كتاب : بيان تلبيس الجهمية
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

الشيء لا يمكن تعليله بالمتأخر عن الشيء فثبت أن صحة الحدوث غير معللة بالحدوث فوجب كونها معللة بالوجود والله تعالى موجود فوجب أن يثبت في حقه صحة الحدوث وهو محال
الثاني أن كل موجود في الشاهد فهو إما حجم قائم بالحجم ثم يذكر التقسيم إلى آخره حتى يكون الباري تعالى إما حجما أو قائما بالحجم والقوم لا يقولون به
الثالث أن كل موجودين في الشاهد فلابد وأن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه في أي جهة كان ثم يذكر التقسيم المتقدم حتى يظهر أن هذا الحكم معلل بالوجود والباري تعالى موجود فوجب أن يصح على الباري كونه محايثا للعالم أو مباينا عنه في أي جهة كان من الجوانب التي للعالم وذلك يقتضي أن لا يكون اختصاص الله بجهة فوق بل يلزم صحة الحركة على ذات الله تعالى من الفوق إلى السفل وكل ذلك عند القوم محال
الرابع أن كل موجودين في الشاهد فإنه يجب أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه بالجهة والمباين بالجهة لابد وأن يكون جوهرا فردا أو يكون مركبا من الجواهر وكون كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام الثلاثة أعني كونه عرضا أو جوهرا فردا أو جسما مؤتلفا لابد وأن يكون معللا بالوجود فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم ينكرون ذلك لأنه تعالى ليس بعرض ولا بجوهر ولا بجسم مؤتلف مركب من الأجزاء والأبعاض
الخامس أن كل موجود يفرض مع العالم فهم إما أن يكون مساويا للعالم أو زائدا عليه في المقدار أو أنقص منه في المقدار وانقسام الوجود في

الشاهد إلى هذه الإقسام الأربعة حكم لابد له من علة ولا علة إلا الوجود والباري تعالى موجود فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه لأقسام الثلاثة والقوم لا يقولون به فثبت بما ذكرنا أن هذه الشبهة منقوضة
قال واعلم أنا إنما طولنا في الكلام على هذه الشبهة لأن القوم يعولون عليها ويظنون أنها حجة قاهرة ونحن بعد أن بالغنا في تنفيحها وتقريرها أوردنا عليها هذه الأسولة القاهرة والاعتراضات القادحة ونسأل الله تعالى أن يجعل هذه التحقيقات والتدقيقات سببا لمزيد من الأجر والثواب بمنه وفضله
قلت والكلام على هذا مع العلم بأن المقصود ذكر القول والفصل والحكم العادل فيما يذكره النفاة من الحجج والجواب عما ذكره من جهة منازعة ليس المقصود استيفاء حجج المثبتة بل إذ تبين أن هذا الذي هو الإمام المطلق في المتأخرين من هؤلاء النفاة المتكلمين والفلاسفة وعرف فرط معاداته لهؤلاء المثبتة الذين ذكرهم وذكر حججهم مع ما هم عليه من ضعف الحجج وقلة المعرفة بالسنن ومذاهب السلف ومع ما فيهم من الانحراف ثم تبين ظهور حججهم العقلية التي ذكرها دع السمعية على ما استوفاه من حجج النفاة العقلية والسمعية مع استعانته بكل من هو من النفاة حتى المشركين الصابئين مثل ارسطو وأبي معشر وشعيتهما من الفلاسفة والمنجمين والمعتزلة وغيرهم ومع أنه لم يبق ممكنا فيما فيه شبهة حجة عرف من الحق ما يهدي به الله من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقد ذكر أن لهم طريقين على أن كل موجودين فلابد وأن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا له أحدهما ادعاء البديهة وقد ذكر أنه سبق

الكلام في ذلك فأحال على ما تقدم وقد قدمنا القول على ما ذكره هناك في مقدمة كتابه مما يبين الحق لمن له أدنى نظر ولا حول ولا قوة إلا بالله
وما ذكره هنا من حكاية كلام ابن الهيصم في مناظرته لابن فورك لم يبلغنا عن الوجه المفصل لكن ذكر بعض المصنفين من النفاة أيضا أنهما تناظرا بحضرة ولي السلطان محمود بن سبكتكين وكان من أحسن ملوك أهل المشرق اسلاما وعقلا ودينا وجهادا وملكا في آخر المائة الرابعة وكانت ملوك في خلافة الظاهر وكانت قد انتشرت إذا ذاك دعوة الملاحدة المنافقين الذين كانوا إذ ذاك بمصر وقد بنوا القاهرة وغيرها ولهم دعاة من أقاصي الأرض بالمشرق وغيره وكان والد ابن سينا منهم وقال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في علوم الأوائل وكان بعض المشرق وكثير من جنده يميل إليهم وفي ذلك الوقت صنف الناس الكتب في كشف أسرارهم وهتك أستارهم مثل الكتاب الذي صنفه القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره وقد صنف مثل ذلك وبعده كتب آخر وإنما المقصود التنبيه على ما يتعلق بما نحن فيه
وكان هذا مما دعا القادر إلى إظهار السنة وقمع أهل البدع فكتب الاعتقاد القادري المنسوب إليه وهو في الأصل من جمع الشيخ أبي أحمد القصار وهو من أجل المشايخ وأعلمهم وله لسان صدق عظيم وأمر القادر باستتابة من خالف ذلك من المعتزلة وغيرهم وقام الشيخ أبو حامد الاسفرائيني إمام الشافعية والشيخ أبو عبد الله ابن حامد إمام الحنابلة على ابن الباقلاني بسبب ما ينسب إليه من بدعة الأشعري وجرت أمور بلغتنا مجملة غير مفصلة وصنف ابن الباقلاني كتابه المعروف في الرد على من ينسب إلى الأشعري خلاف قوله واعتمد السلطان محمود بن سبككتين في مملكته نحو هذا وزاد

عليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر فلعنت الجهمية والرافضة والحرورية والمعتزلة والقدرية ولعنت أيضا الأشعرية حتى جرى بسبب ذلك نزاع وفتنة بين الشافعية والحنفية وغيرهم قوم يقولون هم من أهل البدع فيلعنون وقوم يقولون ليسوا من أهل البدع فلا يلعنون وجرت لابن فورك محنة بأصبهان وجرت له مناظرة مع ابن الهيصم بحضرة هذا السلطان محمود وكان يحب الاسلام والسنة مستنصرا بالاسلام عارفا به غزا المشركين من أهل الهند وفتح الهند وروي أنه قتل عشرة آلاف زنديق
فكان مما حكاه ميمون النسفى الحنفي في كتابه وهو من نفاة العلو أن السلطان فهم كلام الطائفتين وفهم ما ذكرته المثبتة من أن أقوال النفاة توجب تعطيله وأنهم قالوا لو أردنا أن نصف المعدوم لم نصفه إلا بهذه الصفة بأنه لا داخل العالم ولا خارجه أو كلاما هذا معناه وابن فورك عجز عن جواب هذا حتى كتب فيه إلى أبي اسحاق الأسفرائيني وأن الاسفرائيني لم يجب أيضا بما يدفع به ذلك إلا أن قال يلزم من الاثبات أن يكون جسما أو نحو هذا
مع أن المعروف عن أبي بكر بن فورك هو ما عليه الأشعري وأئمة أصحابه من إثبات أن الله فوق العرش كما ذكر ذلك في غير موضع من كتبه وحكاه عن الأشعري وابن كلاب وارتضاه وذكر البيهقي عنه في كتاب الصفات أنه قال استوى بمعنى علا وقال في قوله أأمنتم من في السماء أي من فوق السماء واحتج البيهقي لذلك بقول النبي صلى الله عليه و سلم لسعد بن معاذ حين حكم في بني قريظة لقد حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به فوق سبع سماوات وبقول ابن عباس إن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك

قال أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له الرسالة التي سماها برسالة الايماء إلى مسألة الاستواء لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء وذكر أقوالا متعددة قول الطبري أبي جعفر بن جرير صاحب التفسير وأبي محمد بن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه قال وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر وأبي الحسن يعني الأشعري وحكاه عنه أعني القاضي أبا بكر والقاضي عبد الوهاب نصا وهو أنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بذاته قال وأطلقوا القول في بعض الأماكن فوق عرشه قال أبو بكر الحضرمي وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكن في مكان ولا كون فيه ولا مماسة
قال أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير الكبير في كتاب شرح الأسماء الحسنى بعد أن حكى كلام الحضرمي هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب تمهيد الأوائل له وقاله الاستاذ ابن فورك في شرح أوائل الأدلة وهو قول عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين وقول الخطابي في شعار الدين ثم قال بعد أن ذكر في الاستواء أربعة عشر قولا وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقاة
ونقل أبو بكر بن فورك في كتاب مقالة أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وموافقته الأشعري وما بينهما من النزاع اليسير أو اللفظي فقال الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا أبو الحسن رضي الله عنه في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث وأبان ما أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك

ثم سرد ابن فورك المقالة التي تقدم ذكرنا لها من كلام الأشعري بعينها وما فيها من ذكر العرش واستواء الله عليه والصفات الخبرية وغير ذلك كما تقدم ثم قال في آخرها فهذا يحقق لك من ألفاظه أنه يعتقد لهذه الأصول التي هي قواعد أصحاب الحديث وأساس توحيدهم
ولا ريب أن هذا قول الأشعرية المتقدمين وأئمتهم كلهم ما علمت بينهم في ذلك نزاعا وإنما أنكر ذلك من أنكره من متأخريهم وجميع كتب الأشعري تنطق بذلك كما ذكرنا فيما تقدم من كتبه وفيما لم يصل إلينا مما يحيل هو عليه مثل ما ذكره أبو القاسم بن عساكر في تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري بعد أن قال فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة لتعلم حاله وصحة عقيدته في الديانة فاسمع ما ذكره في الابانة فإنه قال الحمد لله الواحد العزيز الماجد المتفرد بالتوحيد المتمجد بالتمجيد الذي لا تبلغه صفات العبيد وليس له مثل ولا نديد وذكر تمام الخطبة إلى أن قال فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه الامام أحمد بن حنبل نضر الله وجهه قائلون ولمن خالف قوله مخالفون لأنه الامام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وذكر تمام الاعتقاد كما ذكرناه عنه فيما تقدم لما ذكر ما ذكره الأشعري في الأبانة

ثم قال ابن عساكر بعد أن فرغ من سياق ذلك فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه
قال الحافظ ابن عساكر قال أبو الحسن في كتابه الذي سماه العمدة في الرؤية ألفنا كتابا كبيرا في الصفات تكلمنا فيه على أصناف المعتزلة والجهمية فيه فنون كثيرة من الصفات في إثبات الوجه لله واليدين وفي استوائه على العرش
ولشهرة هذا من مذهب الأشعري قال أبو الحسن علي بن مهدي الطبري المتكلم صاحب أبي الحسن الأشعري في كتابه الذي ألفه في مشكل الآيات في باب قوله الرحمن على العرش استوى اعلم أن الله سبحانه وتعالى في السماء فوق كل شيء على عرشه بمعنى أنه عليه ومعنى الاستوى الاعتلاء كما تقول العرب استويت على ظهر الدابة واستويت على السطح بمعنى علوته واستوى الشمس على رأسي واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي فالقديم جل جلاله عال على عرشه قوله أأمنتم من في السماء وقوله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي وقوله إليه يصعد الكلم الطيب وقوله يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه
قال وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه مأخوذ من قول العرب استوى بشر على العراق استولى عليها وقال إن العرش يكون الملك فيقال ما أنكرت أن يكون عرش الله جسما خلقه وأمر ملائكته بحمله قال ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية وأمية يقول ... مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا ... بالبناء الأعلى الذي سبق النا ... س وسوى فوق السماء سريرا

قال ومما يدل على أن الاستواء هاهنا ليس بالاستيلاء لأنه لو كان كذلك لم ينبغ أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه إذ هو مستول على العرش وعلى سائر خلقه وليس للعرش مزية على ما وصفته فبان بذلك فساد قوله
ثم يقال له أيضا إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي من قول العرب استوى فلان على كذا أي استولى إذا تمكن فيه بعد أن لم يكن متمكنا فلما كان الباري لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء
ثم قال حدثنا أبو عبد الله نفطويه ثنا أبو سعيد قال كنا عند ابن الاعرابي فأتاه رجل فقال ما معنى قوله الرحمن على العرش استوى قال هو على عرشه كما أخبر فقال ليس هو كذلك إنما معناه استولى قال ابن الاعرابي اسكت ما يدريك ما هذا العرب لا تقول للرجل استولى على العرش حتى يكون له في مضاد فأيهما غلب قيل استولى عليه والله لا مضاد له وهو على عرشه كما أخبر
قال أبو الحسن بن مهدي الطبري فإن قيل فما تقولون في قوله أأمنتم من في السماء قيل له معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش كما قال فسيحوا في الأرض بمعنى على الأرض وقال لأصلبنكم في جذوع النخل أي على جذوع النخل فكذلك قوله أأمنتم من في السماء
قال فإن قيل فما تقولون في قوله تعالى وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم قيل له إن بعض القراء يجعل الوقف في السموات ثم يتبدى وفي الأرض يعلم سركم وجهركم وكيف ما كان فلو أن قائلا قال

فلان بالشام والعراق ملك لدل على الملك بالشام والعراق لا أن ذاته فيهما قال فإن قيل ما تقول في قوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية قيل له كون الشيء مع الشيء على وجوه منها بالنصر ومنها بالصحبة ومنها بالمماسة ومنها بالعلم فمعنى هذا عندنا أن الله تعالى مع كل الخلق بالعلم
قال قال البخلي فإن قيل لنا ما معنى رفع أيدينا إلى السماء وقوله والعمل الصالح يرفعه قلنا تأويل ذلك أن أرزاق العباد لما كانت تأتي من السماء جاز أن نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء وجاز أن يقال أعمالنا ترفع إلى الله لما كانت حفظة الأعمال إنما مساكنهم في السماء قيل له إن كانت العلة في رفع أيدينا إلى السماء أن الأرزاق فيها وأن الحفظة مساكنهم في السماء جاز أن نخفض أيدينا في الدعاء نحو الأرض من أجل أن الله يحدث فيها النبات والأقوات والمعاش وأنها قرارهم ومنها خلقوا أو لأن الملائكة معهم في الأرض فلم تكن العلة في السماء بما وصفه وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه لرفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه
فإذا كان ابن فورك وسائر أئمة الأشعرية موافقين الكرامية وغيرهم على أن الله عز و جل نفسه فوق العرش وهم جميعا متفقون على مخالفة المعتزلة الذين ينفون ذلك ويتأولون الاستواء بمعنى الاستيلاء ونحو ذلك وهم جميعا متفقون على الاستدلال على أن الله فوق العالم بالآيات التي ذكرها هذا الرازي من ناحية مخالفية مثل قوله إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقوله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي وقوله أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض مثل ذلك في الآيات كما ذكرنا بعض ذلك وقد تنازع ابن فورك وأصحابه مع ابن الهيصم وأصحابه فإما أن يكون نزاعهم لفظيا أو معنويا

فإن كان لفظيا لم يكن ذلك منافيا لاتفاقهم من جهة المعنى وإن كانت المعاني متفقة لم يضر اختلاف الألفاظ إلا إذا كان منهيا عنها في الشريعة
وإن كان النزاع معنويا فهو أيضا قسمان أحدهما اختلاف تنوع بأن يكون هؤلاء يثبتون شيئا لا ينفيه هؤلاء وهؤلاء ينفون شيئا لا يثبته هؤلاء فهذا أيضا ليس باختلاف معلوم إلا إذا كان كل منهما يدفع ما يقوله الآخر من الحق فإذا كان أحدهما يثبت حقا والآخر ينفي باطلا كان على كل منهما أن يوافق الآخر وإذا اختلفا كانا جميعا مذمومين وهذا من الاختلاف الذي ذمه الله تعالى في كتابه حيث قال سبحانه وتعالى وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد وقال ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأمثال ذلك
وإن كانا قد تنازعا حقيقيا هما فيه متناقضان على حقيقة التناقض بحيث أن يكون أحدهما ينفي غير ما أثبته الآخر فهذا بعد اتفاقهم على إثبات أنه فوق العرش وفوق العالم ومخالفتهم جميعا للمعتزلة الذين سلك هذا الرازي وأمثاله مسلكهم في كتابه هذا التأسيس إنما يكون بأن يقول المثبت كونه فوق العرش يستلزم أن يكون في جهة أو يكون متحيزا أو أن يكون منقسما ونحو ذلك ويقول الثاني كونه على العرش لا يستلزم ذلك بل يجوز أن يكون على العرش ولا يكون جسما وهذا الثاني قول الأشعرية فالخلاف بينهم وبين الأشعرية إنه إذا كان على العرش هل يستلزم ذلك أن يكون جسما أو لا يستلزم ذلك
فإن كان هذا هو الخلاف المحقق بين ابن فورك وأصحابه وبين ابن الهيصم وأصحابه فإما أن يكون الصواب مع ابن فورك أو مع ابن الهيصم

فإن كان الصوب مع ابن فورك ثبت حينئذ أنه إذا كان على العرش لم يستلزم ذلك أن يكون جسما ولا أن يكون مركبا أو منقسما ولا غير ذلك وإذا صح هذا بطل ما ذكره هذا المؤسس وأمثاله من أن كونه فوق العرش يستلزم التجسيم وحينئذ فيبطل جميع ما ذكره من الحجج في هذا الكتاب على ابطال كونه على العرش وإذا أقر بأنه فوق العرش فهو أعظم المقصود وحينئذ فيكون كلامه من جنس الأشعرية الأكابر المتقدمين
وإن كان الصواب مع ابن الهيصم وهو أن كونه فوق العرش يستلزم أن يكون جسما وهذا هو الذي يقوله هذا المؤسس وأمثاله من الأشعرية المتأخرين وهو الذي يقوله المعتزلة والفلاسفة الجهمية وأمثالهم فيكون هذا المؤسس وهؤلاء كلهم متفقون على أن الصواب في المناظرة كان مع ابن الهيصم دون ابن فورك
ومعلوم أن أهل الاثبات الذين يقولون هو على العرش ولا يتكلمون في الجسم بنفي ولا إثبات لا ينفون هذا الكلام أيضا وإن خالفهم بعضهم لفظا فيها ولا ينازع في ذلك نزاعا معنويا فيكون جماهير الخلائق من مثبتة الصفات ونفاتها مع ابن الهيصم
فقد ظهر بما ذكره أن تصويب بن فورك ومتقدمي الأشعرية يقتضي تخطئة الرازي ومتأخري الأشعرية الذي خالفوا متقدميهم في قولهم إن الله ليس على العرش وأن تصويب ابن الهيصم وتخطئة ابن فورك هو أولى بتخطئة هؤلاء المتأخرين النفاة لكونه على العرش وإذا كان كذلك ثبت خطأ هذا الرازي وذويه سواء كان المصيب هو ابن فورك أو هو ابن الهيصم وثبت اتفاق الطائفتين المتقدمتين من الأشعرية والكرامية على خطأ هؤلاء المتأخرين من

الأشعرية الموافقين للمعتزلة في نفي أن يكون الله فوق العرش وهذا هو المقصود الأكبر فيما ذكرناه
وأيضا فهذا الرازي وذووه يقولون هم وغيرهم إن العلم بأن كونه على العرش يستلزم أن يكون متحيزا أو أن يكون جسما علم ضروري وإذا كان كذلك كانوا مقرين بأن الكرامية أصوب من شيوخهم المتقدمين وأن ذلك معلوم بالاضطرار وإذا كان كذلك ثبت أن قول الكرامية هو الصواب دون قولهم وقول شيوخهم المتقدمين وذلك أيضا يستلزم أن يكون الله فوق العرش
وهذا يبين إنما تنازع فيه متقدمو الأشعرية ومتأخروهم ثبت به خطؤ إحدى الطائفتين منهم ولم يثبت خطؤ الكرامية في قولهم إن الله فوق العرش فإنه إن كان الصواب مع متقدميهم فهم والكرامية متفقون على أن الله فوق العرش وإن كانت الكرامية مخطئة على هذا التقدير في قولهم هو جسم فهذا لا يضر وإن كان الصوب مع متأخريهم أن كونه على العرش يستلزم التجسيم فهم والمتقدمون من الأشعرية متفقون على أن الله فوق العرش فيكون التجسيم حينئذ لازما للطائفتين جميعا فلا تكون إحداهما مصيبة والأخرى مخطئة
وإذا ثبت خطؤ احدى طائفتي الأشعرية تيقنا بالاتفاق إما مثبتو العلو وإما الملازمون بين العلو والجسم ولم يثبت خطؤ الكرامية المنازعين لهم في قولهم إنه على العرش لا على قول الأولين المثبتين العلو ولا على قول الآخرين الملازمين بين العلو والجسم ظهر أن الكرامية المنازعين الأشعرية في مسألة العلو والجسم أقرب إلى الصواب منهم فإن من ظهر خطؤه على كل تقدير أولى بالخطأ ممن لم يظهر خطؤه في المسألة الواحدة وهي المقصودة الكبرى على التقديرين جميعا وخطاهم في المسألة الأخرى وهي مسألة الجسم إنما يظهر على إحدى التقديرين فقط وهذا بين ظاهر

فإن الأشعرية قد ثبت لزوم الخطأ لهم بالضرورة إما لأوليهم وإما لآخريهم إذا كان النزاع معنويا تضادا كما تقدم وأما الكرامية فهم في مسألة كونه على العرش لم يظهر خطؤهم على التقديرين جميعا وفي مسألة الجسم إنما يكونون مخطئين على قول الأولين فقط إذ الآخرون من الأشعرية يوافقونهم على أن العلو يستلزم التجسيم وظهر بذلك أن كلما تنازع فيه هؤلاء لم يظهر فيه نفي أن يكون الله على العرش وذلك لأن هذا هو الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم وهو القائل سبحانه وتعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله الآية ودين الحق الذي بعث به رسوله ظاهر على كل تقدير
وأيضا فإن هذا معلوم بالفطرة والبديهة وقد ظهر بذلك أن متقدمي الأشعرية وأئمتهم هم أولى بالحق والصواب من متأخريهم وإن كان في قولهم ما يذكر أنه خطؤ فالخطاء الذي مع المستأخرين أعظم وأكثر وهذا لأن الكلام الذي فيه بدعة كلما كان أقرب إلى الفطرة والشرعة كان أقرب إلى الهدى ودين الحق وكلما بعدت البدعة عن ذلك تغلظت
وهذا مما يبين أن فطر الناس وبدائههم ممن ليس به هوى ولا تقليد سواء كان في الأمراء أو الملوك أو غيرهم فإنهم يعرفون بفطرتهم وبديهة عقولهم أن ما ذكره من أنه لا داخل العالم ولا خارجه إنما هو صفة المعدوم وأن الموجودين لابد أن يكون أحدهما قائما بالآخر محايثا له أي يكون حيث هو يكون أو يكون مباينا له منفصلا عنه في جبهه غير جهته
وما زال أئمة السنة يذكرون هذا مثل ما ذكره عبد العزيز الكناني صاحب الشافعي صاحب الحيدة المشهور بالرد على الجهمية والقدرية وغيرهم

قال في رده على الجهمية باب قول الجهمي في قول الله عز و جل الرحمن على العرش استوى زعمت الجهمية أنما قول الله الرحمن على العرش استوى أنما المعنى استولى كقول العرب استوى فلان على مصر استوى فلان على الشام يريد استولى عليهما باب البيان لذلك يقال له هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه فإذا قال لا قيل له فمن زعم ذلك فهو كافر ويقال له يلزمك أن تقول إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه بعد خلق السموات والأرض قال وذلك أن الله أخبر أنه خلق العرش قبل السماوات والأرض ثم استوى عليه الله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء فأخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ثم قال خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسأل به خبيرا وقوله الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم وقوله عز و جل ثم استوى إلى السماء وهي دخان وقوله عز و جل ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات فأخبر أنه استوى على العرش فيلزمك أن تقول المدة التي كان العرش فيها قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه إذا كان استوى على معناه عندك استولى فإنما استولى بزعمه في ذلك الوقت لا قبل
قال وقد روى عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا قد بشرتنا فاعطنا قال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا قد قبلنا فاخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان قال كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء وروي عن أبي رزين العقيلي وكان يعجب النبي صلى الله عليه و سلم مسألته أنه قال يا رسول الله

أين كان الله قبل أن يخلق السموات والأرض قال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء ثم خلق عرشه على الماء
قال فقال الجهمي أخبرني كيف استوى على العرش أهو كما تقول العرب استوى فلان على السرير فيكون السرير حوى فلانا وحده إذا كان عليه فيلزمك أن تقول إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا باب من البيان لذلك يقال له أما قولك كيف استوى فإن الله لا يجري عليه كيف وقد أخبرنا أنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى لأنه لم يخبرهم كيف كذلك ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله ولكن يلزمك أنت أيها الجهمي أن تقول إن الله محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه كما تقول العرب فلان في البيت والماء في الجب فالبيت قد حوى فلانا والجب قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أشنع من ذلك لأنك قلت أفضع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا إن الله حل في عيسى وعيسى بدن انسان واحد فكفروا بذلك وقيل لهم ما أعظمتم الله تعالى إذ جعلتموه في بطن مريم وأنتم تقولون إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهم وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضا أن تقول في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أنه في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
قال فلما شنعت مقالته قال أقول بأن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء مع الشيء خارجا عن الشيء ولا مباينا

للشيء باب البيان لذلك يقال له إن أصل قولك القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئا لأنه لو كان شيئا ما خلا في القياس والمعقول أن يكون داخلا في الشيء أو خارجا عنه فلما لم يكن في ذلك شيئا استحال أن يكون كالشيء أو خارجا عن الشيء فوصفت لعمري ملتبسا لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل
وأما الحجة التي ذكرها عن ابن الهيصم فلم يذكر ألفاظها لكن ذكر أنه نظمها أحسن من نظمه ونحن في جميع ما نورده نحكي ألفاظ المحتجين بعينها فإن التصرف في ذلك قد يدخله خروج عن الصدق والعدل إما عمدا وإما خطأ فإن الانسان إن لم يتعمد أن يلوي لسانه بالكذب أو يكتم بعض ما يقوله غيره لكن المذهب الذي يقصد الانسان إفساده لا يكون في قلبه من المحبة له ما يدعوه إلى صوغ أدلته على الوجه الأحسن حتى ينظمها نظما ينتصر به فكيف إذا كان مبغضا لذلك والله أعلم بحقيقة ما قاله ابن الهيصم وما نقله هذا عنه لكن نحن نتكلم على ما وجدناه مع العلم بأن الكرامية فيهم نوع بدعة في مسألة الايمان وغيرها كما في الأشعرية أيضا بدعة لكن المقصود في هذا المقام ذكر كلامهم وكلام النفاة
ولا ريب أن أئمة الأشعرية وهم الذين كانوا أهل العراق كأبي الحسن الكبير وأبي الحسن الباهلي وأبي عبد الله بن مجاهد وصاحبة القاضي أبي بكر وأبي علي بن شاذان ونحوهم لم يكونوا في النفي كأشعرية خراسان مثل أبي بكر بن فورك ونحوه بل زاد أولئك في النفي أشياء على مذهب

أبي الحسن ونقصوا من إثباته أشياء ولهذا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وكلام أبي سعيد بن كلاب الذي ذكره أبو بكر بن فورك فيما جمعه من كلامهما وبيان مذهبهما أشياء تخالف ما انتصر له ابن فورك في مواضع
وهذه الحجة القياسية التي ذكرها عن ابن الهيصم هي مأخوذة من حجة أهل الاثبات في مسألة رؤية الله وأنهم كانوا يحتجون على جواز رؤية الله بأن الله قادر على أن يرينا نفسه لأنه موجود وما لم تمكن رؤيته لا يكون إلا معدوما وهذه الحجة كانوا يتكلمون فيها كنحو كلام أهل الاثبات في مسألة العلو تارة يحتجون فيها بالعلم الضروري بأن الله تعالى قادر على ذلك وتارة يثبتون ذلك بالقياس فإن الرؤية مما يشترك فيها الجواهر والأعراض فيكون عليها أمر مشترك بينهما ولا مشترك إلا الوجود والحدوث لا يكون علة فثبت أن المصحح للرؤية هو الوجود
وهذه الطريقة القياسية مشهورة عن أبي الحسن الأشعري وللناس عليها اعتراضات معروفة كما ذكر ذلك الشهرستاني وغيره ولذلك عدل طائفة من أتباعه كالقاضي أبي بكر إلى أن أثبتوا إمكان الرؤية بالسمع كما أن وقوعها معلوم بالسمع بلا نزاع وأبو عبد الله الرازي قد ذكر طريقة الأشعري هذه في الرؤية في نهايته وذكر ما فيها من القوادح التي يظهر معها وهاها
وإذا علم ذلك فينبغي أن يعلم لأمران أحدهما أن الطريقة التي سلكها أهل الاثبات في مسألة العلو بدعوى الضرورة تارة وبالقياس الذي احتج به ابن الهيصم وغيره تارة أصح من الطريقة التي يسلكونها في مسألة الرؤية بدعوى الضرورة تارة وبالقياس أخرى كما قد ذكرنا فيما قبل أن العلم بأن الله

تعالى فوق خلقه أعرف في الفطرة وأشهر في الشريعة وأعظم استقرارا عند سلف الأمة وأئمتها من العلم بأنه يرى وأن الجهمية كانوا يكتمون إنكار ذلك ويتظاهرون بإنكار الرؤية ونحوها ليتوسلوا بما يظهرونه من إنكار الرؤية والقول القرآن على ما يكتمونه من إنكار وجود الله فوق العرش وكان أئمة السلف يعلمون ذلك منهم فيعرفونهم في لحن القول ويستدلون بما أظهروه على ما أسروه لعلمهم بأصل كلامهم وأنهم إنما أنكروا رؤيته وأنكروا أنه يتكلم حقيقة لأن رؤيته وكلامه مستلزم لوجوده فوق العالم فإذا سلموا الكلام والرؤية وغيرهما لزمهم تسليم أنه فوق العرش وغير ذلك إذ يقال لو كان على العرش لجازت رؤيته ولكان متكلما ومالا يجوز أن يرى يمتنع أن يكون فوق العرش
فلما كانت مسألة العلو هي في نفسها أعظم وأدلتها أقوى وأكثر والمقرون بها أكثر وأكثر من السلف والأئمة والعامة كانت الطريقة التي يسلكها أهل الإثبات فيها أقوى من الطريقة التي يسلكوها في مسألة الرؤية
وبيان ذلك أن اعتراف الفطر بأن الله فوق العالم أعظم من اعترافها بأنه يرى ودلالة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على ذلك أعظم من دلالة هذه الأصول على رؤية الله تعالى واعتراف القلوب بأن مالا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوما أعظم من أعترافها بأن مالا يمكن رؤيته لايكون إلامعدوما وما في القلوب من البديهة والضرورة إلى الأول أعظم مما فيها من الضرورة والبديهية إلى الثاني وكذلك اعترافها بديهة وضرورة بأن كل موجودين لابد أن يكونا متباينين أو متحايثين أعظم من اعترافها بأن كل موجود فلابد وأن تمكن رؤيته
وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن الطريقة القياسية التي سلكها ابن الهيصم ونحوه في مسألة العلو أقوى من الطريقة التي سلكها الأشعري ونحوه وابن الهيصم

أيضا في عين مسألة الرؤية وكلاهما سلك طريقة ينصر بها الاثبات الذي جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة
وكل ما ذكره الرازي من القوادح في هذه الطريقة التي سلكها ابن الهيصم فإنما هي قدح في الأصول العقلية التي سلكها أئمة الأشعرية وغيرهم فهدمه وهدم ابن فورك ونحوه بما ذكروه لأصول أصحابهم وأئمتهم أعظم من هدمهم للأصول التي تذكرها الكرامية وغيرهم في مسألة العرش وهذا بين يعرفه من شدى شيئا من النظر في هذه المواضع ومن عرف ما اعتمده من الأصول في مسألة الرؤية وعلم ما اعتمده هؤلاء في مسألة العرش
الأمر الثاني أنا نذكر أن الطريقة التي سلكها أهل الاثبات في الرؤية ليست من الضعف كما يظنه اتباع الأشعري مثل الشهرستاني والرازي وغيرهما بل لم يفهموا غورها ولم يقدروا الأشعري قدره بل جهلوا مقدار كلامه وحججه وكان هو أعظم منهم قدرا وأعلم بالمعقولات والمنقولات ومذاهب الناس من الأولين والآخرين كما تشهد به كتبه التي بلغتنا دع ما لم يبلغنا فمن رأى ما في كتبه من ذكر المقالات والحجج ورأى ما في كلام هؤلاء رأى بونا عظيما
وإذا ظهر أن طريقهم في الرؤية أقوى مما يظنه هؤلاء كان ذلك تنبيها على أن طريقة ابن الهيصم في العلو أولى أن تكون أقوى منها وأن يكون القدح فيها دون القدح في تلك ثم نبين إن شاء الله تعالى بالكلام المفصل أن عامة ما ذكره الرازي من القدح فيها قدح باطل ولا حول ولا قوة إلا بالله

والله هو المسئول أن يوفقنا للكلم الطيب والعمل الصالح وهو الذي يقوله وإن كان فيه حكم بين هؤلاء الذين يخوضون أحيانا بكلام مذموم عند السلف لكن قد ذكرنا غير مرة أن من حكم الشريعة إعطاء كل ذي حق حقه كما في السنن عن عائشة قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ننزل الناس منازلهم وأن من كان منهم أقرب إلى الحق والسنة عرفت مرتبته ووجب تقديمه في ذلك الأمر على ما كان أبعد عن الحق والسنة منه قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه و سلم وأمرت لأعدل بينكم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله وقال في حق أهل الكتاب وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط وقال فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق فكيف الحال بين طوائف أهل القبلة بل الحكم بين من فيه فجور ومن فيه بدعة بالعدل ووضعهم مراتبهم وترجيح هذا من الوجه الذي هو فيه أعظم موافقة للشريعة والحق أمر واجب ومن عدل عن ذلك ظانا أنه ينبغي الاعراض عن الجميع بالكلية فهو جاهل ظالم وقد يكون أعظم بدعة وفجورا من بعضهم
قال أبو الحسن الأشعري في الابانة بعد أن احتج بحجج كثيرة جيدة على اثبات الرؤية من الكتاب والسنة والاجماع ومقصوده الأكبر في الابانة ذكر الحجج السمعية دون القياسية المبنية على الكلام في الجواهر والأعراض فإنه يختصرها فقال بعد ذلك ومما يدل على جواز رؤية الله بالأبصار أنه ليس موجودا غير مستحيل أن يريناه وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم فلما كان الله موجودا مثبتا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز و جل

