كتاب : مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

ومن تأمل احوال ائمة الاسلام كأئمة الحديث والفقه كيف هم تحت التراب وهم في العالمين كانهم احياء بينهم لم يفقدوا منهم الا صورهم والا فذكرهم وحديثهم والثناء عليهم غير منقطع وهذه هي الحياة حقا حتى عد ذلك حياة ثانية كما قال المتنبي
ذكر الفتى عيشه الثاني وحاجته ... ما فاته وفضول العيش اشغال
قوله وصنيعة المال تزول بزواله يعني ان كل صنيعة صنعت للرجل من اجل ماله من إكرام ومحبة وخدمة وقضاء حوائج وتقديم واحترام وتولية وغير ذلك فإنها إنما هي مراعاة لما له فإذا زال ماله وفارقه زالت تلك الضائع كلها حتى إنه ربما لا يسلم عليه من كان يدأب في خدمته ويسعى في مصالحه وقد اكثر الناس من هذا المعنى في اشعارهم وكلامهم وفي مثل قولهم من ودك لأمر ملك عند انقضائه قال بعض العرب
ومن هذا ما قيل إذا اكرمك الناس لمال او سلطان فلا يعجبنك ذلك فإن زوال الكرامة يزوالهما ولكن ليعجبك ان اكرموك لعلم او دين وهذا امر لا ينكر في الناس حتى انهم ليكرمون الرجل لثيابه فإذا نزعها لم ير منهم تلك الكرامة وهو هو قال مالك بلغني ان أبا هريرة دعى إلى وليمة فأتى فحجب فرجع فلبس غير تلك الثياب فادخل فلما وضع الطعام ادخل كمه في الطعام فعوتب في ذلك فقال إن هذه الثباب هي التي ادخلت فهي تأكل حكاه ابن مزين الطليطلي في كتابه وهذا بخلاف صنيعة العلم فانها لا تزول ابدا بل كل مآلها في زيادة مالم يسلب ذلك العالم علمه وضيعه العلم والدين اعظم من صنيعة المال لانها تكون بالقلب واللسان والجوارح فهي صادرة عن حب وإكرام لاجل ما أودعه الله تعالى أياه من علمه وفضله به على غيره وأيضا فصنيعة العلم تابعة لنفس العالم وذاته وصنيعة المال تابعة لماله المنفصل عنه وأيضا فصنيعة المال صنيعة معاوضة وصنيعه العلم والدين صنيعة حب وتقرب وديانة وأيضا فصنيعه المال تكون مع البر والفاجر والمؤمن والكافر واما صنيعة العلم والدين فلا تكون الا مع اهل ذلك وقد يراد من هذا ايضا معنى آخر وهو ان من اصطنعت عنده صنيعة بمالك إذا زال ذلك المال وفارقه عدمت صنيعتك عنده واما من اصطنعت إليه صنيعة علم وهدى فإن تلك ا لصنيعة لا تفارقه ابدا بل ترى في كل وقت كأنك اسديتها إليه حينئذ قوله مات خزان الاموال وهم احياء تقدم بيانه وكذا قوله والعلماء باقون ما بقي الدهر وقوله اعيانهم مفقودة وامثالهم في القلوب موجودة المراد بامثالهم صورهم العلمية ووجودهم المثالي أي وان فقدت ذواتهم فصورهم وامثالهم في القلوب لا تفارقها وهذا هو الوجود الذهني العلمي لان محبة الناس لهم واقتداءهم بهم وانتفاعهم بعلومهم

يوجب ان لا يزالوا نصب عيونهم وقبلة قلوبهم فهم موجودون معهم وحاضرون عندهم وان غابت عنهم اعيانهم كما قيل
ومن عجب اني احن اليهم ... واسال عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين اضلعي وقال آخر
ومن عجب ان يشكو البعد عاشق ... وهل غاب عن قلب المحب حبيب خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب قوله آه إن ها هنا علما واشار إلى صدره يدل على جواز اخبار الرجل بما عنده من العلم والخير ليقتبس منه ولينتفع به ومنه قول يوسف الصديق عليه السلام اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم فمن اخبر عن نفسه بمثل ذلك ليكثر به ما يحبه الله ورسوله من الخير فهو محمود وهذا غير من اخبر بذلك ليتكثر به عند الناس ويتعظم وهذا يجازيه الله بمقت الناس له وصغره في عيونهم والاول يكثره في قلوبهم وعيونهم وإنما الاعمال بالنيات وكذلك إذا اثنى الرجل على نفسه ليخلص بذلك من مظلمة وشر او ليستوفى بذلك حقا له يحتاج فيه إلى التعريف بحاله او ليقطع عنه اطماع السفلة فيه اوعند خطبته إلى من لا يعرف حاله و الاحسن في هذا ان يوكل من يعرف به وبحاله فإن لسان ثناء المرء على نفسه قصير وهو في الغالب مذموم لما يقترن به من الفخر والتعاظم ثم ذكر اصناف حملة العلم الذين لايصلحون لحمله وهم اربعة احدهم من ليس هو بمأمون عليه وهو الذي اوتى ذكاء وحفظا ولكن مع ذلك لم يؤت زكاء فهو يتخذ العلم الذي هو آلة الدين آلة الدنيا يستجلبها به ويتوسل بالعلم اليها ويجعل البضاعة التي هي متجر الآخرة متجر الدنيا وهذا غير امين على ما حمله من العلم ولا يجعله الله إماما فيه قط فإن الامين هو الذي لاغرض له ولا إرادة لنفسه الا اتباع الحق وموافقته فلا يدعو إلى إقامة رياسته ولا دنياه وهذا الذي قد اتخذ بضاعة الآخرة ومتجرها متجرا للدنيا قد خان الله وخان عباده وخان دينه فلهذا قال غير مأمون عليه وقوله يستظهر بحجج الله على كتابه وبنعمه على عباده هذه صفة هذا الخائن إذا انعم الله عليه استظهر بتلك النعمة على الناس وإذا تعلم علما استظهر به على كتاب الله ومعنى استظهاره بالعلم على كتاب الله تحكيمه عليه وتقديمه وإقامته دونه وهذه حال كثير ممن يحصل له علم فإنه يستغنى به ويستظهر به ويحكمه ويجعل كتاب الله تبعا له يقال استظهر فلان على كذا بكذا أي ظهر عليه به وتقدم وجعله وراء ظهره وليست هذه حال العلماء فإن العالم

حقا يستظهر بكتاب الله على كل ما سواه فيقدمه ويحكمه ويجعله عيارا على غيره مهيمنا عليه كما جعله الله تعالى كذلك فالمستظهر به موفق سعيد والمستظهر عليه مخذول شقي فمن استظهر على الشيء فقد جعله خلف ظهره مقدما عليه ما استظهر به وهذا حال من اشتغل بغير كتاب الله عنه واكتفى بغيره منه وقدم غيره واخره والصنف الثاني من حملة العلم المنقاد الذي لم يثلج له صدره ولم يطمئن به قلبه بل هو ضعيف البصيرة فيه لكنه منقاد لأهله وهذه حال اتباع الحق من مقلديهم وهؤلاء وإن كانوا على سبيل نجاة فليسوا من دعاة الدين وإنما هم من مكثري وسواد الجيش لا من امرائه وفرسانه والمنقاد منفعل من قاده يقوده وهو مطاوع الثلاثي واصله منقيد كمكتسب ثم اعلت الياء الفا لحركتها بعد فتحة فصارمن قادت تقول قدته فانقاد أي لم يمتنع والاحناء جميع حنو بوزن علم وهي الجوانب والنواحي والعرب تقول ازجر احناء طيرك أي امسك نواحي خفتك وطيشك يمينا وشمالا واماما وخلفا قال لبيد
فقلت ازدجر احناء طيرك واعلمن ... بانك ان قدمت رجلك عاثر والطير هنا الخفة والطيش وقوله ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة هذا لضعف علمه وقلة بصيرته إذا وردت على قلبه ادنى شبهة قدحت فيه الشك والريب بخلاف الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد امواج البحر ما ازالت يقينه ولا قدحت فيه شكا لانه قد رسخ في العلم فلا تستفزه الشبهات بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة والشبهة وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له فمتى باشر القلب حقيقة العلم لم تؤثر تلك الشبهة فيه بل يقوى علمه ويقينه بردها ومعرفة بطلانها ومتى لم يباشر حقيقة العلم بالحق قلبه قدحت فيه الشك بأول وهلة فان تداركها والا تتابعت على قلبه امثالها حتى يصير شاكا مرتابا والقلب يتوارده جيشان من الباطل جيش شهوات الغي وجيش شبهات الباطل فأيما قلب صغا اليها وركن اليها تشربها وامتلأ بها فينضح لسانه وجوارحه بموجبها فإن اشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والايرادات فيظن الجاهل ان ذلك لسعة علمه وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه وقال لي شيخ الاسلام رضى الله عنه وقد جعلت اورد عليه غيرادا بعد إيراد لات جعل قلبك للايرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح الا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فاذا اشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات او كما قال فما اعلم اني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك وإنا سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها فانها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل وأكثر الناس اصحاب حسن ظاهر فينظر الناظر فيما البسته من اللباس فيعتقد صحتها واما صاحب العلم واليقين

فانه لا يغتر بذلك بل يجاوز نظره إلى باطنها وماتحت لباسها فينكشف له حقيقتها ومثال هذا الدرهم الزائف فإنه يغتر به الجاهل بالنقد نظرا إلى ما عليه من لباس الفضة والناقد البصير يجاوز نظره إلى ما وراء ذلك فيطلع على زيفه فاللفظ الحسن الفصيح هو للشبهة بمنزلة اللباس من الفضة على الدرهم الزائف والمعنى كالنحاس الذي تحته وكم قد قتل هذا الاعتذار من خلق لا يحصيهم الا الله وإذا تأمل العاقل الفطن هذا القدر وتدبره رأى اكثر الناس يقبل المذهب والمقالة بلفظ ويردها بعينها بلفظ آخر وقد رايت انا من هذا في كتب الناس ما شاء الله وكم رد من الحق بتشنيعه بلباس من اللفظ قبيح وفي مثل هذا قال ائمة السنة منهم الامام احمد وغيره لا نزيل عن الله صفة من صفاته لاجل شناعة شنعت فهؤلاء الجهمية يسمون إثبات صفات الكمال لله من حياته وعلمه وكلامه وسمعه وبصره وسائر ما وصف به نفسه تشبيها وتجسيما ومن اثبت ذلك مشبها فلا ينفر من هذا المعنى الحق لاجل هذه التسمية الباطلة الا العقول الصغيرة القاصرة خفافيش البصائر وكل اهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم احسن ما يقدرون عليه من الالفاظ ومقالة مخالفيهم اقبح ما يقدرون عليه من الالفاظ ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الالفاظ من الحق والباطل ولا تغتر باللفظ كما قيل في هذا المعنى
تقول هذا جنى النحل تمدحه ... وان نشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير
فإذا اردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق او باطل فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك عن النفرة والميل ثم اعط النظر حقه ناظرا بعين الانصاف ولا تكن ممن ينظر في مقالة اصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تاما بكل قلبه ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ والناظر بعين المحبة عكسه وما سلم من هذا الا من اراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق وقد قيل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما ان عين السخط تبدي المساويا وقال آخر
نظروا بعين عداوة لو انها ... عين الرضا الاستحسنوا ما استقبحوا فإذا كان هذا في نظر العين الذي يدرك الحسوسات ولا يتمكن من المكابرة فيها فما الظن بنظر القلب الذي يدرك المعاني التي هي عرضة المكابرة والله المستعان على معرفة الحق وقبوله ورد الباطل وعدم الاغترار به وقوله بأول عارض من شبهة هذا دليل ضعف عقله ومعرفته اذ

تؤثر فيه البداآت ويستفز باوائل الامور بخلاف الثابت التام العاقل فإنه لا تستفزه البداآت ولا تزعجه وتقلقله فان الباطل له دهشة وروعة في اوله فإذا ثبت له القلب رد على عقبيه والله يحب من عنده العلم والاناة فلا يعجل بل يثبت حتى يعلم ويستيقن ما ورد عليه ولا يعجل بأمر من قبل استحكامه فالعلجة والطيش من الشيطان فمن ثبت عند صدمة البداآت استقبل امره بعلم وجزم ومن لم يثبت لها استقبله بعجله وطيش وعاقبته الندامة وعاقبة الاول حمدامره ولكن للأول آفة متى قرنت بالحزم والعزم نجا منها وهي الفوت فإنه لا يخاف من التثبيت الا الفوت فإذا اقترن به العزم والحزم تم امره ولهذا في الدعاء الذي وراه الامام احمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه و سلم اللهم اني اسالك الثبات في الامر والعزيمة على الرشد وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح وما اتى العبد الا من تضييعهما او تضييع احدهما فما اتى احد الا من باب العجلة والطيش واستفزاز البداآت له أو من باب التهاون والتمات وتضييع الفرصة بعد مواتاتها فإذا حصل الثبات اولا والعزيمة ثانيا افلح كل الفلاح والله ولي التوفيق الصنف الثالث رجل نهمته في نيل لذته فهو منقاد لداعي الشهوة اين كان ولا ينال درجة وراثة النبوة مع ذلك ولا ولا ينال العلم الا بهجر اللذات وتطليق الراحة قال مسلم في صحيحه قال يحيى بن أبي كثير لا ينال العلم براحة الجسم وقال إبراهيم الحربي اجمع عقلاء كل امة ان النعيم لا يدرك بالنعم ومن آثر الراحة فاتته الراحة فما لصاحب اللذات وما لدرجة وراثة الانبياء
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد فان العلم صناعة القلب وشغله فما لم تتفرغ لصناعته وشغله لم تنلها وله وجهة واحدة فإذا وجهت وجهته إلى اللذات والشهوات انصرفت عن العلم ومن لم يغلب لذة إدراكه العلم وشهوته على لذة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجة العلم ابدا فإذا صارت شهوته في العلم ولذته في كل إدراكه رجى له ان يكون من جملة اعلة ولذة العلم لذة عقلية روحانية من جنس لذة الملائكة ولذة شهوات الاكل والشراب والنكاح لذة حيوانية يشارك الانسان فيها الحيوان ولذة الشروالظلم والفساد والعلوى في الارض شيطانية يشارك صاحبها فيها ابليس وجنوده وسائر اللذات تبطل بمقارفة الروح البدن الا لذة العلم والايمان فإنها تكمل بعد المفارقة لان البدن وشواغله كان ينقصها ويقللها ويحجبها فإذا انطوت الروح عن البدن التذت لذة كاملة بما حصلته من العلم النافع والعمل الصالح فمن طلب اللذة العظمى وآثر النعيم والمقيم فهو في العلم والايمان اللذين بهما كمال سعادة الانسان وأيضا فإن تلك اللذات سريعة الزوال وإذا انقضت اعقبت هما وغما وألا يحتاج صاحبها ان يداويه بمثلها دفعا للألمه وربما كان معاودته لها مؤلما له كريها إليه لكن يحمله عليه مدواة ذلك الغم والهم فأين هذا من لذة العلم ولذة الايمان بالله ومحبته والاقبال عليه والتنعم بذكره فهذه هي اللذة الحقيقية

الصنف الرابع من حرصه وهمته في جمع الاموال وتثميرها وادخارها فقد صارت لذته في ذلك وفتى بها عما سواه فلا يرى شيئا اطيب له مما هو فيه فمن اين هذا ودرجة العلم فهؤلاء الاصناف الاربعة ليسوا من دعاة الدين ولا من ائمة العلم ولا من طلبته الصادقين في طلبه ومن تعلق منهم بشيء منه فهو من المتسلقين عليه المتشبهين بحملته وأهله المدعين لوصاله المبتونين من حباله وفتنة هؤلاء فتنة لكل مفتون فان الناس يتشبهون بهم لما يظنون عندهم من العلم ويقولون لسنا خيرا منهم ولا نرغب بأنفسنا عنهم فهم حجة لكل مفتون ولهذا قال فيهم بعض الصحابة الكرام احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون وقوله اقرب شبها بهم الانعام السائمة وهذا التشبيه مأخوذ من قوله تعالى ان هم كالأنعام بل هم اضل سبيلا فما اقصر سبحانه على تشبيههم بالانعام حتى جعلهم اضل سبيلا منهم والسائمة الراعية وشبه امير المؤمنين هؤلاء بها لان همتهم في سعي الدنيا وحطامها والله تعالى يشبه اهل الجهل والغي تارة بالانعام وتارة بالحمر وهذا تشبيه لمن تعلم علما ولم يعقله ولم يعمل به فهو كالحمار الذي يحمل اسفارا وتارة بالكلب وهذا لمن انسلخ عن العلم واخلد إلى الشهوات والهوى وقوله كذلك يموت العلم بموت حامليه هذا من قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عبد الله بن عمر وعائشة رضى الله عنهم وغيرهما ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا رواه البخاري في صحيحه فذهاب العلم إنما هو بذهاب العلماء قال ابن مسعود يوم مات عمر رضى الله عنه اني لاحسب تسعة اعشار العلم اليوم قد ذهب وقد تقدم قول عمر رضى الله عنه موت الف عابد اهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه وقوله اللهم بلى لن تخلو الارض من مجتهد قائم لله بحجج الله ويدل عليه الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تزال طائفة من امتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي امر الله وهم على ذلك ويدل عليه ايضا مارواه الترمذي عن قتيبة حدثنا حماد بن يحيى الابح عن ثابت عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل امتي مثل المطر لا يدرى اوله خير ام آخره قال هذا حديث حسن غريب ويروى عن عبدالرحمن بن مهدي انه كان يثبت حماد بن يحيى الابح وكان يقول هو من شيوخنا وفي الباب عن عمار وعبد الله بن عمرو فلو لم يكن في اواخر الامة قائم بحجج الله مجتهد لم يكونوا موصوفين بهذه الخيرية وأيضا فإن هذه الامة اكمل الامم وخير امة اخرجت للناس ونبيها خاتم النبيين لا نبي بعده فجعل الله العلماء فيها كلما هلك عالم خلقه عالم لئلا تطمس معالم الدين وتخفى اعلامه وكان بنو اسرائيل كلما هلك نبي خلفه نبي فكانت تسوسهم الانبياء والعلماء لهذه الامة كالانبياء في بني اسرائيل وأيضا ففي الحيدث الاخر يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين

وانتحال المبطلين وتاويل الجاهلين وهذا يدل على انه لا يزال محمولا في القرون قرنا بعد قرن وفي صحيح ابي حاتم من حديث الخولاني قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته وغرس الله هم اهل العلم والعمل فلو خلت الارض من عالم خلت من غرس الله ولهذا القول حجج كثيرة لها موضع آخر وزاد الكذابون في حديث على إما ظاهرا مشهورا وإما خفيا مستورا وظنوا ان ذلك دليل لهم على القول بالمنتظر وكلن هذه الزيادة من وضع بعض كذا بيهم والحديث مشهور عن علي لم يقل احد عنه هذه المقالة الا كذاب وحجج اله لا تقوم بخفي مستور لا يقع العالم له على خبر ولا ينتفعون به في شيء اصلا فلا جاهل يتعلم منه ولا ضال يهتدي به ولا خائف يأمن به ولا ذليل يتعزز به فأي حجة لله قامت بمن لا يرى له شخص ولا يسمع منه كلمة ولا يعلم له مكان ولا سيما على أصول القائلين به فإن الذي دعاهم إلى ذلك انهم قالوا لا بد منه في اللطف بالمكلفين وانقطاع حجتهم عن الله فيالله العجب أي لطف حصل بهذا المعدوم لا المعصوم وأي حجة اثبتم للخلق على ربهم باصلكم الباطل فإن هذا المعدوم إذا لم يكن لهم سبيل قط إلى لقائه والاهتداء به فهل في تكليف مالا يطاق ابلغ من هذا وهل في العذر والحجة ابلغ من هذا فالذي فررتم منه وقعتم في شر منه وكنتم في ذلك كما قيل :
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
ولكن ابي الله الا ان يفضح من تنقص بالصحابة الاخيار وبسادة هذه الامة وان يرى الناس عورته ويغريه بكشفها ونعوذ بالله من الخذلان ولقد احسن القائل :
ما آن للسرداب ان يلد الذي ... حملتموه بزعمكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فانكم ... ثلثتم العنقاء والغيلانا ولقد بطلت حجج استودعها مثل هذا الغائب وضاعت اعظم ضياع فانتم ابطلتم حجج الله من حيث زعمتم حفظها وهذا تصريح من امير المؤمنين رضى الله عنه بان حامل حجج الله في الارض بحيث يؤديها عن الله ويبلغها إلى عباده مثله رضى الله عنه ومثل إخوانه من الخلفاء الراشدين ومن اتبعهم إلى يوم القيامة وقوله لكيلا تبطل حجج الله وبيناته أي لكيلا تذهب من بين يدي الناس وتبطل من صدورهم والا فالبطلان محال عليها لانها ملزوم ما يستحيل عليه البطلان فإن قيل فما الفرق بين الحجج والبينات قيل الفرق بينهما ان الحجج هي الادلة العلمية التي يعقلها القلب وتسمع بالاذن قال تعالى في مناظرة إبراهيم لقومه وتبيين بطلان ما هم عليه بالدليل العلمي وتلك حجتنا آتيناهم إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء قال ابن زيد بعلم الحجة وقال تعالى فان حاجوك فقل اسلمت وجهي لله ومن اتبعني وقال

تعالى والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم والحجة هي اسم لما يحتج به من حق وباطل قال تعالى لئلا يكون للناس علكيم حجة الا الذين ظلموا منهم فانهم يحتجون عليكم بحجة باطلة فلا تخشوهم واخشوني وقال تعالى واذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم الا ان قالوا ائتوا بآبائنا ان كنتم صادقين والحجة المضافة إلى الله هي الحق وقد تكون الحجة بمعنى المخاصمة ومنه قوله تعالى فلذلك فادع واستقم كما امرت ولا تتبع اهواءهم وقل آمنت بما انزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا اعمالنا ولكم اعمالكم لا حجة بيننا وبينكم أي قد وضح الحق واستبان وظهر فلا خصومة بيننا بعد ظهوره ولا مجادلة فان الجدال شريعة موضوعة للتعاون على إظهار الحق فإذا ظهر الحق ولم يبق به خفاء فلا فائدة في الخصومة والجدال على بصيرة مخاصمة المنكر ومجادلته عناء لا غنى فيه هذا معنى هذه الاية وقد يقع في وهم كثير من الجهال ان الشريعة لا احتجاج فيها وان المرسل بها صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يحتج على خصومه ولا يجادلهم ويظن جهال المنطقيين وفروخ اليونان ان الشريعة خطاب للجمهور ولا احتجاج يها فيوان الانبياء دعوا الجمهور بطريق الخطابة والحجج للخواص وهم اهل البرهان يعنون نفوسهم ومن سلك طريقتهم وكل هذا من جهلهم بالشريعة والقرآن فإن القرآن مملوء من الحجج والادلة والبراهين في مسائل التوحيد واثبات الصانع والمعاد وإرسال الرسل وحدوث العالم فلا يذكر المتكلمون وغيرهم دليلا صحيحا على ذلك الا وهو في القرآن بافصح عبارة واوضح بيان وأتم معنى وابعده عن الايرادات والاسئلة وقد اعترف بهذا حذاق المتكلمين من المتقدمين والمتأخرين قال ابو حامد في اول الاحياء فإن قلت فلم لم تورد في اقسام العلم الكلام والفلسفة وتبين انهما مذمومان او ممدوحان فاعلم ان حاصل ما يشتمل عليه الكلام من الادلة التي ينتفع بها فالقرآن والاخبار مشتملة عليه وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع كما سيأتي بيانه واما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل بنقل المقالات التي اكثرها ترهات وهذا يانات تزدريها الطباع وتمجها الاسماع وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منه مألوفا في العصر الاول ولكن تغير الان حكمه إذا حدثت البدع الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة لفقت لها شبها ورتبت لها كلاما مؤلفا فصار ذلك المحظور بحكم الضرورة مأذونا فيه وقال الرازي في كتابه اقسام اللذات لقد تأملت الكتب الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلا ولا تشفى عليلا ورايت اقرب الطرق طريقة القرآن اقرا في الاثبات إليه يصعدالكلم الطيب الرحمن على العرش استوى واقرا في النفي ليس كمثله شيء ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وهذا الذي اشار إليه بحسب مافتح له من

دلالة القرآن بطريق الخبر وإلا فدلالته البرهانية العقلية التي يشير اليها ويرشد اليها فتكون دليلا سمعيا عقليا امر تميز به القرآن وصار العالم به من الراسخين في العلم وهو العلم الذي يطمئن إليه القلب وتسكن عنده النفس ويزكو به العقل وتستنير به البصيرة وتقوى به الحجة ولا سبيل لاحد من العالمين إلى قطع من حاج به بل من خاصم به فلجت حجته وكسر شبهة خصمه وبه فتحت القلوب واستجيب لله ولرسوله ولكن اهل هذا العلم لاتكاد الاعصار تسمح منهم الا بالواحد بعد الواحد فدلالة القرآن سمعية عقلية قطعية يقينية لا تعترضها الشبهات ولا تتداولها الاحتمالات ولا ينصرف القلب عنها بعد فهمها ابدا وقال بعض المتكلمين افنيت عمري في الكلام اطلب الدليل وانا لاأزداد الا بعدا عن الدليل فرجعت إلى القرآن اتدبره واتفكر فيه واذا انا بالدليل حقا معي وانا لا أشعر به فقلت والله ما مثلي الا كما قال القائل :
ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب الحبيب وما إليه وصول كالعيش في البيداء يقتلها الظما ... ولاماء فوق ظهورها محمول ... قال فلما رجعت إلى القرآن إذا هو الحكم والدليل ورأيت فيه من ادلة الله وحججه وبراهينه وبيناته ما لو جمع كل حق قاله المتكلمون في كتبهم لكانت سورة من سور القرآن وافية بمضمونه مع حسن البيان وفصاحة اللفظ وتطبيق المفصل وحسن الاحتراز والتنبيه على مواقع الشبه والارشاد إلى جوابها وإذا هو كما قيل بل فوق ما قيل :
كفى وشفى ما في الفؤاد فلم يدع ... لذي ارب في القول جدا ولا هزلا وجعلت جيوش الكلام بعد ذلك تفد إلى كما كانت وتتزاحم في صدري ولا ياذن لها القلب بالدخول فيه ولا تلقى منه إقبالا ولا قبولا فترجع على ادبارها والمقصود ان القرآن مملوء بالاحتجاج وفيه جميع انواع الادلة والاقيسة الصحيحة وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم فيه بإقامة الحجة والمجادلة فقال تعالى وجادلهم بالتي هي احسن وقال ولا تجادلوا اهل الكتاب إلا بالتي هي احسن وهذه مناظرات القرآن مع الكفار موجودة فيه وهذه مناظرات رسول الله صلى الله عليه و سلم واصحابه لخصومهم وإقامة الحجج عليهم لا ينكر ذلك الا جاهل مفرط في الجهل والمقصود الفرق بين الحجج والبينات فنقول الحجج الادلة العلمية والبيانات جمع بينة وهي صفة في الاصل يقال آية بينة وحجة بينة والبينة اسم لكل ما يبين الحق من علامة منصوبة او أمارة او دليل علمي قال تعالى لقد ارسلنا رسلنا بالبيانات وانزلنا معهم الكتاب والميزان فالبينات الايات التي اقامها الله دلالة على صدقهم من المعجزات والكتاب هو الدعوة وقال تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومقام إبراهيم آية جزئية مرئية بالابصار

وهو من آيات الله الموجودة في العالم ومنه قول موسى لفرعون وقومه قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني اسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها ان كنت من الصادقين فالقى عصاه وكان القاء العصا وانقلابها حية هو البينة وقال قوم هود يا هود ما جئتنا ببينة يريدون آية الاقتراح والا فهو قد جاءهم بما يعرفون به انه رسول الله اليهم فطلب الاية بعد ذلك تعنت واقتراح لا يكون لهم عذر في عدم الاجابة إليه وهذه هي الايات التي قال الله تعالى فيها وما منعنا ان نرسل بالايات الا ان كذب بها الاولون فعدم اجابته سبحانه اليها إذ طلبها الكفار رحمة منه واحسان فانه جرت سنته التي لا تبديل لها انهم اذا طلبوا الاية واقترحوها واجيبوا ولم يؤمنوا عولجوا بعذاب الاستئصال فلما علم سبحانه ان هؤلاء لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية لم يجبهم إلى ما طلبوا فلم يعمهم بعذاب لما اخرج من بنيهم واصلابهم من عبادة المؤمنين وان اكثرهم آمن بعد ذلك بغير الايات التي اقترحوها فكان عدم إنزال الايات المطلوبة من تمام حكمة الرب ورحمته واحسانه بخلاف الحجج فانها لم تزل متتابعة يتلو بعضها بعضا وهي كل يوم في مزيد وتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي اكثر ما كانت وهي باقية إلى يوم القيامة وقوله اولئك الاقلون عددا الاعظمون عند الله قدرا يعني هذا الصنف من الناس اقل الخلق عددا وهذا سبب غربتهم فانهم قليلون في الناس والناس على خلاف طريقهم فلهم نبأ وللناس نبأ قال النبي صلى الله عليه و سلم بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء فالمؤمنون قليل في الناس والعلماء قليل في المؤمنين وهؤلاء قليل في العلماء وإياك ان تغتر بما يغتر به الجاهلون فانهم يقولون لو كان هؤلاء على حق لم يكونوا اقل الناس عددا والناس على خلافهم فاعلم ان هؤلاء هم الناس ومن خالفهم فمشبهون بالناس وليسوا بناس فما الناس الا اهل الحق وإن كانوا اقلهم عددا قال ابن مسعود لا يكن احدكم إمعة يقول انا مع الناس ليوطن احدكم نفسه على ان يؤمن ولو كفر الناس وقد ذم سبحانه الاكثرين في غير موضع كقوله وان تطع اكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله وقال وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقال وقليل من عبادي الشكور وقال وان كثيرا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وقال بعض العارفين انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب
مت بداء الهوى والا فخاطر ... واطرق الحي والعيون نواظر
لا تخف وحشة الطريق اذا سر ... ت وكن في خفارة الحق سائر وقوله بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب اشباههم وهذا لان الله سبحانه ضمن حفظ حجه وبيناته واخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم انه

لا تزال طائفة من امته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة فلا يزال غرس الله الذين غرسهم في دينه يغرسون العلم في قلوب من اهلهم الله لذلك وارتضاهم فيكونوا ورثة لهم كما كانوا هم ورثة لمن قبلهم فلا تنقطع حجج الله والقائم بها من الاض وفي الاثر المشهور لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم بطاعته وكان من دعاء بعض من تقدم اللهم اجعلني من غرسك الذين تستعملهم بطاعتك ولهذا ما اقام الله لهذا الدين من يحفظه ثم قبضه إليه الا وقد زرع ما علمه من العلم والحكمة اما في قلوب امثاله واما في كتب ينتفع بها الناس بعده وبهذا وبغيره فضل العلماء العباد فإن العالم إذا زرع علمه عند غيره ثم مات جرى عليه اجره وبقي له ذكره وهو عمر ثان وحياة اخرى وذلك احق ما تنافس فيه المتنافسون ورغب فيه الراغبون وقوله هجم بهم العلم على حقيقة الامر فاستلانوا ما استوعره المترفون وانسوا مما استوحش منه الجاهلون الهجوم على الرجل الدخول عليه بلا استئذان ولما كانت طريق الآخرة وعرة على أكثر الخلق لمخالفتها لشهواتهم ومباينتها لارادتهم ومألوفاتهم قل سالكوها وزاهدهم فيها قلة علمهم اوعدمه بحقيقة الامر وعاقبة العباد ومصيرهم وما هيئوا له وهيء لهم فقل علمهم بذلك واستلانوا مركب الشهوة والهوى على مركب الاخلاص والتقوى وتوعرت عليهم الطريق وبعدت عليهم الشقة وصعب عليهم مرتقي عقابها وهبوط اوديتها وسلوك شعابها فاخلدوا إلى الدعة والراحة وآثروا العاجل على الاجل وقالوا عيشنا اليوم نقد وموعودنا نسيئة فنظروا إلى عاجل الدنيا واغمضوا العيون عن آجلها ووقفوا مع ظاهرها ولم يتأملوا باطنها وذاقوا حلاوة مباديها وغاب عنهم مرارة عواقبها ودر لهم ثديها فطاب لهم الارتضاع واشتغلوا به عن التفكر في الفطام ومرارة الانقطاع وقال مغترهم بالله وجاحدهم لعظمته وربوبيته متمثلا في ذلك
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... وأما القائمون لله بحجته خلفاء نبيه في امته فانهم لكمال علمهم وقوته نفد بهم إلى حقيقة الامر وهجم بهم عليه فعاينوا ببصائرهم ما عشيت عنه بصائر الجاهلين فاطمأنت قلوبهم به وعملوا على الوصول إليه لما باشرها من روح اليقين رفع لهم علم السعادة فشمروا إليه واسمعهم منادي الايمان النداء فاستبقوا إليه واستيقنت انفسهم ما وعدهم به ربهم فزهدوا فيما سواه ورغبوا فيما لديه علموا ان الدنيا دار ممر لا دار مقر ومنزل عبور لا مقعد حبور وانها خيال طيف او سحابة صيف وان من فيها كراكب قال تحت ظل شجرة ثم راح عنها وتركها وتيقنوا انها احلام نوم او كظل زائل :
ان اللبيب بمثلها لا يخدع

وان وصفها صدق في وصفها اذ يقول
ارى اشقياء الناس لا يسأمونها ... على انهم فيها عراة وجوع اراها وان كانت تحب فإنها ... سحابة صيف عن قليل تقشع ... فرحلت عن قلوبهم مدبرة كما ترحلت عن اهلها موليه واقبلت الآخرة إلى قلوبهم مسرعة كما اسرعت إلى الخلق مقبلة فامتطوا ظهور العزائم وهجروا لذة المنام وما ليل المحب بنائم علموا طول الطريق وقلة المقام في منزل التزود فسارعوا في الجهاز وجد بهم السير إلى منازل الاحباب فقطعوا المراحل وطووا المفاوز وهذا كله من ثمرات اليقين فان القلب إذا استيقن ما امامه من كرامة الله وما اعد لاوليائه بحيث كأنه ينظر إليه من وراء حجاب الدنيا ويعلم انه إذا زال الحجاب رأى ذلك عيانا زالت عنه الوحشة التي يجدها المتخلفون ولان له ما استوعره المترفون وهذه المرتبة هي اول مراتب اليقين وهي علمه وتيقنه وهي الكشاف المعلوم للقلب بحيث يشاهده ولا يشك فيه كانكشاف المرئي للبصر ثم يليها المرتبة الثانية وهي مرتبة عين اليقين ونسبتها إلى العين كنسبة الاول إلى القلب ثم تليها المرتبة الثالثة وهي حق اليقين وهي مباشرة المعلوم وإدراكه الادراك التام فالاولى كعلمك بان في هذا الوادي ماء والثاني كرؤيته والثالثة كالشرب منه ومن هذا ما يروى في حديث حارثة وقول النبي صلى الله عليه و سلم كيف اصبحت يا حارثة قال اصبحت مؤمنا حقا قال إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا وشهواتها فاسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكاني انظر إلى عرش ربي بارزا وكاني انظر إلى اهل الجنة بتزاورون فيها والى اهل النار يتعاوون فيها فقال عبد نور الله قلبه فهذا هو هجوم العلم بصاحبه على حقيقة الامر ومن وصل إلى هذا استلان ما يستوعره المترفون وأنس مما يشتوحش منه الجاهلون ومن لم يثبت قدم إيمانه على هذه الدرجة فهو إيمان ضعيف وعلامة هذا انشراح الصدر لمنازل الايمان وانفساحه وطمأنينة القلب لأمر الله والانابة إلى ذكر الله ومحبته والفرح بلقائه والتجافي عن دار الغرور كما في الاثر المشهور إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قيل وما علامة ذلك قال التجافي عن دار الغرور والانابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله وهذه هي الحال التي كانت تحصل للصحابة عند النبي صلى الله عليه و سلم إذا ذكرهم الجنة والنار كما في الترمذي وغيره من حديث الجريري عن ابي عثمان النهدي عن حنظلة الاسدي وكان من كتاب النبي صلى الله عليه و سلم انه مر بأبي بكر رضى الله عنه وهو يبكي فقال مالك يا حنظلة فقال نافق حنظلة يا ابا بكر نكون عند رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكرنا بالجنة والنار كانا رأى عين فإذا رجعنا إلى الازواج والضيعة نسينا كثيرا قال فوالله إنا لكذلك انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلقنا فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال مالك يا حنظلة قال نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا

رأى عين فإذا رجعنا عافسنا الازواج والضيعة ونسينا كثيرا قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ساعة وساعة قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وفي الترمذي ايضا نحوه من حديث ابي هريرة والمقصود ان الذي يهجم بالقلب على حقيقة الايمان ويلين له ما يستوعره غيره ويؤنسه بما يستوحش منه سواء العلم التام والحب الخالص والحب تبع للعلم يقوى بقوته ويضعف بضعفه والمحب لا يستوعر طريقا توصله إلى محبوبه ولا يستوحش فيها وقوله صحبوا الدنيا بابدان ارواحها معلقة بالملأ الاعلى وفي رواية بالمحل الاعلى الروح في هذا الجسد بدار غربة ولها وطن غيره فلا تستقر الا في وطنها وهي جوهر علوي مخلوق من مادة علوية وقد اضطرت إلى مساكنة هذا البدن الكثيف فهي دائما تطلب وطنها في المحل الاعلى وتحن إليه حنين الطير إلى اوكارها وكل روح ففيها ذلك ولكن لفرط اشتغالها بالبدن وبالمحسوسات المالوفة اخلدت إلى الارض ونسيت معلمها ووطنها الذي لا راحة لها في غيره فإنه لا راحة للمؤمن دون لقاء ربه والدنيا سجنه حقا فلهذا تجدالمؤمن بدنه في الدنيا وروحه في المحل الاعلى وفي الحديث المرفوع إذا نام العبد وهو ساجد باهي الله به الملائكة فيقول انظروا إلى عبدي بدنه في الارض وروحه عندي رواه تمام وغيره وهذا معني قول بعض السلف القلوب جوالة فقلب حول الحشر وقلب يطوف مع الملائكة حول العرش فأعظم عذاب الروح انغماسها وتدسيسها في أعماق البدن واشتغالها بملاذه وانقطاعها عن ملاحظة ما خلقت له وهيئت له وعن وطنها ومحلها ومحل انسها ومنزل كرامتها ولكن سكر الشهوات يحجبها عن مطالعة هذا الالم والعذاب فإذا صحت من سكرها وافاقت من غمرتها اقبلت عليها جيوش الحسرات من كل جانب فحينئذ تتقطع حسرات على ما فاتها من كرامة الله وقربه والانس به والوصول إلى وطنها الذي لا راحة لها الا فيه كما قيل :
صحبتك اذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي الومها ولو تنقلت الروح في المواطن كلها والمنازل لم تستقر ولم تطمئن الا في وطنها ومحلها الذي خلقت له كما قيل :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب الا للحبيب الاول كم منزل في الارض يألفه الفتى ... وحنينه ابدا لاول منزل وإذا كانت الروح تحن ابدا إلى وطنها من الارض مع قيام غيره مقامه في السكنى وكثيرا ما يكون غير وطنها احسن واطيب منه وهي دائما تحن إليه مع انه لا ضرر عليها ولا عذاب في مفارقته إلى مثله فكيف بحنينها إلى الوطن الذي في فراقها له عذابها وآلامها وحسرتها التي لاتنقضي فالعبد

المؤمن في هذه الدار سبي من الجنة إلى دار التعب والعناء ثم ضرب عليه الرق فيها فكيف يلام على حنينه إلى داره التي سبى منها وفرق بينه وبين من يحب وجمع بينه وبين عدوه فروحه دائما معلقة بذلك الوطن وبدنه في الدنيا ولى من ابيات في ذلك
وحي على جنات عن فانها ... منازلك الاولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى اوطاننا ونسلم وكلما اراد منه العدو نسيان وطنه وضرب الذكر عنه صفحا وايلافه وطنا غيره ابت ذلك روحه وقلبه كما قيل :
يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل ولهذا كان المؤمن غريبا في هذه الدار اين حل منها فهو في دار غربة كما قال النبي صلى الله عليه و سلم كن في الدنيا كانك غريب او عابر سبيل ولكنها غربة تنقضى ويصير إلى وطنه ومنزله وانما الغربة التي لا يرجى انقطاعها فهي غربة في دار الهوان ومفارقة وطنه الذي كان قد هيء واعد له وامر بالتجهيز إليه والقدوم عليه فابى الا اغترابه عنه ومفارقته له فتلك غربة لا يرجى ايابها ولا يجبر مصابها ولا تبادر إلى انكار كون البدن في الدنيا والروح في الملأ الاعلى فللروح شأن والبدن شأن والنبي صلى الله عليه و سلم كان بين اظهر اصحابه وهو عند ربه يطعمه ويسقيه فبدنه بينهم وروحه وقلبه عند ربه وقال ابو الدرداء اذا نام العبدعرج بروحه إلى تحت العرش فان كان طاهرا اذن لها بالسجود وان لم يكن طاهرا لم يؤذن لها بالسجود فهذه والله أعلم هي العلة التي امر الجنب لاجلها ان يتوضأ إذا أراد النوم وهذا الصعود إنما كان لتجرد الروح عن البدن بالنوم فإذا تجردت بسبب آخر حصل لها من الترقي والصعود بحسب ذلك التجرد وقد يقوى الحب بالمحب حتى لا يشاهد منه بين الناس الا جسمه وروحه في موضع آخر عند محبوبه وفي هذا من شاعار الناس وحكاياتهم ما هو معروف وقوله اولئك خلفاء الله في ارضه ودعائه إلى دينه هذا حجة احد القولين في انه يجوز ان يقال فلان خليفة الله في ارضه واحتج اصحابه ايضا بقوله تعالى للملائكة إني جاعل في الارض خليفة واحتجوا بقوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف في الارض وهذا خطاب لنوع الانسان وبقوله تعالى امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض وبقول موسى لقومه عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون ويقول النبي صلى الله عليه و سلم ان الله ممكن لكم في الارض ومستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء واحتجوا بقول الراعي يخاطب ابا بكر رضي الله عنه :
خليفة الرحمن انام معشر ... حنفاء نسجد بكرة واصيلا

عرب نرى لله في اموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا
ومنعت طائفة هذا الاطلاق وقالت لا يقال لاحد انه خليفة الله فإن الخليفة انما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره والله تعالى شاهد غير غائب قريب غير بعيد راء وسامع فمحال ان يخلفه غيره بل هو سبحانه الذي يخلف عبده المؤمن فيكون خليفته كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الدجال ان يخرج وانا فيكم فانا حجيجه دونكم وان يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مؤمن والحديث في الصحيح وفي صحيح مسلم ايضا من حديث عبد الله بن عمرو ان رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول اذا سافر اللهم انت الصاحب في السفر والخليفة في الاهل والحضر الحديث وفي الصحيح ان النبي صلى الله عليه و سلم قال اللهم اغفر لابي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في اهله فالله تعالى هو خليفة العبد لان العبد يموت فيحتاج إلى من يخلفه في اهله قالوا ولهذا انكر الصديق رضى الله عنه على من قال له يا خليفة الله قال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله وحسبي ذلك قالوا وأما قوله تعالى اني جاعل في الارض خليفة فلا خلاف ان المراد به آدم وذريته وجمهور اهل التفسير من السلف والخلف على انه جعله خليفة عمن كان قبله في الارض قيل عن الجن الذين كانوا سكانها وقيل عن الملائكة الذين سكنوها بعدالجن وقصتهم مذكورة في التفاسير وأما قوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف في الارض فليس المراد به خلائف عن الله وانما المراد به انه جعلكم يخلف بعضكم بعضا فكلما هلك قرن خلفه قرن إلى آخر الدهر ثم قيل ان هذا خطاب لامة محمد صلى الله عليه و سلم خاصة أي جعلكم خلائف من الامم الماضية فهلكوا وورثتم انتم الارض من بعدهم ولا ريب ان هذا الخطاب للامة والمراد نوع الانسان الذي جعل الله اباهم خليفة عمن قبله وجعل ذريته يخلف بعضهم بعضا إلى قيام الساعة ولهذا جعل هذا آية من آياته كقوله تعالى امن يجيب المضطر أذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض واما قول موسى لقومه ويستخلفكم في الارض فليس ذلك استخلافا عنه وانما هو استخلاف عن فرعون وقومه اهلكهم وجعل قوم موسى خلفاء من بعدهم وكذا قول النبي صلى الله عليه و سلم ان الله مستخلفكم في الارض أي من الامم التي تهلك وتكونون انتم خلفاء من بعدهم قالوا واما قول الراعي فقول شاعر قال قصيدة في غيبة الصديق لا يدري ابلغت ابا بكر ام لا ولو بلغته فلا يعلم انه اقره على هذه اللفظة ام لا قلت ان اريد بالاضافة إلى الله انه خليفة عنه فالصواب قول الطائفة المانعة منها وان اريد بالاضافة ان الله استخلفه عن غيره ممن كان قله قبلهفهذا لا يمتنع فيه الاضافة وحقيقتها خليفة الله الذي جعله الله خلفا عن غيره وبهذا يخرج الجواب عن قول امير المؤمنين اولئك خلفاء الله في ارضه فان قيل هذا لامدح فيه لان هذا

الاستخلاف عام في الامة وخلافة الله التي ذكرها امير المؤمنين خاصة بخواص الخلق فالجواب ان الاختصاص المذكور افاد اختصاص الاضافة فالاضافة هنا للتشريف والتخصيص كما يضاف إليه عباده كقوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا ونظائرهما ومعلوم ان كل الخلق عباد له فخلفاء الارض كالعباد في قوله والله بصير بالعباد وما الله يريد ظلما للعباد وخلفاء الله في قوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ونظائره وحقيقة اللفظة ان الخليفة هو الذي يخلف الذاهب أي يجيء بعده يقال خلف فلان فلانا واصلها خليف بغير هاء لانها فعيل بمعنى فاعل كالعليم والقدير فدخلت التاء للمبالغة في الوصف كراوية وعلامة ولهذا جمع جمع فعيل فقيل خلفاء كشريف وشرفاء وكريم وكرماء ومن راعي لفظه بعد دخول التاء عليه جمعة معه على فعائل فقال خلائف كعقيلة وعقائل وظريفة وظرائف وكلاهما ورد به القرآن هذا قول جماعة من النحاة والصواب ان التاء إنما دخلت فيها للعدل عن الوصف إلى الاسم فإن الكلمة صفة في الاصل ثم اجريت مجرى الاسماء فالحقت التاء لذلك كما قالوا نطيحة بالتاء فإذا اجروها صفة قالوا شاة نطيح كماي يقولون كف خضيب والا فلا معنى للمبالغة في خليفة حتى تلحقها تاء المبالغة والله اعلم وقوله ودعته إلى دينه الدعاة جمع داع كقاض قضاة ورام ورماة وإضافتهم إلى إليه للاختصاص أي الدعاة المخصوصون به الذين يدعون إلى دينه وعبادته ومعرفته ومحبته وهؤلاءهم خواص خلق الله وافضلهم عند الله منزلة وأعلاهم قدرا يدل على ذلك الوجه الثلاثون بعد المائة وهو قوله تعالى ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين قال الحسن هو المؤمن اجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحا في إجابته فهذا حبيب الله هذا ولي الله فمقام الدعوة إلى الله افضل مقامات العبد قال تعالى وانه لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا وقال تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمتسجيب القابل الذكي الذي لا يعاندالحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الامر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي احسن هذا هو الصحيح في معنى هذه الاية لا ما يزعم اسير منطق اليونان ان الحكمة قياس البرهان وهي دعوة الخواص والموعظة الحسنة قياس الخطابة وهي دعوة العوام والمجادلة بالتي هي احسن القياس الجدلي وهو رد شغب المشاغب بقياس جدلي مسلم المقدمات وهذا باطل وهو مبني على اصول

الفلسفة وهو مناف لاصول المسلمين وقواعدالدين من وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها وقال تعالى قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني قال الفراء وجماعة ومن اتبعني معطوف على الضمير في ادعو يعني ومن اتبعني يدعو إلى الله كما ادعو وهذا قول الكلبي قال حق على كل من اتبعه ان يدعو إلى ما دعا إليه ويذكر بالقرآن والموعظة ويقوى هذا القول من وجوه كثيرة قال ابن الانباري ويجوز ان يتم الكلام عند قوله إلى الله ثم يبتديء بقوله على بصيرة انا ومن اتبعني فيكون الكلام على قوله جملتين اخبر في اولاهما انه يدعو إلى الله وفي الثانية بانه من اتباعه على بصيرة والقولان متلازمان فلا يكون الرجل من اتباعه حقا حتى يدعو إلى ما دعا إليه وقول الفراء احسن واقرب إلى الفصاحة والبلاغة واذا كانت الدعوة إلى الله اشرف مقامات العبد واجلها وافضلها فهي لا تحصل الا بالعلم الذي يدعو به واليه بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد يصل إليه السعي ويكفي هذا في شرف العلم ان صاحبه يحوز به هذا المقام والله يؤتي فضله من يشاء الوجه الحادي والثلاثون بعدالمائة انه لو لم يكن من فوائد العلم الا انه يثمر اليقين الذي هو اعظم حياة القلب وبه طمأنينه وقوته ونشاطه وسائر لوازم الحياة ولهذا مدح الله سبحانه اهله في كتابه واثنى عليهم بقوله وبالاخرة هم يوقنون وقوله تعالى كذلك نفصل الايات لقوم يوقنون وقوله في حق خليله إبراهيم وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين وذم من لا يقين عنده فقال إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون وفي الحديث المرفوع من حديث سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن خيثمة عن عبد الله بن مسعوديرفعه لا ترضين احدا بسخط الله ولا تحمدن احدا على فضله ولا تذمن احدا على ما لم يؤتك الله فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يردة عنك كراهية كاره وان الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة والفرح في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط فإذا باشر القلب اليقين امتلأ نورا وانتفى عنه كل ريب وشك وعوفي من امراضه القاتلة وامتلأ شكرا لله وذكرا له ومحبة وخوفا فحبي عن بينة واليقين والمحبة هما ركنا الايمان وعليهما ينبني وبهما قوامه وهما يمدان سائر الاعمال القلبية والبدنية وعنهما تصدر وبضعفهما يكون ضعف الاعمال وبقوتهما قوتها وجميع منازل السائرين ومقامات العارفين إنما تفتح بهما وهما يثمران كل عمل صالح وعلم نافع وهدى مستقيم قال شيخ العارفين الجيد اليقين هو استقرار العلم الذي لاينقلب ولا يتحول ولا يتغير في القلب وقال سهل حرام على قلب ان يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله وقيل من علاماته الالتفات إلى الله في كل زلة والرجوع إليه في كل امر والاستعانة به في كل حال وارادة وجهه بكل حركة ويكون

وقال السرى اليقين السكون عند جولان الموارد في صدرك ليتقنك ان حركتك فيها لاتنفعك ولا ترد عنك مقضيا قلت هذا إذا لم تكن الحركة مأمورا بها فإذا كانت مأمورا بها فاليقين في بذل الجهد فيها واستفراغ الوسع وقيل إذا استكمل العبد حقيقة اليقين صار البلاء عنده نعمة والمحنة منحة فالعلم اول درجات اليقين ولهذا قيل العلم يستعملك واليقين يحملك فاليقين افضل مواهب الرب لعبده ولا تثبت قدم الرضاء الا على درجة اليقين قال تعالى اما اصاب من مصيبة الا باذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه قال ابن مسعود هو و العبد تصيبه المصيبة فيعلم انها من الله فيرضى ويسلم فلهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم الا بيقينه قال في الصحاح اليقين العلم وزوال الشك يقال منه يقنت الامر يقنا واستيقنت وايقنت وتيقنت كله بمعنى واحد وأنا على يقين منه وإنما صارت الياء واوا فيموقن للضمة قبلها وإذا صغرتها رددته لى الاصل فقلت مييقن وربما عبروا عن الظن بالقين وبالظن عن اليقين قال :
تحسب هواس وأيقن اني ... بها مفتد من واحد لا أغامره ... يقول تشمم الاسد ناقتي يظن انني افتدى بها منه وأستحيي نفسي فأتركها له ولا اقتحم المهالك لمقاتلته قلت هذاموضع اختلف فيه اهل اللغة والتفسير هل يستعمل اليقين في موضع الظن والظن في موضع اليقين فرأى ذلك طائفة منهم الجوهري وغيره واحتجوا بسوى ما ذكر بقوله تعالى الذين يظنون انهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ولو شكوا في ذلك لم يكونوا موقنين فضلا عن ان يمدحوا بهذا المدح وبقوله قال الذين يظنون انهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله وبقوله تعالى ورأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها وبقول الشاعر
فقلت لهم ظنوا بالفي مقاتل ... سراتهم في الفارسي المسرد أي استيقنوا بهذا العدد وأبي ذلك طائفة وقالوا لا يكون اليقين الا للعلم واما الظن فمنهم من وافق على انه يكون الظن في موضع اليقين واجابوا عما احتج به من جوز ذلك بان قالوا هذه المواضع التي زعمتم ان الظن وقع فيها موقع اليقين كلها على بابها فإنا لم نجد ذلك الا في علم بمغيب ولم تجدهم يقولون لمن راى الشيء اظنه ولمن ذاقه اظنه وإنما يقال لغائب قدعرف بالسمع والعلم فإذا صار إلى المشاهدة امتنع إلى اطلاق الظن عليه قالوا وبين العيان والخبر مرتبة متوسطة باعتبارها اوقع على العلم بالغائب الظن لفقد الحال التي تحصل المدركة بالمشاهدة وعلى هذاخرجت سائر الادلة التي ذكرتموها ولا يرد على هذا قوله ورأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها لان الظن انما وقع على مواقعتها وهي غيب حال الرؤية فإذا واقعوها لم يكن ذلك ظنا بل حق يقين قالوا وأما قول الشاعر وايقن انني بها مفتد فعلى بابه لانه ظن ان الاسد لتيقنه شجاعته

