كتاب : توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار
تأليف: أبي إبراهيم محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد المعروف بالأمير الصنعاني

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف.حمدا لك يا من صح سند كل كمال إليه فلا يحوم حوله قدح ولا إعلال وشكرا لك على أياديك الحسان المنزهة عن الضعف والإعضال والصلاة والسلام على رسولك المرسل الموصول بشرائف الخلال وعلى آله الذين أحاديث شرفهم مرفوعة غير موضوعة وعلوم حديثهم لمن أرادها غير مقطوعة ولا ممنوعة الموقوف على حبهم الفوز في المعاد الموضوع من ناوأهم عن الاعتماد وعلى أصحابه الذين عليهم يدور فلك الإسناد.
وبعد فهذا شرح كتبته على "تنقيح الأنظار" تأليف الإمام الحافظ العلامة النظار محمد بن إبراهيم الوزير أسكنه الله جنات تجري من تحتها الأنهار! فإنه جمع فيه نفائس تحقيقات أئمة الآثار وأضاف إليه من أنظاره ما هو نور للبصائر ولما أخذ علينا فيه بعض من لا يقنعه من التحقيق إلا أقصاه ولا يشفيه من الأبحاث إلا ما بلغ غايته ومنتهاه أمليت عليه من المعاني عند حل المباني ما يجب أن يدخره الأول للثاني فطلب كتب لفظه وإبرازه في الوجود الخطي إبقاء لحفظه فكتبت عليه ما هو قرة لعين طالب التوفيق ولا يستغني عنه إلا من يستغني التصور عن التصديق وسميته "توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار" والله أسأله أن ينفع به كاتبه وقارئه والناظر بعين الإنصاف في ألفاظه ومعانيه.
واعلم أن المصنف رحمه الله تعالى لم يجعل لمسائل كتابه عنوانا بمسألة ولا فصل ولا نوع ولا باب وفي عنوان المسائل بذلك مالا يخفى على ذوي الألباب، وقد عنون ابن الصلاح1 كتابه بالأنواع والمصنف رحمه الله جعل اسم كل نوع ترجمته كقوله
ـــــــــــــــــــ
1 ابن الصلاح هو: الإمام الحافظ، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو عمرو عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهرزوى الشافعي. أحد فضلاء عصره في "التفسير" و "الحديث" و "الفقه". مات سنة "643" له ترجمة في: البداية والنهاية "13/168"، والعبر "5/177"،

"أصح الأسانيد" وقوله "المراد بالصحيح" إلا أنه عنوان خفي فرأيت أن اجعل عنوان كل بحث لفظ مسألة إذ قد لا يتنبه الناظر لجعله أسماء الأنواع عنوانا وقد قال جار الله1 إنه بوب المصنفون في كل من كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم ومن فوائده أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتمل على أصناف كان أحسن وأنبل وأفخم من أن يكون بيانا2 واحدا ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه وأبعث على الدروس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله إلى آخر كلامه.
وقد أضبط من أجوز خفاء ضبط لفظه من الرجال أو أذكر من حاله بعض ماله من الخلال ولا أتعرض لمن هو مشهود الصفات يعرفه طلبه الفن والإثبات كأهل الأمهات ومن شاركهم في الشهرة من الرواة أو أئمة المصنفات.
ـــــــــــــــــــ
= ووفيات الأعيان "1/312".
1 جار الله هو: محمود بن عمر بن محمد بن أحمد العلامة أبو القاسم الزمخشري الخوارزمي. كان واسع العلم، كثير الفضل، غاية في الذكاء وجودة القريحة، علامة في الأدب والنحو. مات سنة "538". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/219". وتذكرة الحفاظ "4/1238"، ووفيات الأعيان "4/254".
2 ببانا واحدا: أي طريقة واحدة ومنهج واحد. قاله شيخ شيخنا في "التعليقة السابقة".

بسم الله الرحمن الرحيم
"الحمد لله الذي رفع أعلام" جمع علم وهو كما في القاموس العلم محركة الجبل الطويل والراية وله معان آخر وأنسبها هنا الراية إذ رفع العلم هنا كتابه عن علو الشأن بالنصر ونحوه "علوم الحديث" 1 شبه علوم الحديث بالجيش ثم أثبت لها لازمه وهو العلم فهو من باب أظفار المنية2 "وفضل العلم النبوي" هو كل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ويدخل القرآن في العلم النبوي إلا أن يحمل العلم على أن اللام فيه لعلم الحديث بقرينة سبق ذكره وأن كان قوله "بالإجماع" يناسب أن يراد به ما يشمل القرآن والسنة لأنه من المتفق "على شرفه في قديم الزمان والحديث" ولا ضير في إرادة الأعم وإن كان التدوين للأخص إذا الحديث شعبة من القرآن في معانيه وبيان ما فيه.
وقوله "اشترك في الحاجة إليه والحث عليه بالقرابة" وهم آله صلى الله عليه وسلم "والصحابة" يأتي تفسير الصحابي "والسلف" سلف الأمة فيشمل الصحابة ومن بعدهم إذ السلف كل متقدم كما يفيده القاموس "والخلف" هو من ذهب من الحي ومن حضر منه كما فيه أيضا والمراد هنا الآخر "فهو علم قديم الفضل" لحاجة السلف إليه وحثهم عليه "شريف الأصل" لأنه نبع من بحر النبوة، وتفرع من دوحة الرسالة فلا غرو ولأنه.
"دل على شرفه العقل" لأنه علم دل على كل ما يقرب إلى الله ويبعد عما سواه وأرشد إلى مصالح الدين والدنيا ودعا العباد إلى نيل الذروة العليا وما كان بهذه
ـــــــــــــــــــ
1 هذا العلم يقال له: علوم الحديث، أو مصطلح الحديث، أو علم أصول الحديث، أو علم الحديث دراية: "أصول الحديث" ص "11".و علم الحديث دراية. "أصول الحديث" ص "11".
2 من باب أظفار المنية: قال شيخ شيخنا: يريد أنه استعار بالكناية؛ لأنه شبه علوم الحديث بالجيش، أو طوى أركانه التشبيه كلها ما عدا المشبه، ثم أثبت للمشبه ما هو من لوازم المشبه به وهو الأعلام، وإضافة الأعلام إلى "علوم الحديث" تخييل كإضافة أظفار إلى المنية في قولنا: أظفار المنية نشبت بفلان". اهـ.

الصفات دل العقل على أن له الشرف الذي تقصر عن وصفه العبارات "و" كذلك دل على شرفه "النقل" عنه صلى الله عليه وسلم فإنه ورد مالا يدخل تحت الحصر من بيان شرف علم الحديث.
أخرج البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من تمسك بسنتي عنه فساد أمتي فله أجر مائة شهيد" وأخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال الحافظ المنذري بإسناد لا بأس به إلا أنه قال: "أجر شهيد" 1.
وكفى فيه بحديث معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبيل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء يرفع الله أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدي بأفعالهم وينتهي إلى رأيهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم فيستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخبار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتنكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام العمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء".
رواه ابن عبد البر في كتاب العلم2 قال:وهو حديث حسن جدا وليس له إسناد قوي. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر3: راد بالحسن حسن اللفظ قطعا فإنه من رواية موسى بن
ـــــــــــــــــــ
1 "ضعيف جدا". السلسلة الضعيفة "326".
2 "1/54- 55".
3 الحافظ ابن حجر هو: شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ في زمانه أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني ثم المصري الشافعي. برع في الحديث، في جميع فنونه. مات سنة "852". له ترجمة في: شذرات الذهب "7/270". والضوء اللامع "2/36".

محمد البلقاوي عن عبد الرحيم بن زيد العمي والبلقاوي هذا كذاب كذبه أبو زرعة وأبو حاتم ونسبه ابن حبان والعقيلي إلى وضع الحديث والظاهر أن هذا الحديث مما صنعت يداه1 وعبد الرحيم بن زيد العمي متروك أيضا2 انتهى ذكره استدلالا بأن أئمة الحديث قد يطلقون الحسن على الحديث الضعيف ويريدون حسن لفظه وسيأتي هذا في بحث الحسن وقال الحافظ المنذري وإسناده ليس بالقوي وقد رويناه من طرق شتى موقوفا انتهى.و
لا يخفي أن عليه حلاوة الكلام النبوي وطلاوته ولفصوله شواهد في شرف العلم والأحاديث كثيرة وكل حديث في الحث على العلم وفضله فإنه صادق على علم الحديث بل هو العلم الحقيقي والفرد الكامل عند إطلاق لفظ العلم:
العلم قال الله قال رسوله إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة بين النبي وبين قول فقيه وقال المصنف رحمه الله تعالى:
العلم ميراث النبي كذا أتى في النص والعلماء هم ورائه
فإذا أردت حقيقة تدري بمن ورائه فكرت ما ميراثه
ما خلف المختار غير حديثه فينا فذاك متاعه وأثاثه
فلنا الحديث ورائه نبوية ولكل محدث بدعة أحداثه "واعتضد" من عضده كنصره أعانه "الإجماعان" إجماع السلف والخلف "عليه" أي على فضل العلم النبوي "من بعد" أي من بعد إجماع السلف وهو إجماع الخلف "ومن قبل" أي من قبل إجماع الخلف وهو إجماع السلف ويحتمل إجماع الصحابة والقرابة أو إجماع أهل العقل والنقل.
ولا ريب أن علم الحديث من أشرف العلوم وأفضلها لأنه ثاني أدلة علوم الإسلام ومادة علوم الأصول والأحكام لا يرغب في نشره إلا كل صادق تقي ولا يزهد في نصره إلا كل منافق شقي قال أبو نصر بن سلام وليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته وإسناده.
ـــــــــــــــــــ
1 انظر ترجمته في: الميزان "4/211"، والمجروحين "2/242".
2 انظر ترجمته في: المجروحين "2/161"، والتاريخ الكبير "2/600".

"والصلاة والسلام على خاتم الرسل" لما كانت هذه الصفة معينة للموصوف وهو محمد صلى الله عليه وسلم اكتفى بها عن تعيين اسمه "وعلى أهله" هم آله1 "خير أهل" له أو خير أهل لكل ذي أهل "وعلى أصحابه كنوز الفضل" في القاموس الكنز المال المدفون فقد جعل الفضل كالمال المدفون وجعل الصحابة محله الذي يستخرج منه "وسيوف الفصل" أي السيوف التي تفصل الحق من الباطل والمؤمن من الكافر.
"وبعد" أي بعد حمد الله والصلاة "فهذا" أي المعاني المخزونة في النفس بعد تزيلها المحسوس لكمال ظهورها لديه "مختصر يشتمل على مهمات علوم الحديث" وهو علم دراية لا رواية رسمه الشيخ عطا في مختصره المسمى "بالقول المعتبر في مصطلح أهل الأثر" بقوله علم يعرف به حال الراوي والمروي من جهة القبول والرد وموضوعه الراوي والمروي عنه من هذه الجهة وغايته معرفة ما يقبل وما يرد وأما الحديث فهو علم رواية ورسمه أيضا بأنه علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم: قيل أو إلى صحابي فمن دونه قولا أو فعلا أو هما أو تقريرا أو صفة وقيل ما جاء عن النبي صلى عليه وآله وسلم والخبر ما جاء عن غيره وعلم درايته اصطلاحي كما قال المصنف "واصطلاحات أهله ولا غنى لطالب هذا العلم" أي علم الحديث "عن معرفته" المختصر "أو" معرفة "مثله" وقد جعل ابن الصلاح أنواع علوم الحديث خمسة وستين نوعا وجعل النوع الأول معرفة الصحيح كما جعل المصنف أقسام الحديث أول أبحاثه.
ـــــــــــــــــــ
1 هم آله: عند الإمام الشافعي أقاربه المؤمنون من بني هاشم والمطلب؛ لحديث مسلم في الصدقة: "إنها لاتحل لمحمد ولا لآل محمد".
وقال في حديث رواه الطبراني: "إن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم - أو يغنيكم- " وقد قسم صلى الله عليه وسلم الخمس على بين هاشم والمطلب تاركا أخويهم بني نوفل وعبد شمس مع سؤالهم له، كما رواه البخاري. "تدريب الراوي" "1/60- 61".

مسألة1 [في أقسام الحديث]
قال "أقسام الحديث" أي في اصطلاحات أئمة الحديث "قسمه الخطابي" هو الحافظ حمد بفتح الميم بغير همزة كما رواه الحاكم أبو عبد الله أنه سئل الخطابي عن اسمه قال اسمي حمد ولكن الناس كتبوا أحمد فتركته عليه والخطابي فقيه أديب محدث له مؤلفات منها "معالم السنين" على أبى داود وله أعلام السنن في شرح البخاري وغير ذلك وفاته سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة بمدينة بست بضم الموحدة وسكون السين المهملة ومثناه فوقية مدينة من بلاد كابل والخطابي بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وبعد الألف موحدة نسبة إلى جده وقيل إنه ذوية زيد بن الخطاب1 "في المعالم" أي معالم السنن جمع معلم بفتح الميم وسكون المهملة في القاموس معلم الشيء كمقعد مظنته وما يستدل به عليها كالعلامة كرمانة والمراد مظنة السنن وما يستدل به عليها وبهذا سمى البغوي2 تفسيره "معالم التنزيل" "إلى صحيح وحسن وسقيم" وقال ابن الصلاح: في كتابه علوم الحديث3 اعلم أن الحديث عند أهله ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف."
"وعرف الصحيح" 4 أي رسمه "بأنه عندهم: ما اتصل سنده" السند هو الإخبار عن
ـــــــــــــــــــ
1 انظر ترجمته في: وفيات الأعيان "2/214"، وتذكة الحفاظ "1019"، والعبر "3/39". ومرآة الجنان "2/435".
2 البغوي هو: الإمام الفقيه الحافظ أبو محمد الحسين بم مسعود بن محمد الفراء الشافعي. بورك له في تصانيفه لقصده الصالح؛ فإنه كان من العلماء الربانيين. مات سنة "516". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/193". وشذرات الذهب "4/48". ووفيات الأعيان "1/145".
3 ص "18".
4 وعرف الصحيح: قدم لاستحقاقه التقديم رتبة ووضعا، وترك تعريفه لغة بأنه ضد المكسور والسقيم، وهو حقيقة في الأجسام بخلافه في الحديث والعبادة والمعاملة وسائر المعاني فمجاز، أو من باب الاستعارة بالتبعية لكونه خروجا عن الغرض. "فتح المغيث للسخاوي". "1/14".

طريق المتن1 من قولهم "فلان سند" أي معتمد سمي سندا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعه عليه وأما الإسناد فهو رفع الحديث إلى قائله وقد يستعمل كل منهما في مكان الآخر فقوله "ما اتصل سنده" احتراز عن المتقطع وهو الذي لم يتصل سنده بأقسامه2 ويأتي بيان أقسامه في كلام المصنف "وعدلت نقلت" احتراز عن المستور ومن قيه نوع جرح والعدل عندهم من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة ويأتي لنا بحث في رسم العدل بهذا.
"ولم يشترط" الخطابي في رسم الصحيح "الضبط" كما اشترط غيره من أئمة الحديث قال السيوطي في شرح ألفيته قال الحافظ ابن حجر قول الخطابي "وعدلت نقلته" مغن عن التصريح باشتراط الضبط لأن المعدل من عدلة النقاد أي وثقوه وإنما يوثقون من اجتمع فيه العدالة والضبط بخلاف من عرفه بلفظ العدل فيحتاج إلى زيادة قيد الضبط فلا اعتراض عليه [ويؤخذ من هذا أنه إذا قيل فلان ثقة يخطئ ففيه مناقضة] نعم يبقى الاعتراض عيه بعد زيادة قيد السلامة عن الشذوذ كما يأتي والضابط عندهم من يكون حافظا متيقظا غير مغفل ولا ساه ولا شاك في حالتي التحمل والأداء وهذا الضبط التام وهو المراد هنا.
واعلم أن الضبط قسمان ضبط صدر بأن يثبت الراوي ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء وضبط كتاب بأن يصونه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه لأن الناقل إن كان فيه نوع قصور عن درجة الإتقان دخل حديثه في حد الحسن وإذا نزلت درجته عن ذلك ضعف حديثه3.
ـــــــــــــــــــ
1 قوله: "طريق المتن" يعنون بالطريق سلسلة الرواة الناقلين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سموا طريقا على سبيا المجاز؛ لأنهم يوصلون إلى المتن كما يوصل الطريق إلى المكان المقصود. "المصباح". ص "9".
2 لم يتصل سنده بأقسامه: يدخل فيه المنقطع والمرسل بقسميه والمعضل والمعلق الصادر ممن لم يشترط الصحة كالبخاري؛ لأن تعليقه المجزومة المستجمعة للشروط فيمن بعد المعلق عنه لها حكم الاتصال، وإن لم نقف عليها من طريق المعلق عنه فهو لقصورنا وتقصيرنا. "فتح المغيث". "114".
3 انظر "فتح المغيث". "1/15".

"ولا" اشترط الخطابي "سلامة الحديث من الشذوذ" احترازا عن الحديث الشاذ وسيأتي بيانه "و" لا اشترط سلامته من "العلة" والذي لم يسلم منها يقال له المعل أي الذي لم يسلم عن أسباب حفية قادحة كما ستعرفه في تعريف العلة في كلام المصنف فإن قيل هذا قيد مستدرك فإنه لا يخفى على الضابط الحازم مثل تلك القادحة قيل يقال الصارم قد ينبو والحازم قد يسهو.
"ولا بد من اشتراط الضبط" أي لا فراق ولا محالة كما في القاموس أي لا بد من اشتراط تمام الضبط ولا مطلقه كما ستعرفه من عبارات أئمة هذا الشأن وكأن المصنف أطلقه بناء على أن الضبط التام هو الفرد الكامل المتبادر كما هو الواقع في رسوم الصحيح عند علماء الفن.
قال ابن الصلاح: أما الحديث الصحيح فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه1 وقال الحافظ ابن حجر في "لنخبة"2بنقل عدل تام الضبط ومثله عبارة المصنف في مختصره في هذا الفن.
ووجه الاحتياج إلى هذا القيد في الرسم قوله "لأن من كثر خطؤه عند المحدثين" الظاهر تعلقه بقوله "استحق الترك" فلو أخره كان أولى فإن المعنى استحقاق كثير الخطأ الترك عند أئمة الحديث لا أن كثرة أخطائه عند المحدثين كما هو واضح ترشد إليه عبارته الآتية قريبا "وإن كان عدلا" إذا العدالة لا تنافي كثرة الخطأ في الرواية إذ مدرك ذلك عدم تمام الضبط ومدرك العدالة غيره وهذا في كثرة الخطأ وأما خفته فإنه يكون الراوي معه مقبولا ويصير حديثه حسنا كما قال الحافظ فإن حف الضبط فهو الحسن لذاته.
وقال المصنف في مختصره فإن خف الضبط وكان له من جنسه تابع أو شاهد فالحسن ويأتي تحقيق ذلك في بحثه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
"وكذلك" أي يستحق الترك "عند الأصوليين" أي أهل أصول الفقه ولكن بشرط غير شرط الأولين وهو "إذا كان خطؤه أكثر من صوابه واختلفوا" أي الأصوليون لا أهل الحديث فإنه يعلم أنهم إذا تركوا من كثر خطؤه فتركهم من تساوي خطؤه وصوابه بالأولى والفرق بين كثيرا وأكثر ظاهر فهذان قسمان و الثالث: أشار إليه بقوله "إذا
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "20".
2 ص "29".

استويا فالأكثر منهم" أي الأصوليين "على رده" لعدم الظن بصدقه "لأنه لا يحصل الظن بصدقه" ولا يقبل إلا ما يظن صدقه وإلا كان تحكما وهذا ثالث الأقسام ورابعها أن يخف ضبطه وهذا لم يذكره المصنف وقد أشرنا إليه وخامسها من صوابه أكثر من أخطائه وهو مفهوم كلام المصنف حيث قال لأن من كثر خطؤه عند المحدثين واستحق الترك كما سلف وهذا يحتمل أنه الخفيف الضبط فهو مقبول عند المحدثين لكن حديثه حسن لا صحيح عندهم ويكون مقبولا عند الأصوليين.
"ومنع رده جماعة منهم المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "ولكنه قال طريق قبوله الاجتهاد" ولا يخفي أن هذه كلها أخبار آحاد وطريق قبولها الاجتهاد وهو النظر في أدلة التعبد بأخبار الآحاد فما وجه تخصيص هذا القسم بالشرط المذكور ثم لا يخفى أنه إذا استوى ضبط الراوي وعدمه كان قبول روايته قبولا مع الشك فيها والشك لا يعمل به فإن أراد المنصور بالله أنه إذا حفته قرائن تقيد المجتهد ظن صدقه فليس يعلم بالمشكوك فيه من هذه الجهة بل من جهة ما حفه من القرائن.
"كما هو قول عيسى بن أبان" بفتح الهمزة "ذكره" المنصور بالله "في" كتابه "الصفوة" وحكاه عنه في الجوهرة للشيخ الحسن الرصاص "وكذلك الفقيه عبد الله بن زيد" العنسي "ذهب إلى قبوله" أي قبول من تساوى ضبطه وعدمه.
وأما قوله "وادعى الإجماع على قبوله إن كان صوابه أكثر من خطائه" فيحمل على أن ضمير قبوله في هذه الجملة للراوي المفيد بكثرة صوابه على خطائه لتصح دعوى الإجماع لا فيمن تساويا وإن كانت عبارته تقضي بعود الضمير إليه إذ الكلام فيه ولا يصح أن يجعل قوله "إن كان صوابه أكثر من خطائه" قيدا لقوله "ذهب إلى قبوله" لأنه غير محل النزاع فإن النزاع فيمن تساويا فيه ولا من كان خطؤه مكثورا فإن مفهوم قوله آنفا أنه يرد الأصوليون من كان خطاؤه أكثر من صوابه أن من كان صوابه أكثر من خطائه غير مردود عندهم وكذلك عند المحدثين لأن الأظهر أنه المراد بخفيف الضبط الذي جعلوا حديثه حسنا ولهذا راج للفقيه عبد الله دعوى الإجماع على قبوله "ذكر" الفقيه عبد الله "ذلك كله في الدرر" جمع درة، وهو كتاب للفقيه في أصول الفقه "وفي دعوى" الفقيه عبد الله "الإجماع نظر لمخالفة المحدثين".
اعلم أنه يتصور هنا أربع صور:
الأولى : تام الضبط.

