كتاب : بيان تلبيس الجهمية
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وإما أن يكون مباينا عنه بالجهة فقالوا ليس بكذا ولا كذا ففنوا الطريقين جميعا وقالوا إنه لا يمكن أن يحس به ولا أن يشار إليه بالحس فقيل لهم هذا أحقر من الجوهر الفرد فقالوا في جواب ذلك إنما يلزم لو كان جسما أو لو كان موصوفا بالحيز والمقدار أو قالوا هذا من حكم الوهم والخيال أو حكم الحس والوهم
فقد بينا فيما تقدم غير مرة أن كلام منازعيهم هؤلاء أبعد عن الخطأ في العقل والدين من منازعيهم فانهم هم أعظم مخالفة لما يعلم بضرورة العقل وبديهته وفطرته من منازعيهم هؤلاء المثبتين لأن الله على العرش الموافقين لهم على نفي الجسم وقد تقدم التنبيه على أصل كلام هؤلاء وأنه إن كان كثيرا ممن يوافقهم على أن الله على العرش أو على نفي الجسم يقول إن هذا القول متناقض ويصفهم بالتناقض في ذلك فالنفاة أعظم تناقضا منهم وأعظم مخالفة لما يعلم بالاضطرار في العقل والدين وأن هؤلاء أعظم مخالفة للعلوم الشرعية والعقلية ولا ريب أن كلام هؤلاء فيه ما يحتج به مثبتو الحد والمقدار والتحيز والجهة وفيه ما يحتج به نفاة الجسم والتحيز والجهة أيضا فلهذا قيل إنهم متناقضون أو أن لهم قولين
وقد ذكرنا بعض كلام أبي الحسن الأشعري وغيره من أئمة أصحابه الذي احتجوا به على أن الله على العرش وما احتجوا في ذلك من الآيات التي يحتج بها على اثبات الحد فقال باب ذكر الاستواء فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال سبحانه الرحمن على

العرش استوى وقد قال عز و جل إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال سبحانه بل رفعه الله إليه وقال سبحانه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه وهذه الآيات التي استشهد بها الامام أحمد لقول ابن المبارك وكذلك هي التي احتج بها عثمان بن سعيد الدارمي وغيره على ذلك فهذا الرازي وموافقوه على النفي من المعتزلة ومتأخري الأشعرية يسلمون أن الاستدلال بهذه الآيات على أن الله فوق العرش يستلزم القول بدلالتها على أن الله متحيز في جهة وأن له حدا وقد تقدم تمام قول الأشعري
قال أيضا وقد قال تعالى يخافون ربهم من فوقهم وقال سبحانه تعرج الملائكة والروح إليه وقال سبحانه ثم استوى إلى السماء وقال ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وقال ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع قال وكل هذا يدل على أنه في السماء مستو على عرشه قال والسماء باجماع الناس ليست في الأرض فدل على أنه عز و جل منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه قال وقال سبحانه وجاء ربك والملك صفا صفا وقال عز و جل هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وهاتان الآيتان هما اللتان احتج بهما أحمد على قول ابن المبارك في الرواية الأخرى
قال وقال سبحانه يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي وقال سبحانه وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه قال واجتمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء قال ومن دعاء المسلمين جميعا إذا هم رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم أنهم يقولون يا ساكن العرش أو يامن احتجب بالعرش أو بسبع

سموات وهذا تصريح منه باحتجابه بالأجسام المخلوقة وهذا عند منازعيه من نفاة أصحابه وغيرهم يستلزم أن يكون جسما متحيزا
قال وقال عز و جل وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي إذنه ما يشاء وقد خصت الآية البشر دون غيرهم وهذا كله منه يقتضي أن الله سبحانه قد يحتجب عن شيء دون شيء ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم لكان أبعد عن شبهة وإدخال الشك عل من سمع الآية أن يقول لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا ومن وراء حجاب أو يرسل رسولا فيرفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحيا ومن وراء حجاب أو يرسل رسولا وترك أجناسا لم يعمهم بالآية قال فدل ما ذكرناه على أن خص البشر دون غيرهم وقد احتج بذلك على أن الله فوق العرش لأن النفاة يقولون الاحتجاب لا يكون إلا من صفات الأجسام ولا يكون على العرش إلا إذا كان جسما وهذا قد استدل بهذه الآيات على احتجابه عن بعض خلقه المستلزم أن يكون على العرش
قال وقال الله عز و جل ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ولو ترى إذ وقفوا على ربهم وقال ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤسهم عند ربهم وقال سبحانه وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة وقال كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقة فيه وأنه سبحانه مستو على عرشه جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا جل عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان

كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل ويريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل فاحتجاجه بقوله ثم ردوا إلى الله وقوله وقفوا على ربهم وقوله عرضوا على ربك وقوله ناكسو رؤسهم عند ربهم على أن الله فوق العرش كل ذلك لأن هذه الآيات تدل على النهايات والغايات والحدود والتباين الذي بينه وبين خلقه
فإذا نتكلم على حجته في هذا المقام فإنه يقال له قولك لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان لا يخلو إما أن يكون متناهيا أو غير متناه فإن قلت نحن نقول هو موجود في غير جهة ولا حيز أصلا وهو غير متناه من جميع الجوانب أو بعضها أو غير متناه من جميعها يعارضونه بأن يقولوا هذه الحجة ترد عليك أيضا بأن يقال ولو كان موجودا أو قائما بنفسه كان متناهيا في ذاته بمعنى أن ذاته يمتنع أن يكون لها طرف ونهاية وحد
يقال لك اذا عقل موجود لا نهاية له فهل التفسير يعقل موجود فوق العرش لا يوصف بالتناهي وعدمه أولى وأحرى بمعنى أنه يمتنع أن يكون له نهاية أو يكون ذا مسحة لا نهاية لها فانه إذا عقل هذا في موجود مطلق لم يمتنع وصف هذا الموجود بأنه فوق العرش ويكون كذلك بل يكون هذا أقرب إلى العقل لأن الفطر تقر بأن الله فوق العالم وتنكر وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإذا أقررت بوجوده خارج العالم كان أقرب إلى الفطرة والعقل وإذا جاز أن يقال في هذا إنه لا يتناهى بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بتناهي المقدار وعدمه كذلك يقال فيه مع وجوده فوق العرش

وإذا قال قائل هذا الفوقية أو هذا العلو فوق العرش لا يعقل أو قال لا يعقل علو ولا فوقية إلا بمعنى الذهاب في الجهات قيل له معرفة الصفة وعقلها فرع على معرفة الموصوف وعقله فطلبك العلم بكيفية علوه مع أنك لا تعقل حقيقته جمع بين الضدين وإذا كنت تقر بأنه موجود بل إقرارك بأن ذاته فوق العرش فوقية تناسب ذاته أسهل على العقل من الاقرار بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بل الاقرار بأنه ليس ذا مساحة ومقدار لا ينافي الاقرار بأنه خارج العالم وفوقه كما يناسب ذاته ومنافاة الاقرار بوجوده مع كونه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم تنافيا
وأما المقام الثاني فكلام من لا ينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش ليس لها أصل في الكتاب والسنة بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظا أو معنى أو لا يعترض لها بنفي ولا إثبات وهذا المقام هو الذي يتكلم فيه سلف الأمة وأئمتها وجماهير أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والصوفية وغيرهم وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين حيث ائتموا بما في الكتاب والسنة وأقروا بفطرة الله التي فطر عليها عباده فلم يغيروا وجعلوا كتب الله التي بعث بها رسله هي الأصل في الكلام وأما الكلام المجمل المتشابه الذي يتكلم به النفاة ففصلوا مجمله ولم يوافقوهم على لفظ مجمل قد يتضمن نفي معنى حق ولا وافقوهم أيضا على نفي المعاني التي دل عليها القرآن والعقل وان شنع النفاة على من يثبت ذلك أو زعموا أن ذلك يقدح في أدلتهم وأصولهم
والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال قوله وأما القسم الثالث

وهو أن يقال كل متناه من كل الجوانب فهذا باطل من وجهين الأول أن كل ما كان متناهيا من جميع الجوانب كانت حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك كان محدثا على ما بيناه فيقال له قد تقدم الكلام على هذه الحجة وبينا أن جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين يخالفونك في هذه المقدمة وبينا فساد ما ذكرته من الحجة عليها بوجوه كثيرة بيانا واضحا ونحن نحيل على ما ذكرناه هناك كما أحال هو عليه
وأما الوجه الثاني فقوله إنه لما كان متناهيا من جميع الجوانب فحينئذ نفرض فوقه أحيازا خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله تعالى ويكون قادرا على أن يخلق فيها جسما فوقه فيقولون لك هذا بناء على أن الأحياز والجهات لابد أن تكون أمرا وجوديا وأنه يمكن أن تكون فوقه وهم ينازعونك في هاتين المقدمتين وأنت معترف بفسادها في غير موضع من كتبك وقد تقدم البيان بأن الحيز لا يجب أن يكون أمرا وجوديا وإبطال ما يستدل به على خلاف ذلك وظهر صحة قوله سبحانه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم إنه كان يقول في دعائه أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء وهذا النص أيضا يدل على أنه ليس فوق الله شيء وهذا نفي عام لكل ما يسمى شيئا وكل موجود فإنه يسمى شيئا فقد اتفق

الناس على أن كل موجود غير الله فإنه شيء لكون النبي صلى الله عليه و سلم قد نفى أن يكون فوقه شيء موجود حيزا وغيره وهذا يبطل أن يكون فوقه أحياز موجودة
والذي يوضح ذلك أنه قد قرر في هذه الحجة امتناع وجود أبعاد لا تتناهى وذلك يبطل وجود أحياز لا تتناهى حتى إنه يقول ليس وراء العالم أحياز وأبعاد لا تتناهى فإذا كانوا يوجبون في العالم الذي هو متحيز محدود متناهي أن لا يكون وراءه أحياز موجودة فكيف يوجبون أن يكون فوق خالق العالم أحياز موجودة بل هذا الرازي وأمثاله إذا ناظره الفلاسفة في أنه يمكن أن يكون العالم أكثر مما هو ويمكن أن يخلق مثله عالم آخر لم يقرر ذلك عليهم إلا بما هو من جنس مجادلاته المعرفة التي لا يزال يضطرب فيها غاية الاضطراب من السلب والايجاب فكيف يوجب أن يكون فوق رب العالمين أحيازا خالية وجهات فارغة ويضرب لهم هنا مثلا من أنفسهم كما يناظر به من يقول إن الله شريكا من خلقه أو أن له ولدا لا يرضى مثله لنفسه فيقال له المخلوق الذي هو عندك متحيز لا يجب أن يكون فوقه عندك أحياز خالية وجهات فارغة فكيف توجب في خالق العالم إذا وصف بأنه فوق العرش وأنه متحيز أن يكون فوقه أحياز خالية وجهات فارغة
وأما قوله هو قادر على خلق الجسم في الحيز الفارغ فيكون ذلك الجسم فوقه فيقال لك هذا مبني على أنه يمكن أن يكون فوقه شيء فإن لم يبين إمكان ذلك لم يصح أن يقال هو قادر على خلق جسم فوقه كما لا يصح أن يقال هو قادر على خلق جسم قبله أو بعده فقد يقول لك المنازع إذا وجب أن يكون هو العلي الأعلى المتعالي الذي لا يعلوه شيء لم يجز أن يعلوه شيء كما أنه إذا وجب أن يكون الأول والآخر لم يجز أن يسبقه شيء أو يتأخر عنه

شيء كما قال النبي صلى الله عليه و سلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء لكن الأول والآخر لا ابتداء له ولا انتهاء وإذا لم يكن له نهاية ولا حد من الوجهين جميعا ظهر فيه امتناع أن قبله أو بعده شيء بخلاف المتناهي المحدود من الأحياز
ولكن هذا الفرض جاء من خصوص المكان والزمان بدليل أن أهل الجنة لا آخر لوجودهم بل هم باقون أبدا وإن كانوا متحيزين لا حد ولا نهاية لآخرهم وإن كانت ذواتهم محدودة متناهية في أحيازها وأما كنها ولهذا لما أراد جهم أن يطرد دليلة في وجوب النهاية لكل مخلوق أوجب فناء الجنة والنار ولما أراد أبو الهذيل أن يطرد دليله في تناهي الحوادث أوجب انقطاع حركات أهل الجنة والنار
والمقصود هنا أن وجوب تناهي البقاء والأمد وإذا كانت الأحياز متناهية أو كان المتحيز متناهيا لم يجب أن يكون فوقه شيء إذ ليس وراء الموجود شيء موجود إلى غير نهاية وقد تقدم ابطاله لذلك
وأيضا فيقال له لم تذكر حجة على امتناع أحياز خالية ولا امتناع خلق أجسام وأنت تقول إن هذا برهان فإن لم تذكر حجة على امتناع ذلك لم يكن هذا الوجه دليلا
وأما قولك لا يكون هو فوق جميع الأشياء بل تكون الأحياز أشد فوقية فهذا تمسك باطلاق لفظ مع أنك لا تقول بمعناه فهو عندك أيضا ليس فوقه شيء من الأشياء فضلا عن أن تكون فوقه جميعها إلا بمعنى القدرة والتدبير وهذا المعنى يثبته المنازع مع اثباته لهذه الفوقية الأخرى فيكون قد أثبت ما تثبته من صفات الكمال ويثبت كمالا آخر لم تثبته أنت

وأيضا فتلك الأحياز ليست شيئا أصلا لأن الأشياء هي الموجودة ولا موجود إلا الله وخلقه وهو فوق خلقه وإذا لم تكن أشياء لم يصح أن يكون شيء فوقه وكان هو فوق كل شيء
وأما خلق جسم هناك فلم يذكر على امتناعه حجة إلا أن الخصم لا يقول به والخصم يقول ذلك ممتنع لامتناع أن يكون شيء موجود فوق الله فإن سلمت له هذه العلة كان ذلك جوابا لك وإن لم تسلمها لم يكن مذهبه صحيحا فلا تحتج به وقد تقدم كلامك على إبطال مثل هذه الحجة وهي الالزامات المختلفة المآخذ
وأيضا فلو قال قائل بل ذلك جائز فلم تذكر على إبطاله حجة لا سيما وعندك أن النقص على الله لم يعلم امتناعه بالعقل وإنما علمته بالاجماع لا سيما إن احتج بظاهر قوله تعالى يأتيهم الله في ظلل من الغمام وبقوله كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء لا سيما وهذا لا ينافي الفوقية والعلو بالقدرة والقهر والتدبير وعندك لا يستحق الله الفوقية إلا بهذا وهذا المعنى ثابت سواء خلق فوقه شيئا آخر أو لم يخلقه فإذا لم يكن هذا مستحيلا على أصلك لم يصح احتجاجك باستحالته عن المنازع الذي ينازعك في المسألة بل قد يقول لك إذا لم يكن ما يمنع جواز ذلك إلا هذا فعليك أن تقول به لأن هذا ليس بمانع عندك
الوجه الثاني أن يقال قد ذكرت أن الكرامية الذين قالوا انه فوق العرش منهم من قال إنه ملاق للعرش ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد متناه ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد غير متناه وهذا القول يتضمن أن بين الله وبين العرش بعدا غير متناهيا

وقد ذكر الأشعري في المقالات قول طوائف ممن يقول أنه لا نهاية لذاته مع قولهم إنه ممتد في الجهات فقال بعد ذكر مقالات المعتزلة هذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قال قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن الباري ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفوا فيما بينهم في التجسيم وهل للباري قدر من الأقدار وفي مقداره على ستة عشر مقالة فذكر قول هشام انه جسم وأن له مقدارا وأنه ذو لون وطعم ورائحة ومجسة لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون قال ولم يثبت لونا غيره وأنه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد وهذا قد يقال إنه يناسب قول من قال من الصفاتية إن يدرك بالحواس
قال وحكي عن بعض المجسمة أنه كان يثبت البارى ملونا ويأبى أن يكون ذا طعم ولون ورائحة ومجسة وأن يكون طويلا أو عريضا أو عميقا وزعم أنه في مكان دون مكان متحرك من وقت ما خلق الخلق وهذا قد يناسب قول من يقول إنه يدرك بالرؤية فقط فإن هذا يزعم أنه لا يرى إلا اللون
قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفا بلون وطعم ورائحة أو مجسة أو شيء مما وصف به هشام غير أنه على العرش مباين له دون ما سواه قال واختلفوا في مقدار البارى بعد أن جعلوه جسما فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم أن البارى جسم له مقدار من المساحة

ولا يدري كم ذلك القدر وقال بعضهم هو في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار أن يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القمي وحكي عن هشام أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه وقال بعضهم ليس لمساحة البارى نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا قطب وقال قوم أن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تحل الأشياء فيه ليس بذي غاية ولا نهاية وقال بعضهم هو الفضاء ليس بجسم والأشياء قائمة به
فقد ذكر عن هاتين الفرقتين أنه لا نهاية لمساحته مع قول بعضهم إنه جسم وقول بعضهم إنه ليس بجسم كما ذكر عن آخرين من المجسمة أنه جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه وعن آخرين أنه بقدر العالم وأما القائلون بأنه على العرش فلم يذكر عنهم قولا أنه لا نهاية لمساحته وذكر أيضا عن زهير الأثري وأبي معاذ التومنى أنه فوق العرش وبكل مكان وقال فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرا كان يقول إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجئ يوم القيامة كما قال وجاء ربك والملك صفا صفا بلا كيف
فيقال له إذا نازعك إخوانك المتكلمون الجهمية من المجسمة وغير المجسمة الموافقون لك على أنه ليس فوق العرش الذين يقولون لا نهاية لذاته ومساحته مع قولهم انه جسم ومع قولهم انه ليس بجسم فما حجتك عليهم وهذا هو القسم الأول وهذا ليس من أقوال من يقول انه فوق العرش

وكذلك ذكر أبو الحسن الأشعري لما ذكر اختلاف الناس هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان فقال قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين ذكرتا القول أنه في مكان دون مكان فأخبر أن القائلين بأنه لا نهاية له ينكرون أن يكون في مكان دون مكان فلا يقولون إنه فوق العرش لكن هذا المؤسس ان لم يبطل قول هؤلاء بالحجة والا خصموه فانه ينكر أن يكون الله فوق العرش ويوافقهم على اطلاق القول بأنه لا نهاية له ولا حد ولا غاية وإن كان يفسر ذلك بتفسير آخر لكن نفي قولهم لابد له من حجة
فأما الوجه الأول الذي ذكره فيقولون له لا نسلم أن الخط المتناهي يمكنه أن يسامت غير المتناهي فقولك زال عن الموازاة إلى المسامتة فرع إمكان ذلك والمحال المذكور إنما لزم من فرض مسامتة خط متناه لخط غير متناهي فلزم من قولك أن يحصل في المتناهي نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل لكن قولك إن هذا المحال إنما لزم من فرضنا أن ذلك الخط غير متناه ممنوع بل يقال هذا المحال إنما لزم من فرض مسامتة المتناهي لغير المتناهي فالاحالة كانت بفرض مسامتة له لا بفرض وجود غير المتناهي لم قلت إن الأمر ليس كذلك
وقد يقول لك أحد الفريقين من هؤلاء نحن نقول أنه غير متناه وأنه غير جسم وحينئذ لا يمكن أن يفرض فيه خطوط ونقط فلا بد من إقامة دليل على امتناع شيء ليس بجسم غير متناهي فان أقمت دليلا على ذلك بطل ما ذكرته في القسم الثالث من وجود أحياز خالية فوق البارى لأنه إذا أوجب عندك تناهي

الأبعاد وإن لم تكن أجساما وجب تناهي الأحياز فلم يجب أن يكون فوق الباري حيز ولا بعد كما الزمتهم إياه في القسم الثالث
وأما الوجه الثاني الذي احتججت به عليهم فقولك إذا كان القول بوجود بعد غير متناه ليس محالا فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيا بكليته وذلك باطل بالاجماع يقولون لك أكثر ما يمكنك دعوى الاجماع على أن دليله امتناع بعد لا يتناهى ولا يلزم من الاجماع على الحكم أن يكونوا مجمعين على دليل معين
وأيضا فلا يلزم من بطلان هذا الدليل بطلان سائر الأدلة كيف وقد ذكرت أنه مجمع عليه والاجماع من أعظم الأدلة إذ حجة الاجماع ليست موقوفة على إحالة أبعاد لا تتناهى بدليل أن سلف الأمة وأئمتها يعترفون أن الاجماع حجة من غير أن يبنوا ذلك على أدلة فيها هذه المقدمة التي قد لا تخطر ببال أكثرهم
وقد يقول هؤلاء هب أنه قام دليل تناهي العالم وتناهي المخلوقات وتناهي الأبعاد التي فيها المحدثات فلم قلت إن ذلك محال في حق البارى وهذا يقوله مثبتة الجسم ونفاته كما تقدم ذكر القولين لهم
وأما الوجه الثالث قولك لو كان غير متناه من جميع الجوانب أوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطا لأجزائه وأن يكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل فان أردت أن ليس في المكلفين من العقلاء من يقوله فقد قاله منهم طوائف كما ذكرناه عن الأشعري أنه نقل ذلك عن طائفتين ممن يقول إن له مساحة طائفة تقول إنه جسم وطائفة تنفى الجسم

وأيضا فطوائف من الجهمية يقولون إنه بذاته في كل مكان وقد ذكر الأئمة والعلماء ذلك عن الجهمية وردوا ذلك عليهم وطوائف أخر يقولون إنه موجود الذات في كل مكان وأنه على العرش كما نقله الأشعري عن زهير وأبي معاذ
وأيضا هؤلاء الاتحادية يصرحون بذلك تصريحا لا مزيد عليه حتى يجعلونه عين الكلب والخنزير والنجاسات لا يقولون إنه مخالط لها بل وجودها عين وجوده وهذا وان كان من أعظم الكفر فالغرض أن إخوانه من الذين يقولون أن الله ليس فوق العرش قد قالوا هذا كله وما هو أكثر منه فلا بد أن يرد قولهم بطرقه التي يسلكها وإلا لم يكن قوله أصح من قولهم بل قولهم أقرب إلى العقل من قوله أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولهم في الجواب عن المخالطة من الكلام ما هو مع كونه باطلا أقرب إلى العقل من كلامه مثل قولهم أنه بمنزلة الشعاع للشمس الذي لا يتجنس بما يلاقيه وبمنزلة الفضاء والهواء الذي لا يتأثر بما يكون فيه ونحو هذا من الأمثال التي يضربونها لله فهم مع كونهم جعلوا لله ندا وعدلا ومثلا وسميا في كثير من أقوالهم إن لم يكونوا أمثل منه فليسوا دونه بكثير
وأما إن أردت أن العقل يبطل هذا القول فلم تذكر على بطلانه حجة عقلية أكثر ما ذكرت قولا تنفر عنه النفوس أو ما يتضمن نوع نقص وأنت تقول ليس في العقل ما ينفي عن الله النقص وإنما نفيته بالاجماع فهذا الوجه في جانب من يقول بالقسم الثالث
وأما القسم الثاني وهو التناهي من جهة دون جهة فما علمت به قائلا فإن قال هذا أحد فإنه يقول إنه فوق العرش ذاهبا إلى غير نهاية فهو متناه من جهة العالم غير متناه من الجهة الأخرى وهذا لم يبلغني أن أحدا قاله ونقل الأشعري

يقتضي أن هذا لم يقله أحد بل كل من قال بعدم نهايته أنكر أن يكون فوق العرش
الوجه الثالث أن يقال فرض بعد غير متناه لا يخلو إما أن يكون محالا أو لا يكون محالا فإن كان محالا بطل ما ذكر مما ذكرته في القسم الثالث من تجويز أحياز خالية فوقه إذا كان متناهيا من جميع الجهات فإنه إذا وجب تناهي الأبعاد لم يجب أن يكون فوق العالم بعد فضلا عن أن يكون فوق الباري بعد وأذا فرض ما ذكرته في القسم الثالث وهو أحد الوجهين نفي الوجه الأول وهو كون كل ماله قدر مخصوص يجب أن يكون محدثا وقد تقدم الكلام عليه بما فيه كفاية وإذا بطل الوجهان بطل ما ذكرته على إفساد القسم الثالث وإن كان فرض بعد غير متناه ممكنا ثبت إمكان القسم الأول وبطل ما ذكرته من الحجة على إحالة ذلك فقد ظهر على التقديرين أن ما ذكرته ليس بدليل صحيح
الوجه الرابع أن القسم الثاني وهو أنه غير متناه من بعض الجوانب ومتناه من سائر الجوانب وان كنا لم نعلم به قائلا فلم تذكر دليلا على إبطاله ولا استدللت على إبطاله بنص أو اجماع فأما الدليل الذي ذكرته على امتناع بعد غير متناه فقد تقدم القول عليه مع إن تلك الوجوه لا تصلح هنا كما صلحت هناك
أما الوجه الأول وهو اجتماع وجود المسامتة وعدمها إذا قدر مسامتة غير المتناهي للمتناهي فإنه ما تقدم فيه إذا كان متناهيا من بعض الجهات أمكن فرض المسامتة في تلك الجهة وحينئذ فتسامت النقطة الفوقانية من تحت الجهة قبل التحتانية لكن هذا لا يحصل إلا عند فرض مسامتا من الجهة التي لا تتناهى

وأما الوجه الثالث وهو لزوم مخالطة ذاته للقاذورات فهذا لا يلزم إذا قيل إنه متناه من جانب الخلق دون الجانب الآخر فإنه حينئذ لا يكون مخالطا لهم من هذا الوجه هنا بطولا ظاهرا
وأما بطلان إقامة الدليل على تناهي العالم فقد تقدم الكلام عليه مع أن العالم في بقائه فيه متناه من أوله غير متناه من آخره ففيه تناه من وجه دون وجه لكن هذا ليس هو المتناهي في الجهة والمقدار والبعد
والغرض أن الوجوه الثلاثة هي في هذا القسم فيها نوع نقص عن ذلك القسم
وأما الوجه الثاني وهو قولك أن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الآخر إما أن يتساويا في الحقيقة والماهية وإما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الآخر وذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان فيقال لك مشاركة الشيء لغيره في حقيقته لا يقتضي مساواته له في المقدار كالمقادير المختلفة من الفضة والذهب وسائر الأجسام المتماثلة في الحقيقة فانها تتماثل في الحقيقة مع اختلاف المقادير وحينئذ فهذه الأمور إنما يجوز على بعضها ما يجوز على بعض فيما تماثلت فيه وهو الصفة والكيفية وأما ما يتعلق بالمقدار فليس الكبير في ذلك كالصغير ولا يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر بل للصغير أحكام لا تصح في الكبير وللكبير أحكام لا تصح على الصغير مثل شغل الحيز الذي بقدره وغير ذلك
وإذا كان كذلك فالبعد الذي يتناهى من أحد جانبيه دون الآخر وإنما تماثلت حقيقة الجانبين في الصفة والكيفة فلم تتماثل في المقدار لأن أحدهما أكبر من الآخر قطبا فلا يلزم أن يجوز على غير المتناهي من النقص والفصل

وأيضا فان لزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فقولك ذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى هذا هو بعينه الدليل على امتناع كونه متناهيا وهو أن المتناهي يقبل الزيادة والنقصان وقد قيل لك أن هذا ممنوع فيما وجوبه به بنفسه فإن صفاته تكون لازمة لذاته فلا يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه كما نقول إن معلوماته أكثر من مقدوراته ومقدوراته أكثر من مخلوقاته ومراداته وهذان لم يكن نظير ذلك والغرض التنبيه على تقدم الكلام في مثل هذا
وأيضا فلم تذكر دليلا على امتناع الفصل والوصل والزيادة والنقصان فإن اعتصمت في ذلك بإجماع كانت الحجة سمعية وأن قنعت بنفور النفوس عن ذلك فنفور النفوس على قولك أعظم مع أن هذا ليس حجة عندك
وقولك وأما القسم الثاني وهو القول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية فنقول إن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بيناه
يقال لك قد تقدم الكلام على إبطال حجة التركيب بما يظهر به فسادها لكل عاقل لبيب
فقولك الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلا الشيء الممتد في الجهات المختص بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كانت جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي ذلك الشيء يخالف الجانب الآخر في الحقيقة والماهية

فيقال لك هذه حجة تماثل الأجسام وقد تقدم أنها من أبطل ما في العالم من الكلام وهي منشاها من كلام المعتزلة والجهمية كما ذكره الأشعري وغيره كما أن الأولى من كلام الفلاسفة والصابئة وهي أيضا من حجج المعتزلة والجهمية وقد تبين أن المقدر صفة للشيء المقدر المحدود وليس هو عين الشيء المقدر المحدود وتبين أيضا أنه لو كان المقدار هو الذات لم يجب أن تكون المقدورات متساويات فإن بينها اختلافا في صفات ذاتيات لها وهي مختلفة في تلك الصفات الذاتيات وان كانت مشتركة في أصل المقدار الذي جعلته الذات وغايتها أن تكون بمنزلة الأنواع المشتركة في الجنس المتمايزة بالفصول
وأيضا فأنت وسائر الصفاتية بل وجميع العباد يثبتون لله معاني ليست متماثلة بل هذا واجب في كل موجود مثل إثبات أنه موجود بنفسه ومبدع بنفسه ومبدع لغيره وأنه عالم وأنه قادر وأنه حي وهذه حقائق مختلفة فالقول في اقتضائها للتركيب كالقول في اختلاف الجانبين كذلك كما تقدم ذلك
وأما حجة تساوي الأبعاد وتماثلها فهذه الحجة إن صحت فهي كافية في نفي كونه كذلك سواء قبل إنه متناه أو غير متناه والحجة المستقلة بنفسها في المطلوب لا تصلح أن تجعل دليل بعض مقدمات دليل المطلوب لأن هذا تطويل وعدول عن سواء السبيل
الوجه الخامس أنه أورد اعتراضا من جهة المنازع بقوله فان قيل ألستم تقولون أنه تعالى غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتموه علينا وقال في الجواب قلنا الشيء الذي يقال انه غير متناه على وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد والثاني

أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته منقطع وحد فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله عنينا به التفسير الأول
فيقال المعقول المعروف إذا قيل هذا لا يتناهى أو لا حد له ولا غاية ولا نهاية أن يكون موجودا أو مقدر الوجود ويكون ذلك الموجود أو المقدر ليس له حد ولا نهاية ولا منقطع بل لا يفرض له حد ومنقطع إلا وهو موجود بعده كما يقال في وجود الباري وبقائه فيما لم يزل ووجوده وبقائه فيما لا يزال بل في وجود أهل الجنة في الجنة فيما لم يزال بقاؤه لا ينتهي ذلك إلى حد الا ويكون بعده شيء كما أن وجود البارى لا يقدر له حد ووقت الا وهو موجود قبله وكذلك اذا قدر أجسام أو أبعاد لا تتناهى فانه لا يفنى قبله وكذلك إذا قدر أجسام أو أبعاد لا تتناهى فانه لا يفنى منها شيء أو يقدر منها الا وهي تكون موجودة بعده وكذلك ما يقدر في الذهن إلى حد ومقطع الا ويقدر بعده شيء آخر وكذلك ما يقدر في الذهن من عدم التناهي من العلل وغيرها كما بين فساده هو من هذا الباب
فالغرض ان الشيء الذي يوصف بعدم التناهي إما حقيقة وإما مقدار ممتنعا وإما تقديرا غير ممتنع أو غير معلوم الامتناع كلها مشتركة في ذلك فاما وصف الشيء بانه غير متناه بمعنى أن ليس له حقيقة تقبل التناهي وتقبل عدم التناهي فوصف هذا بأنه غير متناه مثل صفة المعدوم بأنه غير متناهي لأنه لا يمكن له نهاية وحد وطرف ولا يمكن أن يقال وذاته لا تقبل أن يوصف بالتناهي وعدمه كما لا يقبل أن يوصف بالحياة وعدمها ولا بالعلم وعدمه ولا بالقدرة وعدمها
ولهذا يفرق من يفرق بين العدم المحض وعدم الصفة عما من شأنه أن يقبلها فان الأعمى والأصم ونحو ذلك لا يوصف به المعدوم المحض ولا يقال أيضا للعدم

المحض إنه جاهل أو عاجز أو يثبت له أنه عالم ولا قادر بل كل صفة تستلزم الثبوت يمتنع أن يوصف بها المعدوم فإذا قيل الأعمى والأصم كان ذلك نفيا للسمع والبصر عما يقبله لا عن المعدوم الذي يمتنع أن يوصف بثبوت ففرق بين نفي الصفة التي يمكن ثبوتها للموصوف في الذهن أو في الخارج ونفي الصفة التي لا تكون لا في الذهن ولا في الخارج ثبوتها للموصوف فاذا قيل المعدوم لا يتناهى والمعدوم غير متناهي كان المعنى أن المعدوم ليس له حقيقة تقبل أن تكون متناهية أو غير متناهية كما ليس له حقيقة تقبل أن تكون حية أو غير حية أو عالمة أو غير عالمة أو قادرة أو غير قادرة
فاذا قيل قول القائل في الله إنه غير متناهي بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بالنهاية وعدمها كان ذلك بمنزلة قول القائل أن الله ليس باصم ولا ميت ولا جاهل بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بهذه الصفات وعدمها فيكون المعنى حينئذ أنه لا يقال أصم ولا يقال غير أصم ولا يقال ميت ولا يقال غير ميت وهذا شر من أقوال الملاحدة الذين يمتنعون من إثبات الأسماء الحسنى له ونفيها فان أولئك يقولون لا نقول حي ولا غير حي بل يسلبون أضدادها فيقولون هو ليس بميت ولا جاهل وان كان هذا الذي قالوه يستلزم عدمه كما تقدم لكن ليس ظهور عدمه في ذلك كظهوره في قول القائل لا يوصف بالموت ولا بعدمه ولا بالعجز ولا بعدمه كما لا يوصف بالقدرة ولا بعدمها ولا بالحياة ولا عدمها بمعنى أن ذلك لا يجوز أن يوصف بشيء من ذلك لا نفيا ولا إثباتا فان هذا حال المعدوم المحض
وإذا كان كذلك فقول القائل أنا أقول أن الله غير متناهي في ذاته بمعنى أن ذاته لا تقبل أن يوصف بالتناهي وعدمه لأن ذلك من عوارض ذات المقدار كما لا يوصف بالطول وعدمه ولا بالقصر وعدمه ولا بالاستدارة والتثليث والتربيع وعدم ذلك لأن ذلك من عوارض المقدار وهو التجسيم والتحيز

جمع بين النقيضين لأن قوله غير متناه في ذاته يفهم المقدار الذي لا يتناهى وهو البعد الذي لا يتناهى كما إذا قيل إنه لا نهاية له في أزله أفهم ذلك البقاء الذي لا يتناهى وهو عمر الله الذي لا يتناهى كما يحلف به فيقال لعمر الله كما حلف النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه بذلك
وقولهم بعد ذلك لا يقبل الوصف بالتناهي وعدمه نفي لما أثبتوه من كونه غير متناهي وكذلك قوله امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد هذا يفهم منه أن ذاته غير متناهي فلا نهاية لها وهو إنما أراد أن ذاته لا يجوز إثبات النهاية لها ولا سلبها عنها وهذا صفة المعدوم
فالحاصل أنهم في هذا المقام إما أن يفسروا سلب النهاية بما هو صفة المعدوم أو بما يستلزم وجودا غير متناهي في نفسه فان قالوا ان وجود ذلك الموجود غير متناه في نفسه فهذا قول من يقول إن ذات الله لا نهاية لها وان قالوا إن ذاته لا يجوز أن يعتقد أو يقال فيها إنها متناهية أو أنها غير متناهي لأنها لا تقبل الاتصاف بذلك فهذا صفة المعدوم سواء فأحد الأمرين لازم إما تمثيل ربهم بالمعدوم وإما القول بأبعاد لا نهاية لها
وهكذا كان السلف يقولون عن قول الجهمية انهم لما قالوا ان الله ليس على العرش وأنه لا يكون في مكان دون مكان صاروا تارة يقولون إنه في كل مكان ويقول من يقول منهم إنه موجود ولا نهاية لذاته فيجعلونه من الموجودات المخلوقة أو نفس وجودها وتارة يقولون ليس في مكان أصلا ولا داخل العالم ولا خارجه فيجعلونه كالمعدومات فهم دائما مترددون بين الاشراك وبين التعطيل إما يجعلونه كالمخلوقات وإما أن يجعلوه كالمعدومات فالأول يكثر في عبادهم ومتصوفتهم والثاني يكثر في علمائهم ومتكلمتهم

