كتاب : بيان تلبيس الجهمية
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وإن قيل إنه فعل العالم لا لغرض كان عابثا والعبث على الحكيم محال ولأنه يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح وهو محال
الوجه الثاني أنه لو فعله بالاختيار فإما أن يجوز منه فعل القبيح أو لا يجوز وإن شئت قلت فإما أن يجوز عليه فعل كل شيء وإما أن يكون متنزها عن بعض الأفعال فإن قيل إنه يجوز أن يصدر منه فعل القبيح لم يؤمن منه تصديق المتنبئين الكذابين بالمعجزات ولم يؤمن أيضا الخبر المخالف لمخبره فإن الكذب وتصديق الكاذب قبيح وتجويز ذلك يبطل النبوات وأخبار المعاد وهذا تبطل بهما الملل
وإن قيل إنه لا يفعل القبيح وهذا قبيح
الثاني أن العالم مملوء طافح بالشرور والآفات وأنواع الألم والعقوبات والقول بالغرض باطل وإذا بطل القسمان بطل القول بالفاعل المختار
وأما الاحتجاج بها على نفي الصانع مطلقا فأن يقال إن كان موجبا بذاته لزم قدم المفعولات وهو خلاف المحسوس لأن الموجب لفعل المحدث الذي هو علة تامة إن كان موجودا في الأزل لزم قدم المحدثات وإن لم يكن موجودا فصدوره بعد أن لم يكن يحتاج إلى سبب حادث والقول فيه كالقول في غيره من الحوادث فيمتنع حدوث محدث عن موجب بذاته وإن كان فاعلا باختياره عادت الحجة المتقدمة

وهذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة ولم فعل ما فعل وهي مسألة القدر ظهر بها ما كان السلف يقولونه إن الكلام في القدر هو أبو جاد الزندقة وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه و سلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم قال لهم بهذا هلكت الأمم قبلكم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض وعن هذا نشأ مذهب المجوس والقدرية مجوس هذه الأمة حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة كما أن التجهم فروع تلك الحجة
ثم إن الدهرية ظنوا أنهم بالقول بقدم العالم ينجون من هذه الشبهات وكان الذي وقعوا فيه شرا مما وقعت فيه المجوس والقدرية ولهذا كان المشركون والصابئون القائلون بقدم العالم ومن معهم من الفلاسفة شرا من المجوس ومن معهم من القدرية المعتزلة وغيرهم
والمقصود بيان هذا يقال لهم لا ريب في هذا الوجود المشهود المستلزم لوجود الموجود القديم الواجب فإن نفس الوجود يستلزم موجودا قديما واجبا بنفسه إذ كل موجود فإما أن يكون واجبا قديما أو يكون محدثا أو ممكنا

والمحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من واجب وهذا مما لا ينازع فيه أحد من بني آدم وإنما الدهرية تقول هذا العالم قديم واجب بنفسه أو يقولون هو معلول علة قديمة واجبة بنفسها فيقال لهؤلاء إن قلتم إن هذا العالم واجب الوجود بنفسه قديم لزمكم هذه المحالات وأضعافها فإنه يقال لكم لأي سبب تحرك الفلك الأعلا وغيره من الأفلاك ولم حصلت هذه الاستحالات فإن هذه أمور حادثة بعد أن لم تكن وهي ممكنة قطعا فالمحدث لها سواء كان الفلك أو غيره الذي قد قدر أنه قديم واجب الوجود بنفسه إن أحدثها لغرض لزم أن يكون مستكملا بها والتقدير أنه قديم واجب الوجود بنفسه فقد لزمكم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه مستكملا بغيره وهذا هو المحال الذي فررتم منه فقد وقعتم فيه مع ما في ذلك من المحالات اللازمة على هذا التقدير مثل امتناع كون الفلك الأعلا هو المحدث لجميع الحركات وغير ذلك حتى لو قدر في كل فلك متحرك أنه قديم واجب الوجود بنفسه كان هذا السؤال قائما فيه وفي حركاته الحادثة بعد أن لم تكن وكذلك إن قالوا تحرك لأجل العناية بالسافلات أن يكون الأعلا خادما للأدنى وأن تكون هذه الغاية أعلا من الفاعل الذي هو أشرف منها وهو متناقض
وإن فرض أن قائلا يقول أو يخطر له إن الفلك ليس بقديم واجب بنفسه ولا معلول علة قديمة بل يقول حدث بنفسه بعد أن لم يكن وهذا لا نعلم به قائلا وقد ذكر أرباب المقالات أنهم لم يعلموا به قائلا لكن هو مما يخطر بالقلب ويوسوس به الشيطان

فيقال هذا الوجود المشهود إما أن يكون موجودا بنفسه وإما أن لا يكون وإذا كان موجودا بنفسه فإما أن يكون قديما وهو القسم الذي تقدم بيان تناقض أصحابه وإما أن يكون محدثا بنفسه فيقال هذا القول أظهر فسادا وتناقضا فإنه من المعلوم ابالفطرة البديهية أن المحدث بد أن لم يكن لا يتصور أن يحدث عن غير محدث ولا ن يحدث نفسه فلا يكون الشيء صانعا لنفسه ولا مصنوعا لنفسه ولا يكون أيضا على غائية لنفسه كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع قال تعالى أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون قالوا من غير خالق خلقهم قال جبير بن مطعم لما سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ هذه الآية في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع وقد تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع بين سبحانه باستفهام الإنكار الذي يتضمن أن الأمر المنكر من العلوم المستقرة الملازمة للمخاطب التي ينكر على من جحدها لأنه سفسط بجحد العلوم البديهية الفطرية الضرورية فإنه من المعلوم أن ما حدث لا يكون من غير محدث أحدثه ولا يكون هو حدث بنفسه فقال أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون وهذا يستلزم الجمع بين النقيضين وغيره من المحالات
وإن كانت إحالته في العقل من أظهر العلوم الضروريات فإن كونه فاعلا لنفسه يقتضي أن يكون وجوده قبلها وكونها مفعولة يقتضي أن يكون وجوده بعد نفسه فيجب أن تكون نفسه موجودة معدومة في آن واحد
والمقصود هنا بيان تناقض حججهم وأن الذي يقولونه فيه من المحذور أعظم مما فروا منه
فيقال إذا قدر أنه حدث بنفسه بلا محدث بل عن العدم المحض فمعلوم أن هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة من أبعد الأشياء عن الأمور الموجودة

المحسوسة وعن القياس العقلي فمن جوز أن يكون هذا الوجود صدر عن عدم محض فصدروه عن علة موجبة لا تستلزم وجود المعلول أقرب إلى العقل وأبعد عن المحذور وهو الذي فروا منه لأن أكثر ما في هذا أنه تكون العلة التامة قد تخلف عنها معلولها أو وجد المعلول عن علة ليست تامة ومن المعلوم أن صدوره لا عن شيء أعظم امتناعا وفسادا من صدوره عن علة ليست تامة ومن المعلوم أن وجود العلة التامة بلا معلول أقل فسادا وامتناعا من وجود المحدث لا من علة أصلا فإن المعلول إما محدث وإما قديم ومعلوم بالعقل أن حاجة المعلول المحدث إلى العلة أظهر من حاجة المعلول القديم ووجود المعلول بلا علة أبعد في العقل من وجود العلة بلا معلول فإذا جوزتم صدور المحدث بلا علة ولا محدث كان تجويز وجود العلة التامة مع تأخر معلولها أقرب في العقل وأبعد عن المحال
وكذلك أيضا إذا جوزتم صدوره عن العدم فصدوره عن فاعل مستكمل بفعله أو فاعل يفعل لا لغرض أقرب في العقل وأبعد عن المحال مما جوزتموه فإن هذا غايته أن يكون أحدثه فاعل ناقص أو عابث وبكل حال فهذا أقل امتناعا من أن يكون حدث لا عن شيء
وبالجملة فافتقار المحدث إلى المحدث من أبده العلوم وأوضح المعارف وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء وأي قول قيل كان أقرب إلى العقل وأبعد عن المحال من هذا فإذا قرر هذا القول ظهر أن المحال الذي فيه أعظم من المحال الذي يلزم غيره ولهذا لم نكثر تقرير هذا القول وإنما تكلمنا على ما قال به قائلون وهم الدهرية القائلون بقدم العالم إما واجبا بنفسه وإما واجبا بعلته فهؤلاء إذا ظهر تناقض قولهم كان تناقض ذلك القول أظهر وقد ذكرنا بعض تناقضهم

ويقال لهم أيضا هذه الكمالات الحاصلة للفلك بإحداث ما يحدثه من الحركات إن كانت مقدورة له في الأزل فلم أخرها وإن كانت غير مقدورة له فقد أثبتموه عاجزا عن غير ما فعل من الأحداث فإذا أقررتم بخلق الفلك لم يلزمكم في إثباته أكثر من هذا وهو أن يكون مستكملا بما يحدثه من الأفعال وأن لا يكون وجود تلك الأفعال في الأزل ممكنا وغاية ما يلتزمونه من قيام أفعال حادثة بذاته أو من كونه جسما أو غير ذلك فإن هذا كله لازم لكم إذا قلتم بأن الفلك قديم واجب الوجود فإذا كان كل محذور يلزمكم على تقدير إثبات الصانع يلزمكم أيضا على تقدير نفي الصانع كان القول بنفيه باطلا قطعا وكانت هذه الحجة فاسدة وهذا هو المقصود هنا
وأما بيان أن هذه الحوادث الموجودة في العالم يمتنع أن يكون الفلك مستقلا بهذا فذاك له مقام آخر إذ الغرض هنا بيان تناقضهم مع أن ذلك ظاهر بين والعقلاء المعروفون متفقون على أن الحوادث التي تحدث لا يستقل بها الفلك ويمتنع أن يكون في المخلوقات ما يستقل بأحداث محدث منفصل عنه فهذا له مقام آخر وهو دليل مستقل عظيم القدر على ثبوت الصانع تعالى
وهكذا الإلزام على التقدير الثاني وهو أن يقال هذه الحركات لغير غرض فيقال فيلزمكم بموجب كلامكم أن يكون الموجود القديم الواجب الوجود يفعل أفعالا دائمة مستمرة لغير غرض وقد قلتم إنه عبث والعبث على الحكيم محال فمهما كان جوابكم عن ذلك في هذا أمكن أن تجيبوا أنفسكم به إذا كان القديم الواجب الوجود هو صانع الفلك مع كون المحذور حينئذ أقل عندكم فلم عدلتم عن القول الأخف إلى القول الأقبح ولله المثل الأعلى فنزهتموه إذا كان

موجودا قديما صانعا عن أن يستكمل بفعله أو يكون عابثا فيه فجعلتموه معدوما وأي موجود فرض كان خيرا من المعدوم فعدلتم عن أن تصفوه بنوع نقص فوصفتموه بما يجمع كل نقص ثم وصفتم غيره بصفات الكمال التي هي وجوب الوجود والقدم مع وصفكم له بتلك النقائص فاجتماع هذه النقائص مع هذه الكمالات لازم لكم ولم تستفيدوا إلا كمال التعطيل والجحود بلا حجة أصلا
وقد ظهر فساد حجتهم وتناقضهم فيها من وجوه
أحدها أن الذي نفوه به يلزمهم مثله فيما أثبتوه من موجود قديم واجب وهو الفلك المشهود
الثاني أنهم قصدوا تنزيهه عن تجدد كمال له بفعله أو عن عبث فجعلوه أعظم نقصا من المستكمل العابث ومن المعلوم أنه إذا قدر فاعل يستكمل بفعله كان خيرا من المعدوم فإن الفلك أو غير الفلك إذا قدر ذلك فيه لم يشك عاقل أنه خير من المعدوم فكان نفيهم له الذي فروا إليه شرا من نفي بعض الأمور التي ظنوها كمالا فتدبر هذا أيضا وكذلك إذا قدر موجود كامل يفعل فعلا لغير غرض له وقيل إنه عابث فهو أكمل من العدم الذي ليس بشيء أصلا فإن الفاعل لغير غرض بمنزلة الساكن الذي لا يفعل وهذا يقال فيه إنه جامد ويقال في ذلك إنه عابث والجامد والعابث خير من العدم المحض لا سيما إذا كان متصفا بسائر صفات الكمال
الثالث ما تركب من هذين الوجهين وهو أنهم مع التزام المحالات التي زعموا أنهم فروا منها ومع التزام ما هو شر مما فروا منه لم يستفيدوا بذلك إلا جحود الصانع تعالى وتقدس رب العالمين الذي هو أصل كل باطل

وكفر وكذب وتناقض وشر في الوجود كما أن الإيمان به أصل كل حق وهدى وصدق واستقامة وخير في الوجود
وهكذا يقال لهم في فعل القبائح وعدم فعلها من وجوه
أحدها أن هذا لازم لكم فيما تصفونه بأنه واجب لذاته قديم وهذا لا بد منه على كل تقدير ولا مندوحة عنه
الثاني أن يقال تجويز تصديق الكاذب أو الكذب أكثر ما يقال فيه إنه يستلزم بطلان الرسالة والخبر عن الثواب والعقاب وهذا المحذور أخف بكثير من محذور نفي الصانع فهل يسوغ في العقل أن نجحد الصانع وخلقه للعالم لأن ثبوت ذلك يستلزم بطلان النبوة والوعد والوعيد فإنه يقال لذلك وأنت إذا نفيته بطلت النبوة والوعد والوعيد أيضا وبطل أضعاف هذا من أمور الديانات فبتقدير أن يكون هذا لازما على التقديرين لا يجوز أن يحتج به على نفي أحدهما مع كثرة المحاذير على هذا التقدير بل غاية ما يقال إذا قدر أنه لازم فليس بمحذور ومعلوم أن الإقرار بالصانع تعالى مع الكفر بالرسل والمعاد أقل كفرا من جحود الصانع كما أن الإقرار مستكمل أو عابث أقل كفرا من جحوده فالتزام زيادة الحجة والتعطيل بلا حجة من أبطل الباطل
وهكذا ما احتجوا به على جحود فعل القبيح كتكليف المحال ووجود الشرور فإنه يقال فيه هذان الوجهان
أحدهما لزوم ذلك أيضا مع ما يصفونه بالقدم ووجوب الوجود
الثاني أن ذلك إنما يستلزم نقصا وذلك أهون من العدم فإذا كانت الحجة إنما تستلزم في الوجود لم جز أن يلتزم عدمه بلا حجة بل إذا كان إثبات الوجود الناقص لا بد منه على كل تقدير

ومثل من احتج على بطلان الخالق بأن ذلك يستلزم بطلان النبوة والمعاد مثل من بلغه أن الله تعالى بعث رسولا وأن قوما كذبوه فتأذى بذلك فجاء إليه فقتله وقال إنما قتلته لئلا يتأذى بالتكذيب وهؤلاء أعدموا الخالق لئلا تكذب رسله على زعمهم
وكذلك مثل من أراد أن ينصر ملكا له مملكة عظيمة ولكن بعض رعيته عصوه فعمد إلى ذلك الملك فقتله أو عزله عن الملك بالكلية وقال إنما فعلت ذلك إجلالا لقدره لئلا يعصيه بعض رعيته
ويحكى عن بعض الحمقاء أنه رأى ذبابا وقع على وجه مخدومه فأخذ المداس فضرب به وجه مخدومه ليطير عنه الذباب
ومثل من كان له ميراث من أبيه غصب بعض الناس شيئا منه فقصد بعض الحكام أو بعض الشهود دفع الشر عن ذلك الوارث ودفع تضرره بالغصب فأثبت أنه ليس ابنه وأنه لا يستحق شيئا من الميراث وقال إنه بهذا الطريق امتنع أن يكون مغصوبا وزال تضرره بالغصب
أو رجل كان له عقار عظيم من مساكن وبساتين وغيرها وله منافع عظيمة وحقوق كثيرة قد غصبه بعض الناس بعضها وهو متألم لذلك فقام قوم من الحكام والشهود والأعوان ليزيلوا عنه فسعوا في أخذ ذلك العقار منه بالكلية وإخراجه من ملكه ويده بلا فائدة حصلت له أصلا وقالوا هذا العقار إذا كان له فلا بد له من أن يؤخذ منه هذا الجزء اليسير فيتألم فأعدموه إياه كله بلا فائدة حصلت له
ومثل من قال أنا لا أصلي لأني إذا صليت أقصر في ذكر الله وعبادته وطاعته التي ينبغي أن أفعلها في الصلاة فأنا أترك الصلاة بالكلية خوفا من ترك بعض واجباتها

وكذلك من قال لا أزكي أصلا لأني إذا زكيت فقد يأخذ زكاة بعض مالي من لا يستحقها فيحرم المستحقين لها فأنا أحرم المستحقين جميع الزكاة لئلا يحرموا بعضها بالمزاحمة
ومثل من ارتكب الفواحش المحرمة وترك النكاح الحلال قال لأني إذا نكحت المرأة فقد أطؤها وهي حائض أو في الدبر فأستحل الفواحش من التلوط وغيره حذرا من هذا الذنب
أو من أخذ يسرق أموال الناس خوفا من تجارة أو صناعة يكون ظلمه فيها أقل من ظلم السرقة
أو من أقام ببلاد الحرب معاونا لهم على قتال المسلمين خوفا من أن يهاجر إلى بلاد المسلمين فيقصر بجهاد أهل الحرب والأمثال في هذا كثيرة جدا
ومن العجب أن المتكلمين المناظرين لهؤلاء وأمثالهم من أهل الكفر إذا أوردوا سؤالا من جنس هذا السؤال أن يدخلوا معهم في جوابه وحله وقد لا يكون المجيب متمكنا من ذلك علما وبيانا ولا ينقطع بذلك الخصم ولا يهتدي لنقص قوي إدراكه أو سوء قصده أو لا حتياج تحقيق ذلك إلى مقدمات متعددة وزمان طويل وتقرير لتلك المقدمات بجواب ما ترد بها من ممانعة ومعارضة فيتركوا أن يبدؤوهم من أول الأمر ببيان فساد هذه الحجة وبيان تناقضهم وأن قائلها يلزمه إذا قال بها أعظم مما أنكره فإذا تبين له فسادها وللمتكلمين معه حصل دفع هذا الشر وبطلان هذا القول وهذه الحجة وهو المقصود في هذا المقام ثم بيان الحق وتكميله مقام آخر
ومثل ذلك مثال من قدم العدو بلاده فأخذ يبني ويغرس ويعمر ما ينتفع به لنفسه ويدفع به عدوه قبل دفع العدو عن بلاده فجعل كلما عمر شيئا خربه العدو

وهو غير متمكن من العمارة الثانية فإذا كان قادرا من أول الأمر على دفع العدو كان ذلك أولى وإن حصل له في ذلك نوع مشقة فهي أخف من كل مشقة يلتزمها مع بقاء العدو ببلاده والحجج الباطلة هي عدو الحق فهي عدو في قلب الناظر بنفسه لطلب الحق وقلبه كبلاده وهي أيضا عدو له مع المناظر الذي يناظره وسواء كان معاونا أو مغالبا ولهذا ناظر إبراهيم الخليل بمثل هذه المناظرة المتضمنة قياس الأولى وإلزام الخصم على قوله أعظم مما ألزمه هو على قول خصمه كما قال وكيف أخاف ما أرشكتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون قال تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء قال زيد بن أسلم وغيره بالعلم فالعلم بحسن المحاجة مما يرفع الله تعالى به الدرجات وكذلك قال تعالى فيما أمر أن يخاطب به أهل الكتاب قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل
فصل
يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن منافع جميع الموجودات وأما دلالة الاختراع فيدخل فيها وجود الحيوان كله ووجود النبات ووجود السموات وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فطر الناس

أحدهما أن هذه الموجودات مخترعة وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات كما قال تعالى إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له الآية فإنا نرى أجساما جمادية ثم تحدث فيها الحياة فنعلم قطعا أن ها هنا موجدا للحياة ومنعما بها وهو الله تبارك وتعالى وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما ها هنا ومسخرة لنا والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة
وأما الأصل الثاني فهو أن كل مخترع فله مخترع فيتضح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلا مخترعا ل وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات
وكذلك كان واجبا على من أراد معرفة الله تعالى حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وكذلك أيضا من يتتبع معنى الحكمة في موجود موجود عن معرفة السبب الذي من أجله خلق الغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم فهذان الدليلان هما دليلا الشرع
وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز هي مختصرة في هذين الجنسين من الدلالة فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز إذا تصفحت وجدت على ثلاث أنواع
إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية
وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع

وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعا
فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط فمثل قوله تعالى ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا إلى قوله وجنات ألفافا ومثل قوله تعالى تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا إلى قوله تعالى أو أراد شكورا ومثل قوله تعالى فلينظر الإنسان إلى طعامه ومثل هذا في القرآن كثير
وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط فمثل قوله تعالى فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق ومثل قوله تعالى أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت الآية ومثل قوله تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ومن هذا قوله حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه و سلم إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى
فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضا بل هي الأكثر مثل قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون إلى قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون فإن قوله الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون تنبيه على دلالة الاختراع وقوله الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء تنبيه على دلالة العناية ومثل قوله تعالى وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وقوله ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الدلالة

فهذه الدلالة هي الصراط المستقيم الذي دعا الله تعالى الناس منه إلى معرفة وجوده ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم إلى قوله تعالى بلى شهدنا ولهذا قد يجب على من كان وكده طاعة الله في الإيمان به وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية مع شهادته لنفسه وشهادة ملائكته له كما قال تبارك وتعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين دلالة العناية ودلالة الاختراع وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص وأعني بالخواص العلماء وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس وأما العلماء فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان أعني من العناية والاختراع حتى لقد قال بعض العلماء إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط بل

ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط وأن لها صانعا موجودا ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة فيها ولا شك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته
قلت ذكره لهذين النوعين كلام صحيح حسن في الجملة وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها مثلما ذكره في دلالة حركة الفلك وتفسير الآية وتسبيح المخلوقات واستدلال إبراهيم ودليل الأحداث والاختراع يدل على ربوبية الله تعالى ودليل الحكمة والعناية والرحمة يدل على رحمته وقد فتح الله كتابه العزيز بقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم وهذا أجود من طريق المتكلمين طريقة الأعراض وإن كان لم يستقص الكلام في دلالة ثبوت الصانع تعالى ولم يفصل إحداث الجواهر وغير ذلك
مع أن طرق معرفة الصانع بالفطرة والضرورة وبالنظر والاستدلال بنفس الذوات وبصفاته باب واسع ليس هذا موضعه وكثير من يرغب عن طريقة الأعراض يذكر ما في خلق الإنسان أو ما في خلق ما يشهد حدوثه من هذين النوعين من

الحدوث الدال على المحدث والحكمة الدالة على قصد الصانع ورحمته ونعمته بما يدل عليه
وقد ذكرنا ما ذكره الخطابي من كراهة طريقة الأعراض وأنها بدعة محظورة وقد قال في أوائل كتابه شعار الدين القول فيما يجب من معرفة الله سبحانه وتعالى أول ما يجب على من يلزمه الخطاب أن يعلم أن للعالم بأسره صانعا وأنه هو الواحد لا شريك له وقد جرى كثير من عوام المسلمين في هذا على عادة النشوء وحكم الولادة فكان إيمانهم إيمان تلقين وتربية وذلك أنهم يولدون في دار الإسلام ويتربون في حجور المسلمين وينشأون في بلادهم فيتلقنون كلمة التوحيد من الآباء والأمهات ويسمعون الأذان من المؤذنين ويتلون القرآن من الأئمة في الصلوات ومن المعلمين في المكاتب فيستحكم حب الدين في قلوبهم ويعتقدون حسنه وصحته تقليدا فينتفعون به ويقتصرون عليه ودين الإسلام إذا كان موثوقا بصحته مشهودا له بالفضل على كل دين سواه فقد يجب على كل متدين به أن يكون مصلدا اعتقاده إياه عن نظر واستدلال ليكون العلم به أصح والوثيقة به أشد وقد نصب الله تعالى الأدلة وأزاح بها العلة ووسع من وجوهها وكثر من عددها فهي على اختلاف مراتبها في الوضوح والغموض معروضة للاستدلال بها والاستشهاد بمواضعها فلا أحد يعقل من آحاد الناس إلا وله في جليها مستدل وفي واضحها مستشهد وإن كان نزل فهمه عن دقيقها ولطيفها فالواجب على كل من الناس أن يبذل وسعه فيه ويبلغ جهده في دركه فإن الله تعالى يقول والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين

فمن أوضح الدلالة على معرفة الله سبحانه وتعالى على أن للخلق صانعا ومدبرا أن الإنسان إذا فكر في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ولحما فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال لأنه لا يقدر أن يحدث في الحال الأفضل التي هي حال كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة فيدله ذلك على أنه في وقت نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر
فإن قيل إن النطفة قديمة وفيها قوة قابلة للاغتذاء فإذا وقعت في الرحم والطبائع معتدلة قبلت بالقوة التي فيها الاغتذاء والتربية حتى تستوي جارحة ويتم بها خلقه
قيل لو كانت النطفة قديمة كما زعمتم لم يجز عليها الانقلاب والتغيير لأن التغيير والانقلاب من سمات الحدث فبطل أن يكون المنقلب المتصرف قديما
فأما ما ادعوه من قبول النطفة بما فيها من القوة الاغتذاء والتربية فإن ذلك لا ينكر إذا صح العلم به في طريق العادات ولكن الذي ننكره من ذلك أن يكون هذا الفعل للنطفة بذاتها من غير مدبر دبرها لذلك ولو كان هذا جائزا من غير مدبر حكيم عالم قدير يعلم كيف يدبر النطفة ويقلبها أطوارا

ويسوي منها السمع لما يصلح له ويضعه في موضعه والبصر في مكانه الذي يليق به في البدن وكذلك تعليق اليدين العاملتين في موضعهما والرجلين الحاملتين في أخص المواضع بهما ووضع كل شيء من القلب والكبد والطحال وسائر الأجسام في الموضع الذي هو أملك به وأشكل لما أعد له من الفعل لجاز أن يرتفع الماء من إليه ويختلط بالطين ويقع الطين في قالب اللبن وينطبع به ثم يزحف إلى موضع البناء فيرتفع بعضه على بعض فينتضد حتى يكون بناء رفيعا محكما مشيدا من غير بان ولا رافع ساق على ساق بل ينطبع الماء والتراب بنفسهما لا بشيء سواهما فإن لم يكن هذا جائزا لأنه ليس من طبع الماء أن يكون منهما ما وصفت فكذلك غير جائز تركيب الإنسان وتصويره وتخطيطه على ما عليه الإنسان من جنس الصورة وعجيب التركيب بنفس النطفة وطبعها ويجاز على هذا بطبع الخشب وجودة سفينة اجتمعت أجزاؤها واعتدلت وتماسكت وداخل بعضها بعضا وقربت من الساحل معها دقلها وآلاتها يعبر من يريد العبور من سوال سق ثم تعود بنفسها إلى مركزها ومرساها كذلك ويجاز بطبع الماء والنار والتربة أن يوجد حمام في أسفله نار وفي بيوته ماء على غاية الاعتدال في الحرارة والرطوبة من غير بان بناه ومسخن سخنه ومدبر دبره فإن لم يجز شيء مما ذكرناه فليكن مثل ذلك ما ادعوه من النطفة واجتماع خلق الإنسان منها من غير مدبر حكيم دبره وأحكمه
فهذا الدليل يتضمن أن المحدث لا بد له من محدث وأن ما فيه من الحكمة لا بد له من قاصد حكيم

ثم ذكر دليلين في العالم أحدهما حدوث ما يحدث لاختلاف الحركات الطبيعية الدالة على أنه بإرادة كما قد نبهنا أن الإرادة هي أصل جميع الحركات الثاني ما في العالم من الحكمة فقال
دليل ثان أنا رأينا أشياء متضادة من شأنها التباين والتنافر والتفاسد مجموعة في بدن الإنسان وأبدان سائر الحيوان وهي الحرارة والبرودة فعلمنا أن جامعا جمعها وقهرها على اجتماع وأقامها بلطفه ولولا ذلك لتنافرت وتفاسدت ولو جاز أن تجتمع المتضادات المتنافرات وتتقاوم من غير جامع يجمعها لجاز أن يجتمع الماء والنار ويتقاوما من ذاتهما من غير جامع يجمعهما ومقيم يقيمهما وهذا محال لا يتوهم فتعين إنما كان اجتماعهما بجامع قهرهما على الاجتماع والالتئام
دليل ثالث أنك إذا تأملت هيئة العالم يبصرك واعتبرتها بفكرك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منضودة كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائر وضروب النبات مهيئة للمطاعم والملابس والمشارب وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب مستعملة في المرافق والإنسان كالمملك البيت المخول ما فيه وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام وأن له صانعا حكيما تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبه كتاب الله عز و جل على هذا النوع من الاستدلال فقال تعالى وفي أنفسكم أفلا تبصرون إشارة إلى أثارة الصنعة الموجودة في الإنسان من يدين يبطش بهما ورجلين يمشي بهما وعين مبصرة وأذن يسمع ولسان يتكلم به وأضراس تحدث له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ومعدة أعدت لطبخ الغذاء وكبد يسلك إليها صفوه وعروق ومعابر ينفذ منها إلى الأطراف وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز عن أسفل البدن

وقال عز و جل أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت الآية هذا من قريب ما يستدركه العاقل من وجوه الأدله من غير كثير استقصاء في فعل ومعاناة بدقيق فكر وذلك أنه خطاب للعرب ومن سنة العربي أن يركب راحلته فيسير عليها فيما قرب من الأرض باغيا حاجته وفيما يعد عنها ضاغنا في السفر في الحال يكثر في بلادهم فإذا خلا بالمكان لم ير إلا سماءا فوقه وأرضا تحته وجبلا عن يمينه وجبلا عن شماله ومطية هو راكبها فإذا تأمل هذه الأشياء استبان فيها أثر الصنعة ولطف الحكمة مما جمع الله من المرافق فيها أن صانعها لطيف خبير عالم قدير حكيم عليم وقد قيل إن الإبل خصت بالذكر من بين سائر الحيوان وذلك أن الأنعام ضروبها أربعة حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال كلها
وقال سبحانه وتعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون فذكر خلق السموات بما فيها من الشمس والقمر والنجوم وسيرها في أفلاكها الذي يختلف الليل والنهار به ويتبين زيادتهما ونقصانهما ودخول أحدهما على الآخر وأخذ بعضها من بعض فيكون بها انقسام فصول السنة وتعاقب الحر والبرد الذين بأحدهما لقاح الشجر وبالآخر نضج الثمار وذكر الله الأرض التي هي مسكن الحيوان والدواب وفيها قرار البحار التي تجمع المياه التي تحمل السفن والفلك وذكر الريح التي تنشئ السحاب وتجريها إلى حيث أذن لها أن تمطر فيحيي بها البلاد والزرع والأنعام وبها يجري الفلك والسفن في البحار فتصلح بهذه الأمور معايش الناس وتكثر بها منافعهم وباجتماع هذه الأمور ومعاونة بعضها

بعضا يتم صلاح أمر العالم وينتظم وفي ذلك دليل على أن صانع العالم قادر حكيم عالم خبير ووقع ذكر هذه الأمور عقب قوله تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ليدل بها على صدق الخبر عما قد يدلنا به من وحدانيته سبحانه وذكر رحمته ورأفته بخلقه وطرق الاستدلال كثيرة لكنا أخبرنا منها في الكتاب ما هو أقرب إلى الأفهام وذكر تمام الكلام الذي كتبناه في موضعه
واستدلال الناس من جميع الطوائف بما يشهدونه في العالم من الحكمة والنعمة والبرهنة على حكمة ارب ورحمته وإرادته النعمة والإحسان إلى عباده وعنايته كثيرة جدا
وإنما المقصود هنا أن الفلاسفة يصرحون بذلك وهم من أكثر الناس نظرا في حكم الموجودات وقد اعترفوا بما تقدم من أن هذه الموافقة تعلم ضرورة أنها من قبل فاعل قاصد لذلك مريد إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق فعلم أن نفيهم بعد ذلك كونه فاعلا مختارا تناقض منهم
وأيضا فلو لم يتناقضوا لكانت هذه الدلالة مع دلالة الاختصاص كلاهما يدل على الإرادة الاختصاص يدل على إرادة في نفس المفعول وهذا يدل على الإرادة للمفعول ولحكمته فهذه ثلاث طرق
وقد اعتذر ابن سينا ونحوه من المتفلسفة عن هذا فقال في الإشارات بعد أن ذكر حججه على نفي الفعل بالقصد والاختيار إشارة لا تجد إن طلبت مخلصا إلا أن تقول إن تمثل النظام الكلي في العلم السابق مع ترتيبه الواجب اللائق يفيض منه ذلك النظام على ترتيبه وتفاصيله معقولا فيضانه وهذا هو العناية وهذه جملة تهتدى سبيل تفاصيلها