وإنما أراد من نفي الرؤية لله عز و جل بالأبصار التعطيل فلما لم يمكنهم ذلك صراحا أظهروا ما يؤول بهم إلى التعطيل وجحدوا الله تعالى تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
قال ومما يدل على جواز رؤية الله تعالى بالأبصار أن الله تعالى يرى الأشياء وإذا كان للأشياء رائيا وليس يجوز أن يرى الأشياء من لا يرى نفسه وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه وذلك أنه من لا يعلم نفسه لا يعلم شيئا فلما كان الله تعالى عالما بالأشياء كان عالما بنفسه فكذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء فلما كان الله رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها وقد قال الله عز و جل أنني معكما أسمع وأرى فاخبر أنه سمع كلامهما ويراهما ومن زعم أن الله لا يرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز و جل عالما ولا قادرا ولا رائيا لأن العالم القادر الرائي جائز أن يرى
قلت وهذا المعنى الذي ذكره الأشعري من أن الموجود يقدر الله على أن يريناه وأن المعدوم هو الذي لا يجوز رؤيته فنفي رؤيته يستلزم نفي الوجود هو مأخوذ من كلام السلف والأئمة كما ذكره حنبل عن الامام أحمد ورواه الخلال عنه في كتاب السنة قال القوم يرجعون إلى التعطيل في كونهم ينكرون الرؤية
وذلك أن الله على كل شيء قدير وهذا لفظ عام لا تخصيص فيه فأما الممتنع لذاته فليس بشيء باتفاق العقلاء وذلك أنه متناقض لا يعقل وجوده فلا يدخل في مسمى الشيء حتى يكون داخلا في العموم مثل أن يقول القائل

هل يقدر أن يعدم نفسه أو يخلق مثله فإن القدرة تستلزم وجود القادر وعدمه ينافي وجوده فكأنه قيل هل يكون موجودا معدوما وهذا متناقض في نفسه لا حقيقة له وليس بشيء أصلا وكذلك وجود مثله يستلزم أن يكون الشيء موجودا معدوما فإن مثل الشيء ما يسد مسده ويقوم مقامه فيجب أن يكون الشيء موجودا معدوما قبل وجوده مفتقرا مربوبا فإذا قدر أنه مثل الخالق تعالى لزم أن يكون واجبا قديما لم يزل موجودا غنيا ربا ويكون الخالق فقيرا ممكنا معدوما مفتقرا مربوبا فيكون الشيء الواحد قديما محدثا فقيرا مستغنيا واجبا ممكنا موجودا معدوما ربا مربوبا وهذا متناقض لا حقيقة له وليس شيء أصلا فلا يدخل في العموم وأمثال ذلك
أما خلق قوة في العباد يقدرون بها على رؤيته فإن ذلك يقتضي كمال قدرته وما من موجود قائم بنفسه إلا والله قادر على أن يرينا إياه بل قد يقال ذلك في كل موجود سواء قام بنفسه أو قام بغيره
وهنا طريقة أخرى وهي أن نقول كل موجود فالله قادر على أن يجعلنا نحسه بأحد الحواس الخمس وما لا يكون ممكن إحساسه باحدى الحواس الخمس فإنه معدوم وهذه الطريقة مما بين الأئمة أن جهما يقول بأن الله معدوم لما زعم أنه لا يحس بشيء من الحواس لأن الموجود لابد أن يمكن إحساسه باحدى الحواس كما ذكر الامام أحمد أصل قوم جهم
قال وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث واضلوا بكلامهم بشرا كثيرا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك

وكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك الها قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسا قال لا قالوا له فوجدت له مجسا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هي روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائب الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فهل سمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسا أو مجسا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه من القرآن قوله ليس كمثله شيء وهو الله في السموات وفي الأرض ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار فبنى أصل اضلاله على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث به رسوله كان كافرا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرا كثيرا واتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله عز و جل ليس كمثله شيء يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولا يكلم ولا يتكلم ولا ينظر

إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف بصفة ولا بفعل ولا له غاية ولا له منتهى ولا يدرك بعقل وذكر تمام كلامه وقد كتبناه قبل هذا إلى أن قال فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية وذكر تمام الكلام
والمقصود أنه بين أن وصفه بأنه لا يعرف بشيء من الحواس هو أصل كلامه الذي لزمه به التعطيل وأنه لا يثبت شيئا لأن مالا يكون كذلك لا يكون شيئا
وهذا أمر مستقر في فطر المؤمنين لا يشكون في أن الله تعالى قادر على أن يريهم نفسه وإنما يشكون هل يكون ذلك أو لا يكون كما سأل المؤمنون النبي صلى الله عليه و سلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال نعم هل تضارون في رؤية الشمس وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة المستفيضة المتواترة فإنما كانوا شاكين هل يرون ربهم لم يكونوا شاكين هل يقدر على أن يريهم نفسه وكذلك في المعاد يعلمون أنهم عاجزون عن رؤيته كما أنهم عاجزون عن رؤية الأشياء البعيدة والأشياء اللطيفة مع علمهم عن أن يقدموا بسمعه م وبصرهم على أكثر مما هم قادرين عليه كما يعجزون أن الله قادر على أن يريهم ذلك وكذلك من قبلهم من الأمم ولهذا سأل موسى ربه الرؤية وسأل قومه أن يروا الله جهرة كما سألوا سائر الآيات فإنهم وإن كانوا مذمومين على مسألة الآيات فليسوا مذمومين على علمهم بأن الله قادر عليها كما يسأل الرجل ما لا يصلح وهو من الاعتداء في الدعاء مثل أن يسأل منازل الأنبياء ونحو ذلك فإن الله قادر على ذلك ولكن مسألة هذا عدوان
ولهذا لا يوجد أن أحدا من الأمم السليمة الفطرة قال إن رؤية الله ممتنعة عليه يعني أنه لا يجوز أن يكون مرئيا بحال وليس في مقدوره أن يرى أحدا

نفسه بل هم إذا نفوا الرؤية كان لعظمته من جهة القدر أو الوصف مثل قوله لا تدركه الأبصار أي لا تحيط به ومثل قوله صلى الله عليه و سلم نور أنى أراه وقال رأيت نورا وهذا في المخلوقات فالخالق أعظم فإن السماء ينفى عنها إدراك البصر لسعتها والشمس لبرهانها وشعاعها الذي يعشى البصر فيكون ذلك لعجز البصر عن وصف المرئي وقدره
أما أن يقال إن موجودا عظيما يمتنع في نفسه أن يكون مرئيا كما يمتنع ذلك في المعدوم فهذا خلاف ما فطر الله عليه عباده بل حيث كان الوجود أكمل كان أحق بأن يجوز أن يرى ويشهد لكن بشرط قوى الرائي وكماله ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الأحاديث الصحيحة أنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤية وفي رواية كما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب فقوله لا تضامون ولا تضارون نفي لأن يلحقهم ضيم أو ضير كما يلحقهم في الدنيا في رؤية الشيء إما لظهوره كالشمس أو لخفائه كالهلال
أما المعدوم فالاحساس به برؤية أو غيرها يقتضى أن يكون موجودا معدوما فإن كونه معدوما يقتضى أنه ليس في الخارج فرؤيته في الخارج تقتضي أنه في الخارج فيقتضي الجمع بين النقيضين الوجود والعدم وهذا باطل ممتنع لا حقيقة له أصلا فلا يدخل في مسمى الشيء حتى يقال إن الله عليه قدير فإنه سبحانه على كل شيء قدير وهذا ليس بشيء أصلا نعم صورة المعدوم الثابتة في العلم قد تنازع الناس في جواز رؤيتها وتنازعوا كذلك في جواز رؤية الله للمعدومات لثبوتها في علمه والنزاع فيها مشهور

وأما الحجة القياسية المشهورة في هذا الباب التي احتج بها الأشعري وغيره فإن هذا الرازي قد ذكرها في نهايته وأورد عليها اعتراضات كثيرة تهدمها وكذلك من قبله كالشهرستاني وغيره ولم يقفوا على غورها ولا أعطوها حقها وليس هذا موضع بسطها لكن ننبه عليها فإنا قد قدمنا فيما تقدم أن الأمثال المضروبة إذا كانت من باب الأولى جاز استعمالها في حق الله تعالى كما ورد به القرآن والسنة واستعملها السلف والأئمة كما يقال إذا كان العبد ينزه نفسه عن شريك أو أنثى فتنزيه ربه أولى وإذا كان العبد عالما قادرا فالله أولى
وكذلك هذه فإن حاصلها أنه إذا جاز رؤية الموجود المحدث الممكن فرؤية الموجود الواجب القديم أولى وإذا كان المخلوق الناقص في وجوده يجوز أن يرى ويحس به فالرب الكامل في وجوده أحق بأن يرى فإن كون الشيء بحيث يرى كمال في حقه لا نقص لأن كونه لا يرى ولا يحس به لا يثبت في الشاهد إلا للمعدوم فكل صفة لم نعلمها تثبت إلا لمعدوم فإنها لا تكون صفة نقص إلا بالنسبة إلى وجود آخر هو أكمل منها وكل صفة لا تثبت للمعدوم ولا يختص بها الناقص فإنها لا تكون إلا صفة كمال وهذه طريقة في المسألة يتبين بها أن جواز الرؤية من صفات الكمال التي هو الباري أحق بها من المخلوقات
ونظيرها في مسألة العلو أن علو الشيء بنفسه على غيره صفة كمال كما أن قدرته عليه صفة كمال وإذا كان كذلك فالله أحق بهذه الصفة من جميع ما يوصف بها غيره فيجب أن يكون عاليا بنفسه وكذلك تميزه بذاته عن غيره هي صفة لا يوصف بها المعدوم ولا تختص بالناقصات فتكون صفة كمال فيجب إنصاف الله بها وذلك يوجب مباينته للعالم

لكن قد علم أنا لم نكتب هنا ما يحتج به أهل الإثبات ولكن تكلمنا على ما ذكره الرازي ولوازمه فبينا أن هذه الحجة القياسية المذكورة في الرؤية مضمونها أنا إنما نرى الأشياء لكونها موجودة والله سبحانه وتعالى موجود بل هو أكمل في الوجود فيجب أن تكون رؤيته جائزة
وتلخيصها أن يقال لا ريب أنا نرى الموجودات من الجواهر والأعراض كالألوان والمقادير مثل الطول والقصر ونحوهما دون المعدومات واختصاص الرؤية بالموجود دون المعدوم يقتضي أن المقتضي لجواز الرؤية مختص بالموجود ومعنى هذا أنه لا يجوز أن يكون الموجود والمعدوم في الرؤية سواء إذا لو كانا متماثلين في ذلك لم يجز اختلافهما في رؤية أحدهما دون الآخر فليس المراد بقولنا إن علة الرؤية والمقتضي لها مختص بالموجود إثبات علة أو سبب زائد على حقيقة الموجود مقتض لصحة رؤيته كما توهمه من قال في الأحكام ما يعلل منها ما لايعلل فيجوز أن تكون الرؤية من الأحكام التي لا تعلل بل المراد أن كون أحد الجنسين تصح رؤيته دون الآخر يقتضي اختلافهما في ذلك وعدم تماثلهما سواء كان سبب هذا الاختلاف نفس ذات الموجود أو صفة له أو غير ذلك وهذا لا ينازع فيه من فهمه
وإذا كان المقتضي لجواز الرؤية مختصا بالموجود فإما أن يكون قدرا مشتركا بين المرئيات من الجواهر والأعراض أو أمرا مختصا ببعضها لكن الثاني باطل فإن الحكم المشترك يجب أن يكون سببه مشتركا لأنه لو كان سببه مختصا كان الحكم موجودا مع وجوده وموجودا مع عدمه فلا يكون الحكم متوقفا عليه بل يكون ذلك الوصف عديم التأثير فيه لا أثر له في وجوده إذ هو موجود مع عدمه كوجوده مع وجوده وهذا بين وقد نبهنا

عليه فيما تقدم في تماثل العلل والمعلولات وتكلمنا على النقض وعدم التأثير وبينا الفرق بين العلة التامة التي لا تتبعض وغير التامة وعلى هذا فرؤية كل شيء خاص من نوع أو شخص يشارك رؤية غيره في مطلق الرؤية ويفارقها في خصوص رؤية ذلك النوع أو البعض كما أن المرئي يشارك غيره في كونه موجودا مرئيا ويفارقها بخصوص نوعه أو شخصه فيكون الحكم المطلق المشترك وهو مطلق الرؤية معلقا بالقدر المشترك بين المرئيات والحكم الخاص وهو الرؤية الخاصة معلقا بالقدر المختص في كل نوع وشخص على حدته
وبهذا التحقيق يندفع ما يقال هناك إن الرؤية قد تكون معلقة بخصوص المرئي مثل أن تكون رؤية الجواهر والأعراض معلقة تخص الأعراض فإنه إذا فهم أن الرؤية جنس تحتها أنواع كالمرئيات وأن العام المطلق يضاف إلى العام المطلق والخاص المقيد يضاف إلى الخاص المقيد اندفع هذا وغيره ويزول ما ينقض العلة ويبين عدم تأثيرها
وإذا كان كذلك وأن المقتضي لها مشترك فالمشترك بين المرئيات من الأعيان القائمة بأنفسها والصفات القائمة بغيرها إما الوجود ولوازمه وإما غير ذلك والذي هو غير ذلك هو أخص من الوجود وما كان غير ذلك فلابد أن يستلزم العدم سواء قيل هو الحدوث أو غير ذلك مثل بعض لوازم الحدث لأن المشترك إذا لم يكن هو الوجود ولا شيئا من لوازمه التي يلزم من عدمها عدم الوجود كان أخص من الوجود بحيث يكون وجود خاص لئلا يلزم من عدم هذا الوجود الخاص عدم الوجود بالكلية إذ كل ما هو مساو للوجود في العموم أو هو أعم منه كالمعلوم والمذكور يلزم من نفيه نفي الوجود وهو من لوازم الوجود والكلام هنا في القسم الثاني الذي ليس الوجود ولا شيئا من لوازمه ولم نقل ولا شيئا من لوازمه وهذا الوجود الخاص الذي يقدر أنه سبب الرؤية لا يجوز أن يكون

هو الوجود الواجب فإنا تكلمنا في رؤية المشهودات المخلوقة مع أن علة الرؤية إذا كانت هو الوجود الواجب كان ذلك أبلغ في جواز رؤية الله تعالى فإنه سبحانه هو الوجود الواجب لكن ليس الأمر كذلك
وإذا كان الأمر كذلك فهذا المقتضي للرؤية على هذا التقدير الذي هو أخص من الوجود إما أن يكون ما يدخل فيه الوجود الواجب أو لا يكون فإن كان المقتضي لجواز الرؤية ما يتناول الوجود الواجب ثبت أن المقتضي لجواز الرؤية أمر مشترك بين الوجود الواجب وبين غيره من المرئيات وهذا هو المطلوب
وإن كان المقتضي الأخص لا يدخل فيه الوجود الواجب وجب أن يكون مختصا بما عدا الوجود وهذا سواء كان هو الامكان أو الحدوث أو ما هو أخص من الإمكان والحدوث مثل التحيز أو المقابلة عند من يقول ذلك هو المقتضي للرؤية وهو منتف في حق الله أو المشروط بالثمانية التي يذكرها المعتزلة أو غير ذلك وكل هذه الأمور إذا قيل بانتفائها عن واجب الوجود واختصاصها بالمخلوق فإنها مستلزمة للعدم وأقل ما يكون القبول العدم فإن كل مالا يدخل في الوجود الواجب فهو قابل للعدم بل هو معدوم تارة وموجود أخرى وإذا كان كذلك ظهر أن المقتضي للرؤية إذا لم يكن هو الوجود أو لوازمه كان مستلزما للعدم وإن شئت لقبول العدم وبهذا التقسيم الدائر بين النفي والاثبات انقطع ما يورد هنا من السؤالات
وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المقتضي لرؤية المرئيات أمر يشترط فيه العدم أو قبوله لأن كونه معدوما أو قابلا للعدم لا يكون مقتضيا لأمر وجودي فالرؤية أمر وجودي والأمر الوجودي لا تكون علته أمر عدمي والعلم بهذا بديهي لمن تصوره لكن قد يكون الأمر العدمي مستلزما لوجود مثل عدم

الموانع المستلزمة لكمال العلة بوجود شروطها التي هي أجزاء العلة التامة فيضاف الحكم إلى ذلك العدم ويكون ذلك إضافة إلى علة ناقصة والعلة الناقصة تكون جزءا وشرطا من العلة التامة والعدم وإن كان في الظاهر جزءا من العلة التامة فلابد أن يستلزم أمرا وجوديا وإلا فيمتنع أن يكون العدم علة للوجود أو جزءا من علة الحقيقة بوجه من الوجوه وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المقتضي للرؤية التي هي أمر موجودا أمرا يستلزم العدم أو قبول العدم لأنه يكون العدم أو قبول العدم جزءا من علة الأمر الموجود وهذا باطل
فإن قيل هذا أو قبوله إنما كان علة للأمر الموجود لأنه يستلزم أمرا وجوديا كان ذلك الوجود هو جزء العلة في الحقيقة فلا يكون علة الرؤية إلا الوجود أو لوازم الوجود لا يكون ما يستلزم العدم أو قبوله وإذا لم تكن العلة ما يستلزم العدم أو قبوله بطل أن يكون علة الرؤية الحدوث أو شيئا يختص بالمحدثات أو ببعضها أو الامكان أو وصفا يختص بالممكنات أو ببعضها ووجب أن يكون قدرا مشتركا بين القديم والمحدث بين الواجب والممكن بل أن يكون القديم الواجب أحق به فإنه إن كان هو الوجود فظاهر وإن كان شيئا من لوازم الوجود فذلك الوصف متى انتفى انتفى الوجود فلا يكون ثابتا إلا بثبوت الوجود ومن المعلوم أن الوجود وجميع لوازم الوجود مشتركة بين الواجب والممكن والقديم والمحدث وإذا كان كذلك ثبت أن المقتضي للرؤية أمر ثابت في حق الله تعالى القديم الواجب الوجود فتكون رؤية الله جائزة بل تكون أحق بجواز الرؤية لأن وجوده أكمل من وجود غيره
ومن فهم هذه الحجة على هذا الوجه ظهر له أنها برهانية وأمكنه دفع تلك السؤالات الكثيرة التي تورد إذا ذكرت على هذا النظم ولولا أن هذا ليس

موضع ذلك وإلا كنا نفعل ذلك مفصلا لكن فالجواب عما أورده على هذه الحجة في احتجاج ابن الهيصم بها في مسألة العلو فظهر أصل الجواب في مسألة الرؤية وقد ظهر أن حجة ابن الهيصم لم يقررها هو تقريرا جيدا
فإذا أردت تلخيص هذه الحجة فقل الرؤية مختصة بالموجود دون المعدوم وهذا الاختصاص إما أن يكون للموجود أو لما يساويه في العموم والخصوص أو لما هو أعم منه أو لما هو أخص منه فإن جازت لموجود أو لما يساويه أو لما هو أعم منه جاز رؤية كل موجود لثبوت الوجود أو ما يساويه أو ما هو أعم منه لكل موجود وإن كان لما هو أخص من الوجود فإذا كان لما يندرج فيه الواجب جاز رؤيته أيضا لوجود نقيضها وهو الوصف الذي يوجد للواجب وغيره وإن كان لا يندرج فيه الواجب فما سوى الواجب فهو محدث عند أهل الملل قد كان معدوما وهو قابل للعدم بلا نزاع فيكون المقتضي للرؤية لا بد أن يشترط فيه العدم أو قبوله ولا يجوز ذلك لأن الأمور الوجودية لا يشترط في علتها العدم ولا قبول العدم وطرد هذه الحجة يوجب ثبوت كل أمر وجودي
ويقال على هذا جميع النقائص التي يجب تنزيهه تعالى عنها فإنما هو لاستلزامها العدم وأما الوجود من حيث هو وجود فهو كمال فلا يجوز نفيه عنه وهذه الطريق توافق قول من يقول الكمال وهو الوجود وتوابعه كالسمع والبصر والكلام فإنها وجود ليس فيها عدم والنقائص التي هي ضد هذه فيها العدم وهو عدم هذه الأمور

وكلام السلف والائمة موافق لهذه الطريقة حيث كانوا ينزهونه عن النقائص التي يشبه فيها المعدوم او الموات العادم لصفات الكمال وهذا موافق ما قدمناه قبل هذا من ان ما كان صفة للعدم لم يجز ان يوصف الله به وانما يوصف من السلوب بما كان مستلزما للوجود اذ العدم المحض ليس فيه ثناء وحمد وصفات الله فيها الثناء والحمد وهذا يطابق ان الموجود من حيث هو فيه الثناء والحمد والحمد لله رب العالمين
ونكتة هذه الحجة ان كل حكم ثبت لمحض الوجود فالوجود الواجب اولى به من الممكن وكذلك من الامثال المضروبة وهي الاقيسة العقلية ولله المثل الاعلى ان كل كمال ثبت لموجود فالواحب اولى به من الممكن وكل كمال يوجد في المربوب فالرب اولى به من العبد وهذا مما سلكه الفلاسفة لكن يعبرون بمعنى التولد فيقولون كل كمال ثبت للمعلول فانه من اثر العلة والعلة اولى به من المعلول وهذه اقيسة عقلية وامثال مضروبة ولله المثل الاعلى تستعمل في عامة الامور الالهية كما ورد الكتاب والسنة بنحو ذلك كما قد بيناه في غير هذا الموضع
وقولنا في هذه الحجة كل حكم ثبت لمحض الوجود يخرج الاحكام التي تتضمن العدم مثل الاكل والشرب فان ذلك يستلزم كون الآكل والشارب اجوف بحيث يحصل الغذاء الذي هو اجسام في محل خال لا سيما اذا كان قد خرج غيره بالتحلل ويكون بدل المتحلل فيكون متضمنا خروج شيء من الجسم وذلك نقص منه وهو صفة عدمية ووجود اجزاء فيه وذلك يستلزم خاليا وهو نقص فيه وهو صفة عدمية وهذا ينافي الصمدية فان الصمد هو الذي لا جوف له فلا يأكل ولا يشرب ولا يلد ولا يخرج منه شيء ولا غيره

من جنس الفضلات التي تخرج من الانسان فان دخول جسم فيه او خروج جسم منه يتضمن النقص المستلزم لامر عدمي وهذا ينافي الصمدية وليس هو من الاحكام الثابتة لمحض الوجود بل من الاحكام المتضمنة وجودا او عدما فلا جرم لم يكن سبب ذلك وصفا يتناول الواجب والممكن بل وصف يختص بالممكن المحدث وهو الحاجة والافتقار في الطعام لا خلاف بدل ما يتحلل من البدن وفي الانزال لدفع الضرر الحاصل بسبب المني بمنزلة اخراج الدم عند الحاجة فوجود جسم فيه يضاره ويضاده عجز وفقر من خصائص المخلوق وحاجته الى جسم خارج يستوفيه يتم به وجوده فقر وحاجة من خصائص المخلوق
ولهذا كان اهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون ولا يبولون ولا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يمنون وانما يتحلل الطعام عنهم برشح كرشح المسك لان تلك الفضلات مضادة للبدن مؤذية له وليس في الجنة اذى واما الاكل والشرب فانما هو استكمال بعد نقص وهذا من لوازم المخلوقات وهذا مبسوط في غير هذا الموضع ولهذا قال سبحانه ما المسيح بن مريم الا رسول قد خلت من قبله الرسل وامه صديقة كانا يأكلان الطعام فأكل الطعام ينافي الصمدية ويوجب الفقر والحاجة المنافي للربوبية من وجوه متعددة
وهذا سائر الاحكام التي تعرض لبعض الموجودات والرب منزه عنها مثل السنة والنوم هما من الاحكام المتضمنة امرا عدميا فليس هو من احكام الوجود المحض ولهذا كان اهل الجنة مع كونهم موجودين لا ينامون فان النوم اخو الموت وهو يتضمن امرا عدميا وكذلك العجز والجهل والصمم والعمي وسائر ما ينافي صفات الكمال وان وصف به بعض الموجودات فانه متضمن امرا عدميا وهذا معنى النقص فان النقص يتضمن امرا عدميا

وكل ما تضمن عدما محضا فان الله لا يوصف به فانه يقتضي العدم المحض اذ هو الوجود الواجب وانما يوصف بالصفات السلبية المتضمنة امرا وجوديا
واما طرد هذه الحجة في الادراكات الاربعة هي السمع واللمس والشم والذوق فانه وان كان طردها طائفة من الصفاتية كالاشعري وائمة اصحابه فلا يحتاج الى ذلك عند التأمل بل يفصل الامر فيه واذا فصل تفصيلاا يقتضيه العقل الصريح كان ذلك موافقا لما جاءت به الايات وعليه ائمة الحديث وذلك ان السمع لم يتعلق بالجواهر والاعراض كالرؤية وانما يتعلق بنوع من الاعراض وهو الاصوات مثلا فاذا لم يكن متعلقا بشيء قائم بنفسه كيف يمكن طرده في كل موجود قائم بنفسه حتى يقال انه يمكن سمعه
واما اللمس فانه يتعلق بالجواهر والاعراض وهو الذي اورده من جهة الالزام فلزم لزوما واضحا لكن قاسوا عليه بقية الادراكات فلا جرم جاءت الاحاديث بثبوت المماسة كما دل على ذلك القرآن وقاله ائمة السلف وهو نظير الرؤية وهو متعلق بمسألة العرش وخلق آدم بيده وغير ذلك من مسائل الصفات وان كان قد نفاه طوائف من اهل الكلام والحديث من اصحاب الامام احمد وغيرهم وليس هذا موضع الكلام فيه وانما الغرض التنبيه على مجامع هذه الحجة
واما الذوق فهو مس خاص وكذلك الشم مس خاص فان الهواء وهو جسم يدخل الى المنخرين الى الزائدة التي في الدماغ بخلاف السمع والبصر فانه ليس معهما مماسة المرئي والمسموع ولهذا كانت اصول الاحساس ثلاثة السمع والبصر والمس قال تعالي وما كنتم تشترون ان يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم

ولما كان اللمس جنسا تحته انواع مختلفة في الحيوان وليس طريقا عاما الى حصول العلم الكلي المجرد في القلب بل نفس الاحساس وما يتبعه من ملائمة ومنافرة فيه خصوص في سببه ومقصوده بخلاف السمع والبصر فانهما طريقتان الى حصول العلم العام الكلي في القلب والبصر يحصل به العلم بنفس الحقائق الموجودة والسمع يحصل به العلم بما يقال من اسمائها وصفاتها كان السمع والبصر في كتاب الله مخصوصين بالذكر دون غيرهما من الاحساس
فيقال اما قوله في الوجه الاول مدارها على ان كل موجودين في الشاهد فلا بد وان يكون احدهما محايثا للاخر او مباينا عنه بالجهة قوله وهذه المقدمة ممنوعة فنقول منع هذه من اعظم السفسطة فان الشاهد ما نشهده بحوسنا الظاهرة او الظاهرة والباطنة وليس فيما نشهده شيء الا محايث لغيره وهي الصفات التي هي الاعراض او مجانب له بالجهة وهي الاعيان القائمة بانفسها وهي الجواهر فمن منع ان يكون المشهود لا يخلو عن احد هذين الوصفين فقد منع ان تنقسم المشهودات الى الجواهر والاعراض ومعلوم ان هذا خلاف اتفاق الخلائق من الاولين والاخرين وخلاف ما يعلم بالضرورة والحس فان الشيء المشهود اما قائم بنفسه وهو مباين له واما قائم بغيره وهو محايث له
واما الوجوه التي ذكرها فعنها اجوبة
احدها ان الاستدلال على ذلك غير مقبول لانه قدح في اظهر الحسيات الضروريات
الثاني ان هذا المؤسس وسائر طوائف اهل الحق متفقون على بطلانها وهو من اعظم الناس ابطالا لما ذكره الفلاسفة في وجود جواهر غير محايثة لغيرها ولما

ذكره المعتزلة من وجود اعراض غير محايثة لغيرها بل ما زال الناس يذكرون ان هذا من اعظم المحالات المتناقضة التي اثبتتها المعتزلة حيث اثبتوا ارادات وكراهات لافي محل وان قولهم هذا يوجب عليهم وجود بقية الاعراض لافي محل وينقض عامة اصولهم
الوجه الثالث ان يقال ما ذكروه من الحجة على ان الموجودين لا بد وان يكونا متباينين او متحايثين هو حجة على هؤلاء وغيرهم فيكون التزام بطلان هذه الاقوال طردا لدليل والمستدل اذا استدل بدليل يبطل مذهب منازعيه في الصورة التي تنازعا فيها وفي غيره مما لم يذكره لم يكن للمنازع ان ينقض دليله بمجرد مذهبه في صورة النزاع ولا يجب على المستدل ان يخص كل صورة صورة بدليل خاص اذا كان العام يتناول الجميع
وبهذا ظهر خطاه في قوله ما لم تبطلوا هذا المذهب بالدليل لا يصح القول بأن كل موجودين في الشاهد فاما ان يكون احدهما محايثا للاخر او مباينا عنه وكذلك قوله ما لم تبطلوا قول المعتزلة بثبوت ارادات وكراهات وفناء لافي محل فان الدليل الذي ذكروه على ان كل موجودين لا بد ان يكون احدهما مبيانا للاخر او يكون بحيث هو سواء كان هو الضرورة او الحجة القياسية حجة على هؤلاء وعلى غيرهم فلا يكون مجرد دعوى هؤلاء أو دعى غيرهم معارضة لما ذكر من الدليل لكن ان اقاموا حج على جوهر غير مباين لغيره او ثبوت عرض غير محايث لغيره كان ذلك الدليل معارضا لكن هذا لم يذكر والجواب عنه اذا ذكر هو جواب المؤسس وسائر بني آدم
وذلك يظهر بالوجه الرابع وهو ان قوله ان جمهور الفلاسفة يثبتون هذه الاشياء ويصفونها بما ذكر ليس كذلك بل هذا تثبته طائفة من الفلاسفة

وهو المشاؤون اتباع ارسطو ومن وافقهم وهؤلاهم الذين سلك سبيلهم الفارابي وابن سينا وهذا المؤسس من كتب ابن سينا يأخذ مذاهب الفلاسفة وكثير ما يقول اتفق الفلاسفة ولا يكون عنده الا ما ذكره ابن سينا وليس ما يذكره ابن سينا قول جميع الفلاسفة بل الفلاسفة اعظم تفرقا واختلافا واكثر طوائف من ان يحصر قولهم كلام ابن سينا او غيره وقد حكى من صنف في المقالات من المسلمين مثل ابي الحسن الاشعري والنوبختي والباقلاني وغيرهم من مقالات الفلاسفة اضعاف اضعاف ما يذكره ابن سينا وهذا المؤسس
وكذلك حكايته عن جمهور المعتزلة اثبات ارادات وكراهات وفناء لافي محل وهذا انما هو قول بعض البصريين وهم ابو علي وابو هاشم ونحوهما وليس هؤلاء جمهور المعتزلة بل لهم في الارادة والكراهة وفي الفناء اقوال كثيرة معروفة هذا واحد منها
واما الوجه الثالث الذي ذكره على وجود موجودات في الاعيان وهي الاضافات وانه يمتنع ان تكون محايثة للعالم او مباينة عنه بالجهة فهذا يعلم فساده بالضرورة والحس واتفاق العقلاء فلا يستحق الجواب فان بعض الناس قد تنازع في الامور التي لم يشهدها كالعقول والارادات اما هذه الاعيان المشهودة فانه لم يقل عاقل انه يوجد فيها امور لا مباينة للغير ولا محايثة له فاذا كان على هذا ألوجه لم يستحق الجواب لكن نبين وجه الفائدة فنقول
الابوة هي كون الانسان تولد منه نظيره والبنوة كونه يولد من نظيره او ما يشبه هذا فان الولادة داخلة في مسمى الابوة والبنوة وكون الشيء ولده غيره او ولد غيره وصف محسوس قائم بالوالد والولد وفي الحقيقة هو صفة ثبوتية فيها اضافة واما العمومة والخؤولة ففيها ولادتان ولادة الاب للشخص وولادة

جده لعمه وبنوة العم فيها ولادة ثالثة وهي ولادة العم لابنه فتفرع النسب يكون متعدد الولادة وقد يكون احدى الولادات موجودا لكن يتوقف الوصف على الاخرى كما يتوقف الامر في العمومة والخؤولة على نحو ذلك
ومن هنا يظن الظان انها اضافة محضة والتحقيق ان احد الوصفين وجد قبل الاخر ومن المعلوم ان كونه ولد وانفصل عن ابيه او امه ليس هو سببا يتبعض حتى يقال ثلث ولادة وربع ولادة اذا خرج جميعه واذا لم تكن منقسمة لم تكن الابوة والبنوة منقسمة حتى يقال ثلث الابوة او ثلث البنوة كما لا يقال نصف الحيوانية والانسانية والناطقية ونحو ذلك
فظهر ان الابوة التي هي وجودية محايثة لذات الاب كغيرها وكيف لا يكون ذلك والابوة من اعظم الصفات القائمة بالاب المغيرة له تغيرا مشهودا بالحس لما يوجد فيه محبة الولد والحنو عليه والعطف عليه وامثال ذلك مما لا يوجبه سائر الصفات فهي بأن تكون قائمة به اولى من غيرها
واما السؤال الثاني وهو قوله كون الشيء بحيث يصدق عليه قولنا اما ان يكون واما ان لا يكون اشارة الى كونه قابلا للانقسام اليهما وقبول القسمة حكم عدمي فلا يكون معللا فعنه اجوبة
احدها ان المراد بذلك ان الموجود يلزمه احد الوصفين اي ان كل موجودين فانه يلزم احدهما ان يكون محايثا للاخر او مباينا عنه فلزوم احد الوصفين للوجود وقيامه به وكونه لا يفارقه هو المعني بقولهم اما ان يكون محايثا او يكون مباينا وهذه القضية التي يسمونها مانعة الخلو مع كونها مانعة

الجمع اي ان الموجود لا يخلو عن احد هذين والخلو عن الصفات امر عدمي فنقيضه يكون وجوديا فثبوت احد هذين الوصفين للموجود امر وجودي ليس المراد بهذا التقسيم ان الموجودين ينقسمان الى ما يكون محايثا وما يكون مباينا فان العرضين القائمين بمحل كل منهما للاخر ليس محايثا له والجوهر ان كل منهما محايث للاخر ليس محايثا له فهذا ليس من باب تقسيم الكلي الى جزئياته وانما هو من باب التقسيم المانع من الجمع بين القسمين والخلو منهما
وبهذا يظهر غلطة في السؤال الثالث ايضا واذا كان هذا التقسيم ليس هو القسمة الى امرين كتقسيم الكلي والكل وانما هو بيان لزوم احد القسمين ونفي خلو المحلين عنهما جميعا بطل قوله هذا اشارة الى كونه قابلا للانقسام اليهما بل هذا اشارة الى لزوم احدهما
الوجه الثاني قوله قبول القسمة حكم عدمي يقال لا نسلم ان اصل القبول حكم عدمي بل كون الوجود قابلا لشيء نقيضه عدم كونه ليس بقابل له والقبول رافع لهذا العدم ورافع العدم وجود وهذه الحجة هي التي احتج بها على ان الابوة وجودية فان صحت صح ان القبول وجودي وان بطل ذلك في القبول بطل في الابوة ايضا
الوجه الثالث قوله لو كان امرا ثابتا لكان صفة من صفات الشيء المحكوم عليه بكونه قابلا والذات قابلة للصفة القائمة بها فيكون قبول ذلك القبول زائدا عليه ويلزم التسلسل يقال قبول الانقسام ونحوه من الصفات كون ذلك ممكنا في نفس الذات وامكان الشيء لا يحتاج الى امكان آخر

