الكتاب : بداية المجتهد و نهاية المقتصد
المؤلف : أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي

إلا بعد العجز عن الذي قبله وبالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداء من غير عجز عن الآخر فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وسائر الكوفيين: هي غير مرتبة فالعتق أولا فإن لم يجد فالصيام فإن لم يستطع فالإطعام. وقال مالك: هي على التخيير. وروى عنه ابن القاسم مع ذلك أنه يستحب الإطعام أكثر من العتق ومن الصيام. وسبب اختلافهم في وجوب الترتيب تعارض ظواهر الآثار في ذلك والأقيسة وذلك أن ظاهر حديث الأعرابي المتقدم يوجب أنها على الترتيب إذ سأله النبي عليه الصلاة والسلام عن الاستطاعة عليها مرتبا وظاهر ما رواه مالك من أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا أنها على التخيير إذ أو إنما تقتضي في لسان العرب التخيير وإن كان ذلك من لفظ الراوي الصاحب إذ كانوا هم أقعد بمفهوم الأحوال ودلالات الأقوال. وأما الأقيسة المعارضة في ذلك فتشبيهها تارة بكفارة الظهار وتارة بكفارة اليمين لكنها أشبه بكفارة الظهار منها بكفارة اليمين وأخذ الترتيب من حكاية لفظ الراوي. وأما استحباب مالك الابتداء بالإطعام فمخالف لظواهر الآثار وإنما ذهب إلى هذا من طريق القياس لأنه رأى الصيام قد وقع بدله الإطعام في مواضع شتى من الشرع وأنه مناسب له أكثر من غيره بدليل قراءة من قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ولذلك استحب هو وجماعة من العلماء لمن مات وعليه صوم أن يكفر بالإطعام عنه وهذا كأنه من باب ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول.
وأما المسألة الخامسة : وهو اختلافهم في مقدار الإطعام فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا: يطعم لكل مسكين مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزي أقل من مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك صاع لكل مسكين. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. أما القياس فتشبيه هذه الفدية بفدية الأذى المنصوص عليها. وأما الأثر فما روي في بعض طرق حديث الكفارة أن الفرق كان فيه خمسة عشر صاعا لكن ليس يدل كونه فيه خمسة عشر صاعا على الواجب من ذلك لكل مسكين

إلا دلالة ضعيفة وإنما يدل على أن بدل الصيام في هذه الكفارة هو هذا القدر.
وأما المسألة السادسة : وهي تكرر الكفارة بتكرر الإفطار فإنهم أجمعوا على أن من وطئ في يوم رمضان ثم كفر ثم وطئ في يوم آخر أن عليه كفارة أخرى وأجمعوا على أنه من وطئ مرارا في يوم واحد أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة. واختلفوا فيمن وطئ في يوم من رمضان ولم يكفر حتى وطئ في يوم ثان فقال مالك والشافعي وجماعة: عليه لكل يوم كفارة وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الجماع الأول. والسبب في اختلافهم تشبيه الكفارات بالحدود فمن شبهها بالحدود قال: كفارة واحدة تجزي في ذلك عن أفعال كثيرة كما يلزم الزاني جلد واحد وإن زنى ألف مرة إذا لم يحد لواحد منها ومن لم يشبهها بالحدود جعل لكل واحد من الأيام حكما منفردا بنفسه في هتك الصوم فيه أوجب في كل يوم كفارة. قالوا: والفرق بينهما أن الكفارة فيها نوع من القربة والحدود زجر محض.
وأما المسألة السابعة : وهي هل يجب عليه الإطعام إذا أيسر وكان معسرا في وقت الوجوب فإن الأوزاعي قال: لا شيء عليه إن كان معسرا. وأما الشافعي فتردد في ذلك. والسبب في اختلافهم في ذلك أنه حكم مسكوت عنه فيحتمل أن يشبه بالديون فيعود الوجوب عليه في وقت الإثراء ويحتمل أن يقال: لو كان ذلك واجبا عليه لبينه له عليه الصلاة والسلام فهذه أحكام من أفطر متعمدا في رمضان مما أجمع على أنه مفطر. وأما من أفطر مما هو مختلف فيه فإن بعض من أوجب فيه الفطر أوجب فيه القضاء والكفارة وبعضهم أوجب فيه القضاء فقط مثل من رأى الفطر من الحجامة ومن الاستقاء ومن بلع الحصاة ومثل المسافر يفطر أول يوم يخرج عند من يرى أنه ليس له أن يفطر في ذلك اليوم فإن مالكا أوجب فيه القضاء والكفارة وخالفه في ذلك سائر فقهاء الأمصار وجمهور أصحابه. وأما من أوجب القضاء والكفارة على من استقاء فأبو ثور والأوزاعي وسائر من يرى أن الاستقاء مفطر لا يوجبون إلا القضاء فقط. والذي أوجب القضاء والكفارة في الاحتجام من القائلين بأن الحجامة تفطر هو عطاء وحده. وسبب هذا الخلاف أن المفطر بشيء فيه اختلاف فيه شبه من غير المفطر ومن المفطر فمن غلب أحد

الشبهين أوجب له ذلك الحكم وهذان الشبهان الموجودان فيه هما اللذان أوجبا فيه الخلاف أعني هل هو مفطر أو غير مفطر ولكون الإفطار شبهة لا يوجب الكفارة عند الجمهور وإنما يوجب القضاء فقط نزع أبو حنيفة إلى أنه من أفطر متعمدا الفطر ثم طرأ عليه في ذلك اليوم سبب مبيح للفطر أنه لا كفارة عليه كالمرأة تفطر عمدا ثم تحيض باقي النهار وكالصحيح يفطر عمدا ثم يمرض والحاضر يفطر ثم يسافر فمن اعتبر الأمر في نفسه أعني أنه مفطر في يوم جاز له الإفطار فيه لم يوجب عليهم كفارة وذلك أن كل واحد من هؤلاء قد كشف الغيب أنه أفطر في يوم جاز له الإفطار فيه ومن اعتبر الاستهانة بالشرع أوجب عليه الكفارة لأنه حين أفطر لم يكن عنده علم بالإباحة وهو مذهب مالك والشافعي. ومن هذا الباب إيجاب مالك القضاء فقط على من أكل وهو شاك في الفجر وإيجابه القضاء والكفارة على من أكل وهو شاك في الغروب على ما تقدم من الفرق بينهما. واتفق الجمهور على أنه ليس في الفطر عمدا في قضاء رمضان كفارة لأنه ليس له حرمة زمان الأداء: أعني رمضان إلا قتادة فإنه أوجب عليه القضاء والكفارة. وروي عن ابن القاسم وابن وهب أن عليه يومين قياسا على الحج الفاسد. وأجمعوا على أن من سنن الصوم تأخير السحور وتعجيل الفطر لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" وقال: "تسحروا فإن في السحور بركة" وقال عليه الصلاة والسلام: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" وكذلك جمهورهم على أن من سنن الصوم ومرغباته كف اللسان عن الرفث والخنا لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الصوم جنة فإذا أصبح أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم" وذهب أهل الظاهر إلى أن الرفث يفطر وهو شاذ فهذه مشهورات ما يتعلق بالصوم المفروض من المسائل وبقي القول في الصوم المندوب إليه وهو القسم الثاني من هذا الكتاب.

الصوم المندوب إليه
كتاب الصيام الثاني وهو المندوب إليه
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصيام الثاني وهو المندوب إليه
والنظر في الصيام المندوب إليه هو في تلك الأركان الثلاثة وفي حكم الإفطار فيه. فأما الأيام التي يقع فيها الصوم المندوب إليه وهو الركن الأول فإنها على ثلاثة أقسام: أيام مرغب فيها وأيام منهي عنها وأيام مسكوت عنها. ومن هذه ما هو مختلف فيه ومنها ما هو متفق عليه. أما المرغب فيه المتفق عليه فصيام يوم عاشوراء. وأما المختلف فيه فصيام يوم عرفة وست من شوال والغرر من كل شهر وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. أما صيام يوم عاشوراء فلأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه وقال فيه: "من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه" واختلفوا فيه هل هو التاسع أو العاشر. والسبب في ذلك اختلاف الآثار خرج مسلم عن ابن عباس قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت: هكذا كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم. وروي أنه حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما اختلافهم في يوم عرفة فلأن النبي عليه الصلاة والسلام أفطر يوم عرفة وقال فيه: "صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والآتية" ولذلك اختلف الناس في ذلك واختار الشافعي الفطر فيه للحاج وصيامه لغير الحاج جمعا بين الأثرين. وخرج أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة وأما الست من شوال فإنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر" إلا أن مالكا كره ذلك إما مخافة أن يلحق الناس برمضان

ما ليس في رمضان وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده وهو الأظهر وكذلك كره مالك تحري صيام الغرر مع ما جاء فيها من الأثر مخافة أن يظن الجهال بها أنها واجبة وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام غير معينة وأنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص لما أكثر الصيام: "أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟" قال: فقلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك قال: "خمسا" قلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك قال: "سبعا" قلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك قال: "تسعا" قلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك قال: "أحد عشر" قلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: "لا صوم فوق صيام داود شطر الدهر صيام يوم وإفطار يوم" وخرج أبو داود أنه كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس وثبت أنه لم يستتم قط شهرا بالصيام غير رمضان وأن أكثر صيامه كان في شعبان. وأما الأيام المنهي عنها فمنها أيضا متفق عليها ومنها مختلف فيها. أما المتفق عليها فيوم الفطر ويوم الأضحى لثبوت النهي عن صيامهما. وأما المختلف فيها فأيام التشريق ويوم الشك ويوم الجمعة ويوم السبت والنصف الآخر من شعبان وصيام الدهر. أما أيام التشريق فإن أهل الظاهر لم يجيزوا الصوم فيها. وقوم أجازوا ذلك فيها. وقوم كرهوه وبه قال مالك إلا أنه أجاز صيامها لمن وجب عليه الصوم في الحج وهو المتمتع وهذه الأيام هي الثلاثة الأيام التي بعد يوم النحر. والسبب في اختلافهم تردد قوله عليه الصلاة والسلام في: "أنها أيام أكل وشرب" بين أن يحمل على الوجوب أو على الندب فمن حمله على الوجوب قال: الصوم يحرم ومن حمله على الندب قال: الصوم مكروه ويشبه أن يكون من حمله على الندب إنما صار إلى ذلك وغلبه على الأصل الذي هو حمله على الوجوب لأنه رأى أنه إن حمله على الوجوب عارضه حديث أبي سعيد الخدري الثابت بدليل الخطاب وهو أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصح الصيام في يومين يوم الفطر من رمضان

ويوم النحر" فدليل الخطاب يقتضي أن ما عدا هذين اليومين يصح الصيام فيه وإلا كان تخصيصهما عبثا لا فائدة فيه. وأما يوم الجمعة فإن قوما لم يكرهوا صيامه ومن هؤلاء مالك وأصحابه وجماعة وقوم كرهوا صيامه إلا أن يصام قبله أو بعده. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك فمنها حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قال: وما رأيته يفطر يوم الجمعة وهو حديث صحيح. ومنها حديث جابرأن سائلا سأل جابرا أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم؟ قال: نعم ورب هذا البيت خرجه مسلم. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده" خرجه أيضا مسلم فمن أخذ بظاهر حديث ابن مسعود أجاز صيام يوم الجمعة مطلقا ومن أخذ بظاهر حديث جابر كرهه مطلقا ومن أخذ بحديث أبي هريرة جمع بين الحديثين أعني حديث جابر وحديث ابن مسعود. وأما يوم الشك فإن جمهور العلماء على النهي عن صيام يوم الشك على أنه من رمضان لظواهر الأحاديث التي يوجب مفهومها تعلق الصوم بالرؤية أو بإكمال العد إلا ما حكيناه عن ابن عمر واختلفوا في تحري صيامه تطوعا فمنهم من كرهه على ظاهر حديث عمار: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم ومن أجازه فلأنه قد روي أنه عليه الصلاة والسلام صام شعبان كله ولما قد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا تتقدموا رمضان بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم فليصمه" كان الليث بن سعد يقول: إنه إن صامه على أنه من رمضان ثم جاءه الثبت أنه من رمضان أجزأه وهذا دليل على أن النية تقع بعد الفجر في التحول من نية التطوع إلى نية الفرض. وأما يوم السبت فالسبب في اختلافهم فيه اختلافهم في تصحيح ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" خرجه أبو داود قالوا:

والحديث منسوخ نسخه حديث جويرية بنت الحارث أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: "صمت أمس؟" فقالت: لا فقال: "تريدين أن تصومي غدا ؟" قالت: لا قال: "فأفطري" . وأما صيام الدهر فإنه قد ثبت النهي عن ذلك لكن مالكا لم ير بذلك بأسا وعسى رأي النهي في ذلك إنما هو من باب خوف الضعف والمرض. وأما صيام النصف الآخر من شعبان فإن قوما كرهوه وقوما أجازوه فمن كرهوه فلما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان" ومن أجازه فلما روي عن أم سلمة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان ولما روي عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن شعبان برمضان وهذه الآثار خرجها الطحاوي. وأما الركن الثاني وهو النية فلا أعلم أن أحدا لم يشترط النية في صوم التطوع وإنما اختلفوا في وقت النية على ما تقدم. وأما الركن الثالث وهو الإمساك عن المفطرات فهو بعينه الإمساك الواجب في الصوم المفروض والاختلاف الذي هنالك لاحق هاهنا. وأما حكم الإفطار في التطوع فإنهم أجمعوا على أنه ليس على من دخل في صيام تطوع فقطعه لعذر قضاء. واختلفوا إذا قطعه لغير عذر عامدا فأوجب مالك وأبو حنيفة عليه القضاء. وقال الشافعي وجماعة: ليس عليه قضاء. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك وذلك أن مالكا روى أن حفصة وعائشة زوجي النبي عليه الصلاة والسلام أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدي لهما طعام فأفطرتا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقضيا يوما مكانه" وعارض هذا حديث أم هانئ قالت: لما كان يوم الفتح فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناول أم هانئ فشربت منه قالت: يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها عليه الصلاة والسلام: "أكنت تقضين شيئا؟" قالت: لا قال: "فلا يضرك إن كان تطوعا" واحتج الشافعي في هذا المعنى بحديث عائشة أنها قالت: دخل

علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أنا خبأت لك خبئا فقال: "أما إني كنت أريد الصيام ولكن قربيه" وحديث عائشة وحفصة غير مسند. ولاختلافهم أيضا في هذه المسألة سبب آخر وهو تردد الصوم للتطوع بين قياسه على صلاة التطوع أو على حج التطوع وذلك أنهم أجمعوا على أن من دخل في الحج والعمرة متطوعا يخرج منهما أن عليه القضاء. وأجمعوا على أن من خرج من صلاة التطوع فليس عليه قضاء فيما علمت وزعم من قاس الصوم على الصلاة أنه أشبه بالصلاة منه بالحج لأن الحج له حكم خاص في هذا المعنى وهو أنه يلزم المفسد له المسير فيه إلى آخره وإذا أفطر في التطوع ناسيا فالجمهور على أن لا قضاء عليه وقال ابن علية عليه القضاء قياسا على الحج ولعل مالكا حمل حديث أم هانئ على النسيان وحديث أم هانئ خرجه أبو داود وكذلك خرج حديث عائشة بقريب من اللفظ الذي ذكرناه وخرج حديث عائشة وحفصة بعينه.

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الاعتكافوالاعتكاف مندوب إليه بالشرع واجب بالنذر ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مالك أنه كره الدخول فيه مخافة أن لا يوفي شرطه وهو في رمضان أكثر منه في غيره وبخاصة في العشر الأواخر منه إذ كان ذلك هو آخر اعتكافه صلى الله عليه وسلم وهو بالجملة يشتمل على عمل مخصوص في موضع مخصوص وفي زمان مخصوص بشروط مخصوصة وتروك مخصوصة. فأما العمل الذي يخصه ففيه قولان: قيل إنه الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب. وهو مذهب ابن القاسم. وقيل جميع أعمال القرب والبر المختصة بالآخرة وهو مذهب ابن وهب فعلى هذا المذهب يشهد الجنائز ويعود المرضى ويدرس العلم وعلى المذهب الأول لا وهذا هو مذهب الثوري والأول هو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وسبب اختلافهم أن ذلك شيء مسكوت عنه أعني أنه ليس فيه حد مشروع بالقول فمن فهم من الاعتكاف حبس النفس على الأفعال المختصة بالمساجد قال: لا يجوز

للمعتكف إلا الصلاة والقراءة. ومن فهم منه حبس النفس الأخروية كلها أجاز له غير ذلك مما ذكرناه. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من اعتكف لا يرفث ولا يساب وليشهد الجمعة والجنازة ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو قائم ولا يجلس. ذكره عبد الرزاق. وروي عن عائشة خلاف هذا وهو أن السنة للمعتكف أن لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا وهذا أيضا أحد ما أوجب الاختلاف في هذا المعنى. وأما المواضع التي فيها يكون الاعتكاف فإنهم اختلفوا فيها فقال قوم: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة بيت الله الحرام وبيت المقدس ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام وبه قال حذيفة و سعيد بن المسيب. وقال آخرون: الاعتكاف عام في كل مسجد وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وهو مشهور مذهب مالك. وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد فيه جمعة وهي رواية ابن عبد الحكم عن مالك. وأجمع الكل على أن من شرط الاعتكاف المسجد إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أنه يصح في غير المسجد وأن مباشرة النساء إنما حرمت على المعتكف إذا اعتكف في المسجد وإلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن المرأة إنما تعتكف في مسجد بيتها. وسبب اختلافهم في اشتراط المسجد أو ترك اشتراطه هو الاحتمال الذي في قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} بين أن يكون له دليل خطاب أم لا يكون له؟ فمن قال له دليل خطاب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد وإن من شرط الاعتكاف ترك المباشرة. ومن قال ليس له دليل خطاب قال: المفهوم منه أن الاعتكاف جائز في غير المسجد وأنه لا يمنع المباشرة لأن قائلا لو قال: لا تعط فلانا شيئا إذا كان داخلا في الدار لكن مفهوم دليل الخطاب يوجب أن تعطيه إذا كان خارج الدار ولكن هو قول شاذ. والجمهور على أن العكوف إنما أضيف إلى المساجد لأنها من شرطه. وأما سبب اختلافهم في تخصيص بعض المساجد أو تعميمها فمعارضة العموم للقياس المخصص له فمن رجح العموم قال: في كل مسجد على ظاهر الآية. ومن انقدح له تخصيص بعض المساجد من ذلك العموم بقياس اشترط أن يكون مسجدا فيه جمعة لئلا ينقطع عمل المعتكف بالخروج إلى الجمعة أو مسجدا تشد إليه المطي مثل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع فيه اعتكافه ولم يقس سائر المساجد عليه إذا كانت غير

مساوية له في الحرمة. وأما سبب اختلافهم في اعتكاف المرأة فمعارضة القياس أيضا للأثر وذلك أنه ثبت أن حفصة وعائشة وزينب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن حين ضربن أخبيتهن فيه فكان هذا الأثر دليلا على جواز اعتكاف المرأة في المسجد. وأما القياس المعارض لهذا فهو قياس الاعتكاف على الصلاة وذلك أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء في الخبر وجب أن يكون الاعتكاف في بيتها أفضل. قالوا: وإنما يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد مع زوجها فقط على نحو ما جاء في الأثر من اعتكاف أزواجه عليه الصلاة والسلام معه كما تسافر معه ولا تسافر مفردة وكأنه نحو من الجمع بين القياس والأثر. وأما زمان الاعتكاف فليس لأكثره عندهم حد واجب وإن كان كلهم يختار العشر الأواخر من رمضان بل يجوز الدهر كله إما مطلقا عند من لا يرى الصوم من شروطه وإما ما عدا الأيام التي لا يجوز صومها عند من يرى الصوم من شروطه. وأما أقله فإنهم اختلفوا فيه وكذلك اختلفوا في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف لاعتكافه وفي الوقت الذي يخرج فيه منه. أما أقل زمان الاعتكاف فعند الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء أنه لا حد له. واختلف عن مالك في ذلك فقيل ثلاثة أيام وقيل يوم وليلة. وقال ابن القاسم عنه أقله عشرة أيام وعند البغدادين من أصحابه أن العشرة استحباب وأن أقله يوم وليلة. والسبب في اختلافهم معارضة القياس للأثر أما القياس فإنه من اعتقد أن من شرطه الصوم قال: لا يجوز اعتكاف ليلة وإذا لم يجز اعتكافه ليلة فلا أقل من يوم وليلة إذ انعقاد صوم النهار إنما يكون بالليل. وأما الأثر المعارض فما خرجه البخاري من أن عمر رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره ولا معنى للنظر مع الثابت من مذهب الأثر. وأما اختلافهم في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف إلى اعتكافه إذا نذر أياما معدودة أو يوما واحدا فإن مالكا والشافعي وأبا حنيفة اتفقوا على أنه من نذر اعتكاف شهر أنه يدخل المسجد قبل غروب الشمس. وأما من نذر أن يعتكف يوما فإن الشافعي قال:

من أراد أن يعتكف يوما واحدا دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروبها. وأما مالك فقوله في اليوم والشهر واحد بعينه. وقال زفر والليث: يدخل قبل طلوع الفجر واليوم والشهر عندهما سواء. وفرق أبو ثور بين نذر الليالي والأيام فقال: إذا نذر أن يعتكف عشرة أيام دخل قبل طلوع الفجر وإذا نذر عشر ليال دخل قبل غروبها. وقال الأوزاعي: يدخل في اعتكافه بعد صلاة الصبح. والسبب في اختلافهم معارضة الأقيسة بعضها بعضا ومعارضة الأثر لجميعها وذلك أنه من رأى أن أول الشهر ليله واعتبر الليالي قال: يدخل قبل مغيب الشمس ومن لم يعتبر الليال قال: يدخل قبل الفجر ومن رأى أن اسم اليوم يقع على الليل والنهار معا أوجب إن نذر يوما أن يدخل قبل غروب الشمس ومن رأى أنه إنما ينطلق على النهار أوجب الدخول قبل طلوع الفجر ومن رأى أن اسم اليوم خاص بالنهار واسم الليل بالليل فرق بين أن ينذر أياما أو ليالي. والحق أن اسم اليوم في كلام العرب قد يقال على النهار مفردا وقد يقال على الليل والنهار معا لكن يشبه أن يكون دلالته الأولى إنما هي على النهار ودلالته على الليل بطريق اللزوم. وأما الأثر المخالف لهذه الأقيسة كلها فهو ما خرجه البخاري وغيره من أهل الصحيح عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي كان يعتكف فيه. وأما وقت خروجه فإن مالكا رأى أن يخرج المعتكف العشر الأواخر من رمضان من المسجد إلى صلاة العيد على جهة الاستحباب وأنه إن خرج بعد غروب الشمس أجزأه. وقال الشافعي وأبو حنيفة بل يخرج بعد غروب الشمس. وقال سحنون وابن الماجشون: إن رجع إلى بيته قبل صلاة العيد فسد اعتكافه. وسبب الاختلاف هل الليلة الباقية هي من حكم العشر أم لا؟ وأما شروطه فثلاثة: النية والصيام وترك مباشرة النساء. أما النية فلا أعلم فيها اختلافا. وأما الصيام فإنهم اختلفوا فيه فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أنه لا اعتكاف إلا بالصوم. وقال الشافعي: الاعتكاف جائز بغير صوم وبقول مالك قال من الصحابة ابن عمر وابن عباس على خلاف عنه في ذلك وبقول الشافعي قال علي وابن مسعود. والسبب في اختلافهم أن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما وقع

في رمضان فمن رأى أن الصوم المقترن باعتكافه هو شرط في الاعتكاف وإن لم يكن الصوم للاعتكاف نفسه قالا: لا بد من الصوم مع الاعتكاف ومن رأى أنه إنما اتفق ذلك اتفاقا لا على أن ذلك كان مقصودا له عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف قال: ليس الصوم من شرطه. ولذلك أيضا سبب آخر وهو اقترانه مع الصوم في آية واحدة. وقد احتج الشافعي بحديث عمر المتقدم وهو أنه أمره عليه الصلاة والسلام أن يعتكف ليلة والليل ليس بمحل للصيام. واحتجت المالكية بما روى عبد الرحمن بن إسحاق عن عروة عن عائشة أنها قالت: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج إلا ما لا بد له منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. قال أبو عمر ابن عبد البر: لم يقل أحد في حديث عائشة: هذا السنة إلا عبد الرحمن بن إسحاق ولا يصح هذا الكلام عندهم إلا من قول الزهري وإن كان الأمر هكذا بطل أن يجري مجرى المسند. وأما الشرط الثالث وهي المباشرة فإنهم أجمعوا على أن المعتكف إذا جامع عامدا بطل اعتكافه إلا ما روي عن ابن لبابة في غير المسجد واختلفوا فيه إذا جامع ناسيا واختلفوا أيضا في فساد الاعتكاف بما دون الجماع من القبلة واللمس فرأى مالك أن جميع ذلك يفسد الاعتكاف. وقال أبو حنيفة: وليس في المباشرة فساد إلا أن ينزل وللشافعي قولان: أحدهما مثل قول مالك. والثاني مثل قول أبي حنيفة. وسبب اختلافهم هل الاسم المتردد بين الحقيقة والمجاز له عموم أم لا؟ وهو أحد أنواع الاسم المشترك فمن ذهب إلى أن له عموما قال: إن المباشرة في قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ينطلق على الجماع وما دونه ومن لم ير عموما وهو الأشهر الأكثر قال: يدل إما على الجماع وإما على ما دون الجماع فإذا قلنا إنه يدل على الجماع بإجماع بطل أن يدل على غير الجماع لأن الاسم الواحد لا يدل على الحقيقة والمجاز معا ومن أجرى الإنزال بمنزلة الوقاع فلأنه في معناه ومن خالف فلأنه لا ينطلق عليه الاسم حقيقة واختلفوا فيما يجب على المجامع فقال الجمهور لا شيء عليه وقال قوم: عليه كفارة فبعضهم قال: كفارة المجامع في رمضان وبه قال الحسن وقال قوم: يتصدق بدينارين وبه قال

مجاهد وقال قوم: يعتق رقبة فإن لم يجد أهدى بدنة فإن لم يجد تصدق بعشرين صاعا من تمر. وأصل الخلاف هل يجوز القياس في الكفارة أم لا؟ والأظهر أنه لا يجوز واختلفوا في مطلق النذر بالاعتكاف هل من شرطه التتابع أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: ذلك من شرطه. وقال الشافعي: ليس من شرطه ذلك. والسبب في اختلافهم قياسه على نذر الصوم المطلق. وأما موانع الاعتكاف فاتفقوا على أنها ما عدا الأفعال التي هي أعمال المعتكف وأنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو ما هو في معناها مما تدعو إليه الضرورة لما ثبت من حديث عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان واختلفوا إذا خرج لغير حاجة متى ينقطع اعتكافه فقال الشافعي: ينتقض اعتكافه عند أول خروجه وبعضهم رخص في الساعة وبعضهم في اليوم واختلفوا هل له أن يدخل بيتا غير بيت مسجده؟ فرخص فيه بعضهم وهو الأكثر مالك والشافعي وأبو حنيفة ورأى بعضهم أن ذلك يبطل اعتكافه وأجاز مالك له البيع والشراء وأن يلي عقد النكاح وخالفه غيره في ذلك. وسبب اختلافهم أنه ليس في ذلك حد منصوص عليه إلا الاجتهاد وتشبيه ما لم يتفقوا عليه بما اتفقوا عليه. واختلفوا أيضا هل للمعتكف أن يشترط فعل شيء مما يمنعه الاعتكاف فينفعه شرطه في الإباحة أم ليس ينفعه ذلك مثل أن يشترط شهود جنازة أو غير ذلك؟ فأكثر الفقهاء على أن شرطه لا ينفعه وأنه إن فعل بطل اعتكافه وقال الشافعي: ينفعه شرطه. والسبب في اختلافهم تشبيههم الاعتكاف بالحج في أن كليهما عبادة مانعة لكثير من المباحات والاشتراط في الحج إنما صار إليه من رآه لحديث ضباعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "أهلي بالحج واشترطي أن تحلي حيث حبستني" لكن هذا الأصل مختلف فيه في الحج فالقياس فيه ضعيف عند الخصم المخالف له. واختلفوا إذا اشترط التتابع في النذر أو كان التتابع لازما فمطلق في النذر عند من يرى ذلك ما هي الأشياء التي إذا قطعت الاعتكاف أوجبت الاستئناف أو البناء مثل المرض فإن منهم من قال: إذا قطع المرض الاعتكاف بنى المعتكف وهو قول مالك

وأبي حنيفة والشافعي ومنهم من قال: يستأنف الاعتكاف وهو قول الثوري. ولا خلاف فيما أحسب عندهم أن الحائض تبني واختلفوا هل يخرج من المسجد أم ليس يخرج وكذلك اختلفوا إذا جن المعتكف أو أغمي عليه هل يبني أو ليس يبني بل يستقبل. والسبب في اختلافهم في هذا الباب أنه ليس في هذه الأشياء شيء محدود من قبل السمع فيقع التنازع من قبل تشبيههم ما اتفقوا عليه بما اختلفوا فيه أعني بما اتفقوا عليه في هذه العبادة أو في العبادات التي من شرطها التتابع مثل صوم الظهار وغيره. والجمهور على أن اعتكاف المتطوع إذا قطع لغير عذر أنه يجب فيه القضاء لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف فاعتكف عشرا من شوال وأما الواجب بالنذر فلا خلاف في قضائه فيما أحسب والجمهور على أن من أتى كبيرة انقطع اعتكافه فهذه جملة ما رأينا أن نثبته في أصول هذا الباب وقواعده والله الموفق والمعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

كتاب الحج
مدخلبسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما
كتاب الحجوالنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أجناس: الجنس الأول. يشتمل على الأشياء التي تجري من هذه العبادة مجرى المقدمات التي تجب معرفتها لعمل هذه العبادة. الجنس الثاني: في الأشياء التي تجري منها مجرى الأركان وهي الأمور المعمولة أنفسها والأشياء المتروكة. الجنس الثالث: في الأشياء التي تجري منها مجرى الأمور اللاحقة وهي أحكام الأفعال وذلك أن كل عبادة فإنها توجد مشتملة على هذه الثلاثة الأجناس.

الجنس الأول
وهذا الجنس يشتمل على شيئين: على معرفة الوجوب وشروطه وعلى من يجب ومتى يجب؟ فأما وجوبه فلا خلاف فيه لقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وأما شروط الوجوب

الجنس الثاني
مدخل
القول في الجنس الثاني
وهو تعريف أفعال هذه العبادة في نوع نوع منها والتروك المشترطة فيها وهذه العبادة كما قلنا صنفان: حج وعمرة والحج ثلاثة أصناف: إفراد وتمتع وقران وهي كلها تشتمل على أفعال محدودة في أمكنة محدودة وأوقات محدودة ومنها فرض ومنها غير فرض وعلى تروك تشترط في تلك الأفعال ولكل من هذه أحكام محدودة إما عند الإحلال بها وإما عند الطوارئ المانعة

منها فهذا الجنس ينقسم أولا إلى القول في الأفعال وإلى القول في التروك. وأما الجنس الثالث فهو الذي يتضمن القول في الأحكام فلنبدأ بالأفعال وهذه منها ما تشترك فيه هذه الأربعة الأنواع من النسك أعني أصناف الحج الثلاث والعمرة ومنها ما يختص بواحد واحد منها فلنبدأ من القول فيها بالمشترك ثم نصير إلى ما يخص واحدا واحدا منها فنقول: إن الحج والعمرة أول أفعالهما الفعل الذي يسمى الإحرام.

القول في شروط الإحرام
أولاً: المكان
والإحرام شروطه الأول المكان والزمان أما المكان فهو الذي يسمى مواقيت الحج فلنبدأ بهذا فنقول: إن العلماء بالجملة مجمعون على أن المواقيت التي منها يكون الإحرام أما لأهل المدينة فذو الحليفة وأما لأهل الشام فالجحفة ولأهل نجد قرن وأهل اليمن يلملم لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وغيره. واختلفوا في ميقات أهل العراق فقال جمهور فقهاء الأمصار ميقاتهم من ذات عرق. وقال الشافعي والثوري: إن أهلوا من العقيق كان أحب. واختلفوا فيمن أقته لهم فقالت طائفة: عمر بن الخطاب. وقالت طائفة: بل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أقت لأهل العراق ذات عرق والعقيق. وروي ذلك من حديث جابر وابن عباس وعائشة وجمهور العلماء على أن من يخطئ هذه وقصده الإحرام فلم يحرم إلا بعدها أن عليه دما وهؤلاء منهم من قال: إن رجع إلى الميقات فأحرم منه سقط عنه الدم ومنهم الشافعي. ومنهم من قال: لا يسقط عنه الدم وإن رجع وبه قال مالك. وقال قوم: ليس عليه دم. وقال آخرون: إن لم يرجع إلى الميقات فسد حجه وأنه يرجع إلى الميقات فيهل منه بعمرة وهذا يذكر في الأحكام. وجمهور العلماء على أن من كان منزله دونهن فميقات إحرامه من منزله. واختلفوا هل الأفضل إحرام الحاج منهن أو من منزله إذا كان منزله خارجا منهن؟ فقال قوم: الأفضل له من منزله والإحرام منها رخصة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة. وقال مالك وإسحق وأحمد: إحرامه من المواقيت أفضل وعمدة هؤلاء الأحاديث المتقدمة وأنها السنة التي سنها رسول الله

صلى الله عليه وسلم فهي أفضل وعمدة الطائفة الأخرى أن الصحابة قد أحرمت من قبل الميقات ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وغيرهم قالوا: وهم أعرف بالسنة وأصول أهل الظاهر تقتضي أن لا يجوز الإحرام إلا من الميقات إلا أن يصح إجماع على خلافه. واختلفوا فيمن ترك الإحرام من ميقاته وأحرم من ميقات آخر غير ميقاته مثل أن يترك أهل المدينة الإحرام من ذي الحليفة ويحرموا من الجحفة فقال قوم: عليه دم وممن قال به مالك وبعض أصحابه. وقال أبو حنيفة: ليس عليه شيء. وسبب الخلاف هل هو من النسك الذي يجب في تركه الدم أم لا؟ ولا خلاف أنه يلزم الإحرام من مر بهذه المواقيت ممن أراد الحج أو العمرة. وأما من لم يردهما ومر بهما فقال قوم: كل من مر بهما يلزمه الإحرام إلا من يكثر ترداده مثل الحطابين وشبههم وبه قال مالك. وقال قوم: لا يلزم الإحرام بها إلا لمريد الحج أو العمرة وهذا كله لمن ليس من أهل مكة. وأما أهل مكة فإنهم يحرمون بالحج منها أو بالعمرة يخرجون إلى الحل ولابد. وأما متى يحرم بالحج أهل مكة فقيل إذا رأوا الهلال وقيل إذا خرج الناس إلى منى فهذا هو ميقات المكان المشترط لأنواع هذه العبادة.