وهذا الكلام أبعد ممن يقول بتخصيص العالم بوقت دون وقت وصفة دون صفة إنما كان لأن العلم القديم تعلق به ذلك الوجه كما قال ذلك طوائف من المتكلمين من الأشعرية وغيرهم كما سيأتي بيانه مثل أن هؤلاء جعلوا العلم مخصصا لما أريد وهؤلاء المتفلسفة جعلوا العلم مخصصا لما لم يرد عندهم والكلام على هذا من وجوه
أحدها أن يقال لا نسلم أن هذا مخلصا ولا أنه واقع ولا ممكن كيف نعلم أنه لا مخلص غيره وهم لم يذكروا حجة على ذلك ولا يمكنهم أن يقيموا عليه حجة أصلا
الوجه الثاني أن يقال العلم أبدا تابع للمعلوم مطابق له ثم قد يكون سببا في وجود المعلوم كالعلم بما يفعله العالم مثلما ذكره من علم الرب تعالى بالنظام الكلي وقد لا يكون سببا كالعلم بالأمور التي لا تكون بفعل الإنسان ولا بقصده ثم من الناس من المتفلسفة ونحوهم من يجعل العلم مطلقا صفة فعليةأو يجعله هو وحده الموجب المعلوم وهو غلط كما سنبينه ومنهم من المتكلمين وغيرهم من يجعله أبدا صفة انفعالية للمعلوم لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة ويقول فيه وفي القول ليس لمتعلقهما منها صفة ثبوتية وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب من القول الأول ففيه تقصير بل الصواب أنه يجتمع في جنسه الأمران إذ الأولون يسلمون أنه عالم بنفسه وهذا ليس مؤثرا في المعلوم والآخرون يقولون الإرادة مشروطة بالعلم وهذا اعتراف بتوقف المفعول عليه لكن المقصود الكلام في العلم الذي له تأثير في المعلوم وهو العلم العملي فنقول
من الأمور المعلومة بالفطرة البديهية الضرورية أن الإنسان إذا عمل عملا بإرادته يجد من نفسه أنه يكون شاعرا بما يريد أن يفعله وأنه مع الشعور لا بد أن يكون

مريدا ولا بد مع هذين أن يكون قادرا عليه ويجد من نفسه أن إحساسه وشعوره يقتضي إرادة الفعل ومحبته وأن له شعورا بما يفعله لأجله وشعورا بالحب والإرادة التي في نفسه لذلك المطلوب وشعورا بالفعل الذي يتوصل به إليه فهذه أربع حقائق مراد مطلوب بالفعل وإرادة في النفس له وفعل موصل إليه وإرادة لذلك الفعل كالطعام مثلا والشعور يتعلق بهذه الأربعة فإنه إذا أخبر بالطعام وهو جائع أحس من نفسه بشهوته ومحبته فأراد أكله ومقصوده بذلك وجود لذة الأكل ودفع ألم الجوع وهو يفرق بين نفس الأعيان واللذة بها وبين إرادة ذلك ثم يريد الأكل الموصل إلى المطلوب ويفعل هذا الفعل وهكذا في شهوة النكاح وهكذا في جميع الأفعال من العبادات وغيرها والعلم سابق للإرادة والعمل في ذلك كله فإنه مثلا يعرف الله تعالى وثوابه وعقابه فيصير في قلبه محبة له أو لثوابه الملائم له فالله تعالى هو مقصوده ومعبوده وهو يريد التنعم بما يحصل له من النعيم المتعلق بذاته تعالى كالنظر إليه ومن مخلوقاته مثل موجودات الجنة فكلاهما مقصود له وقصد هذا مستلزم هذا كتلازم قصد الأعيان المطعومة وقصد لذة الأكل ثم يريد الأعمال الموصلة إلى ذلك ويعملها ومن المعلوم أن نفس العلم بالمعلومات لا يغني عن إرادة ذلك والقدرة عليه فمن ادعى أن مجرد العلم كاف في حصول المعلومات كان مكابرا مباهتا فإنه في المشاهد منتف قطعا وأما في الغائب فغايته أن يعلمه بنوع شيء قياس الشمول أو التمثيل

فصل
ذكر ابن سينا فقال تنبيه أتعلم ما الملك الملك الحق هو الغني الحق مطلقا ولا يستغني عنه شيء ومن شيء وله ذات كل شيء لأنه منه أو ما منه ذاته فكل شيء غيره فهو مملوك وليس له إلى شيء فقر

قال الرازي الغرض منه ذكر ماهية الملك ويعتبر فيها أمران أحدهما سلبي وهو أن يكون غنيا مطلقا عن كل ما عداه وثانيهما إضافي وهو أن يفتقر إليه كل ما عداه بواسطة أو بغير واسطة
قلت هذه الجملة متفق عليها بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل المشركون من العرب وغيرهم يقرون بها كما قال تعالى وتقدس قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله قل فأنى تسحرون والأكثرون يقرأون الآخرتين سيقولون لله كما اتفقوا على أن جواب الأول سيقولون لله وهو جواب مطابق لمعنى اللفظ لأن معنى قوله قل من رب السموات السبع ومن بيده ملكوت كل شيء أي لمن ذلك فكان الجواب بقوله سيقولون لله هذا بيان لأن المشركين يقرون بأن ملكوت كل شيء لله وذلك مبالغة في الملك فإن الملكوت أبلغ من لفظ الملك وما ذكروه من ذلك يتضمن غناه عن كل شيء وفقر كل شيء إليه فهو حق لكنه يتضمن أكمل من ذلك من العلم والقدرة والتدبير على وفق المشيئة والإرادة وغير ذلك من المعاني التي تبين أن هؤلاء الفلاسفة لا يجعلونه ملكا حقا وكيف يكون ملكا عندهم من لا يقدر على إحداث شيء ولا دفع شيء ولا له تصرف لا بنفسه ولا في غيره بوجه من الوجوه بل هو بمنزلة المقيد بحبل معلق به من لا يقدر على دفعه عن نفسه وما يثبتونه من غناه وافتقاره ما سواه إليه يتناقضون فيها فإنهم يصفونه بما يمتنع معه أن يكون غنيا وأن يكون إليه شيء ما فقير لكن ليس المقصود

هنا كشف أسرار أقاويلهم وإنما المقصود التنبيه على فساد حججهم التي خالفوا بها أهل الملل في هذا ونحوه وأنهم يتكلمون بجهل بسيط أو مركب
فيقال إن كان المقصود إن الله يستحق أن يسمى ملكا حقا لثبوت هذا المعنى فلا ريب أنه قد سمى نفسه ملكا حقا ولا ريب أن هذه المعاني داخلة في ضمن هذا الاسم وأكثر منها في صفات الكمال الثبوتية وتنزيهه عن النقائص لكن في هذا ما يدل على أنه ليس له إرادة وقصد إلا أن يحتج على ذلك بأن لفظ الغني ينفي ذلك أو أن ذلك يقتضي فقرا إلى الغير وقد تقدم الكلام على ذلك وتبين أن ذلك مع أنه لا فقر فيه إلى غيره فالذي يذكرونه يستلزم من المحاذير أعظم مما فروا منه من وجوه بل سلب ذلك هو الذي يقتضي أن يكون فقيرا بل معدوما بل ممتنعا لذاته كما هو مقرر في موضعه
فصل
ثم قال ابن سينا في تقرير نفي الإرادة والحكمة المقصودة تنبيه أتعرف ما الجود الجود هو إفادة ما ينبغي لا لغرض فلعل من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد ولعل من يهب ليستعيض معامل فليس بجواد وليس العوض كله عينا بل وغيره حتى الثناء والمدح والتخلص من المذمة والتوصل إلى أن يكون على الأحسن أو على ما ينبغي فمن جاد للشرف أو ليحمد أو ليحسن به ما يفعل فهو مستعيض غير جواد فالجواد الحق هو الذي يفيض منه الفوائد لا لشوق منه وطلب قصدي لشيء يعود إليه واعلم أن الذي يفعل شيئا لو لم يفعله لقبح به أو لم يحسن منه فهو بما يفيده من فعله متخلص

وقال أبو عبدالله الرازي في تفسير ذلك الغرض منه بيان ماهية الجود وحده أنه إفادة ما ينبغي لا لغرض وهذا فيه قيود ثلاثة
أحدها الإفادة فإن من لا يفيد شيئا لا يكون جوادا
وثانيها أن يكون المفاد مما ينبغي إفادته فإن من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد
قال واعلم أن لفظة ينبغي لفظة مجملة فإنه يراد بها تارة الحسن العقلي كما يقال العلم مما ينبغي والجهل مما لا ينبغي لكن الحكماء لا يقولون بالحسن والقبح العقليين وقد يراد بهما الإذن الشرعي كما يقال النكاح مما ينبغي والسفاح مما لا ينبغي أي النكاح مأذون فيه شرعا والسفاح ممنوع منه شرعا وهذا التفسير أيضا لا يليق بالحكماء وليس لهذه اللفظة معنى ملخص سوى هذين المعنيين فظهر الإجمال من هذه اللفظة
وثالثها أن لا تكون الإفادة لعوض فإن من يهب ليستعيض معامل سواء كان العوض عينا أو ثناءا أو مدحا أو تخلصا عن الذم أو أن يكون فاعلا للأليق والأحسن ثم أنه لما مهد هذه القاعدة قال فالجواد الحق إلى آخره ومعناه ظاهر
قال ولقائل أن يقول القصد إلى إيصال الفائدة إلى الغير لو لم يكن معتبرا في الجواد لوجب أن يقال الحجارة إذا سقطت من السقف ووقعت على رأس عدو إنسان ومات ذلك العدو أن تكون تلك الحجارة جوادا مطلقا لأنه حصل منها ما ينفي العوض فإن التزم كون الحجر جوادا مطلقا وقال هذا هو الجود وإن كان شنيعا في المشهور فنقول له الذي عولت عليه أيضا ليس

حجة برهانية بل كلاما إقناعيا خطابيا فإن غاية كلامك أن كل ما غرضه في الإفادة أن كون فاعلا للأولى كان غرضه من الإفادة تخليص نفسه من الذم فهذا ضعيف لأنه يقال إن عنيت بقولك إنه يخلص نفسه من الذم لأن غرضه من فعله أن لا يصير مستحقا للذم مع علمه أنه لو لم يفعله لا يستحق الذم فلم قلت إن ذلك محال وهل هذا الا الزام للشيء على نفسه وإن عنيت به معنى آخر فبينه لنتكلم عليه فصح أن الحجة التي ذكروها لا تصير على السبك والنظر والحق لكنها حجة إقناعية وإذا كان كذلك كانت الحجة التي ذكرناها تصلح معارضة لها
قلت هذه الحجة من جنس التي قبلها في اسم الغني وأفسد منها ويظهر ذلك بوجوه
أحدها أن يقال هذه الحجة مبنية على مقدمتين
إحداهما أن الحق مسمى بأنه جواد
والثانية أن تفسير الجواد هو ما ذكرته ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة أصلا لا بينة ولا شبهة فكان ما ذكرته مجرد دعوى لبست بها على الناس كما لبست بقولك انه غني وإن الغني هو من يكون كذا ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة لكن هناك ادعيت أن ثبوت الإرادة مستلزم للفقر إلى غيره وقد ثبت أنه واجب الوجود فلا يكون مفتقرا إلى غيره وهذه الحجة وإن كان قد تبين فسادها فلم تذكر في اسم الجواد حجة نظيرها بل كان هذا دعوى مجردة إذ لا يمكن أن يقول واجب الوجود يجب أن يكون جوادا كمال قال يجب أن يكون غنيا

الثاني أن يقال لا ريب أن الله عند أهل الملل كريم جواد ماجد محسن عظيم المن قديم المعروف وأن له الأسماء الحسنى التي يثنى عليه فيها بإحسانه إلى خلقه لكن وإن كانت هذه الحجة مبنية على تسليمهم ذلك فليست حجة عقلية بل جدلية وهذا ليس بفلسفة
الثالث أن يقال هم إذا سموه بهذه الأسماء الحسنى سموه بها بالمعنى الذي يفسرونه به بالذي لا ينافي إرادته ورحمته بل عندهم نفس الرحمة التي نفيتها أنت لنفيك الإرادة أو إرادة الإحسان إلى عباده هي عندهم تدل على الإحسان والجود بلا نزاع بينهم لكن طائفة من نفاة الصفات يجعلون الرحمة هي نفس الإحسان وإن وافقهم على ذلك بعض الصفاتية حتى بعض أصحاب أحمد رحمه الله وطائفة كبيرة من الصفاتية يقولون الرحمة تعود إلى إرادة الإحسان وهذا قد يقوله بعض أصحاب أحمد والذي عليه أئمة الصفاتية وجمهورهم أن الرحمة صفة لله ليست هي الإرادة كما قال إن السمع والبصر ليس نفس العلم
والمقصود أنك احتججت بموافقتهم لك على إطلاق الاسم فإن كنت تحتج بالموافقة على معناه لم يكن لك حجة لأنهم متفقون على أن معنى هذا الاسم عندهم لا ينفي ما تنفيه أنت في إرادته وغير ذلك وإن كنت تحتج بمجرد الموافقة على اللفظ مع التنازع في معناه فهذه حجة فاسدة جدا لأنهم أطلقوا الاسم بمعان فادعيت أنت أنه كان ينبغي أن يريدوا بهذا الاسم معان أخر وهذا من جنس أن يقال كان ينبغي أن يعنوا بلفظ الإحسان كذا وبلفظ الحركة وبلفظ الفعل كذاونحوذلك من المعاني التي لم يريدوها بذلك اللفظ وحاصله أنه اعتراض على اللغة بأنه كان يجب أن يعنى بألفاظها من المعاني أمورا أخر ولا ريب أن هذا اعتراض فاسد على اللغة فضلا أن يكون حجة في المعاني العقلية الإلهية

الرابع أن يقال هب أنه سلم لك أن اللفظ كان ينبغي أن يستعمل في المعاني التي ذكرتها لكن هم إذا لم يستعملوها إلا في المعاني التي قصدوها لم يكونوا موافقين لك على ما ادعيته من المعنى وإن قصروا في العبارة فيكون ما أثبته من المعنى أثبته بلا حجة علمية ولا جدلية بل مجرد الدعوى وهذا بين واضح ولله تعالى الحمد
الخامس أنه لو احتج على هذا بدليل سمعي مثل أن يثبت بالنص أنه جواد لم يفسره بهذا المعنى لم يصح ذلك أيضا لهذين الوجهين أحدهما أن الأدلة التي يذكرها ليست سمعية شرعية وهو يعترف بذلك فلا يقبل منه أن يذكر دليلا سمعيا ويدعي أنه عقلي مع أن هذا الاسم ليس في القرآن وإن جاء في بعض الأحاديث الثاني أن المرجع في ثبوت هذه الأسماء عن الشارع وفي بيان معناها إلى من نقل عنه القرآن والحديث لفظه ومعناه وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين تلقوا الإيمان والقرآن والحديث بعضهم عن بعض حتى يصل إليه أو أخذ ذلك هو بلغته التي كان يخاطب بها ولا ريب أن الفلاسفة من أبعد الناس عن ذلك ولو ادعوا نقلا عن المرسلين اللفظ ولمعناه من غير رجوع في ذلك إلى أهل العلم بأثارة المرسلين لم يكن ذلك مقبولا باتفاق العقلاء ثم كيف يصح أن يحتج محتج بمثل هذه الدلالة الضعيفة على نفي إرادة الله تعالى والقرآن مملوء من إثبات إرادته ومشيئته ورحمته وحكمته ولو قدر أنه يتناول ذلك كان من المعلوم بالاضطرار لكل أحد أن ما ذكره ليس فيه ظهور يحتاج إلى تأويل بل هو أبعد من ذلك فكيف يتأول النصوص والظواهر لأجل ذلك وإنما غاية المتأول أن يدعي معارضة المعقولات للسمعيات ونحن قد بينا أن هذه الحجة ليست من المعقول قبل بل هي مع كونها سمعية لفظية فهي دعوى مجردة بل كاذبة كما سنبينه

الوجه السادس أن يقال له هذا الحد الذي ذكرته في الجود حين قلت إن من جاد ليشرف وليحمد وليحسن به ما يفعل فهو مستعيض غير جواد فهذا التفسير عمن نقلته ومن ذكره من أهل التفسير للنصوص أو من أهل اللغة العربية بل من سائر لغات الأمم وإن كان ذلك لا ينفعه إن لم يبين معنى هذا اللفظ العربي في لغة العرب ومن المعلوم أن هذا لم يقله أحد من أهل العلم بالنصوص الشرعية واللغة العربية فصار ذلك افتراءا على النصوص واللغة
الوجه السابع أن يقال اسم الجواد يقال على كثير من المخلوقين مع انتفاء هذه المعاني عنهم فلو كان هذا المعنى داخلا في هذه الاسم لم يصح إطلاقه على مخلوق إلا مجازا أو بطريق الاشتراك وكلاهما مع كونه خلاف الأصل إنما يكون إذا ثبت استعمال اللفظ في المعنى مجردا فكيف وأصل الاستعمال منتف
الوجه الثامن أن يقال المعروف في الشرع واللغة والعقل أن الذي يفعل أو يفيد ما ينبغي لا لمقصود أصلا عابث وإن كان لا لمقصود يعود إلى نفسه فهو سفيه أو جاهل وكلاهما مذموم في الشرع والعقل بل يستحق في الشرع أن يحجر عليه وهو من أسو المبذرين حالا فإن من المبذرين من يبذل المال لأغراض محرمة وإن كان فيها ما هو مقصود له فأما من يبذل ما ينبغي لا لمقصود أصلا فهذا إن كان موجودا فهو مذموم واسم الجود في الشرع واللغة والعقل اسم مدح فيستحيل أن يفسر بما لا يكون عند الناس إلا مذموما
بل يقال في الوجه التاسع هذا المسمى لا يعرف وجوده أصلا فليس في الموجودات ما يفيد وينفع لا لمقصود أصلا حتى الحركات الطبيعية لحركتها منتهى ومستقر هو منتهى ميلها ويسمى ميلها إرادة وقد جعلوهم عشقا لذاك الكمال وإذا

كان هذا المسمى معدوما والاسم معروفا في الشرع واللغة لأعيان موجودة امتنع أن يكون مسماه ما ذكره
بل يقال في الوجه العاشر إن ما ذكره ممتنع لذاته ولهذا هم يسلمون أنه ليس في الموجودات ما هو كذلك إلا ما يذكرونه في واجب الوجود وهم متناقضون في ذلك فيصرحون تارة أنه يفعل لقصد منه للغاية ورحمة منه وتارة يقولون ليس له إرادة ولا قصد وإن كانوا متناقضين في ذلك تبين أن أحدا من العقلاء لم يستقر قوله على إثبات موجود بهذه الصفة التي سموها جودا
الوجه الحادي عشر أن يقال الجود إفادة ما ينبغي لا لغرض هو كلام مجمل يحتمل الحق والباطل بل الظاهر منه للناس هو الحق الذي لم يرده فإنه يقال لك العوض المعروف في الشرع واللغة والعرف والعقل هو ما يبذله أحد المتعاوضين للآخر في مقابلة ما بذله الآخر له كثمن المبيع وأجرة الأجير وثواب الهدية ومكافأة النعمة ونحو ذلك فلا ريب أن من أعطى غيره ليعطيه ذلك الغير عوضها فهذا مستعيض وليس بجواد ولهذا يفرق الفقهاء بين عقود المعاوضات والتبرعات بنحو هذا الفرق ولهذا قال المخلصون إنما نطعمكم لوج الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا فأخبروا أنهم لا يريدون من المنعم عليهم لا جزاء ولا شكورا ولم يقولوا لا نريد ذلك من أحد لا من الله ولا من غيره فإن هذا إما ممتنع وإما سفاهة ولهذا كان المحققون للإخلاص لا يطلبون من المحسن إليه لا دعاءا ولا ثناءا ولا غير ذلك فإنه إرادة جزاء منه فإن الدعاء نوع من الجزاء على الإحسان والإساءة كما جاء في الحديث من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه وقال الشاعر

ارفع صغيرك لا يجزيك ضعفه ... يوما فتدركه العواقب قد نمى ... يجزيك أو يثني عليك وإن من ... ثنى عليك بما فعلت فقد جزى ...
وأيضا كانوا إذا كافأهم المعطي بدعاء وغيره قابلوه بمثل ذلك ليبقى أجرهم على الله تعالى ولا يكونوا قد اعتاضوا عنه كما كانت عائشة رضي الله عنها إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للمرسل اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم مثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على الله تعالى فهذا أو نحوه غاية ما يقدر من الجود المعروف فأما جود أهل الجاهلية ونحوهم ممن يقصد به الثناء عليه ولو بعد موته فذاك دون هذا
وأيضا فإن الإنسان قد يحب بنفسه فعل الخير والإحسان ويتلذذ بذلك لا لغرض بل يتلذذ بالإحسان إلى الغير كما يتلذذ الإنسان بلذاته المعروفة وأشد وإن لم يصل إليه نفع لذته بالإحسان كما أن النفوس الخبيثة قد تلتذ بالإساءة والعدوان وإن لم يحصل لها بذلك منفعة ولا دفع مضرة فهذا أيضا موجود وصاحبه من أهل الإحسان والجود فأما أن يكون في الوجود من يفعل فيه ولا لمعنى في غيره فهذا لا حقيقة له أصلا وقد علم أن أهل الشرع واللغة وسائر العقلاء الذين يقولون الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض أصلا إنما يريدون به عوضا يكون في مقابلة العطية إما من المعطي أو ممن يقوم مقامه كمن يبذل لغيره مالا ليعتق عبده أو يخلع امرأته أو يفك أسيره
وبالجملة فالعوض الذي ينافي الجود يشترط فيه أمران أحدهما أن يقصده

4 - المعطى والثاني أن يقصده من المعطى وممن يقوم مقامه فأما من طلب العوض من الله تعالى أو أحسن للتذاذه هو بالإحسان فهذا لا ينافي الجود باتفاق العقلاء بل لو طلب الثناء من عباده ونحوهم لم يمتنع أن يسميه الناس جوادا كما سموا حاتما جوادا وغيره من أهل الجاهلية بالجود وإن كانوا قد يقصدون البسمعة والثناء في الخلق
الوجه الثاني عشر قوله ولعل من وهب ليستعيض معامل وليس بجواد وهذا فيه من الإجمال ما تقدم فإن معنى العوض الذي يمنع الجود في الشرع واللغة والعرف وعقول جميع الآدميين أخص من العوض الذي ادعاه بقوله وليس العوض كله عينا بل وغيره من الثناء والمدح والتخلص من الذم والتوصل إلى أن يكون علىالأحسن وعلى ما ينبغي فيقال له لا نسلم أن من أعطى لينال حمد الله وثناءه عليه أو التخلص من ذم الله تعالى لا يكون جوادا بل هذا جواد باتفاق الأنبياء والمرسلين وجميع عباد الله المؤمنين وسائر أهل السموات وأهل الأرضين وكذلك من وهب ليكون ذلك أقرب إلى الله تعالى وأحسن له عنده وأعلا لدرجته أو ليكون عند الله على ما يبنغي فلا نسلم أن هذا ليس بجواد وكذلك أهل كل لغة سواء كانوا مسلمين أو كفارا بل من وهب لينال ما هو عندهم أحسن وأعلى ولينال الحمد والثناء من الجناب الأعلى لشيء يليق به عندهم أن يطلب منه الحمد والثناء فهو جواد عندهم فقوله من جاد ليشرف أو ليحمد أو ليحسن ما يفعل فهو مستعيض غير جواد ليس بمسلم ولا دليل عليه
بل يقال في الوجه الثالث عشر هذا جواد باتفاق العقلاء من جميع الأمم وهذا هو الجود قال تعالى إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها وقال وما يفعلوا من خير فلن يكفروه وقال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا

5 - يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقال إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها وقال ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل وقال مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء وقال وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ويروى عن علي أو غيره أنه قال ما أحسنت إلى أحد وما أسأت إلى أحد إنما أحسنت إلى نفسي وأسأت إلى نفسي وعمل ذلك لأجل الله تعالى نهاية المطلوب قال كل من الرسل ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين وقال وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى
الوجه الرابع عشر أن هذا الاسم بعينه لم يجئ في أسماء الله تعالى التي في القرآن ولا في الأحاديث المشهورة في الصحيحين وإن كان قد جاء بمعناه أسماء أخر كالكريم والاكرم والوهاب وما يستلزم هذا المعنى كالرحمن الرحيم والرب وغير ذلك لكن هذا الاسم جاء ذكره في الحديث حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم عن الله وقد رواه مسلم لكن هذا الاسم جاء في رواية الترمذي وابن ماجة فيه يقول الله تعالى يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر غمسة واحدة وذلك أني جواد ماجد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون وروى هناد بن السري عن أبي معاوية عن حجاج عن سليمان

6 - ابن سحيم عن طلحة بن عبدالله بن كريز قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله جواد يحب الجود وقال أهل العلم الجواد في كلام العرب معناه الكثير العطاء يقال منه جاد الرجل يجود جودا فهو جواد قال أبو عمرو بن العلاء الجواد الكريم تقول العرب فرس جواد إذا كان غزير الجري ومطر جواد إذا كان غزيرا قال عنترة ... جادت عليها كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم ...
وجاء في الحديث في وصفه المطر الذي استسقاه الرسول صلى الله عليه و سلم فما جاء أحد من جميع النواحي إلا أخبر بجود وفي حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم في الثلاثة الذين يقضى الله عليهم يوم القيامة أولا ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن أنفق فيها إلا أنفقت فيها قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه في النار فهذا الحديث الصحيح يدل على أن قولهم جواد مثل قولهم كريم كما قال أبو عمرو فقد ثبت فيه بالنص وقول أهل اللغة إن المخلوق يسمى جوادا وإن كان إنما يفعل لمصلحة له وإنما يفعل بإرادته
الوجه الخامس عشر أن تسمية الرب سبحانه وتعالى جوادا وإن كان قد قيل هو بمعنى كونه كريما فالاسم الكريم يتناول معاني الجود فإن فيه معنى الشرف والسؤدد ومعنى الحلم وفيه معنى الإحسان

7 - ومن تأمل مقالات أهل الفلسفة والكلام ومن يضاهيهم في هذا الأصل وجدهم عامتهم مضطربين فيه كل منهم وإن أثبت نوعا من الحق واعتصم به فقد كذب بنوع آخر من الحق فتناقض وأكثر عقول الناس تبحث دون تأمل هذا إذ أحدهم يرى نفسه إما أن يقول حقا ويقول ما ينقضه أو يقول حقا ويكذب بحق آخر وتناقض القولين باطل والتكذيب بالحق باطل والحق الصريح لا يرى قلبه يستطيع معرفته كما لا يستطيع أن يحدق بصر عينه في نور الشمس بل كما لا يستطيع الخفاش أن يرى ضوء الشمس وقد قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
والمقصود هنا بيان تناقض الدهرية وفساد حجتهم

فصل
المشهور بين أهل السنة والجماعة أنه لا يقال في صفات الله عز و جل كيف ولا في أفعاله لم وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن السلف والأئمة نفوا علمنا الآن بكيفيته كقول مالك رحمه الله الاستواء معلوم والكيف مجهول لم ينفوا أن يكون في نفس الأمر له حقيقة يعلمها هو وتكلمنا على إمكان العلم بها عند رؤيته في الآخرة أو غير ذلك لكن كثيرا من الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون أن يكون له ماهية وحقيقة وراء ما علموه وكذلك إذا قلنا لا يقال في أفعاله لم فإنما نفينا السؤال بلم وذلك ينفي علم السؤال بالحكمة الغائية المقصودة بالفعل التي تصلح أن تكون جواب لم وهي المقرونة باللام في قول المجيب لكذا وهي التي تنصب على المفعول له إذا حذفت اللام بأن تكون العلة مصدرا فعلا لفاعل الفعل المعلل ومقارنة له في الزمان كما تقول فعلت هذا ابتغاء وجه الله ونحو ذلك لكن اللام تقرن بها نفس

8 - الحكمة المقصودة قصدها فيقال فعلت هذا لله ولابتغاء وجه الله وأما مع حذف اللام فلا يكون المنصوب إلا ما يقوم بالفاعل من الباعث له كالإرادة والكراهة وما يستلزم ذلك كما يقال قعد عن الحرب جبنا لأن الجبن يتضمن البغض والكراهة وكما يقال ... واغفر عوراء الكريم ادخاره ... واعرض عن ذم اللئيم تكرما ...
فإن ادخاره يتضمن قصد الانتفاع به والتكرم يتضمن صون النفس عن التأذي بشتمه
لكن قولهم لا يقال في أفعاله لم لا ينفي ثبوت الحكمة التي تكون مقصودة له في نفس الأمر ولا كونه مريدا لها قاصدا وإن كان ذلك ينفيه من ينفيه من نفاة التعليل ومثبتيه ولهذا قال بعض علماء السلف إن الله علم علما علمه العباد وعلم علما لم يعلمه العباد وإن القدر من العلم الذي لم يعلمه العباد ورووا في قصة سؤال موسى العرش وعيسى للرب أو تعظيم أنه لو أراد أن يطاع لأطيع وقد أمر أن يطاع وهو مع ذلك يعصى ومضمون السؤال لو أردت هذا لكان واقعا لأنك قادر عليه فما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ثم قد أمرت به والأمر يستلزم محبته وطلبه فهلا كان المحبوب المطلوب قد أريد وقوعه فأوحى الله تعالى إليهم أن هذا سري فلا تسألوني عن سري وأن المسيح قال للحواريين القدر سر الله فلا تكلفوه
والمقصود التنبيه على أن العقول تعجز عن إدراك كنه الغاية المقصودة بالأفعال كما تعجز عن إدراك حقيقة الفاعل ولكن نفي الشيء غير نفي العلم به

9 - ونفي هذه الحكمة المقصودة لظن أن ثبوتها يستلزم قيام الحوادث المستلزمة حدوثه به واستكماله بغيره المقتضي حاجته ونحو ذلك هو نظير صفاته الثابتة بالفطرة والشرع والعقل لظن أن ثبوتها يستلزم حدوثه أو يستلزم افتقاره إلى غيره فما توهمه النفاة المكذبون من المتفلسفة والمتكلمين من أن ثبوت الأفعال أو حكمها يستلزم حدوا وحاجة هو من جنس واحد وكل منهم يلزمه فيما أثبته أعظم مما فر منه هو لم يثبت إلا هذا الموجود المحسوس بلا صانع أصلا بل كلما كان أقل إثباتا كانت المحذورات فيما يثبته أعظم وأعظم لأن الإثبات إذا قل قلت صفات الكمال وكان ما يلزمه من النقائص وما يتوهم أنه مستلزم للحوادث والفقر أعظم وأعظم فيلزمه اجتماع هذه الأمور مع نقيضها من القدم والوجوب
فليتدبر المؤمن العلم بهذا الأصل الجامع العظيم فإنه من أعظم ما يهدي به الله تعالى إلى الصراط المستقيم
ثم قالوا في جواب ما ذكروه من إبطال الغرض قوله في الوجه الثاني في إبطال هذا القسم إن كل من فعل فعلا لغرض فهو أحسن من ذلك الغرض
قلنا القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا غير علمية بل خطابية فلا يمكن بناء القواعد العلمية عليها على أننا ننقض هذه القضية بالراعي فإنه ليس أخس من الغنم وبالنبي فلأن أمته ليسوا بأشرف منه فهكذا هنا
وهذا جواب ضعيف وقد تعلمه من ابن سينا فإنه هو القائل في الشفاء إن القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا خطابية وليس الأمر كذلك فإنه من المعلوم ببديهة العقول أن الشيء إذا لم يقصد به إلا أن يكون وسيلة