الثانية : من تساوى ضبطه وعدمه.
الثالثة : من كان ضبطه أكثر من عدمه.
الرابعة : من عدم ضبطه أكثر من ضبطه.
وينضاف إليها صورتان:
الأولى : من قل غلطه.
والثانية : من كثر غلطه.
الأولى من الأربع بشرط الصحيح والخامسة شرط الحسن فإن قلة الضبط هي خفته والسادسة هي التي قال المصنف إنه يستحق صاحبها الترك عند المحدثين وأما من صوابه أكثر من خطائه وهي الصورة الثالثة فمفهوم كلام المصنف أن صاحبها مقبول عند الأصوليين ويحتمل أنها صورة خفة الضبط عند المحدثين فيكون مقبولا عندهم أيضا فأنا لم ترهم عينوا خفة الضبط برتبة يتميز بها عن غيره وعلى هذا فقد قبل المحدثون أهل هذه الصفة في رجال الحسن فلا يتم قول المنصف إن في دعوى الفقيه عبد الله الإجماع نظرا لمخالفة المحدثين فإن الفقيه عبد الله ادعى الإجماع على قبول من صوابه أكثر من خطائه وهو فيما يظهر لنا خفيف الضبط فيتم دعواه الإجماع على قبوله من الفريقين لكنه شرط للحسن والفقيه عبد الله إنما يتكلم على مجرد القبول لا على ما هو شرط الصحيح ويدل لذلك أن المحدثين جعلوا من القوادح في الراوي فحش غلطة أي كثرته وسوء حفظه وهو عبارة عمن يكون غلطة أكثر من إصابته هكذا ذكره الحافظ في النخبة وشرحها.
فالذي ذكر المحدثون أربع صور تام الضبط خفيفة كثير الغلط من غلطة أكثر من حفظه فالأوليان مقبول من اتصف بهما والأخريان مردود من اتصف بهما.
فعرفت أن قوله "إلا أن يعني إجماع الصحابة وإجماع غيرهم كما أشار إليه" لا حاجة إليه اللهم إلا أن يتبين أن المحدثين يفرقون بين من صوابه أكثر من خطائه وبين خفيف الضبط فيقبلون الثاني: في الحسن ويردون الأول صح ما قاله المصنف رحمه الله تعالى !
"وأما السلامة من الشذوذ والعلة" عطف على قوله "ولا بد من اشتراط الضبط" أي وأما اشتراط السلامة من الشذوذ والعلة أي في رسم الصحيح كما صنعه جماعة من أئمة الحديث "فقال الشيخ تقي الدين" هو العلامة التقي محمد ابن علي القشيري

المعروف بابن دقيق العيد1 "في" كتابه المسمى "الاقتراح في هذين الشرطين نظر" أي في ذكرهما في رسم الصحيح "على مقتضى نظر الفقهاء" لا على مقتضى نظر أئمة الحديث وقد صرح بهذا المفهوم بقوله "إن أصحاب الحديث زادوا ذلك في حد الصحيح" "فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء" فليست عندهم شرطا في صحة الحديث.
واعلم أن بعض المحدثين يردون الحديث بالعلل سواء كانت قادحة أو غير قادحة كما صرح به الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح حيث قال وأما الفقهاء فلا يردونه إلا بالعلة القادحة كما ذكره الشيخ تقي الدين بقوله فإن كثيرا من العلل إلى قوله لا تجري على أصول الفقهاء2 فإن فيه ما يدل أن قليلا منها تجري على أصولهم وهي العلل القادحة لا غير القادحة.
قال الحافظ وأما العلل التي يعلل بها كثير من المحدثين ولا تكون قادحة أي عند الفقهاء فكثيرة منها أن يروي العدل الضابط عن تابعي مثله عن صحابي حديثا فيرويه عدل ضابط مثله مساو له في عدالته وضبطه وغير ذلك من الصفات العلية عن ذلك التابعي بعينه عن صحابي آخر فإن هذا يسمى علة عندهم أي المحدثين لوجود لوجود الاختلاف على ذلك التابعي في شيخه ولكنها غير قادحة لجواز أن يكون التابعي سمعه من الصحابيين معا ومن هذا جملة كثيرة انتهى.
قلت: كلام الشيختقي الدين تنظير على شرطي السلامة من الشذوذ من العلة ولم يبين وجه النظر إلا في اشتراط السلامة من العلة دون الشذوذ فالعلة قاصرة عن المدعي ثم لا يخفى أنه قد حصل مما ذكر أن اصطلاح الفقهاء في صحة الحديث غير اصطلاح المحدثين إذ المحدثون يشترطون خلوه من العلة مطلقا والفقهاء يشترطون خلوه من العلة القادحة فهو اصطلاحهم أخص منه باصطلاح الفقهاء وإذا كان كذلك فلا يتم جمع الخاص والعام في رسم واحد فاعتراض الشيخ تقي الدين على رسم المحدثين بأنه غير موافق لاصطلاح الفقهاء غير وارد بل لا بد من مخالفة الرسمين.
ـــــــــــــــــــ
1 التقي محمد بن علي القشيري المعروف بابن دقيق العيد الإمام الفقيه الحافظ شيخ الإسلام. كان من أذكياء زمانه، واسع العلم، مديما للسهر، لم تر العيون مثله. مات سنة "702" له ترجمة في: شذرات الذهب "6/317"، والوافي بالوفيات "4/193".
2 انظر "فتح المغيث"، "1/16".

لاختلاف الاصطلاحين.
"قال ابن الصلاح": هو كما قال الذهبي في التذكرة الإمام الحافظ المفتي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان الشهرزوري الشافعي صاحب كتاب علوم الحديث وقال أبو حفص بن الحاجب في معجمه إمام ورع وافر العقل حسن السمت متبحر في الأصول والفروع بارع في الطب وأثنى عليه الذهبي كثيرا ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة قال بان خلكان كان أوحد فضلاء عصره في التفسير والفقه "وزين الدين" هو العلامة الحافظ عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن العراقي البغدادي كان إماما علامة مقرئا فقيها شافعي المذهب أصوليا منقطع القرين في فنون الحديث وصناعته ارتحل فيه إلى البلاد النائية وشهدت له بالتفرد فيه أئمة عصره وعولوا عليه ولى قضاء المدينة نحو ثلاث سنين وسلوك وانتفع به الأجلاء مع الزهد والورع والتحري في الطهارة وغيرها والتقنع باليسير التواضع والكرم والوفاء أفرد ابنه له ترجمة في تأليف مات في شعبان سنة ست وثمانمائة عن إحدى وثمانين سنة ذكره الحافظ السخاوي في "شرح الألفية"1 "فالصحيح ما اتصل سنده بنقل عدل ضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة قادحة" ظاهره أن هذا رسم ابن الصلاح والزين بلفظه والذي رسمه ابن الصلاح، ليس فيه لفظ قادحة بل لفظه كما قدمنا بعضه وتمامه "وأن لا يكون شاذا ولا معللا".
وأما الزين فإنه زاد وصف العلة بالقادحة في رسمه فكأن المصنف أراد أن هذا الرسم مجموع رسميهما وإن ذكر أحدهما ما لم يذكره الآخر لكن عرفت أن الرسم على اصطلاح المحدثين إذ هذه الكتب ألف في بيان اصطلاح وعرفت أنهم يشترطون في الصحيح السلامة من العلة مطلقا فزيادة القادحة في وصف العلة زيادة قادحة في صحة الرسم على أصلهم فحذف ابن الصلاح لها هو الصواب وإثبات الشيخ زين الدين لها صير رسمه على اصطلاح الفقهاء وهو بصدد بيان اصطلاح المحدثين نعم قال ابن الصلاح: في بيان فوائد قيود حده إنه احترز عما فيه علة قادحة يريد أنه وقع الاحتراز عن هذا بقوله "معللا". ومراده قادحة على رأي المحدثين وإن لم تكن قادحة عند الفقهاء بدليل أنه مثل في النوع الثامن عشر في بحث
ـــــــــــــــــــ
1 "1/2". وله ترجمة أيضا في: إنباه الغمر "2/275"، وشذرات الذهب "7/55"، والضوء اللامع "4/171".

المعلل بأمثلة يقدح بها المحدثون ولا يقدح بها الفقهاء وسيأتي.
وبهذا تعرف أن وصفه للعلة بالقادحة عند بيان القيود وإهمالها في الرسم بيان منه لما عليه المحدثون فإن العلة تقدح عندهم في صحة الحديث وإن لم تقدح عند غيرهم فحذف وصفها بالقادحة في الرسم لأن ألفاظه إنما يؤتى بها للاحتراز والجمع والمنع فلو أتى بقيد القادحة في الرسم لحمل رسمه على اصطلاح الفقهاء فإنه يحترز به عن العلة التي ليست بقادحة عندهم وأتى به في بيان فوائد القيود وصفا كاشفا لا تحترز به عن شيء وبه تعرف أن وصف العلة بالقادحة عند الفقهاء احتراز عن علة لا يقدح بها وأن وصفها في لسان المحدثين إنما هو للكشف لا للاحتراز.
وقلنا في نظمنا للنخبة في رسم الصحيح:
وهو بنقل العدل ذي التمام
في ضبط ما يروى عن الأعلام
منصلا إسناد ما يرويه
لا علة ولا شذوذ فيه
يدعي الصحيح في العلوم عرفا فهذا كما ترى جامع مانع على اصطلاح أئمة الحديث.
وبهذا التحقيق تعلم أن اعتراض الشيخ تقي الدين ليس في محله وتعرف أن قول ابن حجر في جوابه عن اعتراضه إن ابن الصلاح لم يخل بذلك القيد بل قوله في الرسم ولم يكن معللا يريد علة خفيه قادحة مستدلا برسمه للحديث المعلل على اصطلاح المحدثين حيث قال: "أنه الحديث الذي اطلع في إسناده على علة خفيه قادحة" غير صحيح لأنه لم يرد بوصف العلة بالقادحة في رسم العلل إلا القادحة عند المحدثين ولا مفهوم لها بل هي وصف كاشف وتعرف إتقان ابن الصلاح في رسمه وجريه على اصطلاح أئمة الحديث من غير ملاحظة لاصطلاح غيرهم.
وقد حذف المصنف في مختصره من رسم الصحيح قيد القادحة فهو غير موافق لما قررناه هنا فتأمل وتعرف أنه كان يحسن من المصنف تأخير كلام الشيخ تقي الدين وأن يفرد عبارة ابن الصلاح ثم يورد عقبيها اعتراض الشيخ تقي الدين فإنه اعتراض لرسم ابن الصلاح.
"قال الشيخ تقي الدين: لو قيل هذا" أي الرسم الذي ذكره ابن الصلاح وزين الدين رسم "الحديث الصحيح المجمع على صحته لكان" قولا "حسنا لأن من لا يشترط هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف" يريد أنه لو قيل إن رسم ابن الصلاح

الذي سبق اعتراضه له رسم للحديث الصحيح المتفق على صحته لكان حسنا لأن من العلماء من لا يشترط ما ذكر من الشروط فيما يجعله صحيحا فيكون هذا صحيحا عنده لأنه حوى ما شرطه وزيادة "ومن شرط الحد الجمع" لأفراد المحدود "والمنع" لدخول غيرها في، "فقال ابن الصلاح1: هذا صحيح باتفاق أهل الحديث" قلت: ذلك لأنه قد جمع القيود المعتبرة عند أئمة الحديث وهي ثلاثة ثبوتية وهي اتصال السند وعدالة الناقل وضبطه وقيدان عدميان هما عدم الشذوذ والعلة فهذه الخمسة هي المعتبرة في حقيقة الصحيح عند المحدثين لكن تقييده هنا للعلة بالقادحة أخرج منه بعض أفراد الصحيح وهو ما فيه علة غير قادحة فإنه غير صحيح عند المحدثين كما عرفت.
فقوله: "صحيح باتفاق المحدثين" مسلم لكنه غير جماع لخروج بعض أفراد الصحيح منه عندهم كما عرفت وقد قال الشيخ تقي الدين "من شرط الحد الجمع والمنع" وهذا الحد قد جمع أفراد المحدود ومنع ما عندها وإن خرج منه بعض أفراد الصحيح أئمة الحديث وتسمية مثل هذه الرسوم حدودا لا يتم على اصطلاح أهل الميزان فهو من باب التسامح في ذلك.
ويحتمل أن يراد بقوله: "ومن شرط الحد... إلى آخره" الاعتراض على الحد بأنه لم يشمل كل أفراد الصحيح على اصطلاح الفقهاء فلم يكن جامعا فإن أراد هذا فجوابه ما سلف أنه بصدد رسمه على اصطلاح المحدثين ومعناه أخص من معناه عند الفقهاء ولا يتم جمع الأخص والأعم في حد.
وقد أفصح ابن الصلاح عن مراده من بيان معناه عند الفقهاء بما نقله عنه المصنف من قوله "فقال ابن الصلاح: هذا صحيح باتفاق أهل الحديث" ولفظ ابن الصلاح فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث انتهى فتسامح الزين في عبارته ولم ينقلها بلفظها وتبعه المصنف ثم رأيت بعد ككتب هذا بأيام في "شرح الإلمام" لابن دقيق العيد المتن والشرح له ما لفظه إن لكل من أئمة الفقه والحديث طريقا غير طريق الآخر فإن الذي تقضيه قواعد الأصول والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي وجزمه بالرواية ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "20".

معه صدق الراوي وعدم غلطه فمتى حصل ذلك وجاز أن لا يكون غلطا وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه فأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل تمنعهم عن الحكم بصحته انتهى كلامه بنصه وهو صريح في اختلاف الاصطلاحين في مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه والحمد لله.
واعلم أن ابن الصلاح قال في كتابه "علوم الحديث": "أما الحديث الصحيح فهو الحديث المسند الذي يتصل بإسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا" ثم قال: "فهذا الحديث الذي تحكم له بالصحة بلا خلاف بين المحدثين" انتهى كلامه بلفظه.
إذا عرفت هذا عرفت أن تعريف ابن الصلاح جامع مانع على رأي أهل الحديث كما قررناه ولكن المصنف لما أتى بالتعريف الذي نسبه إلى ابن الصلاح والزين وفيه تقييد العلة بالقادحة فخرج بزيادتها عن أن يكون جامعا على رأي المحدثين كما عرفناك.
ثم قال ابن الصلاح:: "فهذا هو الحديث... إلى آخره" مشيرا إلى رسمه فكلامه صحيح وحده جامع مانع على رأي المحدثين فالخلل وقع من نسبة المصنف الحد الذي أتى به إلى الزين وابن الصلاح وزيادة "قادحة" للزين فقط وعرفت أن قول المصنف فقال ابن الصلاح: هذا صحيح نقل لكلام ابن الصلاح بالمعنى على أنه إنما أشار بهذا إلى الحديث حيث قال فهذا الحديث الذي نحكم له بالصحة وعبارة المصنف رحمه الله تعالى قاضية بأن الإشارة إلى الحد الذي ذكره هو.
"قال زين الدين: إنما قيد" أي ابن الصلاح "نفى الخلاف بأهل الحديث لأن في المعتزلة من يشترط العدد1" أي زيادة عدد الرواة على الواحدة "حكاه الحازمي" هو الأمام الحافظ البارع النسابة أبو بكر محمد بن موسى بن حازم الهمذاني أثنى على الذهبي وذكر له عدة مؤلفات منها الناسخ والمنسوخ في الحديث وعدله أشياء غير ذلك2 "في شروط الأئمة" لفظ الزين في شرح ألفيته بعد نقل كلام ابن الصلاح إنما قيد نفي
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث "1/11".
2 قال ابن النجار: كان من اتلأئمة الحفاظ، العالمين بفقه الحديث ومعانيه ورجاله، ثقة حجة زاهدا ورعا عابدا، أدركه أجله شابا. له ترجمة في: البداية والنهاية "12/332"، والعبر "4/254"، ووفيات الأعيان "1/488".

الخلاف بأهل الحديث لأن بعض متأخري المعتزلة يشترط العدد في الرواية كالشهادة إلى آخره فأفادت عبارته أنه أشار ابن الصلاح إلى من يقول أنه يشترط في الرواية عدد الشهادة وهو الاثنان وهذا العدد ذكره أبو منصور عن الجاحظ1.
[وعبارة المصنف بقوله العدد مجملة في قدر العدد فلذا نقلنا لفظ الزين].
وأنه يشترط في الرواية الاثنين عن الاثنين والمصنف قال "قلت: بل مذهب البغدادية من المعتزلة اشتراط التواتر" وهو نقل جماعة عن جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب مع استواء الوسط2 والطرفين3 بشرط أن يسند إلى الحس4 ولا يشترط له عدد معين عند المحققين كما عرف في الأصول.
وكأن المصنف أراد بمجرد الإفادة أن من الناس من يشترط التواتر وإلا فأنه لا يصح تفسير عبارة الزين بمذهب البغدادية من المعتزلة لأن من يشترط التواتر لا يشترط عددا معينا وعبارة الزين أن بعض المعتزلة يشترط العدد في الرواية كالشهادة فلا يصح أن يجعل إشارة إلى القائلين منهم بشرطية التواتر.
فإن قلت: لعل معتزلة بغداد يجعلون للتواتر عددا معينا فيصح تفسير ما قاله الزين بهم.
قلت: لا يصح وإن قالوا بالعدد لاتفاق القائلين إنه لابد وأن يكون أهل التواتر أكثر من أربعةوزين الدين أشار إلى من يقول إن الرواية كالشهادة والشهادة عند
ـــــــــــــــــــ
1 الجاحظ هو/ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني، ويعرف بالجاحظ لجحوظ عينيه، واشتهر بقبيح خلقته، وبلغ من الذكاء وجودة القريحة ما جعله من كبار أئمة الأدب. مات سنة "255هـ". له ترجمة في: وفيات الأعيان "1/388"، وطبقات الأدباء "254"، وتاريخ بغداد "12/214".
2 يقصد بالاستواء: الاستواء في الكثرة، وإن تفاوت العدد مثل أن يكون عدد الطبقة الأولى ألفا، وعدد الثانية تسعمائة، وعدد الثالثة ألفا وتسعمائة.
3 الطرفين: المراد بهما الطبقة الأولى من الرواة، وهي التي نقلت الخبر عن مصدره الأصلي، والطبقة الأخيرة وهي التي ألقت الخبر إلى السامع.
4 الحسن: معناه أن يكون ذلك الخبر مما يدرك بالحس، ويكون مستند المخبرين هو الإحساس على وجه اليقين.
وذلك مثل أن يقولوا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا، وسمعناه يقول كذا، فإن كان الخبر مما لا يدرك بالحس لا يسمى متواترا. "توجيه النظر" ص "34" بتصرف يسير.

الإطلاق تتبادر إلى الاثنين على أنا لو حملنا عبارته على أكثر نصاب الشهادة فهو أربعة [كما في الزنا] والتواتر لا يكفي فيه الأربعة.
واعلم أنه قال الحافظ ابن حجر إنه رأي في تصانيف الجاحظ أحد المعتزلة أن الخبر لا يصح عندهم إلا إن رواه أربعة وعن أبي علي الجبائي أحد المعتزلة كما حكاه أبو الحسين البصري في المعتمد أن الخبر لا يقبل إذا رواه العدل الواحد إلا إذا انضم إليه خبر عدل آخر وعضده موافقة ظاهر الكتاب أو ظاهر خبر آخر أو يكون قد اشتهر بين الصحابة أو عمل بعضهم انتهى.
وفي مختصر المنتهى لابن الحاجب أن الجبائي يقول لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلا وأما وجوب العمل به فإنه نسب عدم وجوب العمل به إلى القاشاني وابن داود والرافضة وجعلها مسألتين.
"وعندي أنه" أي ابن الصلاح "لو لم يقيد نقي الخلاف بذلك" أي بقوله عند المحدثين "كما فعل الشيخ تقي الدين" ابن دقيق العيد فإنه قال لو قيل هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته فإنه أطلق الإجماع ولم يقيده بالمحدثين ولا غيرهم لكان أي الحد مع عدم التقييد "صحيحا ويحمل على إجماع الصحابة" أي يحمل رسم ابن الصلاح للصحيح بتلك القيود على أنه أراد إجماع الصحابة والمراد إجماعهم على قبول من له تلك الأوصاف لا أنهم رسموا الصحيح فإن هذا التقسيم للحديث عرف حادث بعد عصرهم "ومن بعدهم" من التابعين "حتى حدث هذا الخلاف" أي خلاف المعتزلة.
قلت: في كلام المصنف رحمه الله تعالى أبحاث:
أحدها: أن الصحابة لم يجمعوا على قبول من له هذه الأوصاف فإنه سيأتي للمصنف رحمه الله تعالى أن عليا كرم الله وجهه يحلف الراوي وقد علم من كتب الحديث أن عمر1 رضي الله عنه رد خبر المغيرة ورد خبر أبي موسى حتى انضم إليهما غيرهما ورد خبر فاطمة بنت قيس ورد على رضي الله عنه خبر معقل بن سنان وقال أعرابي بوال على عقبيه وإن قيل إنه لم يصح عنه ثم كانوا يقبلون
ـــــــــــــــــــ
1 عمر هو: ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي المدني أمير المؤمنين، كان من قديمي الإسلام والهجرة، وممن صلى إلى القبلتين، وشهد المشاهد كلها. ومات سنة "23". له ترجمة في: أسد الغابة "4/145"، والإصابة "2/511"، وشذرات الذهب "1/33".