وجراءته موقن بان الرجل يدع له ناقته يفتدى بها من نفسه قالوا وعلى هذا يخرج معنى الحديث نحن احق بالشك من إبراهيم وفيه اجوبة لكن بين العيان والخير رتبة طلب إبراهيم زوالها بقوله ولكن ليطمئن قلبي فعبرعن تلك الرتبة بالشك والله اعلم الوجه الثاني والثلاثون بعد المائة ما رواه ابو يعلى الموصلي في مسنده من حديث انس بن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال طلب العلم فريضة على كل مسلم وهذا وان كان في سنده حفص بن سليمان وقد ضعف فمعناه صحيح فأن الايمان فرض على كل واحد وهو ماهية مركبة من علم وعمل فلا يتصور وجود الايمان الا بالعلم والعمل ثم شرائع الاسلام واجبة على كل مسلم ولا يمكن اداؤها الا بعدمعرفتها والعلم بها والله تعالى اخرج عباده من بطون امهاتهم لا يعلمون شيئا فطلب العلم فريضة على كل مسلم وهل تمكن عبادة الله التي هي حقه على العباد كلهم الا بالعلم وهل ينال العلم الا بطلبه ثم إن العلم بالمفروض تعلمه ضربان ضرب منه فرض عين لا يسع مسلما جهله وهو انواع النوع الاول علم اصول الايمان الخمسة الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فإن من لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الايمان ولايستحق اسم المؤمن قال الله تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين وقال ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا ولما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الايمان فقال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر قال صدقت فالايمان بهذه الاصول فرع معرفتها والعلم بها النوع الثاني علم شرائع الاسلام واللازم منها علم ما يخص العبد من فعلها كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها النوع الثالث علم المحرمات الخمسة التي اتفقت عليها الرسل والشرائع والكتب الالهية وهي المذكورة في قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله مالا تعلمون فهذه محرمات على كل واحد في كل حال على لسان كل رسول لا تباح قط ولهذا اتى فيها بانما المفيدة للحصر مطلقا وغيرها محرم في وقت مباح في غيره كالميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه فهذه ليست محرمة على الاطلاق والدوام فلم تدخل تحت التحريم المحصور المطلق النوع الرابع علم احكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصا وعموما والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف احوال الناس ومنازلهم فليس الواجب على الامام مع رعيته كالواجب على الرجل مع اهله وجيرته وليس الواجب على من نصب نفسه لانواع التجارات من تعلم احكام البياعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري الا ما تدعو الحاجة إليه وتفصيل هذه الجملة لا ينضبط بحد لاختلاف الناس في اسباب العلم الواجب وذلك يرجع

إلى ثلاثة اصول اعتقاد وفعل وترك فالواجب في الاعتقاد مطابقته للحق في نفسه والواجب في العمل معرفته وموافقة حركات العبد الظاهرة والباطنة الاختيارية للشرع امرا وإباحة والواجب في الترك معرفة موافقة الكف والسكون لمرضات الله وان المطلوب منه إبقاء هذا الفعل على عدمه المستصحب فلا يتحرك في طلبه او كف النفس عن فعله على الطريقتين وقد دخل في هذه الجملة علم حركات القلوب والابدان وأما فرض الكفاية فلا اعلم فيه ضابطا صحيحا فان كل احد يدخل في ذلك ما يظنه فرضا فيدخل بعض الناس في ذلك علم الطب وعلم الحساب وعلم الهندسة والمساحة وبعضهم يزيد على ذلك علم اصول الصناعة كالفلاحة والحياكة والحدادة والخياطة ونحوها وبعضهم يزيدعلى ذلك علم المنطق وربما جعله فرض عين وبناه على عدم صحة إيمان المقلد وكل هذا هوس وخبط فلا فرض إلا ما فرضه الله ورسوله فيا سبحان الله هل فرض الله على كل مسلم ان يكون طبيبا حجاما حاسبا مهندسا او حائكا او فلاحا او نجارا او خياطا فإن فرض الكفاية كفرض العين في تعلقه بعموم المكلفين وإنما يخالفه في سقوطه بفعل البعض ثم على قول هذا القائل يكون الله قد فرض على كل احد جملة هذه الصنائع والعلوم فإنه ليس واحد منها فرضا على معين والآخر على معين آخر بل عموم فرضيتها مشتركة بين العموم فيجب على كل احد ان يكون حاسبا حائكا خياطا نجارا فلاحا طبيبا مهندسا فان قال المجموع فرض على المجموع لم يكن قولك إن كل واحد منها فرض كفاية صحيحا لان فرض الكفاية يجب على العموم واما المنطق فلو كان علما صحيحا كان غايته ان يكون كالمساحة والهندسة ونحوها فكيف وباطله اضعاف حقه وفساده وتناقض اصوله واختلاف مبانيه توجب مراعاتها الذهن ان يزيغ في فكره ولا يؤمن بهذا الا من قد عرفه وعرف فساده وتناقضه ومناقضة كثير منه لعقل الصريح واخبر بعض من كان قد قرأه وعني به انه لم يزل متعجبا من فساد اصوله وقواعده ومبانيها لصريح المعقول وتضمنها لدعاوي محضة غير مدلول عليها وتفريقه بين متساوين وجمعه بين مختلفين فيحكم على الشيء بحكم وعلىنظيره بضد ذلك الحكم او يحكم على الشيء بحكم ثم يحكم علىمضاده او مناقضه به قال إلى ان سالت بعض رؤسائه وشيوخ اهله عن شيء من ذلك فانكر فيه ثم قال هذا علم قد صقلته الاذهان ومرت عليه من عهد القرون الاوائل او كما قال فينبغي ان نتسلمه من اهله وكان هذا من افضل ما رأيت في المنطق قال إلى ان وقفت على رد متكلمي الاسلام عليه وتبيين فساده وتناقضه فوقفت على مصنف لابي سعيد السيرافي النحوي في ذلك وعلى رد كثير من اهل الكلام والعربية عليهم كالقاضي ابي بكر بين الطيب والقاضي عبدالجبار والجبائي وابنه وابي المعالي وابي القاسم الانصاري

وخلق لا يحصون كثرة ورايت استشكالات فضلائهم ورؤسائهم لمواضع الاشكال ومخالفتها ما كان ينقدح لي كثير منه ورايت آخر من تجرد للرد عليهم شيخ الاسلام قدس الله روحه فإنه اتى في كتابيه الكبير والصغير بالعجب العجاب وكشف اسرارهم وهتك استارهم فقلت في ذلك :
واعجبا لمنطق اليونان ... كم فيه من إفك ومن بهتان مخبط لجيد الاذهان ... ومفسد لفطرة الانسان مضطرب الاصول والمباني ... على شفا هار بناه الباني احوج ما كان إليه العاني ... يخونه في السر والاعلان يمشي به اللسان في الميدان ... مشي مقيد على صفوان متصل العثار والتواني ... كأنه السراب بالقيعان بدا لعين الظميء الحيراني ... فأمه بالظن والحسبان يرجو شفاء غلة الظمآن ... فلم يجد ثم سوى الحرمان فعاد بالخيبة والخسران ... يقرع سن نادم حيران ... قد ضاع منه العمر في الاماني ... وعاين الخفة في الميزان وما كان من هوس النفوس بهذه المنزلة فهو بان يكون جهلا اولى منه بان يكون علما تعلمه فرض كفاية او فرض عين وهذا الشافعي واحمد وسائر ائمة الاسلام وتصانيفهم وسائر ائمة العربية وتصانيفهم وائمة التفسير وتصانيفهم لمن نظر فيها هل راعوا فيها حدود المنطق واوضاعه وهل صح لهم علمهم بدونه ام لا بل هم كانوا اجل قدرا واعظم عقولا من ان يشغلو افكارهم بهذيان المنطقيين وما دخل المنطق على علم الا افسده وغير اوضاعه روشوش قواعده ومن الناس من يقول ان علوم العربية من التصريف والنحو واللغة والمعاني والبيان ونحوها تعلمها فرض كفاية لتوقف فهم كلام الله ورسوله عليها ومن الناس من يقول تعلم اصول الفقه فرض كفاية لانه العلم الذي يعرف به الدليل ومرتبته وكفية الاستدلال وهذه الاقوال وان كانت اقرب إلى الصواب من القول الاول فليس وجوبها عاما على كل احد ولا في كل وقت وإنما يجيب وجوب الوسائل في بعض الازمان وعلى بعض الاشخاص بخلاف الفرض الذي يعم وجوبه كل احد وهو علم الايمان وشرائع الاسلام فهذا هو الواجب واما ما عداه فإن توقفت معرفته عليه فهو من باب مالا يتم الواجب الا به ويكون الواجب منه القدر الموصل إليه دون المسائل التي هي فضلة لا يفتقر معرفة الخطاب وفهمه اليها فلا

يطلق القول بان علم العربية واجب على الاطلاق اذ الكثير منه ومن مسائله وبحوثه لا يتوقف فهم كلام الله ورسوله عليها وكذلك اصول الفقه القدر الذي يتوقف فهم الخطاب عليه منه يجب معرفته دون المسائل المقررة والابحاث التي هي فضلة فكيف يقال ان تعلمها واجب وبالجملة فالمطلوب الواجب من العبد من العلوم والاعمال إذا توقف على شيء منها كان ذلك الشيء واجبا وجوب الوسائل ومعلوم ان ذلك التوقف يختلف باختلاف الاشخاص والازمان والالسنة والاذهان فليس لذلك حد مقدر والله اعلم الوجه الثالث والثلاثون بعدالمائة ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابي هريرة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال سأل موسى ربه عن ست خصال كان يظن انها له خالصة والسابعة لم يكن موسى يحبها قال يا رب أي عبادك اتقى قال الذي يذكر ولا ينسى قال فأي عبادك اهدى قال الذي تتبع الهدى قال فأي عبادك احكم قال الذي يحكم للناس ما يحكم لنفسه قال أي عبادك اعلم قال عالم لا يشبع من العلم يجمع علم الناس إلى علمه قال فأي عبادك اعز قال الذي اذا قدر عفا قال فأي عبادك اغني قال الذي يرضى بما اوتى قال فاي عبادك افقر قال صاحب منقوص فأخبر في هذا الحديث ان اعلم عباده الذي لا يشبع من العلم فهو يجمع علم الناس إلى علمه لنهمته في العلم وحرصه عليه ولا ريب ان كون العبد اعظم عباد الله من اعظم اوصاف كماله وهذا هو الذي حمل موسى على الرحلة إلى عالم الارض ليعلمه مما علمه الله هذا وهو كليم الرحمن وأكرم الخلق على الله في زمانه وأعلم الخلق فحمله حرصه ونهمته في العلم على الرحلة إلى العالم الذي وصف له فلولا ان العلم اشرف ما بذلت فيه المهج وانفقت فيه الانفاس لاشتغل موسى عن الرحلة إلى الخضر بما هو بصدده من امر الامة وعن مقاساة النصب والتعب في رحلته وتلطفه للخضر في قوله هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا فلم ير اتباعه حتى استاذنه في ذلك واخبره انه جاء متعلما مستفيدا فهذا النبي الكريم كان عالما بقدر العلم واهله صلوات الله وسلامه عليه الوجه الرابع والثلاثون بعد المائة ان الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمحبته وإيثار مرضاته المستلزمة لمعرفته ونصب للعباد علما لا كمال لهم الا به وهو ان تكون حركاتهم كلها موافقة على وفق مرضاته ومحبته ولذلك ارسل رسله وانزل كتبه وشرع شرائعه فكمال العبد الذي لا كمال له الا به ان تكون حركاته موافقه لما يحبه الله منه ويرضاه له ولهذا جعل اتباع رسوله دليلا على محبته قال تعالى قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم فالمحب الصادق يرى خيانة منه لمحبوبه ان يتحرك بحركة اختيارية في غير مرضاته وإذا فعل فعلا مما ابيح له بموجب طبيعته وشهوته تاب منه كما يتوب من الذنب ولا يزال هذا الأمر يقوى عنده حتى تنقلب

مباحاته كلها طاعات فيحتسب نومه وفطره وراحته كما يحتسب قومته وصومه واجتهاده وهو دائما بين سراء يشكر الله عليها وضراء يصبر عليها فهو سائر إلى الله دائما في نومه ويقظنه قال بعض العلماء الاكياس عاداتهم عبادات الحمقي والحمقى عباداتهم عادات وقال بعض السلف حبذا نوم الأكياس وفطرهم يغبنون به سهر الحمقى وصومهم فالمحب الصادقان نطق نطق لله وبالله وان سكت سكت لله وان تحرك فبأمر الله وان سكن فسكونه استعانة على مرضات الله فهو لله وبالله ومع الله ومعلوم ان صاحب هذا المقام احوج خلق الله إلى العلم فإنه لا تتميز له الحركة المحبوبة لله من غيرها ولا السكون المحبوب له من غيره الا بالعلم فليست حاجته إلى العلم كحاجة من طلب العلم لذاته ولانه في نفسه صفة كمال بل حاجته إليه كحاجته إلى ما به قوام نفسه وذاته ولهذا اشتدت وصاة شيوخ العارفين لمريديهم بالعلم وطلبه وانه من لم يطلب العلم لم يفلح حتى كانوا يعدون من لا علم له من السفلة قال ذو النون وقد سئل من السفلة فقال من لا يعرف الطريق إلى الله تعالى ولا يتعرفه وقال ابو يزيد لو نظرتم إلى الرجل وقد اعطى من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلات تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الامر والنهي وحفظ الحدود ومعرفة الشريعة وقال ابو حمزة البزاز من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق الا متابعة الرسول في أقواله وأفعاله واحواله وقال محمد بن الفضل الصوفي الزاهد ذهاب الاسلام على يدي اربعة اصناف من الناس صنف لا يعملون بما يعلمون وصنف يعملون بما لا يعلمون وصنف لا يعملون ولا يعلمون وصنف يمنعون الناس من التعلم قلت الصنف الاول من له علم بلا عمل فهو اضر شيء على العامة فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومنحسة والصنف الثاني العابد الجاهل فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه فيقتدون به على جهله وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فان الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم فإذا كان العلماء فجرة والعباد جهلة عمت المصيبة بهما وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة والصنف الثالث الذين لا علم لهم ولا عملوإنما هم كالانعام السائمة والصنف الرابع نواب ابليس في الارض وهم الذي يثبطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين فهؤلاء اضر عليهم من شياطين الجن فانهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه فهؤلاء الاربعة اصناف هم الذين ذكرهم هذا العارف رحمة الله عليه وهؤلاء كلهم على شفا جرف هار وعلى سبيل الهلكة وما يلقى العالم الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الاذى والمحاربة الا على ايديهم والله يستعمل من يشاء في سخطه كما يستعمل من يحب في مرضاته إنه بعباده خبير بصير ولا ينكشف سر هذه الطوائف وطريقتهم إلا بالعلم فعاد الخير بحذافيره إلى العلم وموجبه والشر

بحذافيره إلى الجهل وموجبه الوجه الخامس والثلاثون بعد المائة ان الله سبحانه جعل العلماء وكلاء وامناء على دينه ووحيه وارتضاهم لحفظه والقيام به والذب عنه وناهيك بها منزلة شريفة ومنقبة عظيمة قال تعالى ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين وقد قيل ان هؤلاء القوم هم الانبياء وقيل اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل كل مؤمن هذه امهات الاقوال بعد اقوال متفرعة عن هذه كقول من قال هم الانصار او المهاجرون والانصار او قوم من ابناء فارس وقال آخرون هم الملائكة قال ابن جرير واولى هذه الاقوال بالصواب انهم الانبياء الثمانية عشر الذين سماهم في الايات قبل هذه الاية قال وذلك ان الخبر في الايات قبلها عنهم مضى وفي التي بعدها عنهم ذكر فما يليها بان يكون خبرا عنهم اولى واحق بان يكون خبرا عن غيرهم فالتأويل فإن يكفر قومك من قريش يا محمد بآياتنا وكذبوا بها وجحدوا حقيقتها فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رسلنا وانبياءنا من قبلك الذين لا يجحدون حقيقتها ولا يكذبون بها ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها قلت السورة مكية والاشارة بقوله هؤلاء إلى من كفر به من قومه اصلا ومن عداهم تبعا فيدخل فيها كل من كفر بما جاء به من هذه الامة والقوم الموكلون بها هم الانبياء اصلا والمؤمنون بهم تبعا فيدخل كل من قام بحفظها والذنب عنها والدعوة اليها ولا ريب ان هذا للأنبياء اصلا وللمؤمنين بهم تبعا واحق من دخل فيها من اتباع الرسول خلفاؤه في امته وورثته فهم الموكلون بها وهذا ينظم في الاقوال التي قيلت في الاية واما قول من قال انهم الملائكة فضعيف جدا لا يدل عليه السياق وتاباه لفظه قوما إذ الغالب في القرآن بل المطرد تخصيص القوم ببني آدم دون الملائكة وأما قول إبراهيم لهم قوم منكرون فإنما قاله لما ظنهم من الانس وأيضا فلايقتضيه فخامة المعنى ومقصوده ولهذا لو اظهر ذلك وقيل فإن يكفر بها كفار قومك فقد وكلنا بها الملائكة فإنهم لا يكفرون بها لم نجد منه من التسلية وتحقير شأن الكفرة بها وبيان عدم تأهلهم لها والانعام عليهم وإيثار غيرهم من اهل الايمان الذين سبقت لهم الحسنى عليهم لكونهم احق بها وأهلها والله أعلم حيث يضع هداه ويختص به من يشاء وأيضا فإن تحت هذه الاية إشارة وبشارة يحفظها وأنه لا ضيعة عليها وان هؤلاء وإن ضيعوها ولم يقبلوها فإن لها قوما غيرهم يقبلونها ويحفظونها ويرعونها ويذبون عنها فكفر هؤلاء بها لا يضيعها ولا يذهبها ولا يضرها شيئا فإن لها اهلا ومستحقا سواهم فتأمل شرف هذا المعنى وجلالته وما تضمنه من تحريض عباده المؤمنين على المبادرة اليها والمسارعة إلى

قبولها وما تحته من تنبيههم على محبته لهم وإيثاره إياهم بهذه النعمة على اعدائه الكافرين وما تحته من احتقارهم وازدرائهم وعدم المبالاة والاحتفال بهم وإنكم وان تؤمنوا بها فعبادي المؤمنون بها الموكلون بها سواكم كثير كما قال تعالى قل آمنوا به اولا تؤمنوا إن الذين اوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا يوقولن سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وإذا كان للملك عبيد قدعصوره وخالفوا امره ولم يلتفتوا إلى عهده وله عبيد آخرون سامعون له مطيعون قابلون مستجيبون لامره فنظر اليهم وقال ان يكفر هؤلاء نعمى ويعصوا امري ويضيعو عهدي فإن لي عبيدا سواهم وهم انتم تطيعون امري وتحفظون عهدي وتودون حقي فإن عبيده المطيعين يجدون في انفسهم من الفرح والسرور والنشاط وقوة العزيمة ما يكون موجبا لهم المزيد من القيام بحق العبودية والمزيد من كرامة سيدهم ومالكهم وهذا امر يشهد به الحس والعيان واما توكيلهم بها فهو يتضمن توفيقهم للايمان بها والقيام بحقوقها ومراعاتها والذب عنها والنصيحة لها كما يوكل الرجل غيره بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه وبها الاولى متعلقة بوكلنا وبها الثانية متعلقة بكافرين والباء في بكافرين لتأكيد النفي فإن قلت فهل يصح ان يقال لاحد هؤلاء المؤكلين انه وكيل الله بهذا المعنى كما يقال ولي الله قلت لا يلزم من إطلاق فعل التوكل المقيد بأمر ما إن يصاغ منه اسم فاعل مطلق كما انه لا يلزم من اطلاق فعل الاستخلاف المقيد ان قال خليفة الله لقوله ويستخلفكم في الارض وقوله وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم فلا يوجب هذا الاستخلاف ان يقال لكل منهم انه خليفة الله لانه استخلاف مقيد ولما قيل للصديق يا خليفة الله قال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله وحسبي ذلك ولكن يسوغ ان يقال هو وكيل بذلك كما قال تعالى فقد وكلنا بها قوما والمقصود ان هذا التوكيل خاص بمن قام بها علما وعملا وجهادا لاعدائها وذبا عنها ونفيا لتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وأيضا فهو توكيل رحمة وإحسان وتوفيق واختصاص لا توكيل حاجة كما يوكل الرجل من يتصرف عنه في غيبته لحاجة إليه ولهذا قال بعض السلف فقد وكلنا بها قوما يقول رزقناها قوما فلهذا لا يقال لمن رزقها ورحم بها انه وكيل لله وهذا بخلاف اشتقاق ولي الله من الموالاة فانها المحبة والقرب فكما يقال عبدالله وحبيبه يقال وليه والله تعالى يوالي عبده إحسانا إليه وجبرا له ورحمه بخلاف المخلوق فإنه يوالي المخلوق لتعززه به وتكثره بموالاته لذل العبد وحاجته واما العزيز الغني فلا يوالي احدا من ذل ولا حاجة قال تعالى وقل الحمد لله الذي

لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا فلم ينف الولي نفيا عاما مطلقا بل نفى ان يكون له ولي من الذل واثبت في موضع آخر ان له اولياء بقوله الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقوله الله ولي الذين آمنوا فهذا موالاة رحمة وإحسان وجبر والموالاة المنفية موالاة حاجة وذل يوضح هذا الوجه السادس والثلاثون بعدالمائة وهو ما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة انه قال يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتاويل الجاهلين فهذا الحمل المشار إليه في هذا الحديث هو التوكل المذكور في الاية فأخبر صلى الله عليه و سلم ان العلم الذي جاء به يحمله عدول امته من كل خلف حتى لا يضيع ويذهب وهذا يتضمن تعديله صلى الله عليه و سلم لحمله العلم الذي بعث به وهو المشار إليه في قوله هذا العلم فكل من حمل العلم المشار إليه لا بد وان يكون عدلا ولهذا اشتهر عندالامة عدالة نقلته وحملته اشتهارا لا يقبل شكا ولا امتراء ولا ريب ان من عدله رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يسمع فيه جرح فالائمة الذين اشتهروا عند الامة بنقل العلم النبوي وميراثه كلهم عدول بتعديل رسول الله صلى الله عليه و سلم ولهذا لا يقبل قدح بعضهم في بعض وهذا بخلاف من اشتهر عندالامة جرحه والقدح فيه كأئمة البدع ومن جرى مجراهم من المتهمين في الدين فانهم ليسوا عندالامة من حملة العلم فما حمل علم رسول الله صلى الله عليه و سلم الا عدل ولكن قد يغلط في مسمى العدالة فيظن ان المراد بالعدل من لا ذنب له وليس كذلك بل هو عدل مؤتمن على الدين وإن كان منه ما يتوب إلى الله منه فإن هذا لا ينافي العدالة كما لا ينافي الايمان والولاية
فصل وهذا الحديث له طرق عديدة منها ما رواه ابن عدي عن موسىابن اسماعيل بن موسى بن جعفر عن ابيه عن جده جعفر بن محمد عن ابيه عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم ومنها ما رواه العوام بن حوشب عن شهر بن حوشب عن معاذ عن النبي ص ذكره الخطيب وغيره
ومنها ما رواه ابن عدي من حديث الليث بن سعد عن يزيد بن ابي حبيب عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم ومنها ما رواه محمد بن جرير الطبري من حديث ابن ابي كريمة عنم عاذ ابن رفاعة السلامي عن ابي عثمان النهدي عن اسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه و سلم ومنها ما رواه حماد بن يزيد عن بقية بن الوليد عن معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الدارقطني حدثنا احمد بن الحسن بن زيد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا مثنى ابن بكر ومبشر وغيرهما من اهل العلم كلهم يقولون حدثنا معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن

عن النبي صلى الله عليه و سلم يعني ان المحفوظ من هذا الطريق مرسل لان إبراهيم هذا لا صحبة له وقال الخلال في كتاب العلل قرأت على زهير بن صالح بن احمد حدثنا مهنا قال سالت احمد عن حديث معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين فقلت لاحمد كأنه موضوع قال لا هو صحيح فقلت ممن سمعته انت فقال من غير واحد قلت من هم قال حدثني به مسكين الا انه يقول عن معاذ عن القاسم بن عبدالرحمن قال احمد ومعاذ بن رفاعة لا بأس به ومنها ما رواه ابو صالح حدثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن مسعود قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ومنها مارواه ابو احمد بن عدي من حديث زريق بن عبدالله الالهاني عن القاسم بن عبدالرحمن عن ابي امامة الباهلي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه عنه بقية ومنها ما رواه بن عدي ايضا من طريق مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابي حازم عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ومنها ما رواه تمام في فوائده من حديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن ابي الخير عن ابي قبيل عن عبد الله بن عمرو وابي هريرة رواه عنه خالد بن عمرو ومنها ما رواه القاضي اسماعيل من حديث علي بن مسلم البلوي عن ابي صالح الاشعري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم الوجه السابع والثلاثون بعدالمائة ان بقاء الدين والدنيا في بقاء العلم وبذهاب العلم تذهب الدنيا والدين فقوام الدين والدنيا انما هو بالعلم قال الاوزاعي قال ابن شهاب الزهري الاعتصام بالسنة نجاة والعلم يقبض قبضا سريعا فنعش العلم ثبات الدين والدنيا وذهاب العلم ذهاب ذل كله وقال ابن وهب اخبرني يزيد عن ابن شهاب قال بلغنا عن رجال من اهل العلم انهم كانوا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة والعلم يقبض قبضا سريعا فنعش العلم ثبات الدين والدنيا وذهاب العلم ذهاب ذلك كله الوجه الثامن والثلاثون بعدالمائة ان العلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة مالا يرفعه الملك ولا المال ولا غيرهما فالعلم يزيد الشريف شرفا ويرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك كما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن ابي الطفيل ان نافع بن عبدالحارث اتى عمر بن الخطاب بعسفان وكان عمر استعمله على اهل مكة فقال له عمر من استخلفت على اهل الوادي قال استخلفت عليهم ابن ابزي فقال من ابن ابزي فقال رجل من موالينا فقال عمر استخلفت عليهم مولى فقال إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض فقال عمر اما أن نبيكم صلى الله عليه و سلم قد قال إن الله يرفع بهذا الكتاب اقواما ويضع به آخرين قال ابو العالية كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير فتغامز بي قريش ففطن لهم ابن عباس فقال كذا هذا العلم يزيد الشريف شرفا ويجلس المملوك على الاسرة

وقال إبراهيم الحربي كان عطاء ابن ابي رباح عبيدا اسود لامرأة من مكة وكان انفه كأنه بالاقة قال وجاء سليمان بن عبدالملك امير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه وهو يصلي فلما صلى انفتل اليهم فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه اليهم ثم قال سليمان لابنيه قوما فقاما فقال يا بني تنيا في طلب العلم فإني لا انسى ذلنا بين يدي هذا العبد الاسود قال الحربي وكان محمد بن عبد الرحمن الا وقص عنقه داخل في بدنه وكان منكباه خارجين كأنهما زجان فقالت امه يا بني لا تكون في مجلس قوم الا كنت المضحوك منه المسخور به فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك فولى قضاء مكة عشرين سنة قال وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرعد حتى يقوم قال ومرت به امرأة وهو يقول اللهم اعتق رقبتي من النار فقالت له يا ابن اخي واي رقبة لك وقال يحيى ابن اكثم قال الرشيدي ما انبل المراتب قلت ما انت فيه يا امير المؤمنين قال فتعرف اجل مني قلت لا قال لكني اعرفه رجل في حلقه يقول حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال قلت يا أمير المؤمنين اهذا خير منك وانت ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وولي عهد المؤمنين قال نعم ويلك هذا خير مني لان اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يموت ابدا ونحن نموت ونفني والعلماء باقون ما بقي الدهر وقال خيثمة بن سليمان سمعت ابي الخناجر يقول كنا في مجلس ابن هارون والناس قد اجتمعوا إليه فمر امير المؤمنين فوقف علينا في المجلس وفي المجلس الوف فالتفت إلى اصحابه وقال هذا الملك وفي تاريخ بغداد للخطيب حدثني ابو النجيب عبد الغفار ابن عبدالواحد قال سمعت الحسن بن علي المقري يقول سمعت أبا الحسن بن فارس يقول سمعت الاستاذ ابن العميد يقول ما كنت اظن ان في الدنيا حلاوة الذ من الرياسة والوزارة التي انا فيها حتى شهدت مذاكرة سليمان ابن ايوب بن احمد الطبراني وابي بكر الجعابي بحضرتي فكان الطبراني يغلب بكثرة حفظه وكان الجعابي يغلب الطبراني بفطنته وزكا اهل بغداد حتى ارتفعت اصواتهم ولا يكاد احدهما يغلب صاحبه فقال الجعابي عندي حديث ليس في الدنيا الا عندي فقال هاته فقال حدثنا ابو خليف حدثنا سليمان بن ايوب وحدث بالحديث فقال الطبراني انبأنا سليمان بن ايوب ومني سمع ابو خليفة فاسمع مني حتى يعلو اسنادك فإنك تروي عن ابي خليفة عني فخجل الجعابي وغلبه الطبراني قال ابن العميد فوددت في مكاني ان الوزارة والرياسة ليتها لم تكن لي وكنت الطبراني وفرحت مثل الفرح الذي فرح الطبراني لاجل الحديث او كما قال وقال المزني سمعت الشافعي يقول من تعلم القرآن عظمت قيمته ومن نظر في الفقه نبل مقداره ومن تعلم اللغة رق طبعه ومن تعلم الحساب جزل رأيه ومن كتب الحديث قويت حجته ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه وقد روى هذا الكلام عن الشافعي من وجوه متعددة وقال سفيان الثوري من ارادالدنيا والاخرة فعليه بطلب العلم وقال عبد

الله بن داود سمعت سفيان الثوري يقول ان هذا الحديث عز فمن اراد به الدنيا وجدها ومن اراد به الآخرة وجدها وقال النضر بن شميل من اراد ان يشرف في الدنيا والاخرة فليتعلم العلم وكفى بالمرء سعادة ان يوثق به في دين الله ويكون بين الله وبين عباده وقال حمزة بن سعيد المصري لما حدث ابو مسلم اللخمي اول يوم حدث قال لابنه كم فضل عندنا من اثمان غلاتنا قال ثلاثمائة دينار قال فرقها على اصحاب الحديث والفقراء شكرا ان أباك اليوم شهد علي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقبلت شهادته وفي كتاب الجليس والانيس لأبي الفرج المعافي بن زكرياء الجريري حدثنا محمد بن الحسين بن دريد حدثنا ابو حاتم عن العتبي عن ابيه قال ابتنى معاوية بالابطح مجلسا فجلس عليه ومعه ابنه قرظة فإذا هو بجماعة على رحال لهم وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى :
من يساجلني يساجل ما جدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب قال من هذا قالوا عبدالله بن جعفر قال خلوا له الطريق ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى :
بينما يذكرنني ابصرتني ... عند قيد الميل يسعى بي الاغر قلن تعرفن الفتى قلن نعم ... قد عرفناه وهل يخفى القمر قال من هذا قالوا عمر بن ابي ربيعة قال خلوا له الطريق فليذهب قال ثم اذا هوبجماعة وإذا فيهم رجل يسئل فيقال له رميت قبل ان احلق وحلقت قبل ان ارمي في اشياء اشكلت عليهم من مناسك الحج فقال من هذا قالوا عبدالله بن عمر فالتفت إلى ابنه قرظة وقال هذا وابيك الشرف هذا والله شرف الدنيا والاخرة وقال سفيان بن عيينة ارفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده وهم الانبياء والعلماء وقال سهل التستري من أراد ان ينظر إلى مجالس الانبياء فلينظر إلى مجالس العلماء يجيء الرجل فيقول يا فلان ايش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا فيقول طلقت امرأته ويجيء آخر فيقول حلفت بكذا وكذا فيقول ليس يحنث بهذا القول وليس هذا الا لنبي او عالم فاعرفوا لهم ذلك الوجه التاسع والثلاثون بعدالمائة ان النفوس الجاهلة التي لاعلم عندها قد البست ثوب الذل والازراء عليها والتنقص بها اسرع منه إلى غيرها وهذا امر معلوم عند الخاص والعام قال الاعمش اني لارى الشيخ لا يروى شيئا من الحديث فاشتهى ان الطمه وقال معاوية سمعت الاعمش يقول من لم يطلب الحديث اشتهى ان أضعفه بنعليوقال هشام بن علي سمعت الاعمش يقول إذا رايت الشيخ لم يقرا القرآن ولم يكتب الحديث فاصفع له فإنه من شيوخ القمراء قال ابو صالح قلت لابي جعفر ما شيوخ القمراء قال شيوخ دهريون يجتمعون في ليالي القمر يتذاكرون أيام الناس ولا يحسن احدهم ان يتوضأ للصلاة وقال المزني كان الشافعي إذا رأى شيخا سأله عن الحديث والفقه فإن كان عنده شيء وإلا قال له لا جزاك الله خيرا عن نفسك ولا عن الاسلام قد

ضيعت نفسك وضيعت الاسلام وكان بعض خلفاء بني العباس يلعب بالشطرنج فاستاذن عليه عمه فاذن له وغطى الرقعة فلما جلس قال له يا عم هل قرأت القرآن قال قال هل كتبت شيئا من السنة قال لا قال فهل نظرت في الفقه واختلاف الناس قال لا قال فهل نظرت في العربية وايام الناس قال لا قال فقال الخليفة اكشف الرقعة ثم اتم اللعب وزال احتشامه وحياؤه منه وقال له ملاعبه يا أمير المؤمنين تكشفها ومعنا من تحتشم منه قال اسكت فما معنا احد وهذا لان الانسان انما تميز عن سائ الحيوانات بما خص به من العلم والعقل والفهم فإذا عدم ذلك لم يبق فيه الا القدر المشترك بينه وبين سائر الحيوانات وهي الحيوانية البهيمية ومثل هذا لا يستحي منه الناس ولا يمنعون بحضرته وشهوده مما يستحيا منه من اولى الفضل والعلم الوجه الاربعون بعدالمائة ان كل صاحب بضاعة سوى العلم إذا علم ان غير بضاعته خير منها زهد في بضاعته ورغب في الاخرى وود انها له عوض بضاعته الا صاحب بضاعة العلم فإنه ليس يحب ان له يحظه منها حظ اصلا وكان سفيان الثوري إذا رأى الشيخ لم يكتب الحديث قال لاجزاك الله عن الاسلام خيرا قال ابو جعفر الطحاوي كنت عند احمد بن ابي عمران فمر بنا رجل من بني الدنيا فنظرت إليه وشغلت به عما كنت فيه من المذاكرة فقال لي كأني بك قد فكرت فيما اعطى هذا الرجل من الدنيا قلت له نعم قال هل ادلك على خلة هل لك ان يحول الله اليك ما عنده من المال ويحول إليه ما عندك من العلم فتعيش انت غنيا جاهلا ويعيش هو عالما فقيرا فقلت ما اختار ان يحول الله ما عندي من العلم إلى ما عنده فالعلم غنى بلا مال وعز بلا عشيرة وسلطان بلا رجال وفي ذلك قيل :
العلم كنز وذخر لا نفاد له ... نعم القرين إذا ما صاحب صحبا قد يجمع المرء مالا ثم يحرمه ... عما قليل فيلقى الذل والحربا وجامع العلم مغبوط به ابدا ... ولا يحاذر منه الفوت والسلبا يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه ... لا تعدلن به درا ولا ذهبا
الوجه الحادي والاربعون بعدالمائة ان الله سبحانه اخبر انه يجزى المحسنين اجرهم باحسن ما كانواي يعملون واخبر سبحانه انه يجزى على الاحسان بالعلم وهذا يدل على انه من احسن الجزاء اما المقام الاول ففي قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم اسوا الذي عملوا ويجزيهم اجرهم باحسن الذي كانوايعملون وهذا يتناول الجزاءين الدنيوي والاخروي واما المقام الثاني ففي قوله تعالى ولما بلغ اشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين قال الحسن من احسن عبادة الله في شيبته لقاه الله الحكمة عند كبر سنه وذلك قوله ولما بلغ اشده آتيناه

حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ومن هذا قال بعض العلماء تقول الحكمة من التمسني فلم يجدني فليعمل باحسن ما يعلم وليترك اقبح ما يعلم فإذا فعل ذلك فإنا معه وإن لم يعرفني الوجه الثاني والاربعون بعدالمائة ان الله سبحانه جعل العلم للقلوب كالمطر للارض فكما انه لا حياة للارض الا بالمطر فكذلك لا حياة للقلب الا بالعلم وفي الموطأ قال لقمان لابنه يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فان الله تعالى يحيى القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيى الارض بوابل المطر ولهذا فإن الأرضإنا تحتاج إلى المطر في بعض الاوقات فإذا تتابع عليها احتاجت إلى انقطاعه واما العلم فيحتاج إليه بعدد الانفاس ولاتزيده كثرته الا صلاحا ونفعا الوجه الثالث والاربعون بعد المائة ان كثيرا من الاخلاق التي لا تحمد في الشخص بل يذم عليها تحمد في طلب العلم كالملق وترك الاستحياء والذل والتردد إلى ابواب العلماء ونحوها قال ابن قتيبة جاء في الحديث ليس الملق من اخلاق المؤمنين الا في طلب العلم وهذا اثر عن بعض السلف وقال ابن عباس ذللت طالبا فعززت مطلوبا وقال وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه و سلم عند هذا الحي من الانصار إن كنت لاقيل عند باب احدهم ولو شئت اذن لي ولكن ابتغى بذلك طيب نفسه وقال ابو اسحاق قال على كلمات لو رحلتم المطي فيهن لافنيتموهن قبل ان تدركوا مثلهن لايرجون عبد الا ربه ولا يخافن الا ذنبه ولا يستحيي من لاي علم ان يتعلم ولا يستحيي إذا سئل عما لا يعلم ان يقول لا أعلم واعلموا ان منزلة الصبر من الايمان كمنزلة الراس من الجسد فإذا ذهب الراس ذهب الجسد وإذا ذهب البصر ذهب الايمان ومن كلام بعض العلماء لاينال العلم مستحي ولا متكبر هذا يمنعه حياؤه من التعلم وهذا يمنعه كبره وإنما حمدت هذه الاخلاق في طلب العلم لانها طريق إلى تحصيله فكانت من كمال الرجل ومفضية إلى كماله ومن كلام الحسن من استتر عن طلب العلم بالحياء لبس للجهل سرباله فاقطعوا سرابيل بالحياء فانه من رؤية وجهه رق علمه وقال الخليل منزلة الجهل بين الحياء والانفة ومن كلام على رضى الله تعالى عنه قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان وقال إبراهيم لمنصور سل مسألة الحمقى واحفظ حفظ الاكياس وكذلك سؤال الناس هو عيب ونقص في الرجل وذلة تنافي المروءة الا في العلم فإنه عين كماله ومروءته وعزه كما قال بعض اهل العلم خير خصال الرجل السؤال عن العلم وقيل إذا جلست إلى عالم فسل تفقها لاتعنتا وقال رية بن العجاج اتيت النسابة البكري فقال من انت قلت انا ابن العجاج قال قصرت وعرفت لعلك كقوم ان سكت لم يسلوني وان تكلمت لم يعوا عني قلت ارجو ان لا اكون كذلك قال ما اعداء المروءة قلت تخبرني قال بنوعم السوء ان رأوا حسنا ستروه وإن رأوا سيئا اذاعوه ثم قال إن للعلم آفة ونكدا وهجنة فآفته

نسيانه ونكده الكذب فيه وهجنته نشره عندغير اهله وانشد ابن الاعرابي :
ما اقرب الاشياء حين يسوقها ... قدروا بعدها إذا لم تقدر فسل الفقيه تكن فقيها مثله ... من يسع في علم بذل يمهر فتدبر العلم الذي تفتى به ... لا خير في علم بغير تدبر ولقد يجد المرء وهو مقصر ... ويخيب جدالمرء غير مقصر ذهب الرجال المقتدي بفعالهم ... والمنكرون لكل امر منكر وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضا ليدفع معور عن معور
وللعلم ست مراتب اولها حسن السؤال الثانية حسن الانصات والاستماع الثالثة حسن الفهم الرابعة الحفظ الخامسة التعليم السادسة وهي ثمرته وهي العمل به ومراعاة حدوده فمن الناس من يحرمه لعدم حسن سؤاله أما لانه لا يسال بحال او يسال عن شيء وغيره اهم إليه منه كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها ويدع مالا غنى له عن معرفته وهذه حال كثير من الجهال المتعلمين ومن الناس من يحرمه لسوء انصاته فيكون الكلام والممارات آثر عنده وأحب إليه من الانصاب وهذه آفة كامنة في اكثر النفوس الطالبة للعلم وهي تمنعهم علما كثيرا ولو كان حسن الفهم ذكر ابن عبدالبر عن بعض السلف انه قال من كان حسن الفهم رديء الاستماع لم يقم خيره بشره وذكر عبدالله بن احمد في كتاب العلل له قال كان عروة بن الزبير يحب مماراة ابن عباس فكان يخزن علمه عنه وكان عبيد الله بن عبدالله بن عتبة يلطف له في السؤال فيعزه بالعلم عزا وقال ابن جريج لم أستخرج العلم الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به وقال بعض السلف إذا جالست العالم فكن على ان تسمع احرص منك على ان تقول وقد قال الله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد فتأمل ما تحت هذه الالفاظ من كنوز العلم وكيف تفتح مراعاتها للعبد ابواب العلم والهدى وكيف ينغلق باب العلم عنه من اهمالها وعدم مراعاتها فإنه سبحانه أمر عباده ان يتدبروا آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة بما تكون تذكرة لمن كان له قلب فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه ولو مرت به كل آية ومرور الايات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم ومرورها على من لا بصر له فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات فإنه يراها ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه الا بأمرين احدهما ان يحضره ويشهده لما يلقى إليه فإن كان غائبا عنه مسافرا في الاماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به فإذا احضره اشهده لم ينتفع الا بان يلقى سمعه ويصغى بكليته إلى مايوعظ به ويرشد إليه وها هنا ثلاثة

امور احدها سلامة القلب وصحته وقبوله الثاني احضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق الثالث القاء السمع وأصغاؤه والاقبال على الذكر فذكر الله تعالى الامور الثلاثة في هذه الاية قال ابن عطية القلب هنا عبارة عن العقل إذ هو محله والمعنى لمن كان له قلب واع ينتفع به قال وقال الشبلي قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين وقوله او القى السمع وهو شهيد معناه صرف سمعه إلى هذه الانباء الواعظة واثبته في سمعه فذلك القاء له عليها ومنه قوله والقيت عليك محبة مني أي اثبتها عليك وقوله وهو شهيد قال بعض المتأولين معناه وهو شاهد مقبل على الامر غير معرض عنه ولا مفكر في غير ما يسمع قال وقال قتادة هي إشارة إلى اهل الكتاب فكأنه قال ان هذه العبر لتذكرة لمن له فهم فتدبر الأمر او لمن سمعها من اهل الكتاب فشهد بصحتها لعلمه بها من كتابه التوراة وسائر كتب بني اسرائيل قال فشهيد على التأويل الاول من المشاهدة وعلى التاويل الثاني من الشهادة وقال الزجاج معنى من كان له قلب من شرف قلبه إلى التفهم الا ترى ان قوله صم بكم عمي انهم لم يستمعوا استماع مستفهم مسترشد فجعلوا بمنزلة من لم يسمع كما قال الشاعر اصم عما ساءه سميع ومعنى او القى السمع استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع والعرب تقول الق إلى سمعك أي استمع مني وهو شهيد أي قلبه فيما يسمع وجاء في التفسير انه يعني به اهل الكتاب الذين عندهم صفة النبي صلى الله عليه و سلم فالمعنى او القى السمع وهو شهيد اشاهد ان صفة النبي صلى الله عليه و سلم في كتابه وهذا هو الذي حكاه ابن عطية عن قتادة وذكر ان شهيدا فيه بمعنى شاهد أي مخبر وقال صاحب الكشاف لمن كان له قلب واع لان من لا يعي قلبه فكانه لا قلب له والقاء السمع والاصغاء وهو شهيد أي حاضر بفطنته لان من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب او هو مؤمن شاهد على صحته وانه وحي من الله وهو بعض الشهداء في قوله لتكونوا شهداء على الناس وعن قتادة وهو شاهد على صدقه من اهل الكتاب لوجود نعته عنده فلم يختلف في ان المراد بالقلب القلب الواعي وان المراد بالقاء السمع إصغاؤه وإقباله على المذكر وتفريغ سمعه له واختلف في الشهيد على اربعة اقوال احدها انه من المشاهدة وهي الحضور وهذا اصح الاقوال ولا يليق بالاية غيره الثاني انه شهيد من الشهادة وفيه على هذه ثلاثة اقوال احدها انه شاهد على صحة ما معه من الايقان الثاني انه شاهد من الشهداء على الناس يوم القيامة الثالث انه شهادة من الله عنده على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه و سلم بما علمه من الكتب المنزلة والصواب القول الاول فإن قوله وهو شهيد جملة حالية والواو فيها واو الحال أي القى السمع في هذه الحال وهذا يقتضى ان يكون حال القائه السمع شهيدا

وهذا هو من المشاهدة والحضور ولو كان المراد به الشهادة في الآخرة او الدنيا لما كان لتقييدها بالقاء السمع معنى اذ يصير الكلام ان في ذلك لاية لمن كان له قلب او القي السمع حال كونه شاهدا بما معه في التوراة او حال كونه شاهدا يوم القيامة ولا ريب ان هذا ليس هو المراد بالاية وأيضا فالاية عامة في كل من له قلب والقى السمع فكيف يدعى تخصيصها بمؤمني اهل الكتاب الذين عندهم شهادة من كتبهم على صفة النبي صلى الله عليه و سلم وأيضا فالسورة مكية والخطاب فيها لا يجوز ان يختص بأهل الكتاب ولا سيما مثل هذا الخطاب الذي علق فيه حصول مضمون الاية ومقصودها بالقلب الواعي وإلقاء السمع فكيف يقال هي في اهل الكتاب فإن قيل المختص بهم قوله وهو شهيد فهذا افسد وافسد لان قوله وهو شهيد يرجع الضمير فيه إلى جملة من تقدم وهو من له قلب او القى السمع فكيف يدعى عوده إلى شيء غايته ان يكون بعض المذكور اولا ولا دلالة في اللفظ عليه وأيضا فإن المشهود به محذوف ولا دلالة في اللفظ عليه فلو كان المراد به وهو شاهد بكذا لذكر المشهود به إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه وهذا بخلاف ما إذا جعل من الشهود وهو الحضور فإنه لايقتضى مفعولا مشهودا به ليتم الكلام بذكره وحده وأيضا فإن الاية تضمنت تقسيما وترديدا بين قسمين احدهما من كان له قلب والثاني من القى السمع وحضر بقلبه ولم يغب فهو حاضر القلب شاهده لا غائبه وهذا والله اعلم سر الاتيان باو دون الواو لأن المنتفع بالايات من الناس نوعان احدهما ذو القلب الواعي الزكي الذي يكتفي بهدايته بأدنى تنبيه ولا يحتاج إلى ان يستجلب قلبه ويحضره ويجمعه من مواضع شتاته بل قلبه واع زكي قابل للهدى غير معرض عنه فهذا لا يحتاج الا إلى وصول الهدى إليه فقط لكمال استعداه وصحة فطرته فإذا جاءه الهدى سارع قلبه إلى قبوله كانه كان مكتوبا فيه فهو قد أدركه مجملا ثم جاء الهدى بتفصيل ما شهد قلبه بصحته مجملا وهذه حال أكمل الخلق استجابة لدعوة الرسل كما هي حال الصديق الاكبر رضي الله عنه والنوع الثاني من ليس له هذا الاستعداد والقبول فإذا ورد عليه الهدى اصغى إليه بسمعه واحضر قلبه وجمع فكرته عليه وعلم صحته وحسنه بنظره واستدلاله وهذه طريقة اكثر المستجيبين ولهم نوع ضرب الامثال وإقامة الحجج وذكر المعارضات والاجوبة عنها والاولون هم الذين يدعون بالحكمة وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة فهؤلاء نوعا المستجيبين واما المعارضون المدعون للحق فنوعان نوع يدعون بالمجادلة بالتي هي احسن فان استجابوا وإلا فالمجادلة فهؤلاء لا بد لهم من جدال او جلاد ومن تأمل دعوة القرآن وجدها شاملة لهؤلاء الاقسام متناولة لها كلها كما قال تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن فهؤلاء المدعوون بالكلام واما اهل الجلاد فهم الذين امر الله قتالهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله واما من فسر الاية

بأن المراد بمن كان له قلب هو المستغنى بفطرته عن علم المنطق وهو المؤيد بقوة قدسية ينال بها الحد الاوسط بسرعة فهو لكمال فطرته مستغن عن مراعات اوضاع المنطق والمراد بمن القى السمع وهو شهيد من ليست له هذه القوة فهو محتاج إلى تعلم المنطق ليوجب له مراعاته وإصغاؤه إليه ان لا يزيغ في فكره وفسر قوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة انها القياس البرهاني والموعظة الحسنة القياس الخطابي وجادلهم بالتي هي احسن القياس الجدلي فهذا ليس من تفاسير الصحابة ولا التابعين ولا احد من ائمة التفسير بل ولا من تفاسير المسلمين وهو تحريف لكلام الله تعالى وحمل له على اصطلاح المنطقية المبخوسة الحظ من العقل والايمان وهذا من جنس تفاسير القرامطة والباطنية وغلاة الاسماعيلية لما يفسرونه من القرآن وينزلونه على مذاهبهم الباطلة والقرآن بريء من ذلك كله منزه عن هذه الاباطيل والهذيانات وقد ذكرنا بطلان ما فسر به المنطقيون هذه الاية التي نحن فيها والاية الاخرى في موضع آخر من وجوه متعددة وبينا بطلانه عقلا وشرعا ولغة وعرفا وأنه يتعالى كلام الله عن حمله على ذلك وبالله التوفيق والمقصود بيان حرمان العلم من هذه الوجوه الستة احدها ترك السؤال الثاني سوء الانصات وعدم القاء السمع الثالث سوء الفهم الرابع عدم الحفظ الخامس عدم نشره وتلعيمه فإن من خزن علمه ولم ينشره ولم يعلمه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه جزاء من جنس عمله وهذا أمر يشهد به الحس والوجود السادس عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه فإذا اهمل العمل به نسيه قال بعض السلف كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به وقال بعض السلف ايضا العلم يهتف بالعمل فإن اجابه حل والا ارتحل فالعمل به من اعظم اسباب حفظه وثباته وترك العمل به أضاعه له فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به وأما قوله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله فليس من هذا الباب بل هما جملتان مستقلتان طلبية وهي الامر بالتقوى وخبرية وهي قوله تعالى ويعلمكم الله أي والله يعلمكم ما تتقون وليست جوابا للأمر بالتقوى ولو أريد بها الجزاء لأتى بها مجزومة مجردة عن الواو فكان يقول واتقوا الله يعلمكم او إن تتقوه يعلمكم كما قال إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا فتدبره الوجه الرابع والاربعون بعد المائة ان الله سبحانه نفى التسوية بين العالم وغيره كما نفى التسوية بين الخبيث والطيب وبين الاعمى والبصير وبين النور والظلمة وبين الظل والحرور وبين اصحاب الجنة واصحاب النار وبين الابكم العاجز الذي لا يقدر على شيء ومن يامر بالعدل وهو على صراط مستقيم وبين المؤمنين والكفار وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الارض وبين المتقين