0 وطريقا إلى غيره فالذي هو المقصود بذاته يجب أن يكون أكمل في الوجود من الذي ليس يراد منه إلا أن يكون وسيلة إلى غيره والمعني بالشرف كمال الوجود وبالخسة نقص الوجود وهذا أمر معقول بل على مثل ذلك تبنى عامة البراهين الصحيحة بل معرفة الفطرة بمثل هذه القضية أبين عندها من كثير من القضايا البديهية لأنه يجتمع فيها العلم والحب فتبقى معلومة بالعقل موجودة مذوقة بوجد القلب وذوقه وإحساسه فتكون من القضايا العقلية المحسوسة بالحس الباطن وإلا فهل يقول عاقل إن الموجود الذي يكون وجوده أكمل من غيره لا يقصد به إلا أن يكون وسيلة إلى الموجود الذي هو دونه وأنقص منه
وأما ما ذكره من التمثيل بالنبي والراعي فيقال منشأ الغلط في مثل هذا هو اشتباه المقصود بالقصد الأول بالمقصود بالقصد الثاني وذلك أن الراعي ليس مقصوده الأول برعاية الغنم مجرد نفعها بدون غرض يحصل له هو من ذلك بل إنما يقصد أولا ما كان مصلحة له ونفعا وكمالا إما تحصيل الأجرة وهو المال الذي ينتفع به ويقضي به حاجاته أو يتشرف وإما رحمة للغنم وإحسانا إليها ليدفع عن نفسه الألم الحاصل لنفسه إذا كان الحيوان محتاجا متألما وهو لا يزيل ألمه أو لتحصل له العافية والرحمة من هذا الألم ويحصل له تنعم وفرح وسرور بالإحسان إليها أو أن تكون به أو لصديقه أو لقريبه فيقصد برعايته ما يحصل له له من المنفعة والفرح والسرور وزوال الضرر بمثل ذلك وكذلك النبي صلى الله عليه و سلم فإنه بالإحسان إلى الأمة إنما يقصد ما يناله من التقرب إلى الله تعالى وعبادته والإحسان إلى عباده من أنواع المطالب والمقاصد التي هي أشرف وأعظم من فعله بهم فمطلوبه ومقصوده أعظم من العباد الذين ينفعهم فأما أن تكون الغاية المقصودة له بذاتها هي مجرد نفعهم من غير مقصود آخر يكون أشرف من هذا فهذا إنما يقوله جاهل شديد الجهل بالمقاصد والنيات

1 - وقد أجاب طائفة ثالثة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم كابن الهيصم في كتابه المسمى بجمل الكلام وكالقاضي أبي يعلى الصغير في كتابه المصنف في أصول الدين عن سؤال الحكمة بجواب خير من جواب هذين كما أن هؤلاء أيضا قالوا في سبب الحوادث خيرا من قول هذين وإن كان الجميع مقصرين في الأمرين جميعا وقالوا العلة فيه استدعاء الحمد والتعظيم من عبيده وذلك أن الحكمة تستحسن استدعاء الحمد من مستحقه واستدعاء التعظيم ممن هو أهله كما أنه يسحسن طلب المحامد من عدمها ألا ترى أنه من عدم المعاني التي يستحق عليها الحمد والتعظيم كيف يحسن في الحكمة أن يبذل الوسع في طلبها ولذلك حسن منا طلب العلوم ومكارم الأخلاق فأما الله تعالى فقد كان كامل العلم والقدرة والجود والكرم فخلق العالم وأسكنه أهل التمييز يستدعي بذلك حمدهم له وتعظيمهم إياهه وعلى ذلك يخلد من يخلده منهم في الجنة أبد الآبدين قال الله تعالى له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون
قالوا والدليل على أن وجه حكمة الله في خلق هذا العالم أن يدل على صفاته التي توجب تعظيمه وأن يستدعي الحمد له أن هذا الوجه من القصد حسن مقبول عند كل عاقل وليست المنافع كذلك من قبل أن المتقدمين والمتأخرين قد اختلفوا في المنافع هل هي حاصلة في أنفسها أم لا وذلك يدل على أن المنفعة ليست صريح الحكمة والحسن لاشتباه ذلك على من عرفها وثبت أن صريح الحكمة والحسن استدعاء الحمد والتعظيم من مستحقها إذ كان هذا الوجه في تشبيه على ذي عقل

2 - قالوا وقد قال الله تعالى جل جلاله فيما وصف أهل الجنة وله الحمد في الأولى والآخرة وقال وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وإذ قد جعل حمدهم إياه آخر ما يحشرهم إليه بكلية هذا التدبير ثبت أنه الغرض من خلق الكل وقال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون يعني ليعبده منهم البعض فتكون عبادتهم وتعظيمهم إياه عوضا عن جملة ما خلق ممن عبده وممن لم يعبده وذلك أن من لم يعبد صار سببا لعبادة من عبد ولذلك صح أن تكون عبادة من عبد غرضا من كلية هذا التدبير
قالوا وفي تكليف من علم أنه لا يطيع لم يكن غرضه من تكليفه إياه أن يتأدى إلى حسن حال يخصه في عاقبة أمره بل أخر تكليفه ذلك إلى غرض صحيح وليس يجب أن يكون غرضه في تكليف كل واحد من المكلفين ما يعود إلى حسن حال يخصه وما ينتفع به فيعاقبة أمره بل الذي يجب أن يكون غرضه من ذلك أمر هو صحيح في الحكمة كما أنه خلق الجماد ولم يكن غرضه من خلقه أن يتأدى به خلقه إلى منفعة تخصه في نفسه وإنما خلقه لغرض آخر وذلك أنه أظهر بتكليف من هلك ضربا من تدبيره واستدعى بذلك محامد من علم أنهم يعتبرون به ونفع بتكليفه غيره ممن علم أنهم ينتفعون بذلك وهو إنما هلك بسوء اختياره فكان تكليفه حسن إلا أن أمره له بالإيمان والطاعة والشيء الذي كلف فعله حسن لأنه كلفه أن يؤمن ويطيع والذي عرض له أيضا حسن لأنه عرض لنعيم الجنة فأما الغرض من تكليفه فلم يكن حسن حال يخصه في عاقبته إذ قد علم أنه يهلك بسوء اختياره وإنما كان الغرض منه صلاح ضرب من التدبير علمه فيه ولولا ذلك لم يكن ليكلفه
قلت وليس المقصود هنا بيان ما يجب أن يقال في حكمة الله تعالى ومشيئته ورحمته وما يستحقه من الصفات والأفعال إذ لكل مقام مقال

3 - ولكن الغرض بيان ممانعة الجهمية والدهرية وعجز كل طائفة عن تصحيح قولها لاشتراك الطائفتين في جحد أصول فطرية ضرورية جاءت الرسل بكمالها وتمامها وشهدت بها الأقيسة الصحيحة وأن الجهمية عاجزون عن الجواب عن شبه الدهرية على أصولهم وأن الدهرية عن الجواب عن حجج الجهمية على أصول أنفسهم أعجز وأن حجة كل واحدة من الطائفتين باطلة على أصل نفسه كما هي باطلة على أصل خصمه فإذا كانت حججهم باطلة على الأصلين وجوابهم عن حجج خصومهم باطل على الأصلين كما أن ذلك أيضا باطل على الأصول الصحيحة ظهر مع بطلان أصولهم عظم تناقضهم من كل وجه
وقد تقدم أن هذه الحجة حجة الحكمة والغرض للفعل احتج بها الدهرية وذكرنا أنهم يعارضون بها على كل قول يقولونه فتبين أن الذي يلزمهم أعظم مما فروا منه
ونقول قد تبين أنهم معترفون بما هو مشهود معلوم من ظهور الحكمة التي في العالم التي يسمونها العناية والفلاسفة من أعلم الناس بهذا وأكثر الناس كلاما فيما يوجد في المخلوقات من المنافع والمقاصد والحكم الموافقة للإنسان وغيره وما يوجد من هذه الحكمة في بدن الإنسان وغيره سواء كانوا ناظرين في العلم الطبيعي وفروعه أو علم الهيئة ونحوه من الرياضي أو العلم الإلهي وأجل القوم الإلهيون وقد تقدم ما ذكر في اعترافهم بأن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد ولا ريب أن الاعتراف بهذا ضروري كالاعتراف بأن المحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من مرجح فكما أن هناك مقدمتين إحداهما أن هنا حوادث مشهودة والحادث لا بد له من محدث والأولى حسية والثانية عقلية بديهية ضرورية وكذلك أن ها هنا ممكنات والممكن لا بد له من مرجح واجب فكذلك ها هنا مقدمتان

4 - إحداهما أن هنا حكما أو منافع مطلوبة والثانية أنه لا بد لذلك من فاعل قاصد مريد وهما مقدمتان ضروريتان الأولى حسية والثانية عقلية فإن الإحساس بالانتفاع كالإحساس بالحدوث وإن كان في تفاصيل ذلك ما يعلم بالقياس أو الخبر ثم هذه الحكم قد يعلم حدوثها وقد يعلم إمكانها كالأسباب
وأيضا فإنه يقال هذا الموجود المحسوس يستلزم الواجب القديم فإن كل موجود إما قديم واجب بنفسه وإما ممكن أو محدث والممكن والمحدث يستلزم القديم الواجب فثبت الموجود الواجب القديم فكذلك يقال هذه المقاصد المحسوسة تستلزم وجود موجود مقصود لنفسه لأن هذه المقصودات إما أن تكون مقصودة لنفسها أو لغيرها والمقصود لغيره يستلزم وجود المقصود لنفسه فثبت أنه لا بدمن مقصود لنفسه علىالتقديرين كما ثبت أنه لا بد من موجود لنفسه على التقديرين ثم هذا يدل على وجود المريد الفاعل لهذه الموجودات لغيرها ولنفسها
وإذا تقرر هذا تبين تناقض الفلاسفة وفساد مذهبهم في حجة الحكمة والغرض وحجة السبب الحادث وهما جماع الكلام وذلك أنهم لما قالوا في حجة الفرض إذا أحدثه كان فاعلا بالاختيار وذلك محال لما تقدم من الوجهين أحدهما أن ذلك يستلزم إما استكماله بغيره وإما العبث ولما في ذلك من المحذور على تقدير جواز القبائح عليه وعدم جوازها فيقال لهم أنتم معترفون بالاختيار كما تقدم التصريح عنكم بأن هذه الحكم ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد له وهذا موجود في عامة كتب الفلاسفة وأعظمهم قدرا هم الإلهيون المشاؤون وهم أعظم الناس تصريحا بذلك وكذلك الطبائعيون حتى محمد بن زكريا الرازي وأمثاله

5 - ثم يقال ثبوت القصد والاختيار كثبوت الواجب القديم كما تقدم بيانه فقد ثبت بالعلوم الضرورية وبالمقاييس البرهانية وبالاتفاق وجود الفاعل القاصد لهذه الحكم المريد لها كما يثبت ذلك وجود الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فالقدح في ثبوت الفاعل المختار كالقدح في ثبوت الموجود القديم الواجب بنفسه وهذا إنما يمكن بإنكار وجود هذه الموجودات المحسوسة وهذا في غاية البيان والإحكام والإتقان ويقال لهم حينئذ فهذا القصد والإرادة يستلزم ما ذكرتموه سواء بسواء فما كان جوابكم عن ذلك فهو جواب لمن قال بحدوث العالم سواء
وأما في مسألة السبب الحادث إذاثبت أنه فاعل بالقصد والإرادة وأن له عناية بالمفعولات لزمكم كلما ألزمتموه لغيركم فإن ابن رشد الحفيد قال في إلزامه للمتكلمين وأيضا فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص لا بد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم علىالايجاد لم يكن قبل ذلك الوقت لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل حالة زائدة على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل لم يكن وجود ذلك الفعل في ذلك الوقت أولى من عدمه فيما تقدم
فيقال لهم حينئذ يجب أن يتجدد له عزم في وقت حدوث هذه الحوادث وحكمها وحينئذ فالقول في حدوث ذلك العزم كالقول فيما طلبتموه من السبب الحادث للعالم
وأيضا فقد قلتم إذا كانت الإرادة قديمة لزم قدم المراد فلو كانت له إرادة قديمة لزم قدم الحوادث

6 - وفي الجملة فأنتم بين أمرين إما أن تنكروا القصد والإرادة وقد تبين أن ذلك كإنكار الموجود الواجب نقلا عنكم وإلزاما لكم وإما أن تقروا بالقصد والإرادة فيبطل جميع ما بنيتموه على إنكار ذلك وجميع ما يخالفون به أهل الملل إنما هو مبني على إنكار ذلك وإلا فمتى وقع الاعتراف بأن صانع العالم فاعل مختار انهارت هذه الفلسفة كما ينهار ما أسس على شفا جرف هار فلا ريب أن هذه الآية إشارة واعتبار لمثل حالهم فإنهم بنوا مذاهب تتخذها القلوب عقائد ومقاصد مقابلة لما جاء به المرسلون كالذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم
ومما يوضح ذلك أن القاضي أبا الوليد الفيلسوف ابن رشد قال في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وأما الإرادة فظاهر اتصافه بها إذ كان من شرط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريدا له وكذلك من شرطه أن يكون قادرا فأما أن يقال إنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة فبدعة وشيء لا يعلمه العلماء ولا يقنع الجمهور أعني الذين بلغوا رتبة الجدل بل ينبغي أن يقال إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه

7 - في غير وقت كونه كما قال تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فإنه ليس عند الجمهور كما قلنا شيء يضطرهم إلى أن يقولوا هو مريد للمحدثات بإرادة قديمة إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث
قلت وهذا الكلام كالصريح في تجويز قيام الحوادث بالرب وبالجملة فهو لازم لهم وهو يبطل القول بقدم الأفلاك ويبين فساد كثير مما اعترض به هذا الفيلسوف على حجج المتكلمين فإنه إنما أطمعه فيمن رد عليهم نفيهم لهذا الأصل وقد تقدم أنه ما من طائفة من الطوائف وإن نفت هذا الأصل إلا وهي تلتزم به في مواضع أخر وإن القول به لازم لجميع الطوائف وذلك أن الفيلسوف قال بعد أن اعترض على حجة الأعراض الي للمتكلمين بما بعضه حق وبعضه باطل والحق منه لا يمنع من القول بحدوث هذه المخلوقات ثم قال وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعروفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين
إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل وما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو أو بشكل آخر غير الشكل الذي عليه أو عدد أجسامه غير العدد الذي هو عليه أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية وفي الغربية أن تكون شرقية
والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر فأما المقدمة الأولى فهي خطابية في بادئ الرأي وهي

8 - إما في بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسه مثل كون الإنسان موجودا على خلقة غير هذه الخلقة التي هو عليها وفي بعض الأمر فيه مشكوك مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية إذ كان ذلك ليس معروفا بنفسه إذ كان يمكن أن يكون لذلك علة غير بينة الوجود بنفسها أن تكون من العلل الخفية على الإنسان ويشبه أن يكون ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيها بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنائع وذلك أن الذي هذا شأنه قد يسبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات أو جلها ممكن أن يكون بخلاف ما هو عليه ويوجد عن ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله أعني غايته فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة وأما الصانع والذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك وأنه ليس في المصنوع إلا شيء واجب ضروري أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضروريا فيه وهذا هو معنى الصناعة والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع فسبحان الخلاق العظيم
فهذه المقدمة من جهة أنها خطابية قد تصلح لإقناع الجميع ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع فليست تصلح لهم وإنما صارت مبطلة للحكمة لأن الحكمة ليست شيئا أكبر من معرفة أسباب الشيء وإذ لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجود فليس ههنا معرفة يختص بها الحكيم الخالق دون غيره كما أنه لو لم يكن هنا أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم يكن هنالك صناعة أصلا ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تتأتى بأي عضو اتفق أو بغير عضو حتى

9 - يكون الإبصار مثلا يتأتى بالأذن كما يتأتى بالعين والشم يتأتى بالعين كما يتأتى بالأنف وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك
الوجه الثالث أن يقال له ما ذكرته من الأمور الضرورية في الأسباب إنما يجيء في حق من لم يخلقها دون من خلقها ومن هنا وقع الغلط حيث قسمتم أفعال الله بأفعالنا حتى عجزتموه عن غير ما خلقه وذلك أن الواحد منا إذا أراد أمرا من أكل وشرب ولباس وسفر وغير ذلك فإن لم يحصل الأسباب التي بها جعل الله وجود المطلوب لم يحصل والأسباب خارجة عن قدرته وإنما يمكنه تأليف ما يؤلفه أو نقله من موضع إلى موضع وأمثال ذلك من الأفعال دون إبداع الأعيان وأما الله سبحانه وتعالى وإن كان قد جعل بعض الاشياء سببا كما جعل الأكل مثلا سببا للشبع وخلق الطعام يغذي الإنسان فهو الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسنا ومما لا نعلم وإذا كان هو الخالق للجميع فيمتنع أن يكون مضطرا إلى شيء من دون ذلك فإنه إذا قيل البصر لا يمكن إلا بالعين والسمع لا يمكن إلا بالأذن ونحو ذلك من الأسباب فيقال هو الذي جعل هذه الماهيات وأبدعها وجعل لها هذه الصفات التي يتوصل بها إلى هذه المقاصد وقد كان من الممكن أنه إذا غير هذا التخليق أن يحصل إما فوق تلك الحكمة وإما ما هو دونها وإما ما يشاركها في الجنس دون النوع وإن كان نفس الحكمةالحاصلة فهذا لا يحصل إلا بمثله ألا ترى أن أهل الجنة يكونون في أبدانهم وقواهم أعظم مما هم في الدنيا مع كون هذه الحكم هناك أكمل وأبلغ وهب أن المنازع لا يصدق مثل ذلك فمن المشهود أن أبصار الناس وأسماعهم

0 وسائر قواهم تختلف في القوة والضعف فتكون المنافع الحاصلة لهم متفاوتة مع العلم الضروري بأن الذي له لو جعل لهذا والذي لهذا لو جعل لهذا لكان يفوت التعيين وذلك لا يبطل أصل الحكمة وهكذا البلاد تختلف فيما خلق فيها من الاقوات والأنهار والمساكن فيختلف لذلك وجه الانتفاع مع أن أصل المقصود حاصل في الجميع وقد يحول الله ما ببض البلاد إلى بعض مع أن نظام العالم قائم والتحويل من حال إلى حال موجود في العالم فلو كان ما يوجد من الصفات والمقادير لغاية بمعنى أن وجود تلك الغاية ضروري أي لا يمكن عدمه إلا لزم منه فساد عام لم يكن الأمر كذلك
الوجه الرابع أن يقال قولك هذا ضروري الوجود في الأسباب والحكم ماذا تعني به أتعني به أنه واجب بنفسه بمعنى أنه يمتنع عدمه أم تعني به أنه إذا عدم عدمت الحكمة التي وجد لأجلها أما الأول فباطل قطعا وهو لم يرده وأما الثاني فيقال لك هب أنه يلزم من عدمه تلك الحكمة المعينة فتلك الحكمة المعينة ليست واجبة بنفسها بل هي أيضا جائزة فالقول بكونها مخصوصة بالإرادة دون غيرها من الحكم لا بد له من تخصيص وهو الإرادة بل تلك الحكمة لا تكون حكمة إلا أن تكون مقصودة وأنت تقول ذلك وتحتج به فصار ما جعلته ضروريا يدل على الإرادة المخصصة بطريق الأولى
الوجه الخامس أن يقال هذه الامور المستحيلة من حال إلى حال فحركاتها واستحالاتها إما أن تكون واجبة لذاتها وإما أن لا تكون واجبة لذاتها بل إنما صارت كذلك بفاعل غيرها فإن قدر الأولى قيل فإن جاز فيما هو واجب بنفسه أن يتحرك حركة استحالة فيكون تارة عالما وتارة جاهلا

1 - وتارة شبعان وتارة جائعا وتارة صحيحا وتارة مريضا كما يقول نحو ذلك القائلون بوحدة الوجود كصاحب الفصوص وأمثاله ويدعون أن الكمال المطلق أن يكون واجب الوجود منعوتا بكل نعت سواء كان محمودا شرعا وعرفا وعقلا أو مذموما شرعا وعرفا وعقلا وأنه هو المتلذذ بكل ما في الوجود من الألم وأنه هو الذي يتجدد له العلم بعد أن لم يكن عالما وينشدون ... وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه ...
وينشدون ... وما أنت غي الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق ...
وأمثال ذلك من كلامهم المعروف نثرا ونظما ويدعون أن هذا هو التحقيق الذي آمن إليه هرامس الدهور الأولية والمعرفة التي رامت إفادتها الهداية النبوية وإن كان لهم في تفصيل هذا المذهب اضطراب قد بيناه في غير هذا الموضع
فيقال إذا قدرنا هذه الموجودات المشهودة واجبة الوجود بنفسها أو هي الموجود الواجب بنفسه أو وجودها عين وجود واجب الوجود لم يمكن حينئذ أن يقال في واجب الوجود إنه لا يفعل بعد أن لم يكن فعل لأن ذلك يقتضي تجدد أمر ما وحدوث أمر منه ممتنع ولا أن يقال ذلك يقتضي ثبوت الصفات له أو تجزيه أو حلول الحوادث به نحو ذلك وذلك ممتنع فإنه من يجوز أن يكون واجب الوجود هو الموجود المستحيل من حال إلى حال وأنه تارة يكون

2 - نطفة ثم علقة ثم مضغة وتارة حبا ثم شجرا ثم تمرا وتارة حيا ثم ميتا لم يبق عنده شيء يمتنع على واجب الوجود إذ هو واصف له بكل صفات واقعة في الموجودات التي هي عند الناس مخلوقة ممكنة ومن جوز أن يوصف بكل ما يوصف به كل مخلوق وممكن بطل حينئذ أن يكون علة قديمة لا يجوز عليها التغير والاستحالة ونحو ذلك مما يصف به المشاؤون واجب الوجود
وهذا القول وإن كان فاسدا من وجوه كثيرة فالمقصود هنا أن ندرجه في ضمن التقسيم وذلك أن الموجود الواجب بذاته أدنى خصائصه امتناع العدم عليه وهؤلاء يجعلون ما وجد وعدم من واجب الوجود لذاته وأصل كلامهم ظنهم أن الوجود المطلق له وجود في الخارج فقالوا بوحدة الوجود أي الوجود الواحد ولم يعلموا أن الوجود المطلق لا وجود له في الخارج وإنما الموجود في الخارج موجودات أو موجودان كل منهما متعين متميز عن الآخر وليس أحدهما هو الآخر بعينه ولا نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بل الذهن يأخذ وجودا مطلقا مشتركا فيه فإذا قال بوحدة هذا الوجود فإنما قال بوحدة هذا الوجود الذهني المطلق ومن قال الوجود زائد على الماهية قد يقول بأن وجود الماهيات من جنس واحد وهو قول فاسد لكنه لا يقول نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بعينه فإن هذا مخالف للحس ولصريح العقل ولهذا يقول كبير هؤلاء الاتحادية في وقته التلمساني ثبت عندنا بالكشف ما يناقض صريح العقل وذلك أن الذي ينكشف لهم أنهم متوجهون بقلوبهم توجها لا يعرفون به الرب البائن عن خلقه حتى يقصدوه فيشهدون الوجود المطلق المشترك بين الموجودات وإن لم يوجد في الخارج لكن القلوب تجده وتأخذه مطلقا وفي كل معين منه حصة وهذا الوجود المطلق

3 - الساري في الكائنات وإن كان موجودا فيها على وجه التعيين والتخصيص وهو الذي يقال له الكلي الطبيعي فذاك من أثر وجود الله تعالى ومن مخلوقاته ومصنوعاته فيظنون الوجود المخلوق هو الوجود الخالق
وهم يشبهون من بعض الوجوه من رأى شعاع الشمس الذي على الأرض والحيطان والجبال فظنه نفس الشمس التي في السماء مع أن هذا الشعاع منفصل عن الشمس ومع أنه قائم بأجسام غيرها والمخلوقات وإن كان لها وجود وتحقق فهو مخلوق لله بائن منه وغايته إذا قدر أن الوجود زائد على الماهيات أن يكون الوجود في الموجودات كالشعاع في الأجسام المقابلة للشمس فصار هذا الضلال ناشئا من نقص العلم والإيمان بالرب المباين للمخلوقات ومن شهود القلب لما وجد عنه من الوجود الساري في الكائنات فظن هذا هذا
وقوي ضلالهم ما سمعوه من كلام المتفلسفة ومن وافقهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك من مقالات الجهمية فلم يشهدوا ما يكون كذلك إلا وجود الكائنات بعينه ولهذا يقولون بقول الباطنية القرامطة وغالية الفلاسفة فيقولون هو من حيث ذاته لا اسم له ولا صفة ولا يتميز ويقولون شهود الذات ما فيه خطاب ولا لذة فيه ونحو ذلك لأنهم إنما يتكلمون على ما شهدوه من الموجود المطلق الذي لا يوجد في الخارج مطلقا وليس له حقيقة تميزه حتى يكون لها اسم أو صفة أو خطاب
والمقصود هنا أنه لا بد من الاعتراف بوجود قديم واجب فمن جعل ذلك هذه الموجودات المحسوسة لم يكن عنده وصف يجب تنزيه الرب عنه أصلا من الأمور الممكنة في الوجود وحينئذ فلا يمكن هذا أن ينكر مذهبا من المذاهب فلا يقول حدوث العالم عن واجب الوجود ممتنع لأنه يستلزم تغيره ويفتقر إلى سبب حادث فإن قوله فيه من الإحالة أعظم من هذا

4 - وأما إذا قيل بأن هنا موجودا قديما واجبا غير هذه الأمور الحادثة المستحيلة في الجملة فمن المعلوم أن ما سوى الوجود الواجب بنفسه ليس هو موجود واجب الوجود بنفسه فثبت بهذا أن في الوجود شيئين أحدهما موجود واجب الوجود بنفسه والثاني موجود لا يجب وجوده بل يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى فهذا الموجود إذا وجد لم يكن أن يقال إنه واجب الوجود بنفسه بل هو واجب الوجود بغيره وهب أن الشاك يشك في بعض الأمور التي لم يعلم عدمها واستحالتها هل هي واجبة بنفسها أم لا أما التي لم يعلم أنها تعدم وتستحيل فلا يشكفي أنها ليس بواجبة بنفسها بل بغيرها ما دامت موجودة وهي واجبة العدم إذا عدمت أيضا وليس لها من ذاتها لا وجوب الوجود ولا وجوب العدم لكن ليس لها من ذاتها إلا العدم وفرق بين أن تكون معدومة وعدنها من ذاتها وبين أن تكون واجبة العدم بذاتها فإن هذه صفة الممتنع إذ العدم ليس بشيء وإذا ثبت أن في الموجودات ما هو ممكن وجائز حصل المقصود فإن تخصيص هذا بالوجود دون العدم لا بد له من موجب فاعل ثم إذا كانت ذاته قابلة للعدم فصفاته ومقاديره بطريق الأولى فتخصيصه بصفة وقدر وزمان ومكان لا بد له من مخصص بإرادته ومشيئته وهذا هو مطلوب أبي المعالي وغيره من أهل النظر واعلم في هذا المقام
وأما الذي جرأه عليهم فإن هؤلاء المتكلمين الذين لا يقولون برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى كأبي الحسن الأشعري وأصحابه ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني ونحوهم ممن يوافقهم على هذا وعلى نفي التحسين والتقبيح العقليين نطلقا مع أن أكثر الذين يوافقونهم من هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من مسائل الخلق والأمر وجمهور الفقهاء يقولون بذلك ويصرح بالتحسين والتقبيح العقليين طوائف

5 - من الفقهاء كأكثر أصحاب أبي حنيفة وقد ينقلونه عنه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كأبي الحسن التميم وأبي الخطاب وكأبي نصر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وطوائف كثيرة من أهل الحديث والفقه والكلام
والمقصود هنا أن أبا المعالي وهؤلاء يقولون إن القديم خلق العالم بعد أن لم يكن خالقا لا لعلة وغرض ولا لداعوباعث وخاطر يعتريه لأن ذلك زعموا مقصور على اجتلاب المنافع ودفع المضار وذلك مستحيل في صفته ومناظرتهم في هذا الباب مع الدهرية الطبيعية ومع القدرية الإرادية وقول كلا الفريقين فيه من الباطل أكثر مما يلزم هؤلاء نفاة الحكمة وإن الذي في قول الدهرية الطبيعية أكثر
وقال أبو المعالي وهؤلاء نفاة التعليل معنى قولنا إنه حكيم في أفعاله أنه مصيب في ذلك ومحكم لها لأنه مالك الأعيان فيتصرف تصرف مالك الأعيان في ملكه من غير اعتراض وقد يراد بالحكمة العلم في المعنى بكونه حكيما في فعله أنه خلقه على الوجه الذي أراده وعلمه وحكم به ثم لم يكن علمه وإرادته علة لفعله ولا موجبا له لقدم هذه الصفات وحدوث متعلقها ففسروا حكمته بمعنى أنه يفعل ما يشاء بلا ذمأو بمعنى أنه عالم ولا ريب أن هذا خلاف ما عليه الناس في معنى الحكمة والحكيم فإنهم لا يجعلون الحكمة كون الحكيم له أن يفعل ما يشاء وإن كان الله تعالى له أن يفعل ما يشاء لكن الحكمة فعله بعض الأشياء دون بعض لاشتمال المفعول على ما يصلح أن يكون مرادا للحكيم

6 - وتفسيرها بمعنى العلم بالمفعولات أبعد ومع هذا فقول أبي المعالي وأمثاله في الفقه وأصوله يخالف هذا الأصل بخلاف غيره من المتكلمين الذين لم يبرعوا في الفقه كبراعة أبي المعالي فإنه يقول بالعلل المناسبة للأحكام التي تفسر بالباعث والداعي وإثباتها ينافي هذا الأصل
ثم قال أبو المعالي ونحن لا ننكر أن يكون الله تعالى خلق من نفعه بخلقه ومن ضره بخلقه والذي ننكره من الغرض وننفيه عن القديم سبحانه قيام حادث بذاته كالإرادة والداعية والحاجة والمعتزلة يوافقونا على استحالة قيام الحوادث بذاته غير أنهم أثبتوا للقديم سبحانه أوصافا متجددة وأحوالا من الإرادات التي يحدثها لا في محل والمحذور من قيام الحوادث بذات الباري تعالى تجدد الأوصاف عليه وقد التزموه
قال أبو المعالي فإن قال قائل القديم إنما خلق العالم إظهارا لقدرته وإظهارا لحجج وآيات يستدل بها على الهيتة ويعرف سبحانه وتعالى بنعوته وجلاله وصفاته ويعبد ويعظم ويستحق على عبادته وتعظيمه الثواب الجزيل ويستوجب المعرض عنها العذاب الأليم وهذا منصوص عليه في الكتاب العزيز في آي كثيرة لا تحصى من ذلك قوله تعالى وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وقال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وقوله تعالى عن المؤمنين القائلين ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار وقال تعالى الله الذي خلق سبع السموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما قال وهذا نص صريح في أنه إنما خلق هذه الأشياء ليعرف بها ويعبد فقال في الجواب اللام

في قوله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا ليست اللام لام علة وإنما هي لام صيرورة وتكون غاية أي ليعلم من في المعلوم أنه يعلم وليجزى على ذلك ويعرض ويعاند من في المعلوم أنه يعاند و ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى
قلت لام الصيرورة إما أن تكون لمن لا يريد الغاية وذلك إنما يكون لجهل الفاعل بالغاية كقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وإما لعجزه عن دفعها وإن كان كارها لها كقول القائل لدوا للموت وابنوا للخراب وللموت ما تلد الوالدة فأما العالم بالعاقبة القادر على وجودها ومنعها فلا يتصور أن تكون العاقبة إلا وهو عالم بها قادر عليها والموجود الذي يحدثه الله وهو عالم به قادر عليه لا يكون إلا وهو مريد له بل أبو المعالي وسائر المسلمين يسلمون أنه لا يكون شيء إلا بمشيئته فيكون مريدا للغاية ومريد الغاية التي للفعل لا يكون اللام في حقه لام صيرورة إذ لام الصيرورة إنما يكون في حق من لا يريد فلو قال إرادته لهذه الغايات كإرادته للأفعال التي هي سببها لكان أمثل مع أن هذا الكلام لا يدفع الحجة من الآية فإن القرآن يشهد بأن الله خلق المخلوقات لحكمة لكن ليس هذا موضع تحقيق ذلك وإزالة الشبهة العارضة فيه
قال الحفيد وأما القضية الثانية وهي قول القائل إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائزا أزليا ومنعه أرسطا طاليس وهو مطلب عويص ولن

تتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان وهم العلماء الذين خصهم الله تعالى بعلمه وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته
قلت قد قدم فيما مضى أن أفلاطون وشيعته يقولون إن الزمان متناه وأنهم يقولون العالم محدث أزلي لكون الزمان متناهيا عندهم في الماضي وأن أرسطو وفرقته يقولون الزمان غير متناه في الماضي كما لا يتناهى في المستقبل ولا يسمون العالم محدثا وهذا يقتضي أن الأزلي في هذا الكلام المراد به الأبدي الذي لا آخر له وإلا تناقض الكلام وأفلاطون شيعته يقولون هو محدث جائز لكنه يكون مع ذلك أبديا والجائز يمكن أن يكون أبديا وأما آرسطو فيقول ما كان محدثا عن عدم فلا بد له من آخر فالجائز لا يكون أبديا وهذا الذي قاله آرسطو هو الذي تقدم قول الحفيد له إن كل محدث فهو فاسد ضرورة فهذا قول معلم طائفته آرسطو وهو أيضا قول طائفة ممن يقول بحدوث العالم كالجهم بن صفوان ومن يقول بوجوب فناء الحوادث وأما الذي حكاه عن أفلاطون فهو قول أهل الملل إن الله يخلق شيئا للبقاء ويخلق شيئا للفناء كما يشاء وهو ومع هذا فالذي ينقلونه عن آرسطو أن النفوس الناطقة عنده محدثة فتكون جائزة وهي مع هذا أبدية باقية فهذا يناقض ما أصله
فهذا القدر الذي تبين يدل على أن ما حكاه عن هذين الفيلسوفين أو أصحابهما اتفاق منهم على أن ما كان جائزا فهو محدث فإذا كان قد ثبت أن العالم جائز ثبت أنه محدث ولهذا منع هو كونه جائزا وغلط ابن سينا في قوله إنه جائز بنفسه مع موافقته له على قدمه