المرسل فإنهم قالوا إن ابن عباس1 رضي الله عنهما لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم: إلا بضعة عشر حديثا وقيل أقل وروي الكثير الطيب عن الصحابة من دون ذكرهم وكذلك غيره.
الثاني: أن ابن الصلاح قد صرح بمراده من قيد نقي الخلاف فإنه قال باختلاف بين أهل الحديث وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه أو لاختلاف في اشتراط بعض هذه الأوصاف كما في المرسل انتهى فأفاد أن المحدثين يختلفون في صحته لعدم وجود بعض الأوصاف التي هي الاتصال بنقل العدل الضابط عن مثله وعدم الشذوذ والعلة فإن وجدت فهو عندهم صحيح بلا خلاف بينهم وإن فقد البعض منها جاء فيه الخلاف ومثل بالمرسل لأنه فقد الاتصال وقد ذهب أقوام إلى أنه صحيح ولذا قال المصنف في مختصره في رسم الصحيح إنه نقل عدل تام الضبط متصل السند غير معل ثم قال وعند من يقبل المرسل نقل عدل غير مغفل بصيغة الجزم دون التمريض والبلاغ فجعل المرسل قابليه قسما من الصحيح.
وإذا عرفت هذا عرفت أن ابن الصلاح لم يرد بقوله بلا خلاف بين أهل الحديث الإشارة إلى من يشترط العدد من المعتزلة كما قاله زين الدين بل الإشارة إلى خلاف أهل الحديث الذين ألف كتابه في اصطلاحهم ولذا قال قد يختلفون أي أهل الحديث أنفسهم فالحديث إن جمع تلك القيود اتفقوا على صحته وإن فقد بعضها جاء فيه الخلاف بين أهل الحديث إذا منهم من لا يشترط تمام الضبط فيدخل الحسن في الصحيح كما سيأتي.
وبه تعرف أنه لا بد من التقييد لنفي الخلاف بالمحدثين إذ التأليف على اصطلاحهم والخلاف بينهم لا أنه إشارة إلى من يشترط العدد وتعرف أنه لا يريد إجماع الصحابة وكيف يحمل كلامه على الإشارة إلى من يشترط العدد كما زعمه زين الدين وهو يقول لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه أو لاختلافهم في اشتراط بعض الأوصاف - أي في شرطيته - كالاتصال فان من يقبل المرسل لا يشترطه ولم يقل
ـــــــــــــــــــ
1 ابن عباس هو: عبد الله بن عباس القرشي الهاشمي المكي، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر. مات سنة "70". له ترجمة في: أسد الغابة "3/290"، والإصابة "1/322".

لاختلافهم هل تكفي هذه الأوصاف أو لابد من زيادة عليها حتى يفسرها باشتراط العدد.
وبه أيضا تعرف أن قول المصنف قلت: بل مذهب البغدادية من المعتزلة اشتراط التواتر ليس في محله.
البحث الثالث: أن من جعل ذلك القيد للإشارة إلى من يشترط العدد مبنى على أنه أريد بالعدل الضابط في الرسم الواحد فلا يدخل فيه الاثنان ولا أكثر منهما ولا تصح إرادته لأنه يخرج حينئذ عن الرسم الحديث العزيز وهو ما يرويه اثنان عن اثنين والمشهور وهو ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين والكل من قسم الآحاد ورسم الصحيح عام لهما فلابد من أن يراد بالعدل والضابط والجنس ليشمل ما ذكر وحينئذ لا يخرج عنه من يشترط العدد باثنين أو أكثر.
البحث الرابع: كلام الزين والسيد محمد رحمهما الله تعالى أن شرط العدد إنما هو لجماعة غير أهل الحديث غير صحيح فإن أهل الحديث قاطبة قد اعتبروا العدد في العزيز وهو أحد أقسام الآحاد كما عرفت وإنما اختص الجبائي بأنه حصر المقبول من الآحاد عليه فما فوقه ثم أنه قد نقل ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول أن شرط الشيخين أن يروي الحديث الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المشهور وله رواة من الطبقة الرابعة ثم يكون شيخ البخاري ومسلم متقنا مشهورا بالعدالة في روايته ثم قال وهذا الشرط الذي ذكرناه ذكره الحاكم ثم رد ابن الأثير على من قال إن هذا لا يتم إذ في البخاري أحاديث على غير هذا الشرط كما هو معروف في كتابه وقرر أن هذا شرط الشيخين.
وقال الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها1 عند ذكر العزيز وهو أن لا يروي الحديث أقل من اثنين وليس شرطا للصحيح خلافا لمن زعمه وهو أبو على الجبائي من المعتزلة وإليه يومئ كلام الحاكم2 في علوم الحديث قال الصحيح أن يرويه
ـــــــــــــــــــ
1 ص "24".
2 الحاكم هو: الحافظ الكبير إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن حمدويه الضبي الطهماني النيسابوري. كان إمام عصره في الحديث العارف به معرفته، ثقة يميل إلى التشيع. مات سنة "405". له ترجمة في: البداية والنهاية "11/355".، والعبر "3/91"، ووفيات الأعيان "1/484".

الصحابي الزائل عنه اسم الجهالة بأن يكون له راويان ثم يتداوله أهل الحديث إلى وقتنا كالشهادة على الشهادة وصرح به القاضي أبو بكر بن العربي1 في شرح البخاري.
ثم قال: قال ابن رشيد2: ولقد كان يكفي القاضي في بطلان ما ادعى أول حديث فيه مذكور. انتهى.
قلت: وإليه أشرنا في نظم النخبة بقولنا:
وليس شرطا للصحيح فاعلم وقيل شرط وهو قول الحاكم ومراده ابن رشيد بأول حديث: "إنما الأعمال بالنيات" 3 وهو مروي بالآحاد فإنه لم يروه إلا عمر رضي الله عنه ولم يروه عنه إلا علقمة ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن ابراهيم ثم تفرد به يحيى بن سعيد عن محمد وكذلك آخر حديث مذكور فيه وهو حديث: "كلمتان خفيفتان على اللسان...." إلخ4 لم يروه إلا أبو هريرة وتفرد به عنه أبو زرعة وتفرد به عنه عمارة بن القعقاع وتفرد به محمد بن فضيل وعنه انتشر.
وإذا عرفت هذا عرفت أن في اعتبار خلافا لبعض أئمة الحديث وادعي أنه شرط البخاري لكن التحقيق خلاف ذلك.
"وسوف يأتي تعريف الحسن والضعيف وغيرهما إن شاء الله تعالى" بعد استيفاء الكلام على ما يتعلق بالصحيح.
ـــــــــــــــــــ
1 أبو بكر بن العربي هو: العلامة الحافظ القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد الإشبيلي. جمع وصنف وكان متبحرا في العلم، ثاقب الذهن، كريم الشمائل. مات سنة "453". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/228"، والعبر "3/340"، ووفيات الأعيان "1/489".
2 ابن رشيد هو: الإمام المحدث ذو الفنون محب الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن رشيد الفهري السبتي. قال ابن حجر: طلب الحديث فمهر فيه. وقال لسان الدين بن الخطيب: كان إماما، علي الإسناد، تام العناية بصناعة الحديث. مات سنة "721". له ترجمة في: البدر الطالع "2/234"، والدرر الكامنة "4/229".
3 البخاري "1/2"، ومسلم في: الإمارة: حديث "155"، وأحمد "1/25".
4 البخاري "8/107".، ومسلم في: الذكر والدعاء: حديث "13"، وأحمد "2/232".

مسألة 2 [في بيان مراد أهل الحديث بقولهم: هذا حديث صحيح]
"المراد" أي مراد أهل علوم الحديث "بالصحيح والضعيف" ذكره وإن كان تعريفه متأخرا ذكرا لحكم النقيض عند حكم نقيضه "قال زين الدين: وحيث يقول المحدثون هذا حديث صحيح فمرادهم فيما ظهر لنا عملا بظاهر الإسناد لا أنه مقطوع بصحته" 1 هو مأخوذ من كلام ابن الصلاح فإنه قال ليس من شرطه يريد الصحيح أن يكون مقطوعا به "في نفس الأمر" 2.
وهذا كلام صحيح "لجواز الخطأ والنسيان على الثقة" سواء أريد المصحح له من الرواة إلا أنه لا يخفي أن هذا الإخبار عن مرادهم قليل الإفادة لأنه معلوم أن ما في نفس الأمر لا يطلع عليه إلا الله تعالى وأنه لا يكلف أحدا إلا بالعمل بما خوطب به وظهر له صحته أو غيرها.
وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "إنما أقطع له قطعة من نار" 3 لأنه يحكم بما أوجب عليه الحكم به عنده وهو حصول نصاب الشهادة مثلا وإن كانت كذبا في نفس الأمر وقد نقل إليه صلى الله عليه وسلم أن رجلا يأتي أم ولده فأرسل عليا عليه السلام لقتله فوجده محبوبا فتركه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحسنت" 4.
ولكنه ذكره المصنف ليتوصل به إلى قوله: "هذا هو الصحيح الذي عليه أكثر أهل العلم خلافا لمن قال: إن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر كحسين الكرابيسي" نسبة إلى الكرباس بالكسر الثوب الأبيض من القطن معرب فارسيته بالفتح غيروه لغزة
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث "1/11".
2 علوم الحديث ص "21".
3 البخاري "9/32، 86". وأبو داود "3583"، والبهقي "10/149".
4 مسلم في: التوبة: حديث "59"، وأحمد "3/281".

فعلال والنسبة كرابيسي كأنه شبه بالأنصاري1 وإلا فالقياس كرباسي قاله في القاموس "وغيره".
واعلم أن ظاهر مراده بالعلم العلم بالمعنى الأخص إذ العلم بالمعنى الأعم يشمل الظن لكن لما قال الظاهر قال الحافظ ابن حجر إنما يكون ذلك مخالفا لو قال يفيد العلم وأطلق فأما الظاهر وهو غلبة الظن على صحته فلا خلاف في أنه يفيده والله أعلم بمراد الكرابيسي فإن العبارة المذكورة هنا لا تصرح بالمقصود وقد نقل عن أبي بكر القفال مثلها وأول ذلك بغالب الظن لأن العلم لا يتفاوت. اهـ.
قلت: يعني لا يقال فيه ظاهر وغير ظاهر بخلاف الظن.
"وحكاه ابن الصباغ" بفتح الصاد المهملة فموحدة مشدده فغين معجمة بعد ألفه هو أبو نصر عبد الله بن محمد بن عبد الواحد فقيه العراقيين في وقته مؤلف كتاب الشامل في فقه الشافعية والعدة في الأصول "في العدة عن قوم من أصحاب الحديث" قد علم أن خبر الواحد يفيد الظن فإذا حفته القرائن أفاد العلم كما قال الحافظ في النخبة وشرحها2 وقد يقع فيها أي في أخبار الآحاد المنقسمة إلى مشهور وعزيز وغريب وهي أقسام الآحاد ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار. اهـ.
وقلنا في نظم النخبة:
وقد يفيد العلم أعني النظري إذا أتت قرائن للخبر واعلم أن الأقوال في خبر الواحد في إفادته العلم ثلاثة كما ذكره ابن الحاجب والعضد وغيرهما:
الأول: أنه يفيد العلم بنفسه مطردا أي كلما حصل خبر الواحد حصل العلم وهو قول أحمد بن حنبل3.
و الثاني: أنه يحصل به العلم ولا يطرد أي ليس كلما حصل حصيل العلم به.
الثالث: أنه لا يحصل العلم به إلا بقرينة.
ـــــــــــــــــــ
1 تدريب الراوي "1/75".
2 ص "26".
3 أحمد بن خنبل بن هلال الشيباني المروزي، أبو عبد الله أحد الأئمة، حافظ فقيه، حجة زاهد ورع، وهو رأس الطبقة العاشرة. مات سنة "141". له ترجمة في: تاريخ بغداد "4/412"، وشذرات الذهب "2/96"، ووفيات الأعيان "1/47".

والمسألة مستوفاة هنالك والمراد بيان أن المسألة من المسائل المعروفة والخلاف فيها واسع فأحد أقوال أحمد كقول الكرابيسي وكأنه الذي أراده ابن الصباغ بقوله عن قوم من أصحاب الحديث والحق أن فيه ما يفيد العلم كما هو أحج الأقوال.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يبعث الآحاد إلى الأقطار يدعون إلى الإيمان ولابد فيه من العلم ولا يكفي فيه الدخول بالظن وكان يرتب على خبر الآحاد ما يرتب على ما يفيد العلم كقبوله خبر الوليد بن عقبة في قصة بني المصطلق وإرادته صلى الله عليه وسلم غزوهم استنادا إلى خبره حتى أنزل الله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات: 6] ثم المراد من العلم هنا بخبر الآحاد العلم بالمعنى الخاص وهو الاعتقاد الجازم المطابق الذي لا يبقى معه شك ولا شبهة فقول الزين العلم الظاهر يريد به هذا المعنى إذ العلم بالمعنى الأعم لا خلاف في إفادة خبر الآحاد له على أن قول الكرابيسي العلم الظاهر يحتمل أه لا يريد به ما في نفس الأمر بل أنه يفيد خبر الآحاد العلم المذكور ظاهر لا قطعا.
"قال الباقلائي" هو أبو بكر محمد بن الطيب الباقلائي بفتح الموحدة وبعد الألف قاف ثم لام ألف وبعده نون نسبة إلى الباقلا وبيعه وأنكر الحريري هذه النسبة وقال من قصر الباقلا قال باقلي ومن مد قال باقلاوي وباقلائي وفي جامع الأصول قولهم باقلائي على خلاف القياس مثل صنعائي ذكر ابن خلكان أنه سكن بغداد وصنف التصانيف الكثيرة في علم الكلام وسمع الحديث "أنه" أي القول بإفادة خبر الواحد العلم "قول من لا يحصل علم هذا الباب" أي باب ما تفيده أخبار الآحاد ولا يخفى ما تقدم من قول أحمد وغيره في إفادته إياه.
والحاصل أنه قبل بإفادته العلم وعدمها مطلقا وإفادته تارة وعدمها أخرى فكيف يقال أنه قول من لا يحصل على هذا الباب على أنه لا يخفي أن من أخبر نفسه بأنه حصل له العلم بأي سبب من الأسباب المحصلة له يصدق في نفسه وأما حكمه بأنه تحصل لغيره ما حصل له من العلم بذلك السبب فهذه دعوى على الغير مستندها القياس على النفس واختلاف الإدراك معلوم فلا يكاد يستوي اثنان في رتبه فالقول بأن هذا السبب الفلاني مثلا يفيد العلم أولا يفيده لكل من حصل له ليس بمقبول.
"قال زين الدين: إن أخرجه" أي الحديث الصحيح الأحادي "الشيخان" البخاري

ومسلم أي اتفقا على إخراجه على الصحابي "أو" انفرد "أحدهما" بإخراجه "فاختيار ابن الصلاح القطع بصحته وخالفه المحققون كما سيأتي" 1 للمصنف في ذكر حكم الصحيحين ويأتي الكلام عليه.
"وكذا قولهم" أي أئمة الحديث "هذا حديث ضعيف مرادهم فيما لم يظهر لنافيه شروط للصحة" أي ولا الحسن "لا أنه كذب في نفس الأمر" هذا إذا كان تضعيفه لكذب راوية وإلا فإن أسباب التضعيف كثيرة كما يأتي فلو قال لا أنه ضعيف في نفس الأمر لكان أشمل وفي قوله وإصابة من هو كثير الخطأ إشارة إلى ما صوبنا به عبارته إذ كثير الخطأ ليس خبره كذبا بل مردودا "لجواز صدق الكاذب وإصابة من هو كثير الخطأ" 2.
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث "1/12".
2 فتح المغيث "1/28"، وتدريب الراوي "1/76".

مسألة 3 [من علوم الحديث: في معرفة أصح الأسانيد]
"أصح الأسانيد- واختلفوا" أي أئمة الحديث على ثلاثة أقوال إطلاقين وتفصيل كما ستعرفها "هل يمكن معرفة" المحدث "أصح الأسانيد" وكذا يجري في الحديث نفسه.
قال ابن الصلاح1: ولهذا ترى الإمساك عن إسناد أو حديث إلى آخره فليس الكلام مقصورا على الأسانيد كما هنا.
قلت: كأنه حذف الزين قوله أو حديث لأنه قال الحافظ ابن حجر لا يحفظ عن أحد من أئمة الحديث أنه قال حديث كذا أصح الأحاديث على الإطلاق لأنه لا يلزم من كون الإسناد أصح من غيره أن يكون المتن المروي به أصح من المتن المروي بالإسناد المرجوح لاحتمال انتفاء العلة عن الثاني: ووجودها في الأول أو كثرة المنابعات وتواترها على الثاني: دون الأول فلأجل هذا ما خاض الأئمة إلا في الأول خاصة وكأنه قال هل يمكن أو لا يمكن.
"قال زين الدين: والمختار أنه" أي معرفة الأصح ذكر الضمير لإضافته إلى المذكر "لا يصح" الظاهر أن يقال لا يمكن أنه عنوان البحث فكأنه أراد الصحة الإمكان "لأن تفاوت مراتب الصحة" التي يفيدها صحيح وأصح إلا أن ابن الصلاح ذكر هذا البحث بعد بيان مراتب الصحة فإنه قال الصحيح يتنوع إلى متفق عليه ومختلف فيه ويتنوع إلى مشهور وغريب وبين ذلك ثم قال إن درجات الصحيح تتفاوت في القوة بحسب تمكن الحديث من الصفات المذكورة التي تنبني الصحة عليها وتنقسم باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العاد الحاصر2. اهـ.
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "22".
2 علوم الحديث ص "22".

وهذا التفاوت في المراتب التي علل بها زين الدين لا يتضح إلا بعد معرفة هذه التقاسيم فلو أشار إليها كان أتم في الإفادة لقوله: "مترتب على تمكن الإسناد من شروط الصحة" ولا سبيل إلى معرفة تمكنه منها إلا بعد معرفة هذه التقاسيم ليعرف الأعلى مرتبة من الأدنى كما قال: "ويعز وجود أعلى درجات القبول في كل فرد فرد" من الرواة: بأن يكون أكمل رواة الأحاديث عدالة وضبطا بالنسبة إلى كل راو في الدنيا للحديث النبوي "في ترجمة واحدة بالنسبة لجميع الرواة" إذ قد لا يعز في بعض الرواة أو في تراجم معقودة رواة متعددين كما يأتي أنه قد حكم على بعض التراجم بالنسبة إلى راو معين وهذا التعليل يشعر بأنه يمكن وإنما يعز ولو عبر المصنف في أول البحث بقوله يعز معرفة أصح الأسانيد لكان أوفق لما ذكره هنا.
نعم عبارة الحافظ بلفظ لا يمكن أن يقطع الحكم في أصح الأسانيد لصحابي واحد وكأنه لذلك قال المصنف "وقريب من هذا" أي من كلام الزين "ما قاله الحاكم" أي أبو عبد الله الإمام الكبير الحافظ الشهير الضبي النيسابوري متفق على إمامته وجلالته ويأتي ذكر كتابه المستدرك وكلام الأئمة فيه وهذا الذي ذكره المصنف ذكره الحاكم في كتابه علوم الحديث "وسيأتي كلامه" قريبا.
وهذا الإطلاق الأول في مسألة والإطلاق الثاني: ما أفاده قوله: "قال ابن الصلاح: إن جماعة من المحدثين خاضوا غمرة ذلك" الغمرة بالغين المعجمة فيم ساكنة فراء من غمرة الماء غطاه ففي الكلام استعارة شبه البحث عن أصح الأسانيد بالبحر فأثبت له الخوض والغمرة وهذا دليل على أن هؤلاء الخائضين يرون إمكان معرفة أصح الأسانيد بل وجزموا فيما عينوه.
وهذا القسم يقابل قول المصنف يمكن وكأنه قال أولا ثم ذكر القسم الأول وأخذ في ذكر الثاني "فاضطربت أقوالهم" اختلفت في تعيين أصح الأسانيد.
"فقال البخاري: أصح الأسانيد" زاد ابن الصلاح لفظ كلها وكذلك الحاكم في الرواية عن البخاري وما كان يحسن حذفها إذا فيها التنصيص على المارد أي كل سند في الدنيا "ما رواه مالك1" الإمام المعروف "عن نافع" مولى عبد الله بن عمر "عن ابن
ـــــــــــــــــــ
1 مالك هو: ابن أنس بن مالك الأصبحي الحميري أبو عبد الله المدني. شيخ الأئمة، وإمام دار الهجرة. قال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم. مات سنة "179". له ترجمة في: البداية والنهاية "10/174"، وشذرات الذهب "1/289"، ووفيات الأعيان "1/439".