ثانياً: الزمان
...
القول في ميقات الزمان
وأما ميقات الزمان فهو محدود أيضا في أنواع الحج الثلاث وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة باتفاق. وقال مالك: الثلاث الأشهر كلها محل للحج. وقال الشافعي: الشهران وتسع من ذي الحجة. وقال أبو حنيفة: عشر فقط ودليل قول مالك عموم قوله سبحانه وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فوجب أن يطلق على جميع أيام ذي الحجة أصله انطلاقه على جميع أيام شوال وذي القعدة. ودليل الفريق الثاني انقضاء الإحرام قبل تمام الشهر الثالث بانقضاء أفعاله الواجبة. وفائدة الخلاف تأخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر وإن أحرم بالحج قبل أشهر الحج كرهه مالك ولكن صح إحرامه عنده. وقال غيره: لا يصح إحرامه. وقال الشافعي ينعقد إحرامه إحرام عمرة فمن شبهه بوقت الصلاة قال: لا يقع قبل الوقت ومن اعتمد عموم قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قال متى أحرم انعقد إحرامه

لأنه مأمور بالإتمام وربما شبهوا الحج في هذا وشبهوا ميقات الزمان بميقات العمرة. فأما مذهب الشافعي فهو مبني على أن من التزم عبادة في وقت نظيرتها انقلبت إلى النظير مثل أن يصوم نذرا في أيام رمضان وهذا الأصل فيه اختلاف في المذهب. وأما العمرة فإن العلماء اتفقوا على جوازها في كل أوقات السنة لأنها كانت في الجاهلية لا تصنع في أيام الحج وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وقال أبو حنيفة: تجوز في كل السنة إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق فإنها تكره. واختلفوا في تكريرها في السنة الواحدة مرارا فكان مالك يستحب عمرة في كل سنة ويكره وقوع عمرتين عنده وثلاثا في السنة الواحدة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا كراهية في ذلك فهذا هو القول في شروط الإحرام الزمانية والمكانية. ويبنغي بعد ذلك أن نصير إلى القول في الإحرام وقبل ذلك ينبغي أن نقول في تروكه ثم نقول بعد ذلك في الأفعال الخاصة بالمحرم إلى حين إحلاله وهي أفعال الحج كلها وتروكه ثم نقول في أحكام الإخلال بالتروك والأفعال ولنبدأ بالتروك.

القول في التروك وهو ما يمنع الإحرام من الأمور المباحة للحلال
والأصل في هذا الباب ما ثبت من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس" فاتفق العلماء على بعض الأحكام الواردة في هذا الحديث واختلفوا في بعضها فمما اتفقوا عليه أنه لا يلبس المحرم قميصا ولا شيئا مما ذكر في هذا الحديث ولا ما كان في معناه من مخيط الثياب وأن هذا مخصوص بالرجال أعني تحريم لبس المخيط وأنه

لا بأس للمرأة بلبس القميص والدرع والسراويل والخفاف والخمر. واختلفوا فيمن لم يجد غير السراويل هل له لباسها؟ فقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز له لباس السراويل وإن لبسها افتدى. وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود: لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا وعمدة مذهب مالك ظاهر حديث ابن عمر المتقدم قال: ولو كان في ذلك رخصة لاستثناها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استثنى في لبس الخفين. وعمدة الطائفة الثانية حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين" وجمهور العلماء على إجازة لباس الخفين مقطوعين لمن لم يجد النعلين. وقال أحمد: جائز لمن لم يجد النعلين أن يلبس الخفين غير مقطوعين أخذا بمطلق حديث ابن عباس. وقال عطاء: في قطعهما فساد والله لا يحب الفساد. واختلفوا فيمن لبسهما مقطوعين مع وجود النعلين فقال مالك: عليه الفدية وبه قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه والقولان عن الشافعي وسنذكر هذا في الأحكام. وأجمع العلماء على أن المحرم لا يلبس الثوب المصبوغ بالورس والزعفران لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: "لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس" واختلفوا في المعصفر فقال مالك: ليس به بأس فإنه ليس بطيب. وقال أبو حنيفة والثوري: هو طيب وفيه الفدية وحجة أبي حنيفة ما خرجه مالك عن علي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس القسي وعن لبس المعصفر وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستر به عن نظر الرجال إليها كنحو ما روي عن عائشة أنها قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون فإذا مر بنا ركب سدلنا على وجوهنا الثوب من قبل رؤوسنا وإذا جاوز الركب رفعناه ولم يأت تغطية وجوههن إلا ما رواه مالك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق. واختلفوا في تخمير المحرم وجهه بعد إجماعهم على أنه لا يخمر رأسه فروى مالك

عن ابن عمر أن ما فوق الذقن من الرأس لا يخمره المحرم وإليه ذهب مالك. وروي عنه أنه إن فعل ذلك ولم ينزعه من مكانه افتدى. وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو داود وأبو ثور يخمر المحرم وجهه إلى الحاجبين. وروي من الصحابة عن عثمان وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص. واختلفوا في لبس القفازين للمرأة فقال: مالك إن لبست المرأة القفازين افتدت ورخص فيه الثوري وهو مروي عن عائشة. والحجة لمالك ما خرجه أبو داود عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن النقاب والقفازين وبعض الرواة يرويه موقوفا عن ابن عمر وصححه بعض رواة الحديث أعني رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فهذا هو مشهور اختلافهم واتفاقهم في اللباس وأصل الخلاف في هذا كله اختلافهم في قياس بعض المسكون عنه على المنطوق به واحتمال اللفظ المنطوق به وثبوته أو لا ثبوته وأما الشيء الثاني من المتروكات فهو الطيب وذلك أن العلماء أجمعوا على أن الطيب كله يحرم على المحرم بالحج والعمرة في حال إحرامه. واختلفوا في جوازه للمحرم عند الإحرام قبل أن يحرم لما يبقى من أثره عليه بعد الإحرام فكرهه قوم وأجازه آخرون وممن كرهه مالك ورواه عن عمر بن الخطاب وهو قول عثمان وابن عمر وجماعة من التابعين. وممن أجازه أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وداود والحجة لمالك رحمه الله من جهة الأثر حديث صفوان بن يعلى ثبت في الصحيحين وفيه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجبة مضمخة بطيب فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فأنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أفاق قال: "أين السائل عن العمرة آنفا؟" فالتمس الرجل فأتي به فقال عليه الصلاة والسلام: "أما الطيب الذي بك فاغسله عنك ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع ما شئت في عمرتك كما تصنع في حجتك" اختصرت الحديث وفقهه هو الذي ذكرت. وعمدة الفريق الثاني ما رواه مالك عن عائشة أنها قالت: كنت أطيب رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت واعتل الفريق الأول بما روي عن عائشة أنها قالت: وقد بلغها إنكار

ابن عمر تطيب المحرم قبل إحرامه يرحم الله أبا عبد الرحمن طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف على نسائه ثم أصبح محرما قالوا: وإذا طاف على نسائه اغتسل فإنما يبقى عليه أثر ريح الطيب لا جرمه نفسه قالوا: ولما كان الإجماع قد انعقد على أن كل ما لا يجوز للمحرم ابتداؤه وهو محرم مثل لبس الثياب وقتل الصيد لا يجوز له استصحابه وهو محرم فوجب أن يكون الطيب كذلك. فسبب الخلاف تعارض الآثار في هذا الحكم. وأما المتروك الثالث فهو مجامعة النساء. وذلك أنه أجمع المسلمون على أن وطء النساء على الحاج حرام من حين يحرم لقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . وأما الممنوع الرابع وهو إلقاء التفث وإزالة الشعر وقتل القمل ولكن اتفقوا على أنه يجوز له غسل رأسه من الجنابة واختلفوا في كراهية غسله من غير الجنابة فقال الجمهور: لا بأس بغسله رأسه. وقال مالك: بكراهية ذلك وعمدته أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من الاحتلام. وعمدة الجمهور ما رواه مالك عن عبد الله بن جبير أن ابن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال عبد الله: يغسل المحرم رأسه وقال المسور بن مخرمة: لا يغسل المحرم رأسه قال: فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري قال: فوجدته يغتسل بين القرنين وهو مستتر بثوب فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده على الثوب فتطأطأ حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل وكان عمر يغسل رأسه وهو محرم ويقول: ما يزيده الماء إلا شعثا رواه مالك في الموطأ وحمل مالك حديث أبي أيوب على غسل الجنابة والحجة له إجماعهم على أن المحرم ممنوع من قتل القمل ونتف الشعر وإلقاء التفث وهو الوسخ والغاسل رأسه هو إما أن يفعل هذه كلها أو بعضها. واتفقوا على منع غسله رأسه بالخطمي. وقال مالك وأبو حنيفة: إن فعل ذلك افتدى. وقال أبو ثور وغيره: لا شيء عليه. واختلفوا في الحمام فكان مالك يكره

ذلك ويرى أن على من دخله الفدية. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وداود: لا بأس بذلك. وروي عن ابن عباس دخول الحمام وهو محرم من طريقين والأحسن أن يكره دخوله لأن المحرم منهي عن إلقاء التفث. وأما المحظور الخامس فهو الاصطياد وذلك أيضا مجمع عليه لقوله سبحانه وتعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وأجمعوا على أنه لا يجوز له صيده ولا أكل ما صاد هو منه واختلفوا إذا صاده حلال هل يجوز للمحرم أكله؟ على ثلاثة أقوال: قول إنه يجوز له أكله على الإطلاق وبه قال أبو حنيفة وهو قول عمر بن الخطاب والزبير. وقال قوم: هو محرم عليه على كل حال وهو قول ابن عباس وعلي وابن عمر وبه قال الثوري. وقال مالك: ما لم يصد من أجل المحرم أو من أجل قوم محرمين فهو حلال وما صيد من أجل المحرم فهو حرام على المحرم. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك فأحدها ما خرجه مالك من حديث أبي قتادة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانوا ببعض طرق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه فسألهم رمحه فأبوا عليه فأخذه ثم شد على الحمار فقتله فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك فقال: "إنما هي طعمة أطعمكموها الله" وجاء أيضا في معناه حديث طلحة بن عبيد الله ذكره النسائي أن عبد الرحمن التميمي قال: كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن محرمون فأهدي له ظبي وهو راقد فأكل بعضنا فاستيقظ طلحة فوافق على أكله وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحديث الثاني حديث ابن عباس خرجه أيضا مالك أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وللاختلاف سبب آخر. وهو هل يتعلق النهي عن الأكل بشرط القتل أو يتعلق بكل واحد منهما النهي عن الانفراد؟ فمن أخذ

بحديث أبي قتادة قال: إن النهي إنما يتعلق بالأكل مع القتل ومن أخذ بحديث ابن عباس قال: النهي يتعلق بكل واحد منهما على انفراده فمن ذهب في هذه الأحاديث مذهب الترجيح قال: إما بحديث أبي قتادة وإما بحديث ابن عباس ومن جمع بين الأحاديث قال بالقول الثالث قالوا: والجمع أولى وأكدوا ذلك روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" واختلفوا في المضطر هل يأكل الميتة أو يصيد في الحرم؟ فقال مالك وأبو حنيفة والثوري وزفر وجماعة: إذا اضطر أكل الميتة ولحم الخنزير دون الصيد. وقال أبو يوسف: يصيد ويأكل وعليه الجزاء والأول أحسن للذريعة. وقول أبي يوسف: أقيس لأن تلك محرمة لعينها والصيد محرم لغرض من الأغراض وما حرم لعلة أخف مما حرم لعينه وما هو محرم لعينه أغلظ فهذه الخمسة اتفق المسلمون على أنها من محظورات الإحرام واختلفوا في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي والليث والأوزاعي: لا ينكح المحرم ولا ينكح فإن نكح فالنكاح باطل وهو قول عمر وعلي بن أبي طالب وابن عمر وزيد بن ثابت. وقال أبو حنيفة والثوري: لا بأس بأن ينكح المحرم أو أن ينكح. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك فأحدها ما رواه مالك من حديث عثمان بن عفان أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب" والحديث المعارض لهذا حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم خرجه أهل الصحاح إلا أنه عارضته آثار كثيرة عن ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال رويت عنها من طرق شتى عن أبي رافع وعن سليمان بن يسار وهو مولاها وعن زيد بن الأصم ويمكن الجمع بين الحديثين بأن يحمل الواحد على الكراهية والثاني على الجواز فهذه هي مشهورات ما يحرم على المحرم وأما متى يحل فسنذكره عند ذكرنا أفعال الحج وذلك يحل إذا طاف وسعى وحلق. واختلفوا في الحاج على ما سيأتي بعد وإذ قد قلنا في تروك المحرم فلنقل في أفعاله:

القول في أنواع النسك
القول في أنواع هذا النسك
والمحرمون إما محرم بعمرة مفردة أو محرم بحج مفرد أو جامع بين الحج والعمرة وهذان ضربان: إما متمتع وإما قارن فينبغي أولا أن نجرد أصناف هذه المناسك الثلاث ثم نقول ما يفعل المحرم في كلها وما يخص واحدا واحدا منها إن كان هنالك ما يخص وكذلك نفعل فيما بعد الإحرام من أفعال الحج إن شاء الله تعالى.

القول في شرح أنواع هذه المناسك
الفول في التمتع

القول في شرح أنواع هذه المناسك
فنقول: إن الإفراد هو ما يتعرى عن صفات التمتع والقران فلذلك يجب أن نبدأ أولا بصفة التمتع ثم نردف ذلك بصفة القران.
القول في التمتع
فنقول: إن العلماء اتفقوا على أن هذا النوع من النسك الذي هو المعني بقوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} هو أن يهل الرجل بالعمرة في أشهر الحج من الميقات وذلك إذا كان مسكنه خارجا عن الحرم ثم يأتي حتى يصل البيت فيطوف لعمرته ويسعى ويحلق في تلك الأشهر بعينها ثم يحل بمكة ثم ينشىء الحج في ذلك العام بعينه وفي تلك الأشهر بعينها من غير أن ينصرف إلى بلده إلا ما روي عن الحسن أنه كان يقول هو متمتع وإن عاد إلى بلده ولم يحج: أي عليه هدي المتمتع المنصوص عليه في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} لأنه كان يقول عمرة في أشهر الحج متعة. وقال طاووس: من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى الحج وحج من عامه أنه متمتع. واتفق العلماء على أن من لم يكن من حاضري المسجد الحرام فهو متمتع. واختلفوا في المكي هل يقع منه التمتع أم لا يقع؟ والذين قالوا إنه يقع منه اتفقوا على أنه ليس عليه دم لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} واختلفوا فيمن هو حاضر المسجد الحرام ممن ليس هو فقال مالك: حاضرو المسجد الحرام

هم أهل مكة وذي طوى وما كان مثل ذلك من مكة. وقال أبو حنيفة: هم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة. وقال الشافعي بمصر: من كان بينه وبين مكة ليلتان وهو أكمل المواقيت. وقال أهل الظاهر: من كان ساكن الحرم. وقال الثوري: هم أهل مكة فقط. وأبو حنيفة يقول: إن حاضري المسجد الحرام لا يقع منهم التمتع وكره ذلك مالك. وسبب الاختلاف اختلاف ما يدل عليه اسم حاضري المسجد الحرام بالأقل والأكثر ولذلك لا يشك أن أهل مكة هم من حاضري المسجد الحرام كما لا يشك أن من خارج المواقيت ليس منهم فهذا هو نوع التمتع المشهور ومعنى التمتع أنه تمتع بتحلله بين النسكين وسقوط السفر عنه مرة ثانية إلى النسك الثاني الذي هو الحج وهنا نوعان من التمتع اختلف العلماء فيهما: أحدهما فسخ الحج في عمرة وهو تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة فجمهور العلماء يكرهون ذلك في الصدر الأول وفقهاء الأمصار. وذهب ابن عباس إلى جواز ذلك وبه قال أحمد وداود وكلهم متفقون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام حج بفسخ الحج في العمرة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" وأمره لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ إهلاله في العمرة وبهذا تمسك أهل الظاهر والجمهور رأوا ذلك من باب الخصوص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتجوا بما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المدني عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أفسخ لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ قال: "لنا خاصة" وهذا لم يصح عند أهل الظاهر صحة يعارض بها العمل المتقدم. وروي عن عمر أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج وروي عن عثمان أنه قال: متعة الحج كانت لنا وليست لكم وقال أبو ذر: ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه في عمرة هذا كله مع ظاهر قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . والظاهرية على أن الأصل اتباع فعل الصحابة حتى يدل دليل من كتاب الله أو سنة ثابتة على أنه خاص. فسبب الاختلاف هل فعل الصحابة محمول على العموم أو على الخصوص.

وأما النوع الثاني من التمتع فهو ما كان يذهب إليه ابن الزبير من أن التمتع الذي ذكره الله هو تمتع المحصر بمرض أو عدو وذلك إذا خرج الرجل حاجا فحبسه عدو أو أمر تعذر به عليه الحج حتى تذهب أيام الحج فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة ويحل ثم يتمتع بحله إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي وعلى هذا القول ليس يكون التمتع المشهور إجماعا. وشذ طاووس أيضا فقال: إن المكي إذا تمتع من بلد غير مكة كان عليه الهدي. واختلف العلماء فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عملها في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فقال مالك: عمرته في الشهر الذي حل فيه فإن كان حل في أشهر الحج فهو متمتع وإن كان حل في غير أشهر الحج فليس بمتمتع وبقريب منه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري إلا أن الثوري اشترط أن يوقع طوافه كله في شوال وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن طاف ثلاثة أشواط في رمضان وأربعة في شوال كان متمتعا وإن كان عكس ذلك لم يكن متمتعا أعني أن يكون طاف أربعة أشواط في رمضان وثلاثة في شوال. وقال أبو ثور: إذا دخل في العمرة في غير أشهر الحج فسواء طاف لها في غير أشهر الحج أو في أشهر الحج لا يكون متمتعا. وسبب الاختلاف هل يكون متمتعا بإيقاع إحرام العمرة في أشهر الحج فقط أم يإيقاع الطواف معه؟ ثم إن كان بإيقاع الطواف معه فهل بإيقاعه كله أم أكثره؟ فأبو ثور يقول: لا يكون متمتعا إلا بإيقاع الإحرام في أشهر الحج لأن بالإحرام تنعقد العمرة. والشافعي يقول: الطواف هو أعظم أركانها فوجب أن يكون به متمتعا فالجمهور على أن من أوقع بعضها في أشهر الحج كمن أوقعها كلها وشروط التمتع عند مالك ستة: أحدها أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد. والثاني أن يكون ذلك في عام واحد. والثالث أن يفعل شيئا من العمرة في أشهر الحج. والرابع أن يقدم العمرة على الحج. والخامس أن ينشىء الحج بعد الفراغ من العمرة وإحلاله منها. والسادس أن يكون وطنه غير مكة فهذه هي صورة التمتع والاختلاف المشهور فيه والاتفاق.

القول في القارن
وأما القران فهو أن يهل بالنسكين معا أو يهل بالعمرة في أشهر الحج ثم

يردف ذلك بالحج قبل أن يهل من العمرة. واختلف أصحاب مالك في الوقت الذي يكون ذلك له فيه فقيل ذلك له ما لم يشرع في الطواف ولو شوطا واحدا وقيل ما لم يطف ويركع ويكره بعد الطواف وقبل الركوع فإن فعل لزمه وقيل له ذلك ما بقي عليه شيء من عمل العمرة من طواف أو سعي ما خلا أنهم اتفقوا على أنه إذا أهل بالحج ولم يبق عليه من أفعال العمرة إلا الحلاق فإنه ليس بقارن والقارن الذي يلزمه هدي المتمتع هو عند الجمهور من غير حاضري المسجد الحرام إلا ابن الماجشون من أصحاب مالك فإن القارن من أهل مكة عنده عليه الهدي. وأما الإفراد فهو ما تعرى من هذه الصفات وهو ألا يكون متمتعا ولا قارنا بل أن يهل بالحج فقط. وقد اختلف العلماء أي أفضل هل الإفراد أو القران أو التمتع؟. والسبب في اختلافهم اختلافهم فيما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مفردا وروي أنه تمتع وروي عنه أنه كان قارنا فاختار مالك الإفراد واعتمد في ذلك على ما روي عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ورواه عن عائشة من طرق كثيرة قال أبو عمر بن عبد البر: وروي الإفراد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد الله من طرق شتى متواترة صحاح وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وجابر. والذين رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا احتجوا بما رواه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة وهو مذهب عبد الله بن عمر وابن عباس وابن الزبير. واختلف عن عائشة في التمتع والإفراد. واعتمد من رأى أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا أحاديث كثيرة منها حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بوادي العقيق: "أتاني الليلة آت من ربي فقال: أهل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة" خرجه البخاري وحديث مروان بن الحكم قال: شهدت

عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى ذلك علي أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة وقال: ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد خرجه البخاري وحديث أنس خرجه البخاري أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك عمرة وحجة" وحديث مالك بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله: " من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" واحتجوا فقالوا: ومعلوم أنه كان معه صلى الله عليه وسلم هدي ويبعد أن يأمر بالقران من معه هدي ويكون معه هدي ولا يكون قارنا. وحديث مالك أيضا عن نافع عن ابن عمر عن حفصة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر هديي" وقال أحمد: لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا والتمتع أحب إلي واحتج في اختياره التمتع بقوله عليه الصلاة والسلام: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" واحتج من طريق المعنى من رأى أن الإفراد الأفضل أن التمتع والقران رخصة ولذلك وجب فيهما الدم. وإذ قلنا في وجوب هذا النسك وعلى من يجب وما شروط وجوبه ومتى يجب وفي أي وقت يجب ومن أي مكان يجب وقلنا بعد ذلك فيما يجتنبه المحرم بما هو محرم ثم قلنا أيضا في أنواع هذا النسك يجب أن نقول في أول أفعال الحاج وهو الإحرام.

القول في الإحرام
واتفق جمهور العلماء على أن الغسل للإهلال سنة وأنه من أفعال المحرم حتى قال ابن نوار: إن هذا الغسل للإهلال عند مالك أوكد من غسل الجمعة. وقال أهل الظاهر: هو واجب. وقال أبو حنيفة والثوري يجزئ منه الوضوء وحجة أهل الظاهر مرسل مالك من حديث أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال: "مرها فتغتسل ثم لتهل" والأمر عندهم على الوجوب وعمدة الجمهور أن الأصل هو براءة الذمة حتى يثبت الوجوب بأمر لا مدفع فيه وكان عبد الله بن عمر يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخوله مكة ولوقوفه عشية يوم عرفة ومالك يرى هذه الاغتسالات الثلاث من أفعال المحرم واتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير التلبية؟ فقال مالك والشافعي: تجزئ النية من غير التلبية. وقال أبو حنيفة: التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة إلا أنه يجزئ عنده كل لفظ يقوم مقام التكبير كما يجزئ عنده في افتتاح الصلاة كل لفظ يقوم مقام التكبير وهو كل ما يدل على التعظيم. واتفق العلماء على أن لفظ تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" وهي من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أصح سندا. واختلفوا في هل هي واجبة بهذا اللفظ أم لا؟ فقال أهل الظاهر: هي واجبة بهذا اللفظ ولا خلاف عند الجمهور في استحباب هذا اللفظ وإنما اختلفوا في الزيادة عليه أو في تبديله وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالتلبية وهو مستحب عند الجمهور لما رواه مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية وبالإهلال" وأجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تسمع نفسها بالقول. وقال مالك: لا يرفع المحرم صوته في مساجد الجماعة بل يكفيه أن يسمع من يليه إلا في المسجد الحرام ومسجد منى فإنه يرفع صوته فيهما. واستجب الجمهور رفع الصوت عند التقاء الرفاق وعند الإطلال على شرف من الأرض. وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم. وكان مالك لا يرى التلبية من أركان الحج ويرى على تاركها دما وكان غيره يراها من أركانه. وحجة من رآها واجبة أن أفعاله صلى الله عليه وسلم إذا أتت بيانا لواجب أنها محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير

ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "خذوا عني مناسككم" وبهذا يحتج من أوجب لفظه فيها فقط. ومن لم ير وجوب لفظه فاعتمد في ذلك على ما روي من حديث جابر قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر التلبية التي في حديث ابن عمر. وقال في حديثه: والناس يزيدون على ذلك لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام والنبي يسمع ولا يقول شيئا وما روي عن ابن عمر أنه كان يزيد في التلبية وعن عمر ابن الخطاب وعن أنس وغيره. واستحب العلماء أن يكون ابتداء المحرم بالتلبية بأثر صلاة يصليها فكان مالك يستحب ذلك بأثر نافلة لما روى من مرسله عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين فإذا استوت به راحلته أهل. واختلفت الآثار في الموضع الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجته من أقطار ذي الحليفة فقال قوم: من مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى فيه وقال آخرون: إنما أحرم حين أطل على البيداء وقال قوم: إنما أهل حين استوت به راحلته. وسئل ابن عباس عن اختلافهم في ذلك فقال: كل حدث لا عن أول إهلاله عليه الصلاة والسلام بل عن أول إهلال سمعه وذلك أن الناس يأتون متسابقين فعلى هذا لا يكون في هذا اختلاف ويكون الإهلال إثر الصلاة. وأجمع فقهاء الأمصار على أن المكي لا يلزمه الإهلال حتى إذا خرج إلى منى ليتصل له عمل الحج وعمدتهم ما رواه مالك عن ابن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر: رأيتك تفعل هنا أربعا لم أر أحدا يفعلها فذكر منها ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت إلى يوم التروية فأجابه ابن عمر: أما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته يريد حتى يتصل له عمل الحج. وروى مالك أن عمر بن الخطاب كان يأمر أهل مكة أن يهلوا إذ رأوا الهلال. ولا خلاف عندهم أن المكي لا يهل إلا من جوف مكة إذا كان حاجا وأما إذا كان معتمرا فإنهم أجمعوا على أنه يلزمه أن يخرج إلى الحل ثم يحرم منه ليجمع بين الحل والحرم كما يجمع الحاج أعني لأنه يخرج إلى عرفة وهو حل. وبالجملة فاتفقوا على أنها سنة المعنمر واختلفوا إن لم يفعل فقال قوم:

يجزيه وعليه دم وبه قال أبو حنيفة وابن القاسم. وقال آخرون: لا يجزيه وهو قول الثوري وأشهب.
وأما متى يقطع المحرم التلبية فإنهم اختلفوا في ذلك فروى مالك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقطع التلبية إذا زاغت الشمس من يوم عرفة. وقال مالك: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وقال ابن شهاب كانت الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يقطعون التلبية عند زوال الشمس من يوم عرفة. قال أبو عمر بن عبد البر: واختلف في ذلك عن عثمان وعائشة. وقال جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وإسحق وأبو ثور وداود وابن أبي ليلى وأبو عبيد والطبري والحسن بن حيي: إن المحرم لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة إلا أنهم اختلفوا متى يقطعها فقال قوم: إذا رماها بأسرها لما روي عن ابن عباس أن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لبى حتى رمى جمرة العقبة وقطع التلبية في آخر حصاة وقال قوم: بل يقطعها في أول جمرة يلقيها روي ذلك عن ابن مسعود. وروي في وقت قطع التلبية هذه أقاويل غير هذه إلا أن هذين القولين هما المشهوران. واختلفوا في وقت قطع التلبية بالعمرة فقال مالك: يقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي إذا افتتح الطواف وسلف مالك في ذلك ابن عمر وعروة وعمدة الشافعي أن التلبية معناها إجابة إلى الطواف بالبيت فلا تنقطع حتى يشرع في العمل. وسبب الخلاف معارضة القياس لفعل بعض الصحابة وجمهور العلماء كما قلنا متفقون على إدخال المحرم الحج على العمرة ويختلفون في إدخال العمرة على الحج. وقال أبو ثور: لا يدخل حج على عمرة ولا عمرة على حج كما لا تدخل صلاة على صلاة فهذه هي أفعال المحرم بما هو محرم وهو أول أفعال الحج. وأما الفعل الذي بعد هذا فهو الطواف عند دخول مكة فلنقل في الطواف:

القول في الطواف بالبيت والكلام في الطواف
القول في الصفة

القول في الطواف بالبيت والكلام في الطواف
في صفته وشروطه وحكمه في الوجوب أو الندب وفي أعداده
القول في الصفة
والجمهور مجمعون على أن صفة كل طواف واجبا كان أو غير واجب أن يبتدئ من الحجر الأسود فإن استطاع أن يقبله قبله أو يلمسه بيده ويقبلها إن أمكنه ثم يجعل البيت على يساره ويمضي على يمينه فيطوف سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأشواط الأول ثم يمشي في الأربعة وذلك في طواف القدوم على مكة وذلك للحاج والمعتمر دون المتمتع وأنه لا رمل على النساء ويستلم الركن اليماني وهو الذي على قطر الركن الأسود لثبوت هذه الصفة من فعله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا في حكم الرمل في الثلاثة الأشواط الأول للقادم هل هو سنة أو فضيلة؟ فقال ابن عباس: هو سنة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وإسحق وأحمد وأبو ثور. واختلف قول مالك في ذلك وأصحابه. والفرق بين القولين أن من جعله سنة أوجب في تركه الدم ومن لم يجعله سنة لم يوجب في تركه شيئا. واحتج من لم ير الرمل سنة بحديث أبي الطفيل عن ابن عباس قال: قلت لابن عباس زعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طاف بالبيت رمل وأن ذلك سنة. فقال: صدقوا وكذبوا قال: قلت ما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طاف بالبيت وكذبوا ليس بسنة إن قريشا زمن الحديبية قالوا: إن به وبأصحابه هزلا وقعدوا على قعيقعان ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: "ارملوا أروهم أن بكم قوة" فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل من الحجر الأسود إلى اليماني فإذا توارى عنهم مشى وحجة الجمهور حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في الثلاثة الأشواط في حجة الوداع ومشى أربعا وهو حديث ثابت من رواية مالك وغيره قالوا: وقد اختلف على أبي الطفيل عن ابن عباس فروي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

رمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود وذلك بخلاف الرواية الأولى وعلى أصول الظاهرية يجب الرمل لقوله: "خذوا عني مناسككم" وهو قولهم أو قول بعضهم الآن فيما أظن. وأجمعوا على أنه لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها وهم المتمتعون لأنهم قد رملوا في حين دخولهم حين طافوا للقدوم. واختلفوا في أهل مكة هل عليهم إذا حجوا رمل أم لا؟ فقال الشافعي: كل طواف قبل عرفة مما يوصل بينه وبين السعي فإنه يرمل فيه وكان مالك يستحب ذلك وكان ابن عمر لا يرى عليهم رملا إذا طافوا بالبيت على ما روى عنه مالك. وسبب الخلاف هل الرمل كان لعلة أو لغير علة؟ وهل هو مختص بالمسافر أم لا؟ وذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام حين رمل واردا على مكة. واتفقوا على أن من سنة الطواف استلام الركنين الأسود واليماني للرجال دون النساء. واختلفوا هل تستلم الأركان كلها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه إنما يستلم الركنان فقط لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يستلم إلا الركنين فقط واحتج من رأى استلام جميعها بما روي عن جابر قال: كنا نرى إذا طفنا أن نستلم الأركان كلها وكان بعض السلف لا يحب أن يستلم الركنين إلا في الوتر من الأشواط. وكذلك أجمعوا على أن تقبيل الحجر الأسود خاصة من سنن الطواف إن قدر وإن لم يقدر على الدخول إليه قبل يده وذلك لحديث عمر بن الخطاب الذي رواه مالك أنه قال وهو يطوف بالبيت حين بلغ الحجر الأسود: إنما أنت حجر ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك ثم قبله وأجمعوا على أن من سنة الطواف ركعتين بعد انقضاء الطواف وجمهورهم على أنه يأتي بها الطائف عند انقضاء كل أسبوع إن طاف أكثر من أسبوع واحد. وأجاز بعض السلف ألا يفرق بين الأسابيع وألا يفصل بينها بركوع لكل أسبوع ركعتين وهو مروي عن عائشة أنها كانت لا تفرق بين ثلاثة الأسابيع ثم تركع ست ركعات. وحجة الجمهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وقال: "خذوا عني مناسككم" وحجة من أجاز الجمع أنه قال: المقصود إنما هو ركعتان لكل أسبوع والطواف ليس له وقت معلوم ولا الركعتان المسنونتان بعده فجاز الجمع بين أكثر

من ركعتين لأكثر من أسبوعين وإنما استحب من يرى أن يفرق بين ثلاثة أسابيع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إلى الركعتين بعد وتر من طوافه ومن طاف أسابيع غير وتر ثم عاد إليها لم ينصرف عن وتر من طوافه.

القول في شروطه
وأما شروطه فإن منها حد موضعه وجمهور العلماء على أن الحجر من البيت وأن من طاف بالبيت لزمه إدخال الحجر فيه وأنه شرط في صحة طواف الإفاضة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو سنة. وحجة الجمهور ما رواه مالك عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت الكعبة ولصيرتها على قواعد إبراهيم" فإنهم تركوا منها سبعة أذرع من الحجر ضاقت بهم النفقة والخشب وهو قول ابن عباس وكان يحتج بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ثم يقول طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر وحجة أبي حنيفة ظاهر الآية. وأما وقت جوازه فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها إجازة الطواف بعد الصبح والعصر ومنعه وقت الطلوع والغروب وهو مذهب عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري وبه قال مالك وأصحابه وجماعة. والقول الثاني كراهيته بعد الصبح والعصر ومنعه عند الطلوع والغروب وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وجماعة. والقول الثالث إباحة ذلك في هذه الأوقات كلها وبه قال الشافعي وجماعة وأصول أدلتهم راجعة إلى منع الصلاة في هذه الأوقات أو إباحتها. أما وقت الطلوع والغروب فالآثار متفقة على منع الصلاة فيها والطواف هل هو ملحق بالصلاة؟ في ذلك الخلاف. ومما احتجت به الشافعية حديث جبير بن مطعم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "يا بني عبد مناف أو يا بني عبد المطلب إن وليتم من هذا الأمر شيئا فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت أن يصلي فيه أي ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الشافعي وغيره عن ابن عيينة بسنده إلى جبير بن مطعم. واختلفوا في جواز الطواف بغير طهارة مع إجماعهم على أن

من سنته الطهارة فقال مالك والشافعي: لا يجزئ طواف بغير طهارة لا عمدا ولا سهوا. وقال أبو حنيفة: يجزئ ويستحب له الإعادة وعليه دم. وقال أبو ثور: إذا طاف على غير وضوء أجزأه طوافه إن كان لا يعلم ولا يجزئه إن كان يعلم و الشافعي يشترط طهارة ثوب الطائف كاشتراط ذلك للمصلي. وعمدة من شرط الطهارة في الطواف قوله صلى الله عليه وسلم للحائض وهي أسماء بنت عميس: "اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت" وهو حديث صحيح وقد يحتجون أيضا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه النطق فلا ينطق إلا بخير" وعمدة من أجاز الطواف بغير طهارة إجماع العلماء على جواز السعي بين الصفا والمروة من غير طهارة وأنه ليس كل عبادة يشترط فيها الطهر من الحيض من شرطها الطهر من الحدث أصله الصوم.

القول في أعداده وأحكامه
وأما أعداده فإن العلماء أجمعوا على أن الطواف ثلاثة أنواع: طواف القدوم على مكة وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر وطواف الوداع وأجمعوا على أن الواجب منها الذي يفوت الحج بفواته هو طواف الإفاضة وأنه المعني بقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وأنه لا يجزئ عنه دم وجمهورهم على أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة لكونه قبل يوم النحر. وقالت طائفة من أصحاب مالك: إن طواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة كأنهم رأوا أن الواجب إنما هو طواف واحد. وجمهور العلماء على أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة إن لم يكن طاف طواف الإفاضة لأنه طواف بالبيت معمول في وقت طواف الوجوب الذي هو طواف الإفاضة بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة وأجمعوا فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر أن طواف القدوم والوداع من سنة الحاج إلا لخائف فوات الحج فإنه يجزئ عنه طواف الإفاضة واستحب جماعة من

العلماء لمن عرض له هذا أن يرمل في الأشواط الثلاثة من طواف الإفاضة على سنة طواف القدوم من الرمل وأجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة كما أجمعوا على أنه ليس إلا طواف القدوم. وأجمعوا أن من إلى الحج أن عليه طوافين طوافا للعمرة لحله منها وطوافا للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور. وأما المفرد للحج فليس عليه إلا طواف واحد كما قلنا يوم النحر. واختلفوا في القارن فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: يجزئ القارن طواف واحد وسعي واحد وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر وعمدتهم حديث عائشة المتقدم. وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى على القارن طوافان وسعيان ورووا هذا عن علي وابن مسعود لأنهما نسكان من شرط كل واحد منهما إذا انفرد طوافه وسعيه فوجب أن يكون الأمر كذلك إذا اجتمعا فهذا هو القول في وجوب هذا الفعل وصفته وشروطه وعدده ووقته وصفته والذي يتلو هذا الفعل من أفعال الحج أعني طواف القدوم هو السعي بين الصفا والمروة وهو الفعل الثالث للإحرام فلنقل فيه.