فأما الذي فهمه من كلامهم في هذا المقام واعترض به وهو أن يقول عن أفلاطون إن الجائز يكون أزليا وأن آرسطو يقول الجائز لا يكون أزليا فهذا لا يناسب ما تقدم فإنه إذا كان قول أفلاطون إن العالم لم يتقدمه زمان وعنده أن الزمان متناه في الماضي ثبت أنه ليس بأزلي فأي حقيقة لقوله الجائز لا يكون أزليا وكذلك آرسطو لو كان يقول إن الجائز لا يكون أزليا أي قديما لامتنع أن يكون عنده شيء من الممكن بذاته عنده أزليا وهو خلاف قوله فهذا النقل وقع فيه غلط إما لفظ الجائز وإما لفظ الأزلي
ثم يقال له يا سبحان الله من الذي جعل هذه الطائفة من اليونان وأتباعهم هم العلماء دون سائر الأمم وأتباع الأنبياء الذي لا يختلف من له عقل ودين أنهم أعلم منهم وأي برهان عندهم يتبين بها هذه الحقيقة وقد ذكرت أن نفس أهل صناعة البرهان تنازعوا فيها فلو كان ذلك منكشفا بصناعتهم لم يتنازع أئمة الصناعة فيها
ثم يقال ومن الذي خص هؤلاء بكونهم أهل البرهان مع أن غاية ما يقولونه في العلم الإلهي لا يصلح أن يكون من الأقيسة الخطابية والجدلية فضلا عن البرهانية
ثم يقال وكيف يستحسن عاقل أن يجعل المتكلمين على عجزهم وبجرهم أهل جدل وهؤلاء أهل برهان مع أن بين تحقيق المتكلمين للعلم الإلهي بالأقيسة العقلية وبين تحقيقهم تفاوت يعرفه كل عاقل منصف والقوم لم يتميزوا بالعلم الإلهي ولا نبل أحد باتباعهم فيه بل الأمم متفقة على ضلالهم فيه إلا من قلدهم
ولكن يؤثر عنهم من الكلام في الأمور الطبيعية والرياضية ما شاع ذكرهم بسببه ولولا ذلك لما كان لهم ذكر عند الأمم كيف يستجيز مسلم أن يقول

إن العلماء الذين أثنى الله عليهم في كتابه هم أهل المنطق مع علمه بأن أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم كانوا مرادين من هذا الخطاب قطعا بل هم أفضل من أريد به بعد الأنبياء وقد ماتوا قبل أن تعرب كتب اليونان بالكلية وإن أراد بذلك البرهان العقلي الذي لا يختص بإصلاح اليونان فلا اختصاص لهؤلاء بل الصحابة والتابعون أحذق منهم في المعقولات التي ينتفع بها في الإلهية بما لا نسبة بينهما
ثم العلماء الذين أثنى الله عليهم هم الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو ومن المعلوم لكل من عرف أحوال الأمم أن أهل الملل أحق بهذا التوحيد من الصابئة الذين هم أجل من الفلاسفة ومن المشركين الذين منهم فلاسفة كثيرون بل كانت اليونان منهم والمسلمون وعلماؤهم بهذه الشهادة من الأولين والآخرين بل يقال لك نحن لا نعلم أن هؤلاء القوم كانوا يشهدون بهذه الوحدانية فإن الذي في الكتب المنقولة عنهم من التوحيد إنما مضمونه نفي الصفات كما تقوله الجهمية ومعلوم أن هذا ليس الشهادة بأنه لا إله إلا الله بل قد علم النبي صلى الله عليه و سلم أمته هذا التوحيد والقرآن مملوء منه ولم يقل لهم كلمة واحدة تتضمن نفي الصفات ولا قال ذلك أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين مع العلم الضروري بأنهم كانوا أعلم بمعاني القرآن منا وإن ادعى مدع تقدمه في الفلسفة عليهم فلا يمكنه أن يدعى تقدمه في معرفة ما أريد به القرآن عليهم وهم الذين تعلموا من الرسول لفظه ومعناه وهم الذين أدوا ذلك إلى من يعدهم قال أبو عبدالرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن عثمان بن عفان و

عبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من رسول الله صلى الله عليه و سلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل
وليس معه ما يعتمد عليه أن هؤلاء كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله بل لو قيل كانوا مشركين لكان أقرب فإنه من المشهور في أخبار اليونان أهل مقدونية وغيرها أنهم كانوا مشركين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب وهؤلاء الفلاسفة يسمون الكواكب الآلهة الصغرى والأرباب وفي كتاب سقراط والنواميس لأفلاطون وغيرهما من ذلك أمور كثيرة وقد ذكر هذا الرجل عنهم أن أكثرهم انتهى نظرهم إلى الفلك فلم يثبتوا وراءه موجودا ومعلوم أن الذي أثبتوه من واجب الوجود هو أدعى شيء إلى عبادة الكواكب والأصنام فكيف يكون هؤلاء هم أهل العلم بشهادة أن لا إله إلا الله بل إذا قيل إن هؤلاء وأمثالهم أصل كل شرك وأنهم سوس الملل وأعداء الرسل لكان هذا الكلام أقرب إلى الحق من شهادته لهم بما ذكره
قلت ومقتضى ما ذكره هو وذكره عن هؤلاء الفلاسفة أن ما ثبت فيه أنه ممكن جائز وجب أن يكون محدثا وأن القديم لا يكون إلا واجبا فمتى ثبت أنه جائز ثبت أنه محدث وقد تقدم التنبيه على ذلك
قال الحفيد وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه المقدمة بمقدمات أحدها أن الجائز لا بد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى منه بالثاني والثاني أن هذا المخصص لا يكون إلا مريدا والثالث أن الموجود عن الإرادة هو حادث

قلت وكذلك قررها الرازي أيضا فهذه المقدمات الثلاث مع أن نزاع الحفيد والفلاسف في تينك المقدمتين لا يضر فإنا قد بينا أنهم موافقون على أن الخالق مريد قاصد كما تبين في إثباتهم العناية وإن تناقضوا بنفي الإرادة هنا لم يفدهم لإقرارهم بذلك ولأنا قد بيننا أن الأدلة الدالة على ذلك يقينية ضرورية وأن نفي ذلك كنفي واجب الوجود ولكن أبو المعالي والرازي ونحوهما إنما احتاجوا إلى هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون الحكمة الغائية وإنما يثبتون الإرادة المخصصة وقد قدمنا أن كونه مختارا يبين بما دل على الإرادة المخصصة لمفعول دون مفعول وبما دل على ما في المفعولات من الحكمة المقصودة وبالأمرين جميعا لكن هؤلاء الفلاسفة سلكوا إحدى الطريقتين وتناقضوا في منازعتهم في الأخرى والأشعرية سلكوا إحدى الطريقتين ونازعوا في الأخرى والتناقض لازم لهم أيضا والمقصود من الطريقتين واحد وهو كونه قاصدا مريدا مختارا وهذه الطريقة التي سلكها أبو المعالي والرازي وغيرهما صحيحة أيضا توجب العلم اليقني بكونه مريدا مختارا
قال الحفيد ثم بين يعني أبو المعالي أن الجائز يكون عن الإرادة أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن كون عن الطبيعة وإما عن الإرادة والطبيعة ليس يكون عنها أحد هذين الجائزين المتماثلين أعني لا تفعل المماثل دون مماثله بل تفعلهما مثال ذلك السقمونيا ليست تجذب الصفراء التي في الجانب الأيمن في البدن دون التي في الأيسر فأما الإرادة فهي التي تختص بالشيء دون مماثله ثم أضاف هذه إلى أن العالم مماثل كونه في الموضع الذي خلق فيه في الجو الذي خلق فيه يريد الخلاء لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء فأنتج عن ذلك أن العالم خلق عن الإرادة والمقدمة القائلة إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة والقائلة إن العالم في خلاء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها

ويلزم أيضا عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديما لأنه إذا كان محدثا احتاج إلى خلاء
قلت قد سلم المقصود بهذه المقدمة وهو أن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة وأما اعتراضه على العالم فذاك متعلق بالمقدمة الأولى
وينبغي أن يعلم أن الذي سلط هؤلاء الدهرية على الجهمية شيئان أحدهما ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة ويخالفون بها المعقولات الصحيحة التي ينسر بها خصومهم أو غيرهم والثاني مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه فإنهم لما شاركوهم فيه بعد تأويل نصوص الصفات بالتأويلات المخالفة لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كان هذا حجة لهم في تأويل نصوص المعاد وغيرها كما احتج به هذا الفيلسوف وكما يذكره أبو عبدالله الرازي ومن قبله حتى أن الدهرية قالوا لهم القول في آيات المعاد كالقول في آيات الصفات فكان من حجتهم عليهم وضموا ذلك إلى ما قد يطلقونه من أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين فقالوا له أنت تقول الظواهر لا تفيد القطع أيضا والآيات المتشابهات في القرآن الدالة على المشيئة والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد الجسماني ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لا تجوزون تأويل الآيات الواردة ها هنا فقال نحن لم نتمسك بآية معينة ولا بحديث معين ولكن نعلم باضطرار إجماع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على إثبات المعاد البدني ولم يقل أحد إنه علم من دينهم بالضرورة التشبيه والقدر فظهر الفرق
فالينظر العاقل في هذا الجواب حيث قال لهم هؤلاء المتكلمون نحن نعلم الأخبار بمعاد الأبدان أن الرسل أخبرت به بالضرورة فلم يجعلوا مستند العلم

بذلك دلالة القرآن والحديث والإجماع عليه لأنهم عارضوهم بمثل ذلك وبأبلغ منه في أمر الصفات والقدر فعدلوا إلى ما ذكروه من أنا نعلم بالاضطرار أخبارهم بالمعاد الجسماني فإن هذا الذي قالوه صحيح وحجة صحيحة على إثبات المعاد البدني لكن قصروا في عدم الاحتجاج على ذلك في القرآن وبالأخبار وإجماع السلف
وأيضا فأهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها يقولون للطائفتين نحن نعلم أيضا إخبارهم بما أخبروا به من الصفات والقدر بالضرورة وقول بعضهم إنه لم يقل أحد أن هذا معلوم بالضرورة في دينهم ليس كذلك بل أهل الحديث وغيرهم يعلمون ذلك من دينهم ضرورة وكلا الطائفتين مخالف للفطرة العقلية ومخالف لما نعلم نحن بالضرورة من دين الرسول ومخالف للأقيسة العقلية البرهانية والنصوص الإلهية القرآنية والإيمانية
فإن قال المتكلمون من الجهمية وغيرهم فمن خالف ما علم بالضرورة من الدين فهو كافر قيل لهم لهذا السلف والأئمة مطبقون على تكفير الجهمية حين كان ظهور مخالفتهم للرسول مشهورا معلوما بالاضطرار لعموم المسلمين حتى قيل العلم بالإيمان فيما بعد وصار يشتبه بعض ذلك على كثير ممن ليس بزنديق
ويقال لهم قول أهل الأثبات لكم هو لكم أنتم للدهرية في معاد الأبدان ودعواكم تعارض الأدلة في ذلك أو خفاء ذلك كدعوى الدهرية ذلك فإن أبا عبدالله الرازي قال في كتابه الكبير نهاية العقول في مسألة التكفير لما حد الكفر بحد أبي حامد الغزالي وهو تكذيب الرسول في شيء مما جاء به

قال ونعني بالتكذيب إما نفس التكذيب أو ما علم من الدين ضرورة دلالته على التكذيب فلو ورد على هذا أن صاحب التأويل إما أن لا يجعل من المكذبين بل يجعل المكذوب من يرد قوله صلى الله عليه و سلم من غير تأويل وأما أن يجعل من المكذبين فإن كان الأول لزمنا أن لا يكون الفلاسفة في قولهم بقدم العالم وإنكارهم علمه تعالى بالجزئيات وإنكار الحشر والنشر كفارا لأنهم يجعلون للنصوص الواردة في هذه المسألة تأويلات ليست بأبعد من تأويلاتكم للنصوص في التشبيه لأنهم يحملون النصوص الواردة في خلقه تعالى العالم على تأثيره في العالم واحتياج العالم في وجوده إليه ويحملون النصوص الواردة في علمه بالجزئيات على أنه تعالى يعلم كل الكليات على وجه كلي ويحملون النصوص الواردة في الحشر والنشر على أحوال النفس الناطقة في سعادتها وشقاوتها بعد المفارقة قالوا إذا جاز لكم حمل الآيات والأخبار المحتملة للتشبيه فلم لا يجوز مثلها في الحشر والنشر على أمور روحانية بصرفها عن ظواهرها 2 التي هي أمور حسمانية فثبت أن لو أردنا بالتكذيب رد النصوص لا على وجه التأويل لزمنا أن لا نجعل الفلاسفة من المكذبين وإن لم يكونوا من المكذبين وجب أن لا يكونوا كفرة لأن العكس واجب في الحد فإما أن جعلنا كصاحب التأويل من المكذبين فمعلوم أنه ليس كل متأول مكذب وإلا لزم إجراء كل الأخبار والآيات على ظواهرها وذلك يوجب التشبيه والقدر والمذاهب المتناقضة وكل ذلك باطل بل يجب أن تجعل التأويلات غير موجبة للتكذيب وبعضها موجب وعند ذلك لا نعلم حقيقة التكذيب إلا عند الضابط الذي به يصير التأويل تكذيبا وما لم يذكروا ذلك كان التأويل غير مقيد
وقال في الجواب عن هذا إنا نعلم بالضرورة إجماع الأمة على أن دينه عليه السلام هو القول بحدوث العالم وإثبات العلم بالجزئيات وإثبات الحشر والنشر

وإن إنكار هذه الأشياء مخالف لدينه ثم علمنا بالضرورة أنه عليه السلام كان يحكم أن كل ما خالف دينه فهو كفر فعلمنا بهاتين المقدمتين حكمه عليه السلام بكون هذه الأشياء كفرا فمن اعتقدها كان مكذبا له عليه السلام فكان كافرا ومثل هذه الطريقة لم توجد في التشبيه والقدر لأن الأمة غير مجمعة على أن القول بهما مخالف لدينه عليه السلام فالحاصل أنا لا نكفرهم لأجل مخالفتهم للظواهر بل للإجماع على الوجه المذكور ومثله غير حاصل في الاختلاف الحاصل بين الأمة فلا يلزمنا تكفير الداخلين في الأمة هذا كلام أبي عبدالله الرازي
وقد ادعى طائفة من الفلاسفة في مسألة المبدأ والمعاد نظير ما ادعاه هو في مسائل الصفات والقدر كما ذكر ذلك هذا الحفيد الذي تقدم نقل كلامه لما ذكر هذا أيضا في كتابه الذي زعم أنه جمع فيه بين الشريعة والفلسفة لما ذكر ما سيأتي حكايته عنه حيث بين تقارب الطائفتين ومخالفتهما جميعا لظاهر الشرع إلى قوله قلت يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه والظاهر الذي قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء قال ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيون مأجورون وإما مخطئون معذورون فإن التصديق بالشيء من قبيل التوليد القائم بالنفس هو شيء اضطراري لا اختياري أعني أنه ليس لنا أن نقوم أو لا نقوم وإذا كان من شرط التكليف الاختيار فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت إذا كان من أهل العلم معذور ولذلك قال عليه السلام إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وأي حاكم أعظم من الذي حكم على الوجود أنه كذا وليس بكذا وهؤلاء الحكام هم العلماء

الذين خصهم الله تعالى بالتأويل وهذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع إنما هو الخطأ الذي يقع من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة الذي كلفهم الشرع النظر فيها وأما الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف في الناس فهو آثم مخطئ وسواء كان الخطأ في الأمور النظرية أو العملية فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذورا كذلك الحاكم على الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحكم فليس بمعذور بل هو إما آثم وإما كافر وإذا كان يشترط في الحاكم في الحلال والحرام أن يجتمع له أسباب الاجتهاد وهو معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس بالحري أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات أعني أن يعرف الأوائل العقلية ووجه استنباطه منها
وبالجملة فالخطأ في الشرع على ضربين إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في الحكم ولا يعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس بل إن وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر وإن وقع في ما بعد المبادئ فهو بدعة وهذا الخطأ يكون في الأشياء التي يفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنة للجميع وهذا هو مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات والسعادة الأخروية والشقاء الأخروي وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الأدلة الثلاثة التي لا يعرى أحد من الناس من وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته أعني الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية فالجاحد لأمثال هذه الأشياء إذا كانت أصلا من أصول الشرع كافر معاند بلسانه دون قلبه أو بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها

لأنه إن كان من أهل البرهان فقد جعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان وإن كان من أهل الجدل فبالجدل وإن كان من أهل الموعظة فبالموعظة ولهذا قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي يريد بأي طريق اتفق لهم الإيمان من الطرق
قلت وهذا الكلام فيه أشياء جيدة وفيه تفاصيل غير صحيحة لكن هذا ليس موضع الكلام عليه
ثم قال وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم عندهم إلا بالبرهان فقد يعف الله فيها لعباده والذين لا سبيل لهم إلى البرهان إما من قبل فطرهم وإما قبل عادتهم وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم فإنه ضرب لهم أمثالها وأشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال إذا كانت تلك الأمثال ممكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع أعني الجدلية والخطابية وهذا هو السبب في أن يقسم الشرع إلى ظاهر وباطن فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني والباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان وهذه هي أصناف تلك الموجودات الأربعة والخمسة التي ذكرها أبو حامد في كتاب الثغرية
قلت هذا الكلام من أصول النفاق نفاق الدهرية ويظهر بطلانه من وجوه
أحدها قوله وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان إلى آخره يقال له قولك لا تعلم إلا بالبرهان أي لا يمكن تصورها إلا بالبرهان أو لا يمكن التصديق بها عقلا إلا بالبرهان أما الأول فباطل فإن التصور سابق على التصديق

فلو كان لا يمكن تصورها إلا بعد قيام البرهان على ثبوتها والبرهان لا يمكن أن يقوم على التصديق إلا بعد التصور لزم الدور وهو قد ذكر في غير هذا الموضع أن تصور الشيء يكون إما بنفسه وإما بمثاله وليس هذا من البرهان وإذا كان تصورها ممكن بدون البرهان فالرسول خبره يوجب التصديق وليس هو ملزم لأن يقوم برهان خاص على كل ما يخبر به فإذا كان تصورها ممكن بلا برهان وخبره وحده كاف في التصديق لم يحتج إلى ما سماه برهانا
الثاني أن يقال له إذا قدر أن التصديق بها لا يمكن إلا بالبرهان فإما أن يكون الرسول أخبر بها للخاصة مقرونا بالبرهان أو بلا برهان أو لم يخبر بها ومعلوم أن هذه البراهين التي تثبت بها الفلاسفة تجرد النفس ونعيمها وعذابها والعقول والنفوس لم تأت بها الرسل فإما أن كونوا تركوا الإخبار بها أو أخبروا بها بدون ما ادعاه من البرهان وعلى التقديرين يظهر أن الرسول لم يسلك ما ادعاه فإنه يزعم أن الرسول علمها الخاصة دون العامة
الثالث أن يقال ليس فيما يذكره الفلاسفة ما يبعد فهمه على عامة الناس بأكثر من فهم ما دل عليه ظاهر الشرع وإن كانوا مقصرين عن فهم الأدلة ألا ترى أن المتكلمين يصرحون بما يقولونه للعامة وإن كانت أدلتهم كثيرة أما أن تكون أغمض من أدلة الفلاسفة وإنما هي مسائل معدودة مسألة واجب الوجود وفعله والنفس وسعادتها وشقاوتها والعقول والنفوس وما يتبع ذلك فأي شيء في هذا مما لا يمكن التصريح منه به للعامة لو كان حقا فعلم أن ترك التصريح به إنما هو لما اشتمل عليه من الباطل المخالف للفطرة والشرعة والحق الذي صرحت به الشريعة
الرابع أن يقال إن الله قد أجمل في كتابه وعلى لسان رسوله ما لا يمكن النفوس معرفة تفصيله مثل قوله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين

ومثله قوله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
الخامس أن يقال النقص الذي ذكرته هو إما من قبل نقص الفطرة وأما من قبل سوء العادة وإما من قبل عدم أسباب التعلم فيقال لك أما النقص فنقص بني آدم ليس له حد فمن الناس من ينقص عن فهم ما يفهمه جمهور الناس ومن المعلوم أن نهاية ما عند الفلاسفة يفهمه أوسط المتفقهة في مدة قريبة والشريعة قد جاءت بما هو أبعد عن الفطر الناقصة من هذا وأما العادة والتعليم فالرسول هو المعلم الأعظم الذي علمهم الكتاب والحكمة وقد نقلهم عن كل عادة سيئة إلى أحسن العادات والسير والشرائع فإن كان التصريح بهذه الأمور مشروطا بالعلم التام والعادة الصالحة فلا أكمل من هذا المعلم ولا في السير التي عودها فهل لاعلمها وبينها إذا كان الأمر كذلك
السادس أن يقال هب أن العامة لا يمكنهم فهمها فهل لا بينها للخاصة ومن المعلوم بالاضطرار أن الشريعة ليس فيها دلالة على ما يقوله الدهرية والجهمية من الأمور السلبية في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب
السابع أن يقال فإذا صرح فيها بنقيض ما هو الحق وإن قلت إنه أمثال والحق المطلوب لم يبينه لا للعامة ولا للخاصة ألا يكون هذا تلبيسا وإضلالا
الثامن أن يقال قولكم الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان وأن الباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان كلام من أبطل القول وذلك أن هذه الأمور قد فسرتها بما تتأول من صفات الله وصفات المعاد حتى

ذكرت آية الاستواء والنزول ونعيم الجنة والنار وغيرهما من ذلك فيقال لهم التأويلات التي يدعون أنها باطن هذه الألفاظ معان ظاهرة معلومة للخاص والعام مثل تأويلات الاستواء بالقدرة أو بالرتبة فكل أحد من الناس يتصور أن الله قادر على المخلوقات قاهر لها أعظم مما يتصور استواءه عليها فلأي ضرورة يعبر عن المعنى الظاهر الواضح بلفظ يكون تصور ظاهره أخفى من تصور ذلك المعنى وهذا بين قاطع لمن تدبره وإن كانت الوجوه كلها كذلك
ثم قال الحفيد وإذا اتفق كما قلنا أن يعلم الشيء بنفسه بالطرق الثلاث لم يحتج أن يضرب له مثال وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويل وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر مثل من يعتقد ألا سعادة أخروية ها هنا ولا شقاء وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم وأنها خيلة وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط وإذا تقرر لك هذا فقد ظهر لك في قولنا إن ها هنا ظاهرا من الشرع لا يجوز تأويله فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة وها هنا أيضا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول ولذلك قال عليه السلام في السوداء إذ أخبرته أن الله تعالى في السماء أعتقها فإنها مؤمنة إذ كانت ليست من أهل البرهان والسبب في ذلك أن هذا الصنف من الناس الذين لا يقع لهم التصديق إلا من قبل التخيل أعني أنهم لا يصدقون بالشيء إلا من جهة ما يتخيلونه يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوبا إلى شيء متخيل ويدخل أيضا على من لا يفهم من هذه النسبة إلا المكان وهم الذين شذوا عن

رتبة الصنف الأول قليلا في النظر اعتقاد الجسمية ولذلك كان الجواب لهؤلاء في أمثال هذه أنها من المتشابهات وأن الوقف في قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المتأول فإنهم يختلفون في تأويله
قلت الذين سماهم أهل البرهان هنا هم من عناه من الجهمية والدهرية وقد تناقض في هذا الكلام فإنه قد تقدم ما ذكره في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية ولفظه وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك وما ذكره من أن ذلك من الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن العلو مسكن للروحانيين يريدون الله والملائكة وقوله قد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وقد تقدم حكاية قوله فإذا كان هذا هكذا فكيف يكون أهل البرهان متفقين على تأويل ذلك وأن يكون قول الجارية أنه في السماء مما يجب على أهل البرهان تأويله
ثم يقال له هل كان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين من أهل البرهان الحق أم لا فإن قلت لم يكونوا من أهله ولكن المتأخرين وفي الصابئين قبلنا من كان من أهله فهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن السابقين الأولين كانوا أعظم علما وإيمانا من هؤلاء وإن قلت كانوا من أهل البرهان فمن المعلوم بالاضطرار أنهم لم يئولوه كما تأوله هؤلاء المتأخرون بل هم متفقون على أن الله تعالى فوق العرش كما ذكرت أنت إجماع الأنبياء والحكماء على ذلك وكلهم في تحريم تأويل ذلك أعظم من أن يذكر هنا فكيف يكون واجبا

وأيضا فالمتأولون لهذا ليس فيهم من تحمده أنت فإن تأويل ذلك أما أن يكون عن معتزلي أو أشعري أخذ عنه أو من يجري مجراهم وهؤلاء عندك أهل جدل لا أهل برهان وأنت دائما تصفهم بمخالفة الشرع والعقل
وإن قلت نحن أهل برهان وهم المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام فهذا أكذب الدعاوي وذلك أنه لا ريب عند من عرف المقالات وأربابها أن الذي صار به المتكلمون مذمومين هو ما شاركوا به هؤلاء المتفلسفة من القياس الفاسد والتأويل الحائد وأن أحسن حال المتفلسف أن يكون مثل هؤلاء فإذا كان هؤلاء قد اتفقت الأئمة والأمة وعقلاؤهم متفقون أيضا على أنهم فيما قالوه من خلاف مذهب السلف ليسوا أهل برهان بل أهل هذيان كيف بأصحابك الذين اعترف أساطينهم بأنه ليس لهم في العلم الإلهي يقين والمتكلمون لا يقرون على أنفسهم بمثل هذا بل يقولون إن مطالبهم تأولوها بالأدلة العقلية وبسط هذا الكلام له موضع آخر ليس هذا موضعه وليس يلزم من كون الرجل ذا برهان في الهندسة والحساب أن يكون ذا برهان في الطب مع أن كلاهما صناعة حسية وكثيرا ما يحذق الرجل فيهما ومن المعلوم أن العلم بهذه الأمور أبعد عن الطب والحساب من بعد أحدهما عن الآخر
ثم يقال له هب أن تلك الجارية ليست من أهل البرهان فما الموجب لأن يخاطبها الرسول بخطاب الظاهر من غير حاجة إليه فقد كان يمكنه تعرف إيمانها بأن يقول من ربك ومن إلهك ومن تعبدين فتقول الله تعالى فلما يعدل عن لفظ ظاهره وباطنه حق إلى لفظ ظاهره باطل ثم يكلفها مع ذلك تصديق

الباطل ويحرم عليها وعلى غيرها اعتقاد نقيض الباطل فهل فهذا فعل عاقل فضلا عن أن يكون هذا فعل الرسل أم من فعل الكاذبين في خبرهم الموجبين للتصديق بالكذب ثم الله ورسوله يخاطب الخلق بخطاب واحد يخبر به عن نفسه وقد فرض على طوائف أن يعتقدوا ظاهره وإن لم يعتقدوه كفروا وعلى آخرين أن يعتقدوا نقيض ما اعتقده هؤلاء وإن اعتقدوه كفروا ثم مع هذا كله لا يبين من هؤلاء ولا من هؤلاء ولا يبين ما هو مرده به الذي خالف ظاهره بل يدع الناس في الاختلاف والاضطراب وهذا الفيلسوف ادعى أن الاختلاف نما نشأ من جهة كون العلماء فتحوا التأويلات للعامة فأضلوا العامة بذلك حيث فرقوهم ثم هو قد جعل الرسول نفسه أضل الخاصة وأوقع بينهم التفرق والاختلاف حيث عنى بهذا الخطاب باطنا فرضه عليهم ولم يبينه لهم فإن الذنب الذي شنعه على أهل الكلام نسب الأنبياء إلى أعظم منه وقد قال تعالى للرسل أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وقال إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إلى قوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم وقال وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وعلى ما زعمه هؤلاء يكونون قد تفرقوا واختلفوا من قبل أن يأتيهم العلم أو تأتيهم البينة لأنهم زعموا أن في الكتاب ظاهرا يجب على أهل البرهان تأويله وأن الذي يعلمونه هو التأويل الذي قال الله تعالى فيه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ثم يقول وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المتأول فقد يختلفون في تأويله وذلك بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان فإذا لم يبين لهم الرسول مراده فما جاءهم العلم ولا البينة فيكونون معذورين في التفرق والاختلاف كما زعم هؤلاء المنافقون

ثم يقال له البرهان يفضي إلى إحالة الظاهر مثلا أم إلى تعيين المراد أما الأول فهم متفقون عليه وأما تعيين المراد فليس مستفادا من مجرد القياس الذي تسميه البرهان إنما يعرف من حيث مراد المتكلم فكيف يكون اختلافهم في التأويل بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان والبرهان إنما ينفي الظاهر فقط لا يبين ما هو المراد والرد على هؤلاء يطول فليس هذا موضع استقصائه
وإنما الغرض التنبيه على أن هؤلاء الدهرية سلطوا على الجهمية بمثل هذا حتى آل الأمر إلى الكفر بحقيقة الإيمان بالله وباليوم الآخر وجعلوا ذلك هو البرهان والتحقيق الذي يكون للخاصة الراسخين في العلم حتى حرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته وجعلوا أئمة الكفر والنفاق هم أئمة الهدى ورؤوس العلماء وورثة الأنبياء مع أنهم في القياس الذي سموه البرهان إنما أتوا فيه بمقاييس سوفسطائية من شر المقاييس السوفسطائية فآل أمرهم إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في الشرعيات وهذه حال القرامطة الباطنية الذين عظمهم وسلك سبيلهم هذا الفيلسوف ولهذا كان ابن سينا وأمثاله منهم وكان أبوه من دعاة القرامطة المصريين ولذلك اشتغلت بالفلسفة
ثم قال وها هنا صنف ثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شك فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوز تأويله ويلحقه آخرون بالباطن الذي لا يجوز حمله على الظاهر للعلماء لغرابة هذا الصنف واشتباهه والمخطئ في هذ معذور أعني من العلماء
فإن قيل فإذا تردد أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب فمن أي هذه الثلاث مراتب هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله فنقول إن هذه المسألة الأمر فيها أنها من الصنف المختلف فيه وذلك أننا نرى قوما ممن ينسبون أنفسهم

إلى البرهان يقولون إن الواجب حملها على ظاهرها إذ كان ليس فيها برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها وهذه طريقة الأشعرية وقوم آخرون أيضا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافا كثيرا وفي هذا الصنف أبو حامد معدود وكثير من المتصوفة ومنهم من يجمع فيها تأويلين كما يفعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذور والمصيب مشكور أو مأجور وذلك إذا اعترف بالوجود وتأول فيها نحوا من أنحاء التأويل أعني في صفة المعاد لا في وجوده إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود وإنما كان جحد الوجود في هذه كفرا لأنه في أصل من أصول الشريعة وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود وأما من كان من غير أهل العلم فالواجب عليه حملها على الظاهر وتأويلها في حقه كفر لأنه يؤدي إلى الكفر وكذلك ما نرى أن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر لأنه يؤدي للكفر والداعي إلى الكفر كافر ولهذا يجب أن لا تثبت هذه التأويلات إلا في كتب البراهين لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان أما إذا أثبت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطبية والجدلية كما يصنعه أبو حامد فخطأ على الشرع وعلى الحكمة وإن كان الرجل إنما قصد خيرا وذلك أنه رأى أن يكثر أهل العلم بذلك ولكن كثر بذلك أهل الفساد ليس بدون كثرة أهل العلم وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة وقوم إلى ثلب الشريعة وقوم إلى الجمع بينهما ويشبه أن يكون هذا هو أحد مقاصده بكتبه والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفكر أنه لم يلتزم مذهبا من المذاهب في كتبه هو مع الأشعرية أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف كما قيل ... يوم يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معديا فعدناني