والفجار فهذه عشرة مواضع في القرآن نفى فيها التسوية بين هؤلاء الاصناف وهذا يدل على ان منزلة العالم من الجاهل كمنزلة النور من الظلمة والظل من الحرور والطيب من الخبيث ومنزلة كل واحد من هذه الاصناف مع مقابلة وهذا كاف في شرف العلم وأهله بل إذا تأملت هذه الاصناف كلها ووجدت نفي التسوية بينها راجعا إلى العلم وموجبه فيه وقع التفضيل وانتفت المساواة الوجه الخامس والاربعون بعدالمائة ان سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذابا شديدا او يذبحه إنما نجا منه بالعلم واقدم عليه في خطابه له بقوله احطت بما لم تحط به خبرا وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم ومن هذا الحكاية المشهورة ان بعض اهل العلم سئل عن مسالة فقال لا اعلمها فقال احد تلامذته انا اعلم هذه المسألة فغضب الاستاذ وهم به فقال له ايها الاستاد لست اعلم من سليمان بن داود ولو بلغت في العلم ما بلغت ولست انا اجهل من الهدهد وقد قال لسليمان احطت بما لم تحط به فلم يعتب عليه ولم يعنفه الوجه السادس والاربعون بعدالمائة إن من نال شيئا من شرف الدنيا والآخرة فإنما ناله بالعلم وتامل ما حصل لادم من تميزه على الملائكة واعترافهم له بتعليم الله له الاسماء كلها ثم ما حصل له من تدارك المصيبة والتعويض عن سكنى الجنة بما هو خير له منها بعلم الكلمات التي تلقاها من ربه وما حصل ليوسف من التمكين في الارض والعزة والعظمة بعلمه بتعبير تلك الرؤيا ثم علمه بوجوه استخراج اخيه من إخوته بما يقرون به ويحكمون هم به حتى ال الامر إلى ما آل إليه من العز والعاقبة الحميدة وكمال الحال التي توصل اليها بالعلم كما اشار اليها سبحانه في قوله كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ اخاه في دين الملك إلا ان يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم جاء في تفسيرها نرفع درجات من نشاء بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على اخوته بالعلم وقال في إبراهيم صلى الله عليه و سلم وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء فهذه رفعة بعلم الحجة والاول رفعة بعلم السياسة وكذلك ما حصل للخضر بسبب علمه من تلمذة كليم الرحمن له وتلطفه معه في السؤال حتى قال هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا وكذلك ما حصل لسليمان من علم منطق الطير حتى وصل إلى ملك سبأ وقهر ملكتهم واحتوى على سرير ملكها ودخولها تحت طاعته ولذلك قال يايها الناس علمنا منطق الطير واوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين وكذلك ما حصل لداود من علمه نسج الدروع من الوقاية من سلاح الاعداء وعدد سبحانه هذه النعمة بهذا العلم على عباده فقال وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل انتم شاكرون وكذلك ما حصل للمسيح من علم الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ما رفعه الله

به إليه وفضله وكرمه وكذلك ما حصل لسيد ولد آدم من العلم الذي ذكره الله به نعمة عليه فقال وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما الوجه السابع والاربعون بعدالمائة ان الله سبحانه اثنى على إبراهيم خليله بقوله تعالى إن إبراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه فهذه اربع انواع من الثناء افتتحها بأنه امة والامة هو القدوة الذي يؤتم به قال ابن مسعود والامة المعلم للخير وهي فعلة من الائتمام كقدوة وهو الذي يقتدي به والفرق بين الامة والامام من وجهين احدهما ان الامام كل ما يؤتم به سواء كان بقصده وشعوره اولا ومنه سمى الطريق إماما كقوله تعالى وإن كان اصحاب الايكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين أي بطريق واضح لا يخفى على السالك ولا يسمى الطريق امة الثاني ان الامة فيه زيادة معنى وهو الذي جمع صفات الكمال من العلم والعمل بحيث بقي فيها فردا وحده فهو الجامع لخصال تفرقت في غيره فكأنه باين غيره باجتماعها فيه وتفرقها او عدمها في غيره ولفظ الامة يشعر بهذا المعنى لما فيه من الميم المضعفة الدالة على الضم بمخرجها وتكريرها وكذلك ضم اوله فإن الضمة من الواو ومخرجها ينضم عند النطق بها وأتى بالتاء الدالة على الوحدة كالغرفة واللقمة ومنه الحديث إن زيد بن عمرو بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده فالضم والاجتماع لازم لمعنى الامة ومنه سميت الامة التي هي آحاد الامم لانهم الناس المجتمعون على دين واحد او في عصر واحد الثاني قوله قانتا لله قال ابن مسعود القانت المطيع والقنوت يفسر باشياء كلها ترجع إلى دوام الطاعة الثالث قوله حنيفا والحنيف المقبل على الله ويلزم هذا المعنى ميله عما سواه فالميل لازم معنى الحنيف لا انه موضوعه لغة الرابع قوله شاكرا لانعمه والشكر للنعم مبني على ثلاثة اركان الاقرار بالنعمة وإضافتها إلى المنعم بها وصرفها في مرضاته والعمل فيها بما يجب فلا يكون العبد شاعرا إلا بهذه الاشياء الثلاثة والمقصود انه مدح خليله باربع صفات كلها ترجع إلى العلم والعمل بموجبه وتعليمه ونشره فعاد الكمال كله إلى العلم والعمل بموجبه ودعوة الخلق إليه الوجه الثامن والاربعون بعدالمائة قوله سبحانه عن المسيح انه قال اني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا اينما كنت قال سفيان بن عيينة جعلني مباركا اينما كنت قال معلما للخير وهذا يدل على ان تعليم الرجل الخير هو البركة التي جعلها الله فيه فإن البركة حصول الخير ونماؤه ودوامه وهذا في الحقيقة ليس إلا في العلم الموروث عن الانبياء وتعليمه ولهذا سمى سبحانه كتابه مباركا كما قال تعالى وهذا ذكر مبارك انزلناه وقال كتاب انزلناه اليك مبارك ووصف رسوله بأنه مبارك كما في قول المسيح وجعلني مباركا اينما كنت فبركة كتابه ورسوله هي سبب ما يحصل بهما من العلم والهدى والدعوة إلى الله الوجه التاسع والاربعون

بعد المائة ما في الصحيح عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له رواه مسلم في الصحيح وهذا من اعظم الادلة على شرف العلم وفضله وعظم ثمرته فإن ثوابه يصل إلى الرجل بعد موته ما دام ينتفع به فكأنه حي لم ينقطع عمله مع ماله من حياة الذكر والثناء فجريان اجره عليه إذا انقطع عن الناس ثواب اعمالهم حياة ثانية وخص النبي صلى الله عليه و سلم هذه الاشياء الثلاثة بوصول الثواب إلى الميت لانه سبب لحصولها والعبد إذا باشر السبب الذي يتعلق به الامر والنهي يترتب عليه مسببه وإن كان خارجا عن سعيه وكسبه فلما كان هو السبب في حصول هذا الولد الصالح والصدقة الجارية والعلم النافع جرى عليه ثوابه واجره لتسببه فيه فالعبد إنما يثاب على ما باشره او على ما تولد منه وقد ذكر تعالى هذين الاصلين في كتابه في سورة براءة فقال ذلك بانهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا بغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع اجر المسحنين فهذه الامور كلها متولدات عن افعالهم غير مقدوره لهم وإنما المقدور لهم اسبابها التي باشروها ثم قال ولا ينتفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا الا كتب لهم ليجزيهم الله احسن ما كانوا يعملون فالنفقة وقطع الوادي افعال مقدورة لهم وقال في القسم الاول كتب لهم به عمل صالح إلا ان المتولد حاصل عن شيئين افعالهم وغيرها فليست افعالهم سببا مستقلا في حصول المتولد بل هي جزء من اجزاء السبب فيكتب لهم من ذلك ما كان مقابلا لافعالهم وأيضا فإن الظمأ والنصب وغيظ العدو ليس من أفعالهم فلا يكتب لهم نفسه ولكن لما تولد عن افعالهم كتب لهم به عمل صالح واما القسم الاخر وهو الافعال المقدورة نفسها كالانفاق وقطع الوادي فهو عمل صالح فيكتب لهم نفسه إذ هو مقدور لهم حاصل بارادتهم وقدرتهم فعاد الثواب إلى الافعال المقدورة والمتولد عنها وبالله التوفيق الوجه الخمسون بعدالمائة ما ذكره ابن عبد البر عن عبد الله بن داود قال إذا كان يوم القيامة عزل الله تبارك وتعالى العلماء عن الحساب فيقول ادخلوا الجنة على ما كان فيكم إني لم اجعل علمي فيكم الا لخير اردته بكم قال ابن عبد البر وزاد غيره في هذا الخبر أن الله يحبس العلماء يوم القيامة في زمرة واحدة حتى يقضي بين الناس ويدخل أهل الجنة الجنة واهل النار النار ثم يدعو العلماء فيقول يا معشر العلماء أني لم اضع حكمتي فيكم وانا اريد ان اعذبكم قد علمت انكم تخلطون من المعاصي ما يخلط غيركم فسترتها عليكم وغفرتها لكم وإنما كنت اعبد بفتياكم وتعليمكم عبادي ادخلوا الجنة بغير حساب ثم قال لا معطي لما منع ولا مانع لما اعطى قال وروى نحو هذا

المعنى باسناد متصل مرفوع وقد روى حرب الكرماني في مسائله نحوه مرفوعا وقال إبراهيم بلغني انه إذا كان يوم القيامة توضع حسنات الرجل في كفه وسيئاته في الكفة الأخرى فتشيل حسناته فإذا يئس فظن انها النار جاء شيء مثل السحاب حتى يقع من حسناته فتشيل سيئاته قال فيقال له اتعرف هذا من عملك فيقول لا فيقال هذا ما علمت الناس من الخير فعمل به من بعدك فإن قيل فقواعد الشرع تقتضي ان يسامح الجاهل بما لا يسامح به العالم وانه يغفر له مالا يغفر للعالم فإن حجة الله عليه اقوم منها على الجاهل وعلمه بقبح المعصية وبغض الله لها وعقوبته عليها اعظم من علم الجاهل ونعمة الله عليه بما اودعه من العلم اعظم من نعمته على الجاهل وقد دلت الشريعة وحكم الله على ان من حبي بالانعام وخص بالفضل والاكرام ثم اسام نفسه مع ميل الشهوات فارتعها في مراتع الهلكات وتجرأ على انتهاك الحرمات واستخف بالتبعات والسيئات انه يقابل من الانتقام والعتب بما لا يقابل به من ليس في مرتبته وعلى هذا جاء قوله تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ولهذا كان حد الحر ضعف حدالعبد في الزنا والقذف وشرب الخمر لكمال النعمة على الحر ومما يدل على هذا الحديث المشهور الذي اثبته ابو نعيم وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال اشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه قال بعض السلف يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل ان يغفر للعالم ذنب وقال بعضهم ايضا إن الله يعافي الجهال مالا يعا4في لللعماء الجواب ان هذا الذي ذكرتموه حق لا ريب فيه ولكن من قواعدالشرع والحكمة ايضا ان من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الاسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره ويعفي عنه مالا يعفي عن غيره فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث بخلاف الماء القليل فإنه لا يحمل ادنى خبث ومن هذا قول النبي صلى الله عليه و سلم لعمر وما يدريك لعل الله اطلع على اهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وهذا هو المانع له صلى الله عليه و سلم من قتل من حس عليه وعلى المسلمين وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم فأخبر صلى الله عليه و سلم انه شهد بدرا فدل على ان مقتضى عقوبته قائم لكن منع من ترتب اثره عليه ماله من المشهد العظيم فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ماله من الحسنات ولما حض النبي صلى الله عليه و سلم على الصدقة فأخرج عثمان رضى الله عنه تلك الصدقة العظيمة قال ماضر عثمان ما عمل بعدها وقال لطلحة لما تطاطأ للنبي صلى الله عليه و سلم حتى صعد على ظهره إلى الصخرة اوجب طلحة وهذا موسى كلم الرحمن عز و جل القى الالواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له القاها على الارض حتى تكسرت ولطم عين ملك الموت ففقأها وعاتب ربه ليلة الاسراء في النبي صلى الله عليه و سلم وقال شاب بعث بعدي يدخل الجنة من امته اكثر مما يدخلها من امتي واخذ بلحية

هارون وجره إليه وهو نبي الله وكل هذا لم ينقص من قدرة شيئا عند ربه وربه تعالى يكرمه ويحبه فإن الامر الذي قام به موسى والعدو الذي برز له والصبر الذي صبره والاذى الذي اوذيه في الله امر لا تؤثر فيه امثال هذه الامور ولا تغير في وجهه ولا تخفض منزلته وهذا امر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم ان من له الوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها حتى انه ليختلج داعي عقوبته على إساءته وداعي شكره على إحسانه فيغلب داعي الشكر لداعي العقوبة كما قيل :
وإذا الجيب اتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع وقال آخر :
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا ... فافعاله اللاتي سررن كثير والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته فايهما غلب كان التأثير له فيفعل باهل الحسنات الكثيرة والذين آثروا محابه ومراضيه وغلبتهم دواعي طبعهم احيانا من العفو والمسامحة مالا يفعله مع غيرهم وأيضا فان العالم إذا زل فإنه يحسن اسراع الفيئة وتدارك الفارط ومداواة الجرح فهو كالطبيب الحاذق البصير بالمرض وأسبابه وعلاجه فإن زواله علىيده اسرع من زواله على يد الجاهل وأيضا فإن معه من معرفته بأمر الله وتصديقه بوعده ووعيده وخشيته منه ازرائه على نفسه بارتكابه وإيمانه بأن الله حرمه وان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به إلى غير ذلك من الامور المحبوبة للرب ما يغمر الذنب ويضعف اقتضائه ويزيل اثره بخلاف الجاهل بذلك او اكثره فإنه ليس معه الا ظلمة الخطيئة وقبحها واثارها المردية فلا يستوى هذا وهذا وهذا فصل الخطاب في هذا الموضع وبه يتبين ان الامرين حق وانه لا منافاة بينهما وان كل واحد من العالم والجاهل إنما زاد قبح الذنب منه عى الاخر بسبب جهله وتجرد خطيئته عما يقاومها ويضعف تاثيرها ويزيل اثرها فعاد القبح في الموضعين إلى الجهل وما يستلزمه وقلته وضعفه إلى العلم وما يستلزمه وهذا دليل ظاهر على شرف العلم وفضله وبالله التوفيق الوجه الحادي والخمسون بعدالمائة ان العالم مشتغل بالعلم والتعليم لا يزال في عبادة فنفس تعلمه وتعليمه عبادة قال ابن مسعود لايزال الفقيه يصلى قالوا وكيف يصلى قال ذكر الله على قلبه ولسانه ذكره ابن عبدالبر وفي حديث معاذ مرفوعا وموقوفا تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح وقدتقدم والصواب انه موقوف وذكر ابن عبدالبر عن معاذ مرفوعا لان تغدو فتتعلم بابا من ابواب العلم خير لك من ان تصلي مائة ركعة وهذا لا يثبت رفعه وقال ابن وهب كنت عند مالك بن انس فحانت صلاة الظهر او العصر وانا اقرأ عليه وانظر في العلم بين يديه فجمعت كتبي وقمت لاركع فقال لي مالك ما هذا فقلت اقوم إلى الصلاة فقال ان هذا لعجب ما الذي قمت إليه افضل من الذي كنت فيه إذا صحت فيه النية وقال الربيع سمعت الشافعي يقول طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة وقال سفيان الثوري

ما من عمل افضل من طلب العلم إذا صحت فيه النية وقال رجل للمعافي بن عمران ايما احب الليل اقوم اصلي اليك كله او اكتب الحديث فقال حديث تكتبه احب الي من قيامك من اول الليل إلى آخره وقال ايضا كتابة حديث واحد احب الي من قيام ليلة وقال ابن عباس تذاكر العلم بعض ليلة احب الي من إحيائها وفي مسائل اسحاق بن منصور قلت لاحمد بن حنبل قوله تذاكر العلم بعض ليلة احب الي من إحيائها أي علم اراد قال هو العلم الذي ينتفع به الناس في أمر دينهم قلت في الوضوء والصلاة والصوم والحج والطلاق ونحو هذا قال نعم قال اسحاق وقال لي اسحاق بن راهويه هو كما قال احمد وقال ابو هريرة لان اجلس ساعة فاتفقه في ديني احب الي من احياء ليلة إلى الصباح وذكر ابن عبدالبر من حديث ابي هريرة يرفعه لكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه وما عبد الله بشيء افضل من فقه في الدين الحديث وقد تقدم وقال محمد بن علي الباقر عالم ينتفع بعلمه افضل من الف عابد وقال ايضا رواية الحديث وبثه في الناس افضل من عبادة الف عابد ولما كان طلب العلم والبحث عنه وكتابته والتفتيش عليه من عمل القلب والجوارح كان من افضل الاعمال ومنزلته من عمل الجوارح كمنزله اعمال القلب من الاخلاص والتوكل والمحنة والانابة والخشية والرضا ونحوها من الاعمال الظاهرة فإن قيل فالعلم إنما هو وسيلة إلى العمل ومراد له والعمل هو الغاية ومعلوم ان الغاية اشرف من الوسيلةفكيف تفضل الوسائل على غاياتها قيل كل من العلم والعمل ينقسم قسمين منه ما يكون وسيلة ومنه ما يكون غاية فليس العلم كله وسيلة مرادة لغيرها فإن العلم بالله واسمائه وصفاته هو اشرف العلوم على الاطلاق وهو مطلوب لنفسه مراد لذاته قال الله تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علما فقد اخبر سبحانه انه خلق السموات والأرض ونزل الامر بينهن ليعلم عباده انه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فهذا العلم هو غاية الخلق المطلوبة وقال تعالى فاعلم انه لا اله الا الله فالعلم بوحدانيته تعالى وأنه لا إله الا هو مطلوب لذاته وان كان لا يكتفى به وحده بل لا بد معه من عبادته وحده لا شريك له فهما امران مطلوبان لانفسهما ان يعرف الرب تعالى باسمائه وصفاته وأفعاله واحكامه وان يعبد بموجبها ومقتضاها فكما ان عبادته مطلوبة مرادة لذاتها فكذلك العلم به ومرفته وأيضا فإن العلم من افضل انواع العبادات كما تقدم تقريره فهو متضمن للغاية الوسيلة وقولكم ان العمل غاية اما ان تريدوا به العمل الذي يدخل فيه عمل القلب والجوارح او العمل المختص بالجوارح فقط فإن اريد الاول فهو حق وهو يدل على ان العلم غاية مطلوبة لانه من اعمال القلب كما تقدم وان اريد به الثاني وهو عمل الجوارح فقط فليس بصحيح فإن اعمال القلوب مقصودة

ومراده لذاتها بل في الحقيقة اعمال الجوارح وسيلة مرادة لغيرها فإن الثواب والعقاب والمدح والذم وتوابعها هو للقلب اصلا وللجوارح تبعا وكذلك الاعمال المقصودة بها اولا صلاح القلب واستقامته وعبوديته لربه ومليكه وجعلت اعمال الجوارح تابعة لهذا المقصود مرادة وان كان كثير منها مرادا لاجل المصلحة المترتبة عليه فمن اجلها صلاح القلب وزكاه وطهارته واستقامته فعلم ان الاعمال منها غاية ومنها وسيلة وان العلم كذلك وأيضا فالعلم الذي هو وسيلة إلى العمل فقط إذا تجرد عن العمل لم ينتفع به صاحبه فالعمل اشرف منه وأما العلم المقصود الذي تنشأ ثمرته المطلوبة منه من نفسه فهذا لا يقال ان العمل المجرد اشرف منه فكيف يكون مجرد العبادة البدنية افضل من العلم بالله واسمائه وصفاته وأحكامه في خلقه وامره ومن العلم بأعمال القلوب وآفات النفوس والطرق التي تفسد الاعمال وتمنع وصولها من القلب إلى الله والمسافات التي بين الاعمال والقلب وبين القلب والرب تعالى وبما تقطع تلك المسافات إلى غير ذلك من علم الايمان وما يقويه وما يضعفه فكيف يقال ان مجرد التعبد الظاهر بالجوارح افضل من هذا العلم بل من قام بالامرين فهو اكمل وإذا كان في احدهما فضل ففضل هذا العلم خير من فضل العبادة فاذ كان في العبد فضلة عن الواجب كان صرفها إلى العلم الموروث عن الانبياء افضل من صرفها إلى مجرد العبادة فهذا فصل الخطاب في هذه المسئلة والله اعلم الوجه الثاني والخمسون بعدالمائة ما رواه الامام احمد والترمذي من حديث ابي كبشة الانماري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم انما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي في ماله ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا باحسن المنازل عند الله ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول لو ان لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما في الاجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في ماله ولا يتقي فيه ربه ولا يصل في رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأسوا المنازل عند الله ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو ان لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواء حديث صحيح صححه الترمذي والحاكم وغيرهما فقسم النبي صلى الله عليه و سلم اهل الدنيا أربعة اقسام خيرهم من اوتي علما ومالا فهو محسن إلى الناس وإلى نفسه بعلمه وماله ويليه في المرتبة من اوتي علما ولم يؤت مالا وان كان اجرهما سواء فذلك إنما كان بالنية والا فالمنفق المتصدق فوقه بدرجة الانفاق والصدقة والعالم الذي لا مال له إنما ساواه في الاجر بالنية الجازمة المقترن بها مقدورهما وهو القول المجرد الثالث من اوتي مالا ولم يؤت علما فهذا اسوأ الناس منزلة عند الله لان ماله طريق إلى هلاكه فلو عدمه لكان خيرا له فإنه اعطى ما يتزود به إلى الجنة فجعله زادا له إلى النار الرابع من لم يؤت مالا

ولا علما ومن نيته انه لو كان له مال لعمل فيه بمعصية الله فهذا يلي الغني الجاهل في المرتبة ويساويه في الوزر بنيته الجازمة المقترن بها مقدورها وهو القول الذي لم يقدر على غيره فقسم السعداء قسمين وجعل العلم والعمل بموجبه سبب سعادتهما وقسم الاشقياء قسمين وجعل الجهل وما يترتب عليه سبب شقاوتهما فعادت السعادة بجملتها إلى العلم وموجبه والشقاوة بجملتها إلى الجهل وثمرته الوجه الثالث والخمسون بعد المائة ما ثبت عن بعض السلف انه قال تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة وسال رجل أم الدرداء بعد موته عن عبادته فقالت كان نهاره اجمعه في بادية التفكر وقال الحسن تفكر ساعة خير من قيام ليلة وقال الفضل التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك وقيل لابراهيم إنك تطيل الفكرة فقال الفكرة مخ العقل وكان سفيان كثيرا ما يتمثل :
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة وقال الحسن في قوله تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق قال أمنعهم التفكر فيها وقال بعض العارفين لو طالعت قلوب المتقين بفكرها إلى ما قدر في حجب الغيب من خير الآخرة لم يصف لهم في الدنيا عيش ولم تقر لهم فيها عين وقال الحسن طول الوحدة أتم للفكرة وطول الفكرة دليل على طريق الجنة وقال وهب ما طالت فكرة احد قط الا علم وما علم امرؤ قط الا عمل وقال عمر بن عبدالعزيز الفكرة في نعم الله من افضل العبادة وقال عبد الله بن المبارك لبعض اصحابه وقد رآه مفكرا اين بلغت قال الصراط وقال بشر لو فكر الناس في عظمة الله ما عصوه وقال ابن عباس ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب وقال ابو سليمان الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لاهل الولاية والفكرة في الآخرة تورث الحكمة وتجلي القلوب وقال ابن عباس التفكر في الخير يدعو إلى العمل به وقال الحسن ان اهل العلم لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر والفكر على الذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة ومن كلام الشافعي استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكرة وهذا لان الفكرة عمل القلب والعبادة عمل الجوارج والقلب اشرف من الجوارح فكان عمله اشرف من عمل الجوارح وأيضا فالتفكر يوقع صاحبه من الايمان على مالا يوقعه عليه العمل المجرد فان التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الامور وظهورها له وتميز مراتبها في الخير والشر ومعرفة مفضولها من فاضلها واقبحها من قبيحها ومعرفة اسبابها الموصلة اليها وما يقاوم تلك الاسباب ويدفع موجبها والتمييز بين ما ينبغي السعي في تصحيله وبين ما ينبغي السعي في دفع اسبابه والفرق بين الوهم والخيال المانع لاكثر النفوس من انتهاز الفرص بعد امكانها وبين السبب المانع حقيقة فيشتغل به دون الاول فما قطع

العبد عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والاجلة قاطع اعظم من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مركبها بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة وعزم صادق يميز به بين الوهم والحقيقة وكذلك إذا فكر في عواقب الامور وتجاوز فكره مباديها وضعها مواضعها وعلم مراتبها فإذا ورد عليه وارد الذنب والشهوة فتجاوز فكره لذته وفرح النفس به إلى سوء عاقبته وما يترتب عليه من الالم والحزن الذي لا يقاوم تلك اللذة والفرحة ومن فكر في ذلك فإنه لا يكاد يقدم عليه وكذلك إذا ورد على قلبه وارد الراحة والدعة والكسل والتقاعد عن مشقة الطاعات وتعبها حتى عبر بفكره إلى ما يترب عليها من اللذات والخيرات والافراح التي تغمر تلك الالام التي في مباديها بالنسبة إلى كمال عواقبها وكلما غاص فكره في ذلك اشتد طلبه لها وسهل عليه معاناتها استقبلها بنشاط وقوة وعزيمة وكذلك إذا فكر في منتهى ما يستعبده من المال والجاه والصور ونظر إلى غاية ذلك بعين فكره استحى من عقله ونفسه ان يكون عبدا لذلك كما قيل :
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
وكذلك إذا فكر في آخر الاطعمة المفتخرة التي تفانت عليها نفوس اشباه الانعام وما يصير امرها إليه عند خروجها ارتفعت همته عن صرفها إلى الاعتناء بها وجعلها معبود قلبه الذي إليه يتوجه وله يرضى ويغضب ويسعى ويكدح ويوالي ويعادي كما جاء في المسند عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال إن الله جعل طعام ابن آدم مثل الدنيا وإن قزحه ملحه فإنه يعلم إلى ما يصير او كما قال صلى الله عليه و سلم فإذا وقع فكره على عاقبة ذلك وآخر امره وكانت نفسه حرة ابيه ربأبها ان يجعلها عبدا لما آخره انتن شيء واخبثه وافحشه
فصل إذا عرف هذا فالفكر هو احضار معرفتين في القلب ليستثمر منهمامعرفة ثالثة ومثال ذلك إذا احضر في قلبه العاجلة وعيشها وتعيمها وما يقترن به من الافات وانقطاعه وزواله ثم احضر في قلبه الآخرة ونعيمها ولذته ودوامه وفضله علىنعيم الدنيا وجزم بهذين العلمين اثمر له ذلك علما ثالثا وهو ان الآخرة ونعيمها الفاضل الدائم أولىعند كل عاقل بايثاره من العاجلة المنقطعة المنغصة ثم له في معرفة الآخرة حالتان احداهما ان يكون قد سمع ذلك من غيره من غير ان يباشر قلبه برد اليقين به ولم يفض قلبه إلى مكافحة حقيقة الآخرة وهذا حال أكثر الناس فيتجاذبه داعيان احدهما داعي العاجلة وايثارها وهو أقوى الداعيين عنده لانه مشاهد له محسوس وداعي الآخرة وهو اضعف الداعيين عنده لانه داع عن سماع

لم يباشر قلبه اليقين به ولا كافحه حقيقته العلمية فإذا ترك العاجلة للاخرة تريه نفسه بانه قد ترك معلوما لمظنون اومتحققا لموهوم فلسان الحال ينادي عليه لا ادع ذرة منقودة لدرة موعودة وهذه الافة هي التي منعت النفوس من الاستعداد للاخرة وان يسعى لها سعيها وهي من ضعف العلم بها وتيقنها وإلا فمع الجزم التام الذي لا يخالج القلب فيه شك لا يقع التهاون بها وعدم الرغبة فيها ولهذا لو قدم لرجل طعام في غاية الطيب واللذة وهو شديد الحاجة إليه ثم قيل له إنه مسموم فإنه لا يقدم عليه لعلمه بأن سوء ما تجنى عاقبة تناوله تربو في المضرة على لذة اكله فما بال الايمان بالاخرة لا يكون في قلبه بهذه المنزلة ماذاك الا لضعف شجرة العلم والايمان بها في القلب وعدم استقرارها فيه وكذلك اذا كان سائرا في طريق فقيل له إن بها قطاعا ولصوصا يقتلون من وجدوه ويأخذون متاعه فانه لا يسلكها الا على احد وجهين اما ان لا يصدق المخبر وإما ان يثق من نفسه بغلبتهم وقهرهم والانتصار عليهم والاف فمع تصديقه للخبر تصديقا لا يتمارى فيه وعلمه من نفسه بضعفه وعجزه عن مقاومتهم فإنه لا يسلكها ولو حصل له هذان العلمان فيما يرتكبه من ايثار الدنيا وشهواتها لم يقدم على ذلك فعلم ان إيثاره للعاجلة وترك استعداده للاخرة لا يكون قط مع كمال تصديقه وإيمانهابدا الحالة الثانية ان يتيقن ويجزم جزما لا شك فيه بأن له دارا غير هذه الدار ومعادا له خلق وان هذه الدار طريق إلى ذلك المعاد ومنزل من منازل السائرين إليه ويعلم مع ذلك انها باقية ونعيمها وعذابها لا يزول ولا نسبة لهذا النعيم والعذاب العاجل إليه إلا كما يدخل الرجل اصبعه في اليم ثم ينزعها فالذي تعلق بها منه هو كالدنيا بالنسبة إلى الآخرة فيثمر له هذا العلم ايثار الآخرة وطلبها والاستعداد التام لها وان يسعى لها سعيها وهذا يسعى تفكرا وتذكرا ونظرا وتأملا واعتبارا وتدبرا واستبصارا وهذه معان متقاربة تجتمع في شيء وتتفرق في آخر ويسمى تفكرا لانه استعمال الفكرة في ذلك واحضاره عنده ويسمى تذكرا لانه احضار للعلم الذي يجب مراعاته بعد ذهوله وغيبته عنه ومنه قوله تعالى ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ويسمى نظرا لانه التفات بالقلب إلى المنظور فيه ويسمى تأملا لانه مراجعة للنظر كرة بعدكرة حتى يتجلى له وينكشف لقلبه ويسمى اعتبارا وهو افتعال من العبور لانه يعبر منه إلى غيره فيعبر من ذلك الذي قد فكر فيه إلى معرفة ثالثة وهي المقصود من الاعتبار ولهذا يسمى عبرة وهي على بناء الحالات كالجلسة والركبة والقتلة ايذانا بأن هذا العلم والمعرفة قد صار حالا لصاحبه يعبر منه إلى المقصود به وقال الله تعالى ان في ذلك لعبرة لمن يخشى وقال إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار ويسمى تدبرا لانه نظر في ادبار الامور وهي اواخرها وعواقبها ومنه تدبر القول وقال

تعالى افلم يدبروا القول افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وتدبر الكلام ان ينظر في اوله وآخره ثم يعيد نظره مره بعد مرة ولهذا جاء على بناء التفعل كالتجرع والتفهم والتبين وسمى استبصارا وهو استفعال من التبصر وهو تبين الامر وانكشافه وتجليه للبصيرة وكل من التذكر والتفكر له فائدة غير فائدة الاخر فالتذكر يفيد تكرار القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه ويثبت ولا ينمحي فيذهب اثره من القلب جملة والتفكر يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلا عند القلب فالتفكر يحصله والتذكر يحفظه ولهذا قال الحسن ما زال اهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر علىالتذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة فالتفكر والتذكر بذار العلم وسقيه مطارحته ومذاكرته تلقيحه كما قال بعض السلف ملاقاة الرجال تلقيح لالبابها فالمذاكرة بها لقاح العقل فالخير والسعادة في خزانة مفتاحها التفكر فإنه لا بد من تفكر وعلم يكون نتيجته الفكر وحال يحدث للقلب من ذلك العلم فإن كل من عمل شيئا من المحبوب او المكروه لا بد ان يبقى لقلبه حالة وينصبغ بصبغة من علمه وتلك الحال توجب له إرادة وتلك الارادة توجب وقوع العمل فها هنا خمسة امور الفكر وثمرته العلم وثمرتهما الحالة التي تحدث للقلب وثمرة ذلك الارادة وثمرتها العلم فالفكر إذا هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها وهذا يكشف لك عن فضل التفكر وشرفه وانه من افضل اعمال القلب وانفعها له حتى قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة ومن المكاره إلى المحاب ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه ومن مرض الشهوة والاخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الانابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه ومن امراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور وبالجملة فأصل كل طاعة إنما هي الفكر وكذلك اصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة فإن الشيطان يصادف ارض القلب خالية فارغة فيبذر فيها حب الافكار الردية فيتولد منه الارادات والعزوم فيتولد منها العمل فإذا صادف ارض القلب مشغولة ببذر الافكار النافعة فيما خلق له وفيما امر به وفيم هيء له واعد له من النعيم المقيم او العذاب الاليم لم يجد لبذره موضعا وهذا كما قيل :
اتاني هواها قبل ان اعرف الهوى ... فصادف قلبا فارغا فتمكنا فان قيل فقد ذكرتم الفكر ومنفعته وعظم تأثيره في الخير والشر فما متعلقه الذي

ينبغي ان يوقع عليه ويجرى فيه فانه لا يتم المقصود منه الا بذكر متعلقه الذي يقع الفكر فيه والا ففكر بغير متفكر فيه محال قيل مجرى الفكر ومتعلقه اربعة امور احدها غاية محبوبة مرادة الحصول الثاني طريق موصلة إلى تلك الغاية الثالث مضرة مطلوبة الاعدام مكروهة الحصول الرابع الطريق المفضي اليها الموقع عليها فلا تتجاوز افكار العقلاء هذه الامور الاربعة وأي فكر تخطاها فهو من الافكار الردية والخيالات والاماني الباطلة كما يتخيل الفقير المعدم نفسه من اغنى البشر وهو يأخذ ويعطي وينعم ويحرم وكما يتخيل العاجز نفسه من اقوى الملوك وهو يتصرف في البلاد والرعية ونظير ذلك من افكار القلوب الباطولية التي من جنس افكار السكران والمحشوش والضعيف العقل فالافكار الردية هي قوت الانفس الخسيسة التي هي في غاية الدناءة فإنها قد قنعت بالخيال ورضيت بالمحال ثم لا تزال هذه الافكار تقوى بها وتتزايد حتى توجب لها آثارا ردية ووساوس وأمراضا بطيئة الزوال وإذا كان الفكر النافع لا يخرج عن الاقسام الاربعة التي ذكرناها فله ايضا محلان ومنزلان احدهما هذه الدار والاخر دار القرار فأبناء الدنيا الذين ليس لهم في الآخرة من خلاق عمروا بيوت افكارهم بتلك الاقسام الاربعة في هذه الدار فأثمرت لهم افكارهم فيها ما اثمرت ولكن إذا حقت الحقائق وبطلت الدنيا وقامت الآخرة تبين الرابح من المغبون وخسر هنالك المبطلون وأبناء الآخرة الذين خلقوا لها عمروا بيوت افكارهم على تلك الاقسام الاربعة فيها ونحن نفصل ذلك بعون الله وفضله فنقول كل طالب لشيء فهو محب له مؤثر لقربه ساع في طريق تحصيله متوصل إليه بجهده وهذا يوجب له تعلق افكاره بجمال محبوبه وكماله وصفاته التي يحب لاجلها وتعلقها بما يناله به من الخير والفرح والسرور ففكره في حال محبوبه دائر بين الجمال والاجمال والحسن والاحسان فكلما قويت محبته ازداد هذا الفكر وقوى وتضاعف حتى يستغرق اجزاء القلب فلا يبقى فيه فضل لغيره بل يصير بين الناس بقالبه وقلبه كله في حضرة محبوبه فإن كان هذا المحبوب هو المحبوب الحق الذي لا تنبغي المحبة إلا له ولا يحب غيره إلا تبعا لمحبته فهو اسعد المحبين به وقد وضع الحب موضعه وتهيأت نفسه لكمالها الذي خلقت له والذي لا كمال لها بدونه بوجه وان كانت تلك المحبة لغيره من المحبوبات الباطلة المتلاشية التي تفنى وتبقى حزازات القلوب بها على حالها فقد وضع المحبة في غير موضعها وظلم نفسه اعظم ظلم واقبحه وتهيأت بذلك نفسه لغاية شقائها والمها وإذا عرف هذا عرف ان تعلق المحبة بغير الاله الحق هو عين شقاء العبد وخسرانه فافكفاره المتعلقة بها كلها باطلة وهي مضرة عليه في حياته وبعدموته والمحب الذي قد ملك المحبوب افكار قلبه لا يخرج فكره عن تعلقه بمحبوبه او بنفسه ثم فكره في محبوبه لا يخرج عن حالتين

احداهما فكرته في جماله واوصافه والثانية فكرته في افعاله واحسانه وبره ولطفه الدالة على كمال صفاته وان تعلق فكره بنفسه لم يخرج ايضا عن حالتين اما ان نفكر في اوصافه المسخوطة التي يبغضها محبوبه ويمقته عليها ويسقطه من عينه فهو دائما يتوقع بفكره عليها ليتجنبها ويبعد منها والثانية ان يفكر في الصفات والاخلاق والافعال التي تقربه منه وتحببه إليه حتى يتصف بها فالفكرتان الاولتان توجب له زيادة محبته وقوتها وتضاعفها والفكرتان الاخرتان توجب محبة محبوبه له واقباله عليه وقربه منه وعطفه عليه وايثاره على غيره فالمحبة التامة مستلزمة لهذه الافكار الاربعة فالفكرة الاولى والثانية تتعلق بعلم التوحيد وصفات الاله المعبود سبحانه وأفعاله والثالثة والرابعة تتعلق بالطريق الموصلة اليها وقواطعها وآفاتها وما يمنع من السير فيها إليه فتفكره في صفات نفسه يميز له المحبوب لربه منها من المكروه له وهذه الفكرة توجب ثلاثة امور احدها ان هذا الوصف هل هو مكروه مبغوض لله ام لا الثاني هل العبد متصف به ام لا والثالث إذا كان متصفا به فما طريق دفعه والعافية منه وان لم يكن متصفا به فما طريق حفظ الصحة بوقائه على العافية والاحتراز منه وكذلك الفكرة في الصفة المحبوبة تستدعي ثلاثة امور احدها ان هذه الصفة هل هي محبوبة لله مرضية له ام لا الثاني هل العبد متصف بها ام لا الثالث انه إذا كان متصفا بها فما طريق حفظها ودوامها وان لم يكن متصفا بها فما طريق اجتلائها والتخلق بها ثم فكرته في الافعال على هذين الوجهين ايضا سواء ومجاري هذه الافكار ومواقعها كثيرة جدا لاتكاد تنضبط وانا يحصرها ستة اجناس الطاعات الظاهرة والباطنة والمعاصي الظاهرة والباطنة والصفات والاخلاق الحميدة والاخلاق والصفات الذميمة فهذه مجاري الفكرة في صفات نفسه وافعالها واما الفكرة في صفات المعبود وأفعاله واحكامه فتوجب له التمييز بين الايمان والكفروالتوحيد والشرك والاقرار والتعطيل وتنزيه الرب عما لا يليق به ووصفه بما هو اهله من الجلال والاكرام ومجاري هذه الفكرة تدبر كلامه وما تعرف به سبحانه إلى عباده على السنة رسله من اسمائه وصفاته وأفعاله وما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه وتدبر ايامه وافعاله في اوليائه واعدائه التي قصها على عباده واشهدهم اياها ليستدلوا بها على انه الههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة الا له ويستدلوا بها على انه على كل شيء قدير وانه بكل شيء عليم وانه شديد العقاب وانه غفور رحيم وانه العزيز الحكيم وانه الفعال لما يريد وانه الذي وسع كل شيء رحمة وعلما وان أفعاله كلها دائرة بين الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة لا يخرج شيء منها عن ذلك وهذه الثمرة لا سبيل إلى تحصيلها إلا بتدبر كلامه والنظر في آثار أفعاله وإلى هذين الاصلين ندب عباده في القرآن فقال في

الاصل الاول افلا يتدبرون القرآن افلم يدبروا القول كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون كتاب فصلت اياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون وقال في الاصل الثاني قل انظروا ماذا في السموات والارض ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ان في السموات والارض لايات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من ماء فاحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون او لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ومن آياته ان خلقكم من تراب ثم إذا انتم بشر تنتشرون ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون إلى قوله ومن آياته ان تقوم السماء والارض بامره ونوع سبحانه الايات في هذه السور فجعل خلق السموات والارض واختلاف لغات الامم والوانهم آيات للعالمين كلهم لاشتراكهم في العلم بذلك وظهوره ووضوح دلالته وجعل خلق الازواج التي تسكن اليها الرجال والقاء المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون فإن سكون الرجل إلى امرأته وما يكون بينهما من المودة والتعاطف والتراحم امر باطن مشهود بعين الفكرة والبصيرة فمتى نظر بهذه العين إلى الحكمة والرحمة والقدرة التي صدر عنها ذلك دلة فكره على انه الاله الحق المبين الذي أقرت الفطر بربوبيته والاهيته وحكمته ورحمته وجعل المنام بالليل والنهار للتصرف في المعاش وابتغاء فضله آيات لقوم يسمعون وهو سمع الفهم وتدبر هذه الايات وارتباطها بما جعلت آية له مما اخبرت به الرسل من حياة العباد بعد موتهم وقيامهم من قبورهم كما احياهم سبحانه بعد موتهم وأقامهم للتصرف في معاشهم فهذه الاية إنما ينتفع بها من سمع ما جاءت به الرسل واصغى إليه واستدل بهذه الاية عليه وجعل إراءتهم البرق وأنزل الماء من السماء وإحياء الارض به آيات لقوم يعقلون فإن هذه امور مرتبة بالابصار مشاهدة بالحس فإذا نظر فيها ببصر قلبه وهو عقله استدل بها على وجود الرب تعالى وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته إمكان ما اخبر به من حياة الخلائق بعد موتهم كما احيا هذه الارض بعدموتها وهذه امور لاتدرك إلا ببصر القلب وهو العقل فإن الحس دل على الاية والعقل دل على ما جعلت له آية فذكر سبحانه الاية المشهودة بالبصر والمدلول عليه المشهود بالعقل فقال ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحي به الارض بعدموتها أن في ذلك لايات لقوم يعقلون فتبارك

الذي جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء لما في الصدور وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فإنه جامع لجميع منازل السائرين واحوال العاملين ومقامات العارفين وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والانابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الاحوال التي بها حياة القلب وكماله وكذلك يزجر عن جميع الصفات والافعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاجا إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الايمان وذوق حلاوة القرآن وهذه كانت عادة السلف يردد احدهم الاية إلى الصباح وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله إن تعذبهم فإنهم عبادك وان تغفر لهم فإنك انت العزيز الحكيم فقراءة القرآن بالتفكر هي اصل صلاح القلب ولهذا قال ابن مسعود لاتهذوا القرآن هذا الشعر ولا تنثروه نثر الدقل وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب لا يكن هم احدكم آخر السورة وروى ابو ايوب عن ابي جمرة قال قلت لابن عباس اني سريع القراءة إني اقرا القرآن في ثلاث قال لان اقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها احب الي من ان اقرأ القرآن كما تقرأ والتفكر في القرآن نوعان تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه فالاول تفكر في الدليل القرآني والثاني تفكر في الدليل العياني الاول ففكر في آياته المسموعة والثاني تفكر في آياته المشهودة ولهذا انزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه ويعمل به لا لمجرد تلاوته مع الاعراض عنه قال الحسن البصري انزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا
فصل وإذا تأملت ما دعى الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه
اوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته واحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه فبهذا تعرف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته ونذكر لذلك امثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه يستدل بها على غيرها فمن ذلك خلق الانسان وقدندب سبحانه إلى التفكر فيه والنظر في غير موضع من كتابه كقوله تعالى فلينظر الانسان مم خلق وقوله تعالى وفي انفسكم افلا تبصرون وقال تعالى يايها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء إلى اجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعدعلم

شيئا وقال تعالى ايحسب الانسان ان يترك سدى الم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والانثى اليس ذلك بقادر على ان يحيى الموتى وقال تعالى الم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون وقال او لم ير الانسان انا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وقال ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين وهذا كثير في القرآن يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره إذ نفسه وخلقه من اعظم الدلائل على خالقه وفاطره واقرب شيء إلى الانسان نفسه وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الاعمار في الوقوف على بعضه وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره قال الله تعالى قتل الانسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم اماته فاقبره ثم إذا شاء انشره فلم يكرر سبحانه على اسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب ولا لنتكلم بها فقط ولا لمجرد تعريفنا بذلك بل لامر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب واليه جرى ذلك الحديث فانظر الان إلى النطفة بعين البصيرة وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وانتنت كيف استخرجها رب الارباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى ان ساقها إلى مستقرها ومجمعها وكيف جمع سبحانه بين الذكر والانثى والقى المحبة بينهما وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه وساقهما من اعماق العروق والاعضاء وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا لا يناله هواء يفسده ولا برد بحمده ولا عارض يصل إليه ولا آفة تتسلط عليه ثم قلب تلك ا لنطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها وانظر كيف قسم تلك الاجزاء المتشابهة المتساوية إلى الاعصاب والعظام والعروق والاوتار واليابس واللين وبين ذلك ثم كيف ربط بعضها ببعض اقوى رباط وأشده وابعده عن الانحلال وكيف كساها لحما ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا وجعلها حاملة له مقيمة له فاللحم قائم بها وهي محفوظة به وكيف صورها فاحسن صورها وشق لها السمع والبصر والفم والانف وسائر

المنافذ ومد اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤسهما بالاصابع ثم قسم الاصابع بالانامل وركب الاعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والامعاء كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قواما للبدن وعمادا له وكيف قدرها ربه وخالقها بتقادير مختلفة وأشكال مختلفة فمنها الصغير والكبير والطويل والقصير والمنحنى والمستدير والدقيق والعريض والمصمت والمجوف وكيف ركب بعضها في بعض فمنها ما تركيبه تركيب الذكر في الانثى ومنها ما تركيبه تركيب اتصال فقط وكيف اختلفت اشكالها باختلاف منافعها كالاضراس فإنها لما كانت آلة للطحن جعلت عريضة ولما كانت الاسنان آلة للقطع جعلت مستدقة محددة ولما كان الانسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض اعضائه للتردد في حاجته لم يجعل عظامه عظما واحدا بل عظاما متعددة وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه وكيف شد اسر تلك المفاصل والاعضاء وربط بعضها ببعض بأوتار ورباطات انبتها من احد طرفي العظم والصق احد طرفي العظم بالطرف الاخر كالرباط له ثم جعل في احد طرفي العظم زوائد خارجة عنه وفي الآخر نقرا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد ليدخل فيها وينطبق عليها فإذا أراد العبد ان يحرك جزء من بدنه لم يمتنع عليه ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه وتأمل كيفية خلق الراس وكثرة ما فيه من العظام حتى قيل إنها خمسة وخمسون عظما مختلفة الاشكال والمقادير والمنافع وكيف ركبه سبحانه وتعالى على البدن وجعله عاليا علو الراكب على مركوبه ولما كان عاليا على البدن جعل فيه الحواس الخمس وآلات الادراك كلها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس وجعل حاسة البصر في مقدمه ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن وركب كل عين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص ومقدار مخصوص ومنفعة مخصوصة لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع او زالت عن هيئتها وموضعها لتعطلت العين عن الابصار ثم اركز سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقا عجيبا وهو إنسان العين بقدر العدسة يبصر به ما بين المشرق والمغرب والارض والسماء وجعلهمن العين بمنزلة القلب من الاعضاء فهوملكها وتلك الطبقات والاجفان والاهداب خدم له وحجاب وحراس فتبارك الله احسن الخالقين فانظر كيف حسن شكل العينين وهيئتها ومقدارهما ثم جملهما بالاجفان غطاء لهما وسترا وحفظا وزينة فهما يتلقيان عن العين الاذى والقذا والغبار ويكنانهما من البارد المؤذي والحار المؤذي ثم غرس في اطراف تلك الاجفان الاهداب جمالا وزينة ولمنافع اخر وراء الجمال والزينة ثم اودعهما ذلك النور الباصر والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والارض ثم يخرق السماء مجاوزا لرؤية ما فوقها من الكواكب وقد

اودع سبحانه هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث تنطبع فيه صورة السموات مع اتساع اكنافها وتباعد اقطارها وشق له السمع وخلق الاذن احسن خلقه وابلغها في حصول المقصود منها فجعلها مجوفة كالصدفة لتجمع الصوت فتؤديه إلى الصماخ وليحس بدبيب الحيوان فيها فيبادر إلى اخراجه وجعل فيها غضونا وتجاويف واعوجاجات تمسك الهواء والصوت الداخل فتكسر حدته ثم تؤديه إلى الصماخ ومن حكمة ذلك ان يطول به الطريق على الحيوان فلا يصل إلى الصماخ حتى يستيقظ او ينتبه لامساكه وفيه ايضا حكم غير ذلك ثم اقتضت حكمة الرب الخالق سبحانه ان جعل ماء الاذن مرا في غاية المرارة فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلا إلى باطن الاذن بل إذا وصل إليه اعمل الحيلة في رجوعه وجعل ماء العينين ملحا ليحفظها فإنها شحمة قابلة للفساد فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظا وجعل ماء الفم عذبا حلوا ليدرك به طعوم الاشياء على ما هي عليه إذ لو كان على غير هذه الصفة لاحالها إلى طبيعته كما ان من عرض لفمه المرارة استمر طعم الاشياء التي ليست بمرة كما قيل
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجدمرا به الماء الزلالا
ونصب سبحانه قصبة الانف في الوجه فأحسن شكله وهيأته ووضعه وفتح فيه المنخرين وحجز بينهما بحاجز واودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها انواع الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة وليستنشق به الهواء فيوصله إلى القلب فيتروح به ويتغذى به ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ما جعل في الاذن لئلا يمسك الرائحة فيضعفها ويقطع مجراها وجعله سبحانه مصبا تنحدر إليه فضلات الدماغ فتجتمع فيه ثم تخرج منه واقتضت حكمته ان جعل اعلاه ادق من اسفله لان اسفله إذا كان واسعا اجتمعت فيه تلك الفضلات فخرجت بسهولة ولانه يأخذ من الهواء ملأه ثم يتصاعد في مجراه قليلا حتى يصل إلى القلب وصولا لا يضره ولا يزعجه ثم فصل بين المنخرين بحاجز بينهما حكمة منه ورحمة فإنه لما كان قصبة ومجرى ساترا لما يتحدر فيه من فضلات الراس ومجرى النفس الصاعد منه جعل في وسطه حاجزا لئلا يفسد بما يجرى فيه فيمنع نشقه للنفس بل إما ان تعتمد الفضلات نازلة من احد المنفذين في الغالب فيبقى الاخر للتنفس وإما ان يجرى فيهما فينقسم فلا ينسد الانف جملة بل يبقى فيه مدخل للتنفس وأيضا فإنه لما كان عضوا واحدا وحاسة واحدة ولم يكن عضوين وحاستين كالاذنين والعينين اللتين اقتضت الحكمة تعددهما فإنه ربما اصيبت احداهما اوعرضت لها آفة تمنعها من كمالها فتكون الاخرى سالمة فلا تتعطل