القول في السعي بين الصفا والمروة
القول في حكمه
القول في السعى بين الصفا والمروة
والقول في السعى في حكمه وفي صفته وفي شروطه وفي ترتيبه
القول في حكمه
أما حكمه فقال مالك والشافعي: هو اجب وإن لم يسع كان عليه حج قابل وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الكوفيون: هو سنة وإذا رجع إلى بلاده ولم يسع كان عليه دم. وقال بعضهم: هو تطوع ولا شي ء على تاركه فعمدة من أوجبه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسعى ويقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" روى هذا الحديث الشافعي عن عبد الله بن المؤمل وأيضا فإن الأصل أن أفعاله عليه الصلاة والسلام في هذه العبادة محمولة على الوجوب إلا ما أخرجه الدليل من سماع أو إجماع أو قياس عند أصحاب القياس. وعمدة من لم يوجبه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا

وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قالوا: إن معناه أن لا يطوف وهي قراءة ابن مسعود وكما قال سبحانه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} معناه أي لئلا تضلوا وضعفوا حديث ابن المؤمل. وقالت عائشة: الآية على ظاهرها وإنما نزلت في الأنصار تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة على ما كانوا يسعون عليه في الجاهلية لأنه كان موضع ذبائح المشركين وقد قيل إنهم كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تعظيما لبعض الأصنام فسألوا عن ذلك فنزلت هذه الآية مبيحة لهم وإنما صار الجمهور إلى أنها من أفعال الحج لأنها صفة فعله صلى الله عليه وسلم تواترت بذلك الآثار أعني وصل السعي بالطواف.

القول في صفته
وأما صفته فإن جمهور العلماء على أن من سنة السعي بين الصفا والمروة أن ينحدر الراقي على الصفا بعد الفراغ من الدعاء فيمشي على جبلته حتى يبلغ بطن المسيل فيرمل فيه حتى يقطعه إلى ما يلي المروة فإذا قطع ذلك وجاوزه مشى على سجيته حتى يأتي المروة فيرقى عليها حتى يبدو له البيت ثم يقول عليها نحوا مما قاله من الدعاء والتكبير على الصفا وإن وقف أسفل المروة أجزأه عند جميعهم ثم ينزل عن المروة فيمشي على سجيته حتى ينتهي إلى بطن المسيل فإذا انتهى إليه رمل حتى يقطعه إلى الجانب الذي يلي الصفا يفعل ذلك سبع مرات يبدأ في كل ذلك بالصفا ويختم بالمروة فإن بدأ بالمروة قبل الصفا ألغي ذلك الشوط لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نبدأ بما بدأ الله به: نبدأ بالصفا" يريد قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وقال عطاء إن جهل فبدأ بالمروة أجزأ عنه. وأجمعوا على أنه ليس في وقت السعي قول محدود فإنه موضع دعاء. وثبت من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثا ويقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك.

القول في شروطه
وأما شروطه فإنهم اتفقوا على أن من شرطه الطهارة من الحيض كالطواف سواء لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة: "افعلي كل ما يفعل أن لا تطوفي بالبيت ولا تسعي بين الصفا والمروة" انفرد بهذه الزيادة يحيى عن مالك دون من روى عنه هذا الحديث ولا خلاف بينهم أن الطهارة ليست من شروطه إلا الحسن فإنه شبهه بالطواف.

القول في ترتيبه
وأما ترتيبه فإن جمهور العلماء اتفقوا على أن السعي إنما يكون بعد الطواف وأن من سعى قبل أن يطوف بالبيت يرجع فيطوف وإن خرج عن مكة فإن جهل ذلك حتى أصاب النساء في العمرة أو في الحج كان عليه حج قابل والهدي أو عمرة أخرى. وقال الثوري: إن فعل ذلك فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة: إذا خرج من مكة فليس عليه أن يعود وعليه دم. فهذا هو القول في حكم السعي وصفته وشروطه المشهورة وترتيبه.

الخروج إلى عرفة
وأما الفعل الذي يلي هذا الفعل للحاج فهو الخروج يوم التروية إلى منى والمبيت بها ليلة عرفة. واتفقوا على أن الإمام يصلي بالناس بمنى يوم التروية الظهر والعصر والمغرب والعشاء بها مقصورة إلا أنهم أجمعوا على أن هذا الفعل ليس شرطا في صحة الحج لمن ضاق عليه الوقت ثم إذا كان يوم عرفة مشى الإمام مع الناس من منى إلى عرفة ووقفوا بها.

الوقوف بعرفة
والقول في هذا الفعل ينحصر في معرفة حكمه وفي صفته وفي شروطه. أما حكم الوقوف بعرفة فإنهم أجمعوا على أنه ركن من أركان الحج وأن من فاته فعليه حج قابل والهدي في قول أكثرهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة"

القول في أفعال المزدلفة
والقول الجملي أيضا في هذا الموضع ينحصر في معرفة حكمه وفي صفته وفي وقته. فأما كون هذا الفعل من أركان الحج فالأصل فيه قوله سبحانه: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} وأجمعوا على أن من بات بالمزدلفة ليلة النحر وجمع فيها بين المغرب والعشاء مع الإمام ووقف بعد صلاة الصبح إلى الأسفار بعد الوقوف بعرفة أن حجه تام وأن ذلك الصفة التي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا هل الوقوف بها بعد صلاة الصبح. والمبيت بها من سنن الحج أو من فروضه فقال الأوزاعي

وجماعة من التابعين: هو من فروض الحج ومن فاته كان عليه حج قابل والهدي وفقهاء أنه ليس من فروض الحج وأن من فاته الوقوف بالمزدلفة والمبيت به فعليه دم. وقال الشافعي: إن دفع منها إلى بعد نصف الليل الأول ولم يصل بها فعليه دم. وعمدة الجمهور ما صح عنه أنه صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله ليلا فلم يشاهدوا معه صلاة الصبح بها وعمدة الفريق الأول قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن المضرس وهو حديث متفق على صحته: "من أدرك من هذه الصلاة: يعني صلاة الصبح بجمع وكان قد أتى قبل ذلك عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" وقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} ومن حجة الفريق الأول أن المسلمين قد أجمعوا على ترك الأخذ بجميع ما في هذا الحديث وذلك أن أكثرهم على أن من وقف بالمزدلفة ليلا ودفع منها إلى قبل الصبح أن حجه تام وكذلك من بات فيها ونام عن الصلاة وكذلك أجمعوا على أنه لو وقف بالمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام وفي ذلك أيضا ما يضعف احتجاجهم بظاهر الآية والمزدلفة وجمع هما اسمان لهذا الموضوع وسنة الحج فيها كما قلنا أن يبيت الناس بها ويجمعون بين المغرب والعشاء في أول وقت العشاء ويغلسوا بالصبح فيها.

القول في رمي الجمار
وأما الفعل الذي بعدها فهو رمي الجمار وذلك أن المسلمين اتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بالمشعر الحرام وهي المزدلفة بعدما صلى الفجر ثم دفع منها قبل طلوع الشمس إلى منى وأنه في هذا اليوم وهو يوم النحر رمى جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس وأجمع المسلمون أن من رماها في هذا اليوم في ذلك الوقت: أعني بعد طلوع الشمس إلى زوالها فقد رماها في وقتها وأجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها. واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر فقال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد أن يرمي قبل طلوع الفجر ولا يجوز ذلك فإن رماها قبل الفجر أعادها وبه قال أبو حنيفة وسفيان وأحمد.

وقال الشافعي: لا بأس به وإن كان المستحب هو بعد طلوع الشمس فحجة من منع ذلك فعله صلى الله عليه وسلم مع قوله: "خذوا عني مناسككم" وما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" . وعمدة من جوز رميها قبل الفجر حديث أم سلمة خرجه أبو داود وغيره وهو أن عائشة قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة يوم النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ومضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها وحديث أسماء أنها رمت الجمرة بليل وقالت: إنا كنا نصنعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء أن الوقت المستحب لرمي جمرة العقبة هو من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال وأنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر أجزأ عنه ولا شيء عليه إلا مالكا فإنه قال: استحب له أن يريق دما. واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد. فقال مالك: عليه دم. وقال أبو حنيفة: إن رمى من الليل فلا شيء عليه وإن أخرها إلى الغد فعليه دم. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: لا شيء عليه إن أخرها إلى الليل أو إلى الغد وحجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الإبل في مثل ذلك: أعني أن يرموا ليلا وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له السائل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بعد ما أمسيت قال له: "لا حرج" وعمدة مالك أن ذلك الوقت المتفق عليه الذي رمى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السنة ومن خالف سنة من سنن الحج فعليه دم على ما روي عن ابن عباس وأخذ به الجمهور. وقال مالك: ومعنى الرخصة للرعاة إنما ذلك إذا مضى يوم النحر ورموا جمرة العقبة ثم كان اليوم الثالث وهو أول أيام النفر فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرموا في ذلك اليوم له ولليوم الذي بعده فإن نفروا فقد فرغوا وإن أقاموا إلى الغد رموا بعد الناس يوم النفر الأخير ونفروا ومعنى الرخصة للرعاة عند جماعة العلماء هو جمع يومين في يوم واحد إلا أن مالكا إنما يجمع عنده ما وجب مثل أن يجمع في الثالث فيرمي

عن الثاني والثالث لأنه لا يقضى عنده إلا ما وجب ورخص كثير من العلماء في جمع يومين في يوم سواء تقدم ذلك اليوم الذي أضيف إلى غيره أو تأخر ولم يشبهوه بالقضاء وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى في حجته الجمرة يوم النحر ثم نحر بدنه ثم حلق رأسه ثم طاف طواف الإفاضة وأجمع العلماء على أن هذا سنة الحج. واختلفوا فيمن قدم من هذه ما أخره النبي عليه الصلاة والسلام أو بالعكس فقال مالك: من حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة فعليه الفدية. وقال الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور: لا شيء عليه. وعمدتهم ما رواه مالك من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بمنى والناس يسألونه فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر فقال عليه الصلاة والسلام: "انحر ولا حرج" ثم جاءه آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال عليه الصلاة والسلام: "ارم ولا حرج" قال: فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن شيء؟ قدم أو أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" وروى هذا من طريق ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعمدة مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم على من حلق قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة مع أن الحديث لم يذكر فيه حلق الرأس قبل رمي الجمار وعند مالك أن من حلق قبل أن يذبح فلا شيء عليه وكذلك من ذبح قبل أن يرمي. وقال أبو حنيفة: إن حلق قبل أن ينحر أو يرمي فعليه دم. وإن كان قارنا فعليه دمان. وقال زفر: عليه ثلاثة دماء دم القران ودمان للحلق قبل النحر وقبل الرمي. وأجمعوا على أن من نحر قبل أن يرمي فلا شيء عليه لأنه منصوص عليه إلا ما روي عن ابن عباس أنه كان يقول من قدم من حجه شيئا أو أخر فليهرق دما وأنه من قدم الإفاضة قبل الرمي والحلق أنه يلزمه إعادة الطواف. وقال الشافعي ومن تابعه: لا إعادة عليه. وقال الأوزاعي: إذا طاف للإفاضة قبل أن يرمي جمرة العقبة ثم واقع أهله أراق دما. واتفقوا على أن جملة ما يرميه الحاج سبعون حصاة منها في يوم النحر جمرة العقبة بسبع وأن رمي هذه الجمرة من حيث تيسر من العقبة من أسفلها

أو من أعلاها أو من وسطها كل ذلك واسع والموضع المختار منها بطن الوادي لما جاء في حديث ابن مسعود أنه استبطن الوادي ثم قال: من هاهنا والذي لا إله غيره رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يرمي. وأجمعوا على أنه يعيد الرمي إذا لم تقع الحصاة في العقبة وأنه يرمي في كل يوم من أيام التشريق ثلاث جمار بواحد وعشرين حصاة كل جمرة منها بسبع وأنه يجوز أن يرمي منها يومين وينفر في الثالث لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقدرها عندهم أن يكون في مثل حصى الخذف لما روي من حديث جابر وابن عباس وغيرهم أن النبي عليه الصلاة والسلام رمى الجمار بمثل حصى الخذف والسنة عندهم في رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق أن يرمي الجمرة الأولى فيقف عندها ويدعو وكذلك الثانية ويطيل المقام ثم يرمي الثالثة ولا يقف لما روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك في رميه والتكبير عندهم عند رمي كل جمرة حسن لأنه يروى عنه عليه الصلاة والسلام. وأجمعوا على أن من سنة رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق أن يكون ذلك بعد الزوال. واختلفوا إذا رماها قبل الزوال في أيام التشريق فقال جمهور العلماء: من رماها قبل الزوال أعاد رميها بعد الزوال. وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها. وأجمعوا على أن من لم يرم الجمار أيام التشريق حتى تغيب الشمس من آخرها أنه لا يرميها بعد. واختلفوا في الواجب من الكفارة فقال مالك: إن من ترك رمي الجمار كلها أو بعضها أو واحدة منها فعليه دم وقال أبو حنيفة: إن ترك كلها كان عليه دم وإن ترك جمرة واحدة فصاعدا كان عليه لكل جمرة إطعام مسكين نصف صاع حنطة إلى أن يبلغ دما بترك الجميع إلا جمرة العقبة فمن تركها فعليه دم. وقال الشافعي: عليه في الحصاة مد من طعام وفي حصاتين مدان وفي ثلاث دم. وقال الثوري مثله إلا أنه قال في الرابعة الدم. ورخصت طائفة من التابعين في الحصاة الواحدة ولم يروا فيها شيئا والحجة لهم حديث سعد بن أبي وقاص قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته فبعضنا يقول: رميت بسبع وبعضنا يقول: رميت بست فلم يعب بعضنا على بعض وقال أهل الظاهر: لا شيء في ذلك

والجمهور على أن جمرة العقبة ليست من أركان الحج. وقال عبد الملك من أصحاب مالك: هي من أركان الحج. فهذه هي جملة أفعال الحج من حين الإحرام إلى أن يحل والتحلل تحللان: تحلل أكبر وهو طواف الإفاضة وتحلل أصغر وهو رمي جمرة العقبة وسنذكر ما في هذا من الاختلاف.

الجنس الثالث
مدخل
القول في الجنس الثالث
وهو الذي يتضمن القول في الأحكام وقد نفى القول في حكم الاختلافات التي تقع في الحج وأعظمها في حكم من شرع في الحج فمنعه بمرض أو بعدو أو فاته وقت الفعل الذي هو شرط في صحة الحج أو أفسد حجه بإتيانه بعض المحظورات المفسدة للحج أو للأفعال التي هي تروك أو أفعال فلنبتدئ من هذه بما هو نص في الشريعة وهو حكم المحصر وحكم قاتل الصيد وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق وإلقائه التفث قبل أن يحل وقد يدخل في هذا الباب حكم المتمتع وحكم القارن على القول بأن وجوب الهدي في هذه هو لمكان الرخصة.

القول في الإحصار
وأما الإحصار فالأصل فيه قوله سبحانه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} إلى قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فنقول: اختلف العلماء في هذه الآية اختلافا كثيرا وهو السبب في اختلافهم في حكم المحصر بمرض أو بعدو فأول اختلافهم في هذه الآية هل المحصر هاهنا هو المحصر بالعدو أو المحصر بالمرض؟ فقال قوم: المحصر هاهنا هو المحصر بالعدو وقال آخرون: بل المحصر هاهنا هو المحصر بالمرض. فأما من قال إن المحصر هاهنا هو المحصر بالعدو فاحتجوا بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} قالوا: فلو كان المحصر هو المحصر بمرض لما كان لذكر المرض بعد ذلك فائدة واحتجوا أيضا بقوله سبحانه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وهذه حجة ظاهرة ومن قال: إن الآية إنما وردت في المحصر بالمرض فإنه زعم أن المحصر هو من أحصر ولا يقال أحصر في العدو وإنما يقال حصره

القول في أحكام جزاء الصيد
فنقول إن المسلمين أجمعوا على أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} هي آية محكمة واختلفوا في تفاصيل أحكامها وفيما يقاس على مفهومها مما لا يقاس عليه فمنها أنهم اختلفوا هل الواجب في قتل الصيد قيمته أو مثله؟ فذهب الجمهور إلى أن الواجب المثل وذهب أبو حنيفة إلى أنه مخير بين القيمة أعني قيمة الصيد وبين أن يشتري بها المثل. ومنها أنهم اختلفوا في استئناف الحكم على قاتل الصيد فيما حكم فيه السلف من الصحابة مثل حكمهم أن من قتل نعامة فعليه بدنة تشبيها بها ومن قتل غزالا فعليه شاة ومن قتل بقرة وحشية فعليه إنسية فقال مالك: يستأنف في كل ما وقع من ذلك الحكم به وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إن اجتزأ بحكم الصحابة مما حكموا فيه جاز ومنها هل الآية على التخيير أو على الترتيب؟ فقال مالك: هي على التخيير وبه قال أبو حنيفة يريد أن الحكمين يخيران الذي عليه الجزاء. وقال زفر: هي على الترتيب واختلفوا هل يقوم الصيد أو المثل إذا اختار الإطعام إن وجب على القول بالوجوب فيشتري بقيمته طعاما؟ فقال مالك: يقوم الصيد وقال الشافعي: يقوم المثل ولم يختلفوا في تقدير الصيام بالطعام بالجملة وإن كانوا اختلفوا في التفصيل فقال مالك: يصوم لكل مد يوما وهو الذي يطعم عندهم كل مسكين وبه قال الشافعي وأهل الحجاز. وقال أهل الكوفة: يصوم لكل مدين يوما وهو القدر الذي يطعم كل مسكين عندهم .واختلفوا في قتل الصيد خطأ هل فيه جزاء أم لا؟ فالجمهور على أن فيه الجزاء. وقال أهل الظاهر: لا جزاء عليه. واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل الصيد. فقال مالك: إذا قتل جماعة محرمون صيدا فعلى كل واحد منهم جزاء كامل. وبه قال الثوري وجماعة. وقال الشافعي: عليهم جزاء

واحد. وفرق أبو حنيفة بين المحرمين يقتلون الصيد وبين المحلين يقتلونه في الحرم فقال: على كل واحد من المحرمين جزاء وعلى المحلين جزاء واحد. واختلفوا هل يكون أحد الحكمين قاتل الصيد فذهب مالك إلى أنه لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز. واختلف أصحاب أبي حنيفة على القولين جميعا واختلفوا في موضع الإطعام فقال مالك: في الموضع الذي أصاب فيه الصيد إن كان ثم طعام وإلا ففي أقرب المواضع إلى ذلك الموضع. وقال أبو حنيفة: حيثما أطعم. وقال الشافعي: لا يطعم إلا مساكين مكة. وأجمع العلماء على أن المحرم إذا قتل الصيد أن عليه الجزاء للنص في ذلك. واختلفوا في الحلال يقتل الصيد في الحرم. فقال جمهور فقهاء الأمصار: عليه الجزاء. وقال داود وأصحابه: لا جزاء عليه. ولم يختلف المسلمون في تحريم قتل الصيد في الحرم وإنما اختلفوا في الكفارة وذلك لقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض" وجمهور فقهاء الأمصار على أن المحرم إذا قتل الصيد وأكله أنه ليس عليه كفارة واحدة. وروي عن عطاء وطائفة أن فيه كفارتين فهذه هي مشهورات المسائل المتعلقة بهذه الآية.
وأما الأسباب التي دعتهم إلى هذا الاختلاف: فنحن نشير إلى طرق منها فنقول: أما من اشترط في وجوب الجزاء أن يكون القتل عمدا فحجته أن اشتراط ذلك نص في الآية وأيضا فإن العمد هو الموجب للعقاب والكفارات عقابا ما. وأما من أوجب الجزاء مع النسيان فلا حجة له إلا أن يشبه الجزاء عند إتلاف الصيد بإتلاف الأموال فإن الأموال عند الجمهور تضمن خطأ ونسيانا لكن يعارض هذا القياس اشتراط العمد في وجوب الجزاء فقد أجاب بعضهم عن هذا: أي العمد إنما اشترط لمكان تعلق العقاب المنصوص عليه في قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} وذلك لا معنى له لأن الوبال المذوق هو في الغرامة فسواء قتله مخطئا أو متعمدا قد ذاق الوبال ولا خلاف أن الناسي غير معاقب وأكثر ما تلزم هذه الحجة لمن كان من أصله أن الكفارات لا تثبت بالقياس فإنه لا دليل لمن أثبتها على الناسي إلا القياس. وأما اختلافهم في المثل هل هو الشبيه أو المثل في القيمة فإن

سبب الاختلاف أن المثل يقال على الذي هو مثل وعلى الذي هو مثل في القيمة لكن حجة من رأى أن الشبيه أقوى من جهة دلالة اللفظ أن انطلاق لفظ المثل على الشبيه في لسان العرب أظهر وأظهر منه على المثل في القيمة لكن لمن حمل هاهنا المثل على القيمة دلائل حركته إلى اعتقاد ذلك: أحدها أن المثل الذي هو العدل هو منصوص عليه في الإطعام والصيام وأيضا فإن المثل إذا حمل هاهنا على التعديل كان عاما في جميع الصيد فإن من الصيد ما لا يلقى له شبيه وأيضا فإن المثل فيما لا يوجد له شبيه هو التعديل وليس يوجد للحيوان المصيد في الحقيقة شبيه إلا من جنسه وقد نص أن المثل الواجب فيه هو جنسه فوجب أن يكون مثله في التعديل والقيمة وأيضا فإن الحكم في الشبيه قد فرغ منه. فأما الحكم بالتعديل فهو شيء يختلف باختلاف الأوقات ولذلك هو كل وقت يحتاج إلى الحكمين المنصوص عليهما وعلى هذا يأتي التقدير في الآية بمشابه فكأنه قال: ومن قتله منكم متعمدا فعليه قيمة ما قتل من النعم أو عدل القيمة طعاما أو عدل ذلك صياما. وأما اختلافهم هل المقدر هو الصيد أو مثله من النعم إذا قدر بالطعام فمن قال المقدر هو الصيد قال: لأنه الذي لما لم يوجد مثله رجع إلى تقديره بالطعام ومن قال إن المقدر هو الواجب من النعم قال: لأن الشيء إنما تقدر قيمته إذا عدم بتقدير مثله أعني شبيهه. وأما من قال إن الآية على التخيير فإنه التفت إلى حرف أو إذ كان مقتضاها في لسان العرب التخيير وأما من نظر إلى ترتيب الكفارات في ذلك فشبهها في الكفارات التي فيها الترتيب باتفاق وهي كفارة الظهار والقتل. وأما اختلافهم في هل يستأنف الحكم في الصيد الواحد الذي قد وقع الحكم فيه من الصحابة فالسبب في اختلافهم هو هل الحكم الشرعي غير معقول المعنى أم هذا معقول المعنى؟ فمن قال هو معقول المعنى قال: ما قد حكم فيه فليس يوجد شيء أشبه به منه مثل النعامة فإنه لا يوجد أشبه بها من البدنة فلا معنى لإعادة الحكم ومن قال هو عبادة قال: يعاد ولا بد منه وبه قال مالك. وأما اختلافهم في الجماعة يشتركون في قتل الصيد الواحد فسببه هل الجزاء موجبه هو التعدي فقط أو التعدي على جملة الصيد؟ فمن قال التعدي فقط أوجب على

كل واحد من الجماعة القاتلة للصيد جزاء ومن قال التعدي على جملة الصيد قال: عليهم جزاء واحد. وهذه المسألة شبيهة بالقصاص في النصاب في السرقة وفي القصاص في الأعضاء وفي الأنفس وستأتي في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله. وتفريق أبي حنيفة بين المحرمين وبين غير المحرمين القاتلين في الحرم على جهة التغليظ على المحرمين ومن أوجب على كل واحد من الجماعة جزاء فإنما نظر إلى سد الذرائع فإنه لو سقط عنهم الجزاء جملة لكان من أراد أن يصيد في الحرم صاد في جماعة وإذا قلنا إن الجزاء هو كفارة للإثم فيشبه أنه لا يتبعض إثم قتل الصيد بالاشتراك فيه فيجب أن لا يتبعض الجزاء فيجب على كل واحد كفارة. وأما اختلافهم في هل يكون أحد الحكمين قاتل الصيد فالسبب فيه معارضة مفهوم الظاهر لمفهوم المعنى الأصلي في الشرع وذلك أنه لم يشترطوا في الحكمين إلا العدالة فيجب على ظاهر هذا أن يجوز الحكم ممن يوجد فيه هذا الشرط سواء أكان قاتل الصيد أو غير قاتل. وأما مفهوم المعنى الأصلي في الشرع فهو أن المحكوم عليه لا يكون حاكما على نفسه. وأما اختلافهم في الموضع فسببه الإطلاق أعني أنه لم يشترط فيه موضع فمن شبهه بالزكاة في أنه حق للمساكين فقال لا ينقل من موضعه. وأما من رأى أن المقصود بذلك إنما هو الرفق بمساكين مكة قال: لا يطعم إلا مساكين مكة ومن اعتمد ظاهر الإطلاق قال: يطعم حيث شاء. وأما اختلافهم في الحلال يقتل الصيد في الحرم هل عليه كفارة أم لا؟ فسببه هل يقاس في الكفارات عند من يقول بالقياس؟ وهل القياس أصل من أصول الشرع عند الذين يختلفون فيه؟ فأهل الظاهر ينفون قياس قتل الصيد في الحرم على المحرم لمنعهم القياس في الشرع ويحق على أصل أبي حنيفة أن يمنعه لمنعه القياس في الكفارات ولا خلاف بينهم في تعلق الاسم به لقوله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض" وأما اختلافهم فيمن قتله ثم أكله هل عليه جزاء واحد أم جزاءان؟ فسببه هل أكله تعد ثان عليه سوى تعدي القتل أم لا؟ وإن كان تعديا عليه فهل هو مساو

للتعدي الأول أم لا؟ وذلك أنهم اتفقوا على أنه إن أكل أثم ولما كان النظر في كفارة الجزاء يشتمل على أربعة أركان: معرفة الواجب في ذلك ومعرفة من تجب عليه ومعرفة الفعل الذي لأجله يجب ومعرفة محل الوجوب. وكان قد تقدم الكلام في أكثر هذه الأجناس وبقي من ذلك أمران: أحدهما اختلاف في بعض الواجبات من الأمثال في بعض المصيدات والثاني ما هو صيد مما ليس بصيد يجب أن ينظر فيما بقي علينا من ذلك. فمن أصول هذا الباب ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الأرنب وفي اليربوع بجفرة واليربوع: دويبة لها أربع قوائم وذنب تجتر كما تجتر الشاة وهي من ذوات الكروش والعنز عند أهل العلم من المعز ما قد ولد أو لد مثله والجفرة والعناق من المعز فالجفرة ما أكل واستغنى عن الرضاع والعناق قيل فوق الجفرة وقيل دونها وخالف مالك هذا الحديث فقال: في الأرنب واليربوع لا يقومان إلا بما يجوز هديا وأضحية وذلك الجذع فما فوقه من الضأن والثني لها فوقه من الإبل والبقر. وحجة مالك قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ولم يختلفوا أن من جعل على نفسه هديا أنه لا يجزيه أقل من الجذع فما فوقه من الضأن والثني مما سواه وفي صغار الصيد عند مالك مثل ما في كباره. وقال الشافعي: يفدى صغار الصيد بالمثل من صغار النعم وكبار الصيد بالكبار منها وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وحجته أنها حقيقة المثل فعنده في النعامة الكبيرة بدنة وفي الصغيرة فصيل وأبو حنيفة على أصله في القيمة. واختلفوا من هذا الباب في حمام مكة وغيرها فقال مالك في حمام مكة: شاة وفي حمام الحل حكومة. واختلف قول ابن القاسم في حمام الحرم غير مكة فقال مرة شاة كحمام مكة ومرة قال حكومة كحمام الحل. وقال الشافعي: في كل حمام شاة وفي حمام سوى الحرم قيمته. وقال داود كل شيء لا مثل له من الصيد فلا جزاء فيها إلا الحمام فإن فيه شاة ولعله ظن ذلك إجماعا فإنه روى عن عمر بن الخطاب ولا مخالف له من الصحابة وروي عن عطاء أنه قال: في كل شيء من الطير شاة. واختلفوا من هذا الباب في بيض النعامة فقال

مالك: أرى في بيض النعامة عشر ثمن البدنة وأبو حنيفة على أصله في القيمة. ووافقه الشافعي في هذه المسألة. وبه قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة: إن كان فيها فرخ ميت فعليه الجزاء: أعني جزاء النعامة. واشترط أبو ثور في ذلك أن يخرج حيا ثم يموت. وروي عن علي أنه قضى في بيض النعامة بأن يرسل الفحل على الإبل فإذا تبين لقاحها سميت ما أصبت من البيض فقلت: وهذا هدي ثم ليس عليك ضمان ما فسد من الجمل. وقال عطاء: من كانت له إبل فالقول قول علي وإلا في كل بيضة درهمان قال أبو عمر: وقد روي عن ابن عباس عن كعب عن عجرة عن النبي عليه الصلاة والسلام: في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه من وجه ليس بالقوي. وروي عن ابن مسعود أن فيه القيمة وقال: وفيه أثر ضعيف. وأكثر العلماء على أن الجراد من صيد البر يجب على المحرم فيه الجزاء: واختلفوا في الواجب من ذلك فقال عمر رضي الله عنه: قبضة من طعام وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تمرة خير من جرادة. وقال الشافعي: في الجراد قيمته وبه قال أبو ثور إلا أنه قال: كل ما تصدق به من حفنة طعام أو تمرة فهو له قيمة. وروي عن ابن عباس أن فيها تمرة مثل قول أبي حنيفة. وقال ربيعة: فيها صاع من طعام وهو شاذ. وقد روي عن ابن عمر أن فيها شويهة وهو أيضا شاذ فهذه هي مشهورات ما اتفقوا على الجزاء فيه واختلفوا فيما هو الجزاء فيه. وأما اختلافهم فيما هو صيد مما ليس بصيد وفيما هو من صيد البحر مما ليس منه فإنهم اتفقوا على أن صيد البر محرم على المحرم إلا الخمس الفواسق المنصوص عليها واختلفوا فيما يلحق بها مما ليس يلحق وكذلك اتفقوا على أن صيد البحر حلال كله للمحرم واختلفوا فيما هو من صيد البحر مما ليس منه وهذا كله لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ونحن نذكر مشهور ما اتفقوا عليه من هذين الجنسين وما اختلفوا فيه فنقول: ثبت من حديث ابن عمر وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن: الغراب والحدأة

والعقرب والفأرة والكلب العقور" واتفق العلماء على القول بهذا الحديث وجمهورهم على القول بإباحة قتل ما تضمنه لكونه ليس بصيد وإن كان بعضهم اشترط في ذلك أوصافا ما. واختلفوا هل هذا باب من العام أريد به الخاص أو باب من الخاص أريد به العام والذين قالوا هو من باب الخاص أريد به العام اختلفوا في أي عام أريد بذلك فقال مالك: الكلب العقور الوارد في الحديث إشارة إلى كل سبع عاد وأن ما ليس بعاد فليس للمحرم قتله ولم ير قتل صغارها التي لا تعدو ولا ما كان منها أيضا لا يعدو ولا خلاف بينهم في قتل الحية والأفعى والأسود وهو مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقتل الأفعى والأسود" وقال مالك: لا أرى قتل الوزغ والأخبار بقتلها متواترة لكن مطلقا لا في الحرم ولذلك توقف فيها مالك في الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يقتل من الكلاب العقورة إلا الكلب الإنسي والذئب وشذت طائفة فقالت: لا يقتل إلا الغراب الأبقع. وقال الشافعي كل محرم الأكل فهو معني في الخمس. وعمدة الشافعي أنه إنما حرم على المحرم ما أحل للحلال وأن المباحة الأكل لا يجوز قتلها بإجماع لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البهائم. وأما أبو حنيفة فلم يفهم من اسم الكلب الإنسي فقط بل من معناه كل ذئب وحشي. واختلفوا في الزنبور فبعضهم شبهه بالعقرب وبعضهم رأى أنه أضعف نكاية من العقرب. وبالجملة فالمنصوص عليها تتضمن أنواعا من الفساد فمن رأى أنه من باب الخاص أريد به العام ألحق بواحد واحد منها ما يشبهه إن كان له شبه ومن لم ير ذلك قصر النهي على المنطوق به. وشذت طائفة فقالت: لا يقتل إلا الغراب الأبقع فخصصت عموم الاسم الوارد في الحديث الثابت بما روي عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "خمس يقتلن في الحرم" فذكر فيهن الغراب الأبقع وشذ النخعي فمنع المحرم قتل الصيد إلا الفأرة. وأما اختلافهم فيما هو من صيد البحر مما ليس هو منه فإنهم اتفقوا على أن السمك من صيد البحر واختلفوا فيما عدا السمك وذلك بناء منهم على أن ما كان منه يحتاج

إلى ذكاة فليس من صيد البحر وأكثر ذلك ما كان محرما ولا خلاف بين من يحل جميع ما في البحر في أن صيده حلال وإنما اختلف هؤلاء فيما كان من الحيوان يعيش في البر وفي الماء بأي الحكمين يلحق؟ وقياس قول أكثر العلماء أنه يلحق بالذي عيشه فيه غالبا وهو حيث يولد. والجمهور على أن طير الماء محكوم له بحكم حيوان البر. وروي عن عطاء أنه قال في طير الماء حيث يكون أغلب عيشه يحكم له بحكمه. واختلفوا في نبات الحرم هل فيه جزاء أم لا؟ فقال مالك: لا جزاء فيه وإنما فيه الإثم فقط للنهي الوارد في ذلك. وقال الشافعي: فيه الجزاء في الدوحة بقرة وفيما دونها شاة. وقال أبو حنيفة: كل ما كان من غرس الإنسان فلا شيء فيه وكل ما كان نابتا بطبعه ففيه قيمة. وسبب الخلاف هل يقاس النبات في هذا على الحيوان لاجتماعهما في النهي عن ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها" فهذا هو القول في مشهور مسائل هذا الجنس فلنقل في حكم الحالق رأسه قبل محل الحلق.