والذي يجب على أئمة المسلمين أن ينهوا عن كتبه التي تتضمن العلم إلا لمن كان من أهل العلم كما يجب عليهم أن ينهوا عن كتب البرهان من كان ليس أهلا لها
قلت أما عده أبو حامد ممن لا يقر بمعاد الأبدان فهو وإن كان قد قال في بعض كتبه ما نسبه لأجله إلى ذلك فالذي لا ريب فيه أنه لم يستمر على ذلك بل رجع عنه قطعا وجزم بما عليه المسلمون في القيامة العامة كما أخبر به الكتاب
وأما ذكره أن هذا قول كثير من المتصوفة فلا ريب أن في المتصوفة والمتفقهة وغيرهما من هو صديق ومن هو زنديق فإن انتحال الخيلة والقول ظاهرا ليس بأعظم من انتحال الإسلام وإن كان في نفس ادعاء الإسلام على عهد النبي وفي سائر الأعصار منافقون كثيرون فهؤلاء موجودون في جميع الأصناف من المنتسبين إلى العلم وإلى العبادة وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال النبي صلى الله عليه و سلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها
فأما شيوخ الصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم في الأمة لسان صدق مثل أبي القاسم الجنيد وسهل بن عبدالله التستري وعمرو بن عثمان

المكي وأبي العباس ابن عطاء بل مثل أبي طالب المكي وأبي عبدالرحمن السلمي وأمثال هؤلاء فحاشا لله أن يكونوا من أهل هذا المذهب بل هم من أبعد الطوائف عن مذهب الجهمية في سلب الصفات فكيف يكونون في مذهب الدهرية المنكرين لانفطار السموات والأرض وانشقاقهما نعم يوجد مثل ذلك في المتكلمين بكلام الفقهاء من أهل الفلسفة والكلام وغيرهم وهذا الرجل قد ذكر أصناف الأمة في الأمور الهية الذين سماهم حشوية والأشعرية والمعتزلة والباطنية وذكر الصنف الرابع الباطنية ولم يتعقبهم بكلام إلا ما ذكره من مذهب الصوفية أنهم يلتمسون العلم بطريقة إماتة الشهوات فإن كان قد جعل هؤلاء هم الباطنية فهذا خطأ عظيم وإن كان يوجد فيهم من يقول بقول الباطنية كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين والفقهاء ولعل شبههم في ذلك مع ما حكاه عنهم في أمر المعاد أنهم يقولون علم الباطن وينتسبون إلى علم الباطن ولكن هذا اللفظ فيه إجمال وإيهام فالصوفية العارفون الذين لهم في الأمة لسان صدق إذا قالوا علم الباطن وعلوم الباطن ونحو ذلك فهم لا يريدون بذلك ما يناقض الظاهر بل هم متفقون على أن من ادعا باطنا من الحقيقة يناقض ظاهر الشريعة فهو زنديق وإنما يقصدون بذلك عمل باطن الإنسان الذي هو قلبه بالأعمال الباطنة كالمعرفة والمحبة والصبر والشكر والتوكل والرضا ونحو ذلك ما هو كله تحقيق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى

ومما يبين تناقض الفريقين لاشتراكهما في النفي والتعطيل أن كل حجة يحتج بها أحدهما على الآخر تنقض مذهبه أيضا كما تنقض مذهب خصمه ولهذا عمدة كلامهم بيان كل طائفة تناقض الأخرى وإن كانت هي أيضا متناقضة كما نبهنا عليه غير مرة
ويوضح ذلك ما ذكره هذا القاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على لأصولية هذا بعد أن قال في خطبته أما بعد فإن كنا قد بينا في أول هذا الكتاب مطابقة الحكمة للشرع وأمر الشريعة بها وقلنا هناك إن الشريعة ظاهر ومئول وأن الظاهر فيها هو فرض الجمهور وأن المئول هو فرض العلماء وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله
قلت قد جعل فرض الجمهور اعتقاد الباطل الذي هو خلاف الحق إذا كان الحق خلاف ظاهره وقد فرض عليهم حمله على ظاهره قال وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور كما قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله قلت حرف لفظ حديث علي ومعناه فإن عليا قال كما ذكره البخاري في صحيحه من رواية معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وهذا يدل على نقيض مطلوبه لأنه قال أتحبون أن يكذب الله ورسوله فعلم أن الأحاديث التي قالها الله ورسوله أحاديث لا يطيق كل أحد حملها فإذا سمعها من لا يطيق ذلك كذب الله ورسوله وهذا إنما يكون

في ما قاله الرسول صلى الله عليه و سلم وتكلم به لا في خلاف ما قاله ولا في تأويل ما قال خلاف ظاهره فإن ذكر ذلك لا يوجب أن المستمع يكذب الله ورسوله بل يكذب المتأول المخالف لما قال الله ورسوله نعم نفس ذلك التأويل المخالف لقوله يكون تكذيبا لله ورسوله إما في الظاهر وإما في الباطن والظاهر فلو أريد ذلك لكان يقول أتريدون أن تكذبوا الله ورسوله أو أن تظهروا تكذيب الله ورسوله فإن المكذب من قال ما يخالف قول الله ورسوله إما ظاهرا واما ظاهرا وباطنا وعلي إنما خاف تكذيب المستمع لله ورسوله وهذا لا يكون لمجرد تأويل المتأولين فإن المؤمن لا يكذب الله ورسوله لقول مخالف لتأويل يخالف ذلك بل يرد ذلك عليه
فإن قال هذه التأويلات الباطنة قد ذكرها النبي صلى الله عليه و سلم للخاصة
قيل هذا من الإفك المفترى الذي اتفق أهل العلم بالإسلام على أنه كذب وقد ثبت عن علي رضي الله عنه في الصحيح من غير وجه لما سأله من ظن أن عنده من الرسول علما اختص به فبين لهم علي رضي الله عنه أنه لم يخصه بشيء
قال الحفيد فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه و سلم بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من خالفه إما مبتدع وإما كافر مباح

الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع وسببه ما عرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة الطائفة التي تسمى الأشعرية وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة والتي تسمى المعتزلة والطائفة التي تسمى بالباطنية والطائفة التي تسمى بالحشوية وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وحرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات وزعموا أنها الشريعة الأولى الذي قصد بالحمل عليها جميع الناس وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع وإذا تؤمل جميعها وتؤمل مقصد الشارع ظهر أنها كلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة وأنا أذكر من ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع التي لا يتم الإيمان إلا بها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه و سلم دون ما جعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح وأبدأ من ذلك بتعريف ما قصد في الشرع أن يعتقد الجمهور في الله تبارك وتعالى والطرق التي سلك بهم في ذلك وذلك في الكتاب العزيز ونبتدي من ذلك معرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف وقبل ذلك فينبغي أن نذكر إذا تلك الفرق المشهورة في ذلك فنقول
أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا إن طريق معرفة وجود الله تعالى هو السمع لا العقل أعني أن الإيمان بوجود الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه السمع أن يتلقى من صاحب الشرع كما يتلقى منه أحوال العبادة وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه وهذه الفرقة الظاهر من أمرها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى وتقدس ودعاهم من قبلها إلى الإقرار به وذلك أنه يظهر من غير ما آية من

كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري سبحانه وتعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيها مثل قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية ومثل قوله تعالى أفي الله شك فاطر السموات والأرض إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى وليس لقائل أن يقول إنه لو كان ذلك واجبا على كل من آمن بالله تعالى أعني أن لا يصح إيمانه من قبل وقوعه عن هذه الأدلة لكان النبي صلى الله عليه و سلم لا يدعو أحدا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة فإن العرب كلها كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى وذلك قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ به فدامة الطبع وبلادة القريحة ألا يفهم شيئا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع صلى الله عليه و سلم للجمهور وهذا فهو أقل الوجود وإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع
ثم قال وأما الأشعرية فرأوا أن التصديق بوجود الله تعالى لا يكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية وساق الكلام كما ذكرنا عنه أولا
قلت مسمى الحشوية في لغة الناطقين به ليس اسما لطائفة معينة لها رئيس قال مقالة فاتبعته كالجهمية والكلابية والأشعرية ولا اسما لقول معين من قاله كان كذلك والطائفة إنما تتميز بذكر قولها أو بذكر رئيسها ولهذا كان المؤمنون متميزون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم فالقول الذي يدعون إليه هو كتاب الله والإمام الذي يوجبون اتباعه هو رسول الله صلى الله عليه و سلم

وعلى هذا بني الإيمان وبذلك وجب الموالاة والمعاداة كما قال تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا إلى قوله فإن حزب الله هم الغالبون وقال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وأمثال ذلك وقال تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون وكذلك ذكر ذلك في البقرة والمائدة ولقمان فذكر أن الكفار لا يستجيبون لذلك وكذلك ذكر عن المنافقين فقال ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فأخبر عن الكافرين والمنافقين أنهم يعرضون عن الاستجابة للكتاب والرسول فعلم أن المؤمنين ليسوا كذلك بل هم كما قال الله تعالى إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وقال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وبذلك أمرهم حيث قال يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإذا تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وبذلك حكم بين أهل الأرض كما قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وشواهد هذا الأصل كثيرة

والناس منذ بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه و سلم ثلاثة أصناف إما كافر معلن وإما منافق مستتر وإما مؤمن موافق ظاهرا و باطنا كما ذكر الله تعالى هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة وحينئذ فالواجب أن يكون الرجل مع المؤمنين باطنا وظاهرا وكل قول أو عمل تنازع الناس فيه رده إلى الكتاب والسنة ولا يجوز وضع طائفة بعينها يوالي من والته ويعادي من عادته لا أخص من المؤمنين لو كانت أسماؤهم للتعريف المحض كالمالكية والشافعية والحنبلية أو غير ذلك ولا أعم من ذلك مما يدخل فيه المسلم والكافر كجنس النظر والعقل أو العبادة المطلقة ونحو ذلك ولا يجوز تعليق الحب والبغض والموالاة والمعاداة إلا بالأسماء الشرعية وأما أسماء التعريف كالأنساب والقبائل فيجوز أن يعرف بها ما دلت عليه ثم ينظر في موافقته للشرع ومخالفته له
وإذا كان كذلك فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو ابن عبيد رئيس المعتزلة فقيههم وعابدهم فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله فقال كان ابن عمر حشويا نسبه إلى الحشو وهم العامة والجمهور وكذلك تسميهم الفلاسفة كما سماهم بذلك صاحب هذا الكتاب والمعتزلة ونحوهم يسمونهم الحشوية والمعتزلة تعني بذلك كل من قال بالصفات وأثبت القدر وأخذ ذلك عنها متأخروا الرافضة فسموهم الجمهور بهذا الاسم وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسموا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة فمن قال عندهم بوجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصوم رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والمظالم والشرك ونحو ذلك سموه حشويا كما رأينا ذلك

مذكورا في مصنفاتهم والفلاسفة تسمي من أقر بالمعاد الجسمي والنعيم الحسي حشويا وأخذوا ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعرية فسموا من أقر بما ينكرونه من الصفات ومن يذم ما دخلوا فيه من بدع أهل الكلام والجهمية والإرجاء حشويا ومنهم أخذ ذلك هذا المصنف
ومما يبين ذلك أن القول الذي حكاه عنهم لا يعرف في الإسلام عالم معروف قال به ولا طائفة معروفة قالت به ولكن قد يقول بعض العوام قولا لا يفصح بمعناه وحجته يظن به مستمعه أنه يعتقد ذلك والتحقيق أن هذا النقل إنما نقلته المعتزلة ومن وافقهم عليه كهذا الرجل بطريق اللزوم لا أنهم سمعوه منهم أو وجدوه مأثورا عنهم وذلك أنهم يسمعون أهل الإيمان من أهل الحديث والسنة والجماعة والفقهاء والصوفية يقولون الكتاب والسنة وإذا تنازعوا في مسألة من موارد النزاع بين الأمة في مسائل الصفات أو القدر أو نحو ذلك قالوا بيننا وبينكم الكتاب والسنة فإذا قال لهم ذلك المنازع بيننا وبينكم العقل قالوا نحن ما نحكم إلا الكتاب والسنة ونحو هذا الكلام الذي هو حقيقة أهل الإيمان وشعار أهل السنة والجماعة وحلية أهل الحديث والفقه والتصوف الشرعي قالوا بموجب رأيهم يلزم من هذا أن تكون معرفة الله تعالى لا تحصل إلا بخبر الشارع إذا لم يكن للعقل مجال في إثبات المعرفة وهذا جهل منهم وقول بلا علم فإن أحدا من هؤلاء لم يقل إن الله تعالى لا يعرف إلا بمجرد خبر الشارع الخبر المجرد فإن هذا لا يقوله عاقل فإن تصديق المخبر قبل المعرفة بصدقه في قوله إنه رسول الله بدون المعرفة بأنه رسول ممتنع ومعرفة أنه رسول الله ممن لا يعرف أن الله موجود ممتنع فنقل مثل هذا القول عن طائفة توجد في الأمة أو عن

عالم معروف في الأمة من الكذب البين وهو من جنس وضع الملاحدة للأحاديث المتناقضة على المحدثين ليشنوهم بذلك عند الجهال لكن من عموم المؤمنين أهل الحديث وغيرهم من لا يحسن أن يجيب عما يورد عليه من الشبه ومن لا يحسن البيان عما انعقد في نفسه من البرهان واستقر عنده من الإيمان ولكن هذا لا يبيح أن ينقل عنه البهتان كيف وشعارهم الدعاء إلى الكتاب والسنة والقرآن مملوء من طريق تعريف الله تعالى لعباده بالأدلة الواضحة المعقول والأمثال المضروبة التي هي القياسات العقلية
ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن القرآن بين فيه أصول الدين في المسائل والدلائل على غاية الأحكام ونهاية التمام وأن خلاصة ما يذكره أهل الكلام والفلسفة إنما هو بعض ما بينه القرآن والحديث مع سلامة ذلك عما في كلامهم من التناقض والاختلاف واشتماله على ما تقصر عنه نهاية عقولهم ومالا يطمعون أن يكون من مدلولهم وبينا أن تعريف الشارع ودلالة الشرع ليس بمجرد الإخبار كما يظنه من يظن ذلك من أهل الكلام والفلسفة فإن مثل هذا الظن بالشارع هو الذي أوجب أن يلمزوا المؤمنين بما هم به أولى وأحرى والذين يلمزون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا وهذا حال الكفار والمنافقين الذين قال الله تعالى فيهم وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن وقال إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين

فإن الله سبحانه وتعالى ضمن كتابه العزيز فيما أخبر به عن نفسه وأسمائه وصفاته من الأدلة والآيات والأقيسة التي هي الأمثال المضروبات ما بين ثبوت المخبر بالعقل الصريح كما يخاطب أولي الألباب والنهى والحجر ومن يعقل ويسمع بل قد ضمن كتابه من الأدلة العقلية في أمر المعاد ما هو بين لعامة العباد بل ضمن كتابه العزيز من الأدلة العقلية على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد ما نبه عليه في غير هذا الموضع كقوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط فكيف يكون أهل الكتاب والسنة والإيمان يقولون إن الله تعالى إنما يعرف وجوده بمجرد خبر الشارع المجرد
وأما ما قد يقولونه من أن العقل لا مجال له في ذلك أو ينهون عن الكلام أو عن ما سمي معقولات ونظرا ونحو ذلك فهذا له وجوه صحيحة ثابتة بالكتاب والسنة بل وبالعقل أيضا وبعضهم قد لا يفرق بين ما يدخل في ذلك من حق وباطل وبعضهم قد يقصر عن الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة كما ذكره هذا الرجل ولا ريب أن التقصير ظاهر على أكثر المنتسبين إلى الكتاب والسنة من جهة عدم معرفتهم بما دل عليه الكتاب والسنة ولوازم ذلك
فيقال من الوجوه الصحيحة إنما نطق به الكتاب وبينه أو ثبت بالسنة الصحيحة أو اتفق عليه السلف الصالح فليس لأحد أن يعارضه معقولا ونظرا أو كلاما وبرهانا وقياسا عقليا أصلا بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علما كليا عاما وأما تفصيل العلم ببطلان ذلك فلا يجب على كل أحد

بل يعلمه بعض الناس دون بعض وأهل السنة الذين هم أهلها يردون ما عارض النص والإجماع من هذه وأن زخرفت بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون فأعداء النبيين دائما يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا
وكذلك من الوجوه الصحيحة أن موارد النزاع لا تفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة وأن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله وذلك أن قوى العقول متفاوتة مختلفة وكثيرا ما يشتبه المجهول بالمعقول فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معين ولا معقوله وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى ولهذا يوجد من خرج عن الاعتصام بالكتاب والسنة من الطوائف فإنهم يفترقون ويختلفون ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك وأهل الرحمة هم أهل الإيمان والقرآن
ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة و السلام إما بخبره واما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية ولهذا يقولون لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
ثم ذكر ابن رشد الكلام على الطريق التي عزاها إلى الأشعرية وأبو الحسن الأشعري قد بين في رسالته إلى أهل الثغر بيان الأبواب أن هذه الطريق مبتدعة وأنها ليست هي طريقة الأنبياء وأتباعهم بل هي محرمة عندهم

كما سنذكر ذلك عنه وكذلك ذكر غير واحد عن متقدمي أصحابه ومتأخريهم حتى أبو عبدالله الرازي بين أن معرفة الله تعالى ليست منحصرة في هذه الطريق التي حكاها عن الأشعرية وبين غلط أبي المعالي في قوله اعلم أن أول ما يجب على البالغ العاقل القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم وبين أن العلم بحدوث العالم يمكن أن يعلم بالسمع فضلا عن أن لا يكون طريقا إلى إثبات الصانع إلا العلم بحدوثه بالطريق الذي ذكره وأن يكون القصد إلى النظر في هذه الطريق وكذلك الغزالي قبله بين حصول المعرفة بدون هذه الطريق
وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة فكثير من أئمة الأشعرية أو أكثرهم يخالفونه في ذلك ولا يوجبونها بل إما أن يحرموها أو يكرهوها أو يبيحوها وغيرها ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لا تتوقف على هذه الطريقة ولا يجب سلوكها
ثم هم قسمان قسم يوسقها ويسوق غيرها ويعدها طريقا من الطرق فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم والقسم الثاني يذمونها ويعيبونها ويعيبون سلوكها وينهون عنها إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم كما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته كما سنذكره عنه كما ذكر ذلك طوائف ممن لا يبطل تلك الطريقة كأبي سليمان الخطابي ونحوه
قال الشيخ أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين أما بعد فإن أخا من إخواني سألني بيان ما يجب على المسلمين علمه ولا يسعهم جهله من أمر الدين وشرح أصوله في التوحيد وصفات الباري تعالى والكلام في القضاء والقدر والمشيئة والدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وبيان إعجاز القرآن والقول في ترتيب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وما يتصل به من الكلام

وطلب إلي أن أورد في كل شيء منها أوضح ما أعرفه من الدلالة وأقربها من الفهم ينتفع به من لا يرضى بالتقليد في ما يعتقده من أصول الدين وكان مع ذلك ممن لا يحب النظر في الكلام ولا يجرد القول على مذهب المتكلمين وذكر تمام الكلام وذكر عدة أصول من الاستدلال بخلق الإنسان والاستدلال بتركيب المتضادات وتأليفها والاستدلال بما في الوجود من الحكمة الغائية الذي يسميه ابن رشد دليل العناية الدال على الإرادة والرحمة والعناية الدالة على الصانع إلى أن قال
وطرق الاستدلال كثيرة إلا أنا أخترنا منها في الكتاب ما هو أقرب إلى الأفهام وأشبه بمذاهب السلف والعلماء وقد أنزل الله تعالى كتابه على رسوله صلى الله عليه و سلم وحاج به قومه وهم عرب ليسوا بفلاسفة ولا متكلمين وإنما خاصمهم بما يفهمه ألوا العقول الصحيحة ويستدركه ذووا الطباع السليمة وتشهد له المعارف وتجري به العادات القائمة فما قامت الحجة عليهم كان من الاستدلال على إثبات الصانع وحدوث العالم قال وقد أبى متكلمو زماننا هذا إلا الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها وزعموا أنه لا دلالة أقوى من ذلك ولا أصح منه ونحن إن كنا لا ننكر الاستدلال بهذا النوع من الدلالة فإن الذي أختاره ونؤثره هو ما قدمنا ذكره لأنه أدلة اعتبار وطريق السلف من علماء أمتنا وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم وفي الأعراض اختلاف كثير فمن الناس من ينكرها ولا يثبتها رأسا ومنهم من لا يفرق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بأنفسها كالجواهر والاستدلال لا يصح بها إلا بعد استبراء هذه الشبهة وطريقنا الذي سلكناه بريء من هذه الآفات سليم من هذه الريب

قال ولقد سلك بعض مشائخنا في هذا طريقة الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا إليه صلى الله عليه و سلم وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لا يتسع فهمه لاستدراك وجوه سائر الأدلة ولم يتبين تعلق الأدلة بمدلولاتها ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها
قلت هذه الطريق يستدل صاحبها بالنبوة على حدوث العالم لأن معرفة الصانع تعلم بدون ذلك إما بالأدلة الأخر وإما بالفطرة وصدق الرسول مبني على مقدمات ضرورية أو نظرية قريبة من الضرورية ثم يستدل بقوله على حدوث العالم فالخطابي في هذه الطريق ذكرأن طريقة الأعراض غير منكرة عنده ولكنه كرهها ورغب عنها إلى ما ذكر أنه طريق السلف لأنها بدعة ولأن فيها آفات
وقد قال في رسالته في الغنية عن الكلام وأهله كلاما أسد من هذا وبين أنها محرمة كما ذكره الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر فقال الخطابي في هذه الرسالة عصمنا الله تعالى وإياك من الأهواء المضلة والآراء المغوية والفتن المحيرة ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف وانتهجها بعدهم صالح الخلف وجنبنا وإياك مداحض البدع وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسوى الواضحة وأعاذنا وإياك من حيرة الجهل وتعاطي الباطل والقول بما ليس لنا به علم والدخول فيما لا يعنينا والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه ونهينا عنه ونفعنا وإياك بما علمنا وجعله سببا لنجاتنا ولا جعله وبالا علينا برحمته وقفت على

مقالتك وما وصفته من أمر ناحيتك وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في ذلك بأن للكلام وقاية السنة وجنة لها يذب به عنها ويذاد بسلاحه عن حريمها وفهمت ما ذكرت من ضيق صدرك بمجالستهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن توقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطلبونك بأدلة العقول ويأخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة أولئك من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم ردها ولا يسوغ لهم من جهة المعقول إنكارها فرأيت إسعافك به لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين وأنا أسأل الله تعالى أن يوفق لما ضمنت لك وأن يعصم من الزلل فيه
اعلم يا أخي أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت فشاعت في البلاد واستفاضت ولا يكاد يسلم من وهج غبارها إلا من عصمه الله وذلك مصداق لقول الرسول صلى الله عليه و سلم إن الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين أهله فلا تنكر ما تشاهده منه وسل الله العافية من البلاء واحمده على ما وهبه لك من السلامة

ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته سول لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن بوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان فيها كان أسوة العامة وعد واحدا من الجمهور والكافة فجرهم بذلك إلى التنطع في النظر والتبدع في مخالفة السنة والأثر ليبينوا عن طريق الدهماء ويتميزوا في الرتبة عن من هو دونهم في الفهم والذكاء واختدعهم بهذه المقدمة حتى أزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا في حقائقها ولم يخلصوا فيها إلى شفاء نفس ولا قبلوها بيقين ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض فتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم ولغته المأثورة عنه وردوها على وجوهها وأساؤا في نقلها القالة فوجهوا إليهم الظنون ورموهم بالفرية ونسبوهم إلى ضعف السنة وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث والجهل بتأويله ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين وروح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصباح النور والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه وقد كانوا ذوا عقول وافرة وأفهام ثاقبة وكان في زمانهم هذه الشبهة والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله به من توفيقهم وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن

فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها واعترضهم الملحدون بشبههم والمتحذلقون بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ويدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة في الرأي وعيبا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان
فإن قال هؤلاء فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها
قلنا إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكن لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم واتباع الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وابين برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المتعوجة التي لا يؤمن الغيب على راكبها والابتداع والانقطاع على سالكها
وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين رحمة الله عليهم أجمعين والاستدلال على معرفة الصانع سبحانه وتعالى وإثبات توحيده وصفاته

وسائر ما ادعى أهل الكلام أنه لا يتوصل إليه إلا من الوجه الذي يزعمونه هو أن الله سبحانه وتعالى لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وقال له يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وقال صلى الله عليه و سلم في خطبته في حجة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ألا هل بلغت فكان ما أنزل الله تعالى وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله اليوم أكملت لكم دينكم فلم يترك صلى الله عليه و سلم شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال فمعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تبرح فيهما الحاجة داعية أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر فيها البيان لكان قد كلفهم مالا سبيل لهم إليه وإذا كان على ما قلت وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدعهم من هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها إذ لا يمكن أحدا من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة من هذا النمط حرف واحد فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذاهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم
قلت وهذا الكلام يشبه ما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته ومضمون ذلك أن هذه الطريقة محدثة مبتدعة مستغنى عنها منهي عن سلوكها لذلك وليس فيه بيان أنها باطلة ولكون أمثال هؤلاء لا يعتقدون بطلانها في الباطن وإن نهوا عن سلوكها وقع منهم أقوال مبنية على بعض مقدماتها وإن خالفت النصوص والمعقول والذي عليه حذاق الأئمة والعلماء أنها طريقة باطلة كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفلاسفة وهذا الحفيد وإن بين

بطلانها لكن طريقته في الباطن أبطل من هذه وإن سماها طريقة البرهان ولهذا لما فرغ من الرد على الأشعرية في هذه الطريقة وذكر طريقة ثانية لأبي المعالي وهي أن العالم جائز والجائز لا بد له من مخصص تكلم عليها بما ليس هذا موضعه
إلى أن قال فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة وجود الباري ليست طرقا نظرية يقينية ولا طرقا شرعية يقينية وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على هذا المعنى أعني معرفة وجود الصانع وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين أحدهما أن تكون يقينية والثانية أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول
قال وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقا نظرية أعني مركبة من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة مثل قوله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله ومثل قوله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ومثل قوله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا إلى أشباه ذلك كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى ونحن نقول إن هذه الطريقة وان سلمنا وجودها ليست عامة للناس بما هم ناس ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها بالناس عبثا

والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر نعم لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطا في صحة النظر مثل ما تكون الصحة شرطا في ذلك لاأن إماتة الشهوات هي التي تفيد بذاتها وإن كانت شرطا فيها كما أن الصحة شرط في التعلم وإن كانت ليست مفيدة له ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملتها حثا أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل أن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلنا وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه
قال وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية
قال فإن قيل فإذا قد تبين أن هذه الطرق كلها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري سبحانه وتعلى فما هي الطريقة الشرعية التي نبه الكتاب العزيز عليها واعتمدتها الصحابة رضوان الله عليهم قلنا الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها إذا استقرىء الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين أحدهما طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها ولنسم هذا دليل العناية والطريقة الثانية ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل والنسم هذا دليل الاختراع ثم تكلم على شرح كل واحد من الطريقين
قلت أما المعتزلة فطريقتهم هي طريقة الأعراض هم أهل هذه الطريقة وأشهر الطوائف بها وعنهم تلقاها من المعتزلة وبمثل هذه الطريقة ولوازمها

كثر ذم السلف والأئمة في ما ذموه من الكلام ومن الجهمية فإنهم من أشهر الطوائف بهذا الكلام المبني على هذه الطريقة طريقة الأعراض والجواهر ومذهب الجهمية الذي هو نفي الصفات إذ البدع المضافة إلى الأشعرية هي تعلما من أصولهم وبذلك نعتهم من نعتهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة أيضا كما ذكره أبو نصر في رسالته إلى أهل زبيد قال ولقد حكى لي محمد بن عبدالله المالكي المغربي وكان فقيها صالحا عن الشيخ أبي سعيد البيرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذه خلف المعلم وكان من فقهاء المالكية أنه قال الأشعري أقام أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول قال أبو نصر وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وعودته
قلت وسبب هذا مقدمات هذه الحجة ونحوها حيث لم يبطلها وأبو الحسن الأشعري يذكر أن المعتزلة مع الفلاسفة كذلك كما ذكره في كتاب المقالات فقال الحمد لله الذي نظرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة الحائرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وأنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له عزة له ولا جلالة له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا عين لم تزل ولم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي

كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أن الباري ليس بعالم قادر سميع بصير حليم خليل في حقيقة القياس وكذلك ذكره في الإبانة
وأما الفرقة الرابعة وهي الباطنية فلم يذكر لهم مقالة بعضها يرد وذلك لأنه منهم فإنه يرى أن ظواهر الشريعة في وصف الله تعالى واليوم الآخر له باطن يخالف ظاهره وأن فرض الجمهور اعتقاد ظاهره ومن تأوله فقد كفر وفرض الذين سماهم أهل البرهان اعتقاد باطنه ووجوب تأويله ومن لم يتأوله فقد كفر لكن قد ذكر عن الصوفية أنهم يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها عن العوارض الشهوانية ولم يرض هذه الطريقة بل ذكر أن إماتة الشهوات شرط في صحة النظر لا أنها تفيد المعرفة بذاتها وقد ذكر مثل هذا عن طائفة من الصوفية أنهم يرون في المعاد رأي الفلاسفة المشائين فتكون الصوفية معدودين عنده من الباطنية وإن كان اسم الباطنية يتناولهم عنده ويتناول الفلاسفة المشائين
وحقيقة الأمر أن اسم الباطنية قد يقال في كلام الناس على صنفين أحدهما من يقول إن للكتاب والسنة باطنا يخالف ظاهرها فهؤلاء هم المشهورون عند الناس باسم الباطنية من القرامطة وسائر أنواع الملاحدة وهم الذين عناهم هذا الفيلسوف
وهؤلاء في الأصل قسمان قسم يرون ذلك في الأعمال الظاهرة حتى في الصلاة والصوم والحج والزكاة وتحريم المحرمات من الفواحش والظلم والشرك ونحو ذلك فيرون أن الخطاب المبين لوجوب هذه الواجبات

وتحريم المحرمات ليس هو على ظاهره المعروف عند الجمهور ولكن لذلك أسرار وبواطن يعرفونها كما يقولون الصلاة معرفة أسرارنا والصوم كتمان أسرارنا والحج الزيارة إلى شيوخنا المقدسين فهؤلاء زنادقة منافقون باتفاق سلف أئمة الإسلام ولا يخفى نفاقهم على من له بالإسلام أدنى معرفة ثم خواصهم لا يقولون برفع هذه الظواهر عن الجمهور بل يقولون برفعها عن الخاصة كما يقولون في الأمور العملية فإن من دفع أن يكون الخطاب العلمي مرادا به هذه الأعمال فهو للخطاب العملي أعظم دفعا وهذا الصنف يقع في القرامطة المظهرين للرفض ويقع في زنادقة الصوفية من الاتحادية الحلولية ويقع في غالية المتكلمة لكن هؤلاء قد يدعون تخصيص الخطاب العام الموجب للصلاة والزكاة والصيام والحج وإن كان ذلك كذبا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام أنه باطل لا يدعون رفع حكم الخطاب مطلقا وأما عقلاء هذه الطائفة الباطنية مثل ابن رشد هذا وأمثاله فإنهم يقولون بالباطن المخالف للظاهر في العلميات وأما العمليات فيقرونها على ظاهرها وهذا قول عقلاء الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام مع أنهم في التزام الأعمال الشرعية مضطربون لما في قلوبهم من المرض والنفاق وتارة يرون سقوطها عنهم أو عن بعضهم دون العامة وابن سينا كان مضطربا في ذلك لكن له عهد قد التزم فيه موافقة الشريعة وهم في الجملة يرون موافقة الشريعة العملية أولى من مخالفتها وليس هذا موضع تفصيل مقالات الناس ولا يكاد تفصيل الباطل ينضبط
وأما القسم الثاني فالذين يتكلمون في الأمور الباطنة من الأعمال والعلوم لكن مع قولهم إنها توافق الظاهر ومع اتفاقهم على أن من ادعى باطنا يخالف الظاهر فهو منافق زنديق فهؤلاء هم المشهورون بالتصوف عند الأمة وهم في ما يتكلمون فيه من الأعمال الباطنة وعلم الباطن يستدلون على ذلك بالأدلة