منفعة هذا الحس جملة وكان وجود انفين في الوجه شيئا ظاهرا فنصب فيه انفا واحدا وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز يجرى مجرى تعدد العينين والاذنين في المنفعة وهو واحد فتبارك الله رب العالمين واحسن الخالقين وشق سبحانه للعبد الفم في احسن موضع واليقه به واودع فيه من المنافع وآلات الذوق والكلام وآلات الطحن والقطع ما يبهر العقول عجائبه فأودعه اللسان الذي هو احد آياته الدالة عليه وجعله ترجمانا لملك الاعضاء مبينا مؤديا عنه كما جعل الاذن رسولا مؤديا مبلغا إليه فهي رسوله وبريده الذي يؤدي إليه الاخبار واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد واقتضت حكمته سبحانه ان جعل هذا الرسول مصونا محفوظا مستورا غير بارز مكشوف كالاذن والعين والانف لان تلك الاعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه جعلت بارزة ظاهرة ولما كان اللسان مؤديا منه إلى الخارج جعل له سترا مصونا لعدم الفائدة في إبرازه لانه لا يأخذ من الخارج إلى القلب وأيضا فلأنه لما كان اشرف الاعضاء بعدالقلب ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره ضرب عليه سرادق تستره وتصونه وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر وأيضا فإنه من الطف الاعضاء والينها واشدها رطوبة وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به فلو كان بارزا صارعرضة للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرف ولغير ذلك من الحكم والفوائد ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الاسنان التي هن جمال له وزينة وبها قوام العبد وغذاؤه وجعل بعضها ارحاء للطحن وبعضها آلة للقطع فاحكم اصولها وحدد رؤسها وبيض لونها ورتب صفوفها متساوية الرؤس متناسقة الترتيب كأنها الدر المنظوم بياضا وصفاء وحسنا واحاط سبحانه على ذلك حائطين واودعهما من المنافع والحكم ما اودعهما وهما الشفتان فحسن لونهما وشكلهما ووضعهما وهيأتهماوجعلهما غطاء للفم وطبقا له وجعلهما إتماما لمخارج حروف الكلام ونهاية له كما جعل اقصى الحلق بداية له واللسان وما جاوره وسطا ولهذا كان اكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة واقتضت حكمته ان جعل الشفتين لحما صرفا لا عظم فيه ولا عصب ليتمكن بهما من مص الشراب ويسهل عليه فتحهما وطبقهما وخص الفك الاسفل بالتحريك لان تحريك الاخف احسن ولانه يشتمل على الاعضاء الشريفة فلم يخاطر بها في الحركة وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الاشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة والصلابة واللين والطول والقصر فاختلفت بذلك الاصوات اعظم اختلاف ولا يكاد يشتبه صوتان إلا نادرا ولهذا كان الصحيح قبول شهادة الاعمى لتمييزه بين الاشخاص بأصواتهم كما يميز البصير بينهم بصورهم والاشتباه العارض بين الاصوات كالاشتباه العارض بين الصور وزين سبحانه الرأس بالشعر وجعله لباسا له لاحتياجه إليه وزين الوجه بما

انبت فيه من الشعور المختلفة الاشكال والمقادير فزينه بالحاجبين وجعلهما وقاية لما يتحدر من بشرة الراس إلى العينين وقوسهما وأحسن خطهما وزين أجفاف العينين بالاهداب وزين الوجه ايضا باللحية وجعلها كمالا ووقارا ومهابة لرجل زين الشفتين بما انبت فوقهما من الشارب وتحتهما من العنفقة وكذلك خلقه سبحانه لليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه ورأس مال معاشه فطولهما يحيث يصلان إلى ما شاء من بدنه وعرض الكف ليتمكن به من القبض والبسط وقسم فيه الاصابع الخمس وقسم كل اصبع بثلاث انامل والابهام باثنتين ووضع الاصابع الاربعة في جانب والابهام في جانب لتدور الابهام على الجميع فجاءت على احسن وضع صلحت به للقبض والبسط ومباشرة الاعمال ولو اجتمع الاولون والاخرون على ان يستنبطوا بدقيق افكارهم وضعا آخر للاصابع سوى ما وضعت عليه لم يجدوا إليه سبيلا فتبارك من لو شاء لسواها وجعلها طبقا واحدا كالصفيحة فلم يتمكن العبد بذلك من مصالحة وانواع تصرفاته ودقيق الصنائع والخط وغير ذلك فإن بسط اصابعه كانت طبقا يضع عليه ما يريد وان ضمها وقبضها كانت دبوسا وآلة للضرب وان جعلها بين الضم والبسط كانت مغرفة له يتناول بها وتمسك فيها ما يتناوله وركب الاظفار على رؤسها زينة لها وعمادا ووقاية وليلتقط بها الاشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الاصابع وجعلها سلاحا لغيره من الحيوان والطير وآلة لمعاشه وليحك الانسان بها بدنه عند الحاجة فالظفر الذي هو أقل الاشياء وأحقرها لو عدمه الانسان ثم ظهرت به حكة لاشتدت حاجته إليه ولم يقم مقامه شيء في حك بدنه ثم هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد إليه ولو في النوم والغفلة من غير حاجة إلى طلب ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك الا بعد تعب ومشقة ثم انظر إلى الحكمة البالغة في جعل عظام اسفل البدن غليظة قوية لانها اساس له وعظام اعاليه دونها في الثخانة والصلابة لانها محمولة ثم انظر كيف جعل الرقبة مركبا للرأس وركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات ثم طبق بعضها على بعض وركب كل خرزة تركيبا محكما متقنا حتى صارت كأنها خرزة واحدة ثم ركب الرقبة على الظهر والصدر ثم ركب الظهر من أعلاه إلى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة مركبة بعضها في بعض هي مجمع اضلاعه والتي تمسكها ان تنحل وتنفصل ثم وصل تلك العظام بعضها ببعض فوصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتفين بعظام العضدين والعضدين بالذراعين والذراعين بالكف والاصابع وانظر كيف كسا العظام العريضة كعظام الظهر والراس كسوة من اللحم تناسبها والعظام الدقيقة كسوة تناسبها كالاصابع والمتوسطة كذلك كعظام الذراعين والعضدين فهو مركب على ثلاثمائة وستين عظما مائتان وثمانية وأربعون مفاصل وباقيها صغار حشيت خلال المفاصل فلو زادت عظما واحدا لكان مضرة على الانسان

يحتاج إلى قلعة ولو نقصت عظما واحدا كان نقصانا يحتاج إلى جبره فالطبيب ينظر في هذه العظام وكيفية تركيبها ليعرف وجه العلاج في جبرها والعارف ينظر فيها ليستدل بها على عظمة باريها وخالقها وحكمته وعلمه ولطفه وكم بين النظرين ثم انه سبحانه ربط تلك الاعضاء والاجزاء بالرباطات فشد بها اسرها وجعلها كالاوتاد تمسكها وتحفظها حتى بلغ عددها إلى خمسمائة وتسعة وعشرين رباطا وهي مختلفة في الغلظ والدقة والطول والقصر والاستقامة والانحناء بحسب اختلاف مواضعها ومحالها فجعل منها اربعة وعشرين رباطا آلة لتحريك العين وفتحها وضمها وإبصارها لو نقضت منهن رباطا واحدا اختل امر العين وهكذا لكل عضو من الاعضاء رباطات هن له كالالات التي بها يتحرك ويتصرف ويفعل كل ذلك صنع الرب الحكيم وتقدير العزيز العليم في قطرة ماء مهين فويل للمكذبين وبعدا للجاحدين ومن عجائب خلقه انه جعل في الراس ثلاث خزائن نافذا بعضها إلى بعض خزانة في مقدمه وخزانة في وسطه وخزانة في آخره واودع تلك الخزائن من أسراره ما اودعها من الذكر والفكر والتعقل ومن عجائب خلقه ما فيه من الامور الباطنة التي لا تشاهد كالقلب والكبد والطحال والرئة والامعاء والمثانة وسائر ما في بطنه من الالات العجيبة والقوى المتعددة المختلفة المنافع فأما القلب فهو الملك المستعمل لجميع آلات البدن والمستخدم لها فهو محفوف بها محشود مخدوم مستقر في الوسط وهو اشرف اعضاء البدن وبه قوام الحياة وهو منبع الروح الحيواني والحرارة الغريزية وهو معدن العقل والعلم والحلم والشجاعة والكرم والصبر والاحتمال والحب والارادة والرضا والغضب وسائر صفات الكمال فجميع الاعضاء الظاهرة والباطنة وقواها انما هي جند من اجناد القلب فإن العين طليعته ورائده الذي يكشف له المرئيات فإن رأت شيئا أدته إليه ولشدة الارتباط الذي بينها وبينه إذا استقر فيه شيء ظهر فيها فهي مرآته المترجمة للناظر ما فيه كما ان اللسان ترجمانه المؤدي للسمع ما فيه ولهذا كثيرا ما يقرن سبحانه في كتابه بين هذه الثلاث كقوله أن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا وقوله وجعلنا لهم سمعا وابصارا وأفئدة وقوله صم بكم عمي وقد تقدم ذلك وكذلك يقرن بين القلب والبصر كقوله ونقلب افئدتهم وابصارهم وقوله في حق رسوله محمد صلى الله عليه و سلم ما كذب الفؤاد وما رأى ثم قال ما زاغ البصر وما طغى وكذلك الاذن هي رسوله المؤدى إليه وكذلك اللسان ترجمانه وبالجملة فسائر الاعضاء خدمه وجنوده وقال النبي صلى الله عليه و سلم الا ان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد إلا وهي القلب وقال ابو هريرة القلب ملك والاعضاء جنوده فان طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده وجعلت الرئة له كالمروحة تروح عليه دائما لانه اشد الاعضاء

حرارة بل هو منبع الحرارة واما الدماغ وهو المخ فإنه جعل باردا واختلف في حكمة ذاك فقالت طائفة إنما كان الدماغ بارد التبريد الحرارة التي في القلب ليردها عن الافراط إلى الاعتدال وردت طائفة هذا وقالت لو كان كذلك لم يكن الدماغ بعيدا عن القلب بل كان ينبغي ان يحيط به كالرئة او يكون قريبا منه في الصدر ليكسر حرارته قالت الفرقة الاولى بعدالدماغ من القلب لا يمنع ما ذكرناه من الحكمة لانه لو قرب منه لغلبته حرارة القلب بقوتها فجعل البعد بينهما بحيث لا يتفاسدان وتعتدل كيفية كل واحد منهما بكيفية الاخر وهذا بخلاف الرئة فإنها آلة للترويح على القلب لم تجعل لتعديل حرارته وتوسطت فرقة أخرى وقالت بل المخ حار لكنه فاتر الحرارة وفيه تبريد بالخاصية فإنه مبدأ للذهن ولهذا كان الذهن يحتاج إلى موضع ساكن قار صاف عن الاقذار والكدر خال من الجلبة والزجل ولذلك يكون جودة الفكر والتذكر واستخراج الصواب عند سكون البدن وفتور حركاته وقلة شواغله ومزعجاته ولذلك لم يصلح لها القلب وكان الدماغ معتدلا في ذلك صالحا له ولذلك تجود هذه الافعال في الليل وفي المواضع الخالية وتفسد عند التهاب نار الغضب والشهوة وعند الهم الشديد ومع التعب والحركات القوية البدنية والنفسانية وهذا بحث متصل بقاعدة اخرى وهي ان الحواس والعقل هل مبدؤها القلب والدماغ فقالت طائفة مبدؤها كلها القلب وهي مرتبطة به وبينه وبين الحواس منافذ وطرق قالوا وكل واحد من هذه الاعضاء التي هي آلات الحواس له اتصال بالقلب بأعصاب وغير ذلك وهذه الاعصاب تخرج من القلب إلى ان تأتي إلى كل واحد من هذه الاجسام التي فيها هذه الحواس قالوا فالعين إذا ابصرت شيئا أدته بالالة التي فيها إلى القلب لان هذه الالة متصلة منها إلى القلب والسمع إذا احس صوتا اداه إلى القلب وكذلك كل حاسة ثم اوردوا على انفسهم سؤالا فقالوا ان قيل كيف يجوز ان يكون عضو واحد على ضروب من الامتزاج يمده عدة حواس مختلفة وأجسام هذه الحواس مختلفة وقوة كل حاسة مخالفة لقوة الحاسة الاخرى واجابوا عن ذلك بأن جميع العروق التي في البدن كلها متصلة بالقلب إما بنفسها وإما بواسطة فما من عرق ولا عضو الاوله اتصال بالقلب اتصالا قريبا او بعيدا قالوا وينبعث منه في تلك العروق والمجاري إلى كل عضو ما بناسبه ويشاكله فينبعث منه إلى العينين ما يكون منه حس البصر وإلى الاذنين ما يدرك به المسموعات وإلى اللحم ما يكون منه حس اللمس وإلى الانف ما يكون به حس الشم وإلى اللسان ما يكون به حس الذوق وإلى كل ذي قوة ما يمد قوته ويحفظها فهو المعد لهذه الاعضاء والحواس والقوى ولهذا كان الراي الصحيح انه اول الاعضاء تكوينا قالوا ولا ريب ان مبدأ القوة العاقلة منه وإن كان قد خالف في ذلك آخرون وقالوا بل العقل

في الرأس فالصواب ان مبدأه ومنشأه من القلب وفروعه وثمرته في الراس والقرآن قد دل على هذا بقوله افلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقال ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ولم يرد بالقلب هنا مضغة اللحم المشتركة بين الحيوانات بل المراد ما فيه من العقل واللب ونازعهم في ذلك طائفة اخرى وقالوا مبدأ هذه الحواس إنما هو الدماغ وانكروا ان يكون بين القلب والعين والاذن والانف اعصاب او عروف وقالوا هذا كذب على الخلقة والصواب التوسط بين الفريقين وهو ان القلب تنبعث منه قوة إلى هذه الحواس وهي قوة معنوية لا تحتاج في وصولها إليه إلى مجار مخصوصة واعصاب تكون حاملة لها فإن وصول القوى إلى هذه الحواس والاعضاء لا يتوقف الاعلى قبولها واستعداها وامداد القلب لا على مجار وأعصاب وبهذا يزول الالتباس في هذا المقام الذي طال فيه الكلام وكثر فيه النزاع والخصام والله اعلم وبه التوفيق للصواب والمقصود التنبيه على أقل القليل من وجوه الحكمة التي في خلق الانسان والامر اضعاف اضعاف ما يخطر بالبال او يجرى فيه المقال وإنما فائدة ذكر هذه الشذرة التي هي كل شيء بالنسبة إلى ما وراءها التنبيه وإذا نظر العبد إلى غذائه فقط في مدخله ومستقره ومخرجه رأى فيه العبر والعجائب كيف جعلت له آلة يتناول بها ثم باب يدخل منه ثم آلة تقطعه صغارا ثم طاحون يطحنه ثم اعين بماء يعجنه ثم جعل له مجرى وطريقا إلى جانب النفس ينزل هذا ويصعد هذا فلا يلتقيان مع غاية القرب ثم جعل له حوايا وطرقا توصله إلى المعدة فهي خزانته وموضع اجتماعه ولها بابان باب اعلى يدخل منه الطعام وباب اسفل يخرج منه تفله والباب الاعلى اوسع من الاسفل إذ الاعلى مدخل للحاصل والاسفل مصرف للضار منه والاسفل منطبق دائما ليستقر الطعام في موضعه فإذا انتهى الهضم فإن ذلك الباب ينفتح إلى انقضاء الدفع ويسمى البواب لذلك والاعلى يسمى فم المعدة والطعام ينزل إلى المعدة متكيمسا فإذا استقر فيها انماع وذاب ويحيط بالمعدة من داخلها وخارجها حرارة نارية بل ربما تزيد على حرارة النار ينضج بها الطعام فيها كما ينضج الطعام في القدر بالنار المحيطة به ولذلك يذيب ما هو مستحجر كالحصا وغيره حتى يتركه مائعا فإذا أذابته علا صفوه إلى فوق ورس كدره إلى اسفل ومن المعدة عروق متصلة بسائر البدن يبعث فيها معلوم كل عضو وقوامه بحسب استعداه وقبوله فيبعث اشرف ما في ذلك والطفه واخفه إلى الارواح فيبعث إلى البصر بصرا والى السمع سمعا والى الشم شما والى كل حاسة بحسبها فهذا الطف ما يتولد عن الغذاء ثم ينبعث منه إلى الدماغ ما يناسبه في اللطافة والاعتدال ثم ينبعث من الباقي إلى الاعضاء في تلك المجاري بحسبها وينبعث منه إلى العظام والشعر والاظفار ما يغذيها

ويحفظها فيكون الغذاء داخلا إلى المعدة من طرق ومجار وخارجا منها إلى الاعضاء من طرق ومجار هذا وارد اليها وهذا صادر عنها حكمة بالغة ونعمة سابغة ولما كان الغذاء إذا استحال في المعدة استحال دما ومرة سوداء ومرة صفراء وبلغما اقتضت حكمته سبحانه وتعالى ان جعل لكل واحد من هذه الاخلاط مصرفا ينصب إليه ويجتمع فيه ولا ينبعث إلى الاعضاء الشريفة الا أكمله فوضع المرارة مصبا للمرة الصفراء ووضع الطحال مقرا للمرة السوداء والكبد تمتص اشرف ما في ذلك وهو الدم ثم تبعثه إلى جميع البدن من عرق واحد ينقسم على مجار كثيرة يوصل إلى كل واحد من الشعور والاعصاب والعظام والعروق ما يكون به قوامه ثم إذا نظرت إلى ما فيه من القوى الباطنة والظاهرة المختلفة في انفسها ومنافعها رايت العجب العجاب كقوة سمعه وبصره وشمه وزوقه ولمسه وحبه وبغضه ورضاه وغضبه وغير ذلك من القوى المتعلقة بالادراك والارادة وكذلك القوى المتصرفة في غذائه كالقوة المنضجة له وكالقوة الماسكة له والدافعة له إلى الاعضاء والقوة الهاضمة له بعد اخذ الاعضاء حاجتها منه إلى غير ذلك من عجائب خلقته الظاهرة والباطنة
فصل فارجع الان إلى النطفة وتأمل حالها اولا وما صارت إليه ثانيا
وأنه لو اجتمع الانس والجن على ان يخلقوا لها سمعا او بصرا او عقلا او قدرة او علما او روحا بل عظما واحدا من اصغر عظامها بل عرقا من ادق عروقها بل شعرة واحدة لعجزوا عن ذلك بل ذلك كله آثار صنع الله الذي اتقن كل شيء في قطرة من ماء مهين فمن هذا صنعه في قطرة ماء فكيف صنعه في ملكوت السموات وعلوها وسعتها واستدارتها وعظم خلقها وحسن بنائها وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها ومقاديرها واشكالها وتفاوت مشارقها ومغاربها فلا ذرة فيها تنفك عن حكمة بل هي احكم خلقا واتقن صنعا واجمع العجائب من بدن الانسان بل لا نسبة لجميع ما في الارض إلى عجائب السموات قال الله تعالى أأنتم اشد خلقا ام السماء بناها رفع سمكها فسواها وقال تعالى ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى قوله لايات لقوم يعقلون فبدأ بذكر خلق السموات وقال تعالى ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب وهذا كثير في القرآن فالارض والبحار والهواء وكل ما تحت السموات بالاضافة إلى السموات كقطرة في بحر ولهذا قل ان تجيء سورة في القرآن الا وفيها ذكرها إما إخبارا عن عظمها وسعتها وإما اقساما بها وإما دعاء إلى النظر فيها وإما ارشادا للعباد ان يستدلوا بها على عظمة

بانيها ورافعها وإما استدلالا منه سبحانه بخلقها على ما أخبر به من المعاد والقيمة وإما استدلالا منه بربوبيته لها على وحدانيته وأنه الله الذي لا إله الا هو وإما استدلالا منه بحسنها واستوائها والتئام اجزائها وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها فكم من قسم في القرآن بها كقوله والسماء ذات البروج والسماء والطارق والسماء وما بناها والسماء ذات الرجع والشمس وضحاها والنجم إذا هوى والنجم الثاقب فلا اقسم بالخنس وهي الكواكب التي تكون خنسا عند طلوعها جوار في مجراها ومسيرها كنسا عند غروبها فاقسم بها في أحوالها الثلاثة ولم يقسم فيكتابه بشيء من مخلوقاته أكثر من السماء والنجوم والشمس والقمر وهو سبحانه يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لتضمنه الايات والعجائب الدالة عليه وكلما كان اعظم آية وأبلغ في الدلالة كان إقسامه به اكثر من غيره ولهذا يعظم هذا القسم كقوله فلا اقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم وأظهر القولين انه قسم بمواقع هذه النجوم التي في السماء فإن اسم النجوم عند الاطلاق إنما ينصرف اليها وأيضا فإنه لم تجر عادته سبحانه باستعمال النجوم في آيات القرآن ولا في موضع واحد من كتابه حتى تحمل عليه هذه الاية وجرت عادته باستعمال النجوم في الكواكب في جميع القرآن وأيضا فإن نظير الاقسام بمواقعها هنا إقسامه بهوى النجم في قوله والنجم إذاهوى وأيضا فإن هذا قول جمهور اهل التفسير وأيضا فإنه سبحانه يقسم بالقرآن نفسه لا بوصوله إلى عباده هذه طريقة القرآن قال الله تعالى ص والقرآن ذي الذكر يس والقرآن الحكيم ق والقرآن المجيد حم والكتاب المبين ونظائره والمقصود انه سبحانه إنما يقسم من مخلوقاتهبما هو من آياته الدالة على ربوبيته ووحدانيته وقد اثنى سبحانه في كتابه على المتفكرين في خلق السموات والارض وذم المعرضين عن ذلك فقال وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وتأمل خلق هذا السقف الاعظم مع صلابته وشدته ووثاقته من دخان وهو بخار الماء قال الله تعالى وبنينا فوقكم سبعا شدادا وقال تعالى أأنتم اشد خلقا ام السماء بناها رفع سمكها فسواها وقال وجعلنا السماء سقفا محفوظا فانظر إلى هذا البناء العظيم الشديد الواسع الذي رفع سمكه اعظم ارتفاع وزينه باحسن زينة وأودعه العجائب والايات وكيف ابتدأ خلقه من بخار ارتفع من الماء وهو الدخان
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ... ومن هو فوق العرش فرد موحد
لقد تعرف إلى خلقه بأنواع التعرفات ونصب لهم الدلالات واوضح لهم الايات البينات ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي بينة وان الله يسمع عليم فارجع البصر إلى السماء وانظر فيها وفي كواكبها ودورانها وطلوعها وغروبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها ودؤوبها

في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها ولا تغير في سيرها بلت جري في منازل قد رتبت لها بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص إلى ان يطويها فاطرها وبديعها وانظر إلى كثرت كواكبها واختلاف الوانها ومقاديرها فبعضها يميل إلى الحمرة وبعضها إلى البيضا وبعضها إلى اللون الرصاصي ثم انظر إلى مسير الشمس في فلكها في مدة سنة ثم هي في كل يوم تطلع وتغرب بسير سخرها له خالقها لا تتعداه ولا تقصر عنه ولولا طلوعها وغروبهالما عرف الليل والنهار ولا المواقيت ولاطبق الظلام على العالم او الضياء ولم يتميز وقت المعاش من وقت السبات والراحة وكيف قدر لها السميع العليم سفرينمتباعدين احدهما سفرها صاعدة إلى اوجها والثاني سفرها هابطة إلى حضيضها تنتقل في منازل هذا السفر منزلة منزلة حتى تبلغ غايتها منه فاحدث ذلك السفر بقدرة الرب القادر اختلاف الفصول من الصيف والشتاء والخريف والربيع فإذا انخفض سيرها عن وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء وإذا استوت في وسط السماء اشتد القيظ وإذا كانت بين المسافتين اعتدل الزمان وقامت مصالح العباد والحيوان والنبات بهذه الفصول الاربعةواختلفت بسببها الاقوات واحوال النبات والوانه ومنافع الحيوان والاغذية وغيرها وانظر إلى القمر وعجائب آياته كيف يبديه الله كالخيط الدقيق ثم يتزايد نوره ويتكامل شيئا فشيئا كل ليلة حتى ينتهي إلى ابداره وكماله وتمامه ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الاولى ليظهر من ذلك مواقيت العباد في معاشهم وعبادتهم ومناسكهم فتميزت به الاشهر والسنين وقام حساب العالم مع ما في ذلك من الحكم والايات والعبر التي لا يحصيها الا الله وبالجملة فما من كوكب من الكواكب الا وللرب تبارك وتعالى في خلقه حكم كثيرة ثم في مقداره ثم في شكله ولونه ثم في موضعه من السماء وقربه من وسطها وبعده وقربه من الكوكب الذي يليه وبعده منه وإذا اردت معرفة ذلك على سبيل الاجمال فقسه باعضاء بدنك واختلافها وتفاوت اما بين المتجاورات منها وبعد ما بين المتباعدات وأشكالها ومقاديرها وتفاوت منافعا وما خلقت له وأين نسبة ذلك إلى عظم السموات وكواكبها وآياتها وقد اتفق أرباب الهيئة على ان الشمس بقدر الارض مائة مرة ونيفا وستين مرة والكواكب التي نراها كثير منها اصغرها بقدر الارض وبهذا يعرف ارتفاعها وبعدها وفي حديث ابي هريرة الذي رواه الترمذي ان بين الارض والسماء مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماءين كذلك وانت ترى الكوكب كانه لا يسير وهو من اول جزء من طلوعه إلى تمام طلوعه يكون فلكه قد طلع بقدر مسافة الارض مائة مرة او اكثر وذلك بعد لحظة واحدة لان الكوكب إذا كان بقدر الارض مائة مرة مثلا ثم سار في اللحظة من موضع الىموضع فقد قطع بقدر مسافة الارض مائة مرة وزيادة في لحظة من اللحظات وهكذا يسير على الدوام والعبد غافل

عنه وعن آياته وقال بعضهم إذا تلفظت بقولك لا نعم فبين اللفظتين تكون الشمس قد قطعت من الفلك مسيرة خمسمائة عام ثم انه سبحانه امسك السموات مع عظمها وعظم ما فيها وثبتها من غير علاقة من فوقها ولا عمد من تحتها الله الذي خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الارض رواسي ان تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فاروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين

فصل والنظر في هذه الايات وامثالها نوعان نظر اليها بالبصر الظاهر
فيرى مثلا زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها وهذا نظر يشارك الانسان فيه غيره من الحيوانات وليس هو المقصود بالأمر الثاني ان يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له ابواب السماء فيجول في اقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والارضين السبع بالنسبة إليه كحلقه ملقاة بأرض فلاة ويرى الملائكة حافين من حوله لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير والامر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها الا ربها ومليكها فينزل الامر باحياء قوم وإماتة آخرين وإعزاز قوم وإذلال آخرين واسعاد قوم وشقاوة آخرين وإنشاء ملك وسلب ملك وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها من جبر كسر وإغناء فقير وشفاء مريض وتفريج كرب ومغفرة ذنب وكشف ضر ونصر مظلوم وهداية حيران وتعليم جاهل ورد آبق وأمان خائف وإجارة مستجير ومدد لضعيف وإغاثة الملهوف وإعانة لعاجز وانتقام من ظالم وكف العدوان فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفذ في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها ولا يتبرم بالحاح الملحين ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته خاشعا لعظمته عان لعزته فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه وهذا من اعظم آيات الله وعجائب صنعه فياله من سفر ما أبركه واروحه واعظم ثمرته وربحه واجل منفعته واحسن عاقبته سفر هو حياة الارواح ومفتاح السعادة وغنيمته العقول والالباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب
فصل وإذا نظرت إلى الارض وكيف خلقت رأيتها من اعظم آيات فاطرها
وبديعها خلقها سبحانه فراشا ومهادا وذللها لعباده وجعل فيه ارزاقهم واقواتهم ومعايشهم وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم وارساها بالجبال فجعلها اوتادا تحفظها لئلا تميد

بهم ووسع اكنافها ودحاها فمدها وبسطها وطحاها فوسعها من جوانبها وجعلها كفاتا للاحياء تضمهم على ظهرها ما داموا احياء وكفاتا للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا فظهرها وطن للاحياء وبطنها وطن للاموات وقد اكثر تعالى من ذكر الارض في كتابه ودعا عباده إلى النظر اليها والتفكر في خلقها فقال تعالى والارض فرشناها فنعم الماهدون الله الذي جعل لكم الارض قرارا الذي جعل لكم الارض فراشا افلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت وإلى ارض كيف سطحت ان في السموات والارض لايات للؤمنين وهذا كثير في القرآن فانظر اليها وهي ميتة هامدة خاشعة فإذا انزلنا عليها الماء اهتزت فتحركت وربت فارتفعت واخضرت وانبتت من كل زوج بهيج فاخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر بهيج للناظرين كريم للمتناولين فأخرجت الاقوات على اختلافها وتباين مقاديرها واشكالها والوانها ومنافعها والفواكه والثمار وانواع الادوية ومراعي الدواب والطير ثم انظر قطعها المتجاورات وكيف ينزل عليها ماء واحدا فتنبت الازواج المختلفة المتباينة في اللون والشكل والرائحة والطعم والمنفعة واللقاح واحد والام واحدة كما قال تعالى وفي الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل ان في ذلك لايات لقوم يعقلون فكيف كانت هذه الاجنة المختلفة مودعة في بطن هذه الام وكيف كان حملها من لقاح واحد صنع الله الذي اتقن كل شيء لا إله إلا هو ولولا ان هذا من اعظم آياته لما نبه عليه عباده وهداهم إلى التفكير فيه قال الله تعالى وترى الارض هامدة فإذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج ذلك بان الله هو الحق وانه يحيي الموتى وانه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فجعل النظر في هذه الاية وما قبلها من خلق الجنين دليلا على هذه النتائج الخمس مستلزما للعلم بها ثم انظر كيف احكم جوانب الارض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب وكيف نصبها فأحسن نصبها وكيف رفعها وجعلها اصلب اجزاء الارض لئلا تضمحل علىتطاول السنين وترادف الامطار والرياح بل اتقن صنعها واحكم وضعها واودعها من المنافع والمعادن والعيون ما اودعها ثم هدى الناس إلى استخراج تلك المعادن منها والهمهم كيف يصنعون منها النقود والحليوالزينة واللباس والسلاح وآلة المعاش على اختلافها ولولا هدايته سبحانه لهم إلى ذلك لما كان لهم علم شيء منه ولا قدرة عليه ومن آياته الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والارض يدرك بحس اللمس عند هبوبه يدرك جسمه ولا يرى شخصه فهو يجرى بين السماء والارض والطير مختلفة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء وتضطرب جوانبه

وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب امواج البحر فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحا للسحاب يلقحه بحمل الماء كما يلقح الذكر الانثى بالحمل وتسمى رياح الرحمة المبشرات والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقع ورياح العذاب العاصف والقاصف وهما في البحر والعقيم والصرصر وهما في البر وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيما وأودعه عذابا اليما وجعله نقمة على من يشاء من عباده فيجعله صرصرا ونحسا وعاتيا ومفسدا لما يمر عليه وهي مختلفة في مهابها فمنها صبا ودبور وجنوب وشمال وفي منفعتها وتاثيرها اعظم اختلاف فريح لينة رطبة تغذى النبات وابدان الحيوان واخرى تجففه واخرى تهلكه وتعطبه وأخرى تشده وتصلبه وأخرى توهنه وتضعفه ولهذا يخبر سبحانه عن رياح الرحمة بصيغة الجمع لاختلاف منافعها وما يحدث منها فريح تثير السحاب وريح تلقحه وريح تحمله على متونها وريح تغذى النبات ولما كانت الرياح مختلفة في مهابها وطبائعها جعل لكل ريح ريحا مقابلتها تكسر سورتها وحدتها ويبقى لينها ورحمتها فرياح الرحمة متعددة وأما ريح العذاب فإنه ريح واحدة ترسل من وجه واحد لاهلاك ما ترسل باهلاكه فلاتقوم لها ريح اخرى تقابلها وتكسر سورتها وتدفع حدتها بل تكون كالجيش العظيم الذي لا يقاومه شيء يدمر كل ما اتى عليه وتأمل حكمة القرآن وجلالته وفصاحته كيف طرد هذا في البر وأما في البحر فجاءت ريح الرحمة فيه بلفظ الواحد كقوله تعالى هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان فإن السفن إنما تسير بالريح الواحدة التي تأتي من وجه واحد فإذا اختلفت الرياح على السفن وتقابلت لم يتم سيرها فالمقصود منها في البحر خلاف المقصود منها في البر إذ المقصود في البحر ان تكون واحدة طيبة لا يعارضها شيء فأفردت هنا وجمعت في البر ثم انه سبحانه اعطى هذا المخلوق اللطيف الذي يحركه اضعف المخلوقات ويخرقه من الشدة والقوة والباس ما يقلق به الاجسام الصلبة القوية الممتنعة ويزعجها عن اماكنها ويفتتها ويحملها على متنه فانظر إليه مع لطافته وخفته إذا دخل في الزق مثلا وامتلأ به ثم وضع عليه الجسم الثقيل كالرجل وغيره وتحامل عليه ليغمسه في الماء لم يطق ويضع الحديد الصلب الثقيل على وجه الماء فيرسب فيه فامتنع هذا اللطيف من قهر الماء له ولم يمتنع منه القوي الشديد وبهذه الحكمة امسك الله سبحانه السفن على وجه الماء مع ثقلها وثقل ما تحويه وكذلك كل مجوف حل فيه الهواء فإنه لا يرسب فيه لان الهواء يمتنع من الغوس في الماء فتتعلق به السفينة المشحونة الموقرة فتأمل كيف استجار هذا الجسم الثقيل العظيم بهذا اللطيف الخفيف وتعلق به حتى امن من الغرق وهذا كالذي يهوى في قليب فيتعلق بذيل رجل قوي شديد يمتنع عن السقوط في القليب فينجو بتعلقه به فسبحان من علق هذا

المركب العظيم الثقيل بهذا الهواء اللطيف من غير علاقة ولاعقدة تشاهد ومن آياته السحاب المسخر بين السماء والارض كيف ينشئه سبحانه بالرياح فتثيره كسيفا ثم يؤلف بينه ويضم بعضه إلى بعض ثم تلقحه الريح وهي التي سماها سبحانه لواقح ثم يسوقه على متونها إلى الارض المحتاجة إليه فإذا علاها واستوى عليها اهراق ماءه عيها فيرسل سبحانه عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه اقلع عنها وفارقها فهي روايا الارض محمولة على ظهور الرياح وفي الترمذي وغيره ان النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى السحاب قال هذه روايا الارض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يذكرونه فالسحاب حامل رزق العباد وغيرهم التي عليها ميرتهم وكان الحسن إذا رأى السحاب قال في هذا والله رزقكم ولكنكم تحرموه بخطاياكم وذنوبكم وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال بينا رجل بفلاة من الارض إذ سمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فمر الرجل مع السحابة حتى اتت على حديقة فلما توسطتها افرغت فيها ماءها فإذا برجل معه مسحاة يسحي الماء بها فقال ما اسمك يا عبد الله قال فلان للاسم الذي سمعه في السحابة وبالجملة فإذا تأملت السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جو صاف لا كدورة فيه وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء وهو مع لينه ورخاوته حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى ان يأذن له ربه وخالقه في ارسال ما معه من الماء فيرسله وينزله منه مقطعا بالقطرات كل قطرة بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته فيرش السحاب الماء على الارض رشا ويرسله قطرات مفصلة لاتختلط قطرة منها باخرى ولا يتقدم متأخرها ولا يتأخر متقدمها ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمزج بها بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الارض قطرة قطرة قد عينت كل قطرة منها لجزء من الارض لا تتعداه إلى غيره فلو اجتمع الخلق كلهم على ان يخلقوا منها قطرة واحدة او يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقا للعباد والدواب والطير والذر والنمل يسوقه رزقا للحيوان الفلاني في الارض الفلانية بجانب الجبل الفلاني فيصل إليه على شدة من الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا ثم كيف اودعه في الارض ثم اخرج به انواع الاغذية والادوية والاقوات فهذا النبات يغذي وهذا يصلح الغذاء وهذا ينفذه وهذا يضعف وهذا اسم قاتل وهذا شفاء من السم وهذا يمرض وهذا دواء من المرض وهذا يبرد وهذا يسخن وهذا إذا حصل في المعدة قمع الصفراء من اعماق العروق وهذا إذا حصل فيها ولد الصفراء واستحال اليها وهذا يدفع البلغم والسوداء وهذا يستحيل

اليهما وهذا يهيج الدم وهذا يسكنه وهذا ينوم وهذا يمنع النوم وهذا يفرح وهذا يجلب الغنم إلى غير ذلك من عجائب النبات التي لا تكاد تخلو ورقة منه ولاعرق ولا ثمرة من منافع تعجز عقول البشر عن الاحاطة بها وتفصيلها وانظر إلى مجاري الماء في تلك العروق الرقيقة الضئيلة الضعيفة التي لا يكاد البصر يدركها إلا بعد تحديقه كيف يقوى قسره واجتذابه من مقره ومركزه إلى فوق ثم ينصرف في تلك المجاري بحسب قبولها وسعتها وضيقها ثم تتفرق وتتشعب وتدق إلى غاية لا ينالها البصر ثم انظر إلى تكون حمل الشجرة ونقلته من حال إلى حال كتنقل احوال الجنين المغيب عن الابصار ترى العجب العجاب فتبارك الله رب العالمين واحسن الخالقين بينا تراها حطبا قائما عاريا لا كسوة عليها إذ كاسها ربها وخالقها من الزهر احسن كسوة ثم سلبها تلك السكوة وكساها من الورق كسوة هي اثبت من الاولى ثم اطلع فيها حملها ضعيفا ضئيلا بعد ان اخرج ورقها صيانة وثوبا لتلك الثمرة الضعيفة لتستجب به من الحر والبرد والافات ثم ساق إلى تلك الثمار رزقها وغذاها في تلك العروق والمجاري فتغذت به كما يتغذى الطفل بلبان امه ثم رباها ونماها شيئا فشيئا حتى استوت وكملت وتناهى ادراكها فأخرج ذلك الجني اللذيذ اللين من تلك الحطبة الصماء هذا وكم لله من آية في كل ما يقع الحس عليه ويبصره العباد وما لايبصرونه تفنى الاعمار دون الاحاطة بها وجميع تفاصيلها

فصل ومن آياته سبحانه تعالى الليل والنهار وهما من اعجب آياته
وبدائع مصنوعاته ولهذا يعيد ذكرهما في القرآن ويبديه كقوله تعالى ومن آياته الليل والنهار وقوله وهو الذي جعل الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وقوله عز و جل وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون وقوله عز و جل الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا وهذا كثير في القرآن فانظر إلى هاتين الايتين وما تضمنتاه من العبر والدلالات على ربوبية الله وحكمته كيف جعل الليل سكنا ولباسا يغشى العالم فتسكن فيه الحركات وتأوى الحيوانات إلى بيوتها والطير إلى اوكارها وتستجم فيه النفوس وتستريح من كد السعي والتعب حتى إذا اخذت منه النفوس راحتها وسباتها وتطلعت إلى معايشها وتصرفها جاء فالق الاصباح سبحانه وتعالى بالنهار يقدم جيشه بشير الصباح فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق وكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون فانتشر الحيوان وتصرف في معاشه ومصالحه وخرجت الطيور من اوكارها فياله من معاد ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الاكبر وتكرره

ودوام مشاهدة النفوس له بحيث صار عادةومألفا منعها من الاعتبار به والاستدلال به على النشأة الثانية وإحياء الحلق بعد موتهم ولا ضعف في قدرة القادر التام القدرة ولا قصور في حكمته ولا في علمه ويوجب تخلف ذلك ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهذا ايضا من اياته الباهرة ان يعمى عن هذه الايات الواضحة البينة من شاء من خلقه فلا يهتدي بها ولا يبصرها لمن هو واقف في الماء إلى حلقه وهويستغيث من العطش وينكر وجود الماء وبهذا وأمثاله يعرف الله عز و جل ويشكر ويحمد ويتضرع إليه ويسأل

فصل ومن آياته وعجائب مصنوعاته البحار المكتنفة لاقطار الارض التي هي
خلجان من البحر المحيط الاعظم بجميع الارض حتى ان المكشوف من الارض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم وبقية الارض مغمورة بالماء ولولا امساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسه الماء لطفح على الارض وعلاها كلها هذا طبع الماء وهذا حار عقلاء الطبيعيين في سبب بروز هذا الجزء من الارض مع اقتضاء طبيعة الماء للعلو عليه وإن يغمره ولم يجدوا ما يحيلون عليه ذلك إلا الاعتراف بالعناية الازلية والحكمة الالهية التي اقتضت ذلك العيش الحيوان الارضي في الارض وهذا حق ولكنه يوجب الاعتراف بقدرة الله وإرادته ومشيئته وعلمه وحكمته وصفات كماله ولا محيص عنه وفي مسند الامام احمد عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ما من يوم الا والبحر يستأذن ربه ان يغرق بني آدم وهذا احدالاقوال في قوله عز و جل والبحر المسجور انه المحبوس حكاه ابن عطية وغيره قالوا ومنه ساجور الكلب وهي القلادة من عود او حديد التي تمسكه وكذلك لولا ان الله يحبس البحر ويمسكه لفاض على الارض فالارض في البحر كبيت في جملة الارض واذا تأملت عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف اجناسها وأشكالها ومقاديرها ومنافعها ومضارها وألوانها حتى ان فيها حيوانا امثال الجبال لا يقوم له شيء وحتى ان فيه من الحيوانات ما يرى ظهورها فيظن انها جزيرة فينزل الركاب عليها فتحس بالنار إذا اوقدت فتتحرك فيعلم انه حيوان وما من صنف من اصناف حيوان البر إلا وفي البحر امثاله حتى الانسان والفرس والبعير واصنافها وفيه اجناس لا يعهد لها نظير في البر اصلا هذا مع ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان فترى اللؤلؤة كيف اودعت في كن كالبيت لها وهي الصدفة تكنها وتحفظها ومنه اللؤلؤ المكنون وهو الذي في صدفه لم تمسه الايدي وتأمل كيف نبت المرجان في قعره في الصخرة الصماء تحت الماء على هيئة الشجر هذا مع ما فيه من العنبر واصناف النفائش

التي يقذفها البحر وتستخرج منه ثم انظر إلى عجائب السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخره بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها وإنما قائدها وسائقها الرياح التي يسخرها الله لاجرائها فإذا حبس عنها القائد والسائق ظلت راكدة على وجه الماء قال الله تعالى ومن آياته الجواري في البحر كالاعلام ان يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لايات لكل صبار شكور وقال الله تعالى الله الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون فما اعظمها من آية وابينها من دلالة ولهذا يكرر سبحانه ذكرها في كتابه كثيرا وبالجملة فعجائب البحر وآياته اعظم وأكثر من ان يحصيها الا الله سبحانه وقال الله تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية

فصل ومن آياته سبحانه خلق الحيوان على اختلاف صفاته واجناسه
واشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودعة فيه فمنه الماشي على بطنه ومنه الماشي على رجليه ومنه الماشي على اربع ومنه ما جعل سلاحه في رجليه وهو ذو المخالب ومنه ما جعل سلاحه المناقير كالنسر والرخم والغراب ومنه ما سلاحه الاسنان ومنه ما سلاحه الصياصي وهي القرون يدافع بها عن نفسه من يروم اخذه ومنه ما اعطى منها قوة يدفع بها عن نفسه لم يحتج إلى سلاح كالاسد فإن سلاحه قوته ومنه ما سلاحه في ذرقه وهو نوع من الطير إذا دنا منه من يريد اخذه ذرق عليه فأهلكه ونحن نذكر هنا فصولا منثورة من هذا الباب مختصرة وإن تضمنت بعض التكرار وترك الترتيب في هذا المقام الذي هو من اهم فصول الكتاب بل هو لب هذا القسم الاول ولهذا يكرر في القرآن ذكر آياته ويعيدها ويبديها ويأمر عباده بالنظر فيها مرة بعد أخرى فهو من اجل مقاصد القرآن قال الله تعالى قل انظروا ماذا في السموات والارض وقال تعالى إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب وقال تعالى افلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت والى الارض كيف سطحت وقال الله تعالى اولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وقال تعالى ان الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله فاتى تؤفكون فالق الاصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الايات لقوم يفقهون وهو الذي انزل من السماء ماء فاخرجنا به نبات

كل شيء فأخرجنا منه خضرا فنخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من اعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا اثمر وينعه فأمر سبحانه بالنظر إليه وقت خروجه وإثماره ووقت نضجه وإدراكه يقال اينعت الثمار إذا نضجت وطابت لان في خروجه من بين الحطب والورق آية باهرة وقدرة بالغة ثم في خروجه من حدالعفوصة واليبوسة والمرارة والحموضة إلى ذلك اللون المشرق الناصع والطعم الحلو اللذيذ الشهي لايات لقوم يؤمنون وقال بعض السلف حق على الناس ان يخرجوا وقت إدراك الثمار وينعها فينظروا اليها ثم تلي انظروا إلى ثمره إذا اثمر وينعه ولو اردنا نستوعب ما في آيات الله المشهورة من العجائب والدلالات الشاهدة لله بان الله الذي لا إله إلا هو الذي ليس كمثله شيء وإنه الذي لا أعظم منه ولا أكمل منه ولا ابر ولا ألطف لعجزنا نحن والاولون والاخرون عن معرفة أدنى عشر معشار ذلك ولكن مالا يدرك جميعه لا ينبغي ترك التنبيه على بعض ما يستدل به على ذلك وهذا حين الشروع في الفصول

فصل تامل العبرة في موضع هذا العالم وتاليف أجزائه ونظمها على احسن
نظام وأدلة على كمال قدرة خالقه وكمال علمه وكمال حكمته وكمال لطفه فإنك إذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج إليه فالسماء سقفه المرفوع عليه والارض مهاد وبساط وفراش ومستقر للساكن والشمس والقمر سرجان يزهران فيه والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمنتقل في طرق هذه الدار والجواهر والمعادنمخزونة فيه كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له وضروب النبات مهيأ لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة لمصالحه فمنها الركوب ومنها الحلوب ومنها الغذاء ومنها اللباس والامتعة والالات ومنها الحرس الذي وكل بحرس الانسان يحرسه وهو نائم وقاعد مما هو مستعد لاهلاكه وأذاه فلولا ما سلط عليه من ضده لم يقر للانسان قرار بينهم وجعل الانسان كالملك المخول في ذلك المحكم فيه المتصرف بفعله وأمره ففي هذا اعظم دلالة واوضحها على ان العالم مخلوق لخالق حكيم قدير عليم قدره احسن تقدير ونظمه احسن نظام وان الخالق له يستحيل ان يكون اثنين بل الاله واحد لا إله إلا هو تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا وإنه لو كان في السموات والارض إله غير الله لفسد امرهما واختل نظامهما وتعطلت مصالحهما وإذا كان البدن يستحيل ان يكون المدبر له روحان متكافئان متساويان ولو كان كذلك لفسد وهلك مع إمكان ان يكون تحت قهر ثالث هذا من المحال في اوائل العقول وبداية الفطر فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ما اتخذ الله من ولدوما كان معه من اله إذا لذهب

كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون فهذان برهانان يعجز الاولون والاخرون ان يقدحوا فيهما بقدح صحيح او ياتوا بأحسن منهما ولا يعترض عليهما إلا من لم يفهم المراد منهما ولولا خشية الاطالة لذكرنا تقديرهما وبيان ما تضمناه من السر العجيب والبرهان الباهر وسنفرد إن شاء الله كتاب مستقلا لادلة التوحيد

فصل فتأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة كيف تراها من
اعظم الايات في علوها وارتفاعها وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علوا كالنار ولا تهبط نازلة كالاجسام الثقيلة ولا عمد تحتها وعلاقة فوقها بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والارض ان تزولا ثم تأمل استواءها واعتدالها فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق ولا أمت ولا عوج ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو احسن الالوان واشدها موافقة للبصر وتقوية له حتى ان من اصابه شيء اضر ببصره يؤمر بادمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد وقال الاطباء ان من كل بصره فإنه من دوائه ان يديم الاطلاع إلى اجانة خضراء مملؤءة ماء فتأمل كيف جعل اديم السماء بهذا اللون ليمسك الابصار المتقلبة فيه ولا ينكأ فيها بطول مباشرتها له هذا بعض فوائد هذا اللون والحكمة فيه اضعاف ذلك
فصل ثم تأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لاقامة دولتي
الليل والنهار ولولا طلوعهما لبطل امر العالم وكيف كان الناس يسعون في معائشهم ويتصرفون في امورهم والدنيا مظلمة عليهم وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور ثم تأمل الحكمة في غروبهما فإنه لولا غروبهما لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع فرط الحاجة إلى السبات وجموم الحواس وانبعاث القوى الباطنة وظهور سلطانها في النوم المعين على هضم الطعام وتنفيذ الغذاء إلى الاعضاء ثم لولا الغروب لكانت الارض تحمي بدوام شروق الشمس واتصال طلوعها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ونبات فصارت تطلع وقتا بمنزلة السراج يرفع لاهل البيت ليقضوا حوائجهم ثم تغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدؤا وصار ضياء النهار مع ظلام الليل وحر هذا مع برد هذا مع تضادهما متعاونين متظاهرين بهما تمام مصالح العالم وقد اشار تعالى إلى هذا المعنى ونبه عباده عليه بقوله عز و جل قل ارأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار

سرمدا إلى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه افلا تبصرون خص سبحانه النهار بذكر البصر لانه محله وفيه سلطان البصر وتصرفه وخص الليل بذكر السمع لان سلطان السمع يكون بالليل وتسمع فيه الحيوانات مالا تسمع في النهار لانه وقت هدوء الاصوات وخمود الحركات وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر والنهار بالعكس فيه قوة سلطان البصر وضعف سلطان السمع فقوله افلا تسمعون راجع إلى قوله قل ارايتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بضياء به وقوله أفلا تبصرون راجع إلى قوله قل أرايتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة وقال تعالى تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد ان يذكر او أراد شكورا فذكر تعالى خلق الليل والنهار وإنهما خلفة أي يخلف احدهما الاخر لا يجتمع معه ولو اجتمع معه لفاتت المصلحة بتعاقبهما واختلافهما وهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار كون كل واحد منهما يخلف الاخر لا يجامعه ولا يحاذيه بل يغشى احدهما صاحبه فيطلبه حثيثا حتىيزيله عن سلطانه ثم يجيء الاخر عقيبه فيطلبه حثيثا حتى يهزمه ويزيله عن سلطانه فهما دائما يتطالبان ولا يدرك احدهما صاحبه

فصل ثم تأمل بعد ذلك احوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لاقامة
هذه الازمنة والفصول وما فيها من المصالح والحكم إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه فلو كان صيفا كله لفاتت منافع مصالح الشتاء ولو كان شتاء لفاتت مصالح الصيف وكذلك لو كان ربيعا كله او خريفا كله ففي الشتاء تغور الحرارة في الاجواف وبطون الارض والجبال فتتولد مواد الثمار وغيرها وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الارض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الابدان وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيظهر النبات ويتنور الشجر بالزهر ويتحرك الحيوان للتناسل وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جدا فتنضج الثمار وتنحل فضلات الابدان والاخلاط التي انعقدت في الشتاء وتغور البرودة وتهرب إلى الاجواف ولهذا تبرد العيون والابار ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الاطعمة الغليظة لانها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السموم وجعله الله بحكمته برزخا بين سموم الصيف وبرد الشتاء لئلا يتنقل الحيوان وهلة واحدة من

الحر الشديد إلى البرد الشديد فيجد اذاه ويعظم ضرره فإذا انتقل إليه بتدريج وترتب لم يصعب عليه فإنه عند كل جزء يستعد لقبول ما هو اشد منه حتى تأتي جمرة البرد بعد استعداد وقبول حكمة بالغة وآية باهرة وكذلك الربيع برزخ بين الشتاء والصيف ينتقل فيه الحيوان من برد هذا إلى حر هذا بتدريج وترتيب فتبارك الله رب العالمين واحسن الخالقين

فصل ثم تأمل حال الشمس والقمر وما اودعاه من النور والاضاءة وكيف
جعل لهما بروجا ومنازل ينزلانها مرحلة بعد مرحلة لاقامة دولة السنة وتمام مصالح حساب العالم الذي لا غناء لهم في مصالحهم عنه فبذلك يعلم حساب الاعمار والاجال المؤجلة للديون والاجارات والمعاملات والعدد وغير ذلك فلولا حلوك الشمس والقمر في تلك المنازل وتنقلهما فيها منزلة بعدمنزلة لم يعلم شيء من ذلك وقد نبه تعالى على هذا في غير موضع من كتابه كقوله هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون وقال تعالى وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب
فصل ثم تأمل الحكمة في طلوع الشمس على العالم كيف قدره العزيز
العليم سبحانه فإنها لو كانت تطلع في موضع من السماء فتقف فيه ولا تعدوه لما وصل شعاعها إلى كثير من الجهات لان ظل احد جوانب كرة الارض يحجبها عن الجانب الاخر وكان يكون الليل دائما سرمدا على من لم تطلع عليهم والنهار سرمدا على من هي طالعة عليهم فيفسد هؤلاء وهؤلاء فاقتضت الحكمة الالهية والعناية الربانية ان قدر طلوعها من اول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من الافق الغربي ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغرب فتشرق على ما استتر عنها في اول النهار فيختلف عندهم الليل والنهار فتنتظم مصالحهم
فصل ثم تأمل الحكمة في مقادير الليل والنهار تجدها على غاية
المصلحة والحكمة وان مقدار اليوم والليلة لو زاد على ما قدر عليه او نقص لفاتت المصلحة واختلفت الحكمة بذلك بل جعل مكيالها اربعة وعشرين ساعة وجعلا يتقارضان الزيادة والنقصان بينهما فما يزيد في احدهما من الاخر يعود الاخر فيسترده منه قال الله تعالى يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وفيه قولان احدهما ان المعنى يدخل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك وضياء هذا في مكان ظلمة الاخر فيدخل كل واحد منهما في موضع صاحبه وعلى هذا فهي عامة في كل ليل ونهار والقول الثاني