عمر" هو الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب أخرج هذا الحاكم عن البخاري بسنده فهذا رأي البخاري ولا يصح أنه يريد أصح أسانيد عبد الله بن عمر عنده في نظره لأنه صرح بقوله كلها فإذا هذا الحكم بالنسبة إليه ليس محلا للخلاف إذ محله بالنسبة إلى كل حديث يروى ثم إذا كان البخاري عين الأصح عنده فلا يقال إنها اضطربت أقوال من عين رتبة الأصح عنده لأنه أخبر عن رأيه وما حصل عنده فكل قائل قوله غير مضطرب في نفسه ولا يلزمه القول بقول غيره إذ هو مخبر عما صح له.
"وقال عبد الرزاق" هو الصنعاني الإمام المعروف صحاب المسند "وأبو بكر بن أبي شيبة" هو عبد الله بم محمد بن أبي شيبة صاحب المسند والمصنف "أصحها مطلقا الزهري" هو محمد بن شهاب التابعي المعروف منسوب إلى زهرة بن كلاب بطن من قبيلة من قريش منهم أم النبي صلى الله عليه وسلم: "عن علي بن الحسين" زين العابدين وإمام المتقين شهرة أمره تغني عن ذكره "عن أبيه الحسين بن علي" ريحانة المصطفى وسيد الشهداء وقتيل كربلاء "عن جده" على بن أبي طالب أمير المؤمنين أبي الحسن خامس أهل الكساء وسيد الأتقياء وإمام الشهداء قد بينا بعض ما يجب من بيان فضائله في الروضة الندية شرح التحفة العلوية "سلام الله عليهم أجمعين" وهذه الرواية عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة أخرجها الحاكم في علوم الحديث يسنده وفيها أصح الأسانيد كلها.
"وقال أحمد" هو إمام الحدثين أبو عبد الله أحمد بن حنبل صاحب المسند "واسحاق" هو أبو يعقوب اسحق بن ابراهيم الحنظلي من أئمة الحديث عرف بابن راهوية "أصحها" مطلقا "الزهري عن سلام ابن عبد الله بن عمر عن أبيه" عبد الله بن عمر بن الخطاب.
"وقال عمر بن علي الفلاس" أخرجه الحاكم عنه وفي كتاب ابن الصلاح عمرو بفتح العين وهي نسخة في كتاب المصنف والفلاس بفتح الففاء فتشديد اللام فسين مهملة "وسليمان بن حرب" وفي كتاب علوم الحديث للحاكم ابن داود وفي نكت الحافظ ابن حجر ابن حرب مثل ما هنا "وعلي بن المديني" وهو الحافظ المعروف شيخ البخاري "أصحها محمد بن سيرين" التابعي المعروف بتعبيره الأحلام "عن عبيدة" بفتح المهملة فموحدة فمثناة تحتية فدال مهملة "السلماني" بالسين المهملة وسكون اللام ويقال

بفتحها وهو أحد الرواة "عن علي بن أبي طالب عليه السلام إلا أن علي بن المديني قال: أجود الأسانيد" كأنه عبارة عن أصحها ليوافق ما تقدم [من قوله أصحها] "عبد الله بن عون عن" محمد "ابن سيرين عن عبيدة عن علي" فشرط أن يكون الراوي عن محمد بن سيرين عبد الله بن عون.
"وقال سليمان بن حرب: أصحها أيوب" السختياني الثقة المعروف "عن محمد بن سيرين بن عن عبيدة عن علي" فشرط في الراوي عن ابن سيرين أن يكون أيوب فقد اتفق الثالثة: أن أصحها محمد بن سيرين عن عبيدة عن عي وإن اختلفوا في الراوي عن محمد وظاهر هذا أن الفلاس لم يشترط راويا معينا عن محمد.
"وقال ابن معين" بفتح الميم فعين مهملة فمثناة تحتية فنون هو يحيى بن معين الإمام الحافظ صاحب الجرح والتعديل "أصحها سليمان ابن مهران" بسكر الميم وسكون الهاء فراء "الأعمش" بعين مهملة فشين معجمة حافظ مشهور ثقة عالم رأي أنس بن مالك ولم يرزق السماع منه فهو تابعي برؤية الصحابي وأما ما يرويه عنه فهو مرسل أرسل عن كبار التابعين "عن ابراهيم بن يريد النخعي" بفتح النون وفتح الخاء المعجمة فعين مهملة فقيه كوفي أحد الأئمة المشهورين تابعي رأي عائشة ولم يسمع منها وهو منسبوب إلى النخع قبيلة كبيرة من مذحج باليمين "عن علقمة" بعين مهملة مفتوحة فلام فقاف فقيه ثبت تابعي عالم "ابن قيس" ابن عبد الله النخعي الكوفي "عن عبد الله بن مسعود" أخرجه الحاكم بسنده عن يحيى زاد فقال له أي ليحيى إنسان الأعمش مثل الزهري فقال برئت من الأعمش أن يكون مثل الزهري كان يرى العرض والإجازة وكان يعمل لبني أمية وكان الأعمش فمدحه فقال فقير صبور مجانب للسلطان.
"فهذه الأقوال" وهي خمسة "ذكرها ابن الصلاح1 قال زين الدين" بعد سياقه لكلام ابن الصلاح "وفي المسألة أقوال أخر ذكرتها في الشرح الكبير" الذي شرح به ألفيته.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أقوالا أخر نص أئمة من أئمة الحديث بأنها أصح الأسانيد غير ما ذكر.
"وفيه" أي في الشرح الكبير "فوائد مهمة لا يستغني عنها طالب الحديث" 2 لنفعها
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "22- 23".
2 فتح المغيث "1/14".

في ذلك الفن فهذان الإطلاقان إلى هنا والتفصيل ما أفاده قوله "قال" أي زين الدين "ولا يصح تعميم الحكم في أصح الأسانيد" كسند حديث أبي هريرة مثلا "في ترجمة لصحابي واحد بل ينبغي أن تقيد كل ترجمة منها بصاحبيها" على جميع تراجم الصحابة أي لا يحكم بأنها أصح أسانيد الأحاديث كلها وهذا منه رد لما قاله من ساق كلامهم من الأئمة في حكمهم بأن أصح الأسانيد مطلقا رواية الصحابي الذي عينوه وهذا الكلام من كلام الحاكم فإنه قال بعد سياقه لما ذكر من التراجم التي حكم عليها بأنها أصح الأسانيد وهي التي سلف ذكرها قريبا ما لفظه إن هؤلاء الأئمة الحافظ قد ذكر كل واحد منهم ما أدى أليه اجتهاده في أصح الأسانيد ولكل صحابي رواة من التابعين ولهم أتباع وأكثرهم ثقات.
ثم ما نقله المصنف بقوله: "قال الحاكم: لا يمكن أن يقطع الحكم في أصح الأسانيد لصحابي واحد" ثم قال الحاكم: "فنقول وبالله التوفيق" في بيان أصح الأسانيد وتقييد كل ترجمة بصحابيها "إن أصح أسانيد أهل البيت عليهم السلام" ما رواه "جعفر" هو جعفر الصادق "ابن محمد" هو محمد الباقر "عن أبيه" محمد "عن جده" علي بن الحسين زين العابدين وهذا الذي نقله المصنف هو لفظ الحاكم كما رأيناه في كتاب الحاكم إلا أنه لا يخفي أن الظاهر أن يراد بأبيه محمد لأن علي بن الحسين جد جعفر لا أبوه مع أنه مشكل فإن ضمير جده على هذا يكون لعلي بن الحسين فأنه جد جعفر ولكن علي بن الحسين لم يسمع من علي بن أبي طالب فيكون منقطعا فيكف يكون من أصح الأسانيد وإذا أعيد ضمير أبيه إلى علي بن الحسين وإن كان جدا لجعفر فإنه يصح إطلاق الأب عليه لغة وحينئذ فلا انقطاع إلا أنه لا يتم إلا بعد ثبوت سماع جعفر من جده علي بن الحسين ولأن هذا خلاف القاعدة لهم فإنهم إذا قالوا عن أبيه عن جده لا يريدون إلا أنه يروي عن أبيه وأبوه يروي عن جده وقد ثبت سماع جعفر عن جده علي بن الحسين لأن مولد جعفر سنة ثمانين ووفاة علي بن الحسين سنة ثلاث وتسعين فقد صحب جعفر جده علي بن الحسين ثلاث عشرة سنة فسماعه منه يقين كما أن سماع زين العابدين من أبيه الحسين السبط يقين فإنه حضر الطف مع أبيه وعمره ثلاث وعشرون سنة "عن جده" الحسين السبط "عن علي" رضي الله عنهم "إذا كان الراوي عن جعفر ثقة" نقل عن المصنف أنه إنما قيد الحاكم بذلك لكثرة رواية الضعفاء عنه.

"قلت: قال أحمد بن حنبل: هذا إسناد لو مسح به على مريض لشفي رواه" عن أحمد "المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "في المجموع المنصوري" وذكره السمهودي في جواهر العقدين من طريق المحدثين يريد أنه يشفي لبركة هؤلاء الأئمة وكأنه يريد لو كتب ومسح به أولو قرئ على المريض ومسح بيده القارئ.
قال الحاكم: "وأصح أسانيد أبي بكر" رضي الله عنه لفظ الحاكم الصديق عن أبي بكر وكذا نقله عن الزين ما رواه "إسماعيل بن أبي خالد" البجلي ثقة روي عن كبار التابعين "عن قيس ابن أبي حازم" بالحاء المهملة والزاي وقيس هو أبو عبد الله الكوفي البلخي مخضرم من كبار التابعين وهو ثقة "عن أبي بكر وأصح أسانيد عمر رضي الله عنه الزهري عن سالم" بن عبد الله بن عمر "عن أبيه" عبد الله "عن جده" عمر.
وقال ابن حزم: أصح طريق يروي في هذه الدنيا عن عمر رواية الزهري عن السائب بن يزيد عنه.
"وأصح أسانيد أبي هريرة: الزهري عن سعيد بن المسيب" بفتح المثناة وروي عنه أه كان يقول بكسرها تابعي مشهور فاضل "عن أبي هريرة".
"وأصح أسانيد ابن عمر: مالك عن نافع عن ابن عمر" وهي التي قال البخاري إنها أصح الأسانيد مطلقا كما سلف.
"وأصح أسانيد عائشة: عبيد الله بن عمر" ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب كان أحد الأعلام "عن القاسم" بن محمد ابن أبي بكر "عن عائشة" عمته أخت أبيه أخرج الحاكم عن يحيى بن معين أنه قال عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن عائشة ترجمة مشبكة بالذهب.
"وأصح أسانيد عبد الله بن مسعود: سفيان" هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد "الثوري" بالمثلثة مفتوحة وسكون الواو فراء نسبة إلى ثورين عبد مناف وهو رأس في العلم والورع والتقوى "عن منصور" هو ابن المعتمر "عن ابراهيم النخعي عن علقمة" تقدم "عن ابن مسعود".
"وأصح أسانيد أنس بن مالك: عن الزهري عن أنس" فهذه أصح الأسانيد بالنظر إلى الصحابي من غير اعتبار محل وأما باعتبار المحلات فقال:
"وأصح أسانيد المسكين من الرواة: سفيان" بسين مهملة مثلثة الحركات "ابن عيينة"

بضم العين المهملة وفتح المثناة التحتية وسكون المثناة التحتية وفتح النون هو أبو محمد سفيان ثبت حجة معروف "عن عمرو بن دينار" بالدال بلفظ الدينار المعروف "عن جابر بن عبد الله" .
"وأصح أسانيد اليمانيين" جمع يماني منسوب ويقال في النسبة أيضا يمني ويمان كقاض كما في القاموس والمراد رواة "معمر" بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الميم الثانية فراء هو أبو عروة بن راشد الأزدي نزيل اليمن ثقة فاضل "عن همام" بفتح الهاء وتشديد الميم ابن منبه هو تابعي وهو أخو وهب بن منبه اليماني صاحب الأخبار "عن أبي هريرة".
"وأثبت أسانيد المصريين" أي أصحها "الليث" 1 ابن سعد أحد أعلام عصرة "عن يزيد بن أبي حبيب" المضري أي حازم اسم أبيه سويد ثقة فقيه كان يرسل "عن أبي الخير" بالخاء المعجمة وتحتية اسمه مرثد بن عبد الله ثقة فقيه "عن عقبة" بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة "ابن عامر" وعقبة صحابي معروف.
"وأثبت أسانيد الشاميين" جمع شامي منسوب إلى شام ويقال في النسبة إلى الشام أيضا شام وشامي كما في القاموس "الأوزاعي" بفتح الهمزة وسكون الواو فزاي مفتوحة مفهمة وهو أبو عمر عبد الرحمن ابن عمرو ثقة جليل2 "عن حسان" بمهملتين الثانية مشددة "ابن عطية" هو أبو بكر حسان الدمشقي فقيه عابد "عن الصحابة".
"وأثبت أحاديث الخراسانيين: الحسين بن واقد" اسم فاعل من الوقود ولي قضا مرو وكان يحمل حاجته من السوق وثقة ابن معين وغيره واستنكر أحمد بعض حديثه "عن عبد الله بن بريده" تصغير برد الحالف التاء "عن أبيه" بريدة بن الحصيب الصحابي المعروف قال الحاكم: بعد سياقه لهذا ولعل قائلا يقول هذا الإسناد لم يخرج منه في الصحيحين إلا حديثان فيقال له أوجدنا للخراسانيين أصح من هذا الإسناد وكلهم ثقات وخراسانيون وبريدة بن الحصيب مدفون "بمرو". انتهى.
ـــــــــــــــــــ
1 الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري. قال يحيى بن بكير: ما رأيت أحدا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القراءة والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، لم أر مثله. مات سنة "175". له ترجمة في: تاريخ بغداد "13/3"، وشذرات الذهب "1/285"، والعبر "1/266".
2 له ترجمة في: تذكرة الحفاظ "1/178"، والعبر "1/227"، وتهذيب التهذيب "6/238".

وقال الحافظ ابن حجر بعد سياقه لكلام الحاكم هذا ما لفظه قلت: وهذا الذي ذكره فد ينازع في بعضه ولاسيما في أصح أسانيد أنس فإن قتادة وثابتا البناتي أقعد وأسعد بخدمته من الزهري ولهما في الرواة جماعة فأثبت أصحاب ثابت البناني حماد بن زيد وأثبت أصحاب قتادة شعبة وقيل غيره وإنما جزمت بشعبة لأنه كان لا يأخذ ع أحد ممن وصف بالتدليس إلا ما صرح فيه ذلك المدلس بسماعه من شيخه وقوله في أسانيد أهل الشام فيه نظر فان جماعة من أئمتهم رجحوا راوية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبى إدريس الخولاني عن أبى ذ ر ثم قال تنبيه لم يذكر المصنف - يريد ابن الصلاح - أوهى الأسانيد وقد ذكره الحاكم وأظنه حذفه لقلة جدواه بالنسبة إلى مقابله. انتهى.
واعلم أن فائدة معرفة أصح الأسانيد مما ذكر وغيره أنه إذا عارضه حديث مما لم ينص فيه إمام على أصحيته يرجع ما نص على أصحيته عليه وإن كان صحيحا فان عارضه مه نص أيضا على أصحيته يرجع إلى المرجحات فأيهما كان أرجع حكم بقوله وإلا رجع إلى القرائن التي تحف أحد الحديثين فيقدم بها على غيره.

مسألة 4 [في ذكر أول من صنف في جمع الصحيح]
"أصح كتب الحديث أول من صنف صحيح البخاري" هذا كلام ابن الصلاح1 قال الحافظ ابن حجر إنه اعترض عليه شيخ علاء الدين مغلطاى فيما قرأت بخطه بأن مالكا أول من صنف الصحيح وتلاه أحمد بن حنبل وتلاه الدارمى2 قال وليس لقائل أن يقول لعله أراد الصحيح المجرد فلا يرد كتاب مالك لأن فيه البلاغ3 والموقوف والمتقطع والفقه وغير ذلك لوجود ذلك في كتاب البخاري. اهـ.
قال: وقد أجاب شيخنا يريد به زين الدين ثم ذكر جوابه واعتراضه بما هو حق ثم قال لكن الصواب في الجواب ثم ذكر ما حاصله أنه يصدق على مالك أنه أول من صنف الصحيح اعتبار انتقائه للرجال فكتابه أصح من الكتب المصنفة في هذا الفن من أهل عصره وما قاربه كمصنفات سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة الثوري4 وابن اسحق ومعمر وابن جريح وابن المبارك وعبد الرزاق وغيرهم ولهذا قال الشافعي ما بعج كتاب الله اصح من كتاب مالك فكتابه أصح عنده وعند من يتبعه ممن يحتج بالمرسل والموقوف.
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "25".
2 الدارمي هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي أبو محمد السمرقندي. الحافظ، أحد الأعلام. قال أبو حاتم: إمام أهل زمانه. مات سنة "255". له ترجمة في: تاريخ بغداد "10/29"، وشذرات الذهب "2/130"، والعبر "2/8".
3 البلاغ: هي الأحاديث التي يقول فيها بلغني.
4 الثوري هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، أحد الأعلام. قال شعبة وغير واحد: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. مات سنة "161هـ". له ترجمة في: تاريخ بغداد "9/151"، والعبر "1/235"، ووفيات الأعيان "1/210".

وأما أول من صنف الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف فأول من جمعه البخاري ثم مسلم كما جزم به ابن الصلاح1 وأما قول مغلطاي إن أحمد أفرد الصحيح فقد أجاب عنه الشيخ ابن الصلاح في التنبيه السادس من الكلام على الحديث الحسن انتهى كلام ابن حجر.
قلت: يريد حيث قال الشيخ ابن الصلاح2 كتب المسانيد غير ملحقة والكتب الخمسة التي هي الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي وما جرى مجراها في الاحتجاج بها والركون إلى ما ورد فيها مطلقا كمسند أبي داود الطيالسي ومسند عبيد الله بن موسى ومسند اسحق ومسند عبد بن حميد ومسند الدرامي ومسند أبي يعلي الموصولي ومسند الحسن بن سفيان ومسند البزار أبي بكر وأشباهها فهذه عادتهم فيها أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متفيدين بأن يكون حديثا محتجا به أولا فلهذا أخرت مرتبتها وإن جلت لجلالة مؤلفيها عن مرتبة الكتب الخمسة انتهى.
ثم قال الحافظ: وأما ما يتعلق بالدرامي فتعقبه الشيخ زين الدين بأن فيه الضعيف والمنقطع لكن بقي مطالبة مغلطاي بصحة دعواه أن جماعة أطلقوا على مسند الدرامي كونه صحيحا فأنى لم أر ذلك في كلام أحد ممن يعتمد عليه.
ثم قال: كيف ولو أطلق عليه ذلك من يعتمد لكان الواقع بخلافه لما في الكتاب المذكور من الأحاديث الضعيفة والمنقطعة والموضوعة والموطأ في الجملة أنظف أحاديث وأتقن رجالا منه ومع ذلك كله فلستأسلم أن الدارمي صنف كتابه قبل تصنيف البخاري الجامع لتعاصرهما ومن ادعى عليه ذلك فعليه البيان. انتهى.
قلت: ومن ادعى تقدم تصنيف البخاري على تصنيف الدارمي فعليه البيان أيضا وكأنه اغتر الحافظ العلائي3 بكلام مغلطاي فإنه قال ينبغي أن يجعل مسند الدارمي سادسا للخمسة بدل ابن ماجة فإنه قليل الرجال الضعفاء، ناذر الأحاديث المنكرة وإن كان فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى من سنن ابن ماجه،
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "25".
2 علوم الحديث ص "56".
3 العلائي هو: الشيخ الإمام العلامة صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي الشافعي. قال الذهبي: حافظ يستحضر الرجال والعلل، وتقدم في هذا الشأن. "761", له ترجمة في: شذرات الذهب "6/190"، والنجوم الزاهرة "10/337".

إلى آحر كلامه، ويحتمل أنه إنما أراد تفضيله على ابن ماجه بخصوصه وأن ابن ماجه رجاله الضعفاء أكثر وأحاديثه الشاذة والمنكر غير نادرة.
إذا عرفت هذا فعلى تحقيق الحافظ ينبغي أن يقال أول صنف في الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف البخاري غير أن جواب الحافظ لم يتضح به رد كلام مغلطاي كل الاتضاح كما لا يخفى.
"وكتابه" أي البخاري "أصح من كتاب مسلم عند الجمهور وقال النووي إنه الصواب واختاره زين الدين قالاهما" أي النووي والزين "وغيرهما" من أئمة الحديث "والمراد" بالحكم بأصحية كتابه على مسلم أصحية "ما أسنده دون التعليق" يأتي تعريفه "والتراجم" جمع ترجمة وهي عنوان الباب الذي تساق فيه الأحاديث ولا بد أن تكون مناسبة لما يساق من الأحاديث قالوا وذلك لأن الصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب البخاري أثم منها في كتاب مسلم وشروطه فيها أقوى وأشد.
أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبتت له لقاء من روي عنه ولو مرة واكتفي مسلم بمطلق المعاصرة.
وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط فلأن الرجال الذي تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددا من الرجال البخاري فإن الذين انفرد بهم البخاري أربعمائة وخمسة وثالثون رجلا المتكلم منهم فيه بالضعف ثمانون رجلا والذين تفرد بهم مسلم ستمائة وعشرون رجلا المتكلم منهم فيه بالضعف مائة وستون رجلا على الضعف من كتاب البخاري ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه ولأن الذين تفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها أو أكثرها كنسخة عكرمة عن ابن عباس بخلاف مسلم فقد أخرج أكثر تلك النسخ التي رواها عمن تكلم فيه كأبي الزبيب عن جابر أتهيل عن أبيه عن أبي هريرة ونحوهم مع أن البخاري لم يكثر من إخراج أحاديث من تكلم فيهم وغالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم ولا شك أن المرء أشد معرفة بحديث شيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيف ممن تقدم عن عصرهم بخلاف مسلم في الأمرين فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه

ممن تكلم فيه من المتقدمين وقد أخرج نسخهم كما قدمنا ذكره ثم إن من يخرج لهم البخاري ممن تكلم فيه من المتقدمين يخرج أحاديثهم غالبا في الاستشهادات والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم فإنه يخرج لهم الكثير في الأصول فأكثر من يخرج لهم البخاري في المتابعات يحتج بهم مسلم.
وأما رجحانه من حرث عدم الشذوذ والإعلال فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عدا مما انتقد على مسلم فإن جملة الأحاديث التي انتقدت عليهما مائتا بألف التثنية حديث وعشرة اختص البخاري منها بأقل من ثمانين.
قلت: هذا كلام الحافظ هنا وسيأتي نقل المصنف عنه أنه ذكر في مقدمة فتح الباري مما اعترض الحفاظ على البخاري مائة حديث وعشرة أحاديث وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم قال ويشتركان في اثنين وثلاثين وباقيها مختص بمسلم مع أنه قد اتفق العلماء أن البخاري كان أجل من مسلم في العلوم وأعرف بصناعة الحديث منه وأن مسلما تلميذه وخريجه ولم يستفد إلا منه وتتبع آثاره حتى لقد كان يقول الدار قطني1 لولا2 البخاري لما راح مسلم ولا جاء ومن مرجحات البخاري أن مسلما صرح في أول صحيحه أن المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن والمعنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما. انتهى.
قلت: قال الملا على قاري فإن قلت: كيف يكفي ذلك مع أن كتابه صحيح ولا بد فيه الاتصال قلت: لعله جاء هذا الحديث في كتابه، متصلا في آخر أ و كان اتصاله بمن روى مشهورا فالمراد بمن روى عنه من أدى عنه ظاهرا ولو كان بالواسطة وفيه أنه لو كان كذلك لكان الاختلاف لفظيا قال والصواب كون الخلاف حقيقيا. انتهى.
ـــــــــــــــــــ
1 الدارقطني هو: الإمام شيخ الإسلام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي. قال الخطيب: كان فريد عصره وإمام وقته، وانتهى إليه علم الأثر، والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال. مات سنة "385هـ". له ترجمة في: البداية والنهاية "11/317"، وتاريخ بغداد "12/34"، وشذرات الذهب "3/116".
2 لولا البخاري لما راح.... إلخ: قال بعضهم إنه كناية عن كونه عيلة على البخاري. "حاشية الأجهوري" ص "19".