ولهذا لما كان صاحب الفصوص ونحوه من القسم الأول جعلوه نفس الموجودات وجوزوا كل شرك في العالم وجعلوه نفس العابد والمعبود والناكح والمنكوح والشاتم والمشتوم وقالوا ما عبد أحد الله ولا يمكن أن يعبد الا الله بل لا يتصور أن يكون العابد والمعبود عندهم إلا الله ولما كان صاحب التأسيس ونحوه من القسم الثاني جعلوه كالمعدومات المحضة ولهذا يقال فيهم متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا وهذا هو نهاية التعطيل ومتصوفتهم يعبدون كل شيء وهذا نهاية الاشراك
ولهذا ذكر الاسلام والسنة أن هذا السلب أول من ابتدعه في الاسلام هم الجهمية وليس له أصل في دين المسلمين ولا غيرهم بل الموجود في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها هو نفي ادراك نهايته ونفي الاحاطة به كما قال تعالى لا تدركه الأبصار وقال من قال من السلف لمن سأله عن هذه الأشياء الست ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا قال فالله أكبر وكذلك قوله ولا يحيطون به علما سواء كان الضمير عائدا على الله أو على ما بين أيديهم فان ذلك يدل على عدم إحاطة العلم بالله من طريق الأولى وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وغير ذلك وكذلك من قال من سلف الأمة إن حده لا يعلمه أحد غيره
وقد قال سبحانه وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون فأخبر سبحانه أنهم ما قدروا الله حق قدره وهو يقبض الأرض بيده ويطوى السماء بيمينه كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود كلها في الصحيحين ومثل حديث ابن عباس وغيره من الأحاديث الحسان وقال أيضا في الآية الأخرى وما قدروا الله حق قدره إذ

قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فالآية الأولى في الأصل الأول من الاسلام وهو التوحيد والثانية في الأصل الثاني وهو الرسالة وهؤلاء الجهمية لهم قدح في كلا الأصلين فانهم لا يقدرون الله حق قدره فلا يقبض عندهم أرضا ولا يطوي السماء بيمينه بل ليس له قدر في الحقيقة الخارجية عندهم وإنما قدره عندهم ما يقوم بالأنفس والأذهان فيثبتون لقدره الوجود الذهني دون العيني وكذلك عندهم في الحقيقة ما تكلم بشيء حتى ينزله على بشر لا سيما الصابئة المتفلسفة منهم فان الكلام انما يفيض عندهم على قلب النبي من العقل الفعال لا من رب العالمين
وقد قال في الآية الأخرى وإن إلى ربك المنتهى وقال إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه وقال وردوا إلى الله مولاهم الحق وقال ألا إلى الله تصير الأمور واذا كان منتهى المخلوقات إليه وهو الغاية والنهاية التي ينتهى إليها امتنع أن يكون بحيث لا ينتهى إليه ولا يكون غاية ومالا يوصف بالنهاية لا ينتهى إليه أصلا فانه لا اختصاص له حتى يكون الشيء غير منته إليه ثم ينتهي إليه بل وصف الشيء بالانتهاء إليه وعدم الانتهاء إليه سواء كما يقوله الجهمية فانه لا يتصور عندهم أن ينتهي إلى الله شيء أو يرجع إليه أمر أو يصير إليه أمر أو يرد إليه أحد لا سيما الاتحادية منهم من يقول انه في كل مكان كما لا يتصور عنده أن ينزل من عنده شيء أو يعرج إليه شيء أو يصعد إليه شيء وليس هذا موضع تقرير ذلك
وإنما الغرض هنا أن قوله الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز قول لا يعرف ما يعرف اطلاق القول على شيء بأنه غير متناه بهذا المعنى أصلا إلا إذا كان معدوما أو كان ذاهبا في الجهات كلها غير متناه كما يقدر من الأبعاد

الوجه السادس أن هذا الوجه معارض بما اختص الله به سبحانه من الحقيقة والصفات فان الاختصاص بالوصف كالاختصاص بالقدر فهو مختص بالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك بحيث له صفات مخصوصة يمتنع اتصافه بأضدادها ونقائضها ويقال فيها نظير ما قالوا في المقدار بأن يقال إما أن تكون الصفات متناهية أو غير متناهية أو متناهية من وجه دون وجه فان كانت متناهية فكل متناهي يستدعى مخصصا ويقبل الزيادة والنقص كما قدره في المقدار وان لم تكن متناهية لزم وجود صفات لا نهاية لها وفرض وصف لا نهاية له كفرض قدر لا نهاية له فان الصفة لا بد لها من محل ويلزم من عدم تناهيها عدم تناهي محلها
وأيضا فان كل صفة متميزة عن الأخرى فيكون للصفات عدد فإما أن يكون عدد الصفات يتناهى أو لا يتناهى فإن تناهى لزم الأول وإن لم يتناهى لزم الثاني وإذا كان له أعداد لا تتناهى فهو كمقدار لا يتناهى فكلما يحتج به على امتناع مقدار لا يتناهى يحتج به على امتناع عدد صفات لا تتناهى إذ ما يفرض من المسامتة وعدمها في المقدار يفرض من المطابقة وعدمها في الأعداد
وهذا الوجه يمكن أن يلزم به كل أحد فانه لابد من الاعتراف بموجود له خاصة يتميز بها عما سواه إذ وجود ليست له خاصة تميزه ممتنع والكليات مع كونها موجودة في الأذهان فتميز ما في نفس زيد عما في نفس عمرو فانها من الصفات القائمة بالأذهان وإذا كان لكل موجود خاصة يتميز بها سواء كان واجبا بذاته أو كان ممكنا فالقول في اختصاصه بتلك الخاصة كالقول في اختصاصه بقدر
فصل
قال الرازي البرهان الرابع على أنه يمتنع أن يحصل في الجهة والحيز هو

أنه لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أو لا مع وجوب أن يحصل فيه والقسمان باطلان فكان القول بأنه تعالى حاصل في جهة محالا وإنما قلنا إنه يمتنع أن يحصل فيه مع الوجوب لوجوه
الأول أن ذاته مساوية لذوات سائر الأجسام في كونه حاصلا في الحيز ممتدا في الجهة وإذا أثبت التساوي من هذا الوجه ثبت التساوي في تمام الذات على ما بيناه في البرهان الأول في نفي كونه جسما وإذا ثبت التساوي مطلقا فكل ما صح على أحد المتساويين وجب أن يصح على الآخر ولما لم يجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز وجب أن لا يجب في تلك الذات حصولها في ذلك الحيز وهو المطلوب
الثاني أنه لو وجب حصوله في تلك الجهة وامتنع حصوله في سائر الجهات لكانت تلك الجهة مخالفة في الماهية لسائر الجهات فحينئذ تكون الجهات شيئا موجودا فإذا كان الله واجب الحصول في الجهة أزلا وأبدا التزموا قديما آخر مع الله تعالى في الأزل وذلك محال
الثالث أنه لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضا ادعاء أن بعض الأجسام حصل في حيز معين على سبيل الوجوب بحيث يمتنع خروجه عنه وعلى هذا التقدير لا يتمشى دليل حدوث الأجسام في ذلك فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الأجسام بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديما
الرابع وهو أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها متساوية يكون حكمها واحدا وذلك يمنع القول بأن الله تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين

فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أزلي قلنا هذا باطل لوجهين
أحدهما أنه قبل خلق العالم ما كان الا الخلاء الصرف والعدم المحض فلم يكن هناك لا فوق ولا تحت فبطل قولكم
الثاني لو كان الفوق متميزا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أمورا موجودة قابلة للانقسام وذلك يقتضي تقدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك
الثالث هو أنه لو جاز أن يختص ذات الاله تعالى ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية في العقل لجاز اختصاص بعض الحوادث المعينة ببعض الأوقات دون بعض على سبيل الوجوب مع كونها متساوية في العقل وعلى هذا التقدير يلزم استغناؤها عن الصانع ولجاز أيضا اختصاص عدم القديم ببعض الأوقات على سبيل الوجوب وعلى هذا التقدير ينسد باب إثبات الصانع وباب اثبات وجوبه وقدمه
الخامس أنه لو حصل في حيز معين مع كون لا يمكنه الخروج منه لكان كالمفلوج الذي لا يمكنه أن يتحرك أو كالمربوط الممنوع من الحركة وذلك نقص والنقص على الله محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إنه تعالى حصل في الحيز مع جواز كونه حاصلا فيه فنقول ان هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وتخصيص مخصص وكل ما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه فيلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليا لأن ما تأخر عن الغير لا يكون أزليا وإذا كان في الأزل مبرءا عن الوضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصا بالحيز وإلا لزم وقوع الانقلاب في ذاته تعالى وهو محال

والكلام على هذه الحجة على قول من يطلق الحيز والجهة ومن لا يطلق ذلك على مذهب مثبتة الجسم ونفاته مع قولهم إنه على العرش سواء فإنه يمكن أن يقال لو كان فوق العرش أو كان عاليا على العرش لكانت فوقيته وعلوه إما واجبا وإما جائزا وساق الحجة والجواب عنها أن يعرف أن لفظ الحيز والجهة ونحو ذلك فيه اشتراك كما تقدم فقد يراد به شيء منفصل عن الله كالعرش والغمام وقد يراد به ما ليس منفصلا عنه كما ذكرنا أن لفظ الحيز والحد في المخلوقات يراد به ما ينفصل عن المحدود ويحيط به ويراد به نهاية الشيء وجوانبه فإن كلاهما يحوزه وقد يراد بالحيز أمر عدمي وهو ما يقدر فيه الأجسام وهو المعروف من لفظ الحيز عند المتكلمين الذين يفرقون بين لفظ الحيز والمكان فيقولون الحيز تقدير المكان وكذلك الجهة قد يعنى بها أمر وجودي منفصل عنه فقد يعنى بها ما لا يقتضي موجودا غيره بل يكون إما أمرا عدميا وإما نسبيا وإضافيا وإذا كان في الألفاظ اشتراك فمن مسمى ذلك ما يكون واجبا ومنه ما يكون جائزا والاستفصال يكشف حقيقة الحال وحينئذ فالكلام عليها من وجوه
الأول أن يقال ما تعنى بقولك لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع الوجوب أو مع عدم الوجوب أتعنى بالحيز ما هو من لوازم المتحيز وهي نهايته وحده الداخل في مسماه أم تريد بالحيز شيئا موجودا منفصلا عنه كالعرش وكذلك الجهة أتريد بالجهة أمرا موجودا منفصلا عنه أم تريد بالجهة كونه بحيث يشار إليه ويمكن الاحساس به وإن لم يكن هناك موجود غيره فإن أراد بالحيز المعنى الأول وهو ما هو من لوازم كل متحيز وان أراد بالجهة كونه يشار إليه من غير وجود شيء منفصل عنه لم نسلم أن ذلك غير واجب وبهذا التفصيل يظهر الجواب عما ذكره من الوجوه

أما قوله لا يجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز فكذلك هذا فيقال له بل يجب في سائر الذوات المتحيزة أن يكون لكل منها تحيز يخصه وهو قدره ونهايته التي تحيط به ويلزمه الحيز الذي هو تقدير المكان وهو عدمي لكن لا يجب أن يكون عين تحيز هذا وعين حيزه الذي هو نهايته أن يكون عين تحيز الآخر وحيزه الذي هو نهايته كما لا يجب أن يكون عين هذا هو عين الآخر فان حيزه بهذا التفسير داخل في مسمى ذاته ونفسه وعينه والشيئان المتماثلان لا يكون أحدهما عين الآخر فإن هذا لا يقوله عاقل وهذا معلوم بالاضطرار لا نزاع فيه هذا لو سلم أن الأجسام متماثلة فكيف وقد تقدم أن هذا قول باطل
وكذلك قوله في الثاني لو وجب حصوله في تلك لجهة لكانت مخالفة لغيرها فيكون موجودا فيكون مع الله قديم آخر يقال اثبات صفة قديمة ليس ممتنعا على الله كما اتفق عليه الصفاتية أو لا نسلم أنه ممتنع والقدر والحيز الداخل في مسمى المتحيز الذي هو من لوازمه أبلغ من صفاته الذاتية فإن كل وجود متحيز بدون الحيز الذي هو جوانبه المحيطة به يمنع أن يكون هو إياه والقديم الذي يمتنع وجوده مع الله ما يكون شيئا منفصلا عنه بل شيء يكون داخلا في مسماه ليس خارجا عنه
وقوله في الوجه الثالث لو جاز دعوى وجوب اختصاص شيء بجهة معينة جاز أن يدعى في بعض الأجسام حصوله في حيز بعينه على سبيل الوجوب وحينئذ لا يتمشى دليل حدوث الأجسام بل يلزمه تجويز قدم بعضها يقال له كل جسم فإنه مختص بتحيز وحيزه الذي هو جوانبه ونهايته وحدوده الداخلة في مسماه وأما اختصاصه بحيز وجودي منفصل عنه فذلك شيء آخر لا يلزم كما قد بيناه فعلم أن ذلك لا ينافي ما ذكروه من دليل حدوث الأجسام مع أن ذلك

الدليل لا نرتضيه لا لهذا لكن لمعاني آخر ومع أن المنازعين له الذين يقولون هو جسم أوله حد وقدر ينازعونه في حدوث كل ما كان جسما أوله حد فقد يقولون دعوى حدوث جميع هذا مثل دعوى حدوث كل ذات أو كل موصوف أو كل صفة وموصوف وحدوث كل قائم بنفسه أو كل موجود ونحو ذلك
وقوله في الوجه الرابع الاحياز متساوية وذلك يمنع الاختصاص ببعضها على التعيين يقال له الأحياز المتساوية التي تدعى فيها التساوي هي ما كانت منفصلة عن المتحيز كما ذكر من الخلاء والفراغ وأما الذي هو داخل في مسمى المتحيز وهو جانبه وحده ونهايته فهذا تابع للمتحيز وهذه الأحياز مختلفة باختلاف المتحيزات فحيز كل متحيز وهو حده ونهايته وجانبه يتبع حقيقته وهذا ظاهر فحيز الذهب ذهب وحيز الفضة فضة بهذا الاعتبار
وقوله في الوجه الخامس المختص بحيز معين يكون كالمربوط والمفلوج يقال له هذا إنما يقال إذا كان في حيز وجودي منفصل عنه أما ما هو داخل في مسمى نفسه وهو حده ونهايته فلا يلزم ذلك فيه كما لا يلزم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم عدم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم عدم بعض الشيء
الوجه الثاني أن يقال إذا أراد القائل بأنه متحيز وأراد بالحيز أمرا موجودا منفصلا عنه كالغمام والعرش فإنه قد يقول حصوله فيه على سبيل الجواز وبذلك يظهر الجواب عن قوله ذلك الاختصاص لا يكون إلا بجعل جاعل وهو الفاعل المتقدم على التخصيص فيلزم أن لا يكون ذات الله في الحيز أزليا فإن هذا سلم

على هذا التقدير بأن حصول ذاته فوق العرش ليس أزليا بل كان الله قبل أن يكون مستويا على العرش سواء قيل إن الاستواء أمر نسبي إضافي أو قيل إنه من صفات الأفعال وأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا عليه فعلى التقديرين إنما حصل الاستواء بخلقه للعرش وخلقه للعرش بمشيئته واختياره
وأما قوله وإذا كان في الأزل مبرءا عن الموضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصا بالحيز وإلا لزم الانقلاب في ذاته يقال له هذا ممنوع فإنه إذا كان في الأزل مبرءا عن حيز وجودي كالعرش والغمام ثم صار بعد أن خلق العرش والعالم فوقه لم يكن ذلك ممتنعا فإن تجدد النسب والاضافات عليه جائز باتفاق العقلاء وأما إن قيل إن الاستواء فعل وأنه استوى عليه بعد أن لم يكن مستويا كما هو المعروف من مذاهب السلف وأهل الحديث فهذا مبني على مسألة الحركة وحلول الحوادث وقد تقدم كلامه بان هذا لم يقم دليل عقلي على نفيه وان جميع الطوائف يلزمهم القول به وليس ذلك انقلاب في ذات الله بحال كما تقدم
وهو إنما ادعى لزوم الانقلاب لأنه أخذ لفظ الحيز بالاشتراك فقدر أنه يصير متحيزا بعد أن لم يكن متحيزا ومعلوم أن هذا يوجب انقلاب ذاته فإن ضرورة صير المتحيز متحيزا توجب الانقلابات لكن هذا التحيز هو القسم الأول وهو التحيز اللازم للمتحيز الذي يمتنع انفصاله عنه والمراد بالحيز في هذا المتحيز إما أمر عدمي أو إضافي أو المراد به جوانب المتحيز ونهايته فلو كان في الأزل مبرءا عن هذا ثم صار موصوفا به لزم الانقلاب ونظيره في المخلوقات أن يصير ما ليس بجسم جسما وهذا عند قوم متنع وعند قوم قد يقلب الله الأعراض

أجساما وذلك انقلاب بلا نزاع أما إذا أريد بالحيز أمرا موجودا منفصلا عنه فلا يلزم بكونه فوقه وعليه أن تنقلب ذاته بوجه من الوجوه
فإن للناس في كونه فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والفقهاء والصوفية من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوق والخالق أو بين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئا وهذا قول من يقول يمتنع حلول الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني هو المشهور عن السلف وأئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويا عليه وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيؤه وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر هو أن ليس في الأدلة العقلية ما يحيل ذلك
الوجه الثالث أن يقال تحيزه واجب بذلك بناءا على أن نفس العرش ليس بحيز بل الحيز تقدير المكان ومن قال بذلك فهم في جواز الحركة عليه على قولين فمن قال بالامتناع يقول إنه لما خلق العرش تجددت بينه وبين العرش نسبة ولم يتغير عما كان موصوفا إن وصفه بأنه متحيز فإنا قد ذكرنا أن للقائلين بأنه على العرش في ذلك قولان

وقد يقول إن حصوله في الحيز المعين واجب ومن قال ذلك يجيب عن أوجهه الخمسة أما الوجه الأول فمبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم أن هذا باطل
وأما قوله في الوجه الثاني أنه لو وجب حصوله في الجهة وامتنع حصوله في غيرها لكانت تلك الجهة مخالفة لغيرها في الحقيقة فتكون موجودة فيكون مع الله قديم غيره تعالى يقال له هؤلاء لا يقولون إن الحيز الذي يجب لله أمرا موجودا منفصلا عنه بل هو عندهم أمر عدمي بينه وبين الله نسبة وإضافة أو هو تقدير المكان وذلك لا يقتضي وجود قديم آخر مع الله ومن قال إن تقدير الزمان وتقدير المكان وجوديان قال بقدمهما جميعا كما يقول ذلك طائفة من الصابئة ومن اتبعهم ثم قد يقولون إن ذلك لازم لواجب الوجود بنفسه وقد يقولون إن القدماء خمسة الزمان والمكان والنفس والهيولى وواجب الوجود بنفسه كما يقول ذلك بعض الصابئين ومن اتبعهم كديمقراطيس
والغرض أن المسلمين الذين يقولون ليس مع الله قديم منفصل عنه موجود لا يقولون أن الحيز موجود وقد تقدم الدليل على ذلك وقد قال هو بعد هذا إنه قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض وذلك ينافي قوله أن الأحياز وجودية
وأما قوله ما سبب الاختصاص بهذا الأمر العدم فسيأتي الكلام عليه
وهؤلاء يقولون قوله في الوجه الثالث لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضا ادعاء أن بعض الأجسام حصل في حيز معين على سبيل الوجوب وعلى هذا لا يتمشى دليل حدوث العالم فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الأجسام بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديما فهم يجيبون بجوابين

أحدهما أن الأجسام مختلفة بالحقيقة فلا يلزم من اختصاص بعضها بصفة معينة أن يكون غيره مختصا بمثل تلك الصفة كما أنه عندهم إذا اختص بسائر صفاته الذاتية لم يلزم أن يكون غيره مختصا لغيره
الثاني أنهم إذا قالوا بأن الأجسام الباقية مختص بحيز معين إنما يبطل الدليل الذي ذكره منازعوهم ولا ريب في بطلان هذا الدليل عندهم كما اتفق السلف والأئمة على أنه من الكلام المنهي عنه ومن قال من هؤلاء إنه جسم لم ينكر أن الأجسام كلها ليست محدثة كما لاينكر أن القائمات بأنفسها كلها ليست محدثة وأن الموصوفات كلها ليس محدثة بل يضلل من يطلق العموم بحدوث الأجسام كما يضلل من أطلق القول بحدوث الموصوفات والقائمات بأنفسها أو الموجودات
ويقولون قوله في الوجه الرابع إنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وذلك يمنع وجوب الاختصاص ببعضها فهم يقولون ليس الاختصاص لمعنى فيها بل هو لمعنى في نفسه وهو امتناع الحركة عليه والانتقال عنه كما يوافقهم هو على ذلك وأيضا فالعالم مختص بحيزه لمعنى فيه لا في حيزه
وأما السؤال الذي أورده من جهتهم لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى وجوابه بأنه قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف وبأنه لو كان الفوقاني متحيزا عن التحتاني لكانت وجودية فإنهم يقولون كونه فوق العالم إنما يظهر إذا خلق العالم فإنه لما خلقه وهو على علو يستحقه بنفسه وخلق العالم بصفة التحت وجب أن يكون فوق العالم لمعنى في نفسه وفي العالم لا لمعنى وجودي في الحيز وإن لم يكن قبل خلق العالم ولا فوق العالم إلا لعدم المحض

والخلاء الصرف فالاختصاص بالحيز لامتناع الحركة عليه عندهم ووجوب علوه لمعنى في نفسه وفي العالم
وكذلك قوله في الثالث لو جاز اختصاص ذات الاله ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية يلزم استغناؤها عن الصانع فيقولون هذا بناء على أن الأحياز أمور وجودية وليس الأمر كذلك بل هي أمور عدمية
وقوله في الخامس إنه يكون كالمفلوج الذي لا يمكنه الحركة وهو نقص وهو على الله محال فيقال أنت تقول أن نفي النقص عن الله لا يعلم بالعقل وأنت أيضا تقول لا يجوز عليه الحركة وقد تقدم الكلام على هذا في آخر حجة من نفي الجسم وهو برهان الحركة وبينا أن ما وصف به قول منازعيه يلزمه مثله أو أكثر
الوجه الرابع قول من لا يوجب حصوله في حيز معين خارج عنه وجوديا كان أو عدميا بل ذلك عنده على سبيل الجواز مطلقا وهو قول كل من يقول أنه استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض بعد أن لم يكن مستويا عليه ويقول انه استوى إلى السماء وأنه يجيء يوم القيامة ويأتي إلى سائر ما جاءت به النصوص من ذلك وعلى قول هؤلاء يجب حصوله في حيز معين جل وتكون ذاته مستلزمة للتحيز المطلق لا لحيز معين وإذا حصل في حيز معين جاز أن يكون حاصلا فيه ولم يجب
وأما قوله إن هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وتخصيص مخصص وما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه فيلزم

أن يكون حصول ذات الله في الحيز أزليا لأن ما تأخر عن الغير لا يكون أزليا يقال له أما اختصاصه بحيز دون حيز فهو الذي يفتقر إلى جعل جاعل وأما أصل التحيز فمن لوازم ذاته القدرة والفعل فإن القدرة على كل شيء لوازم ذاته وأما تخصيص بعض المقدورات فتتبع مشيئته واختياره ولى هذا فنقول حصوله في حيز معين دون غيره بمشيئته واختياره وذلك لأن هذا هو الفعل والتصرف والحركة كما يقولون إنه ما زال متكلما إذا شاء كذلك يقولون ما زال فاعلا بنفسه إذا شاء وعلى هذا فحصول ذاته في الأزل يكون أزليا لأنه من لوازم ذاته لكن تعين حيز دون حيز هو تابع لمشيئته واختياره وذلك أن الأحياز ليست أمورا وجودية بل هي أمور عدمية فليس الأمر إلا مجرد كونه يفعل بنفسه ويتصرف وتقدم الفاعل على هذا الفعل كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم لا يوجب ذلك تقدما بالزمان
وعلى هذا فيقال الوجه الخامس وقولك لو حصل في شيء من الأحياز والجهات لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أولا مع الوجوب فيقال أتريد بالوجوب وجوب الحيز المطلق أو وجوب حيز معين فإن أردت الأول فالوجوه الخمسة المذكورة لا تنفي ذلك وإن أردت الثاني فقوله إن هذا يلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليا يقال هذا ممنوع
قوله ما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وكل ما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه وما تأخر عن الحيز لا يكون أزليا يقال له التقدم في مثل هذا لا يوجب أن يكون بزمان يفصل بين الفعل والفاعل كما تقول حركت يدي فتحرك ثوبي أو تحرك خاتمي ونحو ذلك فحركة اليد متقدمة على حركة الخاتم والكم ومع هذا فزمانهما واحد فكذلك إذا كان هذا التخصيص جائزا وهو بمشيئته واختياره لم يمنع ذلك أن يتقدما على فعله تقدما بغير

الزمان وهذا القدر وإن كان الفلاسفة يقولونه في تقدمه على العالم فهؤلاء لم يقولوه في ذلك بل قالوه في تقدمه على هذا الفعل القائم بنفسه والتحيز المعين وهم يقولون ذلك في سائر ما يضاف إليه من أعيان الأقوال وأعيان الأفعال القائمة بنفسه التي يمكن أن يكون يقول ويفعل غيرها مما يكون بمشيئته واختياره وهذا قول طوائف كثيرة من منازعيه معروف عنهم من أهل الكلام وأهل الحديث والصوفية وغيرهم

فصل
قال الرازي البرهان الخامس هو أن الأرض كرة فإذا كان كذلك امتنع كونه تعالى في الحيز والجهة بيان الأول أنه إذا حصل خسوف قمري فإذا سألنا سكان أقصى المشرق عن ابتدائه قالوا إنه حصل في أول الليل وإذا سألنا سكان أقصى المغرب قالوا إنه حصل في آخر الليل فعلمنا أن أول الليل في أقصى المشرق هو بعينه آخر الليل في أقصى المغرب وذلك يوجب كون الأرض كرة وإنما قلنا إن الأرض لما كانت كرة امتنع كون الخالق في شيء من الأحياز وذلك أن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل المشرق هي تحت بالنسبة إلى سكان أهل المغرب وعلى العكس فلو اختص الباري بشيء من الجهات لكان تعالى في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس وذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين الخصم فثبت أنه يمتنع كونه مختصا بالجهة
والكلام على هذا أن يقال هذا الذي ذكره مبني على أن الأرض مستديرة والأفلاك مستديرة وهذا القدر قد ينازعه فيه بعض الناس فإن من أهل الكلام

من نازعه فيه ودفع كون الأفلاك مستديرة كما فعل بعض من رد عليهم في كتاب الدقايق وغيرهم وكذلك قد يدفع ذلك بعض من ينتسب إلى العلم وربما حصل هذا من أقوال المنجمين التي يخالف الشرع وكذلك المتكلم قد ينازع في هذا بطريق جدلية وهذا المتفقه قد ينازع في هذا زعما منه أن هذا مخالف للشريعة وليس مع واحد منهما دليل شرعي ولا عقلي يخالف ذلك ولا يمنع كون الأفلاك مستديرة ولا ينقل عن أحد من أئمة الإسلام وعلمائه النزاع في ذلك بل قد ذكر غير واحد من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي جعفر بن المنادي أحد العلماء المشاهير ذوي التصانيف الكثيرة من الطبقة الثانية من أصحاب الامام أحمد ومثل محمد بن حزم ومثل أبي الفرج ابن الجوزي إجماع المسلمين على أن الأفلاك مستديرة وأبو جعفر من أعظم الناس اطلاعا وكذلك هؤلاء وإذا ذكر هو أو غيره اجماع علماء المسلمين على أن الأفلاك مستديرة كان من نازع بعد هذا الاجماع من متكلم ومتفقه وغيرهما مسبوقا بالاجماع وما علمت منازعا في ذلك إلا نقل الاجماع الذي ذكره أبو جعفر بن المنادي وإن كان قد نقل عن بعض السلف نزاع في حركة الأفلاك لكن ما علمت عنهم نزاعا في استدارتها
وقد ذكر العلماء دلالة الكتاب والسنة على أن الأفلاك مستديرة من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها قد كتبنا في ذلك ما تيسر في غير هذا الموضع مثل قوله تعالى في موضعين من كتابه وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون قال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل والفلك في اللغة هو الشيء المستدير ومنه يقال تفلك ثدي الجارية إذا

استدار ومنه فلكه المغزل وقال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح إذا سألتم الله الجنة فأسألوه الفردوس فإنها أعلا الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن والأعلى لا يكون الأوسط إلا إذا كان الشكل مستديرا بخلاف المربع والمثلث ونحوهما من الأشكال فإنه لا يكون أعلاه أوسطه
وفي حديث الأطيط الذي رواه أبو داود وغيره عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم أعرابي فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك إلى الله ونتشفع بالله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه و سلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك أتدري ما تقول لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شان الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب قال أبو داود وقال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته وساق الحديث ولفظ عثمان بن سعيد عن ابن بشار إن الله فوق عرشه فوق سمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي صلى الله عليه و سلم بيده مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب
وقد قال سبحانه وتعالى وسع كرسيه السموات والأرض وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة والكرسي في العرش مثل تلك الحلقة في الفلاة والعرش لا يقدر أحد قدره إلا الله وقد روى أبو بكر الخلال في كتاب السنة أخبرني حرب حدثنا محمد بن مهدي ومالك ثنا اسماعيل بن عبد الكريم ثنا عبد الصمد بن معقل قال سمعت هناد ذكر من عظمة الله تعالى قال إن السموات السبع والأرضين

السبع والبحار لفي الهيكل وإن الهيكل لفي الكرسي وإن قدميه على الكرسي وقال الخلال سألت ابراهيم الحربي عن حديث وهب بن منبه ان السموات والأرض لفي الهيكل فقال الهيكل هو الشيء العظيم وأنت إذا دخلت البيعة ورأيت الشيء العظيم يعنى عندهم يسمونه الهيكل وإن الهيكل لفي الكرسي وإن الكرسي لفي العرش قال والعرش أعظم من ذلك وروى عمر بن سعيد حدثنا الحماني حدثنا الحكم بن ظهير عن عاصم عن زر عن عبد الله هو ابن مسعود قال ما السموات والأرض في الكرسي إلا مثل حلقة بأرض فلاة وقال ثنا يحيى الحماني ثنا أبو معوية عن الأعمش عن مجاهد قال مالسموات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة في أرض فلاة وقال ثنا موسى بن اسماعيل ثنا حماد هو ابن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال بين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام ومن الكرسي إلى الماء خمسمائة عام والعرش على الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه وقال ثنا يحيى الحماني وأبو بكر قالا حدثنا وكيع عن سفيان عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله
وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه جعل الأرض فراشا والسماء بناءا والأبنية هي الخيام والفساطيط وفيها استدارة وذكر أنه جعل الأرض مهادا وأنه بسطها وأخبر أنه جعل الجبال فيها أوتادا وروى الخلال في كتاب السنة قال أعطاني محمد بن عوف هذا الحديث وقال اروه عني فإنه بسماعي أبو المغيرة قال ثنا ابن مهدي قال ثنا أبو الزاهرية عن أبي شجرة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الأرض على ما هي قال الأرضون على الماء وروى الامام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما من ليلة إلا والبحر يستأذن ربه

أن يغرق بني آدم فينهاه ربه ولولا ذلك لأغرقهم وهذا كله مما يبين أن الماء محيط بالأرض وأن من شأنه العلو عليها ولكن الله مهد الأرض وقد ثبتها وبسطها في الماء وأوتدها بالجبال الراسيات التي ترسيها أن تميد وتضطرب فإن السفينة إذا كانت في البحر لابد لها من شيء يثقلها ويسكنها وإلا مادت واضطربت وليس هذا موضع بسط ذلك وشرحه وما يرد عليه
وإنما الغرض إنما ذكره هذا الرازي من استدارة الفلك لا ننازعه فيه كما قد ينازعه فيه بعض الجهال وكما ينقل هو فإنه تارة يدخل من المنجمين في الشرك وعبادة الكواكب وتارة ينازعهم في الأمور المعلومة من الحساب وكلاهما خروج عن الحق
وقد احتج هنا بالحجة المشهورة عند أهل الحساب الناظرين في هيئة الأفلاك والأرض وهي صورتها وشكلها فإنهم يستدلون على أن الشمس والقمر والكواكب تطلع في مشرق الأرض قبل طلوعها في المغرب وتغرب في مشرق الأرض قبل غروبها في المغرب ولهذا يكون أوائل الليل والنهار في المشرق قبل المغرب وأما أول الشهر فيكون في المغرب قبل المشرق لأن الشهر هو بظهور الهلال والهلال يعظم ظهوره بقدر مباعدته للشمس واحتجاب الشمس ليرى نوره والشمس يتأخر غروبها في المغرب عن غروبها في المشرق فيبعد بقدر ذلك ما بينها وبين الهلال فيعظم نوره وإذا غربت ضعف بسبب البعد الشعاع الذي تحت الهلال فقوي المقتضى للرؤية وضعف المانع يستدلون على ذلك بالخسوف فإنه يمكن الناس أن يرصدوه بالليل في وقت واحد فيعلمون حدوثه عند أهل المشرق قبل حدوثه عند أهل المغرب ويعلمون قدره في أقطار الأرض وليس الاستدلال على ذلك مختصا بخسوف القمر بل هو ممكن بكسوف الشمس أيضا بل واقتران الكواكب وبكسوف الكواكب أيضا بل وكل

أمر يكون في الفلك في درجة واحدة فإن كل درجة من درج الفلك تطلع على الجانب الشرقي قبل الغربي فإذا كان فيها أمر غريب مثل الكسوف والخسوف والقرآن ونحو ذلك كان وقته من ليل أو نهار في المشرق قبل وقته بالمغرب مثل أن يكون عند هؤلاء في أول النهار وعند هؤلاء في أواخره أو عند هؤلاء في أوائل الليل وعند هؤلاء في أواخره كان بمنزلة خسوف القمر ويمكن الاستدلال أيضا بغير ذلك من الأدلة المعروفة
لكنه لم يستوف الحجة ويظهرها بل كلامه في ذلك كلام الشادي فإن القدر المرئي من الخسوف عند أهل المشرق لا يجب أن يكون هو القدر المرئي من الخسوف عند أهل المغرب حتى يقال إن أهل المشرق والمغرب يرون الخسوف في ساعة واحدة ويكون أول ليل هؤلاء بل قد يخسف القمر عند قوم دون قوم وقد يكون الخسوف عند قوم كليا لجميع القمر وعند بعضهم جزئيا يخسف بعضه ولكن يشترك أهل المشرق والمغرب إذا اشتركوا فيه في طرفيه فإن الخسوف في القمر يبدأ فيه من جانبه الشرقي وفي الشمس من جانبها الغربي وإذا بدأ الخسوف في القمر من جانبه الشرقي لا يخسف حينئذ عند أهل المغرب وكذلك طلوع الشمس وكسوفها وقد يكون ضد ذلك
إذا عرف ذلك فالكلام على هذه الحجة من مقامين كسائر الحجج المذكورة في منع كونه على العرش فإن من يقول إنه فوق العرش ويقول هو مع ذلك ليس بجسم ولا متحيز ولا مركب يمنع ما ذكره من الملازمة كما تقدم ذكره غير مرة سواء فرض أن العرش يكون تحت بعض الناس أو أن السموات تكون تحت بعض الناس أو لم يفرض ومن وجوه

أحدها أن قوله أن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل المشرق هي تحت بالنسبة إلى سكان المغرب فلو اختص الباري بشيء من الجهات لكان في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس يقال له كان الواجب إذا احتجت بما ذكرته من أمر الهيئة تتم ما يقولونه هم وما يعلمه الناس كلهم فإنه لا نزاع بينهم ولا بين أحد من بني آدم أن الأرض هي تحت السماء حيث كانت وأن السماء فوق الأرض حيث كانت وهذا وهم متفقون مع جملة الناس على أن الجهة الشرقية سماؤها وأرضها ليست تحت الغربية ولا الجهة الغربية سماؤها وأرضها تحت الشرقية ومتفقون على جهل من جعل إحدى الجهتين في نفسها فوق الأخرى أو تحتها
وذلك يتضح بما قدمناه قبل هذا من أن الجهات نوعان جهات ثابتة لازمة لا تتحول وجهات إضافية نسبية تتبدل وتتحول فأما الأولى وهي الجهة الثابتة اللازمة الحقيقية فهي جهة العلو والسفل فالسماء أبدا في الجهة العالية التي علوها ثابت لازم لايتبدل وكلما علت اتسعت وكلما والأرض أبدا في الجهة السافلة التي سفلوها ثابت لازم لا يتبدل سفلت ضاقت فلهذا كان الأعلا هو الأوسع وكان السفل هو الأضيق ولهذا قابل الله تعالى بين عليين وبين سجين في كتابه فقال كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وقال كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ولم يقل في سفلين كما لم يقل هناك في وسعين ليبين الضيق والحرج الذي في المكان كما بين سفوله بمقابلته بعليين وبين أيضا سعة عليين بمقابلة سجين فيكون قد دل على العلو والسعة التي للأبرار وعلى السفول والضيق الذي للفجار
وأما الجهات الست فقد ذكرنا أنها تقال بالنسبة والاضافة إلى الحيوان وحركته ولهذا تتبدل بتبدل حركته وأعضائه فإذا تحرك إلى المشرق كان