وهذه الصفة لازمة للذات ليست الذات قابلتها بمعنى انه يمكن وجودها ويمكن عدمها بل كونها قابلة امر لازم لها واجب لها وهذا القبول يراد به عدم الامتناع بمعنى الامكان العام الذي يدخل فيه الواجب والاولى بمعنى الامكان الخاص فاذا كان احد القبولين هو الامكان الخاص والاخر هو العام وهو بمعنى الوجوب كان ذلك بمعنى الوجوب ووجوب الصفة للموصوف ليس فيه تسلسل وانما جاء الغلط من لفظ الاشتراك والقبول
الوجه الرابع هنا ان القبول امر عدمي فقوله يمتنع تعليله قيل المراد بالتعليل هنا التلازم ليس المراد به ان يكون احد الامرين غنيا عن الاخر موجبا له وبهذا الاعتبار يصح ان يكون كل من الامرين لازما ملزوما
فقد تبين بهذه الوجوه الثلاثة ان التقسيم لزوم لا قبول ولو كان قبولا لم يكن عدميا ولو كان عدميا فمعناه ان الموجود لا بد له ان انه يكون مع غيره من الموجودات اما محايثا له واما مباينا له وهذا لازم لكون الموجود اما قائم بنفسه واما قائم بغيره وكل قائم بنفسه فهو مباين للقائم بنفسه وكل قائم بغيره فهو محايث لذلك الغير ولما شاركه في القيام بذلك الغير
واما السؤال الثالث فقوله ما الذي تريدون بقولكم الموجود في الشاهد منقسم الى المحايث والمباين فعنه جوابان احدهما ان يقال له لم يقولوا هكذا وانما قالوا الموجودان لا بد وان يكون كل منهما مباينا للاخر او محايثا له والموجود بنفسه مع الموجود الاخر اما مباينا له او محايثا له لم يقولوا

ان الموجودات تنقسم الى قسمين احدهما مباين والاخر محايث وفرق بين كون الموجود بالنسبة الى غيره يلزمه احد الامرين وبين كون الموجود ينقسم الى الامرين واذا كان كذلك فلزوم احد الامرين حكم واحد وليس هو حكمين مختلفين والفرق ظاهر بين ان يكون الموجود ينقسم الى قائم بنفسه مباين لغيره وهو الجوهر والى قائم بغيره محايث له وهو العرض وبين ان يقال كل موجود مع غيره فلا بد ان يكون مباينا له او محايثا له او يقال الموجود من حيث هو موجود يلزمه ان يكون قائما بنفسه او بغيره فان هذا حكم واحد لموجود وذاك حكمان مختلفان فهذا الواحد هو ما به الاشتراك وهو مورد التقسيم وذانك الاثنان هما ما به الامتياز وهو ما به يمتاز احد القسمين عن الاخر بالحكم الواحد المشترك وهو لزوم احدهما والانقسام اليهما يلزم الوجود المشترك والحكم المختص يلزم القسم الخاص فخصوص كونه قائما بنفسه حكم النوع الخاص وهو الجوهر وخصوص كونه قائما بغير حكم النوع الآخر الخاص وهو العرض وريب ان خصوص كونه جوهرا وعرضا يصلحان لما يختص بالجوهر والعرض وأما لزوم احد الحكمين لكل موجودين او كل موجود وكون الموجود والموجودين لا يخلو عن احد هذين الوصفين فهذا الحكم المشترك بينهما لا يصلح تعليله بخصوص الجوهر وخصوص العرض وهذا ليس هو ان الموجود في الشاهد منقسم الى هذين القسمين فليس هو قسمة الكل الى اجزائه فظهر ان الذي قالوه ليس بغلط ولكن هو غلط او اغلط
وهذا مثل ان يقال الموجود لا بد ان يكون اما قديما او محدثا واما ان يكون خالقا او مخلوقا فان هذا يختص بالموجود فالمعدوم لا يكون قديما ولا محدثا ولا خالقا ولا مخلوقا فلزوم احد القسمين حكم مشترك بينهما والموجود من حيث هو مشترك بينهما

الجواب الثاني ان يقال هب انهم قالوا الموجود في الشاهد ينقسم الى المحايث والمباين فان انقسام الشيء الى قسمين حكم واحد ولكن ما يختص احد القسمين حكم يخالف الاخر فهب ان وجوب المباينة معلل بكونه جوهرا ووجوب المحايثة معلك بكونه عرضا لكن القدر المشترك وهو لزوم الانقسام وقبوله ووجوب الانقسام الى جوهر والى عرض حكم مشترك بينهما وهذا الحكم المشترك يجب تعليلة بالقدر دون المختص لان وجوب الانقسام ولزومه وقبوله وكونه بحيث ينقسم الى قسمين هو مورد التقسيم ومورد التقسيم مشترك بين الاقسام فيجب تعليله بالمشترك فالمقسوم هو الموجود من حيث هو لا وجود الجوهر خاصة ولا وجود العرض خاصة والموجود وان لم يكن في الخارج الا متميزا فهذه قسمة الكلي الى جزئياته وكل كلي ينقسم الى جزئياته فهذا حاله بخلاف الكلي الموجود في الخارج كالانسان مثلا اذا قسم الى اجزائه من الرأس واليد ونحو ذلك
واما قوله في السؤال الرابع لم قلتم انه لا بد من تعليله اما بالوجود واما بالحدوث وما الدليل على الحصر فانه يمكن ان يقال هنا ثلاثة اشياء
احدها ان يقال البحث التام والسبر التام والاستقراء التام قد يفيد اليقين تارة كما يفيد الظن القوي اخرى وهذا مما يقال في مواضع وقول القائل الشهادة على النفي غير معلومة ليس بصحيح بل النفي قد يعلم تارة كما يعلم الاثبات
الثاني ان يقال هذا يفيد الاعتقاد القوي والظن الغالب وهذا فيه انصاف وعدل وهو خير من دعوى البراهين القطعية التي يظهر عند التحقيق انها شبهات وخيالات فاسدة

ومن قال لا يجوز ان يحتج في هذا الباب الا بالقطعى الذي لا يحتمل النقيض قيل له اولا انت اول من خالف هذا فانت دائما تحتج بما لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين
وقيل له ثانيا لا نسلم بل الواجب على كل انسان ان يأتي بما هو الحق فان كان عنده علم قاطع قال به وان كان عنده ظن غالب قال به والمسائل التي تنازع بنو آدم فيها لان يحصل للانسان فيها ظن غالب خير من ان يكون في الحيرة والجهالة او يكون في التقليد او الحجج الفاسدة كما هو الواقع كثيرا وسنتكلم ان شاء الله على هذا الكلام على الاحاديث
وقيل له ثالثا هذا اذا انضم الى غيره حصل من مجموعهما اليقين وان لم يكن اليقين حاصلا بأحدهما كغير ذلك من الادلة السمعية والعقلية
الثالث ان هذا يمكن تقريره بالتقسيم الدائر بين النفي والاثبات كما قررناه في مسألة الرؤية وهو ان يقال المشترك بينهما اما ان يكون هو الوجود او ما هو من لوازمه اولا الوجود ولا شيئا من لوازمه وما ليس هو الوجود ولا شيئا من لوازمه يكون اخص من الوجود لان ما هو مساوله في العموم والخصوص وما هو اعم منه لازم له واما الاخص منه كالحدوث والامكان فليس بلازم له لان الوجود قد لا يكون ممكنا ولا محدثا بخلاف الاعم مثل جواز كونه مذكورا ومعلوما فان ذلك يلزم من انتفائه انتفاء كونه موجودا لانه اعم منه
وان شئت قلت اما ان يكون هو الوجود او ما يساويه في العموم والخصوص او اعم منه او اخص فاذا كان اخص منه فاما ان يتناول الوجود

الواجب اولا يتناوله فان تناوله فهو في ذلك كالوجود وان لم يتناوله فانه مستلزم الحدوث فان كل مالا يدخل في مسمى واجب الوجود فهو محدث فثبت ان العلة اما ان تكون هي الحدوث او ما يشترط فيه الحدوث مثل ما هو اخص من الحدوث واما ان يكون هو الوجود او ما يتناول واجب الوجود وهذا التقسيم دائر بين النفي والاثبات واليه يرجع حقيقة قولهم اما الوجود واما الحدوث
وهذا التحرير يظهر الجواب عن السؤال الخامس وهو قوله لا نسلم انا ما وجدنا لهذا الحكم علة سوى الحدوث او الوجود بيانه من وجهين الاول ان من المحتمل ان يقال المقتضي لقولنا ان الشيء اما ان يكون محايثا للعالم او مباينا عنه بالجهة كونه بحيث يصح الاشارة الحسية لان كل شيئين صح الاشارة اليهما فاما ان تكون الاشارة الى احدهما عين الاشارة الى الاخر او غيره
فيقال له كونه بحيث تصح الاشارة الحسية اليه اما ان يكون مطابقا للوجود في العموم والخصوص بحيث يقال الموجود لا بد ان تصح الاشارة الحسية اصلا او تبعا وان كل موجودين فلا بد ان تكون الاشارة الى احدهما عين الاشارة الى الاخر او غيره او يكون اخص منه فان كان مطابقا له حصل المقصود وكذلك اذا كان اعم منه بطريق الاولى لانه حينئذ تكون الحجة دليلا على شيئين على صحة الاشارة الحسية اليه وعلى كونه مباينا للعالم وان كانت صحة الاشارة اليه اخص من الوجود بحيث تصح الاشارة الحسية الى بعض الموجودات دون بعض فان كان واجب الوجود داخلا في ذلك صحت الحجة ايضا

وان لم يكون داخلا في ذلك كانت صحة الاشارة مستلزما للحدوث فيكون التعليل بصحة الاشارة الحسية تعليلا بما يستلزم الحدوث والتعليل بنفس الحدوث كالتعليل بما يستلزم الحدوث كما سنبينه ان شاء الله
اما قوله في الوجه الثاني ان الجواهر والاعراض مشتركان في الامر الذي به وقعت المخالفة بينهما وبين الباري فلم لا يجوز ان يكون هذا هو المقتضى لقبول الانقسام الى المباين والمحايث وحينئذ يبطل قوله لا مشترك بينهما الا الحدوث
يقال هذه المخالفة لذات الباري المشتركة بينهما هي مستلزمة للحدوث فانها من خصائصها لا توجد في الاري وما يختص المحدث مستلزم للحدوث واذا كان كذلك كان حكمه حكم الحدوث فان قولهم هو الوجود او الحدوث كل وصف يستلزم الحدوث فحكمه كحكمه في ذلك وكل وصف لازم للوجود بحيث يلزم من عدمه عدم الوجود هو كالوجود فان رفع التعليل به يقتضي رفع التعليل بالوجود كما تقدم بيانه
قوله في السؤال السادس لم لا يجوز ان يكون المقتضي لهذا الحكم هو الحدوث قوله اولا الحدوث ما هية مركبة من العدم والوجود قلنا كل محدث فانه يصدق عليه كونه قابلا للعدم والوجود وايضا كون الشيء منقسما الى المحايث والمباين معناه كونه قابلا للانقسام الى القسمين فالقابلية ان كانت صفة وجودية كانت في الموضعين كذلك وان كانت عدمية فكذلك ولا يبعد تعليل عدم بعدم
يقال اما الحدوث او ما يستلزم الحدوث فلا يجوز ان يكون هو علة للامر الوجودي لان ذلك مستلزم للعدم وما يستلزم العدم لا يجوز ان

يكون علة للامر الوجودي فلا يعلل الامر الوجودي الذي يختص بالموجودات دون المعدومات الا بأمر وجودي يختص بالموجودات
وكذلك لو اريد بالتعليل الملازمة فان الامر الوجودي لا يكون مستلزما للامر المستلزم للعدم لانه يوجب ان يكون العدم مستلزما الوجود والعدم لا يكون مستلزما للوجود فلا تكون الرؤية ولا صحة المحايثة والمباينة مستلزما لما يتضمن العدم سواء كان هو الحدوث او ما يستلزم الحدوث اذ كل منهما مستلزم للعدم والوجود لا مستلزما للعدم الا بطريق استلزامه لوجود يمنع غيره فيكون العدم ضد الوجود اما ان يكون وجود جنس الامر الوجودي معلقا بوجود يشترط فيه ان يكون معدوما فلا
قوله كل محدث يصدق عليه كونه قابلا للوجود والعدم وكذلك كون الشيء منقسما الى المحايث والمباين الى آخره يقال له هذا غلط من وجوه
احدها ان المحدث الذي يجوز رؤية هو الموجود دون المعدوم فان المعدوم لا يجوز رؤيته ولا يجوز تعليل رؤية الوجود المنقسم الى محايث ومباين بأنه محدث منقسم الى موجود ومعدوم فان المحدث الذي يدخل فيه المعدوم لا يرى محال فهو اعم مما يرى والعلة لا تكون اعم من المعلول وايضا فالمحدث الذي يصدق عليه انه قابل للوجود والعدم انما هو حقيقته الذهنية التي لا وجود لها في الخارج فهي تقبل ان تكون موجودة وان تكون معدومة واما الوجود فلا يقبل ذلك
الثاني انه ليس قبول الحقيقة لان تكون موجودة ومعدومة مثل قبولها لان تكون محايثة لغيرها او مباينة له لان ذلك القبول لا يقوم بشيء موجود بل

هو حكم ذهني واما هذا الثاني فهو صفة لامر موجود فان المحايثة والمباينة صفة لامر موجود وليس كل واحد من الوجود والعدم صفة لوجود
الثالث ان الشيء الذي قبل الوجود والعدم هو شيء بعينه يقبل الوجود والعدم تارة ليس المحدث ينقسم الى موجود ومعدوم واما المحايثة والمباينة فليستا صفتين متعاقبتين على حقيقة واحدة بل الحقيقة الموجودة المطلقة تنقسم الى محايث ليس موصوفا بالمباينة والى مباين ليس موصوفا بالمحايثة فليس هذا نظير ذلك
الرابع انا قد بينا ان الحكم الواحد هو لزوم احدهما للوجود وهذا حكم واحد وجودي ولا يقال ان احد الامرين من الوجود والعدم يلزم المحدث بل المحدث بعد حدوثه لا يكون الا موجودا وقبل وجوده لم يكن الا معدوما وان اريد به الحقيقة انه يلزمها احد الامرين فيقال هو يلزمها اما الوجود واما العدم ولزوم احد الامرين واحد وجود والثاني عدم لا يكون وجوديا بخلاف لزوم احد امرين وجوديين المباينة والمحايثة فان لزوم احد هذين يكون وجوديا
الخامس ان الصواب المتفق عليه بين اهل السنة وعقلاء الخلق ان العدم ليس بشيء في الخارج وانما كان له وجود في العلم واذا كان كذلك فالمحدث تارة يكون شيئا وتارة لا يكون شيئا فلا يكون كونه شيئا وكونه ليس بشيء علة لكونه محايثا او مباينا فان هذين يختصان بما هو شيء وما هو شيء لا يكون علة ما يستلزم في احد حاليه ان لا يكون شيئا او لا يكون علة انقسام حالية الى ان يكون شيئا تارة وغير شيء اخرى
واما ما اورده على قوله ان الجهل بالعلة يوجب الجهل بالمعلول من معارضة ذلك بأن يقال العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيقال عنه جوابان

احدهما القول بموجب ذلك فان كل ذي فطرة سليمة لم يتقلد مذهبا يصده ويغير فطرته اذا علم ان الشيء موجود علم انه اما ان يكون محايثا لغيره واما ان يكون مباينا له كما يعلمون ان القائم بنفسه لا يكون الا داخل العالم او خارجه واذا قيل له موجود لا داخل العالم ولا خارجه او قيل له شيئان موجودان ليس احدهما مباينا للاخر ولا هو بحيث هو وفهم ذلك انكرته فطرته
وقوله الجمهور الاعظم وهم اهل التوحيد يعلمون ان الباري جل وعلا موجود ولا يعملون انه لا بد وان يكون محايثا للعالم او مباينا له قلنا ليس الامر كذلك بل النفاة مغمورون في جانب اهل التوحيد ايضا فيكون بالنسبة الى جماهير بني آدم من المسلمين وغيرهم وجمهورهم تقلد هذا القول عن بعض حتى تغيرت فطرته ليس في هؤلاء احد من سلف الامة ولا ائمتها ولا فيهم الا من هو مجروح من المسلمين ببدعة وان كان متأولا فيها ومغفورا له خطاه او فيه ما هو اكثر من البدعة وهو الغالب على ائمة هذا القول من نوع ردة عن الاسلام ونفاق فيه وغير ذلك وقد اتفق سلف الامة وائمتها على انهم من اضل الخلق واجهلهم فلا يضرهم خلافهم في ذلك
الوجه الثاني ان يقال العلم امر وجودي واما عدم العلم فوصف عدمي والامر الوجودي يتوقف على السبب التام بخلاف العدمي فانه يكفي فيه عدم السبب او نقصه واذا كان كذلك فليس مجرد علم الانسان بالدليل علة كان او غيرها يوجب علمه بالمدلول معلولا كان او غيره ان لم يستحضر في ذهنه دلالة الدليل على المدلول ويتفطن لما فيه من الدلالة وهذا كما ان خلقا يسمعون كلام الله وهو الدليل الهادي ويشهدون آيات الله بالليل والنهار وهم عنها معرضون لعدم التفكر والتدبر اما اذا علم الرجل الحكم فلا بد له من سبب يوجب العلم

في قلبه وكون الشيء اما محايثا وإما مباينا واما قديما واما محدثا ونحو ذلك ليس هو الوصف المحسوس المشهود بالحس من المحايثة والمباينة وانما هو الوصف المعقول وهو لزوم احد الوصفين للموجود وكون الموجود ينقسم الى هذين فان الموجود المطلق وجوده ذهني وكذلك الانقسام الى قسمين هو حكم عقلي وكذلك لزوم احد الوصفين لا بعينه حكم عقلي ليس بحسي فاذا كان هذا الحكم يحكم به العقل بمجرد علمه وجود الشيء المحايث والمباين قبل علمه بكونه محدثا علم ان العلم بهذا الانقسام العقلي لا يتوقف على الحكم بالحدوث بل يعلم بمجرد العلم بكونه موجودا فلو كان المقتضى له ليس هو الوجود بل هو الحدوث او ما يشترط فيه الحدوث كان الحكم بذلك بدون العلم بمقتضيه وملزومه حكما للذهن بلا حجة فانه انما يستدل على الشيء بعلته او معلوله او يستدل باحد المعلولين على الاخر فاذا كانت جميع وجوه الادلة منتفية انتفى العلم فاذا كان العلم بهذا الانقسام موجودا بدون هذه الوجوه علم انها ليست ادلة فلا تكون داخلة في التعليل
وكذلك قوله الاثر المعلوم بالبديهة لا يجوز ان يكون علة وصف استدلالي انما هو العلة التي توجب العلم بالحكم ولكن يجوز ان يكون المؤثر فيما ادركه الحس ما لم يذكره الحس ولكن الانقسام ليس من الامور الحسية بل من الاحكام العقلية والعقل لا يحصر شيئا قبل الاحاطة بأفراده ولا يلزم بين شيئين قبل العلم بوجه الملازمة فان لم يكن الوجود هو المقتضى لهذا الحصر والتقسيم ولهذه الملازمة لم يجز حكم الذهن بذلك حتى يعلم دليلا يدله على هذا الحصر والتقسيم وهذه الملازمة ولا يجوز ان يكون الحكم بديهيا ودليله نظريا استدلاليا ومن يدير عقله علم انه يحكم بهذا التقسيم وهذا اللزوم بمجرد العلم بالوجود قبل العلم بالحدوث وغيره فان لم يكن الوجود مقتضيا له لم يكن له ان يحكم

الا بما احسه وهذان هذا مباين لهذا وهذا محايث له اما ان يحكم حكما عاما على جميع الموجودات اما ان يكون محايثا واما ان يكون مباينا قبل علمه بتساويهما في ذلك فهو حكم بلا اصل وهذا الكلام يحتاج الى تقرير ان العلة الخارجة هي العلة الذهنيه والا فيمكن النزاع في ذلك
واما قوله في السؤال السابع لو كان الوجود واحدا في الشاهد والغائب ليس الاشتراك اللفظي وهذا لا يمكن الا بأن يكون الباري مثلا للمحدثات او يكون الوجود زائدا على الماهية والمخالفون لا يقولون بواحد منهما
فيقال مثل هذا الكلام تكرر في تصانيف هذا الرجل وهو غلط عظيم في اظهر الامور واول الامور المعقولة من العلم الالهي و العلم الكلي وهو وجود الحق ووجود الخلق ولهذا يغلط به من نقل مذاهب الناس
فان مذهب عامة الناس بل عامة الخلائق من الصفاتية كالاشعرية والكرامية وغيرهم ان الوجود وهو مقولا بالاشتراك اللفظي فقط وكذلك سائر اسماء الله التي سمي بها وقد يكون لخلقه اسم كذلك مثل الحي والعليم والقدير فان هذه ليست مقولة بالاشتراك اللفظي فقط بل بالتواطىء وهي ايضا مشككة فان معانيها في حق الله تعالى اولى وهي حقيقة فيهما ومع ذلك فلا يقولون ان ما يستحقه الله تعالى من هذه الاسماء اذا سمي بها مثل ما يستحقه غيره ولا انه في وجوده وحياته وعلمه وقدرته مثلا لخلقه ولا يقولون ايضا ان له او لغيره في الخارج وجودا غير حقيقتهم الموجودة في الخارج بل اللفظ يدل على قدر مشترك اذ اطلق وجرد عن الخصائص التي تميز احدهما وهو لا يستعمل

كذلك في اسماء الله فقط ولا هو موضوعا في اللغة كذلك وانما يذكر كذلك في مواضع تجرد عن الخصائص كما تجرد في المناظرة لامور يحتاج اليها فيقدر تجريده عن الخصائص تقديرا كما يقدر اشياء لم توجد وهو حينئذ دال على قدر مشترك بين المسميين ولكن ذلك المشترك ليس مجموع حقيقة كل منهما الموجودة في الخارج فان لفظ الموجود اذا جرد يدل على الموجود المطلق لم يكن الوجود المطلق حقيقة الا في الذهن واما الوجود الخارجي فوجود كل موجود معين مميز عن الاخر مختص به وذلك الجسم المطلق والحيوان المطلق والانسان المطلق
وقد تقدم غير مرة ان حقيقة ذلك ان هذه الحيوانية الخارجية المعينة تشبه هذه الحيوانية وهذه الانسانية الخارجية تشبه هذه الانسانية فبينهما مشابهة من هذا الوجه وان كانت بينهما مخالفة من وجوه اخرى واذا قيل هذا موجود وهذا موجود ففيه اثبات اصل الوجود والثبوت والكون لكل منهما وان ما لهذا يشبه ما لهذا من هذا الوجه وهذا المعنى الذي اشتركا فيه واشتبها في غاية البعد عن حقيقة كل منهما كما ان حقيقة كل منهما يكون في غاية البعد عن حقيقة الاخر فوجود احدهما في الخارج هو عين حقيقته فاذا قيل ان سائر الحقائق والماهيات تشاركها في مسمى الحقيقة والماهية او تشبهها في ذلك كان هذا الشبه البعيد في غاية البعد عن الحقيقتين ولكن الامور العظمية الاختلاف بالحقيقة قد تشتبه في امر ما وهو الذي اشتركت فيه واعم هذه الامور هو الوجود والثبوت والكون فمن كان نظره في هذا كان نظره في ابعد الاشياء عن حقيقة الرب

وكثير من هؤلاء يعتقد انه قد ادرك حقيقته او انه لا حقيقة له الا ذلك وهؤلاء من اعظم الخلق تمثيلا لربهم بكل شيء وتشبيها له بكل شيء وقد جعلوا كل شيء ندا له وكفوا حيث جعلوا حقيقته هي الوجود المطلق وذلك يثبت لكل موجود فهم اعظم الخلق اشراكا بالله ومن هنا قال الاتحادية منهم انه وجود كل شيء وانه وجود الموجودات كلها ونحو ذلك مما هو من اعظم الاشراك والتعطيل
واصل هذا ان الاشتراك او الاشتباه في امر ما لمسمى الوجود او الحي او غير ذلك لا يقتضي التماثل بوجه من الوجوه بل يقتضي نوع اشتباه وقد يكون بعيدا عن التماثل وهذا الرازي كثيرا يظن ان الاشتراك في شيء هو التماثل فحكم على المشتبهين في شيء بحكم المتماثلين ثم انه في موضع آخر يناقض ذلك حتى يجعل الامور المتماثلة في الحكم لا تتماثل في العلة والامور المتماثلة في العلة لا تتماثل في الحكم اذ هو متناقض في عامة كلامه
ثم ان هؤلاء المتفلسفة والمتصوفة وسائر الملاحدة من القرامطة وغيرهم الذين يقولون حقيقته هي الوجود المحض او المطلق او نحو ذلك يزعمون انهم ابعد الخلق عن التشبيه وانهم هم الموحدون المحققون للتوحيد حتى ينفوا الصفات والاسماء نفيا منهم زعموا التشبيه هم اعظم الخلق تشبيها وتمثيلا واشراكا وجعل اندادا لله معماهم عليه من التعطيل وابعد الخلق عن ان يوحدوا الله تعالى بوحدانيته التي انفرد بها عن سائر مخلوقاته
فانهم اذا جعلوا حقيقته الوجود المطلق فهذا القدر ثابت لكل موجود فقد جعلوا حقيقته ما هو ثابت لكل شيء فقد حقيقة الله تشركه فيها

البعوضة والنملة بل الكلب والخنزير وقد يصرحون بأن وجود الكلب والخنزير عين وجوده وهذا من اغلظ الاشراك والكفر برب العالمين وهو تعطيل الله اذ لا وجود للوجود المطلق الا في المعين فاذا لم تثبت له حقيقة موجودة مختصة به منفصلة عن الموجودات لزم تعطيله ثم ان حقيقته التي اختص بها وامتاز بها عن خلقه لا يثبتونها وبها وجبت له الوحدانية والوجود من حيث هو وجود كالثبوت والكون وكونه حقا وهذا القدر ثابت لكل ما خلقه وسواه وهو سبحانه رب كل موجود سواه وخالقه وباريه ليس كمثله شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وهذا الموضع قد اوسعنا القول فيه في مواضع غير هذا وهو منشأ الاشراك والضلال في طوائف من الفلاسفة والاتحادية وسائر الملاحدة الذين يعمهم معنى الجهمية وان كان لبعضهم عن بعض في ذلك مزية
ومنشأ هذا من القياس الفاسد والتمثيل برب العالمين والتسوية بينه وبين غيره كما قال تعالى فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود ابليس اجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تا الله ان كنا لفي ضلال مبين اذ نسويكم برب العالمين وما اضلنا الا المجرمون واصل الاشراك الذي هو من القياس الفاسد هو ابليس اول من قاس قياسا فاسدا وهو امام المشركين وقائدهم ولا ينجو منه الا المخلصون الذين اثبتوا لله ما يختص به من الصفات والعبادات كما قال فبعزتك لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين وقال تعالى انه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وهذا باب واسع ليس هذا موضعه

وذلك انهم يجردون اسماء هذا وصفاته واسماء هذا وصفاته فيسوون بينهما ويجردون القدر المشترك بينهما فيثبتونه حقيقة خارجة وقد يجعلون هذا الذي جردوه هم بأذهانهم فقدروه في انفسهم هو الحقيقة الموجودة في الخارج ثم قد يجعلون هذا ثابتا لكل موجود في الخارج كقولهم هو في كل مكان بذاته وقولهم هو نفس وجود الموجودات وهو الوجود المطلق ونحو ذلك واما السؤال الثامن فقوله في المعارضة ان المقتضي لقبول الانقسام في الجوهر والعرض لو كان هو الوجود لزوم في الجوهر وحده أن يقبل الأنقسام الى الجوهر والعرض وكذلك في العرض وهو محال فيقال هذا غلط ظاهر ومغالطة قبيحة وذلك ان هذا الموجود اما ان يراد به الموجود المعين الخارجي فيكون المعنى انه يلزمه احد الحكمين اما المحايثة واما المباينة لا يقال فيه انه منقسم اليهما وعلى هذا فالجوهر الموجود يلزمه احدهما والعرض الموجود يلزمه احدهما فاما ان يراد به الوجود المطلق الكلي الذي هو مورد التقسيم الى الاقسام فهذا اذا قيل انه ينقسم الى محايث ومباين فهو كقولنا ينقسم الى جوهر وعرض ولا يلزم من قبول القسمة ان يكون احد قسميه القسمة التي يقبلها هو بل هذا جمع بين النقيضين
واما قوله في السؤال التاسع ان ما ذكرتموه من الدليل قائم في صور كثيرة مع ان النتيجة اللازمة عنه باطلة وهذا يدل على انه منقوض وبيانه من وجوه
الاول ان كل ما سوى الله محدث فتكون صحة الحدوث حكما مشتركا فلا بد لها من علة مشتركة والمشترك الحدوث او الوجود والحدوث لا يكون على صحة نفسه فوجب كونها معللة بالوجود فيلزم ان يكون الله محدثا

فيقال صحة الحدوث ليست من احكام الامور الوجودية بل من احكام الامور التي يمكن وجودها سواء كانت موجودة او لم تكن بخلاف المحايثة والمباينة فانها مختصة بالوجود دون العدم واما صحة الحدوث فهي مشتركة بين الوجود الممكن وبين كل معدوم ممكن فبينها وبين لزوم المحايثة او المباينة عموم وخصوص اذ صحة الحدوث يعم المعدوم الممكن بخلاف لزوم المحايثة او المباينة وبخلاف الرؤية واما لزوم المحايثة او المباينة والرؤية فلا يعلم انتفاؤه عن الله بخلاف صحة الحدوث فانه يعلم بالضرورة انتفاؤه في حق الله تعالى واذا كان كذلك فيجب ان تكون علة صحة الحدوث ما يطابقه في العموم وذلك ليس هو الحدوث فانه اخص منه اذ ليس كلما صح حدوثه كان محدثا ولا الوجود فانه ليس كل موجود يصح حدوثه والمطابق له هو الامكان الخاص فصحة الحدوث معللة بعلة مشتركة وهي الامكان الخاص وهذه علة مطردة منعكسة كتعليل الموجود بالرؤية وبلزوم المحايثة والمباينة
وقوله في الوجه الثاني ان كل موجود في الشاهد فهو اما حجم او قائم بالحجم ثم نذكر التقسيم الى آخره حتى يلزم ان يكون الباري اما حجما او قائما بالحجم والقوم لا يقولون بذلك فعنه جوابان
احدهما ان المعني بالحجم في اللغة الظاهرة هو الشيء الكثيف المتحد كالحجر والتراب خلاف الهوى فانه لا يسمى في اللغة المشهورة حجما فان كان مقصوده هذا فليس كل موجود في الشاهد اما حجما او قائما بالحجم
فان اراد به ان كل موجود في الشاهد فهو اما جسم واما عرض او اما جوهر واما عرض ويذكر التقسيم الى آخره
فيقال له لفظ الجوهر والعرض في الاصطلاح الخاص ليس نفيهما

عن الله من الشريعة كما انه ليس اثباتهما من الشريعة بل سلف الامة وائمتها انكروا على من تكلم بنفيها كما انكروا التكلم باثباتها او اكثر وعدوا ذلك بدعة فليس لاحد ان ينفي بهذين اللفظين الذين ليس لهما اصل لا في نص ولا في اجماع ولا اثر الا بحجة منفصلة غير هذا اللفظ اذ الحجج التي يستدل فيها باللفظ لا بد ان يكون لفظها منقولا عمن يجب اتباع قوله وهو الكتاب والسنة او الاجماع فكيف باللفظ الذي لا ينقل عن امام في الدين ولا احد من سلف الائمة
واما المعاني المرادة بهذين اللفظين فلا بد من تفسيرها فان الناس متنازعون فيما يريدون بهذه الالفاظ من المعاني ومتنازعون في لزوم تلك المعاني لبعض وغير ذلك واذا كان كذلك فان فسر مفسر معنى الجوهر والعرض بما لم يعلم انتفاؤه في حق الله تعالى كان ذلك طرد الدليل فلا ينتقض به ولا ينتقض الدليل حتى يبين ان هذا التقسيم يمكن في بعض المعاني التي يجب نفيها عن الله تعالى ولم يفعل ذلك
وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو ان قوله وهم لا يقولون به قياس الزامي وقد تقدم انه قال ان هذا الدليل ليس بحجة لافي النظر ولا في المناظرة وذلك ان هذا الدليل ان كان مستلزم ثبوت مسمى الجسم والعرض كان حجة عليهم في هذا الموضع كما هو حجة على اولئك في المواضع الاخر فاذا ذكروا فرقا فان كان ذلك الفرق صحيحا لم يصح النقض بالجسم والعرض وان لم يكن الفرق صحيحا لم يكن نفيهم لمسمى الجسم والعرض صحيحا على التقديرين فلا يلزم بطلان هذه الحجة

واما قوله في الوجه الثالث ان كل موجودين فلا بد وان يكون احدهما محايثا للاخر او مباينا عنه في اي جهة كان وساق التقسيم الى آخره حتى يلزم كونه محايثا للعالم او مباينا عنه في اي جهة كان وذلك يقتضي ان لا يختص بجهة فوق بل يلزم صحة الحركة على ذاته من الفوق الى السفل وكل ذلك عند القوم محال فعنه اجوبة
احدها انه ليس كل موجودين فلا بد وان يكون احدهما محايثا للآخر او مباينا عنه في اي جهة كان بل من الاجسام الموجودة ما يمتنع مع بقاء حقيقته ان يكون من الاخر الا في جهة معينة كما ان رأس الانسان يمتنع ان يكون الا فوق وبطن قدمه يمتنع ان يكون الا في اسفله ولو غير ذلك خرج عن حقيقته وكذلك العرش يمتنع ان يكون في اسفل سافلين واسفل سافلين يمتنع ان يكون فوق العرش
الثاني ان يقال ما تعني بقولك فلا بد وان يكون محايثا او مباينا عنه في اي جهة كان اتعني ان العقل يشهد انه لا بد من وجوب المباينة ولو بأي جهة كان او تعني انه لا بد مع وجوب المباينة من جواز المباينة من جميع الجهات فهذان معنيان متغايران فان وجوب مطلق المباينة من غير تعيين جهة غير وجوب المباينة ووجوب جوازها بكل جهة فان عني ان كل موجودين فانه لا بد وان يتحايثا او بيان احدهما الاخر وانه لا بد مع ذلك ان يجوز مباينته من جميع الجهات فهذا القدر ليس معلوما بالبديهة ولا بالحس وكثير من الناس ينازع في كثير من ذلك

