كتاب : بدائع الفوائد
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية

وقد أخبر أن تنزيل الكتاب منه فهذا يدل على شيئين أحدهما علوه تعالى على خلقه والثاني أنه هو المتكلم بالكتاب المنزل من عنده لا غيره فإنه أخبر أنه منه وهذا يقتضي أن يكون منه قولا كما أنه منه تنزيلا فإن غيره لو كان هو المتكلم به لكان الكتاب من ذلك الغير فإن الكلام فإنما يضاف إلى المتكلم به
ومثل هذا ولكن حق القول مني السجدة 13 ومثله قل نزله روح القدس من ربك النحل 102 ومثله تنزيل من حكيم حميد فصلت 42 فاستمسك بحرف من في هذه المواضع فإنه يقطع حجج شعب المعتزلة والجهمية
وتأمل كيف قال تنزيل من ولم يقل تنزيله فتضمنت الآية إثبات علوه ومكانه وثبوت الرسالة ثم قال العزيز العليم فتضمن هذان الإسمان صفتي القدرة والعلم وخلق أعمال العباد وحدوث كل ما سوى الله لأن القدرة هي قدرة الله كما قال أحمد بن حنبل فتضمنت إثبات القدر ولأن عزته تمنع أن يكون في ملكه ما لا يشاؤه أو أن يشاء ما لا يكون فكانت عزته تبطل ذلك
وكذلك كمال قدرته توجب أن يكون خالق كل شيء وذلك ينفي أن يكون في العالم شيء قديم لا يتعلق به خلقه لأن كمال قدرته وعزته يبطل ذلك ثم قال غافر الذنب وقابل التوب والذنب مخالفة شرعه وأمره فتضمن هذان الإسمان إثبات شرعه وإحسانه وفضله ثم قال شديد العقاب وهذا جزاؤه للمذنبين وذو الطول جزاؤه للمحسنين فتضمنت الثواب والعقاب
ثم قال لا إله إلا هو إليه المصير فتضمن ذلك التوحيد والمعاد فتضمنت الآيتان إثبات صفة العلو والكلام والقدرة والعلم والقدر وحدوث العالم والثواب والعقاب والتوحيد والمعاد
وتنزيل الكتاب منه على لسان رسوله يتضمن الرسالة والنبوة فهذه عشرة قواعد الإسلام والإيمان تجلى على سمعك في هذه الآية العظيمة ولكن خود تزف إلى ضرير مقعد
فهل خطر ببالك قط أن هذه الآية تتضمن هذه العلوم والمعارف مع كثرة قراءتك لها وسماعك إياها وهكذا سائر آيات القرآن فما أشدها من حسرة وأعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه فالله المستعان

فائدة جليلة تقدير العامل في المعطوف
العامل في المعطوف مقدر في معنى المعطوف عليه وحرف العطف أغنى عن إعادته وناب منابه وإنما قلنا ذلك للقياس والسماع
أما القياس فإن ما بعد حرف العطف لا يعمل فيه ما قبله ولا يتعلق به إلا في باب المفعول معه لأنه قد أخذ معموله ولا يقتضي ما بعد حرف العطف ولا يصح تسليطه عليه بوجه فلا نقول ضربت وعمرا فكيف يقال إن عاملا يعمل في شيء لا يصح مباشرته إياه وأيضا فالنعت هو المنعوت في المعنى ولا واسطة بينه وبين المنعوت ومع ذلك فلا يعمل فيه ما يعمل في المنعوت على القول الذي نصرناه سالفا وهو الصحيح فكيف بالمعطوف الذي هو غير المعطوف عليه من كل وجه
وأما السماع فإظهار العامل قبل المعطوف في مثل قوله بل بنو النجار إن لنا فيهم قتلى وإن تره يريد لنا فيهم قتلى وتره وهذا مطرد في سائر حروف العطف ما لم يمنع مانع كما منع في المعطوف على اسم لا يصح انفراده عنه نحو اختصم زيد وعمرو وجلست بين زيد وعمرو فإن الواو هنا تجمع بين الإسمين في العامل فكأنك قلت اختصم هذان واجتمع الرجلان في قولك اجتمع زيد وعمر الواو أصل تنبني عليه فروع
ومعرفة هذه الواو أصل تنبني عليه فروع كثيرة فمنها أنك تقول رأيت الذي قام زيد وأخوه على أن تكون الواو جامعة وإن كانت عاطفة لم يجز لأن التقدير يصير قام زيد وقام أخوه فخلت الصلة من العائد
ومنها قوله سبحانه وجمع الشمس والقمر القيامة 9 غلب المذكر على المؤنث لاجتماعهما ولو قلت طلع الشمس والقمر لقبح ذلك كما يقبح قام هند وزيد إلا أن تريد الواو الجامعة لا العاطفة وأما في الآية فلا بد أن تكون الواو جامعة ولفظ الفعل يقتضي ذلك
وأما الفاء فهي موضوعة للتعقيب وقد تكون للتسبيب والترتيب وهما راجعان إلى معنى التعقيب لأن الثاني بعدهما أبدا إنما يجيء في عقب الأول فالسبب نحو ضربته فبكى والترتيب أهلكناها فجاءها بأسنا الأعراف 4 دخلت الفاء لترتيب اللفظ لأن الهلاك يجب تقديمه في الذكر لأن الإهتمام به أولى وإن كان مجيء البأس قبله في الوجود

ومن هذا أن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد بعد ذلك جده دخلت ثم لترتيب الكلام لا لترتيب المعنى في الوجود وهذا معنى قول بعض النحاة أنها تأتي للترتيب في الخبر لا في المخبر
وعندي في الآية تقديران آخران أحسن من هذا أحدهما أن يكون المراد بالإهلاك إرادة الهلاك وعبر بالفعل عن الإرادة وهو كثير فترتب مجيء البأس على الإرادة ترتب المراد على الإرادة والثاني وهو ألطف أن يكون الترتيب ترتيب تفصيل على جملة فذكر الإهلاك ثم فصله بنوعين
أحدهما مجيء البأس بياتا أي ليلا والثاني مجيئه وقت القائلة وخص هذين الوقتين لأنهما وقت راحتهم وطمأنينتهم فجاءهم بأس الله أسكن ما كانوا وأروحه في وقت طمأنينتهم وسكونهم على عادته سبحانه في أخذ الظالم في وقت بلوغ آماله وكرمه وفرحه وركونه إلى ما هو فيه
وكذلك قوله حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا يونس 24 والمقصود أن الترتيب هنا ترتيب التفصيل على الجمل وهو ترتيب علمي لا خارجي فإن الذهن يشعر بالشيء جملة أولا ثم بطلب تفصيله بعد ذلك وأما في الخارج فلم يقع إلا مفصلا فتأمل هذا الموضع الذي خفي على كثير من الناس حتى ظن أن الترتيب في الآية كترتيب الإخبار أي إنا أخبرناكم بهذا قبل هذا
وأما قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم النحل 98 فعلى ما ذكرنا من التعبير عن إرادة الفعل بالفعل هذا هو المشهور وفيه وجه ألطف من هذا وهو أن العرب تعبر بالفعل عن ابتداء الشروع فيه تارة وتعبر عن انتهائه تارة فيقولون فعلت عند الشروع وفعلت عند الفراغ وهذا استعمال حقيقي وعلى هذا فيكون معنى قرأت في الآية ابتداء الفعل أي إذا شرعت وأخذت في القراءة فاستعذ فالإستعاذة مرتبة على الشروع الذي هو مباديء الفعل ومقدمته وطليعته
ومنه قوله فصلى الصبح حتى طلع الفجر // رواه مسلم والترمذي والنسائي // أي أخذ في الصلاة عند طلوعه

وأما قوله ثم صلاها من الغد بعد أن أسفر فالصحيح أن المراد به الإبتداء وقالت طائفة المراد الإنتهاء منهم السهيلي وغلطوا في ذلك والحديث صريح في أنه قدمها في اليوم الأول وأخرها في اليوم الثاني ليبين أول الوقت وآخره
وقوله في حديث جبريل صلى الظهر حين زالت الشمس هذا ابتداؤها ليس إلا
وقوله صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله فذلك مراد به الإبتداء وأما قوله وصلى الظهر من الغد حين صار ظل الرجل مثله فقيل المراد به الفراغ منها أي فرغ منها في هذا الوقت وقيل المراد به الإبتداء أي أخرها إلى هذا الوقت بيانا لا آخر الوقت وعلى هذا فتمسك به أصحاب مالك في مسألة الوقت المشترك والكلام في هذه المسائل ليس هذا موضعه فصل حتى
وأما حتى فموضوعة للدلالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها وغاية كل شيء حده لذلك كان لفظها كلفظ الحد فإنها حاء قبل تائين كما أن الحد جاء قبل دالين والدال كالتاء في المخرج والصفة إلا في الجهر فكانت لجهرها أولى بالإسم لقوته والتاء لهمسها أولى بالحرف لضعفه
ومن حيث كانت حتى للغاية خفضوا بها كما يخفضون ب إلى التي للغاية
والفرق بينهما أن حتى غاية لما قبلها وهو منه وما بعد إلى ليس مما قبلها بل عنده انتهى ما قبل الحرف ولذلك فارقتها في أكثر أحكامها ولم تكن إلى عاطفة لانقطاع ما بعدها عما قبلها بخلاف حتى
ومن ثم دخلت حتى في حروف العطف ولم يجز دخولها على المضمر المخفوض إذ كانت خافضة لا تقول قام القوم حتاك كما لا تقول قاموا و ك ومن حيث كان ما بعدها غاية لما قبلها لم يجز في العطف قام زيد حتى عمرو ولا أكلت خبزا حتى تمرا لأن الثاني ليس بحد للأول ولا ظرف تنبيه
ليس المراد من كون حتى لانتهاء الغاية وأن ما بعدها ظرفا أن يكون متأخرا في الفعل عما قبلها فإذا قلت مات الناس حتى الأنبياء وقدم الحجاج حتى المشاة لم يلزم تأخر موت الأنبياء عن الناس وتأخر قدوم المشاة عن الحجاج

ولهذا قال بعض الناس إن حتى مثل الواو لا تخالفها إلا في شيئين
أحدهما أن يكون المعطوف من قبيل المعطوف عليه فلا تقول قدم الناس حتى الخيل بخلاف الواو
الثاني أن تخالفه بقوة أو ضعف أو كثرة أو قلة وأما أن يفهم منها الغاية والحد فلا
والذي حمله على ذلك ما تقدم من المثالين ولكن فاته أن يعلم المراد بكون ما بعدها غاية وظرفا فاعلم أن المراد به أن يكون غاية في المعطوف عليه لا في الفعل فإنه يجب أن يخالفه في الأشد والأضعف والقلة والكثرة وإذا فهمت هذا فالأنبياء غاية للناس في الشرف والفضل والمشاة غاية للحجاج في الضعف والعجز وأنت إذا قلت أكلت السمكة حتى رأسها فالرأس غاية لانتهاء السمكة وليس المراد أن غاية أكلك كان الرأس بل يجوز أن يتقدم أكلك للرأس وهذا مما أغفله كثير من النحويين لم ينبهوا عليه فائدة أو التردد بين شيئين
أو وضعت للدلالة على أحد الشيئين المذكورين معها ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه من حيث كان الشك ترددا بين أمرين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر لا أنها وضعت للشك فقد تكون في الخبر الذي لا شك فيه إذا أبهمت على المخاطب ولم تقصد أن تبين له كقوله سبحانه إلى مائة ألف أو يزيدون الصافات 147 أي أنهم من الكثرة بحيث يقال فيهم هم مائة ألف أو يزيدون ف أو دالة على أحد الشيئين إما مائة ألف بمجردها وإما مائة ألف مع زيادة والمخبر في كل هذا لا يشك
وقوله فهي كالحجارة أو أشد قسوة البقرة 74 ذهب في هذه الزجاج كالتي في قوله أو كصيب من السماء البقرة 19 إلى أنها أو التي للإباحة أي أبيح للمخاطبين أن يشبهوا بهذا أو هذا وهذا فاسد فإن أو لم توضع للإباحة في شيء من الكلام ولكنها على بابها أما قوله أو كصيب من السماء فإنه تعالى ذكر مثلين مضروبين للمنافقين في حالتين مختلفتين فهم لا يخلون من إحدى الحالتين ف أو على بابها من الدلالة على أحد المعنيين وهذا كما تقول زيد لا يخلو أن يكون في المسجد أو الدار ذكرت أو لأنك أردت أحد الشيئين وتأمل

الآية بما قبلها وافهم المراد منها تجد الأمر كما ذكرت لك وليس المعنى أبحث لكم أن تشبهوهم بهذا وهذا
وأما قوله فهي كالحجارة أو أشد قسوة فإنه ذكر قلوبا ولم يذكر قلبا واحدا فهي على الجملة قاسية أو على التعيين لا تخلو من أحد أمرين إما أن تكون كالحجارة وإما أن تكون أشد قسوة ومن هذا قول الشاعر
فقلت لهم شيئان لا بد منهما ... صدور رماح أشرعت أو سلاسل
أي لا بد منهما في الجملة ثم فصل الإثنين بالرماح والسلاسل فبعضهم له الرماح قتلا وبعضهم له السلاسل أسرا فهذا على التفصيل والتعيين والأول على الجملة فالأمران واقعان جملة وتفصيلهما بما بعد أو
وقد يجوز في قوله تعالى أو أشد قسوة مثل أن يكون مائة ألف أو يزيدون
وأما أو التي للتخيير فالأمر فيها ظاهر وأما أو التي زعموا أنها للإباحة نحو جالس الحسن أو ابن سيرين فلم توجد الإباحة من لفظ أو ولا من معناها ولا تكون أو قط للإباحة وإنما أخذت من لفظ الأمر الذي هو للإباحة ويدل على هذا أن القائلين بأنها للإباحة يلزمهم أن يقولوا إنها للوجوب إذا دخلت بين شيئين لا بد من أحدهما نحو قولك للمكفر أطعم عشرة مساكين أو اكسهم فالوجوب هنا لم يوجد من أو وإنما أخذ من الأمر فكذا جالس الحسن أو ابن سيرين فصل لكن
وأما لكن فقال السهيلي أصح القولين فيها أنها مركبة من لا وأن وكاف الخطاب في قول الكوفيين قال السهيلي وما أراها إلا كاف التشبيه لأن المعنى يدل عليها إذا قلت ذهب زيد لكن عمرو مقيم تريد لا ينتقل عمرو فلا لتوكيد النفي عن الأول وأن لا يجاب الفعل الثاني وهو النفي عن الأول لأنك ذكرت الذاهب الذي هو ضده فدل على انتفائه به
قلت وفي هذا من التعسف والبعد عن اللغة والمعنى ما لا يخفى وأي حاجة إلى هذا بل هي حرف شرط موضوع للمعنى المفهوم منها ولا تقع إلا بين كلامين متنافيين ومن هنا قال إنها ركبت من لا والكاف وإن إلا أنهم لما حذفوا الهمزة المذكورة كسروا الكاف إشعارا بها ولا بد بعدها من جملة إذا كان الكلام قبلها موجبا شددت

نونها أو خففت فإن كان ما قبلها منفيا اكتفيت بالإسم المفرد بعدها إذا خففت النون منها لعلم المخاطب أنه لا يضاد النفي إلا الإيجاب فلما اكتفيت باسم مفرد وكانت إذا خففت نونها لا تعمل صارت كحروف العطف فألحقوها بها لأنهم حين استغنوا عن خبرها بما تقدم من الدلالة كان إجراء ما بعدها على ما قبلها أولى وأحرى ليتفق اللفظ كما اتفق المعنى
فإن قيل أليس مضادة النفي للوجوب بمثابة مضادة الوجوب للنفي وهي في كل حال لا تقع إلا بين كلامين متضادين فلم قالوا ما قام زيد لكن قام عمرو اكتفاء بدلالة النفي على نقيضه وهو الوجوب ولم يقولوا قام زيد لكن قام عمرو اكتفاء بدلالة الوجوب على نقيضه من النفي
قيل إن الفعل الموجب قد تكون له معان تضاده وتناقض وجوده كالعلم فإنه يناقض وجود الشك والظن والغفلة والموت وأخص أضداده به الجهل فلو قلت قد علمت الخبر لكن زيد لم يدر ما أضفت إلى زيد أظن أم شك أم غفلة أم جهل فلم يكن بد من جملة قائمة بنفسها ليعلم ما تريد فإذا تقدم النفي نحو قولك ما علمت الخبر لكن زيد اكتفى باسم واحد لعلم المخاطب أنه لا يضاد نفي العلم إلا وجوده لأن النفي مشتمل على جميع أضداده المنافية للعلم
فإن قيل فلما إذا خففت وجب إلغاؤها بخلاف إن وأن وكأن فإنه يجوز فيها الوجهان مع التخفيف كما قال
كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم ...
قيل زعم أبو علي الفارسي أن القياس فيهن كلهن الإلغاء إذا خففهن فلذلك ألزموا لكن إذا خففت الإلغاء تنبيها على أن ذلك هو الأصل في جميع الباب وهذا القول مع ما يلزم عليه من الضعف والوهن ينكسر عليه بأخواتها فيقال له فلم خصت لكن بذلك دون أن وإن ولا جواب له عن هذا
قال السهيلي وإنما الجواب عن ذلك أنها لما ركبت من لا وإن ثم حذفت الهمزة اكتفاء بكسر الكاف بقي عمل إن لبقاء العلة الموجبة للعمل وهي فتح آخرها وبذلك ضارعت الفعل فلما حذفت النون المفتوحة وقد ذهبت الهمزة للتركيب ولم يبق إلا النون الساكنة وجب إبطال حكم العمل بذهاب طرفها وارتفاع علة المضارعة للفعل بخلاف أخواتها إذا خففن فإن معظم لفظها باق فجاز أن يبقى حكمها

على أن الأستاذ أبا القاسم الرماني قد حكى رواية عن يونس أنه حكى الإعمال في لكن مع تخفيفها وكان يستغرب هذه الرواية
واعلم أن لكن لا تكون حرف عطف مع دخول الواو عليها لأنه لا يجتمع حرفان من حروف العطف فمتى رأيت حرفا من حروف العطف مع الواو فالواو هي العاطفة دونه فمن ذلك إما إذا قلت إما زيد وإما عمرو وكذلك لا إذا قلت ما قام زيد ولا عمرو ودخلت لا لتوكيد النفي ولئلا يتوهم أن الواو جامعة وأنك نفيت قيامهما في وقت واحد ولا تكون لا عاطفة إلا بعد إيجاب
وشرط آخر وهو أن يكون الكلام قبلها يتضمن بمفهوم الخطاب نفي الفعل عما بعدها كقولك جاءني رجل لا امرأة ورجل عالم لا رجل جاهل ولو قلت مررت برجل لا زيد لم يجز وكذلك مررت برجل لا عاقل لأنه ليس في مفهوم الكلام ما ينفي الفعل عن الثاني وهي لا تدخل إلا لتوكيد نفي فإن أردت ذلك المعنى جئت بلفظ غير فتقول مررت برجل غير زيد ورجل غير عالم ولا تقول برجل غير امرأة ولا بطويل غير قصير لأن في مفهوم الخطاب ما يغنيك عن مفهوم النفي الذي في غير وذلك المعنى الذي دل عليه المفهوم حتى قلت بطويل لا قصير وأما إذا كانا اسمين معرفين نحو مررت بزيد لا عمرو فجائز هنا دخول غير لجمود الإسم العلم فإنه ليس له مفهوم خطاب عند الأصوليين بخلاف الأسماء المشتقة وما جرى مجراها كرجل فإنه بمنزلة قولك ذكر ولذلك دل بمفهومه على انتقال الخبر عن المرأة ويجوز أيضا مررت بزيد لا عمرو لأنه اسم مخصوص بشخص وكأنه حين خصصته بالذكر نفيت المرور عن عمرو ثم أكدت ذلك النفي ب لا
وأما الكلام المنفي فلا يعطف عليه ب لا لأن نفيك الفعل عن زيد إذا قلت ما قام زيد لا يفهم منه نفيه عن عمرو فيؤكد ب لا
فإن قلت أكد بها النفي المتقدم
قيل لك وأي شيء يكون حينئذ إعراب عمرو وهو اسم مفرد ولم يدخل عليه عاطف يعطف على ما قبله فهذا لا يجوز إلا أن تجعله مبتدأ وتأتي بخبر فتقول ما قام زيد ولا عمرو وهو القائم أما إن أردت تشريكهما في النفي فلا بد من الواو إما وحدها وإما مع لا فلا تكون الواو عاطفة ومعها لا وأما قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين الفاتحة 7 فإن معنى النفي موجود في غير

فإن قيل فهلا قال المغضوب عليهم ولا الضالين
قيل في ذكر غير بيان للفضلة للذين أنعم عليهم وتحصيله لنفي صفة الضلال والغضب عنهم وأنهم الذين أنعم عليهم بالنبوة والهدى دون غيرهم ولو قال لا المغضوب عليهم ولا الضالين لم يكن في ذلك إلا تأكيد نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما تقول هذا غلام زيد لا عمرو أكدت نفي الإضافة عن عمرو بخلاف قولك هذا غلام الفقيه غير الفاسق ولا الخبيث وكأنك جمعت بين إضافة الغلام إلى الفقيه دون غيره وهي نفي الصفة المذمومة عن الفقيه فافهمه
فإن قيل وأي شيء أكدت لا حتى أدخلت عليها الواو وقد قلت إنها لا تؤكد المنفي المتقدم وإنما تؤكد نصبا يدل عليه اختصاص الفعل الواجب بوصف ما كقولك جاءني رجل عالم لا جاهل
فالجواب أنك حين قلت ما جاءني زيد لم يدل الكلام على نفي المجيء عن عمرو كما تقدم فلما عطفت بالواو دل الكلام على انتفاء الفعل عن عمرو كما انتفى عن الأول لقيام الواو مقام تكرار حرف النفي فدخلت لا لتوكيد النفي عن الثاني

فائدة بديعة أم أقسام أم
أم تكون على ضربين متصلة وهي المعادلة لهمزة الإستفهام وإنما جعلوها معادلة للهمزة دون هل ومتى وكيف لأن الهمزة هي أم الباب والسؤال بها استفهام بسيط مطلق غير مقيد بوقت ولا حال والسؤال بغيرها استفهام مركب مقيد إما بوقت ك متى وإما بمكان ك أين وإما بحال نحو كيف وإما بنسبة نحو هل زيد عندك ولهذا لا يقال كيف زيد أم عمرو ولا أين زيد أم عمرو ولا من زيد أم عمرو
وأيضا فلأن الهمزة وأم يصطحبان كثيرا كقوله تعالى سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم البقرة 6 ونحو قوله تعالى أأنتم أشد خلقا أم السماء النازعات 27
وأيضا فلأن اقتران أم بسائر أدوات النفي غير الهمزة يفسد معناها فإنك إذا قلت كيف زيد فأنت سائل عن حاله فإذا قلت أم عمرو كان خلفا من الكلام

وكذلك إذا قلت من عندك فأنت سائل عن تعيينه فإذا قلت أم عمرو فسد الكلام وكذلك الباقي
وأيضا فإنما عادلت الهمزة دون غيرها لأن الهمزة من بين حروف الإستفهام تكون للتقرير والإثبات نحو ألم أحسن إليك فإذا قلت أعندك زيد أم عمرو فأنت مقر بأن أحدهما عنده ومثبت لذلك وطالب تعيينه فأتوا بالهمزة التي تكون للتقرير دون هل التي لا تكون لذلك إنما يستقبل بها الإستفهام استقبالا وسر المسألة أن أم هذه مشربة معنى أي فإذا قلت أزيد عندك أم عمرو كأنك قلت أي هذين عندك ولذلك تعين الجواب بأحدهما أو بنفيهما أو بإثباتهما ولو قلت نعم أو لا كان خلفا من الكلام وهذا بخلاف أو فإنك إذا قلت أزيد عندك أم عمرو كنت سائلا عن كون أحدهما عنده بخبر معين فكأنك قلت أعندك أحدهما فيتعين الجواب ب نعم أو لا
وتفصيل ذلك أن السؤال على أربع مراتب في هذا الباب الأول السؤال بالهمزة منفردة نحو أعندك شيء مما يحتاج إليه فتقول نعم فينتقل إلى المرتبة الثانية فتقول ما هو فتقول متاع فينتقل إلى المرتبة الثالثة بأي فتقول أي متاع فتقول ثياب فتنتقل إلى المرتبة الرابعة فتقول أكتان هي أم قطن أم صوف وهذه أخص المراتب وأشدها طلبا التعيين فلا يحسن الجواب إلا بالتعيين وأشدها إبهاما السؤال الأول لأنه لم يدع فيه أن عنده شيئا ثم الثاني أقل إبهاما منه لأن فيه ادعاء شيء عنده وطلب ماهيته ثم الثالث أقل إبهاما وهو السؤال ب أي لأن فيه طلب تعيين ما عرف حقيقته ثم السؤال الرابع بأم أخص من ذلك كله لأن فيه طلب تعيين فرد من أفراد قد عرفها وميزها والثالث إنما فيه تعيين جنس عن غيره
ولا بد في أم هذه من ثلاثة أمور تكون بها متصلة
أحدها أن تعادل بهمزة الإستفهام
الثاني أن يكون السائل عنده علم أحدها دون تعيينه
الثالث أن لا يكون بعدها جملة من مبتدأ وخبر نحو قولك أزيد عندك أم عندك عمرو فقولك أم عندك عمرو يقتضي أن تكون منفصلة بخلاف ما إذا قلت أزيد عندك أم عمرو فإذا وقعت الجملة بعدها فعلية لم تخرجها عن الإتصال نحو أعطيت زيدا أم حرمته
وسر ذلك كله أن السؤال قام عن تعيين أحد الأمرين أو للأمر فإذا قلت أزيد عندك أم عمرو كأنك قلت إيهما عندك وإذا قلت أزيد عندك أم عندك عمرو كان كل واحد منهما جملة مستقلة بنفسها وأنت سائل

هل عنده زيد أو لا ثم استأنفت سؤالا آخر هل عندك عمرو أم لا فتأمله فإنه من دقيق النحو وفقهه ولذلك سميت متصلة لاتصال ما بعدها بما قبلها وكونه كلاما واحدا
وفي السؤال بها معادلة وتسوية فأما المعادلة فهي بين الإسمين أو الفعلين لأنك جعلت الثاني عديل الأول في وقوع الألف على الأول وأم على الثاني وأما التسوية فإن الشيئين المسؤول عن تعيين أحدهما مستويان في علم السائل وعلى هذا فقوله تعالى أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها هو على التقرير والتوبيخ والمعنى أي المخلوقين أشد خلقا وأعظم
ومثله أهم خير أم قوم تبع الدخان 37
فإن قيل هذا ينقض ما أصلتموه فإنكم ادعيتم أنها إنما يسأل بها عن تعيين ما علم وقوعه وهنا لا خير فيهم ولا في قوم تبع
قيل هذا لا ينقض ما ذكرناه بل يشده ويقويه فإن مثل هذا الكلام يخرج خطابا على تقرير دعوى المخاطب وظنه أن هناك خيرا ثم يدعي أنه هو ذلك المفصل فيخرج الكلام معه والتقريع والتوبيخ على زعمه وظنه أي ليس الأمر كما زعمتم وهذا كما تعاقب شخصا على ذنب لم يفعله مثله وتدعي أنك لا تعاقبه فتقول أنت خير أم فلان وقد عاقبته بهذا الذنب ولست خيرا منه فصل أم للإضراب
وأما أم التي للإضراب وهي المنقطعة فإنها قد تكون أم إضرابا ولكن ليس بمنزلة بل كما زعم بعضهم ولكن إذا مضى كلامك على اليقين ثم أدركك الشك مثل قولهم إنها لأ بل أم شاء كأنك أضربت عن اليقين ورجعت إلى الإستفهام حين أدركك الشك
ونظيره قول الزباء عسى الغوير أبؤسا فتكلمت بعسى الغوير ثم أدركها اليقين فختمت كلامها بحكم ما غلب على ظنها لا بحكم عسى لأن عسى لا يكون خبرها اسما عن حدث فكأنها لما قالت عسى الغوير قالته متوقعة شرا تريد الإخبار بفعل مستقبل متوقع كما تقتضيه عسى ثم هجم عليها اليقين فعدلت إلى الإخبار باسم حدث يقتضي جملة ثبوتية محققة فكأنها قالت أصار الغوير أبؤسا فابتدأت كلامها على الشك ثم ختمته بما يقتضي اليقين والتحقيق

فكذا أم إذا قلت إنها لأبل ابتدأت كلامك باليقين والجزم ثم أدركك الشك في أثنائه فأتيت ب أم الدالة على الشك فهو عكس طريقه عسى الغوير أبؤسا ولذلك قدرت ب بل لدلالتها على الإضراب فإنك أضربت عن الخبر الأول إلى الإستفهام والشك فإنك أخبرت أولا عما توهمت ثم أدركك الشك فأضربت عن ذلك الإخبار وإذا وقع بعد أم هذه الإسم المفرد فلا بد من تقدير مبتدأ محذوف وهمزة استفهام فإذا قلت إنها لإبل أم شاء كان تقديره لإبل أهي شاء وليس الثاني خبرا ثبوتيا كما توهمه بعضهم وهو من أقبح الغلط والدليل عليه قوله تعالى أم له البنات ولكم البنون الطور 39 وقوله تعالى أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين الزخرف 16 وقوله تعالى أم لهم إليه غير الله الطور 43 أم لهم سلم يستمعون فيه الطور 38 أم لكم سلطان مبين الصافات 156 أم خلقوا من غير شيء الطور 35 فهذا ونحوه يدلك على أن الكلام بعدها استفهام محض وأنه لا يقدر ب بل وحدها ولا يقدر أيضا ب الهمزة وحدها إذ لو قدر بالهمزة وحدها لم يكن بينه وبين الأول علاقة لأن الأول خبر وأم المقدرة بالهمزة وحدها لا تكون إلا بعد استفهام فتأمله رحمك الله تعالى
هذا شرح كلام النحاة وتقريره في هذا الحرف والحق أن يقال إنها على بابها وأصلها الأول من المعادلة والإستفهام حيث وقعت وإن لم يكن قبلها أداة استفهام في اللفظ وتقديرها ب بل والهمزة خارج عن أصول اللغة العربية فإن أم للإستفهام وبل للإضراب ويا بعد ما بينهما والحروف لا يقوم بعضها مقام بعض على أصح الطريقتين وهي طريقة إمام الصناعة والمحققين من أتباعه ولو قدر قيام بعضها مقام بعض فهو فيما تقارب معناهما كمعنى على وفي ومعنى إلى ومع
ونظائر ذلك وأما في مالا جامع بينهما فلا ومن هنا كان زعم من زعم أن لا قد تأتي بمعنى الواو باطلا لبعد ما بين معنييهما وكذلك أو بمعنى الواو فأين معنى الجمع بين الشيئين إلى معنى الإثبات لأحدهما
وكذلك مسألتنا أين معنى أم من معنى بل فاسمع الآن فقه المسألة وسرها
إعلم أن ورود أم هذه على قسمين أحدهما ما تقدمه استفهام صريح بالهمزة وحكمها ما تقدم وهو الأصل فيها والأخية التي يرجع إليها ما خرج عن ذلك كله

والثاني ورودها مبتدأة مجردة من استفهام لفظي سابق عليها نحو قوله تعالى أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا الكهف 9 وقوله تعالى أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون الطور 30 وقوله أم حسبتم أن تدخلوا الجنة البقرة 214 أم لم يعرفوا رسولهم المؤمنون 69 أم اتخذ مما يخلق بنات الزخرف 16 أم له البنات الطور 39 أم أنا خير من هذا الذي هو مهين الزخرف 52 أم أنزلنا عليهم سلطانا الروم 35 وهو كثير جدا تجد فيه أم مبتدءا بها ليس قبلها استفهام في اللفظ وليس هذا استفهام استعلام بل تقريع وتوبيخ وإنكار وليس بإخبار فهو إذا متضمن لاستفهام سابق مدلول عليه بقوة الكلام وسياقه ودلت أم عليه لأنها لا تكون إلا بعد تقدم استفهام كأنه يقول أيقولون صادق أم يقولون شاعر وكذلك أم يقولون تقوله أي أتصدقونه أم تقولون تقوله
وكذلك أم حسبت أن أصحاب الكهف أي أبلغك خبرهم أم حسبت أنهم كانوا من آياتنا عجبا وتأمل كيف تجد هذا المعنى باديا على صفحات قوله تعالى ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين النمل 20 كيف تجد المعنى أحضر أم كان من الغائبين
وهذا يظهر كل الظهور فيما إذا كان الذي دخلت عليه أم له ضد وقد حصل التردد بينهما فإذا ذكر أحدهما استغني به عن ذكر الآخر لأن الضد يخطر بالقلب وهو عند شعوره بضده
فإذا قلت ما لي لا أرى زيدا أم هو في الأموات كان المعنى الذي لا معنى للكلام سواه أحي هو أم في الأموات
وكذلك قوله تعالى أم أنا خير من هذا الذي هو مهين معناه أهو خير مني أم أنا خير منه
وكذلك قوله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم البقرة 214 هو استفهام إنكار معادل لاستفهام مقدر في قوة الكلام فإذا قلت لم فعلت هذا أم حسبت أن لا أعاقبك كان معناه أحسبت أن أعاقبك فأقدمت على العقوبة أم حسبت أني لا أعاقبك فجهلتها
وكذلك قوله أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم آل عمران 142 أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة بغير جهاد فتكونوا جاهلين أم لم تحسبوا ذلك فتكونوا مفرطين

وكذلك إذا قلت أم حسبت أن تنال العلم بغير جد واجتهاد معناه أحسبت أن تناله بالبطالة والهوينا فأنت جاهل أم لم تحسب ذلك فأنت مفرط
وكذلك أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات الجاثية 21 أي أحسبوا هذا فهم مغترون أم لم يحسبوه فما لهم مقيمون على السيئات وعلى هذا سائر ما يرد عليك من هذا الباب
وتأمل كيف يذكر سبحانه القسم الذي يظنونه ويزعمونه فينكره عليهم وأنه مما لا ينبغي أن يكون ويترك ذكر القسم الآخر الذي لا يذهبون إليه فتردد الكلام بين قسمين فيصرح بإنكار أحدهما وهو الذي سيق لإنكاره ويكتفي منه بذكر الآخر وهذه طريقة بديعة عجيبة في القرآن نذكرها في باب الأمثال وغيرها وهي من باب الإكتفاء عن غير الأهم بذكر الأهم لدلالته عليه فأحدهما مذكور صريحا والآخر ضمنا ولذلك أمثلة في القرآن يحذف منها الشيء للعلم بموضعه فمنها قوله تعالى وإذ قلنا البقرة 34 وإذ نجيناكم البقرة 49 وإذ فرقنا البقرة 50 وهو كثير جدا بواو العطف من غير ذكر عامل يعمل في إذ لأن الكلام في سياق تعداد النعم وتكرار الأقاصيص فيشير بالواو العاطفة إليها كأنها مذكورة في اللفظ لعلم المخاطب بالمراد ولما خفي هذا على بعض ظاهرية النحاة قال إن أو زائدة هنا وليس كذلك
ومن هذا الباب الواو المتضمنة معنى رب فإنك تجدها في أول الكلام كثيرا إشارة منهم إلى تعداد المذكور بعدها من فخر أو مدح أو غير ذلك
فهذه كلها معان مضمرة في النفس وهذه الحروف عاطفة عليها وربما صرحوا بذلك المضمر كقول ابن مسعود دع ما في نفسك وإن أفتوك عنه وأفتوك
ومن هذا الباب حذف كثير من الأجوبة في القرآن لدلالة الواو عليها لعلم المخاطب أن الواو عاطفة ولا يعطف بها إلا على شيء كقوله تعالى فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب يوسف 15 وكقوله تعالى حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها الزمر 71 وهذا الباب واسع في اللغة فهذا ما في هذه المسألة
وكان قد وقع لي هذا بعينه أمام المقام بمكة وكان يجول في نفسي فأضرب عنه صفحا لأني لم أره في مباحث القوم ثم رأيته بعد لفاضلين من النحاة أحدهما حام حوله وما ورد ولا أعرف اسمه والثاني أبو القاسم السهيلي رحمه الله فإنه كشفه وصرح

به وإذا لاحت الحقائق فكن أسعد الناس بها وإن جفاها الأغمار والله الموفق للصواب

فائدة بديعة إضمار حروف العطف
لا يجوز إضمار حرف العطف خلافا للفارسي ومن تبعه لأن الحروف أدلة على معان في نفس المتكلم فلو أضمرت لاحتاج المخاطب إلى وحي يسفر له عما في نفس مكلمه
وحكم حروف العطف في هذا حكم حروف النفي والتوكيد والترجي والتمني وغيرها اللهم إلا أن حروف الإستفهام قد يسوغ إضمارها في بعض المواطن لأن للمستفهم هيئة تخالف هيئة المخبر وهذا على قلته
فإن قيل فكيف تصنعون بقول الشاعر
كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... يثبت الود في فؤاد الكريم
أليس على إضمار حرف العطف وأصله كيف أصبحت وكيف أمسيت قيل ليس كذلك وليس حرف العطف مرادا هنا البتة ولو كان مرادا لانتقض الغرض الذي أراده الشاعر لأنه لم يرد انحصار الود في هاتين الكلمتين من غير مواظبة عليهما بل أراد أن تكرار هاتين الكلمتين دائما يثبت المودة
ولولا حذف الواو لانحصر إثبات الود في هاتين الكلمتين من غير مواظبة ولا استمرار عليها ولم يرد الشاعر ذلك وإنما أراد أن يجعل أول الكلام ترجمة على سائر الباب يريد الإستمرار على هذا الكلام والمواظبة عليه كما تقول قرأت ألفا باء جمعت هذه الحروف ترجمة لسائر الباب وعنوانا للغرض المقصود ولو قلت قرأت ألفا وباء لأشعرت بانقضاء المقروء حيث عطفت الباء على الألف دون ما بعدها فكان مفهوم الخطاب أنك لم تقرأ غير هذين الحرفين
وأحسن من هذا أن يقال دخول الواو هنا يفسد المعنى لأن المراد أن هذا اللفظ وحده يثبت الود وهذا وحده يثبته بحسب اللقاء فأيهما وجد مقتضيه وواظب عليه أثبت الود ولو أدخل الواو لكان لا يثبت الود إلا باللفظين معا
ونظير هذا أن تقول أطعم فلانا شيئا فيقول ما أطعمه فيقول أطعمه تمرا أقطا زبيبا لحما لم ترد جمع ذلك بل أردت أطعمه واحدا من هذه أيهما تيسر

ومنه الحديث الصحيح المرفوع تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره // رواه مسلم والنسائي وأحمد // ومنه قول عمر صلى رجل في إزاء ورداء في سراويل ورداء في تبان ورداء الحديث يتعين ترك العطف في هذا كله لا المراد الجمع
فإن قيل فما تقولون في قولهم اضرب زيدا عمرا خالدا أليس على حذف الواو
قيل ليس كذلك إذ لو كان على تقدير الواو لاختص الأمر بالمذكورين ولم يعدهم إلى سواهم وإنما المراد الإشارة بهم إلى غيرهم ومنه قولهم بوبت الكتاب بابا بابا وقسمت المال درهما درهما وليس على إضمار حرف العطف ولو كان كذلك لانحصر الأمر في درهمين وبابين وأما ما احتجوا به من قوله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه التوبة 92 والذي دعاهم إلى ذلك أن جواب إذا هو قوله تعالى تولوا وأعينهم تفيض من الدمع التوبة 92 ولم يكن عندك ما تحملهم عليه تولوا يبكون فيكون الواو في قلت مقدرة لأنها معطوفة على فعل الشرط وهو أتوك هذا تقرير احتجاجهم ولا حجة فيه لأنه جواب إذا في قوله قلت لا أجد والمعنى إذا أتوك لتحملهم لم يكن عندك ما تحملهم عليه فعبر عن هذا بقوله قلت لا أجد ما أحملكم عليه لنكتة بديعة وهي الإشارة إلى تصديقهم له وأنهم اكتفوا من علمهم بعدم الإمكان بمجرد إخباره لهم بقوله لا أجد ما أحملكم عليه بخلاف ما لو قيل لم يجدوا عندك ما تحملهم عليه فإنه يكون تبيين حزنهم خارجا عن إخباره
وكذلك لو قيل لم تجد ما تحملهم عليه لم يؤد هذا المعنى فتأمله فإنه بديع
فإن قيل فبأي شيء يرتبط قوله تولوا وأعينهم تفيض وهذا عطف على ما قبله فإنه ليس بمستأنف
فالجواب أن ترك العطف هنا من بديع الكلام لشدة ارتباطه بما قبله ووقوعه منه موقع التفسير حتى كأنه هو وتأمل مثل هذا في قوله تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين يونس 2 كيف لم يعطف فعل

القول بأداة عطف لأنه كالتفسير لتعجبهم والبدل من قوله تعالى أكان للناس عجبا فجرى مجرى قوله ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا الفرقان 69 فلما كان مضاعفة العذاب بدلا وتفسيرا ل أثاما لم يحسن عطفه عليه
وزعم بعض الناس أن من هذا الباب قول عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله لها فقال المعنى أعجبها حسنها وحب رسول الله وليس الأمر كذلك ولكن قوله حب رسول الله بدل من قوله هذه وهو من بدل الإشتمال والمعنى لا يغرنك حب رسول الله لهذه التي قد أعجبها حسنها ولا عطف هناك ولا حذف وهذا واضح بحمد الله

فائدة بديعة كل كل لفظ دال على الإحاطة بالشيء وكأنه من لفظ الإكليل
والكلالة والكلة مما هو في معنى الإحاطة بالشيء وهو اسم واحد في لفظه جمع في معناه ولو لم يكن معناه معنى الجمع لما جاز أن يؤكد به الجمع لأن التوكيد تكرار للمؤكد فلا يكون إلا مثله إن كان جمعا فجمع وإن كان واحدا فواحد
وحقه أن يكون مضافا إلى اسم منكر شائع في الجنس من حيث اقتضى الإحاطة فإن أضفته إلى معرفة كقولك كل إخوتك ذاهب قبح إلا في الإبتداء لأنه إذا كان مبتدأ في هذا الموطن كان خبره بلفظ الإفراد تنبيها على أن أصله أن يضاف إلى نكرة لأن النكرة شائعة في الجنس وهو أيضا يطلب جنسا يحيط به فإما أن تقول كل واحد من إخوتك ذاهب فيدل إفراد الخبر على المعنى الذي هو الأصل وهو إضافته إلى اسم مفرد نكرة فإن لم تجعله مبتدأ وأضفته إلى جملة معرفة كقولك رأيت كل إخوتك وضربت كل القوم لم يكن في الحسن بمنزلة ما قبله لأنك لم تضفه إلى جنس ولا معك في الكلام خبر مفرد يدل على معنى إضافته إلى جنس كما كان في قولهم كلهم ذاهب وكل القوم عاقل فإن أضفته إلى جنس معرف باللام نحو قوله تعالى فأخرجنا به من كل الثمرات الأعراف 57 حسن ذلك لأن اللام للجنس لا للعهد ولو كانت للعهد لقبح كما إذا قلت خذ من كل الثمرات التي عندك لأنها إذا كانت جملة معرفة معهودة وأردت معنى الإحاطة فيها فالأحسن أن تأتي بالكلام على أصله فتؤكد المعرفة ب كل فتقول خذ من الثمرات

التي عندك كلها لأنك لم تضطر عن إخراجها عن التوكيد كما اضطررت في النكرة حين قلت لقيت كل رجل لأن النكرة لا تؤكد وهي أيضا شائعة في الجنس كما تقدم
فإن قيل فإذا استوى الأمران كقولك كل من كل الثمرات وكل من الثمرات كلها فلم اختص أحد النظمين بالقرآن في موضع دون موضع
قيل هذا لا يلزم لأن كل واحد منه فصيح ولكن لا بد من فائدة في الإختصاص
أما قوله تعالى فأخرجنا به من كل الثمرات ف من ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف وإنما تريد الثمرات نفسها إلا أنه أخرج منها شيئا وأدخل من لبيان الجنس كله ولو قال أخرجنا به من الثمرات كلها لذهب الوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف وأن مفعول أخرجنا فيما بعد ولم يتوهم ذلك مع تقديم كل لعلم المخاطبين أن كلا إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس وإذا تأخرت وكانت توكيدا اقتضت الإحاطة بالمؤكد خاصة جنسا شائعا كان أو معهودا معروفا
وأما قوله تعالى كلي من كل الثمرات ولم يقل من الثمرات كلها ففيها الحكمة التي في الآية قبلها ومزيد فائدة وهو أنه تقدمها في النظم قوله تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب النحل 67 فلو قال بعدها كلي من الثمرات كلها لذهب الوهم إلى أنه يريد الثمرات المذكورة قبل هذا أعني ثمرات النخيل والأعناب لأن اللام إنما تنصرف إلى المعهود فكان الإبتداء بكل أحصن للمعنى وأجمع للجنس وأرفع للبس وأبدع في النظم فتأمله
وإذا قطعت عن الإضافة وأخذ عنها فحقها أن تكون ابتداء ويكون خبرها جمعا ولا بد من مذكورين قبلها لأنها إن لم تذكر قبلها جملة ولا أضيف إلى جملة بطل معنى الإحاطة فيها ولم يعقل لها معنى وإنما وجب أن يكون خبرها جمعا لأنها اسم في معنى الجمع فتقول كل ذاهبون إذا تقدم ذكر قوم لأنك معتمد في المعنى عليهم وإن كنت مخبرا عن كل فصارت بمنزلة قولك الرهط ذاهبون والنفر منطلقون لأن الرهط والنفر اسمان مفردان ولكنهما في معنى الجمع
والشاهد لما بيناه قوله سبحانه وكل في فلك يسبحون الأنبياء 33 كل إلينا راجعون الأنبياء 93 وكل كانوا ظالمين الأنفال 54 وإن كانت مضافة إلى ما بعدها في اللفظ لم تجد خبرها إلا مفردا للحكمة التي قدمتها قبل وهي

أن الأصل إضافتها إلى النكرة المفردة فتقول كل إخوتك ذاهب أي كل واحد منهم ذاهب ولم يلزم ذلك حين قطعتها عن الإضافة فقلت كل ذاهبون لأن اعتمادها إذا أفردت على المذكورين قبلها وعلى ما في معناها من معنى الجمع واعتمادها إذا أضيفتها على الإسم المفرد إما لفظا وإما تقديرا كقوله كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته // رواه البخاري ومسلم // ولم يقل راعون ومسؤولون ومنه كلكم سيروى ومنه قول عمر أو كلكم يجد ثوبين ولم يقل تجدون
ومثله قوله تعالى كل من عليها فان الرحمن 26 وقال تعالى كل له قانتون الروم 26 فجمع وقال تعالى إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا مريم 93
فإن قيل فقد ورد في القرآن كل يعمل على شاكلته الإسراء 84 كل كذب الرسل ق 14 وهذا يناقض ما أصلتم
قيل إن في هاتين الآيتين قرينة تقتضي تخصيص المعنى بهذا اللفظ دون غيره أما قوله تعالى قل كل يعمل على شاكلته فلأن قبلها ذكر فريقين مختلفين ذكر مؤمنين وظالمين فلو قال يعملون وجمعهم في الإخبار عنهم لبطل معنى الإختلاف فكان لفظ الإفراد أدل على المعنى المراد كأنه يقول كل فهو يعمل على شاكلته
وأما قوله كل كذب الرسل فلأنه ذكر قرونا وأمما وختم ذكرهم بذكر قوم تبع فلو قال كل كذبوا وكل إذا أفردت إنما تعتمد على أقرب المذكورين إليها فكان يذهب الوهم إلى أن الإخبار عن قوم تبع خاصة بأنهم كذبوا الرسل فلما قال كل كذب علم أنه يريد كل فريق منهم لأن إفراد الخبر عن كل حيث وقع إنما يدل على هذا المعنى كما تقدم
ومثله كل آمن بالله البقرة 285 وأما قولنا في كل إذا كانت مقطوعة عن الإضافة فحقها أن تكون مبتدأة فإنما يريد أنها مبتدأة يخبر عنها أو مبتدأة باللفظ منصوبة بفعل بعدها لا قبلها أو مجرورة يتعلق خافضها بما بعدها نحو وكلا وعد الله الحسنى النساء 95 وقول الشاعر
بكل تداوينا

ويقبح تقديم الفعل العامل فيها إذا كانت مفردة كقولك ضربت كلا ومررت بكل وإن لم يقبح كلا ضربت وبكل مررت من أجل أن تقديم العامل عليها يقطعها عن المذكور قبلها في اللفظ لأن العامل اللفظي له صدر الكلام وإذا قطعتها عما قبلها في اللفظ لم يكن لها شيء تعتمد عليه قبلها ولا بعدها فقبح ذلك
وأما إذا كان العامل معنويا نحو كل ذاهبون فليس بقاطع لها عما قبلها من المذكورين لأنه لا وجود له في اللفظ فإذا قلت ضربت زيدا وعمرا وخالدا وشتمت كلا وضربت كلا لم يجز ولم يعد بخبر لما قدمناه
إذا عرفت هذا فقولك كل إخوتك ضربت سواء رفعت أو نصبت يقتضي وقوع الضرب بكل واحد منهم وإذا قلت كل إخوتك ضربني يقتضي أيضا أن كل واحد منهم ضربك فلو قلت كل إخوتي ضربوني وكل القوم جاءوني احتمل ذلك واحتمل أن يكونوا اجتمعوا في الضرب والمجيء لأنك أخبرت عن جملتهم بخبر واقع عن الجملة بخلاف قولك كل إخوانك جاءني فإنما هو إخبار عن كل واحد منهم وأن الإخبار بالمجيء عنهم جميعهم فتأمل على هذا قوله تعالى قل كل يعمل على شاكلته كيف أفرد الخبر لأنه لم يرد اجتماعهم فيه وقال تعالى كل إلينا راجعون فجمع لما أريد الإجتماع في المجيء وهذا أحسن مما تقدم من الفرق فتأمله
ولا يرد على هذا قوله تعالى وله من في السموات والأرض كل له قانتون بل هو تحقيق له وشاهد لأن القنوت هنا هو العبودية العامة التي تشترك فيها أهل السموات والأرض لا يختص بها بعضهم عن بعض ولا يختص بزمان دون زمان وهي عبودية القهر فالقنوت هنا قنوت قهر وذل لا قنوت طاعة ومحبة وهذا بخلاف قوله تعالى كل من عليها فان فإنه أفرد لما لم يجتمعوا في الفناء
ونظيره قوله وكلكم مسؤول عن رعيته فإن الله يسأل كل راع بمفرده
ومما جاء مجموعا لاجتماع الخبر قوله تعالى كل في فلك يسبحون وما أفرد لعدم اجتماع الخبر قوله تعالى كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ص 12 14 فأفرد لما لم يجتمعوا في التكذيب
ونظيره في سورة ق كل كذب الرسل فحق وعيد ق 14 وتأمل كيف كشف قناع هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله تعالى وكلهم آتيه يوم

القيامة فردا مريم 95 كيف افرد آتيه لما كان المقصود الإشارة إلى أنهم وإن أتوه جميعا فكل واحد منهم منفرد عن كل فريق من صاحب أو قريب أو رفيق بل هو وحده منفرد فكأنه إنما أتاه وحده
وإن أتاه مع غيره لانقطاع تبعيته للغير وانفراده بشأن نفسه فهذا عندي أحسن من الفرق بالإضافة وقطعها والفرق بذلك فرقه السهيلي رحمه الله تعالى فتأمل الفرقين واستقرأ الأمثلة والشواهد
فصل كل ذلك لم يكن و لم يكن كل ذلك
وأما مسألة كل ذلك لم يكن ولم يكن كل ذلك ولم أصنع كله وكله لم أصنعه فقد أطالوا فيها القول وفرقوا بين دلالتي الجملة الفعلية والإسمية
وقالوا إذا قلت كل ذلك لم يكن وكله لم أصنعه فهو نفي للكل بنفي كل فرد من أفراده فيناقض الإيجاب الجزئي وإذا قلت لم أصنع الكل ولم يكن كل ذلك فهو نفي للكلية دون التعرض لنفي الأفراد فلا يناقضه الإيجاب الجزئي ولا بد من تقرير مقدمة تبنى عليها هذه المسألة وأمثالها وهي أن الخبر لا يجوز أن يكون أخص من المبتدأ بل يجوز أن يكون أعم منه أو مساويا له إذ لو كان أخص منه لكان ثابتا لبعض أفراده ولم يكن خبرا عن جملته فإن الأخص إنما يثبت لبعض أفراد الأعم
وأما إذا كان أعم منه فإنه لا يمتنع لأنه يكون ثابتا لجملة أفراد المبتدأ وغيرها وهذا غير ممتنع فإذا عرف ذلك فإذا كان المبتدأ لفظة كل الدال على الإحاطة والشمول وجب أن يكون الخبر المثبت حاصلا لكل فرد من أفراد كل والخبر المنفي مثبتا لكل فرد من أفراده سواء أضفت كلا أو قطعتها عن الإضافة فإن الإضافة فيها منوية معنى وإن سقطت لفظا فإذا قلت كلهم ذهب وكلكم سيروي أو كل ذهب وكل سيروى عم الحكم أفراد المبتدأ فإذا كان الحكم سلبا نحو كلهم لم يأت وكل لم يقم فكذلك
ولهذا يصح مقابلته بالإيجاب الجزئي نحو قوله وقد سئل أقصرت الصلاة أم نسيت فقال كل ذلك لم يكن فقال ذو اليدين بلى قد كان بعض ذلك // رواه مسلم // ومن هذا ما أنشده سيبويه رحمه الله تعالى
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع

أنشده برفع كل واستقبحه لحذف الضمير العائد من الخبر وغير سيبويه يمنعه مطلقا وينشد البيت منصوبا فيقول كله لم أصنع والصواب إنشاده بالرفع محافظة على النفي العام الذي أراده الشاعر وتمدح به عند أم الخيار ولو كان منصوبا لم يحصل له مقصوده من التمدح فإنه لم يفعل ذلك الذنب ولا شيئا منه بل يكون المعنى لم أفعل كل الذنب بل بعضه وهذا ينافي غرضه ويشهد لصحة قول سيبويه قراءة ابن عباس في سورة الحديد أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكل وعد الله الحسنى فهذا يدل على أن حذف العائد جائز وأنه غير قبيح
ومن هذا على أحد القولين قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون يونس 50 أجاز الزجاج أن تكون الجملة ابتدائية وقد حذف العائد من يستعجل وتقديره يستعجله منه المجرمون كما يحذف من الصلة والصفة والحال إذا دل عليه دليل ودعوى قبح حذفه من الخبر مما لا دليل عليها
وللكلام في تقرير هذه المسألة موضع آخر والمقصود أن إنشاد البيت بالنصب محافظة على عدم الحذف إخلال شديد بالمعنى
وأما إذا تقدم النفي وقلت لم أصنع كله ولم أضرب كلهم كأنك لم تتعرض للنفي عن كل فرد فرد وإنما نفيت فعل الجميع ولم تنف فعل البعض ألا ترى أن قولك لم أصنع الكل مناقض لقولك صنعت الكل والإيجاب الكلي يناقضه السلب الجزئي ألا ترى إلى قولهم لم أرد كل هذا فيما إذا فعل ما يريده وغيره فتقول لم أرد كل هذا ولا يصح أن تقول كل هذا لم أرده فتأمله فهذا تقرير هذه المسألة وقد أغناك عن ذلك التطويل المتعب القليل الفائدة فصل إضافة كل للمخاطبين
واعلم أن كلا من ألفاظ الغيبة فإذا أضفته إلى المخاطبين جاز لك أن تعيد المضمر عليه بلفظ الغيبة مراعاة للفظه وأن تعيده بلفظ الخطاب مراعاة لمعناه فتقول كلكم فعلتم وكلكم فعلوا
فإن قلت أنتم كلكم فعلتم وأنتم كلكم بينكم درهم فإن جعلت أنتم مبتدأ وكلكم تأكيدا قلت أنتم كلكم فعلتم وبينكم درهم لتطابق المبتدأ وإن جعلت كلكم مبتدأ ثانيا جاز لك وجهان أحدهما أن تقول فعلوا وبينهم درهم مراعاة للفظ

كل وأن تقول فعلتم وبينكم درهم عملا على المعنى لأن كلا في المعنى للمخاطبين فائدة كلا وكلتا بين الكوفيين والبصريين
اختلف الكوفيون والبصريون في كلا وكلتا
فذهب البصريون إلى أنها اسم مفرد دال على الإثنين فيجوز عود الضمير إليه باعتبار لفظه وهو الأكثر ويجوز عوده باعتبار معناه وهو الأقل وألفها لام الفعل ليست ألف تثنية عندهم
ولهم حجج منها أنها في الأحوال الثلاثة مع الظاهر على صورة واحدة والمثنى ليس كذلك وأما انقلابها ياء مع الضمير فلا يدل على أنها ألف تثنية كألف على وإلى ولدى هذا قول الخليل وسيبويه واحتجوا أيضا بقولهم كلاهما ذاهب دون ذاهبان وسيبويه لم يحتج بهذه الحجة لما تقدم من أنك إذا أضفت لفظ كل أفردت خبره مع كونه دالا على الجمع حملا على المعنى لأن قولك كلكم راع بمنزلة كل واحد منكم راع فكذا قولك كلاكما قائم أي كل واحد منكما قائم
فإن قيل بل أفرد الخبر عن كل وكلا لأنهما اسمان مفردان قيل هذا يبطل بتوكيد الجمع والتثنية بهما وكما لا ينعت الجمع والمثنى بالواحد فكذلك لا يؤكد به بطريق الأولى لأن التوكيد تكرار للمؤكد بعينه بخلاف النعت فإنه عينه بوجه والمعول عليه لمن نصر مذهب سيبويه على الحجة الأولى على ما فيها وعلى معارضتها بتوكيد الإثنين وكلا والمثنى لا يؤكد بالمفرد كما قررناه
فإن قيل الجواب عن هذا أن كلا اسم للمثنى فحسن التوكيد به وحصلت المطابقة باعتبار مدلوله وهو المقصود من الكلام فلا يضر إفراد اللفظ قيل هذا يمكن في الجمع أن يكون لفظه واحدا ومعناه جمعا نحو كل وأسماء الجموع ك رهط وقوم لأن الجموع قد اختلفت صورها أشد اختلاف فمذكر ومؤنث مسلم ومكسر على اختلاف ضروبه وما لفظه على لفظ واحد كما تقدم بيانه فليس ببدع أن يكون صورة اللفظ مفردا ومعناه جمعا
وأما التثنية فلم تختلف قط بل لزمت طريقة واحدة أين وقعت فبعيد جدا بل ممتنع أن يكون منها اسم فرد معناه مثنى وليس معكم إلا القياس على الجمع

وقد وضح الفرق بينهما فتعين أن تكون كلا لفظا مثنى ينقلب ألفه ياء مع المضمر دون المظهر لأنك إذا أضفته إلى ظاهر استغنيت عن قلب ألفه ياء بانقلابها في المضاف إليه لتنزله منزلة الجزئية لدلالة اللفظ على مدلول واحد لأن كلا هو نفس ما يضاف إليه بخلاف قولك ثوبا الرجلين وفرسا الزيدين فلو قلت مررت بكلا الرجلين جمعت بين علامتي تثنية فيما هو كالكلمة الواحدة لأنهما لا ينفصلان أبدا ولا تنفك هذه عن الإضافة بحال ألا ترى كيف رفضوا ضربت رأسي الزيدين وقالوا رؤوسهما لما رأوا المضاف والمضاف إليه كاسم واحد هذا مع أن الرؤوس تنفصل عن الإضافة كثيرا
وكذلك القلوب من قوله صغت قلوبكما التحريم 4 فإذا كانوا قد رفضوا علامة التثنية هناك مع أن الإضافة عارضة فما ظنك بهذا الموضع الذي لا تفارقه الإضافة ولا تنفك عنه فهذا الذي حملهم على أن ألزموها الألف على كل حال وكان هذا أحسن من إلزام طيء وخثعم وبني الحرث وغيرهم المثنى للألف في كل حال نحو الزيدان والعمران فإذا أضافوه إلى الضمير قلبوا ألفه في النصب والجر لأن المضاف إليه ليس فيه علامة إعراب ولا يثنى بالياء ولكنه أبدا بالألف فقد زالت العلة التي رفضوها في الظاهر وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله كما ترى وإن كان سيبويه المعظم المقدم في الصناعة فمأخوذ من قوله ومتروك
ومما يدل على صحة هذا القول أن كلا يفهم من لفظه ما يفهم من لفظ كل وهو موافق له في فاء الفعل وعينه وأما اللام فمحذوفة كما حذفت في كثير من الأسماء فمن ادعى أن لام الفعل واو وأنه من غير لفظ كل فليس له دليل يعضده ولا اشتقاق يشهد له
فإن قيل فلم رجع الضمير إليها بلفظ الإفراد إذا كانت مثناة
قيل لما تقدم من رجوع الضمير على كل لذلك إيذانا بأن الخبر عن كل واحد واحد فكأنك قلت كل واحد من الرجلين قام وفيه نكتة بديعة وهي أن عود الضمير بلفظ الإفراد أحسن لأنه يتضمن صدور الفعل عن كل واحد منفردا به ومشاركا للآخر
فإن قيل فلم كسرت الكاف من كلا وهي من كل مضمومة
قيل هذا لا يلزمهم لأنهم لم يقولوا إنها لفظة كل بعينها ولهم أن يقولوا كسرت تنبيها على معنى الإثنين كما يبتدأ لفظ الإثنين بالكسر ولهذا كسروا العين من عشرين إشعارا بتثنية عشر

ومما يدل على صحة هذا القول أيضا أن كلتا بمنزلة قولك ثنتا ولا خلاف أن ألف ثنتا ألف تثنية فكذلك ألف كلتا ومن ادعى أن الأصل فيها كلواهما فقد ادعى ما تستبعده العقول ولا يقوم عليه برهان
ومما يدل أيضا على صحته أنك تقول في التوكيد مررت بإخوتك ثلاثتهم وأربعتهم فتؤكد بالعدد فاقتضى القياس أن تقول أيضا في التثنية كذلك مررت بأخويك اثنيهما فاستغنوا عنه بكليهما لأنه في معناه وإذا كان كذلك فهو مثنى مثله
فإن قيل فإنك تقول كلا أخويك جاء ولا تقول اثنا أخويك جاء فدل على أنه ليس في معناه
قيل العدد الذي يؤكد به إنما يكون تأكيدا مؤخرا تابعا لما قبله فأما إذا قدم لم يجز ذلك لأنه في معنى الوصف والوصف لا يقدم على الموصوف فلا تقول ثلاثة إخوتك جاؤوني وهذا بخلاف كل وكلا وكلتا لأن فيها معنى الإحاطة فصارت كالحرف الداخل لمعنى فيما بعده فحسن تقديمهما في حال الإخبار عنها وتأخيرهما في حال التوكيد فهذا في هذا المذهب كما ترى فائدة تأكيد المفرد بأجمع
لا يؤكد ب أجمع المفرد مما يعقل ولا ما حقيقته لا تتبعض وهذا إنما يؤكد به ما يتبعض كجماعة من يعقل فجرى مجرى كل
فإن قيل فقد تقول رأيت زيدا أجمع إذا رأيته بارزا من طاقة ونحوه
قيل ليس هذا توكيدا في الحقيقة لزيد لأنك لا تريد حقيقته وذاته وإنما تريد به ما تدرك العين منه وأجمع هذه اسم معرفة بالإضافة وإن لم يكن مضافا في اللفظ لأن معنى قبضت المال أجمع أي كله فلما كان مضافا في المعنى تعرف وأكد به المعرفة وإنما استغنوا عن التصريح بلفظ المضاف إليه معه ولم يستغن عن لفظ المضاف مع كل إذا قلت قبضت المال كله لأن كلا تكون توكيدا وغير توكيد وتتقدم في أول الكلام نحو كلكم ذاهب فصار بمنزلة نفسه وعينه لأن كل واحد منهما يكون توكيدا وغير توكيد فإذا أكدته لم يكن بد من إضافته إلى ضمير المؤكد حتى يعلم أنه توكيد وليس كذلك أجمع لأنه لا يجيء إلا تابعا لما قبله فاكتفى بالإسم الظاهر المؤكد واستغنى به عن التصريح بضميره كما فعل بسحر حين أردته ليوم

بعينه فإنه عرف بمعنى الإضافة واستغنى عن التصريح بالمضاف إليه اتكالا على ذكر اليوم قبله
فإن قيل ولم لم تقدم أجمع كما قدم كل
قيل الجواب أن فيه معنى الصفة لأنه مشتق من جمعت فلم يكن يقع تابعا بخلاف كل ومن أحكامه أنه لا يثنى ولا يجمع على لفظه أما امتناع تثنيته فلأنه وضع لتأكيد جملة تتبعض فلو ثنيته لم يكن في قولك أجمعا توكيد لمعنى التثنية كما في كليهما لأن التوكيد تكرار المعنى المذكور إذا قلت درهمان أفدت أنهما اثنان فإذا قلت كلاهما كأنك قلت اثناهما ولا يستقيم ذلك في أجمعان لأنه بمنزلة من يقول أجمع وأجمع كالزيدان بمنزلة زيد وزيد فلم يفدك أجمعان تكرار معنى التثنية وإنما أفادك تثنية واحدة بخلاف كلاهما فإنه ليس بمنزلة قولك كل وكل وكذلك اثناهما المستغنى عنه بكليهما لا يقال فيهما اثن وإثن فإنما هي تثنية لا تنحل ولا تنفرد فلم يصلح لتأكيد معنى التثنية غيرها فلا ينبغي أن يؤكد معنى التثنية والجمع إلا بما لا واحد له من لفظه كيلا يكون بمنزلة الأسماء المفردة المعطوف بعضها على بعض بالواو وهذه علة امتناع الجمع فيه لأنك لو جمعته كان جمعا لواحد من لفظه ولا يؤكد معنى الجمع إلا بجمع لا ينحل إلى الواحد
فإن قيل هذا ينتقض بأجمعين وأكتعين فإن واحده أجمع وأكتع
قيل سيأتي جوابه وإن شئت قلت إن أجمع في معنى كل وكل لا يثنى ولا يجمع إنما يثنى ويجمع الضمير الذي يضاف إليه كل
وأما قولهم في تأنيثه جمعاء فلأنه أقرب إلى باب أحمر وحمراء من باب أفضل وفضلى فلذلك لم يقولوا في تأنيثه جمعى ككبرى
ودليل ذلك أنه لا يدخله الألف واللام ولا يضاف صريحا فكان أقرب إلى باب أفعل وفعلى وإن خالفه في غير هذا
وأما أجمعون وأكتعون فليس بجمع ل أجمع وأكتع ولا واحد له من لفظه وإنما هو لفظ وضع لتأكيد الجمع بوزن الإسمين بمنزلة أثينون تصغير الإثنان فإنه جمع مسلم ولا واحد له من لفظه والدليل على ذلك أنه لو كان واحد أجمعين أجمع لما قالوا في المؤنث جمعاء لأن فعل بفتح العين لا يكون واحده فعلاء وجمعاء التي هي مؤنث أجمع لو جمعت لقيل جمعاوات أو جمع بوزن حمر

وأما فعل بوزن كبر فجمع لفعلى وإنما جاء أجمعون على وزن أكرمون وأرذلون لأن فيه طرفا من معنى التفضيل كما في الأكرمين والأرذلين وذلك أن الجموع تختلف مقاديرها فإن كثر العدد احتج إلى كثرة التوكيد حرصا على التحقيق ورفعا للمجاز
فإذا قلت جاء القوم كلهم وكان العدد كثيرا توهم أنه قد شذ منهم البعض فاحتيج إلى توكيد أبلغ من الأول فقالوا أجمعون أكتعون فمن حيث كان أبلغ من التوكيد الذي قبله دخله معنى التفضيل ومن حيث دخله معنى التفضيل جمع جمع السلامة كما يجمع أفعل الذي فيه ذلك المعنى جمع السلامة ك أفضلون ويجمع مؤنثه على فعل كما يجمع مؤنث ما فيه من التفضيل وأما أجمع الذي هو توكيد الإسم الواحد فليس فيه من معنى التفضيل شيء وكان كباب أحمر ولذلك استغنى أن يقال كلاهما أجمعان كما يقال كلهم أجمعون لأن التثنية أدنى من أن يحتاج إلى توكيدها إلى هذا المعنى فثبت أن أجمعون لا واحد له من لفظه لأنه توكيد لجمع من يعقل وأنت لا تقول فيمن يعقل جاءني زيد أجمع فكيف يكون جاءني الزيدون أجمعون جمعا له وهو غير مستعمل في الإفراد
وسر هذا ما تقدم وهو أنهم لا يؤكدون مع الجمع والتثنية إلا بلفظ لا واحد له ليكون توكيدا على الحقيقة لأن كلا جمع ينحل لفظه إلى الواحد فهو عارض في معنى الجمع فكيف يؤكد به معنى الجمع والتوكيد تحقيق وتثبيت ورفع للبس والإبهام فوجب أن يكون مما يثبت لفظا ومعنى وأما حذف التنوين من جمع فكحذفه من سحر لأنه مضاف في المعنى
فإن قيل ونون الجمع محذوفة في الإضافة أيضا فهلا حذفت من أجمعين لأنه مضاف في المعنى
قيل الإضافة المعنوية لا تقوى على حذف النون المتحركة التي هي كالعرض من الحركة والتنوين ألا ترى أن نون الجمع تثبت مع الألف واللام وفي الوقف والتنوين بخلاف ذلك فقويت الإضافة المعنوية على حذفه ولم تقو على حذف النون إلا الإضافة اللفطية
فإن قيل ولم كانت الإضافة اللفظية أقوى من المعنوية والعامل اللفظي أقوى من المعنوي
قيل اللفظي لا يكون إلا متضمنا لمعناه فإذا اجتمعا معا كان أقوى من المعنى المفرد عن اللفظ فوجب أن تكون أضعف وهذا ظاهر لمن عدل وأنصف

بسم الله الرحمن الرحيم

فائدة بديعة لفظ العين وإطلاقها دلالات العين
العين يراد بها حقيقة الشيء المدركة بالعيان أو ما يقوم مقام العيان وليست اللفظة على أصول موضوعها لأن أصلها أن يكون مصدرا وصفة لمن قامت به ثم عبر عن حقيقة الشيء بالعين كما عبر عن الوحش بالصيد وإنما الصيد في أصل موضوعه مصدر من صاد يصيد ومن ههنا لم يرد في الشريعة عبارة عن نفس الباري سبحانه وتعالى لأن نفسه سبحانه غير مدركة بالعيان في حقنا اليوم
وأما عين القبلة وعين الذهب وعين الميزان فراجعة إلى هذا المعنى
وأما العين الجارية فمشبهة بعين الإنسان لموافقتها لها في كثير من صفاتها
وأما عين الإنسان فمسماة بما أصله أن يكون صفة ومصدرا لأن العين في أصل الوضع مصدر كالدين والزين والبين والأين وما جاء على بنائه
ألا تراهم يقولون رجل عيون وعاين ويقولون عنته أصبته بالعين وعاينته رأيته بالعين وفرقوا بين المعنيين وكأن عاينته من الرؤية أولى من عنته لأنه بمنزلة المفاعلة والمقابلة فقد تقابلتما وتعاينتما بخلاف عنته فإنك تفرد بإصابته العين من حيث لا يشعر
ومما يدل على أنها مصدر في الأصل قوله تعالى عين اليقين التكاثر 7 كما قال علم اليقين التكاثر 5 وحق اليقين الواقعة 95 فالعلم والحق مصدران مضافان إلى اليقين فكذلك العين هكذا قال السهيلي رحمه الله تعالى وفيه نظر لأن إضافة عين إلى اليقين من باب قولهم نفس الشيء وذاته فعين اليقين نفس اليقين والعين التي هي عضو سميت عينا لأنها آلة ومحل لهذه الصفة التي هل العين
وهذا من باب قولهم امرأة ضيف وعدل تسمية للفاعل باسم المصدر والعين التي هي حقيقة الشيء ونفسه من باب تسمية المفعول بالمصدر كصيد

إضافة العين إلى الله
قال السهيلي إذا علمت هذا فاعلم أن العين أضيفت إلى الباري تعالى كقوله ولتصنع على عيني حقيقة لا مجازا كما توهم أكثر الناس لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك وإنما المجاز في تسمية العضو بها وكل شيء يوهم الكفر والتجسيم فلا يضاف إلى الباري تعالى لا حقيقة ولا مجازا
ألا ترى كيف كفر الرومية من النصارى حيث قالوا في عيسى إنه ولد على المجاز لا على الحقيقة فكفروا ولم يدروا
ألا ترى كيف لم يضف سبحانه إلى نفسه ما هو في معنى عين الإنسان كالمقلة والحدقة حقيقة ولا مجازا نعم ولا لفظ الإبصار لأنه لا يعطي معنى البصر والرؤية مجردا ولكنه يقتضي مع معنى البصر معنى التحديق والملاحظة ونحوهما
قلت كأنه رحمه الله غفل عن وصفه بالسميع البصير وغفل عن قوله في الحديث الصحيح لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه // رواه مسلم وابن ماجه وأحمد // وأما إلزامه التحديق والملاحظة ونحوها فهو كإلزام المعتزلة نظيره في الرؤية فهو منقول من هناك حرفا بحرف
وجوبه من وجوه
الأول ما تعني بالتحديق والملاحظة أمعنى البصر والإدراك أو قدرا زائدا عليهما غير ممتنع وصف الرب به أو معنى زائدا يمتنع وصفه به فإن عنيت الأولين منعنا انتفاء اللازم وإن عنيت الثالث منعنا الملازمة ولا سبيل إلى إثباتها بحال
الثاني أن هذا التحديق والملاحظة إنما تلزم الصفة من جهة إضافتها إلى المخلوق لا تلزمها مضافة إلى الرب تعالى
وهذا كسائر خصائص المخلوقين التي تطرقت الجهمية بها إلى نفي صفات الرب وهذا من جهلهم وتلبيسهم فإن خصائص صفات المخلوقين لا تلزم الصفة مضافة إلى الرب تعالى كما لا يلزم خصائص وجودهم وذاتهم وهذا مقرر في موضعه
وهذا الأصل الذي فارق أهل السنة طائفتي الضلال من المشبهة والمعطلة فعليك بمراعاته

الثالث قوله لا يعطي الإبصار معنى البصر والرؤية مجرد كلام لا حاصل تحته ولا تحقيق فإنه قد تقرر عقلا ونقلا أن لله تعالى صفة البصر ثابتة كصفة السمع فإن كان لفظ الإبصار لا يعطى الرؤية مجردة فكذلك لفظ السمع وإن أعطى السمع إدراك المسموعات مجردا فكذلك البصر فالتفريق بينهما تحكم محض
ثم نعود إلى كلامه قال وكذلك لا يضاف إليه سبحانه وتعالى من آلات الإدراك الأذن ونحوها لأنها في أصل الوضع عبارة عن الجارحة لا عن الصفة التي هي محلها فلم ينقل لفظها إلى الصفة أعني السمع مجازا ولا حقيقة إلا أشياء وردت على جهة المثل بما يعرف بأدنى نظر أنها أمثال مضروبة نحو الحجر الأسود يمين الله في الأرض // ضعيف منكر // وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع

الرحمن // صحيح // مما عرفت العرب المراد به بأول وهلة

قال وأما اليد فهي عندي في أصل الوضع كالمصدر عبارة عن صفة لموصوف قال
يديت على ابن خضخاض بن عمرو ... بأسفل ذي الحداة يد الكريم
ف يديت فعل مأخوذ من مصدر لا محالة والمصدر صفة موصوف ولذلك مدح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله أولي الأيدي والأبصار ص 45 ولم يمدحهم بالجوارح لأن المدح لا يتعلق إلا بالصفات لا بالجواهر
قلت المراد بالأيدي والأبصار هنا القوة في أمر الله تعالى والبصر بدينه فأراد أنهم من أهل القوى في أمره والبصائر في دينه فليست من يديت إليه يدا فتأمله مذهب الأشعري
قال وإذا ثبت هذا فصح قول أبي الحسن الأشعري إن اليد من قوله خلق آدم بيده // إسناده حسن // وقوله تعالى لما خلقت بيدي ص 76 صفة ورد

رد بها الشرع ولم يقل إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون من أصحابه ولا في معنى النعم ولا قطع بشيء من التأويلات تحرزا منه عن مخالفة السلف وقطع بأنها صفة تحرزا عن مذهب المشبهة مفهوم الصفات عند العرب
فإن قيل وكيف خوطبوا بما لا يفهمون ولا يستعملون
قلنا ليس الأمر كذلك بل كان معناها مفهوما عند القوم الذين نزل القرآن بلغتهم ولذلك لم يستفت واحد من المؤمنين عن معناها ولا خاف على نفسه توهم التشبيه ولا احتاج إلى شرح وتنبيه
وكذلك الكفار لو كان عندهم لا تعقل إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى التناقض واحتجوا بها على الرسول ولقالوا له زعمت أن الله تعالى ليس كمثله شيء ثم تخبر أن له يدا كأيدينا وعينا كأعينا ولما لم ينقل ذلك عن مؤمن ولا كافر علم أن الأمر كان فيها عندهم جليا لا خفيا وأنها صفة سميت الجارحة بها مجازا ثم استمر المجاز فيها حتى نسيت الحقيقة ورب
مجاز كثر واستعمل حتى نسي أصله وتركت حقيقته والذي يلوح في معنى هذه الصفة أنها قريب من معنى القدرة إلا أنها أخص منها معنى والقدرة أعم كالمحبة مع الإرادة والمشيئة وكل شيء أحبه الله فقد أراده وليس كل شيء أراده أحبه وكذلك كل شيء حادث فهو واقع بالقدرة وليس كل واقع بالقدرة واقعا باليد فاليد أخص من معنى القدرة ولذلك كان فيها تشريف لآدم

قلت أما قوله ليس كل شيء أراده فقد أحبه فهذا صحيح وهو أحد قولي الأشعري وقول المحققين من أصحابه وهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة والمعقول كما هو مقرر في موضعه
وأما قوله كل شيء أحبه فقد أراده فإن كان المراد أنه أراده بمعنى رضيه وأراده دينا فحق وإن كان المراد أنه أراده كونا فغير لازم فإنه سبحانه يحب طاعة عباده كلهم ولم يردها ويحب التوبة من كل عاص ولم يرد ذلك كله تكوينا إذ لو أراده لوقع فالمحبة والإرادة غير متلازمين فإنه يريد كون ما لا يحبه ويحب ويرضى بأشياء لا يريد تكوينها ولو أرادها لوقعت وهذا مقرر في غير هذا الموضع الفرق بين ولتصنع على عيني وقوله واصنع الفلك بأعيننا
قال ومن فوائد هذه المسألة أن نسأل كيف وردت الآية الأولى ب على والآية الثانية بالياء
الجواب لا بد أن نسأل عن المعنى الذي لأجله قال تعالى ولتصنع على عيني بحرف على وقال تعالى تجري بأعيننا القمر 14 و واصنع الفلك بأعيننا هود 37 بحرف الباء وما الفرق
إن الفرق أن الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفيا وإبداء ما كان مكتوما فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يغذون ويصنعون سرا فلما أراد أن يصنع موسى عليه السلام ويغذى ويربى على حال أمن وظهور لا تحت خوف واستسرار دخلت على في اللفظ تنبيها على المعنى لأنها تعطي الإستعلاء والإستعلاء ظهور وإبداء فكأنه يقول سبحانه وتعالى ولتصنع على أمن لا تحت خوف وذكر العين لتضمنها معنى الرعاية والكلاءة
وأما قوله تعالى تجري بأعيننا القمر 14 و اصنع الفلك بأعيننا هود 37 فإنه إنما يريد برعاية منا وحفظ ولا يريد إبداء شيء ولا إظهاره بعد كتم فلم يحتج في الكلام إلى معنى على بخلاف ما تقدم هذا كلامه ولم يتعرض رحمه الله تعالى لوجه الإفراد هناك والجمع هنا وهو من ألطف معاني الآية
والفرق بينهما يظهر من الإختصاص الذي خص به موسى في قوله تعالى واصطنعتك لنفسي طه 41 فاقتضى هذا الإختصاص الإختصاص الآخر في قوله ولتصنع على عيني طه 39 فإن هذه الإضافة إضافة تخصيص

وأما قوله تعالى تجري بأعيننا واصنع الفلك بأعيننا فليس فيه من الإختصاص ما في صنع موسى على عينه سبحانه وتعالى واصطناعه إياه لنفسه وما يسنده سبحانه إلى نفسه بصيغة ضمير الجمع قد يريد به ملائكته كقوله تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه القيامة 18 وقوله نحن نقص عليك يوسف 3 ونظائره فتأمله
قال وأما النفس فعلى أصل موضوعها إنما هي عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد وقد استعمل أيضا من لفظها النفاسة والشيء النفيس فصلحت للتعبير عنه سبحانه وتعالى بخلاف ما تقدم من الألفاظ المجازية
وأما الذات فقد استهوى أكثر الناس ولا سيما المتكلمين القول فيها أنها في معنى النفس والحقيقة
ويقولون ذات الباري هي نفسه ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله في قصة إبراهيم ثلاث كذبات كلهن في ذات الله // رواه البخاري ومسلم // وقول خبيب
وذلك في ذات الإله قال وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا ولو كان كذلك لجاز أن يقال عند ذات الله واحذر ذات الله كما قال تعالى ويحذركم الله نفسه آل عمران 28 وذلك غير مسموع ولا يقال إلا بحرف في الجارة وحرف في للوعاء وهو معنى مستحيل على نفس الباري تعالى إذا قلت جاهدت في الله تعالى وأحببتك في الله تعالى محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء وإنما هو على حذف المضاف أي في مرضاة الله وطاعته فيكون الحرف على بابه كأنك قلت هذا محبوب في الأعمال التي فيها مرضاة الله وطاعته وأما أن تدع اللفظ على ظاهرة فمحال
وإذا ثبت هذا فقوله في ذات الله أو في ذات الإله إنما يريد في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله فذات وصف للديانة وكذلك هي في الأصل موضوعها نعت لمؤنث
ألا ترى أن فيها تاء التأنيث وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرف

بالإضافة إلى الله تعالى عز و جل لا عن نفسه سبحانه وهذا هو المفهوم من كلام العرب ألا ترى قول النابغة الذبياني بجلتهم ذات الإله ودينهم ...
فقد بان غلط من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيف إليه وهذا من كلامه من المرقصات فإنه أحسن فيه ما شاء

أصل لفظة ذات أصل هذه اللفظة هو تأنيث ذو بمعنى صاحب فذات صاحبة كذا في
الأصل ولهذا لا يقال ذات الشيء إلا لما له صفات ونعوت تضاف إليه فكأنه يقول صاحبة هذه الصفات والنعوت ولهذا أنكر جماعة من النحاة منهم ابن برهان وغيره على الأصوليين قولهم الذات وقالوا لا مدخل للألف واللام هنا كما لا يقال الذو في ذو وهذا إنكار صحيح والإعتذار عنهم أن لفظة الذات في اصطلاحهم قد صارت عبارة عن الشيء نفسه وحقيقته وعينه فلما استعملوها استعمال النفس والحقيقة عرفوها باللام وجردوها ومن هنا غلطهم السهيلي فإن هذا الإستعمال والتجريد أمر اصطلاحي لا لغوي فإن العرب لا تكاد تقول رأيت الشيء لعينه ونفسه وإنما يقولون ذلك لما هو منسوب إليه ومن جهته وهذا كجنب الشيء إذا قالوا هذا في جنب الله لا يريدون إلا فيما ينسب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته لا يريدون غير هذا البتة
فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات على النفس والحقيقة ظن من ظن أن هذا هو المراد من قوله ثلاث كذبات في ذات الله وقوله وذلك في ذات الإله فغلط واستحق التغليط بل الذات هنا كالجنب في قوله تعالى يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله الزمر 56 ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال ههنا فرطت في نفس الله وحقيقته ويحسن أن يقال فرط في ذات الله كما يقال فعل كذا في ذات الله وقتل في ذات الله تعالى وصبر في ذات الله فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة التي يثنى على مثلها الخناصر والله الموفق المعين فائدة إبدال النكرة من المعرفة
ما الفائدة في إبدال النكرة من المعرفة وتبيينها بها فإن كانت الفائدة في النكرة فلم ذكرت المعرفة وإن كانت في المعرفة فما بال ذكر النكرة

قيل فيه نكتة بديعة وهي أن الحكم قد يعلق بالنكرة السابقة فتذكر ويكون الكلام في معرض أمر معين من الجنس مدحا أو ذما فلو اقتصر على ذكر المعرفة لاختص الحكم به ولو ذكرت النكرة وحدها لخرج الكلام عن التعرض لذلك المعين فلما أريد الجنس أتى بالنكرة ووضعت إشعارا بتعليق الحكم بالوصف ولما أتي بالمعرفة كان تنبيها على دخول ذلك المعين قطعا
ومثال ذلك قوله تعالى لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة العلق 16 فإن الآية كما قيل نزلت في أبي جهل ثم تعلق حكمها بكل من اتصف به فقال لنسفعن بالناصية تعيينا ناصية كاذبة لعدمه وتنبيها ولذلك اشترط في النكرة في هذا الباب أن تكون منعوتة لتحصيل الفائدة المذكورة وليتبين المراد
وأما قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا النحل 73 ففيها قولان أحدهما أن شيئا بدل من رزقه ورزقا أبين من شيئا لأنه أخص منه والأخص أبين من الأعم وجاز هذا من أجل تقدم النفي لأن النكرة إنما تفيد بالإخبار عنها بعد النفي فلما اقتضى النفي العام ذكر الإسم العام الذي هو أنكر النكرات ووقعت الفائدة به من أجل النفي صلح أن يكون بدلا من رزق
ألا ترى أنك لو طرحت الإسم الأول واقتصرت على الثاني لم يكون إخلالا بالكلام والقول الثاني أن شيئا هنا مفعول المصدر الذي هو الرزق وتقديره لا يملكون أن يرزقوا شيئا وهذا قول الأكثرين إلا أنه يرد عليهم أن الرزق هنا اسم لا مصدر لأنه بوزن الذبح والطحن للمذبوح والمطحون ولو أريد المصدر لجاء بالفتح نحو قول الشاعر يخاطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله وعفا عنه
واقصد إلى الخير ولا توقه ... وارزق عيال المسلمين رزقه
وقد يجاب عن هذا بأن الرزق من المصادر التي جاءت على فعل بكسر أوائلها كالفسق ويطلق على المصدر والإسم بلفظ واحد كالنسخ للمصدر والمنسوخ وبابه وهذا أحسن
والبيت لا نسلم أن راءه مفتوحة وإنما هي مكسورة وهذا اللائق بحال عمر ابن عبد العزيز والشاعر فإنه طلب منه أن يرزق عيال المسلمين رزق الله الذي هو المال المرزوق لا أنه يرزقهم كرزق الله الذي هو المصدر هذا مما لا يخاطب به أحد ولا يقصده عاقل والله أعلم

فائدة بديعة تفسير اهدنا الصراط المستقيم
قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم الفاتحة 6 7 فيها عشرون مسألة
أحدها ما فائدة البدل في الدعاء والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان والبدل القصد به بيان الإسم الأول
الثانية ما فائدة تعريف الصراط المستقيم باللام وهلا أخبر عنه بمجرد اللفظ دونها كما قال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم الشورى 52
الثالثة ما معنى الصراط ومن أي شيء اشتقاقه ولم جاء على وزن فعال ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن الكريم بهذا اللفظ
وفي سورة الأحقاف ذكر بلفظ الطريق فقال يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم الأحقاف 30
الرابعة ما الحكمة في إضافته إلى قوله تعالى الذين أنعمت عليهم بهذا اللفظ ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول صراط النبيين والصديقين فلم عدل إلى لفظ المبهم دون المفسر
الخامسة ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ الذي مع صلتها دون أن يقال المنعم عليهم وهو أخصر كما قال المغضوب عليهم وما الفرق
السادسة لم فرق بين المنعم عليهم والمغضوب عليهم فقال في أهل النعمة الذين أنعمت وفي أهل الغضب المغضوب بحذف الفاعل
السابعة لم قال اهدنا الصراط المستقيم فعدى الفعل بنفسه ولم يعده بإلى كما قال تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقال تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم الأنعام 87
الثامنة أن قوله تعالى الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم يقتضي أن نعمته مختصة بالأولين دون المغضوب عليهم ولا الضالين
وهذا حجة لمن ذهب إلى أنه لا نعمة له على كافر فهل هذا استدلال صحيح أم لا
التاسعة أن يقال لم وصفهم بلفظ غير وهلا قال تعالى لا المغضوب عليهم كما قال والضالين وهذا كما تقول مررت بزيد لا عمرو وبالعاقل لا الأحمق

العاشرة كيف جرت غير صفة على الموصوف وهي لا تتعرف بالإضافة وليس المحل محل عطف بيان إذ بابه الإعلام ولا محل لذلك إذ المقصود في باب البدل هو الثاني والأول توطئة وفي باب الصفات المقصود الأول والثاني بيان وهذا شأن هذا الموضع فإن المقصود ذكر المنعم عليهم ووصفهم بمغايرتهم معنى الغضب والضلال
الحادية عشرة إذا ثبت ذلك في البدل فالصراط المستقيم مقصود الإخبار عنه بذلك وليس في نية الطرح فكيف جاء صراط الذين أنعمت عليهم بدلا منه وما فائدة البدل هنا
الثانية عشرة أنه قد ثبت في الحديث الذي رواه الترمذي والإمام أحمد وابن أبي حاتم تفسير المغضوب عليهم بأنهم اليهود والنصارى بأنهم الضالون // حسن // فما وجه هذا التقسيم والإختصاص وكل من الطائفتين ضال مغضوب عليه
الثالثة عشرة لم قدم المغضوب عليهم في اللفظ على الضالين
الرابعة عشرة لم أتى في أهل الغضب بصيغة مفعول المأخوذة من فعل ولم يأت في أهل الضلال بذلك فيقال المضلين بل أتى فيهم بصيغة فاعل المأخوذة من فعل
الخامسة عشرة ما فائدة العطف ب لا هنا ولو قيل المغضوب عليهم والضالين لم يختل الكلام وكان أوجز
السادسة عشرة إذ قد عطف بها فيأتي العطف بها مع الواو للمنفى نحو ما قام زيد ولا عمرو وكقوله تعالى ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج التوبة 91 إلى قوله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم التوبة 92 وأما بدون الواو فبابها الإيجاب نحو مررت بزيد لا عمرو
السابعة عشرة هل الهداية هنا هداية التعريف والبيان أو هداية التوفيق والإلهام
الثامنة عشرة كل مؤمن مأمور بهذا الدعاء أمرا لازما لا يقوم غيره مقامه ولا بد منه وهذا إنما نسأله في الصلاة بعد هدايته فما وجه السؤال لأمر حاصل وكيف يطلب تحصيل الحاصل

التاسعة عشرة ما فائدة الإتيان بضمير الجمع في اهدنا والداعي يسأل ربه لنفسه في الصلاة وخارجها ولا يليق به ضمير الجمع ولهذا يقول رب اغفر لي وارحمني وتب علي
العشرون ما حقيقة الصراط المستقيم الذي يتصوره العد وقت سؤاله
فهذه أربع مسائل حقها أن تقدم أولا ولكن جر الكلام إليها بعد ترتيب المسائل الست عشرة
الجواب بعون الله وتعليمه أنه لا علم لأحد من عباده إلا ما علمه ولا قوة له إلا بإعانته

فائدة البدل في الدعاء
لقد وردت الآية في معرض التعليم للعباد والدعاء حق الداعي أن يستشعر عند دعائها ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به إذ الدعاء مخ العبادة والمخ لا يكون إلا في عظم والعظم في لحم ودم فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء وجب أن يكون الطلب ممزوجا بالثناء فمن ثم جاء لفظ الطلب للهداية والرغبة فيها مشوبا بالخير تصريحا من الداعي بمعتقده وتوسلا منه بذلك الإعتقاد الصحيح إلى ربه فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده أن صراط الحق هو الصراط المستقيم وأنه صراط الذين اختصهم بنعمته وحباهم بكرامته
فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا والداعي يجب عليهم اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه فلذلك أبدل وبين لهم ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان ففي ضمن هذا الدعاء المهم الإخبار بفائدتين جليلتين
إحداهما فائدة الخبر والفائدة الثانية فائدة لازم الخبر فأما فائدة الخبر فهي الإخبار عنه بالإستقامة وأنه الصراط المستقيم الذي نصبه لأهل نعمته وكرامته وأما فائدة لازم الخبر فإقرار الداعي بذلك وتصديقه وتوسله بهذا الإقرار إلى ربه فهذه أربع فوائد
الدعاء بالهداية إليه والخبر عنه بذلك والإقرار والتصديق لشأنه والتوسل إلى المدعو إليه بهذا التصديق وفيه فائدة خامسة وهي أن الداعي إنما أمر بذلك لحاجته إليه وأن سعادته وفلاحه لا تتم إلا به فهو مأمور بتدبير ما يطلب وتصور معناه فذكر له من أوصافه ما إذا تصور في خلده وقام بقلبه كان أشد طلبا له وأعظم رغبة فيه وأحرص على دوام الطلب والسؤال له فتأمل هذه النكت البديعة

فصل تعريف الصراط باللام
وأما المسألة الثانية وهي تعريف الصراط باللام اعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره ألا ترى أن قولك جالس فقيها أو عالما ليس كقولك جالس الفقيه أو العالم ولا قولك أكلت طيبا كقولك أكلت الطيب ألا ترى إلى قوله أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ثم قال ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق // رواه البخاري ومسلم // فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة وأدخلها على اسم الرب تعالى ووعده وكلامه
فإذا عرفت هذا فلو قال اهدنا صراطا مستقيما لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى صراط ما مستقيم على الإطلاق وليس المراد ذلك بل المراد الهداية إلى الصراط المعين الذي نصبه الله تعالى لأهل نعمته وجعله طريقا إلى رضوانه وجنته وهو دينه الذي لا دين له سواه فالمطلوب أمر معين في الخارج والذهن لا شيء مطلق منكر واللام هنا للعهد العلمي الذهني وهو أنه طلب الهداية إلى سر معهود قد قام في القلوب معرفته والتصديق به وتميزه عن سائر طرق الضلال فلم يكن بد من التعريف
فإن قيل لم جاء منكرا في قوله لنبيه ويهديك صراطا مستقيما الفتح 2 وقوله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم الشورى 52 وقوله تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم الأنعام 87 وقوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم الأنعام 161
فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو أنها ليست في مقام الدعاء والطلب وإنما هي في مقام الإخبار من الله تعالى عن هدايته إلى صراط مستقيم وهداية رسوله إليه ولم يكن للمخاطبين عهد به ولم يكن معروفا لهم فلم يجيء معرفا بلام العهد المشيرة إلى معروف في ذهن المخاطب قائم في خلده ولا تقدمه في اللفظ معهود تكون اللام معروفة إليه وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين أعني أن يكون لها معهود ذهني أو ذكر لفظي وإذ لا واحد منهما في هذه المواضع فالتنكير هو الأصل
وهذا بخلاف قوله اهدنا الصراط المستقيم فإنه لما تقرر عند المخاطبين أن لله

صراطا مستقيما هدي إليه أنبياءه ورسله وكان المخاطب سبحانه المسئول من هدايته عالما به دخلت اللام عليه فقال اهدنا الصراط المستقيم وقال السهيلي إن قوله تعالى ويهديك صراطا مستقيما نزلت في صلح الحديبية وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه وكان الله تعالى عما يقولون ورسوله أعلم فأنزل الله على رسوله هذه الآية فلم يرد صراطا مستقيما في الدين وإنما أراد صراطا في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تبارك وتعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم أي تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم
ولو قال في هذا الموطن إلى الصراط المستقيم لجعل للكفر وللضلال حظا من الإستقامة إذ الألف واللام تنبيء أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصلة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر أو ما قرب به في الوهم ولا يكون أحق به إلا أن يكون في الآخر طرف منه وغير خاف ما في هذين الجوابين من الضعف والوهن
أما قوله أن المراد بقوله ويهديك صراطا مستقيما في الحرب والمكيدة فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتن الله به على رسوله وأخبر النبي أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا وما فيها ومتى سمى الله الحرب والمكيدة صراطا مستقيما
وهل فسر هذه الآية أحد من السلف أو الخلف بذلك بل الصراط المستقيم ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمره أن يخبر بأن الله تعالى هداه إليه في قوله قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ثم فسره بقوله تعالى دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين الأنعام 161 ونصب دينا هنا على البدل من الجار والمجرور أي هداني دينا قيما أفتراه يمكنه ههنا أن يقول إن الحرب والمكيدة فهذا جواب فاسد جدا
وتأمل ما جمع الله سبحانه لرسوله في آية الفتح من أنواع العطايا وذلك خمسة أشياء أحدها الفتح المبين والثاني مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر والثالث هدايته الصراط المستقيم والرابع إتمام نعمته عليه والخامس إعطاء النصر العزيز وجمع سبحانه له بين الهدى والنصر لأن هذين الأصلين بهما كمال السعادة والفلاح فإن الهدى هو العلم بالله تعالى ودينه والعمل بمرضاته وطاعته فهو العلم النافع والعمل الصالح والنصر والقدرة التامة على تنفيذ دينه
فالحجة والبيان والسيف والسنان فهو النصر بالحجة واليد وقهر القلوب المخالفين له بالحجة وقهر أبدانهم باليد وهو سبحانه كثيرا ما يجمع بين هذين الأصلين إذ بهما

تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله كقوله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله التوبة 33 في موضعين في سورة براءة وفي سورة الصف
وقال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط الحديد 25 فهذا الهدى ثم قال وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد فهذا النصر فذكر الكتاب الهادي والحديد الناصر
وقال تعالى ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان آل عمران 1 4 فذكر إنزال الكتاب الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحق والباطل
وسر اقتران النصر بالهدى أن كلا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانا كما قال تعالى إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يون التقى الجمعان الأنفال 41 فذكر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان وهو يوم بدر وهو اليوم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم
ومن هذا قوله تعالى ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الأنبياء 48 فالفرقان نصره له على فرعون وقومه والضياء والذكر التوراة هذا هو معنى الآية ولم يصب من قال إن الواو زائدة وإن ضياء منصوب على الحال كما بينا فساده في الأمالي المكية فبين أن آية الفتح تضمنت الأصلين الهدى والنصر وأنه لا يصح فيها غير ذلك البتة
وأما جوابه الثاني عن قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم بأنه لو عرف لجعل للكفر والضلال حظا من الإستقامة فما أدري من أين جاء له هذا الفهم مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع رحمه الله تعالى وما هي إلا كبوة جواد ونبوة صارم
أفترى قوله تعالى وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم الصافات 117 118 يفهم منه أن لغيره حظا من الإستقامة وما ثم غيره إلا طرق الضلال وإنما الصراط المستقيم واحد وهو ما هدى الله تعالى إليه أنبياءه ورسله أجمعين وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال أنه يفهم منه أن لغيره حظا من الإستقامة بل يقال تعريفه ينبيء

أن لا يكون لغيره حظ من الإستقامة فإن التعريف في قوة الحصر فكأنه قيل الذي لا صراط مستقيم سواه وفهم هذا الإختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة فتأمله هنا وفي نظائره فصل

بيان اشتقاق الصراط وأما المسألة الثالثة وهي اشتقاق الصراط فالمشهور
أنه من صرطت الشيء أصرطه إذا بلعته بلعا سهلا فسمي الطريق صراطا لأنه يسترط المارة فيه والصراط ما جمع خمسة أوصاف أن يكون طريقا مستقيما سهلا مسلوكا واسعا موصلا إلى المقصود فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطا ولا الصعب المشتق ولا المسدود غير الموصول ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك قال جرير
أمير المؤمنين على صراط ... إذا أعوج الموارد مستقيم
وبنوا الصراط على زنة فعال لأنه مشتمل على سالكه اشتمال الحلق على الشيء المسروط وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء والغطاء والفراش والكتاب إلى سائر الباب
يأتي لثلاثة معان أحدها المصدر كالقتال والضراب والثاني المفعول نحو الكتاب والبناء والغراس والثالث أنه يقصد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها كالخمار والغطاء والسداد لما يخمر به ويغطى ويسد به فهذا آلة محضة والمفعول هو الشيء المخمر والمغطى والمسدود
ومن هذا القسم الثالث إله بمعنى مألوه وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن أنهم قالوا لقومهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم الأحقاف 30 وتعبيرهم عنه ههنا بالطريق فيه نكتة بديعة وهي أنهم قدموا قبله ذكر موسى وأن الكتاب الذي سمعوه مصدقا لما بين يديه من كتاب موسى وغيره فكان فيه كالنبأ عن رسول الله في قوله لقومه ما كنت بدعا من الرسل أي لم أكن أول رسول بعث إلى أهل الأرض بل قد تقدمت رسل من الله إلى الأمم وإنما بعثت مصدقا لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان فقال مؤمنوا الجن إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق

مستقيم أي إلى سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله وإنه ليس بدع كما قال في أول السورة نفسها فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ الطريق لأنه فعيل بمعنى مفعول أي مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه فذكر الطريق ههنا إذا أولى لأنه أدخل في باب الدعوة والتنبيه على تعين أتباعه والله أعلم ثم رأيت هذا المعنى بعينه قد ذكره السهيلي فوافق فيه الخاطر الخاطر فصل إضافة الصراط إلى الموصول المبهم
وأما المسألة الرابعة وهي إضافته إلى الموصول المبهم دون أن يقول صراط النبيين والمرسلين ففيه ثلاث فوائد
إحداها إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا فإن استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط فبه صاروا من أهل النعمة وهذا كما يعلق الحكم بالصلة دون الإسم الجامد لما فيه من الإنعام باستحقاق ما علق عليها من الحكم بها وهذا كقوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم البقرة 274 والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم الأحقاف 13 وهذا الباب مطرد فالإتيان بالإسم موصولا على هذا المعنى من ذكر الإسم الخاص
الفائدة الثانية إشارة إلى أن نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هدى إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه فالسائل مستشعر سؤاله الهداية وطلب الإنعام من الله عليه والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول يتضمن الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه والثاني يتضمن الطلب والإرادة وأن تكون منه
الفائدة الثالثة أن الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم فكان في الإتيان بالإسم العام من الفائدة أن المسئول الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وهذا أجل مطلوب وأعظم مسئول ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيرا وقرنه بأنفاسه فإنه لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه
ولما كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضا متكررا في اليوم والليلة لا يقوم

غيره مقامه ومن ثم يعلم تعين الفاتحة في الصلاة وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها فصل

قال أنعمت عليهم ولم يقل المنعم عليهم
وأما المسألة الخامسة وهي أنه قال الذين أنعمت عليهم ولم يقل المنعم عليهم كما قال المغضوب عليهم فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد وفيه فوائد عديدة
إحداها أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله
فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال المغضوب عليهم وقال في الإحسان الذين أنعمت عليهم
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين الشعراء 78 80 فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى ولما جاء إلى ذكر المرض قال وإذا مرضت ولم يقل أمرضني وقال فهو يشفين
ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا الجن 10 فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول
ومنه قول الخضر عليه الصلاة و السلام في السفينة فأردت أن أعيبها فأضاف العيب إلى نفسه وقال في الغلامين فأراد ربك أن يبلغا أشدهما الكهف 82
ومنه قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم البقرة 187 فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال وأحل الله البيع وحرم الربا البقرة 275 لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل
ومنه حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير المائدة 3 وقوله قل

تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا الأنعام 151 إلى آخرها
ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم النساء 33 إلى آخرها ثم قال وأحل لكم ما وراء ذلكم النساء 24 وتأمل قوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم النساء 16 كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع وقال في حق المؤمنين حرمت عليكم الميتة والدم
الفائدة الثانية أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله أنعمت عليهم من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون البقرة 152
الفائدة الثالثة أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال أنعمت عليهم أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه وهذا حقيقة العبودية
واليهود قد غضب الله عليهم فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم فحذف فاعل الغضب وقال المغضوب عليهم لما كان للمؤمنين نصيب من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإن لله وحده فتأمل هذه النكت البديعة
الفائدة الرابعة أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الإلتفات والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والإقتصار عليها وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى فإن قولك الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا فتأمل ذلك

فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الإلتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدم فصل تعدية الفعل بنفسه
وأما المسألة السابعة وهي تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف إلى فجوابها أن فعل الهداية يتعدى بنفسه تارة وبحرف إلى تارة وباللام تارة والثلاثة في القرآن
فمن المعدى بنفسه هذه الآية وقوله ويهديك صراطا مستقيما ومن المعدى ب إلى قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ومن المعدى باللام قوله في قول أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا الأعراف 43 وقوله تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الإسراء 9
والفروق لهذه المواضع تدق جدا عن أفهام العلماء ولكن نذكر قاعدة تشير إلى الفرق وهي أن الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن لا يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو رغبت عنه ورغبت فيه وعدلت إليه وعدلت عنه وملت إليه وعنه وسعيت إليه وسعيت به وأن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق نحو قصدت إليه وقصدت له وهديته إلى كذا وهديته لكذا وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر
وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدى به معناه
هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن
وهذا نحو قوله تعالى عينا يشرب بها عباد الله الإنسان 6 فإنهم يضمنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون في ذلك دليل على الفعلين

أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الإختصار وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها
ومنه قوله في السحاب شربن بماء البحر حتى روين ثم ترفعن وصعدن وهذا أحسن من أن يقال يشرب منها فإنه لا دلالة فيه على الري وأن يقال يروى بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم فإذا قال يشرب بها دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء فتأمله
ومن هذا قوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه الحج 25 وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء ولكن ضمن معنى يهم فيه بكذا وهو أبلغ من الإرادة فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه
ويكفي المثالان المذكوران فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عدي ب إلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية ومتى عدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الإختصاص والتعيين فإذا قلت هديته لكذا فهم معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته ونحو هذا وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعرف والبيان والإلهام
فالقائل إذا قال اهدنا الصراط المسقيم هو طالب من الله أن يعرفه إياه ويبينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه فجرد الفعل من الحرف وأتى به مجردا معدى بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها ولو عدي بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معنى الحرف فتأمله فإنه من دقائق اللغة وأسرارها فصل تخصيص أهل السعادة بالهداية
وأما المسألة الثامنة وهي أنه خص أهل السعادة بالهداية دون غيرهم فهذه مسألة اختلف الناس فيها وطال الحجاج من الطرفين وهي أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا
فمن ناف محتج بهذه وبقوله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا النساء 69 فخص هؤلاء بالإنعام فدل على أن غيرهم غير منعم عليه

ولقوله لعباده المؤمنين ولأتم نعمتي عليكم البقرة 150 وبأن الإنعام ينافي الإنتقام والعقوبة فأي نعمة على من خلق للعذاب الأبدي
ومن مثبت محتج بقوله وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إبراهيم 34 وقوله لليهود يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم البقرة 40 وهذا خطاب لهم في حال كفرهم وبقوله في سورة النحل التي عدد فيها نعمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون النحل 81 83 وهذا نص صريح لا يحتمل صرفا واحتجوا بأن البر والفاجر والمؤمن والكافر كلهم يعيش في نعمة الله وكل أحد مقر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته وهذا معلوم بالإضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابر وجحد حق الله تعالى وكفر بنعمته
وفصل الخطاب في المسألة أن النعمة المطلقة مختصة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها سواهم ومطلق النعمة عام للخليقة كلهم برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فالنعمة المطلقة التامة هي المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم فهذه غير مشتركة ومطلق النعمة عام مشترك فإذا أراد النافي سلب النعمة المطلقة للكافر أخطأ وإن أراد إثبات مطلق النعمة أصاب وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع ويتبين أن كل واحد من الفريقين معه خطأ وصواب والله الموفق للصواب
وأما قوله تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم ولهذا يعددها واحدة واحدة بأن أنجاهم من آل فرعون وأن فرق بهم البحر وأن وعد موسى أربعين ليلة فضلوا بعده ثم تاب عليهم وعفا عنهم وبأن ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من نعمه التي يعددها عليهم
وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم فأمرهم أن يذكروها ليدعوهم ذكرهم لها إلى طاعته والإيمان برسله والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته وكانت نعمته على آبائهم نعمة منه عليهم تستدعي منهم شكرا فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي وتكذيبكم له ومعاداتكم إياه وهذا لا يدل على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم والله أعلم

فصل غير مكان لا
وأما المسألة التاسعة وهي أنه قال غير المغضوب ولم يقل لا المغضوب عليهم فيقال لا ريب أن لا يعطف بها بعد الإيجاب كما تقول جاءني زيد لا عمرو وجاءني العالم لا الجاهل وأما غير فهي تابع لما قبلها وهي صفة ليس إلا كما سيأتي
وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف فتقول لو أخرج الكلام مخرج العطف وقيل صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما هو مقتضى العطف فإنك إذا قلت جاءني العالم لا الجاهل لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم وأما الإتيان بلفظ غير فهي صفة لما قبلها فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين
أحدهما أنهم منعم عليهم والثاني أنهم غير مغضوب عليهم فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم فإنه يتضمن صفتين ثبوتية وهي كونهم منعما عليهم وصفة سلبية وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب وأنهم مغايرون لأهله
ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المنعم عليهم ولم تكن صفة منصوبة على الإستثناء لأنه يزول منها معنى الوصفية المقصود وفيها فائدة أخرى وهي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المنعم عليهم دون أهل الإسلام فكأنه قيل لهم المنعم عليهم غيركم لا أنتم وقيل للمسلمين المغضوب عليهم غيركم لا أنتم فالإتيان بلفظة غير في هذا السياق أحسن وأدل على إثبات المغايرة المطلوبة فتأمله
وتأمل كيف قال المغضوب عليهم ولا الضالين ولم يقل اليهود والنصارى مع أنهم هم الموصوفون بذلك تجريدا لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم ولم يكونوا منهم بسبيل لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضال فتبارك من أودع كلامه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد

فصل جريان غير صفة على المعرفة
وأما المسألة العاشرة وهي جريان غير صفة على المعرفة وهي لا تتعرف بالإضافة ففيه ثلاثة أوجه
أحدها أن غير هنا بدل لا صفة وبدل النكرة من المعرفة جائز وهذا فاسد من وجوه ثلاثة
أحدها أن باب البدل المقصود فيه الثاني والأول توطئة له ومهاد أمامه وهو المقصود بالذكر فقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا آل عمران 97 المقصود هو أهل الإستطاعة خاصة وذكر الناس قبلهم توطئة وقولك أعجبني زيد علمه إنما وقع الإعجاب على علمه وذكرت صاحبه توطئة لذكره
وكذا قوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه البقرة 217 المقصود إنما هو السؤال عن القتال في الشهر الحرام لا عن نفس الشهر وهذا ظاهر جدا في بدل البعض وبدل الإشتمال ويراعى في بدل الكل من الكل ولهذا سمي بدلا إيذانا بأنه المقصود فقوله لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة المقصود لنسفعن بالناصبة الكاذبة الخاطئة وذكر المبدل منه توطئة لها وإذا عرف هذا فالمقصود هنا ذكر المنعم عليهم وإضافة الصراط إليهم ومن تمام هذا المقصود وتكميله الإخبار بمغايرتهم للمغضوب عليهم فجاء ذكر غير المغضوب مكملا لهذا المعنى ومتمما ومحققا لأن أصحاب الصراط المسئول هدايته هم أهل النعمة فكونهم غير مغضوب عليهم وصف محقق وفائدته فائدة الوصف المبين للموصوف المكمل له وهذا واضح
الوجه الثاني أن البدل يجري مجرى توكيد المبدل وتكريره وتثنيته ولهذا كان في تقدير تكرار العامل وهو المقصود بالذكر كما تقدم فهو الأول بعينه ذاتا ووصفا وإنما ذكر بوصف آخر مقصود بالذكر كقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ولهذا يحسن الإقتصار عليه دون الأول ولا يكون مخلا بالكلام
ألا ترى أنك لو قلت في غير القرآن لله حج البيت على من استطاع إليه السبيل لكان كاملا مستقيما لا خلل فيه ولو قلت في دعائك رب اهدني صراط من أنعمت عليه من عبادك لكان مستقيما وإذا كان كذلك فلو قدر الإقتصار على غير وما في حيزها لاختل الكلام وذهب معظم المقصود منه إذ المقصود إضافة الصراط إلى الذين أنعم الله عليهم لا إضافته إلى غير المغضوب عليهم بل أتى بلفظ غير زيادة في وصفهم والثناء عليهم فتأمله

الوجه الثالث أن غير لا يعقل ورودها بدلا وإنما ترد استثناء أو صفة أو حالا
وسر ذلك أنها لم توضع مستقلة بنفسها بل لا تكون إلا تابعة لغيرها ولهذا قلما يقال جاءني غير زيد ومررت بغير عمرو والبدل لا بدل أن يكون مستقلا بنفسه كما تبين أنه المقصود ونكتة الفرق أنك في باب البدل قاصد إلى الثاني متوجه إليه قد جعلت الأول سلما ومرقاة إليه فهو موضع قصدك ومحط إرادتك
وفي باب الصفة بخلاف ذلك إنما أنت قاصد الموصوف موضح له بصفته فجعل هذه النكتة معيارا على باب البدل والوصف ثم زن بها غير المغضوب عليهم هل يصح أن يكون بدلا أو وصفا
الجواب الثاني أن غير ههنا صح جريانه صفة على المعرفة لأنها موصولة والموصول مبهم غير معين ففيه رائحة من النكرة لإبهامه فإنه غير دال على معين فصلح وصفه ب غير لقربه من النكرة وهذا جواب صاحب الكشاف
فإن قلت كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وإن أضيف إلى المعارف قلت الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه فهو كقوله
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
ومعنى قوله لا توقيت فيه أي لا تعيين لواحد من واحد كما تعين المعرفة بل هو مطلق في الجنس فجرى مجرى النكرة واستشهاده بالبيت معناه أن الفعل نكرة وهو يسبني وقد أوقعه صفة للئيم المعرفة باللام لكونه غير معين فهو في قوة النكرة فجاز أن ينعت بالنكرة وكأنه قال على لئيم يسبني وهذا استدلال ضعيف فإن قوله يسبني حال منه لا وصف والعامل فيه فعل المرور المعني أمر على اللئيم سابا لي أي أمر عليه في هذه الحال فأتجاوزه ولا أحتفل بسبه
الجواب الثالث وهو الصحيح أن غير ههنا قد تعرفت بالإضافة فأن المانع لها من تعريفها شدة إبهامها أو عمومها في كل مغاير للمذكور فلا يحصل بها تعيين ولهذا تجري صفة على النكرة فتقول رجل غيرك يقول كذا ويفعل كذا فتجري صفة للنكرة مع إضافتها إلى المعرفة ومعلوم أن هذا الإبهام يزول لوقوعها بين متضادين يذكر أحدهما ثم تضيفها إلى الثاني فيتعين بالإضافة ويزول الإبهام الذي يمنع تعريفها بالإضافة كما قال
نحن بنو عمرو الهجان الأزهر ... النسب المعروف غير المنكر

أفلا تراه أجرى غير المنكر صفة على النسب كما أجرى عليه المعرف لأنهما صفتان معينتان فلا إبهام في غير لأن مقابلها المعروف وهو معرفة وضده المنكر متميز متعين كتعين المعرف أعني تعين الجنس
وهكذا قوله صراط الذين أنعمت عليهم فالمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم فإذا كان الأول معرفة كانت غير معرفة لإضافتها إلى محصل متميز غير مبهم فاكتسب منه التعريف
وينبغي أن تتفطن ههنا لنكتة لطيفة في غير تكشف لك حقيقة أمرها ف أين تكون معرفة وأين تكون نكرة وهي أن غيرا هي نفس ما تكون تابعة له وضد ما هي مضافة إليه فهي واقعة على متبوعها وقوع الإسم المرادف على مرادفه فإن المعرف هو تفسير غير المنكر والمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم
هذا حقيقة اللفظة فإذا كان متبوعها نكرة لم تكن إلا نكرة وإن أضيفت كما إذا قلت رجل غيرك فعل كذا وكذا وإذا كان متبوعها معرفة لم تكن إلا معرفة كما إذا قيل المحسن غير المسيء محبوب معظم عند الناس والبر غير الفاجر مهيب والعادل غير الظالم مجاب الدعوة فهذا لا تكون فيه غير إلا معرفة ومن ادعى فيها التنكير هنا غلط وقال ما لا دليل عليه إذ لا إبهام فيها بحال فتأمله
فإن قلت عدم تعريفها بالإضافة له سبب آخر وهي أنها بمعنى مغاير اسم فاعل من غاير كمثل بمعنى مماثل وشبه بمعنى مشابه وأسماء الفاعلين لا تعرف بالإضافة وكذا ما ناب عنها قلت اسم الفاعل إنما لا يتعرف بالإضافة إذا أضيف إلى معموله لأن الإضافة في تقدير الإنفصال نحو هذا ضارب زيد غدا وليست غير بعاملة فيما بعدها عمل اسم الفاعل في المفعول حتى يقال الإضافة في تقدير الإنفصال بل إضافتها إضافة محضة كإضافة غيرها من النكرات
ألا ترى أن قولك غيرك بمنزلة قولك سواك ولا فرق بينهما والله أعلم فصل إخراج صراط مخرج البدل
وأما المسألة الحادية عشرة وهي ما فائدة إخراج الكلام في قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم مخرج البدل مع أن الأول في نية الطرح

فالجواب أن قولهم الأول في البدل في نية الطرح كلام لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه بل البدل نوعان نوع يكون الأول فيه في نية الطرح وهو بدل البعض من الكل وبدل الإشتمال لأن المقصود هو الثاني لا الأول وقد تقدم
ونوع لا ينوي فيه طرح الأول وهو بدل الكل من الكل بل يكون الثاني بمنزلة التذكير والتوكيد وتقوية النسبة مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه من الفائدة المتجددة الزائدة على الأول فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار بحصول وصف المبدل للمبدل منه
فإنه لما قال اهدنا الصراط المستقيم فكأن الذهن طلب المعرفة ما إذا كان هذا الصراط مختصا بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله فقال صراط الذين أنعمت عليهم وهذا كما إذا دللت رجلا على طريق لا يعرفها وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها فأنت تقول هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك ثم تزيد ذلك عنده توكيدا وتقوية فتقول وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة
أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدرا زائدا على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة فإن النفوس مجبولة على التأسي والمتابعة فإذا ذكر لها من تتأسى به في سلوكها أنست واقتحمتها فتأمله فصل تفسير المغضوب عليهم و الضالين
وأما المسألة الثانية عشرة وهي ما وجه تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى مع تلازم وصفي الغضب والضلال
فالجواب أن يقال هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى فإن كل مغضوب عليه ضال وكل ضال مغضوب عليه لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع
أما اليهود فقال تعالى في حقهم بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله

بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين البقرة 90 وفي تكرار هذا الغضب هنا أقول
أحدها أنه غضب متكرر في مقابلة تكرر كفرهم برسول الله والبغي عليه ومحاربته فاستحقوا بكفرهم غضبا وبالبغي والصد عنه غضبا آخر
ونظيره قوله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب فالعذاب الأول بكفرهم والعذاب الذي زادهم إياه بصدهم الناس عن سبيله
القول الثاني أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح
القول الثالث أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح والغضب الثاني بكفرهم بمحمد
والصحيح في الآية أن التكرار هنا ليس المراد به التثنية التي تشفع الواحد بل المراد غضب بعد غضب بحسب تكرر كفرهم وإفسادهم وقتلهم الأنبياء وكفرهم بالمسيح وبمحمد ومعاداتهم لرسل الله إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضبا على حدته
وهذا كما في قوله فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين الملك 3 4 أي كرة بعد كرة لا مرتين فقط
وقصد التعدد في قوله فباءوا بغضب على غضب أظهر ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة وتحريفهم وتبديلهم يستدعي غضبا وتكذيبهم الأنبياء يستدعي غضبا آخر وقتلهم إياهم يستدعي غضبا آخر وتكذبيهم المسيح وطلبهم قتله ورميهم أمه بالبهتان العظيم يستدعي غضبا وتكذبيهم النبي يستدعي غضبا ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبا وصدهم من أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبا فهم الأمة الغضبية أعاذنا الله من غضبه فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر وكانوا أحق بهذا الإسم والوصف من النصارى
وقال تعالى في شأنهم قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت المائدة 60 فهذا غضب مشفوع باللعنة والمسخ وهو أشد ما يكون من الغضب
وقال تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم

ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون المائدة 78 80
وأما وصف النصارى بالضلال ففي قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل المائدة 77 فهذا خطاب للنصارى لأنه في سياق خطابه معهم بقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إلى قوله وضلوا عن سواء السبيل المائدة 72 77 فوصفهم بأنهم قد ضلوا أولا ثم أضلوا كثيرا وهم أتباعهم فهذا قبل مبعث النبي محمد حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلوا أتباعهم فلما بعث النبي ازدادوا ضلالا آخر بتكذيبهم له وكفرهم به فتضاعف الضلال في حقهم هذا قول طائفة منهم الزمخشري وغيره وهو ضعيف فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع فوصفهم بثلاث صفات
إحداها أنهم قد ضلوا من قبلهم والثانية أضلوا أتباعهم والثالثة أنهم ضلوا عن سواء السبيل فهذه صفات لأسلافهم الذين نهي هؤلاء عن اتباع أهوائهم فلا يصح أن يكون وصفا للموجودين في زمن النبي لأنهم هم المنهيون أنفسهم لا المنهي عنهم فتأمله
وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحق وهي نظير الآية التي تقدمت في تكرار الغضب في حق اليهود ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من اليهود ووجه تكرار هذا الضلال أن الضلال قد أخطأ نفس مقصوده فيكون ضالا فيه فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده ويعبد من لا ينبغي أن يعبده وقد يصيب مقصودا حقا لكن يضل في طريق طلبة والسبيل الموصلة إليه فالأول ضلال في الغاية والثاني ضلال في الوسيلة ثم إذا دعا غيره إلى ذلك فقد أضله
وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه وزعموا أن إلههم بشر يأكل ويشرب ويبكي وأنه قتل وصلب وصفع فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به وضلوا عن السبيل الموصلة إليه فلا اهتدوا إلى المطلوب ولا إلى الطريق الموصل إليه ودعوا أتباعهم إلى ذلك فضلوا عن

الحق وعن طريقه وأضلوا كثيرا فكانوا أدخل في الضلال من اليهود فوصفوا بأخص الوصفين
والذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة فخافوا أن يذهب بالإسلام فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق فإنهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء
ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة ومن عدم إرادته والعمل بها أخرى يتركب منها فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غير عليه بعد معرفته فلم يكن ضلالا محضا وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوبا عليهم ضالين
ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق والبغي يمنعه من إرادته كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفا وبيانا وإرشادا وإلهاما وتوفيقا وإعانة فيعلمه ويعرفه ثم يجعله مريدا له قاصدا لاتباعه فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على عمد وعلم والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال
كان السلف يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى وهذا كما قالوا فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكفر واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم وتلبيس الحق بالباطل فهذا شبهه باليهود ظاهر
وأما من فسد من العباد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلة الربوبية وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الإتحاد فشبهه بالنصارى ظاهر

فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشبهين غاية البعد ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين إنه قريب مجيب فصل تقديم المغضوب عليهم على الضالين
وأما المسألة الثالثة عشرة وهو تقديم المغضوب عليهم على الضالين فلوجوه
أحدها أنهم متقدمون عليهم بالزمان
الثاني أنهم كانوا هم الذين يلون النبي من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة والنصارى كانت ديارهم نائية عنه ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور
الثالث أن اليهود أغلظ كفرا من النصارى ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم
الرابع وهو أحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الإزدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين فقولك الناس منعم عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم أحسن من قولك منعم عليه وضال فصل اسم المفعول في المغضوب واسم الفاعل في الضال
وأما المسألة الرابعة عشرة وهي أنه أتى في أهل الغضب باسم المفعول وفي الضالين باسم الفاعل فجوابهما ظاهر فإن أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوب عليهم وأما أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا

الضلال واكتسبوه ولهذا استحقوا العقوبة عليه ولا يليق أن يقال ولا المضلين مبنيا للمفعول لما في رائحته من إقامة عذرهم وأنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم بل فعل فيهم
ولا حجة في هذا للقدرية فإنا نقول إنهم هم الذين ضلوا وإن كان الله أضلهم بل فيه رد على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلا إلا على جهة المجاز لا الحقيقة فتضمنت الآية الرد عليهم
كما تضمن قوله اهدنا الصراط المستقيم الرد على القدرية ففي الآية إبطال قول الطائفتين والشهادة لأهل الحق أنهم هم المصيبون وهم المثبتون للقدر توحيدا وخلقا والقدرة لإضافة أفعال العباد إليهم عملا وكسبا وهو متعلق الأمر والعمل كما أن الأول متعلق الخلق والقدرة فاقتضت الآية إثبات الشرع والقدر والمعاد والنبوة فإن النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه فالمنعم عليهم رسله وأتباعهم ليس إلا وهدى أتباعهم إنما يكون على أيديهم فاقتضى إثبات النبوة بأقرب طريق وأبينهما وأدلها على عموم الحاجة وشدة الضرورة إليها
وأنه لا سبيل للعبد أن يكون من المنعم عليهم إلا بهداية الله له ولا تنال هذه الهداية إلا على أيدي الرسل وأن هذه الهداية لها ثمرة وهي النعمة التامة المطلقة في دار النعيم ولخلافها ثمرة وهي الغضب المقتضي للشفاء الأبدي فتأمل كيف اشتملت هذه الآية مع وجازتها واختصارها على أهم مطالب الدين وأجلها والله الهادي إلى سواء السبيل وهو أعلم فصل زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه
وأما المسألة الخامسة عشرة وهي ما فائدة زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه ففي ذلك أربع فوائد
أحدها أن ذكرها تأكيد للنفي الذي تضمنه غير فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف عليها ب لا مع الواو فهو في قوة لا المغضوب عليهم ولا الضالين أو غير المغضوب عليهم وغير الضالين
الفائدة الثانية أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كل نوع بمفرده فلو لم

يذكر لا وقيل غير المغضوب عليهم والضالين أوهم أن المراد ما غاير المجموع المركب من النوعين لا م ؤا غاير كل نوع بمفرده فإذا قيل ولا الضالين كان صريحا في أن المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء
وبيان ذلك أنك إذا قلت ما قام زيد وعمرو فإنما نفيت القيام عنهما ولا يلزم من ذلك نفيه عن كل واحد منهما بمفرده
الفائدة الثالثة رفع توهم أن الضالين وصف للمغضوب عليهم وأنهما صنف واحد وصفوا بالغضب والضلال ودخل العطف بينهما كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض نحو قوله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون المؤمنون 1 3 إلى آخرها فإن هذه صفات المؤمنين ومثل قوله سبح اسم ربك الأعلى الذين خلق فسوى والذي قدر فهدى الأعلى 1 3 ونظائره
فلما دخلت لا علم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر وكانت لا أولى بهذا المعنى من غير لوجوه
أحدها أنها أقل حروفا
الثاني التفادي من تكرار اللفظ
الثالث الثقل الحاصل بالنطق ب غير مرتين من غير فصل إلا بكلمة مفردة ولا ريب أنه ثقيل على اللسان
الرابع أن لا إنما يعطف بها بعد النفي فالإتيان بها مؤذن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم كما نفى عنهم الضلال وغير وإن أفهمت هذا فلا أدخل في النفي منها وقد عرف بهذا جواب المسألة السادسة عشرة وهي أن لا إنما يعطف بها في النفي فصل معنى الهداية
فالمسألة السابعة عشرة وهي أن الهداية هنا من أي أنواع الهدايات فاعلم أن أنواع الهداية أربعة
أحدها الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى طه 50 أي أعطى كل شيء صورته التي لا

يشتبه فيها بغيره وأعطى كل عضو شكله وهيئته وأعطى كل موجود خلقه المختص به ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال
وهذه هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره وهداية الجمال المسخر لما خلق له فله هداية تليق به كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها
وكذلك كل عضو له هداية تليق به فهدى الرجلين للمشي واليدين للبطش والعمل واللسان للكلام والأذن للإستماع والعين لكشف المرئيات وكل عضو لما خلق له وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الإزدواج والتناسل وتربية الولد وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه مراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو فتبارك الله رب العالمين
وهدى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومن الأبنية ثم تسلك سبل ربها مذللة لها لا تستعصي عليها ثم تأوي إلى بيوتها وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والإئتمام به أين توجه بها ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة البناء ومن تأمل بعض هدايته المثبوتة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم
وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر وأول وهلة وأحسن طريق وأخصرها وأبعدها من كل شبهة فإنه لم يهمل هذه الحيوانات سدى ولم يتركها معطلة بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود الذي كرمه وفضله على كثير من خلقه مهملا وسدى معطلا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته بل يتركه معطلا لا يأمره ولا ينهاه ولا يثبه ولا يعاقبه وهل هذا إلا مناف لحكمته ونسبته له مما لا يليق بجلاله
ولهذا أنكر ذلك على من زعمه ونزه نفسه عنه وبين أنه يستحيل نسبة ذلك إليه وأنه يتعالى عنه فقال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق المؤمنون 115 116 فنزه نفسه عن هذا الحسبان فدل على أنه مستقر بطلانه في الفطر السليمة والعقول المستقيمة وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل وأنه مما تظاهر عليه العقل والشرع وكما هو أصح الطريقين في ذلك
ومن فهم هذا فهم سر اقتران قوله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون الأنعام 38

بقوله تعالى وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون الأنعام 37 وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة وأن من لم يهمل أمر كل دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه بل جعلها أمما وهداها إلى غاياتها ومصالحها وكيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم فهذه أحد أنواع الهداية وأعمها
النوع الثاني هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر وطريقي النجاة والهلاك وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام فإنها سبب وشرط لا موجب ولهذا ينبغي الهدى معها كقوله تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فصلت 17 أي بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا ومنها قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم الشورى 52
النوع الثالث هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للإهتداء فلا يتخلف عنها وهي المذكورة في قوله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فاطر 8 وفي قوله إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل النحل 37 وفي قول النبي من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له // رواه مسلم وأحمد والبيهقي // وفي قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت القصص 56 فنفى عنه هذه الهداية وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
النوع الرابع غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما قال تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم يونس 9 وقال أهل الجنة فيها الحمد لله الذي هدانا لهذا الأعراف 43 وقال تعالى عن أهل النار احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم الصافات 22 23
إذا عرف هذا فالهداية المسئولة في قوله الصراط المستقيم إنما تتناول المرتبة الثانية والثالثة خاصة فهي طلب التعريف والبيان والإرشاد والتوفيق والإلهام طلب التعريف والبيان والتوفيق
فإن قيل كيف يطلب التعريف والبيان وهو حاصل له وكذلك الإلهام والتوفيق

قلنا لقد أجيب عنها بأن المراد التثبيت ودوام الهداية واعلم أن العبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد سبعة أمور هو محتاج إليها حاجة لا غنى له عنها
الأمر الأول معرفته في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوبا للرب تعالى مرضيا له فيؤثره وكونه مغضوبا له مسخوطا عليه فيجتنبه فإن نقص من هذا العلم والمعرفة شيء نقص من الهداية التامة بحسبه
الأمر الثاني أن يكون مريد الجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازما عليه ومريدا لترك جميع ما نهى الله عازما على تركه بعد خطوره بالبال مفصلا وعازما على تركه من حيث الجملة مجملا فإن نقص من إرادته لذلك شيء نقص من الهدى التام بحسب ما نقص من الإرادة
الأمر الثالث أن يكون قائما به فعلا وتركا فإن نقص من فعله شيء نقص من هداه بحسبه فهذه ثلاثة هي أصول في الهداية ويتبعها ثلاثة هي من تمامها وكمالها
أحدها أمور هدي إليها جملة ولم يهتد إلى تفاصيلها فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها
الثاني أمرو هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها لتكمل له هدايتها
الثالث الأمور التي هدي إليها تفصيلا من جميع وجوهها فهو محتاج إلى الإستمرار إلى الهداية والدوام عليها فهذه أصول تتعلق بما يعزم على فعله وتركه
الأمر السابع يتعلق بالماضي وهو أمور وقعت منه على غير جهة الإستقامة فهو محتاج إلى تداركها بالتوبة منها وتبديلها بغيرها وإذا كان كذلك فإنما يقال كيف يسأل الهداية وهي موجودة له ثم يجاب عن ذلك بأن المراد التثبيت والدوام عليها
إذا كانت هذه المراتب حاصلة له بالفعل فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال تثبيت ودوام فأما إذا كان ما يجهله أضعاف ما يعلمه وما لا يريده من رشده أكثر مما يريده ولا سبيل له إلى فعله إلا بأن يخلق الله فاعليه فيه فالمسئول هو أصل الهداية على الدوام تعليما وتوفيقا وخلقا للإرادة فيه وإقدارا له وخلقا للفاعلية وتثبيتا له على ذلك فعلم أنه ليس أعظم ضرورة منه إلى سؤال الهداية أصلها وتفصيلها علما وعملا والتثبيت عليها والدوام إلى الممات

وسر ذلك أن العبد مفتقر إلى الهداية في كل نفس في جميع ما يأتيه ويذره أصلا وتفصيلا وتثبيتا ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم وأن يثبت قلوبنا على دينه فصل الإتيان بالضمير في قوله اهدنا
أما المسألة التاسعة عشرة وهي الإتيان بالضمير في قوله اهدنا الصراط ضمير جمع فقد قال بعض الناس في جوابه إن كل عضو من أعضاء العبد وكل حاسة ظاهرة وباطنة مفتقرة إلى هداية خاصة به فأتى بصيغة الجمع تنزيلا لكل عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه وعرضت هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه فاستضعفه جدا
وهو كما قال فإن الإنسان اسم للجملة لا لكل جزء من أجزائه وعضو من أعضائه والقائل إذا قال اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني سائل من الله ما يحصل لجملته ظاهره وباطنه فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألة تخصه يفرد لها لفظه
فالصواب أن يقال هذا مطابق لقوله إياك نعبد وإياك نستعين الفاتحة 5 والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته فأتى به بصيغة ضمير الجمع أي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية
وهذا كما يقول العبد للملك المعظم شأنه نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك فيكون هذا أحسن وأعظم موقعا عند الملك من أن يقول أنا عبدك ومملوكك ولهذا لو قال أنا وحدي مملوكك استدعى مقته فإذا قال أنا وكل من في البلد مماليكك وعبيدك وجند لك كان أعظم وأفخم لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدا وأنا واحد منهم وكلنا مشتركون في عبوديتك والإستعانة بك وطلب الهداية منك فقد تضمن ذلك من الثناء على الرب بسعة مجده وكثرة عبيده وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظ الإفراد فتأمله
وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ونحو دعاء آخر البقرة وآخر آل عمران وأولها وهو أكثر أدعية القرآن الكريم

فصل الصراط المستقيم
وأما المسألة العشرون وهي ما هو الصراط المستقيم فنذكر فيه قولا وجيزا فإن الناس قد تنوعت عباراتهم فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته وحقيقته شيء واحد وهو طريق الله الذي نصه لعباده على ألسن رسله وجعله موصلا لعباده إليه ولا طريق لهم إليه سواه بل الطرق كلها مسدودة إلا هذا وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة فلا يشرك به أحدا في عبوديته ولا يشرك برسوله أحدا في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول
وهذا معنى قول بعض العارفين إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين صدق محبته وحسن معاملته وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأي شيء فسر به الصراط فهو داخل في هذين الأصلين ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته
الأول يحصل بالتحقيق بشهادة أن لا إله إلا الله
والثاني يحصل بالتحقيق بشهادة أن محمدا رسول الله وهذا هو الهادي ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل له وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به
فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها وهي معنى قول من قال علوم وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مشكاة النبوة ومعنى قول من قال متابعة رسول الله ظاهرا وباطنا علما وعملا ومعنى قول من قال الإقرار لله بالوحدانية والإستقامة على أمره
وأما ما عدا هذا من الأقوال كقول من قال الصلوات الخمس وقول من قال حب أبي بكر وعمر وقول من قال هو أركان الإسلام الخمس التي بني عليها فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع لا تفسير مطابق له بل هي جزء من أجزائه وحقيقته الجامعة ما تقدم والله أعلم فائدة بدل البعض وبدل المصدر
في بدل البعض من الكل وبدل المصدر من الإسم وهما جميعا يرجعان في المعنى

والتحصيل إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة إلا أن البدل في هذين الموضعين لا بد من إضافته إلى ضمير المبدل منه بخلاف بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة
أما اتفاقهم في المعنى فإنك إذا قلت رأيت القوم أكثرهم أو نصفهم فإنما تكلمت بالعموم وأنت تريد الخصوص وهو كثير شائع فأردت بعض القوم وجعلت أكثرهم أو نصفهم تبيينا لذلك البعض وأضفته إلى ضمير القوم كما كان الإسم المبدل مضافا إلى القوم فقد آل الكلام إلى أنك أبدلت شيئا من شيء وهما لعين واحدة
وكذلك بدل المصدر من الإسم لأن الإسم من حيث كان جوهرا لا يتعلق به المدح والذم والإعجاب والحب والبغض إنما متعلق ذلك ونحوه صفات وأعراض قائمة به
فإذا قلت نفعني عبد الله علمه دل أن الذي نفعك منه صفة وفعل من أفعاله ثم بينت ذلك الوصف فقلت علمه أو إرشاده أو رويته فأضفت ذلك إلى ضمير الإسم كما كان الإسم المبدل منه مضافا إليه في المعنى فصار التقدير نفعني صفة زيد أو خصلة من خصاله ثم بينتها بقولك علمه أو إحسانه أو لقاؤه فآل المعنى إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة
وإذا تقرر هذا فلا يصح في بدل الإشتمال أن يكون الثاني جوهرا لأنه لا يبدل جوهر من عرض ولا بد من إضافته إلى ضمير الإسم لأنه بيان لما هو مضاف إلى ذلك الإسم في التقدير والعجب من الفارسي يقول في قوله تعالى النار ذات الوقود البروج 5 أنها بدل من الأخدود بدل اشتمال والنار جوهر قائم بنفسه ثم ليست مضافة إلى ضمير الأخدود وليس فيها شرط من شرائط الإشتمال
وذهل أبو علي عن هذا وترك ما هو أصح في المعنى وأليق بصناعة النحو وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فكأنه قيل أصحاب الأخدود أخدود النار ذات الوقود فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة كما قال الشاعر
رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ...
على رواية الجر في ثدي أم أراد لبان ثدي فحذف المضاف

فائدة بديعة ولله على الناس حج البيت
قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا آل عمران 97 حج

البيت مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله على الناس لأنه وجوب والوجوب يقتضي على
ويجوز أن يكون في قوله ولله لأنه يتضمن الوجوب والإستحقاق ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير وكان الأحق أن يكون ولله ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله حج البيت على الناس أكثر استعمالا في باب الوجوب من أن يقال حج البيت لله تعالى أي حق واجب لله فتأمله
وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان
إحداهما أنه اسم للموجب للحج فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب فتضمنت الآية ثلاثة أمور مرتبة بحسب الوقائع أحدها الموجب لهذا الفرض فبديء بذكره والثاني مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس والثالث النسبة والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا وأداء وهو الحج
والفائدة الثانية أن الإسم المجرور من حيث كان لله تعالى اسما سبحانه وجب الإهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه وتخويفا من تضييعه إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما أوجبه غيره
وأما قوله من فهي بدل وقد استهوى طائفة من الناس بأنها فاعل المصدر كأنه قال أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا وهذا القول يضعف من وجوه
منها أن الحج فرض عين ولو كان معنى الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم لأن المعنى يؤول إلى ولله على الناس أن يحج البيت مستطيعهم فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين وليس الأمر كذلك بل الحج فرض عين على كل أحد حج المستطيعون أو قعدوا ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه فإذا حج أسقط الفرض عن نفسه وليس حج المستطيعين بمسقط للفرض عن العاجزين وإن أردت زيادة إيضاح
فإذا قلت واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعة للجهاد فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب عن غيرهم
وإذا قلت واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال ولله حج البيت على المستطيعين هذه النكتة البديعة فتأملها

الوجه الثاني أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر إليه وكان يقال ولله على الناس حج البيت من استطاع وحمله على باب يعجبني ضرب زيدا عمرو مما يفصل به بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكثور المرجوح وهي قراءة ابن عامر قتل أولادهم بفتح الدال شركائهم فلا يصار إليه وإذا ثبت أن من بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى الناس كأنه قيل من استطاع منهم وحذف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يحسن وحسنه ههنا أمور
منها أن من واقعة على من يعقل كالإسم المبدل منه فارتبطت به
ومنها أنها موصولة بما هو أخص من الإسم الأول ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد ومثال ذلك إذا قلت رأيت أخواتك من ذهب إلى السوق تريد من ذهب منهم لكان قبيحا لأن الذاهب إلى السوق أعم من الأخوة وكذلك لو قلت البس الثياب ما حسن وجمل تريد منها ولم تذكر الضمير لكان أبعد في الجواز لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب
وباب بدل البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص ومما حسن حذف الضمير في هذه الآية أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول
وأما المجرور من قوله إليه فيحتمل وجهين أحدهما أن يكون في موضع حال من سبيل كأنه نعت نكرة قدم عليها لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل والثاني أن يكون متعلقا بسبيل
فإن قيل كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل
قيل السبيل كان ههنا عبارة عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما كان فيه رائحة الفعل ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق فصلح تعلق المجرور به واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير لأنه ضمير يعود على البيت والبيت هو المقصود به الإعتناء وهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعنى هذا تعبير السهيلي وهو بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين ولا يليق بالآية سواه وهو الوجوب المفهوم من قوله على الناس أي يجب على الناس الحج فهو حق واجب وأما تعليقه

بالسبيل أو جعله حالا منها ففي غاية البعد فتأمله ولا يكاد يخطر بالبال من الآية وهذا كما يقول لله عليك الحج ولله عليك الصلاة والزكاة
ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي وهو الأكثر أو بلفظ الإيجاب والكتاب والتحريم نحو كتب عليكم الصيام البقرة 83 حرمت عليكم الميتة المائدة 3 قل تعالوا أتل ما حرم ربكم الأنعام 151 نظم الآية وتأكد الوجوب
وفي الحج أتى بهذا النظم الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه أحدها أن قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الإستحقاق والإختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على ثم أبدل منه أهل الإستطاعة ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي سبيل تيسرت من قوت أو مال فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال ومن كفر أي بعدم التزام هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه والله تعالى هو الغني الحميد ولا حاجة به إلى حج أحد
وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو من أعظم التهديد وأبلغه ثم أكد ذلك بذكر اسم العالمين عموما ولم يقل فإن الله غني عنه لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه عن كل أحد بكل اعتبار وكان أدل على عظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه
ثم أكد هذا المعنى بأداة إن الدالة على التوكيد فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكيد هذا الغرض العظيم وتأمل سر البدل في الآية المقتضى لذكر الإسناد مرتين
مرة بإسناده إلى عموم الناس ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرار الإسناد ولهذا كان فيه نية تكرار العامل وإعادته
ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وحلتين اعتناء به وتأكيدا لشأنه
ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه وإن لم يطلب ذلك منها فقال إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا الحج 26 فوصفه بخمس صفات

أحدها أنه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض
الثاني أنه مبارك والبركة كثرة الخير ودوامه وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق
الثالث أنه هدى وصفه بالمصدر نفسه مبالغة حتى كأنه هو نفس الهدى
الرابع ما تضمنه من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية
الخامس الأمن لداخله وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات
وهذا يدلك على الإعتناء منه سبحانه بهذا البيت العظيم والتنويه بذكره والتعظيم لشأنه والرفعة من قدره ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله وطهر بيتي للطائفين الحج 26 لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا
وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسلبت نفوسهم حبا له وشوقا إلى رؤيته فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا كلما ازدادوا له زيادة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسلبهم كما قيل
أطول به والنفس بعد مشوقة ... إليه وهل بعد الطواف تداني
وألثم منه الركن أطلب برد ما ... بقلبي من شوق ومن هيمان
فوالله ما أزداد إلا صبابة ... ولا القلب إلا كثرة الخفقان
فيا جنة المأوى ويا غاية المنى ... ويا منيتي من دون كل أمان
أبت غلبات الشوق إلا تقربا ... إليك فما لي بالبعاد يدان
وما كان صدي عنك صد ملالة ... ولي شاهد من مقلتي ولساني
دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا ... فلبى البكا والصبر عنك عصاني
وقد زعموا أن المحب إذا نأى ... سيبلى هواه بعد طول زمان
ولو كان هذا الزعم حقا لكان ذا ... دواء الهوى في الناس كل أوان
بل إنه يبلى التصبر والهوى ... على حاله لم يبله الملوان
وهذا محب قاده الشوق والهوى ... بغير زمام قائد وعنان
أتاك على بعد المزار ولو ونت ... مطيته جاءت به القدمان

فائدة بديعة يسألونك عن الشهر الحرام
قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه البقرة 217 من باب بدل الإشتمال والسؤال إنما وقع عن القتال فيه فلم قدم الشهر وقد قلتم إنهم يقدمون ما هم ببيانه أهم وهم به أعنى
قيل السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال في الشهر وتشنيع أعدائهم عليهم وانتهاك حرمته فكان اعتناؤهم واهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال فالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر فلذلك قدم في الذكر وكان تقديمه مطابقا لما ذكرنا من القاعدة
فإن قيل فما الفائدة في إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر وهلا اكتفى بضميره
فقال قل هو كبير وأنت إذا قلت سألته عن زيد أهو في الدار كان أوجز من أن تقول أزيد في الدار
قيل في إعادته بلفظ الظاهر نكتة بديعة وهي تعلق الحكم الخبري باسم القتال فيه عموما ولو أتى بالمضمر وقال هو كبير لتوهم اختصاص الحكم بذلك القتال المسئول عنه وليس الأمر كذلك وإنما هو عام في كل قتال وقع في شهر حرام
ونظير هذه الفائدة قوله وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته // صحيح // فأعاد لفظ الماء ولم يقتصر على قوله نعم توضئوا به لئلا يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الإختصاص فعدل عن قوله نعم

توضئوا إلى جواب عام يقتضي تعلق الحكم والطهور به بنفس مائه من حيث هو فأفاد استمرار الحكم على الدوام وتعلقه بعموم الآية وبطل توهم قصره على السبب فتأمله فإنه بديع
فكذلك في الآية لما قال قتال فيه كبير فجعل الخبر بكبير واقعا على قتال فيه فيطلق الحكم به على العموم ولفظ المضمر لا يقتضي ذلك
وقريب من هذا قوله تعالى والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين الأعراف 170 ولم يقل أجرهم تعليقا لهذا الحكم بالوصف وهو كونهم مصلحين وليس في الضمير ما يدل على الوصف المذكور
وقريب منه وهو ألطف معنى قوله تعالى يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض البقرة 222 ولم يقل فيه تعليقا لحكم الإعتزال بنفس الحيض وأنه هو سبب الإعتزال
وقال تعالى قل هو أذى ولم يقل الحيض لأن الآية جارية على الأصل ولأنه لو كرره لثقل اللفظ لتكرره ثلاث مرات وكان ذكره بلفظ الظاهر في الأمر بالإعتزال أحسن من ذكره مضمرا ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضا بخلاف قوله قل هو أذى فإنه إخبار بالواقع والمخاطبون يعلمون أن جهة كونه أذى هو نفس كونه حيضا بخلاف تعليق الحكم به فإنه إنما يعلم بالشرع فتأمله فائدة مجيء الحال من المضاف إليه
إنما امتنع مجيء الحال من المضاف إليه لأن الحال شبه الظرف والمفعول فلا بد لها من عامل ومعنى الإضافة أضعف من لامها ولامها لا تعمل في ظرف ولو مفعول فمعناها أولى بعدم العمل
فإن قلت فاجعل العامل فيها هو العامل في المضاف
قلت هو محال لا يجب اتحاد العامل في الحال وصاحبها فلو كان العامل فيها هو العامل في المضاف لكانت حالا منه دون المضاف إليه فتستحيل المسألة
فأما إذا كان المضاف فيه معنى الفعل نحو قولك هذا ضارب هند قائمة وأعجبني خروجها راكبة جاز انتصاب الحال من المضاف إليه لأن ما في المضاف من معنى

الفعل واقع على المضاف إليه وعامل فيما هو حال منه وعلى هذا جاء قوله تعالى قل النار مثواكم خالدين فيها الأنعام 128 وقوله أولئك أصحاب النار خالدين فيها التغابن 10 فإن ما في مثوى وأصحاب من معنى الفعل يصحح عمله في الحال بخلاف قولك رأيت غلام هند راكبة فإنه ليس في الغلام شيء من رائحة الفعل
وقد يجوز انتصاب الحال عن المضاف إليه إذا كان المضاف جزءه أو منزلا منزلة جزئه نحو رأيت وجه هند قائمة لأن البعض يجري عليه حكم الكل في اقتضاء العامل له فجاز أن يعمل في الحال ما يعمل في بعض صاحبها لتنزله منزلته
وسريان حكم البعض إلى الكل لا ينكر لا لغة ولا شرعا ولا عقلا فاللغة نحو هذا ونحو قوله ذهبت بعض أصابعه وسرقت صدر القناة وتواصفت سور المدينة وهو كثير
وأما الشرع فكسريان العتق في الشقص المشترك وأما العقل فإن الإرتباط الذي بين الجزء والكل يقتضي أن يثبت لأحدهما ما يثبت للآخر وعلى هذا جاء قول الشاعر
كان حواء منه مدبرا ...
وقول حبيب
والعلم في شهب الأرماح لامعة ...
فائدة بديعة إضمار الناصب
إن قيل كيف يضمرون الناصب في مثل ولبس عباءة وتقر عيني وبابه ولا يجوزون إضمار الخافض ولا الجازم ولا إضمار نواصب الأسماء وعوامل الأسماء عندكم أقوى من عوامل الأفعال
قيل نحن لا نجيز إضمار أن الناصبة إلا بإحدى شرائط إما مع الواو العاطفة على مصدر نحو تقتضى لبانات وسيام سايم ولبس عباءة وتقر عيني ألا ترى أنك لو جعلت مكان اللبس والتقضي اسما غير مصدر فقلت يعجبني زيد ويذهب عمرو لم يجز وإنما جاز هذا مع المصدر لأن الفعل المنصوب بأن مشتق من المصدر ودال عليه بلفظه فكأنك عطفت مصدرا على مصدر

فإن قيل فكان ينبغي أن يستغنى بمجرد لفظ الفعل عن ذكر المصدر وإضمار أن فيقال ألبس عباءة وتقر عيني وأقضي لبانات وسيام سايم
قيل هذا سؤال حسن يستدعي جوابا قويا وقد أجيب عنه بأن الأول لو جعل فعلا مضارعا لكان مرفوعا فإذا عطفت عليه الثاني شاركه في إعرابه وعامله ورافع المضارع ضعيف لا يقوى على العمل في الفعلين فإن العامل في المعطوف والمعطوف عليه واحد ولا يخفى فساد هذا الجواب فإنه منتقض بالطم والرم مما يعطف فيه المضارع على مثله كقوله زيد يذهب ويركب وإنما يذهب ويخرج زيد وأمثال ذلك
فالجواب الصحيح أن يقال المراد ما في المصدر من الدلالة على ثبوت نفس الحدث وتعليق الحكم به دون تقييده بزمان دون زمان فلو أتى الفعل المقيد بالزمان لفات الغرض ألا ترى أن قولها ولبس عباءة وتقر عيني المراد به حصول نفس اللبس مع كونها تقر عينها كل وقت شيئا بعد شيء فقرة العين مطلوب تجددها بحسب تجدد الأوقات وليس هذا مرادا في لبس العباءة
وكذا قولك آكل الشعير وأكف وجهي عن الناس أحب إلى من أكل البر وأبذل وجهي لهم أفلا ترى تفضيل أكل الشعير على أكل البر ويدوم له كف وجهه عن الناس كما أن تلك فضلت لبس العباءة على لبس الشفوف وتدوم لها قرة العين
فعلمت أن المقصود ماهية المصدر وحقيقته لا تقييده بزمان دون زمان ولما كانت أن والفعل تقع موقع المصدر ويؤولان به في الإخبار عنهما كما يخبر عن الإسم نحو قوله وأن تصوموا خير لكم البقرة 184 أي صيامكم أول المصدر ب أن والفعل في صحة عطف الفعل عليه وهذا من باب المقابلة والموازنة
وقد جاء عطف الفعل على الإسم إذا كان فيه معنى الفعل نحو صافات ويقبضن وإن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله تعالى
ومنه وجيها ومن المقربين ويكلم الناس في المهد لأن الإسم المعطوف عليه لما كان حاملا للضمير صار بمنزلة الفعل ولو كان مصدرا لم يجز عطف الفعل عليه إلا بإضمار أن لأن المصادر لا تتحمل الضمائر
فإن قيل

فلم جاز عطف الفعل على الإسم الحامل للضمير ولم يعطف الإسم على الفعل فتقول مررت برجل يقعد وقائم كما تقول قائم ويقعد
قيل هذا سؤال قوي ولما رأى بعض النحاة أنه لا فرق بينهما أجاز ذلك وهو الزجاج فإنه أجازه في معاني القرآن والصحيح أنه قبيح
والفرق بينهما أنك إذا عطفت الفعل على الإسم المشتق منه رددت الفرع إلى الأصل لأن الإسم أصل الفعل والفعل متفرع عنه فجاز عطف الفعل عليه لأنه ثان والثواني فروع على الأوائل
وإذا عطفت الإسم على الفعل كنت قد رددت الأصل فرعا وجعلته ثانيا وهو أحق بأن يكون مقدما لأصالته
وسر المسألة أن عطف الفعل على الإسم في مثل قوله صافات ويقبضن ومررت برجل قائم ويقعد أن الإسم معتمد على ما قبله وإذا كان إسم الفاعل معتمدا عمل عمل الفعل وجرى مجراه والإعتماد أن يكون نعتا أو خبرا أو حالا والذي بعد الواو ليس بمعتمد بل هو اسم محض فيجري مجرى الفعل فائدة مصدر الفعل اللازم
لما كان الفعل اللازم هو الذي لزم فاعله ولم يجاوزه إلى غيره جاء مصدره مثقلا بالحركات إذ المثقل من صفة ما لزم محله ولم ينتقل عنه إلى غيره
والخفة من صفة المنتقل من محله إلى غيره فكان خفة اللفظ في هذا الباب وثقله موازنا للمعنى فما لزم مكانه ومحله فهو الثقيل لفظا ومعنى وما جاوزه وتعداه فهو الخفيف لفظا ومعنى
ومن ههنا يرجح قول سيبويه أن دخلت الدار غير متعد لأن مصدره دخول فهو كالخروج والقعود وبابه إلا أن الفعل منه لم يجيء على فعل لأنه ليس بطبع في الفاعل ولا خصلة ثابتة فيه فإن كان الفعل عبارة عما هو طبع وخصلة ثابتة نقلوه بضم العين كظرف وكرم فهذا الباب ألزم للفاعل من باب قعد ودخل فكان أثقل منه لفظا وباب قعد وخرج ألزم للفاعل من الفعل المتعدي كضرب فكان أثقل منه مصدرا وإن اتفقا في لفظ الفعل ولزم مصدر فعل الذي هو طبع وخصلة وزن الفعال كالجمال والكمال والبهاء والسناء والجلال والعلاء

هذا إذا كان المعنى عاما مشتملا على خصال لا تختص بخصلة واحدة فإن اختص المعنى بخصلة واحدة صار كالمحدود ولزمته تاء التأنيث لأنها تدل على نهاية ما دخلت عليه كالضربة من الضرب وحذفها في هذا الباب وفي أكثر الأبواب يدل على انتفاء النهاية
ألا ترى أن الضرب يقع على القليل والكثير إلى غير نهاية وإنما استحقت التاء ذلك لأن مخرجها منتهى الصوت وغايته فصلحت للغايات ولذلك قالوا علامة ونسابة أي غاية في هذا الوصف فإذا عرفت هذا فالجمال والكمال كالجنس العام من حيث لم تكن فيه التاء المخصوصة بالتحديد والنهاية
وقولك ملح ملاحة وفصح فصاحة هو على وزنه إلا في التاء لأن الفصاحة خصلة من خصال الكمال وكذلك الملاحة فحددت بالتاء لأنها ليست بجنس عام كالكمال والجمال فصارت كباب الضربة والثمرة من الضرب والثمر
ألا ترى إلى قول خالد بن صفوان وقد قالت له امرأته إنك لجميل فقال أتقولين ذلك وليس عندي عمود الجمال ولا رداؤه ولا برنسه ولكن قولي إنك لمليح ظريف فجعل الملاحة خصلة من خصال الجمال فبان صحة ما قلناه
وعلى هذا قالوا الحلاوة والأصالة والرجاحة والرزانة والمهابة وفي ضد ذلك السفاهة والوضاعة والحماقة والرذالة لأنها كلها خصال محدودة بالإضافة إلى السفال الذي هو في مقابلة العلاء والكمال لأنه جنس يجمع الأنواع التي تحته وهذا هو الأصل في هذا الباب فمتى شذ عنه منه شيء فلمانع وحكمة أخرى كقولهم شرف الرجل شرفا ولم يقولوا شرافا لأن الشرف رفعه في آبائه وهو شيء خارج عنه بخلاف كمل كمالا وجمل جمالا فإنه جماله وكماله وصف قائم به وهذا لأنه شرف مستعار من شرف الأرض وهو ما ارتفع منها فاستعير للرجل الرفيع في قومه كأن آباءه الذين ذكر بهم وارتفع بسببهم شرف له
وكذلك قولهم في هذا الباب الحسب لأنه من باب القبص والنقص لا من باب المصادر لأن الحسب ما يحسبه الإنسان ويعده لنفسه من الخصال الحميدة والأخلاق الشريفة واستحق الإسم الشامل في هذا الباب اسم الفعال بفتح الفاء والعين وبعدهما ألف وهي فتح ليكون اللفظ الذي يتوالى فيه الفتح موازنا لانفتاح المعنى واتساعه ولذلك أطرف في الجمع الكثير نحو مفاعل وفعايل وبابه وأطرد في باب تفاعل نحو تقاتل وتخاصم وتمارض وتغافل وتناوم لأنه إظهار للأمر ونشر له