المشرق أمامه والمغرب خلفه والجنوب يمينه والشمال شامه وعلى هذا بنيت الكعبة لأن وجهها مستقبل مهب الصبا بين المشرق والشمال وأركانها على الجهات الأربع فالحجر الأسود مستقبل المشرق واليماني مستقبل اليمن والغربي مستقبل الغرب والشامي مستقبل الشام إلى القطب الشمالي وهو محاذ أرض الجزيرة كالرقة وحران ونحوهما ولهذا قال من قال من المصنفين في دلائل القبلة كأبي العباس بن القاص وغيره إن قبلة هذه البلاد أعدل القبل لأن سكانها يستدبرون القطب الشمالي لا يحتاجون أن ينحرفوا عنه إلى المشرق كما يفعل أهل الشام ولا إلى المغرب كما يفعل أهل العراق
فالانسان تتبدل جهاته بتبدل حركاتهم مع أن الجهات نفسها لم تختلف أصلا ولم يصر الشرق منها غربيا ولا الغربي شرقيا وكذلك الجهة التي تحاذي رأسه هي علوه والتي تحاذي رجليه هي سفله فإذا كان رجلان في أقصى المشرق منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك وفي أقصى المغرب منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك فكل منهما تكون السماء فوقه لأنها تحاذي رأسه وكذلك الأرض تحته لأنها تحاذي رجليه كما أن السماء فوق الأرض في نفسها وليس أحد هذين تحت الآخر في نفس الأمر كما أن سجين الذي هو أسفل السافلين تحتهما ولو هبط شيئان ثقيلان من عندهما لانتهى إلى أسفل السافلين وهو سجين لم يلتق ذلك الشيئان الثقيلان لكن لو قدر أن تخرق الأرض فيلتقيان هناك لكانت رجلا أحدهما إلى رجلي الآخر ولو فرض أن أحدهما أخرقت له الأرض حتى يمر في جوفها ويصل إلى الآخر لكانت رجلاه تلاقي رجلي الآخر فبهذا الاعتبار يتخيل كل واحد منهما أن الآخر تحته بمحاذاته ناحية رجليه لكن الحركة السفلية هي إلى أسفل الأرض وقعرها ومن هناك تبقى الحركة صاعدة إلى فوق كحركة الصاعد من الأرض إلى السماء فيكون

المتحرك من أسفل الأرض وقعرها إلى ظهرها وعلوها على هذا الوجه كهيئة المعلق برجليه إلى ناحية السماء وذراعيه إلى ناحية الأرض وكهيئة النملة المتحركة تحت السقف والسقف يحاذي رجليها فتصير بهذا الاعتبار السماء تحاذي رجليه والأرض تحاذي رأسه فمن هنا يقال إن السماء تحته والأرض فوقه إذا كان مقلوبا منكوسا
فيجتمع من هذا أمران أحدهما أن تكون حركته على خلاف الحركة التي جعلها الله في خلقه والثاني أن تبدل الجهة تبدلا إضافيا لا حقيقيا كما تتبدل اليمين باليسار والأمام بالوراء ومن المعلوم أن المشرق والمغرب لا يتبدلان قط باستقبالهما تارة واستدبارهما أخرى فكيف يتبدل العلو والسفل بتنكيس الانسان وقلبه على رأسه والمحاذاة حينئذ للسماء برجليه والأرض برأسه بل هذا المنكوس يعلم أن السماء فوقه والأرض تحته ونحن لا نمنع أن هذا قد يسمى علوا وسفلا بهذا الاعتبار التقديري الاضافي لكن هذا لا يعتبر الجهة الحقيقية الثابتة
وبهذا الاعتبار سمى في هذا الحديث المروي عن أبي هريرة وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال فيه لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله فإنه قدر ضعيف الادلاء وهو ممتنع فسماه هبوطا على هذا التقدير كما لو قلبت رجلا الانسان ورمي إلى ناحية السماء لكن قائما على السماء
وإذا ظهر هذا علم أن الله سبحانه لا يكون في الحقيقة قط إلا عاليا
وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أن يقال هذا الذي ذكرته وارد في جميع الأمور العالية من العرش والكرسي والسموات السبع وما فيهن من الجنة والملائكة والكواكب والشمس والقمر ومن الرياح وغير ذلك فإن هذه الأجسام مستديرة كما ذكرت ومعلوم أنها فوق الأرض حقيقة وإن كان على مقتضى ما ذكرته

تكون هذه الأمور دائما تحت قوم كما تكون فوق آخرين وتكون موصوفة بالتحت بالنسبة إلى بعض الناس وهي التحتية التقديرية الاضافية وإن كانت موصوفة بالعلو الحقيقي الثابت كما أنها أيضا عالية بالعلو الإضافي الوجودي دون الإضافي التقديري وإذا كان الأمر كذلك ولم يكن في ذلك من الأحالة إلا ما هو مثلما في هذا ودونه لم يكن في ذلك محذورا فإن المقصود أن الله فوق السموات وهذا ثابت على كل تقدير
وهذا يظهر بالوجه الثالث وهو أن يقال هذا الذي ذكرته من هذا الوجه لا يدفع فإنه كما أنه معلوم بالحساب والعقل فإنه ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأعننا من الفقر فأخبر أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء فهذا خبر بأنه ليس فوقه شيء في ظهوره وعلوه على الأشياء وإنه ليس دونه شيء فلا يكون أعظم بطونا منه حيث بطن من الجهة الأخرى من العباد جمع فيها لفظ البطون ولفظ الدون وليس هو لفظ الدون بقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء فعلم أن بطونه أوجب أن لا يكون شيء دونه فلا شيء دونه باعتبار بطونه والبطون يكون باعتبار الجهة التي ليست ظاهرة
ولهذا لم يقل أنت السافل ولهذا لم يجئ هذا الاسم الباطن كقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء إلا مقرونا بالاسم الظاهر الذي فيه ظهوره

وعلوه فلا يكون شيء فوقه لأن مجموع الاسمين يدلان على الاحاطة والسعة وأنه الظاهر فلا شيء فوقه والباطن فلا شيء دونه
لم يقل أنت السافل ولا وصف الله قط بالسفول لا حقيقة ولا مجازا بل قال ليس دونك شيء فأخبر أنه لا يكون شيء دونه هناك كما جاء في الأثر الذي ذكره مالك في الموطأ أنه يقال حسبنا الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وراء الله منتهى فالأمر متناه مداه ولا شيء دونه في معنى اسمه الباطن ليبين أنه ليس يخرج عنه من الوجهين جميعا وذلك لأن ما في هذا المعنى من نفي الجهة شيء دونه هو بالنسبة والاضافة التقديرية وإلا ففي الحقيقة هو عال أيضا من هناك والأشياء كلها تحته
وهذا كما أن الضار والمانع والخافض لا تذكر إلا مقرونة بالنافع المعطي الرافع لأن ما فعله من الضرر والمنع والخفظ فيه حكمة بالغة أوجب أن تكون فيه رحمة واسعة ونعمة سابغة فليس في الحقيقة ضررا عاما وإن كان فيه ضرر فالضرر الاضافي بالنسبه إلى بعض المخلوقات يشبه ما في البطون من كونه ليس تحته شيء وأنه لو أدلى بحبل لهبط عليه فإن الهبوط والتحتية أمر اضافي بالنسبة إلى تقدير حال لبعض المخلوقات هذا في قدره وهذا في فعله وضلال هؤلاء الجهمية في قدره كضلال القدرية في فعله وكلاهما من وصفه ولهذا كانت المعتزلة ضالة في الوجهين جميعا وقد قابلهم بنوع من الضلال بعض أهل الاثبات حتى نفوا ما أثبتته النصوص والله يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا

وبيان ما في الحديث الصحيح من قوله وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء أنه من المعلوم أن فوق و دون من الأسماء التي تسميها النحاة ظروف المكان لدلالة لفظها على المكان اللغوي فأما لفظ الفوق فظاهر وهو بحسب المضاف إليه فكون الشيء فوق لا ينافي أن يكون تحت غيره وانتفاء أن يكون فوقه شيء لا يمنع أن يكون تحته شيء فقوله وأنت الظاهر فليس فوقك شيء فنفى أن يكون فوق الله شيء وذلك يقتضي أنه سبحانه وتعالى أكمل شيء ظهورا والظهور يتضمن العلو فلهذا قال فليس فوقك شيء ولم يقل فليس أظهر منك شيء لأنه لو أراد مجرد الانكشاف والتجلي للناس لنا في ذلك وصفة بالبطون لأن كون الشيء ظاهرا بمعنى كونه معلوما ومشهودا ينافى كونه باطنا ولكن الظهور يتضمن معنى العلو ومن شأن العالي أبدا أن يكون ظاهرا متجليا بخلاف السافل فإن من شأنه أن يكون خفيا لأنه إذا علا ترآى للأبصار فراته فهو سبحانه مع ظهوره المتضمن علوه فلا شيء فوقه وهو أيضا باطن فلا شيء دونه
ولفظ الدون ليس المراد به أي الناقص ولكن لما كان يقال هذا دون هذا أي دونه بمعنى أنه يحصل دونه ويجعل الآخر فوقه صار يفهم من اللفظ هذا بل هذا اللفظ في كتاب الله تعالى في مواضع قال تعالى فاتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا إلى قوله ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا فقوله لم نجعل لهم من دونها سترا بين أن الستر إذا كان عليهم كالسقوف كان ذلك من دون الشمس فيكون بينهم وبين الشمس وتكون الشمس محجوبة مستورة عنهم بذلك الستر فتكون هي أبطن عنهم من الستر والستر أدنى إليهم وتكون الشمس من ورائه وكذلك قوله حتى إذا بلغ بين

السدين وجد من دونهما قوما الآية فهؤلاء القوم كان السدان من ورائهم إذ في قولك هذا فوق هذا وهذا دون هذا ثلاثة أسماء اسم مضاف إليه وظرف مضاف إلى هذا الاسم واسم أول متصل بالظرف ومتعلق به ويقال هذا هو مضاف إليه اضافة معنوية كما يقال حروف الجر تضيف معاني الأسماء إلى الأفعال
فإذا قيل وجد من دونهما قوما فالقوم هم المتعلقون بالمكان الذي هو دون السدين والسدان هما المضاف إليهما فكونهما دون السدين هو بالنسبة إلى ذي القرنين الذين وجدهما هناك فإنه وجدهم إليه أدنى وأقرب والسدان أبعد والقرب إليه أحق بالظهور والبيان والبعيد عنه أولى بالاحتجاب والاستتار هذه هي العادة فيما يقرب الينا ويبعد عنا من الأجسام ولو جاء أحد من جهة السد لقال وجدت هؤلاء دون ذي القرنين فالشيء الذي بين اثنين يقول هذا هو دونك ويقول الآخر هذا دونك وكل منهما صادق كما لو كان بينهما حائط أو نهر أو بحر لقال هؤلاء لأهل تلك الناحية هذا دونكم وكذلك يقولون الآخرون هذا دونكم كما أن كل أهل جانب يقولون عن الأخرى هم من وراء هذا الحائط ومن خلفه إذ الجهات أمور نسبية إضافية وكذلك قال تعالى ومن دونهما جنتان فهاتان دون تلك والأولتان فوق هاتان وهاتان أدنى إلينا
ولهذا صار في هذا اللفظ معنى القرب والبعد من وجه ومعنى الاحتجاب والاختفاء من وجه فقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء نفى أن يكون شيء دونه كما نفى أن يكون فوقه ولو قدر فوقه شيء لكان أكمل منه في العلو والبيان إذ هذا شأن الظاهر ولو كان دونه شيء لكان أكمل منه في الدنو والاحتجاب إذ هذا شأن الباطن وهذا يوافق قوله أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد

وتمام هذا بالوجه الرابع وهو أن يقال إذا كان البارى فوق العالم وقلت إنه يلزم من ذلك أن يكون في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس فلم قلت ان هذا ممتنع وأنت لم تذكر على امتناع ذلك حجة عقلية ولا سمعية ولو قدر أن ذلك نقص فعندك ليس في الأدلة العقلية ما يحيل النقص على الله تعالى مع أنه قد علم بالعقل والشرع أن هذا ليس بنقص بل هذا غاية الكمال والاحاطة كما بينه النبي صلى الله عليه و سلم
وأما قوله هذا باطل بالاتفاق بيننا وبين الخصم فيقال في الوجه الخامس مثل هذه الحجة غير مقبولة كما ذكرت ذلك في نهايتك في ترتيب الطرق الضعيفة في أصول الدين وذكرت منها الالزام وهو الاستدلال بموافقة الخصم في صورة على وجوب موافقته على الأخرى لملازمة بينهما يذكرها المستدل فقلت هذا النوع من الحجة لا يصلح لافادة اليقين وهذا ظاهر ولا لافحام الخصم أيضا وبيانه هو أن للخصم أن يقول اني إنما اعترفت بالحكم في محل الوفاق لعله غير موجودة في محل النزاع فان صحت تلك العلة بطل القياس اظهور الفارق وإن بطلت تلك العلة منعت الحكم في محل الوفاق فهذه الحجة دائرة بين منع الحكم في الأصل وبين ظهور الفارق بينه وبين الفرع
وهذا بعينه وارد فيما ذكرته هنا فإن الخصم الذي وافقك على أنه ليس في جهات التحت هو يقول أن الله فوق العرش فوق السموات والعرش فوق السموات والسموات فوق الأرض ولا يوصف بالتحت لأنه يلزم من ذلك أن لا يكون فوق العرش وهذا الخصم قد لا يعلم أو لا يسلم أنه ممكن أن يوصف بعض هذه الأجسام بأنها تكون تحت شيء بوجه من الوجوه فنفوا أن يكون الله تحت

شيء لمنافاته لذلك فهذا الذي التزمته يقولون إنه لا يوجب أن لا يكون تحت شيء من الأشياء بوجه ولا يخلو إما أن تسلم ذلك أو تمنعه فإن منعت ذلك وقلت بل هذا يستلزم أن يكون تحت بعض الأجسام مع كونه فوق العرش منعك المقدمة الجدلية وقالوا لا نسلم أنه حينئذ لا يوصف بما لا ينافي علوه من التحتية الاضافية التقديرية وإن قلت إن هذا لا يوجب تحتية حقيقية ولا إضافية موجودة وإنما يوجب تحتية إضافية فهذا لا يضر فإن الحكم المقدر معلق بشرط والحكم المعلق بشرط معدوم بعدمه كما في الحديث لو أدلى أحدكم دلوه لهبط على الله ومن المعلوم أن إدلاء شيء إلى تلك الناحية ممتنع فهبوط شيء على الله ممتنع فكون الله تحت شيء ممتنع وإنما الغرض بهذا التقدير الممتنع بيان إحاطته من جميع الجهات وهذا توكيد لكونه فوق السموات على العرش لا مناف لذلك
وهذا الكلام مع انه في غاية الانصاف في المناظرة ففيه كمال تحقيق الحقائق على ما هي عليه وتبيين تطابق ما علم بالفطرة العقلية الضرورية وبالخيال العقلي الهندسي وما جاءت به الرسل وكمال ما بعث الله به رسله من بيان أسمائه وصفاته وهذاهو ببيان الحق أن يتيقن ويتشابه ولا يختلف كما يختلف كلام هذا المؤسس وأمثاله الذي هو من عند غير الله فلذلك يكون فيه اختلاف كثير
ومما يوضح ذلك أن المنازع له قد علم على يقينا بالشرع والعقل أن الله فوق العرش فكل قول نافى ذلك فهو باطل فنحن نزهناه عن الوصف بالتحتية لأنه ينافي ذلك ولما فيه من النقص

فهذا الذي ذكرته من التحتية لبعض الناس لنا فيه جوابان أحدهما أن نمنع كون ذلك تحتية والثاني أن نقول مثل هذه التحتية ليس بممتنع والجواب المركب من الجوابين أن يقال لا يخلو إما أن تكون هذه تحتية حقيقية تنافي علوه وتوجب النقص أو لا تكون فإن لم يكن ذلك بطل ما ذكرته هنا وإن كان كذلك فنحن لا نسلم أنه يمتنع أن يوصف بمثل هذه التحتية وهذا منع على تقدير أما أن تأخذ منا مسلما أنه لا يوصف بالتحتية بحال وتحتج بذلك على أنه لا يوصف بالعلو أيضا فهذا باطل
يظهر بالوجه السادس وهو أنه يقال إنك استدللت بموافقة الخصم لك على أنه لا يوصف بالتحتية على أنه لا يوصف بالفوقية فذكرت أن وصفه بالفوقية أو بغيرها يستلزم أن يكون موصوفا بالتحتية فإن جميع ما يوصف بالفوقية من الموجودات كالسموات والكواكب وغيرها يجب أن يوصف بهذه التحتية التي ذكرتها لما ذكرته من الحجة ثم قلت التحتية متفق على انتفائها فيجب نفي ملزومها وهو الوصف بالفوقية
فيقال لك إذا كان كل ما وصف بالفوقية فلابد من وصفه بهذا لمعنى كان هذا لازما لكل ما هو فوق وعال ولم يكن ذلك محذورا فنحن نلتزم هذا المعنى الذي هو لازم لكل ما يوصف بالفوق وهذا خير من أنه لا يوصف لا بفوقية ولا غيرها فإن ذلك يستلزم عدمه لأن مالا يكون فوق شيء أصلا ولا في شيء من جهاته الست ولا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه لا يكون إلا معدوما فثبوت هذا المعنى الذي ذكرته إن سلم أن منه تحتية تجامع الفوقية الحقيقية خير من سلب الفوقية وسائر المعاني السلبية المستلزمة لعدمه فانك نزهته مما ادعيت أنه تحتية لتنفي بذلك ما يستحقه من الفوقية وذلك يستلزم عدمه بالكلية فما في

قولك من النقص والعيب الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه أعظم مما ادعيته في قول مخالفك
وإذا قلت له هذه حجة توجب أن مذهبه يستلزم وصفه بالتحتية وهي متفق على نفيها بيننا قال لك ولي أنا حجج أعظم من هذه توجب أن مذهبك يستلزم وصفه بالعدمية التي هي أعظم من التحتية وهي ممتنعة بالضرورة والاتفاق قال تعالى ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا فمخالفو الرسل ومنم مخالفو ما جاء به الكتاب والسنة لا يأتون بقياس يردون به بعض ما جاءت به الرسل فيكون قياسا أقاموا به باطلا إلا جاء الله فيما بعث به الرسل بالحق وبقياس أحسن تفسيرا وكشفا وإيضاحا للحق كما أن الحجج الفطرية الضرورية التي تبين أن مذهب المؤسس يستلزم أن يكون الله معدوما هي مع أنها حق فهي أحسن بيانا وإيضاحا وتفسيرا للمطلوب من قياسه هذا الذي بين به أن وصفه بالعلو والفوقية يستلزم وصفه بالسفول والتحتية
وكذلك قول من يقول هذا يوجب أن يكون فلكا من الأفلاك فيقال لهم أنتم قد جعلتم لكل فلك عقلا على حدة والأفلاك بعضها فوق بعض وقلتم إن لكل فلك عقلا ونفسا حتى ينتهي الأمر إلى العقل الفعال الذي لهذا الفلك القريب لنا ومع هذا فلم تجعلوا هذه العقول والنفوس المختصة بفلك فلك من جنس الأفلاك بل زعمهم أنها لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت مع جعلهم لها درجة بعد درجة فكيف ينكرون أن يكون خالق لجميع فوق الجميع ومحيطا به من جهته المحيطة جميعها وليس هو من جنسها حتى يقال فيه ما يقال في فلك فلك وإن كان بعض متأخري أهل الحديث وهو قد جعله بمنزلة ذلك فهذا خطأ لأن الله ليس كمثله شيء والمخلوقات كلها كما قال ابن

عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن ما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم فهي في قبضته أقل من أن تكون نسبته إليها نسبة الفلك إلى ما فيه
الوجه السابع أنه قد ثبت في الصحيحين عن أبي ذر قال دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس فلما غابت الشمس قال يا أبا ذر هل تدري أين تذهب هذه الشمس قال قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها وكانها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أخبر أنها تسجد كل ليلة تحت العرش فقد علم اختلاف حالها بالليل والنهار مع كون سيرها في فلكها من جنس واحد وأن كونها تحت العرش لا يختلف في نفسه وإنما ذلك اختلاف بالنسبة والاضافة علم أن تنوع النسب والاضافات لا يقدح فيما هو ثابت في نفسه لا مختلف
ومن هنا يظهر عما ذكره ابن حزم وغيره في حديث النزول حيث قال النبي صلى الله عليه و سلم ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر فقالوا قد ثبت أن الليل يختلف بالنسبة إلى الناس فيكون أوله ونصفه وثلثه بالمشرق قبل أوله ونصفه وثلثه بالمغرب قالوا فلو كان النزول هو النزول المعروف للزم أن ينزل في جميع أجزاء الليل إذ لا يزال في الأرض ليل قالوا أو لا يزال نازلا وصاعدا وهو جمع بين الضدين
وهذا إنما قالوه لتخيلهم من نزوله ما يتخيلونه من نزول أحدهم وهذا عين التمثيل ثم إنهم بعد ذلك جعلوه كالواحد العاجز منهم الذي لا يمكنه أن يجمع من الأفعال ما يعجز غيره عن جمعه وقد جاءت الأحاديث بأنه يحاسب خلقه يوم

القيامة كل منهم يراه مخليا به ويناجيه لا يرى أنه متخليا لغيره ولا مخاطب لغيره وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى علي عبدي فكل من الناس يناجيه والله تعالى يقول لكل منهم ذلك ولا يشغله شأن عن شأن وذلك كما قيل لابن عباس كيف يحاسب الله تعالى الخلق في ساعة واحدة فقال كما يرزقهم في ساعة واحدة
ومن مثل مفعولاته التي خلقها بمفعولات غيره فقد وقع في تمثيل المجوس القدرية فكيف بمن مثل أفعاله بنفسه أو صفاته بفعل غيره وصفته
يقال لهؤلاء أنتم تعلمون أن الشمس جسم واحد وهي متحركة حركة واحدة متناسبة لا تختلف ثم إنه بهذه الحركة الواحدة تكون طالعة على قوم وغاربة عن آخرين وقريبة من قوم وبعيدة من آخرين فيكون عند قوم عنها ليل وعند قوم نهار وعند قوم شتاء وعند قوم صيف وعند قوم حر وعند قوم برد فإذا كانت حركة واحدة يكون عنها ليل ونهار في وقت واحد لطائفتين وشتاء وصيف في وقت واحد لطائفتين فكيف يمتنع على خالق كل شيء الواحد القهار أن يكون نزوله إلى عباده ونداه إياهم في ثلث ليلهم وإن كان مختلفا بالنسبة إليهم وهو سبحانه لا يشغله شأن عن شأن ولا يحتاج أن ينزل عن هؤلاء ثم ينزل على هؤلاء بل في الوقت الواحد الذي يكون ثلثا عند هؤلاء وفجرا عند هؤلاء يكون نزوله إلى سماء هؤلاء الدنيا وصعوده عن سماء هؤلاء الدنيا فسبحان الله الواحد القهار سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
ويقال لهؤلاء كما قيل للرازي وأمثاله هل حكم الحس والخيال والعقل الذي به تعلم الجسمانيات مقبول في الربوبية أم مردود فإن كان مقبولا بطل قوله كله

حيث أثبت حيا عالما قادرا لا يتحرك ولا يسكن ولا يقرب ولا يبعد ولا يفعل بنفسه فعلا وزعمت مع ذلك أنه غير عاجز ولا مقيد ولا ممنوع وإن كان مردودا بطل ما ضربته من الأمثال في رد حقيقة ما أخبر به عنه الصادق المصدوق الذي هو أعلم به منك ومن أمثالك
فصل
قال الرازي البرهان السادس لو كان تعالى مختصا بشيء من الأحياز والجهات لكان مساويا للمتحيزات وهذا محال فذلك محال بيان الملازمة انه تعالى لو كان مختصا بحيز لكان معنى كونه شاغلا لذلك الحيز بحيث يمنع غيره أن يكون بحيث هو ولو كان كذلك لكان متحيزا وقد بينا في الفصل المتقدم أن المتحيزات بأسرها متماثلة في تمام الماهية فثبت أنه تعالى لو كان متحيزا لكان مثلا لسائر المتحيزات وإنما قلنا إن ذلك محال لأن المثلين يجب تساويهما في جميع اللوازم فلزم إما حدوث الكل وإما قدم الكل وذلك محال
فإن قيل حصول الشيء في الحيز وكونه مانعا لغيره أن يحصل بحيث هو حكم من أحكام الذات ولا يلزم من الاستواء في الأحكام واللوازم الاستواء في الماهية والجواب عنه من وجهين
الأول أن المتحيز له أحكام ثلاثة أحدها أنه حاصل في الحيز شاغل له والثاني كونه مانعا لغيره بأن يحصل بحيث هو والثالث كونه بحال لو ضم إليه أمثاله حصل له حجم كبير ومقدار عظيم ولا شك أن كلما يحصل في حيز فقد حصل له هذه الأمور الثلاثة إلا أن الذات الموصوفة بهذه الأحكام الثلاثة لابد وأن يكون لها في نفسها الحجم والمقدار وهذا المعنى معقول مشترك بين كل

الأحجام ثم إنا قد دللنا على أن هذا المفهوم المشترك يمتنع أن يكون صفة لشيء آخر بل لابد وأن يكون ذاتا وإذا كان كذلك فالمتحيزات في ذواتها متماثلة والاختلاف إنما وقع في الصفات وحينئذ يحصل التقريب المذكور
والوجه الثاني أن السؤال الذي ذكرتم إن صح فحينئذ لا يمكنكم القطع بتماثل الجواهر لاحتمال أن يقال الجواهر وان اشتركت في الحصول في الحيز إلا أن هذا اشتراك في حكم من الأحكام والاشتراك في الحكم لا يقتضي الاشتراك في الماهية وإذا لم يثبت كون الجواهر متماثلة فحينئذ لا يبعد في العقل وجود جواهر مختصة بأحيازها على سبيل الوجوب بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز وحينئذ لا يطرد دليل حدوث الأجسام في تلك الأشياء وعلى هذا التقدير لا يمكنكم القطع بحدوث كل الأجسام
فيقال هذه الحجة قد تقدم الكلام على موادها غير مرة والكلام عليها من المقامين المتقدمين أحدهما قول من يقول إنه فوق العرش وهو مع ذلك ليس بجسم ولا هو متحيز كما ذكرنا أن هذا قول طوائف كثيرة من أهل الكلام والفقهاء ومن تبعهم من أهل الحديث والصوفية وغيرهم وهذا قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وغيرهم فعلى هذا لا يلزم من نفى كونه متحيزا نفي كونه على العرش وقد تقدم ما في ذلك من دعوى الضرورة من الجانبين
المقام الثاني من لا ينفي ذلك بل يسلم اثباته أولا يتكلم فيه بنفي ولا اثبات والكلام في هذا المقام من وجوه
أحدها لا نسلم أنه لو كان مختصا بشيء من الأحياز والجهات لكان مساويا للمتحيزات وما ذكره من الحجة مبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم

ابطال ذلك بما لا حاجة إلى اعادته وأن القول بتماثلها من أضعف الأقوال بل من أعظمها مخالفة للحس والعقل ولما عليه جماهير العقلاء
الوجه الثاني قوله لو كان مختصا بحيز لكان معنى كونه شاغلا للحيز كونه بحيث يمنع غيره عن أن يكون بحيث هو يقال قد تقدم أن الحيز قد يراد به ما يحوز الشيء وهي نهاياته وحدوده الداخلة فيه وقد يراد به الشيء الذي يكون منفصلا عنه وهو محيط به وكلاهما أمر وجودي وليس كونه مختصا بالحيز بهذا المعنى أن يكون شاغلا لحيز بل الحيز هنا إما بعضه وإما ما يلاقيه من خارج وليس في شيء من هذين كونه شاغلا لحيز وقد يراد بالحيز ما هو تقدير المكان وهذا هو الحيز عند كثير من أهل الكلام الذين يفرقون بين الحيز والمكان والحيز على هذا أمر عدمي كما تقدم تقرير ذلك
وقوله إنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وقوله قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض وبينا ذلك
ويكفي أن يقال هنا لا نسلم أن الحيز أمر موجود وإذا لم يكن هناك موجود فقوله شاغل لذلك الحيز ليس فيه معنى زائد على كونه موجودا بنفسه بحيث يشار إليه
وقوله لو كان مختصا بحيز لكان معنى كونه شاغلا لذلك الحيز كونه بحيث يمنع غيره لا يستقيم حتى يبين أن الاختصاص بالحيز هو الشغل لذلك الحيز وهو لم يفعل ذلك فإذا قيل الاختصاص بالحيز هو الاختصاص بما يحوزه من الجوانب لم يكن معناه ذلك وإذا قيل هو الاختصاص بتقدير المكان بالمتحيز فالاختصاص بالحيز بهذا المعنى يوجب كونه متحيزا فلا حاجة إلى ما ذكره من

الدليل على كونه متحيزا وأما كونه منع غيره أن يكون بحيث هو فهذا مبني على تداخل الأجسام وليس هذا داخلا في حقيقة المتحيز فإن المتحيز يعلم أنه متحيز قبل العلم بكونه بحيث يمنع غيره أن يكون بحيث هو
الوجه الثالث قوله الذات الموصوفة بهذه الأحكام الثلاثة لابد وأن يكون لها في نفسها الحجمية والمقدار وهذا المعنى معقول مشترك بين كل الأحجام ثم إنا دللنا على أن هذا المفهوم المشترك يمنع أن يكون صفة لشيء آخر بل لابد وأن يكون هو الذات يقال هذا الذي أحلت عليه الاحتجاج على تماثل المتحيز فايرادك لذلك السؤال ثم كونك تذكر في الجواب من ما قد احلت عليه تكرير محض بلا فائدة فالواجب إما ذكر الحجة الدالة على التماثل إما ابتداء وإما جوابا وإما ترك هذا السؤال للجواب فإنه لم يحصل به التقريب
ثم يقال في الوجه الرابع قد قدمنا أن هذا المشترك وهو المقدار صفة المقدر قائم به لا أنه نفس المقدر وحقيقته قال تعالى وكل شيء عنده بمقدار وقال قد جعل الله لكل شيء قدرا فجعل المقدار القدر للأشياء ولم يجعل ذلك أعيان الأشياء وذواتها كما قال تعالى وما ننزله إلا بقدر معلوم وبينا أن كل واحد من المشترك والمميز يجوز أن يكونا سوءا بالنسبة إلى الذات الموصوفة بهما فليس جعل أحدهما ذاتا والآخر صفة بأولى من العكس وبينا أنه وان قيل إنه الذات فليس جعل أحدهما ذاتا والآخر صفة بأولى من العكس وبينا أنه وإن قيل إنه الذات فليس هو تمام الحقيقة بل الحقيقة مؤلفة مما به الاشتراك وما به الامتياز
فالمتحيز وإن كان جنسا كما قيل في الجوهر بالجنس لا يجب أن يكون متماثل الأنواع فإن التماثل يحتاج إلى الاشتراك في جميع الصفات الذاتية وهو قد سلم أن المتحيزات مختلفة في الصفات فيجوز أن يكون كل جسم وأن كان التقدير

ذاته فله صفات ذاتية مختصة به كما يقول من يقول من المتكلمين المنطقيين وغيرهم إن الجوهر جنس وتحته أنواع إضافية وتحت كل نوع أنواع إلى النوع الشامل الخاص الذي تتفق أفراده في تمام الماهية الحقيقية وقد تقدم بسط هذا فلا نعيده إذ لم يذكر هو الحجة على ذلك بل أحال على ما تقدم
الوجه الخامس قوله إن صح هذا السؤال لم يمكن القطع بتماثل الجواهر لاحتمال أن يقال الجواهر وان اشتركت في الحصول في الحيز إلا أن هذا اشتراك في حكم من الأحكام والاشتراك في الحكم لا يقتضي الاشتراك في الماهية يقال لك هذا أولا مبني على ثبوت الجوهر الفرد وهذا فيه من النزاع المشهور ما قد عرف وأنت قد اعترفت بأنك مع الأذكياء المتوقفين عن نفيه وإثباته وإذا لم يعلم وجود جوهر منفرد لم يصح هذا الكلام ثم إن كان الجوهر الفرد موجودا فلا ريب أنه ليس مما يحس به حتى يعلم بالحس أن الجوهر مماثل له أو غير مماثل وحينئذ فلا يمكن العلم بكون الجواهر متماثلة بل يقال هي غير متماثلة كما قيل في الأجسام وقد قدمنا تنازع الناس هل الجواهر جنس أو جنسان أو ثلاثة أو خمسة أو أكثر من ذلك مع أن الذين يقولون إنها جنس واحد لا يقولون هي متماثلة كما أن الحيوان عندهم جنس وليس متماثلا
قوله فحينئذ لا يبعد في العقل وجود جواهر مختصة بأحيازها على سبيل الوجوب فلا يطرد دليل حدوث الأجسام في تلك الأشياء يقال لا ريب أن المسلك الذي سلكته في حدوث العالم بنيته على هذا الأصل لكن من تأمل ما يذكره من الأدلة في هذه المسألة ونحوها تبين له أن الذي يذكره من جانب المنازعين أقوى من الذي يذكره من جانب المسلمين وعلم بالأضطرار أن اعتقاد حدوث العالم على هذا الدليل ونحوه في غاية الفساد وهذا من أخبث الكلام

الذي كان السلف يذمونه ويذمون أصحابه بل مثل هذه الحجج لا تصلح للمسائل الظنية فكيف تصلح لأصول الدين وقواعد الايمان وأنت تعترف بهذا في مواضع لكن إنما تحتج هنا بذلك تهويلا على من لا يعرف القضية وتوهم الناس أن هذا يقدح في قاعدة من قواعد الدين وليس الأمر كذلك وإنما تظهر به فساد ما سميته أنت وأصحابك أدلة الدين وأصولا له وأنت دائما تقدح فيها فإن كانت هذه الأدلة هي أصول دين المسلمين فأنت من أعظم الناس هدما لها في مواضع وإلا فلا يضر القدح فيها
ثم يقال كون الجواهر متماثلة أمر غير معلوم فإن كان دليل الحدوث مبنيا على تماثلها فهو مبني على مقدمة فاسدة أو غير معلومة
الوجه السادس قوله لا يبعد في العقل وجود جواهر مختصة بأحيازها على سبيل الوجوب يقال له الاحياز التي هي تقدير المكان ليست أمورا وجودية وإذا لم تكن أمورا وجودية لم يجز أن يختص بعضها بمعنى يقتضي اختصاص جوهر به وحينئذ فالعلم يكون الجواهر لا يجب اختصاصها بأحياز معينة لا يحتاج أن يبنى على تماثلها بل يعلم ذلك بدون العلم بتماثلها كما أن كثيرا من أهل الكلام الذين أثبتوا جواز الحركة والسكون والاجتماع والافتراق على الجواهر من غير بناء على تماثلها مع أن هذه الجواهر المشهودة في السموات والأرض يشهد انتقالها عن أحيازها وهذه كافية في إثبات العلم بالصانع لمن سلك هذه الطريق وقد تسلك هنا طرق أخرى ليس هذا موضعها
الوجه السابع قوله وحينئذ لا يطرد دليل حدوث الأجسام في تلك الأشياء يقال له هب أن دليلك لم يطرد لكن من أين قلت أن سائر أدلة الناس تحتاج إلى ذلك ثم غاية ما في هذا أن يكون بعض الأجسام غير معلوم الحدوث بهذا