الشرعية من الكتاب والسنة كما يستدل بذلك على الأعمال الظاهرة وذلك في علم الدين والإسلام كما للإنسان بدن وقلب وهؤلاء من أعظم الناس إنكارا على من يخالف الظاهر ممن فيه نوع تجهم دع الباطنية الدهرية وهم أشد إيمانا بما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم باطنا وظاهرا من غيرهم وأشد تعظيما للأعمال الظاهرة مع الباطنة من غيرهم
ولكن يوجد فيهم من جنس ما يوجد في بقية الطوائف من البدعة والنفاق مثل من قد يرى الاستغناء بالعمل الباطن عن الظاهر ومن يدعي أن للقرآن باطنا يخالف ظاهره ونحو ذلك من صنوف المنافقين والزنادقة فهؤلاء بالنسبة إلى الصوفية الذين هم مشائخ الطريقة الذين لهم في الأمة لسان صدق بالنسبة إلى المنافقين الزنلدقة ومن متكلمي الفلسفة ونحوهم موجودين في الفقهاء بالنسبة إلى الفقهاء الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق فكما أن أولئك الأئمة الفقهاء برءاء من بدع أهل الكلام فضلا عن بدع الفلاسفة من الباطنية ونحوهم فكذلك المشائخ الصوفية برآء من بدع أهل التصوف فضلا عن من دخل فيهم من المتفلسفة وغيرهم فهذا أصل عظيم ينبغي معرفته
واعتبر ذلك بما ثبت مقبولا من أئمة المشائخ كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرحي والسري السقطي والجنيد بن محمد وسهل ابن عبدالله التستري وعمرة وبن عثمان المكي وخلائق قبل هؤلاء من الصحابة

والتابعين ومن بعدهم من الذين ذكرهم أبو نعيم الأصبهاني في كتاب حلية الأولياء وذكرهم أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه صفوة الصفوة من المتقدمين والمتأخرين
فإن المصنفات في أخبار الزهاد ثلاثة أقسام
قسم جرد النقل لأخبار القرون المفضلة من الصحابة والتابعين ونحوهم كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المشهور في الزهد فإنه صنفه على الأسماء وذكر فيه زهد الأنبياء والصحابة والتابعين وإن كان آخرون من المصنفين في الزهد كعبدالله بن المبارك وهناد بن السري صنفوا ذلك على الأبواب
وقسم ذكروا أخبار الزهاد المتأخرين من حين حدث اسم التصوف كما فعل أبو عبدالرحمن السلمي في كتابه في طبقات الصوفية وكما فعل أبو القاسم القشيري في رسالته وابن خميس في مناقب الأبرار ونحو هؤلاء

وقسم ذكروا المتقدمين والمتأخرين كما فعل الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما
وهؤلاء المشائخ الموجودون في هذه الكتب ليس فيهم من هو معروف بإعتقاد مذهب الباطنية المخالف للظاهر بل لهم من الكلام في نقيض ذلك بل في رد البدع الصغار وحفظ الشريعة باطنا وظاهرا من الكلام والقوة في ذلك والموالاة عليه والمعاداة عليه مالا يوجد كثير منه للكثير من أئمة الفقهاء وحذاق الشيوخ أكثر عناية بالرد على الجهمية من كثير من حذاق الفقهاء لا سيما الكاملين في التصوف منهم وهم أهل الحديث كما كانوا يوصون الإنسان أن يكتب الحديث وإن تصوف فإن هؤلاء من أعظم الناس رعاية لما جاءت به الشريعة من الأقوال والأعمال ومحافظة على ما دل عليه ظاهرها مع تحقيق باطنها فيجمعون بين الظاهر والباطن
وأما ما حكاه عنهم حيث قال وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طريقة نظرية أعني من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون المعرفة بالله وبغيره من الموجودات بشيء يلقي في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب
فيقال هذه الأشياء إنما أخذها هذا من كلام أبي حامد فإنه كثيرا ما يذكر في كتبه أن الطريق إلى المعرفة هي هذا وهو يذكر ذلك في الكتب التي يذكر فيها المشائخ الصوفية كالإحياء وغيره ويذكر بعض ما في

النصوص والآثار وكلام المشائخ الصوفية من الدلالة على تأثير العمل الصالح في حصول العلم فظن هذا وأمثاله أن هذا مذهب الصوفية كما حكاه وليس الأمر على ما قالوه بل مشائخ الصوفية الذين لهم في الأمة لسان صدق متفقون على وجوب تعلم العلم الشرعي وتدبر كتاب الله والنظر فيما ذكره فيه من الآيات والأمثال المضروبة ومتفقون أيضا على النظر والاعتبار بما في المخلوقات من الآيات بل هم أعظم تجردا لكثير من النظر والاعتبار في الآيات المسموعة والآيات المشهودة من كثير من أهل الكلام والفقه وحالهم في ذلك أشهر عند من يعرفه من أن يحتاج إلى بسط
وأما أنهم يقولون إن مجرد ترك الشهوات والتجرد المحض يوجب معرفة ما جاءت به الرسل من غير نظر في ذلك وتدبر فهذا ليس طريق القوم الذين لهم في الأمة لسان صدق ولهذا وصيتهم بالعلم الشرعي والمحافظة عليه في الأصول الخبرية وفي الأعمال أعظم من أن يذكر هنا نعم فيهم ممن قد تجرد لبعض العبادات كالذكر ويوصون بذلك في الابتداء ليصفى به القلب ويثبت على الإسمان وينقطع عن الالتفاف إلى غير الله فليس ذلك مجرد ترك الشهوات بل نفس الذكر لله تعالى والاستحضار هو الذي يرقي النفس ويصلح القلب وينوره ويقويه ويثبته وإنما ترك الشهوات معين على ذلك أو شرط فيه لا أنها هي كل الطريق إذ الأمور العدمية لا تحصل بنفسها أمورا وجودية ولكن قد تكون شرطا في الأمور الوجودية
وأيضا فهم وغيرهم من أهل الكلام والفقه والحديث يقولون إن المعارف التي يزعم النظار أنها لا تحصل إلا بالقياس قد تحصل بالفطرة البديهية الضرورية عند ترك النفس هواها وتوجهها إلى طلب الحق وهذا والله أعلم هو أصل المعنى الذي قال عنهم لأجله ما قال ولكن هذا ليس كلام الصوفية وحدهم بل حذاق

المتكلمين يوافقونهم على هذا حتى أبو عبدالله الرازي ونحوه فإنه قال في مسألة وجوب النظر لما ذكر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر فطالب المعارض بالدليل فقال من جهة نفسه الطريق إلى تحصيل العلم بالأشياء إما الحس أو الخبر أو النظر والأولان لا يكونان طريقين فتعين النظر وقال من جهة المعترض لا نسلم أن طريق تحصيل هذه المعارف هذه الطرق الثلاث فما الدليل عليه ثم إنا نبين ها هنا طريقا آخر وهو تصفية النفس عن العلائق الجسدانية والهيئات البدنية فإنها متى خلت عن هذه الأمور حصلت لها عقائد يقينية وهذا هو طريق الصوفية وأصحاب الرياضة فإنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في المعارف الإلهية وأما أصحاب النظر فقل ما يحصل لهم مثل هذا الجزم وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى معرفة الله تعالى فلا أقل من أن تكون من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله فإذا كان كذلك بطل ما ذكرتموه من الحجة وقال في جواب هذا قوله لم لا يجوز أن تكون التصفية طريقا إلى اكتساب المعارف قلنا العقائد الحاصلة عن التصفية إما أن تكون ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها شيء من العلوم النظرية أو لا يلزم فان لزم فتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية ولا عبرة حينئذ بذلك فإن أمثال تلك العقائد قد تحصل لأصحاب الرياضة من المبطلين نحو اليهود والنصارى والدهرية
قلت وقد رأيت بخط القاضي أبي البيان أحمد بن محمد بن خلف المقدسي حكاية مضمونها أن الشيخ أحمد الخيوقي المعروف بالكبدي أخبره أنه دخل

عليه إمامان من أئمة الكلام أحدهما أبو عبدالله الرازي والآخر من شيوخ المعتزلة الذين بتلك البلاد بلاد خراسان وخوارزم فقالا لي قال يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقلت لهم نعم فقالا كيف تعلم علم اليقين ونحن نتناظر من وقت كذا إلى كذا كلما أقام دليلا أظنه قال على صحة الإسلام أفسدته وكلما أقمت دليلا أفسده وقمنا ولم يقدر واحد منا يقيم دليلا على الآخر فقال فقلت ما أدري ما تقولان أنا أعلم علم اليقين فقالا فصف لنا علم اليقين قال فقلت هو واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها وهذا الجواب مناسب لما يعلمانه من حد العلم الضروري فإن العلم الضروري هو الذي يلزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه فبين أن اليقين الذي يحصل لنا أمر نضطر إليه يرد على قلوبنا لا نقدر على دفعه قال فقالا له كيف الطريق إلى هذه الواردات فدلهما على طريقة وهي الإعراض عن الشواغل الدنيوية والإقبال على ما يؤمر به من العبادات والزهد قال فقال الرازي أنا لا يمكنني هذا فإن لي تعلقات كثيرة وأما المعتزلي فقال أنا محتاج إلى هذه الواردات فقد أحرقت الشبهات قلبي فأخبره الشيخ بما يعمله من الذكر والخلوة فتعبد مدة فلما خرج من الخلوة قال يا سيدي والله ما الحق إلا ما يقوله هؤلاء المشبهة هذا معنى الحكاية أو نحو ذلك وذلك أن المعتزلة يسمون من أثبت الصفات مشبها وكان يعتقد النفي لا يرى أن الخالق يتوجه إليه القلب إلى جهة فوق ولا نحو ذلك فلما خلا قلبه من تلك العقائد والأهواء التي هي الظن وما تهوى الأنفس حصل له بالفطرة علوم ضرورية توافق قول المثبتة
ومع هذا فالمشائخ الصوفية العارفون متفقون على أن ما يحصل بالزهد والعبادة والرياضة والتصفية والخلوة وغير ذلك من المعارف متى خالف الكتاب والسنة أو خالف العقل الصريح فهو باطل ومن زعم من المنتسبين إليهم أنهم يجدون

في الكشف ما يناقض صريح العقل أو أن أحدهم يرد عليه أمر يخالف الكتاب والسنة بحيث يكون خارجا عن طاعة الرسول صلى الله عليه و سلم وأمره أو أنه يحصل له علم مفصل بجميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم وأمر به فهو عندهم ضال مبطل بل زنديق منافق لا يجوزون قط طريقا يستغنى به عن اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم فيما يخبر به الرسول ويأمر به فضلا عن أن يسوغ له مخالفة الرسول صلى الله عليه و سلم في أمره وخبره وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ولو جاز ذلك لأحد لكان مثل الرسول صلى الله عليه و سلم ولم يكن محتاجا إلى متابعته في خبره وأمره وهذه حال الذين إذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله وقال تعالى أيطمع كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة
ولكن هؤلاء الضالون المنافقون منهم المسوغون للاستغناء عن الرسول بكشفهم أو مشاهدتهم أو لمخالفته بخاصة انفردوا بها عن جميع المؤمنين هم في ذلك بمنزلة كثير من أهل الكلام الظانين أنهم يصلون بالأدلة العقلية إلى ما يستغنون به عن الرسول وأنهم يدركون بمقاييسهم العقلية نقيض ما أخبر به الرسول وهذه الزندقة والنفاق في الطائفتين هي من حال المتفلسفة والباطنية ونحو هذه الأصناف المعروفين بالنفاق
وأما قوله ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلنا

فيقال الشارع لم يأمر بالأعمال لمجرد كونها معينة للنظر على حصول العلم بل هذا إنما يظنه هؤلاء المتفلسفة ونحوهم من المبطلين الذين يظنون أن غاية الكمال الإنساني المطلوب هو أن يكون الإنسان عالما وهذا في الجهل كما قد بسطناه في غير هذا الموضع بل مقدمهم الجهم بن صفوان لما ادعى أن المعرفة في القلوب تنفع وإن لم يكن معها عمل أطلق غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وغيره تكفير من يقول ذلك فكيف بمن يقول إنها المقصودة فقط وما سواها وسيلة هذا لعمري لو كان مقصودهم المعرفة التي دلت عليها الرسل فكيف وهم يعنون بالمعرفة عقائد أكثرها باطلة مناقضة للشرع والعقل بل كل واحد من علم القلب وعمله الذي أصله محبة القلب هو أمر مأمور به مقصود للشارع فالعلم بمنزلة السبب والأصل يوجب المحبة والإرادة وطلب المحبوب المعبود ثم كلما ازداد العبد معرفة ازداد محبة وكلما ازداد محبة ازداد عبادة والمطلوب المقصود الذي هو الغاية هو الله سبحانه وأن يكون العبد عابدا له قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وليست عبادته مجرد الأعمال البدنية بل أصل العبادة معرفته وكمال محبته وكمال تعظيمه وهذه الأمور تصحبه في الدار الآخرة فكل من النظر والعمل مأمور به مقصود للشارع وكل منهما معين للآخر وشرط في حصول المقصود بالآخر فإن الناظر مع سوء قصده وهواه لا يحصل له المطلوب لا من العلم ولا من العمل والعابد مع فساد نظره لا يحصل له المقصود لا من العلم ولا من العمل بل كلاهما واجب لنفسه وشرط للآخر فلا بد من سلوك الطريقين معا ليس ذلك في وقت واحد ولا بد أن يكون ذلك جميعه موافقا لما أخبر به الرسول ولما أمر به فإذا حصل هذا وهذا كان العبد من الذين هم على هدى من ربهم الذين هم

المفلحون وإلا كان من المغضوب عليهم أو الضالين مثل من اقتصر على النظر دون العمل أو على العمل دون النظر أو جمعهما وأعرض عن كون نظره وعمله على الوجه المشروع المأمور به فكيف بمن كان له نظر مجرد غير شرعي كحال كثير من المتفلسفة والمتصوفة فهذا هذا والله أعلم
ولا ريب أن من أشهر مشائخ الصوفية وأعظمهم عندهم وعند العامة في عصر أبي المعالي الجويني هو شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري وأحوالهم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما فالينظر ما ذكر هؤلاء في مصنفاتهم ولهذا كانت هذه الحجة التي جعلها المتكلمون الجهمية الدين وهي حجة الأعراض مستلزمة في الحقيقة لحدوث الرب وتعطيله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وكان في المعتزلة أخذها من أخذها من الأشعرية وكان بينها وبين مذهب الدهرية من الملازمة ما تؤل إليه كما نبهنا عليه تكلم الناس بذلك حتى قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري في كتابه المشهور في ذم الكلام وأهله ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما ادعته من أمور الفلاسفة ولم يقف فيها

إلا على التعطيل البحت وإن قطب مذهبهم ومنتهى عقدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم إن الفلك دوار والسماء خالية وأن قولهم إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فرارا من الإثبات وذهابا عن التحقيق فإن قولهم سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قادر بلا قدرة إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة ثم قالوا لا صورة له ثم قالوا لا شيء فإنه لو كان شيئا لا أشبه الأشياء حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء إذ قالوا الباري لا صفة ولا لا صفة خفوا على قلوب ضعفى المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم إذ كان ظاهر تعلقهم القرآن وإن كان اعتصاما به من السيف واجتنابا به منهم وإذ هم يوردون التوحيد ويخادعون المسلمين ويحملون الطيالسة فافتضحوا بمعايبهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكتهم فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسن العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية من مقالات علماء المسلمين فيهم ودأب الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة فعلت عليهم الوحشة وطالت عليهم الذلة وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصبغوا كلامهم صبغا تكون ألوح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أوليهم تحدوا بذلك المساغ ليتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخاريق ترائا للعين بغير ما في الحشايا ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يكسى لحاء السنة وعقد الجهمية تنحل ألقاب الحكمة

يردون على اليهود قولهم يد الله مغلولة فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونون أسوء حالا من اليهود لأن الله تعالى أثبت الصفة ونفى النعت واليهود أثبتت الصفة والنعت وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا النعت
ويردون على النصارى في مقالهم في عيسى وأمه فيقولون لا يكون في المخلوق إلا المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم وكلام آخرهم كخيط السبحانة فاسمعوا الآن يا ذوي الألباب وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك قالوا قبح الله مقالتهم أن الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون ليس هو في مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية ابن الحكم رضي الله عنه أين الله وقالوا هو من فوق كما هو من تحت لا يدرى أين هو ولا يوصف بمكان وليس هو في السماء وليس هو في الأرض وأنكروا الجهة والحيز وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلاما وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به ثم يقولون ليس هو في مكان
ثم قالوا ليس له صوت ولا حرف وقالوا هذا ثاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد به النفس وأريد به النفس وهذا صوت القاري أما ترى منه حسا وغير حس وهذا لفظه أو ما نراه مجازا به حتى قال رأس رؤوسهم أو يكون قرانا من لبد وقال آخر من خشب فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تعالى تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك ثم قالوا غير مخلوق

ومن قال مخلوق كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة وإنما اعتقادهم القرآن غير موجود لفظية الجهمية الذكور بمرة والأشعرية الإناث بعشرة مرات
وأولئك قالوا لا صفة وهؤلاء يقولون وجه يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين لعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جداراهما يتراءيان ويد ليد المنة والعطية والأصابع كما يقال خراسان هي أصبعي الأمير والقدمين كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي أنا مالك أمره وقال الكرسي القلم والعرش الملك والضحك الرضا والاستواء الاستيلاء والنزول القرب والهرولة مثله فشبهوا من وجه وأنكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر وردوا الأصل ولم يثبتوا شيئا ولم يبقوا موجودا
ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة فقالوا لا نفسرها نجريها عربية كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة أرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد عيابا عنها وأعيا ذهابا منها ليكونوا أوحش عند ذكرها وأشمش عند سماعها وكذبوا بل التفسير أن يقال وجه ثم لا يقال كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين فأما العبارة فقد قال الله وقالت اليهود يد الله مغلولة وإنما قالوها بالعبرانية وكان يكتب رسول الله صلى الله عليه و سلم كتبا بالعربية فيها أسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب إليه بالسريانية فيعبره له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يدعي بكل لسان باسمه فيجيب ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز ويوصف فيعرف

ثم قالوا ليس ذات الرسول بحجة وقالوا ما هو بعد ما مات بمبلغ فلا تلزم به الحجة فسقط من أقاويلهم على ثلاثة أشياء أنه ليس في السماء رب ولا في الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار رحمه الله يحكم به عليهم وإن كانوا موهوها ووروا عنها أو استوحشوا من تصريحها فإن حقائقها لازمة لهم وأبطلوا التقليد فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفروا السلف وسموا الأثبات تشبيها فعابوا القرآن وضللوا الرسول صلى الله عليه و سلم فلا تكاد ترى منهم رجلا ورعا ولا للشريعة معظما ولا للقرآن محترما ولا للحديث موقرا سلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع واستفضلوا الرسول بالنظر فلا هو طالب ثاره ولا متتبع أخباره ولا متأصل عن سنته ولا هو راغب في أسوته يتقلد مرتبة العلم وما عرف حديثا واحدا تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلا من العلم لا تنفذلهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا رابتك لبسوا ظلة الهوى وسلبوا هيبة الهدى فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب
وقد ذكر قبل ذلك باب تعظيم من سن سنة سيئة أو دعا إليها وذكر الأحاديث في هذا الباب ثم ذكر حديثا رواه من حديث عثمان بن سعيد حدثنا يحيى بن الحماني حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح حدثني أبو صخر حميد بن زياد أن نافعا أخبره عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول سيكون في أمتى مسخ وذلك في قدرية وزندقية قال فلم يكن بد أن

يكون ما قال هو كائن كائنا فلم يظهر شيء من ذلك حتى قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلما وهي إحدى مصيبتي هذه الأمة اللتين لا ثالث لهما توازنهما التي ثانيتها فتنة الدجال بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم وقد روي في الحديث أنه من نجا من ثلاث موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال فلما قتل ذو النورين كرم الله وجهه ورضي عنه بين ظهراني المسلمين في الشهر الحرام وفي حرم الرسول عليه السلام بأعين المسلمين وانشقت العصا وتفرقت الجماعة تشامست الأعين وتجادلت الأنفس واختلفت الآراء وتباعدت القلوب وساءت الظنون واشتعلت الريب واستقرت التهم وجدت كل فتنة فرصتها فلفضت غصتها واشتغل الرعآء وأسلم النشا وتزاحف أئمة الهدى رغبة في زهرة الدنيا فأخذت الغواة أزمة الضلالة فتهوشت لها قلوب أهل الغفلة ممن أظهر في المسلمين من زيغ الدين الكلام في التوحيد تكلفا وهي الزندقة الأولى وهي ثلاث قواعد نجم بعضها على إثر بعض الأولى منها القول بالقدر وهي فتنة البصرة ثم نصب السلف وهي فتنة الكوفة ثم إنكار الكلام لله وهي فتنة المشرق
وأما فتنة القدر فأول من تكلم بها معبد الجهني رجل من البصرة وكان عنده حظ من العلم يقال له معبد بن خالد ويقال معبد بن عبدالله ابن عويمر مات بعد الهزيمة وكان يومئذ مع الأشعث وأصابته جراحة وهو أول من تكلم بالقدر وهو الذي تبرأ منه عبدالله بن عمر بن الخطاب فتكلم عليه عمرو بن عبيد وجادل به غيلان وغيلان هو ابن أبي غيلان

أبو مروان من موالي عثمان بن عفان وكان عنده حظ من العلم تكلم به أمام عبدالملك بن مروان واستتابه عمر بن عبدالعزيز ثم ظهر منه تكذيب التوبة وصلب على باب الشام بأخزى حالة لقيها بشر قصته قد تقصيتها في كتاب تكفير الجهمية
وأما عمرو بن عبيد وهو عمرو بن عبيد بن كيسان بن ثابت مولى بني تيم البصري مات سنة ثلاث وأربعين ومائة ومات في طريق مكة فإنه أول من بسط لسانه وأصبح رأسه ونظم له كلاما ونصبه إماما ودعا إليه ودل عليه فصار مذهبا يسلك وهو امام الكلام وداعية الزندقة الأول ورأس المعتزلة سمي به لاعتزال حلقة الحسن البصري وهو الذي لعنه إمام أهل الأثر مالك بن أنس الأصبحي وإمام أهل الرأي النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة وحذر منه إمام أهل المشرق عبدالله بن المبارك الحنظلي وقد قدمنا أسانيد تلك الأقوال فسلط الله عليه وعلى من استتبع واخترع سيفا من سيوف الإسلام وهو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني واسم أبيه كيسان من أهل البصرة فهتك أستاره وأظهر عواره ووسمه باللعنة وألحق به بلاء تلك الفتنة وهو الذي يقول قتيبة بن سعيد إذا رأيت الرجل من أهل البصرة يحب أيوب فاعلم أنه على الطريق وقال رجل لأحمد بن حنبل من السني قال من أين أنت قال من أهل البصرة قال أتحب أيوب السختياني قال نعم قال سني قلت هذه قصة أهل البصرة
وأما قصة غيلان فظهرت بليته بالشام وافتتن بها ثور بن يزيد ومكحول الفقيه وجماعة من أهل العلم بتلك الناحية فسلط الله عز و جل عليهم ريحانة أهل الشام أبا عمرو عبدالرحمن بن عمر بن محمد الأوزاعي فلحظهم

بالصغار ووضعهم من المقدار وبسط عليهم لسانا أعطي بيانا وظن عليهم ببشارة الوجه وطلاقة اللقاء حتى ذل به الأعزة في سبيل الضلالة وعز به الأذلة في سبيل السنة بحمد الله رب العالمين ومنه
وأما فتنة نصب السلف فإن الكوفة دارها التي خرجتها ثم طار في الآفاق شررها واستطار فيها ضررها وإنما هاجتها أحلام فيها ضيق وأشربتها قلوب فيها حمق ولها عروق خفية السلامة للقلوب في ترك إظهار بعضها وأربابها أحمق خلق الله تعالى عرضت تساوي بين علي بن أبي طالب وبين أبي بكر وعمر ثم أخذت تفضله عليهما ثم جعلت توليه عليهما وتخاصمهما له وتظلمهما وتوليه حقهما بالقياس العقلي ترفعه ببنت الرسول صلى الله عليه و سلم وسبت الكهول رضي الله عنهما ثم جاءت تعذله بالمصطفى صلى الله عليه و سلم وتشركه في وحي السماء ثم خطاب جبريل في نزوله فخلت الأمة من النبوة وأحوجتها إلى علي رضي الله عنه ثم ادعت الألوهية ثم ادعتها لولده قال الإمام الشعبي لو كانوا دوابا لكانوا حمرا ولو كانوا طيرا لكانوا رخما فاستظهرت بهؤلاء الغالية أرباب القلوب المريضة فتظاهرت على نصب السلف الصالح الذين هم الناقلون وفيهم قانون الدين وديوان الملة فترى أمثلهم طريقة وأصوبهم وثيقة من يتستر بفضائل علي رضي الله عنه ويربأ به عن منزله الذي أنزله الله تعالى من الشرف ثم روى من طريق أبي العباس بن عقدة حدثني عبدالله بن أحمد بن حنبل قال قرأت على أبي حدثنا أبو الحباب عن عبدالأعلى هو ابن عامر الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا تصلح الصلاة إلا على النبي صلى الله عليه و سلم فلما تعاون أولئك الغواة بتك الضلالة وتعاونت عليها قيض الله لها إماما جعله حساما وهو أبو محمد عبدالله بن إدريس الأودي فصرح

بقدحهم ودفع في نحرهم فنادى على خباياهم وأودى عن خفاياهم فلم تكابد الأمة من شؤم شيء ما كابدت من شؤم تلك الفتنة لم يكد قلب مسلم يسلم شوب منها إلا من رحم ربك فعصم
وأما فتنة إنكار الكلام لله عز و جل فأول من بدعها جعد بن درهم فلما ظهر جعد قال الزهري وهو أستاذ أئمة الإسلام حينئذ ليس الجعدي من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ورواه بإسناده من طريق ابن أبي حاتم فأخذ منه جهم بن صفوان هذا الكلام فبسطه وطراه ودعا إليه فصار به مذهبا لم يزل هو يدعو إليه الرجال وامرأته زهرة تدعو إليه النساء حتى استهويا خلقا من خلق الله كثيرا فأما الجعد فكان جذري الأصل فيما أخبرنا وأسنده عن قتيبة بن سعيد ولكن جهم بسط ذلك المذهب وتكلم فيه وهو صاحب ذلك المذهب الخبيث وكانوا حذروه فيما أخبرناه وأسند ذلك من طريق ابن أبي حاتم إلى مقاتل بن حيان قال دخلت على عمر بن عبدالعزيز فقال من أين أنت قلت من أهل بلخ قال كم بينك وبين النهر قلت كذا فرسخا قال هل ظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم قلت لا قال سيظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم يهلك خلقا من هذه الأمة يدخله الله وإياهم النار مع الداخلين فأما الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبدالله القسري على رؤوس الخلائق وماله يومئذ نكير وذلك سنة نيف وعشرين ومائة وأما الجهم وكان بمرو فكتب هشام بن عبدالملك إلى واليه على خراسان نصر بن سيار يأمره بقتله فكتب إلى سلم بن أحوز وكان على مرو فضرب عنقه بين نظارة أهل العلم وهم يحمدون ذلك فهذه قصة فتنة أهل المشرق بها بسطت ومهدت ثم سارت في البلاد فقام

لها ابن أبي داود وبشر بن غياث فملآ الدنيا محنة والقلوب فتنة دهرا طويلا فسلط الله تعالى عليهم علما من أعلام الدين أوتي صبرا في قوة اليقين أبا عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني فشد المئزر وأبى الفتنة وجاد بالدنيا وظن بالدين وأعرض عن الغضاضة على طيب العيش ولم يبال في الله حقه الأقران ونسي قلة الأعوان حتى هد ما شدوا وقد ما مدوا
فأما قول الطائفة التي قالت بالقدر فأرادت منازعته في الربوبية أو وقعت فيها فضاهت المجوس الأولى فهم الزنادقة التي كانت تشوش على الأولين دينهم ولعنهم الله تعالى على لسان سبعين نبيا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا آخرهم
وأما الذين قالوا في السلف الصالح بالقول السيء فأرادت القدح في الناقل لأن القدح في الناقل إبطال للمنقول فأرادوا إبطال الشرع الذي نقلوا وإنما تعلقوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تسلحا وروى عن أبي ربيع الزهراني قال كان من هؤلاء الجهمية عندنا رجل كان يظهر من ذاته الترفض وانتحال حب علي رضي الله عنه فقال له رجل ممن يخالطه ويعرف مذهبه قد علمت أنكم لا ترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه فما الذي حدا بكم على الترفض وحب علي قال إذا أصدقك إن أظهرنا الذي نعتقده رمينا بالكفر والزندقة وقد وجدنا أقواما ينتحلون حب علي ويظهرونه ويقعون بمن شاوا فنسبوا بذلك إلى الرفض والتشيع ويقعون ما شاوا ويقولون ما شاوا وقد حبس الخليفة رجلا في الزندقة فدخل عليه رجل فقال له قد كنا نعرفك بسبب الصحابة والرفض

فما خرج بك إلى الزندقة فقال ما بلغماي أو ما جنى علي أبو بكر وعمر لولا بغض صاحبهما قال وقد صدق ما رأيت من رجل يزن بشيء من الرفض إلا كانت تخرج من فيه أشياء لا تشبه كلام المسلمين
وأما الذين قالوا بإنكار كلام الله عز و جل فأرادوا إبطال الكل لأن الله تعالى إذا لم يكن على زعمهم الكاذب متكلما بطل الوحي وارتفع مر والنهي وذهبت الملة عن أن تكون سمعت فلا يكون جبريل عليه السلام سمع ما بلغ ولا الرسول صلى الله عليه و سلم أخذها بعد فيبطل التكلم والسمع والتقليد وتبقى العقول الذي به قاموا وهذا قول عثمان بن سعيد أن جهما إنما بنى زندقته على نفي الكلام لله عز و جل فهذه القواعد الثلاث أبنية الزندقة الأولى وهم الزنادقة الذكور كما سمعت يحيى بن عمار يقوله وروى بإسناده عن زر بن صالح السدوسي قال قلت لجهم بن صفوان هل نطق الرب قال لا قلت فينطق قال لا قلت فمن يقول لمن الملك اليوم ومن يرد عليه لله الواحد القهار فقال لا أدري زادوا في القرآن ونقصوا
ثم قال باب في كلام الأشعري وذكر ما قدمناه عنه وذكر قبل هذا قال سمعت عدنان بن عبدة النميري يقول سمعت أبا عمر البسطامي كان أبو الحسن الأشعري أولا ينتحل الاعتزال ثم رجع فتكلم عليهم وإنما مذهبه التعطيل إلا أنه رجع من التصريح إلى التمويه وقال سمعت أحمد بن أبي نصر يقول رأينا محمد بن الحسين السلمي يلعن الكلابية قال وسمعت عبدالرحمن بن محمد بن الحسن يقول وجدت أبا حامد الإسفرائيني وأبا الطيب الصعلوكي

وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله قال وسمعت عبدالواحد بن ياسين المؤدب أبا جعفر يقول رأيت بابين قلعا من مدرسة أبي الطيب بأمره في شيء شائن حضر أبا بكر بن فورك
فصل
وأصل هؤلاء المتكلمين من الجهمية المعتزلة ومن وافقهم الذي بنوا عليه هذا هو مسألة الجوهر الفرد فإنهم ظنوا أن القول بإثبات الصانع وبأنه خلق السموات والأرض وبأنه يقيم القيامة ويبعث الناس من القبور لا يتم إلا بإثبات الجوهر الفرد فجعلوه أصلا للإيمان بالله واليوم الآخر أما جمهور المعتزلة ومن وافقهم كأبي المعالي وذويه فيجعلون الإيمان بالله تعالى لا يحصل إلا بذلك وكذلك الإيمان باليوم الآخر إذ كانوا يقولون لا يعرف ذلك إلا بمعرفة حدوث العالم ولا يعرف حدوثه إلا بطريقة الأعراض وطريقة الأعراض مبنية على أن الأجسام لا تخلو منها وهذا لم يمكنهم أن يثبتوه إلا بالأكوان التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون فعلى هذه الطريقة اعتمد أولوهم وآخروهم حتى القائلين بأن الجواهر لا تخلو عن كل جنس من أجناس الأعراض وعن جميع أضداده إن كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين وإن قدر عرض لا جنس له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه إذا لم يمنع مانع من قبوله فإن هذا أبلغ الأقوال وهو قول الأشعري ومن وافقه كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم فإنه لم يمكنهم أن