ومن هذا الباب حلم فإنه يوافقه في وجه يخالفه في وجه لأنه يدل على إثبات الصفة فوافق شرف وكرم في الضم وخالفه في المصدر لمخالفته له في المعنى لأنه صفة تقتضي كف النفس وجمعها عن الإنتقام والمعاقبة ولا يقتضي انتفاحا ولا انتشارا فقالوا حلم لأنه من بناء الخصال والطبائع وقالوا حلماء لأن الصفة صفة جمع النفس وضمها وعدم إرسالها في الإنتقام فتأمله
ومن هذا الباب كبر وصغر موافق لما قبله في الفعل مخالف له في المصدر لأن الكبر والصغر عبارة عن اجتماع أجزاء الجسم في قلة أو كثرة وليس من الصفات والأحداث المنتشرة وهذا تنبيه لطيف على ما هو أضعاف ذلك فائدة فعل المطاوعة
فعل المطاوعة هو الواقع مسببا عن سبب اقتضاء نحو كسرته فانكسر فزيدت النون في أوله قبل الحروف الأصلية ساكنة كيلا تتوالى الحركات ثم وصل إليه بهمزة الوصل وقد تقدم أن الزوائد في الأفعال والأسماء موازنة للمعاني الزائدة على معنى الكلمة
فإن كان المعنى الزائد مترتبا قبل المعنى الأصلي كانت الحروف الزائدة قبل الحروف الأصلية كالنون في الفعل وكحروف المضارعة في بابها وإن كان المعنى الزائد في الكلمة آخرا كان الحرف الزائد على الحروف الأصلية آخرا كعلامة التأنيث وعلامة التثنية والجمع ومن هذا الباب تفعلل وتفاعل
أما تفعل فلا يتعدى البتة لأن التاء فيه بمثابة النون في الفعل إلا أنهم خصوا الرباعي بالتاء وخصوا الثلاثي بالنون فرقا بينهما ولم تكن التاء هنا ساكنة كالنون لسكون عين الفعل فلم يلزم منها من توالي الحركات ما لزم هناك
وأما تفاعل فقد توجد متعدية لأنه لا يراد بها المطاوعة كما أريد بتفعلل وإنما هو فعل دخلته التاء زيادة على فاعل المتعدي فصار حكمه إن كان متعديا إلى مفعولين قبل دخول التاء أن يتعدى بعد دخول التاء إلى مفعول نحو نازعت زيدا الحديث ثم تقول وتنازعنا الحديث
وإن كان متعديا إلى مفعول لم يتعد بعد دخول التاء إلى شيء نحو خاصمت زيدا

وتخاصمنا وهذا عكس دخول همزة التعدية على الفعل فإنها تزيده واحدا أبدا وإن كان لازما صيرته متعديا إلى مفعول وإن كان متعديا إلى واحد صيرته متعديا إلى اثنين
وأما احمر واحمار ففعل مشتق من الإسم كانتعل من النعل وتمسكن من المسكن وتمدرع وتمندل وتمنطق
وزعم الخطابي أن معنى احمر مخالف لمعنى احمار وبابه وذهب إلى أن افعل يقال فيما لم يخالطه لون آخر وافعال يقال لما خالطه لون آخر وهو ثقة في نقله والقياس يقتضي ما ذكر لأن الألف لم يزد في إضعاف حروف الكلمة إلا لدخول معنى زائد بين أضعاف معناها والذي قاله غيره أحسن من هذا وهو أن احمر يقال لما احمر وهلة نحو احمر الثوب ونحوه
وأما احمار فيقال لما يبدو فيه اللون شيئا بعد شيء على التدريج نحو احمار البسر واصفار ويدخل أفعل في هذا على أفعال فيقال احمر البسر إذا تكامل لون الحمرة فيه واحمار إذا ابتدأ صاعدا إلى كماله فائدة المتعدي إلى مفعولين
اختلفوا في المتعدي إلى مفعولين من باب كسا هل هو قياسي بالهمزة أم سماعي والثاني قول سيبويه وهو الصحيح فإنك لا تقول أكلت زيدا الخبز ولا آخذته الدراهم ولا أطلقت زيدا امرأته وأعتقته عبده ولكن ينبغي التفطن لضابط حسن وهو أنه ينظر إلى كل فعل حصل منه في الفاعل صفة ما فهو الذي يجوز فيه النقل لأنك إذا قلت أفعلته فإنما تعني جعلته على هذه الصفة وقلما ينكسر هذا الأصل في غير المتعدي إذا كان ثلاثيا نحو قعد وأقعدته وطال وأطلته
وأما المتعدي فمنه ما يحصل للفاعل منه صفة في نفسه ولا يكون اعتماده في الثاني على المفعول فيجوز نقله مثل طعم زيد الخبز وأطعمته وكذلك جرع الماء وأجرعته وكذلك بلع وشم وسمع وذلك لأنها كلها تجعل في الفاعل منها صفة في نفسه غير خارجة عنه ولذلك جاءت أو أكثرها على فعل بكسر العين مشابهة لباب فزع وحذر وحزن ومرض إلى غير ذلك مما له أثر في باطن الفاعل وغموض معنى ولذلك كانت حركة العين كسرة لأن الكسرة خفض للصوت وإخفاء له فشاكل اللفظ المعنى

ومن هذا لبس الثوب وألبسته إياه لأن الفعل وإن كان متعديا فحاصل معناه في نفس الفاعل كأنه لم يفعل بالثوب شيئا وإنما فعل بلابسه ولذلك جاء على فعل مقابلة عري وقالوا كسوته الثوب ولم يقولوا أكسيته إياه وإن كان اللازم منه كسى
ومنه واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فهذا من كسي يكسي لا من كسا يكسو وسر ذلك أن الكسوة ستر للعورة فجاء على وزن سترته وحجبته فعدوه بتغيير الحركة لا بزيادة الهمزة
وأما أكل وأخذ وضرب فلا ينقل لأن الفعل واقع بالمفعول ظاهر أثره فيه غير حاصل في الفاعل منه صفة فلا تقول أضربت زيدا عمرا وأقتلته خالدا لأنك لم تجعله على صفة في نفسك كما تقدم
وأما أعطيته فمنقول من عطا يعطو إذا أشار للتناول وليس معناه الأخذ والتناول ألا تراهم يقولون عاط بغير أنواط أي يشير إلى التناول من غير شيء فنفوا أن يكون وقع هذا الفعل لشيء فلذلك نقل كما نقل المتعدي لقربه منه فقالوا أعطيته اي جعلته عاطيا
وأما أنلت من نال التعدية وهي بمنزلة عطا يعطو لا تبنى إلا عن وصول إلى المفعول دون تأثير فيه ولا وقوع ظاهر به
ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى لن ينال الله لحومها الحج 37 ولو كان فعلا مؤثرا في مفعوله لم يجز هذا إنما هو شيء منبيء عن الوصول فقط أو ما أتيت المال زيدا فمنقول من أتى لأنها غير مؤثرة في المفعول وقد حصل منها في الفاعل صفة
فإن قيل يلزمك أن تجيز آتيت زيدا عمرا أو المدينة أي جعلته يأتيها
قلت بينهما فرق وهو أن إيتاء المال كسب وتمليك فلما اقترن به هذا المعنى صار كقوله أكسبته مالا أو ملكته إياه وليس كقولك آتى عمرا وأما شرب زيد الماء فلم يقولوا فيه أشربته الماء لأنه بمثابة الأكل والأخذ ومعظم أثره في المفعول وإن كان قد جاء على فعل ك بلع ولكنه ليس مثله إلا أن يريد أن الماء خالط أجزاء الشارب له وحصل من الشرب صفة في الشارب فيجوز حينئذ نحو قوله تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل البقرة 93 وعلى هذا يقال أشربت الدهن الخبز لأن شرب الخبز الدهن ليس كشرب زيد الماء فتأمله

وأما ذكر زيد عمرا فإن كان من ذكر اللسان لم ينقل لأنه بمنزلة شتم ولطم وإن كان من ذكر القلب نقل فقلت أذكرته الحديث بمنزلة أفهمته وأعلمته أي جعلته على هذه الصفة فائدة اخترت يتعدى بحرف الجر
اخترت أصله أن يتعدى بحرف الجر لأنه يتضمن إخراج شيء من شيء وجاء محذوفا في قوله تعالى واختار موسى قومه الأعراف 155 لتضمن الفعل معنى فعل غير متعد كأنه نخل قومه وميزهم وسبرهم ونحو ذلك
فمن ههنا والله أعلم أسقط حرف الجر كما سقط من أمرتك الخير أي ألزمتك وكلفتك لأن الأمر إلزام وتكليف ومنه تمرون الديار أي تعدونها وتجاوزونها ومنه رحبتك الديار أي وسعتك فائدة تقديم المجرور وتأخير المفعول
الإختيار تقديم المجرور في باب اخترت وتأخير المفعول المجرد عن حرف الجر فتقول اخترت من الرجال زيدا ويجوز فيه التأخير فإذا أسقطت الحرف لم يحسن تأخير ما كان مجرورا به في الأصل فيقبح أن تقول اخترت زيدا الرجال واخترت عشرة الرجال أي من الرجال لما يوهم من كون المجرور في موضع النعت للعشرة وأنه ليس في موضع المفعول الثاني
وأيضا فإن الرجال معرفة فهو أحق بالتقديم للإهتمام به كما لزم في تقديم المجرور الذي هو خبر عن النكرة من قولك في الدار رجل لكون المجرور معرفة وكأنه المخبر عنه فإذا حذفت حرف الجر لم يكن بد من التقديم للإسم الذي كان مجرورا نحو اخترت الرجال عشرة
والحكمة في ذلك أن المعنى الداعي الذي من أجله حذف حرف الجر هو معنى غير لفظ فلم يقو على حذف حرف الجر إلا مع اتصاله به وقربه منه
ووجه ثان وهو أن القليل الذي اختير من الكثير إذا كان مما يتبعض ثم ولي الفعل

الذي هو اخترت توهم أنه مختار منه أيضا لأن كل ما يتبعض يجوز فيه أن يختار وأن يختار منه فألزموه التأخير وقدموا الإسم المختار منه وكان أولى بذلك لما سبق من القول فإن كان مما لا يتبعض نحو زيد وعمرو فربما جاز على قلة في الكلام نحو قول الشاعر
ومنا الذي اختير الرجال سماحة ...
وليس هذا كقولك اخترت فرسا الخيل لأن الفرس اسم جنس فقد يتبعض مثله ويختار منه وزيد من حيث كان جسما يتبعض ومن حيث كان علما على شيء بعينه لا يتبعض فتأمل هذا الموضع

فائدة بديعة استغفر زيد ربه ذنبه
قولهم استغفر زيد ربه ذنبه فيه ثلاث أوجه أحدها هذا والثاني استغفره من ذنبه والثالث استغفر لذنبه وهذا موضع يحتاج إلى تدقيق نظر وأنه هل الأصل حرف الجر وسقوطه داخل عليه أو الأصل سقوطه وتعديه بنفسه وتعديته بالحرف مضمن هذا مما ينبغي تحقيقه
قال السهيلي الأصل فيه سقوط حرف الجر وأن يكون الذنب نفسه مفعولا باستغفر غير متعد بحرف الجر لأنه من غفرت الشيء إذا غطيته وسترته مع أن الإسم الأول هو فاعل بالحقيقة وهو الغافر ثم أورد على نفسه سؤالا فقال
فإن قيل فإن كان سقوط حرف الجر هو الأصل فيلزمكم أن تكون من زائدة كما قال الكسائي
وقد قال سيبويه والزجاج إن الأصل حرف الجر ثم حذف فنصب الفعل وأجاب بأن سقوط حرف الجر أصل في الفعل المشتق منه نحو غفر وأما استغفر ففي ضمن الكلام ما لا بد منه من حرف الجر لأنك لا تطلب عفوا مجردا من معنى التوبة والخروج من الذنب وإنما تريد بالإستغفار خروجا من الذنب وتطهيرا منه فلزمت من في هذا الكلام لهذا المعنى فهي متعلقة بالمعنى لا بنفس اللفظ فإن حذفتها تعدى الفعل فنصب وكان بمنزلة أمرتك الخير
فإن قيل فما قولكم في نحو قوله تعالى يغفر لكم من ذنوبكم الأحقاف 31 ويغفر لكم من خطاياكم

قلنا هي متعلقة بمعنى الإنقاذ والإخراج من الذنوب فدخلت من لتؤذن بهذا المعنى ولكن لا يكون ذلك في القرآن إلا حيث يذكر الفاعل والمفعول الذي هو الذنب نحو قوله لكم لأنه المنقذ المخرج من الذنوب بالإيمان
ولو قلت يغفر من ذنوبكم دون أن يذكر الإسم المجرور لم يحسن إلا على معنى التبعيض لأن الفعل الذي كان في ضمن الكلام وهو الإنقاذ قد ذهب بذهاب الإسم الذي هو واقع عليه
فإن قلت فقد قال تعالى وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا آل عمران 147 وفي سورة الصف يغفر لكم ذنوبكم الصف 12 فما الحكمة في سقوطها هنا وما الفرق
قلت هذا إخبار عن المؤمنين الذين سبق لهم الإنقاذ من ذنوب الكفر بإيمانهم ثم وعدوا على الجهاد بغفران ما اكتسبوا في الإسلام من الذنوب وهي غير محبطة كإحباط الكفر المهلك للكافر فلم يتضمن الغفران معنى الإستنقاذ إذ ليس ثم إحاطة من الذنب بالمذنب وإنما يتضمن معنى الإذهاب والإبطال للذنوب لأن الحسنات يذهبن السيئات بخلاف الآيتين المتقدمتين فإنهما خطاب للمشركين وأمر لهم بما ينقذهم ويخلصهم مما أحاط بهم من الذنوب وهو الكفر ففي ضمن ذلك الإعلام والإشارة بأنهم واقعون في مهلكة قد أحاطت بهم وأن لا ينقذهم منها إلا المغفرة المتضمنة للإنقاذ الذي هو أخص من الإبطال والإذهاب
وأما المؤمنون فقد أنقذوا وأما قوله تعالى ويكفر عنكم من سيئاتكم البقرة 271 فهي في موضع من التي للتبعيض لأن الآية في سياق ثواب الصدقة فإنه قال إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والصدقة لا تذهب جميع الذنوب
ومن هذا النحو قوله فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير // رواه مسلم والترمذي وللبخاري نحوه // فأدخل عن في الكلام إيذانا بمعنى الخروج عن اليمين لما ذكر الفاعل وهو الخارج فكأنه قال فليخرج بالكفارة عن يمينه ولما لم يذكر الفاعل المكفر في قوله ذلك كفارة أيمانكم المائدة 89 ولم يذكر من وأضاف الكفارة إلى الأيمان وذلك من إضافة المصدر إلى المفعول وإن كانت الأيمان لا تكفر وإنما يكفر الحنث

والإثم ولكن الكفارة حل لعقد اليمين فمن هنالك أضيفت إلى اليمين كما يضاف الحل إلى العقد إذ اليمين عقد والكفارة حل له والله أعلم فائدة ألبست زيدا الثوب
قولك ألبست زيدا الثوب ليس الثوب منتصبا بألبست كما هو السابق إلى الأوهام لما تقدم من أنك لا تنقل الفعل عن الفاعل ويصير الفاعل مفعولا حتى يكون الفعل حاصلا في الفاعل ولكن المفعول الثاني منتصب بما تضمنه ألبست من معنى لبس فهو منتصب بما كان منتصبا به قبل دخول الهمزة والنقل وذلك أنهم اعتقدوا طرحها حين كانت زائدة كما فعلوا في تصغير حميد وزهير ومنه قولهم أحببت حبيبا فجاءوا بحبيب على اعتقاد طرح الهمزة وهي لغة
ومنه أدرست البيت فهو دارس على تقدير درسته
ومنه والله أنبتكم من الأرض نباتا نوح 17 فجاء المصدر على نبت
ومما يوضح هذا أنهم أعلوا الفعل فقالوا أطال الصلاة وأقامها مراعاة لإعلاله قبل دخول الهمزة ولهذا حيث نقلوه في التعجب فاعتقدوا إثبات الهمزة لم يعدوه إلى مفعول ثان بل قالوا ما أضرب زيدا لعمرو باللام لأن التعجب تعظيم لصفة المتعجب منه وإذا كان الفعل صفة في الفاعل لم ينقل ومن ثم صححوه في التعجب فقالوا ما أقومه وأطوله حيث لم يعتقدوا سقوط الهمزة كما صححوا الفعل من استحوذ واستنوق الجمل حيث كانت الهمزة والزوائد لازمة غير عارضة والله أعلم فائدة حذف الباء من أمرتك الخير
حذف الباء من أمرتك الخير ونحوه إنما يكون بشرطين
أحدهما اتصال الفعل بالمجرور فإن تباعد منه لم يكن بد من الباء نحو أمرت الرجل يوم الجمعة بالخير لأن المعنى الذي من أجله حذفت الباء معنى وليس بلفظ وهو تضمنها معنى كلفتك فلم يقو على الحذف إلا مع القرب من الإسم كما كان ذلك في اخترت

ألا ترى إلى قوله تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم الأعراف 75 كيف أعاد حرف الجر في البدل لما طال بالصلة
وكذلك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها البقرة 61 على أحد القولين أي يخرج لنا من بقل الأرض وقثائها
وقوله مما تنبت توطئة وتمهيد والقول الثاني أنها متعلقة بقوله تنبت أي ما تنبت من هذا الجنس ف من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الجنس وهذا الثاني أظهر فإذا أعيد حرف الجر مع البدل لطول الإسم الأول فإثبات الحرف من نحو أمرتك الخير إذا طال الإسم أجدر
الشرط الثاني أن يكون المأمور به حدثا
فإن قلت أمرتك بزيد لم يحذف لأن الأمر في الحقيقة ليس به وإنما هو على غيره كأنك قلت أمرتك بضربه أو إكرامه
وأما نهيتك عن الشر فلا يحذف الحرف منه لأنه ليس في الكلام ما يتضمن الفعل الناصب لأن النهي عنه كف وزجر وإبعاد وهذه المعاني التي يتضمنها نهي تطلب من الحرف ما يطلبه نهي بخلاف أمر فإنه كلف وألزم لا تطلب الباء

فائدة بديعة أصل وضع عرفت كذا
قولهم عرفت كذا أصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه حتى يظهر للذهن منفردا عن غيره وهذه المادة تقتضي العلو والظهور كعرف الشيء لأعلاه ومنه الأعراف ومنه عرف الديك وأما علمت فموضوعة للمركبات لا لتمييز المعاني المفردة ومعنى التركيب فيها إضافة الصفة إلى المحل وذلك أنك تعرف زيدا على حدته وتعرف معنى القيام على حدته ثم تضيف القيام إلى زيد فإضافة القيام إلى زيد هو التركيب وهو متعلق العلم
فإن قلت علمت فمطلوبها ثلاثة معان محل وصفة وإضافة الصفة إلى المحل وهن ثلاث معلومات إضافة العلم لله لا المعرفة
إذا عرفت هذا فقال بعض المتكلمين لا يضاف إلى الله سبحانه إلا العلم لا المعرفة

لأن علمه متعلق بالأشياء كلها مركبها ومفردها تعلقا واحدا بخلاف علم المحدثين فإن معرفتهم بالشيء المفرد وعلمهم به غير علمهم ومعرفتهم لشيء آخر وهذا بناء منه على أن الله تعالى يعلم المعلومات كلها بعلم واحد وأن علمه بصدق رسول الله هو عين علمه بكذب مسيلمة الكذاب
والذي عليه محققو النظار خلاف هذا القول وأن العلوم متكثرة متغايرة بتكثر المعلومات وتغايرها فلكل معلوم علم يخصه ولإبطال قول أولئك وذكر الأدلة الراجحة على صحة قول هؤلاء مكان هو أليق به
وعلى هذا فالفرق بين إضافة العلم إليه تعالى وعدم إضافة المعرفة لا ترجع إلى الإفراد والتركيب في متعلق العلم وإنما ترجع إلى نفس المعرفة ومعناها فإنها في مجاري استعمالها إنما تستعمل فيما سبق تصوره من نسيان أو ذهول أو عزوف عن القلب فإذا تصور وحصل في الذهن قيل عرفه أو وصف له صفته ولم يره فإذا رآه بتلك الصفة وتعينت فيه قيل عرفه
ألا ترى أنك إذا غاب عنك وجه الرجل ثم رأيته بعد زمان فتبينت أنه هو قلت عرفته وكذلك عرفت اللفظة وعرفت الديار وعرفت المنزل وعرفت الطريق
وسر المسألة أن المعرفة لتمييز ما اختلط فيه المعروف بغيره فاشتبه فالمعرفة تمييز له وتعيين ومن هذا قوله تعالى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم البقرة 146 فإنهم كان عندهم من صفته قبل أن يروه ما طابق شخصه عند رؤيته وجاء كما يعرفون أبناءهم من باب ازدواج الكلام وتشبيه أحد اليقينين بالآخر فتأمله وقد بسطنا هذا في كتاب التحفة المكية وذكرنا فيها من الأسرار والفوائد ما لا يكاد يشتمل عليه مصنف
وأما ما زعموا من قولهم إن علمت قد يكون بمعنى عرفت واستشهادهم بنحو قوله تعالى لا تعلمهم نحن نعلمهم التوبة 101 وبقوله وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم الأنفال 60 فالذي دعاهم إلى ذلك أنهم رأوا علمت قد تعدت إلى مفعول واحد وهذا هو حقيقة العرفان فاستشهاد ظاهر
على أنه قد قال بعض الناس أن تعدي فعل العلم في هذه الآيات وأمثالها إلي مفعول واحد لا يخرجها عن كونها علما على الحقيقة فإنها لا تتعدى إلى مفعول واحد على نحو تعدى عرفت ولكن على جهة الحذف والإختصار
فقوله لا تعلمهم نحن نعلمهم لا تنفي عنه معرفة أعيانهم وأسمائهم وإنما تنفي عنه العلم بعدوانهم ونفاقهم وما تقدم من الكلام يدلك على ذلك

وكذلك قوله وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم فربما كانوا يعرفونهم ولا يعلمونهم أعداء لهم فيتعلق العلم بالصفة المضافة إلى الموصوف لا بعينه وذاته قال هذا وإنما مثل من يقول إن علمت بمعنى عرفت من أجل أنها متعدية إلى مفعول واحد في اللفظ كمثل من يقول إن سألت يتعدى إلى غير العقلاء بقولهم سألت الحائط وسألت الدار ويحتج بقوله واسأل القرية يوسف 82 قال وإنما هذا جهل بالمجاز والحذف وكذلك ما تقدم وليس ما قاله هؤلاء بقوى فإن الله سبحانه نفى عن رسوله معرفة أعيان أولئك المنافقين هذا صريح اللفظ وإنما جاء نفي معرفة نفاقهم من جهة اللزوم فهو كان يعلم وجود النفاق في أشخاص معينين وهو موجود في غيرهم ولا يعرف أعيانهم وليس المراد أن أشخاصهم كانت معلومة له معروفة عنده وقد انطووا على النفاق وهو لا يعلم ذلك فيهم فإن اللفظ لم يدل على ذلك بوجه
والظاهر بل المتعين أنه لو عرف أشخاصهم لعرفهم بسيماهم وفي لحن القول ولم يكن يخفى عليه نفاق من يظهر له الإسلام ويبطن عداوته وعداوة الله عز و جل
والذي يزيد هذا وضوحا الآية الأخرى فإن قوله ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم فيهم قولان
أحدهما أنهم الجن المظاهرون لأعدائهم من الإنس على محاربة الله ورسوله وعلى هذا فالآية نص في أن العلم فيها بمعنى المعرفة ولا يمكن أن يقال إنهم كانوا عارفين بأشخاص أولئك جاهلين عداوتهم كما أمكن مثله في الإنس
الثاني أنهم المنافقون وعلى هذا فقوله لا تعلمونهم إنما ينبغي حمله على معرفة أشخاصهم لا على معرفة نفاقهم لأنهم كانوا عالمين بنفاق كثير من المنافقين يعلمون نفاقهم ولا يشكون فيه فلا يجوز أن ينفي عنهم علم ما هم عالمون به وإنما ينفي عنهم معرفة أشخاص من هذا الضرب فيكون كقوله تعالى لا تعلمهم نحن نعلمهم فتأمله
ويزيده وضوحا أن هذه الأفعال لا يجوز فيها الإقتصار على أحد المفعولين بخلاف باب أعطى وكسا للعلة المذكورة هناك وهي تعلق هذه الأفعال بالنسبة فلا بد من ذكر المنتسبين بخلاف باب أعطى فإنه لم يتعلق بنسبة فيصح الإقتصار فيه على أحد مفعولين وهذا واضح كما تراه والله تعالى أعلم

وأما تنظيرهم ل سألت الحائط والدار فيما بعد ما بينهما فإن هذا سؤال بلسان الحال وهو كثير في كلامهم جدا على أنه لا يمتنع أن يكون سؤالا بلسان المقال صريحا كما يقول الرجل للدار الخربة ليت شعري ما فعل أهلك وليت شعري ما صيرك إلى هذه الحال وليس هذا سؤال استعلام بل سؤال تعجب وتفجع وتحزن
وأما قوله واسأل القرية فالقرية إن كانت هنا اسما للسكان كما هو المراد بها في أكثر القرآن الكريم والكلام فلا مجاز ولا حذف وإن كان المراد بها المسكن فعلى حذف المضاف فأين التسوية والتنظير تنبيه علمت وظننت وتعديهما
قولهم علمت وظننت يتعدى إلى مفعولين ليس هنا مفعولان في الحقيقة وإنما هو المبتدأ والخبر وهو حديث إما معلوم وإما مظنون فكان حق الإسم الأول أن يرتفع بالإبتداء والثاني بالخبر ويلغى الفعل لأنه لا تأثير له في الإسم إنما التأثير لعرفت الواقعة على الإسم المفرد تعيينا وتمييزا
ولكن أرادوا تشبث علمت بالجملة التي هي الحديث كيلا يتوهم الإنقطاع بين المبتدأ وبين ما قبله لأن الإبتداء عامل في الإسم وقاطع له مما قبله وهم إنما يريدون إعلام المخاطب بأن هذا الحديث معلوم فكان إعمال علمت فيه ونصبه له إظهارا لتشبثها ولم يكن عملهما في أحد الإسمين أولى من الآخر فعملت فيهما جميعا
وكذلك ظننت لأنه لا يتحدث بحديث حتى يكون عند المتكلم إما مظنونا وإما معلوما فإن كان مشكوكا فيه أو مجهولا عنده لم يسعه التحدث به فمن ثم لم يعملوا شككت ولا جهلت فيما عملت فيه ظننت لأن الشك تردد بين أمرين من غير اعتماد على أحدهما بخلاف الظن فإنه معتمد على أحد الأمرين
وأما العلم فأنت فيه قاطع بأحدهما ومن ثم تعدى الشك بحرف في لأنه مستعار من شككت الحائط بالمسمار وشك الحائط إيلاج فيه من غير ميل إلى أحد الجانبين كما أن الشك في الحديث تردد فيه من غير ترجيح لأحد الجانبين إعمال كان
ونظير إعمالهم علمت وأخواتها في المبتدأ والخبر إعمالهم كان وأخواتها في

الجملة وإنما كان أصلها أن ترفع فاعلا واحدا نحو كان الأمر أي حدث فلما خلعوا منها معنى الحدث ولم يبق فيها إلا معنى الزمان ثم أرادوا أن يخبروا بها عن الحدث الذي هو زيد قائم أي زمان هذا الحدث ماض أو مستقبل أعملوها في الجملة ليظهر تشبثها بها ولئلا يتوهم انقطاعها عنها لأن الجملة قائمة بنفسها
وكان كلمة يوقف عليها أو يكون خبرا عما قبلها فكان عملها في الجملة دليلا على تشبثها بها وأنها خبر عن هذا الحدث ولم تكن لتنصب الإسمين لأن أصلها أن ترفع ما بعدها ولم تكن لترفعهما معا فلا يظهر عملها ولذلك رفعت أحدهما ونصبت الآخر
نعم ومنهم من يقول كان زيد قائم فيجعل الحديث هو الفاعل لكان فيكون معمولها معنويا لا لفظيا كأنك قلت كان هذا الحديث وأضمرت الشأن والحديث ودلت عليه قرينة الحال
والمسألة على حالها لأن الجملة حينئذ بدل من ذلك الضمير لأنها في معنى الحديث وذلك الحديث هو الأمر المضمر فهذا بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة
ونظير هذا المعمول المعنوي الذي هو الحديث معمول علمت وظننت إذا ألغيت نحو زيد ظننت قائم كأنك قلت ظننت هذا الحديث فلم تعملها لفظا وإنما أعملتها معنى إعمال إن وأخواتها
ومن هذا الباب إعمالهم إن وأخواتها وإنما دخلت لمعان في الجملة والحدث ألا ترى إن وأخواتها كلمات يصح الوقف عليها لأن حروفها ثلاثة فصاعدا كما قال الشاعر
ليت شعري وأين مني ليت ...
وقال حبيب
عسى وظن يدنو بهم ولعلما ...
وإذا كان هذا حكمها فلو رفع بعدها على الأصل بالإبتداء لم يظهر تشبثها بالحديث الذي دخلت لمعنى فيه فكان إعمالهم في الإسم المبتدأ إظهارا لتشبثها بالجملة كي لا يتوهم انقطاعها عنها وكان عملها نصبا لأن المعاني التي تضمنتها لو لفظ بها لنصبت نحو أؤكد وأترجى وأتمنى وليست هذه المعاني مضافة إلى الإسم المخبر عنه ولكن

الحديث هو المؤكد والمتمنى والمترجى فكان عملها نصبا بها وبقي الإسم الآخر مرفوعا لم تعمل فيه حيث لم تكن أفعالا كعلمت وظننت فتعمل في الجملة كلها
وأيضا أرادوا إظهار تشبثها بالجملة فاكتفوا بتأثيرها في الإسم الأول يدلك على أنها لم تعمل في الإسم الثاني أنه لا يليها لأنه لا يلي العامل ما عمل فيه غيره فلو عملت فيه لوليها كما يلي كان خبرها ويلي الفعل مفعوله نعم ومن العرب من أعملها في الإسمين جميعا وهو أقوى في القياس لأنها دخلت لمعان في الجملة فليس أحد الإسمين أولى بأن تعمل فيه من الآخر قال
إن العجوز حية حزوزا ... تأكل كل ليلة قفيزا
وقال
كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلما محرفا
وليس هذا من باب حذف فعل التشبيه كما قال بعضهم فإن هذا لغة قائمة بنفسها معاني هذه الحروف
واعلم أن معاني هذه الحروف لا تعمل في حال ولا ظرف ولا يتعلق بها مجرور لأنها معان في نفس المتكلم كالإستفهام والنفي والمعاني التي جعلت الحروف أمارات لها وليس لها وجود في اللفظ
فإذا قلت هل زيد قائم فمعناه استفهم عن هذا الحديث وكذلك لا معناها النفي وكذلك ليس ولذلك لما أرادوا تشبثها بالجملة لم ينصبوا بها الإسم الأول كما نصبوا ب أن حيث لم يكن معناها يقتضي نصبا إذا لفظ به كما يقتضي معنى أن ولعل إذا لفظ به اختلاف كأن عن أخواتها
تختلف كأن عن أخواتها من جهة أنها تدل على التشبيه وهو معنى في نفس المتكلم واقع على الإسم الذي بعدها فكأنك تخبر عن الإسم أنه يشبه غيره فصار معنى التشبيه مسندا إلى الإسم بعدها كما أن معاني الأفعال مسندة إلى الأسماء بعدها فمن ثم عملت في الحال والظرف تقول كأن زيدا يوم الجمعة أمير فيعمل التشبيه في الظرف ومن ذلك قوله
كأنه خارجا من جنب صفحته ... سفود شرب نسوه عند مفتئد
ومن ثم وقعت في موضع الحال والنعت كما تقع الأفعال المخبر بها عن الأسماء تقول مررت برجل كأنه أسد وجاءني رجل كأنه أمير

وليس ذلك في أخواتها لأنها لا تكون في موضع نعت ولا في موضع حال بل لها صدر الكلام كما لحروف الشرط والإستفهام لأنها داخلة لمعان في الجمل فانقطعت عما قبلها وإنما كانت كأن مخالفة لأخواتها من وجه وموافقة من وجه من حيث كانت مركبة من كاف التشبيه وأن التي للتوكيد وكان أصلها أن زيدا الأسد أي مثل الأسد ثم أرادوا أن يبينوا أنه ليس هو بعينه فأدخلوا الكاف على الحديث المؤكد بأن لتؤذن أن الحديث مشبه به
وحكم أن إذا أدخل عليها عامل أن تفتح الهمزة منها فصار اللفظ بها كأن زيدا الاسد فلما جاء في الكلمة من التشبيه المخبر به عن زيد صار زيد بمنزلة من أخبر عنه بالفعل فوقع موقع النعت والحال وعمل ذلك المعنى وتعلقت به المجرورات ومن حيث كان في الكلمة معنى أن دخلت في هذا الباب ووقع في خبرها الفعل نحو قولك كأن زيدا يقوم والجملة نحو كأن زيدا أبوه أمير
ولو لم يكن إلا مجرد التشبيه لم يجز هذا لأن الإسم لا يشبه بفعل ولا بجملة ولكنه حديث مؤكد بأن والكاف تدل على أن خبرا أشبه من خبر وذلك الخبر المشبه هو الذي عليه زيد فكان المعنى زيد قائم وكأنه قاعد وزيد أبوه وضيع وكأنه أبوه أمير فشبهت حديثا بحديث
والذي يؤكد الحديث أن والذي يدل على التشبيه الكاف فلم يكن بد من اجتماعها فصل حروف تمنع ما قبلها أن يعمل فيه ما بعدها
وكل هذه الحروف تمنع ما قبلها أن يعمل فيه ما بعدها لفظا أو معنى
أما اللفظ فلأنه لا يجتمع عاملان في اسم واحد وهذه الحروف عوامل وأما المعنى فلا تقول سرني زيد قائم أي سرني هذا الحديث ولا كرهت زيد قائم أي كرهت هذا الحديث كما يكون ذلك في كان وليس لأنها ليست بفعل محض فجاز أن تقول كان زيد قائم أي كان هذا الحديث ولم يجز في سرني ولا بلغني
فإن أدخلت ليت أو لعل أو إن المكسورة لم يجز أيضا لأن هذه المعاني ينبغي أن

يكون لها صدر الكلام فلا يقع بعدها فعل يعمل ولا يلغى فإن جئت ب أن المفتوحة قلت بلغني أن زيدا منطلق فأعملت الفعل في معمول معنوي وهو الحديث لأن الجملة الملفوظ بها حديث في المعنى وإنما جاز هذا لامتناع الفعل أن يعمل فيما عملت فيه أن ولا بد له من معمول فتسلط على المعمول المعنوي وهو الحديث حيث لم يمكن أن يعمل في اللفظي الذي عملت فيه أن
وكذلك كرهت أن زيدا منطلق المفعول هو الحديث وهو معنى لا لفظ
فإن قيل ولم لا جعلوا ل أن المفتوحة صدر الكلام كما جعلوا ل ليت ولعل ولجميع الحروف الداخلة على الجمل
قيل ليس في أن معنى زائدا على الجملة أكثر من التوكيد وتوكيد الشيء بمثابة تكراره لا بمثابة معنى زائد فيه فصح أن يكون الحديث المؤكد بها معمولا لما قبلها حيث منعت هي من عمل ما قبلها في اللفظ الذي بعدها فتسلط العامل الذي قبلها على الحديث ولم يكن له مانع في صدر الكلام يقطعه عنه كما لو كان ذلك في غيرها فتح همزة إن وكسرها
فإن كسرت همزتها كان الكسر فيها إشعارا بتجريد المعنى الذي هو التوكيد عن توطئة الجملة للعمل في معناها فليس بين المكسورة والمفتوحة فرق في المعنى إلا أنهم أرادوا توطئة الجملة لأن يعمل الفعل الذي قبلها في معناها
وإن صيروها في معنى الحديث فتحوا الهمزة وإذا أرادوا قطع الجملة مما قبلها وأن يعتمدوا على التوكيد اعتمادهم على الترجي والتمني كسروا الهمزة لتؤذن بالإبتداء والإنقطاع عما قبل
وأنهم قد جعلوا التوكيد صدر الكلام لأنه معنى كسائر المعاني وإن لم يكن في الفائدة مثل غيره وكان الكسر في هذا الموطن أولى لأنه أثقل من الفتح والثقل أولى أن يعتمد عليه ويصدر الكلام به والفتح أولى بما جاء بعد الكلام لخفته وأن المتكلم ليس في عنفوان نشاطه وجمامه مع أن المفتوحة قد يليها الضم والكسر كقولك لأنك وعلمت أنك فلو كسرت لتوالى الثقل
فإن قيل فما المانع أن تكون هي وما بعدها في موضع الإبتداء كما كانت في موضع الفاعل والمفعول والمجرور أليس قد صيرت الجملة في معنى الحديث فهلا تقول إنك منطلق يعجبني وما الفرق بينها وبين أن التي هي وما بعدها في تأويل الإسم نحو أن تقوم خير من أن تجلس فلم تكون تلك في موضع المبتدأ ولا تكون هذه كذلك

قيل إن المبتدأ يعمل فيه عامل معنوي والعامل المعنوي لولا أثره في المعمول اللفظي لما عقل
وهذه الجملة المؤكدة ب أن إنما يصح أن تكون معمولا لعامل لفظي لأن المعمول معنى أيضا فهذا لا يفهمه المخاطب ولا يصل إلى علمه إلا بوحي فامتنع أن تكون هذه الجملة المؤكدة في موضع المبتدأ لأنه لا ظهور للعامل ولا للمعمول ومن ثم لم تدخل عليه عوامل الإبتداء من كان وأخواتها وإن وأخواتها لأنها قد استغنت بظهور عملها في الجملة عن حرف يصير الجملة في معنى الحديث المعمول فيه فلا تقول كان أنك منطلق لا حاجة إلى أن مع عمل هذه الحروف في الجملة
وجواب آخر وهو أنهم لو جعلوها في موضع الإبتداء لم يسبق إلى الذهن إلا الإعتماد على مجرد التوكيد دون توطئة الجملة عنها فكانت تكسر همزتها وقد تقدم أن الكسر إشعار بالإنقطاع عما قبل واعتماد على المعنى الذي هو التوكيد فلم يتصور فتحها في الإبتداء إلا بتقديم عامل لفظي يدل على المراد بفتحها لأن العامل اللفظي يطلب معموله فإن وجده لفظا غير ممنوع منه وإلا تسلط على المعنى والإبتداء بخلاف هذا
فإن قيل فلم قالوا علمت أن زيدا منطلق وظننت أنه ذاهب هلا اكتفوا بعمل هذه الأفعال في الأسماء عن تصيير الجملة في معنى الحديث كما اكتفوا في باب كان وأن فقالوا كان زيد قائما ولم يقولوا كان أن زيدا قائما
قيل الفرق بينهما أن هذه الأفعال تدل على الحدث والزمان وليست بمنزلة كان وليس ولا بمنزلة إن وليت فجرت مجرى كرهت وأحببت فلذلك قالوا علمتك أنك منطلق كما قالوا أحببت أنك منطلق إلا أنها تخالف كرهت وسائر الأفعال لأنها لا تطلب إلا الحديث خاصة ولا تتعلق إلا به فمن ثم قالوا علمت زيدا منطلقا وزيد علمت منطلق ولم يقولوا كرهت زيدا أخاك لأنه لا متعلق لكرهت وسائر الأفعال بالحديث إنما متعلقها الأسماء ألا تمنعها أن من العمل في الأسماء فتصير متعلقة بالحديث فافهمه فصل العامل في قولك لو أنك ذاهب فعلت
فإن قيل فما العامل في هذا الحديث المؤكد بأن من قولك لو أنك ذاهب فعلت لا سيما ولو لا يقع بعدها إلا الفعل ولا فعل ههنا فما موضع أن وما بعدها

فالجواب أن أن في معنى التأكيد وهو تحقيق وتثبيت فذلك المعنى الذي هو التحقيق اكتفت به لو حتى كأنه فعل وليها ثم عمل ذلك المعنى في الحديث كأنك قلت لو ثبت أنك منطلق فصارت أن كأنها من جهة اللفظ عاملة في الإسم الذي هو لفظ ومن جهة المعنى عاملة في المعنى الذي هو الحديث
فإن قيل ألم يتقدم أنه لا يعمل عامل معنوي في معمول معنوي
قيل هذا في الإبتداء حيث لا لفظ يسد مسد العامل اللفظي فأما ههنا ف لو لشدة مقارنتها للفعل وطلبها له تقوم مقام اللفظ فالعامل الذي هو التحقيق والتثبيت التي دلت عليه أن بمعناها ومن ثم عمل حرف النفي المركب مع لو من قولك لولا زيد عمل المصدر فصار زيد فاعلا بذلك المعنى حتى كأنك قلت لو عدم زيد وفقد وغاب لكان كذا وكذا ولولا مقارنة لو لهذا الحرف لما جاز هذا لأن الحروف لا تعمل معانيها في الأسماء أصلا
فالعامل في هذا الإسم الذي بعد لو كالعامل في هذا الإسم الذي هو الحديث من قولك لو أنك ذاهب لفعلت كذا
وأما اختصاص لا بالتركيب معها في باب لولا زيد لزرتك فلأن لا قد تكون منفردة معنى عن الفعل إذا قيل لك هل قام زيد فتقول لا فقد أخبرت عنه بالقعود
وإذا قيل هل قعد قلت لا فكأنك مخبر بالقيام وليس شيء من حروف النفي يكتفي به في الجواب حتى يكون بمنزلة الإخبار إلا هذا الحرف فمن ثم صلح للإعتماد عليه في هذا الباب وساغ تركيبه مع حرف لا يطلب إلا الفعل فصارت الكلمة بأسرها بمنزلة حرف وفعل وصار زيد بعدها بمنزلة الفاعل ولذلك قال سيبويه إنه مبني على لولا وهذا هو الحق لأن ما يهذون به من أنه مبتدأوخبره محذوف لا يظهر وخامل لا يذكر هذا الفصل كله كلام السهيلي إلى آخره فائدة الإقتصار على المفعول الأول من باب أعلمت
قول سيبويه لا يجوز الإقتصار على المفعول الأول من باب أعلمت تأوله أصحابه بمعنى لا يحسن الإقتصار عليه

قالوا لأنه هو الفاعل في المعنى فإنه هو الذي علم ما أعلمته به من كون زيد قائما قالوا والفاعل يجوز الإقتصار عليه لتمام الكلام به فهكذا ما في معناه بخلاف المفعول الأول من باب علمت فإنه ليس فاعلا لفظا ولا معنى هذا تقرير قولهم وقول إمام النحو هو الصواب ولا حاجة إلى تأويله هذا التأويل البارد
وممن أنكر هذا التأويل السهيلي وقال عندي أن قول سيبويه محمول على الظاهر لأنك لا تريد بقولك أعلمت زيدا أي جعلته عالما على الإطلاق هذا محال إنما تريد أعلمته بهذا الحديث فلا بد إذا من ذكر الحديث الذي أعلمته به
فإن قيل فهل يجوز أظننت زيدا عمرا قائما
قيل الصحيح امتناعه لأن الظن إن كان بعد علم ضروري فمحال أن ينقلب ظنا وإن كان بعد علم نظري لم يرجع العالم إلى الظن إلا بعد النسيان والذهول عن ركن من أركان النظر وهذا ليس من فعلك أنت به فلا تقول أظننته بعد أن كان عالما وإن كان قبل الظن شاكا أو جاهلا أو عاقلا لم يتصور أيضا أن تقول أظننته لأن الظن لا يكون عن دليل يوقفه عليه أو خبر صادق يخبره به كما يكون العلم لأن الدليل لا يقتضي ظنا ولا يقتضي أيضا شبهة كما بينه الأصوليون فثبت أن الظن لا تفعله أنت به ولا تفعل شيئا من أسبابه فلم يجز أظننته أي جعلته ظانا وكذلك يمتنع أشككته أي جعلته شاكا ولكنهم يقولون شككته إذا جذبته بحديث يصرفه عن حال الظن إلى حال الشك هذا كلام السهيلي وليس الأمر كما قال ولا فرق بين أعلمته وأظننته إلا من جهة السماع
وأما الجواب مما ذكرناه فيقال ما المانع أن يكون أظننته أي جعلته ظانا بعد أن كان جاهلا أو شاكا مما ذكرته له من الأمارات والأدلة الظنية
وقولك إن الظن لا يكون عن دليل يوقفه عليه أو خبر صادق يخبر به دعوى مجردة بل ظاهرة البطلان فإن الظن هو الرجحان فإذا ذكرت له أمارة ظاهرة لا توجب اليقين أفادته الرجحان وهو الظن وهذا كما إذا أخبرك من يثير خبره لك ظنا راجحا ولا ينتهي إلى قطع كالشاهد وغيره فدعوى أن الظن لا يكون عن دليل دعوى باطلة وإن أردت أنه لا يكون عن دليل قاطع لم يفدك شيئا فإنه يكون عن أمارة تحصل له ولا يلزم من كون الدليل لا يقتضي الظن إلا تقتضيه الإمارة
وقوله فثبت أن الظن لا تفعله أنت ولا تفعل شيئا من أسبابه يقال وكذلك العلم لم تفعله أنت به ولا شيئا من أسبابه إن أردت أنك لم تحدثه فيه وإن

أردت أنك لم تتسبب إلى حصوله فيه فباطل فإن ذكر الأمارات والأدلة الظنية سبب إلى حصول الظن له وهذا أظهر من أن يحتاج إلى تقريره ويدل عليه قولهم شككته فإن معناه أحدثت له شكا بما ذكرته له من الأمور التي تستلزم شكه فائدة الفعل الذي يطلب مفعولا ولا يصل إليه بنفسه
كل فعل يقتضي مفعولا ويطلبه ولا يصل إليه بنفسه توصلوا إليه بأداة وهي حرف الجر ثم أنهم قد يحذفون الحرف لتضمن الفعل معنى فعل متعد بنفسه كما تقدم
لكن هنا دقيقة ينبغي التفطن لها وهي أنه قد يتعدى الفعل بنفسه إلى مفعول وإلى آخر بحرف الجر ثم يحذف المفعول الذي وصل إليه بنفسه لعلم السامع به ويبقى الذي وصل إليه بحرف الجر كما قالوا نصحت لزيد وكلت له ووزنت له وشكرت له المفعول في هذا كله محذوف والفعل واصل إلى الآخر بحرف الجر ولا يسمع قولهم أربعة أفعال تتعدى بنفسها تارة وبحرف الجر أخرى ويذكرون هذه فإنه كلام مجرد عن تحقيق بل المفعول في الحقيقة محذوف فإن قولك نصحت له مأخوذ من نصح الخياط الثوب إذا أصلحه وضم بعضه إلى بعض
ثم استعير في الرأي فقالوا نصحت له أي نصحت له رأيه أي أخلصته وأصلحته له والتوبة النصوح إنما هي من هذا فإن الذنب يمزق الدين فالتوبة النصوح بمنزلة نصح الخياط الثوب إذا أصلحه وضم أجزاءه ويقولون نصحت زيدا فيسقطون الحرف لأن النصيحة إرشاد فكأنك قلت أرشدته وكذلك شكرت إنما هو تفخيم للفعل وتعظيم له من شكر بطنه إذا امتلأ فالأصل شكرت لزيد إحسانه وفعله ثم تحذف المفعول فتقول شكرت لزيد ثم تحذف الحرف لأن شكرت متضمنة لحمدت أو مدحت وأما كلت لزيد ووزنت له فمفعولهما غير زيد لأن مطلوبها ما يكال أو يوزن فالأصل دخول اللام ثم قد يحذف لزيادة فائدة لأن كيل الطعام ووزنه يتضمن معنى المبايعة والمقاوضة إلا مع حرف اللام فإن قلت كلت لزيد أخبرت بكيل الطعام خاصة وإذا قلت كلت زيدا فقد أخبرت بمعاملته ومبايعته مع الكيل كأنك قلت بايعته بالكيل والوزن
قال تعالى وإذا كالوهم أو وزنوهم المطففين 3 أي بايعوهم كيلا أو وزنا

وأما قوله اكتالوا على الناس المطففين 2 فإنما دخلت على لتؤذن أن الكيل على البائع للمشتري ودخلت التاء في اكتالوا لأن افتعل في هذا الباب كله للأخذ لأنها زيادة على الحروف الأصلية تؤذن بمعنى زائد على معنى الكلمة لأن الأخذ للشيء كالمبتاع والمكتال والمشتري ونحو ذلك يدخل فعله من التناول والإجترار إلى نفسه والإحتمال إلى رحله ما لا يدخل فعل المعطي والمبايع
ولهذا قال سبحانه لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت البقرة 286 يعني من السيئات لأن الذنوب يوصل إليها بواسطة الشهوة والشيطان والهوى والحسنة تنال بهبة الله من غير واسطة شهوة ولا إغراء عدو فهذا الفرق بينهما على ما قاله السهيلي وفيه فرق أحسن من هذا وهو أن الإكتساب يستدعي التعمل والمحاولة والمعاناة فلم يجعل على العبد إلا ما كان من هذا القبيل الحاصل بسعيه ومعاناته وتعمله
وأما الكسب فيحصل بأدنى ملابسة حتى بالهم بالحسنة ونحو ذلك فخص الشر بالإكتساب والخير بأعم منه ففي هذا مطابقة للحديث الصحيح إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها // رواه البخاري ومسلم // وأما حديث الواسطة وعدمها فضعيف لأن الخير أيضا بواسطة الرسول والملك والإلهام والتوفيق فهذا في مقابلة وسائط الشرط فالفرق ما ذكرناه والله أعلم فصل سمع الله لمن حمده
وأما سمع الله لمن حمده فقال السهيلي مفعول سمع محذوف لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام على بابها إلا أنها تؤذن بمعنى زائد وهو الإستجابة المقارنة للسمع فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد وهي الإستجابة لمن حمده
وهذا مثل قوله عسى أن يكون ردف لكم ليست اللام لام المفعول كما زعموا ولا هي زائدة ولكن ردف فعل متعد ومعموله غير هذا الإسم كما كان مفعول سمع غير المجرور ومعنى ردف تبع وجاء على الأثر فلو حملته على الإسم المجرور لكان المعنى غير صحيح إذا تأملته ولكن المعنى ردف لكم استعجالكم وقولكم لأنهم قالوا

متى هذا الوعد ثم حذف المفعول الذي هو القول والإستعجال اتكالا على فهم السامع ودلت اللام على الحذف لمنعها الإسم الذي دخلت عليه أن يكون مفعولا وآذنت أيضا بفائدة أخرى وهي معنى عجل لكم فهي متعلقة بهذا المعنى فصار معنى الكلام قل عسى أن يكون عجل لكم بعض الذي تستعجلون فردف قولكم واستعجل لكم فدلت ردف على أنهم قالوا واستعجلوا ودلت اللام على المعنى الآخر فانتظم الكلام أحسن انتظام واجتمع مع الإيجاز معنى التمام
قلت فعل السمع يراد به أربعة معان أحدهما سمع إدراك ومتعلقه الأصوات
الثاني سمع فهم وعقل ومتعلقه المعاني
الثالث سمع إجابة وإعطاء ما سئل
الرابع سمع قبول وانقياد
فمن الأول سمع الله قول التي تجادلك في زوجها المجادلة 1 ولقد سمع الله قول الذين قالوا آل عمران 181
ومن الثاني قوله لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا البقرة 104 ليس المراد سمع مجرد الكلام بل سمع الفهم والعقل ومنه سمعنا وأطعنا
ومن الثالث سمع الله لمن حمده وفي الدعاء المأثور اللهم اسمع أي أجب وأعط ما سألتك
ومن الرابع قوله تعالى سماعون للكذب المائدة 41 أي قابلون له ومنقادون غير منكرين له
ومنه على أصح القولين وفيكم سماعون لهم التوبة 47 أي قابلون ومنقادون وقيل عيون وجواسيس وليس بشيء فإن العيون والجواسيس إنما تكون بين الفئتين غير المختلطتين فيحتاج إلى الجواسيس والعيون وهذه الآية إنما هي في حق المنافقين وهم كانوا مختلطين بالصحابة بينهم فلم يكونوا محتاجين إلى عيون وجواسيس وإذا عرف هذا فسمع الإدراك يتعدى بنفسه وسمع القبول يتعدى باللام تارة وبمن أخرى وهذا بحسب المعنى
فإذا كان السياق يقتضي القبول عدي ب من وإذا كان يقتضي الإنقياد عدي باللام وأما سمع الإجابة فيتعدى باللام نحو سمع الله لمن حمده لتضمنه معنى استجاب له ولا حذف هناك وإنما هو مضمن وأما سمع الفهم فيتعدى بنفسه لأن مضمونه يتعدى بنفسه