الدليل فإن كان هؤلاء ممن لا يقول بأن الله جسم فيمكنه العلم بحدوث سائر الأجسام بأدلة أخرى ولو بالسمع وإن كانوا ممن يقولون بأنه جسم فلا ريب أن الأجسام عندهم ليست كلها محدثة كما أن الذوات ليست كلها محدثة والقائمات بأنفسها ليست كلها محدثة والموصوفات ليست كلها محدثة لا سيما وأنت تقول إن كل من قال إنه متحيز وأنه في جهة لزمه القول بأنه جسم منقسم بل تقول لكل من قال أنه فوق العرش لزمه أن يقول بأنه جسم فإذا كان المنازعون لك القائلون بأنه على العرش يلزمهم كلهم القول بأنه جسم فكيف تحتج عليهم بأن هذا يستلزم أن لا يقطع بحدوث كل الأجسام وهذا عندك حقيقة المذهب فهل تحتج على إبطال المذهب بنفس حكاية المذهب مع ظهور القول بالنزاع فيه

فصل
قال الرازي البرهان السابع أنه تعالى لو كان مختصا بالجهة والحيز لكان عظيما لأنه ليس في العقلاء من يقول إنه مختص بجهة ومع ذلك فإنه في الحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ كل من قال إنه مختص بالجهة والحيز قال إنه عظيم في الذات وإذا كان كذلك فنقول الجانب الذي منه يحاذي يمين العرش إما أن يكون هو الجانب الذي منه يحاذي يسار العرش أو غيره والأول باطل لأنه إذا عقل ذلك فلم لا يعقل أن يقال إن يمين العرش عين يسار العرش حتى يقال العرش على عظمته مثل الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ وذلك لا يقوله عاقل والثاني باطل أيضا لأن على هذا التقدير تكون ذات الله مركبة من الأجزاء ثم تلك الأجزاء إما أن تكون متماثلة الماهية أو مختلفة الماهية والأول محال لأن على هذا التقدير يكون بعض تلك الأجزاء المتماثلة متباعدة وبعضها متلاقية والمثلان يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر فعلى هذا يلزم القطع بأنه يصح على المتلاقيين أن يصيرا متباعدين وعلى

المتباعدين أن يصيرا متلاقيين وذلك يقتضي جواز الاجتماع والافتراق على الله وهو محال
والقسم الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء مختلفة في الماهية فنقول كل جسم مركب من أجزاء مختلفة في لاالماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرأ عن هذا التركيب لأن التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات فلولا حصول الوحدات لما عقل اجتماعها
إذا ثبت هذا فنقول إن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد وأن يماس كل واحد منها بيمينه شيئا ويساره شيئا آخر لكن يمينه مثل يساره وإلا لكان هو نفسه مركبا وقد فرضناه غير مركب هذا خلف وإذا ثبت أن يمينه مثل يساره وثبت أن المثلين لابد وأن يشتركا في جميع اللوازم لزم القطع بان ممسوس يمينه يصح أن يصير ممسوس يساره وبالعكس ومتى صح ذلك فقد صح التفرق والانحلال عن تلك الأجزاء فحينئذ يعود الأمر إلى جواز الاجتماع والافتراق على ذات الله وهو محال فثبت أن القول بكونه في جهة من الجهات يفضي إلى هذه المحالات فيكون القول به محالا
فيقال هذه الحجة هي حجة على نفي كونه جسما فكان ذكره في الفصل الأول على نفي كونه جسما أجود من ذكرها هنا ولكن ذكرها هنا لتكون حجة على من قال إنه على العرش وذكر فيها قول من يقول إنه عظيم وليس بجسم فإن النزاع في هذا مشهور لو صرح به لاحتاج إلى كلام آخر وإذا ثبت أنه ليس على العرش أمكن أن ينفي عنه الجسم فيقول له كان جسما لجاز أن

يكون على العرش مع أن هذا فيه نزاع بين مثبتة الجسم كما تقدم ذكره فإن النزاع في كونه على العرش بين مثبتة الجسم وبين نفاته أيضا
فالقائلون بأنه جسم منهم من يقول هو فوق العرش ومنهم من يقول هو في كل مكان بذاته أو أنه ذاهب في الجهات إلى غير غاية وكذلك القائلون بأنه ليس بجسم منهم من يقول إنه على العرش ومنهم من يقول في كل مكان متناهي أو غير متناهي ومنهم من يقول غير داخل في العالم ولا خارجه فالأقوال أربعة في اختصاصه بما فوق العرش أنه فوق العرش وهو جسم وفوق العرش وليس بجسم وأن كان الخواص من أهل السنة لا يثبتون الجسم ولا ينفونه وأنه ليس فوق العرش وليس بجسم وأنه ليس فوق العرش وهو جسم
وإذا ظهر ما في هذه الحجة فالكلام فيها في المقامين المتقدمين
أحدهما قول من يقول أنه فوق العرش وهو عظيم وليس بجسم أو يقول هو جسم وليس بمنقسم ولا مركب وقد تقدم ذكر ذلك
وأما المقام الثاني فالكلام فيه من وجوه
أحدها قولك والجانب الذي يحاذي يمين العرش إما أن يكون هو الجانب الذي يحاذي يساره أو غيره يقال لا نسلم الحصر بل لا هو هو ولا هو غيره أو يقال لا نقول إنه هو ولا نقول إنه غيره فإن كثيرا من متكلمي الصفاتية أو أكثرهم من الكلابية والأشعرية وطوائف من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية منهم من يقول الصفة لا هي الموصوف ولا هي غيره ومنهم من يقول أقول هي هي ولا أقول هي غيره ولا أقول لا هي هو ولا هي غيره
وتوجيه الكلام أنه إما أن يريد بالغيرين ما جاز وجود أحدهما دون الآخر أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بمكان أو زمان أو وجود أو يريد بالغيرين ما جاز

العلم بأحدهما دون الآخر فإن أراد بالغيرين الأول لم يسلم أن هذا الجانب هو ذاك الجانب ولا هو غيره إلا إذا بين جواز أحدهما دون الآخر وهو يحتج بهذا الامتياز على جواز التفرق فيكون هذا دورا باطلا لأنه لا يثبت أنهما غيران بهذا التفسير حتى يثبت جواز انفصالهما ولا يثبت جواز انفصالهما حتى يثبت أنهما غيران وذلك دور
وإن قيل في جوانب الأجسام المخلوقة إن هذا غير هذا فذلك لجواز وجود أحدهما دون الآخر والله سبحانه وتعالى صمد لا يجوز عليه التفرق والانفصال كما تقدم بيانه وأن هذا الاسم يقتضي الاجتماع والقوة ويمنع التفرق والانفصال وإذا كانت الصمدية واجبة له كان الاجتماع واجبا له والافتراق ممتنعا على ذاته وقد تقدم في ذلك كلام موجز
ومن قال الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود فإنه قد يقول إن الصفات مثل العلم والقدرة والحياة ليست كل صفة هي الأخرى ولا هي غيرها لأن محل الصفات واحد
وأما الحدود فقد يقولون إن هذا الجانب فارق ذلك الجانب في المكان وإن كان لا يفارقه في الزمان والوجود فقد يقال إن هذا ليس بافتراق في المكان وهذه منازعات لفظية اصطلاحية
وأيضا فإن المغايرة بين الصفة والموصوف وبين البعض والكل أبعد من المغايرة بين صفة وصفة وبعض وبعض ولهذا يقولون إن الواحد من العشرة ليس هو العشرة ولا غيرها وأن يد الإنسان ليست هي الانسان ولا غيره ولا يقولون إن الواحد من العشرة ليس هو الواحد الآخر لجواز وجود أحدهما دون الآخر بخلاف وجود الجملة دون أجزائها فإنه ممتنع وهذا فيما يجوز عليه

التفرق من الأجسام المخلوقة وأما الخالق سبحانه فلا يجوز عليه التفرق فلا يقولون إن هذا الجانب منه غير هذا الجانب فيمنعون المقدمة الأولى
وإن قال أريد بالغير ما هو أعم من هذا وهو ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر أو ما أمكن الاشارة الحسية إلى أحدهما دون الآخر أو ما أمكن رؤية أحدهما دون الآخر كما قال من قال من السلف لمن سأله عن قوله تعالى لا تدركه الأبصار ألست ترى السماء قال بلى قال فكلها ترى قال لا قال فالله أعظم فيقال له وإذا كان يمين الرب غير يساره بهذا التفسير فقولك تكون ذات الله مركبة من الأجزاء أتعنى به ورود المركب عليها بمعنى أن مركبا ركبها كما قال في أي صورة ما شاء ركبك أو أنها كانت متفرقة فتركبت أم تعنى أن اليمين متميزة عن اليسار وهو التركيب في الاصطلاح الخاص كما تقدم بيانه
فإن أراد الأول لم يلزم ذلك وهو ظاهر فإن الأجسام المخلوقة أكثرها ليس بمركب بهذا الاعتبار فكيف يجب أن يقال إن الخالق مركب بهذا الاعتبار وهذا مما لا نزاع فيه وهو يسلم أنه لا يلزم من التصريح بأنه جسم هذا التركيب إذ هو عدم لزومه ظاهرا
وأما إن أراد بالتركيب الامتياز مثل امتياز اليمين عن شماله قيل له هذا التركيب لا نسلم أنه يستلزم الأجزاء فإنه هذا مبني على إثبات الجزء الذي لا ينقسم والنزاع فيه مشهور وقد قرر أن الأذكياء توقفوا في ذلك وإذا لم يثبت أن الأجسام المخلوقة فيها أجزاء بالفعل امتنع أن يجب ذلك في الخالق
وأيضا فالقائلون بثبوت الأجزاء يعلمون أن الجسم البسيط لم يكن مركبا من الأجزاء بمعنى أنها كونت ثم ركب منها فيكون قوله مركبا من

الأجزاء امتياز شيء من شيء وغايته أن يقال امتياز بعض عن بعض كما ورد عن طائفة من السلف التكلم بلفظ البعض
فقوله بعد ذلك إما أن تكون متماثلة في الماهية أو مختلفة والأول محال لأنه على هذا التقدير يكون بعض تلك الأجزاء المتماثلة متباعدة وبعضها متلاقية والمثلان يصح على كل واحد منهما ما يصح على الآخر فيلزم القطع بأنه يصح على المتلاقيين أن يصيرا متباعدين وعلى المتباعدين أن يصير متلاقيين
يقال التماثل في الماهية لا يوجب أن يكون أحدهما عين الآخر ولا أن يساويه في الأحكام اللازمة للتعيين وما يتبع ذلك
وبيان ذلك أنه إن قيل المتماثلان يجوز على عين كل منهما ما يجوز على عين الآخر فليس في العالم شيئان متماثلان بهذا الاعتبار فإن عامة ما يقدر من المتماثلين مثل الحبتين من الحنطة والهنابين ونحو ذلك قد علم أن عين هذا ليست عين هذا وأن الحيز الذي لهذه العين ليس عين الحيز الذي للعين الأخرى ولا الأعراض التي قامت بها هي عين تلك الأعراض وأن ما امتازت به أحدهما عن الأخرى من عينها وصفتها وحيزها لا يجوز أن يكون للأخرى حيز يكون لتلك فإن هذا يستلزم أن يصير عين هذه عين تلك وحيزها حيزها وصفتها صفتها بعينها وذلك يرفع تعددها ويوجب اتحادهما
ومن المعلوم أن التماثل يوجب التعدد فإن المتماثلين ليسا شيئا واحدا بل هما عدد فإذا كان التماثل يوجب التعدد فلو اقتضى اتحاد عينها لكان التماثل يوجب الاتحاد ويوجب التعدد وذلك يقتضي الجمع بين النقيضين فإن العدد اثبات ما زاد على الواحد والاتحاد نفي ما زاد على الواحد والجمع بين النفي

والاثبات جمع بين النقيضين فعلم أن اثبات كون عين هذا المثل هو عين ذلك المثل أو كونه في حيزه وصفته ينافي التماثل وهذا ظاهر
وإذا كان كذلك فمعلوم أن الجسم الواحد الذي يقال له إن له أبعاضا وأجزءا كالجوانب والوسط إذا فرض في غاية البساطة التي توجب تماثل أبعاضه وأجزائه كالنار البسيطة والهواء البسيط والفلك البسيط وما هو أعظم بساطة من ذلك لابد أن يتميز جوانبه عن وسط لابد ان يتميز جانب عن جانب ولو بالحيز والصفة وأنه مع مماثلته للجانب الآخر لا يستلزم أن يكون هذا في حيز ذاك وذاك في حيز هذا وعين هذا عين صفة الآخر كما لا يستلزم أن يكون عينه عين الآخر إذ لابد من امتياز أحدهما عن الآخر بعينه وصفته وحيزه يخصه والآخر والامتياز الذي يوجبه التعدد لا يرفعه التماثل فلو جوزنا أن يصير لكل منهما ما للآخر من أعيان الصفات والأحياز لزم زوال التعدد وإذا كان لابد من هذا الامتياز مع التماثل فما هو لازم للشيئين المتغايرين مع تماثلهما ومع اختلافهما من امتياز أحدهما على الآخر بعين ذاته وعين صفاته التي منها التحيز لا يجب أن يشاركه الآخر فيها لأن ذاك يرفع المغايرة وإذا كان كذلك لم يجب في كل جسم مخلوق وإن كان بسيطا أن يكون طرفه في موضع وسطه ووسطه في موضع طرفه وما لهذا من الصفة المعينة والحيز المعين لهذا وما لهذا لهذا لا سيما إذا لم تكن تلك الأبعاض المتماثلة منفصلة ولا يتميز بعضها عن بعض بالمباينة وإنما هو شيء واحد متصل
وأيضا فإذا كانت أبعاضه متماثلة فجواز لفرق المتباعدين وتباعد المتفرقين مشروط بجواز التفرق عليه وإلا فإذا قدر جسم بسيط لا يجوز تفريقه وأبعاضه متماثلة لم

يجز أن يقال في هذا إنه يجوز على المتباعدين أن يصيرا متلاقيين وعلى المتلاقيين أن يصيرا متباعدين فإن جواز ذلك مشروط بجواز الافتراق
وأيضا فإذا كانا متماثلين ومن حقيقة أحدهما امتناع المفارقة عليه لزم أن يكون من حقيقة الآخر امتناع المفارقة عليه فيكون تماثلهما مانعا من جواز تباعد المتلاقيين وتلاقي المتباعدين فإن أحدهما إذا فارق ملاقيه ثبت جواز المفارقة عليه وذلك يمنع أن يكون مثلا لما لا يجوز المفارقة عليه
وأيضا فالمتماثلان في الحقيقة والصفة إذا كانت مقاديرها متفاوتة لم يجب أن يساوي أحدهما الآخر فيما هو من حكم المقدار كالدينار الصغير مع الدينار الكبير
ومما يوضح ذلك أن هذا الافتراق يغير حقيقة الشيء كما يغير ويبدل صفته فإن النار والهواء إذا تبدلت صفة النارية والهوائية فيه خرج عن أن يكون نارا وهواءا أو أن تكون الأجزاء النارية نارا وهواءا وكذلك متى تفرق المجتمع الذي حقيقته باجتماعه متى تفرق وتمزق خرج عن حقيقته فجميع المركبات مثل بدن الانسان إذا قطع قطعا صغارا جدا بل كثير من الأجسام تتبدل حقيقته بالتفريق كما تتبدل بالتحويل وإن كان في نفسه بسيطا
وفي الجملة فأصل هذا الكلام أنه فرض تماثلا وقال فيه يلزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فيقال له التماثل الذي سلمناه لم يدخل فيه ما يستلزم جواز التفريق أو جواز حلول كل بعض محل الآخر ولا يدخل هذا في مسمى التماثل المفروض
وإن قلت بل هو داخل في مسمى التماثل الذي فرضته كان النزاع لفظيا وعاد الكلام إلى القسم الثاني فيقال لك لا يكون مماثله بهذا الاعتبار الذي

ذكرته كما قد يقال ابتداءا لا يحب أن تكون الأبعاض متماثلة بل يجوز أن تكون غير متماثلة كما أن الصفات مثل الحياة والعلم والقدرة ليست متماثلة فيقول هؤلاء في القدر ما قاله الباقون في الوصف ويقولون أبعاض المقدار كآحاد الصفات وإذا كان حاملا لصفات ليست متماثلة كان أيضا جامعا لأبعاض ليست متماثلة فما الدليل على بطلان ذلك ونفي ذلك مما ذكره الأئمة من قول الجهمية حيث قالوا عنهم إنهم قالوا لا يكون شيئين مختلفين وليس له أعلا ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو خفيف ولا ثقيل ولا له لون ولا له جسم معما في الكتاب والسنة وفي اتفاق سلف الأمة وأئمتها من وصفه باليدين والوجه بل وغير ذلك من الصفات التي تقتضي أن لها حقائق لا تسد هذه مسد هذه ولا يسد العلم مسد القدرة فكذلك الوجه واليد لا يسد أحدهما مسد الآخر
قوله والقسم الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء مختلفة في الماهية فنقول كل جسم مركب من أجزاء مختلفة في الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرءا عن هذا التركيب لأن التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات يقال هب أنه تحلل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد مبرءا عن هذا التركيب لكن لا يجب أن تكون تلك الأجزاء متماثلة في الصفة والحقيقة وإن كانت جواهر منفردة بل قد يقال إنها متساوية في المقدار بمعنى أنها غير قابلة الانقسام وليست مستوية في الصفة والحقيقة بل حقيقة كل جزء من تلك الأجزاء مخالف لحقيقة الآخر وهذا فيه أن الجواهر المنفردة تكون مستوية في القدر غير مستوية في الحقيقة وهذا قول كثير من الناس أو أكثرهم بل أكثر العالمين على أن الجواهر ليست متماثلة في الحقيقة بل مع تنازعهم في الجوهر هل هو جنس أو جنسان أو ثلاثة أو أكثر من ذلك فإن عامتهم متفقون على أن الجنس الواحد ليس متماثلا بل هو متنوع إلى أنواع

مختلفة فإذا كان القائلون بأنها جنس واحد لا يقولون بتماثلها فالقائلون بأنها أجناس كثيرة مختلفة أبعد عن القول بتماثلها وقد تقدم حكاية النزاع في ذلك كما حكاه الأشعري وغيره
إذا ظهر هذا فقوله بعد ذلك إذا ثبت هذا فنقول إن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد وأن يماس كل واحد منها بيمينه شيئا وبيساره شيئا آخر لكن يمينه مثل يساره وإلا لكان هو نفسه مركبا وقد فرضناه غير مركب وهذا خلف وإذا ثبت أن يمينه مثل يساره وثبت أن المثلين لابد وأن يشتركا في جميع اللوازم فلزم القطع بأن ممسوس يمينه يصح أن يصير ممسوس يساره وبالعكس ومتى صح هذا فقد صح التفرق والانحلال عن تلك الأجزاء فحينئذ يعود الأمر إلى جواز الاجتماع والافتراق على ذات الله تعالى وهو محال
يقال له عن هذا جوابان هب أنك قد فرضته جزءا بسيطا لا تركيب فيه بحال ومثل هذا يقال له فيه إنه لابد أن يماس بيمينه شيئا وبيساره شيئا آخر فإن هذا يقتضي أن فيه شيئين يمينا ويسارا وهذا يوجب تركيبه وقد فرضته غير مركب فهذا جمع بين النقيضين
يوضح ذلك أن مماسته بيمينه شيئا وبيساره شيئا هي من حجج نفاة الجوهر الفرد فإنهم احتجوا بذلك على جواز انقسام ذلك فقد تقدم ذكر ذلك في كلامك وذكرت أن هذا الكلام حجتهم وإذا كان هذا حجة على نفي الجوهر الفرد لم يصح الاستدلال به مع القول بثبوث الجوهر الفرد وهو الجزء البسيط الذي لا تركيب فيه بحال

بل يقال لك من رأس قولك كل جسم مركب من أجزاء مختلفة الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرءا عن هذا التركيب لا يخلو إما أن تقول بثبوت الجوهر الفرد الذي لاتركيب فيه أو تقول بأنه مامن شيء من المتحيزات إلا وفيه تركيب يقبل لأجله الانقسام فإن قلت بالأول لم يصح أن تقول لابد وأن يماس بيمينه شيئا وبيساره شيئا آخر فإن هذا قول بانقسامه وتركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منهما مبرءا عن التركيب بل يقال هذا أبدا فيه من التركيب ما يقبل لأجله الانقسام في الكم والكيف لكن هذا الجواب يصح إذا أراد بالأجزاء البسيطة الجوهر الفرد
وأما إن أراد البسيطة عن ذلك التركيب وإن كانت مركبة من أجزاء متشابهة فنذكر الجواب الثاني
فيقال هب أن كل جزء من تلك الأجزاء يصح أن يكون ممسوس يمينه ممسوس يساره وبالعكس لكن لم قلت إن كل واحد من تلك الأجزاء يصح أن يماس بيمينه ويساره ما يصح أن يماسه الجزء الآخر بيمينه ويساره وذلك لأن تلك الأجزاء إذا كانت مختلفة في الحقيقة مع تساويها في المقدار لم تكن مستوية في الحقيقة والصفة فلا يجب أن يكون حكم كل واحد منها حكم الآخر وإن كان حكم جانب كل واحد حكم جانب الآخر لا سيما والذي يجب أن ينتهي إليه تحليل المركب من أجزاء مختلفة الحقائق إنما هي المبرأة عن ذلك التركيب إلى أجزاء بسيطة وإن كانت أجساما بسيطة لا يجب أن تنتهي إلى الجوهر الفرد والأجزاء البسيطة تكون مختلفة الحقائق كما هو التقدير أنه مركب من أجزاء مختلفة الحقائق وقد تقدم أنه إذا سلم لك وجود الجوهر الفرد الذي ينتهي إليه تحليل التركيب لم يسلم لك أن الجواهر مستوية في الحقيقة

وهذا أمر يشهد له الحس فإن أجزاء الماء وإن تفرقت وتصاغرت ليست في الحقيقة مثل أجزاء التراب ولا أجزاء الذهب وإن تصاغرت مثل أجزاء الفضة وإن كانت هذه الأجزاء الصغار ليست هي الجواهر المنفردة بل تلك أصغر منها فإما أن يستدل بما شهد في المحسوسات على مالم يعلم منها وبقياس غائبها عن الإدراك على شاهدها فهذا من أوضح القياس وأثبته وهو قياس الأجزاء المتساوية في الحقيقة بعضها على بعض في حكم تلك الحقيقة فإن تفاوتها بالصغر والكبر لا يوجب اختلاف حقيقتها وصفتها وإما أن لا يقال إن ذلك الجزء لا ينقسم لا يعلم حكمه
أما أن يقال أن الأمور المختلفة في الحقيقة يجب أن تكون أجزاؤها المساوية لها في الحقيقة متماثلة في الحقيقة فهذا مما يعلم ببديهة العقل بطلانه وهذا المستدل قد فرض أجزاء مختلفة في الحقيقة وقال لابد أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء صغار لا تنقسم فيقال هب أن الأمر كذلك إلا أن أجزاء الأجسام المختلفة في الحقيقة لا يقال يجب أن تكون متماثلة بل إذا قيل يجب أن تكون مختلفة لأن بعض الجسم مساو لكله في الحقيقة كان هذا الكلام أصح وأولى بالقبول من أن يقال يجب أن تكون أجزاء الأجسام المختلفة متماثلة في الحقيقة ولهذا كان من قال إن الأجسام متماثلة قال إن الجواهر متماثلة ومن قال أنها مختلفة قال إن الجواهر مختلفة إما أن يقال إن الجواهر متماثلة في الحقيقة ولكن مجرد ضم بعضها إلى بعض حتى زادت وبعد الجمع منها اختلفت في الحقيقة أو يقال إنها كانت متماثلة في الحقيقة فبتفريقها اختلفت في الحقيقة
الوجه الثاني أن يقال لاريب أن مضمون هذه الحجة أنه لو كان على

العرش لكان جسما عظيما وإذا كان جسما وجب جواز التفرق عليه وقد تقدم أن القائلين بأنه على العرش منهم من يمنع المقدمة الأولى ومنهم من يمنع الثانية
ثم يقال قد أخبر الله تعالى في كتابه أنه الصمد وقد قال عامة السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم إن الصمد هو الذي لا جوف له وقالوا أمثال هذه العبارات التي تدل على أن معناه أنه لا يتفرق واللغة تدل على ذلك فإن هذا اللفظ وهو لفظ صمد يقتضي الجمع والضم كما يقال صمدت المال إذا جمعته وقد قال من قال من حذاق أهل الكلام وغيرهم إن هذا تفسير المجسمة لأن الأجسام نوعان أجوف ومصمت كالطعام منها أجوف ومنها مصمت فالحجر ونحوه مصمت قالوا هذا يقتضي أنه جسم مصمت لا جوف له
وهذا يدل على أن صمديته تنافي جواز التفرق والانحلال عليه
فلا يخلو إما أن تكون هذه الآية قد دلت على ذلك أو لم تدل عليه فإن كانت دلت على ذلك وعلى أنه مصمت لا جوف له يمتنع عليه التفرق بطل قولك إن كل جسم يصح عليه التفرق والانحلال وإن لم تكن دلت على ذلك فأنت لم تذكر دليلا عقليا على امتناع التفرق عليه ولا نصا ولا إجماعا وإذا كان كذلك لم تكن حجتك تامة فإن هذه إحدى مقدمات الدليل فإذا لم يكن مدلولا عليها لم يكن المذكور دليلا وإذا لم يكن دليلا لم يصح نفي كونه جسما بهذا الدليل
فإن قال أنا أثبت امتناع التفريق عليه بالإجماع أو موافقة الخصم قيل له الذي يوافقك على دليل وافقك على أنه مجتمع يمتنع عليه الافتراق ولم يوافقك

على أنه لا يوصف باجتماع ولا افتراق وحينئذ فهو يقول أنا ما علمت امتناع الافتراق عليه إلا بوجوب اجتماعه كما أني لم أعلم امتناع الموت عليه إلا لوجوب حياته ولم أعلم امتناع الجهل والعجز عليه إلا لوجوب علمه وقدرته ولم أعلم امتناع العدم عليه إلا لوجوب وجوده فإن نازعني منازع فيما أثبته وقال ليس بمجتمع أو ليس بعالم أو ليس بحي ولا قادر أو ليس بموجود وطلب مني أن أوافقه على أنه لا يجوز عليه الافتراق والعدم والموت والجهل والعجز ونحو ذلك كان قد طلب مني موافقته على امتناع أحد الضدين دون ثبوت الآخر الذي هو من صفات الكمال أو الذي ليس هو من صفات النقص أو الذي ليس هو عندي من صفات النقص وكان حينئذ من جنس الملاحدة الذي يطلبون أن أوافقهم على أنه ليس بميت ولا عاجز ولا جاهل مع منازعتهم لنا في أنه حي عالم قادر
ومن طلب الموافقة على ثبوت الشيء بدون لازمه ليحتج بذلك على نفي اللازم لم يكن علينا أن نوافقه بل لم يكن لنا أن نوافقه فإن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم فإذا وافقناه على ثبوت الملزوم كنا في الحقيقة موافقين له على نفي الملزوم الذي وافقناه في الظاهر على ثبوته وإذا كانت الموافقة على ثبوت الشيء تقتضي نفيه لم تجز الموافقة عليه
فإذا قال الملحد أنتم توافقون على أنه ليس بميت ولا جاهل ولا عاجز وأنا لا أوافقك على أنه حي عالم قادر وغرضه أن يستدل بنفي هذه الصفات على انتفائها وانتفاء أضدادها بأن يقول كونه حيا عالما قادرا وميتا جاهلا عاجزا يقتضي أنه موصوف بالحياة والموت والعلم والجهل والقدرة والعجز وهذه أعراض والموصوف بالأعراض يجب أن يكون ممكنا أو يكون جسما متحيزا وذلك يقتضي حدوثه وهو محال لم يكن علينا أن نوافقه على ثبوت هذا السلب المستلزم لثبوت كونه حيا عالما قادرا مع منعه لذلك فإن تحقق هذا السلب بدون هذا

الاثبات محال وليس علينا أن نوافقه على شيء يتوسل به إلى القول الباطل بل ليس لنا ذلك إذا كانت يتوسل به إلى إبطال حق علمناه فإن هذه الموافقة مثل مصالحة الكفار على مافيه فساد الاسلام وهذا لايجوز
وهذا كما يذكر عن أبي الهذيل العلاف أنه قال دخلت دار النظر وفيها يهودي قد ناظر قوما من المتكلمين في نبوة النبي صلى الله عليه و سلم فقال لهم الستم توافقوني على أن موسى رسول الله فقالوا بلى قال وأنا أخالفكم على أن محمدا رسول الله والمتفق على ثبوته خير من المختلف في ثبوته أو نحو هذا الكلام قال فقلت تعال ناظرني قال قد انقطع شيوخك معي فقلت ناظرني فأعاد حجته فقلت له من موسى الذي وافقك على ثبوته أموسى بن عمران الذي أنزل الله عليه التوراة التي فيها خبر محمد صلى الله عليه و سلم وموسى الذي بشر بمحمد صلى الله عليه و سلم وأخذ الله عليه الميثاق ليؤمنن به ولينصرنه وأخذ الميثاق على قومه ليؤمنن به ولينصرنه قال أبو الهذيل أو نحو هذا الكلام أم موسى الذي قال تمسكوا بالسبت مادامت السموات والأرض وذكر أن شريعته لاتنسخ أبدا أما الأول فإني أوافقك على ثبوته وثبوته مستلزم لنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وأما الثاني فلا أؤمن به ومثل هذا كثير في المناظرة
وقد ذكر هذا المؤسس أبو عبد الله الرازي في نهايته أنه لا يجوز الاحتجاج بهذه الالزامات كما تقدم بيانه وهو الاحتجاج بموافقته على مقدمة لمأخذ إن سلمت ذلك المأخذ بطل الاحتجاج بالمقدمة وإن لم تسلم المأخذ منعت المقدمة
وهكذا الأمر هنا فإن المنازع الذي يسلم لك أنه لا يجوز الافتراق والانحلال عليه إنما سلم لك ذلك لأنه صمد يجب أن يكون سيدا مجتمعا ويمتنع أنه يكون

متفرقا فإن كان هذا المأخذ صحيحا بطل احتجاجك بذلك على امتناع كونه مجتمعا وإن كان هذا المأخذ فاسدا لم يكن قد سلم لك امتناع الافتراق عليه فلا ينفعك هذا التسليم لافي النظر ولافي المناظرة وكان له أن يقول أنا لا أسلم لك امتناع الافتراق عليه لوجوب كونه صمدا والصمد يوجب الاجتماع وإن فرض أنه لا يقتضي الاجتماع فهو لا ينفي الافتراق أو لا ينفي الاجتماع والافتراق جميعا فإن أحدا من الناس لا يمكنه أن يدعي أن هذا الاسم يدل على نفي الاجتماع والافتراق جميعا أو على نفي الافتراق وحده إلا بناءا على أن المجتمع يفتقر إلى أجزائه ونحو ذلك مما تقدم الكلام عليه وأما القياس فلم يذكر حجة على امتناع الافتراق عليه فظهر أن هذا الذي ذكره ليس بحجة أصلا وهذا يتقرر
بالوجه الثالث وهو أن يقال لا ريب أن الله سبحانه مقدس منزه عن جواز الافتراق والتمزق عليه سبحانه لكن إقرار الفطر بذلك ليس بأعظم من إقرارها بتنزهه عن العدم والتلاشي بل علم القلوب بوجوب وجوده وامتناع عدمه أعظم من إقرارها بامتناع تفرقه وانحلاله وهي لما يستلزم عدمه أعظم نفيا منها لما يقال إنه يستلزم تفرقه وانحلاله وإذا كان كذلك فقد استقر في الفطر أن القول بكونه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العالم ولا يشار إليه ولا يمكن الاحساس به أدل على عدمه من دلالة كونه مجتمعا على جواز التفرق عليه فإن الأول عند عامة الناس بديهي فطري وأما الثاني فلا تمكن معرفته إلا بدقيق النظر إن كان صحيحا
وإن كان كذلك فالمتناظران في هذه المسألة يقول النافي فيها للمثبت كون ما نفيته من أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العالم ولا كذا ولا كذا

يستلزم عدمه إنما هو من حكم الوهم والخيال وأما كون وجوده فوق العرش يستلزم جواز الانحلال عليه فمعلوم بالقياس العقلي البرهاني والمثبت يقول أما لزوم ما ذكرته للعدم فمعلوم بالفطرة الضرورية العقلية وأما لزوم ما ذكرته أنا للانحلال فإنما هو شبهات مركبة من ألفاظ مشتركة وحينئذ فإن تحاكما إلى فطر العالم السليمة قضت للمثبت على النافي لأن إقرار الفطر بما يقول المثبت معلوم وإقرارها بما يقوله النافي غير معلوم
وإن تحاكما إلى المقاييس العقلية فيقال قول هذا الرازي وأمثاله المتقدم في مقدمته إن الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ومنهجا آخر وعقلا آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات إما أن يكون هذا الكلام حقا وإما أن يكون باطلا فإن كان حقا بطلت هذه الحجة وأمثالها مما بناه على الجوهر الفرد نفيا وإثباتا وعلى كون الأجسام توصف بالاجتماع والافتراق وإن الجواهر والأجسام متماثلة أو مختلفة لأن هذه الأمور كلها جسمانيات فالعقل الذي ينظر في هذه الأمور لا يجوز أن ينظر به في الالهيات وهذا المؤسس وأمثاله من هؤلاء المتفلسفة والمتكلمة إنما يتكلمون في التجسيم نفيا وإثباتا بالنظر الذي نظروا به في الجسمانيات المخلوقة فيكون كلامهم كله في ذلك باطلا ولهذا اعترف أساطين الفلاسفة أن كلامهم لا يفيد في الالهيات العلم واليقين وإنما ينظر فيها بالأولى والأحرى والأخلق وإن كان هذا الكلام باطلا لم يصح أن يبطل به ما استقر في الفطر استقرار ضروريا من أن رب العالمين فوق العالم وأنه يمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه
وهذا الكلام في غاية الانصاف فإن هؤلاء القوم يريدون أن يبطلوا

ما استقر في الفطر بما لا يصح إلا بما استقر في الفطر وبما هو دونه فإن كان ما استقر في الفطر حقا لم يكن لهم دفعه وإن كان باطلا لم يكن لهم الاحتجاج به على إبطال ما استقر في الفطر فإن هذا يكون قدحا في الأصل فإثبات الفرع والقدح في الأصل قدح في الفرع وهذه عادة القوم المخالفين للفطرة والشرعة ولهذا كلامهم كله كما قيل ... حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور ...
ومما يوضح هذا أن عامة الحجج التي احتج بها على نفي كونه جسما ونفي كونه على العرش مثل تماثل الأجسام وتماثل الجواهر ومثل كون الجسم المتناهي يقبل الزيادة والنقصان يكون ممكنا ومثل كون الجسم مركبا إما تركيب الصفات وإما تركيب المقادير مثل كون الصفة الواحدة لا تقوم بالجسم ومثل كون الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون ومثل كون تحيز الجسم أمر وجودي أو أمر عدمي ومثل كون الجسم أو البعد لابد وأن يكون متناهيا أو غير متناهي ومثل كون علو بعض الأجسام يستلزم أن يكون تحت قوم ومثل أن الجسم يجوز عليه الافتراق والانحلال ومثلما يأتي من كون الجهة أعلا من الشيء بل جميع ما يتكلمون به في هذا الباب من لفظ المتحيز والجهة والجسم والجوهر والاجتماع والافتراق والحركة والسكون سواء تكلموا به في صفات الباري نفيا وإثباتا أو تكلموا به في المخلوقات وصفاتها نفيا وإثباتا أو في أدلة حدوثها وإمكانها أو غير ذلك كل هذه الأمور إنما هو كلام في الجسم وأحكام الجسم وما يتبع ذلك
فإن كان هذا الكلام والعقل الذي به يعرف مثل هذا الكلام غير مقبول في العلم الالهي بطل جميع ما ذكره الفلاسفة والمتكلمون جميعا مما يتعلق بهذا وإذا بطل لم يصح أن ينفوا بمثل هذا الكلام ما علم بالفطرة ولا ما دلت عليه