قلت: ولم يدفع الأشكال.
ثم قال الحافظ. والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة وقد أظهر البخاري هذا المذهب في التاريخ وجرى عليه في الصحيح وهو مما يرجح به كتابه لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال فبهذا تعلم أن شرطه في كتابه أقوى اتصالا وأشد تحريا أفاد هذا الحافظ ابن حجر في مؤلفاته.
وأقول لا يخفي أن هذه الوجوه أو أكثرها لا تدل على المدعي وهو أصحية البخري بل غايتها تدل على صحته ثم إنه لا يخفي أيضا أن الشيخين اتفقا في أكثر الرواة وتفرد البخاري بإخراج أحاديث جماعة وانفرد مسلم بجماعة كما أفاده ما سلف من كلام الحافظ فهذه ثلاثة أقسام.
الأول: ما اتفقنا على إخراج حديثه فهما في هذا القسم سواء لا فضل لأحدهما على الآخر لاتحاد رجال سند كل واحد منهما فيما رواه والقول بأن هؤلاء أرجح إذا روي عنهم البخاري لا إذا روي عنهم مسلم عين التحكم وهذا بناء على أن المراد بما اتفقا عليه الاتفاق على رجال الإسناد جميعا لا يقال لا تحكم لأنه شرط البخاري اللقاء دون مسلم لأنا نقول الفرض أنهم على شرط البخاري من حصول اللقاء لأنه روي عنهم ولا يروي إلا عمن وافق شرطه ومعلوم أنهم قد صاروا على شرط مسلم بالأولى لأنه ثبت اللقاء فقد ثبتت المعاصرة.
وإذا عرفت هذا فلا وجه للحكم بأصحية رواية البخاري فيما اتفق هو ومسلم على إخراجه ورجاله إلا جاء التحكم المحض وهذا القسم هو أكثر أقسامه قطعا وحينئذ فلا يصح الحكم على كتاب البخاري بالأصحية بالنسبة إلى هذه الأحاديث وكيف يتم القول بأن كتاب البخاري أصح على هذا؟.
والقسم الثاني: ما انفرد البخاري بإخراج أحاديثهم فهذا القسم ينبغي أن يقال أنه أصح مما انفرد به مسلم لأنه حصل فيه شرائط البخاري منفردة وقد تقرر ببعض ما ذكر من المرجحات أنه أقوى من شرائط مسلم في الصحة وحينئذ فيتعين أن يقال ما في كتاب البخاري من الأحاديث التي انفرد بإخراجها أصح من التي انفرد مسلم بإخراجها وهذا القسم قليل كما عرفت ولا بد من تقييد ذلك بغير من تكلم فيهم وهذا التقسيم هو التحقيق وإن غفل عنه الأئمة السابقون فإن من المعلوم يقينا أن

الصحة والأصحية ليستا بالنظر إلى ذات الشيخين بل بالنظر إلى رجال كتابيهما ثم لا يخفي أيضا أن كون من تكلم فيهم من رجال البخاري أقل ممن تكلم فيهم من رجال مسلم لا يقتضي أصحية أحاديث البخاري مطلقا غاية ما يقتضيه أن الصحيح فيه أكثر وليس محل النزاع على أن في شرطه اللقاء ولو مرة واحدة بحثا وهو أنه قد يكثر الشخص الحديث عمن لاقاه بحيث يعلم يقينا أنه لا يتسع لأخذه عنه تلك الأحاديث في الموقف الذي انحصر فيه اللقاء فلابد من تقييد ذلك بزيادة أن يتسع زمان اللقاء لكن ما عنه روي ثم رأيت بعد أيام مسلما قد ألزم البخاري حيث شرط اللقاء بهذا الإلزام في مقدمة صحيحه ورأيت الحافظ ابن حجر قد التزم هذا وقال يكفي اللقاء ولو مرة واحدة ولو كان بعض ما يرويه عمن لاقاه لا يستحق سماعه منه وسيأتي لنا ولم يقيد كلام البخاري بما قيدناه به من قولنا إن اتسع... إلى آخره.
وإذا عرفت هذا فقد عاد إلى مجرد المعاصرة على أن المعاصرة لا تكفي مطلقا بأن يكون أحدهما في بغداد والآخر في اليمن بل لابد من تقارب المحلات ليمكن اتصال الرواة إلا كان من باب الإجازة والمكاتبة ولعلهم لا يكتفون به هنا.
واعلم أنا راجعنا مقدمة مسلم فوجدناه تكلم في الرواية بالعنعنة وأنه شرط فيها البخاري ملاقاه الراوي لمن عنعن عنه وأطال مسلم في رد كلامه والتهجين عليه ولم يصرح أنه البخاري وإنما اتفق الناظرون أنه أراده ورد مقالته ثم قال إن كل حديث فيه فلان عن فلان وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد وجائز أن يكون الحديث الذي روي الراوي قد سمعه منه وشافهه به غير أنا لا نعلم له نه سماعا ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط أو تشافها بحديث ثم قال إن هذا هو القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا أ كل رجل ثقة روي عن مثله وجائز ممكن لقاءه والسماع منه لكونهما كانا جميعا في عصر واحد ولم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام فالرواية ثابتة والحجة بها لازمة إلى آخر كلامه وقد نقلنا فيما يأتي في بحث العنعنة.
إذا عرفت هذا عرفت أن الخلاف بين الشيخين في رواية العنعنة لا غير وهو الذي أفاده الحافظ في قوله ومن مرجحات البخاري أن مسلما صرح إلى آخره فشرط البخاري فيها اللقاء ومسلم المعاصرة وحينئذ فلا يرجح البخاري برمته على مسلم برمته بهذا الشرط بل يقال عنضة البخاري أصح وأرجح من عنعنة مسلم فالعجب كيف

يعده الحافظ من وجوه ترجيح البخاري مطلقا ثم قد ظهر المراد بالمعاصرة أنها التي يمكن معها السماع ولا يكفي مطلقها.
فإن قلت: إنما جعله ترجيحا للبخاري مطلقا لكون كل ما فيه من الأحاديث قد تم فيها شرطية اللقاء معنعنا وغيره.
قلت: أما غير المعنعن وهو ما كان بنحو حدثنا فهو ومسلم سواء فيه فإنه لا يكون إلا بالمشافهة إنما الخلاف في رواية متصلة عند مسلم وبه يتضح لك ضعف ما قدمنا عن الملا على قاري سؤالا وجوابا وأنه بناه على عدم تحقيقه لمراد مسلم.
ثم جعل الحافظ ابن حجر كون شيوخنا البخاري هم الذي تكلم فيهم وجها مرجحا فيه تأمل لأنه قد يقال هم باب علمه وعنهم أخذ ومنهم استمد رواياته وقد علل الحافظ ذلك بما سمعته فانظر فيه ثم لا يعزب عنك أن قولهم أصح الحديث ما اتفق عليه الشيخان لا يوافق قولهم هنا إن أصح الكتابين كتاب البخاري لأنهم قد جعلوا ما اتفقا عليه أصح أقسام الحديث وقد عرفت أن الذي اتفقا عليه هو أكثر أقسام الكتابين ولم يتفقا عليه إلا بعد حصول شرائط الرواية عندهما في روايته فهما مثلان في هذا كما أسلفنا فلا يتم القول بأن كتاب البخاري أصح إلا باعتبار ما انفرد به وهو القليل الحقير ولا يحسن إطلاق صفة الجزء على الكل في مقام التقعيد والتمهيد على أن استثناءهم التعاليق والتراجم فقط من الحكم بالأصحية فاض بأن الحكم بها حكم على كل حديث لا أنه كما تأولنا من وصف الكل بصفة الجزء وقد ألحقوا بذلك ما تكلم فيه.
"ثم صحيح مسلم بعده" أي بعد صحيح البخاري فإن تعارضا قدم ما في البخاري "وذهب بعض المغاربة" أي بعض علماء الغرب وسيأتي أنه ابن حزم1 "والحافظ أبو علي الحسين بن علي النيسابوري شيخ الحاكم" يريد أبا عبد الله صحاب المستدرك "إلى تفضيل صحيح مسلم على البخاري" فقال أبو علي: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث بهذا اللفظ نقله عنه زين الدين والحافظ ابن حجر
ـــــــــــــــــــ
1 ابن حزم هو: الإمام العلامة الحافظ الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد القرطبي الظاهري. كان صاحب فنون وورع وزهد، وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ. مات سنة "457". له ترجمة في: شذرات الذهب "3/299"، والعبر "3/239"، ووفيات الأعيان "1/340".

"وحكاه" أي تفضيل كتاب مسلم "القاضي عياض1 عن أبي مروان الطبني" بضم الطاء المهملة وبعدها هاباء موحدة مشددة مضمومة وقبل ياء النسبة نون كذا ضبطه ابن السمعاني وقيل بضم الطاء وسكون الموحدة حكاه ابن الأثير وغيره وهي بلدة بالغرب ينسب إليها جماعة قاله البقاعي واسمه عبد الملك بن زياد "عن بعض شيوخه" قال: كان من شيوخي من يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري وحكاه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة مسلم عن محمد بن اسحق عن ابن منده قال أيضا مما تحت أديم السماء، أصح من كتاب مسلم في علوم الحديث وإليه ميل كلام القرطبي في خطبة تلخيصه لمسلم ونقله عن جماعة وغزاه في اختصاره للبخاري إلى أكثر المغاربة وعزا ترجيح البخاري إلى أكثر المشارقة ذكره الزركشي.
"وقال ابن الصلاح" 2 بعد نقله لكلام أبي علي "فهذا" أي تفضيل صحيح مسلم "إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجح أنه لم يمازجه غير الصحيح" قال ابن الصلاح: فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودا غر ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لا يسندها على الوجه المشروط في الصحيح "فهذا لا بأس به" أي لا بأس في التفضيل لصحيح مسلم من هذه الجهة إلا أنه معلوم أن عبارة أبي على لا تساعد هذا التوجيه كل المساعدة "وإن كان المراد به" أي يقول أبى علي "أنه أصح كما هو المتبادر" من عبارته "فهذا مردود" بما أسلفنا من مرجحات صحيح البخاري كما عرفت.
واعلم أن ظاهر كلام ابن الصلاح وزين الدين والمصنف أن بعض المغاربة ومن ذكر معه ذهبوا إلى تفضيل صحيح مسلم من حيث إنه أصح من صحيح البخاري فإن كان بعض المغاربة هو أبو محمد بمحزم وبه جزم الحافظ ابن حجر فإنه قال بعد ذكر ابن الصلاح لبعض المغاربة ما لفظه وقد وجدت التصريح بما ذكره المصنف من الاحتمال عن بعض المغاربة فذكر أبو محمد القاسم بن القاسم التجيبي في فهرسته عن أبي محمد بن حزم أنه كان يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري لأنه ليس فيه بعد
ـــــــــــــــــــ
1 القاضي عياض هو: ابن موسى بن عياض بن عمر اليحصبي السبتي، ولى قضاء سبتو ثم غرناطة، وكان إمام أهل الحديث في وقته، وأعلم الناس بعلومه. مات سنة "544". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/225"، والعبر "4/122"، ووفيات الأيان "1/392".
2 علوم الحديث ص "26".

خطبته إلا الحديث المنفرد. انتهى.
قال الحافظ قلت: ما فضله به بعض المغاربة ليس راجعا إلى الأصحية بل هو لأمور:
أحدهما: ما تقدم عن ابن حزم.
الثاني: أن البخاري كان يرى جواز الرواية بالمعنى وجواز تقطيع الحديث من غير تنصيص على اختصاره بخلاف مسلم والسبب في ذلك أمران أحدهما أن البخاري صنف كتابه في طول رحلته فقد روينا عنه أنه قال رب حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر ورب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخراسان فكان لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمتها بل يتصرف فيه ويسوقه بمعناه ومسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة شيوخه وكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق.
والثالث: أن البخاري استنبط فقه كتابه من أحاديثه فاحتاج أن يقطع المتن الواحد إذا اشتمل على عدة أحكام ليورد كل قطعة منه في الباب الذي يستدل به على ذلك الحكم الذي استنبط منه لأنه لو ساقه في المواضع كلها برمته لطال الكتاب ومسلم لم يعتمد ذلك يسوق أحاديث الباب كلها سردا عطفا بعضها على بعض في موضع واحد. انتهى.
وقلت: وبه تعرق أن بعض المغاربة هو أبو محمد بن حزم وتعرف أنه لم يفضل صحيح مسلم من حيث الأصحية وتعرف أنه ما كان ينبغي لابن الصلاح ومن تبعه جعل خلافه وخلاف أبى على النيسابوري واحدا وأنه من جهة واحدة ثم لا يخفي أن ما قاله الزركشي فيما نقلناه عنه آنفا إن دائرة الخلاف أوسع والذاهبون إلى ترجيح مسلم أكثر ممن ذكر.
وقال الحافظ: ما قاله أبو علي النيسابوري فلم نجد عنه تصريحا قط بأن كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري وإنما نفى الأصحية عن غير كتاب مسلم عيه ولا يلزم من ذلك أن يكون كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري فيجوز أن يوجد ما يساويه فإذا كان كلام أبى على محتملا لكل من الأمرين فجزم
ابن الصلاح أن أبا علي قال صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري غير صحيح وقد رأيت هذه العبارة في كلام الشيخ محيي الدين النووي والقاضي بدر الدين ابن جماعة والشيخ تاج الدين

التبريزي وتبعهم جماعة وفي إطلاق ذلك نظر لما بيناه انتهى بمعناه.
قلت: ولا يعزب عنك أن هذا التأويل الذي ذكره الحافظ خروج عن محل النزاع فإن الدعوى بأن البخاري أصح الكتابين وهذا التأويل أفاد أنهما مثلان فما أتى التأويل إلا بخلاف المدعي على أن قول القائل "ما تحت أديم السماء أعلم من فلان" يفيد عرفا أنه أعلم الناس مطلقا وأنه لا يساويه أحد في ذلك وأما في اللغة فيحتمل توجه النفي إلى الزيادة أعني زيادة إنسان عليه في العلم لا نفي المساوي له فيه والحقيقة العرفية مقدمة سيما في مقام المدح والمبالغة بقوله "تحت أديم السماء".
ثم رأيت بعد هذا أنه قال البقاعي الحق أن الصيغة تارة تستعمل على مقتضى أصل اللغة فتنتفي الزيادة فقط وتارة على مقتضى ما شاع من العرف فتنتفي المساواة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما طلعت شمس ولا غربت على أفضل من أبي بكر" وإن كان ظاهره نفي أفضلية الغير لكنه إنما سيق لإثبات أفضلية المذكور والسر في ذلك أن الغالب في كل اثنين هو التفاضل دون التساوي فإذا نفى أفضلية أحدهما ثبتت أفضلية الآخر. انتهى.
"قال زين الدين: وعلى كل حال" سواء قيل البخاري أصح أو مسلم "كتاباهما أصح كتب الحديث" لأن من قال كتاب البخاري أصح قائل بأن بعده في الصحة كتاب مسلم ومن قال إن كتاب مسلم أصح كتاب بعده كتاب البخاري فقد اتفق الكل على انهما أصح كتب الحديث ولماصح أن الشافعي قال إن كتاب الموطأ أصح الكتب الحديثية قال الزين "وأما قول الشافعي ما على وجه الأرض بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك فذاك" قاله الشافعي "قبل وجود الكتابين" فكلامه صحيح نظرا إلى زمان تكلمه وهذه الرواية أخرجها عن الشافعي أبو بكر بن محمد بن ابراهيم الصفار عن طريق هرون بن سعيد الأيلي قال سمعت الشافعي يقول ما بعد كتاب الله أنفع من كتاب مالك ذكره الحافظ ابن حجر.
قال الحافظ ابن حجر: أول من صنف في العلم وبوبه ابن جريح1 بمكة ومالك وابن أبي ذئب بالمدينة فإن ابن أبي ذئب موطأ أكبر من موطأ مالك بأضعافه،
ـــــــــــــــــــ
1 ابن جريج هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم أبو الوليد المكي، أحد الأعلام. قال أحمد: إذا قال ابن جريج "قال" فاحذروه. مات سنة "150". له ترجمة في: تاريخ بغداد "10/400"، والعبر "1/213"، وشذرات االذهب "1/226".

حتى قبل لمالك: ما الفائدة في تصنيفك فقال ما كان لله بقي والأوزاعي بالشأم والثوري بالكوفي وسعيد بن أبي عروبة والربيع ابن صبيح بالبصرة ومعمر باليمين قال وكان هؤلاء في عصر واحد فلا يدري أيهم سبق.

مسألة5 [في انحصار الصحيح]
"عدم انحصار الصحيح في كتب الحديث قال زين الدين: عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي" كان الأحسن ذكر اسمه ونسبه في أول ما نقل عنه المصنف حيث قال قال ابن الصلاح:1 وزين الدين فالصحيح ما اتصل سنده إلخ "لم يستوعب البخاري ومسلم كل الصحيح في كتابيهما" فعلى هذا كان الأحسن في الترجمة أن يقول المصنف عدم انحصار الصحيح في كتابي البخاري ومسلم ليوافق ما قاله الزين وكما يأتي من الكلام الدال على أن الخوض فيهما لا غير وعبارة زين الدين في نظمه ولم يعماه إلخ أي لم يعم البخاري ومسلم كل الصحيح يريد لم يستوعباه في كتابيهما وعبارة ابن الصلاح2 لم يستوعبا الصحيح في صحيحيها ولا التزما ذلك ثم ذكر كلام البخاري ومسلم الآتي "ولم يلتزما ذلك" أي استيعاب الحديث الصريح "وإلزام الدار قطني" هو أبو الحسن علي بن عمر الدار قطني إمام كبير وحافظ شهير3 ذكرنا بعضا من أحواله في التنوير شرح الجامع الصغير "وغيره" هو أبو ذر الهروي كما في شرح صحيح مسلم "إياهما" أي الشيخين "بأحاديث" صحيحة لم يخرجاها ولا أحدهما ذكر الدار قطني وغيره أحاديث من طرق صحاح لا مطعن في ناقليها ولم يخرجا من أحاديثهم شيئا فيلزمها إخراجها على مذهبهما "ليس بلازم" لهما "لعدم التزامهما" الاستيعاب.
"قال الحاكم" أبو عبد الله "في خطبة المستدرك" 4 بصيغة اسم المفعول هذا الجاري
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "26".
2 علوم الحديث ص "26".
3 سبقت ترجمته.
4 "3/41".

على الألسنة ويصح على اسم الفاعل من باب عيشة راضية "ولم يحكما" أي الشيخين "ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه انتهى" كلام الحاكم ساقه الزين كالاستدلال على ما ادعاه من عدم استيعابهما ولكن لما كان الحاكم لي بناقل عنهما فهو كالدعوى أيضا يحتاج إلى بينة.
قال الزين مستدلا لدعواه ودعوى الحاكم "قال البخاري: ما أدخلت في كتابي الجامع" أي من الأحاديث "إلا ما صح وتركت من الصحاح لحال الطول" فدلت عبارته أنه لم يستوعب الصحيح وأن أحاديث جامعة صحيحة "وقال مسلم: ليس كل صحيح وضعته هنا" أي في كتابه "إنما وضعت هنا ما أجمعوا عليه" لفظ ابن الصلاح1 قال مسلم ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا يعني في كتابه الصحيح إنما وضعته هاهنا ما أجمعوا عليه إلى هنا عبارة مسلم كما نقلها ابن الصلاح ثم قال ابن الصلاح: مفسرا لقول مسلم ما أجمعوا عليه "يريد ما وجد عنده فيه شرائط الصحيح المجمع عليه وإن لم يوجد اجتماعها" أي شرائط الصحيح "في بعض أحاديث كتابه عند بعضهم" أي لم يوجد عند بعض المجمعين من أئمة الحديث ولا يخفي أن كلام مسلم لا يفيد ما قاله ابن الصلاح من قوله وإن لم يوجد اجتماعها إلخ بل كلام مسلم أفاد أن جميع أحاديث كتابه مجمع على اجتماع شرائط الصحيح فيها فالأحسن أن يقال يريد ما وجد عنده فيه شرائط الصحيح المجمع عليه بحسب نظره واطلاعه وإن خالفه البعض في بعضها "قاله" أي هذا التأويل لكلام مسلم "ابن الصلاح" أي لا ما سلف من قول المصنف قال زين الدين: عبد الرحيم إلى هنا فإنه كلام ابن الصلاح.
تنبيه: إن قيل ما وجه التعرض لكون الشيخين لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما ومن ادعى ذلك حتى يفتقر إلى نفيه.
قلت: ادعاه الدار قطني عليهما وغيره كما عرفت وكأنه فهم هو ومن تابعه من التسمية بالصحيح أنه جميع ما صح وما عبداه حسن أو ضعيف فيفيد أنهما قد حصرا الصحيح وهو من باب مفهوم اللقب بعد التسمية به وإن كان قبلها من باب مفهوم الصفة وفهم ذلك الحافظ أبو زرعة فإنه ذكر النووي عنه أنه قال طرق يريد مسلما-
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "26".

لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث ليس هذا في الصحيح قال سعيد بن عمرو راوي ذلك عن أبي زرعة فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة فقال مسلم إنما قلت: هو صحيح قال سعيد وقدم مسلم بعد ذلك الري فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن واره فجاءه وعاتبه على هذا الكتاب وقال له نحوا مما قال أبو زرعة إن هذا يطرق لأهل البدع فاعتذر مسلم فقال إنما قلت: هو صحيح ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث فهو ضعيف ذكر هذا النووي في شرح مقدمة مسلم مفرقا.
قلت: قد اتفق ما حدسه أبو زرعة من ذلك التطريق فإنه ذكر الحاكم أبو عبد الله في خطبة المستدرك ما لفظه1: إنه صنف الشيخان في صحيح الأخبار كتابين مهذبين انتشر ذكرهما في الأقطار ولم يحكما ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يسمون برواة الآثار بأن جميع ما صح عندهم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث وهذه المسانيد المجموعة المشتملة على ألف جزء أو أكثر كلها سقيمة أو غير صحيحة فهذا هو الذي حدسه أبو زرعة وغيره قد وقع وفي قوله عشرة آلاف إشعار بعدة أحاديث الصحيحين فكأن هذا هو من الحوامل لأهل الحديث على التعرض لذكر أن الشيخين لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما أما البخاري فقوله "أحفظ مائة ألف حديث صحيح"2 وكون الذي أخرجه في كتابه لا يبلغ عشر ما ذكره صريح في أنه لم يستوعب الصحيح.
إن قلت: قول الحاكم في مواضع من المستدرك في الحديث على شرطهما ولم يخرجاه يشعر بخلاف ما نقله عنه في الخطبة وإلا فلا فائدة لقوله ولم يخرجاه.
قلت: لعله لم يسق قوله ولم يخرجاه مساق الاعتراض عليهما بأنهما لم يخرجاه بل ذكر ذلك إخبارا بأنهما لم يخرجا كل ما كان على شرطهما فهو كالاستدلال لما قاله في خطبته من أنهما لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك.
وقد جرأ على هذا الوهم أعني أنهما حصرا الصحيح السيد على بن محمد بن أبي القاسم في ترسله على المصنف بالرسالة التي رد عليها بالعواصم فإنه قال وقد تعرضوا لحصر الصحيح فما لم يذكره غير صحيح عندهم ولكنه زعم أنهم قالوا إنما
ـــــــــــــــــــ
1 "1/41".
2 علوم الحديث ص "16"، وسير أعلام النبلاء "12/415".