انه يزيد في احدهما ما ينقصه من الاخر فما ينقص منه يلج في الاخر لا يذهب جملة وعلى هذا فالاية خاصة ببعض ساعات كل من الليل والنهار في غير زمن الاعتدال فهي خاصة في الزمان وفي مقدار ما يلج في احدهما من الاخر وهو في الاقاليم المعتدلة غاية ما تنتهي الزيادة خمس عشرة ساعة فيصير الاخر تسع ساعات فإذا زاد على ذلك انحرف ذلك الاقليم في الحرارة او البرودة إلى ان ينتهي إلى حد لايسكنه الانسان ولا يتكون فيه النبات وكل موضع لا تقع عليه الشمس لا يعيش فيه حيوان ولا نبات لفرط برده ويبسه وكل موضع لاتفارقه كذلك لفرط حره ويبسه والمواضع التي يعيش فيها الحيوان والنبات هي التي تطلع عليها الشمس وتغيب وأعدلها المواضع التي تتعاقب عليها الفصول الاربعة ويكون فيها اعتدالان خريفين وربيعين

فصل ثم تأمل إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل والحكمة في ذلك
فإن الله تعالى اقتضت حكمته خلق الظلمة لهدو الحيوان وبرد الهواء على الابدان والنبات فتعادل حرارة الشمس فيقوم النبات والحيوان فلما كان ذلك مقتضى حكمته شاب الليل بشيء من الانوار ولم يجعله ظلمة داجية حندسا لا ضوء فيه اصلا فكان لا يتمكن الحيوان فيه من شيء من الحركة ولا لأعمال ولما كان الحيوان قد يحتاج في الليل إلى حركة ومسير وعمل لايتهيأ له بالنهار لضيق النهار او لشدة الحر او لخوفه بالنهار كحال كثير من الحيوان جعل في الليل من اضواء الكواكب وضوء القمر ما يتأتى معه اعمال كثيرة كالسفر والحرث وغير ذلك من اعمال اهل الحروث والزروع فجعل ضوء القمر بالليل معونة للحيوان على هذه الحركات وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض مع نقص ضوئه عن الشمس لئلا يستوى الليل والنهار فتفوت حكمة الاختلاف بينهما والتفاوت الذي قدره العزيز العليم فتأمل الحكمة البالغة والتقدير العجيب الذي اقتضى ان اعان الحيوان على دولة الظلام بجند من النور يستعين به على هذه الدولة المظلمة ولم يجعل الدولة كلها ظلمة صرفا بل ظلمة مشوبة بنور رحمة منه وإحسانا فسبحان من اتقن ما صنع واحسن كل شيء خلقه
فصل ثم تأمل حكمته تبارك وتعالى في هذه النجوم وكثرتها وعجيب خلقها
وأنها زينة للسماء وأدلة يهتدي بها في طرق البر والبحر وما جعل فيها من الضوء والنور بحيث

يمكننا رؤيتها مع البعد المفرط ولولا ذلك لم يحصل لنا الاهتداء والدلالة ومعرفة المواقيت ثم تأمل تسخيرها منقادة بامر ربها تبارك وتعالى جارية على سنن واحد اقتضتحكمته وعلمه ان لا تخرج عنه فجعل منها البروج والمنازل والثوابت والسيارة والكبار والصغار والمتوسط والابيض الازهر والابيض الاحمر ومنها ما يخفى على الناظر فلا يدركه وجعل منطقة البروج قسمين مرتفعة ومنخفضة وقدر سيرها تقديرا واحدا ونزل الشمس والقمر والسيارات منها منازلها فمنها ما يقطعها في شهر واحد وهو القمر ومنها ما يقطعها في عام ومنها ما يقطعها في عدة اعوام كل ذلك موجب الحكمة والعناية وجعل ذلك اسباب لما يحدثه سبحانه في هذا العالم فيستدل بها الناس على تلك الحوادث التي تقارنها كمعرفتهم بما يكون مع طلوع الثريا إذا طلعت وغروبها إذا سقطت من الحوادث التي تقارنها وكذلك غيرها من المنازل والسيارات ثم تأمل جعله سبحانه بنات نعش وما قرب منها ظاهرة لا تغيب لقربها من المركز ولما في ذلك من الحكمة الالهية وانها بمنزلة الاعلام التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر فهم ينظرون اليها وإلى الجدي والفرقدين كل وقت ارادوا فيهتدون بها حيث شاؤا

فصل ثم تأمل اختلاف سير الكواكب وما فيه من العجائب كيف تجد بعضها لا
يسير إلا مع رفقته لا يفرد عنهم سيره ابدا بل لا يسيرون الا جميعا وبعضها يسير سيرا مطلقا غير مقيد برفيق ولا صاحب بل إذا اتفق له مصاحبته في منزل وافقه فيه ليلة وفارقه الليلة الاخرى فبينا تراه ورفيقه وقرينه إذ رايتهما مفترقين متابعدين كأنهما لم يتصاحبا قط وهذه السيارة لها في سيرها سيران مختلفان غاية الاختلاف سير عام يسير بها فلكها وسير خاص تسير هي في فلكها كما شبهوا ذلك بنملة تدب على رحى ذات الشمال والرحى تأخذ ذات اليمين فللنملة في ذلك حركتان مختلفتان إلى جهتين متاينتين احداهما بنفسها والاخرى مكرهة عليها تبعا للرحى تجذبها إلى غير جهة مقصدها وبذلك يجعل التقديم فيها كل منزلة إلى جهة الشرق ثم يسير فلكها وبمنزلتها إلى جهة الغرب فسل الزنادقة والمعطلة أي طبيعة اقتضت هذا واي فلك اوجبه وهلا كانت كلها راتبه او منتقلة او على مقدار واحد وشكل واحد وحركة واحدة وجريان واحد وهل هذا الا صنع من بهرت العقول حكمته وشهدت مصنوعاته ومتبدعاته بانه الخالق البارئ المصور الذي ليس كمثله شيء احسن كل شيء خلقه واتقن كل ما صنعه وانه العليم الحكيم الذي خلق فسوى وقدر فهدى وان هذه احدى آياته الدالة عليه وعجائب مصنوعاته الموصلة للأفكار إذا سافرت فيها إليه وأنه خلق مسخر مربوب مدبر ان ربكم الله الذي خلق السموات

والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره الا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين فإن قلت فما الحكمة في كون بعض النجوم راتبا وبعضها منتقلا قيل إنها لوكانت كلها راتبة لبطلت الدلالة والحكم التي نشأت من تنقلها في منازلها ومسيرها في بروجها ولو كانت كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف بها ولا رسم يقاس عليها لانه إنما يقاس مسير المتنقلة منها بالراتب كما يقاس مسير السائرين على الارض بالمنازل التي يمرون عليها فلو كانت كلها بحال واحدة لاختلط نظامها ولبطلت الحكم والفوائد والدلالات التي في اختلافها ولتشبث المعطل بذلك وقال لو كان فاعلها ومبدعها مختارا لم تكن على وجه واحد وأمر واحد وقدر واحد فهذا الترتيب والنظام الذي هي عليه من ادل الدلائل على وجود الخالق وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيته

فصل ثم تامل هذا الفلك الدوار بشمسه وقمره ونجومه وبروجه وكيف يدور
على هذا العالم هذا الدوران الدائم إلى آخر الاجل على هذا الترتيب والنظام وما في طي ذلك من اختلاف الليل والنهار والفصول والحر والبرد وما في ضمن ذلك من مصالح ما على الارض من اصناف الحيوان والنبات وهل يخفى على ذي بصيرة ان هذا ابداع المبدع الحكيم وتقدير العزيز العليم ولهذا خاطب الرسل امتهم مخاطبة من لا شك عنده في الله وإنما دعوهم إلى عبادته وحده لا ألى الاقرار به فقالت لهم أفي الله شك فاطر السموات والارض فوجوده سبحانه وربوبيته وقدرته اظهر من كل شيء على الاطلاق فهو اظهر للبصائر من الشمس للابصار وابين للعقول من كل ما تعقله وتقر بوجدوده فما ينكره الا مكابر بلسانه وقلبه وعقله وفطرته وكلها تكذبه قال تعالى الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الامر يفصل الايات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الارض وجعل فيها رواسي وانهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون وفي الارض قطع متجاورات الاية وقال تعالى ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات للمؤمنين وفي خلقكم واما يبث من دابة إلى قوله وآياته يؤمنون وقال تعالى خلق السموات بغير عمد ترونها والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وبث فيها من كل دابة إلى قوله في ضلال مبين وقال تعالى خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون إلى قوله افمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وتأمل كيف وحد سبحانه الاية من قوله هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب إلى آخرها وختمها باصحاب الفكرة فاما

توحيد الاية فلأن موضع الدلالة واحد وهو الماء الذي انزله من السماء فاخرج به كلما ذكره من الارض وهو على اختلاف انواعه لقاحه واحد وأمه واحدة فهذا نوع واحد من آياته وأما تخصيصه ذلك بأهل الفكر فلأن هذه المخلوقات التي ذكرها من الماء موضع فكر وهو نظر القلب وتامله لا موضع نظر مجرد بالعين فلا ينتفع الناظر بمجرد رؤية العين حتى ينتقل منه إلى نظر القلب في حكمة ذلك وبديع صنعه والاستدلال به على خالقه وباريه وذلك هو الفكر بعينه واما قوله تعالى في الاية التي بعدها ان في ذلك لايات لقوم يعقلون فجمع الايات لانها تضمنت الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وهي آيات متعددة مختلفة في انفسها وخلقها وكيفياتها فإن إظلام الجو لغروب الشمس ومجيء الليل الذي يلبس العالم كالثوب ويسكنون تحته آية باهرة ثم ورد جيش الضياء يقدمه بشير الصباح فينهزم عسكر الظلام وينتشر الحيوان وينكشط ذلك اللباس بجملته آية اخرى ثم في الشمس التي هي آية النهار آية أخرى وفي القمر الذي هو آية الليل آية اخرى وفي النجوم آيات أخر كما قدمناه هذا مع ما يتبعها من الايات المقارنة لها من الرياح واختلافها وسائر ما يحدثه الله بسببها آيات أخر فالموضع موضع جمع وخص هذه الايات بأهل العقل لانها اعظم مما قبلها وأدل وأكبر والاولى كالباب لهذه فمن استدل بهذه الايات واعطاها حقها من الدلالة استحق من الوصف ما يستحقه صاحب الفكر وهو العقل ولأن منزله المنزلة العقل بعد منزلة الفكر فلما دلهم بالاية الاولى على الفكر نقلهم بالاية الثانية التي هي اعظم منها إلى العقل الذي هو فوق الفكر فتأمله فأما قوله في الاية الثالثة إن في ذلك لاية لقوم يذكرون فوحد الاية وخصها بأهل التذكر فأما توحيدها فكتوحيد الاولى سواء فإن ما ذرأ في الارض على اختلافه من الجواهر والنبات والمعادن والحيوان كله في محل واحد فهو نوع من انواع آياته وإن تعددت أصنافه وانواعه واما تخصيصه اياها بأهل التذكر فطريقة القرآن في ذلك ان يجعل آياته للتبصر والتذكر كما قال تعالى في سورة ق والارض مددناها والقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب فالتبصرة التعقل والتذكرة التذكر والفكر باب ذلك ومدخله فإذا فكر تبصر وإذا تبصر تذكر فجاء التذكير في الاية لترتيبه على العقل المرتب على الفكر فقدم الفكر إذ هو الباب والمدخل ووسط العقل إذ هو ثمرة الفكر ونتيجته وأخر التذكر إذ هو المطلوب من الفكر والعقل فتأمل ذلك حق التأمل فإن قلت فما الفرق بين التذكر والتفكر فإذا تبين الفرق ظهرت الفائدة قلت التفكر والتذكر اصل الهدى والفلاح وهما قطبا السعادة ولهذا وسعنا الكلام في التفكر في هذا الوجه لعظم المنفعة وشدة الحاجة إليه قال الحسن ما زال اهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها اسماع وابصار فاعلم ان التفكر طلب القلب ما ليس بحاصل من العلوم من امر هو حاصل

منها هذا حقيقته فإنه لو لم يكن ثم مراد يكون موردا للفكر استحال الفكر لان الفكر بغير متعلق متفكر فيه محال وتلك المواد هي الامور الحاصلة ولو كان المطلوب بها حاصلا عنده لم يتفكر فيه فإذا عرف هذا فالمتفكر ينتقل من المقدمات والمبادي التي عنده إلى المطلوب الذي يريده فإذا ظفر به وتحصل له تذكر به وابصر مواقع الفعل والترك وما ينبغي ايثاره وما ينبغي اجتنابه فالتذكر هو مقصود التفكر وثمرته فإذا تذكر عاد بتذكرة على تفكره فاستخرج ما لم يكن حاصلا عنده فهو لا يزال يكرر بتفكره على تذكره وبتذكره على تفكره ما دام عاقلا لان العلم والارادة لا يقفان على حد بل هو دائما سائر بن العلم والارادة وإذا عرفت معنى كون آيات الرب تبارك وتعالى تبصرة وذكرى يتبصر بها من عمى القلب ويتذكر بها من غفلته فان المضاد للعلم اما عمى القلب وزواله بالتبصر وإما غفلته وزواله بالتذكر والمقصود تنبيه القلب من رقدته بالاشارة إلى شيء من بعض آيات الله ولو ذهبنا نتتبع ذلك لنفذ الزمان ولم نحط بتفصيل واحدة من آياته على التمام ولكن مالا يدرك جملة لا يترك جملة واحسن ما انفقت فيه الانفاس التفكر في آيات الله وعجائب صنعه والانتقال منها إلى تعلق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته فلذلك عقدنا هذه الكتاب على هذين الاصلين إذ هما افضل ما يكتسبه العبد في هذه الدار

فصل فسل المعطل الجاحد ما تقول في دولاب دائر على نهر قد احكمت
آلاته وأحكم تركيبه وقدرت ادواته احسن تقدير وأبلغه بحيث لا يرى الناظر فيه خللا في مادته ولا في صورته وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل انواع الثمار والزروع يسقيها حاجتها وفي تلك الحديقة من يلم شعثها ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها فلا يختل منها شيء ولا يتلف ثمارها ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به ويقسمه هكذا على الدوام اترى هذا اتفاقا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقا من غير فاعل ولا قيم ولا مدبر أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان وما الذي يفتيك به وما الذي يرشدك إليه ولكن من حكمة العزيز الحكيم ان خلق قلوبا عميا لا بصائر لها فلا ترى هذه الايات الباهرة إلا رؤية الحيوانات البهيمية كما خلق اعينا لا أبصار لها والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره وهي لا تراها فما ذنبها ان انكرتها وجحدتها فهي تقول في ضوء النهار هذا ليل ولكن اصحاب الاعين لا يعرفون شيئا ولقد احسن القائل
وهبني قلت هذا الصبح ليل ... ايعمى العالمون عن الضياء

فصل ثم تأمل الممسك للسموات والارض الحافظ لهما ان تزولا او تقعا
او يتعطل بعض ما فيهما افترى من الممسك لذلك ومن القيم بأمره ومن المقيم له فلو تعطل بعض آلات هذا الدولاب العظيم والحديقة العظيمة من كان يصلحه وماذا كان عند الخلق كلهم من الحيلة في رده كما كان فلو امسك عنهم قيم السموات والارض الشمس فجعل عليهم الليل سرمدا من الذي كان يطلعها عليهم ويأتيهم بالنهار ولو حبسها في الافق ولم يسيرها فمن ذا الذي كان يسيرها وياتيهم بالليل ولو ان السماء والارض زالتا فمن ذا الذي كان يمسكها من بعده
فصل ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد وقيام الحيوان
والنبات عليهما وفكر في دخول احدهما على الاخر بالتدريح والمهلة حتى يبلغ نهايته ولو دخل عليه مفاجاة الأضر ذلك بالابدان وأهلكها وبالنبات كما لو خرج الرجل من حمام مفرط الحرارة إلى مكان مفرط في البرودة ولولا العناية والحكمةوالرحمة والاحسان لما كان ذلك فإن قلت هذا التدريج والمهلة إنما كان لابطاء سير الشمس في ارتفاعها وانخفاضها قيل لك فما السبب في ذلك الانخفاض والارتفاع فإن قلت السبب في ذلك بعدالمسافة من مشارقها ومغاربها قيل لك فما السبب في بعد المسافة ولا تزال المسالة متوجهة عليك كما عينت سببا حتى تفضي بك إلى احد امرين إما مكابرة ظاهرة ودعوى ان ذلك اتفاق من غير مدبر ولا صانع وإما الاعتراف برب العالمين والاقرار بقيوم السموات والارضين والدخول في زمرة اولى العقل من العالمين ولن تجد بين القسمين واسطة ابدا فلا تتعب ذهنك بهذيانات الملحدين فانها عند من عرفها من هوس الشياطين وخيالات المبطلين وإذا طلع فجر الهدى واشرقت النبوة فعساكر تلك الخيالات والوساوس في أول المنهزمين والله متم نوره ولو كره الكافرون
فصل ثم تأمل الحكمة في خلق النار على ما هي عليه من الكمون
والظهور فانها لو كانت ظاهرة ابدا كالماء والهواء كانت تحرق العالم وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة ولو كانت كامنة لا تظهر ابدا لفاتت المصالح المترتبة على وجودها فاقتضت حكمة العزيز العليم ان جعلها مخزونة في الاجسام يخرجها ويبقيها الرجل عند حاجته اليها فيمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه فلا يزال حابسها ما احتاج إلى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت باذن ربها وفاطرها فسقطت المؤنة والمضرة ببقائها فسبحان من سخرها وانشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع

والسلامة من الضرر قال تعالى أفرايتم النار التي تورون إلى قوله فسبح باسم ربك العظيم فسبحان ربنا العظيم لقد تعرف الينا بآياته وشفانا ببيناته واغنانا بها عن دلالات العالمين فاخبر سبحانه انه جعلها تذكرة بنار الآخرة فنستجير منها ونهرب إليه منها ومتاعا للمقوين وهم المسافرون النازلون بالقواء والقواء هي الارض الخالية وهم احوج إلى الانتفاع بالنار للاضاءة والطبخ والخبز والتدفي والانس وغير ذلك

فصل ثم تأمل حكمته تعالى في كونه خص بها الانسان دون غيره من
الحيوانات فلا حاجة بالحيوان اليها بخلاف الانسان فإنه لو فقدها لعظم الداخل عليه في معاشه ومصالحه وغيره من الحيوانات لا يستعملها ولايتمتع بها وننبه من مصالح النار على خلة صغيرة القدر عظيمة النفع وهي هذا المصباح الذي يتخذه الناس فيقضون به من حوائجهم ما شاؤا من ليلهم ولو هذه الخلة لكان الناس نصف اعمارهم بمنزلة اصحاب القبور فمن كان يستطيع كتابة او خياطة او صناعة او تصرفا في ظلمة الليل الداجي وكيف كانت تكون حال من عرض له وجع في وقت من الليل فاحتاج إلى ضياء او دواء او استخراج دم او غير ذلك ثم انظر إلى ذلك النور المحمول في ذبالة المصباح على صغر جوهره كيف يضيء ما حولك كله فترى به القريب والبعيد ثم انظر إلى انه لو اقتبس منه كل من يفرض او يقدر من خلق الله كيف لا يفنى ولا ينفذ ولا يضعف وأما منافع النار في انضاج الاطعمة والادوية وتجفيف مالا ينتفع الا بجفافه وتحليل مالا ينتفع الا بتلحيله وعقد مالا ينتفع الا بعقده وتركيبه فأكثر من ان يحصى ثم تأمل ما اعطيته النار من الحركة الصاعدة بطبعها إلى العلو فلولا المادة تمسكها لذهبت صاعدة كما ان الجسم الثقيل لولا الممسك يمسكه لذهب نازلا فمن اعطى هذا القوة التي يطلب بها الهبوط إلى مستقره واعطى هذه القوة التي تطلب بها الصعود إلى مستقرها وهل ذلك الا بتقدير العزيز العليم
فصل ثم تامل هذا الهواء وما فيه من المصالح فإنه حياة هذه الابدان
والممسك لها من داخل بما تستنشق منه ومن خارج بما تباشر به من روحه فتتغذى به ظاهرا وباطنا وفيه تطرد هذه الاصوات فتحملها وتؤديها للقريب والبعيد كالبريد والرسول الذي شأنه حمل الاخبار والرسائل وهو الحامل لهذه الروائح على اختلافها ينقلها من موضع إلى موضع فتأتي العبد الرائحة من حيث تهب الريح وكذلك تأتيه الاصوات وهو ايضا الحامل للحر والبرد اللذين بهما صلاح الحيوان والنبات وتأمل منفعة الريح وما يجري له في البر والبحر وما هيئت له من الرحمة

والعذاب وتأمل كم سخر للسحاب من ريح حتى امطر فسخرت له المثيرة اولا فتثيره بين السماء والارض ثم سخرت له الحاملة التي تحمله على متنها كالجمل الذي يحمل الراوية ثم سخرت له المؤلفة فتؤلف بين كسفه وقطعه ثم يجتمع بعضها إلى بعض فيصير طبقا واحدا ثم سخرت له اللاقحة بمنزلة الذكر الذي يلقح الانثى فتلقحه بالماء ولولاها لكان جهاما لا ماء فيه ثم سخرت له المزجية التي تزجيه وتسوقه إلى حيث أمر فيفرغ ماءه هنالك ثم سخرت له بعد اعصاره المفرقة التي تبثه وتفرقه في الجو فلا ينزل مجتمعا ولو نزل جملة لأهلك المساكن والحيوان والنبات بل تفرقه فتجعله قطرا وكذلك الرياح التي تلقح الشجر والنبات ولولاها لكانت عقيما وكذلك الرياح التي تسير السفن ولولاها لوقفت على ظهر البحر ومن منافعها انها تبرد الماء وتضرم النار التي يراد اضرامها وتجفف الاشياء التي يحتاج إلى جفافها وبالجملة فحياة ما على الارض من نبات وحيوان بالرياح فإنه لولا تسخير الله لها لعباده لذوي النبات ومات الحيوان وفسدت المطاعم وأنتن العالم وفسد الا ترى اذا ركدت الرياح كيف يحدث الكرب والغم الذي لو دام لأتلف النفوس واسقم الحيوان وامرض الاصحاء وانهك المرضى وافسد الثمار وعفن الزرع واحدث الوباء في الجو فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته ولطفه ونعمته كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الرياح إنها من روح الله تأتي بالرحمة وتنبه للطيفة في هذا الهواء وهي ان الصوت اثر يحدث عند اصطكاك الاجرام وليس نفس الاصطكاك كما قال ذلك من قاله ولكنه موجب الاصطكاك وقرع الجسم للجسم او قلعة عنه فسببه قرع او قلع فيحدث الصوت فيحمله الهواء ويؤديه إلى ما مع الناس فينتفعون به في حوائجهم ومعاملاتهم بالليل والنهار وتحدث الاصوات العظيمة من حركاتهم فلو كان اثر هذه الحركات والاصوات يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه ولعظم الضرر به واشتدت مؤنته واحتاج الناس إلى محوه من الهواء والاستبدال به اعظم من حاجتهم إلى استبدال الكتاب المملوء كتابة فان ما يلقى من الكلام في الهواء اضعاف ما يوضع في القرطاس فاقتضت حكمة العزيز الحكيم ان جعل هذا الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام بقدر ما يبلغ الحاجة ثم يمحي باذن ربه فيعود جديدا نقيا لا شيء فيه فيحمل ما حمل كل وقت

فصل ثم تأمل خلق الارض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة
لتكون مهادا ومستقرا للحيوان والنبات والامتعة ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس لراحاتهم والنوم لهدوهم والتمكن من اعمالهم ولو كان رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارا ولا هدوا ولا ثبت لهم عليها بناء ولا امكنهم عليها صناعة

ولا تجارة ولا حراثة ولا مصلحة وكيف كانوا يتهنون بالعيش والارض ترتج من تحته واعتبر ذلك بما يصيبهم من الزلازل على قلة مكثها كيف تصيرهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وقوله تعالى الله الذي جعل لكم الارض قرارا وقوله الله الذي جعل لكم الارض مهدا وفي القراءة الاخرى مهادا وفي جامع الترمذي وغيره من حديث انس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لما خلق الله الارض جعلت تميد فخلق الجبال عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال فقالوا يا رب هل من خلقك شيء اشد من الجبال قال نعم الحديد قالوا يا رب هل من خلقك شيء أشد من الحديد قال نعم النار قالوا يا رب فهل من خلقك شيء اشد من النار قال نعم الريح قالوا يا رب فهل من خلقك شيء اشد من الريح قال نعم ابن آدم يتصدق صدقة بيمينه يخفيها عن شماله ثم تأمل الحكمة البالغة في ليونة الارض مع يبسها فانها لو افرطت في اللين كالطين لم يستقر عليها بناء ولا حيوان ولا تمكنا من الانتفاع بها ولو افرطت في اليبس كالحجر لم يمكن حرثها ولا زرعها ولا شقها وفلحها ولا حفر عيونها ولا البناء عليها فنقصت عن يبس الحجارة وزادت على ليونة الطين فجاءت بتقدير فاطرها على احسن ما جاء عليه مهاد للحيوان من الاعتدال بين اللين واليبوسة فتهيأ عليها جميع المصالح

فصل ثم تأمل تأمل الحكمة البالغة في ان جعل مهب الشمال عليها ارفع
من مهب الجنوب وحكمة ذلك ان تتحدر المياه على وجه الارض فتسقيها وترويها ثم تفيض فتصب في البحر فكما ان الباني إذا رفع سطحا رفع احد جانبيه وخفض الاخر ليكون مصبا للماء ولو جعله مستويا لقام عليه الماء فافسده كذلك جعل مهب الشمال في كل بلد ارفع من مهب الجنوب ولولا ذلك لبقي الماء واقفا على وجه الارض فمنع الناس من العمل والانتفاع وقطع الطرق والمسالك واضر بالخلق افيحسن عند من له مسكة من عقل ان يقول هذا كله اتفاق من غير تدبير العزيز الحكيم الذي اتقن كل شيء
فصل ثم تأمل الحكمة العجيبة في الجبال الذي يحسبها الجاهل الغافل
فضلة في الارض لا حاجة اليها وفيها من المنافع مالا يحصيه الا خالقها وناصبها وفي حديث إسلام ضمام بن ثعلبة قوله للنبي صلى الله عليه و سلم بالذي نصب الجبال واودع فيها المنافع آلله امرك بكذا وكذا قال اللهم نعم فمن منافعها ان الثلج يسقط عليها فيبقى في قللها حاصلا لشراب الناس إلى حين نقاذه وجعل

فيها ليذوب اولا فأولا فتجيء منه السيول الغزيرة وتسيل منه الانهار والاودية فينبت في المروج والوهاد والربا ضروب النبات والفواكه والادوية التي لا يكون مثلها في السهل والرمل فلولا الجبال لسقط الثلج على وجه الارض فانحل جملة وساح دفعة فعدم وقت الحاجة إليه وكان في انحلاله جملة السيول التي تهلك ما مرت عليه فيضر بالناس ضررا لا يمكن تلافيه ولا دفعه لاذيته من منافعها ما يكون في حصونها وقللها من المغارات والكهوف والمعاقل التي منزلة الحصون والقلاع وهي ايضا اكنان للناس والحيوان ومن منافعها ما ينحت من احجارها للأبينة على اختلاف اصنافها والارحية وغيرها ومن منافعها ما يوجد فيها من المعادن على اختلاف اصنافها من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزبرجد والزمرد واضعاف ذلك من انواع المعادن الذي يعجز البشر عن معرفتها على التفصيل حتى ان فيها ما يكون الشيء اليسير منه تزيد قيمته ومنفعته على قيمة الذهب باضعاف مضاعفة وفيها من المنافع مالا يعلمه الا فاطرها ومبدعها سبحانه ومن منافعها ايضا انها ترد الرياح العاصفة وتكسر حدتها فلا تدعها تصدم ما تحتها ولهذا فالساكنون تحتها في امان من الرياح العظام المؤذية ومن منافعها ايضا انها ترد عنهم السيول إذا كانت في مجاريها فتصرفها عنهم ذات اليمين وذات الشمال ولولاها خربت السيول في مجاريها ما مرت به فتكون لهم بمنزلة السد والسكن ومن منافعها انها أعلام يستدل بها في الطرقات فهي منزلة الادلة المنصوبة المرشدة إلى الطرق ولهذا سماها الله أعلاما فقال ومن آياته الجواري في البحر كالاعلام فالجواري هي السفن والاعلام الجبال واحدها علم قالت الخنساء
وأن صخرا لتأتم الهداة به ... كانه علم في راسه نار فسمى الجبل علما من العلامة والظهور ومن منافعها ايضا ما ينبت فيها من العقاقير والادوية التي لا تكون في السهول والرمال كما ان ما ينبت في السهول والرمال لا ينبت مثله في الجبال وفي كل من هذا وهذا منافع وحكم لا يحيط به الا الخلاق العليم ومن منافعها انها تكون حصونا من الاعداء يتحرز فيها عباد الله من اعدائهم كما يتحصنون بالقلاع بل تكون أبلغ وأحصن من كثير من القلاع والمدن ومن منافعها ما ذكره الله تعالى في كتابه ان جعلها للأرض اوتادا تثبتها ورواسي بمنزلة مراسي السفن واعظم بها من منفعة وحكمة هذا وإذا تأملت خلقتها العجيبة البديعة على هذا الوضع وجدتها في غاية المطابقة للحكمة فانها لو طالت واستدفت كالحائط لتعذر الصعود عليها والانتفاع بها وسترت عن الناس الشمس والهواء فلم يتمكنوا من الانتفاع بها ولو بسطت على وجه الارض لضيقت عليهم المزارع والمساكن ولملأت السهل ولما حصل لهم بها الانتفاع من التحصن والمغارات والاكنان ولما سترت عنهم الرياح ولما حجبت السيول

ولو جعلت مستديرة شكل الكرة لم يتمكنوا من صعودها ولما حصل لهم بها الانتفاع التام فكان اولى الاشكال والاوضاع بها واليقها واوقعها على وفق المصلحة هذا الشكل الذي نصبت عليه ولقد دعانا الله سبحانه في كتابه إلى النظر فيها وفي كيفية خلقها فقال أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت فخلقها ومنافعها من اكبر الشواهد على قدره باريها وفاطرها وعلمه وحكمته ووحدانيته هذا مع انها تسبح بحمده وتخشع له وتسجد وتشقق وتهبط من خشيته وهي التي خافت من ربها وفاطرها وخالقها على شدتها وعظم خلقها من الامانة إذ عرضها عليها واشفقت من حملها ومنها الجبل الذي كلم الله عليه موسى كليمه ونجيه ومنها الجبل الذي تجلى له ربه فساخ وتدكدك ومنها الجبل الذي حبب الله رسوله واصحابه إليه واحبه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ومنها الجبلان اللذان جعلهما الله سورا على نبيه وجعل الصفا في ذيل احدهما والمروة في ذيل الاخر وشرع لعباده السعي بينهما وجعله من مناسكهم وتعبداتهم ومنها جبل الرحمة المنصوب عليه ميدان عرفات فلله كم به من ذنب مغفور وعثرة مقالة وزلة معفو عنها وحاجة مقضية وكربة مفروجة وبلية مرفوعة ونعمة متجددة وسعادة مكتسبة وشقاوة ممحوة كيف وهو الجبل المخصوص بذلك الجمع الاعظم والوفد الاكرم الذين جاؤا من كل فج عميق وقوفا لربهم مستكينين لعظمته خاشعين لعزته شعثا غبرا حاسرين عن رؤسهم يستقبلوله عثراتهم ويسألونه حاجاتهم فيدنو منهم ثم يباهي بهم الملائكة فلله ذاك الجبل وما ينزل عليه من الرحمة والتجاوز عن الذنوب العظام ومنها جبل حراء الذي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخلو فيه بربه حتى اكرمه الله برسالته وهو في غارة فهو الجبل الذي فاض منه النور على اقطار العالم فإنه ليفخر على الجبال وحق له ذلك فسبحان من اختص برحمته وتكريمه من شاء من الجبال والرجال فجعل منها جبالا هي مغناطيس القلوب كأنها مركبة منه فهي تهوى اليها كلما ذكرتها وتهفو نحوها كما اختص من الرجال من خصه بكرامته وأتم عليه نعمته ووضع عليه محبته منه فأحبه وحببه إلى ملائكته وعباده المؤمنين ووضع له القبول في الارض بينهم
وإذا تأملت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد فدع عنك الجبل الفلاني وجبل بني فلان وجبل كذا
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
هذا وانها لتعلم ان لها موعدا ويما تنسف فيها نسفا وتصير كالعهن من هوله وعظمه فهي مشفقة من هول ذلك الموعد منتظرة له وكانت ام الدرداء رضى الله عنها إذا سافرت فصعدت على جبل تقول لمن معها اسمعت الجبال ما وعدها ربها فيقال ما اسمعها فتقول ويسألونك

عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا امتا فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال ربها وعظمته وقد اخبر عنها فاطرها باريها انه لو انزل عليها كلامه لخشعت ولتصدعت من خشية الله في عجبا من مضغة لحم اقسى من هذه الجبال تسمع آيات الله تتلى عليها ويذكر الرب تبارك وتعالى فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب فليس بمستنكر على الله عز و جل ولا يخالف حكمته ان يخلق لها نارا تذيبها إذ لم تلن بكلامه وذكره وزواجره ومواعظه فمن لم يلن لله في هذه الدار قلبه ولم ينب إليه ولم يذبه بحبه والبكاء من خشيته فليتمتع قليلا فان امامه الملين الاعظم وسيرد إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم

فصل ولما اقتضت حكمته تبارك وتعالى ان جعل من الارض السهل والوعر
والجبال والرمل لينتفع بكل ذلك في وجهه ويحصل منه ما خلق له وكانت الارض بهذه المثابة لزم من ذلك ان صارت كالأم التي تحمل في بطنها انواع الاولاد من كل صنف ثم تخرج إلى الناس والحيوان من ذلك ما اذن لها فيه ربها ان تخرجه اما بعلمهم وإما بدونه ثم يرد اليها ما خرج منها وجعلها سبحانه كفاتا فلأحياء ما داموا على ظهرها فإذا ماتوا استودعتهم في بطنها فكانت كفاتا لهم تضمهم على ظهرها احياء وفي بطنها امواتا فإذا كان يوم الوقت المعلوم وقد اثقلها الحمل وحان وقت الولادة ودنو المخاض اوحى اليها ربها وفاطرها ان تضع حملها وتخرج اثقالها فتخرج الناس من بطنها إلى ظهرها وتقول رب هذا ما استودعتني وتخرج كنوزها باذنه تعالى ثم تحدث اخبارها وتشهد على بنيها بما عملوا على ظهرها من خير وشر
فصل ولما كانت الرياح تجول فيها وتدخل في تجاويفها وتحدث فيها
الابخرة وتخفق الرياح ويتعذر عليها المنفذ اذن الله سبحانه لها في الاحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازال العظام فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والانابة والاقلاع عن معاصيه والتضرعاليه والندم كما قال بعض السلف وقد زلزلت الارض ان ربكم يستعتبكم وقال عمر بن الخطاب وقد زلزلت المدينة فخطبهم ووعظهم وقال لئن عادت لا اساكنكم فيها
فصل ثم تأمل حكمة الله عز و جل في عزة هذين النقدين الذهب والفضة
وقصور خيرة العالم عما حاولوا من صنعتهما والتشبه بخلق الله اياهما مع شدة حرصهم وبلوغ اقصى جهدهم واجتهادهم في ذلك فلم يظفروا بسوى الصنعة ولو مكنوا ان يصنعوا مثل ما خلق الله من ذلك لفسد امر العالم واستفاض الذهب والفضة في الناس حتى صار

كالسعف والفخار وكانت تتعطل المصلحة التي وضعا لاجلها وكانت كثرتهما جدا سبب تعطل الانتفاع بهما فانه لا يبقى لهما قيمة ويبطل كونهما قيما لنفائس الاموال والمعاملات وارزاق المقاتلة ولم يتسخر بعض الناس لبعض إذ يصير الكل ارباب ذهب وفضة فلو اغنى خلقه كلهم لأفقرهم كلهم فمن يرضى لنفسه بامتهانها في الصنائع التي لا قوام للعالم الا بها فسبحان من جعل عزتهما سبب نظام العالم ولم يجعلهما في العزة كالكبريت الاحمر الذي لا يوصل إليه فتفوت المصلحة بالكلية بل وضعهما وانبتهما في العالم بقدر اقتضه حكمته ورحمته ومصالح عباده وقرأت بخط الفاضل جبريل بن روح الانباري قال اخبرني بعض من تداول المعادن انهم اوغلوا في طلبها إلى بعض نواحي الجبل فانتهوا إلى موضع وإذا فيه امثال الجبال من الفضة ومن دون ذلك واد يجرى متصلبا بماء غزير لا يدرك ولا حيلة في عبوره فانصرفوا إلى حيث يعملون ما يعبرون به فلما هيئوه وعادوا راموا طريق النهر فما وقفوا له على اثر ولا عرفوا إلى اين يتوجهون فانصرفوا آيسين وهذا احد ما يدل على بطلان صناعة الكيمياء وانها عند التحقيق زغل وصبغة لا غير وقد ذكرنا بطلانها وبينا فسادها من اربعين وجها في رسالة مفردة والمقصود ان حكمة الله تعالى اقتضت عزة هذين الجوهرين وقتلهما بالنسبة إلى الحديد والنحاس والرصاص لصلاح امر الناس واعتبر ذلك بأنه إذا ظهر الشيء الظريف المستحسن مما يحدثه الناس من الامتعة كان نفيسا عزيزا ما دام فيه قلة وهو مرغوب فيه فإذا فشى وكثر في ايدي الناس وقدر عليه الخاص والعام سقط عندهم وقلت رغباتهم فيه ومن هذا قول القائل نفاسه الشيء من عزته ولهذا كان ازهد الناس في العالم اهله وجبرانه وارغبهم فيه البعداء عنه

فصل وتأمل الحكمة البديعة في تيسيره سبحانه على عباده ما هم احوج
إليه وتوسيعه وبذلك بذلهفكلما كانوا احوج إليه كان اكثر واوسع وكلما استغنوا عنه كان اقل وإذا توسطت الحاجة توسط وجوده فلم يكن بالعام ولا بالنادر على مراتب الحاجات وتفاوتها فاعتبر هذا بالاصول الاربعة التراب والماء والهواء والنار وتأمل سعة ما خلق الله منها وكثرته فتأمل سعة الهواء وعمومه ووجوده بكل مكان لأن الحيوان مخلوق في البر لايمكنه الحياة إلا به فهو معه أينما كان وحيث كان لانه لا يستغنى عنه لحظه واحدة ولولا كثرته وسعته وامتداده في اقطار العالم لاختنق العالم من الدخان والبخار المتصاعد المنعقد فتأمل حكمة ربك في ان سخر له الرياح فإذا تصاعد إلى الجو احالته سحابا او ضبابا فأذهبت عن العالم شره وأذاه فسل الجاحد من الذي دبر هذا التدبير وقدر هذا التقدير وهل يقدر العالم كلهم لو اجتمعوا ان يحيلوا ذلك

ويقلبوه سحابا او ضبابا او يذهبوه عن الناس ويكشفوه عنهم ولو شاء ربه تعالى لحبس عنه الرياح فاختنق على وجه الارض فأهلك ما عليها من الحيوان والناس

فصل ومن ذلك سعة الارض وامتدادها ولولا ذلك لضاقت عن مساكن الانس
والحيوان وعن مزارعهم ومراعيهم ومنابت ثمارهم واعشابهم فان قلت فما حكمة هذه القفار الخالية والفلوات الفارغة الموحشة فاعلم ان فيها معايش مالا يحصيه الا الله من الوحوش والدواب وعليها ارزاقهم وفيها مطردهم ومنزلهم كالمدن والمساكن للانس وفيها مجالهم ومرعاهم ومصيفهم ومشتهاهم ثم فيها بعد متسع ومتنفس للناس ومضطرب إذا احتاجوا إلى الانتقال والبدو والاستبدال بالاوطان فكم من بيداء سملق صارت قصورا وجنانا ومساكن ولولا سعة الارض وفسحها لكان اهلها كالمحصورين والمحبوسين في أماكنهم لا يجدون عنها انتقالا إذا فدحهم ما يزعجهم عنها ويضطرهم إلى النقلة منها وكذلك الماء لولا كثرته وتدفقه في الاودية والانهار لضاق عن حاجة الناس إليه ولغلب القوى الضعيف واستبد به دونه فيحصل الضرر وتعظم البلية مع شدة حاجة جميع الحيوان إليه من الطير والوحوش والسباع فاقتضت الحكمة ان كان بهذه الكثرة والسعة في كل وقت وأما النار فقد تقدم ان الحكمة اقتضت كموتها متى شاء العبد اوراها عند الحاجة فهي وان لم تكن مبثوثة في كل مكان فانها عتيدة حاصلة متى احتيج اليها واسعة لكل ما يحتاج إليه منها غير انها مودعة في أجسام جعلت معادن لها للحكمة التي تقدمت
فصل ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الارض من علو ليعم
بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وآكامها ومنخفضها ومرتفعها ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما اتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر وفي ذلك فساد فاقتضت حكمته ان سقاها من فوقها فينشيء سبحانه السحاب وهي روايا الارض ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الانثى ولهذا تجد البلاد القريبة من البحر كثيرة الامطار وإذا بعدت من البحر قل مطرها وفي هذا المعنى يقول الشاعر يصف السحاب
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئبج وفي الموطأ مرفوعا وهو احد الاحاديث الاربعة المقطوعة إذا نشأت سحابة بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة فالله سبحانه ينشيء الماء في السحاب إنشاء تارة يقلب الهواء ماء وتارة يحمله الهواء من البحر فيلقح به السحاب ثم ينزل منه على الارض للحكم التي

ذكرناها ولو انه ساقه من البحر إلى الارض جاريا على ظهرها لم يحصل عموم السقي الا بتخريب كثير من الارض ولم يحصل عموم السقي لأجزائها فصاعدة سبحانه إلى الجو بلطفه وقدرته ثم انزله على الارض بغاية من اللطف والحكمة التي لا اقتراح لجميع عقول الحكماء فوقها فأنزله ومعه رحمته على الارض

فصل ثم تأمل الحكمة البا لغة في إنزاله بقدر الحاجة حتى إذا اخذت
الارض حاجتها منه وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها اقلع عنها واعقبه بالصحو فهما اعني الصحو والغيم يعتقبان على العالم لما فيه صلاحه ولو دام احدهما كان فيه فساده فلو توالت الامطار لاهلكت ما علي الارض ولو زادت على الحاجة افسدت الحبوب والثمار وعفنت الزروع والخضروات وأرخت الابدان وحشرت الهواء فحدثت ضروب من الامراض وفسد اكثر المآكل وتقطعت المسالك والسبل ولو دام الصحو لجفت الابدان وغيض الماء وانقطع معين العيون والابار والانهار والاودية وعظم الضرر واحتدم الهواء فيبس ما على الارض وجفت الابدان وغلب اليبس واحدث ذلك ضروبا من الامراض عسرة الزوال فاقتضت حكمة اللطيف الخبير ان عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم فاعتدل الامر وصح الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الاخر واستقام امر العالم وصلح
فصل ثم تأمل الحكمة الالهية في اخراج الاقوات والثمار والحبوب
والفواكه متلاحقة شيئا بعد شيء متتابعة ولم يخلقها كلها جملة واحدة فانها لو خلقت كذلك على وجه الارض ولم تكن تنبت على هذه السوق والاغصان لدخل الخلل وفاتت المصالح التي رتبت على تلاحقها وتتابعها فإن كل فصل واوان يقتضى من الفواكه والنبات غير ما يتقضيه الفصل الاخر فهذا حار وهذا بارد وهذا معتدل وكل في فصله موافق للمصلحة لا يليق به غير ما خلق فيه ثم انه سبحانه خلق تلك الاقوات مقارنة لمنافع اخر من العصف والخشب والورق والنور والعسف والكرب وغيرها من منافع النبات والشجر غير الاقوات كعلف البهائم وأداة الابنية والسفن والرحال والاواني وغيرها ومنافع النور من الادوية والمنظر البهيج الذي يشوق الناظرين وحسن مرائي الشجر وخلقتها البديعة المشاهدة لفاطرها ومبدعها بغاية الحكمة واللطف ثم إذا تأملت إخراج ذلك النور البهي من نفس ذلك الحطب ثم الورق الاخضر ثم اخراج تلك الثمار على اختلاف أنواعها وأشكالها ومقاديرها وألوانها وطعومها وروائحها ومنافعها وما يراد منها ثم تأمل اين كانت مستودعة في تلك الخشبة وهاتيك العيدان وجعلت الشجرة لها كالام

فهل كان في قدرة الاب العاجز الضعيف إبراز هذا التصوير العجيب وهذا التقدير المحكم وهذه الاصباغ الفائقة وهذه الطعوم اللذيذة والروائح الطيبة وهذه المناظر العجيبة فسل الجاحد من تولى تقدير ذلك وتصيره وإبرازه وترتيبه شيئا فشيئا وسوق الغذاء إليه في تلك العروق اللطاف التي يكاد البصر يعجز عن إدراكها وتلك المجاري الدقاق فمن الذي تولى ذلك كله ومن الذي اطلع لها الشمس وسخر لها الرياح وأنزل عليها المطر ودفع عنها الافات وتامل تقدير اللطيف الخبير فإن الاشجار لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الناس وسائر الحيوان ولم يكن لها قوة أفواه كافواه الحيوان ولا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت اصولها مركوزة في الارض ليسرع بها الغذاء وتمتصه من اسفل الثرى فتؤديه إلى أغصانها فتؤديه الاغصان إلى الورق والثمر كل له شرب معلوم لا يتعداه يصل إليه في مجاري وطرق قد احكمت غاية الاحكام فتأخذ الغذاء من اسفل فتلقمه بعروقها كما يلتقم الحيوان غذاءه بفمه ثم تقسمه على حملها بحسب ما يحتمله فتعطى كل جزء منه بحسب ما يحتاج إليه لا تظلمه ولا تزيده على قدر حاجته فسل الجاحد من اعطاها هذا ومن هداها إليه ووضعه فيها فلو اجتمع الاولون والاخرون هل كانت قدرتهم وإرادتهم تصل إلى تربية ثمرة واحدة منها هكذا باشارة او نصاعة او حيلة او مزاولة وهل ذلك الا من صنع من شهدت له مصنوعاته دلت عليه آياته كما قيل :
فواعجبا كيف يعصى الاله ... ام كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكه وتسكينه ابدا شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على انه واحد

فصل ثم تأمل إذا نصبت خيمة او فسطاطا كيف تمده من كل جانب
بالاطناب ليثبت فلا يسقط ولا يتعوج هكذا تجد النبات والشجر له عروق ممتدة في الارض منتشرة إلى كل جانب لتمسكه وتقيمه وكلما انتشرت أعاليه امتدت عروقه واطنابه من اسفل في الجهات ولولا ذلك كيف كانت تثبت هذه النخيل الطوال الباسقات والدوح العظام على الرياح العواصف وتأمل سبق الخلق الالهية للصناعة البشرية حتى يعلم الناس نصب الخيم والفساطيط من خلقه للشجر والنبات لان عروقها اطناب لها كأطناب الخيمة واغصان الشجر يتخذ منها الفساطيط ثم يحاكى بها الشجرة
فصل ثم تأمل الحكمة في خلق الورق فإنك ترى في الورقة الواحدة من جملة
العروق

الممتدة فيها المبثوثة فيها ما يبهر الناظر فمنها غلاظ ممتدة في الطول والعرض ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا معجبا لو كان مما يتولى البشر صنع مثله بأيديهم لما فرغوا من ورقة في عام كامل ولاحتاجوا فيه إلى آلات وحركات وعلاج تعجز قدرتهم عن تحصيله فبث الخلاق العليم في أيام قلائل من ذلك ما يملأ الارض سهلها وجبالها بلا آلات ولا معين ولا معالجة ان هي إلا ارادته النافذة في كل شيء وقدرته التي لا يمتنع منها شيء إنما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون فتأمل الحكمة في تلك العروق المتخللة الورقة باسرها لتسقيها وتوصل اليها المادة فتحفظ عليها حياتها ونضارتها بمنزلة العروق المبثوثة في الابدان التي توصل الغذاء إلى كل جزء منه وتأمل ما في العروق الغلاظ من إمساكها الورق بصلابتها ومتانتها لئلا تتمزق وتضمحل فهي بمنزلة الاعصاب لبدن الحيوان فتراها قد أحكمت صنعتها ومدت العروق في طولها وعرضها لتتماسك فلا يعرض لها التمزق

فصل ثم تأمل حكمة اللطيف الخبير في كونها جعلت زينة للشجر وسترا
ولباسا للمثرة ووقاية لها من الافات التي تمنع كمالها ولهذا إذا جردت الشجرة عن ورقها فسدت الثمرة ولم ينتفع بها وانظر كيف جعلت وقاية لمنبت الثمرة الضعيفة من اليبس فإذا ذهبت الثمرة بقي الورق وقاية لتلك الافنان الضعيفة من الحر حتى إذا طفئت تلك الجمرة ولم يضر الافنان عراها من ورقها وسلبها إياه لتكتسى لباسا جديدا احسن منه فتباركا لله رب العالمين الذي يعلم مساقط تلك الاوراق ومنابتها فلا تخرج منها ورقة الا باذنه ولا تسقط الا بعلمه ومع هذا فلو شاهدها العبادعلى كثرتها وتنوعها وهي تسبح بحمد ربها مع الثمار والافنان والاشجار لشاهدوا من جمالها امرا آخر ولراوا خلقتها بعين اخرى ولعلموا انها لشأن عظيم خلقت وأنها لم تخلق سدى قال تعالى والنجم والشجر يسجدان فالنجم ما ليس له ساق من النبات والشجر ماله ساق وكلها ساجدة لله مسبحة بحمده وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ولعلك ان تكون ممن غلظ حجابه فذهب إلى ان التسبيح دلالتها على صانعها فقط فاعلم ان هذا القول يظهر بطلانه من اكثر من ثلاثين وجها قد ذكرنا اكثرها في موضع آخر وفي أي لغة تسمى الدلالة على الصانع تسبيحا وسجودا وصلاة وتاويبا وهبوطا من خشيته كما ذكر تعالى ذلك في كتابه فتارة يخبر عنها بالتسبيح وتارة بالسجود وتارة بالصلاة كقوله تعالى والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه افترى يقبل عقلك ان يكون معنى الاية قد علم الله دلالته عليه وسمى تلك الدلالة صلاة وتسبيحا وفرق بينهما وعطف احدهما

على الاخر وتارة يخبر عنها بالتأويب كقوله يا جبال اوبي معه وتارة يخبر عنها بالتسبيح الخاص بوقت دون وقت كالعشى والاشراق أفترى دلالتها على صانعها إنما يكون في هذين الوقتين وبالجملة فبطلان هذا القول اظهر لذوي البصائر من ان يطلبوا دليلا على بطلانه والحمد لله

فصل ثم تأمل حكمته سبحانه في إبداع العجم والنوى في جوف الثمرة وما
في ذلك من الحكم والفوائد التي منها انه كالعظم لبدن الحيوان فهو يمسك بصلابته رخاوة الثمرة ورقتها ولطافتها ولولا ذلك لشدخت وتفسخت ولأسرع اليها الفساد فهو بمنزلة العظم ولاثمرة بمنزلة اللحم الذي يكسوه الله عز و جل العظام ومنها ان في ذلك بقاء المادة وحظفها إذ ربما تعطلت الشجرة او نوعها فخلق فيها ما يقوم مقامها عند تعطلها وهو النوى الذي يغرس فيعود مثلها ومنها ما في تلك الحبوب من أقوات الحيوانات وما فيها من المنافع والادهان والادوية والاصباغ وضروب اخر من المصالح التي يتعلمها الناس وما خفي عليهم منها اكثر فتأمل الحكمة في اخراجه سبحانه هذه الحبوب لمنافع فيها وكسوتها لحما لذيذا شهيا يتكفه به ابن آدم ثم تأمل هذه الحكمة البديعة في ان جعل للثمرة الرقيقة اللطيفة التي يفسدها الهواء والشمس غلافا يحفظها وغشاء يواريها كالرمان والجوز واللوز ونحوه وأما مالا يفسد إذا كان بارزا فجعل له اول خروجه غشاء يواريه لضعفه ولقلة صبره على الحر فإذا اشتد وقوى تفتق عن ذلك الغشاء وضحى للشمس والهواء كطلع النخل وغيره
فصل ثم تأمل خلقه الرمان وماذا فيه من الحكم والعجائب فإنك ترى داخل
الرمانة كأمثال القلال شحما متراكما في نواحيها وترى ذلك الحب فيها مرصوفا رصفا ومنضودا نضدا لاتمكن الايدي ان تنضده وترى الحب مقسوما اقساما وفرقا وكل قسم وفرقة منه ملفوفا بلفائف وحجب منسوجة اعجب نسج والطفه وأدقه على غير منوال الا منوال كن فيكون ثم ترى الوعاء المحكم الصلب قد اشتمل على ذلككله وضمه احسن ضم فتأمل هذه الحكمة البديعة في الشحم المودع فيها فإن الحب لا يمد بعضه بعضا إذ لو مد بعضه بعضا لاختلط وصار حبة واحدة فجعل ذلك الشحم خلاله ليمده بالغذاء والدليل عليه انك ترى اصول الحب مركوزة في ذلك الشحم وهذا بخلاف حب العنب فإنه استغنى عن ذلك بان جعل لكل حبة مجرى تشرب منه فلا تشرب حق اختها بل يجرى الغذاء في ذلك العرق مجرى واحدا ثم ينقسم منه في مجاري الحبوب كلها فينبعث منه في كل مجرى غذاء تلك