القول في فدية الأذى وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق
وأما فدية الأذى فمجمع أيضا عليها لورود الكتاب بذلك والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وأما السنة فحديث كعب بن عجرة الثابت أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما فآذاه القمل في رأسه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه وقال: "صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين لكل إنسان أو انسك بشاة أي ذلك فعلت أجزأ عنك" والكلام في هذه الآية على من تجب الفدية وعلى من لا تجب وإذا وجبت فما هي الفدية الواجبة؟ وفي أي شيء تجب الفدية ولمن تجب ومتى تجب وأين تجب؟ فأما على من تجب الفدية فإن العلماء أجمعوا على أنها واجبة على كل من أماط الأذى من ضرورة لورود النص بذلك واختلفوا فيمن أماطه بغير ضرورة فقال

مالك: عليه الفدية المنصوص عليها. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن حلق دون ضرورة فإنما عليه دم فقط واختلفوا هل من شرط من وجبت عليه الفدية بإماطة الأذى أن يكون متعمدا أو الناسي في ذلك والمتعمد سواء فقال مالك: العامد في ذلك والناسي واحد وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث. وقال الشافعي في أحد قوليه وأهل الظاهر: لا فدية على الناسي فمن اشترط في وجوب الفدية الضرورة فدليله النص ومن أوجب ذلك على غير المضطر فحجته أنه إذا وجبت على المضطر فهي على غير المضطر أوجب ومن فرق بين العامد والناسي فلتفريق الشرع في ذلك بينهما في مواضع كثيرة ولعموم قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" ومن لم يفرق بينهما فقياسا على كثير من العبادات التي لم يفرق الشرع فيها بين الخطأ والنسيان. وأما ما يجب في فدية الأذى فإن العلماء أجمعوا على أنها ثلاث خصال على التخيير: الصيام والإطعام والنسك لقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} والجمهور على أن الإطعام هو لستة مساكين وأن النسك أقله شاة. وروي عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الإطعام لعشرة مساكين والصيام عشرة أيام ودليل الجمهور حديث كعب بن عجرة الثابت. وأما من قال: الصيام عشرة أيام فقياسا على صيام التمتع وتسوية الصيام مع الإطعام ولما ورد أيضا في جزاء الصيد في قوله سبحانه: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} وأما كم يطعم لكل مسكين من المساكين الستة التي ورد فيها النص فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك لاختلاف الآثار في الإطعام في الكفارات فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين. وروي عن الثوري أنه قال: من البر نصف صاع ومن التمر والزبيب صاع. وروي أيضا عن أبي حنيفة مثله وهو أصله في الكفارات. وأما ما تجب فيه الفدية فاتفقوا على أنها تجب على من حلق رأسه لضرورة مرض أو حيوان يؤذيه في رأسه. قال ابن عباس: المرض أن يكون برأسه قروح والأذى: القمل وغيره. وقال عطاء: المرض الصداع والأذى: القمل وغيره. والجمهور على أن كل ما منعه

المحرم من لباس الثياب المخيطة وحلق الرأس وقص الأظفار أنه إذا استباحه فعليه الفدية: أي دم على اختلاف بينهم في ذلك أو إطعام ولم يفرقوا بين الضرر وغيره في هذه الأشياء وكذلك استعمال الطيب وقال قوم: ليس في قص الأظفار شيء. وقال قوم: فيه دم. وحكى ابن المنذر أن من منع المحرم قص الأظفار إجماع. واختلفوا فيمن أخذ بعض أظفاره فقال الشافعي وأبو ثور: إن أخذ واحدا أطعم مسكينا واحدا وإن أخذ ظفرين أطعم مسكينين وإن أخذ ثلاثا فعليه دم في مقام واحد. وقال أبو حنيفة في أحد أقواله: لا شيء عليه حتى يقصها كلها. وقال أبو محمد بن حزم: يقص المحرم أظفاره وشاربه وهو شذوذ وعنده أن لا فدية إلا من حلق الرأس فقط للعذر الذي ورد فيه النص. وأجمعوا على منع حلق شعر الرأس واختلفوا في حلق الشعر من سائر الجسد فالجمهور على أن فيه الفدية. وقال داود: لا فدية فيه. واختلفوا فيمن نتف من رأسه الشعرة والشعرتين أو من لحمه فقال مالك: ليس على من نتف الشعر اليسير شيء إلا أن يكون أماط به أذى فعليه الفدية. وقال الحسن: في الشعرة مد وفي الشعرتين مدان وفي الثلاثة دم وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال عبد الملك صاحب مالك: فيما قل من الشعر إطعام وفيما كثر فدية فمن فهم من منع المحرم حلق الشعر أنه عبادة سوى بين القليل والكثير ومن فهم من ذلك منع النظافة والزين والاستراحة التي في حلقه فرق بين القليل والكثير لأن القليل ليس في إزالته زوال أذى أما موضع الفدية فاختلفوا فيه فقال مالك يفعل من ذلك ما شاء أين شاء بمكة وبغيرها وإن شاء ببلده وسواء عنده في ذلك ذبح النسك والإطعام والصيام وهو قول مجاهد والذي عند مالك ههنا هو نسك وليس بهدي فإن الهدي لا يكون إلا بمكة أو بمنى وقال أبو حنيفة والشافعي الدم والإطعام لا يجزيان إلا بمكة والصوم حيث شاء وقال ابن عباس ما كان من دم فبمكة وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء وعن أبي حنيفة مثله ولم يختلف قول الشافعي أن دم الإطعام لا يجزئ إلا لمساكين الحرم وسبب الخلاف استعمال قياس دم النسك على الهدي فمن قاسه على الهدي أوجب فيه شروط الهدي من الذبح في المكان المخصوص به وفي مساكين الحرم وإن

كان مالك يرى أن الهدي يجوز إطعامه لغير مساكين الحرم والذي يجمع النسك والهدي هو أن المقصود بهما منفعة المساكين المجاورين لبيت الله والمخالف يقول إن الشرع لما فرق بين اسمهما فسمى أحدهما نسكا وسمى الآخر هديا وجب أن يكون حكمهما مختلفا وأما الوقت فالجمهور على أن هذه الكفارة لا تكون إلا بعد إماطة الأذى ولا يبعد أن يدخله الخلاف قياسا على كفارة الأيمان فهذا هو القول في كفارة إماطة الأذى واختلفوا في حلق الرأس هل هو من مناسك الحج أو هو مما يتحلل به؟ منه ولا خلاف بين الجمهور في أنه من أعمال الحج وأن الحلق أفضل من التقصير لما ثبت من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال: "والمقصرين" وأجمع العلماء على أن النساء لا يحلقن وأن سنتهن التقصير واختلفوا هل هو نسك يجب على الحاج والمعتمر أو لا؟ فقال مالك: الحلاق نسك للحاج وللمعتمر وهو أفضل من التقصير ويجب على كل من فاته الحج وأحصر بعدو أو مرض أو بعذر وهو قول جماعة الفقهاء إلا في المحصر بعدو فإن أبا حنيفة قال ليس عليه حلاق ولا تقصير. وبالجملة فمن جعل الحلاق أو التقصير نسكا أوجب في تركه الدم ومن لم يجعله من النسك لم يوجب فيه شيئا.

القول في كفارة المتمتع
وأما كفارة المتمتع التي نص الله عليها في قوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية فإنه لا خلاف في وجوبها وإنما الخلاف في المتمتع؟ من هو وقد تقدم ما في ذلك من الخلاف والقول في هذه الكفارة أيضا يرجع إلى تلك الأجناس بعينها على من تجب؟ وما الواجب فيها؟ ومتى تجب ولمن تجب وفي أي مكان تجب؟ فأما على من

تجب فعلى المتمتع باتفاق وقد تقدم الخلاف في المتمتع من هو وأما اختلافهم في الواجب فإن الجمهور من العلماء على أن ما استيسر من الهدي هو شاة واحتج مالك في أن اسم الهدي قد ينطلق على الشاة بقوله تعالى في جزاء الصيد الكعبة ومعلوم بالإجماع أنه قد يجب في جزاء الصيد شاة وذهب ابن عمر إلى أن اسم الهدي لا ينطلق إلا على الإبل والبقر وأن معنى قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي بقرة أدون من بقرة وبدنة أدون من بدنة. وأجمعوا أن هذه الكفارة على الترتيب وأن من لم يجد الهدي فعليه الصيام. واختلفوا في حد الزمان الذي ينتقل بانقضائه فرضه من الهدي إلى الصيام فقال مالك: إذا شرع في الصوم فقد انتقل واجبه إلى الصوم وإن وجد الهدي في أثناء الصوم. وقال أبو حنيفة: إن وجد الهدي في صوم الثلاثة الأيام لزمه وإن وجده في صوم السبعة لم يلزمه وهذه المسألة نظير مسألة من طلع عليه الماء في الصلاة وهو متيمم. وسبب الخلاف هو هل ما هو شرط ابتداء العبادة هو شرط في استمرارها. وإنما فرق أبو حنيفة بين الثلاثة والسبعة لأن الثلاثة الأيام هي عنده بدل من الهدي والسبعة ليست ببدل وأجمعوا على أنه إذا صام الثلاثة الأيام في العشر الأول من ذي الحجة أنه قد أتى بها في محلها لقوله سبحانه: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} ولا خلاف أن العشر الأول من أيام الحج واختلفوا فيمن صامها في أيام عمل العمرة قبل أن يهل بالحج أو صامها في أيام منى فأجاز مالك صيامها في أيام منى ومنعه أبو حنيفة وقال: إذا فاتته الأيام الأولى وجب الهدي في ذمته ومنعه مالك قبل الشروع في عمل الحج وأجازه أبو حنيفة. وسبب الخلاف هل ينطلق اسم الحج على هذه الأيام المختلف فيها أم لا؟ وإن انطلق فهل من شرط الكفارة أن المساجد إلا بعد وقوع موجبها فمن قال: لا تجزي كفارة إلا بعد وقوع موجبها قال: لا يجزي الصوم إلا بعد الشروع في الحج ومن قاسها على كفارة الأيمان قال يجزي واتفقوا أنه إذا صام السبعة الأيام في أهله أجزأه واختلفوا إذا صامها في الطريق فقال مالك: يجزي الصوم وقال الشافعي: لا يجزي وسبب الخلاف الاحتمال الذي في قوله سبحانه: {إِذَا رَجَعْتُمْ} فإن اسم الراجع ينطلق على من فرغ من الرجوع وعلى من هو في الرجوع نفسه فهذه هي الكفارة التي ثبتت

بالسمع وهي من المتفق عليها ولا خلاف أن من فاته الحج بعد أن شرع فيه إما بفوت ركن من أركانه وإما من قبل غلطه في الزمان أو من قبل جهله أو نسيانه أو إتيانه في الحج فعلا مفسدا له فإن عليه القضاء إذا كان حجا واجبا وهل عليه هدي مع القضاء؟ اختلفوا فيه وإن كان تطوعا فهل عليه قضاء أم لا؟ الخلاف في ذلك كله لكن الجمهور على أن عليه الهدي لكون النقصان الداخل عليه مشعرا بوجوب الهدي وشذ قوم فقالوا: لا هدي أصلا ولا قضاء إلا أن يكون في حج واجب ومما يخص الحج الفاسد عند الجمهور دون سائر العبادات أنه يمضي فيه المفسد له ولا يقطعه وعليه دم. وشذ قوم فقالوا: هو كسائر العبادات وعمدة الجمهور ظاهر قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فالجمهور عمموا والمخالفون خصصوا قياسا على غيرها من العبادات إذا وردت عليها المفسدات واتفقوا على أن المفسد للحج أما من الأفعال المأمور بها فترك الأركان التي هي شرط في صحته على اختلافهم فيما هو ركن مما ليس بركن. وأما من التروك المنهي عنها فالجماع وإن كانوا اختلفوا في الوقت الذي إذا وقع فيه الجماع كان مفسدا للحج. فأما إجماعهم على إفساد الجماع للحج فلقوله سبحانه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} واتفقوا على أن من وطئ قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه وكذلك من وطىء من المعتمرين قبل أن يطوف ويسعى. واختلفوا في فساد الحج بالوطء بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي جمرة العقبة وبعد رمي الجمرة وقبل طواف الإفاضة الذي هو الواجب فقال مالك: من وطىء قبل رمي جمرة العقبة فقد فسد حجه وعليه الهدي والقضاء وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الهدي بدنة وحجة تام. وقد روي مثل هذا عن مالك. وقال مالك: من وطىء بعد رمي جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة فحجه تام وبقول مالك في أن الوطء قبل طواف الإفاضة لا يفسد الحج قال الجمهور: ويلزمه عندهم الهدي. وقالت طائفة: من وطىء قبل طواف الإفاضة فسد حجه وهو قول ابن عمر. وسبب الخلاف أن للحج تحللا يشبه السلام في الصلاة وهو التحلل الأكبر وهو الإفاضة وتحللا أصغر وهل يشترط في إباحة الجماع تحللان أو أحدهما؟

ولا خلاف بينهم أن التحلل الأصغر الذي هو رمي الجمرة يوم النحر أنه يحل به الحاج من كل شيء حرم عليه بالحج إلا النساء والطيب والصيد فإنهم اختلفوا فيه والمشهور عن مالك أنه يحل له كل شيء إلا النساء والطيب وقيل عنه إلا النساء والطيب والصيد لأن الظاهر من قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} أنه التحلل الأكبر. واتفقوا أيضا على يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصر لثبوت الآثار في ذلك إلا خلافا شاذا. وروي عن ابن عباس أنه يحل بالطواف. وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا بعد الحلاق وإن جامع قبله فسدت عمرته. واختلفوا في صفة الجماع الذي يفسد الحج. وفي مقدماته فالجمهور على أن التقاء الختانين يفسد الحج ويحتمل من يشترطه في وجوب الطهر الإنزال مع التقاء الختانين أن يشترط في الحج. واختلفوا في إنزال الماء فيما دون الفرج فقال أبو حنيفة: لا يفسد الحج إلا الإنزال في الفرج. وقال الشافعي ما يوجب الحد يفسد الحج. وقال مالك: الإنزال نفسه يفسد الحج وكذلك مقدماته من المباشرة والقبلة. واستحب الشافعي فيمن جامع دون الفرج أن يهدي. واختلفوا فيمن وطىء مرارا فقال مالك: ليس عليه إلا هدي واحد. وقال أبو حنيفة: إن كرر الوطء في مجلس واحد كان عليه هدي واحد وإن كرره في مجالس كان عليه لكل وطء هدي. وقال محمد بن الحسن: يجزيه هدي واحد وإن كرر الوطء ما لم يهد لوطئه الأول. وعن الشافعي الثلاثة الأقوال إلا أن الأشهر عنه مثل قول مالك. واختلفوا فيمن وطىء ناسيا فسوى مالك في ذلك بين العمد والنسيان. وقال الشافعي في الجديد لا كفارة عليه. واختلفوا هل على المرأة هدي؟ فقال مالك: إن طاوعته فعليها هدي وإن أكرهها فعليه هديان. وقال الشافعي: ليس عليه إلا هدي واحد كقوله في المجامع في رمضان وجمهور العلماء على أنهما إذا حجا من قابل تفرقا أعني الرجل والمرأة وقيل لا يفترقان والقول بأن لا يفترقا مروي عن بعض الصحابة والتابعين وبه قال أبو حنيفة. واختلف قول مالك والشافعي من أين يفترقان؟ فقال الشافعي: يفترقان من حيث أفسدا الحج وقال مالك: يفترقان من حيث أحرما إلا أن يكونا أحرما قبل الميقات فمن آخذهما بالافتراق فسدا للذريعة وعقوبة ومن

لم يؤاخذها به فجريا على الأصل وأنه لا يثبت حكم في هذا الباب إلا بسماع. واختلفوا في الهدي الواجب في الجماع ما هو؟ قال مالك وأبو حنيفة: هو شاة وقال الشافعي: لا تجزئه إلا بدنة وإن لم يجد قومت البدنة دراهم وقومت الدراهم طعاما فإن لم يجد صام عن كل مد يوما قال: والإطعام والهدي لا يجزي إلا بمكة أو بمنى والصوم حيث شاء. وقال مالك: كل نقص دخل الإحرام من وطء أو حلق شعر أو إحصار فإن صاحبه إن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ولا يدخل الإطعام فيه فمالك شبه الدم اللازم هاهنا بدم المتمتع والشافعي شبهه بالدم الواجب في الفدية والإطعام عند مالك لا يكون إلا في كفارة الصيد وكفارة إزالة الأذى والشافعي يرى أن الصيام والإطعام قد وقعا بدل الدم في موضعين ولم يقع بدلهما إلا في موضع واحد فقياس المسكوت عنه على المنطوق به في الإطعام أولى فهذا ما يخص الفساد بالجماع. وأما الفساد بفوات الوقت وهو أن يفوته الوقوف بعرفة يوم عرفة فإن العلماء أجمعوا أن من هذه صفته لا يخرج من إحرامه إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة أعني أنه يحل ولا بد بعمرة وأن عليه حج قابل. واختلفوا هل عليه هدي أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور عليه الهدي وعمدتهم إجماعهم على أن من حبسه مرض حتى فاته الحج أن عليه الهدي. وقال أبو حنيفة: يتحلل بعمرة ويحج من قابل ولا هدي عليه. وحجة الكوفيين أن الأصل في الهدي إنما هو بدل من القضاء فإذا كان القضاء فلا هدي إلا ما خصصه الإجماع. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة فيمن فاته الحج وكان قارنا هل يقضي حجا مفردا أو مقرونا بعمرة؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يقضي قارنا لأنه إنما يقضي مثل الذي عليه. وقال أبو حنيفة ليس عليه إلا الإفراد لأنه قد طاف لعمرته فليس يقضي إلا ما فاته. وجمهور العلماء على أن من فاته الحج أنه لا يقيم على إحرامه ذلك إلى عام آخر وهذا هو الاختيار عند مالك إلا أنه أجاز ذلك ليسقط عنه الهدي ولا يحتاج أن يتحلل بعمرة. وأصل اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم فيمن أحرم بالحج أشهر في غير الحج فمن لم يجعله محرما لم يجز للذي فاته الحج أن يبقى محرما إلى

عام آخر ومن أجاز الإحرام أيام الحج أجاز له البقاء محرما قال القاضي: فقد قلنا في الكفارات الواجبة بالنص في الحج وفي صفة القضاء في الحج الفائت والفاسد وفي صفة إحلال من فاته الحج وقلنا قبل ذلك في الكفارات المنصوص عليها وما ألحق الفقهاء بذلك من كفارة المفسد حجه وبقي أن نقول في الكفارات التي اختلفوا فيها في ترك نسك منها من مناسك الحج مما لم ينص عليه.

القول في الكفارات المسكوت عنها
فنقول: إن الجمهور اتفقوا على أن النسك ضربان: نسك هو سنة مؤكدة ونسك هو مرغب فيه. فالذي هو سنة يجب على تاركه الدم لأنه حج ناقص أصله المتمتع والقارن. وروي عن ابن عباس أنه قال: من فاته من نسكه شيء فعليه دم وأما الذي هو العربي فلم يروا فيه دما ولكنهم اختلفوا اختلافا كثيرا في ترك نسك نسك هل فيه دم أم لا؟ وذلك لاختلافهم فيه هل هو سنة أو نفل؟ وأما ما كان فرضا فلا خلاف عندهم أنه لا يجبر بالدم وإنما يختلفون في الفعل الواحد نفسه من قبل اختلافهم هل هو فرض أم لا؟ وأما أهل الظاهر فإنهم لا يرون دما إلا حيث ورد النص لتركهم القياس وبخاصة في العبادات وكذلك اتفقوا على أن ما كان من التروك مسنونا ففعل ففيه فدية الأذى وما كان مرغبا فيه فليس فيه شيء. واختلفوا في ترك فعل لاختلافهم هل هو سنة أم لا؟ وأهل الظاهر لا يوجبون الفدية إلا في المنصوص عليه ونحن نذكر المشهور من اختلاف الفقهاء في ترك نسك نسك أعني في وجوب الدم أو لا وجوبه من أول المناسك إلى آخرها وكذلك في فعل محظور محظور فأول ما اختلفوا فيه من المناسك من جاوز الميقات فلم يحرم هل عليه دم؟ فقال قوم: لا دم عليه. وقال قوم: عليه الدم وإن رجع وهو قول مالك وابن المبارك. وروي عن الثوري. وقال قوم: إن رجع إليه فليس عليه دم وإن لم يرجع فعليه دم وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومشهور قول الثوري. وقال أبو حنيفة: إن رجع ملبيا فلا دم وإن رجع غير ملب كان عليه الدم. وقال قوم: هو فرض ولا يجبره بالدم.

واختلفوا فيمن غسل رأسه بالخطمي. فقال مالك وأبو حنيفة يفتدي. وقال الثوري وغيره لا شيء عليه. ورأى مالك أن في الحمام الفدية وأباحه الأكثرون وروي عن ابن عباس من طريق ثابت دخوله والجمهور على أنه يفتدي من لبس من المحرمين ما نهي عن لباسه. واختلفوا إذا لبس السراويل لعدم الإزار هل يفتدي أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يفتدي وقال الثوري وأحمد وأبو ثور: وداود لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا. وعمدة من منع النهي المطلق وعمدة من لم ير فيه فدية حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين" واختلفوا فيمن ليس الخفين مقطوعين مع وجود النعلين فقال مالك: عليه الفدية وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه والقولان عن الشافعي واختلفوا في لبس المرأة القفازين هل فيه فدية أم لا؟ وقد ذكرنا كثيرا من هذه الأحكام في باب الإحرام وكذلك اختلفوا فيمن ترك التلبية هل عليه دم أم لا؟ وقد تقدم. واتفقوا على أن من نسي الطواف أو نسي شوطا من أشواطه أنه يعيده ما دام بمكة. واختلفوا إذا بلغ إلى أهله فقال قوم منهم أبو حنيفة: يجزيه الدم وقال قوم: بل يعيد ويجبر ما نقصه ولا يجزيه الدم. وكذلك اختلفوا في وجوب الدم على من ترك الرمل في الثلاثة الأشواط وبالوجوب قال ابن عباس والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور. واختلف في ذلك قول مالك وأصحابه. والخلاف في هذه الأشياء كلها مبناه على أنه هل هو سنة أم لا؟ وقد تقدم القول في ذلك. وتقبيل الحجر أو تقبيل يده بعد وضعها عليه إذا لم يصل الحجر عند كل من لم يوجب الدم قياسا على المتمتع إذا تركه فيه دم. وكذلك اختلفوا فيمن نسي ركعتي الطواف حتى رجع إلى بلده هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك: عليه دم. وقال الثوري: يركعهما ما دام في الحرم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يركعهما حيث شاء والذين قالوا في طواف الوداع أنه ليس بفرض اختلفوا فيمن تركه ولم تتمكن له العودة إليه هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك: ليس عليه شيء إلا أن يكون قريبا فيعود. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه دم إن لم يعد وإنما يرجع عندهم

ما لم يبلغ المواقيت وحجة من لم يره سنة مؤكدة سقوطه عن المكي والحائض. وعند أبي حنيفة أنه إذا لم يدخل الحجر في الطواف أعاد ما لم يخرج من مكة فإن خرج فعليه دم. واختلفوا هل من شرط صحة الطواف المشي فيه مع القدرة عليه؟ فقال مالك: هو من شرطه كالقيام في الصلاة فإن عجز كان كصلاة القاعد ويعيد عنده أبدا إلا إذا رجع إلى بلده فإن عليه دما. وقال الشافعي: الركوب في الطواف جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت راكبا من غير مرض لكنه أحب أن يستشرف الناس إليه ومن لم ير السعي واجبا فعليه فيه دم إذا انصرف إلى بلده ومن رآه تطوعا لم يوجب فيه شيئا وقد تقدم اختلافهم أيضا فيمن قدم السعي على الطواف هل فيه دم إذا لم يعد حتى يخرج من مكة أم ليس فيه دم؟ واختلفوا في وجوب الدم على من دفع من عرفة قبل الغروب فقال الشافعي وأحمد: إن عاد فدفع بعد غروب الشمس فلا دم عليه وإن لم يرجع حتى طلع الفجر وجب عليه الدم. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الدم رجع أو لم يرجع وقد تقدم هذا. واختلفوا فيمن وقف من عرفة بعرنة فقال الشافعي: لا حج له وقال مالك: عليه دم. وسبب الاختلاف هل النهي عن الوقوف بها من باب الحظر أو من باب الكراهية وقد ذكرنا في باب أفعال الحج إلى انقضائها كثيرا من اختلافهم فيما في تركه دم وما ليس فيه دم وإن كان الترتيب يقتضي ذكره في هذا الموضع والأسهل ذكره هنالك. قال القاضي: فقد قلنا في وجوب هذه العبادة وعلى من تجب؟ وشروط وجوبها ومتى تجب؟ وهي التي تجري مجرى المقدمات لمعرفة هذه العبادة وقلنا بعد ذلك في زمان هذه العبادة ومكانها ومحظوراتها وما اشتملت عليه أيضا من الأفعال في مكان مكان من أماكنها وزمان زمان من أزمنتها الجزئية إلى انقضاء زمانها ثم قلنا في أحكام التحلل الواقع في هذه العبادة وما يقبل من ذلك الإصلاح بالكفارات وما لا يقبل الإصلاح بل يوجب الإعادة وقلنا أيضا في حكم الإعادة بحسب موجباتها. وفي هذا الباب يدخل من شرع فيها فأحصر بمرض أو عدو أو غير ذلك والذي بقي من أفعال هذه العبادة هو القول في الهدي وذلك أن هذا النوع من العبادات هو جزء من هذه العبادة وهو مما ينبغي أن فلنقل فيه:

القول في الهدي
فنقول إن النظر في الهدي يشتمل على معرفة وجوبه وعلى معرفة جنسه وعلى معرفة سنه وكيفية سوقه ومن أين يساق وإلى أين ينتهي بسوقه وهو موضع نحره وحكم لحمه بعد النحر فنقول: إنهم قد أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب ومنه تطوع فالواجب منه ما هو واجب بالنذر ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة ومنه ما هو واجب لأنه كفارة. فأما ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة فهو هدي المتمتع باتفاق وهدي القارن باختلاف. وأما الذي هو كفارة فهدي القضاء على مذهب من يشترط فيه الهدي وهدي كفارة الصيد وهدي إلقاء الأذى والتفث وما أشبه ذلك من الهدي الذي قاسه الفقهاء في الإخلال بنسك نسك منها على المنصوص عليه. فأما جنس الهدي فإن العلماء متفقون على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نص الله عليها وأن الأفضل في الهدايا هي الإبل ثم البقر ثم الغنم ثم المعز وإنما اختلفوا في الضحايا. وأما الأسنان فإنهم أجمعوا أن الثني فما فوقه يجزي منها وأنه لا يجزي الجذع من المعز في الضحايا والهدايا لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة: "تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك" واختلفوا في الجذع من الضأن فأكثر أهل العلم يقولون بجوازه في الهدايا والضحايا. وكان ابن عمر يقول: لا يجزي في الهدايا إلا الثني من كل جنس ولا خلاف في أن الأغلى ثمنا من الهدايا أفضل. وكان الزبير يقول لبنيه: يا بني لا يهدين أحدكم لله من الهدي شيئا يستحي أن يهديه لكريمه فإن الله أكرم الكرماء وأحق من اختير له وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الرقاب" وقد قيل له أيها أفضل فقال: "أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" وليس في عدد الهدي حد معلوم وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة. وأما كيفية سوق الهدي فهو التقليد والإشعار بأنه هدي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره

وأحرم وإذا كان الهدي من الإبل والبقر فلا خلاف أنه يقلد نعلا أو نعلين أو ما أشبه ذلك لمن لم يجد النعال. واختلفوا في رحمة الغنم فقال مالك وأبو حنيفة لا تقلد الغنم. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: تقلد لحديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إلى البيت مرة غنما فقلده واستحبوا توجيهه إلى القبلة في حين تقليده واستحب مالك الإشعار من الجانب الأيسر لما رواه عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا أهدى هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة قلده قبل أن يشعره وذلك في مكان واحد وهو موجه للقبلة يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة ثم يدفع به معهم إذا دفعوا وإذا قدم منى غداة النحر نحره قبل أن يحلق أو يقصر وكان هو ينحر هديه بيده يصفهن قياما ويوجههن للقبلة ثم يأكل ويطعم. واستحب الشافعي وأحمد وأبو ثور الإشعار من الجانب الأيمن لحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنة فأشعرها من صفحة سنامه الأيمن ثم سلت الدم عنها وقلدها بنعلين ثم ركب راحلته فلما استوت على البيداء أهل بالحج وأما من أين يساق الهدي؟ فإن مالكا يرى أن من سنته أن يساق من الحل ولذلك ذهب إلى أن من اشترى الهدي بمكة ولم يدخله من الحل أن عليه أن يقفه بعرفة وإن لم يفعل فعليه البدل. وأما إن كان أدخله من الحل فيستحب له أن يقفه بعرفة وهو قول ابن عمر وبه قال الليث. وقال الشافعي والثوري وأبو ثور: وقوف الهدي بعرفة سنة ولا حرج على من لم يقفه كان داخلا من الحل أو لم يكن. وقال أبو حنيفة ليس توقيف الهدي بعرفة من السنة وحجة مالك في إدخال الهدي من الحل إلى الحرم أن النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فعل وقال: "خذوا عني مناسككم" وقال الشافعي: التعريف سنة مثل التقليد. وقال أبو حنيفة: ليس التعريف وعشرون وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مسكنه كان خارج الحرم. وروي عن عائشة التخيير في تعريف الهدي أو لا تعريفه. وأما محله فهو البيت العتيق كما قال تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وقال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وأجمع العلماء على أن الكعبة لا يجوز لأحد فيها ذبح وكذلك المسجد الحرام وأن

المعنى في قوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أنه إنما أراد به النحر بمكة إحسانا منه لمساكينهم وفقرائهم. وكان مالك يقول: إنما المعنى في قوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} مكة وكان لا يجيز لمن نحر هديه في الحرم إلا أن ينحره بمكة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن نحره في غير مكة من الحرم أجزأه. وقال الطبري: يجوز نحر الهدي حيث شاء المهدي إلا هدي القران وجزاء الصيد فإنهما لا ينحران إلا بالحرم. وبالجملة فالنحر بمنى إجماع من العلماء وفي العمرة بمكة إلا ما اختلفوا فيه من نحر المحصر. وعند مالك إن نحر للحج بمكة والعمرة بمنى أجزأه وحجة مالك في أنه لا يجوز النحر بالحرم إلا بمكة قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل فجاج مكة وطرقها منحر" واستثنى مالك من ذلك هدي الفدية فأجاز ذبحه بغير مكة. وأما متى ينحر فإن مالكا قال: إن ذبح هدي التمتع أو التطوع قبل يوم النحر وجوزه أبو حنيفة في التطوع وقال الشافعي: يجوز في كليهما قبل يوم النحر ولا خلاف عند الجمهور أن ما عدل من الهدي بالصيام أنه يجوز حيث شاء لأنه لا منفعة في ذلك لا لأهل الحرم ولا لأهل مكة وإنما اختلفوا في الصدقة المعدولة عن الهدي فجمهور العلماء على أنها لمساكين مكة والحرم لأنها بدل من جزاء الصيد الذي هو لهم وقال مالك: الإطعام كالصيام يجوز بغير مكة. وأما صفة النحر فالجمهور مجمعون على أن التسمية مستحبة فيها لأنها زكاة ومنهم من استحب مع التسمية التكبير. ويستحب للمهدي أن يلي نحر هديه بيده وإن استخلف جاز وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه ومن سنتها أن تنحر قياما لقوله سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} وقد تكلم في صفة النحر في كتاب الذبائح. وأما ما يجوز لصاحب الهدي من الانتفاع به وبلحمه فإن في ذلك مسائل مشهورة: أحدها هل يجوز له ركوب الهدي الواجب أو التطوع؟ فذهب أهل الظاهر إلى أن ركوبه جائز من ضرورة ومن غير ضرورة وبعضهم أوجب ذلك وكره جمهور فقهاء الأمصار ركوبها من غير ضرورة والحجة للجمهور ما خرجه أبو داود عن جابر وقد سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا" ومن طريق

المعنى أن الانتفاع بما قصد به القربة إلى الله تعالى منعه مفهوم من الشريعة وحجة أهل الظاهر ما رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: "اركبها" فقال: يا رسول الله إنها هدي فقال: "اركبها" ويلك في الثانية أو الثالثة. وأجمعوا أن هدي التطوع إذا بلغ محله أنه يأكل منه صاحبه كسائر الناس وأنه إذا عطب قبل أن يبلغ محله خلى بينه وبين الناس ولم يأكل منه وزاد داود: ولا يطعم منه شيئا أهل رفقته لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بالهدي مع ناجية الأسلمي وقال له: "إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعليه في دمه وخل بينه وبين الناس" وروي عن ابن عباس هذا الحديث فزاد فيه: "ولا تأكل منه أنت ولا أهل رفقتك" وقال بهذه الزيادة داود وأبو ثور. واختلفوا فيما يجب على من أكل منه فقال مالك إن أكل منه وجب عليه بدله. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وابن حبيب من أصحاب مالك: عليه قيمة ما أكل أو أمر بأكله طعاما يتصدق به. وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين. وما عطب في الحرم قبل أن يصل مكة فهل بلغ محله أم لا؟ فيه الخلاف مبني على الخلاف المتقدم هل المحل هو مكة أو الحرم؟ وأما الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فإن لصاحبه أن يأكل منه لأن عليه بدله ومنهم من أجاز له بيع لحمه وأن يستعين به في البدل وكره ذلك مالك. واختلفوا في الأكل من الهدي الواجب إذا بلغ محله فقال الشافعي: لا يؤكل من الهدي الواجب كله ولحمه كله للمساكين وكذلك جله إن كان مجللا والنعل الذي قلد به. وقال مالك: يؤكل من كل الهدي الواجب إلا جزاء الصيد ونذر المساكين وفدية الأذى. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل من الهدي الواجب إلا هدي المتعة وهدي القران. وعمدة الشافعي تشبيه جميع أصناف الهدي الواجب بالكفارة. وأما من فرق فلأنه يظهر في الهدي معنيان: أحدهما أنه عبادة مبتدأة. والثاني أنه كفارة وأحد المعنيين في بعضها أظهر فمن غلب شبهه بالعبادة على شبهه بالكفارة في نوع نوع من أنواع الهدي كهدي القران وهدي التمتع وبخاصة عند

من يقول إن التمتع والقران أفضل لم يشترط أن لا يأكل لأن هذا الهدي عنده هو فضيلة لا كفارة ومن غلب شبهه بالكفارة قال: لا يأكله لاتفاقهم على أنه لا يأكل صاحب الكفارة من الكفارة ولما كان هدي جزاء الصيد وفدية الأذى ظاهر من أمرهما أنهما كفارة لم يختلف هؤلاء الفقهاء في أنه لا يأكل منها. قال القاضي: فقد قلنا في حكم الهدي وفي جنسه وفي سنه وكيفية سوقه وشروط صحته من الزمان والمكان وصفة نحره وحكم الانتفاع به وذلك ما قصدناه والله الموفق للصواب. وبتمام القول في هذا بحسب ترتيبنا تم القول في هذا الكتاب بحسب غرضنا ولله الشكر والحمد كثيرا على ما وفق وهدى ومن به من التمام والكمال منه.
وكان الفراغ منه يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى الذي هو عام أربعة وثمانين وخمسمائة وهو جزء من كتاب المجتهد الذي وضعته منذ أزيد من عشرين عاما أو نحوها والحمد لله رب العالمين. كان رضي الله عنه عزم حين تأليف الكتاب أولا ألا يثبت كتاب الحج ثم بدا له بعد فأثبته.

كتاب الجهاد
مدخلبسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
كتاب الجهادوالقول المحيط بأصول هذا الباب ينحصر في جملتين: الجملة الأولى: في معرفة أركان الحرب: الثانية: في أحكام أموال المحاربين إذا تملكها المسلمون.
الجملة الأولى:
وفي هذه الجملة فصول سبعة: أحدها: معرفة حكم هذه الوظيفة ولمن تلزم. والثاني: معرفة الذين يحاربون. والثالث: معرفة ما يجوز من النكاية في صنف صنف من أصناف أهل الحرب مما لا يجوز. والرابع: معرفة جواز شروط الحرب. والخامس: معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم. والسادس: هل تجوز المهادنة؟. والسابع: لماذا يحاربون؟.

الجملة الأولى: في معرفة أركان الحرب
الفصل الأول: في معرفة حكم هذه الوظيفة
الفصل الأول في معرفة حكم هذه الوظيفة
فأما حكم هذه الوظيفة فأجمع العلماء على أنها فرض على الكفاية لا فرض عين إلا عبد الله بن الحسن فإنه قال إنها تطوع وإنما صار الجمهور

الفصل الثاني في معرفة الذين يحاربون
فأما الذين يحاربون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} إلا ما روي عن مالك أنه قال: لا يجوز ابتداء الحبشة بالحرب ولا الترك لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "ذروا الحبشة ما وذرتكم" وقد سأل مالك عن صحة هذا الأثر فلم يعترف بذلك لكن قال: لم يزل الناس يتحامون غزوهم.