الصحيح محصور في الكتب الستة فزاد إلى الوهم الأصلي وهمين طارئين وقد بين المصنف الرد عليه في العواصم بما يفيده ما ذكرناه.
"وقال النووي في شرح مسلم ما معناه إنه وقع اختلاف بين الحافظ في بعض أحاديث البخاري ومسلم فهي مستثناة من دعوى الإجماع على صحة حديثهما" كأن المصنف نقل كلام النووي إيضاحا لكلام ابن الصلاح حيث قال وإن لم يوجد اجتماعها في بعض أحاديث كتابه عند بعضهم.
ومن هنا تعلم أنه كان ينبغي للزين أن يزيد فيما سلف في آخر المسألة الأولى حيث قال والمراد ما أسنداه دون التعاليق والتراجم قيدا وهو دون الأحاديث التي اختلف فيها وهذا الذي نسبه المصنف إلى النووي نقله النووي عن ابن الصلاح فإنه قال في أثناء كلام نقله عنه فإذا علم هذا فما أخذ البخاري ومسلم وقدح فيه معتمد من الحفاظ فهو مستثنى مما ذكرناه لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول وما ذاك إلا في مواضع قليلة سننبه على ما وقع في هذا الكتاب منها إن شاء الله تعالى هذا آخر ما ذكره الشيخ أبو عمرو فالكلام لابن الصلاح نقله النووي.
واعلم أن هذا كلام كان يحسن تأخيره إلى مسألة حكم الصحيحين وذكر تلقي الأمة بالقبول لهما فإن هذا الاستثناء إنما هو مما تلقته الأمة بالقبول والإجماع ولم يسبق له هنا ذكر سوى قوله وكتاباهما أصح كتب الحديث وسيأتي مستوفى أن شاء الله تعالى عند ذكر المصنف له.
"وقد ذكر" أي النووي "الجواب على من خالف في صحة تلك الأحاديث النادرة" قال النووي وقد أحببت عن كل ذلك أو أكثره وستراه في مواضعه إن شاء الله تعالى ذكره في شرح مسلم بعد ذكره للأحاديث التي انتقدها الدار قطني وأبو مسعود الدمشقي على الشيخين وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى عند كلام المصنف على حكم الصحيحين.
"قال زين الدين: وذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم" بالخاء المعجمة والراء المهملة الشيباني المعروف أبوه بابن الكرماني ويقال له أيضا الأخرم إجراء للقب أبيه عليه كان صدر أهل الحديث بنيسابور قال لعبد الغفار الفارسي هو الفاضل في الحفظ والفهم صنف على الكتابين البخاري ومسلم وكان ابن خزيمة يراجعه في مهمة توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة "شيخ الحاكم كلاما معناه قلما

يفوت البخاري ومسلما ما ثبت من الحديث قال ابن الصلاح" بعد نقله لكلام ابن الأخرم "يعني" ابن الأخرم "في كتابيهما" لكنه قال ابن الصلاح: بعد هذا ولقائل أن يقول ليس ذلك بالقليل فإن المستدرك على الصحيحين للحاكم أبي عبد الله كتاب كبير يشتمل على شيء كثير وإن يكن في بعضه مقال فإنه يصفو له منه صحيح كثير.
قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي من كلامه أعني ابن الأخرم أنه غير مريد للكاتبين وإنما أراد مدح الرجلين بكثرة الاطلاع والمعرفة لكن لما كان غير لائق يوصف أحد من الأمة بأنه جمع الحديث جميعه حفظا وإتقانا حتى ذكر عن الشافعي أنه قال: "من قال إن السنة كلها اجتمعت عند رجل واحد فسق ومن قال إن شيئا منها فات الأمة فسق" فحينئذ عبر عما أراده من المدح بقوله فلما يفوتهما منه أي قل حديث يفوت البخاري ومسلما معرفة أو نقول سلمنا أن المراد الكتابان لكن المراد من قوله مما ثبت من الحديث الثبوت على شرطهما لا مطلقا.
"قال النووي في التقريب والتيسير1: والصواب أنه لم يفت الأصول الخمسة إلا اليسير أعني الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي" وقد ألحق بها عوضا عنه سنن ابن ماجة وعلى هذا بني الحافظ المزي2 في تهذيب الكمال ومن تبعه من مختصري كتابه كالحافظ ابن حجر الخزرجي.
"قال زين الدين العراقي: وفي كلام النووي ما فيه لقول البخاري أحفظ مائة ألف حديث صحيح" تمام حكاية البخاري ومائتي ألف حديث غير صحيح فإنه دال على كثرة ما فات الكتابين من الصحيح كما ستعرفه من عدد أحاديثهما فيما يأتي قريبا فلا يتم لابن الأخرم ما ادعاه وعلى كثرة ما فات غيرهما من الثلاثة أيضا فلا يتم ما ادعاه النووي أيضا.
ـــــــــــــــــــ
1 "1/99" مع شرحه "تدريب الراوي".
2 المزّي هو: الإمام العالم الحبر محدث الشام جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف القضاعي ثم الكلبي الشافعي. رحل وسمع الكثير، وهو حامل لواء معرفة الرجال، لم تر العيون مثله. مات سنة "742". له ترجمة في: تذكرة الحفاظ "4/1498"، وشذرات الذهب "6/136"، والنجوم الزاهرة "10/76".

قال الحافظ ابن حجر: مراده أي النووي من أحاديث الأحكام خاصة أما غير الأحكام فليس بقليل.
قلت: فلا يرد ما أورده عليه الزين.
"قال النووي: ولعل البخاري أراد" بقوله "مائة ألف حديث صحيح"، "والأحاديث المكررة الأسانيد يعني المختلفة" أي التي اختلفت أسانيدها واتحد متنها كما سنعرف قريبا "والموقوفات على الصحابة" والتابعين فإنه قد يطلق عليه لفظ الحديث كما يدل له قوله "وقال ابن الصلاح بعد حكاية كلام البخاري إلا أن هذه العبارة" يعني قوله مائة ألف حديث صحيح "قد يتدرج تحتها عندهم" أي عند أئمة هذا الشأن "آثار الصحابة والتابعين" قال ابن الصلاح1: "وربما عد الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين" باعتبار إسناديه.
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "27".

مسألة 6 [في عدد أحاديث الصحيحين]
"عدد أحاديث البخاري ومسلم" كأن الباعث على ذكر عدة أحاديث الكتابين ما سبق ذكره عن الحافظ ابن الأخرم وما نقل عن عدد ما يحفظه البخاري.
"قال الشيخ زين الدين بن العراقي1: عدد أحاديث البخاري بإسقاط المكرر" أي من المتون "أربعة آلاف حديث على ما قيل" هكذا نقله ابن الصلاح بصيغة التمريض "وعدد أحاديثه بالمكرر سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا وكذا جزم ابن الصلاح" لكن قد عرفت أنه جعل عادة ما ليس مكرر رواية على غيره بصيغة التمريض فيحمل كلام الزين على جزم ابن الصلاح بالعدد الذي فهي المكرر فإنه جزم به ولم ينسبه لأحد وذكر المصنف في العواصم أن صحيحه يعني البخاري لا يشتمل إلا على قدر أربعة آلاف حديث من غير المكرر وكأنه يريد في عبارة العواصم أن عدة ذلك بالمكرر وإن خالف ما سلف من أن عدده سبعة آلاف وكسور.
قال الزين: "وهو" أي ما قاله ابن الصلاح في عدة أحاديث البخاري "مسلم" أي في عدته بالمكرر أو في عدته بغير المكرر يحتمل "في رواية الفريري" 2 فرير كسبحل قرية ببخارى كذا في القاموس وهو محمد بن يوسف أحد رواة صحيح البخاري بل عمدتهم "وأما رواية حماد بن شاكر فهي دونها" أي دون رواية الفريري "بمائتي حديث ودون هذه" أي رواية حماد بن شاكر "بمائة حديث رواية ابراهيم بن معقل" بفتح الميم وسكون العين وكسر القاف ونقل المصنف هذا الكلام الذي ذكره زين الدين في
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث "1/18".
2 الفربري: بفتح الفاء والراء وسكون الباء الموحدة وبعدها راء أخرى. وهي بلدة على طرف "جيحون" مما يلي بخارى. "الأنساب"، "4/359".

"الروض الباسم" بلفظه وظاهر عبارته أن رواية ابراهيم بن معقل تنقص عن رواية الفريري ثلثمائة حديث وظاهره أيضا أن هذا نقص في روايتهما ونسخهما.
قال الحافظ ابن حجر، بعد نقله لكلام شيخة زين الدين ما لفظه: وظاهر هذا أن النقص في هاتين الروايتين وقع من أصل التصنيف أو مفرقا من أسانيد فإنه اعترض على ابن الصلاح في إطلاقه هذه المدة من غير تمييز قاعدة وليس كذلك بل كتاب البخاري في جميع روايات الثلاثة في العدد سواء وإنما حصل الاشتباه من جهة أن حماة بن شاكر وابراهيم بن معقل لما سمعا الصحيح على البخاري فإنهما من أواخر الكتاب شيء فروياه بالإجازة عنه وقدينه على ذلك أبو نصر ابن طاهر وكذا نبه الحافظ أبو على الجياني في كتاب المهمل على ما يتعلق بابراهيم بن معقل فروي بسند إليه قال وأما من أول كتاب الأحكام إلى آخر الكتاب فأجازه لي البخاري قال أبو على الخياني وكذا فإنه من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك في باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]... إلى آخر الباب وأما حماد بن شاكر ففاته من أثناء كتاب الأحكام إلى آخر الكتاب.
فتبين أن النقص في رواية حماد بن شاكر وابراهيم بن معقل إنما حصل من طريان القوت لا من أصل التصنيف وظهر أن العدة في الروايات كلها سواء وغايته أن الكتاب جميعه عند الفريري بالسماع وعند هذين بعضه بسماع وبعضه بإجازة والعدة عند الجميع في أصل التصنيف سواء فلا اعتراض على ابن الصلاح في شيء مما أطلقه. انتهى بلفظه.
ثم قال زين الدين: "ولم يذكر ابن الصلاح عدة أحاديث مسلم" هذا كلام الزين في شرح ألفيته وقال فيما كتبه إلى ابن الصلاح ما لفظه ولم يذكر ابن الصلاح عدة أحاديث كتاب مسلم بالمكرر وهو يزيد على عدة كتاب البخاري بكثرة طرقه انتهى1.
"وقال النووي" قي التقريب والتيسير "إنه نحو أربعة آلاف بإسقاط المكرر" قال الحافظ ابن حجر ذكر الشيخ في شرح الألفية من أحمد بن سلمة أن عدة كتاب مسلم بالمكرر اثنا عشرة ألف حديث وعن الشيخ محي الدين النووي أن عدته بغير المكرر نحو أربعة آلاف2. اهـ.
ـــــــــــــــــــ
1 التقييد والإيضاح ص "27".
2 التقييد والإيضاح ص "27"، وتدريب الراوي "1/104".

قلت: لم نجد في شرح الألفية الرواية التي ذكرها الحافظ عن أحمد بن سلمة وليس فيه إلا كلام النووي الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى ولعله في الشرح الكبير.
ثم قال الحافظ: وعندي في هذا نظر وإنما لم يتعرض المؤلف يريد ابن الصلاح لذلك أي لعدة ما في صحيح مسلم لأنه لم يقصد ذكر عدة ما في البخاري حتى يستدرك عليه عدة ما في كتاب مسلم بل السبب لذكر المؤلف عدة ما في أنه جعله من جملة البحث في أن الصحيح الذي ليس في الصحيحين غير قليل خلاف لقول ابن الأخرم لأن المؤلف رتب بحثه على مقدمتين إحداهما أن البخاري قال أحفظ مائة ألف حديث صحيح والأخرى أن جملة ما في كتابه بالمكرر سبعة آلاف حديث ومائتان وخمسة وسبعون حديثا فينتج أن الذي لم يخرجه البخاري من الصحيح أكثر من الذي خرجه. انتهى.
قلت: لا يخفى أن ابن الأخرم جعل دعواه متعلقة بالصحيحين معا وأنه لم يفت مؤلفيهما إلا القليل مما ثبت من الحديث والجواب أن دعواه لا تتم إلا ببيان عدة أحاديث الكتابين ونسبة تلك العدة إلى الأحاديث الصحيحة مطلقا ليتبين أن ما فاتهما أكثر مما جعله فلا يتم دعواه وأما الاقتصار في الجواب عليه بأن عدة البخاري كذا والذي يحفظه البخاري كذا فيتم في البخاري ولكنه يقول الدعوى أنه لم يفت الكتابين إلا القليل واقتصرتم في الجواب على أحدهما دون الآخر فلابد من ذكر عدة أحاديث مسلم ليتم الجواب فنظر الزين وأراد على ابن الصلاح ودفع الحافظ غير واف بالمراد.
نعم لك أن تقول إنما لم يذكر عدة مسلم لأنه ليس إلا رد قول ابن الأخرم إن الفائت مما جمعه الشيخان من الصحيح قليل فإنه إذا كان البخاري يحفظه منه مائة ألف حديث صحيح وكتابه حوى سبعة آلاف وكسورا وهب أن مسلما حوى عشرين ألف حديث ولم يحوها قطعا فالفائت من الصحيح على الصحيحين زيادة على سبعين ألف حديث فكيف إذا انضم إلى الصحيح ما يحفظه مسلم مما لم يحوه كتابه وبهذا يتحصل عدم صحة ما قاله ابن الأخرم.
"وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة شرحه لصحيح البخاري أنه ترك التقليد في عدة أحاديث البخاري" أي ترك التقليد للقائلين إن عدته ما ذكر ولا يخفي أن قبول رواية

المذكورين لعدة أحاديث البخاري ليس من باب التقليد بل من باب قبول رواية العدل وليس من التقليد كما عرف في الأصول ويأتي للمصنف ذلك فالأولى أن يقول إنه اختبر ما قاله لما دون فوجدهم واهمين فإن الوهم جائز على العدل كما علمت ونقل عنه البقاعي أنه قال يعني ابن حجر أنه لما شرع في مقدمة شرح البخاري قلد الحموي1 يريد في عدة أحاديث البخاري إلى كتاب السلم فوجدته قال إن فيه ثلاثين حديثا أو نحو الشك مني قال فاستكثرتها بالنسبة إلى الباب فعددتها فوجدتها قد نقصت كثيرا فرجعت عن تقليده وعددت محررا بحسب طاقتي فبلغت أحاديث بالمكرر سوى المعلقات سبعة آلاف وثلثمائة وسبعة وتسعين حديثا إلى آخر ما قاله المصنف "وحرز ذلك بنفسه فزاد على ما ذكروه مائة حديث واثنان وعشرون حديثا والجملة عنده بالمكرر من غير المعلقات والمتابعات سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعون حديثا".
واعلم أن معرفة عدة أحاديث الصحيحين ليست من علوم الحديث وقواعده ولكن دعا إلى ذكرها ما عرفته من كلام ابن الأخرم وزاد الحافظ عدد المعلقات "قال: وجملة ما فيه من التعاليق ألف ثلثمائة وأحج وأربعون حديثا أكثرها مكرر مخرج في صحيح البخاري يعني في مواضع أخر" لفظ ابن حجر في المقدمة مخرج في الكتاب أصول متونه فتسمية ما ذكره تعليقا بالنسبة إلى ذكره له غير مخرج لا بالنسبة إلى ما ذكره له غير مخرج لا بالنسبة إلى ما ذكره له مخرجا فإن المخرج منها وهو الموصول داخل في عدة أحاديثه المخرجة.
"قال" ابن حجر "وليس فيه" أي في المعلق أو في البخاري "من المتون" المعلقة "التي لم تخرج في الكتاب ولو من طريق أخرى إلا مائة وستون حديثا" فهذه في الحقيقة هي المعلقات لا غير لعدم تخريج البخاري لها.
"قال" ابن حجر "وقد أفردتها في كتاب لطيف" هو المسمى بتغليق التعليق "متصلة الأسانيد إلى من علقت عنه" فعلى هذا لم يبق في البخاري حديث معلق في نفيس الأمر بل كلها متصلة ثم قال ابن حجر وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات ثلثمائة وأربعة وأربعون حديثا فجميع ما في الكتاب على هذا بالمكرر سبعة آلاف حديث واثنان وثمانون حديثا وهذه العدة خارجة عن الموقوفات على
ـــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل "الحموي"، وهو تصحيف، وصوابه "الحمويي".

الصحابة والمقطوعات عن التابعين فمن بعدهم، وقد استوعبت أصل جميع ذلك في كتابي تغليق التعليق. انتهى.
"قال" ابن حجر "وهذا تحرير بالغ لم أسبق إليه" فإنه لم يتعرض من تقدم لعد المعلقات ولا لعد ما لم يخرج منها قال: "وأنا مقر بعدم العصمة من السهو والخطأ".
وأما عدة طرق الصحيحين فذكر الحافظ ابن حجر عن الحافظ الجوزقي أنه قال في كتابه المسمى بالمتفق أنه استخرج على جميع ما في الصحيحين حديثا حديثا فكان مجموع ذلك خمسة وعشرون ألف طريق وأربعمائة وثمانين طريقا وأما ما اتفق الشيخان على إخراجه من المتون فذكر الجوزقي أن حملة ما اتفق الشيخان على إخراجه من المتون في كتابيهما ألفان وثلثمائة وستة وعشرون حديثا.
تنبيه: قال الزركشي إن عدة أحاديث أبي داود أربعة آلاف وثمانمائة حديث قال ابن داسة سمعت أبا داود يقول كتبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: خمسمائة ألف حديث انتخبت منها هذه السنن فيها أربعة آلاف وثمانمائة المراسيل نحو ستمائة حديث قال أبو داود لم أصنف فيه كتب الزهد ولا فضائل الأعمال وهي أحاديث صحاح كثيرة وعنه ما في كتاب السنن حديث إلا وقد عرضته على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
وأما كتاب ابن ماجه فقال أبو الحسن بن القطان صاحبه عدته أربعة آلاف حديث.
وأما أحاديث الترمذي والنسائي فلم أر من عدهما.
وأما الموطأ فقال أبو بكر الأبهري جملة ما فيه من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم: وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثا المسند منها ستمائة حديث والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديثا والموقوف ستمائة وثلاث عشر حديث ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون وذكر الكيا الهراسي في تعليقه في الأصول أن موطأ مالك كان اشتمل على تسعة آلاف حديث ثم لم يزال ينتفي حتى رجع إلى سبعمائة.
فائدة: ذكرها الحافظ ابن حجر عن أبي جعفر محمد بن الحسين البغدادي أنه قال يف كتاب التمييز له عن النووي وشعبة ويحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وأحمد بن حنبل أن جملة الأحاديث المسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم: يعني الصحيحة بلا تكرر أربعة

آلاف وأربعمائة حديث وعن اسحق بن راهوية أنه سبعة آلاف ونيف وقال أحمد بن حنبل وسمعت ابن مهدي يقول الحلال والحرام من ذلك ثمانمائة وكذا قال اسحق بن راهويه عن يحيى بن سعيد وذكر القاضي أبو بكر بن العربي أن الذي في الصحيحين من أحاديث الأحكام نحو ألفي حديث وقال أبو بكر السختياني عن ابن المارك تسعمائة وقال الحافظ ومرادهم بهذه العدة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أقواله الصريحة في الحلال والحرام وقال كل منهم بحسب ما وصل أليه ولهذا اختلفوا. والله أعلم.

مسألة 7 [في بيان الصحيح الزائد على ما في البخاري ومسلم]
"الصحيح الزائد على الصحيحين" أي هذا بحث الحديث الصحيح الذي لم يرو في الصحيحين وهو كالتتمة لكون الشيخين لم يستوعبا الصحيح كأنه قيل من أين يعرف الصحيح الزائد على ما فيهما.
"قال زين الدين: مما معناه ما نص على صحته إمام معتمد كأبي داود والنسائي والدار قطن ي والخطابي والبيهقي في مصنفاتهم المعتمدة فهو صحيح كذا قيده ابن الصلاح بمصنفاتهم1" إلا أن ابن الصلاح لم يذكر البيهقي والخطابي وذكر أبا بكر بن خزيمة2 ثم قال وغيرهم "ولم أقيده بها" يريد زين الدين إنه لم يقيد حيث قال ما نص على صحته ولم يقل في كتابه "بل إذا صح الطريق إليهم أنهم صححوا ولو في غير مصنفاتهم" لأن العلة الموجبة لاتصافه بالصحة إخبارهم بأنه صحيح سواء ثبت في تصنيف لهم أو غيره "أو صححه من لم يشتهر له تصنيف من الأئمة كيحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين ونحوهما فالحكم كذلك على الصواب" لأن الصحيح إخبار من العدل الثقة بأنه وجد في الحديث شرائط الصحة وإخباره بهذا مقبول لأنه من باب خير الآحاد وقد برهن في الأصول على قبوله فإذا ثبت له عنه فسواء كان له مؤلف أم لا وإذا ليس ذلك من شرائط أخبار الآحاد قال زين الدين "وإنما قيده" أي ابن الصلاح "بالمصنفات لأنه ذهب إلى أنه ليس لأحد في هذه الأعصار أن يصحح
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "27- 28".
2 أبو بكر بن خزيمة هو: إمام الأئمة شيخ الإسلام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري. قال ابن حبان: ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن ويحفظ ألفاظها كأن السنن نصب عينيه إلا ابن خزيمة فقط. مات سنة "311". له ترجمة في: البداية والنهاية "11/149"، وشذرات الذهب "2/262"، والعبر "2/149".

