كتاب : مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

وحاله ويبقى هدفا لسهام الطيرة ويساق إليه من كل أوب ويقيض له الشيطان من ذلك ما ما يفسد عليه دينه ودنياه وكم هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة فأين هذا من الفأل الصالح السار للقلوب المؤيد للآمال الفاتح باب الرجاء المسكن للخوف الرابط للجاش الباعث على الاستعانة بالله والتوكل عليه والاستبشار المقوى لأمله السار لنفسه فهذا ضد الطيرة فالفأل يفضي بصاحبه إلى الطاعة والتوحيد والطيرة تفضي بصاحبها إلى المعصية والشرك فلهذا استحب صلى الله عليه و سلم الفأل وأبطل الطيرة وأما حديث اللقحة ومنع النبي صلى الله عليه و سلم حربا ومرة من حلبها وأذنه ليعيش في حلبها فليس هذا بحمد الله في شيء من الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويبطله ثم يتعاطاه هو وقد أعاذه الله سبحانه من ذلك قال أبو عمر ليس هذا عندي من باب الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله وإنما هو من طلب الفال الحسن وقد كان أخبرهم عن أقبح الأسماء أنه حرب ومرة فأكد ذلك حتى لا يتسمى بها أحد ثم ساق من طريق ابن ربيعة عن جعفر بن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن عامر اليحصبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن واصدقها حارث وهمام حارث يحرث لأبنائه وهمام يهم بالخير وكان يكره الإسم القبيح لأنه كان يتفاءل بالحسن من الأشياء ثم ساق من طريق ابن وهب حدثني ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن عبد الرحمن بن جبير عن يعيش الغفاري قال دعا النبي صلى الله عليه و سلم يوما بناقة فقال من يحلبها فقام رجل فقال أنا فقال ما اسمك قال مرة قال اقعد ثم قام آخر فقال ما اسمك قال جمرة قال اقعد ثم قام رجل فقال ما اسمك قال يعيش قال احلبها وروى حماد بن سلمة عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا توجه لحاجة يحب أن يسمع يانجيح يا راشد يا مبارك وقد روى من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يتطير من شيء ولكن كان إذا سال عن اسم الرجل فكان حسنا رؤى البشاشة في وجهه وإن كان سيئا رؤى ذلك في وجهه وإذا سأل عن اسم الأرض وكان حسنا رؤى ذلك فيه قلت الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا عبدالصمد حدثنا هشام عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يتطير من شيء ولكنه إذا أراد أن يأتي ارضا سال عن اسمها فإن كان حسنا رؤى ذلك في وجهه وكان إذا بعث رجلا سأل عن اسمه فإن كان حسن الإسم رؤى البشر في وجهه وإن كان قبيحا رؤى ذلك في وجهه وقال ابو عمر حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير بن حسين بن حريث ابن عبد الله بن بريده عز الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يتطير ولكن كان يتفاءل فركب بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني أسلم فتلقى النبي صلى الله عليه و سلم ليلا فقال له النبي صلى الله عليه و سلم من أنت قال أنا بريدة فالتفت إلى أبي بكر قال يا أبا بكر

برد أمرنا وصلح ثم قال ممن قال من أسلم قال لأبى بكر سلمنا ثم قال ممن قال من بنى سهم قال خرج سهمنا قال أحمد بن زهير قال أنا أبو عمار سمعت أو كما يحدث هذا الحديث بعد ذلك عن أخيه سهل بن عبدالله عن أبيه عبدالله بن بريدة فأعدت ثلاثا من حدثك قال سهل أخي والذي يكشف أمر حديث اللقحة مازاده ابن وهب في جامعه الحديث فقال بعد أن ذكره فقام عمر بن الخطاب فقال أتكلم يا رسول الله أم أصمت قال بل أصمت وأخبرك بما أردت ظننت يا عمر أنها طيرة ولا طير إلا طيره ولا خير إلا خيره ولكن أحب الفأل الحسن فزال بذلك تعلق المتطيرين بن ووضح أمر الحديث والحمد لله رب العالمين 00 ويمكن أن يكون هذا منه صلى الله عليه و سلم على سبيل التأديب لأمته لئلا يتسموا بالأسماء القبيحة وليبادر من أسلم منهم وله اسم قبيح إلى إبداله بغيره من غير إيجاب منه ولا إلزام ولكن لوجهين من الاستحباب :
أحدهما انتقالهم عن مذاهب آبائهم ومقاصد سلفهم الفاسدة القبيحة التي يحزن بها بعضهم بعضا عند سماعها وموافاة أهلها ومخالطتهم ومفاجأتهم لما يبقى في ذلك من آثار الطيرة الكامنة في الغريزة فإن سلم العبد منها وجاهد نفسه كليها عند لقيا صاحبها وسماعه لاسم أخيه لم يسلم من الكمد وحزن القلب وقد يؤدى ذلك إلى البغضاء وإلى ضرب من النفرة والتفرقة كالصديق يدعوه الصديق القبيح الاسم فقد يتمنى خاطره أنه لم يصحبه ولا رآه ولا سمع اسمه حتى إذا طمع به ودعاه ذو الاسم الحسن ابتهج أليه وأقبل عليه وسر بصياحه ودعائه له لراحة قلبه إلى حسن اسمه فقد يدعو البعيد من قلبه ويبعد الصديق من نفسه من أجل اسمه فكيف به إذا رآه من يومه وعبرله تعبير السوء من اشتقاق اسمه كيف يعود متمنيا لفقده في رقاده متكرها للقائه متطيرا لرؤيته وهذا ضد التوادد والتراحم والتوالف الذي قصد الشارع ربطه بين المؤمنين فكره صلى الله عليه و سلم لأمته مقامها على حالة يؤذى بها بعضهم بعضا لغير عذر ولا فائدة تعود عليهم لا في الدينا ولا في الآخر ويؤدى هذا إلى التقاطع والتنافر مع أنه صلى الله عليه و سلم قد ندبهم واستحب لهم إدخال أحدهم السرور على أخيه المسلم ما استطاع ودفع الأذى والمكروه عنه فقال لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم وقد أمرهم يوم الجمعة بالغسل والطيب عند اجتماعهم لئلا يؤذى بعضهم بعضا برائحته التي انما يتجشمها ساعة للاجتماع ثم يفترقا ومنع آكل الثوم والبصل من دخول المسجد لأجل تأذى الناس والملائكة به ومنع الاثنين أن يتناجيا دون صاحبهما خشية تأذيه وحزنه ومنع أحدهم أن يأكل متاع أخيه لاعبا لأن ذلك يؤذيه ومعلوم أن ضرر الاسم القبيح على كثير منهم عليه عند همه وخروجه من منزله ورؤية صاحبه في منامه ودعائه من برائحة الثوم والبصل وهذا من كمال رأفته ورحمته صلى الله عليه و سلم بالمؤمنين وعزة ما عنتوا

عليه ولهذا والله أعلم غير كثيرا من الأسماء القبيحة بأحسن منها وغير أسماء حسنة إلى غيرها خشية الطيرة والتأذى عند نفيها والخروج من عند المسمى أو لتضمنها تزكية النفس ونحوها فالأول كغيره اسم الحباب بن المنذر بعبد الرحمن وقال الحباب اسم الشيطان وغير أبا مرة إلى أبى حلوة وغير أبا المعاصي إلى مطيع وغير عاصية بجميلة وغير أسم بنى الشيطان إلى بنى عبدالله وغير اسم أصرم إلى اسم زرعة وغير اسم حزن جد سعيد بن المسيب إلى سهل فأبى قبول ذلك فلزمه مسمى اسمه من الحزونة له ولذريته 00
وقال أبو داود وغير النبي صلى الله عليه و سلم اسم العاص وعزير وعقلة والشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب فسماه هشاما وسمى حربا سلما وسمى المضطجع المنبعث وأرضا اسمها عفرة سماها خضرة وشعب الضلالة سماه شعب الهدى وبنو الزنية سماهم بنى الرشدة وسمى بنى مغويه بنى رشدة قال أبو داود تركت أسانيدها للاختصار 00 وقال مسروق لقيت عمر فقال من أنت فقلت مسروق بن الأجدع فقال عمر سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول الأجدع شيطان وأما الثاني ففي صحيح مسلم عن سمرة قال قال رسول الله صلى وعليه وسلم لاتسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول اثم هو فيقال لا وغير اسم برة بزينب وكره أن يقال خرج من عند برة وأما الثالث فكتغييره أبا الحكم بأبي شريح وتفسيره أيضا برة بزينب وقال لا تزكوا أنفسكم فروى مسلم في صحيحه عن محمد ابن عمرو بن عطاء أن زينب بنت أبى سلمة سألته ما سميت بنتك قال سميتها برة فقالت إن رسول الله صلى عليه وسلم نهى عن هذا الاسم وسميت برة فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم فقالوا ما نسميها قال سموها زينب ومن هذا ما في الصحيحين عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أن أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله قال سفيان بن عيينة مثل شاهان شاه وذكر وهب أن رسول الله عليه وسلم أتى بغلام فقال ما سميتم هذا قالوا السائب فقال لا تسموه السائب ولكن سموه عبد الله قال فغلبوا على اسمه فلم يمت حتى ذهب عقله فإن قيل فقد كان لرسول الله صلى الله عليه و سلمغلام اسمه رباح وكان لأبى أيوب غلام اسمه أفلح ولعبد الله بن عمر غلام اسمه رباح قيل هذا النهى من النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن على وجه العزيمة والحتم ولكن كان على جهة الكراهة والدليل عليه ما روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده حزن أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له ما اسمك قال حزن فقال أنت سهل لا أغير اسما سمانية أبى فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه و سلم ولا أخبره أن ذلك معصية بل سكت عنه وكذلك لما غير اسم السائب فأبوا تغييره لم ينكر عليهم وأيضا فروى مسلم في صحيحه من حديث أبى الزبير عن جابر قال أراد النبي صلى الله عليه و سلم أن ينهى أن يسمى بيعلى وبركة وأفلح ويسار ونافع ونحو ذلك ثم رأيته سكت