فصل قولهم قرأت الكتاب واللوح
ومما يتعلق بهذا قولهم قرأت الكتاب واللوح ونحوهما مما يتعدى بنفسه وأما قرأت بأم القرآن وقرأت بسورة كذا كقوله لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب // رواه البخاري ومسلم // ففيه نكتة بديعة قل من يتفطن لها وهي أن الفعل إذا عدى بنفسه فقلت قرأت سورة كذا اقتضى اقتصارك عليها لتخصيصها بالذكر وأما إذا عدي بالباء فمعناه لا صلاة لمن لم يأت بهذه السورة في قراءته أو في صلاته أي في جملة ما يقرأ به وهي لا يعطى الإقتصار عليها بل يشعر بقراءة غيرها معها
وتأمل قوله في الحديث كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة كيف تجد المعنى أنه يقرأ فيما يقرأ به بعد الفاتحة بهذا العدد وكذلك قوله قرأ ب الأعراف إنما هي بعد الفاتحة وكذلك قرأ بسورة ق ونحو هذا
وتأمل كيف لم يأت بالباقي قوله قرأسورة النجم فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون // رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي // فقال قرأ سورة النجم ولم يقل بها لأنه لم يكن في صلاة فقرأها وحدها وكذلك قوله قرأ على الجن سورة الرحمن // حسن لغيره // ولم يقل بسورة الرحمن

وكذلك قرأ على أبي سورة لم يكن // رواه البخاري ومسلم والترمذي // ولم يقل بسورة ولم تأت الباء إلا في قراءة في الصلاة كما ذكرت لك وإن شئت قلت هو مضمن معنى صلى بسورة كذا وقام بسورة كذا وعلى هذا فيصح هذا الإطلاق وإن أتى بها وحدها وهذا أحسن من الأول وعلى هذا فلا يقال قرأ بسورة كذا إذا قرأها خارج الصلاة وألفاظ الحديث تتنزل على هذا فتدبرها فصل كفى بالله شهيدا
وأما كفى بالله شهيدا فالباء متعلقة بما تضمنه الخبر عن معنى الأمر بالإكتفاء لأنك إذا قلت كفى بالله أو كفاك الله زيدا فإنما تريد أن يكتفي هو به فصار اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الأمر فدخلت الباء لهذا السبب فليست زائدة في الحقيقة وإنما هي كقولك حسبك بزيد ألا ترى أن حسبك مبتدأ وله خبر ومع الله فقد يجزم الفعل في جوابه فتقول حسبك ينم الناس فينم جزم على جواب الأمر الذي في ضمن الكلام حكى هذا سيبويه عن العرب فائدة تعدي الفعل إلى المصدر
تعدي الفعل إلى المصدر على ثلاثة أمور أحدها أن يكون مفعولا مطلقا لبيان النوع الثاني أن يكون توكيدا الثالث أن يكون حالا قال سيبويه وإنما تذكره لتبين أي فعل فعلت أو توكيدا

وأما الحال فنحو جاء زيد مشيا وسعيا تريد ماشيا وساعيا وفيه قولان أحدهما هذا والثاني أن الحال محذوف ومشيا معمولها أي يمشي مشيا وقد تقول مشيت ماشيا وقعدت قاعدا تجعلها حالا مؤكدة وقد تقول مشيت مشيا بطيئا ومسرعا فلك فيها وجهان
أحدهما أن يكون المصدر حالا فيكون من باب قوله تعالى لسانا عربيا الأحقاف 12 وهي الحال الموطئة لأن الصفة وطأت الإسم الجامد أن يكون حالا فإن حذفت الإسم وبقيت الصفة وحدها لم يكن في الحال إشكال نحو سرت شديدا
ويبين ما قلناه إن قولك سرت شديدا هي حال من المصدر الذي دل عليه الفعل فإذا أردت بالمصدر هذا المعنى كان بمنزلة الحال ويجوز تقديمه وتأخيره إذا كان مفعولا مطلقا أو حالا ولا يجوز تقديمه على الفعل إذا كان توكيدا له لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد
والعامل فيه إذا أردت معنى الحال الفعل نفسه والعامل فيه إذا كان مفعولا مطلقا ليس هو لفظ الفعل بنفسه وإنما هو ما يتضمنه من معنى فعل الذي هو فاء وعين ولام لأنك إذا قلت ضربا فالضرب ليس بمضروب ولكنك حين قلت ضربت تضمن ضربت معنى فعلت لأن كل ضرب فعل وليس كل فعل ضربا فصار هذا بمنزلة تضمن الإنسان الحيوان
وإذا كان كذلك فضربا منصوب بفعلت المدلول عليها بضربت حتى كأنك قلت فعلت ضربا ولا يكون المصدر مفعولا مطلقا حتى يكون منعوتا أو في حكم المنعوت وإنما يكون توكيدا للفعل لأن الفعل يدل عليه دلالة مطلقة ولا يدل عليه محدودا ولا منعوتا وقد يكون مفعولا مطلقا وليس ثم نعت في اللفظ إذا كان في حكم المنعوت كأنك تريد ضربا تاما فلا يكون حينئذ توكيدا إذ لا يؤكد الشيء بما فيه معنى زائدا على معناه لأن التوكيد تكرار محض تكليم الله لموسى
احتج بعض أهل السنة على القائلين من المعتزلة بأن تكليم الله لموسى عليه السلام مجاز بقوله وكلم الله موسى تكليما النساء 164 فأكد الفعل بالمصدر ولا يصح المجاز مع التوكيد
قال السهيلي فذاكرت بها شيخنا أبا الحسن فقال هذا حسن لولا أن سيبويه أجاز في مثل هذا أن يكون مفعولا مطلقا وإن لم يكن منعوتا في اللفظ فيحتمل على هذا أن يريد تكليما ما فلا يكون في الآية حجة قاطعة والحجج عليهم كثيرة

الوحي وتفسيره
قلت وهذا ليس بشيء والآية صريحة في أن المراد بها تكليم أخص من الإيحاء فإنه ذكر أنه أوحى إلى نوح والنبيين من بعده وهذا الوحي هو التكليم العام المشترك ثم خص موسى باسم خاص وفعل خاص وهو كلم تكليما ورفع توهم إرادة التكليم العام عن الفعل بتأكيده بالمصدر
وهذا يدل على اختصاص موسى بهذا التكليم ولو كان المراد تكليما ما لكان مساويا لما تقدم من الوحي أو دونه وهو باطل
وأيضا فإن التأكيد في مثل هذا السياق صريح في التعظيم وتثبيت حقيقة الكلام والتكليم فعلا ومصدرا ووصفه بما يشعر بالتقليل مضاد للسياق فتأمله
وأيضا فإن الله سبحانه قال لموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي الأعراف 144 فلو كان التكليم الذي حصل له تكليما ما كان مشاركا لسائر الأنبياء فيه فلم يكن لتخصيصه بالكلام معنى
وأيضا فإن وصف المصدر ههنا مؤذن بقلته وإن نوعا من أنواع التكليم حصل له وهذا محال ههنا فإن الإلهام تكليم ما ولهذا سماه الله تعالى وحيا والوحي تكليم ما فقال وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه القصص 7 وإذا أوحيت إلى الحواريين المائدة 111 ونظائره
وقال عبادة بن الصامت رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه فكل هذه الأنواع تسمى تكليما ما وقد خص الله سبحانه موسى واصطفاه على البشر بكلامه له
وأيضا فإن الله سبحانه حيث ذكر موسى ذكر تكليمه له باسم التكليم الخاص دون الإسم العام كقوله ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني الأعراف 143 بل ذكر تكليمه له بأخص من ذلك وهو تكليم خاص كقوله وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا مريم 52 فناداه وناجاه والنداء والنجاء أخص من التكليم لأنه تكليم خاص فالنداء تكليم من البعد يسمعه المنادي والنجاء تكليم من القرب
وأيضا فإنه اجتمع في هذه الآية ما يمتنع معه حملها على ما ذكره وهو أنه ذكر الوحي المشترك ثم ذكر عموم الأنبياء بعد محمد ونوح ثم ذكر موسى بعينه بعد ذكر النبيين عموما ثم ذكر خصوص تكليمه ثم أكده بالمصدر

وكل من له أدنى ذوق في الألفاظ ودلالتها على معانيها يجزم بأن هذا السياق يقتضي تخصيص موسى بتكليم لم يحصل لغيره وأنه ليس تكليما ما فما ذكره أبو الحسن غير حسن بل باطل قطعا والذي غره ما اختاره سيبويه من حذف صفة المصدر وإرادتها وسيبويه لم يذكر هذا في كل مصدر كان هذا شأنه وإنما ذكر أن هذا مما يسوغ في الجملة فإذا كان في الكلام ما يدل على إرادة التأكيد دون الصفة لم يقل سيبويه ولا أحد أنه موصوف محذوف يدل على تقليله كما إذا قيل صدقت الرسول تصديقا وآمنت به إيمانا أو قيل قاتل فلان مع رسول الله قتالا ونصره نصرا وبين الرسول لأمته تبينا وأرشدهم إرشادا وهداهم هدى فهل يقول سيبويه أو أحد أن هذا يجوز أن يكون موصوفا والمراد تصديقا وإيمانا ما وتبيينا ما وهدى ما فهكذا الآية والله تعالى الموفق للصواب العامل في المصدر إذا كان توكيدا للفعل
قال السهيلي وسألته عن العامل في المصدر إذا كان توكيدا للفعل والتوكيد لا يعمل فيه المؤكد إذ هو هو في المعنى فما العامل فيه فسكت قليلا ثم قال ما سألني عنه أحد قبلك وأرى أن العامل فيه ما كان يعمل في الفعل قبله لو كان اسما لأنه لو كان اسما لكان منصوبا بفعلت المتضمنة فيه
ثم عرضت كلامه على نفسي وتأملت الكتاب فإذا هو قد ذهل عما لوح إليه سيبويه في باب المصادر بل صرح وذلك أنه جعل المصدر المؤكد منصوبا بفعل هو التوكيد على الحقيقة واختزل ذلك الفعل وسد المصدر الذي هو معموله مسده كما سدت إياك وزيدا مسد العامل فيهما فصار التقدير ضربت ضربت ضربا فضربت الثانية هي التوكيد على الحقيقة وقد سد ضربا مسدها وهو معمولها وإنما يقدر عملها فيه على أنه مفعول مطلق لا توكيد
هذا معنى قول صاحب الكتاب مع زيادة شرح ومن تأمله هناك وجده كذلك والذي أقول به الآن قول الشيخ أبي الحسن لأن الفعل المختزل معنى والمعاني لا يؤكد بها وإنما يؤكد بالألفاظ
وقولك ضربت فعل مشتق من المصدر فهو يدل عليه فكأنك قلت فعلت الضرب فضربت يتضمن المصدر ولذلك تضمره فتقول من كذب فهو شر له وتقيده بالحال نحو قمنا سريعا فسريعا حال من القيام
فكما جاز أن تقيده بالحال وأن تكنى عنه جاز أيضا أن تؤكده بضربا كأنك قلت

ضربا ضربا أو نصب ضربا المتضمن ضربا المصرح به وبه يعمل في الثاني يعني فعلت كما كان ذلك في المفعول المطلق إذا قلت ضربت ضربا شديدا أي فعلت ضربا شديدا وليس المؤكد كذلك إنما ينتصب كما ينتصب زيد الثاني في قولك ضربت زيدا مكررا انتصب من حيث كان هو الأول لا أنك أضمرت له فعلا فتأمله فصل تأكيد الأفعال بالمصادر
فيما يؤكد من الأفعال بالمصادر وما لا يؤكد
قد أشرنا إلى أن الفعل قسمان خاص وعام فالعام فعلت وعملت وفعلت أعم لأن عملت عبارة عن حركات الجوارح مع دأب ولذلك جاء على وزن فعل كتعب ونصب ومن ثم لم تجدها يخبر بها عن الله سبحانه إلا أن يراد به سمع فيحمل على المجاز المحض ويلتمس له التأويل قلت وقد ورد قوله تعالى أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما يس 71 وقد تقدم له كلام أن اليد صفة أخص من القدرة والنعمة كما هو مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله ونصر ذلك المذهب وارتضاه وعلى هذا فلا تأويل في الآية بل هي على حقيقتها على قوله وأما الدأب والنصب وإثبات الجارحة فمن خصائص العبد والله تعالى منزه عن ذلك متعال عنه
وخصائص المخلوقين لا يجوز إثباتها لرب العالمين بل الصفة المضافة إلى الله لا يلحقه فيها شيء من خصائصهم فإثباتها له كذلك لا يحتاج معه إلى تأويل فإن الله ليس كمثله شيء
وقد تقدم أن خصائص المخلوقين غير داخلة في الإسم العام فضلا عن دخولها في الإسم الخاص المضاف إلى الرب تعالى وأنها لا يدل اللفظ عليها بوضعه حتى يكون نفيها عن الرب تعالى صرفا للفظ عن حقيقته
ومن اغتفر دخولها في الإسم المضاف إلى الرب ثم توسل بذلك إلى نفي الصفة عنه فقد جمع بين التشبيه والتعطيل وأما من لم يدخلها في مسمى اللفظ الخاص ولا أثبتها للموصوف فقوله محض التنزيه وإثبات ما أثبت الله تعالى لنفسه فتأمل هذه النكتة ولتكن منك على ذكر في باب الأسماء والصفات فإنها تزيل عنك الإضطراب والشبهة والله تعالى الموفق للصواب

فعلت ونحوها لا تؤكد بمصدر
عاد كلامه قال إذا ثبت هذا وما كان نحوها من الأحداث العامة الشائعة فإنها لا تؤكد بمصدر لأنها في الأفعال بمنزلة شيء وجسم في الأسماء فلا يؤكد لأنه لم يثبت له حقيقة معينة عند المخاطب وإنما يؤكد ما ثبت حقيقة والمخاطب أحوج إلى ذكر المفعول المطلق الذي تقع به الفائدة منه إلى توكيد فعلت
فلو قلت له فعلت فعلت وأكدته بغاية ما يمكن من التوكيد ما كان الكلام إلا غير مفيد وكذلك لو قال فعلت فعلا على التوكيد لأن المصدر الذي كنت تؤكد به لو أكدت قياسه أن يكون مفتوح الفاء لأنه ثلاثي والمصدر الثلاثي قياسه فتح فائه كما أن فعله كذلك قلت هذا ليس على إطلاقه فإن فعلت إذا أريد بها الفعل العام الذي لم تتحصل حقيقته عند المخاطب امتنع تأكيدها بل مثل هذا لا يقع في التخاطب
وأما إذا أريد بها فعل خاص قد تحصلت حقيقته وتميزت عندهما كما إذا قال له أنت فعلت هذا وأشار إلى فعل معين فإنه إذا أكد الفعل وقال فعلت فعلت كان الكلام مفيدا أبلغ فائدة وهذا إنما جاء من حيث كانت فعلت مرادا به الحدث الخاص وأكثر ما يجيء فعلت في الخطاب كذلك فتأمله
قال إذا ثبت هذا فلا يقع بعد فعلت إلا مفعول مطلق إما من لفظها فيكون عاما نحو فعلت فعلا حسنا ومن ثم جاء مكسور الفاء لأنه كالطحن والذبح ليس بمصدر اشتق منه الفعل بل هو مشتق من فعلت
وإما أن يكون خاصا نحو فعلت ضربا فضربا أيضا مفعول مطلق من غير لفظ فعل فصار فعلت كطحنت طحنا وفعلت ضربا كطحنت دقيقا الإستغناء بالمفعول المطلق عن المصدر
فإن قيل ألم يجيزوا في ضربت ضربا وقتلت قتلا أن يكون مفعولا مطلقا فلم لم يكن مكسور الأول إذا كان مفعولا مطلقا ومفتوحا إذا كان مصدرا مؤكدا
قيل ألم يقدم في أول الفائدة أنه لا يعمل في ضربا إذا كان مفعولا مطلقا إلا معنى فعلت لا لفظ ضربت فلو عمل فيه لفظ ضربت لقلت ضربا بالكسر كطحن وهو محال لأن الضرب لا يضرب ولكنك إذا شققت له اسما من فعلت التي هي عاملة فيه على الحقيقة فقلت هو فعل
وإن شققت له اسما من ضربت التي لا يعمل لفظها فيه لم يجز أن يجعلها كالطحن

والذبح لأن الإسم القابل لصورة الفعل إنما يشتق لفظه من لفظ ما عمل فيه فثبت من هذا كله أن فعلت وعملت استغنى بمفعولها المطلق عن مصدرها لأنها لا تتعدى إلا إلى حدث وذلك الحدث يشتق له اسم من لفظها فيجتمع اللفظ والمعنى ويكون أقوى عند المخاطب من المصدر الذي يشتق منه الفعل
ولذلك لم يقولوا صنعت صنعا بفتح الصاد ولا عملت عملا بسكون الميم ولا فعلت فعلا بفتح الفاء استغناء عن المصادر بالمفعولات المطلقة لأن العمل مثل القصص والنغص والصنع مثل الدهن والخبز والفعل مثل الطحن وكلها بمعنى المفعول لا بمعنى المصدر الذي اشتق منه الفعل
وجميع هذه الأفعال العامة لا تتعدى إلى الجواهر والأجسام إلا أن يخبر بها عن خالقها وإنما تتعدى إلى الجواهر بعض الأفعال الخاصة تحت ضربت زيدا فهو مضروب على الإطلاق وإن اشتق له من لفظ فعلت مفعول به أي فعل به الضرب ولم يفعل هو جاز
وأما حلمت في النوم حلما فهو بمنزلة فعلت وصنعت في اليقظة لأن جميع أفعال النوم تشتمل عليها حلمت وكان جميع أفعال اليقظة يشتمل عليها فعلت فمن ثم لم يقولوا حلما بوزن ضربا لأن حلمت مغنية عن المصدر كما كانت فعلت مغنية عنه وإنما مطلوب المخاطب معرفة المحلوم والمفعول فلذلك قالوا حلما ولذلك جمعوه على أحلام وحلوم لأن الأسماء هي التي تجمع وتثنى وأما الفعل أو ما فائدته كفائدة الفعل من المصادر فلا يجمع ولا يثنى
وقولهم إنما جمعت الحلوم والأشغال لاختلاف الأنواع بل يقال لهم وهل اختلفت الأنواع إلا من حيث كانت بمثابة الأسماء المفعولة ألا ترى أن الشغل على وزن فعل كالدهن هو عبارة عما يشتغل المرء عنه فهو اسم مشتق من الفعل وليس الفعل مشتقا منه إنما هو مشتق من الشغل والشغل هو المصدر كما أن الجعل كذلك فعلى هذا ليس الإشتغال والأحلام بجمع المصدر بل هو جمع اسم المصادر على الحقيقة لا تجمع
والمصدر على الحقيقة لا يجمع لأن المصادر كلها جنس واحد من حيث كانت عبارة عن حركة الفاعل والحركة تماثل الحركة ولا تخالفها بذاتها ولولا هاء التأنيث في

الحركة ما ساغ جمعها فلو نطقت العرب بمصدر حلمت الذي استغنى عنه بالحلم وبمصدر شكرت الذي استغنى عنه بالشكر لما جاز جمعه لأن اختلاف الأنواع ليس راجعا إليه وإنما هو راجع إلى المفعول المطلق
ألا ترى أن الشكر عبارة عما يكافأ به المنعم من ثناء أو فعل وكذلك نقيضه وهو الكفر عبارة عما يقابل به المنعم من جحد وقبح فعل فهو مفعول مطلق لا مصدر اشتق منه الفعل إلا أن الكفر يتعدى بالباء لتضمنه معنى التكذيب وشكرت يتعدى باللام التي هي لام الإضافة لأن المشكور في الحقيقة هي النعمة وهي مضافة إلى المنعم وكذلك المكفور في الحقيقة هي النعمة لكن كفرها تكذيب وجحد فلذلك قالوا كفر بالله وكفر نعمته وشكر له وشكر نعمته
وإذا ثبت أن الشكر من قولك شكرت شكرا مفعول مطلق وهو مختلف الأنواع لأن مكافأة النعم تختلف جاز أن يجمع كما جمع الحلم والشغل فيحتمل قوله سبحانه حكاية عن المخلصين من عباده لا نريد منكم جزاء ولا شكورا الإنسان 9 أن يكون جمعا لشكر وليس كالقعود والجلوس لأنه متعد ومصدر المتعدي لا يجيء على الفعول
قلت الصحيح أنه مصدر جاء على الفعول لأن مقابله وهو الكفر والجحد والنفار تجيء مصادرها على الفعول نحو كفور وجحود ونفور ويبعد كل البعد أن يراد بالكفور جمع الكفر والكفر لا يعهد جمعه في القرآن قط ولا في الإستعمال فلا يعرف في التخاطب كفار أو كفور وإنما المعروف الكفر والكفران والكفور مصادر ليس إلا فحسن مجيء الشكور على الفعول حمله على مقابله وهو كثير في اللغة وقد تقدمت الإشارة إليه
وحتى لو كان الشكور سائغا استعماله جمعا واحتمل الجمع والمصدر لكان الأليق بمعنى الآية المصدر لا الجمع لأن الله تعالى وصفهم بالإخلاص وأنهم إنما قصدوا بإطعام الطعام وجهه ولم يريدوا من المطعمين جزاء ولا شكورا
ولا يليق بهذا الموضع أن يقول لا نريد منكم أنواعا من الشكر وأصنافا منه بل الأليق بهم وبإخلاصهم أن يقولوا لا نريد منكم شكرا أصلا فينفوا إرادة نفس هذه الماهية منهم وهو أبلغ في قصد الإخلاص من نفي الأنواع فتأمله فإنه ظاهر فلا يليق بالآية إلا المصدر وكذلك قوله تعالى لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا إنما هو مصدر وليس بالمعهود البين جمع الشكر على الشكور واستعماله كذلك كما لو لم يعهد ذلك في الكفور

الإستغناء بالمفعول المطلق عن المصدر
عاد كلامه قال ويزيد هذا وضوحا قولهم أحببت حبا فالحب ليس بمصدر لأحببت إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب ولذلك جاء على وزنه مضموم الأول ومن ثم جمع كما يجمع الشغل قال
ثلاثة أحباب فحب علاقة ... وحب تملاق وحب هو القتل
فقد انكشف لك بقولهم أحببت حبا ولم يقولون إحبابا استغناء بالمفعول المطلق الذي هو أفيد عند المخاطب من الأحباب أن حلمت حلما وشكرت شكرا وكفر كفرا وصنع صنعا كلها واقعة على ما هو اسم للشيء المفعول وناصب له نصب المفعول المطلق وهو في هذه الأفعال أجدر أن يكون كذلك لأنها أعم من أحببت إذ الشكر واقع على أشياء مختلفة وكذلك الكفر والشغل والحلم
وكلما كان الفعل أعم وأشيع لم يكن لذكر مصدره معنى وكان فعل ويفعل مغنيا عنه ولولا كشف الشاعر لاختلاف أنواع الحب ما كدنا نعرف ما فيه من العموم وأنه في معنى الشغل صار أحببت كشغلت وصار الحب كالشغل ولو قال إحبابا لكان بمنزلة شغلت شغلا بفتح الشين ألا ترى أنهم لا يجمعون من المصادر ما كان على وزن الإفعال نحو الإكرام وعلى وزن الإنفعال والإفتعال والفعل ونحوها إلا أن يكون محددا كالتمرة من التمر وأما جمعه لاختلاف الأنواع فلا اختلاف للأنواع فيه إنما اختلاف الأنواع فيما كان اسما مشتقا من الفعل استغنى به عن المصدر لخصوصه وعموم المصدر وذلك لا تجده في الثلاثي إلا على وزن فعل وفعل ألا ترى أنهم لا يجمعون نحو الحذر والرمد والخدر والخفس والبرص والعمى وبابه
قلت فعل الحب فيه لغتان فعل وافعل وقد أنشدوا في الصحاح بيتين على اللغتين وهما
أحب أيا مروان من أجل تمره ... واعلم أن الحب بالمرء أرفق
ووالله لولا تمره ما حببته ... وكان عياض منه أدنى ومشرق
هكذا أنشده المبرد والذي في الصحاح ولا كان أدنى من عبيد ومشرق بالأقواء والبيتان لغيلان بن شجاع النهشلي وهو عربي فصيح وإذا ثبت أنهما لغتان في أحببته حبا فأنا له محب وهو محبوب على تداخل اللغتين فأتوا في المصدر

الثلاثي كالشكر والشغل واستعملوا من الفعلين الرباعي في غالب كلامهم حتى كأنهم هجروا الثلاثي وأتوا بمصدره حتى كأنهم هجروا الرباعي
فلما جاءوا إلى اسم الفاعل أتوا بالإسم من الرباعي حتى كأنهم لم ينطقوا بالثلاثي فقالوا محب ولو يقولوا حاب أصلا وجاءوا إلى المفعول فأتوا به من الفعل الثلاثي في الأكثر فقالوا محبوب ولم يقولوا محب إلا نادرا كما قال
ولقد نزلت فلا تظنى غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
فهذا من أحببت كما أن المحبوب من حببت ثم استعملوا لفظ الحبيب في المحبوب أكثر من استعمالهم إياه في المحب مع أنه يطلق عليهما فمن مجيئه بمعنى المفعول قول ابن الدمينة
وإن الكثيب الفرد من جانب الحمى ... إلي وإن لم آته لحبيب
أي لمحبوب ومن مجيئه للفاعل قول المجنون
أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق تطيب
فهذا بمعنى محبها وربما قالوا للحبيب حب مثل خدن فخدن وخدين مثل حب وحبيب
وإذا ثبت هذا فقوله رحمه الله الحب ليس بمصدر لأحببت إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب ليس الأمر كما قال بل هي مصدر للثلاثي أجروه على الفعل الرباعي استغناء عن مصدره وهذا لكثرة ولوع أنفسهم بالحب وألسنتهم به استعملوه منه أخف المصدرين استغناء به عن أثقلهما
وأما مجيئه بالضم دون الفتح فكثير في ذلك وهو قوة هذا المعنى وتمكنه من نفس المحب وقهره وإذلاله إياه حتى إنه ليذل الشجاع الذي لا يذل لأحد فينقهر لمحبوبه ويستأسر له كما هو معروف في أشعارهم ونثرهم وكما يدل عليه الوجود
فلما كان بهذه المثابة أعطوه أقوى الحركات وهي الضمة فإن حركة المحب أقوى الحركات فأعطوا أقوى حركات المتحرك أقوى الحركات اللفظية ليتشاكل اللفظ والمعنى فلهذا عدلوا عن قياس مصدره وهو الحب إلى ضمه
وأيضا فإنهم كرهوا أن يجيئوا بمصدره على لفظ الحب الذي هو اسم جنس للمحبة ولم يكن بد من عدولهم إما إلى الضم أو إلى الكسر وكان الضم أولى لوجهين
أحدهما قوته وقوة الحب الثاني أن في الضمة من الجمع ما يوازي ما في معنى

الحب من جميع الهمة والإرادة على المحبوب فكأنهم دلوا السامع بلفظه وحركته وقوته على معناه اشتقاق الحب
وتأمل كيف أتوا في هذا المسمى بحرفين أحدهما الحاء التي هي أقصى الحلق مبدأ الصوت ومخرجها قريب من مخرج الهمزة من أصل المصدر الذي هو معدن الحب وقراره ثم قرنوها بالباء التي هي من الشفتين وهي آخر مخارج الصوت ونهايته فجمع الحرفان بداية الصوت ونهايته كما اشتمل معنى الحب على بداية الحركة ونهايتها فإن بداية حركة المحب من جهة محبوبه ونهايتها إلى الوصول إليه فاختاروا له حرفين هما بداية الصوت ونهايته فتأمل هذه النكت البديعة تجدها ألطف من النسيم ولا تعلق إلا بذهن يناسبها لطافة ورقة
فقل لكثيف الطبع ويحك ليس ذا ... بعشك فادرج سالما غير غانم
واشتقاقه في الأصل من الملازمة والثبات من قولهم أحب البعير فهو محب إذ برك فلم يثر قال
حلت عليه بالقطيع ضربا ... ضرب بعير السود إذ حبا
فلما كان المحب ملازما لذكر محبوبه ثابت القلب على حبه مقيما عليه لا يروم عنه انتقالا ولا يبغي عنه زوالا قد اتخذ له في سويداء قلبه وطنا وجعله له سكنا
تزول الجبال الراسيات وقلبه ... على العهد لا يلوي ولا يتغير
فلذلك أعطوه هذا الإسم الدال على الثبات واللزوم ولما جاءوا إلى المحبوب أعطوه في غالب استعمالهم لفظ فعيل الدال على أن هذا الوصف وهو كون متعلق المحب أمر ثابت له لذاته وإن لم يحب فهو حبيب سواء أحبه غيره أم لا
وهذا الوزن موضوع في الأصل لهذا المعنى الشريف وإن لم يشرفه غيره وهو من بناء الأوصاف الثابتة اللازمة كطويل وقصير وكريم وعظيم وحليم وجميل وبابه وهذا بخلاف مفعول فإن حقيقته لمن تعلق به الفعل ليس إلا مضروب لمن وقع عليه الضرب ومقتول ومأكول وبابه فهجروا في أكثر كلامهم لفظ محبوب لما يؤذن من أنه الذي تعلق به الحب فقط واختاروا له لفظ حبيب الدال على أنه حبيب في نفسه تعلق به الحب أم لا جاءوا إلى من قام به الحب فأعطوه لفظ محب دون حاب لوجهين

أحدهما أن الأصل هو الرباعي والنطق به أكثر فجاء على الأصل الثاني أن حروفه أكثر من حروف حاب والمحل محل تكثير لا محل تعليل فتأمل هذه المعاني التي لا تجدها في كتاب وإنما هي روضة أنف منح العزيز الوهاب فهمها وله الحمد والمنة وقد ذكرنا من هذا وأمثاله في كتاب التحفة المكية ما لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقه من الإستحسان والمدح ولله تعالى الفضل والمنة أنواع الحب
وأما جمع الشاعر له على ثلاثة أحباب لا يخرجه عن كونه مصدرا لأنه أراد أن الحب ثلاثة أنواع وثلاثة ضروب وهذا تقسيم للمصدر نفسه وهو تقسيم صحيح فإن للحب بداية وتوسطا ونهاية فذكر الشاعر الأقسام الثلاثة فحب البداية هو حب العلاقة ويسمى علاقة لتعلق القلب بالمحبوب قال الشاعر
أعلاقة أم الوليد بعدما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس
والحب المتوسط وهو حب التملق وهو التذلل والتواضع للمحبوب والإنكسار له وتتبع مواقع رضاه وإيقاعها على ألطف الوجوه فهذا هو التملق وهو إنما يكون بعد تعلق القلب به
والحب الثالث الذي هو يباشر القلب ويصطلم العقل ويذهب اللب ويمنع القرار وهذه المحبة تنقطع دونها العبارة وتمتنع إليها الإشارة ولي فيها من أبيات
وما هي إلا الموت أو هو دونها ... وفيها المنايا ينقلبن أمانيا
فقد بان لك أن الشاعر إنما أراد جمع الحب الذي هو المصدر باعتبار أنواعه وضروبه ولنقطع الكلام في هذه المسألة فمن لم يشبع من هذه الكلمات ففي كتاب التحفة أضعاف ذلك والله الموفق
عاد كلامه قال فإن قيل فقد قالوا سقم وأسقام والسقم مصدر سقم فهذا جمع لاختلاف الأنواع لأنه اسم كما ذكرت
قيل هذه غفلة أليس قد قالوا سقم بضم السين فهو عبارة عن الداء الذي يسقم الإنسان فصار كالدهن والشغل وهو في ذاته مختلف الأنواع فجمع
وأما المرض فقد يكون عبارة عن السقم والعلة فيجمع على أمراض وقد يكون مصدرا كقولك مرض فلا يجمع
فإنه قيل تفريقك بين الأمرين دعوى فما دليلها

قلنا قولك عرق يعرق عرقا لا يخفى على أحد أنه مصدر عرق والعرق الذي هو جسم سائل مائع سائل من الجسد لا يخفى على أحد أنه غير العرق الذي هو المصدر وإن كان اللفظ واحدا فكذلك المرض يكون عبارة عن المصدر وعبارة عن السقم والعلة
فعلى هذا تقول تصبب زيد عرقا ليكون له إعرابان تمييز إذا أردت المائع ومفعول من أجله أو مصدر مؤكد إذا أردت المصدر
وكذلك دميت إصبعي دما إذا أردت المصدر فهي مثل العمي وإن أردت الشيء المائع فهو دم مثل يد وقد يسمى المائع بالمصدر قال
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدما
فهذا مقصور كالعصا وعليه قول الآخر
جرى الدميان بالخبر اليقين ... فصل توكيد الفعل وتوكيد النكرة
ومن حيث امتنع أن يؤكد الفعل العام بالمصدر لشيوعه كما يمتنع توكيد النكرة لشيوعها وأنها لم تثبت لها عين لم يجز أن يخبر عنه كما لا يخبر عن النكرة لا تقول من فعل كان شرا له بخلاف من كذب كان شرا له لأن كذب فعل خاص فجاز الإخبار عما تضمنه من المصدر ومن ثم لم يقولوا فعلت سريعا ولا علمت طويلا كما قالوا سرت سريعا وجلست طويلا على الحال من المصدر كما يكون الحال من الإسم الخاص ولا يكون من النكرة الشائعة
فإن قلت اجعله نعتا للمفعول المطلق كأنك قلت فعلت فعلا سريعا وعملت عملا كثيرا
قيل لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت إلا على شروط مذكورة في موضعها فليس قولهم سرت سريعا نعتا لمصدر نكرة محذوفة إنما هو حال من مصدر في حكم المعرفة بدلالة الفعل الخاص عليه فقد استقام الميسم للناظر في فصول هذه المسألة واستتب القياس فيها من كل وجه
فإن قيل فما قولكم في علمت علما أليس هو مصدرا لعلمت فلم جاء مكسور الأول كالطحن والذبح

قيل العلم يكون عبارة عن المعلوم كما تقول فرأيت العلم وعبارة عن المصدر نفسه الذي اشتق منه علمت إلا أن ذلك المصدر مفعول لعلمت لأنه معلوم بنفس العلم
لأنك إذا علمت الشيء فقد علمته وعلمت أنك علمته بعلم واحد فقد صار العلم معلوما بنفسه فلذلك جاء على وزن الطحن والذبح وليس له نظير في الكلام إلا قليل لا أعلم فعلا يتناول المفعول ويتناول نفسه إلا العلم والكلام لأنك تقول للمخاطب تكلم فيقول قد تكلمت فيكون صادقا وإن لم ينطق قبل ذلك
ولهذا قال النبي للأعرابي لما قال له يا ابن عبد المطلب قد أجبتك // رواه البخاري وأبو داود // وكان قد أجبتك جوابا وخبرا عن الجواب فتناول القول نفسه ولذلك تعبدنا في التلاوة أن نقول قل هو الله أحد لأن قل أمر يتناول ما بعده ويتناول نفسه فمن ثم جاء مصدر القول على القيل كما جاء مصدر علمت على العلم وجاء أيضا على القال وهو على وزن القبض لأن القول قد يكون مقولا بنفسه
وجاء أيضا على الأصل مفتوح الأول وأما العلم فلم يجيء إلا مكسورا مصدرا كان أو مفعولا لأنه لا يكون أبدا إلا معلوما بنفسه
والقول بخلاف ذلك قد يتناول نفسه في بعض الكلام وقد لا يتناول إلا المفعول وهو الأغلب
وأما الفكر فليس باسم عند سيبويه ولذلك منع من جمعه فقال لا يجمع الفكر على أفكار حمله على المصادر التي لا تجمع
وقد استهوى الخطباء والقصاص خلاف هذا وهو كالعلم لقربه منه في معناه ومشاركته له في محله وأما الذكر فبمنزلة العلم لأنه نوع منه فصل فيما يحدد من المصادر بالهاء
فيما يحدد من المصادر بالهاء وفيه بقايا من الفصل الأول فقد تقدم أن الفعل لا يدل على مصدره إلا مطلقا غير محدد ولا منعوت

وإنك إذا قلت ضربته ضربة فإنما هو مفعول مطلق لا توكيد لأن التوكيد لا يكون في معناه زيادة على المؤكد ومن ثم لا تقول سير بزيد سريعة حسنة تريد سيرة كذلك ولا قعدت طويلة لأن الفعل لا يدل بلفظه على المرة الواحدة
ومن ثم بطل ما أجازه النحاس وغيره من قوله زيد ظننتها منطلق تريد الظنة لأن الفعل لا يدل عليها وإذا ثبت هذا فالتحديد في المصادر ليس يطرد في جميعها ولكن فيما كان منها حركة للجوارح الظاهرة ففيه يقع التحديد غالبا لأنه مضارع للأجناس الظاهرة التي يقع الفرق بين الواحد منه والجنس بهاء التأنيث نحو تمرة وتمر ونخلة ونخل وكذلك تقول ضربة وضرب
وأما ما كان من الأفعال الباطنة نحو علم وحذر وفرق ووجل أو ما كان سبعا نحو ظرف وشرف لا يقال في شيء من هذا فعلة لا يقال فهم فهمة ولا ظرف ظرفة
وكذلك ما كان من الأفعال عبارة عن الكثرة والقلة نحو طال وقصر وكبر وصغر وقل وكثر لا نقول فيه فعلة وأما قولهم الكبرة في الهرم فعبارة عن الصفة وليست بواحدة من الكبر وكذلك الكثرة ليست كالضربة من الضرب لأنك لا تقول كثر كثرا وأما حمدا فما أحسبه يقال في تحديده حمدة كما يقال مدحة الفرق بين الحمد والمدح
والفرق بينهما أن حمد يتضمن الثناء مع العلم بما يثنى به فإن تجرد عن العلم كان مدحا ولم يكن حمدا فكل حمد مدح دون العكس ومن حيث كان يتضمن العلم بخصال المحمود جاء فعله على حمد بالكسر موازنا لعلم ولم يجيء كذلك مدح فصار المدح في الأفعال الظاهرة كالضرب ونحوه ومن ثم في الكتاب والسنة حمد ربنا فلانا ويقول مدح الله فلانا وأثنى على فلان ولا تقول حمد إلا لنفسه ولذلك قال سبحانه الحمد لله بلام الجنس المفيدة للإستغراق فالحمد كله له إما ملكا وإما استحقاقا فحمده لنفسه استحقاق وحمد العباد له وحمد بعضهم لبعض ملك له فلو حمد هو غيره لم يسغ أن يقال في ذلك الحمد ملك له لأن الحمد كلامه ولم يسغ أن يضاف إليه على جهة الإستحاق وقد تعلق بغيره
فإن قيل أليس ثناؤه ومدحه لأوليائه إنما هو بما علم فلم لا يجوز أن يسمى حمدا
قيل لا يسمى حمدا على الإطلاق إلا ما يتضمن العلم بالمحاسن على الكمال وذلك معدوم في غيره سبحانه فإذا مدح فإنما يمدح بخصلة هي ناقصة في حق العبد وهو أعلم بنقصانها وإذا حمد نفسه حمد بما علم من كمال صفاته

قلت ليس ما ذكره من الفرق بين الحمد والمدح باعتبار العلم وعدمه صحيحا فإن كل واحد منهما يتضمن العلم بما يحمد به غيره ويمدحه فلا يكون مادحا ولا حامدا من لم يعرف صفات المحمود والممدوح فكيف يصح قوله إن تجرد عن العلم كان مادحا بل إن تجرد عن العلم كان كلاما بغير علم فإن طابق فصدق وإلا فكذب
وقوله ومن ثم لم يجيء في الكتاب والسنة حمد ربنا فلانا يقال وأين جاء فيهما مدح الله فلانا
وقد جاء في السنة ما هو أخص من الحمد وهو الثناء الذي هو تكرار المحامد كما في قول النبي لأهل قباء ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به // صحيح // فإذا كان قد أثنى عليهم والثناء حمد متكرر فما يمنع حمده لمن شاء من عباده
ثم الصحيح في تسمية النبي محمدا أنه الذي يحمده الله وملائكته وعباده المؤمنون وأما من قال الذي يحمده أهل السموات وأهل الأرض فلا ينافي حمد الله بل حمد أهل السموات والأرض له بعد حمد الله له فلما حمده الله حمده أهل السموات والأرض وبالجملة فإذا كان الحمد ثناء خاصا على المحمود لم يمتنع أن يحمد الله تعالى من يشاء من خلقه كما يثني عليه فالصواب في الفرق بين الحمد والمدح أن يقال الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا من حب وإرادة أو مقرونا بحبه وإرادته
فإن كان الأول فهو المدح وإن كان الثاني فهو الحمد فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه
ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح فإنه خبر مجرد فالقائل إذا قال الحمد لله أو قال ربنا لك الحمد تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الحمد المحققة والمقدرة وذلك يستلزم

إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا ينبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد
ولما كان هذا المعنى مقارنا للحمد لا تتقوم حقيقته إلا به فسره من فسره بالرضى والمحبة وهو تفسير له بجزء مدلوله بل هو رضاء ومحبة ومقارنة للثناء
ولهذا السر والله أعلم جاء فعله على بناء الطبائع والغرائز فقيل حمد لتضمنه الحب الذي هو بالطبائع والسجايا أولى وأحق من فهم وحذر وسقم ونحوه بخلاف الإخبار المجرد عن ذلك وهو المدح فإنه جاء على وزن فعل فقالوا مدحه لتجرد معناه من معاني الغرائز والطبائع فتأمل هذه النكتة البديعة وتأمل الإنشاء الثابت في قولك ربنا لك الحمد وقولك الحمد لله كيف تجده تحت هذه الألفاظ ولذلك لا يقال موضعها المدح لله تعالى ولا ربنا لك المدح وسره ما ذكرت لك من الأخبار بمحاسن المحمود إخبارا مقترنا بحبه وإرادته وإجلاله وتعظيمه
فإن قلت فهذا ينقض قولكم إنه لا يمتنع أن يحمد الله تعالى من شاء من خلقه فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء ولا يستحق التعظيم غيره فكيف يعظم أحدا من عباده
قلت المحبة لا تنفك عن تعظيم وإجلال للمحبوب ولكن يضاف إلى كل ذات بحسب ما تقتضيه خصائص تلك الذات فمحبة العبد لربه تستلزم إجلاله وتعظيمه وكذلك محبة الرسول تستلزم توقيره وتعزيزه وإجلاله وكذلك محبة الوالدين والعلماء وملوك العدل وأما محبة الرب عبده فإنها تستلزم إعزازه لعبده وإكرامه إياه والتنويه بذكره وإلقاء التعظيم والمهابة له في قلوب أوليائه فهذا المعنى ثابت في محبته وحمده لعبده سمي تعظيما وإجلالا أو لم يسم
ألا ترى أن محبته سبحانه لرسله كيف اقتضت أن نوه بذكرهم في أهل السماء والأرض ورفع ذكرهم على ذكر غيرهم وغضب على من لم يحبهم ويوقرهم ويجلهم وأحل به أنواع العقوبات في الدنيا والآخرة وجعل كرامته في الدنيا والآخرة لمحبيهم وأنصارهم وأتباعهم أولا ترى كيف أمر عباده وأولياءه بالصلاة التي هي تعظيم وثناء على خاتمهم وأفضلهم صلوات الله عليه وسلامه أفليس هذا تعظيما لهم وإعزازا وإكراما وتكريما
فإن قيل فقد ظهر الفرق بين الحمد والمدح واستبان صبح المعنى وأسفر وجهه فما الفرق بينهما وبين الثناء والمجد الفرق بين الحمد والمدح وبين الثناء والمجد
قيل قد تعدينا طورنا فيما نحن بصدده ولكن نذكر الفرق تكميلا للفائدة فنذكر

تقسيما جامعا لهذه المعاني الأربعة أعني الحمد والمدح والثناء والمجد فنقول الإخبار عن محاسن الغير له ثلاث اعتبارات اعتبار من حيث المخبر به واعتبار من حيث الإخبار عنه بالخبر واعتبار من حيث حال المخبر فمن حيث الإعتبار الأول ينشأ التقسيم إلى الحمد والمجد فإن المخبر به إما أن يكون من أوصاف العظمة والجلال والسعة وتوابعها أو من أوصاف الجمال والإحسان وتوابعها فإن كان الأول فهو المجد وإن كان الثاني فهو الحمد وهذا لأن لفظ م ج د في لغتهم يدور على معنى الإتساع والكثرة فمنه قولهم أمجد الدابة علفا أي أوسعها علفا ومنه مجد الرجل فهو ماجد إذا كثر خيره وإحسانه إلى الناس قال الشاعر
أنت تكون ماجد نبيل ... إذا تهب شمأل بليل
ومنه قولهم في شجر الغار واستمجد المرخ والعفار أي كثرت النار فيهما ومن حيث اعتبار الخبر نفسه ينشأ التقسيم إلى الثناء والحمد فإن الخبر عن المحاسن إما متكرر أو لا
فإن تكرر فهو الثناء وإن لم يتكرر فهو الحمد فإن الثناء مأخوذ من الثني وهو العطف ورد الشيء بعضه على بعض ومنه ثنيت الثوب ومنه التثنية في الإسم فالمثنى مكرر لمحاسن من يثنى عليه مرة بعد مرة ومن جهة اعتبار حال المخبر ينشأ التقسيم إلى المدح والحمد فإن المخبر عن محاسن الغير إما أن يقترن بإخباره حب له وإجلال أو لا فإن اقترن به الحب فهو الحمد وإلا فهو المدح فحصل هذه الأقسام وميزها
ثم تأمل تنزيل قوله تعالى فيما رواه عنه رسول الله حين يقول العبد الحمد لله رب العالمين فيقول الله حمدني عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي لأنه كرر حمده فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي فإنه وصفه بالملك والعظمة والجلال // رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي // فاحمد الله على ما ساقه إليك من هذه الأسرار والفوائد

عفوا لم تسهر فيها عينك ولم يسافر فيها فكرك عن وطنه ولم تتجرد في تحصيلها عن مألوفاتك بل هي عرائس معان تجلى عليك وتزف إليك فلك لذة التمتع بها ومهرها على غيرك لك غنمها وعليه غرمها فصل تثنية المصادر وجمعها
فلنرجع إلى كلامه قال وكل ما حدد من المصادر تجوز تثنيته وجمعه وما لم يحدد فعلى الأصل الذي تقدم لا يثنى ولا يجمع وقولهم إلا أن تختلف أنواعه لا تختلف أنواعه إلا إذا كان عبارة عن مفعول مطلق اشتق من لفظ الفعل لا عن مصدر اشتق الفعل منه ولذلك تجده على وزن فعل بالكسر وعلى وزن فعل نحو عمل والذي هو مصدر حقيقة ما تجده على وزن فعل نحو ضرب وقتل
وأما الشرب بالفتح والضم والكسر فالشرب بالفتح هو المصدر والشرب بالضم عبارة عن المشروب أو عن الحدث الذي هو مفعول مطلق في الأصل
وربما اتسع فيه فأجرى مجرى المصدر الذي اشتق الفعل منه كما قال تعالى فشاربون شرب الهيم الواقعة 55 بالضم والفتح قلت هذه كبوة من جواد ونبوة من صارم فإن الشرب بالضم هو المصدر وأما المشروب فهو الشرب بكسر الشين
قال الله في الناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم الشعراء 155 فهذا هو المشروب كما تقول قسم من الماء وحظ ونصيب تشربه في يومها ولكم حظ وقسم تستوفونه في يومكم وهذا هو القياس في الباب كالذبح بمعنى المذبوح والطحن للمطحون والحب للمحبوب والحمل للمحمول والقسم للمقسوم والعرس للزوجة التي قد عرس بها ونظائره كثيرة جدا
وأما الشرب بالفتح فقياسه أن يكون جمع شارب كصاحب وصحب وتاجر وتجر وهو يستعمل كذلك وإطلاق لفظ الجمع عليه جريا على عادتهم والصواب أنه اسم جمع فإن فعلا ليس من صيغ الجموع واستعمل أيضا مصدرا وقد قرئت الآية بالوجوه الثلاثة فمن قرأ بالضم أو الفتح فهو مصدر ومن قرأ بالكسر فهو بمعنى المشروب
وعلى الأول يقع التشبيه بين الفعلين وهو المقصود بالذكر شبه شربهم من الحميم بشرب الإبل العطاش التي قد أصابها الهيام وهو داء تشرب منه ولا تروى وهو

جمع أهيم وأصله هيم بضم الهاء كأحمر وحمر ثم قلبوا الضمة كسرة لأجل الياء فقالوا هيم وأما قراءة الكسر فوجهها أنه شبه مشروبهم بمشروب الإبل الهيم في كثرته وعدم الري به والله تعالى أعلم جمع الفهم والعقل والوهم والظن
عاد كلامه قال فإن قيل الفهم والعقل والوهم والظن مصادر ليست مما ذكرت وقد جمعت فقالوا أفهام وأوهام وعقول
قيل هذه مصادر في أصل وضعها ولكنها قد أجريت مجرى الأسماء حيث صارت عبارة عن صفة لازمة وعن حاسة ناطقة كالبصر
ألا ترى أنك إذا قلت عقلت البعير عقلا لم يجز في هذا المصدر الجمع فإذا أردت به المعنى الذي استعير له وهو عقل الإنسان جاز جمعه إذ صار للإنسان كأنه حاسة ناطقة كالبصر
ألا ترى أن البصر حيثما ورد في القرآن الكريم مجموع والسمع غير مجموع في أجود الكلام لبقاء السمع على أصله من بناء المصادر الثلاثة ولكون البصر على وزن فعل كالأسماء ولأنه يراد به الحاسة وقد يجوز في السمع على ضعف أن تجمعه إذا أردت به الحاسة دون المصدر كما تجمع الفهم على أفهام ولكن لا يكون ذلك إلا بشرط وهو أن تكون الأفهام والأسماع ونحوها مضافة إلى جمع نحو أفهام القوم وأسماع الزيدين
ولو كان هذا الجمع إنما هو لاختلاف أنواع المصدر لما جاز أن تقول عرفت أفهام القوم في هذه المسألة وعرفت علومهم لأن الصفة لا تختلف عند اتحاد متعلقها بل هي مماثلة وإن اختلفت محالها فعلم زيد وعلم عمرو إذا تعلقا بشيء واحد فهما مثلان وعلم زيد بشيء واحد وعلمه بشيء آخر مختلفان لاختلاف المعلومين
والمقصود أن الأفهام والعقول لا تجمع لاختلاف أنواعها لأنها قد تجمع حيث لا تختلف وهي عند اتفاق أفهام على مفهوم واحد وتجيء مفردة عند اختلافها نحو فهم زيد الحساب والنحو وغيرهما لا يقال فيه عرفت أفهام زيد بالعلوم ولكن تقول فهم زيد بالإفراد مع اختلاف متعلقه واختلاف متعلقه يوجب اختلافه وإذا ثبت هذا فلم يجمع الفهم على أفهام إلا من حيث كان بمنزلة حاسة ناطقة للإنسان فإذا أضيف إلى أكثرين جمع وإذا أضيف إلى واحد لم يجمع لأنه كالحاسة الواحدة وإن كان في أصله مصدرا فرب مصدر أجرى مجرى الأسماء كضيف وضيفان وعدل وعدول وصيد وصيود

وأما رؤية العين فليست التاء فيها للتحذير بل هي لتأنيث الصفة كالقدرة والصفرة والحمرة وكان الأصل فيها رأيا ولكنهم إنما يستعملون هذا الأصل مضافا إلى العين نحو قوله تعالى رأي العين آل عمران 13 فإذا لم تضف استعمل في الرأي المعقول واستعملت الرؤية في المعنى الآخر للفرق
وأما الظن فمصدر لا يثنى ولا يجمع إلا أن تريد به الأمور المظنونة نحو ذلك قوله تعالى وتظنون بالله الظنونا الأحزاب 10 أي يظنون أشياء كاذبة والظنون على هذا مفعول مطلق لا عبارة عن الظن الذي هو المصدر في الأصل والله أعلم فائدة لفظ سحر وتقسيمه
سحر على قسمين أحدهما يراد به سحر يوم بعينه معرفة كان اليوم أو نكرة وهو في هذا ظرف غير منون بشرط أن يكون اليوم ظرفا لا فاعلا ولا مفعولا وفيه وجهان
أحدهما أن تعريفه لما فيه من معنى الإضافة فإنك تريد سحر ذلك اليوم فحذف التنوين منه كما حذف في أجمع وأكتع لما كان مضافا في المعنى
الوجه الثاني وهو اختيار سيبويه أن تعريفه باللام المقدرة كأنك حين ذكرت يوما قبله وجعلته ظرفا ثم ذكرت سحر فكأنك أردت السحر الذي من ذلك اليوم فاستغنيت عن الألف واللام بذكر اليوم
وهذا القول أصح للفرق الذي بين سحر وبين أجمع فإن أجمع توكيد بمنزلة كله ونفسه فهو مضاف في المعنى إلى ضمير المؤكد واستغنى عن إظهار الضمير بذكر المؤكد لأن أجمع لا يكون إلا تابعا له ولا يكون مخبرا عنه بحال وليس كذلك السحر لأنه بمنزلة الفرس والجمل فإن أضفته لم يكن بد من إظهار المضاف إليه وإنما هو معرف باللام كما قال سيبويه وهذا كله لما كان اليوم ظرفا لا مفعولا فلو قلت كرهت يوم السبت سحر كان بدلا كما تقول أكلت الشاة رأسها
فإن قيل فهلا قلتم أنه بدل إذا كان ما قبله ظرفا أيضا لأنه بعض اليوم فيكون بدل البعض من الكل كما كان ذلك إذا كان اليوم مفعولا
قيل الفرق بينهما أن البدل يعتمد عليه ويكون المبدل منه في حكم الطرح ويكون الفعل مخصوصا بالبدل بعدما كان عموما في المبدل منه