الشريعة وهذا من أعظم المفاسد وحينئذ فلا يصح قولهم إنه ليس بجسم ولا متحيز ولا في جهة وأنه ليس فوق العالم يشار إليه
وإن كان مثل الكلام والعقل الذي به ينظر في الأجسام وصفاتها مقبولا في العلم الالهي بطلت مقدمته كلها وكان من أعظم العلوم في العقل أن الباري فوق العالم وأنه يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه بل يمتنع أن يكون شيء من الموجودات كذلك كما تقدم وهذا بين وله الحمد والمنة
وأما أن يخالفوا ما فطر الله عليه عباده وما أنزل به كتبه وأرسل به رسله بمقاييس لا تدل لهم إلا بمقدمات كثيرة مركبة لابد فيها من الاستدلال بما هو في الفطرة دون ما دفعوه أو مثله مع مافيها من الألفاظ المشتركة وغيرها فهذا لا يفعله إلا جاهل أو ظالم أو من جمع الأمرين بل هو من أعظم العالمين جهلا وظلما لكونه يتكلم في الله وأسمائه وآياته بمثل هذا العقل الفاسد وكان من أعظم المطففين في أصول الدين فإذا كان المطففون في الأموال قد قال الله تعالى فيهم ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين وقد جاء في الحديث الصلاة مكيال فمن وفى وفي له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين فكيف في أصول الدين بل في أعظم أبواب أصول الدين وهو الكلام في رب العالمين وأسمائه وصفاته يكون فيه هذا التطفيف والاخبار العظيم فيبطلون ما فطر الله عباده عليه وأنزل به كتبه بمقاييسهم ويمنعون غيرهم أن يحتج بها عليهم وهي عليهم أدل منها لهم وهذا من أعظم الجهل والظلم والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرا من عباده وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا

يقرر هذا أن الكلام في الشيء نفيا وإثباتا مسبوق بتصوره فليس للإنسان أن ينفي شيئا عن شيء أو يثبته له إلا بعد تصوره تصورا يمكن معه النفي والإثبات فإذا قال القائل عن موجود إنه جسم أو هو جوهر أو متحيز أو في جهة أو فوق العالم أو غير ذلك أو قال ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا فوق العالم أو قال إن له علما وقدرة أو حياة أو قال ليس له علم ولا قدرة ولا حياة فكل واحد من هذين لابد أن يتصور ما نفاه وما أثبته فمن أثبت لله سبحانه وتعالى أمرا من الصفات فإنما أثبته بعد أن فهم نظير ذلك من الموجودات وأثبت القدر المطلق مع وصفه له بخاصة تمتنع فيها الشركة ومن نفى عن الله شيئا من هذه الأمور فإنما نفى ما علم نظيره في الموجودات ونفى عن الله أن يكون له مثلما للمخلوق من ذلك لم ينف ما يختص به الرب مما لم يعلم نظيره فإن هذا لم يتصوره حتى يحكم عليه بالنفي
فالنافي لا ينفي شيئا قط إلا ما له نظير فيما أدركه لأن نفس المنفي ما علمه أصلا لأن النفي المحض لا يعلم بنفسه فإن النفس لا تباشر المعدوم حتى تشعر به وإنما تباشر الموجود وتقيس له نظيرا فينفي ذلك النظير عما هو منتف عنه مثل نفيها لجبل ياقوت وبحر زئبق ونحو ذلك بعد أن علمت البحر والزئبق والجبل والياقوت ثم قدرت معلوما مؤلفا من شيئين نظيرهما موجود ثم نفته وكذلك النفي عن الله من الشركاء والأولاد والنوم وغير ذلك يعلم وجوده في العالم ثم يقدر نظير هذا الموجود في حق الله تعالى في الذهن وينفي عن الله تعالى فأما نفيه قبل العلم به من جهة القياس فممتنع فإنه لا يكون معلوما ولا يعلم المعدوم إلا بنوع قياس فإذا كل ناف فلابد له من القياس على ما في الموجودات الجسمانية وأما المثبت فإنه وإن احتاج إلى نوع قياس فإنه يثبت معه الفارق الذي يقطع المماثلة بالأمور المخلوقة فهو وإن كان جامعا فمعه فارق أقوى من جامعه بخلاف الثاني فإن عمدته على الجامع وهو القدر المشترك الذي ينفيه

وإذا ظهر ذلك فيقال لارسطو الذي ذكر عنه هذا المؤسس الذي قال من أراد النظر في العلم الالهي فليحدث لنفسه فطرة أخرى وقد قرره المؤسس بأن الانسان إذا تأمل في أحوال الاجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ونهجا آخر وعقلا آخر بخلاف العقل الذي به اهتدى إلى معرفة الجسمانيات أنت يا معلم هؤلاء الصابئة الفلاسفة المبتدعين لما تكلمت في أقسام العلم بالمقولات العشر وهي الجوهر وأعراضه التسعة الكم والكيف والاضافة والأين ومتى والوضع وأن يفعل وأن ينفعل والملك فهذا وإن كلاما في الوجود المطلق الذي قد يقولون إنه العلم الأعلى وهو الناظر في الوجود ولواحقه من حيث هو وجود ومنه العلم الالهي وهم يجعلون العلم الالهي يعم هذا كله فهذا نزاع بينكم فهذه المقولات العشرة إذا أثبتها للعقول والنفوس ونفس الانسان ونفيتها عنها أو نفيت شيئا منها أو نفيتها عن واجب الوجود أو أثبتها أو شيئا منها له أتحكم في هذا النفي والاثبات بالفطرة التي علمت بها هذه الأمور أم بفطرة أخرى فإن قال بفطرة أخرى كان هذا اعترافا بان الفطرة التي يحكم فيها على الشيء بنفيه وإثباته غير الفطرة التي يتصور بها الشيء فتكون فطرة التصديق غير فطرة التصور ومن المعلوم أن الحاكم بالتصديق العالم به الناطق به إن لم يكن هو العالم بالتصور المدلول له الناطق به كان حكمه باطلا فيلزم أن يكون جميع ما ذكروه في العلم الالهي باطلا لكون الحاكم بالتصديق فيه ليس هو المتصور
وإن قلتم بل بالفطرة التي عرفت بها هذه الأمور يحكم بنفيها وإثباتها بطلت تلك القعقعة التي تشبه قعقعة الشنان التي يقعقع بها للصبيان لتخوفوا بما لا حقيقة له عند الانسان وعلم إنما خالفتم به الفطرة والشرعة فكله هذيان بل من

الافك والبهتان و الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذي قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وليس هذا موضع استقصاء الكلام في هذا وإنما الغرض التنبيه على تناقض هؤلاء وابطال حججهم
وحينئذ يقال في
الوجه الثالث قوله إنه إذا كان على العرش وكان عظيما فلابد أن يكون له جانبان جانب عن يمين العرش وجانب عن يساره ويكون أحدهما غير الآخر العلم بهذا إما أن يكون من العقل الجسماني ومقتضى الحس والخيال أو لا يكون فإن كان من هذا القسم وهو مقبول نظيره وما هو أولى منه فتبطل هذه الحجة لأن هذا العقل يحكم بأن الموجود لابد أن يكون داخل العالم أو خارجه وإن لم يكن مقبولا بطلت هذه الحجة
وإن قيل إن هذا ليس من حكم العقل الجسماني ومقتضى الحس والخيال وهو قد حكم بأن الموجود العظيم الذي فوق غيره لابد أن يكون جسما يتميز منه

جانب عن جانب بأن يقال إن الحكم بأن الموجود إما أن يكون داخل العالم أو خارجه وأنه يمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه أولى بأن لا يكون من حكم العقل الجسماني ومقتضى الحس والخيال لأن الحكم الأول فيه تصريح بأنه جسم فإن كان الحكم بأن الشيء جسم ليس من مقتضى العقل الجسماني ومقتضى الحس فالحكم بما لم يصرح فيه بالجسم بل حكم فيه على الوجود مطلقا أولى بذلك ولهذا يكون مثل هذا الحكم من العلم الأعلى عندهم ومن العلم الالهي وأما الأول ففيه نوع من العلم الطبيعي الجسماني قطعا
الوجه الرابع أنه إذا كان جسما فأنت قد ذكرت في نهايتك النزاع بين الناس في الجسم هل هو في نفسه واحد أو منقسم بعد اتفاقهم على قبولية الانقسام وهي مسألة الجوهر الفرد فقلت في مسائل المعاد المسألة الأولى في الجزء الذي لا يتجزأ لاشك في أن الأجسام التي شاهدناها قابلة للانقسامات والانقسامات التي يمكن حصولها فيها إما أن تكون متناهية أو لا تكون فيخرج من هذا التقسيم أربعة أقسام أولها أن الانقسامات حاصلة وتكون متناهية ثانيها أن تكون حاصلة وتكون غير متناهية وثالثها أن لا تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها يكون متناهيا ورابعها أن لا تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها يكون غير متناهيا قال والأول مذهب جمهور المتكلمين والثاني هو مذهب النظام والثالث هو مذهب بعض المتأخرين وهذا الذي أشار إليه هو الشهرستاني والرابع هو مذهب الفلاسفة
قال فتخلص من هذا أن الخلاف بيننا وبين الفلاسفة في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن الجسم مع كونه قابلا للانقسام هل يعقل أن يكون

واحدا وثانيهما أنه بتقدير أن يكون هل يعقل أنه يكون قابلا للانقسامات الغير متناهية قال فنحن نتكلم في كل واحد من القسمين ثم نذكر بعده شبه النفاة ونتكلم عليها
قال والمعتمد في أن يكون قابلا للانقسام لابد أن يكون منقسما هو أن وحدة الجسم إما أن يكون غير كونه جسما أو جزءا داخلا فيه أو أمرا خارجا عنه فإن كان الأول أو الثاني لزم أن يكون تفريق الجسم إعداما له وذلك محال وإن كان الثالث كانت الوحدة صفة قائمة بالجسم والعرض لا يحدث في المحل ولا يحصل فيه إلا إذا كان المحل متعينا متميزا عن غيره ولا يعقل من وحدته إلا تعينه وفي نفسه وتميزه عن غيره فيلزم أن يكون قيام الوحدة بالجسم متوقفا على كون الجسم واحدا ثم الكلام في تلك الوحدة كالكلام في الأول ويلزم التسلسل وهو محال وبتقدير إمكانه فلابد أن ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى وإلا لم تكن الذات موصوفة بالوحدة أصلا وذلك هو المطلوب
فهذا الدليل الذي ذكره على امتناع أن يكون شيء من الأجسام واحدا أو على امتناع أن يكون شيء من الموجودات واحدا ومعلوم أن ذلك خلاف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين بل إجماع العقلاء قال الله تعالى وإن كانت واحدة فلها النصف وقال ذرني ومن خلقت وحيدا والقول بأن هذا واحدا من الانسان الواحد والحيوان الواحد والشجرة الواحدة والدرهم الواحد من أشهر الأمور عند العامة والخاصة من أعرف الأمور عند بني آدم وهو من أوائل العلوم البديهية الحسية عندهم وهو علم العدد أن الواحد نصف الاثنين

فلو لم يكن في الأجسام ما يوصف بأنه واحد والناس لم يشهدوا إلا لأجسام مع أن العلم بأن الواحد المطلق نصف الاثنين موقوف على أن الواحد في الخارج نصف الاثنين إذ العلوم الكلية الذهنية مسبوقة بالعلوم المعينة الوجودية فلو لم يكن في الأجسام ما هو واحد امتنع حكم الذهن بأن الواحد نصف الاثنين وهذا من أوائل العلوم البديهية التي يضرب بها المثل في النظر والمناظرة فيكون احتجاجه على أن الجسم لا يكون واحدا في مقابلة ذلك فيكون من أفسد حجج السوفسطائية لقدحها في أظهر الأمور الحسية اليديهية
ثم يقال هذه الحجة تستلزم أن لا يكون الله واحدا ولا يكون الجوهر الفرد واحدا إلا به ثم يقال في وحدة ذلك مثل ما قلته في وحدة الجسم وذلك يستلزم أن تكون الوحدة بالذات وبالجوهر الفرد متوقفا على كونه واحدا فالكلام في تلك الوحدة كالكلام في الأولى وذلك يستلزم التسلسل وهو محال
وإذا كانت هذه الحجة تستلزم هذا الكفر فهي تستلزم أيضا نقيض المطلوب لأن المقصود بنفي وحدة الجسم اثبات تركيبه من الأجزاء المفردة التي كل منها واحدا فإذا نفيت وحدة الجوهر الفرد استلزمت إبطاله وإذا بطل الجوهر الفرد امتنع كون الجسم مركبا من الجواهر المنفردة فيلزم أن يكون واحدا فصارت هذه الحجة المذكورة لنفي وحدة الجسم مستلزمة لوحدته ونافية لوحدة الجوهر الفرد أيضا وكل هذا تناقض
ثم من العجب تولك بعد أن ثبت أن الوحدة تستلزم التسلسل وهو محال ثم قلت وبتقدير إمكانه فلابد أن ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط

وحدة أخرى وإذا كانت الوحدة مستلزمة للتسلسل المحال فكيف يكون تقدير امكانه مبينا لك جواز اتصاف شيء بالوحدة من غير توسط وحدة أخرى
وكذلك من العجب قولك فلابد وأن ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى وإلا لم تكن الذات موصوفة بالوحدة وهو المطلوب فليس هذا هو المطلوب لأن هذا الذي قدرته مع قولك إنه محال يفيد أن الذات توصف بالوحدة مع غير أن تتوقف هذه الوحدة على وحدة أخرى للذات وهذا لم ينازعك فيه أحد ولا ينفي وحدة الجسم فإن وحدة الجسم ليست موقوفة على وحدة أخرى تقوم بالجسم غاية ما في هذا الباب أن وحدة الجسم معها وحدات أخر تقوم بالجوهر إذا أفردت وهذه الوحدة ليست شرطا في ثبوت الأولى ولا هي سابقة عليها ولا تلك متوقفة عليها ولا هي وحدة الجسم التي وصفت بها الأولى والتسلسل الذي ذكرته إنما يمنع أن تكون وحدة الشيء متوقفة على وحدة أخرى لذلك الشيء وليس الأمر كذلك هنا لكن مع وحدة الجسم وحدة كل موصوف بالوحدة من الأجسام والجواهر وغير ذلك والموصوف بأنه واحد إذا كان مستلزما إمكان أن ينقسم إلى ما يوصف بأنه واحد لم يكن وحدة موقوفة على وحدة أخرى تقوم به فليتدبر اللبيب كيف ذكر الحجة التي مضمونها نفي كل وحدة في العالم واحالتها ثم أخذ ثبوت الوحدة مسلما وادعى أن ثبوت الوحدة بلا واسطة ينفي وحدة الجسم وكلاهما عجب نفي الوحدة مطلقا ودعوى أن الوحدة بلا واسطة وحدة أخرى ينفي وحدة الجسم
ثم يقال عن هذه الشبهة الفاسدة الباردة تعين الواحد جسما كان أو غيره وتميزه عن غيره لا يخلو إما أن تكون هي وحدته أو لا تكون فإن لم يكن هو وحدة الجسم بطل قولك لا نعقل من وحدته إلا تعينه في نفسه وتميزه عن غيره فبطلت الحجة وإن كان هو وحدته بطل قولك لا تحصل فيه

الوحدة إلا إذا كان متعينا متميزا عن غيره تعنى قبل ذلك وحينئذ فقد بطلت الحجة أيضا فسواء كانت الوحدة هي التعين والتمييز أو كانت غيره لم يلزم أن يكون قيام الوحدة بالجسم متوقفا على وحدة أخرى وهذا ظاهر وسواء كانت الوحدة أمورا وجوديا أو عدميا فليس المقصود هنا بسط الكلام على هذا
وإنما الغرض التنبيه على أن ما يستدل به على أن الجسم فيه انفسام وتركيب وكثرة وأنه ليس بواحد من أفسد الحجج فإنه قد بنى على هذا الأصل الفاسد كثيرا من تجهمه وتعطيله الذي جحد فيه حقيقة أسماء الله وصفاته وما هو عليه في ذاته
أما كون الجسم قابلا للانقسامات التي لا تتناهى أو غير قابل فهذا ليس لنا فيه هنا غرض وهو احتج على نفي ذلك بالحركة وأنها موجودة في الحاضر وإلا لم تكن موجودة في الماضي والمستقبل وأن وجودها الحاضر لا ينقسم وإلا لكان الحاضر ماضيا ومستقبلا وإذا لم تنقسم الحركة إلى غير نهاية لم تنقسم المسافة التي تكون الحركة عليها فلا يكون في الجسم الذي هو مسافة انفسام لا يتناهى
وعارض ذلك بعشرة أوجه مثل تميز اليمين عن الشمال وانقسام الجزء الموضوع على جزئين وغير ذلك من الوجوه ثم قال في الجواب وأما المعارضات التي ذكروها فاعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري وهو أحذق المعتزلة توقف فيها فنحن

أيضا نختار التوقف فإذن لا حاجة إلى الجواب فهذا نقوله في الانقسام الممكن هو متوقف فيه ونقول وقوله في نفي وحدة الجسم وثبوت الانقسام الحاصل قد ظهر فساده لكل أحد
وإذا كان الأمر كذلك فقوله لو كان على العرش لكان منقسما مركبا أو لو كان جسما منقسما مركبا أو لو كان على العرش لكان عظيما ولكان منقسما مركبا إلى الأجزاء قد تبين فساده وظهر أن قوله إذا كان عظيما فلابد أن يكون أحد جانبيه غير الآخر ويكون على هذا التقدير ذات الله مركبة من الأجزاء كلام باطل لم يقرر تركيبا موجودا في الأجسام المشاهدة ولا أن فيها أجزاء موجودة بل ادعى فيها ما يضحك عليه الصبيان
وأما قبولها للتجزئة إلى غير غاية فقد توقف فيه فأكثر ما يبقى معه أن الجسم وإن كان واحدا لكنه يقبل التجزية إلى حد محدود وهذا قول الشهرستاني مع أنه يستخف بهذا القول أحيانا وقد اضطر إلى موافقته لكن هذا أكثر ما فيه أنه يمكن في الجسم من حيث الجملة أن ينقسم بمعنى أن ذات الجسم من حيث هو جسم لا تكون مانعة من الانقسام وهذا حق فإن من الأجسام ما ينقسم حقيقة فلو كان حقيقة الجسم مانعة من الانقسام لم يصح الانقسام على شيء من الأجسام لكن هذا لا يثبت له قبول كل جسم للانقسام فضلا أن يكون العلي العظيم الكبير المتعال الذي هو على عرشه العظيم مركبا من الأجزاء كما ادعاه فإنه إذا كان الجسم واحدا وقبول القسمة لم يثبت إلا لبعض الأجسام لم يلزم أن يكون رب العالمين منقسما ولا قابلا للقسمة فلا يكون مركبا من الأجزاء لا الأجزاء الموجودة ولا الأجزاء المقدرة الممكنة ثم إذا كان في الأجسام المشهودة قد اضطربوا أو تحيروا في تركيبها وانقسامها وعدوا ذلك من محارات العقول كيف

يصح منهم الحكم على رب العالمين بمثل هذه الأمور نفيا وإثباتا وهذا بين ولا حول ولا قوة إلا بالله
الوجه الخامس أن يقال هب أنه يلزم أن يكون فيه أجزاء وأبعاض بمعنى أن فيه ما يميز منه شيء عن شيء كما أن الفلك يتميز منه شيء من شيء وجانب من جانب وهذا هو المعني بالتركيب من الأجزاء فهذا يكون بمنزلة الصفات القائمة من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وسائر الصفات
فقولك في تلك الأمور التي سميتها أجزاءا إما أن تكون متماثلة أو مختلفة فيقال لك مثله في الصفات التي سمتها نفاة الصفات كابن سينا وغيره أجزاءا ويقولون واجب الوجود ليس فيه أجزاء لا أجزاء حد ولا أجزاء كم وإن كانت هذه تسمية باطلة كما قررناه في غير هذا الموضع فتسميته أيضا تشبيها كما قد قررناه والنزاع هنا ليس في اللفظ بل في المعنى
فيقال لك في تلك الصفات إن كانت متماثلة وجب أن تقوم كل صفة مقام الأخرى فيقوم العلم مقام القدرة والحياة مقام الكلام وهذا باطل
وإن كانت مختلفة فكل صفة تشارك الأخرى في كونها صفة وتفارقها في خصوصيتها وما به الاشتراك غير ما به الافتراق فتكون كل صفة مركبة من جزئين جزء به الاشتراك وجزء به الامتياز ثم كل واحد من ذينك الجزئين يشارك غيره في جزء ويفارقه في جزء وهلم جرا فالقول في تركب كل مركب من جزئين وتركب كل جزء من جزئين يعم ما يقال إنه مركب تركيب المقدار والكم وما هو مركب تركيب الصفة والكيفية فإن أوجب أحد التركيبين الانحلال إلى ما تركب فيه أوجبه الآخر وإلا فلا

وحينئذ فيعارض ما ذكرته في تركيب المقدار مثله سواء فيقال لك إن لم يوجب التركيب الانحلال إلى ما تركب فيه لم يجب فيه ذلك في الموضعين فبطلت الحجة وإن أوجب ذلك بانحلال المقدار إلى جزء لا تركب فيه فانحلال الصفة إلى جزء هو صفة لا تركب فيها
وإذا قيل في أجزاء المقدار إنها متماثلة وإلا كانت مركبة قيل في أجزاء الكيفية إنها متماثلة وإلا كانت مركبة وإذا قيل إن تماثلها يوجب أن يجوز على كل واحد ما يجوز على الآخر قيل إن تماثل تلك يوجب أن يجوز على كل واحد ما يجوز على الآخر وحينئذ فيجب أن يوصف العلم بما توصف به القدرة وتوصف الحياة بما يوصف به الكلام ويسد كل منهما مسد الآخر وهذا مع أنه محال فذلك يستلزم جواز الاكتفاء بصفة عن سائر الصفات وذلك يستلزم عدم وجوب هذه الصفات للذات وهذا أبلغ مما ألزمه في المقدار من جواز انحلال الذات وتفرقها فإن عدم كيفيات الموجود أو الجسم أبلغ في عدمه وتلاشيه من تفرق أجزائه ولهذا كثير من الأجسام يفرق ثم يجتمع كما يتفرق الماء ثم يجتمع وأما إذا بطلت كيفيته مثل بطلان المائية والنارية فإنه يكون فاسدا مستحيلا
وهذا وإن كان إلزاما لمن يثبت الصفات فهو لازم لكل أحد أيضا فإنه لابد في إثبات وجود ووجوب ونحو ذلك وأي معنى أثبت جعل فيه نظير هذا التركيب وهذا لازم لابن سينا ونحوه من الملاحدة أيضا فإنه يقال في الوجود والوجوب إن الموجود يشارك غيره من الموجودات في مسمى الوجود ويفارقها في خصوصه والوجوب بالذات يشارك الوجوب بالغير في مسمى الوجوب ويفارقه في كونه بالذات وكذلك يقال في العاقل والمعقول والعقل والعناية وكونه فاعلا أو مبدءا أو علة أو غير ذلك إذ لابد لكل من أثبت موجودا

من أن يثبت وجودا واجبا ويلزمه فيه هذه اللوازم وقد بينا هذا فيما تقدم
وابن سينا كان من الملاحدة وكان أبوه من دعاتهم وذكر أنه بسبب ذلك اشتغل فيما اشتغل به من علوم الفلاسفة الصابئة الأوائل فإن أصول الملاحدة مبنية على ما أخذوه من هؤلاء الصابئة وما أخذوه من المجوس وهؤلاء الصابئة المبتدعون يقولون أن العالم متولد عن الله والمجوس يجعلون له شريكا في خلقه فالطائفتان كما قال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فإن المجوس تجعل ابليس وهو أصل الظلمة هو شريك النور في التخليق فيجعلون الجن شركاءه وليس هذا موضع بسط ذلك ولكن ننبه على أن كتاب الله لما كان دعوة لجميع الخلق ففيه تفصيل كل شيء وهو الحاكم بين جميع الناس فيما اختلفوا فيه
ولهذا أراد النصير الطوسى ونحوه من ملاحدة المسلمين واليهود على أن يضعوا للدولة الكافرة المشركة الجاهلة دولة هولاكو عقيدة واتفقوا على أن تكون عقيدة ابن سينا ولهذا كانت الملاحدة تميل إلى هؤلاء المشركين كثيرا وكان ملكهم هولاكو يقرب الملاحدة ويستعين بهم على المسلمين لما عرف مباينتهم في الباطن للاسلام وأهله مع منافقتهم لهم في الظاهر
الوجه السادس قوله إن تلك الأجزاء إما أن تكون متماثلة الماهية أو مختلفة الماهية يقال قد تبين أن ما ذكرته لا يستلزم أن تكون هنا أجزاء

موجودة وغاية ما يلزم ما ذكرته تمييز شيء عن شيء وجانب عن جانب والذي يكون كذلك يقال في صفاته ما يقال فيه فإذا قيل إنه مع أنه واحد فهو ذو أبعاض يتميز منه شيء من شيء فكذلك يقال في صفاته القائمة به وفي حيزه وفيما يلاقيه ففي الجملة متى فرض تميز شيء منه عن شيء وقيل إن ذلك أبعاض ولكل بعض خاصة تميز بها ثم يقال وسواء كان هناك أجزاء وأبعاض موجودة يتميز بعضها عن بعض أو لم يكن
فإذا قيل كل بعض إما أن يماثل الآخر أو لا يماثله قيل إن أردت بالمماثلة أن يقوم مقامه فيما يختص بعينه فلا يكون في العالم شيئين متماثلين وإن أردت بالتماثل أن يقوم مقامه فيما يكون لنوعه لا لعينه قال لك المنازع إنها متماثلة وإذا قال ذلك لم يجز أن تقول فيصح أن يكون الملاقي مباعدا والمباعد ملاقيا لأن ذلك الملاقي من صفات عينه مجاورته لما جاورته وحيزه المعين وتلك الصفة لا يقوم فيها غيره مقامه وإن كان مثله كما تقدم فلا يلزم من كونهما متماثلين إن يصير الملاقي مباعدا والمباعد ملاقيا
وقولنا المثلان يصح على كل منهما ما صح على الآخر إنما هو فيما ليس في خصائص العين والملاقاة والمباعدة من خصائص العين فإن الملاقي إذا صار مباعدا خرج عن حيزه المعين وعن أن يكون ملاقيا لما كان ملاقيا له ووجب أن يصير ملاقيا لغيره وكذلك المباعد وحينئذ فتختلف صفات عينه بالتفريق فلا يكون ذلك لازما لكونهما مثلين فلا يلزم من التماثل ذلك
الوجه السابع أن يقال هذه التي سميتها أجزاءا سواء كانت أجزاءا مقدرة أو هي متميزة تميزا حقيقيا لا يخلو إما أن تريد بكل واحد منها الجزء الذي

لا يتجزأ وهو الجوهر الفرد أو ما هو أكبر من ذلك فإن أردت بالأجزاء الجواهر المنفردة وقد قلت إما أن تكون متماثلة الماهية أو مختلفة فيقال لك هب أنها مختلفة في الماهية ما الذي يلزم قولك و القسم الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء مختلفة في الماهية فنقول كل جسم مركب من أجزاء مختلفة الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرءا عن هذا التركيب يقال هذا باطل على هذا التقدير لأن كل واحد من تلك الأجزاء المختلفة الماهية إذا كان جزءا لا ينقسم وهو الجوهر الفرد امتنع حينئذ أن يكون مركبا وأن يتحلل إلى أجزاء أخر فإنه لا تركيب فيه بحال أكثر ما يمكنك أن تقول فيه ما قلته في الأجزاء التي يتحلل إليها من لزوم مماسته بيمينه شيئا وبيساره شيئا آخر لكن يقال لك هذا أولا في الجزء الذي لا ينقسم
وقولك لكن يمينه مثل يساره إلا لكان هو نفسه مركبا وقد فرضناه غير مركب كلام متناقض ينقض بعضه بعضا فإنه إذا كان له يمين ويسار كان مركبا
وقولك يمينه مثل يساره والمثلان غير أن يقضى أن فيه غير أن وهذا تركيب أيضا وتماثل جانبيه لا يخرجه عن أن يكون مركبا فقولك وقد فرضناه غير مركب تناقض
وكذلك قولك ودعواك أنه تماثل يمينه يساره وإلا لكان هو نفسه مركبا يقتضي أنه مع تماثل جانبيه يكون غير مركب ومع عدم تماثلهما يكون مركبا وليس الأمر كذلك بلا نزاع
وأيضا فإنه على هذا التقدير الأجزاء مختلفة في الحقيقة وإذا كانت مختلفة في الحقيقة لم يلزم أن يجوز على كل واحد منها ما جاز على الآخر بل يمتنع تساويهما

فيما يجب ويجوز ويمتنع فلو وجب أن يقوم كل منها مقام الآخر لكانت متماثلة والتقدير إنها مختلفة هذا تناقض فعلم أنه يمتنع مع كون الأجزاء غير منقسمة وهي مختلفة في الحقيقة أن يقوم بعضها مقام البعض وحينئذ فيبطل لزوم تفرقها
بل يقال إذا كان تفرقها يوجب قيام بعضها مقام بعض امتنع تفرقها مع كونها مختلفة لأن الحقائق الختلفة يمتنع أن يقوم بعضها مقام بعض هذا إن أراد بالأجزاء الجواهر المنفردة وهو المفهوم من اطلاقه
وإن أراد بالأجزاء الأجزاء الكبار قيل
الوجه الثامن وهو أن المعنى أنه مركب من أجزاء كبار بحيث يلزم إذا كانت مختلفة أن يكون الجزء منها ينحل إلى أجزاء لا تنقسم وقد قلت إما أن تكون متماثلة أو مختلفة فيقال لك نقدر إنها متماثلة وهي وإن كانت متماثلة في الصفة فلها قدر في نفسها ليست أجزاء منفردة إذ التقدير كذلك وإذا كانت كذلك لم يلزم أن يكون الطرف منها وسطا لأن الطرف يكون غير منقسم وغير المنقسم لا يسد مسد الجزء الكبير الذي قد ينقسم وإذا لم يكن كذلك لم يلزم جواز تباعد المتلاقيين وتلاقي المتباعدين لتباين مقاديرهما واشكالهما وإن الذي يقوم مقام غيره لابد أن يكون مساويا له في الصفة والقدر جميعا لاسيما وعلى هذا التقدير فيمكن أن يكون بعضها أكبر من بعض لأنه أكثر ما يلزم أن يكون كل جزء منها يمكن انقسامه ليصح الحكم عليها بالتحليل إلى الذي لا ينقسم حتى يتوجه كلامه في القسم الثاني وإذا لم يجب إلا ذلك لم يلزم تساويها في المقدار وإذا لم يلزم تساويها في المقدار لم يجب أن يقوم بعضها مقام بعض فلا يلزم جواز التفرق والانحلال فحاصله أن هذه الأجزاء إن قدرها

منقسمة جاز اختلاف مقاديرها وأحكامها فلم يلزم قيام بعضها مقام بعض وعلى التقديرين يبطل ما ذكره من لزوم التفرق والانحلال
الوجه التاسع أن يقال الذات التي هي واجبة الوجود بنفسها وصفاتها لازمة لها لا يجوز أن توصف بما توصف به الذات الممكنة الجائزة وذلك لأن الأجسام المخلوقة لها أبعاض وصفات فيجوز أن الله يفرق بين أبعاضها ويجوز أن يزيل صفاتها عنها كما يجوز أن يعدمها والله سبحانه وتعالى لا يجوز عليه العدم ولا يجوز أن تفارقه صفاته الذاتية فبتقدير أن يكون على العرش وهو عظيم يتميز منه جانب عن جانب ويكون ما هو داخل في مسمى اسمه من الأمور اللازمة التي لا يجوز أن تفارق ذاته ويكون ما هو موصوف به من الاجتماع والاتصال أمرا واجبا لذاته لأنه الصمد كما تقدم وهذا ظاهر
وإن كان واجبا فبتقدير تماثل الأبعاض مع هذا لا يستلزم جواز التفرق لأن وجوب الاجتماع والاتصال يوجب أن يكون مكان كل واحد وحيزه داخلا في عينه الحاصلة والمثلان لا يجب أن يوصف أحدهما بما يوصف به خصوص عينه ولأن الموجب للاجتماع والاتصال ما تستحقه الذات من وجوب وجودها بصفاتها اللازمة وإذا كان كذلك فصار المتلاقيان متباعدين والمتباعدين متلاقيين بغير اجتماع الذات واتصالها عما كان عليه فلم يقم أحدهما مقام الآخر ولا يسد مسده فلا تكونان مثلين
وهذا يتقرر بالوجه العاشر وهو أن يقال هب أن الأجزاء متماثلة فقولك والمثلان يصح على كل واحد منهما ما يصح على الأخر فعلى هذا يلزم القطع بأنه يصح على المتلاقيين أن يصيرا متباعدين وعلى المتباعدين أن يصيرا

متقاربين وذلك يقتضي جواز الاجتماع والافتراق إنما يكون كذلك لو كانا بعد تغيرهما بالتباعد والتلاقي يبقى تماثلهما وليس كذلك بل إذا تفرق أجزاء الذات المجتمعة تغيرت الأجزاء ولم تبق بعد الافتراق كما كانت حال الاجتماع وهذا مشهود في الأجرام المخلوقة فإن اجتماع بعضها ببعض يوجب لها من القوة وغيرها من الصفات ما لا يوجد عند الافتراق حتى إن من أحكامها واحكام الذات التي هي أبعاضها ما لا يصح إلا عند الاجتماع والتفرق يبطل ذلك وإذا كانت بالتفرق تخرج عما كانت عليه حين الاجتماع لم يلزم من تماثلها جواز تفرقها لأن التفرق يخرجها عن المماثلة فيكون إذا كانت متماثلة وجب أن تصير غير متماثلة
يقرر هذا الوجه الحادي عشر وهو أن كل جسم مؤلف هو يشتمل على جواهر منفردة كما ذكر وهي متماثلة كما ذكر والمثلان يصح على كل واحد منهما ما صح على الآخر فيقال لا يخلو إذا تفرقت هذه الأجزاء أن تكون حين افتراقها كما كانت حين اجتماعها أو لا تكون فإن كانت كذلك لزم أن يكون كل جسم في العالم إذا افترقت أجزاؤه إلى الجوهر المنفرد أن يكون حال تلك الجواهر حين ما كانت متصلة وهي تلك الذات كحالها حين تفرقها وفساد هذا معلوم بالحس والبديهة فإن الجسم ليس هو إلا تلك الجواهر وتركيبها فإذا فرض أن حالها مع زوال التركيب كحالها مع التركيب وجب أن تكون موصوفة حال افتراقها بما كانت موصوفة به حال اجتماعها وهذا معلوم الفساد بالحس والبديهة لأن عامة الأجسام إذا تفرقت أجزاؤها بطل عامة صفاتها وأحكامها
وإذا كانت حين افتراقها بخلاف ما كانت حين اجتماعها لم يلزم من تماثلها جواز افتراقها لأن ذلك يقتضي اختلاف حالها وليس الشيء إلى مثله

بأقرب منه إلى نفسه فإذا كان الشيء إذا خالف غيره بشيء لم يجب أن يكون مثله فالشيء الواحد إذا وجب بانتقاله من حيز إلى حيز اختلاف حقيقته أن لا يجب ذلك فيه بطريق الأولى
وحينئذ فيقال الوجه الثاني عشر وهو أن تماثلها يوجب اشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع عليها والواحد منها يمتنع عليه أن يفارق عينه لأن ذلك يقتضي استحالته وتغيير حقيقته والواجب الوجود لا يجوز عليه ما يفضي إلى استحالته وتغيير حقيقته فإذا مع تماثلها يجب اشتراكها في امتناع استحالتها وتغيير حقيقتها وذلك يقتضي تماثلها في امتناع الافتراق عليها لأن الافتراق يبطل حقيقتها
وهذا يظهر بالوجه الثالث عشر وهو أن صفات الجسم المخلوق وأعراضه يجوز أن يرفعها الله تعالى فإن اقتضى ذلك استحالته وتغير حقيقته لأن الله تعالى قادر على ذلك ولا محذور فيه وأما صفات الرب كحياته وعلمه وقدرته فلا يجوز أن تفارق ذاته لأن ذلك يلزم استحال الرب وتغير حقيقته وذلك محال فزوال صفاته الذاتية محال ولا يلزم إذا كان غيره من الموجودات يجوز أن تفارقه صفاته أن يقال في حق الله تعالى يجوز أن تفارقه صفاته وكذلك إذا كان غيره من ذوات الأقدار يجوز أن تتفرق أبعاضه لأن ذلك يقتضي تغير حقيقته وهو محال وإذا قيل الأبعاض متماثلة كان هذا مما يوجب اشتراكها فيما يمتنع عليها من العدم وتغير الحقيقة كما أن الصفات مشتركة في ذلك وإن كانت غير متماثلة فالأبعاض المتماثلة أولى بالاشتراك في ذلك
الوجه الرابع عشر أن يقال قولك أما ثم تكون متماثلة الماهية أو مختلفة الماهية تقسيم غير حاصر لأن التماثل والاختلاف فرع التغاير ونحن لا نسلم أن