بعد عنها فلم يقل شيئا ثم قبض ولم ينه عن ذلك ثم أراد عمر رضى الله عنه أن ينهى عن ذلك ثم تركه ورأيت لبعضهم في الفرق بين الفأل والطيرة كلاما ما أذكره بلفظه قال أما ما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتفاءل ولا يتطير فهما وإن كان معناها واحد في الاستدلال فبينهما افتراق لأن الفأل إبانة والتطير استدلال والإبانة أكثر واشهر وأوضح وأفصح لأن من كان في قلبه وضميره شيء فسمع قائلا يقول أقبل الخير وامض بسلام أو أبشر أو نحو ذلك فقد اكتفى بما سمع من الاستدلال والذي يرى طائرا يصيح أو ينوح فليس معه إلى الاستدلال على اليمن بالسانح والشؤم بالبارح وهذا أمر قد يكون وقد لا يكون وذلك الفأل في الأعم يكون وقال آخرون إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يتطير أي لم يكن يسند الأمور الكائنة من الخير والشر إلى الطير كما يفعل الكهنة وقال آخرون إن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا جلس مع أصحابه فتكلم أحدهم بخير أو سمع من تكلم حصهم عليه وعرفهم به ومعلوم أنه لا بد لطائر أن يمر سانحا أو بارحا أو قعيدا أو ناطحا فلا يوقفهم عليه ولا يعرفهم به إذ ذلك من فعل الكهان وكان الحديث المروى عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان يتفاءل ولا يتطير من هذا المعنى وقد أغنى الله رسوله صلى الله عليه و سلم باخباره بارسال جبريل إليه بما يحدثه سبحانه من الاستدلال على أحداثه بالأشياء التي ينظر فيها غيره تفرقة منه سبحانه بين النبوة وغيرها فان قيل فهذا الذي نزل بهذين الرجلين وهما السائب وحزن هل كان من أجل اسمهما أم من جهة غير الاسم قيل قد يظن من لا ينعم النظر أن الذي نزل بهما هو من جهة اسميهما ويصحح بذلك امر الطيرة وتأثيرها ولو كان كما ظنوه لوجب أن ينزل بجميع من تسمى باسميهما من أول الدهر ولكان اقتضاء الاسم لذلك كاقتضاء النار الإحراق والماء والتبريد ونحوه ولكن يحمل ذلك والله أعلم على أن الأمرين الجاريين عليهما قد تقدما في أم الكتاب كما تقدم لهما أيضا أن يتسميا باسميهما إلى أن يختار لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم وغيرهما فيرغبون عن اختياره ويتخلفون عن استجابته فيعاقبا بما قد سبق لهما عقوبة تطابق اسمهما ليكون ذلك زاجرا لمن سواهما وقد يكون خوفه صلى الله عليه و سلم على اهل الأسماء المكروهة أيضا من مثل هذه الحوادث إذ قد تنزل بالإنسان بلا مشيئة بما في اسمه فيظن هو أو جميع من بلغه أن ذلك كان من أجل اسمه عاد عليه بشؤمه فيعصي الله عز و جل وقد كره قوم من الصحابة والتابعين أن يسموا عبيدهم عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد الملك ونحوه ذلك مخافة أن يعتقهم ذلك قال سعيد بن جبير كنت عند ابن عباس سنة لا أكلمه ولا أعرفه ولا يعرفني حتى أتاه يوما كتاب من امرأة من أهل العراق فدعا غلمانه فجعل يكني عن عبيد الله وعبد الله واشباهم ويدعو يا مخراق يا وثاب وروى أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم

قال كانوا يكرهون أن يسمى الرجل غلامه عبد الله مخافة أن ذلك يعتقه وروى مغيرة عن ابي معشر عن إبراهيم أنه كره أن يسمى مملوكه عبد وعبيد الله وعبد الملك وعبد الرحمن واشباهه مخافة العتق قال بعض أهل العلم كراهتهم لذلك نظير ما كره رسول الله صلى الله عليه و سلم من تسمية المماليك برباح ونافع وأفلح لأن ذلك كان منه صلى الله عليه و سلم حذرا من أن يقال أهاهنا نافع فيقال لا أو أثم أفلح فيقال لا أو بركة أو يسار أو رباح فيقال لا ومعلوم إن السائل عن انسان إسمه أفلح أو نافع أو رباح هل هو في مكان كذا إنما مسئلة تلك عن مسمى شخص من أشخاص بني آدم سمى باسم جعل عليه دليلا يعرف به إذا ذكر إذا كانت الأسماء العوارى المفرقة بين الأشخاص المتشابهة إنما هي أدلة المسمين بها لا مسالة عن شخص صفته النفع والفلاح والبركة وذلك من كراهته صلى الله عليه و سلم نظير كراهته تسمية تلك المرأة برة فحول إسمها جويرية وتحويله اسم أرض كان اسمها عفرة فردها خضرة ونحو ذلك كثير ومعلوم أن تحويله ما حول من هذه الأسماء عما كان عليه لم يكن لأن التسمية بما كان المسمى به منهم مسمى قبل تحويله ذلك كان حرام التسمية ولكن كان ذلك منه وعلى وجه الإستحباب واختيار الأحسن على الذي هو دونه في الحسن إذ كان لا شيء في القبيح من الأسماء إلا وفي الجميل الحسن منها مثله من الدلالة على المسمى به مع تخير الأحسن بفضل الحسن والجمال من غير مؤنة تلزم صاحبه بسبب التسمى وكذلك كراهة من كره تسمية مملوكه عبد الله وعبد الرحمن إنما كانت كراهة ذلك حذرا أن يوجب ذلك له العتق ولا شك أن جميع بني آدم عبيد الله أحرارهم وعبيدهم وصفهم بذلك واصف أو لم يصفهم ولكن الذين كرهوا التسمية بذلك صرفوا هذه الأسماء عن رقيقهم لئلا يقع اللبس على السامع بذلك من اسمائهم فيظن أنهم أحرار إذ كان استعمال أكثر الناس التسمية بهذه الاسماء في الأحرار فتجنبوا ذلك إلى ما يزيل اللبس عنهم من أسماء المماليك والله أعلم

فصل وأما الأثر الذي ذكره مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال لرجل ما اسمك قال جمرة الحديث إلى آخره فالجواب عنه أنه ليس بحمد الله فيه شيء من الطيرة وحاشا أمير المؤمنين رضي الله عنه من ذلك وكيف يتطير وهو يعلم أن الطيرة شرك من الجبت وهو القائل في حديث اللقحة ما تقدم ولكن وجه ذلك والله أعلم أن هذا القول كان منه مبالغة في الإنكار عليه لاجتماع أسماء النار والحريق في اسمه واسم أبيه وجده وقبيلته وداره ومسكنه فوافق قوله اذهب فقد احترق منزلك وقدرك ولعل قوله كان السبب وكثيرا ما يجري مثل هذا لمن هو دون عمر بكثير فكيف بالمحدث الملهم الذي ما قال لشيء اني

لأظنه كذا إلا كان كما قال وكان يقول الشيء ويشير به فينزل القرآن بموافقته فاذا نزل الأمر الديني بموافقة قوله فكذلك وقوع الأمر الكوني القدرى موافقا لقوله ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول قد كان في الأمم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي أحد منهم فعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون وفي صحيح البخارى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد كان فيمن كان قبلكم من بني اسرائيل رجال يعلمون من غير أن يكونوا أنبياء فان يكن في أمتي منهم أحد فعمر وفي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه قال وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي اساري بدر وفي صحيح البخاري عن أنس قال قال عمر وافقني الله في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه و سلم بعض نسأله فدخلت عليهن فقلت ان انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتيت أحدى نسائه فقالت يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله عز و جل عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن الآية وفي الصحيحين أنه لما قام صلى الله عليه و سلم ليصلى على عبد الله بن أبي بن أبي سلول رأس المنافقين قام عمر فأخذ ثوبه وقال يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما خيرني الله فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيد على السبعين وصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فترك الصلاة عليهم فإذا كانت هذه موافقة عمر لربه في شرعه ودينه وينطق بالشيء فيكون هو المأمور المشروع فكذلك لا يبعد موافقته له تعالى في قضائه وقدره ينطق بالشيء فيكون هو المقضى المقدور فهذا لون والطيرة لون وكذلك جرى له تطير مع رجل آخر ساله عن اسمه فقال ظالم فقال ابن من قال ابن سارق قال تظلم أنت ويسرق أبوك وذكر المدائني عن أبي صفرة وهو أبو المهلب أنه ابتاع سلعة بتأخير من رجل من بني سعد فأراد أن يشهد عليه فقال له ما اسمك قال ظالم قال ابن من قال ابن سراق قال لا والله لا يكون عليك شيء أبدا
فصل وأما محبة النبي صلى الله عليه و سلم التيمن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله
فليس هذا من باب الفأل ولا التطير بالشمال في شيء ولكن تفضيل اليمين على الشمال فكان يعجبه

أن يباشر الافعال التي هي من باب الكرامة باليمين كالأكل والشرب والأخذ والعطاء وضدها بالشمال كالاستنجاء وامساك الذكر وإزالة النجاسة فإن كان الفعل مشتركا بين العضوين بدأ باليمين في افعال التكريم وأماكنه كالوضوء ودخول المسجد وباليسار في ضد ذلك كدخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوه والله تعالى فضل بعض مخلوقاته على بعض وفضل بعض جوارح الإنسان وأعضائه على بعض ففضل العين على الكعب والوجه على الرجل وكذلك فضل اليد اليمين على اليسار وخلق خلقه صنفين سعداء وجعلهم أصحاب اليمين وأشقياء وجعلهم أصحاب الشمال وقال النبي صلى الله عليه و سلم المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا وفي الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم لما أسرى به رأى آدم في سماء الدنيا وإذا عن يمينه اسودة وعن يساره اسودة فإذا نظر قبل يمينه عنه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا آدم وهذه الاسودة عن يمينه ويساره بنوه فأهل اليمين أهل السعادة من ذريته وأهل اليسار أهل الشقاوة وفي المسند عن عائشة قالت كانت يد رسول الله صلى الله عليه و سلم اليمين لطهوره وطعامه وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى وفي المسند أيضا وسنن أبي داود عن حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه و سلم كان يجعل يمينه لطعامه ويجعل شماله لما سوى ذلك وقال أحمد كانت يمينه لطعامه وطهوره وصلاته وشأنه وكانت شماله لما سوى ذلك
فصل وأما قوله صلى الله عليه و سلم الشؤم في ثلاث الحديث فهو حديث صحيح من رواية
ابن عمر وسهل بن سعد ومعاوية بن حكيم وقد روى أن أم سلمة كانت تزيد السيف يعني في حديث الزهرى عن حمزة وسالم عن أبيهما في الشؤم وقد اختلف الناس في هذا الحديث وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تنكر أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه و سلم وتقول إنما حكاه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أهل الجاهلية وأقوالهم فذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم عن سعيد عن قتادة عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة وقالا إن أبا هريرة يحدث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة فطارت شقة منها في السماء وشقة في الارض ثم قالت كذب والذي أنزل الفرقان على ابي القاسم من حدث عنه بهذا ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول كان أهل الجاهلية يقولون ان الطيرة في المرأة والدار والدابة ثم قرأت عائشة ما اصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن في ذلك على الله يسير قال أبو عمر وكانت عائشة