الأحاديث" هذا محل تأمل لأنه إذا قال ابن الصلاح: لا يصح لأحد في هذه الأعصار أن يصحح1 وإنما التصحيح مقصور على من تقدم عصره فمن تقدم عصره إذا صحت الطريق إليه بأنه قال هذا الحديث صحيح مثلا فقد حصل ما يريده ابن الصلاح من أنه صححه من تقدم فاشتراط أن يذكر ذلك التصحيح في تأليف له لا يلزم من القول بأنه لا يصحح أهل عصره وهو واضح فما أظنه ذكر المصنفات قيدا للاحتراز بل قيد واقعي مبني على الأغلب بأن من صحح الأحاديث يصححها من مؤلفات له "فلهذا لم يعتمد" يعني ابن الصلاح "على صحة السند إلى من صحح الحديث من غير تصنيف مشهور" هكذا نسخة المصنف من غير ونسخة الزين في شرحه في غير وهي أولى لأن شرط ابن الصلاح أين يصحح في تصنيف لا أنه يصححه ذو تصنيف ولو في غير مصنفه ثم وجدنا في نسخة من التنقيح كعبارة ابن الصلاح "وسيأتي كلامه في ذلك" ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
قلت: وسيأتي أيضا ذكر من خالفه أي ابن الصلاح في زعمه أنه ليس للمتأخرين التصحيح "ورد عليه" دعواه.
"قال زين الدين: ويؤخذ الصحيح أيضا" أي كما يؤخذ مما نقض على صحته إمام معتمد يؤخذ "من المصنفات المختصة بجمع الصحيح فقط" أي من الصفات التي لم يخلط فيها الصحيح بغيره كسنن أبي داود مثلا ولذا قال ابن الصلاح: ولا يكفي في ذلك أي في صحة الحديث مجرد كونه موجودا في سنن أبي داود والترمذي وكتاب النسائي وسائر من جمع في كتابه بين الصحيح وغيره ويكفي كونه موجودا في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه "كصحيح أبي بكر محمد بن خزيمة وصحيح أب حاتم محمد بن حبان البستي المسمى بالتقاسيم والأنواع2" قال ابن النحوي في البدر المنير غالب صحيح ابن حبان منتزع من صحيح شيخه إمام الأئمة محمد بن حزيمة إلا أنه قال ابن الصلاح: صحيح ابن حبان يقارب مستدرك الحاكم في حكمه ونقل ابن حجر الهيتيمي في فهرسته أنه قال الحاكم: إن ابن حبان ربما يخرج عن مجهولين لا سيما ومذهبه إدراج الحسن في الصحيح إلى آخر كلامه ونقل العماد ابن كثير3
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "29".
2 فتح المغيث "1/19".
3 العماد ابن كثير هو: الإمام المحدث الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير=

أيضا أن ابن الحبان وابن خزيمة التزما الصحة وهما خير من المستدرك بكثير وأنظف إسنادا ومتونا1 وعلى كل حال فلا بد للمتأهل من الاجتهاد والنظر ولا يقلد هؤلاء ومن نحا نحوهم فكم حكم ابن خزيمة بالصحة لما لا يرتقي عن رتبة الحسن بل فيما صححه الترمذي من ذلك حملة مع أنه يرفرق الحسن والصحيح. انتهى.
قلت: فلا تأخذ ما قاله المصنف والزين وغيرهما مما ذكروه حكما كليا "وكتاب المستدرك2 على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم على تساهل فيه" أي التصحيح "قال ابن الصلاح: ما انفرد الحاكم بتصحيحه لا بتخريجه فقط إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يعمل به إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه" لفظ ابن الصلاح اعتني الحاكم أبو عبد الله الحافظ بالزيادة في عدد الحديث الصحيح على ما في الصحيحين وجمع ذلك في كتاب سماه المستدرك أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين مما رواه على شرط قد أخرجا على رواته في كتابيهما أو على شرط البخاري وحده أو على شرط مسلم وحده وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه وإن لم يكن على شرط واحد منهما وهو واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به فالأولى أن يتوسط في أمره فنقول ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة وإن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن3. انتهى.
وقد عرفت أن حكم صحيح ابن حبان حكم المستدرك كما قاله ابن الصلاح إلا أنه قال الزين إنه قال الحازمي4 إن ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم.
ـــــــــــــــــــ
= ابن ضوء القيس البصرواي. قال الذهبي: الأمام المفتي المحدث، ثقة متفنن، محدث متقن. مات سنة "774". له ترجمة في: شذرات الذهب "6/231"، والنجوم الزاهرة "11/123"، وإنباه الغمر "1/39".
1 اختصار علوم الحديث ص "21- 22".
2 المستدرك: معنى "الاستدراك" هو أن يتتبع إمام من الأئمة إماما آخرا في أحاديث فتته ولم يذكرها في كتابه، وهي على شرطه أخرج عن رواتها في كتابه فيحصى المستدرك- بكسر الراء- هذه الأحاديث المتروكة، ويذكرها في كتاب يسمى "المستدرك- بفتح الراء - غالبا أوما في هذه المعنى. "الوسيط" ص "239".
3 علوم الحديث ص "29".
4 الحازمي هو: الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم الهمداني. قال ابن النجار: كان من الأئمة الحفاظ. العالمين بقفه الحديث ومعانيه، ثقة نبيلا حجة زاهدا. له ترجمة في: البداية والنهاية "12/332"، وشذرات الذهب "4/282"، ووفيات الأعيان "1/488".

"قال" زين الدين "ابن العراقي: الحكم عليه بالحسن تحكم" أي قول بأحد المحتملات بلا دليل "والحق أن ما انفرد بتصحيحه تتبع بالكشف عنه" بالنظر في رجال إسناده "ويحكم عليه بما يليق بحاله" المأخوذ من صفات رواته "من الصحة أو الحسن أو الضعيف ولكن ابن الصلاح رأيه أنه ليس لأحد أن يصحح في هذه الأعصار فلهذا قطع النظر عن الكشف عليه" ويأتي الكلام في ذلك.
"قلت: قد كشف عنه" الحافظ أبو عبد الله "الذهبي ويبنه في كتاب تلخيص المستدرك وذكر أن فيه قدر النصف صحيحا على شرط الشيخين كما ادعاه الحاكم وقدر الربع صحيح لا على شرطهما" وهو الذي اجتهد في تصحيحه برأيه "وقدر الربع مما يعترض عليه في تصحيحه".
قلت: وفي النبلاء للذهبي ما لفظه في المستدرك شيء كثير على شرطيهما وشيء كثير على شرط أحدهما ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب بل أقل فإن في ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما في الباطن لها علل ككثيرة مؤثرة وقطعة من الكتاب أسانيدها صالح وحسن وجيد وذلك نحو ربعه وباقي الكتاب مناكير وعجائب وفي غضون ذلك أحاديث نحو المائة يشهد القلب ببطلانها. اهـ.
وفيه مخالفة لكلام المصنف وفيه إنصاف يخالف ما حكاه الذهبي عن أبي سعيد الماليني أنه قال طالعت المستدرك الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره فم أر فيه حديثا على شرطهما قال الذهبي1: هذا غلو وإسراف منه وإلا ففي المستدرك حملة وافرة على شرطهما وجملة كثيرة على شرط أحدهما وهو قدر النصف وفيه الربع مما صح سنده أو حسن وفيه بعض العلل وباقية مناكير واهيات وفي بعضها موضوعات قد أفردتها في جزء2. اهـ.
وللحافظ ابن حجر تفصيل وتقسيم لأحاديث المستدرك يطول ذكره من أخب راجعه في نكته على ابن الصلاح.
"قلت: ولعل عذره" أي الحاكم "في تصحيحه" لما ليس بصحيح عند أئمة الحديث
ـــــــــــــــــــ
1 الذهبي هو: الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان التركماني ثم الدمشقي. له مصنفات كثيؤة منها "تاريخ الإسلام" و "سير أعلام النبلاء". مات سنة "749". له ترجمة في: طبقات الشافعية الكبرى "9/109- 111".
2 تدريب الراوي "1/106".

"أنه لم يلتزم قواعد أهل الحديث وصحح على قواعد كثير من الفقهاء وأهل الأصول فاتسع في ذلك ونسب لأجله إلى التساهل" هذا عذر حسن إلا أنه لا يطابق قول الحاكم على شرطهما فيما يخرجه فإنه ظاهر أنه أيما يصحح ما يوجد فيه شرائط الصحة عند الشيخين على اصطلاح الأئمة من أهل الحديث بل على اصطلاح الشيخين.
ولفظ الحاكم في خطبة المستدرك1 وأنا أستعين بالله على إخراج أحاديث روايتها قد ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة انتهى فإنه علل بأنه الزيادة مقبولة أي زيادة رواة الصحيحين على ما فيهما وهو ظاهر في أنه روي عن رجالهما وقوله قد احتج بمثلها أي يمثل أحاديث رواتها ثقات وهم رواة الصحيحين أو أحدهما كما دل له قوله في أول حديث أخرجه في المستدرك فإنه أخرج حديث أبي هريرة مرفوعا: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" 2 وقال إنه على شرط مسلم وقد استشهد بأحاديث القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة ومحمد بن عثمان وقد احتج لمحمد ابن عجلان فدل على أنهلا يخرج إلا لرجالهما سواء ذكروهما في الاستشهاد، أو في الاحتجاج كما دل له قوله في القعقاع وفي محمد بن عجلان ولكنه قدم هذا في الخطبة ما لفظه أن أجمع كتابا يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها3 انتهى فإنه قال يحتج ولم يرد أو يستشهد فلا لد من حمل الاحتجاج على ما يشمل الاستشهاد مجازا.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر نقل عن الحافظ العلائي أنه قال مراد الحاكم بقوله على شرط فلان أن رجال ذلك السند أي من نسب أليه الشرط أخرج لكل منهم احتجاجا هذا هو الأصل.
وقد يتسامح لاحاكم فيغضى عمن يتفق أنه وقع في السند ممن هو في مرتبة من أخرج له وإن لم يكن عينه وذلك قليل بالنسبة إلى المثل وتراه بنوع العبارة فتارة يقول على شرطهما وذلك حيث يخرجان له وتارة على شرط البخاري أو مسلم وذلك حيث يكون في السند من انفرد به أحدهما ومتى كان أكثر السند ممن لم يخرجا
ـــــــــــــــــــ
1 "1/42".
2 الحاكم "1/3"، وأبو داود "4682"، وأحمد "2/250".
3 المستدرك "1/42".

له قال صحيح الإسناد ولا ينسبه إلى شرط واحد منهما وربما أورد الخبر ولا يتكلم عليه كأنه أراد تحصيله وأخر التنقيب عليه فعوجل بالموت من قبل أن يتقن ذلك. انتهى.
واستحسنه الحافظ ابن حجر وقال إنه لا مزيد عليه في الحسن.
وإذا عرفت هذا عرفت عدم تمام كلام المصنف في قوله إنه لم يلتزم قواعد أهل الحديث إلخ وإن أراد المصنف أن هذا العذر فيا صححه باجتهاده وليس على شرطهما فالظاهر أن كل ما في كتابه قد زعم شرطهما وإنما عرف أن فيه ما ليس كذلك بالكشف عنه وحينئذ فتصحيحه مبني على اصطلاح أئمة الحديث لكنهم حين كشفوا عنه وجدوه ليس كما ادعاه وهذا الإشكال يرد على قوله: "وقد ذكر ابن الصلاح ما يؤيد هذا فإنه قد ذكر أن الظاهر من تصرفات الحاكم أنه يجعل الحديث الحسن صحيحا ولا يفرده" أي الحسن "باسم كما سيأتي" فإنه لم يؤلف كتابه إلا لما هو شرط الشيخين، على زعمه وليس عندهما حديث حسن بل كل ما هو على شرطهما صحيح ومن هنا تعرف صحة ما ذكرناه في رسم الصحيح من اختلاف اصطلاح الفقهاء واصطلاح أئمة الحديث في حقيقته وأنه لا يمكن جمعه في رسم واحد.
"قال زين الدين: إن الأولين قسموا الحديث إلى صحيح وضعيف ولم يذكروا الحسن" يريد فهو يؤيد ما قيل من أن الحاكم جعل الحسن صحيحا وقد تقدم تفسير الخطابي للحديث إلى صحيح وحسن وسقيم "قال زين الدين: وكذلك يؤخذ الصحيح" هو عطف على قوله سابقا قال زين الدين: ويؤخذ الصحيح أيضا "مما يوجد في المستخرجات على الصحيحين" قال ابن الصلاح: ككتاب أبي عوانة الإسفراييني وكتاب أبي بكر الاسماعيل وكتاب أبي بكر البرقاني وغيرهم "من زيادة" على حديث "أو تتمة لمحذوف" منه زاد ابن الصلاح أو زيادة شرح في كثير من أحاديث الصحيحين وكثير من هذا موجود في الجمع بين الصحيحين لأبي عبد الله الحميدي "فإنه يحكم بصحته" لما يأتي في بحث المستخرج وأن حكمه حكم ما استخرج عليه.
"قلت: وهذا كله" من قوله ما نص إمام على صحته إلى هنا "إنما اشترط في حق أهل القصور عن بحث الأسانيد ومعرفة الرجال والعلل عند من يشترط معرفتها" أي العلل وقد عرفت أنه يشترطها أئمة الحديث لا الفقهاء فإنهم إنما يشترطون القادحة "وأما من كان أهلا للبحث" عن الأسانيد والعلل مطلقا إن كان محدثا أو العلل القادحة إن كان فقيها "فله أن يصحح الحديث" ظاهر ما يأتي قريبا أن يقول فعليه "متى وجد فيه

شرائط الصحة المذكورة في كتب الأصول وعلوم الحديث ولا يجب الاقتصار" أي على تصحيح الأولين "إلا على رأي ابن الصلاح" من أنه ليس لأحد ممن المتأخرين أين يصحح الحديث "وهو" أي رأيه "مردود كما سيأتي بل لا يكون" من يتبع الأولين على تصحيحهم "مجتهدا منى قلد على الصحيح كما يأتي الكلام على المرسل" فلذا قلنا إن الأولى أن يقال عليه وسيأتي تحقيق الكلام إن شاء الله تعالى أن من قبل قول الأئمة في تصحيح الأحاديث فليس بمقلد لهم بل عامل برواية العدل وليس العمل بها من التقليد كما سيأتي للمصنف نفسه.

مسألة 8 [في المستخرجات]
"قال زين الدين: موضوع المستخرج" أي الكتاب الذي يستخرجه المحدثون والمراد به حقيقته لا الموضوع المصطلح عيه بل موضوع اصطلاحا الكتاب الذي يستخرج عليه فموضوع مستخرج أبي نعيم على البخاري أسانيده ومتونه لأنه يبحث في المستخرج عن كل منهما "أن يأتي المصنف" أي من يريد تصنيف المستخرج "إلى كتاب البخاري أو مسلم" لأنه لم يخرج أحد إلا عليهما كما هو المشهور ولذا اقتصر المصنف وزين الدين عليهما.
وإلا فإنه قد ذكر السيوطي1 في شرح تقريب النووي فائدة لا يختص المستخرج بالصحيحين وقد استخرج محمد بن عبد الملك بن أيمن على سنن أبي داود وأبو علي الطوسي على الترمذي وأبو نعيم على التوحيد لابن خزيمة وأملي الحافظ العراقي على المستدرك مستخرجا لم يكمل.
ثم رأيت البقاعي ذكر هنا ما لفظه بعد قوله المستخرج موضوعه ظاهره أنه لا يسعى مستخرجا إلا إذا كان على الصحيح وليس كذلك ثم ذكر من استخرج على غيرهما كما ذكرنا آنفا عن السيوطي ثم قال وعذر المصنف أن كلامه سابقا ولا حقا في الصحيح وحق العبارة أن يقال موضوعه أن يأتي المصنف إلى كتاب من كتب الحديث إلخ انتهى قال واعلم أنه ليس المراد الموضوع المصطلح عليه وإنما المراد حقيقة المستخرج ومعناه.
ـــــــــــــــــــ
1 السيوطي هو: عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد بن سابق الخضيري الأسيوطي. أخذ العلم عن عدد كبير من المشايخ، وله مؤلفات كثيرة. مات سنة "911". له ترجمة في: حسن المحاضرة "1/335"، والتحدث بنعمة الله ص "12".

وأما موضوعه بحسب الاصطلاح فأحاديث الكتاب الذي يستخرج عليه فموضوع مستخرج أبي نعيم على البخاري كتاب البخاري أسانيده ومتون لأنه يبحث في المستخرج عن كل منهما "فيخرج أحاديثه" أي البخاري ومسلم "بأسانيد لنفسه من غير طريق البخاري أو مسلم" فيجتمع إسناد المصنف للمستخرج "مع إسناد البخاري أو مسلم في شيخه" أي شيخ البخاري أو مسلم "ويسمونه" أي هذا النوع "موافقة" لأنه وافق المستخرج اسم فاعل البخاري أو مسلما في شيخه "أو" يجتمع المستخرج مع البخاري أو مسلم في "من فوقه" فوق شيخ أحد الشيخين الأدنى وإلا فمن فوقه شيخ لهما أيضا إلا أن الشيخ في العرف لا يطلق إلا على من أخذ عنه البخاري مثلا "ويسمونه" أي هذا النوع من الموافقة "عاليا" لأنها موافقة فيمن فوق شيخ أي الشيخين "بدرجة" إن كان شيخ شيخ البخاري مثلا "أو أكثر على حسب العلو" ومنه بقوله "فإذا اجتمع المستخرج مع صاحب الصحيح في شيخ شيخه كان عليا بدرجة وفي الثاني: بدرجتين ونحو ذلك وذلك كالمستخرج على البخاري لأبي بكر الاسماعيلي1 ولأبي بكر البرقاني2" بالموحدة مكسورة وسكون الراء وقاف مفتوحة في القاموس برقان بالكسر بلدة بخوارزم وبلدة بجرجان "ولأبي نعيم الأصفهاني" هذه كلها استخرجت على البخاري "والمستخرج على مسلم لأبي عوانة وأبي نعيم أيضا والمستخرجون لم يلتزموا" في متن الحديث "لفظ واحد من الصحيحين بل رووه بالألفاظ التي وقعت لهم من شيوخهم مع المخالفة لألفاظ الصحيحين" أي والاتفاق في المعنى فقوله في بيان موضوع المستخرج فيخرج أحاديثه أي أحاديث ما يخرج عيه أي بقصد ذلك وإن اختلف لفظ ما استخرجه وما استخرج عليه وإنما سماها أحاديثه مسامحة أو باعتبار من ينتهي إليه الإسناد من شيوخه إلى الصحابي الذي ذكر حديثه في الصحيحين.
ـــــــــــــــــــ
1 أبو بكر الإسماعيلي هو: الإمام الحافظ شيخ الإسلام أحمد بن إبراهيم بن أسماعيل بن العباس الجرجاني. قال الحاكم: كان واحد عصره، وشيخ المحدثين والفقهاء، وعلا إسناده وتفرد ببلاد العجم. مات سنة "371". له ترجمة في: شذرات الذهب "3/75"، والعبر "2/358"، والنجوم الزاهرة "4/140".
2 أبو بكر البرقاني هو: الإمام الحافظ شيخ الفقهاء والمحدثين أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي. قال الخطيب: كان ثقة ورعا ثبتا. مات سنة "336". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/36"، والعبر "3/156".

"وربما وقعت المخالفة أيضا في المعنى" بخلاف الأول فإنها تكون في اللفظ فقط والمعنى متحد وإذا تخالفا لفظا ومعنى "فلا يجوز أن تعزى" أي تنسب "متون ألفاظ أحاديث المستخرجات إليهما" أي إلى الشيخين إن خرج لهما معا "ولا إلى أحدهما" لأنه يكون كذبا "إلا أن يعرف اتفاقهما" أي اتفاق المستخرج عليه إن تفرد بالخريج له "في اللفظ" جاز أن ينسب متن الحديث المستخرج إلى المستخرج عليه وأن يقال فيه أخرجه البخاري مثلا لأنه يصدق عليه أنه قد أخرجه البخاري وإن كان رجاله غير رجال من ذكرهم في سنده وإنما وافقهم في شيخه أو شيخ شيخه إلى هنا كلام زين الدين.
فتحصل من هذا أن مخرج الحديث إذا نسبه إلى تخريج بعض المصنفين فلا يخلو إما أن يصرح بالمرادفة أو بالمساواة أولا يصرح إن صرح فذاك وإن لم يصرح كان على الاحتمال فإذا كان على الاحتمال فليس لأحد أن ينقل الحديث منها أي من المستخرجات ويقول هو على هذا الوجه فيهما ولكن هل له أن ينقل منه ويطلق كما أطلق هذا محل بحث وتأمل.
قلت: ومحل الاحتياط والتورع يقضي بأن لا يجزم بالنسبة إليهما وكونه يرد أن أصله فيهما لا دليل عليه إذا هو تعيين لأحد المحتملات بلا دليل ولذا ترى الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام وغيره من المصنفين يقولون بعد عزو الحديث إلى من أخرجه وأصله في الصحيحين لأنهم قد عرفوا أن أصله فيهما وبه تعرف ضعف الجواب الأتي للمصنف رحمه الله تعالى.
"قلت: شرط المستخرج ألا يروي حديث البخاري ومسلم عنها بل يروي حديثهما عن غيرهما وقد يرويه عن شيوخهم أو أرفع من ذلك" أي من شيوخهما أو شيوخهم كما عرفته ولكنه لا بد أن يكون "بسند صحيح" وقياس ما سلف أنه لا بد أن يكون على شرط من خرج عليه "وفي المستخرجات فوائد" ثلاث:
"أحدها: أن ما كان فيها من زيادة لفظ أو تتمة لمحذوف أو زيادة شرح في حديث" قد قدمنا لك أن هذه الزيادة لك يذكرها زين الدين فيما مضى وذكرها هنا "أو نحو ذلك" هذه اللفظة ليست من كلام ابن الصلاح ولا الزين "حكم بصحته لأنها خارجة من مخرج الصحيح" فلذا قلنا لا بد أن يكون رجال السند فيها على شرط من خرج عليه.