وبالجملة ليس هذا هو العلم البديهي الذي يعلم في المشهودات فانا لا نعلم ان كل ما هو قائم بنفسه يجوز ان يكون في جميع الجهات من كل قائم بنفسه هذا لا يعلم بالبديهة بحال واذا لم يكن معلوما بالبديهة لم يجب ان يعلل بعلة تعم الموجود حتى نعلم ثبوته وحينئذ فمن الناس من يقول ليس هذا ثابتا لجميع المخلوقات ومنهم من يثبته للمخلوق دون الخالق واذا كان الأمر كذلك فان المنازع يقول قد قام الدليل على أن هذا ليس ثابتا لجميع الموجودات وليس هو مما علم بالبديهة أنه يشترك فيه جميع المشهودات فلا يكون نظير حجتنا اذا علم اختصاصه ببعض الموجودات فانه يعلل بما يختص به
الوجه الرابع أن الاستدلال بما يجب لكل موجودين والواجب لكل موجودين أن يكونا متباينين أو متحايثين أما كون أحدهما يصح أن يكون مباينا للآخر من جميع جهاته فهذا ليس هو الواجب لكل موجودين والحجة كانت فيما يلزم الموجود من المحايثة أو المباينة واللازم له أصل المباينة أما المباينة من جميع الجهات فليس ذلك بلازم وان كان جائزا بل يجوز ان يجعل الله بعض الأشياء لا تباين الا بجهة معينة
الخامس أن يقال ليس للعالم الا جهتان وهي العلو والسفل فأما العلو فانه مختص بالله تعالى وأما أسفل سافلين فذلك سجين وهو المركز الذي لا يسع الا الجوهر الفرد وكل قائم بنفسه فانه يصح أن يكون مباينا عنه بجميع الجهات لأن كل ما سواه يصح أن يكون فوقه وان كان كذلك فيقال بموجب المعارضة وهو أن الله تعالى يجوز أن يكون مباينا للعالم من جميع جهاته لأن جميع جهاته هي العلو ليس له جهة أخرى فظهر القول بموجب الحجة ألا ترى أن سطح العرش مباين للعالم كذلك

السادس أن قوله ذلك يستلزم صحة الحركة عليه من الفوق الى السفل وهم لا يقولون بذلك فنقول هذا قياس الزامي وفي صحة الحركة نزاع مشهور وهم يدعون ثبوت الفارق فان صح ما يدعونه من الفارق والا كانت هذه الحجة حجة عليهم في المسألتين جميعا ولا يتفصل ذلك كما تقدم نظيره
وأما قوله في الرابع ان كل موجودين في الشاهد فانه يجب أن يكون أحدهما محايثا أو مباينا عنه بالجهة والمباين بالجهة لا بد وأن يكون جوهرا فردا أو مركبا من الجواهر وكون كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الاقسام الثلاثة أعنى كونه عرضا أو جوهرا فردا او جسما مؤتلفا لا بد أن يكون معللا بالوجود فوجب أن يكون الباري على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم ينكرون ذلك لأنه عندهم ليس بعرض ولا بجوهر ولا بجسم مؤتلف من الأجزاء والابعاض
فيقال له أما تسمية صفاته عرضا فان منهم من سمي صفاته أعراضا مع أن النزاع في ذلك لفظي وذلك أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين ينفون الصفات لما رأوا أن الصفات تقوم بالأجسام وهي الأعراض أيضا وبها او ببعضها احتجوا على حدوث الموصوف الذي قامت به وقالوا انها لا تقوم الا بمتحيز ولا تقوم الا بمحدث نفوها عن الله تعالى وقالوا من أثبتها فقد قالوا انه يقوم به الأعراض وهي لا تقوم الا بمتحيز فيكون متحيزا محدثا فسلك معهم مثبتة الصفات ثلاثة مسالك
احدها قول من يقول له صفات لكن ليست اعراضا أو لا تسمى أعراضا لأن العرض ما يعرض لمحله ويزول عنه وصفاته لازمة لذاته ليست زائلة عنها وهذا مما قوى عند هؤلاء أن يقولوا الأعراض لا تبقى زمانين أصلا ليكون هذا فرقا بين صفات الله تعالى وصفات المخلوقين من تسمية صفات المخلوقات أعراضا

دون صفات الخالق وبهذا وأمثاله انتحلوا دعوى السنة في قولهم الأعراض لا تبقى زمانين لأن هذا مما وكدوا به في اعتقادهم مذهب أهل السنة في ثبوت صفات الله تعالى وهذه طريقة الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم
والمسلك الثاني طريقة من لا ينازعهم في تسمية صفات الله تعالى أعراضا كما لا ينازعهم في تسمية من قامت به الصفات جسما ولا يقول أيضا بأن الأعراض لا تبقى بل الأعراض التي في الحس باقية هي باقية كالألوان وغيرها بخلاف ما ليس باقيا كالحركة وهؤلاء يقولون هب أن الأعراض قامت به وهب أنه جسم فليس يلزم من ذلك محذور وهذا قول طوائف من الصفاتية من الكرامية والشيعة ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم
والمسلك الثالث ان لا يقولوا صفاته أعراض ولا يقولوا ليست أعراضا كما لا يقولون انه جسم ولا أنه ليس بجسم للأن ذلك كله بدعة مذموم عند سلف الأمة وأئمتها ولأن النزاع في ذلك ان كان في معنى وجب اثبات المعنى الحق دون المعنى الباطل فيسأل النفاة المثبتة ما أرادوا بذلك فان أثبتوا حقا وباطلا أقروا الحق دون الباطل وكذلك النفاة ان نفوا حقا وباطلا نفي الباطل دون الحق ومن أثبت حقا او نفى باطلا أقر ومن أثبت باطلا أو نفى حقا منع وان كان النزاع في اللفظ فما يوصف به الباري نفيا واثباتا من الأسماء والصفات فالمتبع فيه الشريعة فلا وصف الله الا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا من الاثبات ولا من النفي والله سبحانه وتعالى قد أخبر أنه أحد صمد ونزه نفسه عن الوالد والولد والشريك والكفو والسمي والحاجة والنوم والموت وغير ذلك ما دل عليه القرآن

ولم يذكر هو ولا رسوله ولا أهل العلم والايمان به أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا أن صفاته ليست بعرض ولا قائمة بالغير ولا نحو ذلك وكذلك في الاثبات له الأسماء الحسنى التي يدعى بها وليس في تلك الأسماء انه جسم ولا جوهر ونحو ذلك ولا أن صفاته تسمى أعراضا ونحو ذلك فلم يكن واحد من هذين مشروعا على الاطلاق ولا هو أيضا منهيا عنه على الاطلاق بل اذا اثبت الرجل معنى حقا ونفى معنى باطلا واحتاج الى التعبير عن ذلك بعبارة لاجل افهام المخاطب لأنها من لغة المخاطب ونحو ذلك لم يكن ذلك منهيا عنه لأن ذلك يكون من باب ترجمة أسمائه وآياته بلغة أخرى ليفهم أهل تلك اللغة معاني كلامه وأسمائه وهذا جائز بل مستحب أحيانا بل واجب أحيانا وان لم يكن ذلك مشروعا على الاطلاق كمخاطبة أهل هذه الاصطلاحات الخاصة في أسماء الله وصفاته وأصول الدين باصطلاحهم الخاص اذا كانت المعاني التي تبين لهم هي معاني القرآن والسنة تشبه قراءة القرآن بغير العربية وهذه الترجمة تجوز لافهام المخاطب بلا نزاع بين العلماء وأما قراءة الرجل لنفسه فهذا لا يجوز عند عامة أهل العلم لافي الصلاة ولافي خارج الصلاة وجوزه بعضهم مطلقا لكن لمن لم يحسن العربية لكن المخاطبة ليست كاقراء القرآن لكن تشبه ذكره والثناء عليه والدعاء له بما لم يوقت الشارع فيه شيئا بعينه ولهذا يكره أيضا عند كثير من العلماء أو أكثرهم تغيير العربية الا للحاجة ومنهم من لم يكرهه
اذا تبين ذلك فجوابه من وجوه
احدها أن هذا الوجه الذي ذكره هو من الوجوه الالزامية وهذه ليست بحجة لا للناظر ولا للمناظر كما تقدم غير مرة وذلك أن هذه الحجة اما أن توجب أن كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام أولا توجبه فان لم

توجبه فلا يضر وان أوجب ذلك ولم يذكر الفارق فرقا بين الموضعين والا كانت حجة عليهم في الموضعين وكان له أن يقول أنا انما أثبت الجسم والجوهر والعرض لكذا وكذا فان كان هذا فرقا صحيحا بطل الالزام وان لم يكن فرقا صحيحا تاما امتنع الحكم اذ ليس في ذلك نص ولا اجماع عام
الوجه الثاني أن يقال كون الموجود في الشاهد جوهرا فردا او ليس بجوهر فرد ليس ذلك بمشهود ولا معلوم بحس ولا ضرورة كالعلم بأن الموجود في الشاهد اما مباين واما محايث بل في ذلك نزاع عظيم بين المتكلمين وهذا المؤسس هو من المتوقفين في اثبات الجوهر الفرد وقد حكى التوقف فيه عمن حكاه من أذكياء الطوائف كأبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني واذا لم يكن هذا معلوما بالحس والاضطرار لم يكن نظير تلك الحجة
الوجه الثالث أن من ينكر الجوهر من أهل الكلام والفلسفة او من توقف فيه يمنع الانقسام الى هذه الثلاثة وهؤلاء طوائف كثيرون
الوجه الرابع أن قوله ان المباين بالجهة لا بد وأن يكون جوهرا فردا او يكون مركبا من الجواهر وكون كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام الثلاثة أعنى كونه عرضا او جوهرا فردا او جسما مؤتلفا لا بد وأن يكون معللا بالوجود يقال له ليس كون الأشياء القائمة بأنفسها في الشاهد مركبة من الجواهر وأنها اما جوهر فرد واما جسم مؤتلف مما يعلم لا بحس ولا بضرورة كما يعلم أن الموجود اما أن يقوم بنفسه واما ان يقوم بغيره بل في ذلك نزاع عظيم بين الناس نفيا واثباتا ووقفا واذا كان كذلك لم يكن نظيرا له

الوجه الخامس أن من يقول الجسم واحد في نفسه ليس مركبا من الجواهر من أهل الكلام والفلسفة سواء قالوا ينقسم الى جزء لا يقبل القسمة او قالوا يقبل القسمة الى ما لا يتناهي ينازعون في هذا الانقسام ويقولون لا نسلم ان القائم بنفسه لا يكون الا مركبا من الأجزاء او جوهرا فردا وهؤلاء طوائف كثيرة
الوجه السادس أن يقال قد مر الكلام على معنى القسمة والتركيب وأن حاصله يعود الى تميز شيء من شيء كامتياز صفة من صفة وأن ذلك مما يجب الاعتراف به في حق كل موجود فانه يمتنع أن يكون شيء من الموجودات بدون ذلك وان كان كذلك لم يكن ما يلزم الوجود مما سموه انقساما وتركيبا محالا فاذا اوجبت الحجة القول به قيل به
الوجه السابع أن يقال ان عنيت بكونه عرضا انه صفة قائمة بالموصوف ويكون منقسما اي فيه نوع تميز فهذا يلتزمه أهل الاثبات للعلو وان عنيت بكونه عرضا انه يعرض ثم يزول وبكونه منقسما مركبا انه يقبل التفرق والاجتماع بعد التفرق فيقال هذا وصف له بعدم بعد الوجود وبوجود بعد عدم واذا كان هذا كذلك لم يمتنع ان يكون الموجب لذلك متضمنا للعدم فان الممتنع تعليل الامر الوجودي كالرؤية ولزوم احد الوصفين الموجودين بما فيه عدم اما الوصف المشتمل على عدم فلا يمتنع تعليله بالوصف المشتمل على عدم
يوضع ذلك الوجه الثامن وهو أن العرض الذي يختص به المخلوق جوهر عند من يقول ذلك ويفرق بين صفة الخالق وصفة المخلوق مما يمتنع بقاؤه ويجب عدمه بعد وجوده وأقل ما في ذلك أنه يجوز عدمه بعد وجوده والجسم المخلوق اما أن يكون متفرقا في نفسه منقسما قسمة حقيقية بحيث يكون بعضه منفصلا

عن بعض واما أن يكون قابلا لذلك وعلى التقديرين فلا يكون هذا الحكم صفة للموجود من حيث هو موجود فان الموجود من حيث هو موجود لا يكون واجب العدم ولا واجب التفرق والانفصال واذا كان كذلك كان نفس هذا الوصف المذكور يوجب ان يختص ما يجوز عليه العدم والتفرق
الوجه التاسع ان وجوب العدم او التفرق لا يجوز تعليله بالوجود فان الوجود نفسه لا يوجب التفرق والعدم فان العدم ينافي الوجود والشيء لا يكون موجبا لما ينافيه وكذلك التفرق هو نوع من عدم الكمال فان الاجتماع صفة كمال وقوة والافتراق ينقص تلك القوة والكمال وكذلك يسمى الشيء جميلا والجمال مشتق من الاجمال الذي هو الجمع والضم ولهذا يقال كل ألم في العالم فأصله من تفرق واجتماع فكون الشيء موجودا او مقصودا بحث يحصل به الفرح والسرور لا يناسب تفرقه واختلاله وانما يناسب اجتماعه واكماله ولهذا كان الاسم الصمد فيه معنى الاجتماع المنافي للتفرق وفيه اجتماع الخلق اليه بحيث يكون هو المقصود لهم في العبادة في الدعاء والعبد لا بد له من قصد يقصده والشيء انما يقصد لنفسه او لغيره والله هو المقصود المعبود لنفسه وهو المدعو المسؤول الذي يسأل منه كل شيء واذا كان كذلك تبين أن هذا الحكم لا يجوز تعليله بالوجود المطلق ولا بما يشتمل على الوجود الواجب
وأما قوله في الوجه الخامس اذ كل موجود يفرض مع العالم فهو اما أن يكون مساويا للعالم او زائدا عليه في المقدار او انقص منه في المقدار فانقسام الموجود في الشاهد الى هذه الاقسام الثلاثة حكم لا بد له من علة ولا علة الا الوجود والباري تعالى موجود فوجب ان يكون الباري تعالى على احد هذه الأقسام الثلاثة والقوم لا يقولون به ثبت بما ذكرنا ان هذه الشبهة منقوضة
فيقال له عن هذه ايضا وجوه

احدها ان هذه أيضا حجة الزامية لا حقيقية فالذي ينفي هذه الأقسام عن الباري اما أن يذكروا فرقا صحيحا اولا يذكروه فان ذكروه بطل الزامهم بذلك في حجة المباينة والمحايثة وان لم يذكروا فرقا صحيحا كان ذلك حجة عليهم في الموضعين كما تقدم نظيره وحينئذ فلا يكون هذا حجة لا في نظر ولا في مناظرة فان هذا ليس هو متفقا على نفيه بل أكثر اهل الاثبات يلتزم أحد الاقسام
الوجه الثاني أن يقال هذا التقسيم باطل فان كل ما نشهده فهو جزء من العالم سواء كان قائما بنفسه او بغيره فكيف يقال فيما هو بعض العالم اما ان يكون مساويا للعالم أو أزيد منه أو أنقص منه ومن المعلوم أنه لا يكون الا أنقص منه واذا كان لا يصح ان يكون مساويا له ولا أزيد وبهذا يظهر ان هذا ليس نظير الحجة فان تلك مضمونها ان كل موجود يلزمه احد الأمرين اما المحايثة لغيره واما المباينة له والوجود ينقسم الى قسمين محايث ومباين ولا يمكن ان يقال الوجود المشهود يلزمه احد هذه الأقسام انما يلزمه واحد منها معين وهو النقص
الوجه الثالث ان هذا الذي ذكره انما هو فيما تقدم وجوده ويفرض مع العالم ومعلوم أنما يقدر وجوده ويفرض لا يعلم حكمه بالحس ولا بالبديهة كما يعلم حكم الموجود المشهود المحسوس مع الموجود المشهود المحسوس فان تلك الحجة مبناها على ما علم بالحس والضرورة ثم النظر هل ذلك معلل بما يتناول الوجود الواجب او بما يخص غيره وأما الموجودات المقدرة فحكمها لا يعلم بحس ولا ضرورة وانما يعلم بالقياس على ما علم وجوده

الوجه الرابع أن هذا إذا كان في الوجود المقدر مع العالم فذلك الموجود اما أن يكون هو الله او غيره فان كان غيره فقد علم انه معدوم لأن كل ما يقدر وجوده سوى الله فهو من العالم فلا يمكن تقدير موجود غير الله خارج عن مجموع خلقه وان كان المراد بهذا الموجود هو الله كان المعنى ان الله لا يخلو اما أن يكون اكبر من العالم او اصغر او بقدره واذا كان هذا هو المعنى المقدر فاحتجاجه بهذا على ان الباري موصوف بأحد هذه الأقسام هو استدلال بالشيء على نفسه فالدليل هو غير المدلول ويكون التقدير ان الرب الموجود مع العالم اما أن يكون مساويا له او اكبر او اصغر واذا كان كذلك فهو اما ان يكون مساويا او اكبر او اصغر وملعوم ان هذا باطل فضلا ان يكون نظير الحجة
وقد ظهر بما نبهنا عليه في الكلام على هذه الحجة ان قوله ونحن بعد ان بالغنا في تنقيحها وتقريرها اوردنا عليها هذه الاسئلة القاهرة والاعتراضات القادحة ليس الأمر كما قاله فان الحجة لم يستوف تقريرها كما يجب وليس ما ذكره من الأعتراض كما زعم هذا مع أنا لم نستوف الكلام في تقريرها ولا في الأجوبة عن اسولته لأن المقصود حكاية ما ذكره هو من الحجة وذكر ما ينبه على الحكم العادل بينه وبين خصومه

فصل
قال الرازي الشبهة الثالثة للكرامية في اثبات كونه تعالى في الجهة قالوا ثبت أنه تعالى تجوز رؤيته والرؤية تقتضي مواجهة المرئي او مواجهة شيء هو في حكم مقابلته وذلك يقتضي كونه تعالى مخصوصا بجهة قال

والجواب اعلم ان المعتزلة والكرامية توافقوا على ان كل مرئي لا بد وأن يكون في جهة الا ان المعتزلة قالوا لكنه ليس في الجهة فوجب أن لا يكون مرئيا والكرامية قالوا لكنه مرئي فوجب ان يكون في الجهة واصحابنا نازعوا في هذه المقدمة وقالوا لا نسلم ان كل مرئي فانه مختص بالجهة بل لا نزاع ان الأمر في الشاهد كذلك فلم قلتم ان كل ما كان كذلك في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك
وتقريره ان هذه المقدمة اما ان تكون مقدمة بديهية او استدلالية فان كانت بديهية لم يكن في اثبات كونه مختصا بالجهة حاجة الى هذا الدليل وذلك لأنه ثبت في الشاهد أن كل قائم بالنفس مختص بالجهة وثبت ان الباري جل وتعالى قائم بالنفس فوجب القطع بأنه تعالى مختص بالجهة لأن العلم الضروري حاصل بأن كلما ثبت في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك فاذا كان هذا الوجه حاصلا في اثبات كونه تعالى في الجهة كان اثبات كونه في الجهة بكونه مرئيا ثم اثبات ان كل ما كان مرئيا فهو مختص بالجهة تطويل من غير فائدة ومن غير مزيد شرح وبيان
وأما ان قلنا ان قولنا كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية بل هي مقدمة استدلالية فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلا تصير هذه المقدمة يقينية وأيضا فكما أنا لا نعقل مرئيا في الشاهد الا اذا كان مقابلا او في حكم المقابل للرائي فكذلك لا نعقل مرئيا الا اذا كان صغيرا او كبيرا او ممتدا في الجهات مؤتلفا من الأجزاء وهم يقولون انه تعالى يرى لا صغيرا ولا كبيرا ولا ممتدا في الجهات والجوانب والأحياز فاذا جاز لكم ان تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب فلم لا يجوز ايضا ان يقال ان المرئي في الشاهد وان

وجب كونه مقابلا للرائي الا أن المرئي في الغائب لا يجوز ان يكون كذلك
والكلام على ما ذكره من وجوه
احدها انما ذكره عن المعتزلة والكرامية ليس هو قولهم فقط بل قول عامة طوائف بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين وهو قول جماهير مثبتي الصفات ونفاتها ولا يعرف القول باثبات الرؤية مع نفي كون الله تعالى فوق العالم الا عن هذه الشرذمة وهم بعض اتباع الأشعري ومن وافقهم وليس ذلك قول ائمتهم كما يقول هؤلاء وان كانوا هم وغيرهم يقولون ان في كلام أئمتهم تناقضا او اختلافا فقد قدمنا ان تناقض من كان الى الاثبات اقرب هو أقل من تناقض من كان الى النفي اقرب وقدمنا ان العلم بأنه فوق العالم اعظم من العلم بأنه يرى فعلم ذلك بالعقل اعظم في الطرق البديهية والقياسية وعلم ذلك بالسمع أعظم لما في الكتاب والسنة من الدلالات الكثيرة التي لا يحصيها الا الله على أن الله فوق
ولهذا تجد هؤلاء الذين يثبتون الرؤية دون العلو عند تحقيق الأمر منافقين لأهل السنة والاثبات يفسرون الرؤية التي يثبتونها بنحو ما يفسرها به المعتزلة وغيرهم من الجهمية فهم ينصبون الخلاف فيها مع المعتزلة ونحوهم ويتظاهرون بالرد عليهم وموافقة أهل السنة والجماعة في اثبات الرؤية وعند التحقيق فهم موافقون المعتزلة انما يثبتون من ذلك نحو ما اثبته المعتزلة من الزيادة في العلم ونحو ذلك مما يقوله المعتزلة في الرؤية او يقول قريبا منه ولهذا يعترف هذا الرازي بأن النزاع بينهم وبين المعتزلة في الرؤية قريب من اللفظي

فعلم ان هؤلاء حقيقة باطنهم باطن المعتزلة الجهمية المعطلة وإن كان ظاهرهم ظاهر اهل الاثبات كما أن المعتزلة عند التحقيق حقيقة امرهم امر الملاحدة نفاة الأسماء والصفات بالكلية وان تظاهروا بالرد عليهم والملاحدة حقيقة امرهم حقيقة من يجحد الصانع بالكلية هذا لعمري عند التحقيق وأما عوام الطوائف وان كان فيهم فضيلة وتميز فقد يجمعون بين المتناقضات تقليدا وظنا ولهذا لا يكونون جاحدين وكافرين مطلقا لأنهم يثبتون من وجه وينفون من وجه فيجمعون بين النفي والاثبات
قال الأشعري في الابانة باب الرد على الجهمية في نفيهم على الله وقدرته قال الله تعالى انزله بعلمه وقال سبحانه وما تحمل من انثى ولا تضع الا بعلمه وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه فقال سبحانه فأن لم يتجيبوا لكم فعلموا أنما أنزل بعلم الله ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء وذكر تعالى القوة فقال اولم يرو أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وقال سبحانه ذو القوة المتين وقال الله تعالى والسماء بنيناها بأيد قال وزعمت الجهمية والقدرية ان الله عز و جل لا علم له ولا حياة ولا سمع ولا بصر وأرادوا ان ينفوا ان الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعهم خوف السيف من اظهارهم ذلك فأتوا بمعناه لأنهم اذا قالوا لا علم ولا قدرة لله فقد قالوا ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم وهذا انما اخذوه عن اهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير فلم تقدر المعتزلة ان تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت ان الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير ان نثبت له علما وقدرة وسمعا وبصرا

وهؤلاء الذين ذكر قولهم قالوا ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير وهؤلاء شر من الذين تقدم ذكرهم وحكاية الرازي قولهم الذين يقولون لا نقول موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل فان أولئك امتنعوا من التسمية بالضدين لم ينفوا أن يكون هو تعالى في نفسه موصوفا بأحدهما فهؤلاء الذين نفوا ذلك اعظم من اولئك وقد أخبر ان قول المعتزلة مأخوذ من هؤلاء
وكذلك قال في كتاب المقالات لما قال وهذا ذكر اختلاف الناس في الأسماء والصفات فقال الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة المتحيرين الذي نفوا صفات الله رب العالمين وقالوا انه جل ثناؤه وتقدست اسماؤه لا صفات له وأنه لا علم له ولا قدرة له ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له ولا عز له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله التي توصف لنفسه قال وهذا قول اخذوه عن اخوانهم من المتفسلقة الذين يزعمون ان للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا نقول عين لم تزل ولم يزيدوا على ذلك غير ان هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا ان يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم ان يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهر من ذلك ولأفصحوا به غير ان خوف السيف يمنعهم من اظهار ذلك قال وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم ان الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لافي الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم ان الباري تعالى عالم قادر سميع بصير حكيم جليل

في حقيقة القياس قال وقد اختلفوا فيما بينهم اختلافا تشتت فيه اهواؤهم واضطربت فيه أقاويلهم ثم ذكر بينهم نزاعا كثيرا ليس هذا موضعه
وقال شيخ الاسلام ابو اسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتاب ذم الكلام في آخره لما عقد بابا في ذكر هؤلاء الأشعرية المتأخرين فقال باب في ذكر كلام الأشعري ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من اهل السنة طوايا كلام الجهمية وما اودعته من رموز الفلاسفة ولم يقع منهم الا على التعطيل البحت وان قطب مذهبهم ومنتهى عقدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم ان والفلك دوار والسماء خالية وان قولهم انه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فرارا من الاثبات وذهابا عن التحقيق وان قولهم سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قادر بلا قدرة اله بلا نفس ولا شخص ولا صورة ثم قالوا لا حياة له ثم قالوا لا شيء فانه لو كان شيئا لأشبه الأشياء حاولوا مقال رؤوس الزنادقه القدماء إذ قالوا الباري لا صفة لهم ولا لا صفة خافوا على قلوب ضعفاء المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم اذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن اعتصاما به من السيف واجتنابا به منهم واذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين ويحملون الطيالسة فأفصحوا بمعائبهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكتهم فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف لخلفاء وألسن العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية من مقالات علماء الاسلام ورن الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم واجماع

المسلمين على اخراجهم من الملة ثلت عليهم الوحشة وطالت الذلة وأعيتهم الحيلة الا ان يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصبغوا كلامهم صيغة تكون ألوح للأفهام وانجع في العوام من أساس اوليهم تحدوا بذلك المساغ وليتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخاريق ترئا للعين بغير ما في الحشايا ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى فخ الفلسفة يكسى لحاء السنة وعقد الجهمية ينحل القاب الحكمة يردون على اليهود قولهم يد الله مغلولة فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونوا اسوأ حالا من اليهود لأن الله سبحانه اثبت الصفة ونفى العيب واليهود اثبتت الصفة واثبتت العيب وهؤلاء نفو الصفة كما نفوا العيب ويردون على النصارى في مقالتهم في عيسى وامه فيقولون لا يكون في المخلوق غير المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب ان كلام اولهم وكلام آخرهم كخيط السحارة فاسمعوا الآن يا ذوي الألباب وانظروا ما فضل هؤلاء على اولئك اولئك قالوا قبح الله مقالهم ان الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون ليس هو في كل مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ عن الله عز و جل لجارية معاوية بن الحكم رضي الله عنه اين الله قالت في السماء الحديث وقالوا هو من فوق كما هو من تحت لا ندري اين هو ولا يوصف بمكان فليس هو في السماء وليس هو في الأرض وانكروا الجهة والحد وقال اولئك ليس له كلام انما خلق كلاما وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به ثم يقولون ليس هو في مكان ثم قالوا ليس له صوت ولا حروف وقالوا هذا زاج وورق وهذا صوف

وخشب وهذا انما قصد النفس واريد به التفسير وهذا صوت القاري اما يرى حسن وغير حسن وهذا لفظه او ما تراه مجازا به حتى قال رأس من رؤوسهم او يكون قرآن من لبد وقال آخر من خشب فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك ثم قالوا غير مخلوق ومن قال مخلوق كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام اهل السنة وانما اعتقادهم ان القرآن غير موجود لفظية الجهمية الذكور بمرة والجهمية الاناث بعشر مرات
اولئك قالوا لاصفة وهؤلاء يقولون وجه كما يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين كعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جدارهما يترائيان ويد كيد المنة والعطية والأصابع كقولهم خراسان بين اصبعي الأمير والقدمان كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي اي انا املك امره وقال الكرسي العلم والعرش الملك والضحك الرضى والاستواء الاستيلاء والنزول القبول والهرولة مثله شبهوا من وجه وانكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر فردوا الأصل ولم يثبتوا شيئا ولم يبقوا موجودا
ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالالسنة فقالوا لا نفسرها نجريها عربية كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة وأرادوا بهذه المخرقة ان يكون عوام المسلمين بعد غيابا عنها واعيا ذهابا منها ليكونوا اوحش عند ذكرها واشمس عند سماعها وكذبوا بل التفسير ان يقال وجه ثم لا يقال كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين فأما العبارة فقد قال الله تعالى وقالت

اليهود يد الله مغلولة غلت ايدهم وانما قالوها هم بالعبرانية فحكاها عنهم بالعربية وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكتب كتابه بالعبرانية فيها اسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب اليه بالسريانية فيعبر له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يدعى بكل لسان باسمه فيجيب ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز ويوصف فيعرف
ثم قالوا ليس ذات الرسول صلى الله عليه و سلم بحجة وقالوا ما هو بعد ما مات بمبلغ فلا يلزم به الحجة فسقط من اقاويلهم على ثلاثة اشياء انه ليس في السماء رب ولا في الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار يحكم به عليهم وان كانوا موهوها ووروا عنها واستوحشوا من تصريحها فان حقائقها لازمة لهم وابطلوا التقليد فكفروا آباءهم وامهاتهم وازواجهم وعوام المسلمين وواجبوا النظر في الكلام واضطروا اليه الدين بزعمهم فكفروا السلف وقالت طائفة منهم الفرض لا يتكرر فأبطلت الشرائع وسموا الاثبات تشبيها فعابوا القرآن وضللوا الرسول فلا تكاد ترى منهم رجلا ورعا ولا للشريعة معظما ولا للقرآن محترما ولا للحديث موقرا سلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع واستفضلوا الرسول بالنظر فلا هو طالب آثاره ولا يتبع أخباره ولا يناضل على سننه ولا هو راغب في اسوته يتلقد مرتبة العلم وما عرف حديثا واحدا تراه يهزأ بالدين ويضرب له الامثال ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم اصلا من العلم لا تنفر لهم عن بطانة الا خانتك ولا عن عقيدة الا رابتك البسوا ظلمة الهوى وسلبوا نعمة الهدى فتنبوا عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب
قالوا وقد شاع في المسلمين ان رأسهم علي بن اسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي وقد سمعت محمدا العمري النسابة انبأنا المعافي

سمعت ابا الفضل الحارثي القاضي بسر حبس يقول سمعت زاهر بن احمد يقول اشهد لمات ابو الحسن الأشعري متحيرا بسبب مسألة تكافىء الأدلة فلا جزى الله امرءا أناط مخاريقه بمذهب الامام المطلبي رحمه الله تعالى وكان من ابر خلق الله قلبا واصونهم سمتا وأهدأهم هديا وأعمقهم علما وأقلهم تعمقا وأوقرهم للدين وابعدهم من التنطع وانصحهم لخلق الله جزاء خير قال فرأيت قوما منهم يجتهدون في قراءة القرآن وحفظ حروفه والاكثار من ختمه ثم اعتقاده فيه ما قد بيناه اجتهاد روغان كالخوارج وذكر باسناده من حديث سفيان الثوري عن الصلت بن بهرام عن المنذر بن هوذة عن خرشة ابن الحر ان حذيفة بن اليمان قال انا آمنا ولم نقرأ وسيجيء قوم يقرؤون القرآن ولا يؤمنون وباسناده من حديث زيد بن ابي انيسة عن القاسم بن عون قال سمعت ابن عمر يقول لقد عشنا برهة من دهرنا وان احدنا يؤتي الايمان قبل القرآن وباسناده من حديث اسماعيل بن مهاجر عن أبيه عن ابن عمر قال انا كنا صدور هذه الأمة وكان الرجل من خيار اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وصالحيهم وما يقم الا سورة من القرآن او شبه ذلك وكان القرآن قد ثقل عليهم رزقوا علما به او عملا وان آخر هذه الأمة يخفف عليه القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون شيئا منه قلت ومثل ذلك معروف عن جندب بن عبد الله البجلي انه قال اوتينا الايمان قبل ان نقرأ القرآن ثم اوتينا القرآن فازددنا ايمانا وانكم تؤتون القرآن قبل الايمان فتوسل أحدكم

وهذا الرازي لما ذكر مسألة الرؤية في نهايته وذكر فيها حجج النفاة والمثبتة كان ما ذكره من حجج النفاة العقلية والسمعية اظهر مما ذكره من حجج المثبتة وهذه عادته في كثير من مناظرته يحتج للباطل من السفسطة وفروعها بما لا يحتج بمثله للحق وقال في مسألة الرؤية بعد ان ذكر مسالكها العقلية فظهر من مجموع ما ذكرناه ان الادلة العقلية ليست قوية في هذه المسألة قال واعلم ايضا ان التحقيق في هذه المسألة ان الخلاف فيها يقرب ان يكون لفظيا وسنبينه ان شاء الله تعالى
الوجه الثاني ان هذا الرجل قد اعترف هو ومن يوافقه ان الرؤية التي دل عليها الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة بل الادراك المنفي عن الله في قوله لا تدركه الأبصار يدل على ان الله تعالى في الجهة وذلك يقتضي دلالة الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة على شيئين على رؤية الله تعالى وعلى انه في الجهة وذكر اعتراف فضلاء المعتزلة بأن النبيين كانوا يعتقدون ذلك
اما الأول فانه لما ذكر الحجج السمعية التي للمعتزلة على نفي الرؤية قال وهذه الشبه اربع الأولى وهي الأقوى التمسك بقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار قال واعلم ان هذه الآية تارة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يرى بالأبصار في الدنيا ولا في الآخرة وتارة على استحالة كوننا رائين له اما الوجه الاول فانما يتم باثبات امور اربعة أحدها ان ادراك البصر هو الرؤية قال ويدل عليه امران احهما انه لا فرق في اللغة بين ان يقال رأيت فلانا ببصري وبين ان يقال ادركته ببصري كما لا فرق بين ان يقال ادركته بأذني وبين ان يقال سمعته بأذني ثانيهما ان اهل اللسان فهموا من هذه الآية نفي الرؤية وذلك يدل على ان العرب يستعملون ادراك البصر بمعنى الرؤية وروي عن عائشة