الفصل الثالث في معرفة ما يجوز من النكاية في العدو
وأما ما يجوز من النكاية في العدو فإن النكاية لا تخلو أن تكون في الأموال أو في النفوس أو في الرقاب أعني الاستعباد والتملك. فأما النكاية التي هي الاستعباد فهي جائزة بطريق الإجماع في جميع أنواع المشركين أعني ذكرانهم وإناثهم وشيوخهم وصبيانهم صغارهم وكبارهم إلا الرهبان فإن قوما رأوا أن يتركوا ولا يؤسروا بل يتركوا دون أن يعرض إليهم لا بقتل ولا باستعباد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذرهم وما حبسوا أنفسهم إليه" واتباعا لفعل أبي بكر وأكثر العلماء على أن الإمام مخير في الأسارى في خصال: منها أن يمن عليهم ومنها أن يستعبدهم ومنها أن يقتلهم ومنها أن يأخذ منهم الفداء ومنها أن يضرب عليهم الجزية وقال قوم: لا يجوز قتل الأسير. وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة. والسبب في اختلافهم تعارض الآية في هذا المعنى وتعارض الأفعال ومعارضة ظاهر الكتاب لفعله عليه الصلاة والسلام وذلك أن ظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} الآية أنه ليس للإمام بعد الأسر إلا المن أو الفداء وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآية. والسبب الذي نزلت فيه من أسارى بدر يدل على أن القتل أفضل من الاستعباد وأما هو عليه الصلاة والسلام فقد قتل الأسارى في غير ما موطن وقد من واستعبد النساء. وقد حكى أبو عبيد أنه لم يستعبد أحرار ذكور العرب وأجمعت الصحابة بعده على استعباد أهل الكتاب ذكرانهم وإناثهم فمن رأى أن الآية الخاصة بفعل الأسارى ناسخة لفعله قال: لا يقتل الأسير ومن رأى أن الآية ليس فيها ذكر لقتل الأسير ولا المقصود منها حصر ما يفعل بالأسارى بل فعله عليه الصلاة والسلام وهو حكم زائد على ما في الآية ويحط العتب الذي وقع في ترك قتل أسارى بدر قال: بجواز قتل الأسير والقتل إنما يجوز إذا لم يكن يوجد بعد تأمين وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين وإنما اختلفوا فيمن يجوز تأمينه ممن لا يجوز واتفقوا على جواز تأمين الإمام وجمهور

العلماء على جواز أمان الرجل الحر المسلم إلا ما كان من ابن الماجشون يرى أنه موقوف على إذن الإمام. واختلفوا في أمان العبد وأمان المرأة فالجمهور على جوازه وكان ابن الماجشون وسحنون يقولان: أمان المرأة موقوف على إذن الإمام وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد إلا أن يقاتل. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للقياس. أما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" فهذا يوجب أمان العبد بعمومه. وأما القياس المعارض له فهو أن اختلفا من شرطه الكمال والعبد ناقص بالعبودية فوجب أن يكون للعبودية تأثير في إسقاطه قياسا على تأثيرها في إسقاط كثير من الأحكام الشرعية وأن يخصص ذلك العموم بهذا القياس. وأما اختلافهم في أمان المرأة فسببه اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وقياس المرأة في ذلك على الرجل وذلك أن من فهم من قوله عليه الصلاة والسلام: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" إجازة أمانها لا صحته في نفسه وأنه لولا إجازته لذلك لم يؤثر قال: لا أمان للمرأة إلا أن يجيزه الإمام ومن فهم من ذلك أن إمضاءه أمانها كان من جهة أنه قد انعقد وأثر لا من جهة أن إجازته هي التي صححت عقده قال: أمان المرأة جائز وكذلك من قاسها على الرجل ولم ير بينهما فرقا في ذلك أجاز أمانها ومن رأى أنها ناقصة عن الرجل لم يجز أمانها وكيفما كان فالأمان غير مؤثر في الاستعباد وإنما يؤثر في القتل وقد يمكن أن ندخل الاختلاف في هذا من قبل اختلافهم في ألفاظ جموع المذكر هل تتناول النساء أم لا؟ أعني بحسب العرف الشرعي. وأما النكاية التي تكون في النفوس فهي القتل ولا خلاف بين المسلمين أنه يجوز في الحرب قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين. وأما القتل بعد الأسر ففيه الخلاف الذي ذكرنا وكذلك لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز قتل صبيانهم ولا قتل نسائهم ما لم تقاتل المرأة والصبي فإذا قاتلت المرأة استبيح دمها وذلك لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء والولدان وقال في امرأة مقتولة: "ما كانت هذه لتقاتل" واختلفوا في أهل الصوامع

المنتزعين عن الناس والعميان والزمنى والشيوخ الذين لا يقاتلون والمعتوه والحراث والعسيف فقال مالك: لا يقتل الأعمى ولا المعتوه ولا أصحاب الصوامع ويترك لهم من أموالهم بقدر ما يعيشون به وكذلك لا يقتل الشيخ الفاني عنده وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال الثوري والأوزاعي: لا تقتل الشيوخ فقط. وقال الأوزاعي: لا تقتل الحراث. وقال الشافعي في الأصح عنه تقتل جميع هذه الأصناف. والسبب في اختلافهم معارضة بعض الآثار بخصوصها لعموم الكتاب ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام الثابت: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" . الحديث وذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} يقتضي قتل كل مشرك راهبا كان أو غيره وكذلك قوله
عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" . وأما الآثار التي وردت باستبقاء هذه الأصناف فمنها ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال: "لا تقتلوا أصحاب الصوامع" ومنه أيضا ما روي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا" خرجه أبو داود ومن ذلك أيضا ما رواه مالك عن أبي بكر أنه قال: ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعهم وما حبسوا أنفسهم له وفيه: ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما. ويشبه أن يكون السبب الأملك في الاختلاف في هذه المسألة معارضة قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} لقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية. فمن رأى أن هذه ناسخة لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} لأن القتال أولا إنما أبيح لمن يقاتل قال: الآية على عمومها ومن رأى أن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وهي محكمة وأنها تتناول1 هؤلاء الأصناف الذين لا يقاتلون استثناها من عموم تلك وقد احتج الشافعي
ـــــــ
1 قوله تتناول الخ: هكذا هذه العبارة ولينظر التناول بعد قوله يقاتلونكم تأمل ا هـ مصححه.

بحديث سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" وكأن العلة الموجبة للقتل عنده إنما هي للكفر فوجب أن تطرد هذه العلة في جميع الكفار. وأما من ذهب إلى أنه لا يقتل الحراث فإنه احتج في ذلك بما روي عن زيد بن وهب قال: أتانا كتاب عمر رضي الله عنه وفيه: لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا واتقوا الله في الفلاحين. وجاء في حديث رباح بن ربيعة النهي عن قتل العسيف المشرك وذلك أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ثم قال: "ما كانت هذه لتقاتل" ثم نظر في وجوه القوم فقال لأحدهم: "الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا ولا امرأة" . والسبب الموجب بالجملة لاختلافهم اختلافهم في العلة الموجبة للقتل فمن زعم أن العلة الموجبة لذلك هي الكفر لم يستثن أحدا من المشركين ومن زعم أن العلة في ذلك إطاقة القتال للنهي عن قتل النساء مع أنهن كفار استثنى من لم يطق القتال ومن لم ينصب نفسه إليه كالفلاح والعسيف. وصح النهي عن المثلة واتفق المسلمون على جواز قتلهم بالسلاح واختلفوا في تحريقهم بالنار فكره قوم تحريقهم بالنار ورميهم بها وهو قول عمر. ويروى عن مالك وأجاز ذلك سفيان الثوري وقال بعضهم: إن ابتدأ العدو بذلك جاز وإلا فلا. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما العموم فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ولم يستثن قتلا من قتل. وأما الخصوص فما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رجل: "إن قدرتم عليه فاقتلوه ولا تحرقوه بالنار فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار" واتفق عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمجانيق سواء كان فيها نساء وذرية أو لم يكن لما جاء أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب المنجنيق على أهل الطائف وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين فقالت طائفة: يكف عن رميهم بالمنجنيق وبه قال الأوزاعي. وقال الليث: ذلك جائز ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى:

{لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} الآية. وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة فهذا هو مقدار النكاية التي يجوز أن تبلغ بهم في نفوسهم ورقابهم. وأما النكاية التي تجوز في أموالهم وذلك في المباني والحيوان والنبات فإنهم اختلفوا في ذلك فأجاز مالك قطع الشجر والثمار وتخريب العامر ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النخل وكره الأوزاعي قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك وقال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل. والسبب في اختلافهم مخالفة فعل أبي بكر في ذلك لفعله عليه الصلاة والسلام وذلك أنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام حرق نخل بني النضير وثبت عن أبي بكر أنه قال: لا تقطعن شجرا ولا تخربن عامرا فمن ظن أن فعل أبي بكر هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز على أبي بكر أن يخالفه مع علمه بفعله أو رأى أن ذلك كان الموطأ ببني النضير لغزوهم قال بقول أبي بكر ومن اعتمد فعله عليه الصلاة والسلام ولم ير قول أحد ولا فعله حجة عليه قال بتحريق الشجر. وإنما فرق مالك بين الحيوان والشجر لأن قتل الحيوان مثلة وقد نهى عن المثلة ولم يأت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قتل حيوانا فهذا هو معرفة النكاية التي يجوز أن تبلغ من الكفار في نفوسهم وأموالهم.

الفصل الرابع في شرط الحرب
فأما شرط الحرب فهو بلوغ الدعوة باتفاق أعني أنه لا يجوز حرابتهم حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة وذلك شيء مجتمع عليه من المسلمين لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وأما هل يجب تكرار الدعوة عند تكرار الحرب فإنهم اختلفوا في ذلك فمنهم من أوجبها ومنهم من استحبها ومنهم من لم يوجبها ولا استحبها. والسبب في اختلافهم معارضة القول للفعل وذلك أنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا بعث سرية قال لأميرها: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم,

ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" وثبت من فعله عليه الصلاة والسلام أنه كان يبيت العدو ويغير عليهم مع الغدوات فمن الناس وهم الجمهور من ذهب إلى أن فعله ناسخ لقوله وأن ذلك إنما كان في أول الإسلام قبل أن تنتشر الدعوة بدليل دعوتهم فيه إلى الهجرة ومن الناس من رجح القول على الفعل وذلك بأن حمل الفعل على الخصوص ومن استحسن الدعاء فهو وجه من الجمع.

الفصل الخامس: في معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم
وأما معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم فهم الضعف وذلك مجمع عليه لقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} الآية. وذهب ابن الماجشون ورواه عن مالك أن الضعف إنما يعتبر في القوة لا في العدد وأنه يجوز أن يفر الواحد عن واحد إذا كان أعتق جوادا منه وأجود سلاحا وأشد قوة.

الفصل السادس في جواز المهادنة
فأما هل تجوز المهادنة؟ فإن قوما أجازوها ابتداء من غير سبب إذا رأى ذلك الإمام مصلحة للمسلمين وقوم لم يجيزوها إلا لمكان الضرورة الداعية لأهل الإسلام من فتنة أو غير ذلك إما بشيء يأخذونه منهم لا على حكم الجزية

إذ كانت الجزية إنما شرطها أن تؤخذ منهم وهم بحيث تنفذ عليهم أحكام المسلمين وإما بلا شيء يأخذونه منهم وكان الأوزاعي التابعين أن يصالح الإمام الكفار على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة أو غير ذلك من الضرورات. وقال الشافعي: لا يعطي المسلمون الكفار شيئا إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو وقلتهم أو لمحنة نزلت بهم وممن قال بإجازة الصلح إذا رأى الإمام ذلك مصلحة مالك والشافعي وأبو حنيفة إلا أن الشافعي لا يجوز عنده الصلح لأكثر من المدة التي صالح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار عام الحديبية. وسبب اختلافهم في جواز الصلح من غير ضرورة معارضة ظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ناسخة لآية الصلح قال: لا يجوز الصلح إلا من ضرورة ومن رأى أن آية الصلح مخصصة لتلك قال: الصلح جائز إذا رأى ذلك الإمام وعضد تأويله بفعله ذلك صلى الله عليه وسلم وذلك أن صلحه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لم يكن لموضع الضرورة. وأما الشافعي فلما كان الأصل عنده الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وكان هذا مخصصا عنده بفعله عليه الصلاة والسلام عام الحديبية لم ير أن يزداد على المدة التي صالح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اختلف في هذه المدة فقيل كانت أربع سنين وقيل ثلاثا وقيل عشر سنين وبذلك قال الشافعي. وأما من أجاز أن يصالح المسلمون المشركين بأن يعطوا لهم المسلمون شيئا إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة أو غيرها فمصيرا إلى ما روي أنه كان عليه الصلاة والسلام قد هم أن يعطي بعض تمر المدينة لبعض الكفار الذين كانوا في جملة الأحزاب لتخبيبهم فلم يوافقه على القدر الذي كان سمح له به من تمر المدينة حتى أفاء الله بنصره. وأما من لم يجز ذلك إلا أن يخاف المسلمون أن يصطلموا فقياسا على إجماعهم على جواز فداء أسارى المسلمين لأن المسلمين إذا صاروا في هذا الحد فهم بمنزلة الأسارى.

الفصل السابع: لماذا يحاربوب؟
الفصل السابع لماذا يحاربون؟
فأما لماذا يحاربون؟ فاتفق المسلمون على أن المقصود بالمحاربة لأهل الكتاب ما عدا أهل الكتاب من قريش ونصارى العرب هو أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام وإما إعطاء الجزية لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وكذلك اتفق عامة الفقهاء على أخذها من المجوس لقوله صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" واختلفوا فيما سوى أهل الكتاب من المشركين هل تقبل منهم الجزية أم لا؟ فقال قوم: تؤخذ الجزية من كل مشرك وبه قال مالك. وقوم استثنوا من ذلك مشركي العرب. وقال الشافعي وأبو ثور وجماعة لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما العموم فقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وأما الخصوص فقوله لأمراء السرايا الذين كان يبعثهم إلى مشركي العرب ومعلوم أنهم أهل كتاب فإذا لقيت عدوك فادعهم إلى ثلاث خصال فذكر الجزية فيها وقد تقدم الحديث. فمن رأى أن العموم إذا تأخر عن الخصوص فهو ناسخ له قال: لا تقبل الجزية من مشرك ما عدا أهل الكتاب لأن الآية الآمرة بقتالهم على العموم هي متأخرة عن ذلك الحديث وذلك أن الأمر بقتال المشركين عامة وهو في سورة براءة ذلك عام الفتح وذلك الحديث إنما هو قبل الفتح بدليل دعائهم فيه للهجرة ومن رأى أن العموم يبنى على الخصوص تقدم أو تأخر أو جهل التقدم والتأخر بينهما قال: تقبل الجزية من جميع المشركين. وأما تخصيص أهل الكتاب من سائر المشركين فخرج من ذلك العموم باتفاق بخصوص قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وسيأتي القول في الجزية وأحكامها في الجملة الثانية من هذا الكتاب فهذه هي أركان الحرب. ومما يتعلق بهذه الجملة من المسائل المشهورة: النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو وعامة الفقهاء على أن ذلك غير جائز لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك إذا كان في العساكر المأمونة. والسبب في اختلافهم هل النهي عام أريد به العام أو عام أريد به الخاص.

الجملة الثانية: في أحكام أموال المحاربين إذا تملكها المسلمون
مدخل
الجملة الثانية:
والقول المحيط بأصول هذه الجملة ينحصر أيضا في سبعة فصول: الأول: في حكم الخمس. الثاني: في حكم الأربعة الأخماس. الثالث: في حكم الأنفال. الرابع: في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار. الخامس: في حكم الأرضين. السادس: في حكم الفيء. السابع: في أحكام الجزية والمال الذي يؤخذ منهم على طريق الصلح.

الفصل الأول في حكم خمس الغنيمة
واتفق المسلمون على أن الغنيمة التي تؤخذ قسرا من أيدي الروم ما عدا الأرضين أن خمسها للإمام وأربعة أخماسها للذين غنموها لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية. واختلفوا في الخمس على أربعة مذاهب مشهورة: أحدها أن الخمس يقسم على خمسة أقسام على نص الآية وبه قال الشافعي. والقول الثاني أنه يقسم على أربعة أخماس وأن قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} هو افتتاح كلام وليس هو قسما خامسا. والقول الثالث أنه يقسم اليوم ثلاثة أقسام وأن سهم النبي وذي القربى سقطا بموت النبي صلى الله عليه وسلم. والقول الرابع أن الخمس بمنزلة الفيء يعطى منه الغني والفقير وهو قول مالك وعامة الفقهاء. والذين قالوا يقسم أربعة أخماس أو خمسة اختلفوا فيما يفعل بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم القرابة بعد موته. فقال قوم: يرد على سائر الأصناف الذين لهم الخمس. وقال قوم: بل يرد على باقي الجيش. وقال قوم: بل سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للإمام وسهم ذوي القربى لقرابة الإمام. وقال قوم:

الفصل الثاني في حكم الأربعة الأخماس
أجمع جمهور العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين إذا خرجوا بإذن الإمام. واختلفوا في الخارجين بغير إذن الإمام وفيمن يجب له سهمه من الغنيمة ومتى يجب وكم يجب وفيما يجوز له من الغنيمة قبل القسم؟ فالجمهور على أن أربعة أخماس الغنيمة للذين غنموها خرجوا بإذن الإمام أو بغير ذلك

لعموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية. وقال قوم: إذا خرجت السرية أو الرجل الواحد بغير إذن الإمام فكل ما ساق العربي يأخذه الإمام وقال قوم: بل يأخذه كله الغانم. فالجمهور تمسكوا بظاهر الآية وهؤلاء كأنهم اعتمدوا صورة الفعل الواقع من ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن جميع السرايا إنما كانت تخرج عن إذنه عليه الصلاة والسلام فكأنهم رأوا أن إذن الإمام شرط في ذلك وهو ضعيف. وأما من له السهم من الغنيمة؟ فإنهم اتفقوا على الذكران الأحرار البالغين واختلفوا في أضدادهم: أعني في النساء والعبيد ومن لم يبلغ من الرجال ممن قارب البلوغ فقال قوم ليس للعبيد ولا للنساء حظ من الغنيمة ولكن يرضخ لهم وبه قال مالك وقال قوم: لا يرضخ ولا لهم حظ الغانمين وقال قوم: بل لهم حظ واحد من الغانمين وهو قول الأوزاعي. وكذلك اختلفوا في الصبي المراهق فمنهم من قال: يقسم له وهو مذهب الشافعي ومنهم من اشترط في ذلك أن يطيق القتال وهو مذهب مالك ومنهم من قال: يرضخ له. وسبب اختلافهم في العبيد هو هل عموم الخطاب يتناول الأحرار والعبيد معا أم الأحرار فقط دون العبيد؟ وأيضا فعمل الصحابة معارض لعموم الآية وذلك أنه انتشر فيهم رضي الله عنهم أن الغلمان لا سهم لهم وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس ذكره ابن أبي شيبة من طرق عنهما قال أبو عمر بن عبد البر: أصح ما روي من ذلك عن عمر ما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قال عمر: ليس أحد إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم وإنما صار الجمهور إلى أن المرأة لا يقسم بها ويرضخ بحديث أم عطية الثابت قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنداوي الجرحى ونمرض المرضى وكان يرضخ لنا من الغنيمة. وسبب اختلافهم هو اختلافهم في تشبيه المرأة بالرجل في كونها إذا عزت لها تأثير في الحرب أم لا؟ فإنهم اتفقوا على أن النساء مباح لهن الغزو فمن شبههن بالرجال أوجب لهن نصيبا في الغنيمة ومن رآهن ناقصات عن الرجال في هذا المعنى إما لم يوجب لهم شيئا وإما أوجب لهم دون حظ الغانمين وهو الأرضاخ والأولى اتباع الأثر وزعم الأوزاعي

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء بخيبر وكذلك اختلفوا في التجار والأجراء هل يسهم لهم أم لا؟ فقال مالك: لا يسهم لهم إلا أن يقاتلوا وقال قوم: بل يسهم لهم إذا شهدوا القتال. وسبب اختلافهم هو تخصيص عموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} بالقياس الذي يوجب الفرق بين هؤلاء وسائر الغانمين وذلك أن من رأى أن التجار والأجراء حكمهم حكم خلاف سائر المجاهدين لأنهم لم يقصدوا القتال وإنما قصدوا إما التجارة وإما الإجارة استثناهم من ذلك العموم. ومن رأى أن العموم أقوى من هذا القياس أجرى العموم على ظاهره ومن حجة من استثناهم ما خرجه عبد الرزاق أن عبد الرحمن بن عوف قال لرجل من فقراء المهاجرين أن يخرج معهم فقال نعم فوعده فلما حضر الخروج دعاه فأبى أن يخرج معه واعتذر له بأمر عياله وأهله فأعطاه عبد الرحمن ثلاثة دنانير على أن يخرج معه فلما هزموا العدو سأل الرجل عبد الرحمن نصيبه من المغنم فقال عبد الرحمن: سأذكر التابعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الثلاثة دنانير حظه ونصيبه من غزوه في أمر دنياه وآخرته" وخرج مثله أبو داود عن يعلى بن منبه ومن أجاز له القسم شبهه بالجعائل أيضا وهو أن يعين أهل الديوان بعضهم بعضا أعني يعين القاعد منهم الغازي. وقد اختلف العلماء في الجعائل فأجازها مالك ومنعها غيره ومنهم من أجاز ذلك من السلطان فقط أو إذا كانت ضرورة وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وأما الشرط الذي يجب به للمجاهد السهم من الغنيمة فإن الأكثر على أنه إذا شهد القتال وجب له السهم وإن لم يقاتل وأنه إذا جاء بعد القتال فليس له سهم في الغنيمة وبهذا قال الجمهور. وقال قوم: إذا لحقهم قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام وجب له حظه من الغنيمة إن اشتغل في شيء من أسبابها وهو قول أبي حنيفة. والسبب في اختلافهم سببان: القياس والأثر. أما القياس فهو هل يلحق تأثير الغازي في الحفظ بتأثيره في الأخذ؟ وذلك أن الذي شهد القتال له تأثير في الأخذ؟ أعني في أخذ الغنيمة وبذلك استحق السهم والذي جاء قبل أن يصلوا إلى بلاد

المسلمين له تأثير في الحفظ فمن شبه التأثير في الأخذ قال: يجب له السهم وإن لم يحضر القتال ومن رأى أن الحفظ أضعف لم يوجب له. وأما الأثر فإن في ذلك أثرين متعارضين: أحدهما ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما فتحوها فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله فلم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم منها والأثر الثاني ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله" فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ولم يضرب لأحد غاب عنها قالوا: فوجب له السهم لأن اشتغاله كان بسبب الإمام. قال أبو بكر بن المنذر: وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقيعة. وأما السرايا التي تخرج من العساكر فتغنم فالجمهور على أن أهل العسكر يشاركونهم فيما غنموا وإن لم يشهدوا الغنيمة ولا القتال وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "وترد سراياهم على قعدتهم" خرجه أبو داود ولأن لهم تأثيرا أيضا في أخذ الغنيمة. وقال الحسن البصري: إذا خرجت السرية بإذن الإمام من عسكره خمسها وما بقي فلأهل السرية وإن خرجوا بغير إذنه خمسها وكان ما بقي بين أهل الجيش كله. وقال النخعي: الإمام بالخيار إن شاء خمس ما ترد السرية وإن شاء نفله كله. والسبب أيضا في هذا الاختلاف هو تشبيه تأثير العسكر في غنيمة السرية بتأثير من حضر القتال بها وهم أهل السرية فإذن الغنيمة إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد شرطين: إما أن يكون ممن حضر القتال وإما أن يكون ردءا لمن حضر القتال وأما كم يجب للمقاتل فإنهم اختلفوا في الفارس فقال الجمهور: للفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان: سهم لفرسه وسهم له. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار ومعارضة القياس للأثر وذلك أن أبا داود خرج عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم: سهمان للفرس وسهم لراكبه وخرج أيضا عن مجمع بن حارثة الأنصاري مثل قول أبي حنيفة. وأما القياس المعارض لظاهر حديث ابن عمر

فهو أن يكون سهم الفرس أكبر من سهم الإنسان هذا الذي اعتمده أبو حنيفة في ترجيح الحديث الموافق لهذا القياس على الحديث المخالف له وهذا القياس ليس بشيء لأن سهم الفرس إنما استحقه الإنسان الذي هو الفارس بالفرس وغير بعيد أن يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل بل لعله واجب مع أن حديث ابن عمر أثبت. وأما ما يجوز للمجاهد أن يأخذ من الغنيمة قبل القسم فإن المسلمين اتفقوا على تحريم الغلول لما ثبت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "أد الخائط والمخيط فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة" إلى غير ذلك من الآثار الواردة في هذا الباب. واختلفوا في إباحة الطعام للغزاة ما داموا في أرض الغزو فأباح ذلك الجمهور ومنع من ذلك قوم وهو مذهب ابن شهاب. والسبب في اختلافهم معارضة الآثار التي جاءت في تحريم الغلول للآثار الواردة في إباحة أكل الطعام من حديث ابن عمر وابن المغفل وحديث ابن أبي أوفى فمن خصص أحاديث تحريم الغلول بهذه أجاز أكل الطعام للغزاة ومن رجح أحاديث تحريم الغلول على هذا لم يجز ذلك وحديث ابن مغفل هو قال: أصبت جراب شحم يوم خيبر فقلت لا أعطي منه شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم خرجه البخاري ومسلم. وحديث ابن أبي أوفى قال كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا ندفعه خرجه أيضا البخاري. واختلفوا في عقوبة الغال فقال قوم: يحرق رحله وقال بعضهم: ليس له عقاب إلا التعزير. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث صالح بن محمد بن زائدة عن سالم عن ابن عمر أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: "من غل فأحرقوا متاعه" .

الفصل الثالث في حكم الأنفال
وأما تنفيل الإمام من الغنيمة لمن شاء أعني أن يزيده على نصيبه فإن العلماء اتفقوا على جواز ذلك واختلفوا من أي شيء يكون النفل وفي مقداره وهل يجوز الوعد به قبل الحرب؟ وهل يجب السلب للقاتل أم ليس يجب إلا أن ينفله له الإمام؟ فهذه أربع مسائل هي قواعد هذا الفصل.

أما المسألة الأولى : فإن قوما قالوا: النفل يكون من الخمس الواجب لبيت مال المسلمين وبه قال مالك. وقال قوم: بل النفل إنما يكون من خمس الخمس وهو حظ الإمام فقط وهو الذي اختاره الشافعي. وقال قوم: بل النفل من جملة الغنيمة وبه قال أحمد وأبو عبيدة ومن هؤلاء من أجاز تنفيل جميع الغنيمة. والسبب في اختلافهم هو هل بين الآيتين الواردتين في المغانم تعارض أم هما على التخيير؟ أعني قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية. فمن رأى أن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ناسخا لقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قال لا نفل إلا من الخمس أو من خمس الخمس. ومن رأى أن الآيتين لا معارضة بينهما وأنها على التخيير أعني أن للإمام أن ينفل من رأس الغنيمة من شاء وله ألا ينفل بأن يعطي جميع أرباع الغنيمة للغانمين قال بجواز النفل من رأس الغنيمة. ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في هذا الباب وفي ذلك أثران: أحدهما ما روى مالك عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عبد الله ابن عمر قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة فكان سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا وهذا يدل على أن النفل كان بعد القسمة من الخمس. والثاني حديث حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع من السرايا بعد الخمس في البداءة وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة يعني في بداءة غزوه عليه الصلاة والسلام وفي انصرافه.
وأما المسألة الثانية : وهي ما مقدار ما للإمام أن ينفل من ذلك؟ عند الذين أجازوا النفل من رأس الغنيمة فإن قوما قالوا: لا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث أو الربع على حديث حبيب بن مسلمة. وقال قوم: إن العربي الإمام السرية جميع ما غنمت جاز مصيرا إلى أن آية الأنفال غير منسوخة بل محكمة وأنها على عمومها غير مخصصة. ومن رأى أنها مخصصة بهذا الأثر قال: لا يجوز أن ينفل أكثر من الربع أو الثلث.
وأما المسألة الثالثة : وهي هل يجوز الوعد بالتنفيل قبل الحرب أم ليس يجوز ذلك؟ فإنهم اختلفوا فيه فكره ذلك مالك وأجازه جماعة. وسبب

اختلافهم معارضة مفهوم مقصد الغزو لظاهر الأثر وذلك أن الغزو إنما يقصد به وجه الله العظيم ولتكون كلمة الله هي العليا فإذا وعد الإمام بالنفل قبل الحرب خيف أن يسفك دماءهم الغزاة في حق غير الله. وأما الأثر الذي يقتضي ظاهره جواز الوعد بالنفل فهو حديث حبيب بن مسلمة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينفل في الغزو السرايا الخارجة من العسكر الربع وفي القفول الثلث ومعلوم أن المقصود من هذا إنما هو التنشيط على الحرب.
وأما المسألة الرابعة : وهي هل يجب سلب المقتول للقاتل أو ليس يجب إلا إن نفله له الإمام؟ فإنهم اختلفوا في ذلك فقال مالك: لا يستحق القاتل سلب المقتول إلا أن ينفله له الإمام على جهة الاجتهاد وذلك بعد الحرب وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وجماعة من السلف واجب للقاتل قال ذلك الإمام أو لم يقله. ومن هؤلاء من جعل السلب له على كل حال ولم يشترط في ذلك شرطا. ومنهم من قال لا يكون له السلب إلا إذا قتله مقبلا غير مدبر وبه قال الشافعي. ومنهم من قال: إنما يكون السلب للقاتل إذا كان القتل قبل معمعة الحرب أو بعدها. وبه قال الأوزاعي وأما إن قتله في حين المعمعة فليس له سلب وبه قال الأوزاعي. وقال قوم: إن استكثر الإمام السلب جاز أن يخمسه. وسبب اختلافهم هو احتمال قوله عليه الصلاة والسلام يوم حنين بعد ما برد القتال: "من قتل قتيلا فله سلبه" أن يكون ذلك منه عليه الصلاة والسلام على جهة النفل أو على جهة الاستحقاق للقاتل و مالك رحمه الله قوي عنده أنه على جهة النفل من قبل أنه لم يثبت عنده أنه قال ذلك عليه الصلاة والسلام ولا قضى به إلا أيام حنين ولمعارضة آية الغنيمة له إن حمل ذلك على الاستحقاق: أعني قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية. فإنه لما نص في الآية على أن الخمس لله علم أن أربعة الأخماس واجبة للغانمين كما أنه لما نص على الثلث للأم في المواريث علم أن الثلثين للأب. قال أبو عمر: وهذا القول محفوظ عنه صلى الله عليه وسلم في حنين وفي بدر. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: كنا لا نخمس السلب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخرج أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي

وخالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل وخرج ابن أبي شيبة عن أنس ابن مالك أن البراء بن مالك حمل على مرزبان يوم الدارة فطعنه طعنة على قربوس سرجه فقتله فبلغ سلبه ثلاثين ألفا فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ولا أراني إلا خمسته قال: قال ابن سيرين: فحدثني أنس بن مالك أنه أول سلب خمس في الإسلام وبهذا تمسك من فرق بين السلب القليل والكثير. واختلفوا في السلب الواجب ما هو؟ فقال قوم: له جميع ما وجد على المقتول واستثنى قوم من ذلك الذهب والفضة.

الفصل الرابع في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار
وأما أموال المسلمين التي تسترد من أيدي الكفار فإنهم اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال مشهورة: أحدها أن ما استرد المسلمون من أيدي الكفار من أموال المسلمين فهو لأربابها من المسلمين وليس للغزاة المستردين لذلك منها شيء وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه وأبو ثور والقول الثاني أن ما استرد المسلمون من ذلك هو غنيمة الجيش ليس لصاحبه منه شيء وهذا القول قاله الزهري وعمرو بن دينار وهو مروي عن علي بن أبي طالب. والقول الثالث أن ما وجد من أموال المسلمين قبل القسم فصاحبه أحق به بلا ثمن وما وجد من ذلك بعد القسم فصاحبه أحق به بالقيمة وهؤلاء انقسموا قسمين: فبعضهم رأى هذا الرأي في كل ما استرده المسلمون من أيدي الكفار بأي وجه صار ذلك إلى أيدي الكفار وفي أي موضع صار وممن قال بهذا القول مالك والثوري وجماعة وهو مروي عن عمر بن الخطاب. وبعضهم فرق بين ما صار من ذلك إلى أيدي الكفار غلبة وحازوه حتى أوصلوه إلى دار المشركين وبين ما أخذ منهم قبل أن يحوزوه ويبلغوا به دار الشرك فقالوا: ما حازوه فحكمه إن ألفاه صاحبه قبل القسم فهو له وإن ألفاه بعد القسم فهو أحق به بالثمن. قالوا: وأما ما لم يحزه العدو بأن يبلغوا دارهم به فصاحبه أحق به قبل القسم وبعده وهذا هو القول الرابع. واختلافهم راجع

إلى اختلافهم في هل يملك الكفار على المسلمين أموالهم إذا غلبوهم عليها أم ليس يملكونها؟ وسبب اختلافهم في هذه المسألة تعارض الآثار في هذا الباب والقياس وذلك أن حديث عمران بن حصين يدل على أن المشركين ليس يملكون على المسلمين شيئا وهو قال: أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامرأة من المسلمين فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا أرغى حتى أتت العضباء فأتت ناقة ذلولا فركبتها ثم توجهت قبل المدينة ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها فلما قدمت المدينة عرفت الناقة فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته المرأة بنذرها فقال: "بئس ما جزيتها لا نذر فيما لا يملك ابن آدم ولا نذر في معصية" وكذلك يدل ظاهر حديث ابن عمر على مثل هذا وهو أنه أغار له فرس فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون فردت عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حديثان ثابتان. وأما الأثر الذي يدل على ملك الكفار على المسلمين فقوله عليه الصلاة والسلام: "وهل ترك لنا عقيل من منزل" يعني أنه باع دوره التي كانت له بمكة بعد هجرته منها عليه الصلاة والسلام إلى المدينة. وأما القياس فإن من شبه الأموال بالرقاب قال الكفار كما لا يملكون رقابهم فكذلك لا يملكون أموالهم كحال الباغي مع العادل أعني أنه لا يملك عليهم الأمرين جميعا ومن قال يملكون قال: من ليس يملك فهو ضامن للشيء إن فاتت عينه وقد أجمعوا على أن الكفار غير ضامنين لأموال المسلمين فلزم عن ذلك أن الكفار ليسوا بغير مالكين للأموال فهم مالكون إذ لو كانوا غير مالكين لضمنوا. وأما من فرق بين الحكم قبل الغنم وبعده وبين ما أخذه المشركون بغلبة أو بغير غلبة بأن صار إليهم من تلقائه مثل العبد الآبق والفرس العائد فليس له حظ من النظر وذلك أنه ليس يجد وسطا بين أن يقول إما أن يملك المشرك على المسلم شيئا أو لا يملكه إلا أن يثبت في ذلك دليل سمعي لكن أصحاب هذا المذهب إنما صاروا إليه لحديث الحسن بن عمارة عن عبد الملك بن ميسرة عن طاووس عن ابن عباس أن

رجلا وجد بعيرا له كان المشركون قد أصابوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك وإن أصبته بعد القسم أخذته بالقيمة" لكن الحسن بن عمارة مجتمع على ضعفه وترك الاحتجاج به عند أهل الحديث والذي عول عليه مالك فيما أحسب من ذلك هو قضاء عمر بذلك ولكن ليس يجعل له أخذه بالثمن بعد القسم على ظاهر حديثه واستثناء أبي حنيفة أم الولد والمدبر من سائر الأموال لا معنى له وذلك أنه يرى أن الكفار يملكون على المسلمين سائر الأموال ما عدا هذين وكذلك قول مالك في أم الولد إنه إذا أصابها مولاها بعد القسم أن على الإمام أن يفديها فإن لم يفعل أجبر سيدها على فدائها فإن لم يكن له مال أعطيت له واتبعه الذي أخرجت في نصيبه بقيمتها دينا متى أيسر هو قول أيضا ليس له حظ من النظر لأنه إن لم يملكها الكفار فقد يجب أن يأخذها بغير ثمن وإن ملكوها فلا سبيل له عليها وأيضا فإنه لا فرق بينها وبين سائر الأموال إلا أن يثبت في ذلك سماع ومن هذا الأصل أعني من اختلافهم هل يملك المشرك مال المسلم أو لا يملك؟ واختلف الفقهاء في الكافر يسلم وبيده مال مسلم هل يصح له أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يصح له. وقال الشافعي: على أصله لا يصح له. واختلف مالك وأبو حنيفة إذا دخل مسلم إلى الكفار على جهة التلصص وأخذ مما في أيديهم مال مسلم فقال أبو حنيفة: هو أولى به وإن أراده صاحبه أخذه بالثمن وقال مالك: هو لصاحبه فلم يجر على أصله. ومن هذا الباب اختلافهم في الحربي يسلم ويهاجر ويترك في دار الحرب ولده وزوجه وماله هل يكون لما ترك حرمة مال المسلم وزوجه وذريته فلا يجوز تملكهم للمسلمين إن غلبوا على ذلك أم ليس لما ترك حرمة؟ فمنهم من قال: لكل ما ترك حرمة الإسلام ومنهم من قال: ليس له حرمة ومنهم من فرق بين المال والزوجة والولد فقال: ليس للمال حرمة وللولد والزوجة حرمة وهذا جار على غير قياس وهو قول مالك والأصل أن المبيح للمال هو الكفر وأن العاصم له هو الإسلام كما قال عليه الصلاة والسلام: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فمن زعم أن هاهنا مبيحا للمال غير الكفر من تملك عدو أو غيره فعليه الدليل وليس هاهنا دليل تعارض به هذه القاعدة والله أعلم.