الحبة فتبارك الله احسن الخالقين ثم انه لف ذلك الحب في تلك الرمانة بتلك اللفائف ليضمه ويمسكه فلا يضطرب ولايتبدد ثم غشى فوق ذلك بالغشاء الصلب صونا له وحفظا وممسكا له باذن الله وقدرته فهذا قليل من كثير من حكمة هذه الثمرة الواحدة ولايمكننا ولاغيرنا استقصاء ذلك ولو طالت الايام واتسع الفكر ولكن هذا منبه على ما وراءه واللبيب يكتفى ببعض ذلك وأما من غلبت عليه الشقاوة وكأين من آية في السموات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون غافلون عن موضع الدلالة فيها

فصل ثم تأمل هذا الريع والنماء الذي وضعه الله في الزرع حتى صارت
الحبة الواحدة ربما انبتت سبعمائة حبة ولو انبتت الحبة حبة واحدة مثلها لا يكون في الغلة متسع لما يرد في الارض من الحب وما يكفي الناس ويقوت الزارع إلى إدراك زرعه فصار الزرع بريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت والزراعة وكذلك ثمار الاشجار والنخيل وكذلك ما يخرج مع الاصل الواحد منها من الصنوان ليكون لما يقطعه الناس ويستعلمونه في مآربهم خلفا فلاتبطل المادة عليهم ولا تنقص ولو ان صاحب بلد من البلاد أراد عمارته لاعطى اهله ما يبذرونه فيهم وما يقيتهم إلى استواء الزرع فاقتضت حكمة اللطيف الخبير ان اخرج من الحبة الواحدة حبات عديدة لبقيت الخارج الناس ويدخرون منه ما يزرعون
فصل ثم تأمل الحكمة في الحبوب كالبر والشعير ونحوهما كيف يخرج الحب
مدرجا في قشور على رؤسها امثال الاسنة فلا يتمكن جند الطير من افسادها والعبث فيها فإنه لو صادف الحب بارزا لا صوان عليه ولا وقاية تحول دونه لتمكن منه كل التمكن فأفسدوا عاب وعاث وأكب عليه أكلا ما استطاع وعجز ارباب الزرع عن رده فجعل اللطيف الخبير عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطير منه مقدار قوته ويبقى اكثره للانسان فإنه اولى به لانه هو الذي كدح فيه وشقى به وكان الذي يحتاج إليه اضعاف حاجة الطير
فصل ثم تأمل الحكمة الباهرة في هذه الاشجار كيف تراها في كل عام
لها حمل ووضع فهي دائما في حمل وولادة فإذا اذن لها ربها في الحمل احتبست الحرارة الطبيعية في داخلها واختبأت فيها ليكون فيها حملها في الوقت المقدر لها فيكون ذلك الوقت بمنزلة وقت العلوق ومبدأ

تكوين النطف فتعمل المادة في اجوافها عملها وتهيئها للعلوق حتى إذا آن وقت الحمل دب فيها الماء فلانت اعطافها وتحركت للحمل وسرى الماء في افنانها وانتشرت فيها الحرارة والرطوبة حتى إذا آن وقت الولادة كسيت من سائر الملابس الفاخرة من النور والورق ما تتبخر فيه وتميس به وتفخر على العقيم فإذا ظهرت اولادها وبان للناظر حملها علم حينئذ كرمها وطيبها من لؤمها وبخلها فتولى تغذية ذلك الحمل من تولى غذاء الاجنحة في بطون امهاتها وكساها الاوراق وصانها من الحر والبرد فإذا تكامل الحمل وآن وقت الفطام تدلت اليك أفنانها كأنما تناولك ثمرة درها فإذا قابلتها رايت الافنان كأنها تلقاك بأولادها وتحييك وتكرمك بهم وتقدمهم اليك حتى كأن منا ولا يناولك إياهم بيده ولا سيما قطوف جنات النعيم الدانية التي يتناولها المؤمن قائما وقاعدا ومضطجعا وكذلك ترى الرياحين كأنها تحييك بانفاسها وتقابلك بطيب رائحتها وكل هذا إكراما لك وعناية بأمرك وتخصيصا لك وتفضيلا على غيرك من الحيوانات أفيجمل بك الاشتغال بهذه النعم عن المنعم بها فكيف إذا استعنت بها على معاصيه وصرفتها في مساخطه فكيف إذا جحدته واضفتها إلى غيره كما قال وتجعلون رزقكم انكم تكذبون فجدير بمن له مسكة من عقل ان يسافر بفكره في هذه النعم والالاء ويكرر ذكرها لعله يوقفه على المراد منها ماهو ولأي شيء خلق ولماذا هيء وأي امر طلب منه على هذه النعم كما قال تعالى واذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون فذكر آلائه تبارك وتعالى ونعمه على عبده سبب الفلاح والسعادة لان ذلك لا يزيده الا محبة لله وحمدا وشكرا وطاعة وشهود تقصيره بل تفريطه في القليل مما يجب لله عليه ولله در القائل :
قد هيؤك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك ان ترعى مع الهمل

فصل ثم تأمل الحكمة في شجرة اليقطين والبطيخ والجزر كيف لما اقتضت
الحكمة ان يكون حمله ثمارا كبارا جعل نباته منبسطا على الارض إذ لو انتصب قائما كما ينتصب الزرع لضعفت قوته عن حمل هذه الثمار الثقيلة ولنقصت قبل أدراكها وانتهائها إلى غاياتها فاقتضت حكمة مبدعها وخالقها ان بسطه ومده على الارض ليلقى عليها ثماره فتحملها عنه الارض فترى العرق الضعيف الدقيق من ذلك منبسطا على الارض وثماره مبثوثة حواليه كأنها حيوان قد اكتنفها اجراؤها فهي ترضعهم ولما كان شجر اللوبيا والباذنجان والباقلاء وغيرها مما يقوى على حمل ثمرته انتبه الله منتصبا قائما على ساقه إذ لا يلقى من حمل ثماره مؤنة ولا يضعف عنه

ثم تأمل كيف اقتضت الحكمة الالهية موافات اصناف الفواكه والثمار للناس بحسب الوقت المشاكل لها المقتضى لها فتوافيهم كموافاة الماء للظمآن فتتلقاها الطبيعة بانشراح واشتياق منتظرة لقدومها كانتظار الغائب للغائب فلو كان نبات الصيف انما يوافي في الشتاء لصادف من الناس كراهية واستثقالا بوروده مع ما كان فيه من المضرة للابدان والاذى لها وكذلك لو وافى ما في ربيعها في الخريف او ما في خريفها في الربيع لم يقع من النفوس ذلك الموقع ولا استطابته واستلذته ذلك الالتذاذ ولهذا تجد المتأخر منها عن وقته مملولا محلول الطعم ولا يظن ان هذا لجريان العادة المجردة بذلك فإن العادة إنما جرت به لانه وفق الحكمة والمصلحة التي لا يخل بها الحكيم الخبير

فصل ثم تأمل هذه النخلة التي هي احدى آيات الله تجد فيها من
الايات والعجائب ما يبهرك فإنه لما قدر ان يكون فيه اناث تحتاج إلى اللقاح جعلت فيها ذكور تلقحها بمنزلة الحيوان واناثه ولذلك اشتد شبهها من بين سائر الاشجار بالانسان خصوصا بالمؤمن كما مثله النبي صلى الله عليه و سلم وذلك من وجوه كثيرة احدها ثبات اصلها في الارض واستقراره فيها وليست بمنزلة الشجرة التي اجتثت من فوق الارض مالها من قرار الثاني طيب ثمرتها وحلاوتها وعموم المنفعة بها كذلك المؤمن طيب الكلام طيب العمل فيه المنفعة لنفسه ولغيره الثالث دوام لباسها وزينتها فلا يسقط عنها صيفا ولا شتاء كذلك المؤمن لا يزول عنه لباس التقوى وزينتها حتى يوافي ربه تعالى الرابع سهولة تناول ثمرتها وتيسره اما قصيرها فلا يحوج المتناول ان يرقاها واما باسقها فصعوده سهل بالنسبة إلى صعودالشجر الطوال وغيرها فتراها كأنها قد هيئت منها المراقي والدرج إلى اعلاها وكذلك المؤمن خيره سهل قريب لمن رام تناوله لا بالغر ولا باللئيم الخامس ان ثمرتها من انفع ثمار العالم فإنه يؤكل رطبه فاكهة وحلاوة ويابسه يكون قوتا وادما وفاكهة ويتخذ منه الخل والناطف والحلوى ويدخل في الادوية والاشربة وعموم المنفعة به وبالعنب فوق كل الثمار وقد اختلف الناس في ايهما انفع وافضل وصنف الجاحظ في المحاكمة بينهما مجلدا فأطال فيها الحجاج والتفضيل من الجانبين وفصل النزاع في ذلك ان النخل في معدنه ومحل سلطانه افضل من العنب وأعم نفعا واجدى على اهله كالمدينة والحجاز والعراق والعنب في معدنه ومحل سلطانه افضل وأعم نفعا واجدى على أهله كالشام والجبال والمواضع الباردة التي لا تقبل النخيل وحضرت مرة في مجلس بمكة فيه من أكابر البلد فجرت هذه المسئلة وأخذ بعض الجماعة الحاضرين يطنب في تفضيل النخل

وفوائده وقال في أثناء كلامه ويكفي في تفضيله انا نشتري بنواه العنب فكيف يفضل عليه ثمر يكون نواه ثمنا له وقال آخر من الجماعة قد فصل النبي صلى الله عليه و سلم النزاع في هذه المسئلة وشفى فيها بنهيه عن تسمية شجر العنب كرما وقال الكرم قلب المؤمن فاي دليل ابين من هذا واخذوا يبالغون في تقرير ذلك فقلت للأول ما ذكرته من كون نوى التمر ثمنا للعنب فليس بدليل فإن هذا له اسباب احدها حاجتكم إلى النوى للعلف فيرغب صاحب العنب فيه لعلف ناضحه وحمولته الثاني ان نوى العنب لا فائدة فيه ولا يجتمع الثالث ان الاعناب عندكم قليلة جدا والتمر اكثر شيء عندكم فيكثر نواه فيشترى به الشيء اليسير من العنب وأما في بلاد فيها سلطان العنب فلا يشترى بالنوى منه شيء ولا قيمة لنوى التمر فيها وقلت لمن احتج بالحديث هذا الحديث من حجج فضل العنب لانهم كانوا يسمونه شجرة الكرم لكثرة منافعه وخيره فإنه يؤكل رطبا ويابسا وحلوا وحامضا وتجنى منه أنواع الاشربة والحلوى والدبس وغير ذلك فسموه كرما لكثرة خيره فأخبرهم النبي صلى الله عليه و سلم ان قلب المؤمن احق منه بهذه التسمية لكثرة ما اودع الله فيه من الخير والبركة والرحمة واللين والعدل والاحسان والنصح وسائر انواع البر والخير التي وضعها الله في قلب المؤمن فهو احق بأن يسمى كرما من شجر العنب ولم يرد النبي صلى الله عليه و سلم ابطال ما في شجر العنب من المنافع والفوائد وان تمسيته كرما كذب وانها لفظة لا معنى تحتها كتسمية الجاهل عالما والفاجر برا والبخيل سخيا الا ترى انه لم ينف فوائد شجر العنب وإنما اخبر عنه ان قلب المؤمن اغزر فوائد واعظم منافع منها هذا الكلام او قريب منه جرى في ذلك المجلس وأنت إذا تدبرت قول النبي صلى الله عليه و سلم الكرم قلب المؤمن وجدته مطابقا لقوله في النخلة مثلها مثل المسلم فشبه النخلة بالمسلم في حديث ابن عمر وشبه المسلم بالكرم في الحديث الاخر ونهاهم ان يخصوا شجر العنب باسم الكرم دون قلب المؤمن وقد قال بعض الناس في هذا معنى آخر وهو انه نهاهم عن تسمية شجر العنب كرما لانه يقتنى منه ام الخبائث فيكره ان يسمى باسم يرغب النفوس فيها ويحضهم عليها من باب سد الذرائع في الالفاظ وهذا لا بأس به لولا ان قوله فإن الكرم قلب المؤمن كالتعليل لهذا النهي والاشارة إلى انه اولى بهذه التسمية من شجر العنب ورسول الله صلى الله عليه و سلم اعلم بما اراد من كلامه فالذي قصده هو الحق وبالجملة فالله سبحانه عدد على عباده من نعمه عليهم ثمرات النخيل والاعناب فساقها فيما عدده عليهم من نعمه والمعنى الاول اظهر من المعنى الاخر إن شاء الله فإن أم الخبائث تتخذ من كل ثمر كالنخيل كما قال تعالى ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وقال انس نزل تحريم الخمر وما بالمدينة من شراب الاعناب شيء وإنما كان شراب القوم الفضيخ المتخذ من التمر فلو كان نهيه صلى الله عليه و سلم عن تسمية شجر العنب

كرما لاجل المسكر لم يشبه النخلة بالمؤمن لان المسكر يتخذ منها والله اعلم الوجه السادس من وجوه التشبيه ان النخلة اصبر الشجر على الرياح والجهد وغيرها من الدوح العظام تميلها الريح تارة وتقلعها تارة وتقصف افنانها ولا صبر لكثير منها على العطش كصبر النخلة فكذلك المؤمن صبور على البلاء لا تزعزعه الرياح السابع ان النخلة كلها منفعة لا يسقط منها شيء بغير منفعة فثمرها منفعة وجذعها فيه من المنافع مالا يجهل للأبنية والسقوف وغير ذلك وسعفها تسقف به البيوت مكان القصب ويستر به الفرج والخلل وخوصها يتخذ منه المكاتل والزنابيل وأنواع الانية والحصر وغيرها وليفها وكربها فيه من المنافع ما هومعلوم عند الناس وقد طابق بعض الناس هذه المنافع وصفات المسلم وجعل لكل منفعة منها صفة في المسلم تقابلها فلما جاء إلى الشوك الذي في النخلة جعل بإزائه من المسلم صفة الحدة على أعداء الله واهل الفجور فيكون عليهم في الشدة والغلظة بمنزلة الشوك وللمؤمنين والمتقين بمنزلة الرطب حلاوة ولينا اشداء على الكفار رحماء بينهم الثامن انها كلما اطال عمرها ازداد خيرها وجاد ثمرها وكذلك المؤمن إذا طال عمره ازداد خيره وحسن عمله التاسع ان قلبها من اطيب القلوب واحلاه وهذا امر خصت به دون سائر الشجر وكذلك قلب المؤمن من ايطب القلوب العاشر انها لايتعطل نفعها بالكلية ابدا بل إن تعطلت منها منفعه ففيها منافع اخر حتى لو تعطلت ثمارها سنة لكان للنسا في سعفها وخوصها وليفها وكربها منافع وهكذا المؤمن لا يخلو عن شيء من خصال الخير قط ان اجدب منه جانب من الخير اخصب منه جانب فلا يزال خيره مأمولا وشره مأمونا في الترمذي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره فهذا فصل معترض ذكرناه استطرادا للحكمة في خلق النخلة وهيئتها فلنرجع إليه فتأمل خلقة الجذع الذي لها كيف هو تجده كالمنسوج من خيوط ممدودة كالسدا وأخرى معترضة كاللحمة كنحو المنسوج باليد وذلك لتشتد وتصلب فلا تتقصف من حمل الحيوان الثقيل وتصبر على هز الرياح العاصفة ولبثها في السقوف والجسور والاواني وغير ذلك مما يتخذ منها وهكذا سائر الخشب وغيرها إذا تأملته شبه النسج ولا تراه مصمتا كالحجر الصلد بل ترى بعضه كأنه داخل بعضا طولا وعرضا كتداخل اجزاء اللحم بعضها في بعض فإن ذلك امتن له وأهيأ لما يراد منه فإنه لو كان مصمتا كالحجارة لم يمكن ان يستعمل في الالات والابواب والاواني والامتعة والاسرة والتوابيت وما اشبهها ومن بديع الحكمة في الخشب ان جعل يطفو على الماء وذلك للحكمة البالغة إذ لولا ذلك لما كانت هذه السفن تحمل امثال الجبال من الحمولات والامتعة وتمخر البحر مقبلة ومدبرة ولولا ذلك لما تهيأ للناس هذه المرافق لحمل هذه التجارات العظيمة والامتعة الكثيرة

ونقلها من بلد إلى بلد من حيث لو نقلت في البر لعظمت المؤنة في نقلها وتعذر على الناس كثير من مصالحهم

فصل ثم تأمل احوال هذه العقاقير والادوية التي يخرجها الله من
الارض وما خص به كل واحد منها وجعل عليه من العمل والنفع فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة القاتلة لو احتسبت وهذا يستخرج المرة السوداء وهذا يستخرج المرة الصفراء وهذا يحلل الاورام وهذا يسكن الهيجان والقلق وهذا يجلب النوم ويعيده إذا اعوزه الانسان وهذا يخفف البدن إذا وجد الثقل وهذا يفرح القلب إذا تراكمت عليه الغموم وهذا يجلو البلغم ويكشطه وهذا يحد البصر وهذا يطيب النكهة وهذا يسكن هيجان الباءة وهذا يهيجها وهذا يبرد الحرارة ويطفئها وهذا يقتل البرودة ويهيج الحرارة وهذا يدفع ضرر غيره من الادوية والاغذية وهذا يقاوم بكيفيته كيفية غيره فيعتدلان فيعتدل المزاج بتناولهما وهذا يسكن العطش وهذا يصرف الرياح الغليظة ويطردها وهذا يعطي اللون إشراقا ونضارة وهذا يزيد في أجزاء البدن بالسمن وهذا ينقص منها وهذا يدبغ المعدة وهذا يجلوها ويغسلها إلى أضعاف ذلك مما لا يحصيه العباد فسل المعطل من جعل هذه المنافع والقوى في هذه النباتات والحشائش والحبوب والعروق ومن اعطى كل منها خاصيته ومن هدى العباد بل الحيوان إلى تناول ما ينفع منه ترك ما يضر ومن فطن لها الناس والحيوان البهيم وبأي عقل وتجربة كان يقف على ذلك ويعرف ما خلق له كما زعم من قل نصيبه من التوفيق لولا انعام الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى وهب ان الانسان فطن لهذه الاشياء بذهنه وتجاربه وفكره وقياسه فمن الذي فطن لها البهائم في اشياء كثيرة منها مالا يهتدي اليها الانسان حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحه ببعض تلك العقاقير من النبات فيبرأ فمن الذي جعله يقصد ذلك النبات دون غيره وقد شوهد بعض الطير يحتقن عند الحصر بماء البحر فيسهل عليه الخارج وبعض الطير يتناول اذا اعتل شيئا من النبات فتعود صحته وقد ذكر الاطباء في مبادئ الطب في كتبهم من هذا عجائب فسل المعطل من الهمها ذلك ومن ارشدها إليه ومن دلها عليه افيجوز ان يكون هذا من غير مدبر عزيز حكيم وتقدير عزيز عليم وتقدير لطيف خبير بهرت حكمته العقول وشهدت له الفطر بما استودعها من تعريفه بأنه الله الذي لا إله إلا هو الخالق البارئ المصور الذي لا تنبغي العبادة الا له وإنه لو كان معه في سمواته وارضه اله سواه لفسدت السموات والارض واختل نظام الملك فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ولعلك ان تقول ما حكمة هذا النبات المبثوث في الصحارى

والقفار والجبال التي لا انيس بها ولا ساكن وتظن انه فضلة لا حاجة إليه ولا فائدة في خلقه وهذامقدار عقلك ونهاية علمك فكم لباريه وخالقه فيه من حكمة وآية من طعم أوحش وطير ودواب مساكنها حيث لاتراها تحت الارض وفوقها فذلك بمنزلة مائدة نصبها الله لهذه الطيور والدواب تتناول منها كفايتها ويبقى الباقي كما يبقى الرزق الواسع الفاضل عن الضيف لسعة رب الطعام وغناه التام وكثرة إنعامه

فصل ثم تأمل الحكمة البالغة في اعطائه سبحانه بهيمة الانعام
الاسماع والابصار ليتم تناولها لمصالحها ويكمل انتفاع الانسان بها إذ لو كانت عمياء او صماء لم يتمكن من الانتفاع بها ثم سلبها العقول على كبر خلقها التي للانسان ليتم تسخيره اياها فيقودها ويصرفها حيث شاء ولو اعطيت العقول على كبر خلقها لامتنعت من طاعته واستعصت عليه ولم تكن مسخرة له فأعطيت من التمييز والادراك ما تتم به مصلحتها ومصلحة من ذلك له وسلبت من الذهن والعقل ما ميز به عليها الانسان وليظهر ايضا فضيلة التمييز والاختصاص ثم تأمل كيف قادها وذللها على كبر اجسامها ولم يكن يطيقها لولا تسخيره قال الله تعالى وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين أي مطيقين ضابطين وقال تعالى او لم يروا انا خلقنا لهم مما عملت ايدينا انعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون فترى البعير على عظم خلقته يقوده الصبي الصغير ذليلا منقادا ولو ارسل عليه لسواه بالارض ولفصله عضوا عضوا فسل المعطل من الذي ذلله وسخره وقاده على قوته لبشر ضعيف من اضعف المخلوقات وفرغ بذلك التسخير النوع الانساني لمصالح معاشه ومعاده فإنه لو كان يزاول من الاعمال والاحمال ما يزاول الحيوان لشغل بذلك عن كثير من الاعمال لانه كان يحتاج مكان الجمل الواحد إلى عدة أناسى يحملون اثقاله وحمله ويعجزون عن ذلك وكان ذلك يستفرغ اوقاتهم ويصدهم عن مصالحهم فأعينوا بهذه الحيوانات مع مالهم فيها من المنافع التي لا يحصيها الا الله من الغذاء والشراب والدواء واللباس والامتعة والالات والاواني والركوب والحرث والمنافع الكثيرة والجمال
فصل ثم تأمل الحكمة في خلق الات البطش في الحيوانات من الانسان
وغيره فالانسان لما خلق مهيئا لمثل هذه الصناعات من البناء والخياطة والكتابة وغيرها خلق له كف

مستدير منبسط واصابع يتمكن بها من القبض والبسط والطي والنشر والجمع والتفريق وضم الشيء إلى مثله والحيوان البهيم لما لم يتهيأ لتلك الصنائع لم يخلق له تلك الاكف والاصابع بل لما قدر ان يكون غذاء بعضها من صيده كالسباع خلق له اكف لطافه مدمجة ذوات براثن ومخالب تصلح لاقتتاص الصيد ولا تصلح للصناعات هذا كله في أكلة اللحم من الحيوان واما اكله النبات فلما قدر انها لاتصطاد ولا صنعة لها خلق لبعضها اظلافا تقيها خشونة الارض إذا جالت في طلب المرعي ولبعضها حوافر ململمة مقعرة كأخمص القدم لتنطبق على الارض وتهيأ للركوب والحمولة ولم يخلق لها براثن ولا انيابا لان غذاءها لا يحتاج إلى ذلك

فصل ثم تأمل الحكمة في خلقة الحيوان الذي يأكل اللحم من البهائم
كيف جعلت له اسنان حداد وبراثن شداد واشداق مهرونة وافواه واسعة واعينت بأسلحة وأدوات تصلح للصيد والاكل ولذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير حداد ومخالب كالكلاليب ولهذا حرم النبي صلى الله عليه و سلم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير لضرره وعدوانه وشره والمغتذى شبيه بالغاذيفلو اغتذى بها الانسان لصار فيه من اخلاقها وعدوانها وشرها ما يشابهها به فحرم على الامة اكلها ولم يحرم عليهم الضبع وان كان ذا ناب فإنه ليس من السباع عند احد من الامم والتحريم إنما كان لما تضمن الوصفين ان يكون ذا ناب وان يكون من السباع ولا يقال هذا ينتقض بالسبع إذا لم يكن له ناب لان هذا لم يوجد أبدا فصلوات الله وسلامه على من اوتي جوامع الكلم فأوضح الاحكام وبين الحلال والحرام فانظر حكمة الله عز و جل في خلقه وامره فيما خلقه وفيما شرعه تجد مصدر ذلك كله الحكمة البالغة التي لا يختل نظامها ولا ينخرم ابدا ولا يختل اصلا ومن الناس من يكون حظه من مشاهدة حكمة الامر اعظم من مشاهدة حكمة الخلق وهؤلاء خواص العباد الذين عقلوا عن الله امره ودينه وعرفوا حكمته فيما احكمه وشهدت فطنهم وعقولهم ان مصدر ذلك حكمة بالغة واحسان ومصلحة اريدت بالعباد في معاشهم ومعادهم وهم في ذلك درجات لا يحصيها الا الله ومنهم من يكون حظه من مشاهدة حكمة الخلق اوفر من حظه من حكمة الامر وهم أكثر الاطباء الذين صرفوا افكارهم إلى استخراج منافع النبات والحيوان وقواها وما تصلح له مفردة ومركبة وليس لهم نصيب في حكمة الامر إلا كما للفقهاء من حكمة الخلق بل اقل من ذلك ومنهم من فتح عليه بمشاهدة الخلق والأمر بحسب استعداده وقوته فرأى الحكمة الباهرة التي بهرت العقول في هذا وهذا فإذا نظر إلى خلقه وما فيه من الحكم ازداد إيمانا ومعرفة وتصديقا بما جاءت

به الرسل واذا نظر إلى امره وما تضمنه من الحكم الباهرة ازداد ايمانا ويقينا وتسليما لاكمن حجب بالصنعة عن الصانع وبالكواكب عن مكوكبها فعمى بصره وغلظ عن الله حجابه ولو اعطى علمه حقه لكان من اقوى الناس إيمانا لانه اطلع من حكمة الله وباهر آياته وعجائب صنعته الدالة عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته على ما خفي عن غيره ولكن من حكمة الله ايضا ان سلب كثيرا من عقول هؤلاء خاصيتها وحجبها عن معرفته واوقفها عند ظاهر من العلم بالحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون لدناءتها وخستها وحقارتها وعدم اهليتها لمعرفته ومعرفة اسمائه وصفاته واسرار دينه وشرعه والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وهذا باب لا يطلع الخلق منه على ماله نسبة إلى الخافي عنهم منه ابدا بل علم الاولين والاخرين منه كنقرة العصفور من البحر ومع هذا فليس ذلك بموجب للاعراض عنه والياس منه بل يستدل العاقل بما ظهر له منه على ما وراءه

فصل ثم تأمل اولا ذوات الاربع من الحيوان كيف تراها تتبع امهاتها
مستقلة بأنفسها فلاتحتاج إلى الحمل والتربية كما يحتاج إليه اولاد الانس فمن اجل انه ليس عند امهاتها ما عند امهات البشر من التربية والملاطفة والرفق والالات المتصلة والمنفصلة اعطاها اللطيف الخبير النهوض والاستقلال بانفسها على قرب العهد بالولادة ولذلك ترى افراخ كثير من الطير كالدجاج والدراج والفتخ يدرج ويلقط حين يخرج من البيضة وما كان منها ضعيف النهوض كفراخ الحمام واليمام اعطى سبحانه امهاتها من فضله العطف والشفقة والحنان ما تمج به الطعم في أفواه الفراخ من حواصلها فتخبأه في اعز مكان فيها ثم تسوقه من فيها إلى افواه الفراخ ولا تزال بها كذلك حتىي ينهض الفرخ ويستقل بنفسه وذلك كله من حظها وقسمها الذي وصل اليها من الرحمة الواحدة من المائة فإذا استقل بنفسه وامكنه الطيران لم يزل به الابوان يعالجانه اتم معالجة والطفها حتى يطير من وكره ويسترزق لنفسه وياكل من حيث يأكلان وكأنهما لم يعرفاه ولا عرفهما قط بل يطردانه عن الوكر ولا يدعانه وأقواتهما وبينهما بل يقولان له بلسان يفهمه اتخذ لك وكرا وقوتا فلا وكر لك عندنا ولا قوت فسل المعطل اهذا كله عن اهمال ومن الذي الهمها ذلك ومن الذي عطفها على الفراخ وهي صغار احوج ما كانت اليها ثم سلب ذلك عنها إذ استغنت الفراخ رحمة بالامهات تسعى في مصالحها إذ لو دام لها ذلك لا ضربها وشغلها عن معاشها لا سيما مع كثرة ما يحتاج إليه اولادها من الغذاء فوضع فيها الرحمة والايثار

والحنان رحمة بالفراخ وسلبها إياها عند استغنائها رحمه بالامهات افيجوز ان يكون هذا كله بلا تدبير مدبر حكيم ولا عناية ولا لطف منه سبحانه وتعالى لقد قامت أدلة ربوبيته وبراهين الهيته وشواهد حكمته وآيات قدرته فلا يستطيع العقل لها جحودا إن هي الا مكابرة باللسان من كل جحود كفور أفي الله شك فاطر السموات والأرض وإنما يكون الشك فيما تخفي ادلته وتشكل براهينه فاما من له في كل شيء محسوس او معقول آية بل آيات مؤدية عنه شاهدة له بأنه الله الذي لا اله إلا هو رب العالمين فكيف يكون فيه شك

فصل ثم تأمل الحكمة البالغة في قوائم الحيوان كيف اقتضت ان يكون
زوجا لا فردا اما اثنتين وإما اربعا ليتهيأ له المشي والسعي وتتم بذلك مصلحته إذ لو كانت فردا لم يصلح لذلك لان الماشي ينتقل ببعض قوائمه ويعتمد على بعض فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على الاخرى وذو الاربع ينقل اثنتين ويعتمد على اثنتين وذلك من خلاف لأنه لو كان ينقل قائمتين من جانب ويعتمد على قائمتين من الجانب الاخر لم يثبت على الارض حال نقله قوائمه ولكان مشيه نقرا كنقر الطائر وذلك مما يؤذيه ويتبعه لنقل بدنه بخلاف الطائر ولهذا إذا مشى الانسان كذلك قليلا اجهده وشق عليه بخلاف مشية الطبيعي الذي هو له فاقتضت الحكمة تقديم نقل اليمنى من يديه مع اليسرى من رجليه واقرار يسرى اليدين ويمنى الرجلين ثم نقل الاخريين كذلك وهذا أسهل ما يكون من المشي واخفه على الحيوان
فصل ثم تأمل الحكمة البالغة في ان جعل ظهور الدواب مبسوطة كأنها
سقف على عمد القوائم ليتهيأ ركوبها وتستقر الحمولة عليها ثم خولف هذا في الابل فجعل ظهورها مسنمة معقودة كالقبو لما خصت به من فضل القوة وعظم ما تحمله والاقباء تحمل اكثر مما تحمل السقوف حتى قيل إن عقد الاقباء إنما اخذ من ظهور الابل وتأمل كيف لما طول قوائم البعير طول عنقه ليتناول المرعي من قيام فلو قصرت عنقه لم يمكنه ذلك مع طول قوائمه وليكون ايضا طول عنقه موازنا للحمل على ظهره إذا استقل به كما ترى طول قصبة القبان حتى قيل إن القبان إنما عمل من خلقه الجمل من طول عنقه وثقل ما يحمله ولهذا تراه يمد عنقه إذا استقل بالحمل كأنه يوازنه موازنه
فصل ثم تأمل الحكمة في كون فرج الدابة جعل بارزا من ورائها ليتمكن
الفحل من ضرابها

ولو جعل في اسفل بطنها كما جعل للمرأة لم يتمكن الفحل من ضرابها الا على الوجه الذي تجامع به المرأة وقد ذكر في كتب الحيوان ان فروج الفيلة في اسفل بطنها فإذا كان وقت الضراب ارتفع ونشز وبرز للفحل فيتمكن من ضرابها فلما جعل في الفيلة على خلاف ما هو في سائر البهائم خصت بهذه الخاصية عنها ليتهيأ الامر الذي به دوام النسل

فصل ثم تأمل كيف كسيت اجسام الحيوان البهيمي هذه الكسوة من الشعر
والوبر والصوف وكسيت الطيور الريش وكسى بعض الدواب من الجلد ما هو في غاية الصلابة والقوة كالسلحفاة وبعضها من الريش ما هو كالاسنة كل ذلك بحسب حاجاتها إلى الوقاية من الحر والبرد والعدو الذي يريد اذاها فانها لما لم يكن لها سبيل إلى اتخاذ الملابس واصطناع الكسوة والات الحرب اعينت بملابس وكسوة لا تفارقها وآلات وأسلحة تدفع بها عن نفسها وأعينت باظلاف واخفاف وحوافر لما عدمت الاحذية والنعال فمعها حذاؤها وسقاؤها وخص الفرس والبغل والحمار بالحوافر لما خلق للركض والشد والجرى وجعل لها ذلك ايضا سلاحا عند انتصافها من خصمها عوضا عن الصياصي والمخالب والانياب والبرائن فتأمل هذا اللطف والحكمة فإنها لما كانت بهائم خرصا لا عقول لها ولا أكف ولا اصابع مهيأة للانتفاع والدفاع ولاحظ لها فيما يتصرف فيه الادميون من النسج والغزل ولطف الحيلة جعلت كسوتها من خلقتها باقية عليها ما بقيت لا تحتاج إلى الاستبدال بها وأعطيت آلات واسلحة تحفظ بها انفسها كل ذلك لتتم الحكمة التي اريدت بها ومنها وأما الانسان فإنه ذو حيلة وكف مهيئة للعمل فهي تغزل وتنسج ويتخذ لنفسه الكسوة ويستبدل بها حالا بعد حال وله في ذلك صلاح من جهات عديدة منها ان يستريح إذا خلع كسوته إذا شاء ويلبسها إذا شاء ليس كالمضطر إلى حمل كسوة ومنها انه يتخذ لنفسه ضروبا من الكسوة للصيف وضروبا للشتاء فإن كسوة الصيف لاتليق بالشتاء وكسوة الشتاء لا تليق بالصيف فيتخذ لنفسه في كل فصل كسوة موافقة ومنها انه يجعلها تابعة لشهوته وإرادته ومنها انه يتلذذ بأنواع الملابس كما يتلذذ بأنواع المطاعم فجعلت كسوته متنوعة تابعة لاختياره كما جعلت مطاعمه كذلك فهو يكتسى ما يشاء من انواع الملابس المتخذة من النبات تارة كالقطن والكتان ومن الحيوان تارة كالوبر والصوف والشعر ومن الدود تارة كالحرير والابريسم ومن المعادن تارة كالذهب والفضة فجعلت كسوته متنوعة لتتم لذته وسروره وابتهاجه وزينته بها ولذلك كانت كسوة اهل الجنة منفصلة عنهم كما هي في الدنيا ليست مخلوقة من اجسامهم كالحيوان فدل على ان ذلك اكمل واجل وأبلغ في النعمة ومنها إرادة تمييزه عن الحيوان في ملبسه كما

ميزه عنه في مطعمه ومسكنه وبيانه وعقله وفهمه ومنها اختلاف الكسوة واللباس وتباينه بحسب تباين احواله وصنائعه وجربه وسلمه وظعنه وإقامته وصحته ومرضه ونومه ويقظته ورفاهيته فلكل حال من هذه الاحوال لباس وكسوة تخصها لا تليق الا بها فلم يجعل كسوته في هذه الاحوال كلها واحدة لا سبيل إلى الاسبتدال بها فهذا من تكريمه وتفضيله على سائر الحيوان

فصل ثم تأمل حكمة عجيبة جعلت للبهائم والوحوش والسباع والدواب على
كثرتها لا يرى منها شيء وليس شيئا قليلا فتخفى لقلتها بل قد قيل انها أكثر من الناس واعتبر ذلك بما تراه في الصحارى من اسراب الظباء والبقر والوعول والذئاب والنمور وضروب الهوام على اختلافها وسائر دواب الارض وانواع الطيور التي هي اضعاف اضعاف بني آدم لا تكاد ترى منها شيئا ميتا لا في كناسة ولا في أوكاره ولا في مساقطه ولا في مراعيه بطرقه وموارده ومناهله ومعاقله ومعاصمه الا ما عدا عليه عاد إما افترسه سبع او رماه صائد او عدا عليه عاد اشغله واشغل بني جنسه عن احراز جسمه وإخفاء جيفته فدل ذلك على انها إذا احست بالموت ولم تغلب على انفسها كمنت حيث لا يوصل إلى اجسامها وقبرت جيفها قبل نزول البين بها ولولا ذلك لامتلأت الصحارى بجيفها وافسدت الهواء بروائحها فعاد ضرر ذلك بالناس وكان سبيلا إلى وقوع الوباء وقد دل على هذا قوله تعالى في قصة ابني آدم فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوأة اخيه قال يا ويلتي اعجزت ان اكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة اخي فأصبح من النادمين وأما ما جعل عيشه بين الناس كالانعام والدواب فلقدره الانسان على نقله واحتياله في دفع اذيته منع مما جعل في الوحوش كالسباع فتأمل هذا الذي حار بنو آدم فيه وفيما يفعلون به كيف جعل طبعا في البهائم وكيف تعلموه من الطير وتأمل الحكمة في ارسال الله تعالى لابن آدم الغراب المؤذن اسمه بغربة القاتل من اخيه وغربته هو من رحمة الله تعالى وغربته من ابيه وأهله واستيحاشه منهم واستيحاشهم منه وهو من الطيور التي تنفر منها الانس ومن نعيقها وتستوحش بها فأرسل إليه مثل هذا الطائر حتى صار كالمعلم له والاستاذ وصار بمنزلة المتعلم والمستند ولا تنكر حكة هذا الباب وارتباط المسميات فيه بأسمائها فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم إذا بعثتم إلى بريدا فابعثوه حسن الاسم حسن الوجه وكان يسأل عن اسم الارض إاذ نزلها واسم الرسول إذا جاء إليه ولما جاءهم سهيل ابن عمرو يوم الحديبية قال قد سهل امركم ولما اراد تغيير اسم حزن بسهل قال لم يزل معنى اسمه فيه وفي زريته ولما سأل عمر بن الخطاب الرجل عن اسمه واسم ابيه وداره ومنزله فاخبره

انه جمرة بن شهاب وان داره بالحرقة وان مسكنه منها ذات لظى قال له ادرك بيتك فقد احترق فكان كما قال وشواهد هذا الباب اكثر من ان نذكر هاها هنا وهذا باب لطيف المنزع شديد المناسبة بين الاسماء والمسببات وكثيرا ما اولع الناس قديما وحديثا بنعيق الغراب واستدلالهم به على البين والاغتراب وينسبونه إلى الشؤم وينفرون منه وينفر منهم فكان جديرا ان يرسل هذا الطائر إلى القاتل من ابني آدم دون غيره من الطيور فكأنه صورة طائره الذي ألزمه في عنقه وطارعنه من عمله ولا تظن ان ارسال الغراب وقع اتفاقا خاليا من الحكمة فإنك اذا خفي عليك وجه الحكمة فلا تنكرها واعلم ان خفاءها من لطفها وشرفها ولله تعالى فيما يخفى وجه الحكمة فيه على البشر الحكم الباهرة المتضمنة للغايات المحمودة

فصل ثم تأمل الحكمة الباهرة في وجه الدابة كيف هو فانك ترى العينين
فيه شاخصتين امامها لتبصر ما بين يديها اتم من بصر غيرها لانها تحرس نفسها وراكبها فتتقى ان تصدم حائطا او تتردى في حفرة فجعلت عيناها كعيني المنتصب القامة لانها طليعة وجعل فوها مشقوقا في اسفل الخطم لتتمكن من العض والقبض على العلف إذ لو كان فوقها في مقدم الخطم كما انه من الانسان في مقدم الذقن لما استطاعت ان تتناول به شيئا من الارض الا ترى الانسان لا تناول الطعام بفيه لكن بيده فلمالم تكن الدابة تتناول طعامها بيدها جعل خطمها مشقوقا من أسفله لتضعه على العلف ثم تقضمه واعينت بالجحفلة وهي لها كالشفة للانسان لتلتقم بها ما قرب منها وما بعد وقد اشكلت منفعة الذنب على بعض الناس ولم يهتد اليها وفيه منافع عديدة فمنها انه بمنزلة الطبق على الدبر والغطاء على حياها يواريهما ويسترهما ومنها ان بين الدبر ومراق البطن من الدابة له وضر يجتمع عليه الذباب والبعوض فيؤذي الدابة فجعل اذنابها كالمذاب لها والمراوح تطرد به ذلك ومنها ان الدابة نستريح إلى تحريحكه وتصريفه يمنة ويسرة فإنه لما كان قيامها على الاربع بكل جسمها وشغلت قدماها بحمل البدن عن التصرف والتقلب كان لها في تحريك الذنب راحة وعسى ان يكون فيها حكم اخر تقصر عنها افهام الخلق ويزدريها السابع إذا عرضت عليه فإنه لا يعرف موقعها الا في وقت الحاجة فمن ذلك ان الدابة تربض في الوحل فلا يكون شيء اعون على رفعها من الاخذ بذنبها
فصل ثم تأمل شفر الفيل وما فيه من الحكم الباهرة فإنه يقوم له
مقام اليد في تناول العلف

والماء وإيرادهما إلى جوفه ولولا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئا من الاشياء من الارض لانه ليست له عنق يمدها كسائر الانعام فلما عدم العنق اخلف عليه مكانه الخرطوم الطويل ليسد مسده وجعل قادرا على سدله ورفعه وثنيه والتصرف به كيف شاء وجعل وعاء اجوف لين الملمس فهو يتناول به حاجته ويحمله ما أراد إلى جوفه ويحبس فيه ما يريد ويكيد به إذا شاء ويعطى ويتناول إذا أراد فسل المعطل من الذي عوضه ومن اخلف عليه مكان العضو الذي منعه ما يقوم له مقامه وينوب منابه غير الرؤوف الرحيم بخلقه المتكفل بمصالحهم اللطيف بهم وكيف يتأتى ذلك مع الاهمال وخلو العالم عن قيمة وبارئه ومبدعه وفاطره لا إله إلا هو العزيز الحكيم فإن قلت فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر الانعام وما الحكمة في ذلك قيل والله أعلم بحكمته في مصنوعاته لان رأسه واذنيه امر هائل عظيم وحمل ثقيل فلو كان ذا عنق كسائر الاعناق لانهدت رقبته بثقله ووهنت بحمله فجعل راسه ملصقا بجسمه لئلا يناله منه شيء من الثقل والمؤنة وخلق له مكان العنق هذا المشفر الطويل يتناول به غذاءه ولما طالت عنق البعير للحكمة في ذلك صغر رأسه بالنسبة إلى عظم جثته لئلا يؤذيه ثقله ويوهن عنقه فسبحان من فاتت حكمه عدالعادين وحصر الحاصرين

فصل ثم تأمل خلق الزرافة واختلاف اعضائهم وشبهها باعضاء جميع
الحيوان فراسها راس فرس وعنقها عنق بعير وأظلافها أظلاف بقرة وجلدها جلد نمر حتى زعم بعض الناس ان لقاحها من فحول شتى وذكروا ان اصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء ينزو بعضها على بعض فتنزو المستوحشة على السائمة فتنتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أناس شتى وما أرى هذا القائل إلا كاذبا عليها وعلى الخلقة إذ ليس في الحيوان صنف يلقح صنفا آخر فلا الجمل يلقح البقر ولا الثور يلقح الناقة ولا الفرس يلقحهما ولا يلقحانه ولا الوحوش يلقح بعضها بعضا ولا الطيور وإنما يقع هذا نادرا فيما يتقارب كالبقر الوحشي والاهلي والضأن والمعز والفرس والحمار والذئب والضبع فيتولد من ذلك البغل والسمع والعسبار وقول الفقهاء هل تجب الزكاة في المتولد من الوحشي والاهلي فيه وجهان هذا إنما يتصور في واحد واثنتين وثلاثة يكمل بها النصاب فأما نصاب كله متولد من الوحشي والاهلي فلا وجود لذلك والاحكام المتعلقة بهذه المتولدات تذكر في الزكاة وجزاء الصيد والاضاحي والاحوط يتغلب في كل باب ففي الاضاحي يتغلب عدم الاجزاء وفي الاحرام والحرم يتغلب وجوب الجزاء وفي الاطعمة يتغلب جانب التحريم وفي الزكاة اختلاف مشهور وسئل شيخنا ابو

العباس بن تيمية قدس الله روحه عن حمار نزا على فرس فأحبلها فهل يكون لبن الفرس حلالا او حراما فأجاب بأنه حلال ولا حكم للفحل في اللبن في هذا الموضع بخلاف الاناسي لان لبن الفرس حادث من العلف فهو تابع للحمها ولم يسر وطيء الفحل إلى هذا اللبن فإنه لا حرمة هناك تنتشر بخلاف لبن الفحل في الاناسي فإنه تنتشر به حرمة الرضاع ولا حرمة هنا تنتشر من جهة الفحل لا إلى الولد خاصة فإنه يتكون منه ومن الام فغلب عليه التحريم وأما اللبن فلم يتكون بوطئه وإنما تكون من العلف فلم يكن حراما هذا بسط كلامه وتقريره والمقصود ابطال زعم ان هذه الحيوانات المختلفة يلقح بعضها بعضا عند الموارد فتتكون الزرافة وإنه كاذب عليها وعلى الابداع والذي يدل على كذبه انه ليس الخارج من بين ما ذكرنا من الفرس والحمار والذئب والضبع والضأن والمعز عضو من كل واحد من ابيه وأمه كما يكون للزرافة عضو من الفرس وعضو من الجمل بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما كما نشاهده في البغل فإنك ترى راسه وأذنيه وكفله وحوافره وسطا بين اعضاء ابيه وامه مشتقة منهما حتى تجد سجيحه كالممتزج من صهيل الفرس ونهيق الحمار فهذا يدل على ان الزرافة ليست بنتاج آباء مختلفة كما زعم هذا الزاعم بل من خلق عجيب ووضع بديع من خلق الله الذي أبدعه آية دلالة على قدرته وحكمته التي لا يعجزها شيء ليرى عباده انه خالق اصناف الحيوان كلها كما يشاء وفي أي لون شاء فمنها المتشابه الخلقة المتناسب الاعضاء ومنها المختلف التركيب والشكل والصورة كما يرى عباده قدرته التامة في خلقه لنوع الانسان على الاقسام الاربعة الدالة على انه مخلوق بقدرته ومشيئته تابع لها فمنه ما خلق من غير اب ولا أم وهو أبو النوع الانساني ومنه ما خلق من ذكر بلا انثى وهي امهم التي خلقت من ضلع آدم ومنه ما خلق من انثى بلا ذكر وهو المسيح ابن مريم ومنه ما خلق من ذكر وانثى وهو سائر النوع الانساني فيرى عباده آياته ويتعرف اليهم بآلائه وقدرته وأنه إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون واما طول عنق الزرافة وما لها فيه من المصلحة فلأن منشأها ومرعاها كما ذكر المعتنون بحالها ومساكنها في غياض ذوات اشجار شاهقة ذاهبة طولا فأعينت بطول العنق لتتناول اطراف الشجر الذي هناك وثمارها وهذا ما وصلت إليه معرفتهم وحكمة اللطيف الخبير فوق ذلك واجل منه

فصل ثم تأمل هذه النملة الضعيفة وما اعطيته من الفطنة او لحيلة في
جمع القوت وادخاره وحفظه ودفع الافة عنه فإنك ترى في ذلك عبرا وآيات فترى جماعة النمل إذا أرادت إحراز

القوت خرجت من اسرابها طالبة له فإذا ظفرت به اخذت طريقا من اسرابها إليه وشرعت في نقله فتراها رفقتين رفقة حاملة تحمله إلى بيوتها سربا ذاهبا ورفقة خارجة من بيوتها إليه لاتخالط تلك في طريقها بل هما كالخيطين بمنزلة جماعة الناس الذاهبين في طريق والجماعة الراجعين من جانبهم فإذا ثقل عليها حمل الشيء من تلك اجتمعت عليه جماعة من النمل وتساعدت على حملة بمنزلة الخشبة والحجر الذي تتساعد الفئة من الناس عليه فإذا كان الذي ظفر به منهن وحدة ساعدها رفقتها عليه إلى بيتها وخلوا بينها وبينه وإن كان الذي صادفه جماعة تساعدن عليه ثم تقاسمنه على باب البيت ولقد اخبر بعض العارفين انه شاهد منهن يوما عجبا قال رايت نملة جاءت إلى شق جرادة فزاولته فلم تطق حمله من الارض فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل قال فرفعت ذلك الشق من الارض فلما وصلت النملة برفقتها إلى مكانه دارت حوله ودرن معها فلم يجدن شيئا فرجعن فوضعته ثم جاءت فصادفته فزاولته فلم تطق رفعه فذهبت غير بعيد ثم جاءت بهن فرفعته فدرن حول مكانه فلم يجدن شيئا فذهبت فوضعته فعادت فجاءت بهن فرفعته فدرن حول المكان فلما لم يجدن شيئا تحلقن حلقة وجعلن تلك النملة في وسطها ثم تحاملن عليها فقطعنها عضوا عضوا وأنا انظر ومن عجيب امر الفطنة فيها إذا نقلت الحب إلى مساكنها كسرته لئلا ينبت فإن كان مما ينبت الفلقتان منه كسرته اربعا فإذا اصابه ندا وبلل وخافت عليه الفساد اخرجته للشمس ثم ترده إلى بيوتها ولهذا ترى في بعض الاحيان حبا كثيرا على أبواب مساكنها مكسرا ثم تعود عن قريب فلا ترى منه واحدة ومن فطنتها انها لا تتخذ قريتها إلا على نشر من الارض لئلا يفيض عليها السيل فيغرقها فلا ترى قرية نمل في بطن واد ولكن في أعلاه وما ارتفع عن السيل منه ويكفي في فطنتها ما نص الله عز و جل في كتابه من قولها لجماعة النمل وقد رأت سليمان عليه الصلاة و السلام وجنوده يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوه وهم لايشعرون فتكلمت بعشرة انواع من الخطاب في هذه النصيحة النداء والتنبيه والتسمية والامر والنص والتحذير والتخصيص والتفهيم والتعميم والاعتذار فاشتملت نصيحتها مع الاختصار على هذه الانواع العشرة ولذلك اعجب سلميان قولها وتبسم ضاحكا منه وسال الله ان يوزعه شكر نعمته عليه لما سمع كلامها ولا تستبعد هذه الفطنة من امة من الامم تسبح بحمد ربها كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال نزل نبي من الانبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرجه ثم احرق قرية النمل فأوحى الله إليه من اجل ان لدغتك نملة احرقت امة من الامم تسبح فهلا نملة واحدة

فصل ومن عجيب الفطنة في الحيوان ان الثعلب إذا اعوزه الطعام ولم
يجد صيدا تماوت ونفخ بطنه حتى يحسبه الطير ميتا فيقع عليه ليأكل منه فيثب عليه الثعلب فيأخذه ومن عجيب الفطنة في هذه الذبابة الكبيرة التي تسمى اسد الذباب فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبا منه يسكن مليا حتى كأنه موات لا حراك فيه فإذا رأى الذباب قد اطمأن وغفل عنه دب دبيبا رفيقا حتى يكون منه بحيث يناله ثم يثب عليه فيأخذه ومن عجيب حيل العنكبوت انه ينسج تلك الشبكة شركا للصيد ثم يكمن في جوفها فإذا نشب فيها البرغش والذباب وثب عليه وامتص دمه فهذا يحكى صيد الاشراك والشباك والاول يحكى صيد الكلاب والفهود ولا تزدرين العبرة بالشيء الحقير من الذرة والبعوض فإن المعنى النفيس يقتبس من الشيء الحقيروالازدراء بذلك ميراث من الذين استنكرت عقولهم ضرب الله تعالى في كتابه المثل بالذباب والعنكبوت والكلب والحمار فأنزل الله تعالى إن الله لا يستحي ان يضرب مثلا ما بعوضه فما فوقها فما أغزر الحكم وأكثرها في هذه الحيوانات التي تزدريها وتحتقرها وكم من دلالة فيها على الخالق ولطفه ورحمته وحكمته فسل المعطل من الهمها هذه الحيل والتلطف في اقتناص صيدها الذي جعل قوتها ومن جعل هذه الحيل فيها بدل ما سلبها من القوة والقدرة فأغناها ما اعطاها من الحيلة عما سلبها من القوة والقدرة سوى اللطيف الخبير
فصل ثم تأمل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدر بان يكون طائرا في
الجو خفف جسمه وادمج خلقته واقتصر به من القوائم الاربع على اثنتين ومن الاصابع الخمس على اربع ومن مخرج البول والزبل على واحد يجمعهما جميعا ثم خلق ذا جؤجؤ محدود ليسهل عليه اختراق الهواء كيف توجه فيه كما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة ليشق الماء بسرعة وتنفذ فيه وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران وكسى جسمه كله الريش ليتداخله الهواء فيحمله ولما قدر ان يكون طعامه اللحم والحب يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقه الاسنان وخلق له منقار صلب يتناول به طعامه فلا يتفسخ من لقط الحب ولا يتعقف من نهش اللحم ولما عدم الاسنان وكان يزدرد الحب صحيحا واللحم غريضا اعين بفضل حرارة في الجوف تطحن الحب وتطبخ اللحم فاستغنى عن المضغ والذي يدلك على قوة الحرارة التي اعين بها انك ترى عجم الزبيب وأمثاله يخرج من بطن الانسان صحيحا وينطبخ في جوف الطائر حتى لا يرى له اثر ثم اقتضت الحكمة ان جعل يبيض بيضا ولا يلد ولادة لئلا يثقل عن