تنفي الطيرة ولا تعتقد منها شيئا حتى قالت لنسوة كن يكرهن البناء بأزواجهن في شوال ما تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا في شوال وما دخل بي إلا في شوال فمن كان احظى مني عنده وكان تستحب أن يدخلن على أزواجهن في شوال قال أبو عمر وقولها في أبي هريرة كذب فإن العرب تقول كذبت بمعنى غلطت فيما قدرت وأوهمت فيما قلت ولم تظن حقا ونحو هذا وذلك معروف من كلامهم موجود في أشعارهم كثيرا قال أبو طالب :
كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن الا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبري محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وقال شاعر من همدان :
كذبتم وبيت الله لا تأخذونه ... مراغمة مادام للسيف قائم
وقال زفر بن الحارث العبسي :
أفي الحق إما بحدل وابن بحدل ... فيحي وأما ابن الزبير فيقتل
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... ولما يكن أمر أغر محجل
قال ألا ترى أن هذا ليس من باب الكذب الذي هو ضد الصدق وإنما هو من باب الغلط وظن ما ليس بصحيح وذلك أن قريشا زعموا أنهم يخرجون بني هاشم من مكة ان لم يتركوا جوار محمد صلى الله عليه و سلم فقال لهم أبو طالب كذبتم أي غلطتم فيما قلتم وظننتم وكذلك معنى قول الهمداني والعبسي وهذا مشهور في كلام العرب قلت ومن هذا قول سعيد بن جبير كذب جابر بن زيد يعني في قوله الطلاق بيد السيد أي أخطأ ومن هذا قول عبادة ابن الصامت كذب ابو محمد لما قال الوتر واجب أي أخطأ وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال كذب ابو السنابل لما أفتى أن الحامل المتوفى عنها زوجها لا تتزوج حتى تتم لها أربعة أشهر وعشرا ولو وضعت وهذا كثير والمقصود أن عائشة رضي الله عنها ردت هذا الحديث وأنكرته وخطأت قائله ولكن قول عائشة هذا مرجوح ولها رضي الله عنها اجتهاد في رد بعض الحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرها من الصحابة وهي رضي الله عنها لما طنت أن هذا احديث يقتضي إثبات الطيرة التي هي من الشرك لم يسعها غير تكذيبه ورده ولكن الذين رووه ممن لا يمكن رد روايتهم ولم ينفرد بهذا أبو هريرة وحده ولو انفرد به فهو حافظ الأمة على الإطلاق وكلما رواه النبي صلى الله عليه و سلم فهو صحيح بل قد رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسهل بن سعد الساعدى وجابر بن عبد الله الأنصاري وأحاديثهم في الصحيح فالحق أن الواجب بيان معنى الحديث ومباينته للطيرة الشركية

فنقول وبالله التوفيق هذا الحديث قد روى على وجهين أحدهما بالجزم والثاني بالشرط فأما الأول فرواه مالك عن ابن شهاب عن سالم وحمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الشؤم في الدار والمرأة والفرس متفق عليه وفي لفظ في الصحيحين عنه لا عدوى ولا صفر ولا طيرة وإنما الشؤم في ثلاثة المرأة والفرس والدار وأما الثاني ففي الصحيحين أيضا عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كان ففي المرأة والفرس والممكن يعني الشؤم وقال البخاري إن كان في شيء وفي صحيح مسلم عن جابر مرفوعا إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا إن يكن من الشؤم شيء حقا ففي الفرس والمسكن والمرأة وروى زهير بن معاوية عن عتبة بن حميد قال حدثني عبيد الله بن أبي بكر أنه سمع أنسا يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا طيرة والطيرة على من تطير وإن يكن في شيء ففي المرأة والدار والفرس ذكره أبو عمر
وقالت طائفة أخرى لم يجزم النبي صلى الله عليه و سلم بالشؤم في هذه الثلاثة بل علقه على الشرط فقال إن يكن الشؤم في شيء ولا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد من مفرديها فقد يصدق التلازم بين المستحيلين قالوا ولعل الوهم وقع من ذلك وهو أن الراوي غلط وقال الشؤم في ثلاثة وإنما الحديث إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاثة قالوا وقد اختلف على ابن عمر والروايتان صحيحتان عنه قالوا وبهذا يزول الإشكال ويتبين وجه الصواب
وقالت طائفة أخرى إضافة رسول الله صلى عليه وسلم الشؤم إلى هذه الثلاثة مجاز واتساع أي قد يحصل مقارنا لها وعندها لا أنها هي أنفسها مما يوجب الشؤم قالوا وقد يكون الدار قد قضى الله عز و جل عليها أن يميت فيها خلقا من عباده كما يقدر ذلك في البلد الذي ينزل الطاعون به وفي المكان الذي يكثر الوباء به فيضاف ذلك إلى المكان مجازا والله خلقه عنده وقدره فيه كما يخلق الموت عند قتل القاتل والشبع والري عند أكل الآكل وشرب الشارب فالدار التي يهلك بها أكثر ساكنيها توصف بالشؤم لأن الله عز و جل قد قصها بكثرة من قبض فيها كتب الله عليه الموت في تلك الدار حسن إليه سكناها وحركه إليها حتى يقبض روحه في المكان الذي كتب له كما ساق الرجل من بلد إلى بلد للأثر والبقعة التي قضى أنه يكون مدفنه بها
قالوا وكذلك ما يوصف من طول أعمار بعض أهل البلدان ليس ذلك من أجل صحة هواء ولا طيب تربة ولا طبع يزداد به الأجل وينقص بفواته ولكن الله سبحانه قد خلق ذلك المكان وقضى أن يسكنه أطول خلقه أعمارا فيسوقهم إليه ويجمعهم فيه ويحببه إليهم قالوا وإذا كان هذا على ما وصفنا في الدور والبقاع جاز مثله في النساء والخيل فتكون المرأة قد قدر الله عليها أن تتزوج عددا من الرجال ويموتون معها فلا بد من انفاذ قضائه وقدره حتى أن الرجل ليقدم عليها من بعد علمه بكثرة من مات عنها لوجه من الطمع يقوده إليها حتى

يتم قضاؤه وقدره فتوصف المرأة بالشؤم لذلك وكذلك الفرس وإن لم يكن لشيء من ذلك فعل ولا تأثير
وقال ابن القاسم سئل مالك عن الشؤم في الفرس والدار فقال إن ذلك كذب فيما نرى كم من دار قد سكنها ناس فهلكوا ثم سكنها آخرون فملكوا قال فهذا تفسيره فيما نرى والله أعلم
وقالت طائفة أخرى شؤم الدار مجاورة جار السوء وشؤم الفرس أن يغزى عليها في سبيل الله وشؤم المرأة أن لا تلد وتكون سيئة الخلق وقالت طائفة أخرى منهم الخطائي هذا مستثنى من الطيرة أي الطيرة منهى عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع والطلاق ونحوه ولا يقيم على الكراهة والتأذي به فإنه شؤم وقد سلك هذا المسلك أبو محمد بن قتيبة في كتاب مشكل الحديث له لما ذكر أن بعض الملاحدة اعترض بحديث هذه الثلاثة
وقالت طائفة أخرى الشؤم في هذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها وتطير بها فيكون شؤمها عليه ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشؤمة عليه قالوا ويدل عليه حديث أنس الطيرة على من تطير وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاؤمه سببا لحلول المكروه به كما يجعل الثقة والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به وسر هذا أن الطيرة إنما تتضمن الشرك بالله تعالى والخوف من غيره وعدم التوكل عليه والثقة به كان صاحبها غرضا لسهام الشر والبلاء فيتسرع نفوذها فيه لأنه لم يتدرع من التوحيد والتوكل بجنة واقية وكل من خاف شيئا غير الله سلط عليه كما أن من أحب مع الله غيره عذب به ومن رجا مع الله غيره خذل من جهته وهذه أمور تجربتها تكفي عن أدلتها والنفس لا بد أن تتطير ولكن المؤمن القوي الايمان يدفع موجب تطيره بالتوكل على الله فان من توكل على الله وحده كفاه من غيره قال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ولهذا قال ابن مسعود وما منا إلا يعني من يقارب التطير ولكن الله يذهبه بالتوكل ومن هذا قول زبان بن سيار :
أطار الطير إذ سرنا زياد ... لتخبرنا وما فيها خبير
أقام كان لقمان بن عاد ... أشار له بحكمته مشير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
بل شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير
قالوا فالشؤم الذي في الدار والمرأة والفرس قد يكون مخصوصا بمن تشاءم بها وتطير وأما من توكل على الله وخافه وحده ولم يتطير ولم يتشاءم فان الفرس والمرأة والدار لا يكون شؤما

في حقه
وقالت طائفة أخرى معنى الحديث إخباره صلى الله عليه و سلم عن الأسباب المثيرة للطيرة الكامنة في الغرائز يعنى أن المثير للطيرة في غرائز الناس هي هذه الثلاثة فأخبرنا بهذا لنأخذ الحذر منها فقال الشؤم في الدار والمرأة والفرس أي أن الحوادث التي تكثر مع هذه الأشياء والمصائب التي تتوالى عندها تدعو الناس إلى التشاؤم بها فقال الشؤم فيها أي أن الله قد يقدره فيها على قوم دون قوم فخاطبهم صلى الله عليه و سلم بذلك لما استقر عندهم منه صلى الله عليه و سلم من إبطال الطيرة وإنكار العدوى ولذلك لم يستفهموا في ذلك عن معنى ما أراده صلى الله عليه و سلم كما تقدم لهم في قوله لا يورد الممرض على المصح فقالوا عنده وما ذاك يا رسول الله فأخبرهم أنه خاف في ذلك الأذى الذي يدخله الممرض على المصح لا العدوى لأنه صلى الله عليه و سلم أمر بالتوادد وإدخال السرور بين المؤمنين وحسن التجاوز ونهى عن التقاطع والتباغض والأذى فمن اعتقد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نسب الطيرة والشؤم إلى شيء من الأشياء على سبيل إنه مؤثر بذلك دون الله فقد أعظم الفرية على الله وعلى رسوله وضل ضلالا بعيدا والنبي صلى الله عليه و سلم ابتداهم بنفي الطيرة والعدوى ثم قال الشؤم في ثلاث قطعا لتوهم المنفية في الثلاثة التي أخبر أن الشؤم يكون فيها فقال لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاثة فابتدأهم بالمؤخر من الخير تعجيلا لهم بالأخبار بفساد العدوى والطيرة المتوهمة من قوله الشؤم في ثلاثة وبالجملة فإخباره صلى الله عليه و سلم بالشؤم أنه يكون في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها وإنما غايته إن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانا مشؤمة على من قاربها وسكنها وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر وهذا كما يعطى سبحانه الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه ويعطى غيرهما ولدا مشؤما نذلا يريان الشر على وجهه وكذلك ما يعطاه العبد ولاية أو غيرها فكذلك الدار والمرأة والفرس والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة ويقضى سعادة من قارنها وحصول اليمن له والبركة ويخلق بعض ذلك نحوسا يتنحس بها من قارنها وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة فكما خلق المسك وغيره من حامل الأرواح الطيبة ولذذ بها من قارنها من الناس وخلق ضدها وجعلها سببا لإيذاء من قارنها من الناس والفرق بين هذين النوعين يدرك بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل فهذا لون والطيرة الشركية لون آخر 0