لما بلغها ان كعبا قال ان محمدا رأى ربه انكرت ذلك وقالت ثلاث من حدثك بهن فقد كذب من حدثك ان محمدا رأى ربه فقد اعظم الفرية على الله قال تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار قال وروي عن ابن عباس مثل ذلك
ثم قال في الجواب عن هذا لا نسلم ان ادراك البصر عبارة عن نفس الرؤية بيانه هو ان الادراك غير موضوع لحقيقة الرؤية اصلا لكنه مستعمل في رؤية الشيء المحدود بطريق المجاز ومتى كان كذلك لم يلزم من الآية هاهنا نفي الرؤية وانما قلنا ان الادراك غير موضوع للرؤية حقيقة لان لفظ الادراك حقيقة في غير الرؤية فوجب أن لا يكون حقيقة فثي الرؤية إنما قلنا أن الأدراك غير حقيقة في الرؤية لأنها حقيقة في اللحوق والبلوغ سواء كان في المكان كما في قوله تعالى قال اصحاب موسى انا لمدركون او في الزمان كما يقال ادرك قتادة الحسن او في صفة وحالة كما يقال ادرك الكلام وادركت الثمرة اذا نضجت وايضا فانه يقال ادركت ببصري حرارة الليل وان كانت الحرارة لا ترى فعلمنا ان الادراك حقيقة في غير الرؤية فوجب ان لا يكون حقيقة في الرؤية لئلا يؤدي الى الاشتراك الذي هو خلاف الأصل
وانما قلنا ان الادراك لا يستعمل مجازا الا في رؤية الشيء المتناهي لوجهين احدهما انا لما أبصرنا الشيء المتناهي فكان البصر على بعده من ذلك المرئي يتناوله ولم يتناوله غيره فجرى في ذلك مجرى من قطع المسافة الى شيء حتى بلغه ووصل اليه فلما توهم في هذا النوع من الابصار معنى اللحوق سمي ادراكا فأما ادراكنا للشيء الذي لا يكون في جهة اصلا فانه لا يتحقق فيه معنى البلوغ فلا جرم لا يسمى ادراكا الثاني ان الاسم انما يوضع لما يكون معلوما

للواضع والعرب ما كانوا يتصورون الا رؤية الشيء المحدود اما عند الخصم فلأن الرؤية لا على هذا الوجه مستحيلة وأما عندنا فانه وان أمكن الا يكون كذلك لكنه ما كان معلوما للعرب ولا متصورا لهم واذا ثبت ذلك ثبت انهم لم يستعملوا الادراك الا لرؤية الشيء الذي في جهة فثبت بما ذكرناه ان الادراك لو افاد الرؤية لأفاد رؤية الشيء المتناهي وهذا هو المراد من قول قدماء الأصحاب الادراك هو الاحاطة بالمرئي
واذا ثبت ان الادراك لا يفيد الا رؤية مخصوصة لم يلزم من نفي الادراك نفي مطلق الرؤية لأنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم واما قوله العرب لا تفرق بين الرؤية وبين الادراك قلنا ان ادعيتم ذلك في مطلق الرؤية فهو ممنوع ودليله ما مضى وان ادعيتم ذلك في رؤية مخصوصة فهو مسلم ولا يضرنا قوله اهل اللسان فهموا من هذه الآية نفي الرؤية فدل على ان ادراك البصر هو الرؤية قلنا وقد نقل ايضا ان كثيرا من السلف فهموا الرؤية من قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة مع ان النظر عندكم ليس هو الرؤية وكذلك هاهنا
قلت فقد أخبر ان العرب ما كانوا يتصورون الا رؤية الشيء المحدود وان رؤية ما ليس في الجهة لم يكن معلوما لهم ولا متصورا لهم واذا كان كذلك وقد ثبت في النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال انكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته وقال ايضا انكم سترون ربكم كما ترون الشمس صحوا ليس دونهما سحاب وكما ترون القمر صحوا ليس دونه سحاب وثبت اتفاق سلف الأمة على ان المؤمنين يرون الله يوم القيامة وقد اخبر ان العرب المخاطبين بهذا الكلام لم يكونوا يتصورون من ذلك الا رؤية

ما كان في الجهة وان ما سوى ذلك لم يكن معلوما ولا متصورا لهم من لفظ الرؤية ومع هذا فالنبي صلى الله عليه و سلم واهل الاجماع من الصحابة والتابعين اخبروا والخلق بأنهم يروا ربهم ولم يقولوا برؤية في غير جهة ولا ما يؤدي هذا المعنى بل قال كما ترون الشمس والقمر فمثل رؤيته بالرؤية لما هو في جهة علم بالاضطرار ان الرؤية التي دل عليها نصوص الرسول واجماع السابقين هي الرؤية التي كان الناس يعرفونها وهي لما يكون في الجهة وهذا بين
وايضا فقد اخبر ان ما لا يكون في جهة لا تسمى رؤيته ادراكا وان لفظ الادراك اذا اريد به الرؤية فهي رؤية مخصوصة وهي رؤية المتناهي الذي يكون في جهة فأما الشيء الذي لا يكون في جهة فلا تسمى رؤيته ادراكا واذا كان كذلك فيكون قوله تعالى لا تدركه الأبصار اي متناهيا لا تحيط به ولا تدركه متناهيا محدودا وهذا الذي ذكره جيد وان كان لم يستوف حجته فان أئمة السلف بهذا فسروا الآية وما ذكرته المعتزلة عن ابن عباس انه تأول الآية على نفي الرؤية كذب على ابن عباس بل قد ثبت عنه بالتواتر انه كان يثبت رؤية الله وفسر قوله تعالى لا تدركه الأبصار بأنها لا تحيط وضرب المثل بالسماء فقال الست ترى السماء فقال بلى فقال أكلها ترى قال لا قال فالله اعظم
واذا كان كذلك فمعلوم ان الله نفى ادراك الأبصار له لم ينف ادراكه هو لنفسه ولم ينف مطلق الرؤية فلو كان هو في نفسه بحيث تمتنع رؤيته مطلقا ليس الممتنع الاحاطة دون الرؤية باحاطة لم ينف هذا الخاص وهو الادراك من الأبصار دون ادراكه هو ودون رؤية الأبصار لأن نفي العام يستلزم نفي الخاص ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام بل يقتضي جواز الخاص او ايهامه

لأن المدح بنفي الخاص مع كون العام منتفيا لا يحسن كما لا يحسن ان يقال لا يقدر بنو آدم على افناء جميعه اولا يقدرون على افناء ذاته وصفاته فان هذا غير مقدور لا لنبي آدم ولا لغيرهم بل هو ممتنع في نفسه وكذلك لا يقال الآدميون لا يقدرون على اعدامه او اماتته او على سلب قدرته وعلمه ونحو هذا لأن هذه الامور ممتنعة في نفسها لا يختص بنو آدم بنفي الاقتدار عليها بل تخصيصهم بذلك يوهم انه هو يقدر على ذلك وهذا كلام باطل فان هذا ليس بشيء اصلا حتى تكون رؤية الله عند النفاة هي من باب الممتنعات مثل عدمه وموته واحداثه ونحو ذلك ولو كان كذلك لم يحسن نفي هذا عن ابصار العباد فقط كما لا يحسن مدحه بأن العباد لا يعدمونه ولا يميتونه بل تخصيصهم بنفي ادراك ابصارهم له يقتضي انه هو يدرك نفسه
واذا كان كذلك ولفظ الادراك يقتضي الرؤية الخاصة لمن يكون في جهة علم ان الاية دلت على انه كذلك
واما ما ذكره عن فضلاء المعتزلة فانه اورد سؤال ابي الحسين البصري واتباعه وهو ان موسى عليه السلام يجوز ان لا يكون عالما باستحالة الرؤية وقال في الجواب قوله لم لا يجوز يقال ان موسى عليه السلام كان جاهلا باستحالة الرؤية قلنا لوجوه ثلاثة الأول الاجماع على ان علم الأنبياء بالله وصفاته اتم من علم غيرهم بذلك فلا يشك احد ان دعوى الاجماع في ذلك اظهر من دعوى اجماع الصحابة على العمل بالقياس واخبار الآحاد فاذا خصصنا هذه الأصول بالاجماع فلأن يتمسك بالاجماع هاهنا اولى
الثاني ان قبل ظهور ابي الحسين لم ينسب احد من الأئمة موسى عليه السلام الى الجهل بل الناس كانوا بين المعترف بصحة الرؤية وبين المنكر

متأولين لهذه الرؤية اما على سؤال رؤية الآية او على انه عليه السلام سأل الرؤية لقومه واذا كان كذلك كان ابو الحسين مسبوقا بهذا الاجماع فيكون سؤاله مردودا الثالث هو ان ابا الحسين يدعي العلم الضروري بأن المرئي يجب ان يكون مقابلا للرائي او لآلة الرؤية والعلم الضروري حاصل بأن ما كان مقابلا للجسم فهو مختص بجهة وتحيز فهذان العلمان الضروريان ان كانا حاصلين لموسى عليه السلام فيلزم من اعتقاد صحة رؤية الله اعتقاده لكونه جسما متحيزا قال وذلك ما لا يجوز بالاتفاق على الأنبياء عليهم السلام لأن تجويزه يمنع من العلم بحكمته عند ابي الحسين واذا لم يحصل عنده العلمان الضروريان كان ذلك قادحا في كونه عليه السلام عاقلا وذلك لا يقوله عاقل فضلا عن المسلم
قلت فهذا الذي ذكره عن ابي الحسين واتباعه وهم فضلاء المعتزلة قد تضمن ان موسى عليه السلام سأل الله ان يراه بالبصر وهم يقولون يعلم العاقل بالضرورة ان المرئي لا يكون الا في جهة ويعلم العاقل بالضرورة انه لا يكون في الجهة الا الجسم المتحيز وذلك يقتضي ان موسى عندهم كان يعتقد ان الله في جهة وانه جسم
وأما قول هذا بالاتفاق لا يجوز اي بالاتفاق بينه وبين الشيخ ابي الحسين لكن هذا الاتفاق ليس بحجة بالاجماع
الوجه الثالث ان كون الرؤية مستلزمة لأن يكون الله بجهة من الرائي امر ثبت بالنصوص المتواترة ففي الصحيحين وغيرهما الحديث المشهور عن الزهري قال انا سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي ان ابا هريرة اخبرهما ان الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم

هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تمارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فانكم ترونه كذلك وذكر الحديث بطوله قال ابو سعيد اشهد لحفظته من رسول الله صلى الله عليه و سلم وهكذا هو في الصحيحين من حديث زيد بن اسلم عن عطاء بن يسار عن ابي سعيد قال قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا قال هل تضارون في رؤية الشمس اذا كان صحوا قلنا لا يا رسول الله قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر اذا كان صحوا قلنا لا قال فانكم لا تضارون في رؤية ربكم الا كما تضارون في رؤيتهما وساق الحديث بطوله وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن ابي صالح عن ابيه عن ابي هريرة قال قال ناس يا رسول الله انرى ربنا يوم القيامة قال فهل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحاب قالوا لا قال والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤيته الا كما تضارون في رؤية احدهما وذكر الحديث بطوله
فهذا فيه مع اخباره انهم يرونه اخبارهم انهم يرونه في جهة منهم من وجوه احدها ان الرؤية في لغتهم لا تعرف الا لرؤية ما يكون بجهة منهم فأما رؤية ما ليس في الجهة فهذا لم يكونوا يتصورونه فضلا عن ان يكون اللفظ يدل عليه كما قد اعترف هو بذلك فيما تقدم وهو ايضا فانك لست تجد احدا من الناس يتصور وجود موجود في غير جهة فضلا عن ان يتصور انه يرى فضلا عن ان يكون اسم الرؤية المشهور في اللغات كلها يدل على هذه الرؤية الخاصة
الوجه الثاني انه قال فانكم ترون ربكم كما ترون الشمس صحوا وكما ترون القمر صحوا فشبه لهم رؤيته برؤية الشمس والقمر وليس ذلك

تشبيها للمرئي بالمرئى ومن المعلوم انه اذا كانت رؤيته مثل رؤية الشمس والقمر وجب ان يرى في جهة من الرائي كما ان رؤية الشمس والقمر كذلك فانه لو لم يكن كذلك لأخبرهم برؤية مطلقة نتأولها على ما يتأول من يقول بالرؤية في غير جهة اما بعد ان يستفسرهم عن رؤية الشمس صحوا ورؤية البدر صحوا ويقول انكم ترون ربكم كذلك فهذا لا يمكن ان يتأول على الرؤية التي يزعمونها فان هذا اللفظ لا يحتملها لا حقيقة ولا مجازا
الوجه الثالث انه قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب وهل تضارون في القمر ليس دونه سحاب فشبه رؤيته برؤية اظهر المرئيات اذا لم يكن ثم حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه وبين المرئي ومن يقول انه يرى في غير جهة يمتنع عنده ان يكون بينه وبين العباد حجاب منفصل عنهم اذا الحجاب لا يكون الا لجسم ولما يكون في جهة وهم يقولون الحجاب عدم خلق الادراك في العين والنبي صلى الله عليه و سلم مثل رؤيته برؤية هذين النورين العظيمين اذا لم يكن دونهما حجاب
الوجه الرابع انه اخبر انهم لا يضارون في رؤيته وفي حديث آخر لا يضامون ونفي الضير والضيم انما يكون لا مكان لحوقه للرائي ومعلوم انما يسمونه رؤية وهو رؤية ما ليس بجهة من الرائي لا فوقه ولا شيء من جهاته لا يتصور فيها ضير ولا ضيم حتى ينفي ذلك بخلاف رؤية ما يواجه الرائي ويكون فوقه فانه قد يلحقه فيه ضيم وضير اما بالازدحام عليه او كلال البصر لخفائه كالهلال واما لجلائه كالشمس والقمر
ومثل هذا الحديث المشهور حديث قيس بن ابي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه و سلم فنظر الى القمر ليلة البدر

فقال انكم ترون ربكم عيانا كاترون هذا لا تضارون في رؤيته فان استطعتم ان لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقرأ فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وهذا لفظ البخاري في بعض طرقه وفيه زيادة لفظ عيانا والا فبقية الفاظ الحديث مستفيضة في الصحيحين وغيرهما وفي الصحيحين من حديث يحيى بن سعيد ثنا سعيد بن ابي عروبة ثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك فيقولون لو استشفعنا على ربنا فاراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فذكر الحديث الى ان قالوا ائتوا محمدا عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني حتى استأذن على ربي فيؤذن لي فاذا رأيت ربي وقعت او خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله ان يدعني ثم يقال لي ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فارفع رأسي فاحمده بتحميد يعلمنيه الله ثم اشفع فيحد لي حدا فادخلهم الجنة ثم اعود اليه الثانية فاذا رأيت ربي عز و جل وقعت او خررت ساجدا فيدعني ما شاء الله ان يدعني ثم يقال لي ارفع رأسك قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فارفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ثم اشفع فيحد لي حدا فادخلهم الجنة ثم اعود اليه الثالثة فاذا رأيت ربي وقعت او خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله ان يدعني فذكر الحديث
فكون الرائي وهو النبي صلى الله عليه و سلم يراه والرائي في مكان ولا يراه والرائي في مكان آخر ويعود الى ذلك المكان دليل على ان المرئي يرى والرائي في مكان ولا يرى اذا كان الرائي في مكان آخر وهذا الاختصاص لا يكون الا بما يكون بجهة من الرائي بخلاف ما يسمونه رؤية فانها من جنس العلم لا اختصاص لها بكون الرائي في مكان دون مكان
وايضا ففي الصحيحين عن ابي عمران الجوني عن ابي بكر بن عبد الله

ابن قيس وهو ابن ابي موسى الأشعري عن ابيه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين ان ينظروا الى ربهم الا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فأخبر انه لا يمنعهم من النظر الا ما على وجهه من رداء الكبرياء ومن يقول انه يرى لا في جهة عنده ليس المانع الا كون الرؤية لم تخلق في عينه لا يتصور عنده ان يحجب الرائي شيء منفصل عنه أصلا سواء فسر رداء الكبرياء بصفة من صفات الرب او بحجاب منفصل عن الرب فعلى التقديرين لا يتصور عند هؤلاء من ذلك مانعا من الرؤية ولا يمنع من رؤية الله عندهم الا ما يكون في نفس الرائي وكذلك قوله في جنة عدن سواء كانت ظرفا له او للرداء فعلى التقديرين يخالف مذهب هؤلاء
وأيضا ففي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن ابي ليلى عن صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا دخل اهل الجنة الجنة نودوا يا أهل الجنة ان لكم عند الله موعدا يريد ان ينجزكموه قال فيقولون ما هو الم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة قال فيكشف الحجاب فينظرون اليه فوالله ما اعطاهم الله شيئا هو احب اليهم مما هم فيه ثم قرأ للذين احسنوا الحسنى وزيادة فأخبر انه يكشف الحجاب فينظرون اليه ومن يقول يرى لافي جهة لا يقول ان بينه وبين الخلق حجابا ولا يتصور ان يحتجب عن الخلق ولا ان يكشف الحجاب وقد صرحوا بذلك كله قالوا لان ذلك كله من صفة الجسم المتحيز فاذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أخبر بذلك علم انه يرى في الجهة وليست الرؤية التي أخبر بها ما يزعمونه من الأمر الذي لا يعقل الذي ينافقون فيه أهل الايمان
وعن شعبة عن يعلي بن عطاء عن وكيع بن عدس عن ابي رزين

قالت قلت يا رسول الله اترى ربنا يوم القيامة قال نعم قال وما آية ذلك في خلقه
قال اليس كلكم ينظر الى القمر ليلة البدر وانما هو خلق من خلق الله الله اعظم واجل وفي رواية حماد بن سلمة عن يعلي بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه ابي رزين قال قلت يا رسول الله كلنا نرى الله يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه
قال يا ابا رزين اليس كلكم يرى القمر مخليا قلت بلى قال والله اعظم وذلك آيته في خلقه رواه احمد وابو داود وابن ماجه ولفظ ابي داود قلت يا رسول الله اكلنا يرى ربه وفي رواية له مخليا به يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا ابا رزين اليس كلكم يرى القمر وفي رواية له ليلة البدر مخليا به قلت بلى قال والله اعظم
قال الخلال سمعت ابا سعيد المصيصي الفقيه قال قال ابو صفوان رأيت المتوكل في النوم وبين يديه ناز مؤججة عظيمة فقلت يا امير المؤمنين لمن هذه النار فقال هذه لا بني المنتصر لأنه قتلني وتدري لم قتلني لأني حدثته ان الله يرى في الآخرة قال ابو سعيد وقال ابراهيم الحربي هذه رؤيا حق وذلك ان المتوكل كتب حديث حماد بن سلمة عن يعلي بن عطاء عن وكيع بن عدس بيده عن عبد الأعلى وقال لا اكتبه الا بيدي فقد اخبر النبي صلى الله عليه و سلم ان الله يرى يوم القيامة لما سأله وسأله عن آية ذلك في خلقه والآية العلامة والدلالة وهو ما يعلم به ويدل على جواز ذلك فذكر له النبي صلى الله عليه و سلم ما يدل بطريق قياس التنبيه والأولى وقد قدمنا غير مرة ان مثل هذا القياس في قياس الغائب على الشاهد هو مما ورد في الكتاب والسنة فقال اليس كلكم يرى القمر مخليا به ليلة البدر قال فالله اعظم وأجل وقال انما هو خلق من خلق الله وذلك آيته في خلقه

واثباته صلى الله عليه و سلم جواز الرؤية لجميع الخلق في وقت واحد وكل منهم يكون مخليا به بالقياس على رؤية القمر مع قوله والله اعظم واجل دليل واضح على ان الناس يرونه مواجهة عيانا يكون بجهة منهم واذا امكن في بعض مخلوقاته انه يراه الناس في وقت واحد كلهم يكون مخليا به فالله اولى ان يمكن ذلك فيه فانه اعظم واجل
الوجه الرابع ان كون الله يرى بجهة من الرائي ثبت باجماع السلف والأئمة مثل ما روي اللآلكائي عن علي بن ابي طالب انه قال ان من تمام النعمة دخول الجنة والنظر الى الله في جنته وعن عبد الله بن مسعود انه قال في مسجد الكوفة وبدأ باليمين قبل الحديث فقال والله ما منكم من انسان الا ان ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر قال فيقول ما غرك بي يا ابن آدم ثلاث مرات ما ماذا أجبت المرسلين ثلاثا كيف عملت فيما عملت وعن ابي موسى الأشعري انه كان يعلم الناس سنتهم ودينهم قال فشخصت ابصارهم او قال حرفوها عنه قال فما حرف ابصاركم عني قالوا الهلال ايها الامير قال فذاك اشخص ابصاركم عني قالوا نعم قال فكيف اذا رأيتم الله جهرة وعن معاذ بن جبل قال يحبس الناس يوم القيامة في صعيد واحد فينادي اين المتقون فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر قلت من المتقون قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان واخلصوا لله العبادة فيمرون الى الجنة
وروي اللآلكائي عن ابن وهب قال سمعت مالك بن انس يقول الناظرون ينظرون الى الله عز و جل يوم القيامة باعينهم وعن اشهب قال وسئل

مالك عن قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة اينظر الله عز و جل قال نعم فقلت ان أقواما يقولون ينظر ما عنده قال بل ينظر اليه نظرا وقد قال موسى رب ارني انظر اليك قال لن تراني وقال الله كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وعن مالك انه قيل له انهم يزعمون ان الله لا يرى فقال السيف السيف
وقد تقدم كلام ابن الماجشون واحتجابه ايضا على الرؤية بحجابه عن الكفار وعن الأوزاعي انه قال اني لأرجو ان يحجب الله جهما واصحابه افضل ثوابه الذي وعده اولياءه حيث يقول وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة فجحد جهم واصحابه افضل ثوابه الذي وعد اولياءه وعن ابي الوليد مسلم قال سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن انس والليث بن سعد عن هذه الاحاديث التي فيها الرؤية فقال امروها بلا كيف وعن الربيع قال حضرت الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها ما تقول في قول الله كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون قال الشافعي فلما ان حجب هؤلاء السخط كان هذا دليلا عن أنهم يرونه في الرضى قال الربيع قلت يا ابا عبد الله وبه تقول قال نعم وبه ادين الله لو لم يؤمن محمد بن ادريس انه يرىي الله لما عبد الله وعن عبد الله بن المبارك قال ما حجب الله عنه احدا الا عذبه ثم قرأ كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم انهم لصال الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون قال بالرؤية
وقال الشيخ ابو نصر السجزي في كتاب الابانة له وأئمتنا رحمهم الله كسفيان الثوري ومالك بن انس وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض واحمد بن حنبل

وفضيل بن عياض واحمد بن حنبل واسحاق بن ابراهيم الحنظلي متفقون على ان الله سبحانه وتعالى بذاته فوق عرشه وان علمه في كل مكان وانه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وانه ينزل الى سماء الدنيا وانه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه برآء
وروى الخلال في كتاب السنة قال حدثنا ابو بكر المروذي قال سألت ابا عبد الله عن احاديث الرؤية فصححها وقال قد تلقتها العلماء بالقبول لنسلم الخبر كما جاء وعن حنبل بن اسحاق قال سمعت ابا عبد الله يقول ادركنا الناس وما ينكرون من هذه الاحاديث شيئا احاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين وقال حنبل قال ابو عبد الله قال الله تعالى وما كان لبشر ان يكلمه الله إلا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء فكلم الله موسى من وراء حجاب وقال رب ارني انظر اليك قال الله تعالى لن تراني ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فأخبر الله تعالى ان موسى عليه السلام يراه في الآخرة وقال عز و جل كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ولا يكون حجاب الا لرؤية فأخبر الله ان من شاء الله ومن اراد يراه والكفار لا يرونه وقال حنبل في موضع اخر القوم يرجعون الى التعطيل في قولهم ينكرون الرؤية
قال وسمعت أبا عبد الله يقول قال الله عز و جل وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة قال احاديث تروى في النظر حديث جرير بن عبد الله وغيره تنظرون الى ربكم احاديث صحاح وقال للذين احسنوا الحسنى وزيادة

وهي النظر الى الله عز و جل ثم قال ابو عبد الله نؤمن بها ونعلم انها حق يعني احاديث الرؤية ونؤمن ان الله يرى يرى ربنا يوم القيامة لا نشك فيه ولا نرتاب وسمعت ابا عبد الله يقول قالت الجهمية ان الله لا يرى في الآخرة ونحن نقول ان الله يرى لقوله عز و جل وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة وقال الله تبارك وتعالى لموسى فان استقر مكانه فسوف تراني فاخبر الله انه يرى وقال النبي صلى الله عليه و سلم انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر وهذه الشمس رواه جرير وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال كلكم يخلو به ربه و ان الله يضع كنفه على عبده فيسأله ما عملت هذه الأحاديث تروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم تروى صحيحة وعن الله تبارك وتعالى انه يرى في الآخرة وهذه احاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم غير مدفوعة والقرآن شاهد ان الله يرى في القيامة وقول ابراهيم لأبيه يا ابت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فثبت ان الله يسمع ويبصر وقال الله تعالى يعلم السر واخفى وقال انني معكما اسمع وأرى وقال ابو عبد الله فمن دفع كتاب الله ورده والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم واخترع مقالة من نفسه وتأول برأيه فقد خسر خسرانا مبينا وسمعت ابا عبد الله يقول من زعم ان الله لا يرى في الآخرة فقد كفر بالله وكذب بالقرآن ورد على الله امره فيستتاب فان تاب والا قتل
الوجه الخامس ان أئمة هذا الرازي كالأشعري وغيره هو ايضا ممن يثبت الرؤية والاحتجاب ان الله فوق العرش قال الأشعري في مسألة العرش فقال سبحانه وجاء ربك والملك صفا صفا وقال عز و جل هل ينظرون الا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام وقال سبحانه ثم دنى فتدلى

فكان قاب قوسين او أدنى فأوحى الى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى افتمارونه على ما يرى الى قوله لقد رأى من آيات ربه الكبرى وقال تعالى يا عيسى اني متوفيك ورافعك الي وقال سبحانه وما قتلوه وما صلبوه وما قتلوه يقينا بل رفعه الله اليه وأجمعت الأمة على ان الله عز و جل رفع عيسى اليه الى السماء ومن دعاء المسلمين جميعا اذا هم رغبوا الى الله عز و جل في الأمر النازل بهم انهم يقولون يا ساكن العرش ومن حلفهم لا والذي احتجب بسبع سموات قال الحافظ ابو العباس وهذا مأخوذ من قوله ان الله خلق سبع سماوات ثم اختار العليا فسكنها
وقال عز و جل وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم كان أبعد من الشبهة وادخال الشك على من يسمع الآية ان يقول ما كان لأخذ ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا فيرتفع الشك والحيرة من ان يقول ما كان لجنس من الأجناس ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا ونزل اجناسا لم يعمهم بالآية فدل ما ذكرناه على انه خص البشر دون غيرهم
وقال الله عز و جل ثم ردوا الى الله مولاهم الحق ولو ترى اذ وقفوا على ربهم ولو ترى اذ المجرمون ناكسو رؤسهم عند ربهم وقال سبحانه وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم اول مرة قال كل ذلك يدل على ان الله ليس في خلقه ولا خلقه فيه وان سبحانه مستو على عرشه جل وعز عمال يقول الظالمون علوا كبيرا جل وعز عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم

حقيقة ولا اوجبوا له بذكرهم اياه وحدانية اذ كان كلامهم يؤول الى التعطيل وجميع اوصافهم تدل على النفي في التأويل يريدون زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل
قال الله تعالى الله نور السماوات والأرض مثل نوره فسمي نورا والنور عند الأمة لا يخلو من احد معنيين اما أن يكون نورا يسمع او نورا يرى فمن زعم ان الله يسمع ولا يرى كان مخطئا في نفيه رؤية ربه وتكذيبه لكتابه وقول نبيه صلى الله عليه و سلم قال وروي عن عبد الله بن عباس انه قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فان مابين كرسيه الى السماء ألف عام والله عز و جل فوق ذلك
قال وروت العلماء ايضا عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ان العبد لا تزول قدماه من بين يدي الله حتى يسأله عن ثلاث وروت العلماء ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه و سلم بأمة سوداء فقال يا رسول الله اني اريد ان اعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها فقال النبي صلى الله عليه و سلم اين الله فقالت في السماء واومئت بيدها الى فوق فقال النبي صلى الله عليه و سلم عند 1 ذلك اعتقها فانها مؤمنه قال وهذا يدل على ان الله على عرشه فوق السماء
فهذا كله من كلام الأشعري مثل احتجاجه بما ذكره عن المسلمين جميعا من قولهم ان الله احتجب بسبع سموات على انه فوق العرش وهو انما احتجب عن ان يراه خلقه لم يحتجب عن ان يراهم هو فعلم ان هذا يحجب

العباد عن رؤيته وهذا يقتضي انهم يرونه برفع هذه الحجب وذلك يقتضي انهم يرونه في الجهة فان من يثبت رؤيته في غير جهة من الرائي لا يقول بجواز الحجب المنفصلة ايضا كما تقدم وكذلك احتجاجه بقوله ما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب وان الآية دلت على ان الله يحجب بعض المخلوقات دون بعض فعلم انه لا يحتجب عن بعضهم واحتجابه بذلك على ان الله فوق العرش يقتضي ان يحتجب عمن يراه ببعض مخلوقاته وهذا يستلزم انه لا يرى الا في جهة من الرائي وكذلك احتجاجه في مسألة العلو بأن الله نور وان ذلك يقتضي انه يرى ويقتضي ان رؤيته توجب علوه وكلام الأشعري في مسألة الرؤية والعلو يقتضي تلازمهما وهذا هو الذي ذكره هذا المؤسس عن الكرامية
الوجه السادس ان هذا المؤسس ذكر في نهايته في مسألة الرؤية ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية وذكر ان اعظم حججهم العقلية حجتان احداهما حجة الموانع قالوا لو صح منا رؤية الله في حال من الحالات لصح ان نراه الآن ولو صح ان نراه الآن لوجب ان نراه الآن لكنه لم يجب ان نراه الآن فلا يصح ان نراه في حال من الأحوال وانما قلنا انه لوصح ان نراه في حال من الأحوال لصح ان نراه الآن لأن كونه بحال يصح ان يرى حكم يثبت له اما لذاته واما لبعض ما يلزم ذاته وعلى التقديرين فانه يلزم من استمرار ذاته استمرار هذه الصحة وإنما قلنا انه لو صح ان نراه الآن لوجب ان نراه الآن لأن الحاسة ان كانت صحيحة والمرئي يكون حاضرا ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون في غاية الصغر واللطافة ويكون مقابلا للرائي او لآلة الرؤية او لا تكون الحجب حائلة فانه يجب حصول الرؤية اذ لو لم يجب حصولها عند حصول هذه الأمور لجاز ان يكون بين ايدينا

جبال شاهقة ونحن لا ندركها وذلك محال على ما سبق بيانه في مسألة الادراك فاذا ثبت ذلك فهذه شرائط لا يمكن اعتبارها في حق الله تعالى لأنها لا تعقل الا في حق الأجسام او ما يقوم بها واذا لم يمكن اعتبار هذه الشرائط في حق الله لرؤيته وجب ان يكون مجرد سلامة الحس وكونه تعالى بحيث يصح رؤيته كافيا في حصول رؤيته فلزم ان تدوم رؤية اصحاب الحواس لله تعالى وذلك باطل بالضرورة فثبت ان القول بأن الله تعالى يصح ان يرى يفضي الى الباطل وما يفضي الى الباطل يكون باطلا
ثم قال في الجواب عما تمسكوا به اولا ان نقول ان مدار هذه الشبهة على ان هذه الحاسة متى كانت سليمة وكان المرئي حاضرا والشرائط تكون حاصلة فانه يجب حصول هذه الرؤية قال ونحن قد بينا فيما مضى ان ذلك غير واجب بأدلة عقلية قاطعة لا يرتاب العاقل فيها وأجبنا عن شكوكهم بأجوبة يقينية لا حاجة بنا الى اعادتها فاذا كان كذلك سقطت هذه الشبهة
وهذا الذي أحال عليه قد ذكره في مسألة السمع والبصر وهي مسألة الادراك فذكر الفصل الاول في حقيقته ثم قال الفصل الثاني في كيفية حصول هذه المدركية زعمت المعتزلة انه مهما كانت الحاسة سليمة والمرئي حاضرا ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيرا جدا ولا لطيفا ولا يكون بين الرائي والمرئي حجب كثيفة وكان المرئي مقابلا للرائي او في حكم المقابلة فعند اجتماع هذه الشرائط يجب حصول الادراك وعندنا ان ذلك غير واجب وهو مذهب ابي الهذيل من المعتزلة ثم ذكر لهم حجتين
ثم قال واما المحالفون فلهم في هذه المسألة مقامان تارة بدعوى الضرورة وتارة بدعوى الاستدلال اما الأول فتارة يدعون ان ذلك العلم

الضروري حاصل للعقلاء بعد الاختبار ولا حاجة فيه الى ضرب الأمثال وتارة يثبتون بالاستدلال ان ذلك معلوم بالضرورة وبسط كلامهم في ذلك
ثم قال والجواب ان نقول اما ان تدعي الضروري بخصوص الادراك عند حضور هذه الامور او بعدمه عند عدمها والأول لا نزاع فيه والثاني فيه كل النزاع فان زعمت انا مكابرون في هذا الانكار حلفنا بالأيمان المغلظة انا لما رجعنا الى أنفسنا لم نجد العلم بذلك اكثر من العلم باستمرار الأمور العادية التي توافقنا على جواز تغييرها عن مجاريها
فهذا الجواب الذي ذكره يقتضي انه وافق على ان العلم الضروري حاصل بوجود الرؤية عند وجود هذه الشرائط وهذا هو اول المسألة فانه حكى عن المعتزلة انه متى تجتمع هذه الشرائط يجب حصول الادراك قال وعندنا أن ذلك غير واجب فأذا سلم أن العلم الضروري بحصول الأدراك عند حصول هذه الأمور لا نزاع فيه كان قد وافق على ما ذكر فيه النزاع واذا كان كذلك ظهر ان ما ذكره من الجواب في مسألة الرؤية وهو قوله ان مدار هذه الشبهة على ان هذه الحاسة متى كانت سليمة وكان المرئي حاضرا فانه يجب حصول هذه الرؤية قال ونحن قد بينا فيما مضى ان ذلك غير واجب وكلامه فيما مضى قد وافق فيه على وجوب الرؤية عند وجود الشروط لكن لم يوافق على وجوب عدمها عند عدم الشروط واذا لم يذكر جوابا عن حجتهم الا هذا وهذا ليس بجواب صحيح بقيت حجتهم على حالها واذا كان كذلك لم يصح نفيه لما اتفقت عليه المعتزلة والكرامية
الوجه السابع انه ذكر الحجة الثانية لنفاة الرؤية وهي حجة المقابلة فقال وهي ان الواحد منا لا يرى الا ما يكون مقابلا للرائي او لآلة المرئي