يثبتوا أن الجسم لا يخلو من الأعراض إلا بالأكوان ثم عند التحقيق لم يمكنهم أن يثبتوا ذلك إلا بالاجتماع والافتراق فإن منهم من يقول السكون أمر عدمي ومنهم من يقول الكون الذي هو الحركة والسكون إنما يلزم إذا كان الجسم في مكان فأما إذا لم يكن في مكان فيجوز خلوه عن الحركة والسكون كما يقوله طوائف كالذين قالوا ذلك من الكرامية فآل الأمر بهذه الطريقة إلى الاجتماع والافتراق وعلى ذلك اعتمد أبو المعالي ومعلوم أن قبول الاجتماع والافتراق لم يمكنهم حتى يثبتوا أن الجسم يقبل الاجتماع والافتراق وذلك مبني على أنه مركب من الأجزاء التي هي الجواهر المنفردة فصار الإقرار بالصانع مبنيا عند هؤلاء المتكلمين على إثبات الجوهر الفرد
ثم الذين ذكروا أن لهم طريقا إلى إثبات الصانع غير هذه كأبي عبدالله الرازي وغيره وهو الذي عليه أبو الحسن الأشعري وغيره من الحذاق قال من قال من هؤلاء إن إثبات المعاد موقوف على ثبوت الجوهر الفرد وهذا قول أبي عبدالله الرازي وغيره وهو مخلص من جعله الأصل في الإيمان بالله فجعله هو الأصل في الإيمان بالمعاد مع كونه يجعله أصلا في نفي الصفات التي ينكرها كما سيأتي بيانه قال في أكبر كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في الأصل السابع عشر
اعلم أن معظم الكلام في المعاد إنما يكون مع الفلاسفة ولهم أصول يفرعون شبههم عليها فيجب علينا إيراد تلك الأصول أولا ثم الخوض بعدها في المقصود فلا جرم رتبنا الكلام في هذا الأصل على أقسام ثلاثة القسم الأول في المقدمات وفيه ثمان مسائل المسألة الأولى في الجزء الذي لا يتجزأ لا شك في أن الأجسام التي شاهدناها قابلة للانقسامات والانقسامات التي يمكن

حصولها فيها إما أن تكون متناهية أولا تكون فيخرج من هذا القسم أقسام أربعة أولها أن تكون الانقسامات حاصلة وتكون متناهية وثانيها أن تكون حاصلة وتكون غير متناهية وثالثها ألا تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها تكون متناهية ورابعها أن تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها تكون غير متناهية والأول مذهب جمهور المتكلمين والثاني هو مذهب النظام والثالث هو مذهب بعض المتأخرين والرابع هو مذهب الفلاسفة فتخلص من هذا أن الخلاف بيننا وبين الفلاسفة في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن الجسم مع كونه قابلا للانقسام هل يعقل أن يكون واحدا ثانيهما أنه بتقدير أن يكون واحدا هل يعقل أن يكون قابلا للانقسامات غير المتناهية
وأعجب من هذا أنهم يجعلون إثبات الجوهر الفرد دين المسلمين حتى يعد منكره خارجا عن الدين كما قال أبو المعالي وذووه اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزيها وانقسامها حتى تصير أفرادا وكل جزء لا يتجزأ ولا ينقسم وليس له طرف واحد وجزء شائع ولا يتميز وإلى هذا صار المتعمقون في الهندسة وعبروا عن الجزء النقطة فقالوا النقطة شيء لا ينقسم وصار الأكثرون من الفلاسفة إلى أن الأجسام لا تتناهى في تجزيها وانقسامها وإلى هذا صار النظام من أهل الملة ثم اعترفوا بأنه تنتهي قسمتها بالفعل ولا تنتهي قسمتها بالقوة ويعنون بالقوة صلاحية الجزء للانقسام
والعجب أنهم اتفقوا على أن الأجرام متناهية الحدود والأقطار منقطعة الأطراف والأكتاف وكذلك على كل جملة ذات مساحة فإن لها غايات ومنقطعات بالجهات ثم قضوا بأنها تنقسم أجزاء بلا نهاية والجملة المحدودة كيف تنقسم أجزاءا لا تتناهى ولا يحاط بها

قلت والكلام في ذلك من وجهين
أحدهما أنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لم يبنوا شيئا من أمر الدين على ثبوت الجوهر الفرد ولا انتفائه وليس المراد بذلك أنهم لم ينطقوا بهذا اللفظ فإنه قد تجدد بعدهم ألفاظ اصطلاحية يعبر بها عما دل عليه كلامهم في الجملة وذلك بمنزلة تنوع اللغات وتركيب الألفاظ المفردات وإنما المقصود أن المعنى الذي يقصده المثبتة والنفاة بلفظ الجوهر الفرد لم يبن عليها أحد من سلف الأمة وأئمتها مسألة واحدة من مسائل الدين ولا ربطوا بذلك حكما علميا ولا عمليا فدعوى المدعى انبناء أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ذلك يضاهي دعوى المدعي أنما بينوه من الإيمان بالله واليوم الآخر ليس هو على ما بينوه بل إما أنهم ما كانوا يعلمون الحق أو يجوزوا الكذب في هذا الباب لمصلحة الجمهور كما يقول نحو ذلك من يقوله من المنافقين من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم من الباطنية فإنهم إذا أثبتوا من أصول الدين ما يعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول الدين لزم قطعا تغيير الدين وتبديله وبهذا زاد أهل هذا الفن في الدين ونقصوا منه علما وعملا وإذا كان كذلك لم يكن الخوض في هذه المسألة مما يبنى الدين عليه بل مسألة من مسائل الأمور الطبيعية كالقول في غيرها من أحكام الأجسام الكلية
وأيضا فإنه أطبق أئمة الإسلام على ذم من بنى دينه على الكلام في الجواهر والأعراض ثم هؤلاء الذين ادعوا توقف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر على ثبوته قد شكوا فيه وقد نفوه في آخر عمرهم كإمام المتأخرين من المعتزلة أبي الحسين البصري وإمام المتأخرين من الأشعرية أبي المعالي الجويني وإمام المتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين أبي عبدالله الرازي فإنه في كتابه بعد أن بين توقف المعاد على ثبوته وذكر ذلك غير مرة في أثناء مناظرته للفلاسفة قال في المسألة

لما أورد حجج نفاة الجوهر الفرد فقال وأما المعارضات التي ذكروها واعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري هو أحذق المعتزلة توقف فيها فنحن أيضا نختار التوقف فأي ضلال في الدين وخذلان له أعظم من مثل هذا
الوجه الثاني دعواهم أن هذا قول المسلمين أو قول جمهور متكلمي المسلمين ومن المعلوم أن هذا إنما قاله أبو الهذيل العلاف ومن اتبعه من متكلمي المعتزلة والذين أخذوا ذلك عنهم
وقد نفى الجوهر الفرد من أئمة المتكلمين من ليسوا دون من أثبته بل الأئمة فيهم أكثر من الأئمة في أولئك فنفاه حسين النجار وأصحابه كأبي عيسى برغوث ونحوه وضرار بن عمرو وأصحابه كحفص الفرد ونحوه ونفاه أيضا هشام بن الحكم وأتباعه وهو المقابل لأبي الهذيل فإنهما متقابلان في النفي والإثبات ونفته الكلابية أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب وذووه ونفاه أيضا طائفة من الكرامية كمحمد بن صابر ونفاه ابن الراوندي وليس نفي هؤلاء موافقة منهم لا للفلاسفة ولا للنظام بل قول النظام ظاهر الفساد وكذلك قول الفلاسفة أيضا وأكثر هؤلاء الذين ذكرناهم من النجارية والضرارية

والكلابية والكرامية وغيرهم لا يقولون في ذلك بقول النظام والفلاسفة ولا يقولون بإثباته وذلك أن دعوى الفلاسفة قبول الأجسام والحركات والأزمنة للانقسام إلى غير نهاية باطل كما ذكره المثبتون وكذلك قول مثبتيه باطل بما ذكره نفاته من أنه لا بد من انقسامه حتى إن أبا المعالي وغيره اعترفوا بأنه غير محسوس ومن تدبر أدلة الفلاسفة القائلين بما لا يتناهى من الانقسام القائلين بوجود الجزء الذي لا يقبل الانقسام وجد أدلة كل واحدة من الطائفتين تبطل الأخرى
والتحقيق أن كلا المذهبين باطل والصواب ما قاله من قاله من الطائفة الثالثة المخالفة للطائفتين أن الأجسام إذا تصغرت أجزاؤها فإنها تستحيل كما هو موجود في أجزاء الماء إذا تصغر فإنه يستحيل هواء أو ترابا فلا يبقى موجود ممتنع عن القسمة كما يقوله المثبتون له فإن هذا باطل بما ذكره النفاة من أنه لا بد أن يتميز جانب له عن جانب ولا يكون قابلا للقسمة إلى غير نهاية فإن هذا أبطل من الأول بل يقبل القسمة إلى حد ثم يستحيل إذا كان صغيرا وليس استحالة الأجسام في صغرها محدودا بحد واحد بل قد يستحيل الصغير وله قدر يقبل نوعا من القسمة وغيره لا يستحيل حتى يكون أصغر منه وبالجملة فليس في شيء منها قبول القسمة إلى غير نهاية بل هذا إنما يكون في لمقدرات الذهنية فأما وجود مالا يتناهى بين حدين متناهيين فمكابرة وسواء كان بالفعل أو بالقوة ووجود موجود لا يتميز جانب له عن جانب مكابرة بل الأجسام تستحيل مع قبول الانقسام فلا يقبل شيء منها انقساما لا يتناهى كما أنها إذا كثرت وعظمت تنتهي إلى حد تقف عنده ولا تذهب إلى أبعاد لا تتناهى
ولكن بنى هذه الطائفة المشهورة من المتكلمين على مسمى هذا الاسم الهائل الذي هو الجوهر الفرد عندهم وهو عند التحقيق مالا يمكن أحد أن يحضر بجنسه باتفاقهم

وعند المحققين لامس له وما أشبهه بالمعصوم المعلوم الذي ابتدعته القرامطة والمنتظر المعصوم الذي ابتدعته الرافضة والغوث الذي ابتدعته جهال الصوفية هو نظير ما يعظم هنا بل هؤلاء الفلاسفة المشائين وأتباعهم في الجوهر المجرد وهو ما يدعونه في النفوس والعقول من أنها شيء لا داخل العالم ولا خارجه ولا متحرك ولا ساكن ولا متصل بغيره ولا منفصل عنه وأمثال هذه الترهات فقول هؤلاء في إثبات هذا الجوهر المجرد كقول أولئك في الجوهر الفرد ثم إن هؤلاء وهؤلاء يدعون أن هذا هو حقيقة الإنسان هؤلاء يدعون أنه هذا الجوهر المجرد وهؤلاء يقولون إنه جوهر واحد منفرد أو جواهر كل منها يقوم به حياة وعلم وقدرة أو تقوم الأعراض المشروطة بالحياة ببعضها وثبت الحكم للجملة وعلى هذه المقالات يثبتون المعاد

فصل
ثم قال الرازي العاشر أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته أقرب إلى العقول من معرفة ذات الله تعالى ثم المشبهة وافقونا على أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف حكم الحس والخيال

يقال له إن أردت أن أفعال الله تعالى وصفاته تثبت بلا مثال فهذا حق فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله كما قال تعالى ليس كمثله شيء وقال تعالى فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون وذلك أنا لا نعلم الشيء إلا أن ندركه نفسه أو ندرك ما قد يكون مماثلا له أو مشابها له من بعض الوجوه والله يعلم الأشياء كلها ونحن لا نعلم فليس لنا أن نضرب له الأمثال بلا علم
وإن أراد به أن يثبت ما يعلم بالحس أو العقل عدمه فهذا باطل وقد تقدم هذا في أول هذه المقدمة وبينا الفرق بينما يعلم عدمه وبين ما يعلم عدم مثاله كما بينا الفرق بينما يعلم عدمه وبينما لا يعلم وجوده أو كيفيته وهذا الأصل ينبغي استبصاره واستذكاره فإنه بسبب الاشتباه فيه يقع من لبس الحق بالباطل ما الله به عليم
وأيضا فإنه لا اختصاص للحس والخيال بكونهما يثبت على خلاف حكمهما فإنه إن أراد أنها تنافي ما علم بالحس والخيال تنافي معرفة أفعاله لأن الحس والخيال يدرك عدم ذلك فهذا باطل ولو أراد أنه يثبت من أفعاله مالا يعلم نظيره أو مالا يحيط العلم بحقيقته بحس ولا خيال فيقال وماله لا يعلم نظيره بعقل ولا علم ولا قياس فلا فرق بين ثبوتها بهذا الاعتبار على خلاف حكم الحس والخيال أو على خلاف حكم العلم والعقل وهذا الكلام أيضا كلام نافع في هذه المواضع
وليس لأحد أن يفرق بينهما بأن العلم والعقل يدرك من أفعاله مالا يدركه الحس والخيال لوجهين

أحدهما أنه لا فرق في هذا بين أفعال الله تعالى وصفاته وبين سائر الأشياء فإن الإنسان إذا أحس أمرا أو تخيله حصل له من العلم والعقل بسبب ذلك ما لم يدركه الحس والخيال كما يعقل الأمور العامة الكلية عند إحساس بعض أفرادها بالقياس والاعتبار ولا يجوز أن يقال في جميع المعقولات إنها ثبت على خلاف حكم الحس والخيال وإن أراد أحد بهذا اللفظ هذا المعنى لم يضر ذلك إذ يكون التقدير أن الإنسان ينال بعقله من العلم مالا يناله بحسه وهذا لا نزاع فيه لكن لا يقتضي ذلك تنافي المحسوس والمعقول بل ذلك يوجب تصادقهما وموافقتهما
الوجه الثاني إن الحس يمكنه إدراك كل موجود فما من شيء من الإدراك إلا ويمكن معرفته بالإحساس الباطن أو الظاهر كما قد نبهنا على ذلك فيما تقدم من هذه الأجوبة بل هذا المنازع وأصحابه قالوا من ذلك ما هو من أبلغ الأمور في مسألة الرؤية وغيرها حيث يجوزون رؤية كل موجود بل يجوزون تعلق الحواس الخمس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس بكل موجود فلم يبق عندهم في الموجودات ما يمتنع أن يكون محسوسا فلا يصح أن يقال إنه يدرك بالعقل والعلم ما يمتنع إدراكه بالحس إلا إذا قيد الامتناع بأن يقال مالا يمكننا إحساسه في هذه الحال أو ما تعجز قدرتنا عن إحساسه ونحو ذلك وإلا فإحساسه ممكن والله تعالى قادر عليه ويفعل من ذلك ما يشاء كما يشاء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ثم قال أبو عبدالله الرازي أما تقرير هذا المعنى في أفعال الله تعالى فذاك من وجوه
أحدها أن الذي شاهدناه هو تغير الصفات مثل انقلاب الماء والتراب نباتا وانقلاب النبات جزء بدن حيوان فأما حدوث الذوات ابتداء من غير سبق مادة

وطينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة ولا يقضي بجوازه وهمنا وخيالنا مع أنا سلمنا أنه هو المحدث للذوات ابتداء من غير سبق مادة وطنية
قلت الكلام على هذا من وجوه
أحدها قوله لم نشاهد إلا تغير الصفات ليس هذا مخاطبة باللغة المعروفة والاصطلاح المشهور بل هذا يفهم قصدا فاسدا لا يقوله أحد وذلك أن الصفة في الاصطلاح المشهور هي عرض يقوم بجوهر قائم بنفسه كقيام اللون والطعم والريح بالجسم فإذا قال القائل لم نشاهد إلا تغير الصفات كان مقتضاه أن الجواهر والأجسام لا تتبدل ولا تستحيل ولا تنقلب وإنما تتغير أعراضها القائمة بها مثل تغير الشمس والقمر والنجوم بحركاتها ومعلوم أن هذا باطل بل نفس الجواهر التي هي أعيان قائمة بنفسها تنقلب وتتبدل وتستحيل كما ذكره من انقلاب الماء والتراب نباتا فلم يكن التغير في مجرد أعراض الماء والتراب وإنما ذلك مثل أن ينقل من موضع إلى موضع أو يجمع ويفرق أو يسخن ويبرد ونحو ذلك فأما إذا صار الماء والتراب نباتا فقد انقلبت الحقيقة وتبدلت وكذلك إذا صار المني حيوانا والبيضة طيرا وكذلك إذا صار النبات المأكول دما ثم عظما ولحما وعروقا ونحو ذلك فلا يقال في مثل هذا لم نشهد إلا تغير الصفة بل شهدنا تبدل الحقيقة وتغير الأعيان القائمة بنفسها التي هي جواهر بمعنى استحالتها وانتقالها من حقيقة في ذاتها وقدرها ووضعها وسائر الأمور
لكن لم نشهد تكون شيء إلا من شيء فهذا حق كما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز كما قال خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار وقال ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه

نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين وقال تعالى وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وقال وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون وقال والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا وقال تعالى هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها وقال تعالى والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها وقال تعالى والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماءا مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج وهذا في كتاب الله تعالى كثير يبين خلق الأشياء بعضها من بعض وببعض وفي بعض
ويقررنا أنا نرى ذلك ونشهده كقوله تعالى أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون إلى قوله تعالى أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وقال تعالى يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من إلى قوله تعالى مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم وقال تعالى أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت الآيات وقال إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك الآية

الوجه الثاني قوله فأما حدوث الذوات ابتداءا من غير سبق مادة ولا طينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة
ليست هذه المخلوقات من الماء والطين مثل الصور التي يصورها بنو آدم من المواد مع أن الذات باقية كتصوير الخاتم والدرهم ونحو ذلك من الفضة وتصوير السرير والباب ونحو ذلك من الخشب وتصوير الثوب من الغزل فإن هذه المواضع لم تحدث فيها الذوات وإنما تغيرت صفة الذات وأما الحيوانات والنباتات المشهودة فنفس هذه الذوات شهدنا حدوثها وخلقها لكن خلقت من شيء آخر ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها وهذا من أبدع الأمور وأعظمها فلم يكن ما منه خلقت هذه الأمور وإن سماها بعض الناس مادة مثل المواد المعروفة تكون بعينها باقية في الصور وتكون من جنس الصور وإذا كان كذلك فقد شهدنا إبداع هذه الحقائق الموجودة وصفاتها بعد أن لم تكن موجودة كما قال تعالى أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا غاية ما في هذا الباب أنا شهدنا خلقها من شيء ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها وشهدنا أنها تخلق من أوضع الأشياء وأحقرها وأبعدها عن صفات الكمال كخلق الإنسان من تراب كما قال الشاعر ... الذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحكم من جماد ...
وهذا الذي شهدنا من أبلغ الإبداع أنه يخلق من الشيء مالا يكون مجانسا له ولا يكون الأصل مشتملا على ما في الفرع من الصفات فهذه الأمور المخلوقة التي لم تكن موجودة في أصلها ولا كامنة فيه هي مبدعة بعد العدم لا منقولة من وصف إلى وصف ولو كانت منقولة فنفس الصفات القائمة بها مبدعة بعد

العدم فقد شهدنا إبداع الجواهر والأعراض بعد عدمها وهذا كاف في ذلك إذ لا يجب أن نشهد إبداع كل جوهر وعرض بعد العدم بل إذا شهدنا إبداع ما شاء الله من الجواهر والأعراض بعد عدمها كان ذلك محسوسا لنا ثم عقلنا بطريق الاعتبار والقياس ما لم نشهده وهكذا علمنا بجميع الأشياء نحس بعض أفرادها ونقيس ما غاب على ما شهدناه وإلا فلا يمكن أن يعلم الشخص بإحساسه كل شيء
فظهر بذلك أن طريق علمنا بأفعال الله حسا وعقلا مثل طريق علمنا بجميع الأمور وظهر أنما غاب عنا من أفعال الله وعلمناه بعقلنا ليس على خلاف ما أحسسناه وتخيلناه بل هو من جنسه ومشابه له فضلا عن أن يكون مباينا له
ونحن قد بينا فيما تقدم الفرق بينما يعلم عدمه وامتناعه بحس أو عقل وبين مالا يعلم له نظير بحس أو عقل فالأول لا يجوز أن يكون موجودا بخلاف الثاني فإنه يجوز أن يكون موجودا وهذا ينفعنا في ذات الله فإنه ليس كمثله شيء وأما أفعاله ومخلوقاته ففي الذي أشهدناه عبرة لما لم نشهده والغائب من جنس الشاهد وذلك لأن المماثلة ثابتة في المفعولات كما قال تعالى ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون فلو لم يكن الغائب من أفعاله تعالى نظيرا للشاهد لم يجز رده ولا يقال إنه على خلاف حكم العقل فالحس والخيال كما في ذاته تعالى فكيف إذا كان الغائب نظير الشاهد حيث أشهدنا إبداع الجواهر وصفاتها بعد عدمها يا سبحان الله أيما أبلغ في عقل الإنسان إبداع الإنسان بعد عدمه أم إبداع طينته التي خلق منها بعد عدمها فإذا كان قد شهد هذا الجوهر العظيم الموصوف بصفات الكمال بعد عدمه أفليس ذلك أعظم من

إبداع تراب أو ماء بعد عدمه والله سبحانه وتعالى لما خلق السموات والأرض خلق آدم آخر المخلوقات كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ومن خلق آخر المخلوقات لم يمكنه أن يشهد خلق نفسه ولا ما خلق قبله كما قال تعالى ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وله فيما شهده في المخلوقات عبرة فيما لم يشهده
الوجه الثالث قوله أما حدوث الذوات ابتداءا فهذا شيء ما شاهدناه البتة ولا يقضي بجوازه وهمنا ولا خيالنا
فيقال له قولك لا يقضي بجوازه وهمنا ولا خيالنا أتريد أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك ويمنعه أو تريد أنه لا يعلم جوازه وأيما أردت فعنه جوابان
أحدهما أن لا نسلم أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك ويمنعه لوجهين أحدهما أن الوهم والخيال لا يمنع كل ما لم يعلم نظيره وإن قيل إنه لا يدركه إلا أن يريد الوهم والخيال الفاسد فهذا لا نزاع فيه الثاني إن الوهم والخيال قد أدرك نظير هذا كما قدمناه من تخيل ما أحسه من إبداع الجواهر وأعراضها بعد عدمها
الجواب الثاني عن التقدير الأول أنا لو سلمنا أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك فليس محذورا إذا علمنا جوازه بعقلنا أو حسنا فإن أحدا لم يقل إن كل ما أحاله مجرد التوهم والتخيل يكون ممتنعا وإنما قيل ما أحالته الفطرة الإنسانية والبديهة والفرق بينهما ما تقدم
وأما الجوابان على التقدير الثاني وهو أن الوهم والخيال لا يعلمان جواز ذلك فأحدهما أن لا نسلم أن الوهم والخيال لا يعلم جواز ذلك فإن الإنسان

قد يتخيل ما أحسه بحواسه من الموجودات بعد عدمها وهو يؤلف بتخيل من ذلك ما لم يتخيله كما هو عادة التخيل فيتخيل نظير ذلك وما يركبه من ذلك مما ليس له نظير كما يتخيل جبل ياقوت وبحر زئبق فيتخيل من المخلوقات ما ليس له نظير ويتخيل الإبداع الذي ليس نظير فكيف بما له نظير الثاني أنا لو سلمنا أن الوهم والخيال لا يعلم جواز ذلك لم يضر ولو لم يعلم جواز نظيره أو وجوده بحس أو عقل فكيف إذا علم ذلك فإن المدفوع ما علم بالفطرة امتناعه لا ما عجز مجرد الوهم عن معرفته
الوجه الرابع قوله مع أنا سلمنا أنه تعالى هو المحدث للذوات ابتداءا من غير سبق مادة وطنية
يقال له هذا الذي تذكره إنما ينفعك أن لو كان ما علمناه بالفطرة يدفع ما سلمناه فكيف إذا لم يدفعه ما علمناه لا بضرورة بل لا يدفعه ضرورة ولا نظر بل كيف إذا كان ما شهدناه نظيرا له ومشابها بل كيف إذا كان الذي شهدناه أبلغ من الذي سلمناه فإن الذوات التي ابتدعت ابتداءا إنما هي ذوات بسيطة كالماء ونحوه ومن المعلوم أن إبداع هذا الإنسان المركب بما فيه من الأعضاء المختلفة ومنافعها وقواها والأخلاط المختلفة ومقاديرها وصفاتها من أشياء بسيطة أعظم في الاقتدار وأبلغ في الحكمة من إبداع شيء بسيط لا من شيء لأن هذه المركبات كلها كائنة بعد عدم وتأليفها وتركيبها كذلك وما فيها من الجواهر والتأليف والصفات الكائن بعد العدم أبلغ مما في تلك البسائط وهذا كما أن ما شهدنا من الخلق الأول أبلغ مما أخبرنا به من الخلق الثاني في المعاد كما قال تعالى وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وقال ضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي

أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ونظائره في القرآن فإذا كان مستقرا في الفطرة العقلية أن ابتداء الخلق أعظم من إعادته فمستقر فيها أن إبداع المركبات وتركيبها وصفاتها بعد العدم أبلغ من إبداع البسائط المفردات لكن المركب لا بد أن يكون مسبوقا
قال الرازي وثانيها أنا لا نعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان البتة
فيقال لو قال لم نتوهم أو لم نتخيل أ لم نحس لكان مناسبا للفظ دعواه حيث ادعى أن معرفة أفعال الله على خلاف الحس والخيال ولم يدع أنها على خلاف المعقول فإن ذلك سد عليه طريق الإقرار بها ويوجب جحودها حيث لا يثبت ما يخالف المعقول إلا أن يفسر المخالف للمعقول بعدم النظير وحينئذ فلا فرق بين مخالفة المعقول والمحسوس في أن ذلك لا يكون مانعا في وجود ما يخالف المحسوس والمعقول وهو لا يتم غرضه إلا أن يبين الفرق بينهما بثبوت ما يحيله الحس دون العقل كما قدمناه
وتلخيص النكتة أن يقال إذا لم تعقل حدوث شيء إلا في زمان وأثبتت ما لم تعقله فهل هذا حجة لك في إثبات ما تعلم بعقلك امتناعه أم لا فإن كان هذا حجة لك في إثبات ما يعلم العقل امتناعه لم يكن له بعد هذا أن يحيل وجود شيء بعقله بل يجوز الممتنعات المعلوم امتناعها بالعقل ضرورة ونظرا وهذا لا يقوله عاقل وإن قال ليس هذا حجة في إثبات ما يعلم بالعقل امتناعه لم يكن ذلك نافعا لك في محل النزاع لأن المنازع يدعي أنه يعلم امتناع ما أثبتته بفطرته وهذا لم يدل على إحالة ما عيلم امتناعه بالعقل كما سلمته ولا بالحس لأنك لم تذكره

ثم يقال كوننا لم نشهد حدوث شيء إلا في زمان بمنزلة كوننا لم نشهد حدوث شيء إلا في مكان ثم كما أن هذا يقتضي افتقار كل مكان إلى مكان فكذلك ذاك يقتضي افتقار كل زمان إلى زمان وأكثر ما في ذلك عدم النظير فيما شهدناه ومجرد عدم النظير لا يكون حجة على نفي الشيء المعلوم بحس أو عقل فلم يقل أحد من العقلاء إن الشيء الذي يعلم ثبوته لا يجوز الإقرار به حتى يكون له مثل ونظير مطابق له وهذا كما أنا لم نشهد شيئا إلا له خالق ثم لا يجب أن يكون للخالق خالق كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لا يزال الناس يسألونكم حتى يقولوا هذا وقد أخرجاه في الصحيحين عن عروة عن أبي هريرة ورواه أبو داود في الرد على الجهمية من سننه ورواه النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله وهو أيضا فيها عن عروة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي أحدكم الشيطان فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ورواه مسلم من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله قال وهو آخذ بيد رجل يعني قد سأله فقال صدق الله ورسوله قد سألني اثنان وهذا الثالث أو قال سألني واحد وهذا الثاني وراه أيضا أبو داود والنسائي من طريق آخر وفيه فإذا قالوا ذلك فقولوا الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ثم يتفل عن يساره ثلاثا
ويقال له الزمان الذي رأينا الأشياء تحدث فيه هو مقدار حركة الشمس والقمر أو ما يشبه ذلك إذ لم نشهد زمانا غير مقدار الحركة أو ما يقرب من ذلك

لتنوع عبارات الناس في تفسير الزمان وإذا كان الزمان من جملة الأعراض مفتقرا إلى الحركة والمتحرك إذا كان له وجود في الخارج فمعلوم أنا شهدنا حدوث سبب الزمان الموجب له المتقدم عليه بالذات وهو الحركات والحركة والزمان متقاربان في الوجود والحركة متقدمة على الزمان بالذات وإذا كان كل منهما مقارن للآخر لا ينفك عنه فليس القول باحتياج الحركة التي هي الحدوث والانتقال إلى الزمان بأولى من القول باحتياج الزمان إلى الحركة والحدوث بل هذا الثاني أقرب لأن افتقار المعلول إلى العلة والمشروط إلى الشرط والمسبب إلى السبب أظهر من الأول
يوضح ذلك أن الزمان قد يراد به الليل والنهار كما يراد بالمكان السموات والأرض وهذا هو الذي يعنيه طوائف منهم الرازي في كتابه هذا كما ذكر ذلك حيث قال الحجة الحادية عشرة قوله قل لمن ما في السموات والأرض قل لله قال وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى وقوله تعالى وله ما سكن في الليل والنهار وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى ومجموع الآيتين يدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان قال وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره واعلم أن في تقديم ذكر المكان على ذكر الزمان سرا لطيفا وحكمة عالية يشير إلى أنه سببه ما تقدم
قلت وإذا كان المراد بالمكان والمكانيات السموات والأرض وما فيهما وبالزمان والزمانيات الليل والنهار وما سكن فيهما فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى

خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وقد قال تعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ونحو ذلك في القرآن ومعلوم أن النهار تابع للشمس وأما الليل فسواء كان عدم النور أو كان وجودا عرضيا كما يقوله قوم أو أجسام سود كما يقوله بعضهم فالله جاعل ذلك كله وهو سبحانه وتعالى كما قال عبدالله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وقد جاء في قوله تعالى ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا إن أهل الجنة يعرفون مقدار البكرة والعشي بأنوار تظهر من جهة العرش فيكون بعض الأوقات عندهم أعظم نورا من بعض إذ ليس عندهم ظلمة وهذه الأنوار المخلوقة كلها خلقها الله تعالى
فقول القائل بعد هذا لم نعقل حدوث شيء إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان مثل أن يقال أنا لم أعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في ليل أو نهار ثم حكمنا بأن الليل والنهار حدثا لا في ليل ولا نهار ولم نعقل شيئا إلا في السموات والأرض ثم عقلنا حدوث السموات والأرض لا في سموات وأرض ومعلوم أن هذا الكلام من أفسد الكلام في الحس والعقل فإن الإنسان كما يشهد حدوث الأشياء لا في ليل ونهار فهو يشهد أيضا حدوث الليل والنهار في غير ليل ولا نهار
وقد يراد بالزمان مجرد التقدير بالحوادث كما يقال هذا قبل هذا بكذا وكذا وهذا بعد هذا بكذا وكذا فيكون المراد به تقدير ما بين الحوادث بحوادث أخر وهذا التقدير من جنس العدد للمعدودات فإنه بالعدد يظهر وبزيادة أحد المعدودين على الآخر ونقصانه عنه ومساواته له ثم مع ذلك فليس العدد للمعدودات

أمرا موجودا في الخارج قائم بنفسه أو عرض قائم فيها وإنما هو من باب الفصل والتمييز بين بعضها وبعضها وهي ممتازة ومنفصلة بذواتها وأعيانها لا بشيء غير ذلك والعدد لها كالحيز لها كما سنذكره إن شاء الله تعالى وكذلك الوقت لها ولهذا يفرق بين الوقت والعدد كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذكر الله مأمور به في كل حال ليس له وقت ولا عدد أي ليس له وقت مخصوص ولا عدد مخصوص كالصلاة وغيرها
وهذا موضع تغلط فيه الأذهان حيث يشتبه عليها ما يأخذه الذهن من الحقائق الموجودة في الخارج بنفس الحقاق الموجودة في الخارج كما يشتبه على بعض الناس الصور الذهنية الكلية المطلقة أنها توجد في الخارج حتى يظن أنها بعينها موجودة في الخارج فالعلم بالحقائق وبعددها وزمانها ومكانها كله متقارب ولا ريب أن الحقائق موجودة في نفسها متميز بعضها عن بعض بنفسها بما فيها من الصفات القائمة بها وما يتبع ذلك من حيزها ووقتها وعددها وليست هذه الأمور جواهر وأعراضا منفصلة عن تلك الحقائق بل هي تارة لسبب بينها وبين غيرها إنما يعقل باعتبار الغيرين ولهذا يكثر تنازع الناس في مثل هذه الأمور هل هي أمور وجودية أو عدمية وبكل حال فقول القائل إن كل وقت يفتقر إلى وقت وكل حيز إلى حيز بمنزلة قوله كل عدد يفتقر إلى عدد وقوله كل حقيقة قائمة بنفسها تفتقر إلى حقيقة قائمة بنفسها
ومما يوضح ذلك أن يقال له أيضا قول القائل ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان أضعف من قول القائل حكمنا بأن الحركة حدثت بلا حركة فإن الزمان هو مفتقر إلى الحركة دون زمان آخر والحركة هي سبب الزمان وإن كانت مقارنة له وليست مفتقرة إلى حركة أخرى فالتعجب من حدوث حركة بلا حركة وهي سبب الزمان وأعني عن الزمان