فإذا قلت أكلت السمكة رأسها لم يتناول الأكل إلا رأسها وخرج سائرها من أن يكون مأكولا وليس كذلك خرجت يوم الجمعة سحر لأن الظرف مقدر ب في وجعل سحر ظرفا لا يخرج اليوم عن أن يكون ظرفا بل يبقى على حاله لأنه ليس من شرط الظرف أن يملأه ما يوضع فيه فالكلام معتمد عليه كما كان قبل ذكر سحر نعم وما هو أوسع من اليوم في المعنى نحو الشهر والعام الذي فيه ذكر اليوم وما هو أوسع من العام كالزمان كل واحد من هذه ظرف للفعل الذي وقع في سحر بالذكر فذكر سحر لا يخرج شيء منها أن يكون ظرفا للفعل فلذلك اعتمد الكلام على اليوم واستغنى به عن تجديد آلة التعريف بخلاف كرهت يوم السبت سحرا أو السحر منه لا بد من البدل فيه فقد بان الفرق وبانت علة ارتفاع التنوين لأنه لا يجامع الألف واللام ولا معناها وإن كان في حكم المضاف كما زعم بعضهم فلذلك أيضا امتنع تنوينه
وأما مانع تصرفه وتمكنه فإنك لما أردته ليوم هو ظرف فلو تمكن خرج عن أن يكون من ذلك اليوم لأن الظرفية كانت رابطة بينهما ومشعرة بأن السحر من ذلك اليوم فإذا قلت سير بزيد يوم الجمعة سحر وجعلته مفعولا على السعة لم يجز لعدم الرابط بينه وبين اليوم فإن أردت هذا المعنى فقل سير بزيد يوم الجمعة سحر أو السحر منه حتى يرتبط به لأنك لا تقدر الألف واللام من غير أن يلفظ بهما إلا إذا كان في الكلام ما يغني عنهما
وأما إذا كان اسما متمكنا كسائر الأسماء فلا بد من تعريفه بما تعرف به الأسماء أو تجعله نكرة فلا يكون من ذلك اليوم
فإن قلت فقد أجازوا سير بزيد يوم الجمعة سحر برفع اليوم ونصب سحر فلم لا يجوز أيضا يوم الجمعة سحر بنصب اليوم ورفع سحر
قيل لأن اليوم وإن اتسع فيه فهو ظرف في معناه وهو يشتمل على السحر ولا يشتمل السحر عليه فلا يجوز إذا أن يتعرف السحر تعريفا معنويا حتى يكون ظرفا بمنزلة اليوم الذي هو منه ليكون تقديم اليوم مع كونه ظرفا مغنيا عن آلة التعريف فصل ضحوة وعشية ومساء
وأما ضحوة وعشية ومساء ونحو ذلك فإنها مفارقة لسحر من حيث كانت

منونة وإن أردتها ليوم بعينه وهي موافقة له في عدم التصرف والتمكن والفرق بينهما أن هذه أسماء فيها معنى الوصل لأنها مشتقة مما وصف به الأوقات التي هي ساعات اليوم فالعشي من العشاء والضحوة من قولك فرس أضحى وليلة إضحيان يريد البياض والصباح من الأصبح وهو لون بين لونين
فإذا قلت خرجت اليوم عشاء وظلاما وضحى وبصرا حكاه سيبويه فإنما تريد خرجت اليوم في ساعة وصفها كذا وخرجت وقتا مظلما أو مبصرا ونحو ذلك فقد بان لك أنها أوصاف لنكرات وتلك النكرات هي أجزاء اليوم وساعاته
ألا ترى أنك إذا قلت خرجت اليوم ساعة منه أو مشيت اليوم وقتا منه لم يكن إلا منونا إلا أن ساعة ووقتا غير معين وضحوة وعشية قد تخصصا بالصفة ولكنه لم يتعرف وإن كان ليوم بعينه لأنه غير معرف بالألف واللام كما كان سحر لأن سحر اسم جامد يتعرف كالأسماء ويخبر عنه وأما نعته فلا يكون كذلك لأن النعت لا يكون فاعلا ولا مفعولا ولا يقام مقام المنعوت إلا على شروط مخصوصة
فإن قلت أليست هذه الأوقات معروفة عند المخاطب من حيث كانت ليوم بعينه فلم لا تكون معرفة كما كان سحر إذا كان ليوم بعينه
قيل إن سحر لم يتعرف بشيء إلا بمعنى الألف واللام لا من حيث كان ليوم بعينه فقد تعرف المخاطب الشيء بصفته كما تعرف بآلة التعريف فتقول رأيت رجلا من صفته كذا وكذا حتى يعرفه المخاطب فيسري إليه التعريف وهو مع ذلك نكرة وكذلك ضحوة وعشية وإنما استغني عن ذكر المنعوت بهذه الصفات لتقدم ذكر اليوم الذي هو مشتمل على الأوقات الموصوفة بهذه المعاني كما استغنى عن ذكر المنعوت إذا قلت زيد قائم ولا شك أن المعنى زيد رجل قائم ولكن ترك ذكر الرجل لأنه زيد وكذلك جاءني زيد صالحا أي رجلا صالحا ولكن زيد هو الرجل فأغناك عن ذكره
وكذلك ما نحن بسبيله من هذه الأسماء التي هي في نفسها أوصاف لأوقات أغنى ذكر اليوم الذي هي له عن ذكرها لاشتمالها عليه ولم يكن ذلك في سحر ومن ثم أيضا لم تتمكن فتقول سير عليه يوم الجمعة ضحوة وعشية لأن تمكنها يخرجها إلى حيز الأسماء ويبطل منها معنى الصفة فلا ترتبط حينئذ باليوم الذي أردتها له وينضاف إلى هذه العلة علة أخرى قد تقدمت في فصل سحر
وكذلك كل ما كان من الظروف نعتا في الأصل نحو ذا حاج وكلت مرة وأقمت

طويلا وجلست قريبا لا يتمكن ولا يخرج من الظرف ويلحق بهذا الفصل نهارا إذا قلت خرجت اليوم نهارا لأنه مشتق من أنهر الدم بما تشتت تريد الإنتشار والسعة ومنه النهر من الماء لأنه بالإضافة إلى موضع تفجره كالنهار بالإضافة إلى فجره لأن النهر ما ينتشر ويتسع فما انفجر من الماء والنهر بمنزلة ما انتشر واتسع من فجر الضياء واليوم أوسع من النهار في معناه فصار قولك خرجت اليوم نهارا كقولك خرجت اليوم ظهرا وعشيا معنى الإشتقاق فيها كلها بين فجرت مجرى الأوصاف للنكرات في تنوينها وعدم تمكنها
قلت ولما كان النهار أوسع من النهر خص بالألف المعطية اتساع النطق وانفتاح الفم دون النهر فصل غدوة وبكرة
وأما غدوة وبكرة فهما اسما علم وعدم التنوين فيهما للتعريف والتأنيث والذي أخرجهما عن باب ضحوة وعشية وإن كان فيهما معنى الغدو والبكور كما كان في أخواتهما معاني الفعل أنهما قد بنيا بناء لا يكون عليه المصادر ولا النعوت وغيرها للعلمية كما غير عمارة وعمر وأشباههما وكما غير الدبران وفيه معنى الدبور إيذانا باللمية وتحقيقا لمعناها ألا ترى أن ضحوة على وزن صعبة من النعوت وضربة من المصادر والمصادر ينعت بها وضحى على وزن هدى وعلى وزن حطم من النعت وكذلك سائر تلك الأسماء وغدوة وبكرة بخلاف ذلك قد غيرتا عن لفظ الغدو والبكور تغييرا بينا ففارقتا الفصل المتقدم
فإن قيل فلعل امتناع التنوين فيهما بمثابة امتناعه في سحر ليوم بعينه
قيل كلام العرب يدل على خلاف ذلك لأنهم لا يكادون يقولون خرجت اليوم في الغدوة وللغدوة خير من أول الليل كما يقال السحر خير من أول الليل فالسحر كسائر الأجناس في تنكيره وتعريفه وغدوة وبكرة من اليوم بمنزلة رجب وصفر من العام فقد تبين مخالفتهما لسحر وضحوة وأخواتهما وأنهما بمنزلة أسماء الشهور

الأعلام وأسماء الأيام الأعلام نحو السبت والجمعة وإذا ثبت هذا فهما اسمان متمكنان يجوز إقامتهما مقام الفاعل إذا قلت سير بزيد يوم الجمعة غدوة فلا يحتاج إلى إضافة ولا إلى لام تعريف وتقول سير به يوم الجمعة غدوة على الظرف فيهما جميعا لأنها بعض اليوم كما تقول سرت العام رجبا كله وتقول أيضا سير به يوم الجمعة غدوة برفعهما كأنهما بدل من اليوم ولا تحتاج أيضا إلى الضمير كما تحتاج في بدل البعض من الكل لأنها ظرف في المعنى
ولو قلت كره يوم السبت غدوة على البدل لم يكن بد من إضافة غدوة إلى ضمير المبدل منه لأن اليوم ليس بظرف فيكون كقولك كرهت الخميس سحره إذا أردت البدل لأن المكروه هو السحر دون سائر اليوم وإنما يستغنى عن ضمير يعود على اليوم إذا تركته ظرفا على حاله لأن بعض اليوم إذا كان ظرفا لفعل كان جميع ذلك اليوم ظرفا لذلك الفعل الظرف الذي له اسم علم
واعلم أنه ما كان من الظروف له اسم علم فإن الفعل إذا وقع فيه تناول جميعه وكان الظرف مفعولا على سعة الكلام فإذا قلت سرت غدوة فالسير وقع في الوقت كله وكذلك سرت السبت والجمعة وصفر والمحرم كله مفعول على سعة الكلام لا ظرف للفعل لأن هذه الأسماء لا يطلبها الفعل ولا هي في أصل موضوعها زمان إنما هي عبارة عن معان أخرى فإن أردت أن تجعل شيئا منها ظرفا ذكرت لفظ الزمان وأضفته إليه كقولك سرت يوم السبت وشهر المحرم فالسير واقع في الشهر ولا يتناول جميعه إلا بدليل والشهر ظرف وكذلك اليوم
قال سيبويه ومما لا يكون الفعل إلا وقعا به كله سرت المحرم وصفر هذا معنى كلامه وإذا ثبت هذا فرجب ورمضان أسماء أعلام إذا أردتها لعام بعينه أو كان في كلامك ما يدل على عام تضيفها إليه فإن لم يكن كذلك صار الإسم نكرة تقول صمت رمضان ورمضانا آخر وصمت الجمعة وجمعة أخرى إنما أردت جمعة أسبوعك ورمضان عامك
وإذا كان نكرة لم يكن إلا شهرا واحدا كما تكون النكرة من قولك ضربت رجلا إنما تريد واحدا وإذا كان معرفة يكون ما يدل على التمادي وتوالي الأعوام لم يكن حينئذ واحدا كقولك المؤمن يصوم رمضان فهو معرفة لأنك لا تريده لعام واحد بعينه إذ المعنى يصوم رمضان من كل عام على التمادي وذكر الإيمان قرينة تدل على

أن المراد ولو لم يكن في الكلام ما يدل على هذا لم يكن محله إلا على العام الذي أنت فيه وإذا ثبت هذا فانظر إلى قوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن البقرة 185 وفي الحديث من صام رمضان // رواه مسلم // وإذا دخل رمضان بدون لفظ الشهر ومحال أن يكون فعل ذلك إيجازا واختصارا لأن القرآن أبلغ إيجازا وأبين إعجازا
ومحال أيضا أن يدع لفظ القرآن مع تحريه لألفاظه وما علم من عادته من الإقتداء به فيدع ذلك لغير حكمة بل لفائدة جسيمة ومعان شريفة اقتضت الفرق بين الموضعين
وقد ارتبك الناس في هذا الباب فكرهت طائفة أن تقول صمت رمضان بل شهر رمضان واستهوى ذلك الكتاب
اعتل بعضهم في ذلك برواية منحولة إلى ابن عباس رمضان اسم من أسماء الله قالوا ولذلك أضيف إليه الشهر
وبعضهم يقول إن رمضان من الرمضاء وهو الحر وتعلق الكراهية بذلك
وبعضهم يقول إن هذا استحباب واقتداء بلفظ القرآن وقد اعتنى بهذه المسألة أبو عبدالرحمن النسائي لعلمه وحذقه فقال في السنن باب جواز أن يقال دخل رمضان أو صمت رمضان وكذلك فعل البخاري وأورد الحديث المتقدم من صام رمضان
وإذا أردت معرفة الحكمة والتحقيق في هذه النكتة فقد تقدم أن الفعل إذا وقع على هذه الأسماء الأعلام فإنه يتناول جميعها ولا يكون ظرفا مقدرا ب في حتى يذكر لفظ الشهر أو اليوم الذي أصله أن يكون ظرفا وأما الإسم العلم فلا أصل له في الظرفية وإذا ثبت هذا فقول الله سبحانه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن فيه فائدتان أو أكثر
إحداهما أنه لو قال رمضان الذي أنزل فيه القرآن لاقتضى اللفظ وقوع الإنزال على جميعه كما تقدم من قول سيبويه وهذا خلاف المعنى لأن الإنزال كان في ليلة واحدة منه في ساعة منها فكيف يتناول جميع الشهر وكان ذكر الشهر الذي هو غير علم موافقا للمعنى كما تقول سرت في شهر كذا فلا يكون السير متناولا لجميع الشهر

الفائدة الأخرى أنه لو قال رمضان الذي أنزل فيه القرآن الكريم لكان حكم المدح والتعظيم مقصورا على شهر بعينه إذ قد تقدم أن هذا الإسم وما هو مثله إذا لم تقترن به قرينة تدل على توالي الأعوام التي هو فيها لم يكن محله إلا العام الذي أنت فيه أو العام المذكور قبله فكان ذكر الشهر الذي هو الهلال في الحقيقة كما قال الشاعر
والشهر مثل قلامة الظفر ...
يريد الهلال مقتضيا لتعليق الحكم الذي هو التعظيم بالهلال والشهر المسمى بهذا الإسم متى كان في أي عام كان مع أن رمضان وما كان مثله لا يكون معرفة في مثل هذا الموطن لأنه لم يرد لعام بعينه ألا ترى أن الآية في سورة البقرة وهي من آخر ما نزل وقد كان القرآن أنزل قبل ذلك بسنين ولو قلت رمضان حج فيه زيد تريد فيما سلف لقيل لك أي رمضان كان ولزمك أن تقول حج في رمضان من الرمضانيات حتى تريد عاما بعينه كما سبق
وفائدة ثالثة في ذكر الشهر وهو التبيين في الأيام المعدودات لأن الأيام تبين بالأيام وبالشهر ونحوه ولا تبين بلفظ رمضان لأن لفظه مأخوذ من مادة أخرى وهو أيضا علم فلا ينبغي أن يبين به الأيام المعدودات حتى يذكر الشهر الذي هو في معناها ثم تضاف إليه
وأما قوله من صام رمضان ففي حذف الشهر فائدة أيضا وهي تناول الصيام لجميع الشهر فلو قال من صام أو قام شهر رمضان لصار ظرفا مقدرا ب في ولم يتناول القيام والصيام جميعه فرمضان في الحديث مفعول على السعة نحو قوله قم الليل المزمل 2 لأنه لو كان ظرفا لم يحتج إلى قوله إلا قليلا
فإن قيل فينبغي أن يكون قوله من قام رمضان مقصورا على العام الذي هو فيه لما تقدم من قولكم أنه إنما يكون معرفة علما إذا أردته لعامك أو لعام بعينه
قيل قوله من صام رمضان على العموم خطاب لكل فرد ولأهل كل عام فصار بمنزلة قولك من صام كل عام رمضان كما تقول إن جئتني كل يوم سحر أعطيتك فقد مر قرينة تدل على التمادي تنوب مناب ذكر كل عام وقد اتضح الفرق بين الحديثين والآية فإذا فهمت فرق ما بينهما بعد تأمل هذه الفصول وتدبرها ثم لم تعدل عندك هذه الفائدة جميع الدنيا بأسرها فما قدرتها حق قدرها والله المستعان على واجب شكرها هذا نص كلام السهيلي بحروفه ثم قال

فصل عمل الفعل وشروطه
الفعل لا يعمل في الحقيقة إلا فيما يدل عليه لفظه كالمصدر والفاعل والمفعول به أو فيما كان صفة لواحد من هذه نحو سرت سريعا وجاء زيد ضاحكا لأن الحال هي صاحب الحال في المعنى وكذلك النعت والتوكيد والبدل كل واحد من هذه هو الإسم الأول في المعنى فلم يعمل الفعل إلا فيما دل عليه لفظه لأنك إذا قلت ضرب اقتضى هذا اللفظ ضربا وضاربا ومضروبا
وأقوى دلالته على المصدر لأنه هو الفعل في المعنى ولا فائدة في ذكره مع الفعل إلا أن تريد التوكيد أو تبيين النوع منه وإلا فلفظ الفعل مغن عنه ثم دلالة الفعل على الفاعل أقوى من دلالته على المفعول به من وجهين
أحدهما أنه يدل على الفاعل بعمومه وخصوصه نحو فعل زيد وعمل عمرو وأما الخصوص فنحو ضرب زيد عمرا ولا تقول فعل زيد عمرا إلا أن يكون الله هو الفاعل سبحانه
الوجه الآخر أن الفعل هو حركة الفاعل والحركة لا تقوم بنفسها وإنما هي متصلة بمحلها فوجب أن يكون الفعل متصلا بفاعله لا بمفعوله ومن ثم قالوا ضرب زيد لعمرو وضرب زيدا عمرا فأضافوه إلى المفعول باللام تارة وبغير لام أخرى ولم يضيفوه إلى الفاعل باللام أصلا لأن اللام تؤذن بالإنفصال ولا يصح انفصال الفعل عن الفاعل لفظا كما لا ينفصل عنه معنى
قلت وفي صحة قوله ضرب زيد لعمرو نظر والمعروف الإتيان بهذه اللام إذا ضعف الفعل بالتأخير نحو قوله تعالى إن كنتم للرؤيا تعبرون يوسف 43 أو كان اسما نحو أنا ضارب لزيد أو يعجبني ضربك لزيد لضعف العالم في هذه المواضع دعم باللام ولا يكادون يقولون شربت للماء وأكلت للخبز
قال فإن قيل فإن الفعل لا يدل على الفاعل معينا ولا على المفعول معينا وإنما يدل عليهما مطلقا لأنك إذا قلت ضرب لم يدل على زيد بعينه وإنما يدل على ضارب وكذلك المضروب وكان ينبغي أن لا يعمل حتى تقول ضرب ضارب مضروبا بهذا اللفظ لأن لفظ زيد لا يدل عليه لفظ الفعل ولا يقتضيه
قيل الأمر كما ذكرت ولكن لا فائدة عند المخاطب في الضارب المطلق ولا في

المفعول المطلق لأن لفظ الفعل قد تضمنهما فوضع الإسم المعين مكان الإسم المطلق تبيينا له فيعمل فيه الفعل لأنه هو في المعنى وليس بغيره
قلت الواضع لم يضع هذه الألفاظ في أصل الخطاب مقتضية فاعلا مطلقا ومفعولا مطلقا وإنما جاء اقتضاء المطلق من العقل لا من الوضع والواضع إنما وضعها مقتضيات لمعين من فاعل ومفعول طالبة له فما لم يقترن بها المعين كان اقتضاؤها وطلبها بحاله لأن الأخبار والطلب إنما يقعان على المعين
فإن قيل لو كانت قد وضعت مقتضية لمعين لم يصح إضافتها إلى غيره فلما صح نسبتها وإضافتها إلى كل معين علم أنها وضعت مقتضية للمطلق
قيل الفرق بين المعين على سبيل البدل والمعين على سبيل التعيين بحيث لا يقوم غيره مقامه والسؤال إنما يلزم أن لو قيل إنها مقتضية للثاني أما إذا كانت مقتضية لمعين من المعينات على سبيل البدل لم يلزم ذلك السؤال والله أعلم
قال وإذا ثبت ما قلناه فما عدا هذه الأشياء فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة حرف نحو المفعول معه والظرف المكاني نحو قمت في الدار لأنه لا يدل عليه بلفظه وأما ظرف الزمان فكذلك أيضا لأن الفعل لا يدل عليه بلفظه ولا بنسبته وإنما يدل بنسبته على اختلاف أنواع الحدث وبلفظه على الحدث نفسه وهكذا
قال سيبويه في أول الكتاب وإن تسامح في موضع آخر وأما الزمان فهو حركة الفلك فلا ارتباط بينه وبين حركة الفاعل إلا من جهة الإتفاق والمصاحبة إلا أنهم قالوا فعلت اليوم لأن اليوم ونحوه أسماء وضعت للزمان يؤرخ بها الفعل الواقع فيها فإذا سمعها المخاطب علم المراد منها واكتفى بصيغتها عن الحرف الجار فإن أضمرتها لم يكف لفظ الإضمار ولا أغنى عن الحرف لأن لفظ الإضمار يصلح للزمان ولغيره فقلت يوم الجمعة خرجت فيه وقد تقول خرجت في يوم الجمعة لأنها وإن كانت أسماء موضوعة للتاريخ فقد يخبر عن المكان إلا أن الإخبار عن المكان المحدود أكثر وأقوى لأن الأمكنة أشخاص كزيد وعمرو وظروف الزمان بخلاف ذلك فمن ثم قالوا سرت اليوم وسرت في اليوم ولم يقولوا جلست الدار فصل تعدي الفعل واشتقاقه
فإن كان الظرف مشتقا من فعل تعدى إليه بنفسه لأنه في معنى الصفة التي لا تتمكن ولا يخبر عنها وذلك كقبل وبعد وقريبا منك لأن في قبل معنى المقابلة وهي

من لفظ قبل وبعد من لفظ بعد وهذا المعنى هو من صفة المصدر لأنك إذا قلت جلست قبل جلوس زيد فما في قبل معنى المقابلة فهو في صفة جلوسك
ولم يمتنع الإخبار عن قبل وبعد من حيث كان غير محدود لأن الزمان والدهر قد يخبر عنهما وهما غير محدودين تقول قمت في الدهر مرة وإنما امتنع قمت في قبلك للعلة التي ذكرناها
ومن هذا النحو ما تقدم في فصل غدوة وعشية من امتناع تلك الأسماء من التمكن لما فيها من معنى الوصف نحو خرجت بصرا وظلاما وعشاء وضحى وإن كنا قد قدمنا أن هذه المعاني أوصاف للأوقات فليس بمناقض لما قلناه آنفا لأن الأوقات قد توصف بهذه المعاني مجازا وأما في الحقيقة فالأوقات هي الفلك والحركة لا توصف بصفة معنوية لأن العرض لا يكون حاملا لوصف
ومن هذا الفصل خرجت ذات يوم وذات مرة لأن ذات في أصل وضعها وصف للخرجة ونحوها كأنك قلت خرجت خرجة ذات يوم أي لم يكن إلا في يوم واحد فمن ثم لم يجز فيها إلا النصب ولم يجز دخول الجار عليها وكذلك ذا صباح وذا مساء في غير لغة خثعم
فإن قيل فلم أعربها النحويون ظرفا إذا كانت في الأصل مصدرا قيل لأنك إذا قلت ذات يوم علم أنك تريد يوما واحدا وقد اختزل المصدر ولم يبق إلا لفظ اليوم مع الذات فمن ثم أعربوه ظرفا
وسر المسألة في اللغة ما تقدم وأما مرة فإن أردت بها فعلة واحدة من مرور الزمان فهي ظرف زمان وإن أردت بها فعلة واحدة من المصدر مثل قولك لقيته مرة أي لقية فهي مصدر وعبرت عنها بالمرة لأنك لما قطعت اللقاء ولم تصله بالدوام صار بمنزلة شيء مررت به ولم تقم عنده فإذا جعلت المرة ظرفا فاللفظ حقيقة لأنها من مرور الزمان وإذا جعلتها مصدرا فاللفظ مجاز إلا أن تقول مررت مرة فيكون حينئذ حقيقة فصل

بحث جلست خلفك وأمامك
ومن هذا القبيل جلست خلفك وأمامك وفوق وتحت وعندك في معنى القرب لأنها من لفظ العند قال الراجز
وكل شيء قد يحب ولده ... حتى الحبارى فتطير عنده

أي إلى جنبه وهذه الألفاظ غير خاف أنها مأخوذة من لفظ الفعل فخلف من خلفت وقدام من تقدمت وفوق من فقت وأمام من أممت أي قصدت وكذلك سائرها
إلا أنهم لم يستعملوا فعلا من تحت ولكنها مصدر في الأصل أميت فعله وإذا كان الأمر فيها كذلك فقد صارت كقبل وبعد في الزمان وقريب وصار فيها كلها معنى الوصف فلذلك عمل الفعل فيها بنفسه كما يعمل فيما هو وصف للمصدر أو وصف للفاعل أو المفعول به لأن الوصف هو الموصوف في المعنى فلا يعمل الفعل إلا في هذه الثلاثة أو ما هو في معناها لأنها لا تدل بلفظها إلا عليها كما تقدم فقد بان لك أنه لم يمتنع الإخبار عنها ولا دخول الجار عليها من جهة الإبهام كما قالوه لأنه لا فرق بينهما وبين غير المبهم في انقطاع دلالة الفعل عنها إذ لا يدل الفعل بلفظه على مبهمها ولا على محدودها ولا على حركة فلك وإنما يدل بلفظه على مصدره وفاعله إذا كان الفاعل مطلقا وعلي المفعول به كذلك
فإن قيل فأين لفظ الفعل في ميل وفرسخ وأي معنى للوصف فيه والفعل قد تعدى إليه بغير حرف وعمل فيه بلا واسطة
قيل المراد بالميل والفرسخ تبيين مقدار المشي لا تبيين مقدار الأرض فصار الميل عبارة عن عدة خطى كأنك قلت سرت خطى عدتها كيت كيت فلم يتعد الفعل في الحقيقة إلا إلى المصدر المقدر بعدد معلوم كقولك ضربت ألف ضربة ومشيت ألف خطوة
ألا ترى أن الميل عبارة عن ثلاثة آلاف وخمس مائة خطوة والفرسخ أضعاف ذلك ثلاث مرات فلم ينكسر ما أصلناه من أن الفعل لا يتعدى إلا إلى ما ذكرنا وإنما سموا هذا المقدار من الخطى والأذرع ميلا لأنهم كانوا ينصبون في رأس ثلث كل فرسخ كهيئة الميل الذي يكتحل به إلا أنه كبير ثم يكتبون في رأسه عدد ما مشوه ومقدار ما تخطوه
وذكر قاسم بن ثابت أن هشام بن عبد الملك مر في بعض أسفاره بميل فأمر أعرابيا أن ينظر في الميل كم فيه مكتوبا وكان الأعرابي أميا فنظر فيه ثم رجع إليه فقال فيه محجن وحلقة وثالثة كأطباء الكلبة وهامة كهامة القطا فضحك هشام وقال معناه خمسة أميال

فقد وضح لك أن الأميال مقادير المشي وهو مصدر فمن ثم عمل فيها الفعل ومن ثم عمل في المكان نحو جلست مكان زيد لأنه مفعل من الكون فهو في أصل وضعه مصدر عبر به عن الموضع والموضع أيضا من لفظ الوضع فلا يحتاج الفعل في شيء من هذا القبيل إلى حرف
والذي قلناه في مكان أنه من الكون هو قول الخليل في كتاب العين إلا أنهم شبهوا الميم بالحرف الأصلي للزومها فقالوا في الجمع أمكنة حتى كأنه على وزن فعال وقد فعلوا ذلك في ألفاظ كثيرة شبهوا الزائد بالأصلي نحو تمدرع وتمسكن وأما جلست يمينك وشمالك فليس من هذا الفصل ولكنه مما حذف منه الجار لعلم السامع أرادوا عن يمينك وعن شمالك وعن شمالك أي الناحيتين ثم حذف الجار فتعدى الفعل فنصب فهو من باب أمرتك الخير وإنما حذف الحرف لما تضمنه الفعل من معنى الناصب لأنك إذا قلت جلست عن يمينك فمعنى الكلام قابلت يمينك وحاذيته ونحو ذلك فصل تعدي الفعل إلى الحال بنفسه
ومن هذا الباب تعدي الفعل إلى الحال بنفسه ونعني بالحال صفة الفاعل التي فيها ضميره أو صفة المفعول أو صفة المصدر الذي عمل فيها لأن الصفة هي الموصوف من حيث كان فيها الضمير الذي هو الموصوف وذلك نحو
سرت سريعا وجاء ضاحكا وضربته قائما فلم يعمل الفعل في هذا النحو من حيث كان حالا لأن الحال غير الإسم الذي نزل عليه الفعل
ألا ترى أنك إن صرحت بلفظ الحال لم يعمل فيها الفعل إلا بواسطة الحرف نحو جاء زيد في حال ضحك ولا تقول جاء زيد حال ضحك لأن الحال غير زيد ولذلك لا تقول جاء زيد ضاحكا لأنه غيره وغير المجيء فلا يعمل جاء فيه إلا بواسطة فإذا قلت ضاحكا عمل فيه لأن الضاحك هو زيد وإذا قلت جاء مشيا عمل فيه أيضا لا من حيث كان صفة لزيد لأنه لا ضمير فيه يعود على زيد ولكن من حيث كان صفة للمصدر الذي هو المجيء فعمل فيه جاء كما يعمل في المصدر
وأما عمله في المفعول من أجله فإنه لم يعمل فيه بلفظ عندي ولكنه دل على فعل باطن من أفعال النفس والقلب وإلا قلت آثار هذا الفعل الظاهر وصار ذلك

الفعل الباطن عاملا في المصدر الذي هو المفعول من أجله في الحقيقة والفعل الظاهر دال عليه ولذلك لا يكون المفعول من أجله منصوبا إلا بثلاثة شرائط
أن يكون مصدرا وأن لا يكون من أفعال الجوارح الظاهرة وأن يكون من فعل الفاعل المتقدم ذكره نحو جاء زيد خوفا مثلا ورغبة ولو قلت جاء قراءة للعلم وقتلا للكافر لم يجز لأنها أفعال ظاهرة فقد بان لك أن المجيء إنما يظهر ما كان باطنا خفيا حتى كأنك قلت جاء زيد مظهرا بمجيئه الخوف أو الرغبة أو الحرص أو أشباه ذلك فهذه الأفعال الظاهرة تبدى تلك الأفعال الباطنة فهي مفعولات في المعنى والظاهرة دالة على ما تتضمنها فإن جئت بمفعول من أجله من غير هذا القبيل الذي ذكرناه لم يصل الفعل إليه إلا بحرف نحو جئت لكذا أو من أجل كذا والله أعلم
قلت ما أدري أي ضرورة به إلى هذا التعسف والتكلف الظاهر الذي لا يصح لفظا ولا معنى
أما اللفظ فإنه لو كان معمولا لعامل مقدر وهو قولك يظهر الخوف والمحبة ونحوه لتلفظوا به ولو مرة في كلامهم فإنه لا دليل عليه من سياق ولا قرينة ولا هو مقتضى الكلام فيصح إضماره فدعوى إضماره ممتنعة
وأما فساده من جهة المعنى فمن وجوه عديدة
منها أن المتكلم لا يخطر بباله هذا المعنى بحال فلا يخطر ببال القائل زرتك محبة لك وزرتك مظهرا لمحبتك ولا بقوله تركت هذا خوفا من الله تركته مظهرا خوفي من الله وهذا أظهر من أن يحتاج إلى تقديره
الثاني أنه إذا كان التقدير ما ذكر خرج الكلام عن حقيقته ومقصوده إذ لا يبقى فيه دليل على أنه علة الفعل الباعثة عليه فإنه إذا قال خرجت مظهرا ابتغاء مرضاة الله مثلا لم يدل ذلك على أن الباعث له على الخروج ابتغاء مرضاة الله تعالى لأن قوله مظهر كذا حال أي خرجت في هذه الحال فأين مسألة الحال من مسألة المفعول لأجله
الثالث أن المفعول له هو علة الفعل وهي إما علة فاعلية أو غائية وكلاهما ينتصب على المفعولية تقول فعلت ذلك خوفا وقعدت عن الحرب جبنا وأمسك عن الإنفاق شحا فهذه أسباب حاملة على الفعل والترك لا أنها هي الغايات المقصودة منه

وتقول ضربته تأديبا وزرته إكراما وحبسته صيانة فهذه غايات مطلوبة من الفعل إذا ثبت هذا فالمعلل إذ ذكر الفعل طلب المخاطب منه الباعث عليه لما في النفوس من طلب الأسباب والغايات في الأفعال الإختيارية شاهدا أو غائبا فإذا ذكر الباعث أو الغاية وهو المراد من الفعل كان مخبرا بأن هذا هو مقصوده وغايته والباعث له على الفعل فكان اقتضاء الفعل اللفظي كاقتضاء الفعل الذي هو حدث له فصح نصبه له كما كان واقعا لأجله وهذا بحمد الله واضح فصل إذا كانت الحال صفة لازمة للإسم
قال إذا كانت الحال صفة لازمة للإسم كان حملها عليه على جهة النعت أولى بها وإذا كانت مساوية للفعل غير لازمة للإسم إلا في وقت الإخبار عنه بالفعل مع أن تكون حالا لأنها مشتقة من التحول فلا تكون إلا صفة يتحول عنها ولذلك لا تكون إلا مشتقة من فعل لأن الفعل حركة غير ثابتة وقد تجيء غير مشتقة لكن في معنى المشتق كقوله وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا // رواه مسلم // أي يتحول عن حاله ويعود متصورا في صورة الرجل
فقوله رجلا في قوة متصورا بهذه الصورة
وأما قولهم جاءني زيد رجلا صالحا فالصفة وطأت الإسم للحال ولولا صالحا ما كان رجلا حالا وكذلك قوله تعالى لسانا عربيا الأحقاف 12
قلت وعلى هذا فيكون أقسام الحال أربعة مقيدة ومقدرة ومؤكدة وموطئة
فإن قيل وما فائدة ذكر الإسم الجامد في الموطئة وهلا اكتفى بالمشتق فيها
قيل في ذكر الإسم موصوفا بالصفة في هذا الموطن دليل على لزوم هذه الحال لصاحبها وأنها مستمرة له وليس كقولك جاءني زيد صالحا لأن صالحا ليس فيه غير لفظ الفعل والفعل غير دائم وفي قولك رجلا صالحا لفظ رجل وهو دائم فلذلك ذكر
فإن قيل كيف يصح في لسانا عربيا أن يكون حالا وليست وصفا منتقلا ولهذا لو قلت جاءني زيد قرشيا أو عربيا لم يجز

قيل قوله لسانا عربيا حال من الضمير في مصدق لا من كتاب لأنه نكره والعامل في الحال ما في مصدق من معنى الفعل فصار المعنى أنه مصدق لك في هذه الحال والإسم الذي هو صاحب الحال قديم وقد كان غير موصوف بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى ومن خلا من الرسل وإنما كان عربيا حين أنزل على محمد مصدقا لما بين يديه من الكتاب فقد أوضحت فيه معنى الحال وبرح الإشكال
قلت كلا بل زدت الإشكال إشكالا وليس معنى الآية ما ذهبت إليه وإنما لسانا عربيا حال من كتاب وصح انتصاب الحال عنه مع كونه نكرة لكونه قد وصف والنكرة إذا وصفت انتصب عنها الحال لتخصصها بالصفة كما يصح أن يبتدأ بها
وأما قوله إن المعنى مصدق لك فلا ريب أنه مصدق له ولكن المراد من الآية أنه مصدق لما تقدم من كتب الله تعالى كما قال وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب المائدة 48 وقال ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه آل عمران 3 وقال وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه الأنعام 92
أفلا ترى كيف اطرد في القرآن وصف الكتاب بأنه مصدق لما بين يديه
وقال وباتفاق الناس أن المراد مصدق لما تقدمه من الكتب وبهذه الطريق يكون مصدقا للنبي ويكون أبلغ في الدليل على صدقه من أن يقال هذا كتاب مصدق لك فإنه إذا كانت الكتب المتقدمة تصدقها وتشهد بصحة ما فيها مما أنزله الله من غير مواطأة ولا اقتباس منها دل على أن الذي جاء به رسول الله صادق كما أن الذي جاء بها كذلك وأن مخرجهما من مشكاة واحدة
ولهذا قال النجاشي حين قريء عليه القرآن إن هذا والذي جاء به موسى يخرج من مشكاة واحدة يعني فإذا كان موسى صادقا وكتابه حق فهذا كذلك إذ من المحال أن يخرج شيئان من مشكاة واحدة ويكون أحدهما باطلا محضا والآخر حقا محضا فإن هذا لا يكون إلا مع غاية التباين والتنافر
فالقرآن صدق الكتب المتقدمة وهي بشرت به وبمن جاء به فقام الدليل على صدقه من الوجهين معا من جهة بشارة من تقدمه به ومن جهة تصديقه ومطابقته له فتأمله

ولهذا كثيرا ما يتكرر هذا المعنى في القرآن إذ في ضمنه الإحتجاج على الكتابيين بصحة نبوة محمد بهذه الطريق وهي حجة أيضا على غيرهم بطريق اللزوم لأنه إذا جاء بمثل ما جاءوا به من غير أن يتعلم منهم حرفا واحدا دل على أنه من عند الله تعالى
وحتى لو أنكروا رسالة من تقدم لكان في مجيئه بمثل ما جاءوا به إثبات لرسالته ورسالة من تقدمه ودليل على صحة الكتابين وصدق الرسولين لأن الثاني قد جاء بأمر لا يمكن أن ينال بالتعليم أصلا ولا البعض منه فجاء على يدي أمي لا يقرأ كتابا ولا خطه بيمينه ولا عاشر أحدا من أهل الكتاب بل نشأ بينكم وأنتم شاهدون حاله حضرا وسفرا وظعنا وإقامة فهذا من أكبر الأدلة على أن ما جاء به ليس من عند البشر ولا في قدرتهم وهذا برهان بين من برهان الشمس وقد تضمن ما جاء به تصديق من تقدمه وتضمن ما تقدمه البشارة به فتطابقت حجج الله وبيناته على صدق أنبيائه ورسله وانقطعت المعذرة وثبتت الحجة فلم يبق لكافر إلا العناد المحض أو الإعراض والصد

هل معاني الكتب المقدسة واحدة
وقوله إن الإسم الذي هو صاحب الحال قديم وكان غير موصوف بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى وداود عليهم السلام هذا بناء منه على الأصل الذي انفردت به الكلابية عن جميع طوائف أهل الأرض من أن معاني التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر كتب الله معنى واحد
فالعين لا اختلاف فيها ولا تعدد وإنما تتعدد وتتكرر العبارات الدالة على ذلك المعنى الواحد فإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وهو نفس التوراة وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وهو نفس القرآن وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وهو أيضا نفس القرآن ونفس التوراة وكذلك سائر الكتب
وهذا قول يقوم على بطلان تسعين برهانا لا تندفع ذكرها شيخ الإسلام في الأجوبة المصرية وكيف تكون معاني التوراة والإنجيل هي نفس معاني القرآن وأنت تجدها إذا عربت لا تدانيه ولا تقاربه فضلا عن أن تكون هي إياه وكيف يقال إن الله تعالى أنزل هذا القرآن على داود وسليمان وعيسى بعينه بغير هذه العبارات أم كيف يقال إن معاني كتب الله كلها معنى واحد يختلف التعبير عنها دون المعنى المعبر عنه وهل هذا إلا دعوى يشهد الحس ببطلانها أم كيف يقال إن التوراة إذا عبر عنها بالعربية صارت قرآنا مع تميز القرآن عن سائر الكلام بمعانيه وألفاظه تميزا ظاهرا لا يرتاب فيه أحد وبالجملة فهذا الجواب منه بناء على ذلك الأصل

والجواب الصحيح أن يقال الحال المؤكدة لا يشترط فيها الإشتقاق والإنتقال بل التنقل مما ينافي مقصودها فإنما أتى بها لتأكيد ما تقدمها وتقريره فلا معنى لوصف الإشتقاق والإنتقال فيها أصلا وتسميتها حالا تعبير نحوي اصطلاحي
وإلا فالعرب لم تقل لهذه حل حتى يقال كيف سميتموها حالا وهي وصف لازم وإنما النحاة سموها حالا فيا لله العجب من أن تكون تسميتهم الحادثة الإصطلاحية موجبة لاشتراط التنقل والإشتقاق فلو سماها مسم بغير هذا الإسم وقال هذه نصب على القطع من المعرفة إذا جاءت بعد معرفة أكان يلزمه هذا السؤال فقد بان لك ضعف ما اعتمده من الجواب وبالله التوفيق

الكلام على قوله وهو الحق مصدقا البقرة
عاد كلامه قال وأما قوله وهو الحق مصدقا فقد حكموا أنها حال مؤكدة ومعنى الحال المؤكدة أن يكون معناها كمعنى الفعل لأن التوكيد هو المؤكد في المعنى وذلك نحو قم قائما وأنا زيد معروفا هذه هي الحال المؤكدة في الحقيقة
وأما وهو الحق مصدقا فليست بحال مؤكدة لأنه قال مصدقا لما معهم وتصديقه لما معهم ليس في معنى الحق إذ ليس من شرط الحق أن يكون مصدقا لفلان ولا مكذبا له بل الحق في نفسه حق وإن لم يكن مصدقا لغيره ولكن مصدقا هنا حال من الإسم المجرور من قوله تعالى ويكفرون بما وراءه
وقوله وهو الحق جملة في معنى الحال أيضا والمعنى كيف تكفرون بما وراءه وهو في هذه الحال أعني مصدقا لما معكم كما تقول لا تشتم زيدا وهو أمير محسنا إليك
فالجملة حال ومحسنا حال بعدها والحكمة في تقديم الجملة التي في موضع الحال على قولك محسنا ومصدقا أنك لو أخرتها لتوهم أنها في موضع الحال من الضمير الذي في محسن ومصدق
ألا ترى أنك لو قلت اشتم زيدا محسنا إليك وهو أمير لذهب الوهم إلى أنك تريد محسنا إليك في هذه الحال فلما قدمتها اتضح المراد وارتفع اللبس
ووجه آخر يطرد في هذه الآية وفي الآية التي في سورة فاطر والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه فاطر 3 وهو أن يكون مصدقا ههنا حالا يعمل فيها ما دلت عليه الإشارة المنبئة عنها الألف واللام لأن الألف واللام قد تنبيء عما تنبيء عنه أسماء الإشارة

وحكى سيبويه لمن الدار مفتوحا بابها فقولك مفتوحا بابها حال لا يعمل فيها الإستقرار الذي يتعلق به لمن لأن ذلك خلاف المعنى المقصود وتصحيح المعنى لمن هذا الدار مفتوحا بابها فقد استغنى بذكر الألف واللام وعلم المخاطب أنه مشير وتنبه المخاطب بالإشارة إلى النظر وصار ذلك المعنى المنبه عليه عاملا في الحال
وكذلك قوله وهو الحق مصدقا كأنه يقول ذلك هو الحق مصدقا لأن الحق قديم ومعروف بالعقول والكتب المتقدمة فلما أشار نبهت الإشارة على العامل في الحال كما إذا قلت هذا زيد قائما نبهت الإشارة المخاطب على النظر فكأنك قلت انظر إلى زيد قائما لأن الإسم الذي هو زيد هو العامل ولكن مشعر ومنبه على المعنى العامل في الحال وذلك المعنى هو انظر ومما أغنت فيه الألف واللام عن الإشارة قولهم اليوم قمت والساعة جئت والليلة فعلت والآن قعدت اكتفيت بالألف واللام عن أسماء الإشارة
قلت ليس المراد بقول النحاة حال مؤكدة ما يريدون بالتأكيد في باب التوابع فالتأكيد المبوب له هناك أخص من التأكيد المراد من الحال المؤكدة وإنما مرادهم بالحال المؤكدة المقررة لمضمون الجملة بذكر الوصف الذي لا يفارق العامل ولا ينفك عنه وإن لم يكن معنى ذلك الوصف هو معنى الجملة بعينه وهذا كقولهم زيد أبوك عطوفا فإن كونه عطوفا ليس معنى كونه أباه ولكن ذكر أبوته تشعر بما يلازمها من العطف
وكذلك قوله هو الحق مصدقا لما بين يديه فإن ما بين يديه حق والحق يلازمه تصديق بعضه بعضا
وقوله ليس من شرط الحق أن يكون مصدقا لفلان يقال ليس هذا بنظير لمسألتنا بل الحق يلزمه لزوما لا انفكاك عنه تصديق بعضه بعضا فتصديق ما بين يديه من الحق هو من جهة كونه حقا فهذا معنى قولهم إنها حال مؤكدة فافهمه
والمعنى أنه لا يكون إلا على هذه الصفة وهي مقررة لمضمون الجملة فإن كونه مصدقا للحق المعلوم الثابت مقررا ومؤكدا ومبينا لكونه حقا في نفسه
وأما قوله إنها حال من المجرور في قوله ويكفرون بما وراءه والمعنى يكفرون به مصدقا لما معهم فهذا المعنى وإن كان صحيحا لكن ليس هو معنى الحال في القرآن حيث وقعت بهذا المعنى وهب أن هذا يمكن دعواه في هذا الموطن فكيف يقول في قوله تعالى والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه والكلام والنظم واحد

وأيضا فالمعنى مع جعل مصدقا حال من قوله وهو الحق أبلغ وأكمل منه إذا جعل حالا من المجرور فإنه إذا جعل حالا من المجرور يكون الإنكار قد توجه عليهم في كفرهم به حال كونه مصدقا لما معهم وحال كونه حقا فيكونان حالا من المجرور أي يكفرون به في هذه الحال وهذه الحال وإذ جعل حالا من مضمون قوله وهو الحق كان المعنى يكفرون به حال كونه حقا مصدقا لما معهم فكفروا به في أعظم أحواله المستلزمة للتصديق والإيمان به وهو اجتماع كونه حقا في نفسه وتصديقه لما معهم فالكفر به عند اجتماع الوصفين فيه يكون أغلظ وأقبح وهذا المعنى والمبالغة لا تجده فيما إذا قيل يكفرون به حال كونه حقا وحال كونه مصدقا لما معهم فتأمله فإنه بديع جدا فصح قول النحاة والمفسرين في الآية والله أعلم فائدة قولهم هذا بسرا أطيب منه رطبا
قولهم هذا بسرا أطيب منه رطبا فيها أسئلة عشرة
أحدها ما جهة انتصاب بسرا ورطبا أعلى الحال أم خبر كان
الثاني إذا كانا حالين فما هو صاحبهما
الثالث ما العامل في الحالين هل هو أفعل التفضيل أو اسم الإشارة أو غير ذلك
الرابع إنكم إذا جعلتم العامل أفعل التفضيل لزم تقديم معمول أفعل التفضيل عليه والإتفاق واقع على امتناع زيد منك أحسن وإذا لم يتقدم الحال
الخامس متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في الحالين ومتى لا يجوز وما ضابط ذلك
السادس هل يجوز التقديم والتأخير في الحالين جميعا أم لا
السابع كيف تصورت الحال في غير المشتق
الثامن إلى أي شيء وقعت الإشارة بقولهم هذا
التاسع هلا قلتم إن بسرا ورطبا منصوبان على خبر كان وتخلصتم من هذا كله
العاشر هل يشترط في هذه المسألة أن يكون الإسمان المنصوبان اسمين لشيء واحد

باعتبار صفتين أوهل يجوز أن يقع بين شيئين مختلفين نحو هذا بسرا أطيب منه عنبا فالجواب عن هذه المسائل جهة الإنتصاب على الحال
أما السؤال الأول فجهة انتصابه على الحال في أصح القولين وهو اختيار سيبويه ومحققي أصحابه خلافا لمن زعم أنه خبر كان وسيأتي إبطاله في جواب السؤال التاسع وإنما جعله سيبويه حالا لأن المعنى عليه فإن المخبر إنما يفضله على نفسه باعتبار حالين من أحواله
لولا ذلك لما صح تفضيل الشيء على نفسه فالتفضيل إنما صح باعتبار الحالين فيه فكان جهة انتصابهما على الحال لوجود شروط الحال وسيأتي الكلام على شرط الإشتقاق
فلما كان هذا الباب لا يذكر إلا لتفضيل شيء في زمان أو على حال على نفسه في زمان أو على حال أخرى وسائر وجوه النصب متعذرة فيه إلا الحال أو كونه خبرا لكان وسيأتي بطلان الثاني فيتعين أن يكون حالا
فإذا قلت فهلا جعلته تمييزا
قلت يأبى ذلك أنه ليس من قسمي التمييز فإنه ليس من المقادير المنتصبة عن تمام الإسم ولا من التمييز المنتصب عن تمام الجملة فلا يصح أن يكون تمييزا فصل صاحب الحال
وأما السؤال الثاني وهو ما هو صاحب الحال ههنا فجوابه أنه الإسم المضمر في أطيب الذي هو راجع إلى المبتدأ من خبره فبسرا حال من ذلك الضمير ورطبا حال من المضمر المجرور ب من هو المرفوع المستتر في أطيب من جهة المعنى ولكنه نزل منزلة الأجنبي ألا ترى أنك لو قلت زيد قائما أخطب من عمرو قاعدا لكان قاعدا حال من الإسم المخفوض ب من وهو عمرو فكذلك رطبا حال من الإسم المجرور ب من هذا قول جماعة من البصريين
وقال أبو على الفارسي صاحب الحال المضمر المستكن في كان المقدرة التامة وأصل المسألة هذا إذا كان أي بسرا أطيب منه إذا كان أي وجد رطبا فبسرا ورطبا حالان

من المضمر المستكن في كان وهذان القولان مبنيان على المسألة الثالثة وهو ما هو العامل في هذه الحال وفيه أربعة أقوال
أحدها أنه ما في أطيب من معنى الفعل لأنك تريد أن طيبه في حال البسرية تزيد على طيبه في حال الرطبة فالطيب أمر واقع في هذه الحال
القول الثاني أن العامل فيها كان الثانية المقدرة وهذا اختيار أبي علي
القول الثالث أن العامل فيها ما في اسم الإشارة من معنى الفعل أي أشير إليه بسرا
القول الرابع أنه ما في حرف التنبيه من معنى الفعل والمختار القول الأول وهو العامل فيها ما في أطيب من معنى الفعل وإنما اخترناه لوجوه
أحدها أنهم متفقون على جواز زيد قائما أحسن منه راكبا وثمر نخلتي بسرا أطيب منه رطبا والمعنى في هذا كالمعنى في الأول سواء وهو تفضيل الشيء على نفسه باعتبار حالين فانتفى اسم الإشارة وحرف التنبيه ودار الأمر بين القولين الباقيين أن يكون العامل كان مقدرة أو أطيب
والقول بإضمار كان ضعيف فإنها لا تضمر إلا حيث كان في الكلام دليل عليها نحو قولهم إن خيرا فخير وبابه لأن الكلام هناك لا يتم إلا بإضمارها بخلاف هذا وأيضا فإن كان الزمانية ليس المقصود منها الحدث وإنما هي عبارة عن الزمان والزمان لا يضمر وإنما يضمر الحدث إذا كان في الكلام ما يدل عليه وليس في الكلام ما يدل على الزمان الذي يقيد به الحدث إلا أن يلفظ به فإن لم يلفظ به لم يعقل
فإن قلت فمن ههنا قالوا إن كان ههنا تامة غير ناقصة بل قد خلعوا منها الدلالة على الزمان وجردوها لنفس الحدث
قلت هذا كلام من لم يحصل معنى كان التامة والناقصة كما ينبغي فإن كان الناقصة والتامة يرجعان إلى أصل واحد ولا يجوز إضمار واحد منهما وكشف ذلك يطول لكن نشير إلى بعض وهو أن القائل إذا قال كان برد مطر وكان مطر فهو بمنزلة وقع حدث
وكذا غيرهما من الأفعال اللازمة والزمان جزء مدلول الفعل فلا يجوز أن يخلعه ويجرد عنه وإنما الذي خلع من كان التامة اقتضاؤها خبرا يقارن زمانها وبقيت تقتضيه