فصل وأما الأثر الذي ذكره مالك عن يحيى بن سعيد جاءت امرأة إلى
رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال فقال النبي

صلى الله عليه و سلم دعواها ذميمة وقد ذكر هذا الحديث غير مالك من رواية أنس أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا وكثرت فيها أموالنا ثم تحولنا إلى أخرى فقلت فيها أموالنا وقل فيها عددنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكره فليس هذا من الطيرة المنهي عنها وإنما أمرهم صلى الله عليه و سلم بالتحول عنها عند ما وقع في قلوبهم منها لمصلحتين ومنفعتين إحداهما مفارقتهم لمكان هم له مستثقلون ومنه مستوحشون لما لحقهم فيه ونالهم ليتعجلوا الراحة مما داخلهم من الجزع في ذلك المكان والحزن والهلع لأن الله عز و جل قد جعل في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم الشر فيه وإن كان لاسبب له في ذلك وحب ما جرى لهم على يديه الخير وإن لم يردهم به فأمرهم بالتحول مما كرهوه لأن الله عز و جل بعثه رحمة ولم يبعثه عذابا وأرسله ميسرا ولم يرسله معسرا فكيف يأمرهم بالمقام في مكان قد أحزنهم المقام به واستوحشوا عنده لكثرة من فقدوه فيه لغير منفعته ولا طاعة ولا مزيد تقوى وهدى فلا سيما وطول مقامهم فيها بعد ما وصل إلى قلوبهم منها ما وصل قد يبعثهم ويدعوهم إلى التشاؤم والتطير فيوقعهم ذلك في أمرين عظيمين أحدهما مقارنة الشرك والثاني حلول مكروه أحزنهم بسبب الطيرة التي إنما تلحق المتطير فحماهم صلى الله عليه و سلم بكمال رأفته ورحمته من هذين المكروهين بمفارقة تلك الدار والاستبدال بها من غير ضرر يلحقهم بذلك في دنيا ولا نقص في دين وهو صلى الله عليه و سلم حين فهم عنهم في سؤالهم ما أرادوه من التعرف عن حال رحلتهم عنها هل ذلك لهم ضار مؤد إلى الطيرة قال دعوها ذميمة وهذا بمنزلة الخارج من أرض بها الطاعون غير فار منه ولو منع الناس الرحلة من الدار التي تتوالى عليهم المصائب والمحن فيها وتعذر الأرزاق مع سلامة التوحيد في الرحلة للزم ذلك أن كل من ضاق عليه رزق في بلد أن لا ينتقل منه إلى بلد آخر ومن قلت فائدة صناعته أن لا ينتقل عنها إلى غيرها 0
فصل وأما قول النبي صلى الله عليه و سلم للذي سل سيفه يوم أحد شم سيفك فإني
أرى السيوف ستنسل اليوم فهذه القصة لم يكن الرجل قد سل فيها السيف ولكن الفرس لوح بذنبه فسل السيف ولم يرد صاحبه سله هكذا في القصة ولا ريب أن الحرب تقوم بالخيل والسيوف ولما لوح الفرس بذنبه فاستل السيف قال النبي صلى الله عليه و سلم أنى أرى السيوف ستنسل اليوم فهذا له محمل من ثلاثة محامل أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر عن ظن ظنه في ذلك ولم يجعل هذا دليلا تماما في كل واقعة تشبه هذه وإذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو أحد أتباع رسول الله صبى الله عليه وسلم ورجل من أمته كان إذا قال أظن كذا أو أرى كذا خرج الأمر كما ظنه وحسبه فكيف الظن برسول الله صلى الله عليه و سلم الثاني ان النبي صلى الله عليه و سلم كان قد علم قبل مخرجه أن السيوف

ستنسل ويقع القتال ولهذا أخبرهم أنه رأى في منامه أنه يقرأ النحل وعلم أن ذلك شهادة من قتل من أصحابه
الثالث أن الوحي الذي كان يعرف به رسول الله صلى الله عليه و سلم الحوادث والنوازل كان مغنيا له عن الإشارات والعلامات والامارات وما في معناها مما يحتاج إليه غيره وأما من يأتيه خبر السماء صباحا ومساء فإخباره بقوله أرى السيوف اليوم ستنسل لم يكن عن تلك الأمارة وإنما وقع الإخبار به عقيبها والشيء بالشيء يذكر
فصل وأما ما احتج به ونسبه إلى قوله صلى الله عليه و سلم وقدت الحرب لما رأى
واقد بن عبد الله الحضري والحضرمي حضرت الحرب فكذب عليه صلى الله عليه و سلم وإنما قال ذلك أعداؤه من اليهود فتطيروا بذلك وتفاءلوا به فكانت الطيرة عليهم و وقدت الحرب عليهم
فصل وأما استقباله صلى الله عليه و سلم الجبلين في طريقه وهما مسلح ومخرىء وترك
المرور بينهما وعدله ذات اليمين فليس هذا أيضا من الطيرة وإنما هو من العدول عما يؤذى النفوس ويشوش القلوب إلى ما هو بخلافه كالعدول عن الاسم القبيح وتغييره بأحسن منه وقد تقدم تقرير ذلك بما فيه كفاية وأيضا فإن الأماكن فيها الميمون المبارك والمشؤم المذموم فاطلع رسول الله صلى الله عليه و سلم على شؤم ذلك المكان وأنه مكان سوء فجاوزه إلى غيره كما جاوز الوادي الذي ناموا فيه عن الصبح إلى غيره وقال هذا مكان حضرنا فيه الشيطان والشيطان يحب الأمكنة المذمومة وينتابها وأيضا فلما كان المرور بين ذينك الجبلين قد يشوش القلب على أنا نقول في ذلك قولا كليا نبين به سر هذا الباب بحول الله وعونه و توفيقه
أعلم أن بين الأسماء و مسمياتها ارتباطا قدره العزيز القادر وألهمه نفوس العباد وجعله في قلوبهم بحيث لا تنصرف عنه وليس هذا الارتباط هو ارتباط العلة بمعلولها ولا ارتباط المقتضى الموجب لمقتضاه و موجبة بل ارتباط تناسب وتشاكل اقتضته حكمة الحكيم فقل أن ترى اسما قبيحا إلا وبين مسماه و بينه رابط من القبح وكذلك إذا تأملت الاسم الثقيل الذي تنفر عنه الأسماع وتنبو عنه الطباع فأنك تجد مسماه يقارب أو يلم أن يطابق ولهذا من المشهور على ألسنة الناس أن الألقاب تنزل من السماء فلا تكاد تجد الاسم الشنيع القبيح إلا على مسمى يناسبه وفي ذلك قول القائل
وقل أن أبصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه أن فكرت في لقبه
ولهذا كثيرا ما تجد أيضا في أسماء الأجناس والواضع له عناية بمطابقة الألفاظ للمعاني ومناسبتها لها فيجعل الحروف الهوائية الخفيفة لمسمى مشاكل لها كالهواء والحروف الشديدة

للمسمى المناسب لها كالصخر والحجر وإذا تتابعت حركة المسمى تابعوا بين حركة اللفظ كالدوران والغليان والنزوان وإذا تكررت الحركة كرروا اللفظ كفلفل وزلزل ودكدك و صرصر وإذا اكتنز المسمى وتجمعت أجزاؤه جعلوا في أسمه من الضم الدال على الجمع والاكتناز ما يناسب المسمى كالبحتر للقصير المجتمع الخلق وإذا طال جعلوا في المسمى من الفتح الدال على الامتداد نظير ما في المعنى كالعشنق للطويل ونظائر ذلك أكثر من أن تستوعب وإنما أشرنا إليها أدنى إشارة وهذا هو الذي أراده من قال بين الاسم والمسمى مناسبة فلم يفهم عنه بعض المتأخرين مراده فأخذ يشنع عليه بأنه لا تناسب طبعيا بينهما واستدل على إنكار ذلك بما لا طائل تحته فإن عاقلا لا يقول أن التناسب الذي بين الاسم والمسمى كالتناسب الذي بين العلة والمعلول وإنما هو ترجيح وأولوية تقتضي اختصاص الاسم بمسماه وقد يتخلف عنه اقتضاؤها كثيرا والمقصود أن هذه المناسبة تنضم إلى ما جعل الله في طبائع الناس وغرائزهم من النفرة بين الاسم القبيح المكروه و كراهته وتطير أكثرهم به وذلك يوجب عدم ملابسته ومجاوزته إلى غيره فهذا أصل هذا الباب

فصل وأما كراهية السلف أن يتبع الميت بشيء من النار أو أن يدخل
القبر شيء مسته النار وقول عائشة رضى الله عنها لا يكون آخر زاده أن تتبعوه بالنار فيجوز أن يكون كراهتهم لذلك مخافة الأحداث لما لم يكن في عصر رسول الله صلى عليه وسلم فكيف وذلك مما يبيح الطيرة به والظنون الرديه بالميت وقد قال غير واحد من السلف منهم عبد الملك بن حبيب وغيره إنما كرهوا ذلك تفاؤلا بالنار في هذا المقام أن تتبعه
وذكر ابن حبيب وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم أراد أن يصلى على جنازة فجاءت امرأة ومعها مجمر فما زال يصبح بها حتى توارت بآجام المدينة قال بعض أهل العلم وليس خوفهم من ذلك على الميت لكن على الأحياء المجبولين على الطيرة لئلا تحدثهم أنفسهم بالميت أنه من أهل النار لما رأوا من النار التي تتبعه في أول أيامه من الآخرة ولا سيما في مكان يراد منهم فيه كثرة الاجتهاد للميت بالدعاء فإذا لم يبق له زاد غيره فيظنون أن تلك النار من بقايا زاده إلى الآخرة فتسوء ظنونهم به وتنفر عن رحمته قلوبهم في مكان هم فيه شهداء الله كما جاء في الحديث الصحيح لما مر على النبي صلى الله عليه و سلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت فقالوا ما وجبت قال وجبت له الجنة أنتم شهداء الله في الأرض من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار وفي أثر آخر إذا أردتم أن تعلموا ما للميت عند الله فانظروا ما تتعبه من حسن الثناء فقالت عائشة رضى الله عنها لا يكون آخر زاده من الثناء والدعاء أن