من الزمان عنها أقرب إلى الصواب من تعجب المتعجب من حدوث زمان في غير زمان وإذا كان التعجب من عدم افتقار كل حركة إلى حركة نوعا من السخف والهذيان فالتعجب من عدم افتقار كل زمان إلى زمان أبلغ منه في السخف والهذيان كما يتعجب من عدم افتقار كل فاعل إلى فاعل وهذا السؤال من آخر ما يورده ويسأل عنه الشيطان لعلمه بأنه آخر مراتب الباطل والهذيان
قال وثالثها أنا لا نعلم فاعلا يفعل بعد ما لم يكن فاعلا إلا لتغير حالة وتبدل صفة ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خلق العالم من غير شيء من ذلك
يقال هذه الوجوه التي أوردها هنا هي من حجج الدهرية إما القائلين بقدم العالم وإما المنكرين للصانع حيث يحتجون بها على امتناع إبداع كل شيء بعد العدم ويوجبون قدم مادة وكذلك يوجبون قدم مدة وكذلك يقولون يمتنع حدوث الفعل بدون حدوث قدرة ولا إرادة ولا علم ولا غير ذلك من أسباب الفعل وهذه حجج الدهرية المتفلسفة المشائين المنتسبين إلى معلمهم الأول آرسطو وإن كان من معظميه من يزعم أنه لم يكن قائلا بقدم العالم ولكن تكلم بكلام مجمل في ذلك كما زعمه بعض الفلاسفة اليهود فيما جمعه وألفه بين فلسفته وبين الملة التي بعث الله بها الرسل فالمقصود هنا أن نعرف أصل هذا الكلام ونعلم أن هذا الرازي وإن أورده هنا من جهة أصحابه المسلمين الموافقين على حدوث العالم في احتجاجهم على إخوان لهم مسلمين في مسائل الصفات فإن هذه الحجج هو دائما يذكرها في معارضة حجج المسلمين وسائر أهل الملك على نفي قدم العالم فتارة يظهر منه التحير وتكافؤ

الأدلة وتقابل الطائفتين بمنزلة المنافق المذبذب الذي لا هو مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وتارة ينصر المسلمين بما يصلح من الجدل ويكثر مما لا يصلح وتارة يؤيد أقوال أولئك المشركين الصابئين المبدلين تأييد عاجز عنهم أو معاون لهم أو معترض عليهم بحق أو باطل
ونحن في هذا المقام الذي غرضه أن يقرر ثبوت ما يعلم امتناعه بالبديهة ويزعم أن هذا من حكم الحس والخيال المردود واحتجاجه بما ذكره من أفعال الله تعالى نجيب عنه بأن نبين أنا شهدنا من أفعال الله تعالى ما هو نظير ما لم نشهده أو أبلغ منه وأن ما تعجب منه هو مثل ما شهدناه أو دونه وبأن نبين أنه إذا أثبت من أفعال الله تعالى ما لم نشهد نظيره فلا محذور في ذلك فإن ثبوت مالا يعلم له نظير ليس بمحذور في حس ولا عقل وبأن نبين أن الحس والعقل في ذلك سواء فلا يثبت مالا يعلم بها عدمه ويثبت مالم يعلم بها نظيره وقد ذكرنا ذلك في المادة والمدة
ونصوص المسلمين وسائر أهل الملل ومعارضتهم لهؤلاء الدهرية كثيرة حسنة لكن ليس هذا موضعها
وكذلك ما ذكره في الفاعل وهي حجة ابن سينا أفضل متأخري هؤلاء الدهرية فإنها هي التي اعتمدها حيث زعم أن الذات الواحدة لا يصدر عنها شيء بعد أن لم يكن صادرا إلا بحدوث أمر من الأمور والكلام في ذلك الأمر كالكلام في الأول فيمتنع الحدوث فيجب القدم ثم ذكر في كيفية صدور العالم بصدور العقل ثم العقل والنفس والفلك من الكلام لا يرتضيه أسخف الناس عقلا ولا يستحسن أحد أن يستعمله إلا في المضاحك والهزليات دون ما هو من أعظم الإلهيات وذكروا هم ما اختص به العالم من المقادير

والصفات غير ذلك وما الموجب لتخصيصه بذلك دون غيرها إلى غير ذلك مما ليس هذا موضعه إذ الغرض جواب ما ذكره الرازي وهو من نمط الذي قبله أيضا لوجوه
أحدها أن غاية ما يذكره إثبات فاعل ليس له نظير وثبوت فعل ليس له نظير وهذا لا نزاع فيه وليس ذلك ممتنعا لا في حس ولا خيال ولا عقل حتى يكون نظيرا لمورد النزاع وكون ذلك على خلاف حكم الحس والخيال هو مثل كونه على خلاف حكم العقل والقياس
الوجه الثاني أن الانتهاء إلى فاعل لا فاعل له مما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية كما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية امتناع حدوث فعل بلا فاعل وكما قالوه في امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإذا كان هذا مما يعلم بالضرورة الفطرية كيف يجعل معارضا أيضا لما يعلم بالضرورة الفطرية فالفطرة الضرورية تعلم امتناع أن يكون لكل فاعل فاعلا وامتناع أن يكون الفعل بلا فاعل وأن يكون الفاعل لا داخل المفعول القائم بنفسه ولا خارجه وإذا كان كذلك فتمثيل الفاعل الذي لا فاعل له بالفاعل له فاعل ممتنع أيضا في الفطرة الضرورية
الوجه الثالث أن قوله لم نشهد فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا إلا لتغير حال وتبدل صفة إن أراد به استحالته من حال إلى حال بحيث أن ذاته تستحيل فليس الأمر كذلك فإن الشمس والقمر والكواكب كل في فلك يسبحون ومع هذا لم يتغير حالها ولم تتبدل صفاتها

وإن عنى به أن نفس الحركة هو تغير وتبدل كما يقوله من يقوله من المتكلمين كان المعنى لم نشهد فاعلا إلا متحركا ومتحولا إما حركة روحانية وإما حركة جسمانية فقوله بعد ذلك ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى وتقدس خالق العالم من غير شيء من ذلك مما ينازعه فيه خصومه هنا وغير خصومه فإن المتكلمين يسمون هذه مسألة حلول الحوادث بذاته وقد علم أن مذهب الكرامية القول بها وهم خصومه في هذه المسألة وقد ذكر في أعظم كتبه نهاية العقول أنه ليس في هذه المسألة دليل عقلي على النفي فلا يمكنه أن يقيم عليهم فيها دليلا عقليا وغاية ما اعتصم فيها بما ادعاه من الإجماع على أن سبحانه وتعالى غير موصوف بالنقائص وإن الحادث إن كان صفة كمال فقد كان قبل ذلك ناقصا وإن لم يكن صفة كمال فالإجماع منعقد على أنه تعالى لا يوصف بغير صفة الكمال وقد تكلمنا على ما ذكر في غير هذا الموضع وإذا لم يكن في ذلك دليل عقلي لم يصح أن يكون ذلك معارضا لما يقول المنازع إنه معلوم بالفطرة الضرورية
ومن أعجب العجب قوله عن المشبهة وهم عنده الكرامية والحنابلة أنهم وافقوه على ما ادعاه من أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف الحس والخيال ثم يحتج على ذلك بأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا من غير حدوث شيء بذاته وهو يعلم أن القول بحلول الحوادث في ذاته تعالى وتقدس هو شعار الكرامية وأنهم متفقون على ذلك وهذا مثل أن يقال عن المعتزلة وقد وافقونا على أن الله تعالى يحدث أفعال العباد بغير فعل منهم ثم إن القول بذلك هو مذهب أكثر أهل الحديث بل قول أئمة أهل الحديث وهو الذي نقلوه عن سلف

الأمة وأئمتها وكثير من الفقهاء والصوفية أو أكثرهم وفيهم من الطوائف الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية من لا يحصي عدده إلا الله تعالى وقد ذكره هو في غير موضع من كتبه أن القول بحلول الحوادث يلزم كل الطوائف حتى المعتزلة والفلاسفة وذكر ذلك عن أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر وهو من أعظم الفلاسفة المتأخرين قدرا وأنه قال إن ألوهيته لهذا العالم لا تتم إلا بذلك فكيف يحكى الاتفاق على خلاف ذلك
فإن قال قائل الفاعل منا وإن حدثت فيه حركة فالمحدث لها غيره وخالق العالم لا محدث لفعله إلا هو فهذا هو الفرق
قيل هذا حق كما أن ذاتنا محدثة أحدثها غيرنا وهو سبحانه قديم واجب الوجود رب كل شيء ومليكه هو الخالق وما سواه مخلوق ولهذا كان السؤال عن من خلق الله منتهى مسائل الشيطان التي يظل بها الإنسان مع ظهور فسادها بالبرهان والرازي لم يستدل بكونه فاعلا لما لا يفعله من غير محرك من خارج وإنما استدل بكونه فاعلا من غير فعل في نفسه وهذا هو الذي ينازعونه فيه وهو لو استدل بالأول لم يصح لأنها هي مسألة وجود الصانع نفسه وهو في هذا المقام مقصوده أن يبين أن أفعاله على خلاف حكم الحس والخيال ليس مقصوده أن نفسه على خلاف الحس والخيال
قال الرازي ورابعها أنا لا نعقل فاعلا يفعل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة ثم اعترفنا بأنه تعالى وتقدس خالق العالم بغير شيء من هذا

والكلام عليه من نمط الذي قبله وإن كان هذا السؤال هو ببحوث القدرية والمعتزلة أخص كما أن الذي قبله ببحوث الفلاسفة والدهرية أخص وذلك من وجوه
أحدها أن غاية هذا ثبوت مالا نظير له وليس ذلك ممتنعا كما تقدم ولا فرق في ذلك بين حكم الحس والخيال وحكم العقل كما تقدم غير مرة
الثاني أنه هو خالق كل شيء ومن أجلب لنفسه منفعة من غيره أو دفع عن نفسه مضرة من غيره كان محتاجا إلى ذلك وهذه حال الفقر إلى غيره فما دل على أنه رب العالمين دل على غناه عن غيره وبذلك أخبر عن نفسه كما قال يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني وتمام الكلام كما بيناه قبل
الوجه الثالث أن يقال ما تعني بقولك إنا لا نعقل فاعلا يفعل فعلا إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة ثم اعترفنا بأنه تعالى خالق العالم لغير شيء من هذا أتريد أنه سبحانه منزه عن نعوت المخلوقين الناقصين المحتاجين إلى غيرهم في اجتلاب منافعهم ودفع مضارهم كما يوجد أن الحي من الإنسان وغيره يطلب ما ينفعه ويلائمه من غيره ويدفع ما يخلف عليه من الضرر من نفسه ومن غيره فهذا حق فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين لا يحتاج إليهم بل هو الأحد الصمد الحي القيوم وهو سبحانه لا يخاف ضرر شيء لا من نفسه ولا من غيره بل العباد عاجزون عن أن يلحقوا به ضررا أو نفعا قال تعالى في الحديث الصحيح الذي رواه رسول الله صلى الله عليه و سلم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني

أو تريد أنه سبحانه وتعالى لا يحب فعله ويرضاه ويفرح به فإن أردت هذا لم يسلم لا ذلك فإن الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة قد دل على وصفه بالمحبة والرضا والفرح
أو تريد أنه لا يحدث له من هذه الأمور ما لم يكن قبل ذلك فهذا هو الوجه الأول وقد تقدم الكلام عليه
ثم قال الرازي وأما تقرير ذلك في الصفات فذلك من وجوه أحدها أنا لا نعقل ذاتا تكون عالمة بمعلومات لا نهاية لها على التفصيل دفعة واحدة وأنا إذا جربنا أنفسنا وجدناها متى اشتغلت باستحضار معلوم معين امتنع عليها في تلك الحالة استحضار معلوم آخر ثم إنا مع ذلك نعتقد أنه تعالى وتقدس عالم بما لا نهاية له من المعلومات على التفصيل من غير أن يحصل فيه اشتباه والتباس فكان كونه تعالى عالما بجميع المعلومات أمرا على خلاف مقتضى الوهم والخيال
والكلام على هذا من وجوه
أحدها أن هذا الكلام أن علم الله ليس من جنس علومنا ولا مماثلا له وأنا لا نستطيع أن نعلم كعلم الله تعالى وهذا من أوضح الأمور وأبينها عند الخاصة والعامة فإن أحدا من الخلق كما لا يظن أن ذاته كذات الله تعالى لا يظن أن علمه كعلم الله تعالى ومن المعلوم لكل أحد أن الله أكبر وأعظم مما يعلمونه ويقولونه فيه فكذلك علمه وقدرته وسائر صفاته أكبر وأعظم من أن يعلم كنه علمه أو يوصف ولم يقل أحد من البشر أن علم الله تعالى مثل علمنا

ولا توهم أحد ذلك ولا تخيله فأي شيء في هذا مما هو على خلاف مقتضى الوهم والخيال غاية ما فيه أنه ليس مثلما نتوهمه ونتخيله من نفوسنا وهذا لا ريب فيه
وهذا يظهر بالوجه الثاني وهو أن الله سبحانه ليس مثلما نعلمه ونعقله ونحسه من نفوسنا فضلا عن أن يكون مثلما نتخيله ونتوهمه من نفوسنا فلا اختصاص للوهم والخيال بذلك وإذا كان الله سبحانه ليس مثلما نحسه ونعلمه ونعقله ونتخيله فينا ولم يكن في ذلك ما يقتضي أن يكون منافيا لما نعلمه لم يجب أن يكون منافيا لما نحسه
ويتقرر هذا بالوجه الثالث وهو أن العلم بامتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه علم فطري ضروري ليس هو من خصائص الوهم والخيال وأما ما ذكره من إحاطة علم الله تعالى فليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك بحال
الوجه الرابع إن كلما وصف الله به علم الله ليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك لا محسوس ولا متوهم ولا متخيل ولا معقول إلا أن يكون من الاعتقادات الباطلة التي لم تعلم بضرورة ولا نظر ولا ريب أن ذات الله وصفاته على خلاف الاعتقادات الباطلة التي يظن أنها معقولة أو محسوسة أو متخيلة ولكن لا فرق في ذلك بينما يظن أنه معقول ومعلوم وما يظن أنه محسوس ومتخيل
الوجه الخامس أن قوى بني آدم في العلم متفاوتة تفاوتا لا ينضبط طرفاه أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان ولبعضهم من القوة على استحضار معلومات في وقت واحد ما ليس لبعض وليس لذلك حد معلوم للناس يعتقدون أن أحدا من البشر لا يمكن أن يكون أقوى في ذلك بل فوق كل ذي علم عليم

حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى كما قال السلف وإذا كان بنو آدم متفاوتين في العلم والقدرة ولم يكن عجز أحدهم ما يقدر عليه الآخر من العلوم والأعمال مانعا من اعتقاده ذلك لغيره مع كونه مجانسا له مساويا في الحقيقة فلأن لا يكون عجز أحدهم عما يوصف الله تعالى به من العلم مانعا من اعتقاد وجوب ذلك في ربه عز و جل بطريق الأولى والأخرى ولا يكون ذلك معتقدا ما يخالف محسوسه ولا معقوله
الوجه السادس أنه إذا كان الآدمي يعلم من اقتدار غيره على استحضار العلوم المفصلة في زمن واحد مالا يقدر هو عليه كان ذلك دليلا عنده على أن رب العالمين أولى بأن يكون موصوفا بالعلم بمعلومات مفصلة لا يقدر العبد عليها
الوجه السابع أن العبد يعلم أن ربه يدبر أمر السموات والأرض في آن واحد لا يشغله شأنه عن شأن ومعلوم أن التدبير يحتاج إلى قدر زائد عن العلم من القدرة والمشيئة والحكمة مع أن العبد يعلم عجز نفسه عن نظيره من نحو ذلك فأن يكون معتقدا بأن ربه بكل شيء عليم وإن كان عاجزا عن ذلك بطريق الأولى والأحرى
وبالجملة فهذا الوجه من الوجوه التي ذكرها في تقريره هذه المقدمة وكذلك ما ذكره في قدرة الله تعالى وفي سمعه وفي بصره بعد هذا كما سنذكره
قال الرازي وثانيها أنا نرى كل من فعل فعلا فلا بد له من آلة وأداة فإن الأفعال الشاقة تكون سببا للكلال والمشقة لذلك الفاعل ثم إنا نعتقد

أنه سبحانه وتعالى يدبر من العرش إلى ما تحت الثرى مع أنه منزه عن المشقة واللغوب والكلال
يقال له لا ريب أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما أي لا يكرثه ولا يثقل عليه وقال في الكتاب ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب واللغوب الإعياء وإنما يستريح من إعياء ومنه قول أبي قتادة في حديث حمار الوحش فسعى القوم حتى لغبوا وقال أهل الجنة الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب وهذا مما لا يتنازع فيه المسلمون
وإذا كان كذلك فالكلام على ما ذكرته من وجوه
أحدها أن هذا بيان قدرة الله تعالى كاملة تامة لا نقص فيها ليست مثل قدرة العبادة كما ذكرنا في العلم وهذا حق ولم يقل أحد إن هذا مخالف لا للمحسوس ولا للمعقول وإنما هو مخالف لمقدار صفاتنا
الثاني أن هذا نسبة هذا أن المعلوم والمعقول والمحسوس والمتخيل نسبة واحدة فقولك إن ثبوت هذا على خلاف حكم الوهم والخيال كقول القائل إنه ثابت على خلاف حكم العقل والعلم
الثالث إن هذا معناه أن الله ليس مثلنا ولا صفاته كمقدار صفاتنا وقد مضى أن انتفاء مثل الشيء لا يوجب انتفاءه فكيف إذا كان إنما نفى مماثلته لنا فقط

وإن كان الله تعالى ليس كمثله شيء وقد قدمنا أنه إن عنى ثبوته على خلاف الحس والخيال عدم النظير فهو حق لكن نفي موجود لا داخل العالم ولا خارجه معلوم بالفطرة البديهية لا بالقياس ولا بعدم النظير
الرابع أن هذه القدرة ليس عندنا اعتقاد بنفيها لا محسوس ولا معقول بخلاف وجود موجود لا داخل ولا خارجه فإن عندنا من العلوم الضرورية والنظرية ما ينفي ذلك
الخامس أن قوى بني آدم في الفعل مختلفة فإذا كان عجز أحدهم عما يقدر عليه الآخر ليس مانعا من اعتقاد ثبوت تلك القدرة مع اشتراكهم في الجنس فأن لا يكون عجز أحدهم مانعا من الإيمان بقدرة خالقه أولى وأحرى
السادس أنه إذا كان أحدهم يعلم من قدرة غيره على العمل ما ليس هو عنده ولا يكون ذلك ممتنعا لا في حسه ولا في خياله ولا في عقله فأن يعلم من قدرة خالقه ما ليس هو عنده أولى وأحرى
قال الرازي وثالثها أنا نعتقد أنه يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى ويرى الصغير والكبير فوق أطباق السموات العلى وتحت الأرضين السفلى ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود مع أنا نعتقد أنه تعالى كذلك
يقال له لا ريب أنه سبحانه وتعالى كما قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تناجي رسول

الله صلى الله عليه و سلم في جانب البيت وإنه ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي فتحدثوا بينهم بحديث فقال أحدهم أترون الله يسمع ما تقول فقال الآخر يسمع أن أعلنا ولا يسمع إن أسررنا فقال الثالث إن سمع منه شيئا فإنه يسمع كله فأنزل الله تعالى وما كنتم تستترون أن يشهد عليك سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين
لكن الكلام في سعة سمعه وبصره سبحانه وتعالى كالكلام في سعة علمه وقدرته سواء وليس فيما ذكره إلا أن ذلك ليس مثل سمعنا وبصرنا وثبوت مثل هذا مما لا ينازع فيه عاقل ولا ينفيه حس ولا عقل ولا تخيل بل ثبوت مالا نظير له في الخلق لا ينفيه الحس والعقل فكيف بما ليس له نظير مساو أيضا فالعقل والحس والخيال والوهم بالنسبة إلى هذا سواء
فقوله ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود بمنزلة قول القائل إن العقل البشري والعلم الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود وهو لا يقول إن الله ثابت على خلاف حكم العقل والعلم فيلزمه في الحس والوهم والخيال مثل ذلك
وأيضا فقوله على خلاف ذلك إن أراد به أن الوهم والخيال يعجز عن إدراك ذلك لم يضر فإن العجز عن إدراك الشيء من بعض الوجوه لا ينفي القدرة على معرفته من وجه آخر وإن أراد أن الوهم والخيال يدرك ما ينافي ذلك لم يصح ذلك فليس في وهمنا وخيالنا الصحيح ما ينافي ذلك وإن فرض اعتقاد فاسد

ينافي ذلك فهو كالاعتقاد الذي يظن صاحبه أنه معقول أو معلوم وقد قدمنا أن لفظ الوهم والخيال يقال على الباطل تارة وعلى المطابق أخرى فالمطابق لا ينافي ذلك والباطل لا نزاع فيه
وأيضا فاعتقاد امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه ثابت بالضرورة الفطرية والمتوهم المتخيل لا يكون ثابتا بالفطرة الضرورية كما تقدم
قال الرازي فثبت أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته ومع ذلك فإنا نثبت الأفعال والصفات على مخالفة الوهم والخيال وقد ثبت أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض من معرفة الصفات فلما عزلنا الوهم والخيال في معرفة الصفات والأفعال فلأن نعزلهما من معرفة الذات أولى وأحرى
فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه سبحانه وتعالى منزه عن الحيز والجهة ليس أمرا يدفعه صريح العقل وذلك هو تمام المطلوب وبالله التوفيق
قلت قد تقدم الكلام على أصول هذا غير مرة من وجوه متعددة
أحدها أن القصور عن معرفة الشيء غير العلم بانتفائه والمنازع له قال إني أعلم انتفاء موجود لا داخل العالم ولا خارجه لم يقل إني قاصر أو عاجز عن معرفة وجوده
الثاني أن قصور الوهم والخيال لا يستلزم قصور العلم والعقل والحس والمنازع له يقول إن ذلك لا يعلم بعقل ولا غيره فإذا كان غيره معقولا لم يجب أن يكون هذا معقولا

الثالث أن المنازع له قال أنا أعلم بالفطرة الإنسانية التامة امتناع هذا الموجود لا يقول إن ذلك نعتقده بوهمنا وخيالنا دون علمنا وعقلنا
الرابع أن جميع ما ذكره إنما يدل على ثبوت مالا نظير له لا يدل على ما نعتقد انتفاءه والأول مسلم ومورد النزاع من الثاني
الخامس أن الوهم والخيال المطابق والعلم والعقل والإحساس فيما ذكره سواء كما تقدم بيانه ثم إنه لم يعزل العلم والعقل في معرفة الله تعالى فلا يعزل الحس الصحيح وأما الفاسد فهو معزول وإن قيل إنه معقول ومعلوم كما يعزل ما يذكره الجهمية وغيرهم من أهل الإلحاد من العقليات التي يسمونها عقليات وهي جهليات
السادس أن المنازع له قد يسلم أن يعزل الوهم والخيال في معرفة أفعال الله تعالى وصفاته وذاته لكن لم يعزل الفطرة الإنسانية والمعارف الضرورية ومسألتنا من هذا الباب ولم يذكر حجة واحدة تنفي كون ذلك معلوما بالضرورة ولا يقبل الاحتجاج على خلاف ما يعرف بالضرورة
السابع أنه إنما أثبت أن أفعال الله تعالى وصفاته ليست مماثلة لأفعالنا وصفاتنا وذلك لا يقتضي كونها ثابتة على خلاف الوهم والخيال فإن الوهم والخيال لا ينفي ما لم يكن مثاله موجودا فيه بل غاية ما ذكره انتفاء المثل في الوجود والوهم والخيال لا ينفي مالا مثل له بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء إثباتا لما لا نظير له في ما يقدره ويصوره من الأمور التي تكون موجودة فيه وليس لها نظير في الخارج

وأما قوله فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه منزها عن الحيز والجهة ليس أمرا يدفعه صريح العقل وذلك تمام المطلوب
فقد تبين بأدنى نظر أنه ليس فيها وجه واحد يبين إمكان وجود ذلك لا الإمكان الذهني ولا الخارجي أعني لم يثبت أن العقل يعلم إثبات ذلك ولا أنه لا يعلم امتناعه ولو لم يكن عندنا اعتقاد ينفي إمكان ذلك بضرورة أو نظر فكيف إذا كان اعتقاد امتناع ذلك معلوما بالنظر فكيف إذا كان معلوما بالضرورة وقد تقدم أن ما أعتقد امتناعه بالضرورة وأراد الرجل أن يبين أنه غير ممتنع بالضرورة ولا بالنظر بل هو ممكن في الذهن فلا بد أن يبين أنما يعلم امتناعه بالضرورة والنظر ليس هو الذي لا يعلم امتناعه في الذهن ليبقى الإمكان الذهني مع أن الإمكان الذهني لا يستلزم الإمكان الخارجي كما تقدم
فصل
ثم إن المنازعين له إذا كانوا يقولون نعلم بالضرورة امتناع ذلك وقالوا إنما يقوله النفاة إنه الحق الذي يجب وصف واجب الوجود به فإنه ممتنع وجوده معلوم امتناعه بضرورة العقل بل يقولون إنا نعلم بضرورة العقل أن رب العالمين فوق العالم فنحن نعلم بضرورة العقل وجوب ما ادعى امتناعه بالنظر وامتناع ما ادعى إمكانه بالنظر وقد يقولون نحن نعلم بالفطرة والضرورة أن الموجود الذي ليس هو صفة لغيره أو أن واجب الوجود لا يكون

إلا قائما بنفسه يمتنع غيره أن يكون بحيث هو وأنه ليس خيالا وشبحا في النفس بل هو شيء موجود له التحقق والثبوت الذي يعلم بالقلوب أنه تحقق وثبوت وإن سماه المنازع تحيزا وتجسيما ونحو ذلك وتعلم بالضرورة والفطرة أنما لا يكون كذلك لا يكون إلا معدوما كما نعلم بالضرورة والفطرة أنه ما من موجودين حيين عالمين قادرين بل ما من موجودين إلا وهما مشتركان في مسمى الوجود والثبوت وأن تميز أحدهما عن الآخر بخاصيته التي تخصه سواء كان واجبا أو لم يكن وما به الاشتراك ليس هو ما به الامتياز ولا مستلزما له وإلا كان أحدهما هو الآخر إذا كان المشترك مستلزما للميز فإنه إذا لم يكن أحدهما مختصا بما يميزه بل حيث تحقق المشترك تحقق المميز والمشترك ثابت لهما فإذا كان المميز ثابت لهما لم يكن لأحدهما تميز يخصه فلا يكون أحدهما غير الآخرة إذ لا بد في المعينين من أن يمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وإذا كان كل منهما موصوفا بقدر مشترك والقدر المشترك أن يكون لأحدهما شبه ما بالآخر ولو من بعض الوجوه امتنع أن يكون في الوجود موجود لا يشارك الموجودات في شيء من الأمور الوجودية ولا يشابهها في شيء من ذلك ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن العقلاء يعلمون بعقلهم انتفاء ذلك كما قال الإمام أحمد رحمه الله في رده على الجهمية لما ذكر عنهم ما وصفوه من السلوب وأنهم قالوا كلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه وهذا معنى قول المؤسس وذويه إنه على خلاف الحس والخيال أو العقل وقد تقدم ذكر ذلك قال فقلنا هو شيء قالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون به في العلانية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول

لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون بأنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فذكر أولا أنما يقال إنه شيء ثم يقال إنه لا كالأشياء أي لا يشابهها بوجه من الوجوه بل يخالفها من كل وجه فهذا قد عرف أهل العقل أنه لا شيء لأن العلم بذلك عام في أهل العقل ولما ذكر ثانيا من يعبدون قالوا نعبد المدبر لهذا الخلق فهذا إخبار عن المعبود الذي تجب عبادته في الدين فلما قالوا هو مجهول لا يعرف بصفة قد علم المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا لأن المسلمين يوجبون عبادة الله تعالى فذكر أولا عن عموم أهل العقل أنهم لا يثبتون شيئا وذكر ثانيا عن أهل الدين أنهم لا يعبدون شيئا ذكر في كل مقام ما يناسبه وذلك لأن المجهول لا يعرف فلا يقصد ولا يعبد ومن لا يعرف بصفة تميزه عن غيره لم يكن معلوما فلا يكون معبودا فهنا ذكر أن لا بد من صفة تميزه عن غيره والنفاة يقولون هذا تجسيم وذكر أولا أنه يمتنع أن لا يكون بينه وبين شيء من الموجودات قدر مشترك ولا شبه بوجه من الوجوه والنفاة يقولون هذا تشبيه فهم بما عنوه بلفظ التشبيه والتجسيم أوجبوا أن يكون الموصوف بنفي ذلك على المعنى الذي قصدوه معدوما بل واجب العدم ممتنع الوجود وإن كان اللفظ يحتمل نفي معان باطلة مثل نفي كونه مشابها للمخلوقات مماثلا لها من بعض الوجوه فإن نفي هذا واجب وكذلك نفي كونه يقبل التفريق والتفكيك فلا يكون صمدا أحدا هو أيضا واجب فتكلموا أيضا باللفظ المجمل المتشابه الذي يحتمل الحق والباطل ولكن قصدوا به ما هو باطل وإن قصدوا به ما هو أيضا حق أوهموا الناس أنهم لم يقصدوا به إلا نفي ما هو باطل كما قال أحمد رحمه الله يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويوهمون جهال الناس بما يشبهون عليهم

فصل
ويقول المنازعون نحن نعلم بالنظر العقلي والاستدلال كما علمنا بالفطرة الضرورية امتناع وجود ما أثبته المنازع من أنه لا داخل العالم ولا خارجه ونعلم انتفاء ذلك وثبوت هذه بالكتاب والسنة والإجماع وبالنقل المتواتر عن الأنبياء المتقدمين وباتفاق أهل الفطر السليمة من جميع العقلاء فصاروا يقولون إن كل واحد من ثبوت ما يقوله ونفي ما يقوله الجاحد المخالف يعلم بالفطرة والضرورة والبديهة والذوق والوجد ويعلم بالفطرة والأدلة العقلية يعلم بالأدلة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع ويعلم بالنقل المتواتر عن الأنبياء ويعلم باتفاق العقلاء ذوي الفطر السليمة
وإذا استدلوا بالنظر والقياس والمعقول والبراهين التي يحتج بنظيرها مخالفوهم بل بالبراهين التي هي أصح من ذلك وهي حق في أنفسها قرروا ذلك من وجوه
أحدها وفيه قاعدة جليلة جامعة وهو أن يقال لا ريب أن قياس الغائب على الشاهد يكون تارة حقا وتارة باطلا وهو متفق عليه بين العقلاء فإنهم متفقون على أن الإنسان ليس له أن يجعل كلما لم يحسه مماثلا لما أحسه إذ من الموجودات أمور كثيرة لم يحسها ولم يحس ما يماثلها من كل وجه بل من الأمور الغائبة عن حسه مالا يعلمه أو ما يعلمه بالخبر بحسب ما يمكن تعريفه به كما أن منها ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما شاهده وهذا هو المعقول كما أن الأول هو المسموع والمحسوس ابتداءا هو ما يحسه بظاهره أو باطنه وهذا بين
القسم الثاني وهو أنهم متفقون على أن من الأمور الغائبة عن حسه ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما يشهده كما يعلم ما يغيب عنه من أفراد الآدميين

والبهائم والحبوب والثمار وأفراد الأطعمة والأشربة واللباس ونحو ذلك فإنما يسميه الفقهاء ونحوهم جنسا واحدا أو هو ماله اسم جامع يجمع أنواعا يميز بينها بالصفات كالحنطة والثمر والإنسان والفرس وهو الذي يسميه المنطقيون النوع وما هو أخص من ذلك وإن كان قد يسمى أيضا جنسا أو صنفا أو نوعا كالعربي والعبري والفارسي والرومي وكالتمر البرني والمعقلي ونحو ذلك لا ريب أن الإنسان لم يحس جميع أعيانه وأفراده وإنما يعلم غائبها بالقياس على شاهدها فهذا أصل متفق عليه بين العقلاء
ومن حكى من أهل الكلام أن من الأمم أمة لا تقر بشيء من المعقولات وإنما تقر بما أحسته ويذكرون ذلك عن البراهمة السمنية فلا ريب أن هذا النقل وقع فيه غلط من هؤلاء وتغليط من أولئك وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أصل هذا النقل لما ذكر مبدأ حدوث الجهمية في هذه الملة فقال وكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من الترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي ناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أنه لك إلاها قال الجهم نعم فقالوا له هل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسا قال لا قالوا فوجدت له مجسا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة من النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى صلى الله على نبينا وعليه هي من روح الله تعالى ومن ذات الله تعالى فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8