الفصل الخامس في حكم ما افتتح المسلمون من الأرض عنوة
واختلفوا فيما افتتح المسلمون من الأرض عنوة. فقال مالك: لا تقسم الأرض وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من سبل الخير إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة فإن له أن يقسم الأرض. وقال الشافعي: الأرضون المفتتحة تقسم كما تقسم الغنائم: يعني خمسة أقسام. وقال أبو حنيفة: الإمام مخير بين أن يقسمها على المسلمين أو يضرب على أهلها الكفارة فيها الخراج ويقرها بأيديهم. وسبب اختلافهم ما يظن من التعارض بين آية سورة الأنفال وآية سورة الحشر وذلك أن آية الأنفال تقتضي بظاهرها أن كل ما غنم يخمس وهو قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} وقوله تعالى في آية الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} عطفا على ذكر الذين أوجب لهم الفيء يمكن أن يفهم منه أن جميع الناس الحاضرين والآتين شركاء في الفيء كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ما أرى هذه الآية إلا قد عمت الخلق حتى الراعي بكداء أو كلاما هذا معناه ولذلك لم تقسم الأرض التي افتتحت في أيامه عنوة من أرض العراق ومصر فمن رأى أن الآيتين متواردتان على معنى واحد وأن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال استثنى من ذلك الأرض ومن رأى أن الآيتين ليستا متواردتين على معنى واحد بل رأى أن آية الأنفال في الغنيمة وآية الحشر في الفيء على ما هو الظاهر من ذلك قال: تخمس الأرض ولا بد ولا سيما أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قسم خيبر بين الغزاة. قالوا: فالواجب أن تقسم الأرض لعموم الكتاب وفعله عليه الصلاة والسلام الذي يجري مجرى البيان للمجمل فضلا عن العام. وأما أبو حنيفة فإنما ذهب إلى التخيير بين القسمة وبين أن يقر الكفار فيها على خراج يؤدونه لأنه زعم أنه قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر بالشطر ثم أرسل ابن رواحة

فقاسمهم قالوا: فظهر من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ولكنه قسم طائفة من الأرض وترك طائفة لم يقسمها قالوا: فبان بهذا أن الإمام بالخيار بين القسمة والإقرار بأيديهم وهو الذي فعل عمر رضي الله عنه. وإن أسلموا بعد الغلبة عليهم كان مخيرا بين المن عليهم أو قسمتها على ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة: أعني من المن وهذا إنما يصح على رأي من رأى أنه افتتحها عنوة فإن الناس اختلفوا في ذلك وإن كان الأصح أنه افتتحها عنوة لأنه الذي خرجه مسلم. وينبغي أن تعلم أن قول من قال: إن آية الفيء وآية الغنيمة محمولتان على الخيار وأن آية الفيء ناسخة لآية الغنيمة أو مخصصة لها أنه قول ضعيف جدا إلا أن يكون اسم الفيء والغنيمة يدلان على معنى واحد فإن كان ذلك فالآيتان متعارضتان لأن آية الأنفال توجب التخميس وآية الحشر توجب القسمة دون التخميس فوجب أن تكون إحداهما ناسخة للأخرى أو يكون الإمام مخيرا بين التخميس وترك التخميس وذلك في جميع الأموال المغنومة. وذكر بعض أهل العلم أنه مذهب لبعض الناس وأظنه حكاه عن المذهب. ويجب على مذهب من يريد أن يستنبط من الجمع بينهما ترك قسمة الأرض وقسمة ما عدا الأرض أن تكون كل واحدة من الآيتين مخصصة بعض ما في الأخرى أو ناسخة له حتى تكون آية الأنفال خصصت من عموم آية الحشر ما عدا الأرضين فأوجبت فيها الخمس وآية الحشر خصصت من آية الأنفال الأرض فلم توجب فيها خمسا وهذه الدعوى لا تصح إلا بدليل مع أن الظاهر من آية الحشر أنها تضمنت القول في نوع من الأموال مخالف الحكم للنوع الذي تضمنته آية الأنفال وذلك أن قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} هو تنبيه على العلة التي من أجلها لم يوجب حق للجيش خاصة دون الناس والقسمة بخلاف ذلك إذ كانت تؤخذ بالإيجاف.

الفصل السادس في قسمة الفيء
وأما الفيء عند الجمهور فهو كل ما صار للمسلمين من الكفار من قبل الرعب والخوف من غير أن يوجف عليه بخيل أو رجل. واختلف الناس

في الجهة التي يصرف إليها فقال قوم: إن الفيء لجميع المسلمين الفقير والغني وإن الإمام يعطي منه للمقاتلة وللحكام وللولاة وينفق منه في النوائب التي تنوب المسلمين كبناء القناطر وإصلاح المساجد وغير ذلك ولا خمس في شيء منه وبه قال الجمهور وهو الثابت عن أبي بكر وعمر وقال الشافعي: بل فيه الخمس والخمس مقسوم على الأصناف الذين ذكروا في آية الغنائم وهم الأصناف الذين ذكروا في الخمس بعينه من الغنيمة وإن الباقي هو مصروف إلى اجتهاد الإمام ينفق منه على نفسه وعلى عياله ومن رأى وأحسب أن قوما قالوا: إن الفيء غير مخمس ولكن يقسم على الأصناف الخمسة الذين يقسم عليهم الخمس وهو أحد أقوال الشافعي فيما أحسب. وسبب اختلاف من رأى أنه يقسم جميعه على الأصناف الخمسة أو هو مصروف إلى اجتهاد الإمام هو سبب اختلافهم في قسمة الخمس من الغنيمة وقد تقدم ذلك أعني أن من جعل ذكر الأصناف في الآية تنبيها على المستحقين له قال: هو لهذه الأصناف المذكورين ومن فوقهم. ومن جعل ذكر الأصناف تعديدا للذين يستوجبون من هذا المال قال: لا يتعدى به هؤلاء الأصناف أعني أنه جعله من باب الخصوص لا من باب التنبيه. وأما تخميس الفيء فلم يقل به أحد قبل الشافعي وإنما حمله على هذا القول أنه رأى الفيء قد قسم في الآية على عدد الأصناف الذين قسم عليهم الخمس فاعتقد لذلك أن فيه الخمس لأنه ظن أن هذه القسمة مختصة بالخمس وليس ذلك بظاهر بل الظاهر أن هذه القسمة تخص جميع الفيء لا جزءا منه وهو الذي ذهب إليه فيما أحسب قوم. وخرج مسلم عن عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خالصة فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله وهذه يدل على مذهب مالك.

الفصل السابع في الجزية
والكلام المحيط بأصول هذا الفصل ينحصر في ست مسائل: المسألة الأولى: ممن يجوز أخذ الجزية؟ الثانية: على أي الأصناف منهم تجب الجزية؟

الثالثة: كم تجب؟ الرابعة: متى تجب ومتى تسقط؟ الخامسة: كم أصناف الجزية؟ السادسة: في ماذا يصرف مال الجزية؟
المسألة الأولى : فأما من يجوز أخذ الجزية منه؟ فإن العلماء مجمعون على أنه يجوز أخذها من أهل الكتاب العجم ومن المجوس كما تقدم واختلفوا في أخذها ممن لا كتاب له وفيمن هو من أهل الكتاب من العرب بعد اتفاقهم فيما حكى بعضهم أنها لا تؤخذ من قرشي كتابي وقد تقدمت هذه المسألة.
وأما المسألة الثانية : وهي أي الأصناف من الناس تجب عليهم؟ فإنهم اتفقوا على أنها إنما تجب بثلاثة أوصاف الذكورية والبلوغ والحرية وأنها لا تجب على النساء ولا إذا كانت إنما هي عوض من القتل والقتل إنما هو متوجه بالأمر نحو الرجال البالغين إذ قد نهي عن قتل النساء والصبيان وكذلك أجمعوا أنها لا تجب على العبيد. واختلفوا في أصناف من هؤلاء: منها في المجنون وفي المقعد ومنها في الشيخ ومنها في أهل الصوامع ومنها في الفقير هل يتبع بها دينا متى أيسر أم لا؟ وكل هذه مسائل اجتهادية ليس فيها توقيت شرعي. وسبب اختلافهم مبني على هل يقتلون أم لا؟ أعني هؤلاء الأصناف.
وأما المسألة الثالثة : وهي كم الواجب فإنهم اختلفوا في ذلك فرأى مالك أن القدر الواجب في ذلك هو ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعون درهما ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه وقال الشافعي: أقله محدود وهو دينار وأكثره غير محدود وذلك بحسب ما يصالحون عليه. وقال قوم: لا توقيت في ذلك وذلك مصروف إلى اجتهاد الإمام وبه قال الثوري وقال أبو حنيفة وأصحابه: الجزية اثنا عشر درهما وأربعة وعشرون درهما وثمانية وأربعون لا ينقص الفقير من اثني عشر درهما ولا يزاد الغني على ثمانية وأربعين درهما والوسط أربعة وعشرون درهما وقال أحمد: دينار أو عدله معافر لا يزاد عليه ولا ينقص منه. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب وذلك أنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر وهي ثياب باليمن. وثبت عن عمر أنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما

مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. وروي عنه أيضا أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع الجزية على ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر. فمن حمل هذه الأحاديث كلها على التخيير وتمسك في ذلك بعموم ما ينطلق عليه اسم جزية إذ ليس في توقيت ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متفق على صحته وإنما ورد الكتاب في ذلك عاما قال: لا حد في ذلك وهو الأظهر والله أعلم. ومن جمع بين حديث معاذ والثابت عن عمر قال: أقله محدود ولا حد لأكثره. ومن رجح أحد حديثي عمر قال إما بأربعين درهما وأربعة دنانير وإما بثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين واثني عشر على ما تقدم. ومن رجح حديث معاذ لأنه تزوجها قال: دينار فقط أو عدله معافر لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه.
وأما المسألة الرابعة : وهي متى تجب الجزية؟ فإنهم اتفقوا على أنها لا تجب إلا بعد الحول وأنه تسقط عنه إذا أسلم قبل انقضاء الحول. واختلفوا إذا أسلم بعد ما يحول عليه الحول هل تؤخذ منه جزية للحول الماضي بأسره أو لما مضى منه؟ فقال قوم: إذا أسلم فلا جزية عليه بعد انقضاء الحول كان بعد إسلامه أو قبل انقضائه وبهذا القول قال الجمهور وقالت طائفة: إن أسلم بعد الحول وجبت عليه الجزية وإن أسلم قبل حلول الحول لم تجب عليه وإنهم اتفقوا على أنه لا تجب عليه قبل انقضاء الحول لأن الحول شرط في وجوبها فإذا وجد الرافع لها وهو الإسلام قبل تقرر الوجوب أعني قبل وجود شرط الوجوب لم تجب وإنما اختلفوا بعد انقضاء الحول لأنها قد وجبت فمن رأى أن الإسلام يهدم هذا الواجب في الكفر كما يهدم كثيرا من الواجبات قال: تسقط عنه وإن كان إسلامه بعد الحول ومن رأى أنه لا يهدم الإسلام هذا الواجب كما لا يهدم كثيرا من الحقوق المرتبة مثل الديون وغير ذلك قال: لا تسقط بعد انقضاء الحول. فسبب اختلافهم هو هل الإسلام يهدم الجزية الواجبة أو لا يهدمها.
وأما المسألة الخامسة : وهي كم أصناف الجزية؟ فإن الجزية عندهم ثلاثة أصناف: جزية عنوية وهي هذه التي تكلمنا فيها أعني التي تفرض على الحربيين بعد غلبتهم. وجزية صلحية وهي التي يتبرعون بها ليكف عنهم,

وهذه ليس فيها توقيت لا في الواجب ولا فيمن يجب عليه ولا متى يجب عليه وإنما ذلك كله راجع إلى الاتفاق الواقع في ذلك بين المسلمين وأهل الصلح إلا أن يقول قائل: إنه إن كان قبول الجزية الصلحية واجبا على المسلمين فقد يجب أن يكون هاهنا قدر ما إذا أعطاه من أنفسهم الكفار وجب على المسلمين قبول ذلك منهم فيكون أقلها محدودا وأكثرها غير محدود. وأما الجزية الثالثة فهي العشرية وذلك أن جمهور العلماء على أنه ليس على أهل الذمة عشر ولا زكاة أصلا في أموالهم إلا ما روي عن طائفة منهم أنهم ضاعفوا الصدقة على نصارى بني تغلب أعني أنهم أوجبوا إعطاء ضعف ما على المسلمين من الصدقة في شيء شيء من الأشياء التي أفطر فيها المسلمين الصدقة وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهم وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص فيما حكوا وقد تقدم ذلك في كتاب الزكاة. واختلفوا هل يجب العشر عليهم في الأموال التي يتجرون بها إلى بلاد المسلمين بنفس التجارة أو الإذن إن كانوا حربيين أم لا تجب إلا بالشرط؟ فرأى مالك وكثير من العلماء أن تجار أهل الذمة الذين لزمتهم بالإقرار في بلدهم الجزية يجب أن يؤخذ منهم مما يجلبونه من بلد إلى بلد العشر إلا ما يسوقون إلى المدينة خاصة فيؤخذ منه فيه نصف العشر ووافقه أبو حنيفة في وجوبه بالإذن في التجارة أو بالتجارة نفسها وخالفه في القدر فقال: الواجب عليهم نصف العشر ومالك لم يشترط عليهم في العشر الواجب ولا حولا وأما أبو حنيفة فاشترط في وجوب نصف العشر عليهم الحول والنصاب وهو نصاب المسلمين نفسه المذكور في كتاب الزكاة وقال الشافعي: ليس يجب عليهم عشر أصلا ولا نصف عشر في نفس التجارة ولا في ذلك شيء محدود إلا ما اصطلح عليه أو اشترط فعلى هذا تكون الجزية العشرية من نوع الجزية الصلحية وعلى مذهب مالك وأبي حنيفة تكون جنسا ثالثا من الجزية غير الصلحية والتي على الرقاب. وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة يرجع إليها وإنما ثبت أن عمر بن الخطاب فعل ذلك بهم فمن رأى أن فعل عمر هذا إنما فعله بأمر كان عنده في ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب أن يكون ذلك

سنتهم ومن رأى أن فعله هذا كان على وجه الشرط إذ لو كان على غير ذلك لذكره قال: ليس ذلك وعشرون لازمة لهم إلا بالشرط. وحكى أبو عبيد في كتاب الأموال عن رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لا أذكر اسمه الآن أنه قيل له: لم كنتم تأخذون العشر من مشركي العرب؟ فقال: لأنهم كانوا يأخذون منا العشر إذا دخلنا إليهم. قال الشافعي: وأقل ما يجب أن يشارطوا عليه هو ما فرضه عمر رضي الله عنه وإن شورطوا على أكثر فحسن. قال: وحكم الحربي إذا دخل بأمان حكم الذمي.
وأما المسألة السادسة : وهي في ماذا تصرف الجزية؟ فإنهم اتفقوا على أنها مشتركة لمصالح المسلمين من غير تحديد كالحال في الفيء عند من رأى أنه مصروف إلى اجتهاد الإمام حتى لقد رأى كثير من الناس أن اسم الفيء إنما ينطلق على الجزية في آية الفيء وإذا كان الأمر هكذا فالأموال الإسلامية ثلاثة أصناف: صدقة وفي وغنيمة وهذا القدر كاف في تحصيل قواعد هذا الكتاب والله الموفق للصواب.

كتاب الإيمان
مدخل
كتاب الأيمان
وهذا الكتاب ينقسم أولا إلى جملتين: الجملة الأولى: في معرفة ضروب الإيمان وأحكامها. والجملة الثانية: في معرفة الأشياء الرافعة للإيمان اللازمة وأحكامها.
الجملة الأولى:
وهذه الجملة فيها ثلاثة فصول: الفصل الأول: في معرفة الأيمان المباحة وتمييزها من غير المباحة. الثاني: في معرفة الأيمان اللغوية والمنعقدة. الثالث: في معرفة الأيمان التي ترفعها الكفارة والتي لا ترفعها.

الجملة الأولى: في معرفة ضروب الإيمان وأحكامها
الفصل الأول: في معرفة الإيمان المباحة وتمييزها من غيرها
الفصل الأول في معرفة الأيمان المباحة وتمييزها من غيرها
واتفق الجمهور على أن الأشياء منها ما يجوز في الشرع أن يقسم به. ومنها ما لا يجوز أن يقسم به. واختلفوا أي الأشياء التي هي بهذه الصفة فقال قوم: إن الحلف المباح في الشرع هو الحلف بالله وأن الحالف بغير الله عاص؛

الفصل الثاني: في معرفة الإيمان التي ترفعها الكفارة والتى لاترفعها
الفصل الثاني في معرفة الأيمان اللغوية والمنعقدة
واتفقوا أيضا على أن الأيمان منها لغو ومنها منعقدة لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} واختلفوا فيما هي اللغو؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها اليمين على الشيء يظن الرجل أنه على يقين منه فيخرج الشيء على خلاف ما حلف عليه. وقال الشافعي: لغو اليمين ما لم تنعقد عليه النية مثل ما جرت به العادة من

قول الرجل في أثناء المخاطبة لا والله لا بالله مما يجري على الألسنة بالعادة من غير أن يعتقد لزومه وهذا القول رواه مالك في الموطأ عن عائشة والقول الأول مروي عن الحسن ابن أبي الحسن وقتادة ومجاهد وإبراهيم النخعي. وفيه قول ثالث وهو أن يحلف الرجل وهو غضبان وبه قال إسماعيل القاضي من أصحاب مالك. وفيه قول رابع وهو الحلف على المعصية وروي عن ابن عباس. وفيه قول خامس وهو أن يحلف الرجل على أن لا يأكل شيئا مباحا له بالشرع. والسبب في اختلافهم في ذلك هو الاشتراك الذي في اسم اللغو وذلك أن اللغو قد يكون الكلام الباطل مثل قوله تعالى: {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وقد يكون الكلام الذي عليه نية المتكلم به ويدل على أن اللغو في الآية هو هذا أن هذه اليمين هي ضد اليمين المنعقدة وهي المؤكدة فوجب أن يكون الحكم المضاد للشيء المضاد. والذين قالوا إن اللغو هو الحلف في إغلاق أو الحلف على ما يوجب الشرع فيه شيئا بحسب ما يعتقد في ذلك قوم فإنما ذهبوا إلى أن اللغو هاهنا يدل على معنى عرفي في الشرع وهي الأيمان التي بين الشرع في مواضع أخرى سقوط حكمها مثل ما روي أنه: لا طلاق في إغلاق وما أشبه ذلك لكن الأظهر هما القولان الأولان: أعني قول مالك والشافعي.

الفصل الثالث: في معرفة التى ترفعها الكفارة والتى لا ترفعها
الفصل الثالث في معرفة الأيمان التي ترفعها الكفارة والتي لا ترفعها
وهذا الفصل أربع مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في الأيمان بالله المنعقدة هل الكفارة سواء أكان حلفا على شيء ماض أنه كان فلم يكن وهي التي تعرف باليمين الغموس وذلك إذا تعمد الكذب أو على شيء مستقبل أنه يكون من قبل الحالف أو من قبل من هو بسببه فلم يكن فقال الجمهور: ليس في اليمين الغموس كفارة وإنما الكفارة في الأيمان التي تكون في المستقبل إذا خالف اليمين الحالف وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي وجماعة: يجب فيها الكفارة أي تسقط الكفارة الإثم فيها كما تسقطه

في غير الغموس. وسبب اختلافهم معارضة عموم الكتاب للأثر وذلك أن قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية توجب أن يكون في اليمين الغموس كفارة لكونها من الأيمان المنعقدة وقوله عليه الصلاة والسلام: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار" يوجب أن اليمين الغموس ليس فيها كفارة ولكن للشافعي أن يستثني من الأيمان الغموس ما لا يقتطع بها حق الغير وهو الذي ورد فيه النص أو يقول: إن الأيمان التي يقتطع بها حق الغير قد جمعت الظلم والحنث فوجب ألا تكون الكفارة تهدم الأمرين جميعا أو ليس يمكن فيها أن تهدم الحنث دون الظلم لأن رفع الحنث بالكفارة إنما هو من باب التوبة وليس تتبعض التوبة في الذنب الواحد بعينه فإن تاب ورد المظلمة وكفر سقط عنه جميع الإثم.
المسألة الثانية : واختلف العلماء فيمن قال: أنا كافر بالله أو مشرك بالله أو زفر أو نصراني إن فعلت كذا ثم يفعل ذلك هل عليه كفارة أم لا؟ فقال مالك والشافعي: ليس عليه كفارة ولا هذه يمين وقال أبو حنيفة: هي يمين وعليه فيها الكفارة إذا خالف اليمين وهو قول أحمد بن حنبل أيضا. وسبب اختلافهم هو اختلافهم في هل يجوز اليمين بكل ما له حرمة أم ليس يجوز إلا بالله فقط؟ ثم إن وقعت فهل تنعقد أم لا؟ فمن رأى أن الأيمان المنعقدة: أعني التي هي بصيغ القسم إنما هي الأيمان الواقعة بالله عز وجل وبأسمائه قال: لا كفارة فيها إذ ليست بيمين ومن رأى أن الأيمان تنعقد بكل ما عظم الشرع حرمته قال: فيها الكفارة لأن الحلف بالتعظيم كالحلف بترك التعظيم وذلك أنه كما يجب التعظيم يجب أن لا يترك التعظيم فكما أن من حلف بوجوب حق الله عليه لزمه كذلك من حلف بترك وجوبه لزمه.
المسألة الثالثة: واتفق الجمهور في الأيمان التي ليست أقساما بشيء وإنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط مثل أن يقول القائل: فإن فعلت كذا فعلي مشي إلى بيت الله أو إن فعلت كذا وكذا فغلامي حر أو امرأتي طالق أنها تلزم في القرب وفيما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع مثل الطلاق والعتق. واختلفوا هل فيها كفارة أم لا؟ فذهب مالك إلى أن لا كفارة

فيها وأنه إن لم يفعل ما حلف عليه أثم ولا بد وذهب الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم إلى أن هذا الجنس من الأيمان فيها الكفارة إلا الطلاق والعتق وقال أبو ثور: يكفر من حلف بالعتق وقول الشافعي مروي عن عائشة. وسبب اختلافهم هل هي يمين أو نذر فمن قال إنها يمين أوجب فيها الكفارة لدخولها تحت عموم قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية. ومن قال إنها من جنس النذر: أي من جنس الأشياء التي نص الشرع على أنه إذا التزمها الإنسان لزمته قال: لا كفارة فيها لكن يعسر هذا على المالكية لتسميتهم إياها أيمانا لكن لعلهم إنما سموها أيمانا على طريق التجوز والتوسع. والحق أنه ليس يجب أن تسمى بحسب الدلالة اللغوية أيمانا فإن الأيمان في لغة العرب لها صيغ مخصوصة وإنما يقع اليمين بالأشياء التي تعظم وليست صيغة الشرط هي صيغة اليمين فأما هل تسمى أيمانا بالعرف الشرعي وهل حكمها حكم الأيمان؟ ففيه نظر وذلك أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كفارة النذر كفارة يمين" وقال تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فظاهر هذا أنه قد سمى بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون شرط ولا يمين فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق فظاهر الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين وأن حكمه حكم اليمين وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه ليس يلزم من مثل هذه الأقاويل أعني الخارجة مخرج الشرط إلا ما ألزمه الإجماع من ذلك وذلك أنها ليست بنذور فيلزم فيها النذر ولا بأيمان فترفعها الكفارة فلم يوجبوا على من قال: إن فعلت كذا كذا فعلي المشي إلى بيت الله مشيا ولا كفارة بخلاف ما لو قال: علي المشي إلى بيت الله لأن هذا نذر باتفاق وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" فسبب هذا الخلاف في هذه الأقاويل التي تخرج مخرج الشرط هو هل هي أيمان أو نذور؟ أو ليست أيمانا ولا نذورا؟ فتأمل هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة : اختلفوا في قول القائل: أقسم أو أشهد أن كان كذا وكذا هل هو يمين أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقيل إنه ليس بيمين وهو أحد قولي الشافعي وقيل إنها أيمان ضد القول الأول وبه قال أبو حنيفة وقيل إن أراد الله بها فهو يمين وإن لم يرد الله بها فليست بيمين وهو مذهب مالك. وسبب اختلافهم هو هل المراعى اعتبار صيغة اللفظ أو اعتبار مفهومه بالعادة أو اعتبار النية؟ فمن اعتبر صيغة اللفظ قال: ليست بيمين إذ لم يكن هنالك نطق بمقسوم به ومن اعتبر صيغة اللفظ بالعادة قال: هي يمين وفي اللفظ محذوف ولا بد وهو الله تعالى ومن لم يعتبر هذين الأمرين واعتبر النية إذ كان اللفظ صالحا للأمرين فرق في ذلك كما تقدم.

الجملة الثانية: في معرفة الأشياء الرافعة للإيمان اللازمة وأحكامها
الفسم الأول: النظر في الإستثناء
الفصل الأول: في شروط الإستثناء المؤثر في اليمين
الجملة الثانية :
وهذه الجملة تنقسم أولا قسمين: القسم الأول: النظر في الاستثناء. والثاني: النظر في الكفارات.
القسم الأول وفي هذا القسم فصلان :
الفصل الأول : في شروط الاستثناء المؤثر في اليمين.
الفصل الثاني : في تعريف الأيمان التي يؤثر فيها الاستثناء من التي لا يؤثر.
الفصل الأول في شروط الاستثناء المؤثر في اليمين
وأجمعوا على أن الاستثناء بالجملة له تأثير في حل الأيمان واختلفوا في شروط الاستثناء الذي يجب له هذا الحكم بعد أن أجمعوا على أنه إذا اجتمع في الاستثناء ثلاثة شروط أن يكون متناسقا مع اليمين وملفوظا به ومقصودا من أول اليمين أنه لا ينعقد معه اليمين واختلفوا في هذه الثلاثة مواضع أعني إذا فرق الاستثناء من اليمين أو نواه ولم ينطق به أو حدثت له نية الاستثناء بعد اليمين وإن أتى به متناسقا مع اليمين.
فأما المسألة الأولى : وهي اشتراط اتصاله بالقسم فإن قوما اشترطوا ذلك فيه وهو مذهب مالك وقال الشافعي: لا بأس بينهما بالسكتة الخفيفة كسكتة الرجل للتذكر أو للتنفس أو لانقطاع الصوت. وقال قوم من التابعين يجوز للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه وكان ابن عباس يرى أنه له الاستثناء أبدا على ما ذكر منه متى ما ذكر وإنما اتفق الجميع على أن استثناء

مشيئة الله في الأمر المحلوف على فعله إن كان فعلا أو على تركه إن كان تركا رافع لليمين لأن الاستثناء هو رفع للزوم اليمين. قال أبو بكر بن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" وإنما اختلفوا هل يؤثر في اليمين إذا لم توصل بها أو لا يؤثر؟ لاختلافهم هل الاستثناء حال للانعقاد أم هو مانع له؟ فإذا قلنا إنه مانع للانعقاد لا حال له اشترط أن يكون متصلا باليمين وإذا قلنا إنه حال لم يلزم فيه ذلك. والذين اتفقوا على أنه حال اختلفوا هي هو حال بالقرب أو بالبعد على ما حكينا وقد احتج من رأى أنه حال بالقرب بما رواه سعد عن سماك بن حرب عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لأغزون قريشا" قالها ثلاثة مرات ثم سكت ثم قال: "إن شاء الله" فدل هذا أن الاستثناء حال لليمين لا مانع لها من الانعقاد. قالوا: ومن الدليل على أنه حال بالقرب أنه لو كان حالا بالبعد على ما رواه ابن عباس لكان الاستثناء يغني عن الكفارة والذي قالوه بين. وأما اشتراط النطق باللسان فإنه اختلف فيه فقيل لا بد فيه من اشتراط اللفظ أي لفظ كان من ألفاظ الاستثناء وسواء أكان بألفاظ الاستثناء أو بتخصيص العموم أو بتقييد المطلق هذا هو المشهور. وقيل إنما ينفع الاستثناء بالنية بغير لفظ في حرف إلا فقط. أي بما يدل عليه لفظ إلا وليس ينفع ذلك فيما سواه من الحروف وهذه التفرقة ضعيفة. والسبب في هذا الاختلاف هو هل أفطر العقود اللازمة بالنية فقط دون اللفظ أو باللفظ والنية معا مثل الطلاق والعتق واليمين وغير ذلك.
وأما المسألة الثانية : وهي هل تنفع النية الحادثة في الاستثناء بعد انقضاء اليمين؟ فقيل أيضا في المذهب إنها تنفع إذا حدثت متصلة باليمين وقيل بل إذا حدثت قبل أن يتم النطق باليمين وقيل بل استثناء على ضربين: استثناء من عدد واستثناء من عموم بتخصيص أو من مطلق بتقييد فالاستثناء من العدد لا ينفع فيه إلا حدوث النية قبل النطق باليمين والاستثناء من العموم ينفع فيه حدوث النية بعد اليمين إذا وصل الاستثناء نطقا باليمين. وسبب اختلافهم هل الاستثناء مانع للعقد أو حال له؟ فإن قلنا إنه مانع فلا بد من اشتراط حدوث النية في أول اليمين وإن قلنا إنه حال لم يلزم ذلك وقد

أنكر عبد الوهاب أن يشترط حدوث النية في أول اليمين للاتفاق وزعم على أن الاستثناء حال لليمين كالكفارة سواء.

الفصل الثاني: في تعريف الإيمان التى يؤثر فيها الإستثناء وغيرها
الفصل الثاني من القسم الأول في تعريف الأيمان التي يؤثر فيها الاستثناء وغيرها
وقد اختلفوا في الأيمان التي يؤثر فيها استثناء مشيئة الله من التي لا يؤثر فيها فقال مالك وأصحابه: لا تؤثر المشيئة إلا في الأيمان التي تكفر وهي اليمين بالله عندهم أو النذر المطلق على ما سيأتي. وأما الطلاق والعتاق فلا يخلو أن يعلق الاستثناء في ذلك بمجرد الطلاق أو العتق فقط مثل أن يقول: هي طالق إن شاء الله أو عتيق إن شاء الله وهذه ليست عندهم يمينا. وإما أن يعلق الطلاق بشرط من الشروط مثل أن يقول: إن كان كذا فهي طالق إن شاء الله أو إن كان كذا فهو عتيق إن شاء الله. فأما القسم الأول فلا خلاف في المذهب أن المشيئة غير مؤثرة فيه. وأما القسم الثاني وهو اليمين بالطلاق ففي المذهب فيه قولان أصحهما إذا صرف الاستثناء إلى الشرط الذي علق به الطلاق صح وإن صرفه إلى نفس الطلاق لم يصح. قال أبو حنيفة والشافعي: الاستثناء يؤثر في ذلك كله سواء قرنه بالقول الذي مخرجه الشرط أو بالقول الذي مخرجه مخرج الخبر. وسبب الخلاف ما قلناه من أن الاستثناء هل هو حال أو مانع؟ فإذا قلنا مانع وقرن بلفظ مجرد الطلاق فلا تأثير له فيه إذ قد وقع الطلاق أعني إذا قال الرجل لزوجته: هي طالق إن شاء الله لأن المانع إنما يقوم لما لم يقع وهو المستقبل وإن قلنا إنه حال للعقود وجب أن يكون له تأثير في الطلاق وإن كان وقد وقع فتأمل هذا فإنه بين ولا معنى لقول المالكية إن الاستثناء في هذا مستحيل لأن الطلاق قد وقع إلا أن يعتقدوا أن الاستثناء هو مانع لا حال فتأمل هذا فإنه ظاهر إن شاء الله.

القسم الثاني: النظر في الكفارات
الفصل الأول: في موجب الحنث وشروطه وأحكامه
القسم الثاني من الجملة الثانية
وهذا القسم فيه فصول ثلاثة قواعد.
الفصل الأول : في موجب الحنث وشروطه وأحكامه.
الفصل الثاني : في رافع الحنث وهي الكفارات. الفصل الثالث: متى ترفع وكم ترفع.
الفصل الأول في موجب الحنث وشروطه وأحكامه
واتفقوا على أن موجب الحنث هو المخالفة لما انعقدت عليه اليمين وذلك إما فعل ما خلف على ألا يفعله وإما ترك ما حلف على فعله إذا علم أنه قد تراخى عن فعل ما حلف على فعله إلى وقت ليس يمكنه فيه فعله وذلك في اليمين بالترك المطلق مثل أن يحلف ليأكلن هذا الرغيف فيأكله غيره أو إلى وقت هو غير الوقت الذي اشترط في وجود الفعل عنده وذلك في الفعل المشترط فعله في زمان محدود مثل أن يقول: والله لأفعلن اليوم كذا وكذا فإنه إذا انقضى النهار ولم يفعل حنث ضرورة. واختلفوا من ذلك في أربعة مواضع: أحدها إذا أتى بالمخالف ناسيا أو مكرها. والثاني هل يتعلق موجب اليمين بأقل ما ينطلق عليه الاسم أو بجميعه. والموضع الثالث هل يتعلق اليمين بالمعنى المساوي لصيغة اللفظ أو بمفهومه المخصص للصيغة والمعمم لها. والموضع الرابع هل اليمين على نية الحالف أو المستحلف.
فأما المسألة الأولى : فإن مالكا يرى الساهي والمكره بمنزلة العامد والشافعي يرى أن لا حنث على الساهي ولا على المكره. وسبب اختلافهم معارضة عموم قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ولم يفرق بين عامد وناس لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإن هذين العمومين يمكن أن يخصص كل واحد منهما بصاحبه.
وأما الموضع الثاني : فمثل أن يحلف أن لا يفعل شيئا ففعل بعضه أو أنه يفعل شيئا فلم يفعل بعضه فعند مالك إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبرأ إلا بأكله كله وإذا قال: لا آكل هذا الرغيف أنه يحنث إن أكل بعضه وعند الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يحنث في الوجهين جميعا حملا على الأخذ بأكثر ما يدل عليه الاسم. وأما تفريق مالك بين الفعل والترك فلم يجر في ذلك على أصل واحد لأنه أخذ في الترك بأقل ما يدل عليه الاسم وأخذ في الفعل بجميع ما يدل عليه الاسم وكأنه ذهب إلى الاحتياط.
وأما المسألة الثالثة : فمثل أن يحلف على شيء بعينه يفهم منه القصد إلى معنى

أعم من ذلك الشيء الذي لفظ به أو أخص أو يحلف على شيء وينوي به معنى أعم أو أخص أو يكون للشيء الذي حلف عليه اسمان أحدهما لغوي والآخر عرفي وأحدهما أخص من الآخر. وأما إذا حلف على شيء بعينه فإنه لا يحنث عند الشافعي وأبي حنيفة إلا بالمخالفة الواقعة في ذلك الشيء بعينه الذي وقع عليه الحلف وإن كان المفهوم منه معنى أعم أو أخص من قبل الدلالة العرفية. وكذلك أيضا فيم أحسب لا يعتبرون النية المخالفة للفظ وإنما يعتبرون مجرد الألفاظ فقط. وأما مالك فإن المشهور من مذهبه أن المعتبر أولا عنده في الأيمان التي لا يقضى على حالفها هو النية فإن عدمت فقرينة الحال فإن عدمت فعرف اللفظ فإن عدم فدلالة اللغة وقيل لا يراعى إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط وقيل يراعى النية وبساط الحال ولا يراعى العرف وأما الأيمان التي يقضى بها على صاحبها فإنه إن جاء الحالف مستفتيا كان حكمه حكم اليمين التي لا يقضى بها على صاحبها من مراعاة هذه الأشياء فيها على هذا الترتيب وإن كان مما يقضى بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ إلا أن يشهد لما يدعي من النية المخالفة لظاهر اللفظ قرينة الحال أو العرف.
وأما المسألة الرابعة : فإنهم اتفقوا على أن اليمين على نية المستحلف في الدعاوى واختلفوا في غير ذلك مثل الأيمان على المواعيد فقال قوم: على نية الحالف وقال قوم: على نية المستحلف. وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اليمين على نية المستحلف" وقال عليه الصلاة والسلام: "يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك" خرج هذين الحديثين مسلم. ومن قال: اليمين على نية الحالف فإنما اعتبر بالنفس من اليمين لا ظاهر اللفظ. وفي هذا الباب فروع كثيرة لكن هذه المسائل الأربع هي أصول هذا الباب إذ يكاد أن يكون جميع الاختلاف الواقع في هذا الباب راجعا إلى الاختلاف في هذه وذلك في الأكثر مثل اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل رؤوسا فأكل رؤوس حيتان هل يحنث أم لا؟ فمن راعى العرف قال لا يحنث ومن راعى دلالة اللغة قال يحنث. ومثل اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما فمن اعتبر دلالة اللفظ الحقيقي قال لا يحنث ومن رأى أن اسم الشيء قد ينطلق على ما يتولد منه قال يحنث.