تتبعوه بالنار فتهيجوا بها خواطر الناس وتبعثوا ظنونهم بالتطير والنار والعذاب والله أعلم

فصل وأما تلك الوقائع التي ذكروها مما يدل على وقوع ما تطير به
من تطير فنعم و هاهنا أضعافها وأضاف أضعافها ولسنا ننكر موافقة القضاء والقدر لهذه الأسباب وغيرها كثيرا موافقة حزر الحازرين وظنون الظانين وزجر الزاجرين للقدر أحيانا مما لا ينكره أحد ومن الأسباب التي توجب وقوع المكروه الطيرة كما تقدم وإن الطيرة على من تطير ولكن نصب الله سبحانه لها أسبابا يدفع بها موجبها وضررها من التوكل عليه وحسن الظن به و إعراض قلبه عن الطيرة وعدم التفاته إليها وخوفه منها وثقته بالله عز و جل ولسنا ننكر أن هذه الأمور ظنون وتخمين وحدس وخرص وما كان هذا سبيله فيصيب تارة و يخطىء تارات وليس كل ما تطير به المتطيرون وتشاءموا به وقع جميعه وصدق بل أكثره كاذب وصادقه نادر والناس في هذا المقام إنما يعولون وينقلون ما صح ووقع ويعتنون به فيرى كثيرا والكاذب منه أكثر من أن ينقل قال ابن قتيبة من شأن النفوس حفظ الصواب للعجب به والاستغراب وتناسي الخطأ قال ومن ذا الذي يتحدث أنه سأل منجما فأخطأ وإنما الذي يتحدث به وينقل أنه ساله فاصاب قال والصواب في مسئلة إذا كان بين أمرين قد يقع للمعتوه والطفل فضلا عن أولى العقل وقد تقدم من بطلان الطيرة وكذبها ما فيه كفاية وقد كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تستحب أن تتزوج المرأة أو يبنى بها في شوال وتقول ما تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا في شوال فاي نسائه كان أحظى عنده مني مع تطير الناس بالنكاح في شوال وهذا فعل أولى العزم والقوة من المؤمنين الذين صح توكلهم على الله واطمأنت قلوبهم إلى ربهم ووثقوا به وعلموا إن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنهم لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم وأنهم ما أصابهم من مصيبة إلا وهي في كتاب من قبل أن يخلقهم ويوجدهم وعلموا أنه لا بد أن يصيروا إلى ما كتبه وقدره ولا بد أن يجرى عليهم وإن تطيرهم لا يرد قضاءه وقدره عنهم بل قد يكون تطيرهم من أعظم الاسباب التي يجرى عليهم بها القضاء والقدر فيعينون على أنفسهم وقد جرى لهم القضاء والقدر بأن نفوسهم هي سبب إصابة المكروه لهم فطائرهم معهم وأما المتوكلون على الله المفوضون إليه العالمون به وبأمره فنفوسهم أشرف من ذلك وهممهم أعلى وثقتهم بالله وحسن ظنهم به عدة لهم وقوة وجنة مما يتطير به المتطيرون ويتشاءم به المتشائمون عالمون أنه لا طير إلا طيره ولا خير إلا خيرة ولا إله غيره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
فصل ومما كان أهل الجاهلية يتطيرون به ويتشاءمون منه العطاس كما
يتشاءمون بالبوارح

والسوانح قال رؤية بن العجاج يصف فلاة
قطعتها ولا أهاب العطاسا ... وقال أمرؤ القيس :
وقد اغتدى قبل العطاس بهيكل ... شديد مشيد الجنب فعم المنطق
أراد أنه كان ينتبه للصيد قبل أن ينتبه الناس من نومهم ليلا يسمع عطاسا فيتشاءم بعطاسه وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له عمرا وشبابا وإذا عطس من يبغضونه قالوا له وريا وقحابا والورى كالرمي داء يصيب الكبد فيفسدها والقحاب كالسعال وزنا ومعنى فكان الرجل إذا سمع عطاسا يتشاءم به يقول بكلابي إني أسال الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لأبي وكان تشاؤمهم بالعطسة الشديدة أشد كما حكى عن بعض الملوك أن سامرا له عطس عطسة شديدة راعته فغضب الملك فقال سميره والله ما تعمدت ذلك ولكن هذا عطاسي فقال والله لئن لم تأتني بمن يشهد لك بذلك لأقتلنك فقال أخرجني إلى الناس لعلى أجد من يشهد لي فأخرجه وقد وكل به الأعوان فوجد رجلا فقال يا سيدي نشدتك بالله إن كنت سمعت عطاسي يوما فلعلك تشهد لي به عند الملك فقال نعم
أنا أشهد لك فنهض معه وقال يا أيها الملك أنا أشهد أن هذا الرجل عطس يوما فطار ضرس من أضراسه فقال له الملك عد إلى حديثك ومجلسك فلما جاء الله سبحانه بالإسلام وأبطل برسوله صلى الله عليه و سلم ما كان عليه الجاهلية من الضلالة نهى أمته عن التشاؤم والتطير وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه الدعاء له بالرحمة كما أمر العائن أن يدعو بالتبريك للمعين ولما كان الدعاء على العاطس نوعا من الظلم والبغي جعل الدعاء له بلفظ الرحمة المنافي للظلم وأمر العاطس عمران يدعو لسامعه ويشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال فيقول يغفر الله لنا ولكم أو يهديكم الله ويصلح بالكم فاما الدعاء بالهداية فلما أن اهتدى إلى طاعة الرسول ورغب عما كان عليه أهل الجاهلية فدعا له أن يثبته الله عليها ويهديه إليها وكذلك الدعاء باصلاح البال وهي حكمة جامعة لصلاح شأنه كله وهي من باب الجزاء على دعائه لأخيه بالرحمة فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال وأما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت كقوله يغفر الله لنا ولكم ليستحصل من مجموع دعوى العاطس والمشمت له المغفرة والرحمة لهما معا فصلوات الله وسلامه على المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة ولأجل هذا والله أعلم لم يؤمر بتشميت من لم يحمد الله فإن الدعاء له بالرحمة نعمة فلا يستحقها من لم يحمد الله ويشكره على هذه النعمة ويتأسى بابيه آدم فإنه لما نفخت فيه الروح إلى الخياشيم عطس فألهمه ربه تبارك وتعالى أن نطق بحمده فقال الحمد لله فقال الله سبحانه يرحمك الله يا آدم فصارت تلك سنة العطاس فمن لم يحمد الله لم يستحق هذه الدعوة ولما سبقت هذه الكلمة لآدم قبل أن يصيبه ما اصابه كان مآله إلى الرحمة وكان ما جرى عارضا وزال فإن الرحمة سبقت العقوبة وغلبت الغضب
وأيضا فإنما أمر العاطس بالتحميد عن العطاس لأن

الجاهلية كانوا يعتقدون فيه أنه داء ويكره أحدهم أن يعطس ويود أنه لم يصدر منه لما في ذلك من الشؤم وكان العاطس يحبس نفسه عن العطاس ويمتنع من ذلك جهده من سوء اعتقاد جهالهم فيه ولذلك والله أعلم بنوا لفظه على بناء الأدواء كالزكام والسعال والدوار والسهام وغيرها فاعلموا أنه ليس بداء ولكنه أمر يحبه الله وهو نعمة منه يستوجب عليها من عبده أن يحمده عليها وفي الحديث المرفوع أن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب والعطاس ريح مختنقة تخرج وتفتح السد من الكبد وهو دليل جيد للمريض مؤذن بانفراج بعض علته وفي بعض الأمراض يستعمل ما يعطس العليل ويجعل نوعا من العلاج ومعينا عليه هذا قدر زائد على ما أحبه الشارع من ذلك وأمر بحمد الله عليه وبالدعاء لمن صدر منه وحمد الله عليه ولهذا فالله أعلم يقال شمته إذا قال له يرحمك الله وسمته بالمعجمة والمهملة وبهما روى الحديث فأما التسميت بالمهملة فهو تفعيل من السمت الذي يراد به حسن الهيئة والوقار فيقال لفلان سمت حسن فمعنى سمت العاطس وقرته وأكرمته وتأدبت معه بأدب الله ورسوله في الدعاء له لا بأخلاق أهل الجاهلية من الدعاء عليه والتطير به والتشاؤم منه وقيل سمته دعا له أن يعيده الله إلى سمته قبل العطاس من السكون والوقار وطمأنينه الأعضاء فإن في العطاس من انزعاج الأعضاء واضطر ابها ما يخرج العاطس عن سمته فإذا قال له السامع يرحمك الله فقد دعا له أن يعيده إلى سمته وهيئته وأما التشميت بالمعجمة فقالت طائفة منهم ابن السكيت وغيره أنه بمعنى التسميت وأنهما لغتان ذكر ذلك في كتاب القلب والإبدال ولم يذكر أيهما الأصل ولا أيهما البدل وقال أبو علي الفارسي المهملة هي الأصل في الكلمة والمعجمة بدل واحتج بأن العاطس إذا عطس انتفش وتغير شكل وجهه فإذا دعا له فكأنه أعاده إلى سمته وهيأته وقال تلميذه ابن جنى لو جعل جاعل الشين المعجمة أصلا وأخذه من الشوامت وهي القوائم لكان وجها صحيحا وذلك أن القوائم هي التي تحمل الفرس ونحوه وبهما عصمته وهي قوامه فكأنه إذا دعا له فقد أنهضه وثبت امره وأحكم دعائمه وأنشد للنابغة
طوع الشامت من خوف ومن صرد ... وقالت طائفة منهم ابن الأعرابي يقال مرضت العليل أي قمت عليه ليزول مرضه ومثله قذيت عينه أزلت قذاها فكأنه لما دعا له بالرحمة قد قصد إزالة الشماته عنه وينشد في ذلك :
ما كان ضر الممرضي بجفونه ... لو كان مرض منعما من أمرضا
وإلى هذا ذهب ثعلب
والمقصود أن التطير من العطاس من فعل الجاهلية الذي أبطله الإسلام وأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يحب العطاس كما في صحيح البخاري حديث أبي هريره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا تثاءب أحدكم فليستره ما استطاع فإنه إذا فتح فاه فقال آه آه ضحك منه الشيطان