والله تعالى يستحيل ان يكون كذلك فيستحيل ان يكون مرئيا لنا واحترزنا بقولنا او لآلة الرائي عن رؤية الانسان وجهه في المرآه اما المقدمة الاولى فهي من العلوم الضرورية الحاصلة بالتجربة واما المقدمة الثاني فمتفق عليها ثم قال في الجواب عما تمسكوا به ثانيا من وجوه ثلاثة الأول ما بينا فيما مضى ان المقابلة ليست شرطا لرؤيتنا هذه الأشياء وأبطلنا ما ذكروه من دعوى الضرورة والاستدلال في هذا المقام والثاني سلمنا ان المقابلة شرط في صحة رؤيتنا لهذه الأشياء فلم قلتم انها تكون شرطا في صحة رؤية الله تعالى فان رؤية الله تعالى بتقدير ثبوتها مخالفة لرؤية هذه الأشياء فلا يلزم من اشتراط نوع من جنس اشتراط نوع آخر من ذلك الجنس بذلك الشرط الثالث سلمنا انه يستحيل كوننا رائين لله تعالى ولكنه لا يدل على انه لا يرى نفسه وانه في ذاته ليس بمرئي فأحال على ما تقدم وهو لم يذكر هناك الا مسلكين الأول انا نرى الجسم الكبير من البعد صغيرا وذلك يقتضي انا نرى بعضه دون بعض ومن المعلوم بالضرورة ان الشرائط المذكورة كما انها حاصلة بالنسبة الى الأجزاء التي هي مرئية فكذلك هي حاصلة بالنسبة الى الأجزاء التي هي غير مرئية ولما كان المرئي من الأشياء المجتمعة لهذه الشروط بعض الأجزاء دون بعض علمنا ان حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط غير واجب والمسلك الثاني لو وجب حصول الادراك عند حصول هذه الشروط لوجب رؤية الجوهر الفرد وذوات الهباء لكن الثاني ظاهر الفساد فالمقدم مثله بيان الأول انا اذا رأينا جسما كبيرا فلا بد وأن نرى جزءا صغيرا اذ لو لم نرى جزءا صغيرا لم نرى مجموع تلك الأجزاء ثم رؤية الجزء لا تتوقف على رؤية غيره لئلا يلزم الدور فيجب ان تصح رؤيتنا للجوهر الفرد

فهاتان الحجتان ان كانتا باطلتين فلا كلام وان كانتا صحيحتين فهما يدلان على ان الرؤية لا تجب عند وجود الشروط الثمانية وهو قد سلم في الجواب وجوب الرؤية عند وجود الشروط فلا تدل هاتان الحجتان على ان الرؤية لا تمتنع عند عدم بعض الشروط الثمانية واذا لم يذكر دليلا على عدم هذا الاشتراط اصلا بقي ما ذكره منازعوه من العلم الضروري والاستدلال بأن المرئي لا بد ان يكون مقابلا للرائي او لآلة الرائي سليما عن المعارض فيجب القول بموجبه وهذا بين واضح
ولهذا لما كانت مناظرته لنفاة الرؤية هذه المناظرة الضعيفة كان كلامهم فيها ارجح من كلامه وهذه عادته يعجز عن مناظرة أهل الباطل ويأخذ ما يحتجون به فيحتج به على اهل الحق فلا ينصف اهل الحق ولا ينفعهم ولا يرد اهل الباطل ويدفعهم وانما فيه جدال وحجاج لبس فيه الحق بالباطل مع هؤلاء وهؤلاء واذا كان الامر كذلك لم يمكن له الجواب عما اتفقت عليه المعتزلة والكرامية كما تقدم
الوجه الثامن ان يقال ما ذكره المعتزلة في شروط الرؤية وموانعها بعضه حق وبعضه باطل وهؤلاء الذين وافقوهم على نفي العلو واثبات الرؤية يكابرونهم في الحق كما يدفعون باطلهم ولهذا كان كلا الطائفتين تقول الحق والباطل واذا كان مثبتة الرؤية مع نفي العلو اقرب الى الحق من نفاة الرؤية ونفاة العلو وذلك ان كونهم لم يشترطوا في الحاسة الا مجرد سلامتها ليس بسديد فان الحواس تختلف بالقوة والضعف فقد يكون بصر احد من بصر وسمع اقوى من سمع وشم اقوى من شم وذوق اقوى من ذوق وهذا موجود في البهائم وفي الآدميين ولهذا يرى احدهم من الأشياء الدقيقة اللطيفة مالا يراه الآخر ويرى من الأمور البعيدة مالا يراه الآخر ويرى من النور والشعاع والبياض مالا

يراه الآخر وكذلك قد يسمع الأصوات البعيدة والأصوات القريبة مالا يمكن الأخر ان يسمعه واذا كان الأمر كذلك فقوة ادراك العباد وحركاتهم في الآخرة يجعلها الله اعظم من قوى ادراكهم وحركاتهم في الدنيا وهذا ظاهر بين
وقولهم لا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيرا لطيفا هذا انما اشترط لعجز البصر عن ادراك ما يكون كذلك لا لأن ذلك ممتنع في نفسه والا فيمكن ان يقوى بصر العبد حتى يرى القريب والبعيد واللطيف وليس هذا ممتنعا في ذاته يبين ذلك ان القرب والبعد والصغر والكبر من الأمور الاضافية قد يكون صغيرا بالنسبة الى بصر هذا الرائي ما ليس بصغير بالنسبة الى بصر غيره وكذلك في القرب والبعد وكذلك قولهم ان لا يكون بين الرائي والمرئي حجب كثيفة فان رؤية ما وراء الحجاب ليس بممتنع في نفسه بل لعجز البصر عنه فان الله يرى كل شيء ولا تحجبه السموات والأرض وسائر الحجب
وكذلك قولهم ان يكون مقابلا للرائي فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود فاني اراكم من خلفي كما اراكم من بين يدي لكن هذا يدل على انه لا يشترط في الرؤية ان يكون المرئي امامه لكن لا يدل على انه لا يشترط ان يكون بجهة منه فانما خلفه بجهة منه
الوجه الثامن انه قال هنا ان اصحابه نازعوا في هذه المقدمة وقالوا لا نسلم ان كل مرئي فانه يختص بالجهة بل لا نزاع ان الأمر في الشاهد كذلك فلم قلتم ان كل ما كان كذلك في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك

وهذا تسليم لكون الواحد منا لا يرىئ الا ما يكون في الجهة فمنازعته لذلك في هذا الكتاب ودعواه ان ذلك ليس بشرط في رؤية الأشياء المرئية مخالف لما ذكره من تسليم اصحابه وذلك خلاف ما ذكره من انه لا يشترط شيء من هذه الشروط في رؤية الأشياء المرئية
الوجه التاسع ان قوله لم قلتم ان كل ما كان كذلك في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك وتقريره ان هذه المقدمة اما ان تكون مقدمة بديهية او استدلالية يقال له المنازع يقول انها بديهية
قوله فان كانت بديهية لم يكن في اثبات كونه تعالى مختصا بالجهة حاجة الى هذا الدليل وذلك لأنه قد ثبت في الشاهد ان كل قائم بالنفس فهو مختص بالجهة وثبت ان الباري قائم بالنفس فوجب القطع بأنه مختص بالجهة لأن العلم الضروري بأن كل ما يثبت في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك يقال له ان المنازع لا يقرر الحجة على هذا الوجه ولا يدعي ان كل ما يثبت في الشاهد فانه يجب ان يكون في الغائب كذلك وهذا لا يقوله عاقل والفرق ظاهر بين دعوى الضرورة والبديهة في الشيء المعين الخاص والشيء العام الكلي فاذا قال القائل العلم الضروري بأن كل مرئي في الشاهد والغائب لا بد أن يكون بجهة من الرائي والعلم الضروري حاصل بأن الغائب كالشاهد في هذا الأمر الخاص لم يستلزم هذا ان يقول ان العلم الضوري حاصل بأن كلما يثبت في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك والمقدمة المذكورة هي قوله كل مرئي فلا بد وان يكون في الجهة وهذا قالوه قولا عاما مطلقا لم يثبتوه بقياس الغائب على الشاهد حتى يصوغوه الصوغ الذي ذكره ويدخل فيه تلك القضية العامة الكاذبة

الوجه العاشر ان ما ذكره ان كان حجة كان حجة ثانية على المطلوب فانه من الممكن ان يستدل بكونه قائما بالنفس على كونه مختصا بالجهة ويحتج بكونه مرئيا على كونه مختصا بالجهة ويحتج بكونه موجودا على انه اما ان يكون مباينا لغيره او محايثا له وتعدد الأدلة على المطلوب الواحد ليس بممتنع
الوجه الحادي عشر ان ما ذكره من الحجة قد يقال فيه نحن نعلم بالاضطرار ان كلما يقوم بنفسه فانه لا بد ان يكون مختصا بجهة بحيث يمتنع ان يكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا يختص الكلام بالشاهد ثم يقاس عليه الغائب بل العلم الضروري حاصل بذلك مطلقا كما تقدم ذكره
الوجه الثاني عشر ان ذلك اذا قررناه بالدليل قرر تقريرا يفيد بأن يقال ثبت في الشاهد ان كل قائم بالنفس فهو مختص بالجهة وهذا مما فارق به الموجود المعدوم فالموجب لذلك اما كونه موجودا قائما بنفسه او ما يندرج فيه الموجود الواجب لنفسه او ما يختص بالممكن او المحدث ويساق الكلام الى اخره كما ذكر في حجة المباينة والمحايثة لا يقول عاقل ان العلم الضروري حاصل بأن كلما ثبت في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك ولكن ذكر الحجة على هذا الوجه القبيح الذي يظهر بطلانه لما في ذلك من التنفير والتقبيح لقول منازعيه وهذه ليست حال أهل العلم والعدل بل حال الجاهل او الظالم
الوجه الثالث عشر قوله فاذا كان هذا الوجه حاصلا في اثبات كونه تعالى في الجهة كان اثبات كونه في الجهة بكونه مرئيا ثم اثبات ان كل ما كان مرئيا فهو مختص بالجهة تطويلا من غير فائدة ومن غير مزيد شرح وبيان يقال لو قدر انما ذكرته من حجة القيام بالنفس صحيح لم يكن اثبات الجهة بطريق الرؤية تطويلا من غير فائدة بل هو اثبات لها بطريق آخر غير

الأولى فان الاستدلال على كون الشيء في الجهة بكونه قائما بنفسه غير الاستدلال على ذلك بكونه مرئيا مشهودا واذا كان هذان دليلان متغايران لم يجز ان يكون ذكر احدهما متضمنا للآخر ولا ان يكون ذكر الآخر تطويلا اقصى ما يقال ان العلم بالمقدمتين التي في الدليلين يستفاد من وجه واحد وهو الضرورة او قياس الغائب على الشاهد اما مطلقا كما ذكره او قياسا صحيحا ملخصا بالتقسيم الحاصر الجامع بين النفي والاثبات او بغيره كما يسلكه اهل الاثبات واذا كان الدليل على مقدمة في دليل كالدليل على مقدمة في دليل آخر لم يوجب ان يكون احد الدليلين متضمنا للآخر ويكون ذكر الآخر تطويلا بلا فائدة
الوجه الرابع عشر قوله وأما ان قلنا كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية بل هي مقدمة استدلالية فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلا لا تصير هذه المقدمة يقينية فهذا كلام صحيح لكن كان ينبغي له اذا كان ذاكرا لحجج منازعيه ان يذكر ما يستدل به الناس على ذلك فتركه لذلك تقصير وخيانة في المناظرة ونحن لم نلتزم الكلام في تقرير هذه المسائل ابتداءا وانما تكلمنا على ما ذكره من حججه وحجج منازعيه
الوجه الخامس عشر قوله وأيضا فكما انا لا نعقل مرئيا في الشاهد الا اذا كان مقابلا أوفى الحكم المقابل للرأي فكذلك لا نعقل مرئيا إلا إذا كان صغيرا أو كبيرا او ممتدا في الجهات مؤتلفا من الأجزاء وهم يقولون انه تعالى يرى لا صغيرا ولا كبيرا ولا ممتدا في الجهات والجوانب والأحياز فاذا جاز لكم ان تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب فلم لا يجوز ان يقال ان المرئي في الشاهد وان وجب كونه مقابلا الا ان المرئي في الغائب لا يجوز ان يكون كذلك

فيقال له هذا الزام جدلي وليس بحجة في المناظرة ولا النظر كما تقدم فانه يقال لا بد وأن يكون في الجهة ما ذكرته في صورة الالزام ان كانت مساوية لصورة النزاع فما ذكروه في صورة النزاع حجة في موضعين وغايته ان يكونوا اخطؤا في صورة الالزام وهي صورة النقض والمعارضة وان لم تكن مساوية لها لم يكن النقض والمعارضة والالزام صحيحا ويقول لك المناظر الفرق بين صورة النقض وصورة النزاع كيت وكيت فان صح الفرق بطل النقض وان بطل الفرق منعت الحكم في صورة النقض اذ ليس مجمعا عليه بين الأمة
الوجه السادس عشر انهم يقولون نقول انه لا يرى الا كبيرا عظيما لا نقول انه يرى لا صغيرا ولا كبيرا بل نقول انه يرى عظيما كبيرا جليلا كما سمي ووصف نفسه بذلك في الكتاب والسنة ومن لم يقل ذلك من المنازعين كان ما ذكره حجة عليه واما قوله ممتدا في الجهات مؤتلفا من الأجزاء فلا نسلم انا لا نعقل مرئيا في الشاهد الا مؤتلفا من الاجزاء فان المرئيات مثل الشمس والقمر ونحو ذلك هو شيء واحد لا نعلم لا بحس ولا ضرورة انها مركبة من الأجزاء المفردة وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس ان هذا التركيب ليس معلوما بالحس ولا بالضرورة بل هي من ادق مسائل النزاع بين الخلق
الوجه السابع عشر ان يقال ما تريد بقولك ممتد مؤتلف اتريد انه مركب من الأجزاء وانه يجوز تفريقه فليس كلما نشاهده كذلك ام تريد به ان منه شيئا ليس هو الشيء الآخر فنحن نقول كل ما يرى في الشاهد والغائب لا بد وان يكون كذلك
الوجه الثامن عشر ان يقال لا يعقل مرئي الا موصوف بما هو المرئي المشهود موصوف به من صفات الموجود التي استحق بها جواز رؤيته او ما هو

بأبلغ في الوجود واستحقاق الرؤية منه فاذا كنا نرى الموجود الذي يجوز عدمه فما لا يجوز عدمه اولى فاذا كنا نرى ما هو في جهة وهو مجتمع يجوز تفريقه وتقسيمه فالمجتمع الذي لا يجوز تفريقه وتقسيمه اولى بالرؤية لكن لا يمكن ان نقول اذا رأينا ما هو بجهة مرئيا ان يكون ما ليس في الجهة اولى بالرؤية واذا رأينا ما هو مجتمع فما ليس بمجتمع ولا متفرق اولى بالرؤية وقد ذكرنا غير مرة ان الأقيسة والأمثال المضروبة في باب الالهيات اذا كانت من باب التنبيه والأولى في النفي والاثبات فهي من جنس ما ورد به الكتاب والسنة
فصل
ثم قال الرازي الشبهة الرابعة تمسكوا برفع الأيدي الى السماء قالوا وهذا شيء يفعله جميع ارباب النحل فدل على انه تقرر في عقول جميع الخلق ان الههم فوق
ثم قال في الجواب ان هذا معارض بما تقرر في عقول جميع الخلق انهم عند تعظيم خالق العالم يضعون جباههم على الأرض ولما لم يدل هذا على كون خالق العالم في الأرض لم يدل على ما ذكروه على انه في السماء وأيضا فالخلق انما يقدمون على رفع الأيدي الى السماء لوجوه اخرى وراء اعتقادهم ان خالق العالم في السماء
فالأول ان اعظم الأشياء نفعا للخلق ظهور الأنوار وأنها انما تظهر من جانب السموات

والثاني ان مبنى حياة الخلق على استنشاق النفس وليس ذلك الاستنشاق الا من الهواء والهواء ليس موجودا الا فوق الأرض فلهذا السبب كان ما فوق الأرض اشرف مما تحت الأرض
الثالث ان نزول الغيث من جهة الفوق ولما كانت هذه الأشياء التي هي منافع الخلق انما تنزل من جانب السموات لا جرم كان ذلك الجانب عندهم اشرف وتعلق الخاطر بالأشرف اقوى من تعلقه بالأخس فهذا هو السبب في رفع الأيدي الى السماء وأيضا فانه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا كما جعل القبلة قبلة لصلاتنا وأيضا انه تعالى جعل الملائكة وسائط في مصالح هذا العالم قال الله تعالى فالمدبرات أمرا وقال فالمقسمات أمرا واجمعوا على ان جبريل عليه السلام ملك الوحي والتنزيل والنبوة وميكائيل ملك الأرزاق وملك الموت ملك الوفاة وكذلك القول في سائر الأمور واذا كان الأمر كذلك لم يبعد ان يكون الغرض من رفع الأيدي الى السماء رفع الأيدي الى الملائكة
وهذه الحجة ذكرها في نهايته فقال وثالثها التمسك بالاتفاق من الأمم المختلفة الآراء على الاشارة الى فوق عند الدعاء وطلب الأجابة من الله وإن ذلك يدل على علمهم الضروري إن الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه و سلم للأمة أين ربك قال فاشارت الى السماء فقال انها مؤمنه
وقال والجواب عما تمسكوا به من الاشارة الى فوق سببه الألف والعادة وجريان الناس على ذلك فانهم ما شاهدوا عالما قادرا حيا الا جسما فكما أن

من لم يشاهد الا انسانا اسود فحين يمثل في نفسه انسانا يخاطبه انما يسبق الى نفسه انه اسود لا غير ومن لم يسمع من اللغات الا العربية فحين يمثل في نفسه معنى انما يسبق الى نفسه التعبير عن ذلك المعنى بلفظ العرب وكذلك سبق الى الوهم ان من يدعو حيا عالما قادرا على ما يشاء معنى الأحياء القادرين ويتبع ذلك انه في مكان ولأن العلو اشرف لأن الأنوار فيه ولأن الرأس لما كان اشرف الأعضاء كان ما يليه اشرف الجهات فيسبق الى فهم الدعي ان يعتقد عظمته اذا كان في جهة وجب ان يكون في جهة العلو فلسبب هذه الأمور وامثالها وقعت الاشارة الى السماء ثم ان الاخلاف اخذوا ذلك عن الاسلاف مع مشاركتهم لهم في هذا التخيل فظهر ان سبب ذلك هو الالف فلا يكون صوابا واما حديث الأمة فهو من الآحاد ثم لو صح لكان سببه ما ذكرنا من الالف
والكلام على ما ذكره من وجوه الأول ان الاستدلال برفع الأيدي والأبصار الى السماء عند الدعاء على ان الله فوق هو حجة اهل الاثبات المثبتين الصفات من السلف والخلف ليس ذلك مختصا بالكرامية بل من اشهر المحتجين به ائمة اصحاب الأشعري وذووه
وقال ابو الحسن الأشعري فان قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له ان الله مستو على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وقال سبحانه اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال سبحانه بل رفعه الله اليه وقال سبحانه يدبر الأمر من السماء الى الأرض ثم يعرج اليه وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي ابلغ الأسباب اسباب السموات فاطلع الى اله موسى واني لأظنه كاذبا فاكذب موسى في قوله ان الله فوق السموات

وقال سبحانه وتعالى أأمنتم من في السماء ان يخسف بكم الأرض فاذا هي تمور والسموات فوقها العرش وانما أراد العرش الذي هو على السموات الا ترى ان الله ذكر السموات فقال وجعل القمر فيهن نورا ولم يرد ان القمر يملؤهن جميعا وانه فيهن جميعا قال ورأينا المسلمين جميعا يرفعون ايديهم اذا دعوا نحو العرش كما لا يحطونها اذا دعوا نحو الأرض وهذا الاحتجاج منه باجماع المسلمين على رفع ايديهم في الدعاء على ان الله فوق السموات لأنهم انما يرفعوها اليه نفسه لا الى غيره من المخلوقات
وقال صاحبه ابو الحسن علي بن مهدي الطبري قال البلخي فان قيل لنا ما معنى رفع أيدينا الى السماء وقوله والعمل الصالح يرفعه قلنا تأويل ذلك ان ارزاق العباد لما كانت تأتي من السماء جاز ان نرفع ايدينا الى السماء عند الدعاء وجاز ان يقال اعمالنا ترفع الى الله لما كانت حفظة الأعمال انما مساكنهم في السماء قال الطبري قيل له ان كانت العلة في رفع ايدينا الى السماء ان الأرزاق منها وان الحفظة مساكنهم فيها جاز ان نخفض ايدينا في الدعاء نحو الأرض من اجل ان الله يحدث فيها النبات والأقوات والمعايش وانها قرارهم ومنها خلقوا ولأن الملائكة معهم في الأرض فلم تكن العلة في رفعها الى السماء ما وصفه وانما امرنا الله تعالى برفع ايدينا قاصدين اليه برفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه
وقال القاضي ابو بكر الباقلاني في كتابه التمهيد وفي الابانة فان قال قائل اتقولون انه في كل مكان قيل له معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما اخبر في كتابه فقال الرحمن على العرش استوى وقال تعالى اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال أأمنتم من في السماء

ان يخسف بكم الأرض فاذا هي تمور قال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الانسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب ان يزيد بزيادة الامكنة اذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها اذا بطل منها ما كان واحتيج ان يرغب اليه الى نحو الأرض والى خلفنا والى يميننا والى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله
وهذا تصريح بأن الأيدي انما ترفع الى الله نفسه وانه يجب ان يصح رفعها اليه حيث كان وانه انما اختص رفعها بجهة العلو لأن الله هناك اذ لو لم تجب صحة رفعها الى جهته لم يجب اذا كان في كل مكان ان يصح ان يرغب اليه الى نحو الأرض والى خلفنا وأيماننا وشمائلنا فان ذلك انما يلزم اذا لزم ان يشار اليه حيث كان وهذا الذي قاله ابلغ من جواز الاشارة اليه فانه أوجب ان يصح الاشارة والرغبة الى غير جهة الفوق لو كان فيها وهذه الحجة انما تصح اذا كانت الاشارة بالأيدي الى فوق اشارة اليه نفسه اذ لو لم يكن كذلك لقال له منازعه فعندك الاشارة بالدعاء ليست اليه واذا كان كذلك لم تكن الاشارة اليه واجبة بحال وانما هو معنى يختص بجهة فوق غير كون الله تعالى هناك واذا كنت موافقي على هذا يلزم اذا كان في كل مكان ان يشار في الدعاء الى سائر الجهات كالسفل واليمين واليسار لأن عندك الاشارة بالأيدي ليست اليه وانما هي لأمر يختص بالجهة العالية غير الله وهذا من احتجاج الأولين والآخرين
قال ابو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتاب مختلف الحديث له نحن نقول في قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم انه معهم يعلم ما هم عليه كما تقول لرجل وجهته الى بلد شاسع احذر التقصير فاني معك تريد انه لا يخفى علي تقصيرك وكيف يسوغ لأحد ان يقول انه سبحانه وتعالى

بكل مكان على الحلول مع قوله الرحمن على العرش استوى ومع قوله اليه يصعد الكلم الطيب وكيف يصعد اليه شيء هو معه وكيف تعرج الملائكة والروح اليه وهي معه ولو ان هؤلاء رجعوا الى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق لعلموا ان الله هو العلي وهو الأعلى وان الأيدي ترفع بالدعاء اليه والأمم كلها عربها وعجمها يقولون ان الله في السماء ما تركت على فطرها وفي الانجيل ان المسيح قال للحواريين ان انتم غفرتم للناس فان اباكم الذي في السماء يغفر لكم ظلمكم انظروا الى طير السماء فانهن لا يزرعن ولا يحصدن وابوكم الذي في السماء هو يرزقهن ومثل هذا في الشواهد كثير
وقال الامام ابو بكر بن اسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد باب ذكر البيان ان الله عز و جل في السماء كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه وكما هو مفهوم في فطر المسلمين علماؤهم وجهالهم وأحرارهم ومماليكهم وذكرانهم وانائهم بالغوهم وأطفالهم كل من دعا الله عز و جل فانما يرفع رأسه الى السماء ويمد يديه الى الله تعالى الى الأعلى لا الى الأسفل
وقال ابو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين وهو في اصول الدين القول في انه مستو على العرش هذه المسألة سبيلها التوقيف المحض ولا يصل اليه الدليل من غير هذا الوجه وقد نطق الكتاب في غير آية ووردت به الأخبار الصحيحة فقبوله من جهة التوقيف واجب والبحث عنه وطلب الكيفية له غير جائز وقد قال ابو عبدالله مالك بن أنس رحمه الله وسئل عن قول الله الرحمن على العرش استوى فقال الاستواء معلوم والكيف غير معقول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة وذكر المواضع التي في القرآن من ذكر العرش وقوله أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض وقال أم امنتم من في السماء ان يرسل عليكم حاصبا وقال تعرج الملائكة والروح

اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة وقال بل رفعه الله اليه وقال اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال حكاية عن فرعون انه قال يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فاطلع الى اله موسى فوقع قصد الكافر الى الجهة التي أخبره موسى عنها لذلك لم يطلبه في طول الأرض وعرضها ولم ينزل الى طبقات الأرض سفلا فدل ما تلوناه من هذه الآيات على ان الله في السماء ومستو على العرش ولو كان بكل مكان لم يكن لهذا الأختصاص معنى ولا فيه فائدة قال وقد جرت عادة المسلمين خاصتهم وعامتهم ان يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة اليه ويرفعوا أيديهم الى السماء وذلك لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه وتعالى
قال واعترض من خالف هذا بقوله وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم وبقوله وهو الذي في السماء اله وفي الأرض اله وبقوله ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولا خمسة الا هو سادسهم ونحو هذا من آي القرآن وهذا لا يقدح في الآي التي تلوناها قبل ولا يخالفها والخبر عن حال الشيء وصفته من جهة غير الخبر عن نفس الشيء وذاته وانما هذا كقول القائل فلان في السوق معروف وفي البلاد وجائز ان يكون فلان في بيته وقت هذا الكلام غائبا عن السوق وعن البلاد وانما المعنى في هذه الآي اثبات علمه وقدرته في السماء والأرض وهو في الآي المتقدم اخبار عن الذات والاستواء على العرش حسب من غير قران لذلك بصلة او تعليق له بشيء آخر فأحد الكلامين قائم بنفسه والكلام الآخر انما سيق لغيره وتعدى الى ما سواه وهو يجمع قضيتين اثنتين والكلام الأول قضية واحدة
قال وزعم بعضهم ان معنى الاستواء ها هنا الاستيلاء نزع فيه ببيت

مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ولو كان معنى الاستواء ها هنا الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة لأن الله قد أحاط ملكه وقدرته بكل الأشياء وبكل قطر وبقعة من السموات والأرض وتحت الثرى فما معنى تخصيصه العرش بالذكر ثم ان الاستيلاء انما يتحقق معناه عند المنع عن الشيء فاذا وقع الظفر قيل استولى عليه فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده وكذلك لو كان بكل مكان كما زعموا لم يكن لتخصيصه العرش بالذكر فائدة فثبت انه ليس المعنى الا ما أشار اليه التوقيف
فان قيل ان اضافة العرش اليه كاضافة البيت اليه وهو لم يجعله ليسكنه فكذلك لم يجعل العرش للكينونة والاستواء عليه قيل ان العرش لا يشبه البيت فيما ذكرتموه وذلك لأن البيوت تتخذ غرفا وعادة لتكون وقاية من الحر والبرد وما اشبههما من وجوه الأذى والله متعال عن هذه الصفات والعرش والسرير انما يتخذ لتمجد وليستكبر بهما فقياسكم للجمع بين الاثنين قياس فساد
وقال القاضي ابو يعلى في كتاب ابطال التأويلات لأخبار الصفات لما تكلم على حديث العباس قال فاذا ثبت انه على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه قال وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع اطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن احمد قد اثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش واثبت انه في السماء وكل من اثبت هذا اثبت الجهة وهم اصحاب ابن كرام وابن مندة الأصبهاني المحدث والدلالة عليه ان العرش في جهة بلا خلاف فقد ثبت بنص القرآن انه مستو عليه فاقتضى انه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر اذا دعا فانما يرفع يديه ووجهه الى نحو السماء وفي هذا

كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجا منها وقائل هذا بمثابة من قال باثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود احدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فاذا هو معدوم قال وقد احتج ابن منده على اثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله على العرش وانه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن الجنة مسكنه وانه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على انه في مكان
الوجه الثاني ان الاشارة الى فوق الى الله في الدعاء وغير الدعاء باليد والأصبع او العين او الرأس او غير ذلك من الاشارات الحسية قد تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم واتفق عليه المسلمون وغير المسلمين قال تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم ما من حاكم يحكم بين الناس الا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يوقفه على جهنم ثم يرفع رأسه الى الله عز و جل فان قال ألقه ألقاه في مهوى فيهوي اربعين خريفا رواه الامام احمد في مسنده وابن ماجه في سننه بمعناه وعن ابي هريرة ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه و سلم بجارية سوداء عجمية فقال يا رسول الله علي عتق رقبة مؤمنة فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم اين الله فأشارت الى السماء بأصبعها السبابة فقال لها من انا فاشارت بأصبعها الى رسول الله صلى الله عليه و سلم والى السماء اي انت رسول الله فقال اعتقها رواه احمد في مسنده والبرقي في مسنده ايضا ورواه ابن خزيمه في التوحيد وقد اشترط فيه ان لا يحتج فيه الا بحديث صحيح واسناده عن يزيد بن هارون اخبرنا المسعودي عن عوف بن عبد الله عن اخيه عبيد الله بن عبد الله عن ابي هريرة مثله وقال لجارية سوداء لا تفصح فقال ان علي رقبة مؤمنة وقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم من

ربك فأشارت بيدها الى السماء ثم قال من أنا فقالت بيدها ما بين السماء الى الأرض تعنى رسول الله والباقي مثله ورواه ايضا من حديث ابي داود الطيالسي عن المسعودي بهذا الاسناد مثله وقال ايضا بجارية عجماء لا تفصح وقال اعتقها وقال فقال المسعودي مرة اعتقها فانها مؤمنة وقد روي نحو هذا المعنى عن عبيد الله بن عبد الله الزهري مسندا عن ابي هريرة ومرسلا ورواه الامام احمد وابن خزيمة ايضا من حديث معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار انه جاء بأمة سوداء فقال يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة فان كنت ترى هذه مؤمنة فاعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم اتشهدين ان لا اله الا الله قالت نعم قال اتشهدين اني رسول الله قالت نعم قال اتؤمنين بالبعث بعد الموت قالت نعم قال اعتقها ورواه مالك عن ابي شهاب عن عبيد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال ابن خزيمة لست انكر ان يكون خبر معمر ثابتا صحيحا ليس بمستنكر لمثل عبيد الله بن عبد الله ان يروي خبرا عن ابي هريرة عن رجل من الأنصار لو كان متن الخبر متنا واحدا فكيف وهما متنان وهما على حديثان لا حديث واحد حديث عون بن عبد الله في الامتحان انما اجابت السوداء بالاشارة لا بالنطق وفي خبر الزهري أجابت السوداء بنطق نعم بعد الاستفهام لما قال لها اتشهدين ان لا اله الا الله في الخبر انها قالت نعم وكذلك عند الاستفهام لما قال لها اتشهدين اني رسول الله قالت نعم نطقا بالكلام والاشارة باليد ليس النطق بالكلام وفي خبر الزهري زيادة الامتحان بالبعث بعد الموت لما استفهمها اتؤمنين بالبعث بعد الموت
وهذا الذي قاله ابن خزيمة يحققه ان هذا الحديث رواه القاضي ابو أحمد

العسال في كتاب المعرفة له من حديث محمد بن عمرو عن ابي سلمة عن ابي هريرة ولهذا يقال انه حديث حسن صحيح ومثلما روي ابو عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان ربكم حيى كريم يستحيي من عبده اذا رفع يديه اليه ان يردهما صفرا رواه ابو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب قال ورواه بعضهم ولم يرفعه وهذا لا يضر لأنه اذا كان موقوفا على سلمان فمثل هذا الكلام لا يقال الا توقيفا وقد أخبر في هذا الحديث ان العبد يشير بيديه ويرفعهما الى الله سبحانه وكذلك الحديث الذي في عن الفضل بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ثم تقنع يديك يقول ترفعهما الى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا رب يا رب ومن لم يفعل ذلك فهو خداج فاخبر فيه انه يقنع يديه اي يرفعهما وأنه يرفعهما الى ربه
وفي الحديث المشهور الذي في صحيح مسلم عن جعفر بن محمد عن ابيه عن جابر في صفة حجة الوداع وهو الحديث الطويل المشهور اكثر حديث روي في حجة الوداع قال فلما كان يوم التروية توجهوا الى منى فاهلوا بالحج وركب النبي صلى الله عليه و سلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا الا كل من امر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وان أول دم اضع من دماءنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربا

عباس بن عبد المطلب فانه موضوع كله واتقوا الله في النساء فانكم اخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ان لا يوطئن فرشكم احدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده ان اعتصمتم به كتاب الله وانتم تسألون عني فما انتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت واديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها الى السماء وفكتها الى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ثم اذن بلال ثم اقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب حتى أتى الموقف وذكر تمام الحديث فأشار بأصبعه السبابة وحدها الى فوق بابلاغ الاشارة اللهم اشهد ثلاث مرات يجمع بين الاشارة الحسية المرئية والعبارة الحسية المسموعة
وفي صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب الناس يوم النحر وقال يا أيها الناس أي يوم هذا قالوا هذا يوم حرام قال فأي بلد هذا قالوا بلد حرام قال فأي شهر هذا قالوا شهر حرام قال فان دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت قال ابن عباس والذي نفسي بيده انها لوصيته الى أمته فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارا بضرب بعضكم رقاب بعض وقد أخبرنا هنا أنه رفع رأسه وقال اللهم أشهد وعن سعد ابن ابي وقاص قال مر علي النبي صلى الله عليه و سلم وأنا أدعو باصبعي فقال أحد أحد وأشار بالسبابة رواه الامام أحمد وأبو داود والنسائي واخرج الترمذي والنسائي من حديث أبي عن ابي هريرة نحوه وقال حسن غريب قالوا

ومعناه أشر بواحدة فان الذي تدعوه واحد وهذا نص بين في أن الاشارة الى الله حيث قال له أحد أحد أي احد الاشارة فاجعلها باصبع واحدة فلو كانت الاشارة الى غير الله لم يختلف الأمر بين ان يكون بواحدة او اكثر فعلم ان الاشارة لما كانت الى الله وهو اله واحد أمره ان لا يشير الا باصبع واحدة لا باثنين
وكذلك استفاضت السنن بأنه يشار بالأصبع الواحدة في الدعاء في الصلاة وعلى المنابر يوم الجمعة وفي غير ذلك فعن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع أصبعه اليمنى التي تلي الابهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها وفي رواية كان اذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الابهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى رواهما احمد ومسلم والنسائي وروي الثاني ابو داود ايضا وعن عبد الله بن الزبير قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى وساقه وفرش قدمه اليمنى ووضع يده اليسرى على ركبة فخذه اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه وأشار بعض الرواة بالسبابة رواه أحمد ومسلم وابو داود وعن ابن الزبير أيضا قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره اشارته رواه احمد وابو داود والنسائي وعن وائل ابن حجر انه قال في صفة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم قعد فافترش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وحد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها وفي رواية يقول هكذا وحلق الأبهام والوسطى وأشار بالسبابة ورواه احمد وابو داود