وبالجملة فاختلافهم في المسائل الفروعية التي في هذا الباب هي راجعة إلى اختلافهم في هذه المسائل التي ذكرنا وراجعة إلى اختلافهم في دلالات الألفاظ التي يحلف بها وذلك أن منها ما هي مجملة ومنها ما هي ظاهرة ومنها ما هي نصوص.

الفصل الثاني في رافع الحنث
واتفقوا على أن الكفارة في الأيمان هي الأربعة الأنواع التي ذكر الله في كتابه في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ} الآية. وجمهورهم على أن الحالف إذا حنث مخير بين الثلاثة منها: أعني الإطعام أو الكسوة أو العتق وأنه لا يجوز له الصيام إلا إذا عجز عن هذه الثلاثة لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان إذا غلظ اليمين أعتق أو كسا وإذا لم يغلظها أطعم. واختلفوا من ذلك في سبع مسائل مشهورة: المسألة الأولى: في مقدار الإطعام لكل واحد من العشرة مساكين. الثانية: في جنس الكسوة إذا اختار الكسوة وعددها. الثالثة: في اشتراط التتابع في صيام الثلاثة الأيام أو لا اشتراطه. الرابعة: في اشتراط العدد في المساكين. الخامسة: في اشتراط الإسلام فيهم والحرية. السادسة: في اشتراط السلامة في الرقبة المعتقة من العيوب. السابعة: في اشتراط الإيمان فيها.
المسألة الأولى : أما مقدار الإطعام؟ فقال مالك والشافعي وأهل المدينة: يعطى لكل مسكين مد من حنطة بمد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن مالكا قال: المد خاص بأهل المدينة فقط لضيق معايشهم. وأما سائر المدن فيعطون الوسط من نفقتهم. وقال ابن القاسم: يجري المد في كل مدينة مثل قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يعطيهم نصف صاع من حنطة أو صاعا من شعير أو تمر قال: فإن غداهم وعشاهم أجزأه. والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تأويل قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} هل المراد بذلك أكلة واحدة أو قوت اليوم وهو غداء وعشاء؟ فمن قال أكلة واحدة قال: المد وسط في الشبع ومن قال غداء وعشاء قال: نصف صاع.

ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو تردد هذه الكفارة بين كفارة الفطر متعمدا في رمضان وبين كفارة الأذى فمن شبهها بكفارة الفطر قال مد واحد ومن شبهها بكفارة الأذى قال نصف صاع. واختلفوا هل يكون مع الخبز في ذلك إدام أم لا؟ وإن كان فما هو الوسط فيه؟ فقيل يجزي الخبز قفارا وقال ابن حبيب: لا يجزي وقيل الوسط من الإدام الزيت وقيل اللبن والسمن والتمر. واختلف أصحاب مالك من الأهل الذين أضاف إليهم الوسط من الطعام في قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} فقيل أهل المكفر وعلى هذا إنما يخرج الوسط من الشيء الذي منه يعيش إن قطنية فقطنية وإن حنطة فحنطة وقيل بل هم أهل البلد الذي هو فيهم وعلى هذا فالمعتبر في اللازم له هو الوسط من عيش أهل البلد لا من عيشه: أعني الغالب وعلى هذين القولين يحمل قدر الوسط من الإطعام أعني الوسط من قدر ما يطعم أهله أو الوسط من قدر ما يطعم أهل البلد أهليهم إلا في المدينة خاصة.
وأما المسألة الثانية : وهي المجزئ من الكسوة فإن مالكا رأى أن الواجب في ذلك هو أن يكسي ما يجزي فيه الصلاة فإن كسا الرجل كسا ثوبا وإن كسا النساء كسا ثوبين درعا وخمارا. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يجزي في ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم إزار أو قميص أو سراويل أو عمامة وقال أبو يوسف لا تجزي العمامة ولا السراويل. وسبب اختلافهم هل الواجب الأخذ بأقل دلالة الاسم اللغوي أو المعنى الشرعي.
وأما المسألة الثالثة : وهي اختلافهم في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في الصيام فإن مالكا والشافعي لم يشترطا في ذلك وجوب التتابع وإن كانا استحباه واشترط ذلك أبو حنيفة. وسبب اختلافهم في ذلك شيئان: أحدهما هل يجوز العمل بالقراءة التي ليست في المصحف وذلك أن في قراءة عبد الله بن مسعود -فصيام ثلاثة أيام متتابعات-. والسبب الثاني اختلافهم هل يحمل الأمر بمطلق الصوم على التتابع أم ليس يحمل إذا كان الأصل في الصيام الواجب بالشرع إنما هو التتابع.
وأما المسألة الرابعة : وهي اشتراط العدد في المساكين فإن مالكا والشافعي قالا: لا يجزيه ألا أن يطعم عشرة مساكين وقال أبو حنيفة: إن أطعم مسكينا

واحدا عشرة أيام أجزأه. والسبب في اختلافهم هل الكفارة حق واجب للعدد المذكور أو حق واجب على المكفر فقدر بالعدد المذكور فإن قلنا إنه حق واجب للعدد كالوصية فلا بد من اشتراط العدد وإن قلنا حق واجب على المكفر لكنه قدر بالعدد أجزأ من ذلك سنان مسكين واحد على عدد المذكورين والمسألة محتملة.
وأما المسألة الخامسة : وهي اشتراط الإسلام والحرية في المساكين فإن مالكا والشافعي اشترطاهما ولم يشترط ذلك أبو حنيفة. وسبب اختلافهم هل استيجاب الصدقة هو بالفقر فقط؟ أو بالإسلام؟ إذ كان السمع قد أنبأ أنه يثاب بالصدقة على الفقير الغير المسلم فمن شبه الكفارة بالزكاة الواجبة للمسلمين اشترط الإسلام في المساكين الذين تجب لهم هذه الكفارة ومن شبهها بالصدقات التي تكون عن تطوع أجاز أن يكونوا غير مسلمين. وأما سبب اختلافهم في العبيد فهو هل يتصور فيهم وجود الفقر أم لا إذا كانوا مكفيين من ساداتهم في غالب الأحوال أو ممن يجب أن يكفوا؟ فمن راعى وجود الفقر فقط قال العبيد والأحرار سواء إذ قد يوجد من العبيد من يجوعه سيده ومن راعى وجوب الحق له على الغير بالحكم قال: يجب على السيد القيام بهم ويقتضي بذلك عليه وإن كان معسرا قضى عليه ببيعه فليس يحتاجون إلى المعونة بالكفارات وما جرى مجراها من الصدقات؟
وأما المسألة السادسة : وهي هل من شرط الرقبة أن تكون سليمة من العيوب؟ فإن فقهاء الأمصار شرطوا ذلك أعني العيوب المؤثرة في الأثمان وقال أهل الظاهر: ليس ذلك من شرطها. وسبب اختلافهم هل الواجب الأخذ بأقل ما يدل عليه الاسم أو بأتم ما يدل عليه.
وأما المسألة السابعة : وهي اشتراط الأيمان في الرقبة أيضا فإن مالكا والشافعي اشترطا ذلك وأجاز أبو حنيفة أن تكون الرقبة غير مؤمنة. وسبب اختلافهم هو هل يحمل المطلق على المقيد في الأشياء التي تتفق في الأحكام وتختلف في الأسباب كحكم حال هذه الكفارات مع كفارة الظهار فمن قال يحمل المطلق على المقيد في ذلك قال باشتراط الإيمان في ذلك حملا على اشتراط

ذلك في كفارة الظهار في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ومن قال لا يحمل وجب عنده أن يبقى موجب اللفظ على إطلاقه.

الفصل الثالث متى ترفع الكفارة الحنث وكم ترفع؟
وأما متى ترفع الكفارة الحنث وتمحوه فإنهم اختلفوا في ذلك فقال الشافعي: إذا كفر بعد الحنث أو قبله فقد ارتفع الإثم وقال أبو حنيفة: لا يرتفع الحنث إلا بالتكفير الذي يكون بعد الحنث لا قبله وروي عن مالك في ذلك القولان جميعا. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلاف الرواية في قوله عليه الصلاة والسلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فإن قوما رووه هكذا وقوم رووه "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" وظاهر هذه الرواية أن الكفارة تجوز قبل الحنث وظاهر الثانية أنها بعد الحنث. والسبب الثاني اختلافهم في هل يجزي تقديم الحق الواجب قبل وقت وجوبه لأنه من الظاهر أن الكفارة إنما تجب بعد الحنث كالزكاة بعد الحول. ولقائل أن يقول: إن الكفارة إنما تجب بإرادة الحنث والعزم عليه كالحال في كفارة الظهار فلا يدخله الخلاف من هذه الجهة وكان سبب الخلاف من طريق المعنى هو هل الكفارة رافعة للحنث إذا وقع أو مانعة له؟ فمن قال مانعة أجاز تقديمها على الحنث ومن قال رافعة لم يجزها إلا بعد وقوعه. وأما تعدد الكفارات بتعدد الأيمان فإنهم اتفقوا فيما علمت أن من حلف على أمور شتى بيمين واحدة أن كفارته كفارة يمين واحدة وكذلك فيما أحسب لا خلاف بينهم أنه إذا حلف بأيمان شتى على شيء واحد أن الكفارات الواجبة في ذلك بعدد الأيمان كالحالف إذا حلف بأيمان شتى على أشياء شتى. اختلفوا إذا حلف على شيء واحد بعينه مرارا كثيرة فقال قوم: في ذلك كفارة يمين واحدة وقال قوم: في كل يمين كفارة إلا أن يريد التأكيد وهو قول مالك وقال قوم: فيها كفارة واحدة إلا أن يريد التغليظ. وسبب اختلافهم هل الموجب للتعدد هو تعدد الأيمان بالجنس أو بالعدد فمن قال: اختلافها بالعدد قال لكل يمين كفارة إذا كرر ومن قال اختلافها بالجنس قال: في هذه المسألة يمين واحدة. واختلفوا إذا

حلف في يمين واحدة بأكثر من صفتين من صفات الله تعالى هل تعدد الكفارات التي تضمنت اليمين أم في ذلك كفارة واحدة؟ فقال مالك: الكفارة في هذه اليمين متعددة بتعدد الصفات. فمن حلف بالسميع العليم الحكيم كان عليه ثلاث كفارات عنده وقال قوم: إن أراد الكلام الأول وجاء بذلك على أنه قول واحد فكفارة واحدة إذا كانت يمينا واحدة. والسبب في اختلافهم: هل مراعاة الواحدة أو الكثرة في اليمين هو راجع إلى صيغة القول أو إلى تعدد الأشياء التي يشتمل عليها القول الذي مخرجه مخرج يمين فمن اعتبر الصيغة قال كفارة واحدة ومن اعتبر عدد ما تضمنته صيغة القول من الأشياء التي يمكن أن يقسم بكل واحد منها على انفراده قال: الكفارة متعددة بتعددها وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب وسبب الاختلاف في ذلك والله المعين برحمته.

كتاب النذور
الفصل الأول: في أصناف النذور

كتاب النذور
وهذا الكتاب فيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في أصناف النذور. الفصل الثاني: فيما يلزم من النذور وما لا يلزم وجملة أحكامها. الفصل الثالث: في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها.
الفصل الأول في أصناف النذور
والنذور تنقسم أولا قسمين: قسم من جهة اللفظ وقسم من جهة الأشياء التي تنذر. فأما من جهة اللفظ فإنه ضربان: مطلق وهو المخرج مخرج الخبر. ومقيد وهو المخرج مخرج الشرط. والمطلق على ضربين: مصرح فيه بالشيء المنذور به وغير مصرح فالأول مثل قول القائل: لله علي نذر أن أحج والثاني مثل قوله: لله علي نذر دون أن يصرح بمخرج النذر والأول ربما صرح فيه بلفظ النذور وربما لم يصرح فيه به مثل أن يقول: لله علي أن أحج. وأما المقيد المخرج مخرج الشرط فكقول القائل: إن كان كذا فعلي لله نذر كذا وأن أفعل كذا وهذا ربما علقه بفعل من أفعال الله تعالى مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي فعلي نذر كذا وكذا وربما علقه بفعل نفسه مثل أن

يقول: إن فعلت كذا فعلي نذر كذا وهذا هو الذي يسميه الفقهاء أيمانا وقد تقدم من قولنا أنها ليست بأيمان فهذه هي أصناف النذور من جهة الصيغ. وأما أصنافه من جهة الأشياء التي من جنس المعاني المنذور بها فإنها تنقسم إلى أربعة أقسام نذر بأشياء من من ونذر بأشياء من جنس المعاصي ونذر بأشياء من جنس المكروهات ونذر بأشياء من جنس المباحات وهذه الأربعة تنقسم قسمين: نذر بتركها ونذر بفعلها.

الفصل الثاني فيما يلزم من النذور وما لا يلزم
وأما ما يلزم من هذه النذور وما لا يلزم فإنهم اتفقوا على لزوم النذر المطلق إلا ما حكي عن بعض أصحاب الشافعي أن النذر المطلق لا يجوز وإنما اتفقوا على لزوم النذر المطلق إذا كان على وجه الرضا لا على وجه اللجاج وصرح فيه بلفظ النظر لا إذا لم يصرح وسواء كان النذر مصرحا فيه بالشيء المنذور أو كان غير مصرح. وكذلك أجمعوا على لزوم النذر الذي مخرجه مخرج الشرط إذا كان نذرا بقربة وإنما صاروا لوجوب النذر لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ولأن الله تعالى قد مدح به فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وأخبر بوقوع العقاب بنقضه فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الآية إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} . والسبب في اختلافهم في التصريح بلفظ النذر في النذر المطلق هو اختلافهم في هل يجب النذر بالنية واللفظ معا أو بالنية فقط؟ فمن قال بهما معا إذا قال لله علي كذا وكذا ولم يقل نذرا لم يلزمه شيء لأنه إخبار بوجوب شيء لم يوجبه الله عليه إلا أن يصرح بجهة الوجوب ومن قال ليس من شرطه اللفظ قال: ينعقد النذر وإن لم يصرح بلفظه وهو مذهب مالك أعني أنه إذا لم يصرح بلفظ النذر أنه يلزم وإن كان من مذهبه أن النذر لا يلزم إلا بالنية واللفظ لكن رأى أن حذف لفظ النذر من القول غير معتبر إذ كان المقصود بالأقاويل التي مخرجها مخرج النذر النذر وإن لم يصرح فيها بلفظ النذر وهذا مذهب الجمهور والأول مذهب سعيد بن المسيب ويشبه أن يكون من لم ير

لزوم النذر المطلق إنما فعل ذلك من قبل أنه حمل الأمر بالوفاء على الندب وكذلك من اشترط فيه الرضا فإنما اشترطه لأن القربة إنما تكون على جهة الرضا لا على جهة اللجاج وهو مذهب الشافعي. وأما مالك فالنذر عنده لازم على أي جهة وقع فهذا ما اختلفوا في لزومه من جهة اللفظ. وأما ما اختلفوا في لزومه من جهة الأشياء المنذور بها فإن فيه من المسائل الأصول اثنتين.
المسألة الأولى : اختلفوا فيمن نذر معصية فقال مالك والشافعي وجمهور العلماء: ليس يلزمه في ذلك شيء وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون: بل هو لازم واللازم عندهم فيه هو كفارة يمين لا فعل المعصية. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب وذلك أنه روي في هذا الباب حديثان حديث عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" فظاهر هذا أنه لا يلزم النذر بالعصيان. والحديث الثاني حديث عمران بن حصين وحديث أبي هريرة الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين" وهذا نص في معنى اللزوم فمن جمع بينهما في هذا قال: الحديث الأول تضمن الإعلام بأن المعصية لا تلزم وهذا الثاني تضمن لزوم الكفارة فمن رجح ظاهر حديث عائشة إذ لم يصح عنده حديث عمران وأبي هريرة قال: ليس يلزم في المعصية شيء ومن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين أوجب في ذلك كفارة يمين. قال أبو عمر بن عبد البر ضعف أهل الحديث حديث عمران وأبي هريرة قالوا: لأن حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث. وحديث عمران بن الحصين يدور على زهير بن محمد عن أبيه وأبوه مجهول لم يرو ابنه وزهير أيضا عنده مناكير ولكنه خرجه مسلم من طريق عقبة بن عامر وقد جرت عادة المالكية أن يحتجوا لمالك في هذه المسألة بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال: "ما بال هذا؟" قالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل ولا يجلس ويصوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"مروه فليتكلم وليجلس وليتم صيامه" قالوا: فأمره أن يتم ما كان طاعة لله ويترك ما كان معصية وليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية وقد أخبر الله أنه نذر مريم وكذلك يشبه أن يكون القيام في الشمس ليس بمعصية إلا ما يتعلق بذلك من جهة إتعاب النفس. فإن قيل فيه معصية فبالقياس لا بالنص فالأصل فيه أنه من المباحات.
المسألة الثانية : واختلفوا فيمن حرم على نفسه شيئا من المباحات فقال مالك: لا يلزم ما عدا الزوجة وقال أهل الظاهر: ليس في ذلك شيء وقال أبو حنيفة: في ذلك كفارة يمين. وسبب اختلافهم معارضة مفهوم النظر لظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} وذلك أن النذر ليس هو اعتقاد خلاف الحكم الشرعي أعني من تحريم محلل أو تحليل محرم وذلك أن التصرف في هذا إنما هو للشارع فوجب أن يكون لمكان هذا المفهوم أن من حرم على نفسه شيئا أباحه الله له بالشرع أنه لا يلزمه كما لا يلزم إن نذر تحليل شيء حرمه الشرع وظاهر قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أثر العتب عل التحريم يوجب أن تكون الكفارة تحل هذا العقد وإذا كان ذلك كذلك فهو غير لازم والفرقة الأولى تأولت التحريم المذكور في الآية أنه كان العقد بيمين. وقد اختلف في الشيء الذي نزلت فيه هذه الآية. وفي كتاب مسلم أن ذلك كان في شربة عسل وفيه عن ابن عباس أنه قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .

الفصل الثالث في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها
وأما اختلافهم في ماذا يلزم في نذر نذر من النذور وأحكام ذلك فإن فيه اختلافا كثيرا لكن نشير نحن من ذلك إلى مشهورات المسائل في ذلك وهي التي تتعلق بأكثر ذلك بالنطق الشرعي على عادتنا في هذا الكتاب وفي ذلك مسائل خمس:
المسألة الأولى : اختلفوا في الواجب في النذر المطلق الذي ليس يعين فيه

الناذر شيئا سوى أن يقول: لله علي نذر فقال كثير من العلماء: في ذلك كفارة يمين لا غير وقال قوم: بل فيه كفارة الظهار وقال قوم: أقل ما ينطلق عليه الاسم صيام يوم أو صلاة ركعتين وإنما صار الجمهور لوجوب كفارة اليمين فيه للثابت من حديث عقبة بن عامر أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كفارة النذر كفارة يمين" خرجه مسلم. وأما من قال صيام يوم أو صلاة ركعتين فإنما ذهب مذهب من يرى أن المجزئ أقل ما ينطلق عليه الاسم وصلاة ركعتين أو صيام يوم أقل ما ينطلق عليه اسم النذر. وأما من قال فيه كفارة الظهار فخارج عن القياس والسماع.
المسألة الثانية : اتفقوا على لزوم النذر بالمشي إلى بيت الله أعني إذا نذر المشي راجلا. واختلفوا إذا عجز في بعض الطريق فقال قوم: لا شيء عليه وقال قوم: عليه واختلفوا في ماذا على ثلاثة أقوال: فذهب أهل المدينة إلى أن عليه أن يمشي مرة أخرى من حيث عجز وإن شاء ركب وأجزأه وعليه دم وهذا مروي عن علي. وقال أهل مكة: عليه هدي دون إعادة مشي. وقال مالك: عليه الأمران جميعا يعني أنه يرجع فيمشي من حيث وجب وعليه هدي والهدي عنده بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد بقرة أو بدنة. وسبب اختلافهم منازعة الأصول لهذه المسألة ومخالفة الأثر لها وذلك أن من شبه العاجز إذا مشى مرة ثانية بالمتمتع والقارن من أجل أن القارن فعل ما كان عليه في سفرين في سفر واحد وهذا فعل ما كان عليه في سفر واحد في سفرين قال: يجب عليه هدي القارن أو المتمتع ومن شبهه بسائر الأفعال التي تنوب عنها في الحج إراقة الدم قال: فيه دم ومن أخذ بالآثار الواردة في هذا الباب قال: إذا عجز فلا شيء عليه. قال أبو عمر: والسنن الواردة الثابتة في هذا الباب دليل على طرح المشقة وهو كما قال وأحدها حديث عقبة بن عامر الجهني قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله عز وجل فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لتمش ولتركب" خرجه مسلم. وحديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يهادي بين ابنتيه فسأل

عنه فقالوا: نذر أن يمشي فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه وأمره أن يركب" وهذا أيضا ثابت.
المسألة الثالثة : اختلفوا بعد اتفاقهم على لزوم المشي في حج أو عمرة فيمن نذر أن يمشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى بيت المقدس يريد بذلك الصلاة فيهما فقال مالك والشافعي: يلزمه المشي وقال أبو حنيفة: لا يلزمه شيء وحيث صلى أجزأه وكذلك عنده إن نذر الصلاة في المسجد الحرام وإنما وجب عنده المشي إلى المسجد الحرام لمكان الحج والعمرة. وقال أبو يوسف صاحبه: من نذر أن يصلي في بيت المقدس أو في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لزمه وإن صلى في البيت الحرام أجزأه عن ذلك وأكثر الناس على أن النذر لما سوى هذه المساجد الثلاثة لا يلزم لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسرج المطي إلا لثلاث" فذكر المسجد الحرام ومسجده وبيت المقدس وذهب بعض الناس إلى أن النذر إلى المساجد التي يرجى فيها فضل زائد واجب واحتج في ذلك بفتوى ابن عباس لولد المرأة التي نذرت أن تمشي إلى مسجد قباء فماتت أن يمشي عنها. وسبب اختلافهم في النذر إلى ما عدا المسجد الحرام اختلافهم في المعنى الذي إليه تسرج المطي إلى هذه الثلاث مساجد هل ذلك لموضع صلاة الفرض فيما عدا البيت الحرام أو لموضع صلاة النفل؟ فمن قال لموضع صلاة الفرض وكان الفرض عنده لا ينذر إذ كان واجبا بالشرع قال: النذر بالمشي إلى هذين المسجدين غير لازم ومن كان عنده أن النذر قد يكون في الواجب أو أنه أيضا قد يقصد هذان المسجدان لموضع صلاة النفل لقوله عليه الصلاة والسلام: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" واسم الصلاة يشمل الفرض والنقل قال: هو واجب لكن أبو حنيفة حمل هذا الحديث على الفرض مصيرا إلى الجمع بينه وبين قوله عليه الصلاة والسلام: "صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" وإلا وقع التضاد بين هذين الحديثين وهذه المسألة هي أن تكون من الباب الثاني أحق من أن تكون من هذا الباب.

المسألة الرابعة : واختلفوا في الواجب على من نذر أن ينحر ابنه في مقام إبراهيم فقال مالك: ينحر جزورا فداء له وقال أبو حنيفة: ينحر شاة وهو أيضا مروي عن ابن عباس وقال بعضهم: بل ينحر مائة من الإبل وقال بعضهم يهدي ديته وروي ذلك عن علي وقال بعضهم: بل يحج له وبه قال الليث وقال أبو يوسف والشافعي: لا شيء عليه لأنه نذر معصية ولا نذر في معصية. وسبب اختلافهم قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أعني هل ما تقرب به إبراهيم هو لازم للمسلمين أم ليس بلازم؟ فمن رأى أن ذلك شرع خص به إبراهيم قال: لا يلزم النذر ومن رأى أنه لازم لنا قال: النذر لازم. والخلاف في هل يلزمنا شرع من قبلنا مشهور لكن يتطرق إلى هذا خلاف آخر وهو أن الظاهر من هذا الفعل أنه كان الموطأ بإبراهيم ولم يكن شرعا لأهل زمانه وعلى هذا فليس ينبغي أن يختلف هل هو شرع لنا أم ليس بشرع؟ والذين قالوا إنه شرع إنما اختلفوا في الواجب في ذلك من قبل اختلافهم أيضا في هل يحمل الواجب في ذلك على الواجب على إبراهيم أم يحمل على غير ذلك من القرب الإسلامية وذلك إما صدقة بديته وإما حج به وإما هدي بدنة. وأما الذين قالوا مائة من الإبل فذهبوا إلى حديث عبد المطلب.
المسألة الخامسة : واتفقوا على أن من نذر أن يجعل ماله كله في سبيل الله أو في سبيل من سبل البر أنه يلزمه وأنه ليس ترفعه الكفارة وذلك إذا كان نذرا على جهة الخبر لا على جهة الشرط وهو الذي يسمونه يمينا. واختلفوا فيمن نذر ذلك على جهة الشرط مثل أن يقول: مالي للمساكين إن فعلت كذا ففعله فقال قوم: ذلك لازم كالنذر على جهة الخبر ولا كفارة فيه وهو مذهب مالك في النذور التي صيغها هذه الصيغة أعني أنه لا كفارة فيه وقال قوم: الواجب في ذلك كفارة يمين فقط وهو مذهب الشافعي في النذور التي مخرجها مخرج الشرط لأنه ألحقها بحكم الأيمان وأما مالك فألحقها بحكم النذور على ما تقدم من قولنا في كتاب الأيمان والذين اعتقدوا وجوب إخراج ماله في الموضع الذي اعتقدوه اختلفوا في الواجب عليه فقال مالك: يخرج ثلث ماله فقط وقال قوم: بل يجب عليه إخراج جميع ماله وبه قال إبراهيم النخعي وزفر وقال أبو حنيفة: يخرج جميع الأموال التي تجب الزكاة فيها,

وقال بعضهم: إن أخرج مثل زكاة ماله أجزأه. وفي المسألة قول خامس. وهو إن كان المال كثيرا أخرج خمسه وإن كان وسطا أخرج سبعه وإن كان يسيرا أخرج عشره وحد هؤلاء الكثير بألفين والوسط بألف والقليل بخمسمائة وذلك مروي عن قتادة. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة أعني من قال المال كله أو ثلثه معارضة الأصل في هذا الباب للأثر وذلك أن ما جاء في حديث أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه وأراد أن يتصدق بجميع ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجزيك من ذلك الثلث" هو نص في مذهب مالك. وأما الأصل فيوجب أن اللازم له إنما هو جميع ماله حملا على سائر النذر أعني أنه يجب الوفاء به على الوجه الذي قصده لكن الواجب هو استثناء هذه المسألة من هذه القاعدة إذ قد استثناها النص إلا أن مالكا لم يلزم في هذه المسألة أصله وذلك أنه قال: إن حلف أو نذر شيئا معينا لزمه وإن كان كل ماله وكذلك يلزم عنده إن عين جزءا من ماله وهو أكثر من الثلث وهذا مخالف لنص ما رواه في حديث أبي لبابة وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي جاء بمثل بيضة من ذهب فقال: أصبت هذا من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءه عن يمينه ثم عن يساره ثم من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابه بها لأوجعه وقال عليه الصلاة والسلام: "يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وهذا نص في أنه لا يلزم المال المعين إذا تصدق به وكان جميع ماله ولعل مالكا لم تصح عنده هذه الآثار. وأما سائر الأقاويل التي قيلت في هذه المسألة فضعاف وبخاصة من حد في ذلك غير الثلث وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب والله الموفق للصواب.

كتاب الضحايا
مدخل

كتاب الضحايا
وهذا كتاب في أصوله أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الضحايا ومن المخاطب بها. الباب الثاني: في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها. الباب الثالث: في أحكام الذبح. الباب الرابع: في أحكام لحوم الضحايا.

الباب الأول في حكم الضحايا ومن المخاطب بها؟
اختلف العلماء في الأضحية هل هي واجبة أم هي سنة؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنها من السنن المؤكدة ورخص مالك للحاج في تركها بمنى ولم يفرق الشافعي في ذلك بين الحاج وغيره وقال أبو حنيفة: الضحية واجبة على المقيمين في الأمصار الموسرين ولا تجب على المسافرين وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: إنها ليست بواجبة وروي عن مالك مثل قول أبي حنيفة. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما هل فعله عليه الصلاة والسلام في ذلك محمول على الوجوب أو على الندب وذلك أنه لم يترك صلى الله عليه وسلم الضحية قط فيما روي عنه حتى في السفر على ما جاء في حديث ثوبان قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحيته ثم قال: "يا ثوبان أصلح لحم هذه الضحية" قال: فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة. والسبب الثاني اختلافهم في مفهوم الأحاديث الواردة في أحكام الضحايا وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم سلمة أنه قال: "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره" قالوا: فقوله: "إذا أراد أحدكم أن يضحي" فيه دليل على أن الضحية ليست بواجبة. ولما أمر عليه الصلاة والسلام أبا بردة بإعادة أضحيته إذ ذبح قبل الصلاة فهم قوم من ذلك الوجوب ومذهب ابن عباس أن لا وجوب. قال عكرمة: بعثني ابن عباس بدرهمين أشتري بهما لحما وقال: من لقيت فقل له هذه ضحية ابن عباس. وروي عن بلال أنه ضحى بديك وكل حديث ليس بوارد في الغرض الذي يحتج فيه به فالاحتجاج به ضعيف. واختلفوا هل يلزم الذي يريد التضحية أن لا يأخذ من العشر الأول من شعره وأظفاره والحديث بذلك ثابت.

الباب الثاني: في أنواع وصفاتها وأسنانها وعددها
الباب الثاني في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها
وفي هذا الباب أربع مسائل مشهورة: إحداها في تمييز الجنس. والثانية: في تمييز الصفات. والثالثة: في معرفة السن. والرابعة: في العدد.

المسألة الأولى : أجمع العلماء على جواز الضحايا من جميع بهيمة الأنعام واختلفوا في الأفضل من ذلك. فذهب مالك إلى أن الأفضل في الضحايا: الكباش ثم البقر ثم الإبل بعكس الأمر عنده في الهدايا وقد قيل عنه الإبل ثم البقر ثم الكباش وذهب الشافعي إلى عكس ما ذهب إليه مالك في الضحايا الإبل ثم البقر ثم الكباش وبه قال أشهب وابن شعبان. وسبب اختلافهم معارضة القياس لدليل الفعل وذلك أنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه ضحى إلا بكبش فكان ذلك دليلا على أن الكباش في الضحايا أفضل وذلك فيما ذكر بعض الناس وفي البخاري عن ابن عمر ما يدل على خلاف ذلك وهو أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى وأما القياس فلأن الضحايا قربة بحيوان فوجب أن يكون الأفضل فيها الأفضل في الهدايا وقد احتج الشافعي لمذهبه بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا" الحديث فكان الواجب حمل هذا على بالحيوان. وأما مالك فحمله على الهدايا فقط لئلا يعارض الفعل القول وهو الأولى. وقد يمكن أن يكون لاختلافهم سبب آخر وهو هل الذبح العظيم الذي فدى به إبراهيم سنة باقية إلى اليوم وأنها الأضحية وأن ذلك معنى قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} فمن ذهب إلى هذا قال: الكباش أفضل ومن رأى أن ذلك ليست سنة باقية لم يكن عنده دليل على أن الكباش أفضل مع أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بالأمرين جميعا وإذا كان ذلك كذلك فالواجب المصير إلى قول الشافعي وكلهم مجمعون على أنه لا تجوز الضحية بغير بهيمة الأنعام إلا ما حكي عن الحسن بن صالح أنه قال: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة والظبي عن واحد.
المسألة الثانية : أجمع العلماء على اجتناب العرجاء البين عرجها في الضحايا والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى1 مصيرا لحديث البراء بن عازب
ـــــــ
1 العجفاء التي لا تنقى: أي التي لا مخ في عظامها.