الطيران فإنه لو كان مما يحمل ويمكث حمله في جوفه حتى يستحكم ويثقل لأثقله وعاقه عن النهوض والطيران وتأمل الحكمة في كون الطائر المرسل السائح في الجو يلهم صبر نفسه اسبوعا او اسبوعين باختياره قاعدا على بيضه حاضنا له ويحتمل مشقة الحبس ثم إذا خرج فراخه تحمل مشقة الكسب وجمع الحب في حوصلته وبزق فراخه وليس بذي روية ولا فكرة في عاقبة امره ولا يؤمل في فراخه ما يؤمل الانسان في ولده من العون والرفد وبقاء الذكر فهذا من فعله يشهد بأنه معطوف على فراخه لعلة لا يعلمها هو ولا يفكر فيها من دوام النسل وبقائه

فصل ثم تأمل خلقة البيضة وما فيها من المخ الاصفر الخاثر والماء
الابيض الرقيق فبعضه ينشأ منه الفرخ وبعضه يغتذى منه إلى ان يخرج من البيضة وما في ذلك من الحكمة فإنه لما كان نشو الفرخ في تلك البشرة المنخفضة التي لا نفاذ فيها للواصل من خارج جعل معه في جوف البيضة من الغذاء ما يكتفي به إلى خروجه
فصل وتأمل الحكمة في حوصلة الطائر وما قدرت له فإن في مسلك الطعام
إلى القابضة ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلا قليلا فلو كان الطائر لا يلتقط حبة ثانية حتى تصل الاولى إلى جوفه لطال ذلك عليه فمتى كان يستوفي طعامه وإنما يختلسه اختلاسا لشدة الحذر فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة امامه ليوعى فيها ما ازدرد من الطعم بسرعة ثم ينقل إلى القابضة على مهل وفي الحوصلة ايضا خصلة اخرى فإن من الطير ما يحتاج إلى ان يزق فراخه فيكون رده الطعم من قرب ليسهل عليه
فصل ثم تأمل هذه الالوان والاصباغ والوشى التي تراها في كثير من
الطير كالطاووس والدراج وغيرهما التي لو خطت بدقيق الاقلام ووشيت بالايدي لم يكن هذا فمن اين في الطبيعة المجردة هذا التشكيل والتخطيط والتلوين والصبغ العجيب البسيط والمركب الذي لو اجتمعت الخليقة على ان يحاكوه لتعذر عليهم فتأمل ريش الطاووس كيف هو فإنك تراه كنسج الثوب الرفيع من خيوط رفاع جدا قد ألف بعضها إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط بل الشعرة إلى الشعرة ثم ترى النسج إذا مددته ينفتح قليلا قليلا ولا ينشق ليتداخلهالهواء فينقل الطائر إذا طار فترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه ذلك الثوب التي كهيئة الشعر

ليمسكه بصلابته وهو القصبة التي تكون في وسط الريشة وهو مع ذلك اجوف يشتمل على الهواء فيحمل الطائر فأي طبيعة فيها هذه الحكمة والخبرة واللطف ثم لو كان ذلك في الطبيعة كما يقولون لكانت من ادل الدلائل واعظم البراهين على قدرة مبدعها ومنشئها وعلمه وحكمته فإنه لم يكن ذلك لها من نفسها بل إنما هو لها ممن خلقها وأبدعها فما كذبه المعطل هو احد البراهين والايات التي على مثله يزداد إيمان المؤمنين وهكذا آيات الله يضل بها من يشاء ويهدي من يشاء

فصل تأمل هذا الطائر الطويل الساقين وأعرف المنفعة في طول ساقيه
فإنه يرعى أكثر مرعاه في ضحضاح الماء فتراه يركز على ساقيه كانه دست فوق مركب ويتأمل ما دب في الماء فإذا رأى شيئا من حاجته خطا خطوا رفيقا حتى يتناوله ولو كان قصير القائمتين كان إذا خطا نحو الصيد ليأخذه لصق بطنه بالماء فيثيره ويذعر الصيد منه فيفر فخلف له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ولا يفسدعليه مطلبه وكل طائر فله نصيب من طول الساقين والعنق ليمكنه تناول الطعم من الارض ولو طال ساقاه وقصرت عنقه لم يمكنه ان يتناول شيئا من الارض وربما اعين مع عنقه بطول المناقير ليزداد مطلبه سهولة عليه وامكانا ثم تأمل هذه العصافير كيف تطلب اكلها بالنهار كله فلا هي تفقده ولا هي تجده مجموعا معدا بل تناله بالحركة والطلب في الجهات والنواحي فسبحان الذي قدره ويسره كيف لم يجعله ممايتعذر عليها إذا التمسته ويفوتها إذا قعدت عنه وجعلها قادرة عليه في كل حين واوان بكل ارض ومكان حتى من الجدران والاسطحة والسقوف تناوله بالهوينا من السعي فلا يشاركها فيه غير بني جنسها من الطير ولو كان ماتقتات به يوجد معدا مجموعا كله كانت الطير تشاركها فيه وتغلبها عليه وكذلك لو وجدته معدا مجموعا لاكبت عليه بحرص ورغبة فلا تقلع عنه وإن شبعت حتى تبشم وتهلك وكذلك الناس لو جعل طعامهم معدا لهم بغير سعي ولا تعب ادى ذلك إلى الشره والبطنة ولكثر الفساد وعمت الفواحش والبغي في الارض فسبحان اللطيف الخبير الذي لم يخلق شيئا سدى ولا عبثا وانظر في هذه الطير التي لا تخرج الا بالليل كالبوم والهام والخفاش فإن أقواتها هيئت لها في الجو لا من الحب ولا من اللحم بل من البعوض والفراش وأشبابهما مما تلقطه من الجو فتاخذ منه بقدر الحاجة ثم تأوى إلى بيوتها فلا تخرج إلى مثل ذلك الوقت بالليل وذلك ان هذه الضروب من البعوض والفراش وأشباههما مبثوثة في الجو لا يكاد يخلوا منها موضع منه واعتبر ذلك بان نضع سراجا بالليل في سطح او عرصه الدار فيجتمع عليه من هذا

الضرب شيء كثير وهذا الضرب من الفراش ونحوها ناقص الفطنة ضعيف الحيلة ليس في الطير اضعف منه ولا اجهل وفيما يرى من تهافته في النار وانت تطرده عنها حتى يحرق نفسه دليل على ذلك فجعل معاش هذه الطيور التي تخرج بالليل من هذا الضرب فتقتات منه فإذا أتى النهار انقطعت إلى اوكارها فالليل لها بمنزلة النهار لغيرها من الطير ونهارها بمنزلة ليل غيرها ومع ذلك فساق لها الذي تكفل بارزاق الخلق رزقها وخلقه لها في الجو ولم يدعها بلا رزق مع ضعفها وعجزها وهذه إحدى الحكم والفوائد في خلق هذه الفراش والجنادب والبعوض فكم فيها من رزق لامة تسبح بحمد ربها ولولا ذلك لانتشرت وكثرتحتى اضرت بالناس ومنعتهم القرار فانظر إلى عجيب تقدير الله وتدبيره كيف اضطر العقول إلى ان شهدت بربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وان ذلك الذي تشاهده ليس باتفاق ولا بإهمال من سائر وجوه الادلة التي لا تتمكن الفطر من جحدها اصلا وإذ قد جرى الكلام إلى الخفاش فهو من الحيوانات العجيبة الخلقة بين خلقة الطيور وذوات الاربع وهو إلى ذوات الاربع اقرب فإنه ذو اذنين ناشزتين واسنان ودبر وهو يلد ولدا ويرضع ويمشي على اربع وكل هذه صفة ذوات الاربع وله جناحان يطير بهما مع الطيور ولما كان بصره يضعف عن نور الشمس كان نهاره كليل غيره فإذا غابت الشمس انتشر ومن ذلك سمى ضعيف البصر اخفش والخفش ضعف البصر ولما كان كذلك جعل قوته من هذه الطيور الضعاف التي لا تطير الا بالليل وقد زعم بعض من تكلم في الحيوان انه ليس يطعم شيئا وإنما غذاؤه من النسيم البارد فقط وهذا كذب عليه وعلى الخلقة لانه يبول وقد تكلم الفقهاء في بوله هل هو نجس لانه بول غير مأكول او نجس معفو عن يسيره لمشقة التحرز منه على قولين هما روايتان عن احمد وبعض الفقهاء لا ينجس بوله بحال وهذا اقيس الاقوال إذ لا نص فيه ولا يصح قياسه على الابوال النجسة لعدم الجامع المؤثر ووضوح الفرق وليس هذا موضع استيفاء الحجج في هذه المسئلة من الجانبين والمقصود انه لو كان لا ياكل شيئا لم يكن له اسنان اذ لا معنى للاسنان في حق من لا ياكل شيئا ولهذا لما عدم الطفل الرضيع الاكل لم يعط الاسنان فلما كبر واحتاج للغذاء اعين عليه بالاسنان التي تقطعه والاضراس التي تطحنه وليس في الخليقة شيء مهمل ولا عن الحكمة بمعطل ولا شيء لا معنى له واما الحكم والمنافع في خلق الخفاش فقد ذكر منها الاطباء في كتبهم ما انتهت إليه معرفتهم حتى ان بوله يدخل في بعض الاكحال فإذا كان بوله الذي لا يخطر بالبال فيه منفعة البتة فما الظن بجملته ولقد اخبر بعض من اشهد بصدقة انه رأى رخلا وهو طائر معروف قد عشش في شجرة فنظر إلى حية عظيمة قد أقبلت نحو عشه

فاتحة فاها لتبتلعه فبينما هو يضطرب في حيلة النجاة منها إذ وجد حسكة في العش فحملها فالقاها في فم الحية فلم تزل تلتوى حتى ماتت

فصل ثم تأمل احوال النحل وما فيها من العبر والايات فانظر اليها
والى اجتهادها في صنعة العسل وبنائها البيوت المسدسة التي هي من اتم الاشكال واحسنها استدارة واحكمها صنعا فإذا انضم بعضها إلى بعض لم يكن بينها فرجة ولا خلل كل هذا بغير مقياس ولا آله ولا بيكار وتلك من اثر صنع الله وإلهامه إياها وايحائه اليها كما قال تعالى واوحى ربك إلى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا إلى قوله لايات لقوم يتفكرون فتأمل كمال طاعتها وحسن ائتمارها لأمر ربها اتخذت بيوتها في هذه الامكنة الثلاثة في الجبال الشقفان وفي الشجر وفي بيوت الناس حيث يعرشون أي بيبنون العروش وهي البيوت فلا يرى للنحل بيت غير هذه الثلاثة البتة وتامل كيف اكثر بيوتها في الجبال والشقفان وهو البيت المقدم في الاية ثم في الاشجار وهي من اكثر بيوتها ومما يعرش الناس واقل بيوتها بينهم حيث يعرشون وأما في الجبال والشجر فبيوت عظيمة يؤخذ منها من العسل الكثير جدا وتامل كيف اداها حسن الامتثال إلى ان اتخذت البيوت او لا فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمار ثم آوت إلى بيوتها لان ربها سبحانه امرها باتخاذ البيوت اولا ثم بالاكل بعد ذلك ثم إذا اكلت سلكت سبل ربها مذللة لا يستوعز عليها شيء ترعى ثم تعود ومن عجيب شأنها أن لها اميرا يسمى اليعسوب لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به فهي مؤتمره لامره سامعة له مطيعه وله عليها تكليف وأمر ونهى وهي رعية له منقادة لامره متبعة لرايه يدبرها كما يدبر الملك امر رعيته حتى إنها إذا آوت الا بيوتها وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم الاخرى ولا تتقدم عليها في العبور بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم ولا تراكم كما يفعل الامير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوزه الا واحد واحد ومن تدبر احوالها وسياساتها وهدايتها واجتماع شملها وانتظام امرها وتدبير ملكها وتفويض كل عمل إلى واحد منها يتعجب منها كل العجب ويعلم ان هذا ليس في مقدورها ولا هو من ذاتها فإن هذه اعمال محكمة متقنة في غاية الاحكام والاتقان فإذا نظرت إلى العامل رأيته من أضعف خلق الله أجهله بنفسه وبحاله وأعجزه عن القيام بمصلحته فضلا عما يصدر عنه من الامور العجيبة ومن عجيب امرها ان فيها أميرين لا يجتمعان في بيت واحد ولا يتأمران على جمع واحد بل إذا اجتمع منها جندان وأميران قتلوا احد الاميرين وقطعوه واتفقوا على الامير الواحد

من غير معاداة بينهم ولا أذى من بعضهم لبعض بل يصيرون يدا واحدة وجندا واحدا

فصل ومن اعجب امرها مالا يهتدي له اكثر الناس ولايعرفونه وهو
النتاج الذي يكون لها هل هو على وجه الولادة والتوالد او الاستحالة فقل من يعرف ذلك او يفطن له وليس نتاجها على واحد من هذين الوجهين وإنما نتاجها بأمر من اعجب العجيب فإنها إذا ذهبت إلى المرعي أخذت تلك الاجزاء الصافية التي علىالورق من الورد والزهر والحشيش وغيره وهي الطل فتمصها وذلك مادة العسل ثم انها تكبس الاجزاء المنعقدة على وجه الورقة وتعقدها على رجلها كالعدسة فتملأ بها المسدسات الفارغة من العسل ثم يقوم يعسوبها على بيته مبتدئا منه فينفخ فيه ثم يطوف على تلك البيوت بيتا بيتا وينفخ فيها كلها فتدب فيها الحياة بإذن الله عز و جل فتتحرك وتخرج طيورا بإذن الله وتلك احدى الايات والعجائب التي قل من يتفطن لها وهذا كله من ثمرة ذلك الوحي الالهي افادها واكسبها هذا التدبير والسفر والمعاش و البناء والنتاج فسل المعطل من الذي اوحى اليها امرها وجعل ما جعل في طباعها ومن الذي سهل لها سبله ذللا منقادة لا تستعصي عليها ولا تستوعرها ولا تضل عنها على بعدها ومن الذي هداها لشأنها ومن الذي أنزل لها من الطل ما إذا جنته ردته عسلا صافيا مختلفا الوانه في غاية الحلاوة واللذاذة والمنفعة من بين ابيض يرى فيه الوجه اعظم من رؤيته في المرآة وسمه لي من جاء به وقال هذا افخر ما يعرف الناس من العسل وأصفاه وأطيبه فإذا طعمه الذ شيء يكون من الحلوى ومن بين احمر واخضر ومورد واسود وأشقر وغير ذلك من الالوان والطعوم المختلفة فيه بحسب مراعيه ومادتها وإذا تأملت ما فيه من المنافع والشفاء ودخوله في غالب الادوية حتى كان المتقدمون لا يعرفون السكر ولا هو مذكور في كتبهم اصلا وإنما كان الذي يستعملونه في الادوية هو العسل وهو المذكور في كتب القوم ولعمر الله أنه لانفع من السكر وأجدى واجلى للاخلاط وأقمع لها واذهب لضررها واقوى للمعدة واشد تفريحا للنفس وتقوية للأرواح وتنفيذا للدواء وإعانة له على استخراج الداء من اعماق البدن ولهذا لم يجيء في شيء من الحديث قط ذكر السكر ولا كانوا يعرفونه اصلا ولو عدم من العالم لما احتاج إليه ولو عدم العسل لاشتدت الحاجة إليه وإنما غلب على بعض المدن استعمال السكر حتى هجروا العسل واستطابوه عليه ورأوه اقل حدة وحرارة منه ولم يعلموا ان من منافع العسل ما فيه من الحدة والحرارة فإذا لم يوافق من يستعمله كسرها بمقابلها فيصير انفع له من السكر وسنفرد إن شاء الله مقالة نبين فيها فضل العسل على

السكر4 من طرق عديدة لا تمنع وبراهين كثيرة لاتدفع ومتى رايت السكر يجلو بلغما ويذيب خلطا او يشفى من داء وإنما غايته بعض التنفيذ للدواء إلى العروق للطافته وحلاوته وأما الشفاء الحاصل من العسل فقد حرمه الله كثيرا من الناس حتى صاروا يذمونه ويخشون غائلته من حرارته وحدته ولا ريب ان كونه شفاء وكون القرآن شفاء والصلاة شفاء وذكر الله والاقبال عليه شفاء امر لا يعم الطبائع والانفس فهذا كتاب الله هو الشفاء النافع وهو اعظم الشفاء وما اقل المستشفين به بل لا يزيد الطبائع الرديئة رداءة ولا يزيد الظالمين الا خسارا وكذلك ذكر الله والاقبال عليه والانابة إليه والفزع إلى الصلاة كم قد شفي به من عليل وكم قد عوفي به من مريض وكم قام مقام كثير من الادوية التي لا تبلغ قريبا من مبلغه في الشفاء وأنت ترى كثيرا من الناس بل اكثرهم لا نصيب لهم من الشفاء بذلك اصلا ولقد رايت في بعض كتب الاطباء المسلمين في ذكر الادوية المفردة ذكر الصلاة ذكرها في باب الصاد وذكر من منافعها في البدن التي توجب الشفاء وجوها عديدة ومن منافعها في الروح والقلب وسمعت شيخنا ابا العباس بن تيمية رحمه الله يقول وقد عرض له بعض الالم فقال له الطبيب اضر ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه والتوجه والذكر فقال الستم تزعمون ان النفس إذا قويت وفرحت اوجب فرحها لها قوة تعين بها الطبيعة على دفع العارض فإنه عدوها فإذا قويت عليه قهرته فقال له الطبيب بلى فقال إذا اشتغلت نفسي بالتوجه والذكر والكلام في العلم وظفرت بما يشكل عليها منه فرحت به وقويت فأوجب ذلك دفع العارض هذا او نحوه من الكلام والمقصود ان ترك كثير من الناس الاستشفاء بالعسل لا يخرجه عن كونه شفاء كما ان ترك اكثرهم الاستشفاء بالقرآن من امراض القلوب لا يخرجه عن كونه شفاء لها وهو شفاء لما في الصدور وإن لم يستشف به اكثر المرضى كما قال تعالى يا ايها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين فعم بالموعظة والشفاء وخص بالهدى والمعرفة فهو نفسه شفاء استشفى به او لم يستشف به ولم يصف الله في كتابه بالشفاء إلا القرآن والعسل فهما الشفاآن هذا شفاء القلوب من امراض غيها وضلالها وأدواء شبهاتها وشهواتها وهذا شفاء للأبدان من كثير من اسقامها واخلاطها وآفاتها ولقد اصابني ايام مقامي بمكة اسقام مختلفة ولا طبيب هناك ولا أدوية كما في غيرها من المدن فكنت استشفى بالعسل وماء زمزم ورايت فيهما من الشفاء امرا عجيبا وتأمل اخباره سبحانه وتعالى عن القرآن بأنه نفسه شفاء وقال عن السعل فيه شفاء للناس وما كان نفسه شفاء ابلغ مما جعل فيه شفاء وليس هذا موضع استقصاء فوائدالعسل ومنافعه

فصل ثم تأمل العبرة التي ذكرها الله عز و جل في الانعام وما سقانا
من بطونها من اللبن الخالص السائغ الهنيء المريء الخارج من بين الفرث والدم فتأمل كيف ينزل الغذاء من أفواهها إلى المعدة فينقلب بعضه دما باذن الله وما يسرى في عروقها واعضائها وشحومها ولحومها فإذا ارسلته العروق في مجاريها إلى جملة الاجزاء قلبه كل عضو او عصب وغضروف وشعر وظفر وحافر إلى طبيعته ثم يبقى الدم في تلك الخزائن التي له إذ به قوام الحيوان ثم ينصب ثقله إلى الكرش فيصير زبلا ثم ينقلب باقية لبنا صافيا ابيض سائغا للشاربين فيخرج من بين الفرث والدم حتى إذا انهكت الشاة او غيرها حلبا خرج الدم مشوبا بحمرة فصفى الله سبحانه الالطف من الثفل بالطبخ الاول فانفصل إلى الكبد وصار دما وكان مخلوطا بالاخلاط الاربعة فأذهب الله عز و جل كل خلط منها إلى مقره وخزانته المهيأة له من المرارة والطحال والكلية وباقي الدم الخالص يدخل في اوردة الكبد فينصب من تلك العروق إلى الضرع فيقلبه الله تبارك وتعالى من صورة الدم وطبعه وطعمه إلى صورة اللبن وطبعه وطعمه فاستخرج من الفرث والدم فسل المعطل الجاحد من الذي دبر هذا التدبير وقدر هذا التقدير واتقن هذا الصنع ولطف هذا اللطف سوى اللطيف الخبير

فصل ثم تأمل العبرة في السمك وكيفية خلقته وأنه خلق غير ذي قوائم
لانه لا يحتاج إلى المشي إذ كان مسكنه الماء ولم يخلق له رئة لان منفعة الرئة التنفس والسمك لم يحتج إليه لانه ينغمس في الماء وخلقت له عوض القوائم اجنحة شدادي يقذف بها من جانبيه كما يقذف صاحب المركب بالمقاذيف من جانبي السفينة وكسى لجده قسورا متداخلة كتداخل الجوشن ليقيه من الافات واعين بقوة الشم لان بصره ضعيف والماء يحجبه فصار يشم الطعام من بعد فيقصده وقد ذكر في بعض كتب الحيوان ان من فيه إلى صماخه منافذ فهو يصب الماء فيها بفيه ويرسله من صماخيه فيتروح بذلك كما يأخذ الحيوان النسيم البارد بأنفه ثم يرسله ليتروح به فإن الماء للحيوان البحري كالهواء للحيوان البري فهما بحران احدهما الطف من الاخر بحر هواء يسبح فيه حيوان البر وبحر ماء يسبح فيه حيوان البحر فلو فارق كل من الصنفين بحره إلى البحر الاخر مات فكما يختنق الحيوان البري في الماء يختق الحيوان البحري في الهواء فسبحان من لايحصى العادون آياته ولا يحيطون بتفصيل آية منها على الانفراد بل ان علموا فيها وجها جهلوا منها اوجها فتأمل الحكمة البالغة في كون السمك اكثر الحيوان نسلا ولهذا ترى في وف السمكة الواحد من البيض مالا يحصى كثرة وحكمة ذلك ان يتسع لما

يغتذى به من اصناف الحيوان فإن اكثرها يأكل السمك حتى السباغ لانها في حافات الاجام جاثمة تعكف على الماء الصافي فإذا تعذر عليها صيدالبر رصدت السمك فاختطفته فلما كانت السباع تأكل السمك والطير تأكله والناس تأكله والسماك الكبار تأكله ودواب البر تأكله وقد جعله الله سبحانه غذاء لهذه الاصناف اقتضت حكمته ان يكون بهذه الكثرة ولو رأى العبد ما في البحر من ضروب الحيوانات والجواهر والاصناف التي لا يحصيها الا الله ولا يعرف الناس منها إلا الشيء القليل الذي لانسبة له اصلا إلى ما غاب عنهم لرأي العجب ولعلم سعة ملك الله وكثرة جنوده التي لايعلمها إلا هو وهذا الجراد نثرة حوت من حيتان البحر ينثره من منخريه وهو جند من جنود الله ضعيف الخلقة عجيب التركيب فيه خلق سبع حيوانات فإذا رايت عساكره قد اقبلت ابصرت جندا لا مرد له ولا يحصى منه عدد ولا عدة فلو جمع الملك خيله ورجله ودوابه وسلاحه ليصده عن بلاده لما أمكنه ذلك فانظر كيف ينساب على الارض كالسيل فيغشى السهل والجبل والبدو والحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته ويسد وجه السماء بأجنحته ويبلغ من الجو إلى حيث لا يبلغ طائر اكبر جناحين منه فسل المعطل من الذي بعث هذا الجند الضعيف الذي لا يستطيع ان يرد عن نفسه حيوانا رام اخذه بلية على العسكر اهل القوة والكثرة والعدد والحيلة فلا يقدرون بأجمعهم على دفعه بل ينظرون إليه يستبد بأقواتهم دونهم ويمزقها كل ممزق ويذر الارض قفرا منها وهم لا يستطيعون ان يردوه ولا يحولوا بينه وبينها وهذا من حكمته سبحانه ان يسلط الضعيف من خلقه الذي لا مؤنة له على القوى فينتقم به منه وينزل به ما كان يحذره منه حتى لايستطيع لذلك ردا ولاصرفا قال الله تعالى ونزيد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون فواحسرتاه على استقامه مع الله وايثار لمرضاته في كل حال يمكن به الضعيف المستضعف حتى يرى من استضعفه انه اولى بالله ورسوله منه ولكن اقتضت حكمة الله العزيز الحكيم ان يأكل الظالم الباغي ويتمتع في خفارة ذنوب المظلوم المبغي عليه فذنوبه من اعظم اسباب الرحمة في حق ظالمة كما ان المسؤل إذا رد السائل فهو في خفارة كذبه ولو صدق السائل لما أفلحمن رده وكذلك السارق وقاطع الطريق في خفارة منع اصحاب الاموال حقوق الله فيها ولو ادوا ما لله عليهم فيها لحفظها الله عليهم وهذا ايضا باب عظيم من حكمة الله يطلع الناظر فيه على أسرار من أسرار التقدير وتسليط العالم بعضهم على بعض وتمكين الجناة والبغاة فسبحان من له في كل شيء حكمة

بالغة وآية باهرة حتى ان الحيوانات العادية على الناس في اموالهم وارزاقهم وابدانهم تعيش في خفارة ما كسبت ايديهم ولولا ذلك لم يسلط عليهم منها شيء ولعل هذا الفصل الاستطرادي انفع لمتأمله من كثير من الفصول المتقدمة فإنه إذا اعطاه حقه من النظر والفكر عظم انتفاعه به جدا والله الموفق ويحكى ان بعض اصحاب الماشية كان يشوب اللبن ويبيعه على انه خالص فارسل الله عليه سيلا فذهب بالغنم فجعل يعجب فاتى في منامه فقيل له اتعجب من اخذ السيل غنمك انه تلك القطرات التي شبت بها البن اجتمعت وصارت سيلا فقس على هذه الحكاية ما تراه في نفسك وفي غيرك تعلم حينئذ ان الله قائم بالقسط وانه قائم على كل نفس بما كسبت وانه لا يظلم مثقال ذرة والاثر الاسرائيلي معروف ان رجلا كان يشوب الخمر ويبيعه على انه خالص فجمع من ذلك كيس ذهب وسافر به فركب البحر ومعه قرد له فلما نام اخذ القرد الكيس وصعد به إلى اعلى المركب ثم فتحه فجعل يلقيه دينارا في الماء ودينارا في المركب كأنه يقول له بلسان الحال ثمن الماء صار إلى الماء ولم يظلمك وتأمل حكمة الله عز و جل في حبس الغيث عن عباده وابتلائهم بالقحط إذا منعو الزكاة وحرموا المساكين كيف جوزوا على منع ما للمساكين قبلهم من القوت بمنع الله مادة القوت والرزق وحبسها عنهم فقال لهم بلسان الحال منعتم الحق فمنعتم الغيث فهلا استنزلتموه ببذل ما لله قبلكم وتأمل حكمة الله تعالى في صرفه الهدى والايمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه فصدهم عنه كما صدوا عباده صدا بصد ومنعا بمنع وتأمل حكمته تعالى في محق اموال المرابين وتسليط المتلفات عليها كما فعلوا باموال الناس ومحقوها عليهم واتلفوها بالربا جوزوا اتلافا باتلاف فقل ان ترى مرابيا إلا وآخرته إلى محق وقلة وحاجة وتأمل حكمته تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعيفهم ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه كيف يسلط عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء وهذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى ان تطوى الارض ويعيدها كما بدأها وتأمل حكمته تعالى في ان جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس اعمالهم بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم فإن ساتقاموا استقامت ملوكهم وإن عدلوا عدلت عليهم وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق ونحلوا بها عليهم وإن اخذوا ممن يستضعفونه مالا يستحقونه في معاملتهم اخذت منهم الملوك مالا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف وكلما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة فعمالهم ظهرت في صور اعمالهم وليس في الحكمة الالهية ان يولى على الاشرار الفجار الا من يكون من جنسهم ولما كان الصدر الاول خيار

القرون وابرها كانت ولاتهم كذلك فلما شابوا شابت لهم الولاة فحكمه الله تأبى ان يولي علينا في مثل هذه الازمان مثل معاوية وعمر بن عبدالعزيز فضلا عن مثل ابي بكر وعمر بل ولاتنا على قدرنا وولاة من قبلنا على قدرهم وكل من الامرين موجب الحكمة ومقتضاها ومن له فطنه إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الالهية سائرة في القضاء والقدر ظاهرة وباطنة فيه كما في الخلق والامر سواء فإياك ان تظن بظنك الفاسدان شيئا من اقضيته واقداره عار عن الحكمة البالغة بل جميع اقضيته تعالى وأقداره واقعة على اتم وجوه الحكمة والصواب ولكن العقول الضعيفة محجوبة بضعفها عن إدراكها كما ان الابصار الخفاشية محجوبة بضعفها عن ضوء الشمس وهذه العقول الضعاف إذا صادفها الباطل جالت فيه وصالت ونطقت وقالت كما ان الخفاش إذا صادفه ظلام الليل طار وسار
خفافيش اعشاها النهار بضوئه ... ولازمها قطع من الليل مظلم وتأمل حكمته تبارك وتعالى في عقوبات الامم الخالية وتنويعها عليهم بحسب تنوع جرائمهم كما قال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم إلى قوله يظلمون وتأمل حكمته تعالى في مسخ من مسخ من الامم في صور مختلفة مناسبة لتلك الجرائم فإنها لما مسخت قلوبهم وصارت على قلوب تلك الحيوانات وطباعها اقتضت الحكمة البالغة ان جعلت صورهم على صورها لتتم المناسبة ويكمل الشبه وهذا غاية الحكمة واعتبر هذا بمن مسخوا قردة وخنازير كيف غلبت عليهم صفات هذه الحيواات واخلاقها وأعمالها ثم إن كنت من المتوسمين فاقرأ هذه النسخة من وجوه اشباههم ونظرائهم كيف تراها بادية عليها وإن كانت مستورة بصورة الانسانية فاقرا نسخة القردة من صرو اهل المكر والخديعة والفسق الذين لا عقول لهم بل هم اخف الناس عقولا واعظمهم مكرا وخداعا وفسقا فإن لم تقرا نسخة القردة من وجوهم فلست من المتوسمين واقرا نسخة الخنازير من صور اشبهاهم ولا سيما اعداء خيار خلق الله بعدالرسل وهم اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن هذه النسخة ظاهرة على وجوه الرافضة يقرأها كل مؤمن كاتب وغير كاتب وهي تظهر وتخفى بحسب خنزيرية القلب وخبثه فإن الخنزير اخبث الحيوانات واردؤها طباعا ومن خاصيته انه يدع الطيبات فلا يأكلها ويقوم الانسان عن رجيعة فيبادر إليه فتأمل مطابقة هذا الوصف لاعداء الصحابة كيف تجده منطبقا عليهم فإنهم عمدوا إلى اطيب خلق الله واطهرهم فعادوهم وتبرؤوا منهم ثم والواكل عدو لهم من النصارى واليهود والمشركين فاستعانوا في كل زمان على حرب المؤمنين الموالين لاصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمشركين والكفار وصرحوا بأنهم خير منهم فاي شبه ومناسبة اولى بهذا الضرب من الخنازير فإن لم تقرأ هذه

النسخة من وجوههم فلست من المتوسمين واما الاخبار التي تكاد تبلغ حد التواتر بمسخ من مسخ منهم عند الموت خنزيرا فأكثر من ان تذكر ها هنا وقد أفرد لها الحافظ بن عبدالواحد المقدسي كتابا وتأمل حكمته تعال في عذاب الامم السالفة بعذاب الاستئصال لما كانوا اطول اعمارا واعظم قوى واعتى على الله وعلى رسوله فلما تقاصرت الاعمار وضعفت القوى رفع عذاب الاستئصال وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين فكانت الحكمة في كل واحد من الامرين ما اقتضته في وقته وتأمل حكمته تبارك وتعالى في إرسال الرسل في الامم واحدا بعد واحد كلما مات واحد خلفه آخر لحاجتها إلى تتابع الرسل والانبياء لضعف عقولها وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السابق فلما انتهت النبوة إلى محمد بن عبد الله رسول الله ونبيه ارسله إلى اكمل الامم عقولا ومعارف واصحها اذهانا واغزرها علوما وبعثه باكمل شريعة ظهرت في الارض منذ قامت الدنيا إلى حين مبعثه فأغنى الله لامة بكمال رسولها وكمال شريعته وكمال عقولها وصحة اذهانها عن رسول يأتي بعده اقام له من امته ورثة يحفظون شريعته ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم فلم يحتاجوا معه إلى سول آخر ولا نبي ولا محدث ولهذا قال صلى الله عليه و سلم انه قد كان قبلكم في الامم محدثون فإن يكن في امتي احد فعمر فجزم بوجود المحدثين في الامم وعلق وجوده في امته بحرف الشرط وليس هذا بنقصان في الامة على من قبلهم بل هذا من كمال امته على من قبله فإنها لكمالها وكمال نبيها وكمال شريعته لا تحتاج إلى محدث بل إن وجد فهو صالح للمتابعة والاستشهاد لا انه عمدة لانها في غنية بما بعث الله به نبيها عن كل منام او مكاشفة او الهام او تحديث واما من قبلها فللحاجة إلى ذلك جعل فيهم المحدثون ولا تظن ان تخصيص عمر رضى الله عنه بهذا تفضيل له علي ابي بكر الصديق بل هذا من اقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث اوغيره فالذي يتلقاه من مشاكة النبوة اتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث فتأمل هذا الموضع واعطه حقه من المعرفة وتامل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بانه الحكيم الخبير وان رسول الله صلى الله عليه و سلم اكمل خلقه واكملهم شريعة وان امته اكمل الامم وهذا فصل معترض وهو انفع فصول الكتاب ولولا الاطالة لوسعنا فيه المقال واكثرنا فيه من الشواهد والامثال ولقد فتح الله الكريم فيه الباب وارشد فيه إلى الصواب وهو المرجو لتمام نعمته ولا قوة الا بالله العلي العظيم

فصل فاعد الان النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية من الذي دبرك بالطف

التدبير وانت جنين في بطن امك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء ولا في دفع الضرر فمن الذي اجرى اليك من دم الام ما يغذوك كما يغذو الماء النبات وقلب ذلك الدم لبنا ولم يزل يغذيك به في اضيق المواضع وابعدها من حيلة التكسب والطلب حتى إذا كمل خلقك واستحكم وقوى اديمك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الضياء وصلبت عظامك على مباشرة الايدي والتقلب على الغبراء هاج الطلق بأمك فازعجك إلى الخروج إيما ازعاج إلى عالم الابتلاء فركضك الرحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمك قط ولم يشتمل عليك فيما بعد ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وضعت نطفة وبين هذا الدفع والطرد والاخراج وكان مبتهجا بحملك فصار يستغيث ويعج إلى ربك من ثقلك فمن الذي فتح لك بابه حتى ولجت ثم ضمه عليك حتى حفظت وكملت ثم فتح لك ذلك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر لم يخنقك ضيقه ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه فلو تأملت حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهب بك العجب كل مذهب فمن الذي اوحى إليه ان يتضايق عليك وانت نطفة حتى لاتفسد هناك واوحى إليه ان يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليما إلى ان خرجت فريدا وحيدا ضعيفا لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال احوج خلق الله واضعفهم وافقرهم فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن امك إلى خزانتين معلقتين على صدرها تحمل غذاءك على صدرها كما حملتك في بطنها ثم ساقه إلى تينك الخزانتين الطف سوق على مجار وطرق قد تهيأت له فلا يزال واقفا في طرقه ومجاريه حتىتستوفي ما في الخزانة فيجرى وينساق اليك فهو بئر لاتنقطع مادتها ولا تنسد طرقها يسوقها اليك في طرق لا يهتدي اليها الطواف ولا يسلكها الرجال فمن رققه لك وصفاه واطاب طعمه وحسن لونه واحكم طبخه اعدل احكام لا بالحار المؤذي ولا بالبارد الردي ولا المر ولا المالح ولا الكريه الرائحة بل قلبه إلى ضرب آخر من التغذية والمنفعة خلاف ما كان في البطن فوافاك في أشد اوقات الحاجة إليه على حين ظمأ شديد وجوع مفرط جمع لك فيه بين الشراب والغذاء فحين تولد قد تلمظت وحركت شفتيك للرضاع فتجد الثدي المعلق كالاداوة قدتدلى اليك وأقبل بدره عليك ثم جعل في راسه تلك الحلمة التي هي بمقدار صغر فمك فلا يضيق عنها ولا تتعب بالتقامها ثم نقب لك في راسها نقبا لطيفا بحسب احتمالك ولم يوسعه فتختنق باللبن ولم يضيقه فتمصه بكلفة بل جعله بقدر اقتضته حكمته ومصلحتك فمن عطف عليك قلب الام ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة حتى تكون في أهنا ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها فإذا احست منك بأدنى صوت او بكاء قامت اليك وآثرتك علىنفسها على عدد الانفس منقادة اليك بغير قائد ولا سائق الا قائد الرحمة وسائق

الحنان تود لو ان كل ما يؤلمك بجسمها وانه لم يطرقك منه شيء وان حياتها تزاد في حياتك فمن الذي وضع ذلك في قلبها حتى إذا قوى بدنك واتسعت امعاؤك وخشنت عظامك واحتجت إلى غذاء اصلب من غذائك ليشتد به عظمك ويقوى عليه لحمك وضع في فيك آله القطع والطحن فنصب لك أسنانا تقطع بها الطعام وطواحين تطحنه بها فمن الذي حبسها عنك ايام رضاعك رحمة بأمك لطفا بها ثم اعطاكها ايام اكلك رحمة بك وأحسانا اليك ولطفا بك فلو انك خرجت من البطن ذا سن وناب وناجذ وضرس كيف كان حال امك بك ولو انك منعتها وقت الحاجة اليها كيف كان حالك بهذه الاطعمة التي لا تسيغها الا بعد تقطيعها وطحنها وكلما ازددت قوة وحاجة إلى الاسنان في اكل المطاعم المختلفة زيد لك في تلك الالات حتى تنتهي إلى النواجذ فتطيق نهش اللحم وقطع الخبز وكسر الصلب ثم إذا ازددت قوة زيد لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحين التي هي آخر الاضراس فمن الذي ساعدك بهذه الالات وانجدك بها ومكنك بها من ضروب الغذاء ثم انه اقتضت حكمته ان اخرجك من بطن امك لا تعلم شيئا بل غبيا لا عقل ولا فهم ولا علم وذلك من رحمته بك فإنك على ضعفك لا تحتمل العقل والفهم والمعرفة بل كنت تتمزق وتتصدع بل جعل ذلك ينتقل فيك بالتدريح شيئا فشيئا فلا يصادفك ذلك وهلة واحدة بل يصادفك يسيرا يسيرا حتى يتكامل فيك واعتبر ذلك بأن الطفل إذا سبي صغيرا من بلده ومن بين ابويه ولا عقل له فإنه لا يؤلمه ذلك علما كان اقرب إلى العقل كان اشق عليه واصعب حتى إذا كان عاقلا فلاتراه إلا كالواله الحيران ثم لو ولدت عاقلا فهيما كحالك في كبرك تنغصت عليك حياتك اعظم تنغيص وتنكدت اعظم تنكيد لانك ترى نفسك محمولا رضيعا معصبا بالخرق مربطا بالقمط مسجونا في المهد عاجزا ضعيفا عما يحاوله الكبير فكيف كان يكون عيشك مع تعلقك التام في هذه الحالة ثم لم يكن يوجد لك من الحلاوة واللطافة والوقع في القلب والرحمة بك ما يوجد للمولود الطفل بل تكون انكد خلق الله واثقلهم واعنتهم واكثرهم فضولا وكان دخولك هذا العالم وانت غبي لا تعقل شيئا ولا تعلم ما فيه اهله محض الحكمة والرحمة بك والتدبير فتلقى الاشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد فيك العقل والمعرفة شيئا فشيئا حتى تالف الاشياء وتتمرن عليها وتخرج من التأمل لها والحيرة فيها وتستقبلها بحسن التصرف فيها والتدبير لها والاتقان لها وفي ذلك وجوه أخر من الحكمة غير ما ذكرناه فمن هذا الذي هو قيم عليك بالمرصاد يرصدك حتى يوافيك بكل شيء من المنافع والاراب والالات في وقت حاجتك لا يقدمها عن وقتها ولا يؤخرها عنه ثم انه اعطاك الاظفار

وقت حاجتك اليها لمنافع شتى فإنها تعين الاصابع وتقويها فإن اكثر العمل لما كان برؤوس الاصابع وعليها الاعتماد اعينت بالاظافر قوة لها مع ما فيها من منفعة حك 2الجسم وقشط الاذى الذي لا يخرج باللحم عنه إلى غير ذلك من فوائدها ثم جملك بالشعر على الراس زينة ووقاية وصيانة من الحر والبرد إذ هو مجمع الحواس ومعدن الفكر والذكر وثمرة العقل تنتهي إليه ثم خص الذكر بأن جمل وجهه باللحية وتوابعها وقارا وهيبة له وجمالا وفصلا له عن سن الصبا وفرقا بينه وبين الاناث وبقيت الانثى على حالها لما خلقت له من استمتاع الذكر بها فبقى وجهها على حاله ونضارته ليكون اهيج للرجل على الشهوة وأكمل للذة الاستمتاع فالماء واحد الجوهر واحد والوعاء واحد واللقاح واحد فمن الذي اعطى الذكر الذكورية والانثى الانوثية ولا تلتفت إلى ما يقوله الجهلة من الطبائعيين في سبب الاذكار والايناث وإحالة ذلك على الامور الطبيعية التي لاتكاد تصدق في هذا الموضع الا اتفاقا وكذبه اكثر من صدقها وليس استناد الاذكار والايناث الا إلى محض المرسوم الالهي الذي يلقيه الىملك التصوير حين يقول يا رب ذكر ام انثى شقى ام سعيد فما الرزق فما الاجل فيوحي ربك ما يشاء ويكتب الملك فإذا كان للطبيعة تأثيرا في الاذكار والايناث فلها تاثير في الرزق والاجل والشقاوة والسعادة وإلا فلا أذ مخرج الجميع ما يوحيه الله إلى الملك ونحن لا ننكر ان لذلك اسبابا اخر ولكن تلك من الاسباب التي استأثر الله بها دون البشر قال الله تعالى لله ملك السموات والارض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور إلى قوله قدير فذكر اصناف النساء الاربعة مع الرجال احدها من تلد الاناث فقط الثانية من تلد الذكور فقط الثالثة من تلد الزوجين الذكر والانثى وهو معنى التزويج هنا ان يجعل ما يهب له زوجين ذكرا او انثى الرابعة العقيم التي لا تلد اصلا ومما يدل على ان سبب الاذكار والايناث لا يعلمه البشر ولا يدرك بالقياس والفكر وإنما يعلم بالوحي ما روى مسلم في صحيحه من حديث ثوبان قال كنت عند النبي صلى الله عليه و سلم فجاء حبر من احبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني فقلت الا تقول يا رسول الله فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به اهله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان أسمي محمد الذي سماني به اهلي قال اليهودي جئت أسالك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أينفعك شيء إن حدثتك قال اسمع بأذني فنكت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعود معه فقال سل فقال اليهودي اين يكون الناس يوم تبدل الارض غير الارض والسموات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هم في الظلمة دون الجسر قال فمن اول الناس إجازة قال فقراء المهاجرين قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة فقال زيادة كبد حوت ذي النون قال فما غذاؤهم على أثرها قال

ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من اطرافها قال فما شرابهم عليه قال من عين تسمى سلسبيلا قال صدقت وجئت أسالك عن شيء لايعلمه الا نبي او رجل او رجلان قال ينفعك ان حدثتك قال اسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال ماء الرجل ابيض وماء المرأة اصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة اذكر بإذن الله وإن علا مني المرأة مني الرجل اثني بإ ذن الله قال اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد سالني عن هذا الذي سالني عنه ومالي علم به حتى أتاني الله به والذي دل عليه العقل والنقل ان الجنين يخلق من الماءين جميعا فالذكر يقذف ماءه في رحم الانثى وكذلك هي تنزل ماءها إلى حيث ينتهي ماؤه فيلتقى الماآن على امر قد قدره الله وشاءه فيخلق الولد بينهما جميعا وايهما غلب كان الشبه له كما في صحيح البخاري عن حميد عن انس قال بلغ عبدالله بن سلام قدوم النبي صلى الله عليه و سلم فاتاه فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن الا نبي قال ما أول اشراط الساعة وما اول طعام يأكله اهل الجنة ومن أي شيء ينزع الولد إلى ابيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اخبرني بهن آنفا جبريل فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اما اول اشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب واما اول طعام ياكله اهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشى المرأة وسبقها ماؤه كان الشبه له وإن سبقت كان الشبه لها فقال اشهد انك رسول الله وذكر الحديث وفي الصحيحين عن ام سلمة قالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت قال نعم إذا رأت الماء الاصفر فضحكت ام سلمة فقالت او تحتلم المراة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيم يشبهها الولد فهذه الاحاديث الثلاثة تدل على ان الولد يخلق من الماءين وان الاذكار والايناث يكون بغلبة احد الماءين وقهره للآخروعلوه عليه وان الشبه يكون بالسبق فمن سبق ماؤه إلى الرحم كان الشبه له وهذه امور ليس عند أهل الطبيعة ما يدل عليها ولا تعلم الا بالوحي وليس في صناعتهم ايضا ما ينافيها على ان في النفس من حديث وبان ما فيها وأنه يخاف ان لا يكون احد رواته حفظه كما ينبغي وأن يكون السؤال إنما وقع فيه عن الشبه لا عن الاذكار والايناث كما سأل عنه عبدالله بن سلام ولذلك لم يخرجه البخاري وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن ابي بكر عن انس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ان الله وكل بالرحم ملكا فيقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا اراد ان يخلقها قال يا رب اذكر ام انثى شقي ام سعيد فما الرزق فما الاجل فيكتب كذلك في بطن امه أفلا ترى كيف أحال بالاذكار والايناث على مجرد المشيئة وقرنه بما لاتأثير للطبيعة فيه من الشقاوة والسعادة والرزق والاجل ولم يتعرض الملك لكتبه الذي للطبيعة فيه مدخل اولا ترى عبد الله بن سلام لم يسأل الا عن الشبه الذي يمكن الجواب عنه ولم يسال عن الاذكار والايناث

مع انه ابلغ من الشبه والله اعلم وان كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قاله فهو عين الحق وعلى كل تقدير فهو يبطل ما زعمه بعض الطبائعيين من معرفة اسباب الاذكار والايناث والله اعلم

فصل فانظر كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والانثى جميعا على وفق
الحكمة فجعلت في حق الذكر آلة ناشزة تمتد حتى توصل المنى إلى قعر الرحم بمنزلة من يناول غيره شيئا فهو يمد يده إليه حتى يوصله إياه ولأنه يحتاج إلى ان يقذف ماءه في قعر الرحم وأما الانثى فجعل لها وعاء مجوف لانها تحتاج إلى ان تقبل ماء الرجل وتمسكه وتشتمل عليه فأعطيت آلة تليق بها ثم لما كان ماء الرجل ينحدر من اجزاء الجسد رقيقا ضعيفا لا يخلق منه الولد جعل له الانثيان وعاء يطبخ فيهما ويحكم انضاجه ليشتد وينعقد ويصير قابلا لان يكون مبدأ للتخليق ولم تحتج المرأة إلى ذلك لان رقة مائها ولطفاته إذا مازج غلظ ماء الرجل وشدته قوى به واستحكم ولو كان الماآن رقيقان ضعيفان لم يتكون الولد منهما وخص الرجل بآلة النضج والطبخ لحكم منها ان حرارته اقوى والانثى باردة فلو اعطيت تلك الالة لم يستحكم طبخ الماء وانضاجه فيها ومنها ان ماءها لا يخرج عن محله بل ينزل من بين ترائبها إلى محله ومنها انها لما كانت محلا للجماع اعطيت من الالة ما يليق بها فلو اعطيت آلة الرجل لم تحصل لها اللذة والاستمتاع ولكانت تلك الالة معطلة بغير منفعة فالحكمة التامة فيما وجدت خلقة كل منهما عليه
فصل فارجع الان إلى نفسك وكرر النظر فيك فهو يكفيك وتأمل اعضاءك
وتقدير كل عضو منها للأرب والمنفعة المهيأ لها فاليدان للعلاج والبطش والاخذ والاعطاء والمحاربة والدفع والرجلان لحمل البدن والسعي والركوب وانتصاف القامة والعينان للاهتداء والجمال والزينة والملاحة ورؤية ما في السموات والارض وآياتهما وعجائبهما والفم للغذاء والكلام والجمال وغير ذلك والانف للنفس وإخراج فضلات الدماغ وزينة للوجه واللسان للبيان والترجمة عنك والاذنان صاحبتا الاخبار تؤديانها اليك واللسان يبلغ عنك والمعدة خزانة يستقر فيها الغذاء فتنضجه وتطبخه وتصلحه اصلاحا آخر وطبخا آخر غير الاصلاح والطبخ الذي توليته من خارج فأنت تعاني إنضاجه وطبخه وإصلاحه حتى تظن انه قد كمل وانه قد استغنى عن طبخ آخر وانضاج آخر وطباخه الداخل ومنضجه يعاني من نضجه وطبخه مالا تهتدي إليه ولا تقدر عليه فهو يوقد عليه نيرانا تذيب الحصى وتذيب مالا تذيبه النار وهي في الطف موضع منك لا تحرقك ولا تلتهب وهي اشد حرارة من النار وإلا فما يذيب هذه الاطعمة الغليظة الشديدة جدا حتى يجعلها ماء ذائبا وجعل الكبد للتخليص واخذ صفو الغذاء والطفه ثم رتب منها مجاري

وطرقا يسوق بها الغذاء إلى كل عضو وعظم وعصب ولحم وشعر وظفر وجعل المنازل والابواب لادخال ما ينفعك وإخراج ما يضرك وجعل الاوعية المختلفة خزائن تحفظ مادة حياتك فهذه خزانة للطعام وهذه خزانة للحرارة وهذه خزائن للدم وجعل منها خزائن مؤديات لئلا تختلط بالخزائن الاخر فجعل خزائن للمرة السوداء وأخرى للمرة الصفراء وأخرى للبول وأخرى للمنى فتأمل حال الطعام في وصوله إلى المعدة وكيف يسرى منها في البدن فإنه إذا استقر فيها اشتملت عليه وانضمت فتطبخه وتجيد صنعته ثم تبعثه إلى الكبد في مجار دقاق وقد جعل بين الكبد وبين تلك المجاري غشاء رقيقا كالمصفات الضيقة الابخاش تصفية فلا يصل إلى الكبد منه شيء غليظ خشن فينكؤها لان الكبد رقيقة لا تحمل الغليظ فإذ قبلته الكبد انفذته إلى البدن كله في مجار مهيأ قلة بمنزلة المجاري المعدة للماء ليسلك في الارض فيعمها بالسقي ثم يبعث ما بقي من الخبث والفضول إلى مغايض ومصارف قد اعدت لها فما كان من مرة صفراء بعثت به إلى المرارة وما كان من مرة سوداء بعثت به إلى الطحال وما كان من الرطوبة المائية بعثت به إلى المثانة فمن ذا الذي تولى ذلككله وأحكمه ودبره وقدره احسن تقدير وكأني بك ايها المسكين تقول هذا كله من فعل الطبيعة وفي الطبيعة عجائب واسرار فلو أراد الله ان يهديك لسالت نفسك بنفسك وقلت اخبريني عن هذه الطبيعة اهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الافعال العجيبة ام ليست كذلك بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه فإن قالت لك بل هي ذات قائمة بنفسها لها العلم التام والقدرة والارادة والحكمة فقل لها هذا هو الخالق البارئ المصور فلم تسمينه طبيعية ويا لله من ذكر الطبائع ومن يرغب فيها فهلا سميته بما سمى به نفسه على السن رسله ودخلت في جملة العقلاء والسعداء فإن هذا الذي وصفت به الطبيعة صفته تعالى وإن قالت تلك بل الطبيعة عرض محمول مفتقر إلى حامل وهذا كله فعلها بغير علم منها ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور اصلا وقد شوهد من آثارها ما شوهد فقل لها هذا مالا يصدقه ذو عقل سليم كيف تصدر هذه الافعال العجيبة والحكم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممن لا عقل له ولا قدرة ولا حكمة ولا شعور وهل التصديق بمثل هذا إلا دخول في سلك المجانين والمبرسمين ثم قل لها بعد ولو ثبت لك ما ادعيت فمعلوم ان مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها ولا مبدعة لذاتها فمن ربها ومبدعها وخالقها ومن طبعها وجعلها تفعل ذلك فهي إذا من ادل الدلائل على بارئها وفاطرها وكمال قدرته وعلمه وحكمته فلم يجد عليك تعطيلك رب العالم وجحدك لصفاته وأفعاله الا مخالفتك العقل والفطرة ولو حاكمناك إلى الطبيعة لرايناك انك خارج عن موجبها فلا انت مع موجب العقل ولا الفطرة ولا الطبيعة ولا الانسانية اصلا وكفى بذلك جهلا وضلالا فإن رجعت إلى العقل وقلت لا يوجد حكمة الا من حكيم قادر عليم ولا تدبير