فصل وأما قوله صلى الله عليه و سلم لا يورد ممرض على مصح فالممرض الذي إبله مراض والمصح
الذي إبله صحاح وقد ظن بعض الناس أن هذا معارض لقوله لا عدوى ولا طيرة وقال لعل أحد الحديثين نسخ الآخر وأورد الحارث بن أبى ذئاب وهو ابن عم أبى هريرة رضى الله عنه جمعه بين الروايتين وظنهما متعارضتين فروى ا بن هرير عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال كان أبو هريرة يحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا عدوى ثم حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يورد ممرض على مصح قال فقال الحارث بن أبى ذئاب وهو ابن عم أبى هريرة قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا حديثا آخر قد سكت عنه كنت تقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا عدوى فأبى أبو هريرة أن يحدث بذلك وقال لا يورد ممرض على مصح فما رآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة ورطن بالحبشية ثم قال للحارث أتدرى ما قلت قال لا قال إني أقول أبيت أبيت فلا أدرى أنسى أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر
قلت قد اتفق مع أبى هريرة سعد بن أبى وقاص و جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وعمر بن سلم على روايتهم عن النبي صلى الله عليه و سلم قوله لا عدوى وحديث أبى هريرة محفوظ عنه بلا شك من رواية أوثق أصحابه وأحفظهم أبى سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة والحارث بن أبى ذئاب ولم يتفرد أبو هريرة بروايته عن النبي صلى الله عليه و سلم بل رواه معه من الصحابة من ذكرناه وقوله لا يورد ممرض على مصح صحيح أيضا ثابت عنه صلى الله عليه و سلم فالحديثان صحيحان ولا نسخ تعارض بينهما بحمد الله بل كل منهما له وجه وقد طعن أعداء السنة في أهل الحديث وقالوا يروون الأحاديث التي ينقض بعضها بعضا ثم يصححونها والأحاديث التي تخالف العقل فانتدب أنصار السنة للرد عليهم ونفي التعارض عن الأحاديث الصحيحة وبيان موافقتها للعقل قال أبو محمد بن قتيبة في كتاب مختلف الحديث له قالوا حديثان متناقضان قالوا رويتم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لا عدوى ولا طيرة وأنه قيل له أن النقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل فقال فما أعدي الأول هذا أو معناه ثم رويتم في خلاف ذلك لا يورد ذو عاهة على مصح وفر من المجذوم فرارك من الأسد وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الإسلام فأرسل إليه البيعة وأمره بالانصراف ولم يأذن له وقال الشؤم في المرأة والدار والدابة قالوا وهذا كله مختلف يشبه لا يثبه بعضه بعضا قال أبو محمد ونحن نقول أنه ليس في هذا اختلاف ولكل واحد معنى في وقت وموضع فإذا وضع موضعه زال الاختلاف والعدوى جنسان أحدهما عدوى الجذام فإن

الجذام تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته وموا كلته وكذا المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد فيوصل إليها الأذى وربما جذمت وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه وكذلك من به سل ودق وتعب الأطباء تأمر أن لا يجالس المجذوم ولا المسلول ولا يريدون بذلك معنى العدوى وإنما يريدون به معنى تغير الرائحة وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن وشؤم وكذلك النقبة تكون بالبعير وهو جرب رطب فإذا خالط الإبل أو حاكها واوي في مباركها أوصل إليها بالماء الذي يسيل منه والنطف نحوا مما به فهذا هو المعنى الذي قال رسول الله صلى عليه وسلم لا يورد ذو عاهة على مصح كره أن يخالط المصاب الصحيح فيناله من نطفه وحكمته نحو مما به قال وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك أن لا يظن أن الذي نال إبله من ذوات العاهة فيأثم وليس لهذا عندي وجه إلا الذي خبرتك به عيانا وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوف العدوى حدثني سهل بن محمد قال حدثني الأصمعي عن بعض المصريين أنه هرب من الطاعون فركب حمارا ومضى بأهله نحو حلوان فسمع حاديا يحدو خلفه وهو يقول :
لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذي هيعة مطار
أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري
وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان بالبلد الذي أنتم فيه فلا تخرجوا منه وقال إن كان ببلد فلا تدخلوه يريد بقوله لا تخرجوا من البلد أذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله ويريد إن كان ببلد فلا تدخلوه فإن مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لأنفسكم وأطيب لمعيشتكم ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم والدار فينال الرجل مكروه أو جائحة فيقول أعدتني بشؤمها فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لا عدوى فأما الحديث الذي رواه أبو هريرة رضى الله عنه أنه قال الشؤم في المرأة والدار والدابة فإن هذا الحديث يتوهم فيه الغلط على أبى هريرة وأنه سمع فيه شيئا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يعه حدثني محمد بن القطعي حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أبى حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا إن أبا هريرة رضى الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة فطارت شفقا ثم قالت كذب والذي أنزل الفرقان على أبى القاسم من حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار ثم قرأت ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبراها حدثني أبى قال حدثني أحمد بن الخليل حدثنا موسى بن مسعود النهدي عن

عكرمة بن عمار عن اسحق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا وكثرت فيها أموالنا ثم تحولنا عنها إلى أخرى فقلت فيها أموالنا وقل فيها عددنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذروها وهى ذميمه 0قال أبو محمد وهذا ليس ينقض الحديث الأول ولا الحديث الأول ينقض هذا وإنما أمرهم بالتحول منها لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال لظلها واستيحاش لما نالهم فيها فأمرهم بالتحول وقد جعل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم السوء فيه وإن كان لا سبب له في ذلك وحب من جرى على يده الخير لهم وأن لم يردهم به وبغض من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به وكيف يتطير صلى الله عليه و سلم والطيرة من الجبت وكان كثير من الجاهلية لا يرونها شيئا ويمدحون من كذب بها ثم أنشد ما ذكرنا من الأبيات سالفا ثم قال حدثنا اسحق بن راهويه أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أبى أميه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث لا يسلم منهن أحد الطيرة والظن والحسد قيل فما المخرج منهن قال إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ هذه الألفاظ أو نحوها حدثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي عن سعيد بن سالم عن أبيه أنه كان يعجب ممن يصدق بالطيرة ويعيبها أشد العيب وقال فرقت لنا ناقة وأنا بالطائف فركبت في أثرها فلقيني هانيء ين عبيد من بنى وائل وهو مسرع وهو يقول 0 الشرع يلقى مطالع إلا كم 0 ثم لقيني آخر من الحي وهو يقول 0
ولئن بغيت لهم بغاة ... ما البغاة بواجدينا
ثم دفعنا إلى غلام قد وقع في صغره في نار فأحرقته فقبح وجهه وفسد فقلت له هل ذكرت من ناقة فارق قال ههنا أهل بيت من الأعراب فانظر فنظرت فإذا هي عندهم وقد نتجت فأخذناها وولدها قال أبو محمد الفارق التي ضلت ففارقت صواحبها وقال عكرمة كنا جلوسا عند ابن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل خير خير فقال ابن عباس لا خير ولا شر وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يستحب الاسم الحسن والفأل الصالح حدثني الرياشى حدثنا الأصمعي قال سألت ابن عون عن الفأل فقال هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم أو يكون باغيا فيسمع يا واجد وهذا أيضا مما جعل في غرائز الناس وتركيبهم استحبابه والأنس به وكما جعل على الألسنة من التحية بالسلام والمد في الأصب والتبشير بالخير وكما يقال أنعم وأسلم وأنعم صباحا وكما تقول الفرس عش ألف نوروز والسامع لهذا يعلم أنه لا يقدم ولا يؤخر ولا يزيد ولا ينقص ولكن جعل في الطباع محبة الخير والارتياح للبشرى والمنظر الأنيق والوجه الحسن والاسم الخفيف وقد يمر الرجل بالروضة المنورة فتسره وهى لا تنفعه وبالماء الصافي

فيعجب به وهو لا يبشر به ولا يرده وفي بعض الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعجب بالأترج ويعجبه الحمام الأحمر وتعجبه الفاغية وهو نور الحناء وهذا مثل إعجابه بالاسم الحسن والفأل الحسن وعلى حسب هذا كانت كراهية الاسم القبيح كبني النار وبني حراق وأشباه هذا انتهي كلامه وقد سلك أبو عمر بن عبد البر في هذا الحديث نحوا من مسلك أبى محمد بن قتيبة فقال أما قوله صلى الله عليه و سلم لا عدوى فهو نهى أن يقول أحد إن شيئا يعدى شيئا وإخبار أن شيئالا يعدى شيئا فكأنه لا يعدى شيء شيئا يقول لا يصيب أحد من أحد شيئا من خلق أو فعل أو داء أو مرض وكانت العرب تقول في جاهليتها في مثل هذا أنه إذا اتصل شيء من ذلك بشيء أعداء فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن قولهم واعتقادهم في ذلك ليس كذلك ونهى عن ذلك القول إعلاما منه بأنما اعتقد ذلك من اعتقد منهم كان باطلا قال وأما الممرض فالذي إبله مراض والمصح الذي إبله صحاح وروى ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبى الزبير عن جابر قال يكره إن يدخل المريض على الصحيح منها وليس به إلا قول الناس وحماية للقلب مما يستبق إليه من الإفهام ويقع فيه من التطير والتشاؤم بذلك وقد قال أبو عبيد قولا قريبا من ذلك فقال في قوله في هذا الحديث أنه إذا أبى إيراد الممرض على المصح فقال معنى الأذى عندي الماثم يعنى أن المورد يأثم بأذاه من أورد عليه وتعريضه للتشاؤم والتطير وقد سلك بعضهم مسلكا آخر فقال ما يخبر به النبي صلى الله عليه و سلم نوعان :
أحدهما يخبر به عن الوحي فهذا خبر مطابق لمخبره من جميع الوجوه ذهنا وخارجا وهو الخبر المعصوم والثاني ما يخبر به عن ظنه من أمور الدنيا التي هم اعلم بها منه فهذا ليس في رتبة النوع الأول ولا تثبت له أحكامه وقد أخبر صلى الله عليه و سلم عن نفسه الكريمة بذلك تفريقا بين النوعين فإنه لما سمع أصواتهم في النخل يؤبرونها وهو التلقيح قال ما هذا فأخبروه بأنهم يلقحونها فقال ما أرى لو تركتموه يضوء شيئا فتركوه فجاء شيصا فقال إنما أخبرتكم عن ظني وأنتم أعلم بأمر دنياكم ولكن ما أخبرتكم عن الله والحديث صحيح مشهور وهو من أدلة بنوية وأعلامها فأن من خفي عليه مثل هذا من أمر الدينا وما أجرى الله به عادته فيها ثم جاء من العلوم التي لا يمكن البشر أن يطلع عليها البتة إلا بوحي من الله فأخبر عما كان وما يكون وما هو كائن من لدن خلق العالم إلى أن استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وعن غيب السموات والأرض وعن كل سبب دقيق أو جليل تنال به سعادة الدارين وكل سبب دقيق أو جليل تنال به شقاوة الدارين وعن مصالح الدنيا والآخرة وأسبابهما مع كون معرفتهم بالدنيا وأمورها وأسباب حصولها ووجوه تمامها أكثر من معرفته كما أنهم أعرف بالحساب والهندسة والصناعات والفلاحة وعمارة الأرض والكتابة فلو كان ما جاء به مما ينال بالتعلم والتفكر والتطير والطرق التي