مرفوعا يقارن زمانها كما كان يقارنه الخبر فلا فرق بينهما أصلا فإن الزمان الذي كان الخبر يقترن به هو بعينه الزمان الذي اقترن به مرفوعا وينزل مرفوعها في تمامها به بمنزلة خبرها إذا كانت ناقصة فتأمل هذا السر الذي أغفله كثير من النحاة
ويبطل هذا المذهب أيضا بشيء آخر وهو كثرة الإضمار فإن القائل به يضمر ثلاثة أشياء إذا والفعل والضمير وهذا تعد لطور الإضمار وقول بلا دليل عليه
الوجه الثاني من وجوه الترجيح أن العامل في الحال لو كان معنى الإشارة لكانت الإشارة إلى الحال لا إلى الجوهر وهذا باطل فإنه إنما يشير إلى ذات الجوهر ولهذا يصح إشارته إليه وإن لم يكن على تلك الحال كما إذا أشار إلى تمر يابس وقال هذا بسرا أطيب منه رطبا فإنه يصح ولو كان العامل في الحال هو الإشارة لم تصح المسألة
الوجه الثالث أنه لو كان العامل معنى الإشارة لوجب أن يكون الخبر عن الذات مطلقا لأن تقييد المشار إليه باعتبار الإشارة إذا كان مبتدأ لا يوجب تقديم خبره إذا أخبرت عنه ولهذا تقول هذا ضاحكا أبي فالإخبار عنه بالأبوة غير مقيد بحال ضحكه بل التقييد للإشارة فقط والإخبار بالأبوة وقع مطلقا عن الذات فاعتصم بهذا الموضع فإنه ينفعك في كثير من المواضع وإذا عرف هذا وجب أن يكون الخبر بأطيب وقع عن المشار إليه مطلقا
الوجه الرابع أن العامل لو لم يكن هو أطيب لم تكن الأطيبية مقيدة بالبسرية بل تكون مطلقة وإذا لم تكن مقيدة فسد المعنى لأن الغرض تقييد الأطيبية بالبسرية مفضلة على الرطبية وهذا معنى العامل وإذا ثبت أن الأطيبية مقيدة بالبسرية وجب أن يكون بسرا معمولا لأطيب
فإن قلت فلأجل هذا قدرنا الظرف المقيد حتى يستقيم المعنى وقلنا تقديره هذا إذا كان بسرا أطيب منه إذا كان رطبا أي هذا في وقت بسريته أطيب منه في وقت رطبيته
قلت هذا يحتاج إليه إذا لم يكن في اللفظ ما يغني عنه ويقوم مقامه فأما إذا كان معنا ما يغني عنه فلا وجه لتكلف إضماره وتقديره العامل في الحالين
فإن قلت لو كان العامل هو أطيب لزم منه المحال لأنه يستلزم تقييده بحالين مختلفين وهذا ممتنع قلت الجواب عن هذا أن العامل في الحالين وصاحبهما متعدد ليس متحدا أما العامل في الحال الأولى فهو ما في أطيب من معنى الفعل لأنك إذا قلت

هذا أطيب من هذا تريد أنه طاب وزاد طيبه عليه والطيب أمر ثابت له في حال البسرية قال سيبويه هذا باب ما ينصب من الأسماء على أنها أحوال وقعت فيها الأمور وأما الحال الثانية وهي رطبا فالعامل فيه معنى الفعل الذي هو متعلق الجار في قولك منه فإن منه متعلق بمعنى غير الطيب لأن طاب يطيب لا يتعدى بمن ولكن صيغة الفعل تقتضي التفضيل بين شيئين مشتركين في صفة واحدة إلا أن أحدهما متميز من الآخر منفصل منه بزيادة في تلك الصفة فمعنى التمييز والإنفصال الذي تضمنه أفعل هو الذي تعلق به حرف الجر وهو الذي يعمل في الحالة الثانية كما عمل معنى الفعل الذي تعلق به حرف الجر من قولك زيد في الدار قائما في الحال التي هي قائما
فإن قلت فهلا أعملت فيهما جميعا ما في أطيب
قلت لاستلزامه المحال المذكور لأن الفعل الواحد لا يقع في حالين كما لا يقع في ظرفين لا تقول زيد قائم يوم الجمعة يوم الخميس ولا جالس خلفك أمامك فإذا قلت زيد يوم الجمعة أطيب منه يوم الخميس جاز لأن العامل في أحد اليومين غير العامل في اليوم الثاني لأنك فضلت حين قلت أطيب أو أصح أو أقوم صحة وقياما على صحة أخرى وقيام آخر وفضلت حال من حال بمزية وزيادة
وكذلك حين قلت هذا بسرا أطيب منه رطبا ولا يجوز أن يعمل عامل واحد في حالين ولا ظرفين إلا أن يتداخلا ويصح الجمع بينهما نحو قولك زيد مسافر يوم الخميس ضحوة لأن الضحوة داخلة في اليوم وكذلك سرت راكبا مسرعا لدخول الإسراع في السير وتضمنه له ولو قلت سرت مسرعا مبطئا لم يجز لاستحالة الجمع بينهما إلا على تقدير الواو أي مسرعا تارة ومبطئا أخرى وكذلك بسرا ورطبا يستحيل أن يعمل فيهما عامل واحد لأنهما غير متداخلين هذا هو الجواب الصحيح عندي
وأجاب طائفة بأن قالوا أفعل التفضيل في قوة فعلين لأن معناه حسن وزاد حسنه وطاب وزاد طيبه وإذا كان في قوة فعلين فهو عامل في بسرا باعتبار حسن وطاب وفي رطبا باعتبار زاد حتى لو فككت ذلك لقلت هذا زاد بسرا في الطيب على طيبه في حال كونه رطبا فاستقام المعنى المطلوب وهذا جواب حسن والأول أمتن فتأملهما فصل تقديم معمول أفعل التفضيل عليه
وأما السؤال الرابع وهو تقديم معمول أفعل التفضيل عليه فالجواب عنه من وجهين

أحدهما لا نسلم امتناع تقديم معموله عليه وقولكم الإتفاق واقع على امتناع زيد منك أحسن غير صحيح لا اتفاق في ذلك بل قد جوز بعض النحاة ذلك واستدل عليه بقول الشاعر
كأنه جنى النحل أو ما زودت منه أطيب ...
قال هؤلاء وأفعل التفضيل لما كان في قوة فعلين جاز تقديم معموله عليه قالوا وتقديمه أقوى من قولك أنا لك محب وفيك راغب وعندك مقيم ولاستقصاء الحجج في هذه المسألة موضع آخر
الوجه الثاني سلمنا امتناع تقديم معموله ولا يقال زيد منك أحسن فهذا الأمر يختص بقولهم منك لا يتعدى إلى الحال والظرف وذلك لأن منك في معنى المضاف إليه بدليل أن قولهم زيد أحسن منك بمنزلة زيد أحسن الناس في قيام أحدهما مقام آخر وإنهم لا يجمعون بينهما فلما قام مقام المضاف إليه لكونه المفضل عليه في المعنى كرهوا تقديمه على المضاف لأنه خلاف لغتهم فلا يلزم من امتناع تقديم معمول هو كالمضاف إليه امتناع تقديم معمول ليس كهو
وهذا بين وجواب ثالث وهو أنهم إذا فضلوا الشيء على نفسه باعتبار حالين فلا بد من تقديم أحدهما على العامل وإن كان مما لا يسوغ تقديمه لو لم يكن كذلك فإذا فضلوا ذاتا باعتبار حالين قدموا أحدهما على العامل وأخروا الآخر عنه فقالوا زيد قائما أحسن منه قاعدا وكذلك في التشبيه أيضا يقولون زيد قائما كعمرو قاعدا
وإذا جاز تقديم هذا المعمول على الكاف التي هي أبعد في العمل من باب أحسن فتقديم معمول أحسن أجدر والغرض هنا بهذا الكلام تفضيل هذه الثمرة في حال كونها بسرا عليها في حال كونها رطبا فصل عمل العامل الواحد في حالين
وأما السؤال الخامس وهو متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في حالين فقد فرغنا من جوابه فيما تقدم وأن ذلك يجوز إذا كانت إحدى الحالين متضمنة للأخرى نحو جاء زيد راكبا مسرعا وكذلك يعمل في الظرفين إذا تضمن أحدهما الأخر نحو سرت يوم الخميس بكرة

فصل التقديم والتأخير في الحالين
وأما السؤال السادس وهو هل يجوز التقديم والتأخير في الحالين أم لا
فالجواب عنه أن الحال الأولى يجوز فيها ذلك لأن العامل فيها لفظي وهو ما في أطيب من معنى الفعل فلك أن تقول هذا بسرا أطيب منه رطبا وأن تقول هذا أطيب بسرا منه رطبا وهو الأصل
فإن قلت إذا كان هذا هو الأصل فلم مثل سيبويه بها مقدمة وكان ذلك أحسن عنده من أن يؤخرها
قلت كأنه أراد تأكيد معنى الحال فيها لأنه ترجم عن الحال فلو أخرها لأشبهت التمييز لأنك إذا قلت هذا الرجل أطيب بسرا من فلان فبسرا لا محالة تمييز وإذا قدمت بسرا على أطيب من كذا فبسرا لا محالة حال ولا يصح أن يخبر بهذا الكلام عن رجل ولا عن شيء سوى التمر وما هو في معناه
فإن قلت هذا بسرا احتمل الكلام قبل تمامه وقبل النظر في قرائن أحواله أن يكون بسرا تمييزا وأن يكون حالا وبينهما في المعنى فرق عظيم فاقتضى تخصيص المعنى والحرص على البيان للمراد تقديم الحال الأولى على عاملها ولو أخرت لجاز وأما الحال الثانية فلا سبيل إلى تقديمها على عاملها لأنه معنوي والعامل المعنوي لا يتصور تقديم معموله عليه لأن العامل اللفظي إذا تقدم عليه منصوبه الذي حقه التأخير قلت فيه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى فقسمت العبارة بين اللفظ والمعنى
فإن لم يكن للعامل وجود في اللفظ لم يتصور تقديم المعمول عليه لأنه لا بد من تأخير المعمول على عامله في المعنى فلا يوجد تعد وعامله متقدم عليه لأنه منوي غير ملفوظ به فلا تذهب النية والوهم إلى غير موضعه بخلاف اللفظي فإن محل اللفظ اللسان ومحل المعنى القلب فإذا ذهب اللسان باللفظ إلى غير موضعه لم يذهب القلب بالمعنى إلا إلى موضعه وهو التقديم فصل تصور الحال في غير المشتق
وأما السؤال السابع وهو كيف يتصور الحال في غير المشتق فاعلم أنه ليس لاشتراط

الإشتقاق حجة ولا يقوم على هذا الشرط دليل ولهذا كان الحذاق من النحاة على أنه لا يشترط بل كل ما دل على هيئة صح أن يقع حالا فلا يشترط فيها إلا أن تكون دالة على معنى متحول ولهذا سميت حالا كما قال
لو لم تحل ما سميت حالا ... وكل ما حال فقد زالا
فإذا كان صاحب الحال قد أوقع الفعل في صفة غير لازمة للفعل فلا تبالي أكانت مشتقة أم غير مشتقة فقد جاء في الحديث يتمثل لي الملك رجلا فوقع رجلا هنا حالا لأن صورة الرجلية طارئة على الملك في حال التمثل وليست لازمة للملك إلا في وقت وقوع الفعل منه وهو التمثل فهي إذا حال لأنه قد تحول إليها
ومثله يخرجكم طفلا غافر 67 ومثله هذه ناقة الله لكم آية الأعراف 73 ومثله فتمثل لها بشرا مريم 17 ويقولون مررت بهذا العود شجرا ثم مررت به رمادا وهذا زيد أسدا وتأويل هذا كله بأنه معمول الحال والتقدير يشبه بعيد جدا وكذا تأويل ذلك كله بمشتق تعسف ظاهر والتحقيق ما تقدم وأنها كلها أحوال وإن كانت جامدة لأنها صفات يتحول الفاعل إليها وليس يلزم في الصفات أن تكون كلها فعلية بل فيها نفسية ومعنوية وعدمية وهي صفة النفي وإضافية وفعلية ولا يكون من جميعها حالا إلا ما كان الفعل واقعا فيه وجاز خلوه عنها
فأما ما كان لازما للإسم مما لا يجوز خلوه عنه فلا يكون حالا منتصبة بالفعل نحو قولك قرشي وعربي وحبشي وابن وبنت وأخ وأخت فكل هذه لا يتصور وقوعها أحوالا لأنها لا تتحول فصل مدلول الإشارة بقولك هذا
وأما السؤال الثامن وهو إلى أي شيء وقعت الإشارة بقولك هذا
فالجواب أن متعلق الإشارة هو الشيء الذي تتعاقب عليه هذه الأحوال وهو ما تخرجه النخل من أكمامها فيكون بلحا ثم يكون سيابا ثم جدالا ثم بسرا إلى أن يكون رطبا فمتعلق الإشارة المحل الحامل لهذه الأوصاف فالإشارة إلى شيء ثالث غير البسر والرطب وهو حامل البسرية والرطبة

وقد عرفت بهذا أنه لا ينبغي تخصيص الإشارة بقولهم إنها إلى البلح والطلع والجدال كل ذلك تمثيل والتحقيق أن الإشارة إلى الحقيقة الحاملة لهذه الصفات والذي يدل على هذا أنك تقول زيد قائما أخطب منه قاعدا
وقال عبدالله بن سلام لعثمان أنا خارجا أنفع لك مني داخلا فلا إشارة ولا مشار هنا وإنما هو إخبار عن الإسم الحامل للصفات التي منها القيام والقعود ولا يصح أن يكون متعلق الإشارة صفة البسرية ولا الجوهر بقيد تلك الصفة لأنك لو أشرت إلى البسرية وكان الجوهر يفيدها لم يصح تقييده بحال الرطبية فتأمله فلم تبق إلا أن تكون الإشارة إلى الجوهر الذي تتعاقب عليه الأحوال وقد تبين لك بطلان قول من زعم أن متعلق الإشارة في هذا هو العامل في بسر فإن العامل فيها إما ما تضمنه أطيب من الفعل وإما كان المقدرة وكلاهما لا يصح تعلق الإشارة به فصل

هل النصب على أنه خبر كان
وأما السؤال التاسع وهو قوله هلا قلتم إنه منصوب على أنه خبر كان فجوابه إن كان لو أضمرت لأضمر ثلاثة أشياء الظرف الذي هو إذا وفعل كان ومرفوعها وهذا لا نظير له إلا حيث يدل عليه الدليل وقد تقدم ذلك وقد منع سيبويه من إضمار كان فقال لو قلت عبدالله المقتول تريد كان عبدالله المقتول لم يجز
وقد تقدم ما يدل على امتناع إضمار كان فلا نطول بإعادته وإذا لم يجز إضمار كان على انفرادها فكيف يجوز إضمار إذ وإذا معا وأنت لو قلت آتيك جاء زيد تريد إذا جاء زيد كان خلفا من الكلام بإجماع وإذا كان كذلك كان الإضمار من هذا الموطن أبعد لأنه لا يدرى ههنا إذ تريد أم إذا
وفي قولك سآتيك لا يحتمل إلى أحدهما بخلاف قولك زيد قائما أخطب منه قاعدا وإذا بعد كل البعد إضمار الظرف ههنا فإضماره مع كان أبعد ومن قدره من النحاة فإنما أشار إلى شرح المعنى بضرب من التقريب
فإن قيل الذي يدل على أنه لا بد من إضمار كان أن هذا الكلام لا يذكر إلا لتفضيل شيء في زمان من أزمان على نفسه في زمان آخر ويجوز أن يكون الزمان المفضل فيه ماضيا وأن يكون مستقبلا ولا بد من إضمار ما يدل على المراد منهما

فيضمر للماضي إذ وللمستقبل إذا وإذ وإذا يطلبان الفعل وأعم الأفعال وأشملها فعل الكون الشامل لكل كائن ولهذا كثيرا ما يضمرونه فلا بد من فعل يضاف إليه الظرف لاستحالة أن تقول هذا إذ بسرا أطيب منه إذ رطبا فتعين إضمار كان لتصحيح الكلام
قيل هذا السؤال إنما يلزم إذ أضمرنا الظرف وأما إذا لم نضمره لم نحتج إلى كان ويكون وأما قولكم أنه يفضل الشيء على نفسه باعتبار زمانين وإذ وإذا للزمان فجوابه أن في التصريح بالحالين المفضل أحدهما على الآخر غنية عن ذكر الزمان وتقدير إضماره
ألا ترى أنك إذا قلت هذا في حال بسريته أطيب منه في حال رطبيته استقام الكلام ولا إذ هنا ولا إذا لدلالة الحال على مقصود المتكلم من أن التفضيل باعتبار الوقتين وكذلك تقول هذا في حال شبوبيته أعقل منه في حال شيخوخته ونظائر ذلك مما يصح فيه التفضيل باعتبار زمانين من غير ذكر ظرف ولا تقديره فافهمه فصل اتحاد المفضل والمفضل عليه
وأما السؤال العاشر وهو هل يشترط اتحاد المفضل والمفضل عليه بالحقيقة
فجوابها أن وضعها كذلك ولا يجوز أن يقال هذا بسرا أطيب منه عنبا لأن وضع هذا الباب لتفضيل الشيء على نفسه باعتبارين وفي زمانين
قال الأخفش كل ما لا يتحول إلى شيء فهو رفع نحو هذا بسر أطيب منه عنب فأطيب مبتدأ وعنب خبره وفي هذا التركيب إشكال وتوجيهه أن الكلام جملتان
أحدهما قولك هذا بسر والثانية قولك أطيب منه عنب والمعنى العنب أطيب منه فقدرت خبرين أحدهما أنه بسر والثاني أن العنب أطيب منه ولو قلت هذا البسر أطيب منه عنب لاتضحت المسألة وانكشف معناها والله أعلم
فهذا ما في هذه المسألة المشكلة من الأسئلة والمباحث علقتها صيدا لسوانح الخاطر فيها خشية أن لا يعود فليسامح الناظر فيها فإنها علقت على حين بعدى من كتبي وعدم تمكني من مراجعتها وهكذا غالب هذا التعليق إنما هو صيد خاطر والله المستعان

مسألة سلام عليكم ورحمة الله
سلام عليكم ورحمة الله في هذا التسليم ثمانية وعشرون سؤالا
السؤال الأول ما معنى السلام وما حقيقته
السؤال الثاني هل هو مصدر أو اسم
السؤال الثالث هل قول المسلم سلام عليكم خبر أو إنشاء
السؤال الرابع ما معنى السلام المطلوب عند التحية وإذا كان دعاء وطلبا فما الحكمة في طلبه عند التلاقي والمكاتبة دون غيره من المعاني
السؤال الخامس إذا كان من السلامة فمعلوم أن الفعل منها لا يتعدى ب على فلا يقال سلامة عليك وسلمت عليك بكسر اللام وإنما يقال سلام لك كما قال تعالى فسلام لك من أصحاب اليمين الواقعة 91
السؤال السادس ما الحكمة في الإبتداء في السلام مع كون الخبر جارا ومجرورا وقياس العربية تقديم الخبر في ذلك نحو في الدار رجل
السؤال السابع لم اختص المسلم بهذا النظم والراد بتقديم الجار والمجرور على السلام وهلا كان رده بتقديم السلام مطلقا كابتدائه
السؤال الثامن ما الحكمة في كون سلام المبتديء بلفظ النكرة وسلام الراد عليه بلفظ المعرفة وكذلك ما الحكمة في ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة وفي آخرها بالمعرفة فيقال أولا سلام عليكم وفي انتهاء المكاتبة والسلام عليكم وهل هذا التعريف لأجل العهد وتقدم السلام أم لحكمة سوى ذلك
السؤال التاسع ما الفائدة في دخول الواو العاطفة في السلام الآخر فيقول أولا سلام عليكم وفي الإنتهاء والسلام عليكم وعلى أي شيء هذا العطف
السؤال العاشر ما السر في نصب السلام في تسليم الملائكة ورفعه في تسليم إبراهيم وهل هو كما تقول النحاة أن سلام إبراهيم أكمل لتضمنه جملة إسمية دالة على الثبوت وتضمن سلام الملائكة صيغة جملة فعلية دالة على الحدوث أم لسر غير ذلك
السؤال الحادي عشر ما السر في نصب السلام من قوله تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما الفرقان 63 ورفعه من قوله وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم القصص 55 وما الفرق بين الموضعين

السؤال الثاني عشر ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله والسلام إنما هو طلب السلامة للمسلم عليه فكيف يتصور هذا المعنى في حق الله وهذا من أهم الأسئلة وأحسنها
السؤال الثالث عشر إذا ظهرت حكمة سلامه تعالى عليهم فما الحكمة في كونه سلم عليهم بلفظ النكرة وشرع لعباده أن يسلموا على رسوله بلفظ المعرفة فيقولون السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وكذلك سلامهم على أنفسهم وعلى عباد الله الصالحين
السؤال الرابع عشر ما السر في تسليم الله على يحيى بلفظ النكرة في قوله وسلام عليه مريم 15 وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة بقوله والسلام علي مريم 33 وأي السلامين أتم وأعم
السؤال الخامس عشر ما الحكمة في تقييد هذين السلامين بهذه الأيام الثلاثة يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا خاصة مع أن السلام مطلوب في جميع الأوقات فلو أتى به مطلقا أما كان أعم فإن هذا التقييد خص السلام بهذه الأيام خاصة
السؤال السادس عشر ما الحكمة في تسليم النبي على من اتبع الهدى في كتاب هرقل بلفظ النكرة وتسليم موسى على من اتبع الهدى بلفظ المعرفة كما جاء في القرآن وهلا كان سلام النبي بلفظ المعرفة ليطابق القرآن وما الفرق بينهما
السؤال السابع عشر قوله تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى النحل 59 هل هذا سلام من الله فيكون الكلام قد تضمن جملتين طلبية وهي الأمر بقوله قل الحمد لله وخبرية وهي سلامة تعالى على عباده وعلي هذا فيكون من باب عطف الخبر على الطلب أو هو أمر من الله بالسلام عليهم وعلى هذا فيكون قد أمر بشيئين أحدهما قول الحمد لله والثاني قول سلام على عباده الذين اصطفى ويكون كلاهما معمولا لفعل القول وأي المعنيين أليق بالآية
السؤال الثامن عشر روى أبو داود في سننه من حديث أبي جري الهجيمي قال أتيت رسول الله فقلت عليك السلام يا رسول الله فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى // صحيح // قال الترمذي حديث صحيح وقد صح عنه في السلام

على الأموات فعلا وأمرا السلام عليكم دار قوم مؤمنين // رواه مسلم // فما وجه هذا الحديث وكيف الجمع بينه وبين الأحاديث الصحيحة
السؤال التاسع عشر ما وجه دخول الواو في قول النبي إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم // رواه البخاري ومسلم // وقد استشكل كثير من الناس أمر هذه الواو حتى أنكر بعضهم من الحذاق أن تكون ثابتة قال لأن الواو في مثل هذا تقتضي تقرير الأول وتصديقه كما إذا قلت زيد كاتب فقال المخاطب وفقيه فإنه يقتضي إثبات الأول وزيادة وصف فقيه فكيف دخلت في هذا الموضوع وما وجهها
السؤال العشرون ما السر في اقتران الرحمة والبركة بالسلام دون غيرهما من الصفات كالمغفرة والبر والإحسان ونحو هذا
السؤال الحادي والعشرون لم كانت نهاية السلام عند قوله وبركاته ولم تشرع الزيادة عليها
السؤال الثاني والعشرون ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى وتجريد السلام عن هذه الإضافة ولم لا أضيفت كلها أو ردت كلها
السؤال الثالث والعشرون ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة
السؤال الرابع والعشرون ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبي بالمصدر دون الصلاة في قوله تعالى صلوا عليه وسلموا تسليما الأحزاب 156 ولم يقل صلوا صلاة

السؤال الخامس والعشرون ما الحكمة في تقديم السلام عليه في الصلاة على الصلاة عليه وهلا وقعت البداءة بالصلاة عليه أولا ثم اتبعت بالسلام لتصح البداءة بما بدأ الله به من تقديم الصلاة على السلام
السؤال السادس والعشرون ما الحكمة في كون السلام عليه في الصلاة بصيغة خطاب المواجهة وأما الصلاة عليه فجاءت بصيغة الغيبة لذكره باسم العلم
السؤال السابع والعشرون وهو ما جر إليه طرد الكلام ما الحكمة في كون الثناء على الله ورد بصيغة في قولنا التحيات لله مع أنه سبحانه هو المناجي المخاطب الذي يسمع كلامنا ويرى مكاننا وجاء السلام على النبي بصيغة الخطاب مع أن الحال كان يقتضي العكس فما الحكمة في ذلك
السؤال الثامن والعشرون وهو خاتمة الأسئلة ما السر في كون السلام خاتمة الصلاة وهلا كان في ابتدائها وإذا كان كذلك فما السر في مجيئه معرفا وهلا جاء منكرا معنى السلام وحقيقته
وأما السؤال الأول وهو ما حقيقة هذه اللفظة فحقيقتها البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب وعلى هذا المعنى تدور تصاريفها فمن ذلك قولك سلمك الله وسلم فلان من الشر ومنه دعاء المؤمنين على الصراط رب سلم اللهم سلم
ومنه سلم الشيء لفلان أي خلص له وحده فخلص من ضرر الشركة فيه قال تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل الزمر 29 أي خالصا له وحده لا يملكه معه غيره
ومنه السلم ضد الحرب قال تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها الأنفال 61 لأن كلا من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر ولهذا يبنى منه على المفاعلة فيقال المسالمة مثل المشاركة
ومنه القلب السليم وهو النقي من الغل والدغل وحقيقته الذي قد سلم لله تعالى وحده فخلص من دغل الشرك وغله ودغل الذنوب والمخالفات بل هو

المستقيم على صدق حبه وحسن معاملته فهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه والفوز بكرامته ومنه أخذ الإسلام فإنه من هذه المادة لأنه الإستسلام والإنقياد لله تعالى والتخلص من شوائب الشرك فسلم لربه وخلص له كالعبد الذي سلم لمولاه ليس فيه شركاء متشاكسون ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم المخلص الخالص لربه والمشرك به
ومنه السلم للسلف وحقيقته العوض المسلم فيه لأن من هو في ذمته قد ضمن سلامته لربه ثم سمى العقد سلما وحقيقته ما ذكرناه
فإن قيل فهذا ينتقض بقولهم للديغ سليما
قيل ليس هذا بنقض له بل طرد لما قلناه فإنهم سمعوه سليما باعتبار ما يهمه ويطلبه ويرجو أن يئول إليه حاله من السلامة فليس عنده أهم من السلامة ولا هو أشد طلبا منه لغيرها فسمى سليما لذلك وهذا من جنس تسميتهم المهلكة مفازة لأنه لا شيء أهم عند سالكها من فوزه منها أي نجاته فسميت مفازة لأنه يطلب الفوز منها
وهذا أحسن من قولهم إنما سميت مفازة وسميت اللديغ سليما تفاؤلا وإن كان التفاؤل جزء هذا المعنى الذي ذكرناه وداخل فيه فهو أعم وأحسن
فإن قيل فكيف يمكنكم رد السلم إلى هذا الأصل
قيل ذلك ظاهر لأن الصاعد إلى مكان مرتفع لما كان متعرضا للهوي والسقوط طالبا للسلامة راجيا لها سميت الآلة التي يتوصل بها إلى غرضه سلما لتضمنها سلامته إذ لو صعد بتكلف من غير سلم لكان عطبه متوقعا فصح أن السلم من هذا المعنى
ومنه تسمية الجنة بدار السلام وفي إضافتها إلى السلام ثلاثة أقوال أحدها أنها إضافة إلى مالكها السلام سبحانه الثاني أنها إضافة إلى تحية أهلها فإن تحيتهم فيها السلام الثالث أنها إضافة إلى معنى السلام أي دار السلام من كل آفة ونقص وشر والثلاثة متلازمة وإن كان الثالث أظهرها فإنه لو كانت الإضافة إلى مالكها لأضيفت إلى اسم من أسمائه غير السلام وكان يقال دار الرحمن أو دار الله أو دار الملك ونحو ذلك فإذا عهدت إضافتها إليه

ثم جاء دار السلام حملت على المعهود وأيضا فإن المعهود في القرآن إضافتها إلى صفتها أو إلى أهلها
أما الأول فنحو دار القرار دار المجد جنة المأوى جنات النعيم جنات الفردوس وأما الثاني فنحو دار المتقين ولم تعهد إضافتها إلى اسم من أسماء الله تعالى في القرآن فالأولى حمل الإضافة على المعهود في القرآن وكذلك إضافتها إلى التحية ضعيف من وجهين
أحدهما أن التحية بالسلام مشتركة بين دار الدنيا والآخرة وما يضاف إلى الجنة لا يكون إلا مختصا بها كالخلد والقرار والبقاء الثاني أن من أوصافها غير التحية ما هو أكمل منها مثل كونها دائمة وباقية ودار الخلد والتحية فيها عارضة عند التلاقي والتزاور بخلاف السلامة من كل عيب ونقص وشر فإنها من أكمل أوصافها المقصودة على الدوام التي لا يتم النعيم فيها إلا به فإضافتها إليه أولى وهذا ظاهر فصل إطلاق السلام على الله تعالى
وإذا عرفت هذان فإطلاق السلام على الله تعالى اسما من أسمائه هو أولى من هذا كله وأحق بهذا الإسم من كل مسمى به لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجد فهو السلام الحق بكل اعتبار والمخلوق سلام بالإضافة فهو سبحانه سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وهم وسلام في صفاته من كل عيب ونقص وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار
فعلم أن استحقاقه تعالى لهذا الإسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه ونزهه به رسوله
فهو السلام من الصاحبة والولد والسلام من النظير والكفء والسمي والمماثل والسلام من الشريك ولذلك إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاما مما يضاد كمالها فحياته سلام من الموت ومن السنة والنوم وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب وعلمه سلام من عزوب شيء عنه أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر وتفكر وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة

وكلماته سلام من الكذب والظلم بل تمت كلماته صدقا وعدلا وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه ما بل كل ما سواه محتاج إليه وهو غني عن كل ما سواه وملكه سلام من منازع فيه أو مشارك أو معاون مظاهر أو شافع عنده بدون إذنه وإلاهيته سلام من مشارك له فيها بل هو الله الذي لا إله إلا هو وحلمه وعفوه وصفحه ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذلك أو مصانعة كما يكون من غيره بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه
وكذلك عذابه وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظلما أو تشفيا أو غلظة أو قسوة بل هو محض حكمته وعدله ووضعه الأشياء مواضعها وهو مما يستحق عليه الحمد والثناء كما يستحقه علي إحسانه وثوابه ونعمه بل لو وضع الثواب موضع العقوبة لكان مناقضا لحكمته ولعزته فوضعه العقوبة موضعها هو من عدله وحكمته وعزته فهو سلام مما يتوهم أعداؤه والجاهلون به من خلاف حكمته
وقضاؤه وقدره سلام من العبث والجور والظلم ومن توهم وقوعه على خلاف الحكمة البالغة وشرعه ودينه سلام من التناقض والإختلاف والإضطراب وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم وخلاف حكمته بل شرعه كله حكمة ورحمة ومصلحة وعدل
وكذلك عطاؤه سلام من كونه معاوضة أو لحاجة إلى المعطى ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق بل عطاؤه إحسان محض لا لمعاوضة ولا لحاجة ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز
واستواؤه وعلوه على عرشه سلام من أن يكون محتاجا إلى ما يحمله أو يستوي عليه بل العرش محتاج إليه وحملته محتاجون إليه فهو الغنى عن العرش وعن حملته وعن كل ما سواه فهو استواء وعلو لا يشوبه حصر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى بل كان سبحانه ولا عرش ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرض ولا غيره بوجه ما ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا سلام مما يضاد علوه وسلام مما يضاد غناه
وكماله سلام من كل ما يتوهم معطل أو مشبه وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصورا في شيء تعالى الله ربنا عن كل ما يضاد كماله وغناه وسمعه وبصره سلام من كل ما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل

وموالاته لأوليائه سلام من أن تكون عن ذلك كما يوالي المخلوق المخلوق بل هي موالاة رحمة وخير وإحسان وبر كما قال وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل الإسراء 111 فلم ينف أن يكون له ولي مطلقا بل نفي أن يكون له ولي من الذل
وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه أو تملق له أو انتفاع بقربه وسلام مما يتقوله المعطلون فيها وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه فإنه سلام عما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل
فتأمل كيف تضمن اسمه السلام كل ما نزه عنه تبارك وتعالى وكم ممن حفظ هذا الإسم لا يدري ما تضمنه من هذه الأسرار والمعاني والله المستعان المسئول أن يوفق للتعليق على الأسماء الحسنى على هذا النمط إنه قريب مجيب فصل

هل السلام مصدر أو اسم مصدر
وأما السؤال الثاني وهو هل السلام مصدر أو اسم مصدر فالجواب أن السلام الذي هو التحية اسم مصدر من سلم ومصدره الجاري عليه تسليم كعلم تعليما وفهم تفهيما وكلم تكليما والسلام من سلم كالكلام من كلم
فإن قيل وما الفرق بين المصدر والإسم
قلنا بينهما فرقان لفظي ومعنوي أما اللفظي فإن المصدر هو الجاري على فعله الذي هو قياسه كالأفعال من أفعل والتفعيل من فعل والإنفعال من انفعل والتفعلل من تفعلل وبابه
وأما السلام والكلام فليسا بجاريين على فعليهما ولو جريا عليه لقيل تسليم وتكليم
وأما الفرق المعنوي فهو أن المصدر دال على الحدث وفاعله فإذا قلت تكليم وتسليم وتعليم ونحو ذلك دل على الحدث ومن قام به فيدل التسليم على السلام والمسلم وكذلك التكليم والتعليم
وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده فالسلام والكلام لا يدل لفظه على مسلم ولا مكلم بخلاف التكليم والتسليم وسر هذا الفرق أن المصدر في قولك سلم تسليما وكلم تكليما بمنزلة تكرار الفعل فكأنك قلت سلم سلم وتكلم تكلم والفعل لا يخلو عن فاعله أبدا

وأما اسم المصدر فإنهم جردوه لمجرد الدلالة على الحدث وهذه النكتة من أسرار العربية فهذا السلام الذي هو التحية
وأما السلام الذي هو اسم من أسماء الله ففيه قولان
أحدهما أنه كذلك اسم مصدر وإطلاقه عليه كإطلاق العدل عليه والمعنى أنه ذو السلام وذو العدل على حذف المضاف
والثاني أن المصدر بمعنى الفاعل هنا أي السالم كما سميت ليلة القدر سلاما أي سالمة من كل شر بل هي خير لا شر فيها
وأحسن من القولين وأقيس في العربية أن يكون نفس السلام من أسمائه تعالى كالعدل وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبا عليه مكررا منه كقولهم رجل صوم وعدل وزور وبابه
وأما السلام الذي هو بمعنى السلامة فهو مصدر نفسه وهو مثل الجلال والجلالة فإذا حذفت التاء كان المراد نفس المصدر وإذا أتيت بالثاء كان فيه إيذان بالتحديد بالمرة من المصدر كالحب والحبة فالسلام والجمال والجلال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه تاء التحديد والسلامة والجلالة والملاحة والفصاحة كلها تدل على الخصلة الواحدة
ألا ترى أن الملاحة خصلة من خصال الكمال والجلالة من خصال الجلال ولهذا لم يقولوا كمالة كما قالوا ملاحة وفصاحة لأن الكمال اسم جامع لصفات الشرف والفضل فلو قالوا كمالة لنقضوا الغرض المقصود من اسم الكمال فتأمله
وعلى هذا جاءت الحلاوة والأصالة والرزانة والرجاحة لأنها خصلة من مطلق الكمال والجمال محدودة فجاءوا فيها بالتاء الدالة على التحديد وعكسه الحماقة والرقاعة والنذالة والسفاهة فإنها خصال محدودة من مطلق العيب والنقص فجاءوا في الجنس الذي يشمل الأنواع بغير تاء فجاءوا في أنواعه وأفراده بالتاء وقد تقدم تقرير هذا المعنى وأيضا فلا حاجة إلى إعادته
فتأمل الآن كيف جاء السلام مجردا عن التاء إيذانا بحصول المسمى التام إذ لا يحصل المقصود إلا به فإنه لو سلم من آفة ووقع في آفة لم يكن قد حصل له السلام فوضح أن السلام لم يخرج عن المصدرية في جميع وجوهه
فإن قيل فما الحكمة في مجيئه اسم مصدر ولم يجيء على أصل المصدر قيل هذا السر بديع وهو أن المقصود حصول مسمى السلامة للمسلم عليه على الإطلاق من

غير تقييد بفاعل فلما كان المراد مطلق السلامة من غير تعرض لفاعل أتوا باسم المصدر الدال على مجرد الفعل ولم يأتوا بالمصدر الدال على الفعل والفاعل معا فتأمله فصل

هل السلام عليكم إنشاء أم خبر
وأما السؤال الثالث وهو أن قول المسلم سلام عليكم هل هو إنشاء أم خبر فجوابه أن هذا ونحوه من ألفاظ الدعاء متضمن للإنشاء والإخبار فجهة الخبرية فيه لا تناقض جهة الإنشائية وهذا موضع بديع يحتاج إلى كشف وإيضاح فنقول
الكلام له نسبتان نسبة إلى المتكلم به نفسه ونسبة إلى المتكلم فيه إما طلبا وإما خبرا وله نسبة ثالثة إلى المخاطب لا يتعلق بها هذا الغرض وإنما يتعلق تحقيقه بالنسبتين الأوليين
فباعتبار تينك النسبتين نشأ التقسيم إلى الخبر والإنشاء ويعلم أين يجتمعان وأين يفترقان فله بنسبته إلى قصد المتكلم وإرادته لثبوت مضمونه وصف الإنشاء وله بنسبته إلى المتكلم فيه والإعلام بتحققه في الخارج وصف الإخبار ثم تجتمع النسبتان في موضع وتفترقان في موضع فكل موضع كان المعنى فيه حاصلا بقصد المتكلم وإرادته فقط فإنه لا يجامع فيه الخبر الإنشاء نحو قوله بعتك كذا ووهبتكه وأعتقت وطلقت فإن هذه المعاني لم يثبت لها وجود خارجي إلا بإرادة المتكلم وقصده فهي إنشاءات وخبريتها من جهة أخرى وهي تضمنها إخبار المتكلم عن ثبوت هذه النسبة في ذهنه لكن ليست هذه هي الخبرية التي وضع لها لفظ الخبر
وكل موضع كان المعنى حاصلا فيه من غير جهة المتكلم وليس للمتكلم إلا دعاؤه بحصوله ومحبته فالخبر فيه لا يناقض الإنشاء وهذا نحو سلام عليكم فإن السلامة المطلوبة لم تحصل بفعل المسلم وليس للمسلم إلا الدعاء بها ومحبتها فإذا قال سلام عليكم تضمن الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنيها
وكذلك ويل له قال سيبويه هو دعاء وخبر ولم يفهم كثير من الناس قول سيبويه على وجهه بل حرفوه عما أراده به وإنما أراد سيبويه هذا المعنى أنها تتضمن الإخبار بحصول الويل له مع الدعاء به فتدبر هذه النكتة التي لا تجدها محررة في غير هذا الموضع هكذا بل تجدهم يطلقون تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء من غير تحرير وبيان لمواضع اجتماعهما وافتراقهما

وقد عرفت بهذا أن قولهم سلام عليكم وويل له وما أشبه هذا أبلغ من إخراج الكلام في صورة الطلب المجرد نحو اللهم سلمه فصل معنى السلام المطلوب عند التحية
وأما السؤال الرابع وهو ما معنى السلام المطلوب عند التحية ففيه قولان مشهوران أحدهما أن المعنى اسم السلام عليكم والسلام هنا هو الله عز و جل ومعنى الكلام نزلت بركة اسمه عليكم وحلت عليكم ونحو هذا واختير في هذا المعنى من أسمائه عز و جل اسم السلامة دون غيره من الأسماء لما يأتي في جواب السؤال الذي بعده
واحتج أصحاب هذا القول بحجج منها ما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يقولون في الصلاة السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على فلان فقال النبي لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن قولوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين // صحيح //
فنهاهم النبي أن يقولوا السلام على الله لأن السلام هو المسلم عليه دعاء له وطلب أن يسلم والله تعالى هو المطلوب منه لا المطلوب له وهو المدعو لا المدعو له فيستحيل أن يسلم عليه بل هو المسلم على عباده كما سلم عليهم في كتابه حيث يقول سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين الصافات 180 181 وقوله سلام على إبراهيم الصافات 109 سلام على نوح الصافات 179 سلام على آل ياسين الصافات 130 وقال في يحيى وسلام عليه مريم 15 وقال لنوح اهبط بسلام منا وبركات عليك هود 48 ويسلم يوم القيامة على أهل الجنة كما قال تعالى لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم يس 58 فقولا منصوب على المصدر وفعله ما تضمنه سلام من القول لأن السلام قول
ومسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة من حديث محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوقهم فرفعوا

رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ قوله سلام قولا من رب رحيم ثم يتوارى عنهم فتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم // ضعيف //
وفي سنن ابن ماجة مرفوعا أول من يسلم عليه الحق يوم القيامة عمر // ضعيف جدا وفيه نكارة // وقال تعالى تحيتهم يوم يلقونه سلام الأحزاب 44 فهذا تحيتهم يوم يلقونه تبارك وتعالى ومحال أن تكون هذه تحية منهم له فإنهم أعرف به من أن يسلموا عليه وقد نهوا عن ذلك في الدنيا وإنما هذا تحية منه لهم والتحية هنا مضافة إلى المفعول فهي التحية التي يحيون بها لا التحية التي يحيونه هم بها ولولا قوله تعالى في سورة يس سلام قولا من رب رحيم يس 58 لاحتمل أن تكون التحية لهم من الملائكة كما قال الله والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم الرعد 23 ولكن هذا سلام الملائكة إذا دخلوا عليهم وهم في منازلهم من الجنة يدخلون مسلمين عليهم

وأما التحية المذكورة في قوله تحيتهم يوم يلقونه سلام فتلك تحية لهم وقت اللقاء كما يحيى الحبيب حبيبه إذا لقيه فماذا حرم المحجوبون عن ربهم يومئذ
يكفي الذي غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه
والمقصود أن الله تعالى يطلب منه السلام فلا يمتنع في حقه أن يسلم على عباده ولا يطلب له فلذلك لا يسلم عليه
وقوله إن الله هو السلام صريح في كون السلام اسما من أسمائه قالوا فإذا قال المسلم سلام عليكم كان معناه اسم السلام عليكم
ومن حججهم ما رواه أبو داود من حديث ابن عمر أن رجلا سلم على النبي فلم يرد عليه حتى استقبل الجدار ثم تيمم ورد عليه وقال إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر // صحيح // قالوا ففي هذا الحديث بيان أن السلام ذكر الله وإنما يكون ذكرا إذا تضمن اسما من أسمائه

ومن حججهم أيضا أن الكفار من أهل الكتاب لا يبدؤون بالسلام فلا يقال لهم سلام عليكم ومعلوم أنه لا يكره أن يقال لأحدهم سلمك الله وما ذاك إلا أن السلام اسم من أسماء الله فلا يسوغ أن يطلب للكافر حصول بركة ذلك الإسم عليه فهذه حجج كما ترى قوية ظاهرة
القول الثاني أن السلام مصدر بمعنى السلامة وهم المطلوب المدعو به عند التحية
ومن حجة أصحاب هذا القول أنه يذكر بلا ألف ولام بل يقول المسلم سلام عليكم ولو كان اسما من أسماء الله لم يستعمل كذلك بل كان يطلق عليه معرفة كما يطلق عليه سائر أسمائه الحسنى فيقال السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الحشر 23 فإن التنكير لا يصرف اللفظ إلى معين فضلا عن أن يصرفه إلى الله وحده بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى
ومن حججهم أيضا إن عطف الرحمة والبركة عليه في قوله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته يدل على أن المراد به المصدر ولهذا عطف عليه مصدرين مثله
ومن حججهم أيضا أنه لو كان السلام هنا اسما من أسماء الله لم يستقم الكلام إلا بإضمار وتقدير يكون به مقيدا ويكون المعنى بركة اسم السلام عليكم فإن الإسم نفسه ليس عليهم ولو قلت اسم الله عليك كان معناه بركة هذا الإسم ونحو ذلك من التقدير ومعلوم أن هذا التقدير خلاف الأصل ولا دليل عليه
ومن حججهم أيضا أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرا ودعاء كما يأتي في جواب السؤال الذي بعد هذا ولهذا كان السلام أمانا لتضمنه معنى السلامة وأمن كل واحد من المسلم والراد عليه من صاحبه قالوا فهذا كله يدل على أن السلام مصدر بمعنى السلامة وحذفت تاؤه لأن المطلوب هذا الجنس لا المرة الواحدة منه والتاء تفيد التحديد كما تقدم

وفصل الخطاب في هذه المسألة أن يقال الحق في مجموع القولين فلكل منهما بعض الحق والصواب في مجموعهما وإنما نبين ذلك بقاعدة قد أشرنا إليها مرارا وهي أن من دعا الله تعالى بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالإسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله حتى كأن الداعي مستشفع إليه متوسل إليه به فإذا قال رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور فقد سأله أمرين وتوسل إليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه
وكذلك قول النبي لعائشة وقد سألته ما تدعو به إن وافقت ليلة القدر قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني // صحيح //
وكذلك قوله للصديق وقد سأله أن يعلمه دعاء يدعو به اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم // رواه البخاري ومسلم // وهذا كثير جدا فلا نطول بإيراد شواهده
وإذا ثبت هذا فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل أتى في لفظها بصيغة اسم من أسماء الله وهو السلام الذي يطلب منه السلامة فتضمن لفظ السلام معنيين أحدهما ذكر الله كما في حديث ابن عمر والثاني طلب السلامة وهو مقصود المسلم فقد تضمن سلام عليكم اسما من أسماء الله وطلب السلامة منه فتأمل هذه الفائدة
وقريب من هذا ما روي عن بعض السلف أنه قال في آمين أنه اسم من أسماء الله تعالى وأنكر كثير من الناس هذا القول وقالوا ليس في أسمائه آمين ولم يفهموا معنى كلامه فإنما أراد أن هذه الكلمة تتضمن اسمه تبارك وتعالى فإن معناها استجب وأعط ما سألناك فهي متضمنة لاسمه مع دلالتها على الطلب وهذا التضمن في سلام عليكم أظهر لأن السلام من أسمائه تعالى فهذا كشف سر المسألة فصل الحكمة في السلام عند اللقاء
إذا عرف هذا فالحكم في طلبه عند اللقاء دون غير من الدعاء أن عادة الناس الجارية

بينهم أن يحيي بعضهم بعضا عند لقائه وكل طائفة لهم في تحيتهم ألفاظ وأمور اصطلحوا عليها
وكانت العرب تقول في تحيتهم بينهم في الجاهلية أنعم صباحا وأنعموا صباحا فيأتون بلفظة أنعموا من النعمة بفتح النون وهي طيب العيش والحياة ويصلونها بقولهم صباحا لأن الصباح في أول النهار فإذا حصلت فيه النعمة استصحب حكمها واستمرت اليوم كله فخصوها بأوله إيذانا بتعجيلها وعدم تأخرها إلى أن يتعالى النهار
وكذلك يقولون أنعموا مساء فإن الزمان هو صباح ومساء فالصباح في أول النهار إلى بعض انتصافه والمساء من بعد انتصافه إلى الليل ولهذا يقول الناس صبحك الله بخير ومساك الله بخير فهذا معنى أنعم صباحا ومساء إلا أن فيه ذكر الله
وكانت الفرس يقولون في تحيتهم هزا رساله ميمايي أي تعيش ألف سنة وكل أمة لهم تحية من هذا الجنس أو ما أشبهه ولهم تحية يخصون بها ملوكهم من هيئات خاصة عند دخولهم عليهم كالسجود ونحوه وألفاظ خاصة تتميز بها تحية الملك من تحية السوقة وكل ذلك مقصودهم به الحياة ونعيمها ودوامها ولهذا سميت تحية وهي تفعلة من الحياة كتكرمة من الكرامة لكن أدغم المثلان فصار تحية فشرع الملك القدوس السلام تبارك وتعالى لأهل الإسلام تحية بينهم سلام عليكم وكانت أولى من جميع تحيات الأمم التي منها ما هو محال وكذب نحو قولهم تعيش ألف سنة وما هو قاصر المعنى مثل أنعم صباحا ومنها ما لا ينبغي إلا لله مثل السجود فكانت التحية بالسلام أولى من ذلك كله لتضمنها السلامة التي لا حياة ولا فلاح إلا بها فهي الأصل المقدم على كل شيء ومقصود العبد من الحياة إنما يحصل بشيئين بسلامته من الشر وحصول الخير كله والسلامة من الشر مقدمة على حصول الخير وهي الأصل ولهذا إنما يهتم الإنسان بل كل حيوان بسلامته أولا ثم غنيمته ثانيا على أن السلامة المطلقة تتضمن حصول الخير فإنه لو فاته حصل له الهلاك والعطب أو النقص والضعف
ففوات الخير يمنع حصول السلامة المطلقة فتضمنت السلامة نجاته من كل شر وفوزه بالخير فانتظمت الأصلين الذين لا تتم الحياة إلا بهما مع كونها مشتقة من اسمه السلام ومتضمنة له وحذفت التاء منها لما ذكرنا من إرادة الجنس لا السلامة الواحدة
ولما كانت الجنة دار السلامة من كل عيب وشر وآفة بل قد سلمت من كل ما ينغص

العيش والحياة كانت تحية أهلها فيها سلام والرب يحييهم فيها بالسلام والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار الرعد 24 فهذا سر التحية بالسلام عند اللقاء
وأما عند المكاتبة فلما كان المراسلان كل منهما غائب عن الآخر ورسوله إليه كتابه يقوم مقام خطابه له استعمل في مكاتبه له من السلام ما يستعمله معه لو خاطبه لقيام الكتاب مقام الخطاب فصل تعدية السلام ب على
وأما السؤال الخامس وهو تعدية هذا المعنى ب على فجوابه بذكر مقدمة وهي ما معنى قوله سلمت فإذا عرف معناها عرف أن حرف على أليق به فاعلم أن لفظ سلمت عليه وصليت عليه ولعنت فلانا موضوعها ألفاظ هي جمل طلبية وليس موضوعها معاني مفردة فقولك سلمت موضوعه قلت السلام عليك وموضوع صليت عليه قلت اللهم صل عليه أو دعوت له وموضوع لعنته قلت اللهم العنه
ونظير هذا سبحت الله قلت سبحان الله ونظيره وإن كان مشتقا من لفظ الجملة هلل إذا قال لا إله إلا الله وحمدل إذا قال الحمد لله وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله وحيعل إذا قال حي على الصلاة وبسمل إذا قال بسم الله قال
وقد بسملت ليلى غداة لقيتها ... ألا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
وإذا ثبت هذا فقولك سلمت عليه أي ألقيت عليه هذا اللفظ وأوضعته عليه إيذانا باشتمال معناه عليه كاشتمال لباسه عليه وكان حرف على أليق الحروف به فتأمله
وأما قوله تعالى وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين الواقعة 91 فليس هذا سلام تحية ولو كان تحية لقال فسلام عليه كما قال سلام على إبراهيم الصافات 109 سلام على نوح الصافات 79 ولكن الآية تضمنت ذكر مراتب الناس وأقسامهم عند القيامة

الصغرى حال القدوم على الله فذكر أنهم ثلاثة أقسام مقرب له الروح والريحان وجنة النعيم ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة فوعده بالسلامة ووعد المقرب بالغنيمة والفوز وإن كان كل منهما سالما غانما وظالم بتكذيبه وضلاله فأوعده بنزل من حميم وتصلية جحيم فلما لم يكن المقام مقام تحية وإنما هو مقام إخبار عن حاله ذكر ما يحصل له من السلامة
فإن قيل فهذا فرق صحيح لكن ما معنى اللام في قوله لك ومن هو المخاطب بهذا الخطاب وما معنى حرف من في قوله من أصحاب اليمين فهذه ثلاثة أسئلة في الآية
قيل قد وفينا بحمد الله تعالى بذكر الفرق بين هذا السلام في الآية وبين سلام التحية وهو الذي كان المقصود وهذه الأسئلة وإن كانت متعلقة بالآية فهي خارجة عن مقصودنا ولكن نجيب عنها إكمالا للفائدة بحول الله وقوته وإن كنا لم نر أحدا من المفسرين شفى في هذا الموضع الغليل ولا كشف حقيقة المعنى واللفظ بل منهم من يقول المعنى فمسلم لك إنك من أصحاب اليمين ومنهم من يقول غير ذلك مما هو حوم على معناها من غير ورود فأعلم أن المدعو به من الخير والشر مضاف إلى صاحبه بلام الإضافة الدالة على حصوله له
ومن ذلك قوله تعالى أولئك لهم اللعنة الرعد 25 ولم يقل عليهم اللعنة إيذانا بحصول معناها وثبوته لهم وكذلك قوله ولكم الويل مما تصفون ويقول في ضد هذا لك الرحمة ولك التحية ولك السلام ومنه هذه الآية فسلام لك أي ثبت لك السلام وحصل لك
وعلى هذا فالخطاب لكل من هو من هذا الضرب فهو خطاب للجنس أي فسلام لك يا من هو من أصحاب اليمين كما تقول هنيئا لك يا من هو منهم ولهذا والله أعلم أتى بحرف من في قوله من أصحاب اليمين والجار والمجرور في موضع حال أي سلام لك كائنا من أصحاب اليمين كما تقول هنيئا لك من اتباع رسول الله وحزبه أي كائنا منهم والجار والمجرور بعد المعرفة ينتصب على الحال كما تقول أحببتك من أهل الدين والعلم أي كائنا منهم فهذا معنى هذه الآية وهو وإن خلت عنه كتب أهل التفسير فقد حام عليه منهم من حام وما ورد ولا كشف المعنى ولا أوضحه فراجع ما قالوه والله تعالى الموفق المان بفضله