الواحد منها يقال إنه عين الآخر حتى يقال إنه مثله أو خلافه بل لا يقال إنه غيره لا مثله ولا خلافه ولا يقال هو هو كما يقوله كثير من الصفاتية أو أكثرهم في العلم والقدرة والحياة أن أحدها وإن لم يكن عين الآخر فلا يقال إنه غيره ولا أنه مثله ولا خلافه لأن التماثل والاختلاف فرع التغاير فإن الغيران إما أن يكونا مثلين أو خلافين والخلافان إما أن يكونا ضدين أو خلافين غير ضدين وإذا كان كذلك فالمتغايران ما يجوز وجود أحدهما دون الآخر ولا ينقض هذا بالخالق والمخلوق فإن الله يجوز وجوده بدون المخلوق وصفات الحق لا يجوز وجود بعضها دون بعض فلا تكون متغايرة ولا توصف بتماثل ولا اختلاف
الوجه الخامس عشر هب أن يقال إنها غير متماثلة بل هي مختلفة أو بعضها يختلف وبعضها غير مختلف حيث وردت النصوص بأسماء تقتضي حقائق غير متماثلة كقوله تعالى ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي وقوله ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام وقوله ولتصنع على عيني وقول النبي صلى الله عليه و سلم
المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين وقوله
يقبض السموات بيمينه والأرض بيده الأخرى وفي رواية في الصحيح والأرض بشماله إلى سائر ما ورد في هذا الباب مما يطول وصفه فأما أن يجب تحللها إلى أجزاء متماثلة أو لا يجب فإن وجب ذلك جاز على كل شيئين مختلفين أن يصيرا متماثلين بل وجب منهما أن يكونا متماثلين فإنه إذا وجب تحللها إلى الأجزاء المتماثلة التي يجوز على كل واحد منهما ما يجوز على الآخر فقد وجب أن يجوز على أجزاء كل واحد ما جاز على أجزاء الآخر ومن الجائز على أجزاء كل واحد التباعد والتلاقي كما ذكره فيجب فيه جواز تفرق أجزائه وجواز أن يسد كل واحد منهما مسد الآخر

وذلك يستلزم أن يجوز على كل مختلفين أن يكونا متماثلين وإذا جاز على المختلفين أن يكونا متماثلين فقد اشتركا في أنه يجوز أن يجب ويمتنع ويجوز على أحدهما ما جاز على الآخر فإذا اشتركا في جواز ذلك لزم من ذلك محالات منها أن يشتركا في جواز الممتنع والجائز لا يكون ممتنعا بل هو نقيضه فيكونا قد اشتركا في جواز النقيضين عليهما
وأيضا فإنه إذا جاز على أحدهما ما يجوز على الآخر ووجب ما يجب له وامتنع عليه ما يمتنع عليه ولو بواسطة يتماثلان فيها لزم أن يكونا متماثلين وذلك يقتضي أن يكون كل مختلفين متماثلين وهذا قلب للحقائق وتبديلها وهو من أعظم السفسطة وهذا على أصله لازم من وجه آخر فإن عنده جميع الأجسام متماثلة فإذن ليس في الأشياء التي لها أجزاء أشياء مختلفة بحال فقوله تلك الأجزاء إما أن تكون متماثلة أو مختلفة إنما هو تقدير وإلا فعلى أصله لا تكون متماثلة ليس في الأجسام عنده ما هو غير متماثل وإن كان في هذا من السفسطة ومكابرة الحس والعقل ما فيه مع مخالفة النصوص من القرآن التي تثبت عدم تماثل الأجسام كقوله تعالى يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ونحو ذلك مما تقدم ذكره وإن لم يجب تحللها إلى أجزاء غير منقسمة بطل ما ذكرته
الوجه السادس عشر يقال قوله كل جسم مركب من أجزاء مختلفة الماهية فإنه لابد أن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء لا تركب فيها يصح أن يمس كل منهما بيمينه ما يمسه يساره لا يخلو إما أن يدخل رب العالمين في هذه القضية على تقدير كونه على العرش أو لا يدخله فإن لم يدخله لم يكن هذا حجة ولم يكن في هذا الكلام فائدة وإن أدخله في هذا القياس الشمولي

فقد ضرب لله مثلا بكل جسم حقير وغير حقير حين مثله بالبعوضة ونحوه مما فيه أجزاء مختلفة وهذا فيه اشراك بالله تعالى وعدل لله وجعل انداد له وجعل سمي له وكل ذلك ممتنع على الله تعالى
ولا يقال هذا إنما هو اشراك به وتمثيل على هذا التقدير لأنه يقال بطلان هذا التقدير يكون ممكنا امكانا ذهنيا فيجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر فلا يجوز أن يجعل لله شريك على تقدير يجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر قبل أن يعلم انتفاؤه وإذا علم انتفاؤه لم يكن هذا موجبا للعلم بانتفائه لكن قد يقال هذا دليل ثان فيقال هذا التقدير عند منازعك حق لأن القرآن والعقل قد دل على أن الله فوق العرش فإذا كنت قد جعلت له أندادا وأمثالا وسميا على هذا التقدير الذي ثبت بالكتاب والعقل فقد يثبت بالكتاب والعقل أنك جعلت لله عدلا وسميا ومثلا أيضا فيقال لك في
الوجه السابع عشر من أين لك إذا كان الله فوق العرش وقلت كونه يجب أن يكون جسما فيه حقائق غير متماثلة أن يكون مساويا لجميع الأجسام المؤلفة من أجزاء مختلفة ليس العلم بهذا إلا محض قياس الله تعالى على خلفه وتمثيله بهم وهو باطل
وتقرير ذلك بالوجه الثامن عشر وهو أن يقال ما تنازع فيه الناس من الصفات نفيا واثباتا هل يسوغ لمن يثبته أن يمثل الله بما ثبت له من تلك الصفات من جميع المخلوقات أم لا يسوغ ذلك فإن ساغ ذلك ساغ أن يقال لو كان عالما لكان بمنزلة جميع العلماء ولو كان حيا لكان يمنزلة جميع الأحياء بل يقال هذا فيما لا نزاع فيه

مثل أن يقال لو كان موجودا لكان بمنزلة سائر الموجودات بل يقال لو كان في الوجود وجود واجب لكان بمنزلة سائر الموجودات ومعلوم أن هذا باطل بالبديهة والحس فبطل إذا كان جسما فيه حقائق أن يكون كسائر الأجسام المختلفة الأجزاء
فإن قلت الفرق بينهما أن الأجسام متماثلة بخلاف العالمين والقادرين والموجودات قيل هذا باطل كما تقدم ثم إنه غير نافع لأن هذا التقدير الذي نتكلم عليه أن تكون فيه أجزاء مختلفة الماهية وإذا كانت أجزاء الجسم مختلفة الماهية مخالفة لغيره من الأجسام بطريق الأولى والأحرى وإذا كان الكلام على تقدير أن لا تكون الأجسام أجزاؤها متماثلة لم يجز أن تحتج على هذا التقدير بما يستلزم تماثل الأجسام لأنه يكون جمعا بين النقيضين فظهر أنه إذا قيل هذا التقدير فكل جسم مركب من أجزاء مختلفة لم تعلم هذه القضية الكلية إلا بمحض تمثيل الله يخلقه المستلزم أن يمثل إذا سمي باسم أو وصف بوصف بكل مسمى أو موصوف بذلك الاسم والصفة وأن يكون مثله في حقيقته وفساد هذا معلوم بالبديهة والحس وهو من أعظم الكفر
ولهذا كانت الأمثال المستعملة في جانب الربوبية في الكتاب والسنة وكلام العلماء هي من باب الأولى وهو أن ينزه بعض خلقه عن بعض كالشريك والبنات والفقر فيقال الله أحق بهذا التنزيه عن ذلك أو يوصف بعض خلقه بصفة كمال كالعلم والقدرة والكلام فيقال الله أحق بذلك وهذه طريقة الأنبياء واتباعهم أما ادخال الله وغيره من المخلوقات تحت قضية كلية تتضمن قياس شمول وكل قياس شمول متضمن لقياس تمثيل فإن هذا لا يجوز لا لما يثبت من الصفات ولا لما ينفى
الوجه التاسع عشر يقال لك لا نسلم أن كل جسم مركب من أجزاء مختلفة الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء مبرأة عن التركيب يصح أن

يماس كل واحد ما يماسه الآخر فإن اعتصمت في هذا بقياس الغائب على الشاهد ذكرت لك الفوارق من وجوب أحدهما وقدمه وغناه وغير ذلك دون الآخر كما يفعل في سائر الأقيسة الفاسدة وليس معك حجة على هذا العموم سوى ما يحتاج فيه إلى القياس
وهذا يظهر بالوجه العشرين وهو أن يقال ما تعنى بتحليل تركيبه إلى آخره أتعني به لابد أن يتفرق أو يقبل التفرق إلى تلك الأجزاء فهذا ممنوع وهو محل النزاع فكيف تحتج بالشيء على نفسه فتصادر على المطلوب أم تعنى بالتحليل اشتماله على الأجزاء كاشتمال الأصل على هذا الجزء وغيره فلا يخلو إما ان يريد بالجزء المبرأ عن التركيب أن يكون بسيطا عن ذلك التركيب وإن كان أجزاء متشابهة أو يريد أنه لا تركيب فيه بحال فإن أردت هذا فيكون مضمون الكلام أنه لابد وأن يكون فيه الجوهر الفرد وأنت قد وافقت أذكياء العالم على التوقف في اثبات الجوهر الفرد وإن كان ثبوته غير معلوم لك لم يجز أن تدعي في جسم من الأجسام المختلفة وجوب اشتماله على الأجزاء التي لا تركب فضلا عن أن تدعي ذلك في رب العالمين
وأيضا فإنك قد ذكرت بعد هذا أن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد أن يماس كل واحد بيمينه شيئا وبيساره شيئا آخر لكن يمينه مثل يساره وهذا تصريح منك بأنه يقبل القسمة وأنه يشتمل على شيئين متماثلين وهذا ينفي الجوهر الفرد فقوله لابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرءا عن هذا التركيب لأن التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات مع قوله إذا ثبت هذا فنقول إن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد وأن يماس كل واحد منها بيمينه شيئا غير ما يماسه بيساره إثبات

التركيب في البسيط المبرأ عن التركيب وهو الجوهر الفرد فيكون لازمه بين إثبات الجوهر ونفيه وذلك تلازم بين النقضين
وإن أراد المبرأ من التركيب من الأجزاء المختلفة وبالبسيط بما ليس فيه ذلك التركيب وذلك لا يستلزم أن يكون كل جزء جوهر فردا بل يكون كل من تلك الأجزاء بسائط بحيث يكون في البسيط أجزاء مختلفة وهذا هو أقرب إلى ارادته فيقال لك تلك الأجزاء البسيطة هي في أنفسها مختلفة الحقائق كما ذكرت وإذا كانت مختلفة الحقائق لم يمتنع أن تشترك فيما يجب ويجوز ويمتنع وإذا امتنع أن تشترك في ذلك لم يلزم أن يماس أحدهما ما يماس الآخر وإذا فرض أن جوانب أحدهما متساوية إما لاستدارتها واما لتساوي يمينها ويسارها لكن إن ما يجب أن يمس بيمينه ما يمس بيساره إذا كان ذلك الممسوس يجوز أن ينتقل عن يمين هذا إلى يسار هذا ينتقل عن مماسة ما كان يماسه إذا كان يمين هذا إلى مماسة ما يماسه إذا كان عن يساره فإنه مع مماسته لهذا لابد أن يماس غيره وذلك إنما يصح أن لو كان يمين الأول ويساره من الآخر متماثلة والتقدير أن الأجزاء مختلفة في الحقائق فلا يلزم وان كان كل منهما بسيطا متشابهة الأجزاء إنما يباين جوهرا منها ما باين غيره إذ هذا غير معلوم إلا إذا كانت متماثلة والتقدير أنها مختلفة فوجب القطع بأن ما كان عن يمين أحدهما لا يلزم جواز كونه عن يساره نقيض ما ذكره فإنه إنما ذكر تساوي جانبي الممسوس الوسط وأغفل اختلاف جانبي المماسين وأن هذا المنتقل لابد أن يزيل واحدا عن حيزه وإن يماس حيزا يخالف في الحقيقة الحيز الذي كان يماسه وهذا بين ولا حول ولا قوة إلا بالله

قال الرازي البرهان الثامن لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة لكان علو تلك الجهة أكمل من علو الباري تعالى لأنه بتقدير أن يحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفا بالعلو على العالم أما تلك الجهة التي في جهة العلو فلا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو فثبت أن تلك الجهة عالية على العالم لذاتها وثبت أن الحاصل في تلك الجهة يكون عاليا لا لذاته لكن تبعا لكونه حاصلا في تلك الجهة العالية على العالم وإذا كان كذلك فحينئذ يلزم أن يكون الباري ناقصا لذاته مستكملا بغيره وذلك محال فثبت أنه يمتنع أن يكون علوه على العالم بالجهة والحيز وذلك هو المطلوب
والكلام على هذا من وجوه
أحدها أن يقال ومن الذي قال إن علو الباري على العالم شيء موجود منفصل عنه أو بشيء منفصل عنه مطلقا هذا لا يقوله المنازع ولا يحتاج أن يقوله بل عندهم أن ذات رب العالمين فوق العالم وأنه سبحانه وتعالى العلي الأعلى المتعال بذاته لا يحتاج علوه إلى شيء غيره أصلا ولا يكون علوه بشيء منفصل عنه وما علمت أحدا من هؤلاء يقول إنه يحتاج في علوه إلى شيء منفصل عنه
وقول القائل إنه على العالم بالجهة والحيز لا يقتضي وجود شيء غير نفسه وغير العالم فإن الجهة من الأمور الاضافية كما تقدم والحيز يراد به ما هو داخل في مسمى اسمه وليس شيئا خارجا عنه ويراد به تقدير المكان وليس ذلك شيئا وجوديا بل لا حقيقة له بحال إلا أنه مقدر مفروض كما يقدر الزمان قبل العالم

وإنما يقصدون بهذه العبارة أنه بذاته فوق العالم ليست فوقيته مجرد القدرة كما تقوله الجهمية وإذا كان كذلك فليس هناك شيء هو أعلا من الله تعالى أو شيء يحتاج الله إليه في علوه بل الأمر عندهم كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح أنت الظاهر فليس فوقك شيء وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة
واعتراف هذا بأن الجهة والحيز أمرا وجوديا وأنه ليس وراء العالم إلا العدم المحض فكيف يقال إن علو العدم المحض أكمل من علو الباري والعدم المحض لا حقيقة له بحال ولا وجود بل أحقر حقير في العالم وأسفل سافل هو خير منه ولا يوصف لا بعلو في الحيز ولا بسفول ولا شيء من ذلك
الوجه الثاني قوله إن بتقدير أن يحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفا بالعلو على العالم وتلك الجهة لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو يقال له قد قررت فيما تقدم أن العالم كري الشكل وإذا كان كذلك لم يكن له يمين ولا يسار بل ليس له إلا جهة المحدب وهو المحيط والباري خارج العالم فيمتنع أن يكون الباري إلا فوق العالم
فقولك بعد هذا إذا كان عن يمين العالم أو يساره أسقط من قولك إذا كان داخل العالم فإن العالم له داخل وأما يمين أو يسار فليس له وفرض وجود موجود داخل العالم ممكن وفرض وجود موجود عن يمينه ويساره غير ممكن كما قررته
الوجه الثالث هب أن بعض سطوح العالم سميته يمينا أو يسارا مع كونه مستديرا بالنسبة والاضافة لكن سطوح العالم مستوية في العلو فليس شيء أعلا مما تقدره يمينا أو يسارا وقد ذكرنا فيما مضى قول النبي صلى الله عليه و سلم إذا سألتم الله

الجنة فسلوه الفردوس فإنه أعلا الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن فجعل الأعلى هو الأوسط وذكرنا أن هذا لا يتأتى إلا في الجسم المستدير لأنه يمكن أن يجعل وسطه أعلاه وكذلك ما يفرض متيامنا فيه أو متياسرا هو أيضا يكون أعلاه وإن لم يكن وسطه فقوله بتقدير أن تحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفا بالعلو على العالم كلام باطل وقد قرره هو وكما اتفق عليه أهل الحساب بل قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن عرشه على سمواته مثل القبة وقد قدمنا دلالة الكتاب والسنة والاجماع مع الحساب العقلي على أن الأفلاك مستديرة فبطل ما ذكره
الوجه الرابع هب أنه يمكن فرض متيامنا عن العالم أو متياسرا وأنه لا يكون كذلك حينئذ فوق العالم فقد لا يسلم المنازع أن هذا الفرض يمكن في حق الله تعالى لأنه العلي الأعلى الذي يستحق العلو لذاته ولا يلزم من جواز انخفاض غيره عن بعض الموجودات جواز انخفاضه هو وإذا كان هذا الفرض غير معلوم الجواز أو هو ممتنعا في حق الله تعالى لم يكن ما يلزم عليه لازما لأن التقدير الممتنع يلزمه حكم ممتنع كما لو فرض أنه معدوم أو أنه غير عالم أو أن العالم فوقه أو أنه محتاج إلى خلقه وغير ذلك
الوجه الخامس أن هذا الفرض هب أنه ممكن أو يقدر تقديرا فلم قيل أن ما يكون متيامنا عن العالم أو متياسرا ولو كان غير الله يكون فوقه شيء قوله لأن تلك الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن العلو يقال هذا تخليط فقولك الجهة التي في جهة العلو يقتضي شيئين أحدهما في الآخر وقولك لا يمكن فرض وجودها يقتضي أنها شيء موجود وقولك خالية عن العالم يقتضي أن فوق العالم شيء غير الله وهو موجود موصوف في العلو وهذا باطل بل كفر باجماع المسلمين فإن الله خالق كل شيء والعالم

اسم لكل موجود سوى الله تعالى فلو كان فوقه شيء موجود غير الله لكان ثم موجود غير الله لم يخلقه الله بل هو مستغن عن الله لاسيما وقد جعل الله محتاجا إليه وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن أن يقوله مسلم وقد تقدم الكلام على هذا بأبسط من هذا لما ذكر أن الله يحتاج إلى حيز في الأدلة العقلية ولما ذكر أن الحيز منها في الأدلة السمعية وفي غير ذلك
الوجه السادس أنا قد قررنا غير مرة أن ليس فوق العالمين إلا رب العالمين وليس هناك غيره ولا شيء يشاركه في العلو غيره بوجه من الوجوه فضلا عن أن يكون هناك ما هو عال عليه فقوله الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو يقال له لا جهة هناك إلا الله فهو الذي يشار إليه موجودا والاشارة إلى موجود غيره هناك ممتنعة فإن كنت تعتقد أن هناك موجودا يشار إليه فأبطل ما تعتقده وإلا فالناس لا يعتقدون هذا ومنازعة الانسان فيما لا يعتقده تضييع زمان ونوع من الكذب والبهتان
الوجه السابع قولك إن الحاصل في الجهة يكون عاليا لا لذاته لكن تبعا لكونه حاصلا في تلك الجهة العالية على العالم ممنوع بل باطل لأنه استحق العلو بذاته لا لأمر منفصل عنه كما استحق الأزلية بنفسه لا لأمر منفصل عنه فقول القائل علوه تبع لعلو الجهة كقوله إنه قديم تبع لقدم الزمان وكل من الخيالات الفاسدة بل هو الأول بنفسه الذي ليس قبله شيء وهو الآخر بنفسه الذي ليس بعده شيء وهو الظاهر بنفسه الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن بنفسه الذي ليس دونه شيء
الوجه الثامن هب أن الجهة في العلو أو الدهر في القدم شيء موجود تبع له فوجوده تبع لوجود الحق لا أن علو الحق وقدمه تبع له فإن ذلك يكون

داخلا في مسمى نفسه كما يقال إن الحيز هو جوانب المتحيز فإن كون الدهر هو عبارة عن قدمه فقدمه وحيزه داخل في مسماه وصفة من صفاته فلا يكون هو سبحانه تبعا لصفاته ولو قدر شيئا خارجا عن صفاته لكان وجوده تابعا لوجود الحق وكان الحق هو الموجب له فكيف يكون عاليا لا لذاته لكن تبعا لكونه حاصلا في تلك الجهة وهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه مفتقر إليه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والعادلون به علوا كبيرا
فإن كلام هذا وأمثاله عدل بالله وإشراك به وجعل أنداد له وضرب أمثال له حيث جعل علوه وفوقيته على العالم بمنزلة علو الملك على سريره أو هو في هواء سطحه الذي قد سفل الرجل عنه فيكون دونه ويكون ذاك باقيا على علوه وجعل علوه محتاجا إلى ما يعلو به كما يحتاج الانسان إلى السطح أو السرير فكلامه في علو الله يوجب أنه جعله مثل هذا العلو يجمع من التمثيل لله والعدل به ابتداءا ومن جحد علوه المستلزم لجحود ذاته انتهاءا ولهذا كان السلف والأئمة يصفون هؤلاء بالأمرين بأنهم ممثلون عادلون بالله وبأنهم معطلون جاحدون لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهذا الذي قاله السلف والأئمة يلزمهم لزوما لا محيد عنه وقد يظهر هذا تارة وكثيرا ما يظهر الأمران ولا ريب أنهم إنما عدلوا به في هذه المعاني لينفوها عنه ظانين أن هذا تنزيه لله وتقديس لم يقصدوا أن يثبتوا له مثلا ولكن قدروا المثل لينفوه لكن لزمهم التمثيل من وجهين
أحدهما أنهم سووا بين الله وبين غيره في هذه المقاييس الشمولية المنطقية وهي الأمثال التي ضربوا له فجعلوه فردا من أفراد تلك الأمور العامة وحكموا عليه بمثل ما حكموا به على الأفراد حيث قالوا كلما كان فوق غيره فلابد أن

يكون كذا أو كلما كان كذا فلابد أن يكون كذا وأيضا فإنهم مثلوه بغيره على ذلك التقدير وهو لا يكون مثلا لغيره لا تحقيقا ولا تقديرا من التقادير التي يقع فيها شبهة ونزاع على ذلك التقدير يعلم أن له من الخصوص ما يقطع مماثلته لغيره
الوجه الثاني أن هذه المعاني التي ينفونها هي ثابتة في نفس الأمر معلومة بالكتابة والسنة وبالفطرة والعقل وبالقياس أيضا فإذا مثلوه فيها بالمخلوقات فقد صرحوا بجعل أنداد له والأمثال والأسماء ثم إنهم عطلوا فجحدوا الحقائق هي ثابتة للرب وعطلوا ما في الكتاب والسنة والاجماع من بيان ذلك والدلالة عليه وعطلوا في القلوب من المعرفة الفطرية والقياسية فصاروا معطلين للحقيقة الخارجية والعلوم الثابتة بالنبوات المعروفة بالقلوب فعطلوا الشرع والعقل جميعا مع دعواهم العقليات كما عطلوا التوحيد مع دعواهم أنهم هم الموحدون
الوجه التاسع أن يقال قد قلت لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة لكان علة الجهة أكمل من علو الباري ولم تذكر على ذلك حجة إلا قولك لأنه بتقدير أن يحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفا بالعلو على العالم أما تلك الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو فثبت أن تلك الجهة عالية عن العالم لذاتها وثبت أن الحاصل في تلك الجهة يكون عاليا لا لذاته لكن تبعا لكونه حاصلا في الجهة

فيقال لك أنت قد قدرت تقديرا أن الباري عن يمين العالم أو عن يساره ولم تذكر دليلا على امتناع ذلك في الجهة وكل واحد من هاتين الدعوتين ممنوعة فلا نسلم لك إمكان هذا التقدير في حق الباري ولا امتناعه في الجهة أو لا اسلم لك مجموع إمكان هذا وامتناع هذا بل قد يشتركان في الامكان أو الامتناع فهذا المنع له ثلاث موجبات أحدها إمكانها جميعا والثاني امتناعهما جميعا والثالث تيامن الجهة وتياسرها وامتناع تيامن الباري وتياسره فلم تذكر حجة تنفي واحدا من هذه الوجوه ونحن نذكر توجيه هذه الأجوبة فنقول
الوجه العاشر أن الجهة والحيز إما أن تكون وجودية أو عدمية فإن كانت عدمية لم يجز أن توصف بعلو على العالم ولا سفول ولا يقال إن علو الباري تبع لها ولا أنه محتاج إليها ولا شيء من هذه الأمور فبطلت الحجة
وإن كان الحيز والجهة أمرا وجوديا فمن المعلوم أنه إذا قدر تيامن الرب وتياسره فبتقدير تيامن ذلك الشيء الموجود المسمى بالحيز والجهة أولى بالتيامن والتياسر فإن ذلك إن كان من صفات الرب الداخلة في مسمى اسمه فهي تبع له وإن كان شيئا منفصلا كالعماء أو العرش أو ما يقدر فإن تقدير التحول على هذا أولى من تقديره على الله فإن انتقال هذا وتحوله أولى بالجواز من انتقال الله تعالى وتحوله ولهذا لم ينازع في هذا المسلمون الذين ينازعون في جواز الحركة والانتقال على الله بل يجوزون ذلك على العرش وغيره وينازعون في جوازه على الله فظهر أن تقدير تيامن الحيز والجهة وتياسره أولى من تقدير ذلك في الرب
وإذا كان كذلك فقوله إنه بتقدير أن يحصل ذات الرب في يمين العالم أو يساره لا يكون موصوفا بالعلو وتلك الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرضها خالية

عن العلو باطل قطعا بل إن كانت شيئا يحتمل الصفات يوصف بالعلو ويكون في الجهة فإن خلوه عن صفة العلو أولى من خلو الله عن صفة العلو على كل تقدير وإن كان شيئا لم يحتمل هذه الصفة ولا يكون في جهة فهذا عدم لا يقال فيه إنه عال عن العالم فضلا عن أن يقال إن علوه لذاته وعلو الباري تبع له
الوجه الحادي عشر إن كثيرا من المسلمين من الصفاتية الذين يقولون إن الرب فوق العالم وفوق العرش يقولون إنه لا يجوز عليه الحركة والانتقال ولا يتصور أن يتيامن أو يتياسر فضلا عن أن يكون خاليا عن صفة العلو فيكون ما قدرته في حق الباري ممتنعا بل أصحابه الذين يقولون إنه فوق العرش يقولون بذلك وإذا كان هذا التقدير ممتنعا عندهم كان أدن أحواله أن يكون كما ادعيته من علو الجهة أنها عالية لذاتها لا يمكن فرضها خالية عن هذا العلو فكيف وقد تقدم بينان أن الأمر ليس كذلك وإذا كان على أسوء التقديرين يكون كل منهما مما يمنع زواله فيكون علو كل منهما لذاته فلا يكون علو الجهة أكمل من علو الله ولا يكون مستكملا بها بل إن امتنع عليه الحركة والزوال امتنع تحوله عن العلو فإذا كنت في هذا المقام لو اشركت بالله فجعلت الجهة له عدلا وشبها في مشاركتها له في العلو الذاتي لكان هذا الاشراك خيرا من أن يفضل علو الجهة على علوه ويجعل علوها بنفسه وعلوه بها
فتبين أن الذي قلته أقبح من هذا الشرك ومن جعل الأنداد لله كما أن جحود فرعون الذي وافقتموه على أنه ليس فوق السموات رب العالمين إله موسى جحوده لرب العالمين ولأنه في السماء كان أعظم من شرك المشركين الذين كانوا يقرون بذلك ويعبدون معه آلهة أخرى كحصين الخزاعي لما كان مشركا وأمثاله الذي قال له النبي صلى الله عليه و سلم كم تعبد اليوم إله قال سبعة آلهة ستة في

الأرض وواحد في السماء فلا ريب أن شرك هذا أخف من جحود فرعون مع أن هذا لما قال النبي صلى الله عليه و سلم فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فهو يعتقد أن الاله الذي في السماء أعظم من تلك الآلهة فأنتم لم ترضوا أن تجعلوا علو الله أكمل من علو غيره ولا جعلتموه مثل علوه بل جعلتم علو الغير أكمل من علوه وهو يحتاج إلى ذلك الغير الذي هو مستغن عنه وكل هذا إفك وبهتان عظيم على رب العالمين
الوجه الثاني عشر أن المسلمين المزيد يجوزون عليه النزول والمجيء والاتيان والحركة قد يوافقون الأولين في أنه لا يكون إلا عاليا حتى يقولوا أنه ينزل إلى السماء الدنيا ولا يخلو منه العرش ويقولون وصفه بهذه الصفات لا ينافي علوه فهؤلاء أيضا يوجبون له العلو ويقولون إنه عال بذاته ويمتنع أن يكون غير عال وإن جوزوا عليه الحركة والانتقال وإذا كان كذلك فهؤلاء يقولون لا نسلم إمكان خروج الله عن صفة العلو لوجه من الوجوه حتى نقدر له تيامن أو تياسر يخرجه عن أن يكون موصوفا بالعلو بل هذا يمتنع عندهم فإذا كان كذلك كان قولهم مثل قول اخوانهم المتقدمين في توجيه المنع فيقولون لا نسلم أن علو الجهة يكون أكمل من غيره وأنه محتاج إليها هذا لو كانت الجهة أمرا يمكن وصفه بالعلو بحيث يحتمل أن يكون في ذاته عاليا وإلا فإذا لم يكن كذلك بطل أصل الكلام
الوجه الثالث عشر أن يقال هب أنه سلم لك أنه قد يتيامن أو يتياسر بحيث لا يكون موصوفا بالعلو لكن لا يسلم أن الجهة التي توصف بالعلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن العلو فإن الذي يحتمل صفة لا يكون إلا موجودا إذ المعدوم لا يحتمل الصفات ولا يقال إنه في جهة العلو ولا في جهة

السفل ولا في شيء من الجهات وإذا كان موجودا كان تقدير خروجه عن صفة العلو أولى من تقدير كون الله ليس موصوفا بالعلو على كل وجه من الوجوه فإن التحول والانتقال وجوازه على المخلوق أولى من جوازه على الخالق
الوجه الرابع عشر أن كونه موصوفا بعلو ذاته على العالم إما أن يكون واجبا له أو لا يكون فإن كان واجبا له فأنتم معاشر الجهمية من أعظم الناس سلبا لهذا الواجب عنه وتقولون إن علوه إنما هو القدرة فقط فالذي يقول إنه تارة يكون عاليا بذاته على العالم وتارة يكون غير عال بل إما متيامنا أو متياسرا وغير ذلك مع كونه عاليا بالقدرة التي أثبتموها في الحالين هو أعظم وصفا لله بصفة الكمال منكم حيث أثبت له العلو الذي أثبتموه وزاد عليكم بأن أثبت له من العلو الذي هو كمال مالم تثبتوه أنتم ثم هو موع هذا إذا وصفه وزاد عليكم بأن أثبت له من الذي هو كمال مالم تثبتوه أنتم ثم هو مع هذا إذا وصفه بما يقتضي أن يكون علو الجهة أكمل منه مثل تجويز عدم العلو عليه بعض الأوقات هو أحسن حالا منكم حيث سلبتموه هذا العلو الذي هو كمال فمن اثبته له ولو لم يجعله أكمل فيه من غيره هو أحسن حالا فليس لكم أن تبطلوا قوله بتصحيح قولكم فإن كان علو ذاته على العالم ليس بصفة الكمال لم يصح أن يقال علو الجهة أكمل من علوه لأن التفضيل في الكمال يقتضي الاشتراك فيه فإذا كان كل واحد من علو ذاته على العالم ومن علو الجهة على العالم ليس هو صفة كمال لم يكن أحدهما أكمل من الآخر فبطلت هذه الحجة وظهر أن هذه الحجة باطلة على التقديرين ولله الحمد

الوجه الخامس عشر أن يقال أنتم تقولون ليس علوه إلا علو القدرة فإذا قدر أنه جعل نفسه متيامنا عن العالم أو متياسرا بل جعل نفسه في غمام بل جعل نفسه تحت العرش ونحو ذلك مما فيه علو شيء فوقه مع كونه مقتدرا على ذلك وعلى كل شيء ومقتدرا على تغيير كل شيء وتحويله وجعل العالي سافلا وجعل السافل عاليا لم يخرج بذلك عما يستحقه من صفة العلو عندكم وخروجه عن العلو بالجهة لا ينافي الكمال عندكم فلا يكون في ذلك نقص بحال حتى يكون مستكملا وغير مستكمل ولو قيل إنه في الجهة أو قيل أنه واجب أن يكون في الجهة أو واجب أن يكون متحيزا فإن الذي يقول هذا قد لا يقول إن ذلك صفة كمال بل هو جائز عليه كما يجوز من أفعاله وكما تجوز رؤيته وذلك ليس بنقص
فأنتم موافقون على أن كونه غير عال بالجهة ليس بصفة نقص فالذي يقول إنه عال إذا قال لكم سواء في حقه علا على العالم أو لم يقل وسواء كان في الجهة أو لم يكن هو في الحالين غير موصوف بصفة نقص بل هو موصوف بالقدرة على هذا كله فإن هذا القائل أثبت له من صفة القدرة التي هي العلو عندكم أعظم مما أثبتوه ولم يثبت له نقصا بحال وإذا كان كذلك لم يجب أن يكون علوه بالجهة لا كمالا ولا نقصا إذا كانت قدرته كاملة على التقديرين وهو العلو عندكم وإذا كان كذلك لم يكن ما هو أعلى منه لو كان موجودا أكمل منه ولم يكن هو مستكملا بذلك الغير لأن ذلك فرع كون ذلك كمالا وهذا قد وافقتموه على أنه ليس بكمال وهو قد وافقكم على ما هو كمال وأثبته أكمل مما أثبتموه فلا يلزم من قال أنه على العرش أن يكون غيره أكمل منه ولا أنه مستكمل بغيره

الوجه السادس عشر أن يقال هب أن العلو بالجهة كمال فأنتم تقولون إن العلو بالقدرة أكمل منه فإذا وافقكم موافق على هذا وقال علو القدرة أكمل من العلو بالجهة وكل شيء موجود سواء كان حيزا أو جهة أو شيئا غير ذلك فإن الله قادر عليه مدبر له قاهر له فإذا قدر أنه تيامن أو تياسر أو نزل حتى يجعل شيئا أعلى منه بالجهة فهو أعلى من ذلك الشيء بالقدرة والربوبية والتدبير وهو الذي جعله في تلك الجهة بمشيئته واختياره وذلك الشيء مفتقر إلى الله عز و جل والله غني عنه وإذا كان كذلك لم يلزم أن يكون أكمل من الله في العلو ولا أن يكون الرب مستكملا به وأن الرب خرج عن صفة العلو مع لزومها لذلك بل الرب موصوف بالعلو الحقيقي عندكم على ذلك والقهر له والتدبير وذلك موصوف بأنه تحت حكم الله وأمره فإذا شاء الرب أن يرفع جهته مع كونه مدبرا لم يلزم أن يكون هذا نقصا على الأصول التي سلمتموها كما يضربون به المثل فيقولون إن الملك هو أعلا من رعيته وإن كان مكان بعض رعيته فوق مكانه ولهذا يقال لمجلسه المجلس العالي والسامي وإن كان مجلس رعيته أعلا حيزا منه
فإذا كان الأمر كذلك فقولك لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة لكان علو تلك الجهة أكمل من علو الباري أتريد به أن علوه ليس إلا بالجهة فقط ليس هو قادرا على العالم مدبرا له أم تريد أن علوه بالجهة مع ماله من العلو بالقدرة فإن أردت الأولى فهو أعظم الكفر وأبطل الباطل ولا يقوله مسلم ولا عاقل يقر بالصانع بل المؤمنون متفقون على أن الله قادر على العالم وليس العالم قادر عليه فإذا ضموا إلى ذلك أنه عال بالجهة والحيز وفرض أن من العالم ما علا عليه بعض الأعيان بالجهة فقط بل لو علا عليه دائما بالجهة فقط مع علو الرب عليه بالقدرة لكان علو الرب أكمل من علو ذلك فكيف