يسلكها الناس لكانوا أولى به منه وأسبق إليه لأن أسباب ما ينال بالفكر والكتابة والحساب والنظر والصناعات بأيديهم فهذا من اقوى براهين نبوته وآيات صدقه وإن هذا الذي جاء به لا صنع للبشر فيه البتة ولا هو مما ينال بسعي وكسب وفكر ونظر إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى الذي يعلم السر في السموات والأرض أنزله عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا إلا من ارتضى من رسول قالوا فهكذا إخباره عن عدم العدوى إخبار عن ظنه كإخباره عن عدم تأثير التلقيح لا سيما وأحد البابين قريب من الآخر بل هو في النوع واحد فإن اتصال الذكر بالأنثى وتأثره به كاتصال المعدى بالمعدي وتأثره به ولا ريب أن كلهما من أمور الدنيا لا مما يتعلق به حكم من الشرع فليس الإخبار به كالإخبار عن الله سبحانه وصفاته وأسمائه وأحكامه قالوا فلما تبين له صلى الله عليه و سلم من أمر الدنيا الذى أجرى الله سبحانه عادته به ارتباط هذه الأ سباب بعضها ببعض التلقيح فى صلاح الثمار وتأثير إيراد الممرض على المصح أقرهم على تأبير النخل ونهاهم أن يورد ممرض على مصح قالوا وإن سمى هذا نسخآ بهذا الاعتبار فلا مشاحة فى التسمية إذا ظهر المعنى ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن فلا أدرى أنسى أبو هريرة أو نسخ أحد القولين بالآخر يعنى بحديثه بالحديثين فجوز أبو سلمة النسخ فى ذلك مع أنه خبر وهو بما ذكرنا من الاعتبار وهذا المسلك حسن لولا أنه قد اجتمع الفصلان فى حديث واحد كما فى موطآ مالك أنه بلغه عن بكير بن عبد الله ابن الأشج عن ابن عطية أن رسول صلى الله عليه و سلم قال لا عدوى ولاصفر ولايحلل الممرض على المصح وليحلل المصح حيث شاء قالوا وما ذاك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه أذى وقد يجاب عن هذا بحوابين : أحدهما أن الحديث لا يثبت لوجهين : أحدهما إرساله والثاني أن ابن عطية هذا ويقال أبوعطية مجهول لا يعرف إلا في هذا الحديث 00 الجواب الثاني قوله فيه لاعدوى نهى لا نفى أى لا يعدى الممرض المصح بحلوله عليه ويدل على ذلك ما رواه أبو عمر النمرى حدثنا خلف بن القاسم حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا أبو هشام الرفاعى حدثنا البشر بن عمر الزهر انى قال قال مالك أنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبى عطية أو أبن عطية شك بشر عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لاطيرة ولاهامة ولا يعدى سقم صحيحا وليحل المصح حيث شاء خفى هذا النهى كالإثبات للعدى والنهى عن أسبابها ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى فقال لا عدوى ولا طيرة ولا هامة وإنما مخرج الحديث النهى عن العدوى لا نفيها وهذا أيضا حسن لو لا حديث ابن شهاب عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن أعدى الأول فهذا الحديث قد فهم منه السامع النفي وأقره عليه صلى الله عليه و سلم ولهذا أستشكل نفيه وأورد ما أورده فأجله صلى

الله عليه وسلم بما يتضمن إبطال الدعوى وهو قوله فمن أعدى الأول وهذا أصح من حديث أبي عطيه المتقدم وحينئذ فيرجع إلى مسلك التلقيح المذكور آنفا أو ما قبله من المسالك وعندي في الحديثين مسلك آخر يتضمن إثبات الأسباب والحكم ونفى ما كانوا عليه من الشرك واعتقاد الباطل ووقوع النفي والإثبات على وجهه فإن العوام كانوا يثبتون العدوى على مذهبهم من الشرك الباطل كما يقوله المنجمون من تأثير الكواكب في هذا العالم وسعودها ونحوسها كما تقدم الكلام عليهم ولو قالوا أنها اسباب أو اجزاء اسباب إذ شاء الله صرف مقتضياتها بمشيئته وإرادته وحكمته وأنها مسخرة بأمره لما خلقت له وأنها في ذلك بمنزلة سائر الأسباب التي ربط بها مسبباتها وجعل لها أسبابا أخر تعارضها وتمانعها وتمنع اقتضاءها لما جعلت أسبابا له وإنها لا تقضي مسبباتها إلا بإذنه مشيئته وإرادته ليس لها من ذاتها ضر ولا نفع ولا تأثير البتة إن هي إلا خلق مسخر مصرف مربوب لا تتحرك إلا بإذن خالقها ومشيئته وغايتها أنها جزء سبب ليست سببا تاما فسببيتها من جنس سببية وطء الوالد في حصول الولد فإنه جزء واحد من أجزاء كثيرة من الأسباب التي خلق الله بها الجنين وكسببية شق الأرض وإلقاء البذر فإنه جزء يسير من جملة الأسباب التي يكون الله بها النبات وهكذا جملة أسباب العالم من الغذاء والرواء والعافية والسقم وغير ذلك وأن الله سبحانه جعل من ذلك سببا ما يشاء ويبطل السببية عما يشاء ويخلق من الأسباب المعارضة له ما يحول بينه وبين مقتضاه فهم لو أثبتوا العدوى على هذا الوجه لما أنكر عليهم كما أن ذلك ثابت في الداء والدواء وقد تداوى النبي صلى الله عليه و سلم وأمر بالتداوي وأخبر أنه ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء إلا الهرم فأعلمنا أنه خالق أسباب الداء وأسباب الدواء المعارضة المقاومة لها وأمرنا بدفع تلك الأسباب المكروهة بهذه الأسباب وعلى هذا قيام مصالح الدارين بل الخلق والأمر مبني على هذه القاعدة فإن تعطيل الأسباب وإخراجها عن أن تكون أسبابا تعطيل للشرع ومصالح الدنيا والإعتماد عليها والركون إليها واعتقاد أن المسببات بها وحدها وأنها أسباب تامة شرك بالخالق عز و جل وجهل به وخروج عن حقيقة التوحيد وإثبات مسببيتها على الوجه الذي خلقها الله عليه وجعلها له إثبات للخلق والأمر للشرع والقدر للسبب والمشيئة للتوحيد والحكمة فالشارع يثبت هذا ولا ينفيه وينفي ما عليه المشركون من اعتقادهم في ذلك ويشبه هذا نفيه سبحانه وتعالى الشفاعة في قوله واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل وفي الآية الأخرى ولا تنفعها شفاعة وفي قوله من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة وإثباتها في قوله ولا يشفعون إلى لمن ارتضى وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه وقوله لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا فإنه سبحانه

نفى الشفاعة الشركية التي كانوا يعتقدونها وأمثالهم من المشركين وهي شفاعة الوسائط لهم عند الله في جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم بذواتها وأنفسها بدون توقف ذلك على إذن الله ومرضاته لمن شاء أن يشفع فيه الشافع فهذه الشفاعة التي أبطلها الله سبحانه ونفاها وهي أصل الشرك كله وقاعدته التي عليها بناؤه وأخبيته التي يرجع إليها وأثبت سبحانه الشفاعة التي لا تكون إلا بإذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع قوله وعمله وهي الشفاعة التي تنال بتجريد التوحيد كما قال صلى الله عليه و سلم أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه والشفاعة الأولى هي الشفاعة التي ظنها المشركون وجعلوا الشرك وسيلة إليها فالمقامات ثلاثة
أحدها تجريد التوحيد وإثبات الأسباب وهذا هو الذي جاءت به الشرائع وهو مطابق للواقع في نفس الأمر والثاني الشرك في الأسباب بالمعبود كما هو حال المشركين علي اختلاف إصنافهم والثالث إنكار الأسباب بالكلية محافظة من منكرها على التوحيد فالمنحرفون طرفان مذمومان إما قادح في التوحيد بالأسباب وأما منكر للأسباب بالتوحيد والحق غير ذلك وهو إثبات التوحيد والأسباب وربط أحدهما بالآخر فالأسباب محل حكمه الديني والكوني والحكمان عليها يجريان بل عليها يترتب الأمر والنهى والثواب والعقاب ورضى الرب وسخطه ولعنته وكرامته والتوحيد تجريد الربوية والإلهية عن كل شرك فإنكار الأسباب إنكار الحكمة والشرك بها قدح في توحيده واثباتها والتعلق بالسبب والتوكل عليه والثقة به والخوف منه والرجاء له وحده هو محض التوحيد والمعرفة تفرق بين ما أثبته الرسول وبين ما نفاه وبين ما أبطله وبين ما اعتبره فهذا لون وهذا لون والله الموفق للصواب 0
فصل ويشبه هذا ما روى عنه صلى الله عليه و سلم من نهيه عن وطء الغيل وهو
وطء المرأة إذا كانت ترضع وإنه يشبه قتل الولد سرا وأنه يدرك الفارس قيد عثره وقوله في حديث آخر لقد هممت أن أنهى عنه ثم رأيت فارس والروم يفعلونه ولا يضر ذلك أولادهم شيئا وقد قيل أن أحد الحديثين منسوخ بالآخر وإن لم تعلم عين الناسخ منها من المنسوخ لعدم علمنا بالتاريخ وقيل وهو أحسن أن النفي والإثبات لم يتواردا على محل واحد فإنه صلى الله علية وسلم أخبر في أحد الجانبين أنه يفعل في الوليد مثل ما يفعل من يصرع الفارس عن فرسه كأنه يدعثره ويصرعه وذلك يوجب نوع أذى ولكنه ليس بقتل للولد وإهلاك له وإن كان قد يترتب عليه نوع أذى للطفل فأرشدهم إلى تركه ولم ينه عنه بل قال علام يفعل أحدكم ذلك ولم يقل لا تفعلوه فلم يجيء عنه صلى الله عليه و سلم لفظ واحد بالنهى عنه ثم عزم على النهى سدا لذريعة الأذى الذي ينال الرضيع فرأى أن سد هذه الذريعة لا يقاوم المفسدة التي تترتب على الإمساك عن وطء النساء مدة الرضاع ولا سيما