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ماذا ينقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: "أربع" وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العرجاء البين عرجها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى" . وكذلك أجمعوا على أن ما كان من هذه الأربع خفيفا فلا تأثير له في منع الإجزاء. واختلفوا في موضعين: أحدهما فيما كان من العيوب أشد من هذه المنصوص عليها مثل العمى وكسر الساق. والثاني فيما كان مساويا لها في إفادة النقص وشينها أعني ما كان من العيوب في الأذن فتكون والذنب والضرس وغير ذلك من الأعضاء ولم يكن يسيرا. فأما الموضع الأول فإن الجمهور على أن ما كان أشد من هذه العيوب المنصوص عليها فهي أحرى أن تمنع الإجزاء وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا تمنع الإجزاء. ولا يتجنب بالجملة أكثر من هذه العيوب التي وقع النص عليها. وسبب اختلافهم هل هذا اللفظ الوارد هو خاص أريد به الخصوص أو خاص أريد به العموم؟ فمن قال أريد به الخصوص ولذلك أخبر بالعدد قال: لا يمنع الإجزاء إلا هذه الأربعة فقط ومن قال هو خاص أريد به العموم وذلك من النوع الذي يقع فيه التنبيه بالأدنى على الأعلى قال: ما هو أشد من المنصوص عليها فهو أحرى أن لا يجزي. وأما الموضع الثاني أعني ما كان من العيوب في سائر الأعضاء مفيدا للنقص على نحو إفادة هذه العيوب المنصوص عليها له فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أنها تمنع الإجزاء كمنع المنصوص عليها وهو المعروف من مذهب مالك في الكتب المشهورة. والقول الثاني أنها لا تمنع الإجزاء وإن كان يستحب اجتنابها وبه قال ابن القصار وابن الجلاب وجماعة من البغداديين من أصحاب مالك. والقول الثالث أنها لا تمنع الإجزاء ولا يستحب تجنبها وهو قول أهل الظاهر. وسبب اختلافهم شيئان أحدهما اختلافهم في مفهوم الحديث المتقدم. والثاني تعارض الآثار في هذا الباب. أما الحديث المتقدم فمن رآه من باب الخاص أريد به الخاص قال: لا يمنع ما سوى الأربع مما هو مساو لها أو أكثر منها. وأما من رآه من باب الخاص أريد به العام وهم الفقهاء فمن كان عنده أنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فقط لا من باب التنبيه بالمساوي على المساوي قال: يلحق بهذه

الأربع ما كان أشد منها ولا يلحق بها ما كان مساويا لها في منع الإجزاء إلا على وجه الاستحباب ومن كان عنده أنه من باب التنبيه على الأمرين جميعا أعني على ما هو أشد من المنطوق به أو مساو له قال: تمنع العيوب الشبيهة بالمنصوص عليها الإجزاء كما يمنعه العيوب التي هي أكبر منها فهذا هو الخلاف في هذه المسألة وهو من قبل تردد اللفظ بين أن يفهم منه المعنى الخاص أو المعنى العام ثم إن من فهم منه العام فأي عام هو؟ هل الذي هو أكثر من ذلك؟ أو الذي هو أكثر والمساوي معا على المشهور من مذهب مالك؟ وأما السبب الثاني فإنه ورد في هذا الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان فذكر النسائي عن أبي بردة أنه قال يا رسول الله أكره النقص يكون في القرن والأذن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك" وذكر علي بن أبي طالب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا يضحى بشرقاء ولا خرقاء ولا مدابرة ولا بتراء والشرقاء: المشقوقة الأذن. والخرقاء: المثقوبة الأذن. والمدابرة: التي قطع من جنبتي أذنها من خلف. فمن رجح حديث أبي بردة قال: لا يتقي إلا العيوب الأربع أو ما هو أشد منها ومن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث أبي بردة على اليسير الذي هو غير بين وحديث علي على الكثير الذي هو بين ألحق بحكم المنصوص عليها ما هو مساو لها ولذلك جرى أصحاب هذا المذهب إلى التحديد فيما يمنع الإجزاء مما يذهب من هذه الأعضاء فاعتبر بعضهم ذهاب الثلث من الأذن والذنب وبعضهم اعتبر الأكثر وكذلك الأمر في ذهاب الأسنان وأطباء الثدي. وأما القرن فإن مالكا قال ليس ذهاب جزء منه عيبا إلا أن يكون يدمى فإنه عنده من باب المرض ولا خلاف في أن المرض البين يمنع الإجزاء. وخرج أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أعضب الأذن والقرنواختلفوا في الصكاء وهي التي خلقت بلا أذنين فذهب مالك والشافعي إلى أنها لا تجوز وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خلقة جاز كالأجم ولم يختلف الجمهور أن قطع الأذن كله أو أكثره عيب وكل هذا

الاختلاف راجع إلى ما قدمناه. واختلفوا في الأبتر فقوم أجازوه لحديث جابر الجعفي عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد الخدري أنه قال: اشتريت كبشا لأضحي به فأكل الذئب ذنبه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ضح به" وجابر عند أكثر المحدثين لا يحتج به وقوم أيضا منعوه لحديث علي المتقدم. وأما المسألة الثالثة: وهي معرفة السن المشترطة في الضحايا فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز الجذع من المعز بل الثني فما فوقه لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة لما أمره بالإعادة: "يجزيك ولا يجزي جذع عن أحد غيرك" واختلفوا في الجذع من الضأن فالجمهور على جوازه وقال قوم: بل الثني من الضأن. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص فالخصوص هو حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" خرجه مسلم. والعموم هو ما جاء في حديث أبي بردة بن نيار خرجه من قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك" فمن رجح هذا العموم على الخصوص وهو مذهب أبي محمد بن حزم في هذه المسألة لأنه زعم أن أبا الزبير مدلس ثم المحدثين والمدلس عندهم من ليس يجري العنعنة من قوله مجرى المسند لتسامحه في ذلك وحديث أبي بردة لا مطعن فيه. وأما من ذهب إلى بناء الخاص على العام على ما هو المشهور عند جمهور الأصوليين فإنه استثنى من ذلك العموم جذع الضأن المنصوص عليها وهو الأولى وقد صحح هذا الحديث أبو بكر بن صفور1 وخطأ أبا محمد بن حزم فيما نسب إلى أبي الزبير في غالب ظني في قول له رد فيه على ابن حزم.
وأما المسألة الرابعة : وهي عدد ما يجزي من الضحايا عن المضحين فإنهم اختلفوا في ذلك فقال مالك: يجوز أن يذبح الرجل الكبش أو البقرة أو البدنة مضحيا عن نفسه وعن أهل بيته الذين تلزمه نفقتهم بالشرع وكذلك عنده الهدايا وأجاز الشافعي وأبو حنيفة وجماعة أن ينحر الرجل البدنة عن سبع,
ـــــــ
1 هكذا بالأصل وليحرر.

وكذلك البقرة مضحيا أو مهديا وأجمعوا على أن الكبش لا يجزي إلا عن واحد إلا ما رواه مالك من أنه يجزي أن يذبحه الرجل عن نفسه وعن أهل بيته لا على جهة الشركة بل إذا اشتراه مفردا وذلك لما روي عن عائشة أنها قالت: كنا بمنى فدخل علينا بلحم بقر فقلنا ما هو؟ فقالوا: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه وخالفه في ذلك أبو حنيفة والثوري على وجه الكراهة لا على وجه عدم الإجزاء. وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للقياس المبني على الأثر الوارد في الهدايا وذلك أن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد ولذلك اتفقوا على منع الاشتراك في الضأن وإنما قلنا: إن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد لأن الأمر بالتضحية لا يتبعض إذ كان من كان له شرك في ضحية ليس ينطلق عليه اسم مضح إلا إن قام الدليل الشرعي على ذلك وأما الأثر الذي انبنى عليه القياس المعارض لهذا الأصل فما روي عن جابر أنه قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبع وفي بعض روايات الحديث سن رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فقاس الشافعي وأبو حنيفة الضحايا في ذلك على الهدايا وأما مالك فرجح الأصل على القياس المبني على هذا الأثر لأنه اعتل لحديث جابر بأن ذلك كان حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت وهدي المحصر بعدو ليس هو عنده واجبا وإنما هو تطوع وهدي التطوع يجوز عنده فيه الاشتراك ولا يجوز الاشتراك في الهدي الواجب لكن على القول بأن الضحايا غير واجبة فقد يمكن قيامها على هذا الهدي وروى عنه ابن القاسم أنه لا يجوز الاشتراك لا في هدي تطوع ولا في هدي وجوب وهذا كأنه رد للحديث لمكان مخالفته للأصل في ذلك وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة وإن كان قد روي من حديث رافع بن خديج ومن طريق ابن عباس وغيره البدنة عن عشرة. وقال الطحاوي: وإجماعهم على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة وإنما صار مالك لجواز تشريك الرجل أهل بيته في أضحيته أو هديه لما رواه عن ابن شهاب أنه قال ما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل بيته إلا بدنة واحدة

أو بقرة واحدة وإنما خولف مالك في الضحايا في هذا المعنى أعني في التشريك لأن الإجماع انعقد على منع التشريك فيه في الأجانب فوجب أن يكون الأقارب في ذلك في قياس الأجانب وإنما فرق مالك في ذلك بين الأجانب والأقارب لقياسه الضحايا على الهدايا في الحديث الذي احتج به: أعني حديث ابن شهاب فاختلافهم في هذه المسألة إذا رجع إلى تعارض الأقيسة في هذا الباب: أعني إما إلحاق الأقارب بالأجانب وإما قياس الضحايا على الهدايا.

الباب الثالث في أحكام الذبح
ويتعلق بالذبح المختص بالضحايا النظر في الوقت والذبح. أما الوقت فإنهم اختلفوا فيه في ثلاثة مواضع: في ابتدائه وفي انتهائه وفي الليالي المتخللة له. فأما في ابتدائه فإنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة لا يجوز لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام: "من ذبح قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم" وأمره بالإعادة لمن ذبح قبل الصلاة وقوله: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا هو أن نصلي ثم ننحر" إلى غير ذلك من الآثار الثابتة التي في هذا المعنى. واختلفوا فيمن ذبح قبل ذبح الإمام وبعد الصلاة فذهب مالك إلى أنه لا يجوز لأحد ذبح أضحيته قبل ذبح الإمام وقال أبو حنيفة والثوري: يجوز الذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب وذلك أنه جاء في بعضها أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر لمن ذبح قبل الصلاة أن يعيد الذبح وفي بعضها أنه أمر لمن ذبح قبل ذبحه أن يعيد خرج هذا الحديث الذي فيه هذا المعنى مسلم فمن جعل ذلك موطنين اشترط ذبح الإمام في جواز الذبح ومن جعل ذلك موطنا واحدا قال: إنما يعتبر في إجزاء الذبح الصلاة فقط. وقد اختلفت الرواية في حديث أبي بردة بن نيار وذلك أن في بعض رواياته أنه ذبح قبل الصلاة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الذبح وفي بعضها أنه ذبح قبل ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالإعادة وإذا كان ذلك كذلك فحمل قول الراوي أنه ذبح قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الآخر ذبح قبل الصلاة على موطن واحد أولى وذلك أن من ذبح قبل الصلاة فقد ذبح قبل

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجب أن يكون المؤثر في عدم الإجزاء إنما هو الذبح قبل الصلاة كما جاء في الآثار الثابتة في ذلك من حديث أنس وغيره: أن من ذبح قبل الصلاة فليعد وذلك أن تأصيل هذا الحكم منه صلى الله عليه وسلم يدل بمفهوم الخطاب دلالة قوية أن الذبح بعد الصلاة يجزئ لأنه لو كان هنالك شرط آخر مما يتعلق به إجزاء الذبح لم يسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن فرضه التبيين ونص حديث أنس هذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد" واختلفوا من هذا الباب في فرع مسكوت عنه وهو متى يذبح من ليس له إمام من أهل القرى؟ فقال مالك: يتحرون ذبح أقرب الأئمة إليهم وقال الشافعي: يتحرون قدر الصلاة والخطبة ويذبحون وقال أبو حنيفة: من ذبح من هؤلاء بعد الفجر أجزأه وقال قوم: بعد طلوع الشمس وكذلك اختلف أصحاب مالك في فرع آخر وهو إذا لم يذبح الإمام في المصلى فقال قوم: يتحرى ذبحه بعد انصرافه وقال قوم: ليس يجب ذلك. وأما آخر زمان الذبح فإن مالكا قال: آخره اليوم الثالث من أيام النحر وذلك مغيب الشمس. فالذبح عنده هو في الأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده وبه قال أبو حنيفة وأحمد وجماعة وقال الشافعي والأوزاعي: الأضحى أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وروي عن جماعة أنهم قالوا: الأضحى يوم واحد وهو يوم النحر خاصة وقد قيل الذبح إلى آخر يوم من ذي الحجة وهو شاذ لا دليل عليه وكل هذه الأقاويل مروية عن السلف. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلافهم في الأيام المعلومات ما هي في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فقيل يوم النحر ويومان بعده وهو المشهور وقيل العشر الأول من ذي الحجة. والسبب الثاني معارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جبير بن مطعم وذلك أنه ورد فيه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "كل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" فمن قال في الأيام المعلومات إنها يوم النحر ويومان بعده في هذه الآية

ورجح دليل الخطاب فيها على الحديث المذكور قال: لا نحر إلا في هذه الأيام ومن رأى الجمع بين الحديث والآية وقال لا معارضة بينهما إذ الحديث اقتضى حكما زائدا على ما في الآية مع أن الآية ليس المقصود منها تحديد أيام الذبح والحديث المقصود منه ذلك قال: يجوز الذبح في اليوم الرابع إذا كان باتفاق من أيام التشريق ولا خلاف بينهم أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وأنها ثلاثة بعد يوم النحر إلا ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: يوم النحر من أيام التشريق. وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على القولين المتقدمين. وأما من قال يوم النحر فقط فبناء على أن المعلومات هي العشر الأول قال: وإذا كان الإجماع قد انعقد أنه لا يجوز الذبح منها إلا في اليوم العاشر وهي محل الذبح المنصوص عليها فواجب أن يكون الذبح إنما هو يوم النحر فقط.
وأما المسألة الثالثة : وهي اختلافهم في الليالي التي تتخلل أيام النحر فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا يجوز الذبح في ليالي أيام التشريق ولا النحر. وذهب الشافعي وجماعة إلى جواز ذلك. وسبب اختلافهم الاشتراك الذي في اسم اليوم وذلك أن مرة يطلقه العرب على النهار والليلة مثل قوله تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} ومرة يطلقه على الأيام دون الليالي مثل قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} فمن جعل اسم اليوم يتناول الليل مع النهار في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قال: يجوز الذبح بالليل والنهار في هذه الأيام ومن قال ليس يتناول اسم اليوم الليل في هذه الآية قال: لا يجوز الذبح ولا النحر بالليل. والنظر هل اسم اليوم أظهر في أحدهما من الثاني ويشبه أن يقال إنه أظهر في النهار منه في الليل لكن إن سلمنا أن دلالته في الآية هي على النهار فقط لم يمنع الذبح بالليل إلا بنحو ضعيف من إيجاب دليل الخطاب وهو تعليق ضد الحكم بضد مفهوم الاسم وهذا النوع من أنواع الخطاب هو من أضعفها حتى أنهم قالوا ما قال به أحد من المتكلمين إلا الدقاق فقط إلا أن يقول القائل إن الأصل هو الحظر في الذبح وقد ثبت جوازه بالنهار فعلى من جوزه

بالليل الدليل. وأما الذابح فإن العلماء استحبوا أن يكون المضحي هو الذي يلي ذبح أضحيته بيده واتفقوا على أنه يجوز أن يوكل غيره على الذبح. واختلفوا هل تجوز الضحية إن ذبحها غيره بغير إذنه فقيل لا تجوز وقيل بالفرق بين أن يكون صديقا أو ولدا أو أجنبيا أعني أنه يجوز إن كان صديقا أو ولدا ولم يختلف المذهب فيما أحسب أنه إن كان أجنبيا أنها لا تجوز.

الباب الرابع في أحكام لحوم الضحايا
واتفقوا على أن المضحي مأمور أن يأكل من لحم أضحيته ويتصدق لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ولقوله صلى الله عليه وسلم في الضحايا: "كلوا وتصدقوا وادخروا" . واختلف مذهب مالك هل يؤمر بالأكل والصدقة معا أم هو مخير بين أن يفعل أحد الأمرين؟ أعني أن يأكل الكل أو يتصدق بالكل؟ وقال ابن المواز له أن يفعل أحد الأمرين واستحب كثير من العلماء أن يقسمها أثلاثا: ثلثا للادخار وثلثا للصدقة وثلثا للأكل لقوله عليه الصلاة والسلام: "فكلوا وتصدقوا وادخروا" وقال عبد الوهاب في الأكل إنه ليس بواجب في المذهب خلافا لقوم أوجبوا ذلك وأظن أهل الظاهر يوجبون تجزئة لحوم الضحايا إلى الأقسام الثلاثة التي يتضمنها الحديث والعلماء متفقون فيما علمت أنه لا يجوز بيع لحمها واختلفوا في جلدها وشعرها وما عدا ذلك مما ينتفع به منها فقال الجمهور: لا يجوز بيعه وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه بغير الدراهم والدنانير: أي العروض. وقال عطاء: يجوز بكل شيء دراهم ودنانير وغير ذلك وإنما فرق أبو حنيفة بين الدراهم وغيرها لأنه رأى أن المعاوضة بالعروض هي من باب الانتفاع لإجماعهم على أنه يجوز أن ينتفع به وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب والحمد لله.

كتاب الذبائح
مدخل

كتاب الذبائح
والقول المحيط بقواعد هذا الكتاب ينحصر في خمسة أبواب: الباب الأول: في معرفة محل الذبح والنحر وهو المذبوح أو المنحور. الباب الثاني: في معرفة

الباب الأول في معرفة محل الذبح والنحر
والحيوان في اشتراط الذكاة في أكله على قسمين: حيوان لا يحل إلا بذكاة وحيوان يحل بغير ذكاة. ومن هذه ما اتفقوا عليه ومنها ما اختلفوا فيه. واتفقوا على أن الحيوان الذي يعمل فيه الذبح هو الحيوان البري ذو الدم الذي ليس بمحرم ولا منفوذ المقاتل ولا ميئوس منه بوقذ أو نطح أو ترد أو افتراس سبع أو مرض وأن الحيوان البحري ليس يحتاج إلى ذكاة. واختلفوا في الحيوان الذي ليس يدمى مما يجوز أكله مثل الجراد وغيره هل له ذكاة أم لا؟ وفي الحيوان المدمى الذي يكون تارة في البحر وتارة في البر مثل السلحفاة وغيره. واختلفوا في تأثير الذكاة في الأصناف التي نص عليها في آية التحريم وفي تأثير الذكاة فيما لا يحل أكله أعني في تحليل الانتفاع بجلودها وسلب النجاسة عنها ففي هذا الباب إذا ست مسائل أصول: المسألة الأولى: في تأثير الذكاة في الأصناف الخمسة التي نص عليها في الآية إذا أدركت حية. المسألة الثانية: في تأثير الذكاة في الحيوان المحرم الأكل. المسألة الثالثة: في تأثير الذكاة في المريضة. المسألة الرابعة: في هل ذكاة الجنين ذكاة أمه أم لا؟ المسألة الخامسة: هل للجراد ذكاة أم لا؟ المسألة السادسة: هل للحيوان الذي يأوي في البر تارة وفي البحر تارة ذكاة أم لا؟
المسألة الأولى : أما المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع فإنهم اتفقوا فيما أعلم أنه إذا لم يبلغ الخنق منها أو الوقذ منها إلى حالة لا يرجى فيها أن الذكاة عاملة فيها أعني أنه إذا غلب على الظن أنها تعيش وذلك بأن لا يصاب لها مقتل. واختلفوا إذا غلب على الظن أنها تهلك من ذلك بإصابة مقتل أو غيره فقال قوم: تعمل الذكاة فيها وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من قول الشافعي وهو قول الزهري وابن عباس وقال قوم:

لا تعمل الذكاة فيها وعن مالك في ذلك الوجهان ولكن الأشهر أنها لا تعمل في الميؤوس منها: وبعضهم تأول من المذهب أن الميؤوس منها على ضربين ميؤوسة مشكوك فيها وميؤوسة مقطوع بموتها وهي المنفوذة المقاتل على اختلاف بينهم أيضا في المقاتل قال: فأما الميؤوسة المشكوك فيها ففي المذهب فيها روايتان مشهورتان وأما المنفوذة المقاتل فلا خلاف في المذهب المنقول أن الذكاة لا تعمل فيها وإن كان يتخرج فيها الجواز على وجه ضعيف. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } هل هو استثناء متصل فيخرج من الجنس بعض ما يتناوله اللفظ وهو المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع على عادة الاستثناء المتصل أم هو استثناء منقطع لا تأثير له في إذ كان هذا أيضا شأن الاستثناء المنقطع في كلام العرب فمن قال إنه متصل قال: الذكاة تعمل في هذه الأصناف الخمسة وأما من قال الاستثناء منقطع فإنه قال: لا تعمل الذكاة فيها. وقد احتج من قال إن الاستثناء متصل بإجماعهم على أن الذكاة تعمل في المرجو منها قال: فهذا يدل على أن الاستثناء له تأثير فيها فهو متصل. وقد احتج أيضا من رأى أنه منقطع بأن التحريم لم يتعلق بأعيان هذه الأصناف الخمسة وهي حية وإنما يتعلق بها بعد الموت وإذا كان ذلك كذلك فالاستثناء منقطع وذلك أن معنى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إنما هو لحم الميتة وكذلك لحم الموقوذة والمتردية والنطيحة وسائرها: أي لحم الميتة بهذه الأسباب سوى التي تموت من تلقاء نفسها وهي التي تسمى ميتة أكثر ذلك من كلام العرب أو بالحقيقة قالوا فلما علم أن المقصود لم يكن تعليق التحريم بأعيان هذه وهي حية وإنما علق بها بعد الموت لأن لحم الحيوان محرم في حال الحياة بدليل اشتراط الذكاة فيها وبدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" وجب أن يكون قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء منقطعا لكن الحق في ذلك أن كيفما كان الأمر في الاستثناء فواجب أن تكون الذكاة تعمل فيها وذلك أنه إن علقنا التحريم بهذه الأصناف في الآية بعد الموت وجب أن تدخل في التذكية

من جهة ما هي حية الأصناف الخمسة وغيرها لأنها ما دامت حية مساوية لغيرها في ذلك من الحيوان أعني أنها تقبل الحلية من قبل التذكية التي الموت منها هو سبب الحلية وإن قلنا إن الاستثناء متصل فلا خفاء بوجوب ذلك ويحتمل أن يقال: إن عموم التحريم يمكن أن يفهم منه الراوي أعيان هذه الخمسة بعد الموت وقبله كالحال في الخنزير الذي لا تعمل فيه الذكاة فيكون الاستثناء على هذا رافعا لتحريم أعيانها بالتنصيص على عمل الذكاة فيها وإذا كان ذلك كذلك لم يلزم ما اعترض به ذلك المعترض من الاستدلال على كون الاستثناء منقطعا. وأما من فرق بين المنفوذة المقاتل والمشكوك فيها فيحتمل أن يقال إن مذهبه أن الاستثناء منقطع وأنه إنما جاز تأثير الذكاة في المرجوة بالإجماع وقاس المشكوكة على المرجوة. ويحتمل أن يقال إن الاستثناء متصل ولكن استثناء هذا الصنف من الموقوذة بالقياس وذلك أن الذكاة إنما يجب أن تعمل في حين يقطع أنها سبب الموت فأما إذا شك هل كان موجب الموت الذكاة أو الوقذ أو النطح أو سائرها فلا يجب أن تعمل في ذلك وهذه هي حال المنفوذة المقاتل وله أن يقول إن المنفوذة المقاتل في حكم الميتة والذكاة من شرطها أن ترفع الحياة الثابتة لا الحياة الذاهبة.
المسألة الثانية : وأما هل تعمل الذكاة في الحيوانات المحرمات الأكل حتى تطهر بذلك جلودهم فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك فقال مالك: الذكاة تعمل وغيرها ما عدا الخنزير وبه قال أبو حنيفة إلا أنه اختلف المذهب في أو مكروهة على ما سيأتي في كتاب الأطعمة والأشربة. وقال الشافعي: الذكاة تعمل في كل حيوان محرم الأكل1 فيجوز بيع جميع أجزائه والانتفاع بها ما عدا اللحم. وسبب الخلاف هل جميع أجزاء الحيوان تابعة للحم في الحلية والحرمة أم ليست بتابعة للحم؟ فمن قال إنها تابعة للحم قال: إذا لم تعمل الذكاة في اللحم لم تعمل فيما سواه ومن رأى أنها ليست بتابعة قال: وإن لم تعمل في اللحم فإنها تعمل في سائر أجزاء الحيوان لأن الأصل أنها تعمل في جميع الأجزاء فإذا ارتفع بالدليل المحرم للحم عملها في اللحم بقي عملها في سائر الأجزاء إلا أن يدل الدليل على ارتفاعه.
ـــــــ
1 ليس هذا مشهور مذهب الشافعي فليراجع ا هـ مصححه.

المسألة الثالثة : واختلفوا في تأثير الذكاة في البهيمة التي أشرفت على الموت من شدة المرض بعد اتفاقهم على عمل الذكاة في التي تشرف على الموت فالجمهور على أن الذكاة تعمل فيها وهو المشهور عن مالك وروي عنه أن الذكاة لا تعمل فيها. وسبب الخلاف معارضة القياس للأثر. فأما الأثر فهو ما روي أن أمة لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوها" أخرجه البخاري ومسلم. وأما القياس فلأن المعلوم من الذكاة أنها إنما تفعل في الحي وهذه في حكم الميت وكل من أجاز ذبحها فإنهم اتفقوا على أنه لا تعمل الذكاة فيها إلا إذا كان فيها دليل على الحياة. واختلفوا فيما هو الدليل المعتبر في ذلك فبعضهم اعتبر الحركة وبعضهم لم يعتبرها والأول مذهب أبي هريرة والثاني مذهب زيد بن ثابت وبعضهم اعتبر فيها ثلاث حركات: طرف العين وتحريك الذنب والركض بالرجل وهو مذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وهو الذي اختاره محمد بن المواز وبعضهم شرط مع هذه التنفس وهو مذهب ابن حبيب.
المسألة الرابعة : واختلفوا هل تعمل ذكاة الأم في جنينها أم ليس تعمل فيه؟ وإنما هو ميتة أعني إذا خرج منها بعد ذبح الأم؟ فذهب جمهور العلماء إلى أن ذكاة الأم ذكاة لجنينها وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: إن خرج حيا ذبح وأكل وإن خرج ميتا فهو ميتة. والذين قالوا: إن ذكاة الأم ذكاة له بعضهم اشترط في ذلك تمام خلقته ونبات شعره وبه قال مالك وبعضهم لم يشترط ذلك وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأثر المروي في ذلك من حديث أبي سعيد الخدري مع مخالفته للأصول وحديث أبي سعيد هو قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البقرة أو الناقة أو الشاة ينحرها أحدنا فنجد جنينا أنأكله أو نلقيه؟ فقال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" وخرج مثله الترمذي وأبو داود عن جابر. واختلفوا في تصحيح هذا الأثر فلم يصححه بعضهم وصححه بعضهم وأحد من صححه الترمذي. وأما مخالفة الأصل في هذا الباب للأثر فهو

أن الجنين إذا كان حيا ثم مات بموت أمه فإنما يموت خنقا فهو من المنخنقة التي ورد النص بتحريمها ذهب أبو محمد بن حزم ولم يرض سند الحديث. وأما اختلاف القائلين بحليته في اشتراطهم نبات الشعر فيه أو لا اشتراطه فالسبب فيه معارضة العموم للقياس وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" يقتضي أن لا يقع هنالك تفصيل وكونه محلا للذكاة يقتضي أن يشترط فيه الحياة قياسا على الأشياء التي تعمل فيها التذكية والحياة لا توجد فيه إلا إذا نبت شعره وتم خلقه ويعضد هذا القياس أن هذا الشرط مروي عن ابن عمر وعن جماعة من الصحابة. وروى معمر عن الزهري عند عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وروى ابن المبارك عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" إلا أن ابن أبي ليلى سيىء الحفظ عندهم والقياس يقتضي أن تكون ذكاته في ذكاة أمه من قبل أنه جزء منها وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى لاشتراط الحياة فيه فيضعف أن يخصص العموم الوارد في ذلك بالقياس الذي تقدم ذكره عن أصحاب مالك.
المسألة الخامسة: واختلفوا في الجراد فقال مالك: لا يؤكل من غير ذكاة وذكاته عنده هو أن يقتل إما فتكون رأسه أو بغير ذلك. وقال عامة الفقهاء: يجوز أكل ميتته وبه قال مطرف وذكاة ما ليس بذي دم عند مالك كذكاة الجراد. وسبب اختلافهم في ميتة الجراد هو هل يتناوله اسم الميتة أم لا في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وللخلاف سبب آخر وهو هل هو نثرة حوت أو حيوان بري.
المسألة السادسة : واختلفوا في الذي يتصرف في البر والبحر هل يحتاج إلى ذكاة أم لا؟ فغلب قوم فيه حكم البر وغلب آخرون حكم البحر واعتبر آخرون حيث يكون عيشه ومتصرفه منهما غالبا.

الباب الثاني: في الزكاة
الباب الثاني في الذكاة
وفي قواعد هذا الباب مسألتان: المسألة الأولى: في أنواع الذكاة المختصة بنصف صنف من بهيمة الأنعام. الثانية: في صفة الذكاة.
المسألة الأولى : واتفقوا على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نحر وذبح وأن من سنة الغنم والطير الذبح وأن من سنة الإبل النحر وأن البقرة يجوز فيها الذبح والنحر واختلفوا هل يجوز النحر في الغنم والطير والذبح في الإبل؟ فذهب مالك إلى أنه لا يجوز النحر في الغنم والطير ولا الذبح في الإبل وذلك في غير موضع الضرورة: وقال قوم: يجوز جميع ذلك من غير كراهة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من العلماء. وقال أشهب: إن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر أكل ولكنه يكره. وفرق ابن بكير بين الغنم والإبل فقال: يؤكل البعير بالذبح ولا تؤكل الشاة بالنحر ولم يختلفوا في جواز ذلك في موضع الضرورة. وسبب اختلافهم معارضة الفعل للعموم. فأما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا" وأما الفعل فإنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر الإبل والبقر وذبح الغنم وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وعلى ذبح الغنم لقوله تعالى في الكبش: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} .
المسألة الثانية : وأما صفة الذكاة فإنهم اتفقوا على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان والمريء والحلقوم مبيح للأكل. واختلفوا من ذلك في مواضع: أحدها هل الواجب قطع الأربعة كلها أو بضعها؟ وهل الواجب في المقطوع منها قطع الكل أو الأكثر؟ وهل من شرط القطع أن لا تقع الجوزة إلى جهة البدن بل إلى جهة الرأس وهل إن قطعها من جهة العنق جاز أكلها أم لا؟ وهل إن تمادى في قطع هذه حتى قطع النخاع جاز ذلك أم لا؟ وهل من شرط الذكاة أن لا يرفع يده حتى يتم الذكاة أم لا؟ فهذه ست مسائل في عدد المقطوع وفي مقداره وفي موضعه وفي نهاية القطع وفي جهته أعني من قدام أو خلف وفي صفته

أما المسألة الأولى : فإن المشهور عن مالك في ذلك هو قطع الودجين والحلقوم وأنه لا يجزئ أقل من ذلك: وقيل عنه بل الأربعة وقيل بل الودجين فقط. ولم يختلف المذهب في أن الشرط في قطع الودجين هو استيفاؤهما. واختلف في قطع الحلقوم على القول بوجوبه فقيل كله وقيل أكثره. وأما أبو حنيفة فقال: الواجب في التذكية هو قطع معينة من الأربعة إما الحلقوم والودجان وإما المريء والحلقوم وأحد الودجين أو المريء والودجان. وقال الشافعي: الواجب قطع المريء والحلقوم فقط. وقال محمد بن الحسن: الواجب قطع أكثر كل واحد من الأربعة. وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك شرط منقول وإنما جاء في ذلك أثران: أحدهما يقتضي إنهار الدم فقط والآخر يقتضي قطع الأوداج مع إنهار الدم ففي حديث رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل" وهو حديث متفق على صحته. وروي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما فرى الأوداج فكلوا ما لم يكن رض ناب أو نحر ظفر" فظاهر الحديث الأول يقتضي قطع بعض الأوداج فقط لأن إنهار الدم يكون بذلك وفي الثاني قطع جميع الأوداج فالحديثان والله أعلم متفقان على قطع الودجين إما أحدهما أو البعض من كليهما أو من واحد منهما ولذلك وجه الجمع بين الحديثين أن يفهم من لام التعريف في قوله عليه الصلاة والسلام: "ما فرى الأوداج" البعض لا الكل إذ كانت لام التعريف في كلام العرب قد تدل على البعض وأما من اشترط قطع الحلقوم والمريء فليس له حجة من السماع وأكثر من ذلك من اشترط المريء والحلقوم دون الودجين ولهذا ذهب قوم إلى أن الواجب هو قطع ما وقع الإجماع على جوازه لأن الذكاة لما كانت شرطا في التحليل ولم يكن في ذلك نص فيما يجري وجب أن يكون الواجب في ذلك ما وقع الإجماع على جوازه إلا أن يقوم الدليل على جواز الاستثناء من ذلك وهو ضعيف لأن ما وقع الإجماع على إجزائه ليس يلزم أن يكون شرطا في الصحة.
وأما المسألة الثالثة : في موضع القطع وهي إن لم يقطع الجوزة في نصفها وخرجت إلى جهة البدن فاختلف فيه في المذهب فقال مالك وابن القاسم:

لا تؤكل وقال أشهب وابن عبد الحكم وابن وهب تؤكل. وسبب الخلاف هل قطع الحلقوم شرط في الذكاة أو ليس بشرط؟ فمن قال إنه شرط قال: لا بد أن تقطع الجوزة لأنه إذا قطع فوق الجوزة فقد خرج الحلقوم سليما ومن قال إنه ليس بشرط قال: إن قطع فوق الجوزة جاز.
وأما المسألة الرابعة : وهي إن قطع أعضاء الذكاة من ناحية العنق فإن المذهب لا يختلف أنه لا يجوز وهو مذهب سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهم وأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وروي ذلك عن ابن عمر وعلي وعمران بن الحصين. وسبب اختلافهم هل تعمل الذكاة في المنفوذة المقاتل أم لا تعمل وذلك أن القاطع لأعضاء الذكاة من القفا لا يصل إليها بالقطع إلا بعد قطع النخاع وهو مقتل من المقاتل فترد الذكاة على حيوان قد أصيب مقتله وقد تقدم سبب الخلاف في هذه المسألة. وأما المسألة الخامسة : وهي أن يتمادى الذابح بالذبح حتى يقطع النخاع فإن مالكا كره إذا تمادى في القطع ولم ينو قطع النخاع من أول الأمر لأنه إن نوى ذلك فكأنه نوى التذكية الصفة الجائزة وقال مطرف وابن الماجشون: لا تؤكل إن قطعها متعمدا دون جهل وتؤكل إن قطعها ساهيا أو جاهلا.
وأما المسألة السادسة : وهي هل من شرط الذكاة أن تكون في فور واحد فإن المذهب لا يختلف أن ذلك من شرط الذكاة وأنه إذا رفع يده قبل تمام الذبح ثم أعادها وقد تباعد ذلك أن تلك الذكاة لا تجوز. واختلفوا إذا أعاد يده بفور ذلك بالقرب فقال ابن حبيب: إن أعاد يده بالفور أكلت وقال سحنون: لا تؤكل وقيل إن رفعها لمكان الاختبار هل تمت الذكاة أم لا فأعادها على الفور إن تبين له أنها لم تتم اختلفا وهو أحد ما تؤول على سحنون وقد تؤول قوله على الكراهة. قال أبو الحسن اللخمي: ولو قيل عكس هذا لكان أجود أعني أنه إذا رفع يده وهو يظن أنه قد أتم الذكاة فتبين له غير ذلك فأعادها أنها تؤكل لأن الأول وقع عن شك وهذا عن اعتقاد ظنه يقينا وهذا مبني على أن من شرط الذكاة قطع كل أعضاء الذكاة فإذا رفع يده قبل أن تستتم كانت منفوذة المقاتل غير مذكاة فلا تؤثر فيها العودة لأنها بمنزلة ذكاة طرأت على المنفوذة المقاتل.

الباب الثالث فيما تكون به الذكاة
أجمع العلماء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر أو عود أو قضيب أن التذكية به جائزة. واختلفوا في ثلاثة: في السن والظفر والعظم فمن الناس من أجاز التذكية بالعظم ومنعها بالسن والظفر والذين منعوها بالسن والظفر منهم من فرق بين أن يكونا منزوعين أو لا يكونا منزوعين فأجاز التذكية بهما إذا كانا منزوعين ولم يجزها إذا كانا متصلين ومنهم من قال: إن الذكاة بالسن والعظم مكروهة غير ممنوعة ولا خلاف في المذهب أن الذكاة بالعظم جائزة إذا أنهر الدم واختلف في السن والظفر فيه على الأقاويل الثلاثة أعني بالمنع مطلقا والفرق فيهما بين الانفصال والاتصال وبالكراهية لا بالمنع. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم النهي الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث رافع ابن خديج وفيه قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فنذبح بالقصب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثكم عنه أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة" فمن الناس من فهم منه أن ذلك لمكان أن هذه الأشياء ليس في طبعها أن تنهر الدم غالبا ومنهم من فهم من ذلك أنه شرع غير معلل والذين فهموا منه أنه شرع غير معلل: منهم من اعتقد أن النهي في ذلك يدل على فساد المنهي عنه ومنهم من اعتقد أنه لا يدل على فساد المنهي عنه ومنهم من اعتقد أن النهي في ذلك على وجه الكراهة لا على وجه الحظر فمن فهم أن المعنى في ذلك أنه لا ينهر الدم غالبا قال: إذا وجد منهما ما ينهر الدم جاز ولذلك رأى بعضهم أن يكونا منفصلين إذ كان إنهار الدم منهما إذا كانا بهذه الصفة أمكن وهو مذهب أبي حنيفة ومن رأى أن النهي عنهما هو مشروع غير معلل وأنه يدل على فساد المنهي عنه قال: إن ذبح بهما لم تقع التذكية وإن أنهر الدم ومن

رأى أنه لا يدل على فساد المنهي عنه قال: إن فعل وأنهر الدم أثم وحلت الذبيحة ومن رأى أن النهي على وجه الكراهية كره ذلك ولم يحرمه ولا معنى لقول من فرق بين العظم والسن فإنه عليه الصلاة والسلام قد علل المنع في السن بأنه عظم ولا يختلف المذهب أنه يكره غير الحديد من المحدودات مع وجود الحديد لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" خرجه مسلم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7