ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما اوتى موسى وعيسى وما اوتى النبيون من ربهم البقرة وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الاخر والملئكة والكتب والنبيين البقرة
ولهذا كان اهل الرياضة والزهد والعبادة من الصوفية وغيرهم يرون اشياء في الباطن يظنونها حقا ويكون باطلا ولهذا يقول من يقول من أهل العلم كأبى القاسم السهيلى وغيره نعوذ بالله من قياس فلسفى وخيال صوفى وهذا مما كان يقوله شيخه ابو بكر بن العربي وكان مع تعظيمه لشيخه ابى حامد الغزالي يقول

شيخنا ابو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم اراد ان يخرج منهم فما قدر وكان يذكر عنه انه كان يقول أنا مزجى البضاعة في الحديث
وهؤلاء المتفلسفة يقولون إن غاية ما عند النبي قياس من جنس القياس الفلسفي او خيال من جنس الخيال الصوفي فان ما ذكروه للنبي يتصف به آحاد الناس فان اتصال النفوس بالنفس الفلكية وانعقاد الاقيسة العقلية في النفس هو قدر مشترك بين الناس إنما هو بحسب استعداد النفوس ثم هم أعنى ابن سينا وأمثاله يقولون إن النفوس الناطقة متماثلة بحسب الحقيقة وإنما اختلفت باعتبار أبدانها فهى كماء واحد وضعته في آنية مختلفة فاختلف لاختلاف الاوعية واسباب صفات النفس عندهم إما المزاج وإما العادة وإما ما يتبع ذلك ويا ليت شعري كم مقدار ما يوجب التفاوت بين النفوس إن لم يكن التفاوت إلا بهذا السبب فيلزم من هذا ان تكون نفس اخس الناس مشاركة في الحقيقة لنفس ابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وانما امتازت عنها بأمور عارضة وأن تكون نفس كثير من الناس قريبة من نفوسهم او افضل وتكون مستعدة لان يحصل لها ما حصل لنفوسهم
ولهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة وصار كثير منهم يطلب ان يؤتى مثل ما اوتى رسل الله وأن يؤتى صحفا منشرة كما طلب ذلك غير واحد في زماننا وكما طلبه السهروردي المقتول وابن سبعين وغيرهما وسبب ذلك أن هذه النبوة التي أثبتوها امرها من جنس منامات الناس
ولهذا كان عمدتهم في إثبات النبوة هو المنامات ولما أراد ابن سينا وأمثاله ان

أقسام الكتاب
1 2 3 4