متقن الا من صانع قادر مختار مدبر عليم بما يريد قادر عليه لا يعجزه ولا يؤؤده قيل لك فإذا اقررت ويحك بالخلاق العظيم الذي لا اله غيره ولا رب سواه فدع تسميته طبيعة اوعقلا فعالا او موجبا بذاته وقل هذا هو الله الخالق البارئ المصور رب العالمين وقيوم السموات والارضين ورب المشارق والمغارب الذي احسن كل شيء خلقه واتقن ما صنع فمالك جحدت اسماءه وصفاته وذاته اضفت صنيعه إلى غيره وخلقه إلى سواه مع انك مضطر إلى الاقرار به إضافة الابداع والخلق والربوبية والتدبير إليه ولا بد والحمد لله رب العالمين على انك لو تأملت قولك طبيعة ومعنى هذه اللفظة لدلك على الخالق الباريء لفظها كما دل العقول عليه معناها لان طبيعة فعيلة بمعنى مفعولة أي مطبوعة ولا يحتمل غيرهذا البتة لانها على بناء الغرائز التي ركبت في الجسم ووضعت فيه كالسجية والغريزة والبحيرة والسليقة والطبيعة فهي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه ومعلوم ان طبيعة من غير طابع لها محال فقد دل لفظ الطبيعة على البارئ تعالى كما دل معناها عليه والمسلمون يقولون ان الطبيعة خلق من خلق الله مسخر مربوب وهي سنته في خليقته التي اجراها عليه ثم انه يتصرف فيها كيف شاء وكما شاء فيسلبها تاثيرها إذا اراد ويقلب تأثيرها إلى ضده إذا شاء ليرى عباده أنه وحده الخالق البارئ المصور وأنه يخلق ما يشاء كما يشاء وإنما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون وإن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش اليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر ملخوقاته فكيف يحسن بمن له حظ من انسانية اوعقل ان ينسى من طبعها وخلقها ويحيل الصنع والابداع عليها ولم يزل الله سبحانه يسلبها قوتها ويحيلها ويقلبها إلى ضد ما جعلت له حتى يرى عباده انها خلقه وصنعه مسخرة بامره الا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين

فصل فاعد النظر في نفسك وتأمل حكمة اللطيف الخبير في تركيب البدن
ووضع هذه الاعضاء مواضعها منه واعدادها لما اعدت له وإعداد هذه الاوعية المعدة لحمل الفضلات وجمعها لكيلا تنتشر في البدن فتفسده ثم تأمل الحكمة البالغة في تنميتك وكثرة اجزائك من غير تفكيك ولا تفصيل ولو ان صائغا اخذ تمثالا من ذهب او فضة او نحاس فأراد ان يجعله اكبر مما هو هل كان يمكنه ذلك الا بعد ان يكسره ويصوغه صياغة اخرى والرب تعالى ينمي جسم الطفل واعضاءه الظاهرة والباطنة وجميع اجزائه وهو باق ثابت على شكله وهيئته لا يتزايل ولا ينفك ولا ينقص وأعجب من هذا كله تصويره في الرحم حيث لاتراه العيون ولا تلمسه الايدي ولا تصل إليه الالات فيخرج بشرا سويا مستوفيا لكل ما فيه مصلحته وقوامه

من عضو وحاسة وآلة من الاحشاء والجوارح والحوامل والاعصاب والرباطات والاغشية والعظام المختلفة الشكل والقدر والمنفعة والموضع إلى غير ذلك من اللحم والشحم والمخ وما في ذلك من دقيق التركيب ولطيف الخلقة وخفي الحكمة وبديع الصنعة كل هذا صنع الله احسن الخالقين في قطرة من ماء مهين وما كرر عليك في كتابه مبدأ خلقك وإعادته ودعاك إلى التفكير فيه إلا لما بك من العبرة والمعرفة ولا تستطل هذا الفصل وما فيه من نوع تكرار يشتمل على مزيد فائدة فإن الحاجة إليه ماسة والمنفعة عظيمة فانظر الىبعض ما خصك به وفضلك به على البهائم المهملة إذ خلقك على هيئة تنتصب قائما وتستوي جالسا وتستقبل الاشياء ببدنك وتقبل عليها بجملتك فيمكنك العمل والصلاح والتدبير ولو كنت كذوات الاربع المكبوبة على وجهها لم يظهر لك فضيلة تمييز واختصاص ولم يتهيأ منك ما تهيأ من هذه النسبة

فصل قال الله تعالى ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر
ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم الاية فسبحان من البسه خلع الكرامة كلها من العقل والعلم والبيان والنطق والشكل والصورة الحسنةوالهيئة الشريفة والقد المعتدل واكتساب العلوم بالاستدلال والفكر واقتناص الاخلاق الشريفة الفاضلة من البر والطاعة والانقياد فكم بين حاله وهو نطفة في داخل الرحم مستودع هنا وبين حاله والملك يدخل عليه في جنات عدن فتبارك الله احسن الخالقين فالدنيا قرية والمؤمن رئيسها والكل مشغول به ساع في مصالحه والكل قد اقيم في خدمته وحوائجه فالملائكة الذين هم حملة عرش الرحمن ومن حوله يستغفرون له والملائكة الموكلون به يحفظونه والموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه والافلاك سخرت منقادة دائرة بما فيه مصالحه والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب ازمنته واوقاته وإصلاح رواتب اقواته والعالم الجوي مسخر له برياحه وهوائه وسحابه وطيره وما اودع فيه والعالم السفلي كله مسخر له مخلوق لمصالحه ارضه وجباله وبحاره وأنهاره وأشجاره وثماره ونباته وحيوانه وكل ما فيه كما قال تعالى الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره إلى قوله يتكفرون وقال تعالى الله الذي خلق السموات والارض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله كفار فالسائر في معرفة آلاء الله وتأمل حكمته وبديع صفاته اطول باعا وأملأ صواعا من اللصيق بمكانه المقيم في بلد عادته وطبعه راضيا بعيش بني جنسه لا يرضى لنفسه إلا ان يكون واحدا منهم يقول لي اسوة بهم وهل

انا الا من ربيعة او مضر وليست نفائس البضائع الا لمن امتطى غارب الاغتراب وطوف في الافاق حتى رضى من الغنيمة بالاياب فاستلان ما استوعره البطالون وأنس بما استوحش منه الجاهلون
فصل فاعد النظر في نفسك وحكمة الخلاق العليم في خلقك وانظر إلى
الحواس التي منها تشرف على الاشياء كيف جعلها الله في الراس كالمصابيح فوق المنارة لتتمكن بها من مطالعة الاشياء ولم تجعل في الاعضاء التي تمتهن كاليدين والرجلين فتتعرض للافات بمباشرة الاعمال والحركات ولاجعلها في الاعضاء التي في وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر عليك التلفت والاطلاع على الاشياء فلما لم يكن لها في شيء من هذه الاعضاء موضع كان الراس اليق المواضع بها وأجملها فالراس صومعة الحواس ثم تأمل الحكمة في ان جعل الحواس خمسا في مقابلة المحسوسات الخمس ليلقى خمسا بخمس كي لا يبقى شيء من المحسوسات لا يناله بحاسة فجعل البصر في مقابلة المبصرات والسمع في مقابلة الاصوات والشم في مقابلة أنواع الروائح المختلفات والذوق في مقابلة الكيفيات المذوقات واللمس في مقابلة الملموسات فأي محسوس بقي بلا حاسة ولو كان في المحسوسات شيء غير هذه لاعطاك له حاسة سادسة ولما كان ما عداها إنما يدرك بالباطن اعطاك الحواس الباطنة وهي هذه الاخماس التي جرت عليها السنة العامة والخاصة حيث يقولون في المفكر المتأمل ضرب اخماسه في أسداسه فأخماسه حواسه الخمس واسداسه جهانه الست وأرادوا بذلك انه جذبه القلب وسار به في الاقطار والجهات حتى قلب حواسه الخمس في جهاته ألست وضربها فيها لشدة فكره

فصل ثم اعينت هذه الحواس بمخلوقات اخر منفصلة عنها تكون واسطة في
احساسها فاعينت حاسة البصر بالضياء والشعاع فلولاه لم ينتفع الناظر ببصره فلو منع الضياء والشعاع لم تنفع العين شيئا واعينت حاسة السمع بالهواء يحمل الاصوات في الجو ثم يلقيها إلى الاذن فتحويه ثم تقلبه الىالقوة السامعة ولولا الهواء لم يسمع الرجل شيئا واعينت حاسة الشم بالنسيم اللطيف يحمل الرائحة ثم يؤديها اليها فتدركها فلولا هو لم تشم شيئا واعينت حاسة الذوق بالريق المتحلل في الفم تدرك القوة الزائقة به طعوم الاشياء ولهذا لم يكن له طعم لا حلو ولا حامض ولا مالح ولا حريف لانه كان يحيل تلك الطعوم إلى طعمه ولا يحصل به مقصوده واعينت حاسة اللمس بقوة جعلها الله فيها تدرك بها الملموسات ولم تحتج إلى شيء

من خارج بخلاف غيرها من الحواس بل تدرك الملموسات بلا واسطة بينها وبينها لانها إنما تدركها بالاجتماع والملامسة فلم تحتج الىواسطة

فصل ثم تأمل حال من عدم البصر وما يناله من الخلل في أموره فإنه
لا يعرف موضع قدمه ولا يبصر ما بين يديه ولا يفرق بين الالوان والمناظر الحسنة من القبيحة ولا يتمكن من استفادة علم من كتاب يقرأه ولايتهيأ له الاعتبار والنظر في عجائب ملك الله هذا مع انه لا يشعر بكثير من مصالحه ومضاره فلا يشعر بحفرة يهوى فيها ولا بحيوان يقصده كالسبع فيتحرز له ولا بعدو يهوى نحوه ليقتله ولا يتمكن من هرب ان طلب بل هو ملق السلم لمن رامه باذى ولولا حفظ خاص من الله له قريب من حفظ الوليد وكلاءته لكان عطبه اقرب من سلامته فإنه بمنزلة لحم على وضم ولذلك جعل الله ثوابه إذا صبر واحتسب الجنةومن كمال لطفه ان عكس نوربصره إلى بصيرته فهو اقوى الناس بصيرة وحدسا وجمع عليه همه فقلبه مجموع عليه غير مشتت ليهنأ له العيش وتتم مصلحته ولا يظن انه مغموم حزين متاسف هذا حكم من ولد اعمى فأما من اصيب بعينيه بعدالبصر فهو بمنزلة سائر اهل البلاء المنتقلين من العافية إلى البلية فالمحنة عليه شديدة لانه قد حيل بينه وبين ما الفه من المرائي والصور ووجوه الانتفاع ببصره فهذا له حكم آخر وكذلك من عدم السمع فإنه يفقد روح المخاطبة والمحاورة ويعدم لذة المذاكرة ونغمة الاصوات الشجية وتعظم المؤنة علىالناس في خطابه ويتبرمون به ولا يسمع شيئا من اخبار الناس واحاديثهم فهو بينهم شاهد كغائب وحي كميت وقريب كبعيد وقد اختلف النظار في ايهما اقرب إلى الكمال واقل اختلالا لاموره الضرير او الاطرش وذكروا في ذلك وجوها وهذا مبني على اصل آخر وهو أي الصفتين اكمل صفة السمع او صفة البصر وقد ذكرنا الخلاف فيهما فيما تقدم من هذا الكتاب وذكرنا اقوال الناس وأدلتهم والتحقيق في ذلك فأي الصفتين كانت اكمل فالضرر بعدمها اقوى والذي يليق بهذا الموضع ان يقال عادم البصر اشدهما ضررا وأسلمهما دينا واحمدهما عاقبة وعادم السمع اقلهما ضررا في دنياه واجهلهما بدينه واسوا عاقبة فإنه إذا عدم السمع عدم المواعظ والنصائح وانسدت عليه ابواب العلوم النافعة وانفتحت له طرق الشهوات التي يدركها البصر ولا يناله من العلم ما يكفه عنها فضرره في دينه اكثر وضرر الاعمى في دنياه اكثر ولهذا لم يكن في الصحابة اطرش وكان فيهم جماعة اضراء وقل ان يبتلى الله اولياءه بالطرش ويبتلى كثيرا منهم بالعمى فهذا فصل الخطاب في هذه المسئلة فمضرة الطرش في الدين ومضرة العمى في الدنيا والمعافى من عافاه الله منهما ومتعه بسمعه وبصره وجعلهما الوارثين منه

فصل وأما من عدم البيانين بيان القلب وبيان اللسان فذلك بمنزلة
الحيوانات البهيمة بل هي احسن حالا منه فإن فيها ما خلقت له من المنافع والمصالح التي تستعمل فيها وهذا يجهل كثيرا مما تهتدي إليه البهائم ويلقى نفسه فيما تكف البهائم انفسها عنه وان عدم بيان اللسان دون بيان القلب ومن عدم خاصة الانسان وهي النطق اشتدت المؤمنة به وعليه وعظمت حسرته وطال تأسفه على رد الجواب ورجع الخطاب فهو كالمقعد الذي يرى ما هو محتاج إليه ولا تمتد إليه يده ولا رجله فكم لله على عبده من نعمة سابغة فيهذه الاعضاء والجوارح والقوى والمنافع التي فيه فهو لا يلتفت اليها ولا يشكر الله عليها ولو فقد شيئا منها لتمنى انه له بالدنيا وما عليها فهو يتقلب في نعم الله بسلامة اعضائه وجوارحه وقواه وهو عار من شكرها ولوعرضت عليه الدنيا ما فيها بزوال واحدة منها لابي المعاوضة وعلم انها معاوضة غبن ان الانسان لظلوم كفور
فصل ثم تأمل حكمته في الاعضاء التي خلقت فيك آحادا ومثنى وثلاث
ورباع وما في ذلك من الحكم البالغة فالراس واللسان والانف والذكر خلق كل منهما واحدا فقط إذلا مصلحة في كونه اكثر من ذلك الا ترى انه لو اضيف إلى الراس راس آخر لاثقلا بدنه من غير حاجة إليه لان جميع الحواس التي يحتاج اليها مجتمعة في رأس واحد ثم ان الانسان كان ينقسم براسه قسمين فإن تكلم من احدهما وسمع به وابصر وشم وذاق بقي الاخر معطلا لا أرب فيه وإن تكلم وابصر وسمع بهما معا كلاما واحدا وسمعا واحدا وبصرا واحدا كان الاخر فضله لا فائدة فيه وإن اختلف إدراكهما اختلفت عليه احواله وإدراكاته وكذلك لو كان له لسانان في فم واحد فإن تكلم بهما كلاما واحدا كان احدهما ضائعا وان تكلم باحدهما دون الاخر فكذلك وان تكلم بهما معا كلامين مختلفين خلط على السامع ولم يدر باي الكلامين يأخذ وكذلك لو كان له هنوان وفمان لكان مع قبح الخلقة احدهما فضلة لا منفعة فيه وهذا بخلاف الاعضاء التي خلقت مثنى كالعينين والاذنين والشفتين واليدين والرجلين والساقين والفخذين والوركين والثديين فإن الحكمة فيها ظاهرة والمصلحة بينه والجمال والزينة عليها بادية فلو كان الانسان بعين واحدة لكان مشوه الخلقة ناقصها وكذلك الحاجبان وأما اليدان والرجلان والساقان والفخذان فتعددهما ضروري للانسان لا تتم مصلحته الا بذلك الا ترى من قطعت احدى يديه او رجليه كيف تبقى حاله وعجزه فلو ان النجار والخياط والحداد والخباز والبناء واصحاب الصنائع التي لا تتأتى الا باليدين شلت يد احدهما لتعطلت عليه صنعته فاقتضت الحكمة

ان اعطى من هذا الضرب من الجوارح والاعضاء اثنين اثني وكذلك اعطى شفتين لانه لا تكمل مصلحته إلا بهما وفيهما ضروب عديدة من المنافع ومن الكلام والذوق وغطاء الفم والجمال والزينة والقبلة وغير ذلك وأما الاعضاء الثلاثة فهي جوانب انفه وحيطانه وقد ذكرنا حكمة ذلك فيما تقدم واما الاعضاء الرباعية فالكعاب الاربعة التي هي مجمع القدمين والممسكة لهما وبهما قوة القدمين وحركتهما وفيهما منافع الساقين وكذلك اجفان العينين فيها من الحكم والمنافع انها غطاء للعينين ووقاية لهما وجمال وزينة وغير ذلك من الحكم فاقتضت الحكمة البالغة ان جعلت الاعضاء على ما هي عليه من العدد والشكل والهيئة فلو زادت او نقصت لكان نقصا في الخلقة ولهذا يوجد في النوع الانساني من زائد في الخلقة وناقص منها ما يدل على حكمة الرب تعالى وأنه لو شاء لجعل خلقه كلهم هكذا وليعلم الكامل الخلقة تمام النعمة عليه وانه خلق خلقا سويا معتدلا لم يزد في خلقه مالا يحتاج إليه ولم ينقص منه ما يحتاج إليه كما يراه في غيره فهو اجدر ان لم يزداد شكرا وحمدا لربه ويعلم ان ذلك ليس من صنع الطبيعة وإنما ذلك صنع الله الذي اتقن كل شيء خلقه وانه يخلق ما يشاء

فصل من اين للطبيعة هذا الاختلاف والفرق الحاصل في النوع الانسان
بين صورهم فقل ان يرى اثنان متشابهان من كل وجه وذلك من اندر ما في العالم بخلاف اصناف الحيوان كالنعم والوحوش والطير وسائر الدواب فإنك ترى السرب من الظباء والثلة من الغنم والذود من الابل والصوار من البقر تتشابه حتى لا يفرق بين واحد منهما وبين الاخر إلا بعد طول تأمل او بعلامة ظاهرة والناس مختلفة صورهم وخلقتهم فلا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة وخلقة واحدة بل ولا صوت واحد وحنجرة واحدة والحكمة البالغة في ذلك ان الناس يحتاجون إلى ان يتعارفوا بأعينهم وحلاهم لما يجرى بينهم من المعاملات فلولا الفرق والاختلاف في الصور لفسدت احوالهم وتشت نظامهم ولم يعرف الشاهد من المشهود عليه ولا المدين من رب الدين ولا البائع من المشتري ولا كان الرجل يعرف عرسه من غيرها للاختلاط ولا هي تعرف بعلها من غيره وفي ذلك اعظم الفساد والخلل فمن الذي ميز بين حلاهم وصورهم واصواتهم وفرق بينها بفروق لا تنالها العبارة ولا يدركها الوصف فسل المعطل اهذا فعل الطبيعة وهل في الطبيعة اقتضاء هذا الاختلاف والافتراق في النوع وأين قول الطبائعيين ان فعلها متشابه لانها واحدة في نفسها لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف افعالها فكيف يجمع المعطل بين هذا وهذا فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وربما وقع في النوع الانساني تشابه بين اثنين لا يكاد يميز بينهما فتعظم عليهم المؤنة في

معاملتهما وتشتد الحاجة إلى تمييز المستحق منهما والمؤاخذ بذنبه ومن عليه الحق وإذا كان هذا يعرض في التشابه في الاسماء كثيرا ويلقى الشاهد والحاكم من ذلك ما يلقى فما الظن لو وضع التشابه في الخلقة والصورة ولما كان الحيوان البهيم والطير والوحوش لا يضرها هذا التشابه شيئا لم تدع الحكمة إلى الفرق بين كل زوجين منها فتبارك الله احسن الخالقين الذي وسعت حكمته كل شيء

فصل ثم تأمل لم صارت المرأة والرجل إذا ادركا اشتركا في نبات
العانة ثم ينفرد الرجل عن المرأة باللحية فإن الله عز و جل لما جعل الرجل قيما على المرأة وجعلها كالخول له والعاني في يديه ميزه عليها بما فيه له المهانة والعز والوقار والجلالة لكماله وحاجته إلى ذلك ومنعتها المرأة لكمال الاستمتاع بها والتلذذ لتبقى نضارة وجهها وحسنه لا يشينه الشعر واشتراكا في سائر الشعور للحكمة والمنفعة التي فيها
فصل ثم تأمل هذا الصوت الخارج من الحلق وتهيئة آلاته والكلام
وانتظامه والحروف ومخارجها وأدواتها ومقاطعها واجراسها تجد الحكمة الباهرة في هواء ساذج يخرج من الجوف فيسلك في أنبوبة الحنجرة حتى ينتهي إلى الحلق واللسان والشفتين والاسنان فيحدث له هناك مقاطع ونهايات وأجراس يسمع له عند كل مقطع ونهاية جرس مبين منفصل عن الاخر يحدث بسببه الحرف فهو صوت واحد ساذج يجرى في قصبة واحدة حتى ينتهي إلى مقاطع وحدود تسمع له منها تسعة وعشرين حرفا يدور عليها الكلام كله امره ونهيه وخبره واستخباره ونظمه ونثرة وخطبه ومواعظه وفضوله فمنه المضحك ومنه المبكي ومنه المؤيس ومنه المطمع ومنه المخوف ومنه المرجي والمسلى والمحزن والقابض للنفس والجوارح والمنشط لها والذي يسقم الصحيح ويبرئ السقيم ومنه ما يزيل النعم ويحل النقم ومنه ما يستدفع به البلاء ويستجلب به النعماء وتستمال به القلوب ويؤلف به بين المتباغضين ويوالي به بين المتعاديين ومنه ما هو بضد ذلك ومنه الكلمة التي لا يلقى لها صاحبها بالا يهوى بها في النار ابعد ما بين المشرق والمغرب والكلمة التي لا يلقى لها بالا صاحبها يركض بها في أعلا عليين في جوار رب العالمين فسبحان من أنشأ ذلك كله من هواء ساذج يخرج من الصدر لا يدري ما يراد به ولا أين ينتهي ولا أين مستقره هذا إلى ما في ذلك من اختلاف الالسنة واللغات التي لا يحصيها الا الله فيجتمع الجمع من الناس من بلاد شتى فيتكلم كل منهم بلغته

فتسمع لغات مختلفة كلاما منتظما مؤلفا ولا يدري كل منهم ما يقول الاخر واللسان الذي هو جارحة واحد في الشكل والمنظر وكذلك الحلق والاضراس والشفتان والكلام مختلف متفاوت اعظم تفاوت فالاية في ذلك كالاية في الارض التي تسقى بماء واحد وتخرج مع ذلك من انواع النبات والازهار والحبوب والثمار تلك الانواع المختلفة المتباينة ولهذا اخبر الله سبحانه في كتابه ان في كل منهما آيات فقال ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف السنتكم والونكم إن في ذلك لايات للعالمين وقال وفي الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد الاية فانظر الان في الحنجرة كيف هي كالأنبوب لخروج الصوت واللسان والشفتان والاسنان لصياغة الحروف والنغمات الا ترى ان من سقطت اسنانه لم يقم الحروف التي تخرج منها ومن اللسان ومن سقطت شفته كيف لم يقم الراء واللام ومن عرضت له آفة في حلقه كيف لم يتمكن من الحروف الحلقية وقد شبه اصحاب التشريح مخرج الصوت بالمزمار والرئة بالزق الذي ينفخ فيه من تحته ليدخل الريح فيه والفضلات التي تقبض على الرئة ليخرج الصوت من الحنجرة بالاكف التي تقبض على الزق حتى يخرج الهواء في القصب والشفتين والاسنان التي تصوغ الصوت حروفا ونغما بالاصابع التي تختلف على المزمار فتصوغه الحانا والماقطع التي ينتهي اليها الصوت بالابخاش التي في القصبة حتى قيل ان المزمار إنما اتخذ على مثال ذلك من الانسان فإذا تعجبت من الصناعة التي تعملها اكف الناس حتى تخرج منها تلك الاصوات فما احراك بطول التعجب من الصناعة الالهية التي اخرجت تلك الحروف والاصوات من اللحم والدم والعروق والعظام ويا بعد ما بينهما ولكن المألوف المعتاد لا يقع عند النفوس موقع التعجب فإذا رأت مالا نسبة له إليه اصلا الا انه غريب عندها تلقته بالتعجب وتسبيح الرب تعالى وعندها من آياته العجيبة الباهرة ما هو اعظم من ذلك مما لا يدركه القياس ثم تأمل اختلاف هذه النغمات وتباين هذه الاصوات مع تشابه الحناجر والحلوق والالسنة والشفاة والاسنان فمن الذي ميز بينها أتم تمييز مع تشابه محالها سوى الخلاق العليم

فصل وفي هذه الالات مآرب اخرى ومنافع سوى منفعة الكلام ففي الحنجرة
مسلك النسيم البارد الذي يروح على الفؤاد بهذا النفس الدائم المتتابع وفي اللسان منفعة الذوق فتذاق به الطعوم وتدرك لذتها ويميز بها بينها فيعرف حقيقة كل واحد منها وفيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام وان يلوكه ويقلبه حتى يسهل مسلكه في الحلق وفي الاسنان من المنافع ما هو معلوم من تقطيع الطعام كما تقدم وفيها إسناد الشفتين وإمساكهما

عن الاسترخاء وتشويه الصورة ولهذا ترى من سقطت اسنانه كيف تسترخي شفتاه وفي الشفتين منافع عديدة يرشف بها الشراب حتى يكون الداخل منه إلى حلقه بقدر فلا يشرق به الشارب ثم هما باب مغلق على الفم الذي إليه ينتهي إليه ما يخرج من الجوف ومنه يبتدي ما يلج فهي فهما عطاء وطابق عليه يفتحهما البواب متى شاء ويغلقهما إذا شاء وهما ايضا جمال وزينة للوجه وفيهما منافع اخرى سوى ذلك وانظر إلى من سقطت شفتاه ما اشوه منظره وقد بان ان كل واحد من هذه الاعضاء يتصرف إلى وجوه شتى من المنافع والمآرب والمصالح كما تتصرف الاداة الواحدة في اعمال شتى هذا ولو رأيت الدماغ وكشف لك عن تركيبه وخلقه لرايت العجب العجاب وتكشف لك عن تركيب يحار فيه العقل قد لف بحجب وأغشيه بعضها فوق بعض لتصونه عن الاعراض وتحفظه عن الاضطراب ثم اطبقت عليه الجمجمة بمنزلة الخوذة وبيضة الحديد لتقيه حد الصدمة والسقطة والضربة التي تصل إليه فتتلقاها تلك البيضة عنه بمنزلة الخوذة التي على راس المحارب ثم جللت تلك الجمجمة بالجلد الذي هو فروة الراس يستر العظم من البروز للمؤذيات ثم كسيت تلك الفروة حلة من الشعر الوافر وقاية لها وسترا من الحر والبرد والاذى وجمالا وزينة له فسل المعطل من الذي حصن الدماغ هذا التحصين وقدره هذا التقدير وجعله خزانة اودع فيها من المنافع والقوى والعجائب ما اودعه ثم احكم سد تلك الخزانة وحصنها اتم تحصين وصانها اعظم صيانة وجعلها معدن الحواس والادراكات ومن الذي جعل الاجفان على العينين كالغشاء والاشفار كالاشراج والاهداب كالرفوف فوف عليها إذا فتحت ومن الذي ركب طبقاتها المختلفة طبقة فوق طبقة حتى بلغت عدد السموات سبعا وجعل لكل طبقة منفعة وفائدة فلو اختلت طبقة منها لاختل البصر ومن شقهما في الوجه احسن شق واعطاهما احسن شكل وأودع الملاحة فيهما وجعلهما مرآة للقلب وطليعة وحارسا للبدن ورائدا يرسله كالجند في مهماته فلا يتعب ولا يعيا على كثرة ظعنه وطول سفره ومن اودع النور الباصر فيه في قدر جرم العدسة فيرى فيه السموات والارض والجبال والشمس والقمر والبحار والعجائب من داخل سبع طبقات وجعلهما في أعلا الوجه بمنزلة الحارس على الرابية العالية ربيتة للبدن ومن حجب الملك في الصدور وأجلسه هناك على كرسي المملكة واقام جند الجوارح والاعضاء والقوى الباطنة والظاهرة في خدمته وذللها له فهي مؤتمرة إذا امرها منتهية إذا نهاها سامعة له مطيعةتكدح وتسعى في مرضاته فلا تستطيع منه خلاصا ولا خروجا عن امره فمنها رسوله ومنها بريده ومنها ترجمانه ومنها اعوانه وكل منها على عمل لا يتعداه ولا يتصرف في غير عمله حتى إذا أراد الراحة أوعز اليها بالهدو والسكون ليأخذ الملك راحته فإذا استيقظ من منامه قامت جنوده

بين يديه على اعمالها وذهبت حيث وجهها دائبة لا تفتر فلو شاهدته في محل ملكه والاشغال والمراسيم صادرة عنه وواردة والعساكر في خدمته والبرد تتردد بينه وبين جنده ورعيته لرأيت له شأنا عجيبا فماذا فات الجاهل الغافل من العجائب والمعارف والعبر التي لا يحتاج فيها إلى طول الاسفار وركوب القفار قال تعالى وفي الارض آيات للموقنين وفي انفسكم افلا تبصرون فدعا عباده إلى التفكر في أنفسهم والاستدلال بها على فاطرها وباريها ولولا هذا لم نوسع الكلام في هذا الباب ولا أطلنا النفس إلى هذه الغاية ولكن العبرة بذلك حاصلة والمنفعة عظيمة والفكرة فيه مما يزيد المؤمن ايمانا فكم دون القلب من حرس وكم له من خادم وكم له من عبيد ولا يشعر به ولله ما خلق له وهيأ له واريد منه وأعد له من الكرامة والنعيم او الهوان والعذاب فأما على سرير الملك في مقعد صدق عند مليك مقتدر ينظر إلى وجه ربه ويسمع خطابه وإما اسير في السجن الاعظم بين اطباق النيران في العذاب الاليم فلو عقل هذا السلطان ما هيأ له لضن بملكه ولسعى في الملك الذي لاينقطع ولا يبيد ولكنه ضربت عليه حجب الغفلة ليقضى الله امرا كان مفعولا
فصل ومن جعل في الحلق منفذين احدهما للصوت والنفس الواصل إلى الرئة
والاخر للطعام والشراب وهو المريء الواصل إلى المعدة وجعل بينهما حاجزا يمنع عبور احدهما في طريق الاخر فلو وصل الطعام من منفذ النفس إلى الرئة لاهلك الحيوان ومن جعل الرئة مروحة للقلب تروح عليه لا تنى ولا تفتر لكيلا تنحصر الحرارة فيه فيهلك ومن جعل المنافذ لفضلات الغذاء وجعل لها اشراجا تقبضها لكيلا تجرى جريا دائما فتفسد على الانسان عيشه ويمنع الناس من مجالسه بعضهم بعضا ومن جعل المعدة كأشد ما يكون من العصب لانها هيئت لطبخ الاطعمة وانضاجها فلو كانت لحما غضا لانطبخت هي ونضجت فجعلت كالعصب الشديد لتقوى على الطبخ والانضاج ولا تنهكها النار التي تحتها ومن جعل الكبد رقيقة ناعمة لانها هيئت لقبول الصفو اللطيف من الغذاء والهضم وعمل هو الطف من عمل المعدة ومن حصن المخ اللطيف الرقيق في انابيب صلبة من العظام ليحفظها ويصونها فلا تفسد ولا تذوب ومن جعل الدم السيال محبوسا محصورا في العروق بمنزلة الماء في الوعاء ليضبط فلا يجري ومن جعل الاظفار على اطراف الاصابع وقاية لها وصيانة من الاعمال والصناعات ومن جعل داخل الاذن مستويا كهيئة الكوكب ليطرد فيه الصوت حتى ينتهي إلى السمع الداخل وقد انكسرت حدة الهواء فلا ينكؤه وليتعذر على الهواء النفوذ إليه قبل ان يمسك وليمسك

ما عساه ان يغشاها من القذى والوسخ ولغير ذلك من الحكم ومن جعل على الفخذين والوركين من اللحم اكثر مما على سائر الاعضاء ليقيها من الارض فلا تألم عظامها من كثرة الجلوس كما يألم من قد نحل جسمه وقل لحمه من طول الجلوس حيث لم يحل بينه وبين الارض حائل ومن جعل ماء العينين ملحا يحفظها من الذوبان وماء الاذن مرا يحفظها من الذباب والهواء والبعوض وماء الفم عذبا يدرك به طعوم الاشياء فلا يخالطها طعم غيرها ومن جعل باب الخلاء في الانسان في استر موضع كما ان البناء الحكيم بجعل موضع التخلى في استر موضع في الدار وهكذا منفذ الخلاء من الانسان في استر موضع ليس بارزا من خلفه ولا ناشزا بين يديه بل مغيب في موضع غامض من البدن يلتقى عليه الفخذان بما عليهما من اللحم متواريا فإذا جاء وقت الحاجة وجلس الانسان لها برز ذلك المخرج للآرض ومن جعل الاسنان حدادا لقطع الطعام وتفصيله والاضراس عراضا لرضه وطحنه ومن سلب الاحساس الحيواني الشعور والاظفار التي في الادمي لانها قد تطول وتمتد وتدعو الحاجة إلى اخذها وتخفيفها فلو اعطاها الحس لالمته وشق عليه اخذ ما شاء منها ولو كانت تحس لوقع الانسان منها في إحدى البليتين اما تركها حتى تطول وتفحش وتثقل عليه وأما مقاساة الالم والوجع عند اخذها ومن جعل باطن الكف غير قابل لانبات الشعر لانه لو اشعر لتعذر على الانسان صحة اللمس ولشق عليه كثير من الاعمال التي تباشر بالكف ولهذه الحكمة لم يكن هن الرجل قابلا لانباته لانه يمنعه من الجماع ولما كانت المادة تقتضي إنباته هناك نبت حول هن الرجل والمرأة ولهذه الحكمة سلب عن الشفتين وكذا باطن الفم وكذا ايضا القدم اخمصها وظاهرها لانها تلاقي التراب والوسخ والطين والشوك فلو كان هناك شعر لأذى الانسان جدا وحمل من الارض كل وقت ما يثقل الانسان وليس هذا للانسان وحده بل ترى البهائم قد جللها الشعر كلها واخليت هذه المواضع منه لهذه الحكمة افلا ترى الصنعة الالهية كيف سلبت وجوه الخطأ والمضرة وجاءت بكل صواب وكل منفعةوكل مصلحة ولما اجتهد الطاعنون في الحكمة العائبون للخلقة فيما يطعنون به عابوا الشعور تحت الاباط وشعر العانة وشعر باطن الانف وشعر الركبتين وقالوا أي حكمة فيها واي فائدة وهذا من فرط جهلهم وسخافة عقولهم فإن الحكمة لا يجب ان تكون بأسرها معلومة للبشر ولا أكثرها بل لا نسبة لما علموه إلى ما جهلوه فيها لو قيست علوم الخلائق كلهم بوجوه حكمة الله تعالى في خلقه وأمره إلى ما خفي عنهم منها كانت كنقرة عصفور في البحر وحسب الفطن اللبيب ان يستدل بما عرف منها على ما لم يعرف ويعلم الحكمة فيما جهله منها مثلها فيما علمه بل اعظم وادق وما مثل هؤلاء الحمقى النوكي الا كمثل رجل لاعلم له بدقائق الصنائع

والعلوم من البناء والهندسة والطب بل ولاحياكة والخياطة والنجارة إذا رام الاعتراض بعقله الفاسد على اربابها في شيء من الاتهم وصنائعهم وترتيب صناعتهم فخفيت عليه فجعل كل ما خفي عليه منها شيء قال هذا لا فائدة فيه وأي حكمة تقتضيه هذا مع ان ارباب الصنائع بشر مثله يمكنه ان يشاركهم في صنائعهم ويفوقهم فيها فما الظن بمن بهرت حكمته العقول الذي لا يشاركه مشارك في حكمته كما لايشاركه في خلقه فلا شريك له بوجه فمن ظن ان يكتال حكمته بمكيال عقله او يجعل عقله عيارا عليها فما ادركه اقربه وما لم يدركه نفاه فهو من اجهل الجاهلين ولله في كل ما خفي على الناس وجه الحكمة فيه حكم عديدة لاتدفع ولا تنكر فاعلم الان ان تحت منابت هذه الشعور من الحرارة والرطوبة ما اقتضت الطبيعة إخراج هذه الشعور عليها الا ترى ان العشب ينبتفي مستنقع المياه بعد نضوب الماء عنها لما خصت به من الرطوبة ولهذا كانت هذه المواضع من ارطب مواضع البدن وهي اقبل لنبات الشعر وأهيأ فدفعت الطبيعة تلك الفضلات والرطوبات إلى خارج فصارت شعرا ولو حبست في داخل البدن لاضرته وآذت باطنه فخروجها عين مصلحة الحيوان واحتباسها إنما يكون لنقص وآفة فيه وهذا كخروج دم الحيض من المرأة فإنه عين مصلحتها وكمالها ولهذا يكون احتباسه لفساد في الطبيعة ونقص فيها الا ترى ان من احتبس عنه شعر الرأس واللحية بعد إبانه كيف تراه ناقص الطبيعة ناقص الخلقة ضعيف التركيب فإذا شاهدت ذلك في الشعر الذي عرفت بعض حكمته فمالك لاتعتبره في الشعر الذي خفيت عليك حكمته ومن جعل الريق يجري دائما إلى الفم لا ينقطع عنه ليبل الحلق واللهوات ويسهل الكلام ويسيغ الطعام قال بقراط الرطوبة في الفم مطية الغذاء فتأمل حالك عند ما يجف ريقك بعض الجفاف ويقل ينبوع هذه العين التي لا يستغنى عنه

فصل ثم تأمل حكمة الله تعالى في كثرة بكاء الاطفال وما لهم فيه
من المنفعة فإن الاطباء والطبائعيين شهدوا منفعة ذلك وحكمته وقالوا في أدمغة الاطفال رطوبة لو بقيت في أدمغتهم لاحدثت احداثا عظيمة فالبكاء يسيل ذلك ويحدره من ادمغتهم فتقوى ادمغتهم وتصح وأيضا فإن البكاء والعياط يوسع عليه مجاري النفس ويفتح العروق ويصابها ويقوى الاعصاب وكم للطفل من منفعة ومصلحة فيما تسمعه من بكائه وصراخه فإذا كانت هذه الحكمة في البكاء الذي سببه ورود الالم المؤذي وأنت لا تعرفها ولا تكاد تخطر ببالك فهكذا ايلام الاطفال فيه وفي اسبابه وعواقبه الحميدة من الحكم ما قد خفي على اكثر الناس واضطرب عليهم الكلام في حكمه اضطراب الارشية وسلكوا في هذا الباب مسالك فقالت

طائفة ليس الا محض المشيئة العارية عن الحكمة والغاية المطلوبة وسدوا على انفسهم هذا الباب جملة وكلما سئلوا عن شيء اجابوا بلا يسال عما يفعل وهذا من اصدق الكلام وليس المراد به نفي حكمته تعالى وعواقب افعاله الحميدة وغاياتها المطلوبة منها وإنما المراد بالاية إفراده بالالهية والربوبية وإنه لكمال حكمته لا معقب لحكمه ولا يعترض عليه بالسؤال لانه لا يفعل شيئا سدى ولا خلق شيئا عبثا وإنما يسأل عن فعله من خرج عن الصواب ولم يكن فيه منفعة ولا فائدة الا ترى إلى قوله ام اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون كيف ساق الاية في الانكار على من اتخذ من دونه آلهة لا تساويه فسواها به مع اعظم الفرق فقوله لا يسأل عما يفعل اثبات لحقيقة الالهية وإفراده له بالربوبية والالهية وقوله وهم يسألون في صلاح تلك الالهة المتخذة للالهية فإنهامسئولة مربوبة مدبرة فكيف يسوى بينها وبينه مع اعظم الفرقان فهذا الذي سيق له الكلام فجعلها الجبرية ملجأ ومعقلا في إنكار حكمته وتعليل أفعاله بغاياتها المحمودة وعواقبها السديدة والله الموفق للصواب وقالت طائفة الحكمة في ابتلائهم تعويضهم في الآخرة بالثواب التام فقيل لهم قد كان يمكن ايصال الثواب اليهم بدون هذا الايلام فأجابوا بأن توسط الايلام في حقهم كتوسط التكاليف في حق المكلفين فقيل لهم فهذا ينتقض عليكم بإيلام اطفال الكفار فأجابوا بأنا لا نقول انهم في النار كما قاله من قاله من الناس والنار لا يدخلها احد الا بذنب وهؤلاء لا ذنب لهم وكذا الكلام معهم في مسئلة الاطفال والحجاج فيها من الجانبين بما ليس هذا موضعه فأورد عليهم مالا جواب لهم عنه وهو إيلام اطفالهم الذين قدر بلوغهم وموتهم على الكفر فإن هذا لا تعويض فيه قطعا ولا هو عقوبة على الكفر فإن العقوبة لا تكون سلفا وتعجيلا فحاروا في هذا الموضع واضطربت اصولهم ولم يأتوا بما يقبله العقل وقالت طائفة ثالثة هذا السؤال لو تأمله مورده لعلم انه ساقط وأن تكلف الجواب عنه الزام مالا يلزم فإن هذه الالام وتوابعها وأسبابها من لوازم النشأة الانسانية التي لم يخلق منفكا عنها فهي كالحر والبرد والجوع والعطش والتعب والنصب والهم والغم والضعيف والعجز فالسؤال عن حكم الحاجة إلى الاكل عند الجوع والحاجة إلى الشرب عند الظمأ والى النوم والراحة عند التعب فإن هذه الالام هي من لوازم النشأة الانسانية التي لا ينفك عنها الانسان ولا الحيوان فلو تجرد عنها لم يكن انسانا بل كان ملكا او خلقا آخر وليست آلام الاطفال باصعب من آلام البالغين لكن لما صارت لهم عادة سهل موقعها عندهم وكم بين ما يقاسيه الطفل ويعانيه البالغ العاقل وكل ذلك من مقتضى الانسانية وموجب الخلقة فلو لم يخلق كذلك لكان خلقا آخر فيرى

ان الطفل اذا جاع او عطش او برد او تعب قد خص من ذلك بما لم يمتحن به الكبير فإيلامه بغير ذلك من الاوجاع والاسقام كإيلامه بالجوع والعطش والبرد والحردون ذلك او فوقه وما خلق الانسان بل الحيوان الا على هذه النشأة قالوا فإن سأل سائل وقال فلم خلق كذلك وهلا خلق خلقة غير قابلة للألم فهذا سؤال فاسد فإن الله تعالى خلقه في عالم الابتلاء والامتحان من مادة ضعيفة فهي عرضة للآفات وركبة تركيبا معرضا للأنواع من الالام وجعل فيه الاخلاط الاربعة التي لا قوام له إلا بها ولا يكون الا عليها وهي لا محالة توجب امتزاجا واختلاطا وتفاعلا يبغى بعضها على بعض بكيفيته تارة وبكميته تارة وبهما تارة وذلك موجب للالام قطعا ووجود الملزوم بدون لازمه محال ثم انه سبحانه ركب فيه من القوى والشهوة والارادة ما يوجب حركته الدائبة وسعيه في طلب ما يصلحه دفع ما يضره بنفسه تارة وبمن يعينه تارة فاحوج النوع بعضه إلى بعض فحدث من ذلك الاختلاط بينهم وبغى بعضهم على بعض فحدث من ذلك الالام والشرور بنحو ما يحدث من امتزاج اخلاطه واختلاطها وبغى بعضها على بعض والالام لا تتخلف عن هذا الامتزاج ابدا الا في دار البقاء والنعيم المقيم لا في دار الابتلاء والامتحان فمن ظن ان الحكمة في ان تجعل خصائص تلك الدار في هذه فقد ظن باطلا بل الحكمة التامة البالغة اقتضت ان تكون هذه الدار ممزوجة عافيتها ببلائها وراحتها بعنائها ولذتها بآلامها وصحتها بسقمها وفرحها بغمها فهي دار ابتلاء تدفع بعض آفاتها ببعض كما قال القائل :
اصبحت في دار بليات ... ادفع آفات بآفات ولقد صدق فإنك إذا فكرت في الاكل والشرب واللباس والجماع والراحة وسائر ما يستلذ به رأيته يدفع بها ما قابله من الالام والبليات افلا تراك تدفع بالاكل الم الجوع وبالشرب الم العطش وباللباس الم الحر والبرد وكذا سائرها ومن هنا قال بعض العقلاء ان لذاتها لنا هي دفع الالام لا غير فاما اللذات الحقيقية فلها دار اخرىومحل آخر غير هذه فوجود هذه الالام واللذات الممتزجة المختلطة من الادلة على المعاد وأن الحكمة التي اقتضت ذلك هي اولى باقتضاء دارين دار خالصة للذات لا يشوبها الم ما ودار خالصة للالام لا يشوبها لذة ما والدار الاولى الجنةوالدار الثانية النار أفلا ترى كيف دلك ذلك مع ما انت مجبول عليه في هذه النشأة من اللذة والالم على الجنة والنار ورايت شواهدهما وأدلة وجودهما من نفسك حتى كأنك تعاينهما عيانا وانظر كيف دل العيان والحس والوجود على حكمة الرب تعالى وعلى صدق رسله فيما اخبروا به من الجنة والنار فتأمل كيف قاد النظر في حكمة الله إلى شهادة العقول والفطر بصدق رسله وما اخبروا

به تفصيلا يدل عليه العقل مجملا فأين هذا من مقام من اداء علمه إلى المعارضة بين ما جاءت به الرسل وبين شواهد العقل وأدلته ولكن تلك العقول كادها باريها ووكلها إلى انفسها فحلت بها عساكر الخذلان من كل جانب وحسبك بهذا الفصل وعظيم منفعته من هذا الكتاب والله المحمود المسؤل تمام نعمته فهذه كلمات مختصرة نافعة في مسألة إيلام الاطفال لعلك لا تظفر بها في أكثر الكتب فارجع الان إلى نفسك وفكر في هذه الافعال الطبيعية التي جعلت في الانسان وما فيها من الحكمة والمنفعة وما جعل لكل واحد منها في الطبع المجرد والداعي الذي يقتضيه ويستحثه فالجوع يستحث الاكل ويطلبه لما فيه من قوام البدن وحياته ومماته والكرى يقتضى النوم ويستحثه لما فيه من راحة البدن والاعضاء واجمام القوى وعودها الىقوتها جديدة غير كالة والشبق يقتضي الجماع الذي به دوام النسل وقضاءالوطر وتمام اللذة فتجد هذه الدواعي تستحث الانسان لهذه الامور وتتقاضاها منه بغير اختياره وذلك عين الحكمة فإنه لو كان الانسان إنما يستدعي هذه المستحثات إذا اراد لأوشك ان يشتغل عنها بماي يعروه من العوارض مدة فينحل بدنه ويهلك ويترامى إلى الفساد وهو لا يشعر كما إذا احتاج بدنه إلى شيء من الدواء والصلاح فدافعه وأعرض عنه حتى إذا استحكم به الداء اهلكه فاقتضت حكمة اللطيف الخبير ان جعلت فيه بواعث ومستحثات تؤزه ازا إلى ما فيه قوامه وبقاؤه ومصلحته وترد عليه بغير اختياره ولا استدعائه فجعل لكل واحد من هذه الافعال محرك من نفس الطبيعة يحركه ويحدوه عليه ثم انظر إلى ما يعطيه من القوى المختلفة التي بها قوامه فأعطى القوة الجاذبة الطالبة المستحثة التي تقتضي معلومها من الغذاء فتأخذه ويورده على الاعضاء بحسب قبولها ثم اعطى القوة الممسكة التي تمسك الطعام وتحبسه ريثما تنضجه الطبيعة وتحكم طبخه وتهيؤه لمصارفه وتبعثه لمستحقه ثم اعطى القوة الهاضمة التي تصرفه في البدن وتهضمه عن المعدة ثم اعطى القوة الدافعة وهي التي تدفع ثقله ومالا منفعة فيه فتدفعه وتخرجه عن البدن لئلا يؤذيه وينهكه فمن اعطاك هذه القوة عند شدة حاجتك اليها ومن جعلها خادما لك ومن اعطاها افعالها واستعمل كل واحد منها على غير عمل الاخر ومن الف بينها على تباينها حتى اجتمعت في شخص واحد ومحل واحد ولو عادى بينها كان بعضها يذهب بعضا فمن كان يحول بينه وبين ذلك فلولا القوة الجاذبة كيف كنت متحركا لطلب الغذاء الذي به قوام البدن ولولا الممسكة كيف كان الطعام يذهب في الجوف حتى تهضمه المعدة ولولا الهاضمة كيف كان يطبخ حتى يخلص منه الصفو إلى سائر اجزاء البدن وأعماقه ولولا الدافعة كيف كان الثقل المؤذي القاتل لو انحبس يخرج اولا فأولا فيستريح البدن فيخف

وينشط فتأمل كيف وكلت هذه القوة بك والقيام بمصالحك فالبدن كدار اللملك فيها حشمه وخدمه قد وكل بتلك الدار اقواما يقومون بمصالحها فبعضهم لاقتضاء حوائجها وإيرادها عليها وبعضهم لقبض الوارد وحظفه وخزنه إلى ان يهيأ ويصلح وبعضهم يقبضه فيهيؤه ويصلحه ويدفعه إلى اهل الدار ويفرقه عليهم بحسب حاجاتهم وبعضهم لمسح الدار وتنظيفها وكنسها من المزابل والاقذارفالملك هو الملك الحق المبين جل جلاله والدار انت والحشم والخدم الاعضاء والجوارح والقوام عليها هذه القوى التي ذكرناها تنبيه فرق بين نظر الطبيب والطبائعي في هذه الامور فنظرهما فيهامقصور على النظر في حفظ الصحة ودفع السقم فهو ينظر فيهامن هذه الجهة فقط وبين نظر المؤمن العارف فيها فهو ينظر فيها من جهة دلالتها على خالقها وباريها وماله فيها من الحكم البالغة والنعم السابغة والالاء التي دعا العباد إلى شكرها وذكرها
تنبيه ثم تأمل حكمة الله عز و جل في الحفظ والنسيان الذي خص به نوع الانسان وماله فيهما من الحكم وما للعبد فيهما من المصالح فإنه لولا القوة الحافظة التي خص بها لدخل عليه الخلل في أموره كلها ولم يعرف ماله وما عليه ولا ما اخذ ولا ما اعطى ولا ما سمع ورأى ولا ما قال ولا ما قيل له ولا ذكر من احسن إليه ولا من اساء إليه ولا من عامله ولا من نفعه فيقرب منه ولا من ضره فينأى عنه ثم كان لايهتدي إلى الطريق الذي سلكه اول مرة ولو سلكه مرارا ولا يعرف علما ولو درسه عمره ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع ان يعتبر شيئا على ما مضى بل كان خليقا ان ينسلخ من الانسانية اصلا فتأمل عظيم المنفعة عليك في هذه الخلال وموقع الواحدة منها فضلا عن جميعهن ومن اعجب النعم عليه نعمة النسيان فإنه لولا النسيان لما سلا شيئا ولا انقضت له حسرة ولا تعزى عن مصيبة ولا مات له حزن ولا بطل له حقد ولا تمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الافات ولا رجا غفلة عدو ولا نقمة من حاسد فتأمل نعمة الله في الحفظ والنسيان مع اختلافهما وتضادهما وجعله في كل واحد منهما ضربا من المصلحة تنبيه ثم تأمل هذا الخلق الذي خص به الانسان دون جميع الحيوان وهو خلق الحياء الذي هو من افضل الاخلاق واجلها واعظمها قدرا واكثرها نفعا بل هو خاصة الانسانية فمن لا حياء فيه ليس معه من الانسانية الا اللحم والدم وصورتهم الظاهرة كما انه ليس معه من الخير شيء ولولا هذاالخلق لم يقر الضيف ولم يوف بالوعد ولم يؤد امانة ولم يقض لاحد حاجة ولا تحرى الرجل الجميل فآثره والقبيح فتجنبه ولا ستر له عورة ولا امتنع من فاحشة وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤد شيئا من الامور المفترضة عليه ولم يرع لمخلوق

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5