من الشباب وأرباب الشهوة التي لا يكرها إلا مواقعه نسائهم فرأى أن هذه المصلحة أرجح من مفسدة سد الذريعة فنظر ورأى الأمتين اللتين هما من اكثر الأمم وأشدها بأسا يفعلونه ولا يتقونه مع قوتهم وشدتهم فأمسك عن النهى عنه فلا تعارض إذا بين الحديثين ولا ناسخ منهما ولا منسوخ والله اعلم بمراد رسوله 0
فصل ويشبه هذا قوله صلى الله عليه و سلم للذي قال له إن لي أمة وأنا أكره
أن تحبل وإني أعزل عنها فقال سيأتيها ما قدر لها فليس بين هذه الأحاديث قوله الأحاديث تعارض فإنه صلى الله عليه و سلم لم يقل أن الولد يخلق من غير ماء الواطىء بل أخبر أنه سيأتيها ما قدر لها ولو عزل فأنه إذا قدر خلق الولد قدر سبق الماء والواطيء لا يشعر بل يخرج منه ماء يمازج ماء المرأة لا يشعر به يكون سببا في خلق الولد ولهذا قال ليس من كل الماء يكون الولد فلو خرج منه نطفة لا يحس بها لجعلها الله مادة للولد
قلت مادة الولد ليست مقصورة على وقوع الماء بحملته في الرحيم بل إذا قدر الله خلق الولد من الماء فلو وضع على صخرة لخلق منه الولد كيف والذي يعزل في الغالب إنما يلقى ماءه قريبا من الفرج وذلك إنما يكون غالبا عندما يحس بالإنزال وكثيرا ما ينزل بعض الماء ولا يشعر به فينزل خارج الفرج ولا شعور له بما ينزل في الفرج ولا بما خالط ماء المرأة منه وبالجملة فليس سبب خلق الولد مقصورا على الإنزال التام في الفرج ولقد حدثني غير واحد ممن أثق به أن امرأته حملت مع عزله عنها لرضاع وغيره ورأيت بعض أولادهم ضعيفا ضئيلا فصلوات الله وسلامه على من يصدق كلامه بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض فالاختلاف والإشكال والاشتباه إنما هو في الإفهام إلا فيما خرج من بين شفتيه من الكلام والواجب على كل مؤمن أن يكل ما أشكل عليه إلا أصدق قائل ويعلم أن فوق كل ذي علم عليم وأنه لو اعترض على ذي صناعة أو علم من العلوم التي استنبطتها معاول الأفكار ولم يحط علما بتلك الصناعة والعلم لا ندرى على نفسه وأضحك صاحب تلك الصناعة والعلم على عقله والنبي صلى الله عليه و سلم يذكر المقتضى في موضع والمانع في موضع آخر ويثبت الشيء وينفي مثله في الصورة وعكسه في الحقيقة ولا يحيط أكثر الناس بمجموع نصوصه علما ويسمع النص ولا يسمع شرطه ولا موانع مقتضاه ولا تخصيصه ولا ينتبه للفرق بين ما أثبته ونفاه فينشأ من ذلك في حقه من الاشكالات ما ينشأ وينضاف هذا إلى عدم معرفة الخاص بخطابه ومجارى كلامه وينضاف إلى ذلك تنزيل كلامه على الاصطلاحات التي أحدثها أرباب العلوم من الأصوليين والفقهاء وعلم أحوال القلوب وغيرهم فإن لكل من هؤلاء الاصطلاحات حادثة في مخاطباتهم وتصانيفهم فيجيء من قد ألف تلك

الاصطلاحات الحادثة وسبقت معانيها إلى قلبه فلم يعرف سواها فيسمع كلام الشارع فيحمله على ما ألفه من الاصطلاح فيقع بسبب ذلك في الفهم عن الشارع ما لم يرده بكلامه ويقع من الخلل في نظره ومناظرته ما يقع وهذا من أعظم أسباب الغلط عليه مع قلة البضاعة من معرفة نصوصه فأذا اجتمعت هذه الأمور مع نوع فساد في التصور أو القصد أوهما ما شئت من خبط وغلط واشكالات واشتمالات وضرب كلامه بعضه ببعض وإثبات ما نفاه ونفي ما أثبته والله المستعان 0
فصل وأما قضية المجذوم فلا ريب أنه روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
فر من المجذوم فرارك من الأسد وأرسل إلى ذلك المجذوم أنا قد بايعناك فارجع وأخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال كل ثقة بالله وتوكلا عليه ولا تنافي بين هذه الآثار ومن أحاط علما بما قدمناه تبين له وجهها وأن غاية ذلك أن مخالطة المجذوم من أسباب العدوى وهذا السبب يعارضه أسباب آخر تمنع اقتضاءه فمن أقواها التوكل على الله والثقة به فأنه يمنع تأثير ذلك السبب المكروه ولكن لا يقدر كل واحد من الأمة على هذا فأرشدهم إلى مجانبة سبب المكروه والفرار والبعد منه ولذلك أرسل إلى ذلك المجذوم الآخر بالبيعة تشريعا منه للفرار من أسباب الأذى والمكروه وأن لا يتعرض العبد لأسباب البلاء ثم وضع يده معه في القصعة فإنما هو سبب التوكل على الله والثقة به الذي هو من أعظم الأسباب التي يدفع بها المكروه والمحذور تعليما منه للأمة دفع الأسباب المكروهة بما هو أقوى منها وإعلاما بأن الضرر والنفع بيد الله عز و جل فإن شاء أن يضر عبده ضره وإن شاء أن يصرف عنه الضر صرقه بل إن شاء أن ينفعه بما هو من أسباب الضرر ويضره بما هو من أسباب النفع فعل ليتبين العباد أنه وحده الضار النافع وأن أسباب الضر والنفع بيديه وهو الذي جعلها أسبابا وإن شاء خلع منها سببيتها وان شاء جعل ما تقتضيه بخلاف المعهود منها ليعلم أنه الفاعل المختار وأنه لا يضر شيء ولا ينفع إلا بإذنه وأن التوكل عليه والثقة به تحيل الأسباب المكروهة إلى خلاف موجباتها وتبيين مرتبتها وأنها محال لمجارى مشيئة الله وحكمته وأنه سبحانه هو الذي يضربها وينفع ليس إليها ولا لها من الأمر شيء وأن الأمر كله لله وأنها إنما ينال ضررها من علق قلبه بها ووقف عندها وتطير بما يتطير به منها فذلك الذي يصيبه مكروه الطيرة والطيرة سبب للمكروه على المتطير فإذا توكل على الله ووثق به واستعان به لم يصده التطير عن حاجته وقال اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك فإنه لا يضره

ما يتطير منه شيئا قال ابن مسعود ما منا إلا من يعنى يتطير ولكن الله يذهبه بالتوكل وقد روى مرفوعا والصواب عن ابن مسعود قوله فالطيرة إنما تصيب المتطير لشركه والخوف دائما مع الشرك وإلا من دائما مع التوحيد قال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال في محاجته لقومه وكيف أخاف ما أشركتم به ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون فحكم الله عز و جل بين الفريقين بحكم فقال الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وقد صح عن رسول الله صلى الله علية وسلم تفسير الظلم فيها بالشرك وقال ألم تسمعوا قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم فالتوحيد من أقوى أسباب الأمن من المخاوف والشرك من أعظم أسباب حصول المخاوف ولذلك من خاف شيئا غير الله سلط عليه وكان خوفه منه هو سبب تسليطه عليه ولو خاف الله دونه ولم يخفه لكان عدم خوفه منه وتوكله على الله من أعظم أسباب نجاته منه وكذلك من رجا شيئا غير الله حرم ما رجاه منه وكان رجاؤه غير الله من أقوي أسباب حرمانه فإذا رجا الله وحده كان توحيد رجائه أقوى أسباب الفوز بما رجاه أو بنظيره أو بما هو أنفع له منه والله الموفق للصواب وليكن هذا آخر الكتاب وقد جلبت إليك فيه نفائس في مثلها يتنافس المتنافسون وجليت عليك فيه عرائس إلى مثلهن بادر الخاطبون فإن شئت اقتبست منه معرفة العلم وفضله وشدة الحاجة إليه وشرفه وشرف أهله وعظم موقعه في الدارين وإن شئت اقتبست منه معرفة إثبات الصانع بطرق واضحات جليات تلج القلوب بغير استئذان ومعرفة حكمته في خلقه وأمره وإن شئت اقتبست منه معرفة قدر الشريعة وشدة الحاجة إليها ومعرفة جلالتها وحكمتها وإن شئت اقتبست منه معرفة النبوة وشدة الحاجة إليها بل وضرورة الوجود إليها وأنه يستحيل من أحكم الحاكمين أن يخلى العالم عنها وإن شئت اقتبست منه معرفة ما فطر الله عليه العقول من تحسين الحسن وتقبيح القبيح وإن ذلك أمر عقلي فطرى بالأدلة والبراهين التي اشتمل عليها هذا الكتاب فلا توجد في غيره وإن شئت اقتبست منه معرفة الرد على المنجمين القائلين بالأحكام بأبلغ طرق الرد من نفس صناعتهم وعلمهم وإلزامهم بالألزامات المفخمة التي لا جواب لهم عنها وإبداء تناقضهم في صناعتهم وفضائحهم وكذبهم على الخلق والأمر وإن شئت اقتبست منه معرفة الطيرة والفأل والزجر والفرق بين صحيح ذلك وباطلة ومعرفة مراتب هذه في الشريعة والقدر وإن شئت اقتبست منه أصولا نافعة جامعة مما تكمل به النفس البشرية وتنال بها سعادتها في معاشها ومعادها إلى غير ذلك من الفوائد التي ما كان منها صوابا فمن الله وحده هو ألمان به وما كان منها من خطأ فمن مؤلفه ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله والله سبحانه المسئول والمرغوب إليه المأمول أن

يجعله خالصا لوجهه وأن يعيدنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه إنه قريب مجيب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا 0
كان في آخر الأصل ما نصه
الكتاب المسمى بمفتاح السعادة وهو كتاب نفيس لا يمل الجليس وفيه من بدائع الفوائد وفرائد القلائد ما لا يوجد ذلك لسواه وفيه من البحوث ما يستقصي كل علم إلى فنه واسمه مطابق لمسماه ولفظه موافق لمعناه فإن فيه من الإفادة ما يحدد إلى دار السعادة وذلك على يد أفقر خلق الله المتوكل في جميع أحواله المعترف بالخطأ والزلل والمسيء في القول والعمل أحمد بن محمد الصعيدي المكي الحنبلي عفا الله عنه وكان تمام ذلك في 22 رجب سنة 1841 وحسبنا الله ونعم الوكيل أشرف على تصحيحه ومراجعة الأستاذ فكرى أبو النصر من خريجي الأزهر الشريف 0

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5