والنسائي وابن ماجه وعن مالك بن نمير الخزاعي عن ابيه قال رأيت النبي صلى الله عليه و سلم واضعا ذراعه اليمنى على فخذه اليمنى رافعا اصبعه السبابى قد حناها شيئا رواه ابو داود والنسائي وابن ماجه
وعن حصين بن عبد الرحمن قال رأى عمارة بن رؤيبة بشر بن مروان وهو يدعو في يوم جمعة فقال عمارة قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو على المنبر ما يزيد على هذه يعني السبابة وفي رواية رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في المبنر ما يزيد على هذه يعني السبابة وفي رواية رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو على المنبر يخطب اذا دعا يقول هكذا فرفع السبابة وحدها وهذا الحديث رواه احمد ومسلم وابو داود وفي سنن ابي داود عن ابن عباس قال المسألة ان ترفع يديك حذو منكبيك او نحوهما والاستغفار ان تشير باصبع واحد والابتهال ان تمد يديك جميعا وفي رواية والابتهال هكذا ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه رواه أيضا مرفوعا عن بن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وأما رفع النبي صلى الله عليه و سلم يديه في الدعاء فهو في الحديث اكثر من ان يبلغه الاحصاء
وأما حديث أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه الا في الاستسقاء فانه كان يرفع يديه حتى يرى بياض أبطيه رواه الجماعة اهل الصحاح والسنن والمسانيد مثل البخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والامام احمد في مسنده وغيرهم وفي رواية لمسلم ان النبي صلى الله عليه و سلم استسقى فأشار بظهر كفه الى السماء رواه ابو داود ولفظه ان ابي صلى الله عليه و سلم يستسقي هكذا يعني ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت ابطيه فهذا هو رفعهما الى فوق رأسه وهو الابتهال المذكور في حديث ابن

عباس ومن صوره هذا الرفع الى فوق الرأس ان تصير كفيه من جهة السماء اذ لا يمكن مع استيفاء الرفع أن تكون بطونهما من نحو السماء
الوجه الثالث انه قد نهى عن رفع البصر في الصلاة الى فوق امرا بالخشوع الذي اثنى الله على اهله حيث قال قد افلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون وقال واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين والخشوع يكون مع تحفض البصر كما قال تعالى يوم يدعون الى السجود فلا يستطيعون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون الى السجود وهم سالمون وقال تعالى يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم الى نصب يوفضون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذله ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون وقال فتول عنهم يوم يدع الداع الى شيء نكر خشعا ابصارهم مهطعين الى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر كما وصف الأصوات بالخشوع في قوله وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع الا همسا وعن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما بال اقوام يرفعون ابصارهم الى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهن او لتخطفن ابصارهم رواه البخاري واكثر اهل السنن وعن ابي هريرة ان النبي صلى الله عليه و سلم قال لينتهين اقوام يرفعون ابصارهم الى السماء في الصلاة او لتخطفن ابصارهم رواه مسلم وغيره ولو كان الله ليس فوق بل هو في السفل كما هو في الفوق لا لاختصاص لأحد الجهتين به لم يكن رفع البصر الى السماء ينافي الخشوع بل كان يكون بمنزلة حفظها
الوجه الرابع ان الذين يرفعون ايديهم وابصارهم وغير ذلك الى السماء وقت الدعاء تقصد قلوبهم الرب الذي هو فوق وتكون حركة جوارحهم

بالاشارة الى فوق تبعا لحركة قلوبهم الى فوق وهذا امر يجدونه كلهم في قلوبهم وجدا ضروريا الا من غيرت فطرته باعتقاد يصرفه عن ذلك وقد حكى محمد بن طاهر المقدسي عن الشيخ ابي جعفر الهمذاني انه حضر مجلس ابي المعالي فذكر العرش وقال كان الله ولا عرش ونحو ذلك وقام اليه الشيخ ابو جعفر فقال يا شيخ دعنا من ذكر العرش واخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فانه ما قال عارف قط يا الله الا وجد في قلبه ضرورة لطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة قال فضرب ابو المعالي على رأسه وقال حيرني الهمداني فاخبر هذا الشيخ عن كل من عرف الله انه يجد في قلبه حركة ضرورية الى العلو اذا قال يا الله وهذا يقتضي انه في فطرتهم وخلقتهم العلم بأن الله فوق وقصده والتوجه اليه الى فوق
الوجه الخامس ان الناس مع اختلاف عقائدهم واديانهم يشيرون الى السماء عند الدعاء لله تعالى والرغبة اليه وكلما عظمت رغبتهم واشتد الحاحهم قوي رفعهم واشارتهم ولهذا لما كان دعاء الاستسقاء فيه من الرغبة والالحاح ما ليس في غيره كان رفع النبي صلى الله عليه و سلم واشارته فيه اعظم منه في غيره وهذا يفعلونه اذا دعوا الله مخلصين له الدين عندما يكونون مضطرين الى الله عند الرغبة والرهبة مثل ركوب البحر وغيره وفي تلك الحال يكونون قاصدين الله قصدا قويا بل لا يقصدون غيره ويقرنون بقصد قلوبهم وتوجهها اشارتهم بعيونهم ووجوهم وايديهم الى فوق ومعلوم ان الاشارة تتبع قصد المشير وارادته فاذا لم يكونوا قاصدين الا الله ولا مريدين الا اياه لم تكن الاشارة الا الى ما قصدوه وسألوه فانه في تلك الحال لا يكون في قلوبهم الا شيئان المسؤول والمسؤول منه ومعلوم ان هذه الاشارة باليد وغيرها ليست الى الشيء المسؤول المطلوب من الله ولا يخطر بقلوبهم ان هذه الاشارة الى ذلك ولا ادعاه المنازع في ذلك في

اكثر الاوقات لا يكون فوق فلم يبق ما تكون الاشارة اليه الا المدعو المقصود والا كانت الاشارة الى ما لم يقصده الداعي ولم يشعر به وهذا ممتنع وهذا واضح لمن تدبره
الوجه السادس انهم يقولون بألسنتهم ارفعو أيديكم الى الله ونحو ذلك من العبارات وهذا اخبار عن انفسهم انهم يقصدون الاشارة الى الله ورفع الايدي اليه واذا كان هذا الخبر لم يتواطؤا عليه ولم يجمعهم عليهم احد كان اتفاقهم في الخبر عما في نفوسهم كاتفاقهم في سائر الاخبار التي تجري مجرى هذا من الأمور الحسية والضرورية وغير ذلك
الوجه السابع ان هذا الرفع يستدل به من وجوه احدها ان العبد الباقي على فطرته يجد في قلبه امرا ضروريا اذا دعا الله دعاء المضطر انه يقصد بقلبه الله الذي هو عال وهو فوق الثاني انه يجد حركة عينه ويديه بالاشارة الى فوق تتبع اشارة قلبه الى فوق وهو يجد ذلك ايضا ضرورة الثالث ان الأمم المختلفة متفقة على ذلك من غير مواطأة الرابع انهم يقولون بألسنتهم انا نرفع ايدينا الى الله ويخبرون عن انفسهم انهم يجدون في قلوبهم اضطرارا الى قصد العلو فالحجة تارة بما يجده الانسان من العلم الضروري وتارة بما يدل على العلم الضروري في حق الناس وتارة بأن الناس لا يتفقون على ضلالة فانه اذا كان اجماع المسلمين وحدهم لا يكون الا حقا فاجماع جميع الخلق الذين منهم المسلمون اولى ان لا يكون الا حقا
وبهذه المجامع يظهر الجواب عما تذكر الجهمية وجماعة شيئان احدهما ان يكون الناس مخطئين في هذا الرفع لاعتقادهم ان الله فوق وليس هو فوق

وهذا جوابه في نهايته والثاني ان يكون الرفع الى بعض المخلوقات اما الملائكة او الجهة الشريفة او العرش الذي هو القبلة ومن تدبر ما بيناه علم امتناع هذين الوجهين ونحن نفصل ذلك
الوجه الثامن قوله ان الرفع الى فوق لأن الجهة العالية اشرف من السافلة بظهور الانوار منها وان الهوى الذي هو مادة النفس منها وان النظر منها مضمونة ان ما يحتاج اليه الآدميون من الرزق الذي هو الماء والهواء ومن النور يأتي من الجهة العالية فكانت اشرف
فيقال له أولا لا ريب ان حاجتهم الى الأرض وما فيها اكثر فان عليها قرارهم ومنها تخرج ارزاقهم التي هي النبات وفيها الحيوان وهي كما قال الله تعالى فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ولهذا كان نظر ابصارهم الى الأرض وما فيها أكثر من نظرهم الى السماء وما فيها فعلم ان النظر الذي يكون لأجل الحاجة الى المنظور اليه لتعلق القلب به هو الى الأرض اكثر منه الى السماء
ويقال له ثانيا الاحتجاج انما هو يرفع ايديهم وابصارهم حين الدعاء لله وحده لا شريك له فاما دعوى غير الله فانما يرفعون أيديهم ان رفعوها الى جهة ذلك المدعو واما في غير صد الله ودعائه وذكره فانهم لا يلتزمون الاشارة الى السماء بل انما يشير احدهم ان اشار الى شيء معين مثل الشمس والقمر وغير ذلك واذا كان الأمر كذلك كان ماذا ذكره من الاشارة الى الجهة لشرفها من أبطل الباطل فان ذلك انما يتوجه لو كان المذكور هو اشارتهم الى فوق مطلقا وهذا خلاف الواقع بل انما يشيرون الاشارة المذكورة اذا دعوا الله مخلصين له الدين وأين هذا من هذا

ويقال له ثالثا قد تقدم انهم يعلمون ويخبرون أنهم انما يشيرون الى الله لا الى محض الجهة
الوجه التاسع قوله ان الاشارة قد تكون الى الملائكة التي هي مدبرة امر العباد يقال له اولا اشارة الانسان الى الشيء مشروطة بشعوره به وقصد الاشارة اليه فان لم يشعر به ولم يقصد الاشارة اليه محال ان يشير اليه والداعون لله مخلصين له الدين لا تخطر لهم الملائكة في تلك الحال فضلا عن ان يقصدوا الاشارة اليها وكل منهم يعلم من نفسه ويسمع من غيره بل ويعلم منه بغير سمع أنه لم يقصد الاشارة الى الملائكة واذا كانوا يعلمون من انفسهم انهم لم يشيروا الى الملائكة ولا الى محض الجهة كان حمل اشارتهم على هذا مع علمهم بأنهم لم يقصدوا ذلك مثل من يحمل سجود المسلمين في اوقات صلواتهم على انهم يسجدون للكواكب والملائكة بل الاشارة في الدعاء الى الله ابلغ وذلك ان السجود في الظاهر مشترك بين من يسجد لله ويسجد لغيره وأما الذي يقول بلسانه انه يدعو الله وهو مع ذلك يشير مع دعائه فالظن به أنه اشار الى غير الله اقبح من الظن بالمسمين أنهم يسجدون لغير الله
ويقال له ثانيا الاشارة الى الملائكة حين دعاء الله وحده لا شريك له اشراك بالله بل دعاء الملائكة ومسألتهم اشراك بالله فكيف بالاشارة اليهم حين دعاء الله وحده لا شريك له
وقيل له ثالثا الاحتجاج ليس بمطلق الاشارة الى فوق بل الاشارة عند دعاء الله وحده لا شريك له ومن المعلوم انه لا يجوز في تلك الحال رفع الأيدي الى الملائكة فكيف يحمل حال الأنبياء والمرسلين وسائر عباد الله المخلصين على أنهم رفعو أيديهم الى غير الله حين مسألتهم لله وحده

وقيل له رابعا لا يجوز لأحد ان يرفع يديه داعيا لا الى الملائكة ولا الى غير الملائكة بل هذا من خصائص الربوبية ومن جوز رفع الأيدي عند الدعاء الى غير الله فهو من المشركين الذين يدعون غير الله قال تعالى وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله احدا وانه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قال انما أدعو ربي ولا أشرك به احدا وقال تعالى قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد اذ هدانا الله الآية وقال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم وقال والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق الاية وقال ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمئن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله مالا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد وقال تعالى ولا تدع مع الله الها آخر فتكون من المعذبين وقال تعالى ومن يدع مع الله الها آخر لا برهان له به فانما حسابه عند ربه وقال تعالى ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا
ولهذا كانت الاشارة اليه من تمام دعائه وذلك من تحقيق كونه الصمد الذي يصمد العباد اليه فان قصده بالباطن والظاهر والقلب وسائر الجسد اكمل من قصده بالقلب فقط فيكون الاشارة اليه من تمام كونه صمدا ويكون اسم الصمد مستلزما لذلك فكونه موجودا يوجب المباينة التي تقتضي الاشارة اليه وكونه صمدا مقصودا يقتضي الدعاء المتضمن الاشارة اليه والاشارة الى غيره بالدعاء اشراك به واخراج له عن أن يكون احدا
فظهر أن هؤلاء الجهمية منكرين لحقيقة كونه احدا صمدا وأنهم جاحدون لحقيقة دعائه مسوغين للاشراك به فان أهل السنة هم الموحدون له والمكملون

لحقيقة الاقرار بأنه الأحد الصمد وهذا ظاهر ولله الحمد
ويبين هذا أن هؤلاء الجهمية ومن دخل فيهم من الملاحدة والفلاسفة والصابئين وغيرهم لا يعتقدون حقيقة الدعاء لله ولا يؤمنون ان الله على كل شيء قدير لا سيما من يقول منهم انه موجب بالذات لا يمكنه ان يغير سببا ولا يحدثه فالدعاء عندهم انما يؤثر تأثير النفوس البشرية وتصرفها في هيولي العالم واذا كان كذلك فهم في الحقيقة لا يقصدون الله ان يفعل شيئا ولا يحدث شيئا ولا يطلبون منه شيئا ولكن يقوون نفوسهم قوة يفعلون بها والعلم الضروري حاصل بالفرق بين ما يفعله الحيوان بنفسه وبين ما يطلبه من غيره فاذا كان دعاء العباد عندهم لا معنى له الا أنهم يفعلون بأنفسهم لم يكونوا داعين لله قط ومن لم يكن داعيا لله فانه لا يشير اليه عند الدعاء بل ذلك عبث بل قوله يا الله افعل كذا عبث وهذا حقيقة مذهب القوم ابطال ما بعثت به الرسل من أنواع الأدعية وابطال ما فطر الله عليه عباده من ذلك وهؤلاء هم أصل التهجم والتعطيل فمن وافقهم في شيء من ذلك كان من الجاحدين لأن يكون الله هو الموجود المقصود المدعو المعبود
ولهذا تجد غالب هؤلاء النفاة لأن يكون الله فوق العرش فيهم من الانحلال عن دعاء الله ومسألته وعبادته بقدر ذلك الا من يكون منهم جاهلا بحقيقة مذهبهم يوافقهم بلسانه على قول لا يفهم حقيقته وفطرته على الصحة والسلامة فانه يكون فيه ايمان ونفاق فأما اذا استحوذ على قلبه تغيرت فطرته وهؤلاء يعرضون عن دعاء الله وعبادته مخلصين له الدين عند الاختيار ويجادلون في ذلك لكن عند الاضطرار هم كما قال الله تعالى ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ان يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور او يوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير ويعلم الذين

يجادلون في آياتنا مالهم من محيص لا سيما على اشهر القرائتين وهي قراءة النصب في قوله ويعلم فان ذلك من باب قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن ومثل هذا في الاعراب قوله ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ومعنى آية الشورى أنه سبحانه ان شاء اسكن فيظللن رواكد على ظهره وان شاء او بقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا وهذا كله في جواب ان يشأ اي وان يشأ يهلكهن بذنوبهم ويعف ايضا عن كثير منها ويجتمع مع ذلك علم المجادلين في أياتنا بأنه مالهم من محيص فهو ان شاء جمع بين أن يهلك بعضا ويعف عن بعض وبين علم المجادلين في آياته حينئذ أنه ما لهم من محيص
الوجه العاشر قوله وأيضا انه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا كما جعل الكعبة قبلة لصلاتنا يقال له هذا باطل معلوم بالاضطرار بطلانه عقلا ودينا وذلك يظهر بوجوه
احدها ان المسلمين مجمعون على أن القبلة التي يشرع للداعي استقبالها حين الدعاء هي القبلة التي شرع استقبالها حين الصلاة فكذلك هي التي شرع استقبالها حين ذكر الله كما تستقبل بعرفة والمزدلفة وعلى الصفا والمروة وكما يستحب لكل ذاكر لله وداع ان يستقبل القبلة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم انه كان قد يقصد أن يستقبل القبلة حين الدعاء وكذلك هي التي يشرع استقبالها بالبول والغائط فليس للمسلمين كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد بل ولا لغيرهم قبلتان أصلا في العبادات التي هي من جنسين كالصلاة والنسك فضلا عن العبادات التي هي من جنس واحد وبعضها متصل ببعض فان الصلاة فيها الدعاء في الفتاتحة وغيرها والدعاء نفسه هو صلاة قد سماه الله في كاباه صلاة حيث قال وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم وفي

الصحيح عن عبد الله بن ابي اوفى ان النبي صلى الله عليه و سلم كان اذ اتاه قوم بصدقتهم صلى عليهم وان ابي اتاه بصدقه فقال اللهم صلى على آل ابي او في وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقد علم النبي صلى الله عليه و سلم امته الصلاة عليه في غير حديث في الصحاح وغيرها وفي جميعها انما يعلمهم الدعاء له بصلاة الله وبركاته كما قال قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع حيث تكلمنا على مسمى الصلاة في اللغة الذي هو الدعاء وان الصلاة المشروعة هي دعاء كلها فان الدعاء هو قصد المدعو تارة لذاته وتارة لمسألته أمرا منه وهذا كالشخص يدعو غيره ويطلبه ويقصده تارة لذاته وتارة لأمر يطلبه منه والصلاة تتضمن هذين النوعين عبادة الله والثناء عليه والسؤال له
وقد ذكر النبي صلى الله عليه و سلم النوعين في الحديث الذي في صحيح مسلم عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
يقول الله سبحانه وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فاذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي فاذا قال الرحمن الرحيم قال الله اثنى علي عبدي فاذا قال العبد مالك يوم الدين قال الله مجدني عبدي او قال فوض الي عبدي فاذا قال العبد اياك نعبد واياك نستعين قال الله هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فاذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل

فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم عن ربه انه
قال قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ومسمى الصلاة في اللغة قد قالوا انه مسمى الدعاء والدعاء نوعان كما تقدم والنصف الذي للرب جل وعلا هو الثناء عليه والمقصود بذلك نفسه سبحانه وتعالى فهو بذلك نفسه سبحانه وتعالى فهو بذلك معبود مقصود مدعو لنفسه والنصف الاخر الذي للعبد هو السؤال والطلب منه وهو بذلك يقصد لذلك الأمر ويسأل ويطلب منه وهو الصمد في الأمرين لا يصلح ان يصمد لغيره لا هذا الصمد ولا هذا الصمد وهو ايضا أحد في هذين لا يصلح لغيره ان يكون هو المعبود ولا ان يكون هو المتوكل عليه المستعان به المسؤول منه فهو الأحد الصمد في النصف الذي له كقوله اياك نعبد وهو الأحد الصمد في النصف الذي للعبد كقوله اياك نستعين ولهذا قال من قال من السلف ان الله سبحانه انزل مائة كتاب واربع كتب جمع معانيها في الأربعة وجمع معاني الأربعة في القرآن وجمع معاني القرآن في المفصل وجمع معاني المفصل في أم القرآن وجمع معاني ام القرآن في قوله اياك نعبد واياك نستعين
وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع في غير هذا الكتاب وبينا تعلق العبادة بالالهية فان الاله هو المعبود وتعلق الاستعانة بربوبيته فان رب العباد الذي يربهم وذلك يتضمن انه الخالق لكل ما فيهم ومنهم والالهية هي العلة الغائية والربوبية هي العلة الفاعلية والغائية هي المقصودة وهي علة فاعلية للعلة الفاعلية ولهذا قدم قوله اياك نعبد على قوله اياك نستعين وتوحيد الالهية يتضمن توحيد الربوبية فانه من لم يعبد الا الله يندرج في ذلك انه لم يقر بربوبية غيره بخلاف توحيد الربوبية فانه قد أقر به عامة المشركين في توحيد الالهية كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون ذكر البخاري في صحيحه عن عكرمة وغيره تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره

وقد اخبر عنهم بذلك في قوله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وفي قوله قل لمن الأرض ومن فيها ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل افلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل افلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون سيقولون الله قل فانى تسحرون بل اتيناهم بالحق وانهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله اذا لذهب كل اله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون فأخبر عن هؤلاء الذين نزه نفسه عن اشراكهم واخبر أنهم كاذبون في عدولهم عن الحق الذي جاء به ورد عليهم انه ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله انه اذا سألهم لمن الأرض ومن فيها سيقولون لله واذا سألتهم من رب السموات ورب العرش العظيم سيقولون الله واذا سألتهم من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه سيقولون الله
فالاول اقرارهم بأن الأرض وما فيها لله والثاني اقرارهم بأن السموات السبع والعرش العظيم لله والثالث اقرارهم بأن ملكوت جميع الأشياء بيده وانه الذي يمنع المخلوق وينصره فيجيره من الضرر والأذى فيجير على من يشاء ولا يجير عليه احد فاذا أراد بأحد ضررا لم يمنعه مانع واذا رفع الضر عن احد لم يستطع احد ان يضره وفي كون ملكوت كل شيء بيده بيان انه هو المدبر النافع له فهو الذي يأتي بالمنفعة وهو الذي يدفع المضرة كما قال في الاية الأخرى قل أرأيتم ما تدعون من دون الله ان ارادني الله بضر هل هن كاشفات ضره او ارادني برحمة هل هن ممسكات رحمته وكما قال في الاية الأخرى وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله

واذا كانوا مقرين بهذا فهذا اقرار منهم بعموم ربوبيته وتدبيره لكل شيء وهو اعظم من اقرار القدرية والصابئة والمتفلسفة الطبيعية ونحوهم ممن يجعل الرب لبعض الكائنات شيئا غير الله وهو مع هذا قد اخبر انهم مشركون نزه نفسه عن شركهم لكونهم عبدوا معه غيره لا لكونهم اعتقدوا ان للعالمين ربا معه
وكذلك قوله قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير ام ما يشركون امن خلق السموات والأرض وانزل لكم من السماء الى آخر الايات يستفهم فيها كلها استفهام انكار هل يفعل هذه الأمور احد من الالهة التي يعبدون من دون الله فان قوله أ اله مع الله اسم واحد وقع صفة لا له ليس هو جملة واحدة كما ظنه طائفة من المفسرين واعتقدوا ان المعنى مع الله اله فان القوم كانوا يجعلون مع الله آلهة اخرى وقد ذكر ذلك في السورة بقوله آلله خيرا اما يشركون فلا يفيد استفهامهم عما هم معترفون به وأيضا فان جواب المستفهم عنه لا يكون الا مفردا لا يكون جملة فاذا قيل من فعل هذا فانه يقال فلان ام فلان لا يذكر جملة بل لو كان كذلك لم ينتظم الكلام ولكن المقصود ان هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله هل هي التي فعلت هذه الامور ام الله وحده فعلها فان القوم كانوا مقرين بأن الله وحده هو الفاعل لهذه الامور وهذا شأن استفهام الانكار فانه يتضمن نفي المستفهم عنه والانكار على من اثبته والقوم كانوا معترفين بذلك لكن كانوا مع ذلك مشركين به الالهة التي يعلمون انها لم تفعل ذلك فانكر عليهم ذلك وزجروا عنه ومثل هذا في القرآن كثير
ومن عرف هذا عرف الشرك الذي ذمه الله في كتبه وارسل رسله جميعا بالنهي عنه كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من

دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت والعبادة تتضمن كمال المحبة وكمال الخضوع قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين امنوا اشد حبا لله
فهذه السورة يعني الفاتحة التي قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انها اعظم سوره في القرآن وانه لم ينزل في التوراة ولا في الانجيل ولا في القرآن مثلها قد ذكر فيها جماع الكتب الالهية بقوله اياك نعبد واياك نستعين ومما يشبهها قوله عليه توكلت واليه أنيب وقوله فاعبده وتوكل عليه وقوله عليه توكلت واليه متاب وهذان هما نوعا الدعاء كما تقدم وهما جميعا مختصان بالله حقان له لا يصلحان لغيره بل دعاء غيره بأحد النوعين شرك كما قال تعالى وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله احدا وانه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قال انما ادعو ربي ولا اشرك به احدا وقال تعالى فلا تدع مع الله الها اخر فتكون من المعذبين وقال تعالى ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم وقال وما ظلمناهم ولكن ظلموا انفسهم فما اغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء امر ربك وما زادوهم غير تتبيب
فغير الله لا يجوز ان يكون مستعانا به متوكلا عليه لانه لا يستقل بفعل شيء اصلا فليس من الأسباب ما هو مستقل بوجود المسبب لكن له شريك فيه وما ثم علة تامة الا مشيئة الله فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكذلك لا يجوز ان يكون غيره معبودا مقصودا لذاته اصلا فان ذلك لا يصلح له ولهذا كان الشرك غالبا على بني آدم كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون فيكون احدهم عبدا لغير الله متألها له مما يحبه ويجله ويكرمه ويخافه ويرجوه حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح تعس عبد الدرهم تعس

عبد الدينار تعس عبد الخميصة ان اعطي رضي وان منع سخط تعس وانتكس واذا شيك فلا انتقش وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه
وقد قدمنا ان كلا النوعين يوجب اختصاص الرب سبحانه وتعالى بأنه الأحد وبأنه الصمد فن كونه احدا يوجب ان لا يشرك به في العبادة ولا الاستغاثة فلا يدعى غيره والاسم الصمد جاء معرفا ليبين انه هو الصمد الذي يستحق ان يصمد اليه نوعي الصمد وهذان الاسمان لم يذكرا في القرآن الا في هذه السورة التي قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه انها تعدل ثلث القرآن مثل ما
روي عن ابي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه ايعجز احدكم ان يقرأ ثلث القرآن في ليلة فشق ذلك عليهم وقالوا اينا يطيق ذلك يا رسول الله قال قل هو الله احد ثلث القرآن رواه البخاري وروي عنه ايضا عن قتادة بن النعمان ان رجلا كان في زمن النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في الفجر قل هو الله احد يرددها لا يزيد عليها فلما اصبح اتى رجل الى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله فلانا بات الليلة يقرأ من السحر قل هو الله احد يرددها لا يزد عليها كأن الرجل يتقالها فقال النبي صلى الله عليه و سلم
فو الذي نفسي بيده انها لتعدل ثلث القرآن وروي مسلم عن ابي هريرة قال خرج الينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال اقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ قل هو الله احد حت ختمها وروى مسلم ايضا عن ابي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال ايعجز احدكم ان يقرأ في ليلة ثلث القرآن قالوا وكيف يقرأ ثلث القرآن قال قل هو الله احد تعدل ثلث القرآن وعن عائشه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله احد فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال سلوه لأي شيء يصنع ذلك فسألوه

فقال انها صفة الرحمن عز و جل فأنا احب ان اقرأ بها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اخبروه ان الله يحبه رواه البخاري ومسلم
وقد قال من قال من العلماء هي ثلث القرآن لأن القرآن ثلاثة اقسام قسم توحيد وقسم قصص وقسم امر ونهي وهذه فيها التوحيد وهذا الذي قاله انما يتم اذا كانت جامعة للتوحيد والأمر كذلك فان هذين الاسمين يستلزمان سائر اسماء الله الحسنى وما فيها من التوحيد كله قولا وعملا والنبي صلى الله عليه و سلم ذكر هذين الاسمين
فقال الله الواحد الصمد تعدل ثلث القرآن وذلك ان كونه احدا وكونه الصمد يتضمن انه الذي يقصده كل شيء لذاته ولما يطلب منه وانه مستغن بنفسه عن كل شيء وانه بحيث لا يجوز عليه التفرق والفناء وانه لا نظير له في شيء من صفاته ونحو ذلك مما ينافي الصمدية وهذا يوجب ان يكون حيا عالما قديرا ملكا قدوسا سلاما مهيمنا عزيزا جبارا متكبرا
اذا تبين ذلك فالدعاء الذي ذكره الرازي هنا هو احد نوعي الدعاء وهو دعاء المسألة والطلب منه قال تعالى واذا سألك عبادي عني فاني قريب اجيب دعوة الداع اذا دعان وهذا في الكلام نظير الذكر الذي هو ثناء وتحميد لله تعالى ولهذا يقال في الفاتحة نصفها ثناء ونصفها دعاء ومن المعلوم ان استقبال القبلة في هذا كاستقبالها في الذكر او اوكد والقبلة التي تستقبل بهذا الدعاء هي قبلة الصلاة بعينها ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم اذا اجتهد في الدعاء يستقبلها كما فعله في اثناء الاستسقاء الذي رفع فيه يديه رفعا تاما فعن عباد بن تميم عن عمه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحول رداءه ورفع يديه فدعى واستسقى واستقبل القبلة رواه الجماعة اهل الصحاح والسنن والمساند كالبخاري ومسلم وابو داود والترمذي النسائي وابن ماجه وغيرهم فاخبر انه استقبل القبلة التي هي قبلة الصلاة في اثناء دعاء الاستسقاء واذا كانت قبلة الدعاء هي قبلة

الصلاة بعينها كان قول الجهمي ان العرش والسماء قبلة للدعاء قول مخالف لاجماع المسلمين ولما علم بالاضطرار من دين الاسلام فيكون من ابطل الباطل
الوجه الثاني في ذلك وهو الحادي عشر ان توجه الخلائق بقلوبهم وأيديهم وابصارهم الى السماء حين الدعاء امر فطري ضروري عقلي لا يختص به اهل الملل والشرائع بل يفعله المشركون وغيرهم ممن لا يعرف العرش ولا يسمع به ولا يعلم ان فوق السماء لله عرشا فلو كان الرفع انما هو الى العرش فقط الذي هو قبلة لم يقصد ذلك الرفع الا من علم ان هناك عرشا كمالا يقصد التوجه الى القبلة الا من علم ان الكعبة التي يستقبلها المسلمون هناك لان القصد والارادة لا يكون الا بعد الشعور بالمقصود فمن لم يشعر ان هناك عرشا امتنع ان يقصد الرفع الى العرش وهذا تحقيق ما تقدم من ان العلو لله علم بالفطرة والعقل واما استواؤه على العرش فانما علم بالسمع
الوجه الثالث في ذلك وهو الثاني عشر ان يقال كون العرش او السماء قبلة للدعاء لا يثبت بغير الشرع فان اختصاص بعض الجهات والامكنة بانه يستقبل دون غيرها هو امر شرعي ولهذا افترقت اهل الملل كما قال تعالى ولكل وجهة هو موليها فلو كان الله جعل العرش او السماء قبلة للدعاء كان في الشريعة ما يبين ذلك ومعلوم انه ليس في الكتاب والسنة ولا شيء من الآثار عن سلف الأمة ولا أئمتها ولا في الاثارة عن الأنبياء المتقدمين كموسى وعيسى وغيرهما من المرسلين صلوات الله عليهم اجمعين ان العرش او السماء قبلة للدعاء فعلم ان دعوى ذلك من من اعظم الفرية على الله وان هذا من جملة افتراء الجهمية ونحوهم على الله وعلى رسله ودينه
الوجه الرابع وهو الثالث عشر ان القبلة امر تتميز به الملل ويقبل النسخ والتبديل كما قال تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها

فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ولئن اتيت الذين اوتوا الكتاب بكل اية ما تبعوا قبلتك وما انت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت اهوائهم من بعد ما جاءك من العلم انك اذا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب الى قوله تعالى ولكل وجهة هو موليها فاسبتقوا الخيرات اينما تكونوا يأت بكم الله جميعا فاخبر سبحانه أن لكل أمة وجهة يستقبلونها وولى محمدا قبلة يرضاها فأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد أن كان قد أمره ان يصلي الى البيت المقدس هو وأمته فصلى الى بيت المقدس بعد مقدمه المدينة بضعة عشر شهرا وصلى اليها قبل مقدمه المدينة وقد روي أنه كان بمكة يجعل الكعبة بينه وبين المسجد الأقصى واذا كانت القبلة أمرا يقبل النسخ والتبديل وهو مختلف في أمر الملل فيجب على هذا التقدير اذا كان العرش او السماء قد جعل قبلة للدعاء أن يجوز تغيير ذلك وتبديله حتى يجوز ان يدعى الله الى نحو الأرض ويجوز أن يدعوه الانسان من الجهات الست ويمد يده وعينيه الى سائر جهاته وأن يكون ذلك قبلة لبعض الداعين دون بعض وهذا مع أنه قد ذكر غير واحد اجماع المسلمين على تخطئة قائله وفاعله فالعلم بذلك اضطراري فان بني آدم مفطورون على أن لا يتوجهوا بقلوبهم وأيديهم الى غير الجهة العالية ولا يقصدوا الله من تحت اقدامهم ويمدوا أيديهم الى تلك الجهة السافلة ولا الى غير الجهة العالية
الوجه الخامس وهو الرابع عشر أن الله تعالى قد قال ولله المشرق والمغرب فأين ما تولوا فثم وجه الله فأخبر ان العبد حيث استقبل فقد استقبل قبلة الله ليبين انه حيث أمر العبد الاستقبال والتولية فقد استقبل وولي قبلة الله ووجهته ولهذا ذكروا أن هذه الاية فيما لا يتعين فيه استقبال الكعبة كالمتطوع