إذا كان الرب هو الذي دبره وهو الذي علا وبمشيئته وأمره يكون جميع شئوونه
الوجه السابع عشر قولك أن يكون للباري ناقصا بذاته مستكملا بغيره إنما يصح إذا كان الحيز والجهة غيرا له وذلك إنما يصح لو كان الحيز والجهة أمرا منفصلا عنه فأما إذا كان الحيز هو حده ونهايته فالجهة كونه بحيث يشار إليه لم يكن هناك غيرا له عند الصفاتية الذين يقولون ليست صفاته غيره ومن سمى هذا غيرا كان قوله مستكملا بغيره كقوله مستكملا بعلمه وقدرته وحياته وذلك مثل قوله مستكملا بنفسه وهذا ليس بممتنع بل هو واجب فالكلام في كماله كالكلام في وجوده
قد تقدم الكلام في قول القائل هو واجب بنفسه وما يدخل في ذلك من صفاته وأنه لا يكون موجودا إلا بما تستحقه ذاته من صفاته بل لا يكون موجود قط إلا كذلك ففرض عدم ذلك جحد لجميع الموجودات وتكلمنا على لفظ الغير والحيز والافتقار ونحو ذلك وكذلك القول في قول القائل هو مستكمل بغيره إذا فسر ذلك الغير بما هو من صفاته اللازمة لم يكن ذلك ضارا بل هذا أمر واجب فإن الكمال لا يكون إلا بأمور وجودية لا يكون بالأمور العدمية وهو سبحانه كامل بتلك الأمور الوجودية التي حقيقته وذاته عليها
الوجه الثامن عشر أن ذلك الغير الذي جعلته مستكملا به أهو غير غني عن الله أم غير مفتقر إلى الله إن قلت إنه غني عن الله فليس في الوجود شيء غني عن الله بل جميع الكائنات مفتقرة إليه وإن قلت بل هو المفتقر إلى الله كان معنى قولك أنه يكون مستكملا بما هو مفتقر إليه والأمر المفتقر إليه إما أن يكون من

لوازم ذاته وإما أن يكون كائنا بمشيئته واختياره فيعود الأمر إلى أنه مستكمل بذاته ومشيئته التي هي من لوازم ذاته فيكون ذلك الاستكمال بذاته كما تقدم وحينئذ فلا يصح قولك ناقص لذاته مستكمل بغيره لأن ذاته مستلزمة لذلك الكمال فلا يتصور نقصها
الوجه التاسع عشر أنك زعمت في نهايتك أن امتناع النقص على الله لم يعلم بالعقل وإنما ثبت امتناع النقص عليه إذا أثبته بالاجماع وقد تقدم بعض حكاية ألفاظه في ذلك وقال في مسألة السمع والبصر لما احتج أصحابه بأن ضد ذلك نقص فقال في الأسولة على الحجة ولئن سلمنا أن ضد السمع والبصر نقص فلم قلتم إن النقص على الله محال قال واعلم أن أجود ما قيل في بيان هذه المقدمة الاجماع وعلى هذا تصير الدلالة سمعية لأن الذي يدل على كون الاجماع حجة إما الآيات وإما الأخبار
وإذا كان الأمر كذلك كان المستمسك في الابتداء بالآيات الدالة على كونه سميعا بصيرا أولى من ذكر هذه الطريقة الطويلة والاجماع لم ينعقد على أمور معينة بل كل مسلم ينزه الله عما يعتقده نقصا
وإذا كان هذا فالجهة فيها نزاع عظيم بين الناس وأكثر المسلمين بل أكثر العالمين بل سلف الأمة وأئمتها يقولون بأن الله تعالى فوق العالم وعلى العرش فإن كان هذا نقصا لم يكن قد انعقد الاجماع على نفيه وأنت فقد زعمت أن العقل لا ينفى عنه النقص فلا يكون معك حجة على نفي هذا الذي سميته نقصا لا من عقل ولا من سمع ولا يصح قولك وذلك محال هذا لو كان هذا الذي سميته نقصا مستمرا فكيف إذا كان فيه استكمال بالغير فإنه من المعلوم أن الناقص المستكمل بغيره خير من الناقص الذي ليس مستكملا لا بنفسه ولا بغيره

وبهذا الوجه وأمثاله يتبين أن هؤلاء الجهمية مع ما هم عليه من التعطيل الذي زخرفوه بشوب التنزيه فإنهم لا ينزهون الله تعالى عما يجب تنزيهه عنه من النقايص والعيوب بل يصفونه بالفقر والحاجة وبغير ذلك من الصفات كما بيناه في غير هذا الموضع ويعترف أئمة كلامهم أن العقل لا يقتضي تنزيه الله عن النقص وإنما يأخذون مقدمات سلمها لهم المسلمون فيحتجون بها على المسلمين في ابطال بعض دينهم وهذا شأن المنافقين الذين يجادلون بكتاب الله تعالى كما في الحديث موقوفا على عمر ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وكما في حديث عبد الملك بن عمير عن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إني أخاف عليكم ثلاثا وهي كائنة زلة العالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تفتح عليكم ورواه ابن أبي حاتم والنجاد وغيرهما من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فاتهموها على أنفسكم وهذا مشهور من حديث كثير بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إني أخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قيل وما هي يا رسول الله قال زلة العالم وحكم جائر وهوى متبع وروي من حابر وحديث الأئمة المضلين نحفوظ وأصله في الصحيح فروى ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه قال أخوف ما أخالف على أمتي بعدي الأئمة المضلون ويروى من حديث أبي الدرداء وشداد بن أوس
وأما اللفظ الذي ذكرناه فهو محفوظ عن عمر بن الخطاب من حديث ابن المبارك ووكيع وغيرهما عن مالك بن مغول سمعت أبا حصين يذكر عن زياد

ابن حدير قال قال عمر بن الخطاب يهدم الاسلام زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وفي مسند الإمام أحمد ثنا يزيد بن هارون ثنا ديلم بن غزوان العبدي ثنا ميمون الكردي عن أبي عثمان النهدي قال إني جالس تحت منبر عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس فقال في خطبته سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان وفي رواية أخرى يتكلم بالحكمة ويعمل بالفجور ورواه من حديث مالك بن دينار عن ميمون ولفظه حذرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم كل منافق عليم ورووا عن عمر بن الخطاب أنه قال أخوف ما أخاف على هذه الأمة الذين يتأولون القرآن على غير تأويله
ومن المشهور عن عمر أنه قال إذا جادلكم أهل البدع بشبهات القرآن فخذوهم بالسنة فإن أهل السنة أعلم بكتاب الله تعالى منهم فإن المنافق لا يعتقد وجوب اتباع الكتاب والسنة واتباع الاجماع إذ ليس في باطن الأمر متدينا باتباع النص والاجماع بل يأخذ من النص ولاجماع ما يحتج به على المؤمنين في تنفيق نفاقه وترويج غشه وتلبيسه
وإذا كان كذلك فما يرفع الله به الدرجات كما رفع درجات ابراهيم ويوسف عليهم السلام أن يحتج عليهم بالحجج الدافعة لهم وأن يكادوا كيدا حسنا لدفع كيدهم وعدوانهم على الايمان وأهله فلا يمكنون من القدح في الايمان بما يسلمه لهم المؤمنون بل إذا عارضوا ما يقوله المؤمنون من الحق بحجج فسلم لهم المؤمنون بعض مقدماتها بين لهم أن تلك الحجج عليهم لا لهم أو أنها على فساد قولهم وفعلهم أدل منها على ما عارضوه من الحق
بل لو كان المتنازعان مبطلين كأهل الكتاب والمشركين إذا تجادلوا أو تقاتلوا كان المشروع نصر أهل الكتاب على المشركين بالقدر الذي يوافقهم

عليه المؤمنون إذا لم يكن في ذلك مفسدة تقاوم هذا المصلحة فإن ذلك من الحق الذي يفرح به المؤمنون كما قال تعالى الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء فإنها نزلت كما استفاض في التفسير والمغازي والحديث في اقتتال الروم النصارى والفرس المجوس وكانت المجوس قد غلبت النصارى على أرض الشام وغيرها فغلبت الروم وفرح بذلك مشركو قريش لأن المجوس إليهم أقرب من النصارى لأن كلاهما لا كتاب له واغتم لذلك المؤمنون لأن النصارى إليهم أقرب لأنهم أهل كتاب فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم فأخبره النبي صلى الله عليه و سلم أن الروم سوف تغلب فارس بعد ذلك في بضع سنين وناظرهم أبو بكر على هذا قبل تحريم ذلك وظهرت الروم على فارس بعد ذلك
فهؤلاء الجهمية قد سلم لهم المؤمنون أن الله غني عن كل ما سواه فإنه سبحانه مقدس عن كل نقص وأنه أحد لا مثل له والجهمية في الحقيقة لا يعتقدون فيه هذا المعنى ولا هذا التنزيه ولا هذه الوحدانية بل يثبتون له أمثالا ويصفونه بالحاجة وما يستلزم الحاجة ولا ينزهونه عن النقائص والعيوب وقد يصرحون بذلك تارة وتارة بأنه ليس على ذلك دليل عقلي فالاتحادية منهم كصاحب الفصوص وغيره يصرحون بأنه موصوف بكل ما يوصف به كل موجود من عيب ونقص وغير ذلك وهؤلاء المتكلمة منهم كالرازي يصرحون بأن العقل لا ينفي عنه النقائص وبذلك يظهر أن تسميته لما عطله من الصفات تقديسا كتسمية الملاحدة تعطيلهم تقديسا وقد علموا أن المسلمين يقولون إنه منزه عن النقص فأخذوا هذا اللفظ يجحدون به ما يستحق من صفات الحمد زاعمين أن ذلك نقص كما زعم أن علوه على العرش نقص

أو يستلزم النقص كما زعم أنه يستلزم الحاجة وأنه مستلزم لعدم الوحدانية
فتبين لهم صورة الحال وهو أن هذه الأمور التي يوافق المسلمون على نفيها وإن كنتم لا تقيمون على نفيها حجة عقلية هي على فساد قولكم أدل منها على فساد قول من نازعكم من أهل الاثبات وإن كان مخطئا في بعض ما يقوله إذا كان خطاه أقل من خطاكم وهو مع ضلاله عن بعض الهدى أقرب إليه منكم
وإذا كان الأمر كذلك فهؤلاء الذين يزعمون أنهم ينفون عن الله النقص بكونه على العرش قد بينا أنهم يصفونه بالنقص إما تصريحا وإما لزوما ويصرحون بأن العقل لا ينفي النقص عن الله كانوا لم ينفوا ذلك إلا بالإجماع فلم يجمع المسلمون على قولهم فلا يكون لهم حجة على نفي كونه على العرش لو كان فيه ما زعموه من النقص والاستكمال بالغير فكيف والنقص إنما هو لازم على قولهم كما قد بين ذلك غير مرة
وقيل لك ثانيا هب أن هذا متناقض لكن إذا كانوا قد جمعوا في قولهم من إثبات كونه على العرش وبين نفي كونه جسما فلما أن يكون إثبات هذا أو نفي هذا متناقضا أو لا يكون فإن لم يكن متناقضا صح قولهم وبطل قولك في نفي الجهة فإذا كان هذا متناقضا لم يكن الزامهم لوازم أحد النقيضين بأولى من الزامهم النقيض الآخر فإن حقيقة هذا عند من يقول إنهم تناقضوا أنهم قد قالوا هو فوق العرش ليس فوق العرش وهو جسم وهو ليس بجسم ومثل هذا إما أن يجعل لهم قولين فيكون لهم قول بأنه فوق العرش ولوازمه وهو أنه جسم وقول بأنه ليس بجسم ولوازمه وهو أنه ليس فوق العرش

أو يذكر قولهم المتناقض على جهته ولا يلزمون لوازم النفي دون لوازم الاثبات ولا لوازم الاثبات دون لوازم النفي بل يثبت اللازم كما أثبت الملزوم وإن قيل إن فيها تناقضا وإذا كان كذلك لم يجز أن يلزموا بأن يكون متحيزا أو غير متحيز فإن ذلك لا يلزمهم ما داموا جامعين بين النفي والاثبات وهذا بين
ولهذا لا يزال هؤلاء وأمثالهم يميلون إلى النفاة من وجه وإلى المثبتة من وجه
وقيل لك ثالثا هب أن هؤلاء متناقضين في إثبات موجود ليس بجسم فوق العالم فقولك بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه أعظم تناقضا فإن قولك موجود يقضي ثبوت أحد الأمرين فإذا نفيتهما فقد نفيت لازم الوجود المعلوم بالفطرة الضرورية لاسيما وقد علم بالضرورة الفطرية أن الله فوق العالم وأن ما يكون لا داخل ولا خارجه فإنه لا يكون إلا معدوما
وقالوا لك رابعا لا نسلم أن هذا تناقض بل قد علمناه بالضرورة الفطرية والضرورة الدينية والأدلة السميعة والعقلية أنه فوق العرش وعلمنا بما وافقتنا عليه من الأدلة العقلية وما تذكر في موافقتنا عليه من الأدلة الشرعية أنه ليس بجسم وموجب الأدلة الصحيحة لا تتناقض وإذا لم تتناقض فإذا قدرنا فوق العالم ما ليس بجسم لم يمكن أن يكون في حيز كما يكون الاجسام وحينئذ ما تذكره من اللوازم في هذه الحجة وفي نظائرها من الحجج مثل لزوم كونه منقسما أو جوهرا فردا وكونه في حيز أو أكثر من حيز ممنوعة

فصل
وقد ذكر في نهايته على نفي الجهة حجة أخرى فنذكرها وإن كان موادها داخلة فيما ذكرناه ليكمل ما ذكره في ذلك فقال المسألة الثانية في أنه ليس في الجهة قال وقبل الخوض في الاستدلال لابد من البحث عما لا يكون جسما هل يعقل حصوله في الجهة أم لا فإن لم يعقل حصوله كانت الدلالة على نفي الجسمية كافية في نفي الجهة قال وزعم من أثبت الجهة نفى الجسمية أنا نعلم بالضرورة اختصاص الأكوان بالجهة المخصوصة مثل الكون القائم بأعلى الجدار والكون القائم بأسفله ولا يضرنا في ذلك ما يقال الأكوان إنما تحصل في الجهات على طريق التبعية لمحلها لأنا نقول الحصول في الجهة أعم من الحصول في الجهة بالاستقلال أو التبعية وتسليم الخاص يتضمن تسليم العام فإذا سلمتم اختصاص الأكوان والجهات على سبيل التبعية فقد سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات ومتى ثبت ذلك ثبت أنه لا يلزم من نفي كون الشيء جسما نفي اختصاصه بالجهة والحيز وإذا ثبت ذلك وجب علينا بعد الفراغ من نفي الجسمية عن الله إقامة الدليل على نفي حصوله في الجهة والحيز
يقال هذا الذي ذكره يمكن الجواب عنه بأن يقال لا يحصل في الجهة إلا الحيز أو ما قام به أو يقال لا يحصل في الجهة على سبيل الاستقلال إلا الجسم لا يحصل في الجهة على سبيل الاستقلال أو التبعية إلا الجسم أو ما قام به وأي هذه العبارات قيل لم يكن ما ذكره دليلا على إمكان أن يكون في الجهة قائم بنفسه غير الجسم
ونحن نذكر حجته قال فنقول الباري تعالى لو كان حصوله في جهة لكان إما أن يكون في أكثر من حيز واحد أو لا يكون إلا في حيز واحد

والأول باطل لأن الحاصل في أحد الحيزين إما أن يكون هو الحاصل في الحيز الثاني أو غيره والأول باطل وإلا لكان الشيء الواحد حاصلا دفعة واحدة في حيزين وهو محال ولو عقل ذلك فليعقل مثله في الجسم حتى يحصل الجسم الواحد دفعة واحدة في حيزين وأنه محال والثاني أيضا محال أما أولا فلأنه يلزم منه انقسام ذاته وهو محال على ما مر وأما ثانيا فلأن اختصاص كل جزء منه بحيزه إما أن يكون واجبا أو جائزا والقسمان باطلان على ما سيأتي
وأما إن قيل بأنه في حيز واحد فهو باطل لوجهين الأول بأنه يكون أقل القليل ويتعالى الله عنه والثاني فلأن حصوله في ذلك الحيز إما أن يكون واجبا أو غير واجب والأول باطل إذ لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز لكانت حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة سائر الأحياز ولو كان كذلك لكانت الأحياز أمورا وجودية لأن العدم الصرف يستحيل أن يخالف بعضه بعضا ولو كانت الأحياز أمورا وجودية لكان إما يمكن الإشارة الحسية إليها أو لا يمكن فإن أمكن فذلك الشيء إما أن يكون منقسما فيكون الباري الحال فيه منقسما أولا يكون منقسما فيكون ذلك الشيء مختصا بجهة دون جهة فيكون للحيز حيز آخر ويلزم التسلسل وإن لم يمكن الإشارة الحسية إلى الحيز الذي حصل الباري تعالى فيه وجب استحالة الاشارة الحسية الى الباري تعالى لأنا نعلم بالضرورة أن مالا يمكن الإشارة الحسية إلى جهته استحالت الاشارة الحسية إليه فإذا لا يكون الباري في الجهة وهو المطلوب وأما إن لم يكن حصول الباري واجبا فاختصاصه بها لابد وأن يكون لفاعل مختار سواء إن كان بواسطة معنى أولا بواسطة معنى وكل ما كان فعلا لفاعل مختار فهو محدث فاختصاص الباري بالحيز محدث فهو إذا في الأزل ما كان حاصلا في الحيز والشيء الذي لا يكون كذلك استحال أن

يصير محتاجا إلى الحيز فثبت أن الباري يمتنع أن يكون في الأحياز والجهات
قال ويمكن أن يعتمد في هذه المسألة أيضا على أنه لو كان في الجهة لكان منقسما لأن الجانب الذي منه يلينا غير الجانب الذي لا يلينا وذلك يوجب انقسام ذاته لكنا بينا أن الانقسام عليه تعالى محال فحصوله في الجهة والحيز أيضا محال قال وهذا الكلام إنما يدفع القول بنفي الجزء الذي لا يتجزأ ولم يذكر في نهايته على نفي الجهة إلا هذا الكلام وقد تقدم ما ذكره على نفي الجسم
وهذه الحجة هي مثل الحجة الرابعة التي ذكرها في تاسيسه لكن فيها حشو وزيادة مستغنى عنها لا حاجة إليها وهؤلاء القوم من أعظم الناس إتيانا بحشو القول الكثير الذي نقل فائدته أو تعلم مضرته كما يروى فيهم عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه ذكر قال أنا ضمين وذمتي رهينة لا يهيج على التقوى زرع قوم ولا يظمأ على الهدى سبخ أصل وإن أبغض الناس إلى الله تعالى رجل قمش علما حتى إذا ارتوى من ماء آجن وامتلأ من غير طائل سماه أشباهه من الناس عالما فإن نزلت به احدى الشبهات هيأ له حشو الرأي من قيله فلا هو سكت عما لا يعلم فيسلم ولا تكلم بما يعلم فيغنم تصرخ منه الدماء وتبكي منه الفروج الحرام وهو من أحق الناس بهذا هؤلاء المتكلمون في أصول الدين بغير كتاب الله وسنة رسوله ويوقعون بين الأمة العداوة والبغضاء بما لا أصل له حتى قد يكفروا من خالفهم ويبيحوا قتلهم وقتالهم كما يفعل أهل الأهواء من الخوارج والرافضة والجهمية والمعتزلة كما فعله هذا المؤسس في كتابه هذا وأمثاله حيث كفر الذين خالفوه وهم أحق بالإيمان بالله ورسوله منه بدرجات لا تحصى ولا حول ولا قوة إلا بالله

ولهذا كان التكفير لمن يخالفهم من أهل السنة والجماعة من شعار المارقين كما قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما استفاض عنه من الأحاديث الصحيحة في صفة الخوارج يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية وفي رواية يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان
وهؤلاء الذي يدعون الإيمان لأنفسهم دون أهل السنة والجماعة من المسلمين كالخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة لهم نصيب من قوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون وبعضهم مع بعض كما قال الله تعالى وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون فهم كما قال الامام أحمد مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب قد جمعوا وصفي الاختلاف الذي ذمه الله في كتابه فإنه ذم الذين خالفوا الأنبياء والذي اختلفوا على الأنبياء فآمن كل منهم ببعض وكفر ببعض قال في الأولين ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد وقال في الثاني ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم وقال إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله وقال ولا يزالون مختلفين

إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم
وهؤلاء الجهمية معروفون بمفارقة السنة والجماعة وتكفير من خالفهم واستحلال دمه كما نعت النبي صلى الله عليه و سلم الخوارج لكن قولهم في الله أقبح من قول الخوارج وإن كان للخوارج من المباينة للجماعة والمقاتلة لهم ما ليس لهم مع أن أهل المقالات ذكروا أن قول الخوارج في الصفات هو قول الجهمية والمعتزلة هذا ذكره الأشعري وغيره من المعتزلة وهذا والله أعلم يكون قول من تأخر من الخوارج إلى أن حدث التجهم في أول المأة الثانية وأما الخوارج الذين كانوا في زمن الصحابة وكبار التابعين فأولئك لم يكن قد ظهر في زمنهم التجهم أصلا ولا عرف في الأمة إذ ذاك من كان ينكر الصفات أو ينكر أن يكون على العرش أو يقول أن القرآن مخلوق أو ينكر رؤية الله تعالى ونحو ذلك مما ابتدعته الجهمية من هذه الأمة
وقد تكلمنا على هذه الحجة في غير هذا الموضع بما فيه كفاية ونذكر ما يليق بهذا الموضع وذلك من وجوه
أحدها أن قوله لو كان حصوله في جهة لكان إما أن يكون في أكثر من حيز واحد أو لا يكون إلا في حيز واحد يقال له أما الذين يقولون إنه فوق العرش وليس بجسم وهم أئمة أصحابك والكلابية وطوايف كثيرة من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وقد ذكر الأشعري أنه قول أهل السنة وأصحاب الحديث فيمنعون التلازم ويقولون لا نسلم أنه إذا كان في جهة بمعنى أنه نفسه فوق العرش لكان إما أن يكون في حيز واحد أو في أكثر من حيز فإن هذا التلازم إنما فيما إذا كان فوق العالم جسما أما إذا وافقتمونا على أنه ليس بجسم فإن التقدير يكون إذا كان فوق العالم ما ليس بجسم أو إذا كان في الجهة ما ليس بجسم فإنه إما أن يكون في حيز واحد أو أكثر ومعلوم أن ما ليس بجسم لا يكون في الحيز الاصطلاحي لافي واحد ولافي أكثر وهذا ظاهر واضح

فإن قلت هذا متناقض فإنه إذا كان فوق العالم أو في الجهة وجب أن يكون جسما قيل لك أولا قد صدرت هذا الكلام في هذه المسألة بأنه لايلزم من نفي كون الشيء جسما نفي اختصاصه بالحيز وإذا سلمت لهم لم يكن لك أن تنازعهم فيه فإن هذا رأس المسألة فيكون التقدير باتفاق منك ومنهم أن ما ليس بجسم إذا كان في الجهة بمعنى أنه يكون فوق العالم هل يكون في حيزين يعني الحيز الاصطلاحي وهم يقولون أنه لا يكون في الحيز الاصطلاحي مع كونه فوق العالم ومع كونه في الجهة وهي جهة العلو
الوجه الثاني أن يقال قولك في حيز واحد أوفي أكثر من حيز يقتضي تعدد الأحياز وذلك ممنوع فإن الأحياز إما أن تكون وجودية أو عدمية وهي ليست وجودية كما قررته في هذه الحجة وفي غيرها وإذا كانت عدمية فالعدم المحض لا يتعدد ولا يقال فيه إما أن يكون واحدا أو اثنان فامتنع أن يقال إما أن يكون في حيز واحد أو في حيزين
ويتقوى هذا بالوجه الثالث وهو أن الحيز إما أن يكون وجوديا أو عدميا فإن كان وجوديا جاز اختصاصه بأمر وجودي على سبيل الوجوب كاختصاصه بصفاته الواجبة له الوجودية وحينئذ فيبطل ما ذكره في الحجة من امتناع كونه في الحيز واجبا أو جائزا وإن كان الحيز عدميا لم يصح أن يقال إما أن يكون في حيز واحد أو في حيزين وهذا يقتضي بطلان أحد طريقيه الذي ذكرهما في هذه الحجة أحدهما إما أن يكون في حيز أو حيزين والثاني امتناع كونه واجبا أو جائزا
يوضح هذا الوجه الرابع وهو أن أحياز المتحيز الوجودية اللازمة له هي حدوده ونهايته والعدمية هي ما يقال إنه تقدير المكان فإن أراد بالحيز الأمر

الوجودي منعت الحجة التي منع فيها أن يكون له حيز واجب وأن أراد به الأمر العدمي منع انقسامه إلى واحد وكثير
فإن قيل الحيز العدمي الذي هو تقدير المكان يتجدد ويتعدد باتحاد الحال وتعدده فإذا كان الحال فيه جوهرا واحدا كان واحدا وإن كان جواهر متعددة كان متعددا
قيل الجواب عن هذا هو الوجه الخامس وهو أن هذه المسألة قد صدرها بالكلام في الحيز مع من يقول أنه ليس بجسم ومع هذا فإنه يكون مختصا بالجهة وقد قال هو لما ذكر الحجة إذا ثبت ذلك ثبت أنه لا يلزم من نفي كون الشيء جسما نفي اختصاصه بالجهة والحيز
وإذا كان كذلك فيقال إما أن يكون الحال فيه جسما أو جوهرا فردا أو لا يستلزم ذلك فإن كان الحيز مستلزما لذلك لم يكن المختص بالحيز إلا جسما أو جوهريا فردا وحينئذ فيلزم من نفي كونه جسما وكونه جوهرا فردا أن لا يكون متحيزا كما قد يفعله المؤسس وغيره أحيانا وهو خلاف الفرض فإن الفرض نفي الحيز والجهة بدون البناء على نفي الجسمية خلافا لمن يقول ليس بجسم ولكنه في الحيز والجهة فإذا كان هذا الدليل لا يتم إلا بنفي الجسمية بطل هذا الدليل من أصله ومتى كان الحيز مستلزما للجسم أو للجوهر الفرد لزم من نفي اللازم وهو الجسم والجوهر الفرد نفي الملزوم وهو الحيز وإن كان الحيز ليس مستلزما للجسم والجوهر الفرد لم يلزم أن يكون الحال فيه جسما ولا جوهرا فردا وحينئذ فلا يلزم أن يقال ينقسم بانقسام الحال فيه إن كان جوهرا فردا كان

الحيز واحدا وإن كان جسما كان أكثر من واحد فإن الحال فيه على هذا التقدير لا يكون جسما ولا جوهرا فردا وإن كان كذلك ظهر أن تقسيمه الحيز إلى واحد وإلى أكثر من واحد غير لازم على هذا التقدير ولا يصح الدليل على التقدير الأول وذلك يظهر بطلانه على التقديرين
الوجه السادس أن يقال هب أنه لم يسلم أن الحيز مستلزم لكون الحال فيه جسما ولم يسلم أن نفي الجسم لا يستلزم نفي الحيز لكن يقال انقسام الحيز إلى واحد أو أكثر من واحد إما أن لا يعلم إلا بأن يعلم أن محله جسم أو جوهر أو يعلم قبل العلم بحال محله فإن لم يعلم اتحاده وتعدده إلا بالحال فيه لم يلزم إذا قيل إن الله في حيز أن يكون الحيز منقسما إلى واحد وعدد حتى يثبت أنه يجب أن يكون الله جسما أو جوهرا فردا فيكون العلم بانقسام الحيز إلى واحد وعدد متوقفا على العلم بأن الباري تعالى يجب أن يكون على هذا التقدير جسما أو جوهرا فردا وهو لم يبين ذلك وإذا تبين ذلك كان نفي الجسم كافيا له في نفي كونه متحيزا فلم يحتج حينئذ إلى تقسيم الحيز إلى واحد أو أكثر من ذلك فظهر أن هذا الذي ذكره لم يذكر عليه حجة ولو ذكر عليه حجة لم يحتج إلى ذكره وعلى التقديرين فلا يصلح ذكره لامع الحجة ولا بدون الحجة على هذا التقدير وإن كان العلم بانقسامه إلى واحد أو عدد يعلم بدون أن يعلم أن محله جوهر أو جسم فليذكر ذلك أو لم يذكره فيتوجه المنع ثم إنه لا يصلح أن تحتج على ذلك إلا بكون الحيز ينقسم بانقسام الحال فيه والحال فيه لا يكون إلا جوهرا أو جسما لأن التقدير أن انقسامه لا يتوقف العلم به على هذه الحجة

الوجه السابع أن يقال وصف الشيء بأنه واحد وبأنه أكثر من واحد إما أن يستلزم كونه موجودا أو لا يستلزم كونه موجودا فإن استلزم كونه موجودا لزم من هذا التقسيم أن يكون وجوديا وأنت قد ذكرت في تمام الحجة أنه ليس بوجودي وإن كان الوصف بأنه وجودي وإن كان الوصف بأنه واحد وبأكثر من واحد لايستلزم أنه موجود بطل ما ذكره فيما تقدم حكايته عنه من أن الجسم منقسم ليس بواحد فإنه بنى ذلك على أن الوحدة صفة قائمة بالجسم قال والعرض لا يحدث في المحل ولا يحصل فيه إلا إذا كان المحل متعينا متميزا عن غيره فإنه إذا ثبت أن كون الموصوف واحدا أو أكثر لا يستلزم أن يكون موجودا لم يلزم أن تكون الوحدة والكثرة صفة وجودية فإن المعدوم لا يوصف بالصفة الوجودية فإذا لم يجب أن تكون الوحدة وجودية لم يجب أن يقوم بالجسم ولا أن يكون عرضا فلا يمتنع أن يكون الجسم واحدا وإذا كان الجسم واحدا مع عظمته ولم يكن فيه كثرة وجودية لم يصح أن يستدل بحلوله في الحيز على انقسام الحيز وتعدده وحينئذ فإذا لم يلزم من حلول الجسم في الحيز أن يكون الحيز متعددا منقسما في نفسه لم يلزم من حلول الرب في الحيز أن يكون منقسما وجاز حلوله في الحيز الذي لا يقال إنه أكثر من واحد ولا يكون أقل القليل ولايكون جوهرا فردا
وبالجملة فإذا لم يكن الجسم مشتملا على كثرة مع كونه في الحيز فالباري أولى أن يكون كذلك وحيزه أولى بذلك وهو يبطل ما ذكره
الوجه الثامن أن يقال الحيز في نفسه ليس إلا واحدا وليس هو في نفسه منقسما ولا متكثرا وإذا كان كذلك لم يصح أن يكون الحال فيه إما أن يحل في حيز واحد أو في أحياز متعدده فإن هذا مقتضى أن الحيز فيه كثرة وهذا

ممنوع وتوجيه ذلك أن الناس قد تنازعوا في الجسم هل واحد في نفسه أو هو متكثر فيه انقسامات حاصلة على قول كما تقدم حكايته وتقدم أن المؤسس لم يذكر على انقسامه وعدم وحدته حجة وإذا كان الأمر كذلك مع أن الجسم يقبل الانقسام بلا نزاع فالحيز الذي لا يعقل فيه وجود الانقسام أولى أن لا يكون فيه كثرة ولا انقسام وهذا ظاهر
بل يقال في الوجه التاسع إن انقسام الحيز في نفسه قبل حلول شيء فيه ممتنع قطعا سواء قيل إن الجسم واحد أو منقسم في نفسه وذلك لأن الحيز هنا ليس المراد به شيئا موجودا كما قد قرره وإنما هو تقدير المكان وهذا هو مسمى الحيز في اصطلاح كثير من المتكلمين وإذا كان كذلك فمن الممتنع أن يتميز بعضه عن بعض قبل حلول ما يتقدر به وهذا معلوم بالحس والضرورة العقلية ولا يقول قائل إن ذلك يتميز بالإشارة فإن الإشارة إلى العدم محال وإنما يشار إلى موجود وإذا كان الحيز لا يتعدد ولا ينقسم قبل حلول الحال فيه كان تعدده تابعا لتعدد الحال فيه فإن لم يثبت كون الحال فيه جسما منقسما لم يكن منقسما وإذا كان المنازع له يقول إن الحال فيه ليس هو جسما أو هو جسم وليس بمنقسم في نفسه بطل انقسام الحيز ومن المعلوم أن القائلين بأنه متحيز يقولون هذا تارة وهذا تارة كما تقدم ذكر ذلك عنهم
ومن قال إنه منقسم بمعنى يتميز بعضه عن بعض فجوابهم ما يقال في الوجه العاشر أن يقال الحيز الواحد هو ما يحل فيه الجوهر الفرد كما فسرته فيما بعد فإن الحال فيه يكون أقل القليل ويتعالى الله عن ذلك وإذا كان كذلك كان ثبوته مبنيا على ثبوت الجوهر الفرد وأنت قد اعترفت أنك وأذكياء الطوائف متوقفون فيه لتعارض الأدلة فيه وإذا لم يعلم ثبوت الجوهر الفرد لم يعلم ثبوت حيز واحد بهذا الصغر واذا لم يعلم ذلك بطل العلم بأن الحيز

إما واحدا بهذا التفسير وإما أكثر من واحدا بهذا التفسير وإما أكثر من واحد
الوجه الحادي عشر أن يقال لك ما مرادك بالحيز الواحد وبأي شيء يتميز الحيز الواحد عما هو أكثر منه فإن أردت به ما يحله الجوهر الفرد لم يثبت توحد الحيز حتى يثبت الجوهر الفرد ويثبت حلوله فيه ومن المعلوم أن الحيز لو كان ثابتا في نفس الأمر فليس هو مما يحس حتى يعلم حلوله في الحيز أو عدم حلوله بل أكثر ما يقال إنه داخل الجسم في حيز علمنا أن الجواهر التي خلقت فيه أيضا لكن هذا لا يفيد تميز الحيز الواحد عن غيره ولا العلم به وإذا كان الحيز الواحد الذي أردته لا يتميز ولا يعلم به كان العلم بحلول الشيء فيه أو عدم حلوله باطلا لأن العلم بحلول الشيء في محله فرع تصور المحل فإذا كان المحل لا يعلم توحده ولا يتميز كان الحكم بثبوت الحلول فيه أو عدمه حكما باطلا فيكون الدليل باطلا
الوجه الثاني عشر أن يقول لك المنازع إما أن تريد بالحيز الواحد ما يحل فيه الجوهر الفرد أو ماهو أكبر منه فإن أردت الأول فحلول الرب فيه محال كما ذكرته وكان المنازع يقول لك يحل في أكثر من واحد بهذا التفسير
وأما قولك الحاصل في أحد الحيزين إما أن يكون هو الحاصل في الآخر أو غيره يقال لك لا هو هو ولا هو غيره أو لا يقال هو هو ولا هو غيره كما تقدم تقرير ذلك على أصل كثير من متكلمي الصفاتية أو أكثرهم غير مرة بأن الغيرين ماجاز وجود أحدهما دون الآخر أو ماجاز مفارقته له في مكان أو زمان أو وجود وحينئذ فلا يرد ما ذكرته على كونه هو هو وكونه غيره وإن أردت بالواحد

ما هو أكبر من محل الجوهر الفرد لم يكن الحال مستلزما لأن يكون أقل القليل وقد بطل حجة الصغير وسيأتي الكلام على الوجوب والجواز
الوجه الثالث عشر أن يقال هذه الحجة مشتملة على حجتين إحداهما حجة الانقسام أو الصغر وهي تعم الأقسام والثانية ما يخص قسما قسما مع ذلك ونحن نتكلم على الحجتين جميعا فإحداهما حجة الانقسام والتركيب والأخرى هي من جنس حجة تماثل الأجسام وهاتان الحجتان هما جماع ما يذكره النفاة في هذا الباب فإنه يعود إلى ما يذكره من التركيب وإلى ما يذكره من التمثيل وقد تقدم فيما يمتنع من ذلك وبينا أن سورة الإخلاص قل هو الله أحد الله الصمد تنزهه عن الممتنع من هذين فاسمه الأحد منع التشبيه الممتنع عليه واسمه الصمد منع الانقسام والتركيب الممتنع عليه ولكن هؤلاء النفاة غلوا في ذلك وتعدوا حدود الله فيه فزادوا على الحق من الباطل شيئا كثيرا كما أن من المثبتة من غلا في الاثبات وتعدى حدودا الله حتى زاد على إثبات الحق زيادات باطلة والله يهدينا الصراط المستقيم وليس هذا موضع الشرح والبسط لما تضمنته هذه السورة العظيمة من أصول التوحيد والايمان فإنها كثيرة عظيمة إذ الأحدية والصمدية ينتظمان أصول التوحيد والإيمان والدين في أسماء الله وصفاته في دينه إذ دينه الحق يتبع ما هو عليه سبحانه في نفسه
ولما كان الدين عند الله هو الاسلام والاسلام هو الاستسلام لله وحده وله ضدان الاشراك والاستكبار فالمستكبر استكبر عن الاسلام له والمشرك استسلم لغيره وإن كان قد استسلم له فمعنى الأحد يوجب الاخلاص لله المنافي للشرك ومعنى الصمد يوجب الاستسلام لله وحده المنافي للاستكبار فإن الصمد يتضمن صمود كل شيء إليه وفقره إليه