فصل الإبتداء بالنكرة في السلام
وأما السؤال السادس وهو ما الحكمة في الإبتداء بالنكرة هاهنا مع أن الأصل تقديم الخبر عليها فهذا سؤال قد تضمن سؤالين
أحدهما حكمة الإبتداء بالنكرة في هذا الموضع الثاني أنه إذ قد ابتديء بها فهلا قدم الخبر على المبتدأ لأنه قياس الباب نحو في الدار رجل
والجواب عن السؤال الأول أن يقال إن النحاة قالوا إذا كان في النكرة معنى الدعاء مثل سلام لك وويل له جاز الإبتداء بها لأن الدعاء معنى من معاني الكلام فقد تخصصت النكرة بنوع من التخصيص فجاز الإبتداء بها وهذا كلام لا حقيقة تحته فإن الخبر أيضا نوع من أنواع الكلام ومع هذا فلا تكون جهة الخبر مسوغة للإبتداء بالنكرة فكيف تكون جهة الدعاء مسوغة للإبتداء بها
وأما الفرق بين كون الدعاء نوعا والخبر نوعا والطلب نوعا وهلا يفيد ذلك تعيين مسمى النكرة حتى يصلح الإخبار عنها فإن المانع من الإخبار عنها ما فيها من الشياع والإبهام الذي يمنع من تحصيلها عند المخاطب في ذهنه حتى يستفيد نسبة الإسناد الخبري إليها ولا فرق في ذلك بين كون الكلام دعاء أو خبرا
وقول من قال إن الإبتداء بالنكرة إنما امتنع حيث لا يفيد نحو رجل في الدنيا ورجل مات ونحو ذلك فإذا أفادت جاز الإبتداء بها من غير تقييد بضابط ولا حصر بعد وأحسن من تقييد ذلك بكون الكلام دعاء أو في قوة الكلام آخر وغير ذلك من الضوابط المذكورة وهذه طريقة إمام النحو سيبويه فإنه في كتابه لم يجعل للإبتداء بها ضابطا ولا حصره بعدد بل جعل مناط الصحة الفائدة وهذا هو الحق الذي لا يثبت عند النظر سواه وكل من تكلف ضابطا فإنه ترد عليه ألفاظ خارجة عنه فإما أن يتمحل لردها إلى ذلك الضابط وإما أن يفردها بضوابط أخرى حتى آل الأمر ببعض النحاة إلى أن جعل في الباب ثلاثين ضابطا وربما زاد غيره عليها وكل هذا تكلف لا حاجة إليه واسترحت من شر أهر ذا ناب وبابه

قاعدة جامعة في الإبتداء
فإن قلت فما عندك من الضابط إذا سلكت طريقتهم في ذلك
قلت اسمع الآن قاعدة جامعة في هذا الباب لا يكاد يشذ عنها شيء منه

أصل المبتدأ أن يكون معرفة أو مخصوصا بضرب من ضروب التخصيص بوجه تحصل الفائدة من الإخبار عنه فإن انتفت عنه وجوه التخصيص بأجمعها فلا يخبر عنه إلا أن يكون الخبر مجرورا مفيدا معرفة مقدما عليه بهذه الشروط الأربعة لأنه إذا تقدم وكان معرفة صار كأن الحديث عنه وكأن المبتدأ المؤخر خبر عنه
ومثال ذلك إذا قلت على زيد دين فإنك تجد هذا الكلام في قوة قولك زيد مديان أو مدين فمحط الفائدة هو الدين وهو المستفاد من الإخبار فلا تنحس في قيود الأوضاع وتقول على زيد جار ومجرور فكيف يكون مبتدأ فأنت تراه هو المخبر عنه في الحقيقة وليس المقصود الإخبار عن الدين بل عن زيد بأنه مديان وإن كثف ذهنك عن هذا فراجع شروط المبتدأ وشروط الخبر وإن لم يكن الخبر مفيدا لم تفد المسألة شيئا وكان لا فرق بين تقديم الخبر وتأخيره كما إذا قلت في الدنيا رجل كان في عدم الفائدة بمنزلة قولك رجل في الدنيا فهنا لم تمتنع الفائدة بتقديم ولا تأخير وإنما امتنعت من كون الخبر غير مفيد
ومثل هذا قولك في الدار امرأة فإنه كلام مفيد لأنه بمنزلة قولك الدار فيها امرأة فأخبرت عن الدار بحصول المرأة فيها في اللفظ والمعنى فإنك لم ترد الإخبار عن المرأة بأنها في الدار ولو أردت ذلك لحصلت حقيقة المخبر عنه أولا ثم أسندت إليه الخبر وإنما مقصودك الإخبار عن الدار بأنها مشغولة بامرأة وأنها اشتملت على امرأة فهذا القدر هي الذي حسن الإخبار عن النكرة هاهنا فإنها ليست خبرا في الحقيقة وإنما هي في الحقيقة خبر عن المعرفة المتقدمة فهذا حقيقة الكلام وأما تقديره الإعرابي النحوي فهو أن المجرور خبر مقدم والنكرة مرفوعة بالإبتداء يشترط للإبتداء بالنكرة أن تكون موصوفة
فإن قلت فمن أين امتنع تقديم هذا المبتدأ في اللفظ فلا تقول امرأة في الدار ودين على زيد
قلت لأن النكرة تطلب الوصف طلبا حثيثا فيسبق الوهم إلى أن الجار والمجرور وصف لها لا خبر عنها إذ ليس من عادتها الإخبار عنها إلا بعد الوصف لها فيبقى الذهن متطلعا إلى ورود الخبر عليه وقد سبق إلى سمعه ولكن لم يتيقن أنه الخبر بل يجوز أن يكون وصفا فلا تحصل به الفائدة بل يبقى في ألم الإنتظار للخبر والترقب له فإذا قدمت الجار والمجرور عليها استحال أن يكون وصفا لها لأنه لا يتقدم موصوفه فذهب وهمه إلى أن الإسم المجرور المقدم هو الخبر والحديث عن النكرة وهو محط الفائدة

إذا عرفت هذا فمن التخصصات المسوغة للإبتداء بها أن تكون موصوفة نحو ولعبد مؤمن خير من مشرك البقرة 221 أو عامة نحو ما أحد خير من رسول الله وهل أحد عندك
ومن ذلك أن تقع في سياق التفضيل نحو قول عمر تمرة خير من جرادة فإن التفضيل نوع من التخصيص بالعموم إذ ليس المراد واحدة غير معينة من هذا الجنس بل المراد أن هذا الجنس خير من هذا الجنس وأتى بالتاء الدالة على الوحدة إيذانا بأن هذا التفضيل ثابت لكل فرد من أفراد الجنس
ومنه تأويل سيبويه في قوله تعالى طاعة وقول معروف محمد 21 فإنه قدره طاعة أمثل وقول معروف أشبه وأجدر بكم وهذا أحسن من قول بعضهم أن المسوغ للإبتداء بها هاهنا العطف عليها لأن المعطوف عليها موصوف فيصح الإبتداء به
وإنما كان قول سيبويه أحسن لأن تقييد المعطوف بالصفة لا يقتضي تقييد المعطوف عليه بها ولو قلت طاعة أمثل لساغ ذلك وإن لم يعطف عليها
ومنه وقوع النكرة في سياق تفصيل بعد إجمال كما إذا قلت اقسم هذه الثياب بين هؤلاء فثوب لزيد وثوب لعمرو وثوب لبكر فإن النكرة هاهنا تخصصت وتعينت وزال إبهامها وشياعها في جنس الثياب بل تخصصت بتلك الثياب المعينة فكأنك قلت ثوب منها لزيد وثوب منها لعمرو وهذا تقييد وتخصيص
ومنه الإبتداء بالنكرة إذا لم يكن الكلام خبرا محضا بل فيه معنى التزكية والمدح فمن ذلك قولهم أمت في الحجر لا فيك لأنهم لم يقولوا أمت في الحجر وسكتوا حتى قرنوه بقولهم لا فيك فصار معنى الكلام نسبة الأمت إلى الحجر أقرب من نسبته إليك والأمت بالحجر أليق به منك لأنهم أرادوا تزكية المخاطب ونفي العيب عنه ولم يريدوا الإخبار عن أمت بأنه في الحجر بل هو في حكم النفي عن الحجر وعن المخاطب معا إلا أن نفيه عن المخاطب أوكد وإذا دخل الحديث معنى النفي فلا غرو أن يبتدأ بالنكرة لما فيه من العموم والفائدة قولهم شر أهر ذا ناب
ومن هذا قولهم شر أهر ذا ناب وفيه تقديران
أحدهما أنه على الوصف أي شر عظيم أو شر مخوف أهره

والثاني أنه في معنى كلام آخر وهو ما أهر ذا ناب إلا شر أو إنما أهره شر ولا ريب في في صحة المسألة على وجه الفاعلية فهكذا إذا كانت على وجه المبتدأ والخبر الذي في معناه ومنه قولهم شر ما جاء به لأن معنى الكلام ما جاء به إلا شر فأدت ما الزائدة هنا معنى شيئين النفي والإيجاب كما أدته في قولك إنما جاء به شر وفي قوله تعالى فقليلا ما يؤمنون البقرة 88 أي ما يؤمنون إلا قليلا وقليلا ما يذكرون وقوله فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم المائدة 13 أي ما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم ونحو فبما رحمة من الله لنت لهم آل عمران 159 أي ما لنت لهم إلا برحمة من الله ولا تسمع قول من يقول من النحاة أن ما زائدة في هذه المواضع فإنه صادر عن عدم تأمل
فإن قيل فمن أين لكم أفادت ما هذه المعنيين المذكورين من النفي والإيجاب وهي لو كانت على حقيقتها من النفي الصريح لم تفد إلا معنى واحد وهو النفي فإذا لم يكن النفي صريحا فيها كيف تفيد معنيين
قيل نحن لم ندع أنها أفادت النفي والإيجاب بمجردها ولكن حصل ذلك منها ومن القرائن المحتفة بها في الكلام أما قولهم شر ما جاء بها فلما انتظمت مع الإسم النكرة والنكرة لا يبتدأ بها فلما قصد إلى تقديمها علم أن فائدة الخبر مخصوصة بها وأكد ذلك التخصيص ب ما فانتفى الأمر عن غير هذا الإسم المبتدأ ولم يكن إلا له حتى صار المخاطب يفهم من هذا ما يفهم من قوله ما جاء به إلا شر واستغنوا هنا ب ما هذه عن ما النافية وبالإبتداء بالنكرة عن إلا
وأما قولك إنما زيد قائم فقد انتظمت ب أن وامتزجت معها وصارتا كلمة واحدة وأن تعطى الإيجاب الذي تعطيه إلا وما تعطي النفي ولذلك جاز إنما يقوم أنا ولا تكون أنا فاعله إلا إذا فصلت من الفعل ب إلا تقول ما يقوم إلا أنا ولا تقول يقوم أنا فإذا قلت إنما قام أنا صرت كأنك لفظت ما مع إلا قال
أدافع عن أعراض قومي وإنما ... يدافع عن أعراضهم أنا أو مثلي
فإذا عرفت أن زيادتها مع أن واتصالها بها اقتضى هذا النفي والإيجاب فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجر من قوله فبما رحمة من الله و فبما نقضهم ميثاقهم وتأمل كيف تجد الفرق بين هذا التركيب وبين أن يقال فبرحمة من الله وفبنقضهم ميثاقهم وإنك تفهم من تركيب الآية ما لنت لهم إلا برحمة من الله وما

لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم وكذلك قوله فقليلا ما يؤمنون دلت على النفي بلفظها وعلى الإيجاب بتقديم ما حقه التأخير من المعمول وارتباط ما به مع تقديم كما قرر في قولهم شر ما جاء به
وقد بسطنا هذا في كتاب الفتح المكي وبينا هناك أنه ليس في القرآن حرف زائد وتكلمنا على كل ما ذكر في ذلك وبينا أن كل لفظة لها فائدة متجددة زائدة على أصل التركيب ولا ينكر جريان القلم إلى هذه الغاية وإن لم يكن من غرضنا فإنها أهم من بعض ما نحن فيه وبصدده فلنرجع إلى المقصود فنقول الذي صحح الإبتداء بالنكرة في سلام عليكم إن المسلم لما كان داعيا وكان الإسم المبتدأ النكرة هو المطلوب بالدعاء صار هو المقصود المهتم به وينزل منزلة قولك اسأل الله سلاما عليكم واطلب من الله سلاما عليك فالسلام نفس مطلوبك ومقصودك ألا ترى أنك لو قلت اسأل الله عليك سلاما لم يجز وهذا في قوته ومعناه فتأمله فإنه بديع جدا
فإن قلت فإذا كان في قوته فهلا كان منصوبا مثل سقيا ورعيا لأنه في معنى سقاك الله سقيا ورعاك رعيا
قلت سيأتي جواب هذا في جواب السؤال العاشر في الفرق بين سلام إبراهيم وسلام ضيفه إن شاء الله
وأيضا فالذي حسن الإبتداء بالنكرة هاهنا أنها في حكم الموصوفة لأن المسلم إذا قال سلام عليكم فإنما مراده سلام مني عليك كما قال تعالى اهبط بسلام منا
ألا ترى أن مقصود المسلم إعلام من سلم عليه بأن التحية والسلام منه نفسه لما في ذلك من حصول مقصود السلام من التحيات والتواد والتعاطف فقد عرفت جواب السؤالين لم ابتديء بالنكرة ولم قدمت على الخبر بخلاف الباب في مثل ذلك والله أعلم فصل تقديم السلام في جانب المسلم
وأما السؤال السابع وهو أنه لم كان في جانب المسلم تقديم السلام وفي جانب الراد تقديم المسلم عليه

فالجواب عنه أن في ذلك فوائد عديدة
أحدها الفرق بين الرد والإبتداء فإنه لو وقال له في الرد السلام عليكم أو سلام عليكم لم يعرف أهذا رد لسلامه عليه أم ابتداء تحية منه فإذا قال عليك السلام عرف أنه قد رد عليه تحيته ومطلوب المسلم من المسلم عليه أن يرد عليه سلامه ليس مقصوده أن يبدأه بسلام كما ابتدأه به ولهذا السر والله أعلم نهى النبي المسلم عليه بقوله عليك السلام عن ذلك فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى // صحيح // وسيأتي الكلام على هذا الحديث ومعناه في موضعه
أفلا ترى كيف نهاه النبي عن ابتداء السلام بصيغة الرد التي لا تكون إلا بعد تقديم سلام وليس في قوله فإنها تحية الموتى ما يدل على أن المشروع في تحيات الموتى كذلك كما سنذكره وإذا كانوا قد اعتمدوا الفرق بين سلام المبتديء وسلام الراد خصوا المبتديء بتقديم السلام لأنه هو المقصود وخصوا الراد بتقديم الجار والمجرور
الفائدة الثانية وهي أن سلام الراد يجري مجرى الجواب ولهذا يكتفي فيه بالكلمة المفردة الدالة على أختها فلو قال وعليك لكان متضمنا للرد كما هو المشروع في الرد على أهل الكتاب مع أنا مأمورون أن نرد على من حيانا بتحية مثل تحيته وهذا من باب العدل الواجب لكل أحد فدل على أن قول الراد وعليك مماثل لقول المسلم سلام عليك لكن اعتمد في حق المسلم إعادة اللفظ الأول بعينه تحقيقا للمماثلة ودفعا لتوهم المسلم عدم رده عليه لاحتمال أن يريد عليك شيئا آخر
وأما أهل الكتاب فلما كانوا يحرفوا السلام ولا يعدلون فيه وربما سلموا سلاما صحيحا غير محرف ويشتبه الأمر في ذلك على الراد ندب إلى اللفظ المفرد المتضمن لرده عليهم نظير ما قالوه ولم تشرع له الجملة التامة لأنها إما أن تتضمن من التحريف مثل ما قالوا ولا يليق بالمسلم تحريف السلام الذي هو تحية أهل السلام ولا سيما وهو ذكر الله كما تقدم لأجل تحريف الكافر له وإما أن يرد سلاما صحيحا غير محرف مع كون المسلم محرفا للسلام فلا يستحق الرد الصحيح فكان العدول إلى المفرد وهو عليك هو مقتضى العدل والحكمة مع سلامته من تحريف ذكر الله
فتأمل هذه الفائدة البديعة والمقصود أن الجواب يكفي فيه قولك وعليك وإنما كمل تكميلا للعدل وقطعا للتوهم

الفائدة الثالثة وهي أقوى مما تقدم أن المسلم لما تضمن سلامة الدعاء للمسلم عليه بوقوع السلامة عليه وحلولها عليه وكان الرد متضمنا لطلب أن يحل عليه من ذلك مثل ما دعا به فإنه إذا قال وعليك السلام كان معناه وعليك من ذلك مثل ما طلبت لي
كما إذا قال غفر الله تعالى لك فإنك تقول له ولك يغفر ويكون هذا أحسن من قولك وغفر لك وكذا إذا قال رحمة الله عليك تقول وعليك وإذا قال عفا الله عنك تقول وعنك وكذلك نظائره لأن تجريد القصد إلى مشاركة المدعو له للداعي في ذلك الدعاء لا إلى إنشاء دعاء مثل ما دعا به فكأنه قال ولك أيضا وعنك أيضا أي وأنت مشارك لي في ذلك مماثل لي فيه لا أنفرد به عنك ولا أختص به دونك ولا ريب أن هذا المعنى يستدعي تقديم المشارك المساوي فتأمله فصل ابتداء السلام بالنكرة والجواب بالمعرفة
وأما السؤال الثامن وهو ما الحكمة في ابتداء السلام بلفظ النكرة وجوابه بلفظ المعرفة
فتقول سلام عليكم فيقول الراد وعليك السلام فهذا سؤال يتضمن لمسألتين إحداهما هذه والثانية اختصاص النكرة بابتداء المكاتبة والمعرفة بآخرها والجواب عنها بذكر أصل نمهده ترجع إليه مواقع التعريف والتنكير في السلام
وهو أن السلام دعاء وطلب وهم في ألفاظ الدعاء والطلب إنما يأتون بالنكرة إما مرفوعة على الإبتداء أو منصوبة على المصدر فمن الأول ويل له ومن الثاني خيبة له وجدعا وعقرا وتربا وجندلا وهذا في الدعاء عليه وفي الدعاء له سقيا ورعيا وكرامة ومسرة فجاء سلام عليكم بلفظ النكرة كما جاء سائر ألفاظ الدعاء
وسر ذلك أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل ألا ترى أن سقيا ورعيا وخيبة جرى مجرى سقاك الله ورعاك وكذلك سلام عليك جار مجرى سلمك الله والفعل نكرة فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه وكالبدل منه نكرة مثله وأما تعريف السلام في جانب الراد فنذكر أيضا أصلا يعرف به سره وحكمته وهو أن الألف واللام إذا دخلت على اسم السلام تضمنت أربع فوائد
إحداها الإشعار بذكر الله تعالى لأن السلام المعرف من أسمائه كما تقدم تقريره

الفائدة الثانية إشعارها بطلب معنى السلامة منه للمسلم عليه لأنك متى ذكرت اسما من أسمائه فقد تعرضت به وتوسلت به إلى تحصيل المعنى الذي اشتق منه ذلك الإسم
الفائدة الثالثة إن الألف واللام يلحقها معنى العموم في مصحوبها والشمول فيه في بعض المواضع
الفائدة الرابعة أنها تقوم مقام الإشارة إلى المعين كما تقول ناولني الكتاب واسقني الماء واعطني الثوب لما هو حاضر بين يديك فإنك تستغني بها عن قولك هذا فهي مؤدية معنى الإشارة
وإذا عرفت هذه الفوائد الأربع
فقول الراد وعليك السلام بالتعريف متضمن للدلالة على أن مقصوده من الرد مثل ما ابتديء به وهو هو بعينه فكأنه قال ذلك السلام الذي طلبته لي مردود عليك وواقع عليك فلو أتى بالرد منكرا لم يكن فيه إشعار بذلك لأن المعرف وإن تعدد ذكره واتحد لفظه فهو شيء واحد بخلاف المنكر
ومن فهم هذا فهم معنى قول النبي لن يغلب عسر يسرين // مرسل وله طرق تعضده // فإنه أشار إلى قوله تعالى فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا الشرح 5 6 فالعسر وإن تكرر مرتين فتكرر بلفظ المعرفة فهو واحد واليسر تكرر بلفظ النكرة فهو يسران فالعسر محفوف بيسرين يسر قبله ويسر بعده فلن يغلب عسر يسرين
وفائدة ثانية وهي أن مقامات رد السلام ثلاثة مقام فضل ومقام عدل ومقام ظلم فالفضل أن يرد عليه أحسن من تحيته والعدل أن ترد عليه نظيرها والظلم أن تبخسه حقه وتنقصه منها فاختير للراد أكمل اللفظين وهو المعرف بالأداة التي تكون للإستغراق والعموم كثيرا ليتمكن من الإتيان بمقام الفضل
وفائدة ثالثة وهي أنه قد تقدم أن المناسب في حقه تقديم المسلم عليه على السلام فلو نكره وقال عليك سلام لصار بمنزلة قولك عليك دين وفي الدار رجل فخرجه مخرج الخبر المحض وإذا صار خبرا بطل معنى التحية لأن معناها الدعاء

والطلب فليس بمسلم من قال عليك سلام إنما المسلم من قال سلام عليك فعرف سلام الراد باللام إشعارا بالدعاء للمخاطب وأنه راد عليه التحية طالب له السلامة من اسم السلام والله أعلم فصل ابتداء السلام في المكاتبة
وأما المسألة الثانية وهي ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة واختتامها بالمعرفة فابتداؤها بالنكرة كما تقدم في ابتداء السلام النطقي بها سواء فإن المكاتبة قائمة مقام النطق وأما تعريفه في آخر المكاتبة ففيه ثلاث فوائد
أحدها أن السلام الأول قد وقع الأنس بينهما به وهو مؤذن بسلامه عليه خصوصا فكأنه قال سلام مني عليك كما تقدم وهذا أيضا من فوائد تنكر السلام الإبتدائي للإيذان بأنه سلام مخصوص من المسلم فلما استقر ذلك وعلم في صدر الكتاب كان الأحسن أن يسلم عليه سلاما وهو أعم من الأول لئلا يبقى تكرارا محضا بل يأتي بلفظ يجمع سلامه وسلام غيره فيكون قد جمع له بين السلامين الخاص منه والعام منه ومن غيره ولهذه الفائدة استحسنوا أن يكون قول الكاتب وفلان يقرئك السلام وفلان في آخر المكاتبة بعد والسلام عليك لهذا الغرض
الفائدة الثانية أنه قد تقدم أن السلام المعرف اسم من أسماء الله وقد افتتح الكاتب رسالته بذكر الله فناسب أن يختمها باسم من أسمائه وهو السلام ليكون اسمه تعالى في أول الكتاب وآخره وهذه فائدة بديعة
الفائدة الثالثة بديعة جدا وهي جواب السؤال التاسع بعد هذا وهي أن دخول الواو العاطفة في قول الكاتب والسلام عليكم ورحمة الله فيها وجهان
أحدهما قول ابن قتيبة أنها عطف على السلام المبدوء به فكأنه قال والسلام المتقدم عليكم والقول الثاني إنها لعطف فصول الكتاب بعضه على بعض فهي عطف لجملة السلام على ما قبلها من الجمل كما تدخل الواو في تضاعيف الفصول وهذا أحسن من قول ابن قتيبة لوجوه
منها أن الكلام بين السلامين قد طال فعطف آخره بعد طوله على أوله قبيح غير مفهوم من السياق

الوجه الثاني أنه إذا حمله على ذلك كان السلام الثاني هو الأول بعينه فلم يفد فائدة متجددة وفي ذلك شح بسلام متجدد وإخلال بمقاصد المتكاتبين من تعداد الجمل والفصول واقتضاء كل جمله لفائدة غير الفائدة المتقدمة حتى أن قارىء الكتاب كلما قرأ جمله منها لفائدة غير الفائدة المتقدمة تطلعت نوازع قلبه إلى استفادة ما بعدها فإذا كررت له فائدة واحدة مرتين سئمتها نفسه فكان اللائق بهذا المقصود أن يجدد له سلاما غير الأول يسره به كما سره بالأول وهو السلام العام الشامل
ولما فرغ الكاتب من فصول كتابه وختمها أتى بالواو العاطفة مع السلام المعرف فقال والسلام عليكم أي وبعد هذا كله السلام عليكم وقد تقدم أن السلام إذا انبنى على اسم مجرور قبله وكان سلام رد لا ابتداء فإنه يكون معرفا نحو وعليك السلام ولما كان سلام المكاتب هاهنا ليس بسلام رد قدم السلام على المجرور فقال والسلام عليكم وأتى باللام لتفيد تجديد سلام آخر والله تعالى أعلم
وهذه فصاحة غريبة وحكمة سلفية موروثة عن سلف الأمة وعن الصحابة في مكاتباتهم وهكذا كانوا يكتبون إلى نبيهم صلوات الله وسلامه عليه فصل نصب سلام ضيف إبراهيم الملائكة
وأما السؤال العاشر وهو السر في نصب سلام ضيف إبراهيم الملائكة ورفع سلامه
فالجواب أنك قد عرفت قول النحاة فيه أن سلام الملائكة تضمن جملة فعلية لأن نصب السلام يدل على سلمنا عليك سلاما وسلام إبراهيم تضمن جملة اسمية لأن رفعه يدل على أن المعنى سلام عليكم والجملة الإسمية تدل على الثبوت والتقرر والفعلية تدل على الحدوث والتجدد فكان سلامه عليهم أكمل من سلامهم عليه وكان له من مقامات الرد ما يليق بمنصبه وهو مقام الفضل إذ حياهم بأحسن من تحيتهم هذا تقرير ما قالوه
وعندي فيه جواب أحسن من هذا وهو أنه لم يقصد حكاية سلام الملائكة فنصب قوله سلاما مفعول القول المفرد كأنه قيل قالوا قولا سلاما وقالوا سدادا وصوابا ونحو ذلك فإن القول إنما تحكي به الجمل وأما المفرد فلا يكون محكيا به بل منصوب به انتصاب المفعول به

ومن هذا قوله تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما الفرقان 63 ليس المراد أنهم قالوا هذا اللفظ المفرد المنصوب وإنما معناه قالوا قولا سلاما مثل سدادا وصوابا وسمي القول سلاما لأنه يؤدي معنى السلام ويتضمنه من رفع الوحشة وحصول الإستئناس
وحكى عن إبراهيم لفظ سلامه فأتى به على لفظه مرفوعا بالإبتداء محكيا بالقول ولولا قصد الحكاية لقال سلاما بالنصب لأن ما بعد القول إذا كان مرفوعا فعلى الحكاية ليس إلا فحصل من الفرق بين الكلامين في حكاية سلام إبراهيم ورفعه ونصب ذلك إشارة إلى معنى لطيف جدا وهو أن قوله سلام عليكم من دين الإسلام المتلقى عن إمام الحنفاء وأبي الأنبياء وأنه من ملة إبراهيم التي أمر الله بها وباتباعها فحكى لنا قوله ليحصل الإقتداء به والإتباع له ولم يحك قول أضيافه وإنما أخبر به على الجملة دون التفصيل والله أعلم فزن هذا الجواب والذي قبله بميزان غير جائر يظهر لك أقواهما وبالله التوفيق فصل نصب السلام ورفعه
وأما السؤال الحادي عشر وهو نصب السلام من قوله تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ورفعه في قوله حكاية عن مؤمني أهل الكتاب سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين القصص 55
فالجواب عنه أن الله سبحانه مدح عباده الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم وأعمالهم فقال وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما فسلاما هنا صفة لمصدر محذوف هو القول نفسه أي قالوا قولا سلاما أي سدادا وصوابا وسليما من الفحش والخنا ليس مثل قول الجاهلين الذين يخاطبونهم بالجهل فلو رفع السلام هنا لم يكن فيه المدح المذكور بل كان يتضمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون سلموا عليهم وليس هذا معنى الآية ولا مدح فيه وإنما المدح في الإخبار عنهم بأنهم لا يقابلون الجهل مثله بل يقابلونه بالقول السلام فهو من باب دفع السيئة بالتي هي أحسن التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم
وتفسير السلف وألفاظهم صريحة بهذا المعنى وتأمل كيف جمعت الآية وصفهم في

حركتي الأرجل والألسن بأحسنها وألطفها وأحكمها وأوقرها فقال الذين يمشون على الأرض هونا أي بسكينة ووقار والهون بفتح الهاء من الشيء وهو مصدر هان هونا أي سهل ومنه قولهم يمشي على هينته ولا أحسبها إلا مولدة ومع هذا فهي قياس اللفظة فإنها على بناء الحالة والهيئة فهي فعلة من الهون وأصلها هونة فقلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها فاللفظة صحيحة المادة والتصريف وأما الهون بالضم فهو الهوان فأعطوا حركة الضم القوية للمعنى الشديد وهو الهوان وأعطوا حركة الفتح السهلة للمعنى السهل وهو الهون فوصف مشيهم بأنه مشي حلم ووقار وسكينة لا مشي جهل وعنف وتبختر ووصف نطقهم بأنه سلام فهو نطق حلم وسكينة ووقار لا نطق جهل وفحش وخنا وغلظة فلهذا جمع بين المشي والنطق في الآية فلا يليق بهذا المعنى الشريف العظيم الخطير أن يكون المراد منه سلام عليكم فتأمله
وأما قوله تعالى وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين القصص 55 فإنها وصف لطائفة من مؤمني أهل الكتاب قدموا على رسول الله مكة المكرمة فآمنوا به فغيرهم المشركون وقالوا قبحتم من وفد بعثكم قومكم لتعلموا خبر الرجل ففارقتم دينكم وتبعتموه ورغبتم عن دين قومكم فأخبر عنهم بأنهم خاطبوهم خطاب متاركة وإعراض وهجر جميل فقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين وكان رفع السلام متعينا لأنه حكاية ما قد وقع ونصب السلام في آية الفرقان متعينا لأنه تعليم وإرشاد لما هو الأكمل والأولى للمؤمن أن يعتمده إذا خاطبه الجاهل فتأمل هذه الأسرار التي أدناها يساوي رحلة والله تعالى المحمود وحده على ما من به وأنعم
وهي المواهب من رب العباد فما ... يقال لولا ولا هلا ولا فلم فصل تسليم الله أنبيائه ورسله
وأما السؤال الثاني عشر وهو ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله والسلام هو طلب ودعاء فكيف يتصور من الله فهذا سؤال له شأن ينبغي الإعتناء به ولا يهمل أمره وقل من يدرك سره إلا من رزقه الله فهما خاصا وعناية وليس هذا من شأن أبناء الزمان الذين غاية فاضلهم نقلا أن يحكي قيلا وقالا وغاية فاضلهم بحثا أن يبدي احتمالا ويبرز إشكالا وأما تحقيق العلم كما ينبغي

فللحروب أناس قائمون بها ... وللدواوين كتاب وحساب
وقد كان الأولى بنا الإمساك وكف عنان القلم وأن نجري معهم في ميدانهم ونخاطبهم بما يألفونه وأن لا نجلوا عرائس المعاني على ضرير ولا نزف خودها إلى عنين ولكن هذه سلعة وبضاعة لها طلا وعروس لها خطاب فستصير إلى أهلها وتهدي إلى بعلها ولا تستطل الخطابة فإنها نفثة مصدور
فلنرجع إلى المقصود فنقول لا ريب أن الطلب يتضمن أمورا ثلاثة طالبا ومطلوبا ومطلوبا منه ولا تتقوم حقيقته إلا بهذه الأركان الثلاثة وتغاير هذه ظاهر إذا كان الطالب يطلب شيئا من غيره كما هو الطلب المعروف مثل من يأمر غيره وينهاه ويستفهمه وأما إذا كان طالبا من نفسه فهنا يكون الطالب هو المطلوب منه ولم يكن هنا إلا ركنان طالب ومطلوب والمطلوب منه هو الطالب نفسه
فإن قيل كيف يعقل اتحاد الطالب والمطلوب منه وهما حقيقتان متغايرتان فكما لا يتحد المطلوب والمطلوب منه ولا المطلوب والطالب فكذلك لا يتحد الطالب والمطلوب منه فكيف يعقل طلب الإنسان من نفسه قيل هذا هو الذي أوجب غموض المسألة وإشكالها ولا بد من كشفه وبيانه فنقول الفرق بين الإرادة والطلب
الطلب من باب الإرادات والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئا فكذلك يريد من نفسه هو أن يفعله والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها والإرادة كالجنس له فكما يعقل أن يكون المريد يريد من نفسه فكذلك يطلب من نفسه وللفرق بين الطلب والإرادة وما قيل في ذلك مكان غير هذا
والمقصود أن طلب الحي من نفسه أمر معقول يعلمه كل أحد من نفسه وأيضا فمن المعلوم أن الإنسان يكون آمرا لنفسه ناهيا لنفسه قال تعالى إن النفس لأمارة بالسوء يوسف 53 وقال وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى النازعات 40 وقال الشاعر
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
وهذا أكثر من إيراد شواهده فإذا كان معقولا أن الإنسان يأمر نفسه وينهاها والأمر والنهي طلب مع أن فوقه آمرا وناهيا فكيف يستحيل ممن لا آمر فوقه ولا ناه أن يطلب

من نفسه فعل ما يحبه وترك ما يبغضه وإذا عرف هذا عرف سر سلامه تبارك وتعالى على أنبيائه ورسله وأنه طلب من نفسه لهم السلامة فإن لم يتسع لهذا ذهنك فسأزيدك إيضاحا وبيانا وهو أنه قد أخبر سبحانه في كتابه أنه كتب على نفسه الرحمة وهذا إيجاب منه على نفسه فهو الموجب وهو متعلق الإيجاب الذي أوجبه فأوجب بنفسه على نفسه
وقد أكد النبي هذا المعنى بما يوضحه كل الإيضاح ويكشف حقيقته بقوله في الحديث الصحيح لما قضى الله الخلق بيده على نفسه في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي وفي لفظ سبقت غضبي // رواه البخاري ومسلم والترمذي // فتأمل كيف أكد هذا الطلب والإيجاب بذكر فعل الكتاب وصفة اليد ومحل الكتابة وأنه كتاب وذكر مستقر الكتاب وأنه عنده فوق العرش فهذا إيجاب مؤكد بأنواع من التأكيد وهو إيجاب منه على نفسه
ومنه قوله تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين الروم 47 فهذا حق أحقه على نفسه فهو طلب وإيجاب على نفسه بلفظ الحق ولفظ على
ومنه قول النبي في الحديث الصحيح لمعاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار // رواه البخاري ومسلم //
ومنه قوله في غير حديث من فعل كذا وكذا كان حقا على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد والوعيد فهذا الحق هو الذي أحقه على نفسه
ومنه الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد عن النبي في قول الماشي إلى الصلاة اسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك فهذا حق للسائلين عليه هو أحقه على نفسه لا أنهم هم أوجبوه ولا أحقوه بل أحق على نفسه أن يجيب من سأله كما أحق على نفسه في حديث معاذ أن لا يعذب من عبده فحق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين له أن يثيبهم والحقان هو الذي أحقهما وأوجبهما لا السائلون ولا العابدون بل هو سبحانه

ما للعباد عليه حق واجب ... كل ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع
ومنه قوله تعالى وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن التوبة 111 فهذا الوعد هو الحق الذي أحقه على نفسه وأوجبه
ونظير هذا ما أخبر به سبحانه من قسمه ليفعلنه نحو فوربك لنسألنهم أجمعين الحجر 92 وقوله فوربك لنحشرنهم والشياطين مريم 68 وقوله لنهلكن الظالمين إبراهيم 13 وقوله فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ص 84 85 وقوله فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار آل عمران 195 وقوله فلنسألن الذي أرسل إليهم ولنسألن المرسلين الأعراف 6 إلى أمثال ذلك مما أخبر أن يفعله إخبارا مؤكدا بالقسم والقسم في مثل هذا يقتضي الحض والمنع بخلاف القسم على ما فعله تعالى مثل قوله يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين يس 1 3 والقسم على ثبوت ما ينكره المكذبون فإنه توكيد للخبر وهو من باب القسم المتضمن للتصديق ولهذا يقول الفقهاء اليمين ما اقتضى حقا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا فالقسم الذي يقتضي الحض والمنع هو من باب الطلب لأن الحض والمنع طلب ومن هذا ما أخبر به لا بد أن يفعله لسبق كلماته به كقوله ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون الصافات 171 173 وقوله وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين هود 119 وقوله ولولا كلمة سبقت من ربك هود 11 فهذا إخبار عما يفعله ويتركه أنه لسبق كلمته به فلا يتغير
ومن هذا تحريمه سبحانه ما حرمه على نفسه كقوله فيما يرويه عن رسوله يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما // رواه مسلم والترمذي // فهذا التحريم نظير ذلك الإيجاب ولا يلتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة فإن الناظر في سياق هذه المواضع ومقصودها به يجزم ببعد المراد منها كقول بعضهم إن معنى الإيجاب والكتاب في ذلك كله هو إخباره به ومعنى كتب ربكم

على نفسه الرحمة أخبر بها عن نفسه وقوله حرمت الظلم على نفسي أي أخبرت أنه لا يكون ونحو ذلك مما يتيقن المرء أنه ليس هو المراد بالتحريم بل الإخبار ههنا هو الإخبار بتحريمه وإيجابه على نفسه فمتعلق الخبر هو التحريم والإيجاب ولا يجوز إلغاء متعلق الخبر فإنه يتضمن إبطال الخبر ولهذا إذا قال القائل أوجبت على نفسي صوما فإن متعلقه وجوب الصوم على نفسه فإذا قيل إن معناه أخبرت بأني أصوم كان ذلك إلغاء وإبطالا لمقصود الخبر فتأمله
وإذا كان معقولا من الإنسان أنه يوجب على نفسه ويحرم ويأمرها وينهاها مع كونه تحت أمر غيره ونهيه فالآمر الناهي الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يمتنع في حقه أن يحرم على نفسه ويكتب على نفسه وكتابته على نفسه سبحانه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به وتحريمه على نفسه يستلزم بغضه لما حرمه وكراهته له وإرادة أن لا يفعله فإن محبته للفعل تقتضي وقوعه منه وكراهته لأن يفعله تمنع وقوعه منه وهذا غير ما يحبه سبحانه من أفعال عباده ويكرهه فإن محبة ذلك منهم لا تستلزم وقوعه وكراهته منهم لا تمنع وقوعه ففرق بين فعله هو سبحانه وبين فعل عباده الذي يقع مع كراهته وبغضه له ويتخلف مع محبته له ورضاه به بخلاف فعله هو سبحانه فهذا نوع وذاك نوع فتدبر هذا الموضع الذي هو منزلة أقدام الأولين والآخرين إلا من عصم الله وهداه إلى صراط مستقيم وتأمل أين تكون محبته وكراهته موجبة لوجود الفعل ومانعة من وقوعه وأين تكون المحبة منه والكراهة لا توجب وجود الفعل ولا تمنع وقوعه
ونكتة المسألة هي الفرق بين ما يريد أن يفعله هو سبحانه وما لا يريد أن يفعله وبين ما يحبه من عبده أن يفعله العبد أو لا يفعله ومن حقق هذا المقام زالت عنه شبهات ارتبكت فيها طوائف من النظار والمتكلمين والله الهادي إلى سواء السبيل
واعلم أن الناس في هذا المقام ثلاث طوائف
فطائفة منعت أن يجب عليه شيء أو يحرم عليه شيء بإيجابه وتحريمه وهم كثير من مثبتي القدر الذين ردوا أقوال القدرية النفاة وقابلوهم أعظم مقابلة نفوا لأجلها الحكم والأسباب والتعليل وأن يكون العبد فاعلا أو مختارا
الطائفة الثانية بإزاء هؤلاء أوجبوا على الرب وحرموا أشياء بعقولهم جعلوها شريعة له يجب عليه مراعاتها من غير أن يوجبها هو على نفسه ولا حرمها وأوجبوا عليه من جنس ما يجب على العباد وحرموا عليه من جنس ما يحرم عليهم ولذلك

كانوا مشبهة في الأفعال والمعتزلة منهم جمعوا بين الباطلين تعطيل صفاته وجحد نعوت كماله والتشبيه له بخلقه فيما أوجبوه عليه وحرموه فشبهوا في أفعاله وعطلوا في صفات كماله فجحدوا بعض ما وصف به نفسه من صفات الكمال وسموه توحيدا وشبهوه بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح من الأفعال وسموا ذلك عدلا وقالوا نحن أهل العدل والتوحيد فعدلهم إنكار قدرته ومشيئته العامة الشاملة التي لا يخرج عنها شيء من الموجودات ذواتها وصفاتها وأفعالها وتوحيدهم إلحادهم في أسمائه الحسنى وتحريف معانيها عما هي عليه فكان توحيدهم في الحقيقة تعطيلا وعدلهم شركا وهذا مقرر في موضعه
والمقصود أن هذه الطائفة مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات وهدى الله الأمة الوسط لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فلم يقيسوه بخلقه ولم يشبهوه بهم في شيء من صفاته ولا أفعاله ولم ينفوا ما أثبته لنفسه من ذلك ولم يوجبوا عليه شيئا ولم يحرموا عليه شيئا بل أخبروا عنه بما أخبر عن نفسه وشهدت قلوبهم ما في ضمن ذلك الإيجاب والتحريم من الحكم والغايات المحمودة التي يستحق عليها كمال الحمد والثناء فإن العباد لا يحصون ثناء عليه أبدا بل هو كما أثنى على نفسه
وهذا بين بحمد الله عند أهل العلم والإيمان مستقر في فطرهم ثابت في قلوبهم يشهدون انحراف المنحرفين في الطرفين وهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل هم إلى الله تعالى ورسوله متحيزون وإلى محض سنته منتسبون يدينون دين الحق أنى توجهت ركائبه ويستقرون معه حيث استقرت مضاربه لا تستفزهم بدوات آراء المختلفين ولا تزلزلهم شبهات المبطلين فهم الحكام على أرباب المقالات والمميزون لما فيها من الحق والشبهات يردون على كل باطلة ويوافقونه فيما معه في الحق فهم في الحق سلمه وفي الباطل حربه لا يميلون مع طائفة على طائفة ولا يجحدون حقها لما قالته من باطل سواه بل هم ممتثلون قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون المائدة 8 فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحلمه بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطيء على أن لا يعدل فيهم بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه علما وعملا ودعوة إلى الله على بصيرة وصبرا من قومهم على الأذى في الله وإقامة لحجة الله ومعذرة

لمن خالفهم بالجهل لا كمن نصب معالمه صادرة عن آراء الرجال فدعا إليها وعاقب عليها وعادى من خالفها بالعصبية وحمية الجاهلية والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به وليكن هذا تمام الكلام في هذا السؤال فقد تعدينا به طوره وإن لم نقدره قدره فصل التسليم بلفظ النكرة أو المعرفة
وأما السؤال الثالث عشر وهو ما السر في كونه سلم عليهم بلفظ النكرة وشرع لعباده أن يسلموا على رسوله بلفظ المعرفة وكذلك تسليمهم على نفوسهم وعلى عباده الصالحين فقد تقدم بيان الحكمة في كون السلام ابتداء بلفظ النكرة
ونزيد هنا فائدة أخرى وهي أنه قد تقدم أن في دخول اللام في السلام أربعة فوائد وهذا المقام مستغن عنها لأن المتكلم بالسلام هو الله تعالى فلم يقصد تبركا بذكر الإسم كما يقصد العبد فإن التبرك استدعاء البركة واستجلابها والعبد هو الذي يقصد ذلك ولا قصد أيضا تعرضا وطلبا على ما يقصده العبد ولا قصد العموم وهو أيضا غير لائق هنا لأن سلاما منه سبحانه كاف من كل سلام ومغن عن كل تحية ومقرب من كل أمنية فأدنى سلام منه ولا أدنى هناك يستغرق الوصف ويتم النعمة ويدفع البؤس ويطيب الحياة ويقطع مواد العطب والهلاك فلم يكن لذكر الألف واللام هناك معنى
وتأمل قوله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر التوبة 72 كيف جاء بالرضوان مبتدأ منكرا مخبرا عنه بأنه أكبر من كل ما وعدوا به فأيسر شيء من رضوانه أكبر الجنات وما فيها من المساكن الطيبة وما حوته ولهذا لما يتجلى لأوليائه في جنات عدن ويمنيهم أي شيء يريدون فيقولون ربنا وأي شيء نريد أفضل مما أعطيتنا فيقول تبارك وتعالى إن لكم عندي أفضل من ذلك أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا
وقد بان بهذا الفرق بين سلام الله على رسله وعباده وبين سلام العباد عليهم فإن سلام العباد لما كان متضمنا لفوائد الألف واللام التي تقدمت من قصد التبرك باسمه السلام والإشارة إلى طلب السلام له وسؤالها من الله باسم السلام وقصد عموم

السلام كان الأحسن في حق المسلم على الرسول أن يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وإن كان قد ورد سلام عليك فالمعرفة أكثر وأصح وأتم معنى فلا ينبغي العدول عنه ويشح في هذا المقام بالألف واللام والله أعلم فصل تسليم الله وتسليم المسيح
وقد عرفت بهذا جواب السؤال الرابع عشر وهو ما الحكمة في تسليم الله تعالى على يحيى بلفظ النكرة وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة لا ما يقوله من لا تحصيل له أن سلام يحيى جرى مجرى ابتداء السلام في الرسالة والمكاتبة فنكر وسلام المسيح جرى مجرى السلام في آخر المكاتبة فعرف فإن السورة كالقصة الواحدة ولا يخفى فساد هذا الفرق فإنهما سلامان متغايران من مسلمين
أحدهما سلام الله تعالى على عباده والثاني سلام العبد على نفسه فكيف يبني أحدهما على الآخر
وكذلك قول من قال إن الثاني عرف لتقدم ذكره في اللفظ فكانت الألف واللام فيه للعهد وهذا أقرب من الأول لإمكان أن يكون المسيح أشار إلى السلام الذي سلمه الله على يحيى فأراد أن لي من السلام في مثل هذه المواطن الثلاثة مثل ما حصل له والله أعلم فصل تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح
وأما السؤال الخامس عشر وهو ما الحكمة في تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة
فسره والله أعلم أن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب ومواطن الوحشة وكلما كان الموضع مظنة ذلك تأكد طلب السلامة وتعلقت بها الهمة فذكرت هذه المواطن الثلاثة لأن السلامة فيها آكد وطلبها أهم والنفس عليها أحرص لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقرا فيها موطن النفس على صحبتها وسكناها إلى دار هو فيها معرض للآفات والمحن والبلاء فإن الجنين من حين خرج إلى هذه

الدار انتصب لبلائها وشدائدها ولأوائها ومحنها وأفكارها كما أفصح الشاعر بهذا المعنى حيث يقول
تأمل بكاء الطفل عند خروجه ... إلى هذه الدنيا إذا هو يولد
تجد تحته سرا عجيبا كأنه ... بكل الذي يلقاه منه مهدد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد
ولهذا من حين خرج ابتدرته طعنة الشيطان في خاصرته فبكى لذلك ولما حصل له من الوحشة بفراق وطنه الأول وهو الذي أدركه الأطباء والطبائعيون وأما ما أخبر به الرسول فليس في صناعتهم ما يدل عليه كما ليس فيها ما ينفيه فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور
الموطن الثاني خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت ونسبة الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريبا وتمثيلا وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأكبر وطلب السلامة أيضا عند انتقاله إلى تلك الدار من أهم الأمور
الموطن الثالث موطن يوم القيامة يوم يبعث الله تعالى الأحياء ولا نسبة لما قبله من الدور إليه وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله فإن عطبه لا يستدرك وعثرته لا تقال وسقمه لا يداوى وفقره لا يسد فتأمل كيف خص هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها
واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها وتأمل ما في السلام مع الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة ثم نزل ذلك على الوحشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة عند خروجه إلى عالم الإبتلاء وعند معاينته هول المطلع إذا قدم على الله وحيدا مجردا عن كل مؤنس إلا ما قدمه من صالح عمل وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق لها واستعمل بعمل أهلها فأي موطن أحق بطلب السلامة من هذه المواطن فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه فصل تسليم نبينا وتسليم موسى
وأما السؤال السادس عشر وهو ما الحكمة في تسليم النبي على من اتبع الهدى في كتابه إلى هرقل بلفظ النكرة وتسليم موسى عليهم بلفظ المعرفة

فالجواب عنه أن تسليم النبي تسليم ابتدائي ولهذا صدر به الكتاب حيث قال من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ففي تنكيره ما في تنكير سلام من الحكمة وقد تقدم بيانها
وأما قول موسى والسلام على من اتبع الهدى فليس بسلام تحية فإنه لم يبتديء به فرعون بل هو خبر محض فإن من اتبع الهدى له السلام المطلق دون من خالفه فإنه قال له فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى طه 47 48
أفلا ترى أن هذا ليس بتحية في ابتداء الكلام ولا خاتمته وإنما وقع متوسطا بين الكلامين إخبارا محضا عن وقوع السلامة وحلولها على من اتبع الهدي ففيه استدعاء لفرعون وترغيب له بما جبلت النفوس على حبه وإيثاره من السلامة وأنه إن اتبع الهدى الذي جاءه به فهو من أهل السلام والله تعالى أعلم
وتأمل حسن سياق هذه الجمل وترتيب هذا الخطاب ولطف هذا القول اللين الذي سلب القلوب حسنه وحلاوته مع جلالته وعظمته كيف ابتدأ الخطاب بقوله إنا رسول ربك وفي ضمن ذلك إنا لم نأتك لننازعك ملكك ولا لنشركك فيه بل نحن عبدان مأموران مرسلان من ربك إليك وفي إضافة اسم الرب إليه هنا دون إضافته إليهما استدعاء لسمعه وطاعته وقبوله كما يقول الرسول للرجل من عند مولاه أنا رسول مولاك إليك وأستاذك وإن كان أستاذهما معا ولكن ينبهه بإضافته إليه على السمع والطاعة له ثم إنهما طلبا منه أن يرسل معهما بني إسرائيل ويخلي بينهم وبينهما ولا يعذبهم ومن طلب من غيره ترك العدوان والظلم وتعذيب من لا يستحق العذاب فلم يطلب منه شططا ولم يرهقه من أمره عسرا بل طلب منه غاية النصف
ثم أخبره بعد الطلب بثلاث إخبارات أحدها قوله تعالى قد جئناك بآية من ربك طه 47 فقد برئنا من عهدة نسبتك لنا إلى التقول والإفتراء بما جئناك به من البرهان والدلالة الواضحة فقد قامت الحجة ثم بعد ذلك للمرسل إليه حالتان إما أن يسمع ويطيع فيكون من أهل الهدى والسلام على من اتبع الهدى وإما أن يكذب ويتولى فالعذاب على من كذب وتولى فجمعت الآية طلب الإنصاف وإقامة الحجة وبيان ما يستحق السامع المطيع وما يستحقه المكذب المتولي بألطف خطاب وأليق قول وأبلغ ترغيب وترهيب

فصل قل الحمد لله وسلام على عباده
وأما السؤال السابع عشر وهو أن قوله قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى النمل 59 هل السلام من الله تعالى فيكون المأمور به الحمد والوقف التام عليه أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا
فالجواب عنه أن الكلام يحتمل الأمرين ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح فيرجح كونه داخلا في جملة القول بأمور
منها اتصاله به وعطفه عليه من غير فاصل وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع ولهذا إذا قلت الحمد لله وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول
ومنها أنه إذا كان معطوفا على المقول كان عطف خبر على خبر وهو الأصل ولو كان منقطعا عنه كان عطفا على جملة الطلب وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب
ومنها أن قوله قل الحمد وسلام على عباده الذين اصطفى ظاهر في أن المسلم هو القائل الحمد لله ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة ولم يقل سلام على عبادي
ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور أحدها مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى كقوله سلام على نوح في العالمين سلام على إبراهيم سلام على موسى وهارون سلام على آل ياسين
ومنها أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم أما الأول فقال تعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين الصافات 181 182 وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله ثم سلامه على رسله
وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه ثم سلم على المرسلين وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد وأعظم ما جاءوا به التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم

وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض وما خالفه هو الباطل والكذب المحال وهذا المعنى بعينه في قوله قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى كما هو في آخر الصافات
وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره فمنه قوله تعالى قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان الأنبياء 112 وقوله وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين المؤمنون 118 وقوله ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين الأعراف 89 ونظائره كثيرة جدا
وفصل الخطاب في ذلك أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا وتنتظمهما انتظاما واحدا فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه وليس فيه إلا البلاغ والكلام كلام الرب تبارك وتعالى فهو الذي حمد نفسه وسلم على عباده وأمر رسوله بتبليغ ذلك فإذا قال الرسول الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه وسلم به هو على عباده فهو سلام من الله ابتداء ومن المبلغ بلاغا ومن العباد اقتداء وطاعة فنحن نقول كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
ونظير هذا قوله تعالى قل هو الله أحد الإخلاص 1 فهو توحيد منه لنفسه وأمر للمخاطب بتوحيده فإذا قال العبد قل هو الله أحد كان قد وحد الله بما وحد به نفسه وأتى بلفظة قل تحقيقا لهذا المعنى وأنه مبلغ محض قائل لما أمر بقوله والله أعلم
وهذا بخلاف قوله قل أعوذ برب الفلق الفلق 1 و قل أعوذ برب الناس الناس 1 فإن هذا أمر محض بإنشاء الإستعاذة لا تبليغ لقوله أعوذ برب الناس فإن الله لا يستعيذ من أحد وذلك عليه محال بخلاف قوله قل هو الله أحد فإنه خبر عن توحيده وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد فتأمل هذه النكتة البديعة والله المستعان

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5