الراكب في السفر فانه يصلي حيث توجهت به راحلته والعاجز الذي لا يعلم جهة الكعبة أو لا يقدر على استقبال الكعبة فانه يصلي بحسب امكانه الى أي جهة امكن وذكروا ايضا أنه نسخ ما تضمنته من تسويغ الاستقبال الى بيت المقدس كما كان ذلك قبل النسخ واذا كان هذا في القبلة المعروفة للصلوات التي يجب فيها استقبال قبلة معينة في الفريضة وفي التطوع في المقام فينبغي أن يكون في قبلة الدعاء اولى وأحرى فان الدعاء لا يجب فيه استقبال قبلة معينة باجماع المسلمين ولا يجب أن يستقبل القبلة المعروفة ولا أن يرفع يديه لا عند من يقول ان السماء والعرش قبلة الدعاء ولا عند من لا يقول بذلك واذا كان هذا لازما اقتضى جواز الاشارة في الدعاء الى غير فوق فيجب ان تجوز الاشارة بالأيدي حين الدعاء الى الأرض والتيامن والتياسر وقد تقدم قول من حكى اجماع المسلمين على خلاف ذلك وعلى تخطئة من يجوز ذلك كالقاضي ابي بكر وأيضا فمن المعلوم بالفطرة الضرورية أن احدا لا يقصد ذلك ولا يريده فعلم بطلان ما زعموه من كون العرش او السماء قبلة للدعاء
الوجه السادس وهو الوجه الخامس عشر أن القبلة ما يستقبله الانسان بوجهه وكذلك يسمى وجهة ووجها وجهة لاستقبال الانسان له بوجهه وتوجهه اليه كما قال تعالى ولكل وجهة هو موليها والاستقبال ضد الاستدبار فالقبلة ما يستقبله الانسان ولا يستدبره فأما ما يرفع الانسان اليه يده أو رأسه أو بصره فهذا باتفاق الناس لا يسمى قبلة لأن الانسان لم يستقبله كما لا يستدبر الجهة التي تقابله ومن استقبل شيئا فقد استدبر ما يقابله كما أن من استقبل الكعبة فقد استدبر ما يقابلها ومعلوم ان الداعي لا يكون مستقبلا للسماء ومستدبرا للأرض بل يكون مستقبلا لبعض الجهات اما القبلة او غيرها مستدبرا

لما يقابلها كالمصلى فظهر ان جعل ذلك قبلة باطل في العقل واللغة والشرع بطلانا ظاهرا لكل أحد
الوجه السابع وهو السادس عشر ان القبلة امر يحتاج الى توقيف وسماع ليس في الفطرة والعقل ما يخص مكانا دون مكان باستقباله في الصلاة والدعاء او غير ذلك فلو كان الداعون انما يقصدون برفع أيديهم وابصارهم وغير ذلك استقبال بعض المخلوقات مثل العرش والسماء وغير ذلك من غير أن يكون الرفع الى الخالق تعالى لم يفعلوا ذلك الا عن توقيف وسماع ومن المعلوم أنهم يفعلون ذلك بفطرتهم وعقولهم من غير أن يوقفهم عليه احد ولا تلقوه عن أحد
الوجه الثامن وهو السابع عشر أن القبلة لا يجد الناس في أنفسهم معنى يطلب تعيينها ولا فرقا بين قبلة وقبلة ولهذا لما أمر المسلمون باستقبال المسجد الأقصى ثم امروا باستقبال المسجد الحرام كان هذا جميعه عندهم سائغا لا يجد المؤمنون في أنفسهم حرج من ذلك ولا تفريقا بينه فلو كان الرفع والتوجه الى جهة السماء لكونه قبلة لكان ذلك عند الناس مؤمنهم وغير مؤمنهم منزلة التيامن والتياسر والسفل والقفا ومن المعلوم أنهم يجدون في أنفسهم طلبا ضروريا لما فوق فهذه المعرفة والطلب الضروري الذي يجدونه يطلب العلو دون السفل يمنع أن يكون لكونه قبلة وضعية بل ذلك يقتضي ان المطللوب المدعو هناك كما يجدونه ايضا في أنفسهم ويقرون به بألسنتهم
الوجه التاسع وهو الوجه الثامن عشر أنه قد اعترف في نهايته بأن الناس انما يرفعون الى الله واعرض عن هذه الأجوبة الثلاثة التي ذكرها هنا وهو أن الرفع للجهة التي تتعلق بها منافعهم من الأنوار والأرزاق أو لمن فيها من الملائكة او لكون العرش قبلة الدعاء وذلك أنه قد علم علما يقينيا ان

الخلائق انما يقصدون بالرفع الرفع الى الله لكن تكلم في المقدمة الثانية وهو ان ذلك يدل على علمهم الضروري بأن الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة بما تقدم ذكره ونحن نتكلم عليه
الوجه التاسع عشر أن الاشارة مع العبارة هي لمن ذكر في العبارة سواء كان ذلك في الجمل الخبرية او الجمل الطلبية وسواء في ذلك الاشارة بلفظ هذا او نحوه من الفاظ الاشارة والفاظ الدعاء والنداء وذلك ان المتكلم اذا قال فعل هذا الرجل او هذا الرجل ينطلق او اكرم هذا الرجل ونحو ذلك فان العبارة وهي لفظ هذا يطابق ما يشير الله المتكلم ولهذا سمي النحاة هذه أسماء الاشارة وهذه الألفاظ بنفسها لا تعين المراد الا باشارة المتكلم الى المراد بها ولهذا من سمع هذا وذاك وهؤلاء و أولئك ولم يعرف الى اي شيء أشار المتكلم لم يفهم المراد بذلك فالدلالة على العين هي بمجموع اللفظ وبالاشارة اذ هذه الألفاظ ليست موضوعة لشيء بعينه وانما هي موضوع لجنس ما يشار اليه وأما تعيين المشار اليه فيكون بالإشارة مع اللفظ كما ان أداة أل التعريف موضوعة لما هو معروف من الأسماء أما كون الشيء معروفا فذاك يجب ان يكون معروفا بغير اللام اما بعلم متقدم او ذكر متقدم
وكذلك المعرف بالنداء فان النداء والدعاء من أسباب التعريف فالمنادى المعرفة يكون مفهوما وان كان نكرة كان منصوبا فاذا نادى المنادي رجلا مطلقا قال يا رجلا كقول الأعمى يا رجلا خذ بيدي ومن نادى رجلا بعينه قال يا رجل كقول موسى عليه السلام ثوبي حجر ثوبي حجر وهذا المنادى المعين يشير اليه الداعي المنادي فيقصده بعينه بخلاف المطلق الذي يدل عليه لفظ النكرة كقوله رجلا خذ بيدي فانه هنا لم يشر الى شيء بعينه فهذا التعريف

بالنداء انما هو يتعين في الباطن بقصد الداعي وفي الظاهر باشارته والمنادي الداعي ونحوه من ذوي الطلب والاستدعاء او المخبر المحدث قد يشير اشارة ظاهرة الى المنادي وغيره من المقصودين اما لتعريف المخاطبين اذا لم يعرفوا المعين الا بذلك مثل من ينادي رجلا بعينه في رجال فيقول يا رجل او يا هذا او يا زيد ويكون هناك جماعة اسمهم زيد ولا بد أن يشير اليه اما بتوجيه وجهه نحوه او بعينه او براسه أو يده أو غير ذلك وتارة يشير توكيدا وتحقيقا لخطابه وإذا كان متميزا بالاسم ولا يجوز ان يدعو احدا وتكون الاشارةخ الى غير من دعا فلا يجوز ان يقول يا زيد ويشير الى غير من قصده او يا هذا ويشير الى غير من قصده
فاذا قال الداعي اللهم وأشار برأسه او عينه او وجهه أو يده أو أصبعه لم تكن اشارته الا الى الله الذي دعاه وناداه وناجاه لا الى غيره اذ المدعو المنادى من شأن الداعي ان يشير اليه وليس هنا من يشير اليه الداعي بقوله اللهم او يا الله ونحو ذلك الا الله فهو الذي يشير اليه بباطنه وظاهره واشارته اليه بباطنه وظاهره هي قصده وصمده ذلك من معنى كونه صمدا اي يصمد العباد له واليه ببواطنهم وظواهرهم وهو من معنى كونه مقصودا مدعوا معبودا وهو من معنى الهيته فيدعونه ويقصدونه ببواطنهم وظواهرهم فكما لا يجوز ان يكون القصد بالقلب اذا قالوا يا الله لغيره بل هو المقصود بالباطن فكذلك هو ايضا المقصود بالظاهر اذا قالوا ي الله وأشاروا بظواهرهم بحركة ظاهرة بالاشارة اليه والتوجه نحوه وقصده كحركة بواطنهم بالاشارة اليه والتوجه نحوه وقصده لكن الظاهر تبع للباطن ومكمل له فمن دفع هذه الاشارة اليه فهو كدفع الاشارة اليه بالقلب وذلك دفع لقصده الدافع لدعائه المتضمن لدفع عبادته ولكونه صمدا

فهؤلاء المعطلة حقيقة قولهم منع أن يكون صمدا مدعوا معبودا مقصودا كما أن حقيقة قولهم منع أن يكون في نفسه حقا صمدا موجودا فقولهم مستلزم لعدم نفسه وتعطيله ولعدم معرفته وعبادته وقصده وان كانوا من وجه آخر يقرون بوجوده وعبادته ودعائه وقصده اذ ليسوا معطلين مطلقا بل جامعين بين الاقرار والانكار والاثبات والنفي ولهذا كان أهل المعرفة بالله متفقين على أنه لا يتم معرفة عبد بربه ويتم قصده له وتوجهه اليه ودعاه له الا باقراره بأنه فوق العالم وأنه باقراره بذلك تثبت الالهية في قلبه ويصير له رب يعبده ويقصده وبدون ذلك لا يبقى قلبه مستقرا مطمئنا الى اله يعبده ويقصده بل يبقى عنده من الريب والاضطراب ما يجده من جرب قلبه في هذه الأسباب كما قال الشيخ ابو جعفر الهمداني ما قال عارف قط يا الله الا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو لا تلفت يمنة ولا يسرة
وكذلك المخاطب له بمثل قوله اياك نعبد واياك نستعين هو مثل الداعي بقوله اهدنا الصراط المستقيم فان الخطاب كله سواء كان بالأسماء المضمرة منفصلها ومتصلها مرفوعها ومنصوبها ومخفوضها كقوله انت ربي وأنا عبدك وقوله اياك نعبد وقوله اسلمت نفسي اليك ووجهت وجهي اليك وفوضت امري اليك وقوله خلقتني ورزقتني وقوله نستعينك ونستهديك ونستغفرك
الوجه العشرون أن كون الرب الها معبودا يستلزم أن يكون بجهة من عابده بالضرورة وذلك ان العبادة تتضمن قصد المعبود وارادته وتوجه القلب اليه وهذا امر يحسه الانسان من نفسه في جميع مراداته ومقصوداته ومطلوباته ومحبوباته التي قصدها وأحبها وطلبها دون قصده وحبه وطلبه للآلهة كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله

والانسان يحس من نفسه أنه اذا قصد شيئا او احبه غير نفسه فلا بد وان يكون بجهة منه وانه اذا قيل له اقصد او اطلب او اعبد أو احب من لا يكون بجهة منك ولا هو فيك ولا فوقك ولا تحتك ولا أمامك ولا وراءك ولا عن يمينك ولا عن شمالك كان هذا امرا بالممتنع لذاته ليس هو امرا بممكن لا يطيقه والممتنع لذاته يمتنع الأمر الشرعي به باتفاق المسلمين ويكون حقيقة الأمر اعبد من يمتنع ان تعبد واقصد من يمتنع ان تقصد وادع من يمتنع ان يدعى ووجه وجهك الى من يمتنع التوجه اليه وهذا امر بالجمع بين النقيضين
وقد ذكرنا نظير هذا غير مرة وبينا ان قول الجهمية يستلزم الجمع بين النقيضين وان يكون موجودا معدوما معبودا غير معبود مأمورا بعبادته منهيا عنها فحقيقته امر بعبادة العدم المحض والنفي الصرف وترك عبادة الله سبحانه وهذا رأس الكفر وأصله وهو لازم لهم لزوما لا محيد عنه واذا كان فيه ايمان لا يقصد ذلك لكن الذي ابتدع هذا النفي ابتداءا وهو عالم بلوازمه كان من أعظم المنافقين الزنادقة المعطلين للصانع ولعبادته ودعائه
ولهذا تجد هذا السلب انما يقع كثيرا من متكلمي الجهمية الذين ليس فيهم عبادة لله ولا انابة اليه وتوجه اليه وان صلوا صلوا بقلوب غافة وان دعوه دعوه بقلوب لاهية لا تتحقق قصد المعبود المدعو فانها متى صدقت في العبادة والدعاء اضطرت الى قصد موجود يكون بجهة منها فتنتقل حينئذ الى حال عبادة الجهمية فتجعله في كل مكان او الوجود المطلق ويتوجه بقلبه الى الجهات الست فبينما كان في نفيه عن الجهات الست صار مثبتا له في الجهات الست وهذا حال الجهمية دائما يترددون بين هذا النفي العام المطلق وهذا الاثبات العام المطلق وهم في كلاهما حائرون ضالون لا يعرفون الرب الذي امروا بعبادته

وكل من جرب نفسه وامتحنها من المؤمنين علم من نفسه علما يقينيا ضروريا يجده من نفسه كما يجد حبه وبغضه ورضاه وغضبه وفرحه وحزنه انه متى صدق في عبادة الله ودعائه والتوجه اليه بقلبه لزم ان يقصده بجهة منه فان كان على فطرته التي فطر عليها او ممن هو مع ذلك مؤمن بما جاءت به الرسل قصد الجهة العالية وان كان ممن غيرت فطرته قصد الجهات كلها وقصد كل موجود فلهذا قال الشيخ ابو جعفر الهمداني لأبي المعالي ما قال عارف قط ي الله الا وجد من قلبه ضرورة تطلب الجهة العالية لا تلتفت يمنة ولا يسرة
فتبين ان قوله اياك نعبد واياك نستعين بل وقوله اهدنا الصراط المستقيم لا يصدق في قول ذلك الا من يقر ان الله فوقه ومن لم يقر بذلك يكون فيه نفاق عنده قصد بلا مقصود وعبادة بلا معبود حقيقي وان كان مثبتا له من بعض الوجوه لكن قلبه لا يكون مطمئنا الى انه يعبده
يوضح ذلك ان عبادة القلب وقصده وتوجهه حركة منه وحركة الانسان بل كل جسم لا يكون الا في جهة اذ الحركة مستلزمة للجهة وتقدير متحرك بلا جهة كتقدير حركة بلا متحرك وهذا مما لا نزاع فيه بين العقلاء لكن غلاة المتفلسفة قد يزعمون ان القلب والروح ليس جسما وانه لا داخل البدن ولا خارجه وهذا معلوم فساده بالحس والعقل والسمع كما قد بيناه في غير هذا الموضع وغلاة المتكلمين يزعمون ان الروح انما هو عرض من اعراض البدن ليست شيئا ينمارق البدن ويقوم بنفسه وهذا ايضا فاسد في الشرع والعقل كما بيناه في غير هذا الموضع واذا عرف فساد القولين علم ان الروح التي فينا جسم يتحرك ثم نقول القلب الذي هو مضغة يحس الانسان من نفسه بصمود وارتفاعه الى فوق عند اضطراره الى الله تعالى

الوجه الحادي والعشرون قوله في نهايته الاشارة الى فوق سببها الالف والعادة وجريان الناس على ذلك وقد ذكر مستند هذه العادة أنه مستند فاسد
يقال هذه المقدمة تقرر بوجوه
احدها ان ذلك يستلزم علما ضروريا بأن مدعوهم فوق كما تقدم من انهم يجدون هذا العلم الفطري الضروري وانهم يخبرون بألسنتهم انهم يجدونه وان افعالهم واقوالهم تدل على انهم يجدونه وهذا العلم يلزم نفوسهم لزوما لا يمكنهم الانفكاك عنه اعظم من لزوم العلم الضروري بالأمور الحسابية والطبيعية مثل كون الواحد ثلث الثلاثة وان الجسم لا يجتمع في مكانين وذلك ان ذلك علم مجرد ليسوا مضطرين اليه بل قد لا يخطر ذلك ببال احدهم وأما هذا العلم فهم مع كونهم مضطرين اليه هم مضطرون الى موجبه ومقتضاه وهو الدعاء والسؤال والذل والخضوع للمدعو المعبود الذي هو فوق فهم مضطرون الى العلم والى العمل الذي يتبع هذا العلم وهو السؤال والطلب وان كان فيهم من يكون عند ظنه الاستغناء ويحمله الاستكبار على الأعراض عن هذا العلم والاعتراف والطلب والارادة والدعاء او يحمله عليه اعتقاد فاسد او عادة فاسدة فهذا لا يخرجه عن ان يكون ضروريا فان هذا من اعظم السفسطة التي يدعو اليها أهل التقليد للآباء وطلب العلو والفساد في الأرض ومن المعلوم انه مع قوة الصارف المعارض للداعي لا يكون حاله كحال الداعي الذي لم يعارضه صارف
وما ذكر من مبادىء العلم الحسابي والطبيعي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وان الجسم لا يكون في مكانين ونحو ذلك ليس الداعي الى هذا العلم قويا في النفوس ولا الصارف عنه قويا في النفس ولهذا تجد عامة من يصير هذا العلم

قائما بنفسه من عنده نوع نظر وبحث فيما يتعلق بذلك وتجد الحاجة لمثل هذا النوع فساد خاص في عقله او غرض خاص وأما العلم الالهي فهو أجل واشرف فانه ضروري لبني آدم علما وارادة فطروا على ذلك موجود هذا العلم والأرادة الضروريتين في أنفسهم اكثر وأكثر من وجود ذلك والمعارض لهذا لا بد وأن يكون قويا اما اعتقاد فاسد كاعتقاد الجهمية المتأولين الذين لم يكابروا العقل وليس لهم غرض في خلاف الدين واما ارادة فاسدة قوية كارادة فرعون وقومه الذين قال الله فيهم وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال له موسى لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السموات والأرض بصائر وهذه الارادة الفاسدة هي الهوى الذي يصد عن معرفة الحق وهو مرض في القلب يمنعه ما فطر عليه من صحة الادراك والحركة كما يمنع مرض العين ما فطرت عليه من صحة الادراك والحركة وكذلك المرض في سائر الأعضاء فهؤلاء الذين لا يجدون في انفسهم علما ضروريا وقصدا ضروريا لمن هو فوق العالم قد مرضت قلوبهم وفسدت فطرتهم ففسد احساسهم الباطن كما يفسد الاحساس الظاهر مثل المرة التي تفسد الذوق والحول والعشي الذي يفسد البصر وغير ذلك ولهذا انما يكون الاعتبار في هذا بذوي الفطر السليمة من الفساد والاحالة
فان قيل قد تكرر ما ذكرتموه من كون الناس مضطرين الى الاقرار بأن صانع العالم فوق ولا ريب ان هذا قد قاله طوائف كثيرة من أهل الكلام والحديث والفقه والتصوف وهو من أشهر حججهم وادلتهم عند خاصتهم وعامتهم لكن هذا مستلزم أن يكون الاقرار بالصانع فطريا ضروريا فانه اذا كان الاقرار بعلوه فطريا ضرويا فالاقرار به نفسه اولى ان يكون فطريا ضروريا لان العلم بالموصوف لا يجوز أن يتأخر عن العلم بالصفةخ والعلم بالقضية المرادية

لا يجوز ان يتأخر عن العلم بفردها فاذا كان العلم بمضمون قولنا هو فوق علما ضروريا فالعلم به وبمعنى فوق أولى أن يكون ضروريا وليس الأمر كذلك فان الأقرار بالصانع انما هو معلو بالنظر والاستدلال كا هو مشهور عند العلماء النظار ولهذا تنازعوا في اول الواجبات هل العل نفسه او النظر المفضي اليه على قولين وان كان النزاع قد يقال انه لفظي لكون العلم واجبا لنفسه والنظر واجبا وجوب الوسائل التي تجب لغيرها وهذا نزاع مشهور في عامة الطوائف وهو قولان لاصحاب الامام احمد وغيرهم
قيل له من الناس من قد يقول في مثل هذا أن العلم بالتصديق والقضية المؤلفة اذا كان بديهيا ضروريا فقد يكون ذلك لكون تصور المفردين بديهيا وهذا هو البديهي تصورا وتصديقا وقد يكون تصور المفردين كسبيا نظريا ولكن بعد حصول تصورهما يكون العلم بنسبة احدهما الى الأخر بديهيا ضروريا لا يفتقر الى وسط بينهما يكون دليلا على المطلوب واذا كان كذلك لم يجب اذا كان العلم بأنه فوق بديهي ضروري أن يكون العلم بمعناه وبمعنى فوق بديهيا ضروريا لكن هذا القول لم يجب به لأن القائلين بأن العلم بهذا بديهي ضروري قالوا انه فطري لبني آدم بدون نظر قياسي يكون سابقا على هذا العلم فهم جعلوه من الفطري الضروري البديهي المطلق
ولأن البديهي للتصديق دون التصور انما يقف على ما يحصل به تصور المفردين لا يقف على ما يحصل به وجود المفردين في الخارج فهب أن العلم بمسمى اسم الله فطري لكن العلم بوجوده هو أيضا علم بتصديق كالعلم بعلوه ولأن دعوى كون التصور مطلوبا يعلم بالحدود باطل كما بيناه في غير هذا الموضع

وبيتا ان الحدود لا تفيد الا لتمييز بين المحدود وغيره لا تفيد المستمع تصور ما لم يتصوره بدونها وأن التصورات لو لم تعلم الا بالحدود لأفضى الى الدور ولأن الحاد يجب أن يتصور المحدود قبل أن يحده وان الحد من باب الاقوال والعبارة والقول لا يفيد المستمع ان لم يكن متصورا لمفردات الكلام قبل ذلك بنفسها او بنظيرها اذ العلم بالمعنى الذي قصده المخاطب يفتقر الى العلم بأن اللفظ دال على المعنى موضوع له والعلم بكون اللفظ موضوعا للمعنى يقف على العلم بالمعنى وباللفظ فلا يجوز ان يكون تصور ذلك المعنى مستفادا من اللفظ الذي لا يدل الا بعد أن يعلم المعنى وأن اللفظ موضوع له ودال عليه ولان المعرف للمفرد بالقول اما أن يعرفه بلفظ مفرد مطابق له وهو الاسم او يعرفه بذكر صفة مخصوصة به ولفظ تلك الصفة بمنزلة الاسم في العموم والخصوص كالناطق والانسان واما أن يعرفه بذكر الخاص بعد العام فتصور العام وشموله لتلك الأفراد مسبوق بتصور تلك الأفراد فلو كان تصور تلك الأفراد مستفادا من العام لزم الدور اذ علم المتكلم والمستمع بأن الانسان حيوان مسبوق بتصور الانسان والحيوان اذ لا يعلم أن الانسان حيوان الا من يعلم الانسان ولا يعلم ان الحيوان جسم الا من يعلم الحيوان والجسم فلو كانت معرفة الانسان لا تستفاد الا بعد معرفة الحيوان ومعرفة الحيوان لا تعلم الا بعد معرفة مفرداته التي يوصف بها لزم الدور وذلك أن الأجناس الكلية لا وجود لها كلية الا في الأذهان والذهن انما يجردها اذا أحس بها معينة موجودة مشخصة في الخارج لكن يقال انه قد ينتزعها من بعض الأعيان مثل ان يتصور الحيوان من جهة معرفته بالفرس ولا يتصور كون الانسان هو أيضا كذلك فيقال له ذلك المعنى الذي يوصف به الفرس يكون نظيره للأمر الذي يحد لك وهو الانسان لكن هذا أيضا يلزم الدور فانه ليس علم الانسان بانطباق بعض الانواع بأنه حيوان أولي من العلم بانصاف النوع الآخر به

وأهل هذه الحدود لا يقولون المحدود هو نوع الانسان دون الفرس ولا بالعكس بل الحدود لهذه الأنواع كلها سواء بل علم الانسان عندهم بنفسه وبنوعه وبصفاته هي عنده اسبق واظهر من علمه بصفات غيره ن الأنواع وبالجملة فليس موضع هذا وانما المقصود هنا أنا لا نجيب بذلك الجواب بل نقول هب أن العلم بأنه فوق اذا كان فطريا ضرويا أولى فأي محذور في ذلك
قوله المشهور عند النظار أن العلم بالصانع انما يحصل بالنظر والاستدلال وهو ترتيب الأقيسة العقلية
يقال له ليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا ائمتها ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين ولا هو قول كل المتكلمين ولا غالبهم بل هذا قول محدث في الاسلام ابتدعه متكلمو المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم وقد نازعهم في ذلك طوائف من المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم وقالوا بل الاقرار بالصانع فطري ضروري بديهي لا يجب ان يتوقف على النظر والاستدلال بل قد يقولون يمتنع ان يحصل بالقياس والنظر وهذا قول جماهير الفقهاء والصوفية واهل الحديث والعامة وغيرهم بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على ان معرفة الله والاقرار به لا يقف على هذه الطرق التي يذكرها اهل طريقة النظر بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلا عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف الا بالطريقة المشهورة له من اثبات حدوث العالم بحدوث صفاته مع دعواهم أن الله لا يعرف الا بهذه الطريقة وهذه مسألة عظيمة ليس هذا موضع بسطها وقد بسطناها في غير هذا الموضع
وياق ان أصل المعرفة والاقرار بالصانع لا يقف على النظر والاستدلال بل يحصل بديهة وضرورة ولهذا يقر بالصانع جميع الأمم مع عظيم شركهم

وكفرهم وأنهم لا يسلكون من هذه الطرق المشهورة عند النظار مثل الاستدلال بالحدوث على المحدث وبالامكان على الواجب ولهذا يوجد له عند كل أمة اسم يسمونه والتسمية مسبوقة بالتصور فلا يسمى أحد الا ما عرفه ثم المستمع لذلك الاسم يقبل بفطرته ثبوت المسمى به من غير طلب حجة على وجوده ويكون قبولها لذلك كقبولها لأسماء سائر ما أدركه بحسه وعقله مثل الشمس والقمر والواحد والاثنين بل هذا أكمل واشرف ودلائل هذا كثيرة ليس هذا موضعها
ومع هذا فالطرق النظرية تفيد العلم والمعرفة ولا منافاة بين كون الشيء يعلم بالبديهة والضرورة ويكون عليه أدلة وهي نوعان
احدهما الآيات كما يذكر الله ذلك في القرآن والآية هي دليل عليه بعينه لا تدل على قدر مشترك بينه وبين غيره منفس الكائنات وما فيها وهو عين وجودها في الخارج مستلزم لوجود الرب وهو آية له ودليل عليه وشاهد بوجوده بعينه لا قدر مشترك بينه وبين غيره
الثاني ضرب الأمثال والقياس وهو نوعان أحدهما قياس الأولى والأخرى فهذا أيضا مما يذكره الله في القرآن لكن عامة ما يستعمل هذا في صفاته كاثبات وحدانيته في الهيته وقدرته ونحو ذلك
والثاني الأقيسة المطلقة اقيسة الشمول المنطقية واقيسة التمثيل وهذه التي يسلكها هؤلاء النظار المتكلمون من المتفسلفة ومتكلمي أهل الملل وهي اضعف الطرق وأقلها فائدة وطريقة المتكلمين أجود فانهم يثبتون بها ان للعالم محدثا وأما المتفلسفة فما يثبتون أولا الا وجودا واجبا ليس فيه انه صانع العالم ولا باريه ثم ان كلا من الصنفين لا بد أن يستعمل طريقته قضية كلية مثل

قول أولئك العالم محدث او العالم فيه حوادث من جواهر وصفات وغير ذلك وكل محدث فلا بد له من محدث فان هذه قضية كلية وهي مع كونها معلومة بالبديهة والضرورة فقد يثبتها كثير من المعتزلة بقياس التمثيل وهو القياس على محدثات الآدمي من الدور والبنيان
ومن المعلوم أن علم الانسان بأن كل محدث لا بد له من محدث هو علم يندرج فيه أن هذا المحدث لا بد له من محدث وهذا المحدث لا بد له من محدث ومن المعلوم أن علمه بهذه الأفراد المعينة أسبق الى حسه وعقله من علمه بهذه القضية الكلية العامة كما في نظائر ذلك كما أن علمه هذا الانسان يحس ويلتذ ويتألم قبل علمه بأن كل انسان يحس ويلتذ ويتألم اذ الأمور الموجودة الحسية يكون العلم بها قبل أن يعقل عامة كلية واذا كان كذلك فعلم الانسان بأن هذا المحدث الذي علم حدوثه كما يشهده من الحوادث او يعلم حدوثه بدليل او قياس علمه بأن هذا المحدث لا بد له من محدث لا يحتاج الى أن يعلم قبل ذلك أن كل محدث فلا بد له من محدث فلا يحتاج في العلم بالمحدث الى هذه القضية الكلية والقياس المشتمل عليها وان كان ذلك أيضا من جملة الأقيسة والأمثال المضروبة التي يثبت بها ذلك لكن ينبغي أن يكون على وجه أالأولى بأن يقال اذا كان هذا المحدث الصغير لا بدل له محدث فهذا المحدث الكبير أولى
وأيضا فنحن لم نشهد محدثا تاما مطلقا اذ لا محدث تام على الحقيقة الا الله سبحانه فظن من ظن من المعتزلة أنه انما يعرف ان المحدث يفتقر الى محدث الا بالقياس على احداث الآدميين غلط وذلك أن حكم الاصل أضعف من حكم الفرع فان الانسان وان زعموا انه يحدث تصرفاته فلا ريب انه يفتقر فيما يبنيه وينسجه الى آلة خارجة عن قدرته فليس هو نظير حكم الفرع بل يستعمل قياس الأولى ليعلم ان حكم الفرع أقوى وأحق

وكذلك قول القائل ان الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر الا بمرجح قضية كلية مضمونها أن جميع الممكنات وهي التي لا تستحق بنفسها الوجود ولا يمتنع عليها العدم فلا تكون موجوده الا بمرجح لكن العلم بها ليس باسبق ولا بأظهر من العلم بافرادها فان الانسان متى تصور أن الشيء الفلاني لا يستحق الوجود في نفسه ولا يمتنع أن ذلك الشيء الفلاني لا يوجد بنفسه بل نفس تصور الممكن يوجب هذا العلم فانه اذا قيل الشيء يجوز وجوده من غيره والشان انما هو في تعيين الأمور التي هي ممكنة وهذا قد يعلم بالحدوث المشهود او المستدل عليه فتكون طريقتهم تابعة لطريقة الأولين واما علم ذلك بغير هذه الطريق ففيها من الخفاء والنزاع ما ليس هذا موضعه
ولهذا كثر في هؤلاء من يجحد الصانع مع اقراره بوجود واجب ثم مع ذلك فأؤلئك انما يستفيدون بطريقهم العلم بالقدر المشترك بينه وبين سائر المحدثين اذ القضية الكلية لا تدل الا على القدر المشترك فيكونوا قد علموا من احداثه ما علموه من احداث سائر الحيوانات حتى البعوضة ومعلوم أن هذا علم قليل نزر بما يستحقه الرب ولم يعلموا من احداث ربهم الا ما اشركوا به فيه جميع الحيوانات فيكونون أبعد عن معرفة الله تعالى من المشركين الذين قال فيهم وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون
ونحن نعلم أن المحدث تعظم قدرته وفعله الأمر المحدث كما يعلم أن باني الدار العظيمة وناسج الثوب العظيم اعظم من باني الدار الصغيرة وناسج الثوب الصغير لكن القضية الكلية التي ذكروها تفيد أنه أعظم من سائر المحدثين

بقدر عظمة العالم على جميع مصنوعات اولئك وهذا بعض ما يستحقه الرب من التعظيم وعدم المماثلة لكن نفس الاحداث ايضا فيه من التفاوت اعظم من هذا التفاوت فما احدثه الرب وان كان اعظم فنفس احداثه ايضا اعظم وهو ليس من جنس احداث المخلوقين وما ذكروه من القياس لا يفيد هذا الا بدليل آخر اذ القضية الكلية لا تدل الا على القدر المشترك ثم قياسهم يدل على ذات ما موصوفة بهذاه الاحداث
ففي الجملة ليس في هذا القياس علم بخصوص الربوبية ولهذا كان ما ورد به القرآن من كونه رب العالمين وخالق كل شيء ونحو ذلك له من الربوبية على هذا ما لم يتسع هذا الموضع لذكره اذ غيره ليس ربا مطلقا ولا خالقا مطلقا ايضا فكان ما اثبته له من فعل العالم أثبته على الوجه المختص به لم يثبته باسم لا يفيد الا القدر المشترك كما فعله هؤلاء الذين قاسوا احداثه على احداثهم وأما الآخرون فانما يستفيدون الاقرار بوجود واجب الوجود قدرمشترك بينه وبين سائر الموجودات فكان معلوم هذا أبعد عن معرفة الله وما يخصه من معلوم اولئك اذ كونه محدثا فيه تعرض لربوبيته وفعله وان كانوا قد اشركوا بينه وبين الحيوانات وأما هؤلاء فانهم اشركوا بينه وبين سائر الموجودات باثبات وجوده ثم تمييزه بكون وجوده واجبا كتميز أولئك بأنه محدث العالم ولا ريب أن تمييز هؤلاء اجود فان كونه محدث العالم مستلزم غناه ووجوده بنفسه وأما العلم بمجرد كونه موجودا بنفسه فلا يفيد العلم بأنه صانع العالم ولا بأنه رب السموات والأرض ولا يفيد أيضا العلم بمغايرته لشيء من الموجودات التي لم يعلم حدوثها اذ كون وجوده واجبا لا ينفي بنفسه أن يكون بعض الذوات التي ليست محدثة ثم اذا قرروا أن الاجسام كلها ممكنة أو أن السموات والأرض كلها ممكنة وواجب الوجود غيرها او قرروا أن واجب الوجود

لا يكون اثنين لم يستفيدوا بذلك الا مجرد ان الوجود المشترك بينه وبين غيره وجد بنفسه ولم يحتج الى فاعل فيكونون قد مثلوه بسائر الموجودات ولكن فرقوا بينه وبينها بالغنى عن الغير فقط وهذا الوصف قد يزعمون انه عدمي وقد يزعمون أنه اضافي وعلى هذين التقديرين فلا يكونون اثبتوا لرب العالمين الا ما أثبتوه لسائر الموجودات وهذا يجمع كل شرك في العالمين وان زعموا أنه ثبوتي نقضوا ما أثبتوه وحده واجب الوجود بحيث اثبتوا لواجب الوجود امرين ثبوتيين وهذا باب واسع يطول الكلام فيه
فظهر أن قيستهم قد يستغنى عنها كما قد يتفطن بها بعض الناس لما كان ذاهلا عنه لكن مع امكان ان يتفطن بدونها ومع ذلك فلا تفيد المعرفة الضرورية التي تحصل بالفطرة او بالآيات او بقياس الأولى فضلا عن أن تفيد المعرفة التي تحصل بعد ذلك بالشرعة لكن تفيد نوعا من المعرفة الفاجرة وتبطل ما يقابل ذلك من النكرة والجهل والكفر فتثبت شيئا من الاقرار بالصانع وتمنع شيئا من الانكار له وأما أن تفيد ما تفيده الآيات المشهوده والمسموعة وما في ضمن ذلك من الأمثال المضروبة التي مبناها على ألأولوية
وقد نقلوا عن أساطين الفلاسفة القدماء انهم قالوا العلم الالهي لا سبيل فيه الى اليقين وانما نتكلم بالأولى والأخلق والأحرى وحملوا ذلك على أنهم ارادوا انه ليس فيه الا الظن الغالب فان كانوا ارادوا هذا فناهيك بهذا الافلاس من معرفة الله تعالى ولكن يحتمل أنهم ارادوا أن اليقين الذي يستفاد بالمقاييس الشمولية والتمثيلية المستعملة في الموجودات لا توجد في حق الله تعالى لكن هؤلاء احق واولى واحرى بما يثبت من صفات الكمال وبما ينفي من صفات النقص

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8