وأيضا فدين الله واحد لا تفرق فيه والصمد يناسب اجتماعه فالله سبحانه وتعالى هو الاله الواحد ودينه واحد وعباده المؤمنون مجتمعون يعتصمون بحبله غير مفترقين واسمه الأحد يقتضي التوحيد والصمد يقتضي الاجتماع وعدم التفرق فإن الصمد فيه معنى الاجتماع وعدم التفريق والتوحيد أبدا قرين الاجتماع لأن الاجتماع فيه الوحدة والتفرق لابد فيه من التثنية والتعدد كما أن الاشراك مقرون بالتفرق قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ولهذا كان شعار الطائفة الناجية هو السنة والجماعة دون البدعة والفرقة فإن أصل توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وأصل البدع الاشراك بالله شركا أصغر أو أكبر
وهؤلاء الملبسون يقولون لا ينقسم أو لا يتجزأ أو لا يتبعض ونحو ذلك ولو لم يريدوا إلا ما هو حق لكانوا محسنين لكن حقيقة قولهم أنه ليس هناك شيء يتصور أن يكون مجتمعا فضلا أن يكون متفرقا ولا شيء موجود يتميز عن غيره فضلا عن أن يكون منقسما فأخذوا لفظ التفرق والانقسام فوضعوه على غير المعاني المعروفة ونفوا به ما يستلزم نفي الحقيقة بالكلية كما فعل غيرهم في نفي العلم والقدرة ونحوهما أو نفي الأسماء كالحي والعليم والقدير ونحو ذلك فنفي الصفات يستلزم نفي الأسماء كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع
والمقصود هنا الكلام على هاتين الحجتين الانقسام والجواز بحسب ما ذكره في نهايته وإن كان قد تقدم الكلام عليها فنقول

قوله إذا كان في أكثر من حيز لزم انقسامه لا نسلم أنه يستلزم انقسامه ولا نسلم أيضا أن الحيز الكبير ينقسم حتى يكون مافيه منقسما ولو كان هو منقسما لم نسلم أن كل ما في المنقسم يجب أن يكون منقسما
الوجه الرابع عشر أنه قد تقدم غير مرة أن هذا الانقسام أكثر ما يراد به امتياز بعضه عن بعض وبينا أن هذا مثل امتياز الصفات وبينا أن هذا مما يجب أن يقر به كل أحد في كل موجود وأن نفي هذا يستلزم جحد الموجودات جميعها الواجب والممكن وبينا أن ما يذكر في ذلك من الافتقار والغير والحيز فهو ألفاظ مجملة مشتركة مشتبهة يراد بها حق وباطل فيجب أن ينفى ما فيها من الباطل دون الحق الذي يريده بعض الناس بهذه الألفاظ وقد تقدم بسط ذلك بما يغني عن إعادته وهو أحال على ما تقدم فأحلنا أيضا عليه
الوجه الخامس عشر أن المنازع يقول به هب أن في حيز واحد فلم قلت أن ذلك محال قولك إنه يكون أقل القليل ويتعالى الله عنه يقال لا نسلم أنما هو حيز واحد لا يتسع إلا مقدار الجوهر الفرد بل يكون واحدا وهو عظيم وهذا في الحيز أولى منه في الجسم فإذا كان قال طوائف إن الجسم يكون عظيما ويكون واحدا فالحيز أولى وأيضا فمن قال إنه فوق العرش وهو عظيم وليس بجسم أو هو جسم وليس بمركب فإنه يقول بثبوت حيز واحد عظيم
الوجه السادس عشر أن المنازع يقول الجوهر الفرد لا يخلو إما أن يكون ثابتا أو لا يكون فإن كان ثابتا لم تكن قد ذكرت دليلا عقليا على نفي

كونه بقدره كما اعترفت بذلك فيما تقدم في نهايتك في المسلك الثاني على نفي الجسم أن المنازع إذا أصر على المطالبة بالدليل على أنه حال كونه بقدر الجوهر فطريق دفعه أن يتمسك بالوجوه التي استدل بها على نفي الجزء الذي يتجزأ حتى تنقطع المطالبة وإذا لم يكن لك طريق إلا هذا فهذا الطريق باطلة إذا قدر ثبوت الجوهر الفرد فإنه بتقدير ثبوته تكون الوجود التي احتج بها على نفيه باطلة وإذا لم يكن الجوهر الفرد ثابتا لم يجز أن يقال إن الحال في الجزء الواحد هو أقل القليل بل لم يكن الحيز الواحد إذا فسر بذلك وجود أصلا وإذا كان كذلك فعلى التقديرين لا تكون قد ذكرت حجة على أنه لا يكون في الحيز الواحد وإنما تعتصم في مثل ذلك بالإجماع إجماع العقلاء وإجماع المسلمين داخل في ذلك
فيقال لك هؤلاء المنازعون يقول إنه عظيم في نفسه أعظم من كل عظيم وأكبر من كل كبير وأعلى من كل عال قد وسع كرسيه السموات السبع والأرضين السبع ويقولون لك ماقدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم أو كما قال فهذا مستند ثان نفى كونه بقدر الجوهر الفرد فإن سلمت ذلك لم يكن لك أن تقول ليس فوق العرش ولا هو في نفسه كبير وعظيم ولم يكن ما سلموه يستلزم أن لا يكون فوق العرش وإن قيل إنه في حيز واحد أو جهة واحدة وإن لم تسلم ذلك بل زعمت أنما فوق السماوات رب ولا هناك إله أصلا وأن محمدا لم يعرج به إلى الله تعالى بل صعد إلى علو العالم فقط وأن رب العالمين ليس داخل العالم ولا خارجه قالوا لك

نحن نقول إن من وصفه بهذا فقد جعله معدوما والمعدوم أحقر من الجوهر الفرد وإذا كان كذلك لم نسلم لك مادمت مصرا على هذا النفي أنه أحقر من الجوهر الفرد فإن ذلك يستلزم تسليم النقيضين فيكون قد سلمنا أنه معدوم وأنه ليس أحقر من الجوهر الفرد وذلك باطل وإذا لم يسلم له على هذا التقدير أنه أحقر من الجوهر الفرد لم يكن له أن يحتج بالاجماع كما تقدم نظير هذا
وتقدم ما قرره في أول نهايته أن الاحتجاج بمثل هذا الاجماع الذي يختلف فيه المأخذ لا يصح نظرا ولا مناظرة فإن المناظر ليس له أن يحتج بموافقة موافق بناءا على مأخذ لا يعتقد صحته والمناظر يجيبه خصمه بأنك إن وافقتني على المأخذ وإلا منعتك الحكم على هذا التقدير لأنه عندي تقدير غير واقع فلا يكون له حجة بحال ولو احتج بها في الفطرة في إعظام الله أن يكون كذلك قيل له هذه الفطرة التي فيها أن الله تعالى فوق العالم وهي تحيل الله أن يقال ليس فوق العالم ولا داخله ولا خارجه كما يحيله أن يقال هو بقدر الجوهر الفرد فإن كان ما الفطرة من هذا حقا فكذلك الآخر وحينئذ فلا يبقى معه حجة على نفي كونه بقدر الجوهر الفرد لا عقلية ولا سمعية لأن السمع إما نص وإما إجماع والسمعيات التي وصف الله فيها نفسه بأنه علي وعظيم وكبير معناها عندهم القدرة والقهر لا يعنون بها عظم قدره في نفسه فلا ينافي ما زعموه صغر المقدار لا سيما مع ما يعتمدونه من القول بأن الملك العظيم والآدمي العظيم يكون بقدر الجوهر الفرد لأن الحياة ولازمها لا تحل إلا في قدر ذلك كما تقدم وإذا لم يكن لهم على ذلك حجة بطلت هذه الحجج التي ذكرها وظهر عجزهم عن تنزيه الله تعالى أن يكون فيه نقص فلا يقدرون أن ينزهوه على أصولهم العقلية عن نقص ولا عن صغر
الوجه السابع عشر قوله في الحجة الثانية حصوله في ذلك الحيز إما واجب وإما جائز يقال إن أريد بالحيز ما هو داخل في مسمى اسمه مثل

ما يدخل في صفاته في مسمى اسمه ومثل ما يدخل حدود الشيء ونهايته في مسى اسمه فيقال حصوله فيه واجب ويكون وجوديا والكلام في قوله يكون منقسما قد تقدم غير مرة بأن الانقسام لفظ مجمل تختلف فيه الاصطلاحات فهو منفي بالمعنى الذي لا يلزم من هذا والمعنى الذي يلزم لا محذور فيه بل هو واجب لكل موجود
الوجه الثامن عشر قول من يقول لا يجوز عليه الحركة والانتقال فإنه يقول حصوله في الحيز المعين يكون واجبا
وأما قوله لو كان كذلك لكانت حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة غيره فيكون وجوديا يقول لا نسلم وذلك لأن الاختصاص لا يجب أن يكون لمعنى في الحيز يجوز أن يكون لمعنى في الرب وهو ما توافقهم عليه من امتناع الحركة والانتقال وعدم ذلك ليس بنقص عندك ولا عندهم كما تقدم وتقدم أن ما الزمتهم من كونه يكون كالزمن هو لك ألزم أيضا فأنت وهم مشتركون في ذلك وهو بك الصق منه بهم
الوجه التاسع عشر أن يقال هب أنه وجودي وحقيقته مخالفة لحقيقة غيره وأنه يمكن الاشارة الحسية إليه فقولك إنه إن كان منقسما كان الحال فيه منقسما يمنعون الملازمة كما تقدم ويقولون في الانقسام بما تقدم من الجواب المفصل
الوجه العشرون قولك أولا يكون منقسما فيكون مختصا بجهة دون جهة فيكون للحيز حيز آخر ويلزم التسلسل يقال هب أن هذا الحيز أمر وجودي فلم لا يجوز أن يكون حيز هو عدمي والتسلسل إنما يلزم أن لو كان لكل حيز وجودي حيز وجودي

الوجه الحادي والعشرون قولك وإن لم تمكن الاشارة الحسية إلى الحيز الذي حصل فيه الباري وجب استحالة الاشارة إلى الباري لأنا نعلم بالضرورة أن ما لا تمكن الاشارة الحسية إلى جهته استحالت الاشارة الحسية إليه فإذا لا يكون الباري في الجهة
يقال لك الضروري بأن ما لا يشار إلى جهته لا يشار إليه ليس بأن ما لا يشار إليه لا يشار إلى جهته ثم كثير من الناس بل أكثرهم يقولون ذلك مثل العلم الضروري بأن ما يشار إليه وإلى جهته لا يكون إلا جسما وكثير من الناس إن ذلك مثل العلم الضروري بأن مالا يشار إليه ولا إلى جهته ولا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوما بل المقرون بأن هذا علم ضروري أعظم من المقرين بذلك
وإذا كان كذلك فإن نازعتهم في هذا العلم الضروري لم يكن عليهم أن يسلموا لك ذلك العلم الضروري الذي يلزمهم بتسليمه نفي هذا العلم الضروري لأن تسليم العلم الضروري يستلزم نفي علم ضروري تسليم لتنافي العلمين الضروريين وذلك باطل ولا يجب تسليم الباطل وإن لم تنازعهم في هذا العلم الضروري لم يكن ما ذكرته حجة عليهم فإنه إذا سلم أنه فوق العالم وأنه يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه حصل المطلوب
الوجه الثاني والعشرون قولك وإن لم يكن حصوله في الجهة واجبا فاختصاصه بها لابد أن يكون لفاعل مختار فاختصاص الباري به محدث فهو في الأزل ما كان في الحيز والذي يكون كذلك يستحيل أن يصير حاصلا في الحيز وفي نسخة محتاجا إلى الحيز

فيقال لك إذا كان الحيز أمرا وجوديا كالعرش والغمام كان اختصاص الله بكونه فوق العرش تابعا لخلقه العرش وذلك حاصل بمشيئته واختياره وهو محدث وهو وإن لم يكن في الأزل على العرش لكن لم قلت إذا لم يكن في الأزل على العرش أنه يستحيل أن يصير بعد ذلك على العرش هذا لم تذكر عليه دليلا وأما إن كان المدعي أنه يستحيل أن يصير محتاجا إلى الحيز فهذا حق لكن كونه فوق العرش لا يوجب احتياجه إلى شيء بل هو الحامل بقدرته للعرش ولكل شيء
الوجه الثالث والعشرون أن يقال العلو على العرش للناس فيه قولان مشهوران أحدهما أنه نسبة وإضافة بينه وبين العرش من غير فعل محدث يقوم بذات الرب وهؤلاء قد يقولون الاستواء من صفات الذات وعلى هذا التقدير فتجديده بخلق العرش كتجديد سائر النسب والاضافات وذلك جائز باتفاق العقلاء كتجديد المعية والثاني أنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا عليه كما دل على ذلك القرآن والذي قال هذا يقول في استوائه إلى السماء ونزوله ومجيئه وإتيانه ونحو ذلك مثلما يقول في الاستواء وإن ذلك من أفعال ذات الله تعالى وهؤلاء هم جمهور أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفيه وغيرهم وعامة كلام السلف يدل على هذا وهذا متصل بمسألة حلول الحوادث به وهو قد ذكر أنه ليس في الأدلة العقلية ما ينفي حلول الحوادث به وذكر أن الطوائف جميعهم يلزمهم القول به وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يستوي عليه بعد أن لم يكن مستويا
وإذا كان على القولين لا يمتنع أن يصير فوق العرش وإن لم يكن في الأزل عرش يكون الله فوقه بطل ما ادعاه من أنه إذا كان اختصاص الباري بالحيز محدثا فهو إذا في الأزل ما كان حاصلا في الحيز والشيء الذي يكون كذلك استحال أن

أن يصير حاصلا في الحيز فإن ذلك لا يستحيل على الوجه الذي بيناه وأما إن كان قد قال استحال أن يصير محتاجا إلى الحيز فهذا حق لكن تجدد الأمور الجائزة لا يقتضي أنه محتاج إليها
الوجه الرابع والعشرون أنه يقال قولك في أصل هذه الحجة الثانية حصوله في الحيز إما أن يكون واجبا أو غير واجب يقال لك أتريد بالحيز نوع الحيز أم تريد الحيز المعين فإن اللام تكون للجنس وتكون للحيز المعين فإن أردت به النوع لم يصح ما ذكرته في القسم الأول وهو قولك لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز لكانت حقيقته محالفة لحقيقة غيره لأن الحيز على هذا التقدير هو النوع ولا يختص بشيء دون شيء كما أن القائل إذا قال لو كان الجسم مختصا بالحيز لم يرد به حيزا بعينه بل يريد به أنه مختص بأنه لا يكون إلا متحيزا فيمتنع أن يكون غير متحيز
أردت به الحيز المعين لم يصح ما ذكرته في القسم الثاني وهو أنما كان كذلك ما كان في الأزل حاصلا في الحيز المعين والذي يكون كذلك يستحيل أن يصير حاصلا في الحيز وذلك أن الحيز تقدير المكان ليس أمرا موجودا فلم قلت إنه إذا لم يكن في الأزل في حيز معين امتنع أن يكون بعد ذلك في حيز معين فإن هذا مبني على مسألة حلول الحوادث وقد تقدم القول فيه
الوجه الخامس والعشرون أن قولك الشيء الذي يكون كذلك استحال أن يصير حاصلا يمنعه المنازع ويقول لا نسلم أن كل اختصاص بحيز معين وهو تقدير المكان يكون محدثا وأنه يمتنع أن يصير في حيز لم يكن فيه بل الحي القادر سبحانه يختص بما يشاء من الأحياز ولا يلزم من ذلك اختصاصه بحيز معين ولا يلزم من ذلك أن أصل التحيز محدث بل هو

سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء من الأجسام ولا يكون الجسم مخلوقا في حيز ولا يختص بحيز بل له أن ينقله من حيز إلى حيز
وهؤلاء يقولون حياته وقدرته توجب ذلك ونفي إمكان ذلك يقتضي نفي حياته وقدرته كما تقدم بعض حكاية قولهم ويقولون اختصاصه بحيز دون حيز هو نسبة وإضافة إلى ذلك الحيز والأمور الإضافية لا يمنع تجددها ولا زوال المتقدم منها بإتفاق العقلاء فإن الحيز العدمي الذي هو تقدير المكان يجري فيه القولان في العرش ونحوه فمن قال الاستواء عليه مجرد نسبة أمكن أن يقول ذلك هنا ومن قال إن فيه حركة قال بذلك هنا
الوجه السادس والعشرون قولك حصوله في الحيز إما أن يكون واجبا وإما أن يكون غير واجب يقول لك المنازع قولا مفصلا الاختصاص بأصل الحيز واجب أما تعين حيز دون حيز فهو ممكن ليس بواجب وذلك لأن الحيز في الاصطلاح المشهور للمتكلمين هو تقدير المكان وهم يقولون إن كل متحيز يستلزم نوع التحيز وأما الحيز المعين فيجوز أن ينتقل عنه المتحيز كما لو شاء الله تحويل العالم من حيز إلى آخر
ثم لهم هنا قولان أحدهما أن اختصاصه بذلك الحيز المعين مجرد نسبة وإضافة وإذا كان تجدد النسب والإضافات له وزوالها من الأمور الموجودة جائزة باتفاق العقلاء فحدوث هذه النسب وزوالها عما هو تقدير المكان بطريق الأولى والأحرى

فصل
الثاني أي يقال أكثر ما ذلك الحركة وهذا جائز كما تقدم في قولهم استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا عليه وإنه يجىء يوم القيامة ويأتي ونحو ذلك

فصل قال الرازي الفصل الخامس في حكاية الشبه العقلية في كونه تعالى مختصا
بالحيز والجهة
الشبهة الأولى لهم أنهم قالوا العالم موجود والباري موجود وكل موجودين فلابد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه بجهة من الجهات لست ولما لم يكن الباري محايثا للعالم وجب كونه تعالى مباينا عن العالم بجهة من الجهات الست وإذا ثبت ذلك وجب كونه تعالى مختصا بجهة فوق أما قولهم إن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مبينا عنه بجهة فلهم فيها طريقان
الطريق الأول ادعاء البديهة إلا أنه سبق الكلام على هذه الطريقة في أول الكتاب
الطريق الثاني أنهم يستدلون عليه وهو الطريق الذي اختاره ابن الهيصم في المناظرة التي حكاها عن نفسه مع ابن فورك قال الرازي وأنا أذكر محصل تلك الكلمات على الترتيب الصحيح على أحسن وجه يمكن تقرير تلك الشبهة وهو أن يقال لاشك أن كل موجودين في الشاهد فإن أحدهما لابد وأن يكون محايثا للآخر أو مباينا عنه بالجهة وكون كل موجودين في الشاهدكذلك إما أن يكون لخصوص كونه جوهرا أو لخصوص كونه عرضا أو لأمر مشترك بين الجوهر والعرض وذلك المشترك إما الحدوث وإما الوجود

والكل باطل سوى الوجود فوجب أن تكون العلة لذلك الحكم هو الوجود والباري تعالى موجود فوجب الجزم بأنه تعالى إما أن يكون محايثا للعالم أو مباينا عنه بالجهة
قال وأعلم أن هذا الكلام لا يتم إلا بتقرير مقدمات نحن نذكرها وتلك الوجوه التي يمكن ذكرها في تقرير تلك المقدمات
أما المقدمة الأولى وهي قولنا إن كل موجودين في الشاهد فلابد وأن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه بالجهة لابد له من علة والدليل عليه هو أن المعدومات لا يصح فيها هذا الحكم وهذه الموجودات يصح فيها هذا الحكم فلولا امتياز ما صح فيه هذا الحكم عما لا يصح فيه هذا الحكم بأمر من الأمور وإلا لما كان هذا الامتياز واقعا
وأما المقدمة الثانية فهي في بيان أن هذا الحكم لا يمكن تعليله بخصوص كونه جوهرا ولا بخصوص كونه عرضا فالدليل عليه أن المقتضى لهذا الحكم لو كان هو كونه جوهرا لصدق على الجوهر أن ينقسم إلى ما يكون محايثا لغيرة وإلى ما يكون مباينا عنه ومعلوم أن ذلك محال لأن الجوهر يمتنع أن يكون محايثا لغيره وبهذا الطريق تبين أن المقتضي لهذا الحكم ليس كونه عرضا لامتناع أن يكون العرض مباينا لغيره بالجهة
المقدمة الثالثة في بيان أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث ويدل عليه وجوه
الأول أن الحدوث عبارة عن وجود سبقة عدم والعدم غير داخل في العلة وإذا سقط العدم عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود

والثاني وهو الذي عول عليه ابن الهيصم في المناظرة التي زعم أنها دارت بينه وبين ابن فورك فقال لو كان هذا الحكم معللا بالحدوث لكان الجاهل بكون السماء حادثة جاهلا بأن السماء بالنسبة إلى سائر الموجودات التي في هذا العالم إما أن تكون محايثة لها أو مباينة عنها بالجهة لأن المقتضي للحكم إذا كان أمرا معينا فالجاهل بذلك المقتضي يجب أن يكون جاهلا بذلك الحكم ألا ترى الوجود لما كان هو المستدعي للتقسيم إلى القديم والمحدث لا جرم كان اعتقاد أنه غير موجود مانعا من التقسيم بالقدم والحدوث فلما كان التقسيم إلى الأبيض والأسود معلقا بكونه كان ملونا كان اعتقاد أن الشيء غير ملون مانعا من اعتقاد التقسيم إلى الأسود والأبيض ولما رأينا الدهري الذي يعتقد قدم السموات والأرض لا يمنعه ذلك من اعتقاد أن السموات والأرضين إما أن تكون محايثة وإما أن تكون مباينة بالجهة علمنا أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث
الوجه الثالث في بيان أن المقتضي لها الحكم ليس هو الحدوث وقد ذكره ابن الهيصم أيضا في تلك المناظرة وتقريره أن كونه محدثا وصف يعلم بالاستدلال وكونه بحيث يجب أن يكون إما محايثا أو مباينا بالجهة حكم معلوم بالضرورة والوصف المعلوم الثبوت بالاستدلال لا يجوز أن يكون أصلا للحكم الذي يعلم ثبوته بالضرورة فثبت بهذه الوجوه أن المقتضي لهذا الحكم ليس هو الحدوث
المقدمة الرابعة وهي في بيان أنه لما كان المقتضي لهذا الحكم في الشاهد هو الوجود والباري موجود وكان المقتضي لكونه تعالى إما محايثا للعالم أو مباينا عنه بالجهة حاصلا في حقه فكان هذا حاصلا هناك

فاعلم أنا نفتقر في هذه المقدمة إلى بيان أن الوجود حقيقة واحدة في الشاهد والغائب وذلك يقتضي كون وجوده تعالى زائدا على حقيقته فإنه ما لم يثبت هذا الأصل لم يحصل المقصود فهذا غاية ما يمكن ذكره في تقرير هذه الشبهة ومن نظر في تقريرنا لهذه الشبهة وتقريرهم لها علم أن التفاوت بينهما كبير
قال والجواب أن مدار هذه الشبهة على أن كل موجودين في الشاهد فلا بد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا بالجهة وهذه المقدمة ممنوعة وبيانه من وجوه
الأول أن جمهور الفلاسفة يثبتون موجودات غير محايثة لهذا العالم الجسماني ولا مباينة عنه بالجهة وذلك لأنهم بثبتون العقول والنفوس الفلكية الناطقة ويثبتون الهيولي ويزعمون أن هذه الأشياء موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز فلا يصدق عليها أنها محايثة لهذا العالم ولا مباينة عنه بالجهة وما لم يبطلوا هذا المذهب بالدليل لا يصح القول بأن كل موجودين في الشاهد إما أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه
الثاني أن جمهور المعتزلة يثبتون إرادات وكراهات موجودة لا في محل ويثبتون فناءا لا في محل وتلك الأشياء لا يصدق عليها أنها محايثة للعالم أو مباينة عن العالم بالجهة فما لم يبطلوا ذلك لا تتم دعواهم
الثالث أنا نقيم الدليل على أن الاضافات أعراض موجودات في الأعيان ثم نبين أنها تمتنع أن تكون محايثة للعالم أو مباينة عنه بالجهة وذلك يبطل كلامهم وإنما قلنا إن الاضافات أعراض موجودات في الأعيان وذلك لأن

المعقول من كون الإنسان أبا لغيره مغاير لذاته المخصوصة بدليل أنه يمكن أن يعقل ذاته مع الذهول عن كونه أبا وابنا والمعلوم غير ما هو غير معلوم
وأيضا فإنه يمكن ثبوت ذاته منفكة عن الأبوة والنبوة مثل عيسى عليه السلام وآدم فإنه ما كان أبا لأحد ولا ابنا لأحد من الذكور والثابت غير ما هو ثبات فكونه أبا وابنا مغايرا لذاته المخصوصة ثم هذا المغاير إما أن يكون وصفا سلبيا أو ثبوتيا والأول باطل لأن عدم الأبوة هو الوصف السلبي والأبوة واقعة له ورافع العدم الوجود فثبت أن الأبوة وصف وجودي مغاير لذات الأب إذ ثبت هذا فنقول إنه مستحيل أن يقال الأبوة محايثة لذات الأب وإلا لزم أن يقال إنه قائم بنصف الأب نصف الأبوة وبثلثه ثلث الأبوة ومعلوم أن ذلك باطل ومحال أن يقال إنها مباينة عن ذات الأب بالجهة والحيز وإلا لزم كون الأبوة جوهرا قائما بذاته مباينا عن ذات الأب بالجهة وذلك أيضا محال فثبت بهذا الدليل وجود موجود لا يمكن أن يقال إنه محايث لغيره ولا أن يقال مباين عنه بالجهة وإذا ثبت هذا بطل قولهم
السؤال الثاني سلمنا أن كل موجودين في الشاهد فلابد وأن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه بالجهة لكن كون الشيء بحيث يصدق عليه قولنا إما أن يكون وإما أن لا يكون إشارة إلى كونه قابلا للانقسام إليهما لكن قبول القسمة حكم عدمي والعدم لا يعلل وإنما قلنا إن قبول القسمة حكم عدمي لأن أصل القبول حكم عدمي فوجب أن يكون قبول القسمة حكما عدميا وإنما قلنا إن أصل القبول حكم عدمي لأنه لو كان أمرا ثابتا لكان صفة من صفات الشيء المحكوم عليه بكونه قابلا والذات قابلة لتلك الصفة القائمة بها فيكون قبول ذلك القبول زائدا عليه ولزم التسلسل وإنما قلنا إنه لما كان أصل القبول عدميا كان قبول القسمة أيضا كذلك لأن القبول للقسمة قبول مخصوص فتلك

الخصوصية إن كانت صفة موجودة لزم قيام الوجود بالعدم وهو محال وإن كانت عدمية لزم القطع بأن قبول القسمة عدمي وإذا ثبت أنه حكم عدمي امتنع تعليله لأن العدم نفي محض فكان التأثير فيه محالا فثبت أن قبول القسمة لا يمكن تعليله
السؤال الثالث هب أنه من الأحكام الوجودية فلم لا يجوز أن يكون معللا بخصوص كونه جوهرا أو بخصوص كونه عرضا قوله لأن كونه جوهرا يمنع من المحايثة وكونه عرضا يمنع من المباينة بالجهة وما كان علة لقبول الانقسام إلى قسمين يمنع كونه مانعا من أحد القسمين قلنا ما الذي تريدون بقولكم الوجود في الشاهد ينقسم إلى المحايث وإلى المباين بالجهة إن أردتم أن الوجود في الشاهد قسمان أحدهما أن يكون محايثا لغيره بالجهة وهو العرض والثاني أن يكون مباينا لغيره بالجهة وهو الجوهر فهذا مسلم لكنه في الحقيقة إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين مختلفتين فإن عندنا وجوب كونه محايثا لغيره معلل بكونه عرضا ووجوب كون القسم الثاني مباينا عن غيره بالجهة معلل بكونه جوهرا فبطل قولكم إن خصوص كونه عرضا وجوهرا لا يصلحان لعلة هذا الحكم
وإن أردتم به أن إمكان الانقسام إلى هذين القسمين حكم واحد وأنه ثابت في جميع الموجودات التي في الشاهد فهو باطل لأن إمكان الانقسام إلى هذين القسمين لم يثبت في شيء من الموجودات التي في الشاهد فضلا عن أن يثبت في جميعها لأن كل موجود في الشاهد فهو إما جوهر وإما عرض فإن كان جوهرا امتنع أن يكون محايثا لغيره بالجهة فلم يكن قابلا لهذا الانقسام وإن كان عرضا امتنع أن يكون مباينا لغيره بالجهة فلم يكن قابلا لهذا

الانقسام فثبت بما ذكرنا أن الذي قالوه مغالطة والحاصل أن هذا المستدل أوهم أن قوله الموجود في الشاهد إما أن يكون محايثا لغيره أو يكون مباينا عنه بالجهة إشارة إلى حكم واحد ثم بني عليه أنه لا يمكن أن يعلل هذا الحكم بخصوص كونه جوهرا ولا بخصوص كونه عرضا ونحن بينا أنه إشارة إلى حكمين مختلفتين معللين بعلتين مختلفتين
السؤال الرابع سلمنا أنه لا يمكن تعليل هذا الحكم بخصوص كونه جوهرا ولا بخصوص كونه عرضا فلم قلتم إنه لابد من تعليله إما بالحدوث وإما بالوجود وما الدليل على هذا الحصر أقصى ما في الباب أن يقال سبرنا وبحثنا فلم نجد قسما آخر إلا أنا بينا في الكتب المطلولة أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود وشرحنا أن هذا السؤال هادم لكل دليل مبني على تقسيمات منتشرة غير محصورة بين النفي والاثبات
السؤال الخامس سلمنا أن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود ولكن لا نسلم قولكم أنا وجدنا لهذا الحكم علة سوى الحدوث والوجود بيانه من وجهين
أحدهما أن من المحتمل أن يقال المقتضى لقولنا إن الشيء إما أن يكون محايثا للعالم أن مباينا عنه هو كونه بحيث تصح الاشارة الحسية إليه وذلك لأن كل شيئين تصح الاشارة الحسية إليهما فإما أن تكون الاشارة إلى أحدهما عين الاشارة إلى الآخر وذلك كما في اللون والمتلون وهذا هو المحايثة وإما أن تكون غير الاشارة إلى الآخر وهذا هو المباينة بالجهة فثبت أن المقتضي لقبول هذه القسمة هو كون الشيء مشارا إليه بحسب الحس وعلى هذا التقدير ما لم يقيموا الأدلة على أنه مشار إليه بحسب الحس لا يمكن أن يقال إنه يجب أن يكون محايثا للعالم أو مباينا عنه بالجهة لكن كونه تعالى مشارا إليه بحسب الحس هو مما وقع

النزاع فيه وحينئذ تتوقف صحة الدليل على صحة المطلوب وذلك يفضي إلى الدور وهو باطل
الثاني لاشك أن ما سوى الله تعالى إما أن يكون محايثا لغيره أو مباينا عن غيره بالجهة ولاشك أن الله تعالى محالف لهذين القسمين بحقيقته المخصوصة إذ لو لم يكن مخالفا لهما بحقيقته المخصوصة لكان مثلا للجواهر أو الأعراض ويلزم منه كونه تعالى محدثا كما أن الأعراض والجواهر محدثة وذلك محال
وإذا ثبت هذا فنقول إن الجواهر والأعراض يشتركان في الأمر الذي وقعت به المخالفة بينهما وبين ذات الباري فلم لا يجوز أن يكون المقتضي لقبول الانقسام إلى المحايث وإلى المباين هو ذلك الأمر وعلى هذا التقدير سقط هذا السؤال لأنه لا مشترك بين الجواهر والأعراض إلا الحدوث
السؤال السادس سلمنا الحصر فلم لا يجوز أن يكون المقتضي لهذا الحكم هو الحدوث قوله أولا الحدوث ماهية مركبة من العدم والوجود قلنا كل محدث فإنه بصدق عليه كونه قابلا للعدم والوجود وأيضا كون الشيء منقسما إلى المحايث والمباين أيضا معناه كونه قابلا للانقسام إلى هذين القسمين فالقابلية إن كانت صفة وجودية كانت في الموضعين كذلك وإن كانت عدمية فكذلك ولا يبعد تعليل عدم بعدم أما قوله ثانيا لو كان المقتضى لهذا الحكم هو الحدوث لكان الجهل بحدوث الشيء يوجب الجهل بهذا الحكم قلنا الكلام عليه من وجهين
الأول لم قلتم إن الجهل بالمؤثر يوجب الجهل بالأثر ألا ترى أن جهل الانسان بأسباب المرض والصحة لا يوجب جهله بحصول المرض والصحة وجهل نفاة الأعراض بالمعاني الموجبة لتغير أحوال الأجسام لا يوجب جهلهم بتلك

التغيرات وجهل الدهري بكونه تعالى قادرا على الخلق والتكوين لا يوجب جهله بوجود هذا العالم
الثاني لو كان الجهل بالعلة يوجب الجهل بالمعلول لكان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول وعلى هذا التقدير لو كان المقتضي لكون الموجودين في الشاهد إما متحايثين أو متباينين بالجهة هو الوجود لزم أن من علم كون الشيء موجودا أن يعلم وجوب كونه محايثا للعالم أو مباينا له لكن الجمهور الأعظم وهم أهل التوحيد يعتقدون أنه تعالى موجود ولا يعلمون أنه تعالى لابد وأن يكون إما محايثا للعالم أو مباينا له فوجب على هذا المساق أن لا يكون المقتضي لهذا الحكم هو كونه موجودا وهذا السؤال قد اورده الأستاذ ابن فورك من أصحابنا على ابن الهيصم ولم يقدر أن يذكر عنه جوابا سوى أن قال يمتنع أن يحصل العلم بالأثر مع الجهل بالمؤثر ولا يمتنع أن يحصل العلم بالمؤثر مع الجهل بالأثر وطال كلامه في تقرير هذا الفرق ولم يظهر منه شيء معلوم يمكن حكايته قوله ثالثا كونه محدثا وصف استدلالي وكونه إما محايثا أو مباينا أمر معلوم بالبديهة والوصف الاستدلالي لا يجوز أن يكون علة للحكم المعلوم بالبديهة قلنا ممنوع فإنا بينا أن المؤثر في كثير من الأشياء استدلالي والأثر بديهي
السؤال السابع سلمنا أن المؤثر في هذا الحكم ليس هو الحدوث وأنه هو الوجود لكن لم قلتم إنه يلزم حصوله في حق الله تعالى وبيانه أن المطلوب إنما يلزم لو كان الوجود أمرا واحدا في الشاهد والغائب أما إذا لم يكن الأمر كذلك بل كان وقوع لفظ الوجود على الشاهد والغائب ليس إلا بالاشراك اللفظي كان هذا الدليل ساقطا بالكلية ثم إن الكرامية لا يمكنهم أن يقولوا بأن الوجود في الغائب والشاهد واحد إذ لو كان كذلك لزمهم إما القول بكون

الباري تعالى مثلا للمحدثات من جميع الوجوه أو القول بأن وجوده زائدا على ما هيته والقوم لا يقولون هذا الكلام
السؤال الثامن سلمنا أن ما ذكرتم يدل على الوجود هو العلة لهذا الحكم لكن هاهنا دليل آخر يمنع منه وهو أن المقتضي لقبول الانقسام في الجوهر والعرض لو كان هو الوجود لزم في الجوهر وحده أن يقبل الانقسام إلى الجوهر والعرض وأنه محال ولزم أيضا في العرض وحده أن يقبل الانقسام إلى الجوهر والعرض ومعلوم أن ذلك محال فإن قالوا إن كل جوهر وعرض فإنه يصح كونه منقسما إلى هذين القسمين نظرا إلى كونه موجودا وإنما يمتنع ذلك الانقسام نظرا إلى مانع منفك وهو خصوصية ماهيته قلنا هذا اعتراف بأنه لا يلزم من كون الوجود علة لصحة أمر من الأمور أن يصح ذلك الحكم على كل ما كان موصوفا بالوجود لاحتمال أن يكون ماهية المخصوص مانعة من ذلك الحكم وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال الوجود وإن اقتضى كون الشيء إما محايثا لغيره أو مباينا عنه إلا أن خصوصية ذاته تعالى كانت مانعة من هذا الحكم فلم يلزم من كونه تعالى موجودا كونه بحيث يكون إما محايثا للعالم أو مباينا عنه بالجهة
السؤال التاسع أنما ذكرتموه من الدليل قائم في صور كثيرة مع أن النتيجة اللازمة عنه باطلة قطعا وذلك يدل على أن هذا الدليل منقوض وبيانه من وجوه
الأول أن كل ما سوى الله فهو محدث فيكون صحة الحدوث حكما مشتركا بينهما فنقول هذه الصحة حكم مشترك فلابد لها من علة مشتركة والمشترك إما الحدوث أو الوجود ولا يمكن أن يكون المقتضي لصحة الحدوث هو الحدوث لأن صحة الحدوث سابقة على الحدوث بالرتبة والسابق بالرتبة على

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8