"وثانيها: أنها قد تكون" الرواية المستخرجة "أعلى إسنادا ذكرهما" أي هاتين الفائدتين "ابن الصلاح" فقط لم يزد عليهما ما زاده من قول.
"وثالثها: ذكره" الأحسن ذكرها "زين الدين وهي قوة الحديث" المستخرج والمستخرج عليه "بكثرة طرقه" عند المستخرج والمستخرج عليه "للترجيح عند التعارض" فإذا تعارضت الأحاديث رجح أكثرها طرقا.
واعلم أن هذه الفائدة التي ذكرها زين الدين قد ذكرها ابن الصلاح في مقدمة شرح مسلم ونقلها عنه الشيخ محي الدين النووي فاستدركها عليه في مختصره في علوم الحديث قاله الحافظ ابن حجر.
ثم قال: وللمستخرجات فوائد أخرى لم يتعرض أحد منهم لذكرها :
إحداها : عدالة من أخرج له فيه لأن المخرج على شرط الصحيح يلزمه أن لا يخرج إلا عن ثقة عنده فالرجال الذين في المستخرج ينقسمون أقساما:
منهم: من ثبتت عدالته قبل هذا المخرج فلا كلام فيهم.
ومنهم: من طعن فيه غير هذا المخرج فينظر في ذلك الطعن إن كان مقبولا قادحا فيقدم وإلا فلا.
ومنهم: من لا يعرف لأحد قبل هذا المخرج فيه توثيق ولا تجريح فتخريج من يشترط الصحة لهم ينقلهم عن درجة من هو مستور إلى درجة من هو موثق فيستفاد من ذلك صحة أحاديثهم التي يروونها بهذا الإسناد ولو لم تكن في ذلك المستخرج.
الثانية : ما يقع فيها من حديث المدلسين بتصريح السماع وهو في الصحيح بالعنعنة فقد قدمنا أنا نعلم في الجملة أن الشيخين اطلعا على أنه مما سمعه المدلس عن شيخه لكن ليس اليقين كالاحتمال فوجود ذلك في المستخرج بالتصريح ينفي أحد الاحتمالين.
الثالثة : ما يعق فيها من حديث المختلطين عمن سمع منهم قبل الاختلاط وهو في الصحيح من حديث من اختلط ولم يبين هل سماع ذلك الحديث منه في هذه الرواية قبل الاختلاط أو بعده.
الرابعة : ما يقع فيها من التصريح بالأسماء المبهمة والمهملة في الصحيح في الإسناد أو في المتن.
الخامسة : ما يقع فيها من التمييز للمتن المحال به على المتن المحال عليه وذلك في

كتاب مسلم كثير جدا فإنه يخرج الحديث على لفظ بعض الرواة ويحيل باقي ألفاظه والرواة على ذلك اللفظ يورده فتارة يقول مثله فيحمل على أنه نظيره وتارة يقول نحوه أو معناه فيحمل على أن فيهما مخالفة بالزيادة والنقص وفي ذلك من الفوائد ما لا يخفي.
السادسة : ما يقع فيها من الفصل للكلام المدرج في الحديث مما ليس من الحديث ويكون في الصحيح غير مفصل.
السابعة : ما يقع فيها الأحاديث المصرح برفعها وتكون في أصل الصحيح موقوفة أو كصورة الموقوفة.
إلى إن قال: فكملت فوائد المستخرجات بهذه الفوائد التي ذكرناها عشرا. انتهى.
وإذا عرفت أنه لا يجوز أن تعزي ألفاظه متون أحاديث المستخرجات إليهما ولا إلى أحدهما إلا أن يعرف اتفاقهما في اللفظ فقد وقع لجماعة خلاف هذا فلهذا قال المصنف "واعلم أنه قد يتساهل بعض المستخرجين فينسبون الحديث إلى البخاري أو مسلم وليس هو بلفظه فيهما" ولا يعزب عنك أنه قد سبق أن المستخرجين قد يأتون بألفاظه ليست من الكتاب الذي استخرجوا عليه بألفاظها، بل قد لا تكون بمعانيها وأنه لا يجوز لمن ينقل من المستخرجات أن يعزو ألفاظها إلى الصحيحين وهنا قال إنه قد يتساهل المستخرج نفسه وينسب الحديث إلى البخاري أو مسلم وليس كلام في المستخرج فإنه لا يتعرض لنسبة حديثه إليهما أو إلى أحدهما وإنما يسوق إسنادا لنفسه يجتمع قيه مع إسناد البخاري أو مسلم ولفظ ابن الصلاح الكتب المخرجة على كتاب البخاري أو كتاب مسلم لم يلتزم مصنفوها موافقتهما موافقتهما في ألفاظ الأحاديث بعينها من غير زيادة ولا نقصان إلى قوله وهكذا ما أخرجه المؤلفون في تصانيفهم المستقلة كالسنن الكبرى وشرح السنة لأبي محمد البغوي وغيرهما مما قالوا فيه أخرجه البخاري ومسلم. انتهى.
وبه تعرف أن التساهل ليس للمستخرجين بل للمؤلفين في تصانيفهم المستقلة أي التي ليس المراد بها الاستخراج على أحد الكتابين وبه تعرف أن قوله "وكذلك فعل البيهقي في السنن الكبرى والمعرفة وغيرهما" من كتبه "والبغوي في شرح السنة وغير واحد فإنهم يروون الحديث بأسانيدهم ثم يعزونه إلى البخاري أو مسلم مع اختلاف الألفاظ والمعاني" - صحيح في هؤلاء فإنه لم يقع العزو مع الاختلاف إلا لهؤلاء

فقط لا لمن ذكره وأمثالهم ممن لم يرد تأليف مستخرج فلو اقتصر على هؤلاء كما فعله ابن الصلاح لكان صوبا وعبارة الزين كعبارة ابن الصلاح ببعض تغيير ألجأه إليه النظم فإنه قال الزين في ألفيته:
والأصل أعني البيهقي ومن عزا ثم قال في شرحها: "وقولي:
والأصل أعني البيهقي ومن عزا كأنه قيل: فهذا البيهقي في السنن الكبرى والمعرفة وغيرهما والبعوي في شرح السنة وغير واحد يروون الألفاظ والمعاني انتهى فعرفت أن المستخرجين لا يقع لهم الصنع الذي ذكره المصنف إنما وقع لغيرهم من أهل التأليف التي لم يقصد بها المصنفون ما قصده المستخرجون "والجواب عنهم" عن البيهقي ونحوه، "أنهم إنما يريدون" إذا عزوه إلى واحد من الشيخين "أن أصل الحديث فيهما أو أحدهما لا أن ألفاظه و" كل "معانيه كذلك" هذا الجواب تقدم في شرح قوله إلا أن يعرف اتفاقهما في اللفظ فتذكر ما فيه وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح فإنه قال بعد ذكره لصنع البيهقي ومن معه فلا يستفيد بذلك أي بعزو البيهقي الحديث أو أحدهما أكثر من أن البخاري أو مسلما أخرج أصل ذلك الحديث مع احتمال أن يكون بينهما تفاوت في اللفظ وربما كان تفاوتا في بعض المعنى.
قلت: يريد أي لا في كله إذ لو كان التفاوت في كل الألفاظ وكل المعاني لما كان بينهما اتصال في شيء ولا يصح أي يقال أصله فيهما ولذا قيدنا قول المصنف ومعانيه بقولنا كل فتدبر ثم قال وإذا كان الأمر في ذلك على هذا القياس فليس لك أن تنقل حديثا فيها وتقول هو على هذا الوجه في كتاب البخاري أو كتاب مسلم إلا أن يقابل لفظه أو يكون الذي أخرجه قد قال أخرجه البخاري بهذا اللفظ انتهى كلامه.
وهو كلام واضح في المؤلفات المستقلة لا المستخرجة فإن الكتب المستخرجة لا يذكر فيها مؤلفوها أخرجه البخاري أو مسلم كما عرفته من ذكر المصنف لموضوعها اللهم إلا أن يثبت أن أهل المستخرجات ينسبون ما أخرجوه إلى أحد الشيخين فإنا لم نر شيئا من الكتب المستخرجة فإن كان كذلك لم يتم له ما سلف في بيان شروط

المستخرجات. نعم اتفقت المستخرجات والمؤلفات المسندات بأسانيد مؤلفيها في أنه لا يجوز عزو ما فيها إلى لفظ البخاري أو مسلم اغترارا يكون المستخرج استخرج على الكتابين ويكون مؤلف الكتب المسندة بأسانيدها نسب ما ذكره إلى أحد الشيخين لأن الأول لم يقصد إخراج ألفاظه ما أخرج عليه إلا أن يعرف اتفاقهما في اللفظ كما قرره المصنف فيما سلف بالنسبة إلى المستخرجات والثاني: لم يقصد يعزوه إلى أحدهما إلا أن أصل الحديث فيهما.
ولذا قال المصنف: "وقد انتقد على الحميدي" هو الحافظ أبو عبد الله محمد بن نصر أبي فتوح حفيد الأزدي الأندلسي الظاهري المذهب من أكبر تلامذة ابن حزم "أنه أورد في الجمع بين الصحيحين ألفاظا وتتمات ليست في واحد منها أخذها من المستخرجات أو استخرجها هو ولم يميزها" ولذا قال الزين في ألفيته1:
وليت إذا زاد الحميدي ميزا قال في شرحها: يعني أن أبا عبد الله الحميدي زاد في كتابه الجمع بين الصحيحين ألفاظا ليست في واحد منهما من غير تمييز.
"قال ابن الصلاح2: وذلك موجود فيه كثيرا فربما نقل بعض من لا يميز ما يجده فيه عن الصحيح وهو مخطئ انتهى" تمام كلامه لكونه من تلك الزيادات التي لا وجود لها في واحد من الصحيحين.
"وأما الجمع بين الصحيحين لعبد الحق" بن عبد الرحمن الحافظ الحجة أبو محمد الأزدي الإشبيلي أثنى عليه الذهبي في التذكرة وذكر له عدة مصنفات منها الجمع بين الصحيحين وغيره وهذا عطف على مجموع ما سلف كأنه قال أما الجمع بين الصحيحين للحميدي فلا ينقل منه وأما الجمع لعبد الحق "وكذلك مختصرات البخاري ومسلم" كمختصر الحافظ المنذري له "فلك أن تنقل منها وتعزو ذلك" المنقول "إلى الصحيح" لأنها ألفاظه ولذا قال "ولو باللفظ" بأن تقول أخرجه البخاري بلفظه "لأنهم أتوا بألفاظ الصحيح قال زين الدين: واعلم أن الزيادات التي تقع في كتبا الحميدي ليس لها حكم الصحيح خلاف ما اقتضاه كلام ابن الصلاح" وإنما قال زين الدين: ليس لها حكم الصحيح لقوله: "لأنه" أي الحميدي "ما رواه بسنده
ـــــــــــــــــــ
1 "1/22" رقم "36".
2 علوم الحديث ص "31".

كالمستخرج" لأن المستخرج أسند ما أخرجه بخلاف من يجمع بين الصحيحين فإنه ليس ما سند إلا سند الصحيحين والحال أنهما لم يوجد فيهما "ولا ذكر" أ ي الحميدي "أنه يزيد ألفاظا واشتراط فيها الصحة حتى يقلد في ذلك وهذا هو الصواب" أي القول بأنه ليس لها حكم الصحيح ولا يخفى ما في قوله حتى يقلد وقد نبهنا عليه وسيأتي تحقيق ذلك.
"قلت: بل الصواب ما ذكره ابن الصلاح فإن الحميدي من أهل الديانة والأمانة والمعرفة التامة وهو من أئمة هذا الشأن بغير منازعة وهو أعقل من أن يجمع بين أحاديث الصحيحين ثم يشوبها بزيادات واهية ولو فعل ذلك كان خيانة في الحديث وجناية على الصحيح" لا يخفي أن هذا هو الذي يقضي به حسن الظن إلا أن يعارضه أن هذه زيادات زادها لم يجدها الأئمة الباحثون في الصحيحين قالوا ولا ذكر أنه يزيدها من كتاب آخر ولا قال إنه ملتزم صحتها بل ظاهر تسمية كتابه جمع الصحيحين أن كل ما وجد فيه فهو منهما ولم توجد تلك الزيادة فانتفى حسن الظن به وأما ابن الصلاح فليس في كلامه ما يفهم صحة كلام الحميدي وإنما تكلم على زيادات المخرجين قال إنها ثبتت صحتها بهذه التخاريج لأنها واردة بالأسانيد الثابتة في الصحيحين أو واحد منهما ولم يتكلم في زيادات الجمع للحميدي فقول المصنف قلت: بل الصواب ما ذكره ابن الصلاح ليس في محله.
ثم ذكر المصنف مختار المحققين بقوله "وقد اختار المحققون إلحاق ما جزم به البخاري من التعاليق والتراجم" أي إلحاقه بالصحيح "دون ما مرضه فكذلك ما جزم به الحميدي وألحقه بالصحيح ولم يميزه منه" لعله يقال الفرق بين الأمرين واضح فإن الحميدي يقول هذه أحاديث الصحيحين ووجدنا في كتابه ما ليس فيهما فكيف نقول هو كتعاليق البخاري المجزومة فإن تلك تتبعت ووصلت مقطوعاتها كما عرفته مما نقلناه عن الحافظ ابن حجر بخلاف ما زاده الحميدي فتتبع فلم يوجد فيما قال إنه منه "وهو وإن لم ينص على ذلك" أي على صحة ما ألحقه وزاده "فهو ظاهر من وضع كتابه" يقال وضع كتابه لجمع الصحيحين لا غير فهذه الزيادات ليست فيهما "وقرائن أحواله".
استدل المصنف لظاهر وضع كتابه وقرائن أحواله بقوله: "ألا تراه حذف من الجمع بين الصحيح ما علقه البخاري عمن لا يحتج به عنده مثل حديث بهز بن حكيم عن

أبيه عن جده مرفوعا الله أحق أي يستحى منه1" قال ابن الصلاح: إن هذا الحديث ليس من شرط البخاري قال ولهذا لم يورده الحميدي في جمعه بين الصحيحين وحديث: "الفخذ عورة" 2 فإن قال ابن الصلاح: إن قول البخاري بابا ما يذكره في الفخذ ويروي عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الفخذ عورة" ثم ذكر أنه ليس من شرط البخاري "ونحوهما فلو كان الحميدي متسامحا لذكر ذلك مع الصحيح فكيف يحذف من كتاب البخاري ما هو منه لضعفه ثم يحشو فيه من الواهيات ما ليس فيه هذا ضعيف جدا" يقال نعم هذه قرائن تفيد حسن الظن به لكن عدم وجود ما زاده يقلع هذه القرائن وإن أراد المصنف أن هذه الزيادات لها طرق عند الحميدي صحيحة فقد زعم الزين أنه لم يذكر شرطا ولا قال إنه رواها حتى يعتمد عليه في ذلك "وقوله أيضا إنه لم يزد ألفاظا ويشترط فيها الصحة فيقلد في ذلك غير جيد" يعني قوله "فإن قبول الثقة ليس بتقليد بل واجب معلوم الوجوب بالأدلة الدالة على وجوب قبول الثقات في الأخبار والله أعلم" لا شك أن القائل من الأئمة هذا حديث صحيح مخبر بأنها كملت عدالة رواته وضبطهم وسائر صفات الصحة وخبر العدل يجب قبوله وليس من باب التقليد له خبر بل من باب قبول خبر الآحاد كما عرف في الأصول لكنه تقدم للمصنف قبل مسألة المستخرجات أن من قلد في التصحيح لا يكون مجتهدا وهذا ينافيه والصواب هو هذا ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
وإذا عرفت هذا الكلام في جمع الحميدي فاعلم أن هذا مبني من ابن الصلاح والزين والمصنف على تقليد الآخر للأول وإلا فإنه قد تحقق الحافظ ابن حجر مما قاله الحميدي في ا لزيادات وما شرطه في كتابه فيما كتبه على كلام شيخه فقال بعد سياقه للكلام ما لفظه وكأن شيخنا رضي الله عنه قلد في هذا غيره وإلا فلو رأى كتاب الجمع بين الصحيحين لرأى في خطبته ما دل على ذكره لاصطلاحه في هذه الزيادات وغيرها ولو تأمل المواضع الزائدة لرآها معزوة إلى من زادها من أصحاب المستخرجات وتبعه في ذلك الشيخ سراج الدين النحوي فألحق في كتابه ما صورته هذه الزيادات ليس لها حكم الصحيح لأنه ما رواها بسنده كالمستخرج ولا ذكر أنه يزيد ألفاظا
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري "1/78"، والترمذي "2766 و 2794"، وابن ماجه "1920"، وأحمد "5/4".
2 البخاري "1/103"، والترمذي 2797"، وأحمد "3/478"، والبهقي "5/228".

وشرط فيها الصحة حتى يقلد في ذلك وقال شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني1 في محاسن الاصطلاح في هذا الموضع ما صورته وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي تتمات ولا وجود لها في الصحيحين وهو كما قال ابن أل بصلاح إلا أنه كان ينبغي التنبيه على تلك التتمات لنكمل الفائدة انتهى كلامه.
قال الحافظ: والدليل على ما ذهبت إليه من أن الحميدي أظهر اصطلاحه بما يتعلق بهذه الزيادات موجودة في خطبة كتابه إذا قال في أثناء المقدمة ما نصه وربما أضفنا إلى ذلك نبذا مما تنبهنا له من كتب أبي الحسن الدارقطنى وأبى بكر الاسماعيلى وأبي بكر الخوارزمي يعني البرقانى وأبي مسعود الدمشقي وغيرهم من الحفاظ الذين عنوا بالصحيح مما يتعلق بالكتابين من نبيه على غرض أو تتميم لمحذوف أو زيادة من شرح أو بيان لاسم أو نسب أو كلام على إسناد أو تتبع لوهم فقوله من تتميم لمحذوف أو زيادة هو غرضنا هنا وهو يختص بكتابي الإسماعيلي أو البرقاني لأنهما استخرجا على البخاري واستخرج البرقاني على مسلم وقوله من تنبيه على غرض أو كلام على إسناد أو تتبع لوهم أو بيان لاسم أو نسب يختص بكتابي الدار قطني وأبي مسعود وذاك في كتاب التتبع وهذا في كتاب الأطراف وقوله مما يتعلق بالكتابين احتراز عن تصانيفهم التي لا تتعلق بالصحيحين فإنه لم ينقل منها شيئا هنا فهذا الحميدي قد أظهر اصطلاحه في خطبة كتابه ثم إنه فيما تتبعته من كتابه إذا ذكر الزيادة في المتن بعزوها لمن رواها من أهل المستخرجات وغيرها فإن عزاها لمن استخرجها أقرها وإن عزاها لمن لم يستخرجها تعقبها غالبا لكنه تارة يسوق الحديث من الكتابين أو من أحدهما ثم يقول فيه مثلا زاد فيه فلان كذا وهذا لا إشكال فيه وتارة يسوق الحديث والزيادة جميعا في نسق واحد ثم يقول في عقبة اقتصر البخاري على كذا وزاد فيه الإسماعيلي كذا وهذا يشكل على الناظر غير المميز لنه الذي حذر ابن الصلاح منه لأنه حينئذ يعزو إلى أحد الصحيحين ما ليس فيه انتهى كلامه.
قلت: بل لا إشكال فيه أيضا بعد قوله اقتصر منه البخاري على كذا وزاد فيه الإسماعيلي كذا وأي بيان أوضح من هذا البيان وكأنه لذلك قال يشكل على الناظر
ـــــــــــــــــــ
1 شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني هو: عمر بن رسلان بن نصير بن صالح بن شهاب الكناني الشافعي. ولى قضاء الشام، وانتهت إليه رياسة المذهب الشافعي والإفتاء. مات سنة "805". له ترجمة في:إنباه الغمر "2/245"، والبدر الطالع "1/506"، وشذرات الذهب "7/51".

غير المميز ولكن هذا لا يخفي على مميز ولا غيره لا يخفي أن قول الحافظ هذا هو الذي حذر منه ابن الصلاح غير صحيح فإن ابن الصلاح قد زعم أن الحميدي لم يميز الزيادات أصلا بل ظاهره أنه سردها في ضمن أحاديث الشيخين من غير بيان ولا ذكر قاعدة وهذا مبني على الوهم الذي وقع له ولغيره من الأئمة ولم يكشف قناعه إلا الحافظ بما حققه عن خطبة الحميدي.
ثم ساق الحافظ أمثلة دالة على ما ذكره مقررة لما صدره ثم قال فهذه الأمثلة توضح أن الحميدي يميز الزيادة التي يزيدها هو أو غيره ثم قال وقد قرأت في كتاب الحافظ أبى سعيد العلائي في علوم الحديث له قال لما ذكر المستخرجات ومنها المستخرج على البخاري للإسماعيلي والمستخرج على الصحيحين للبرقاني وهو مشتمل على زيادات كثيرة في تضاعيف متون الأحاديث وهي التي ذكرها الحميدي ي الجمع بين الصحيحين منبها عليها هذا لفظه بحروفه وهو عين المدعي ولله الحمد انتهى.
قلت: ولا يخفي أن هذه الفائدة تساوي رحلة فجزاه الله خيرا فقد تم الوهم على شيوخه وعلى المصنف.
قلت: ولم نتابع الحافظ في كلامه بل راجعنا كتاب الحميدي فرأيناه ذكر ما ذكره الحافظ وصح الواقع للواهمين وهذا من شؤم متابعة الآخر والأول من غير بحث عما قاله.
ثم لنذكر بعض الأمثلة التي ذكرها الحافظ فإنه قال منها ما ذكره أي الحميدي في مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في أفراد البخاري1 عن أبي سعيد بن يحمد قال سمعت ابن عباس يقول يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم أسمعوني ما تقولون ولا تذهبوا فتقولوا قال ابن عباس قال ابن عباس من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر ولا تقولوا الحطيم2 فإن الرجل في الجاهلية يحلف فيلقي نعله أو سوطه وقوسه لم يزد يعني البخاري على هذا وزاد البرقاني في
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري في: مناقب الأنصار: ب "27".
2 الحطيم: هو ما بين الركن والباب. وقيل هو الحجر المخرج منها، سمي به لأن البيت رفع وترك هو محطوما. وقيل لأن العرب كانت فيه ما طافت به من الثياب، فتبقى حتى تنحطم بطول الزمان، فيكون فعيلا بمعنى فاعل. "النهاية"، "1/403".

الحديث بالإسناد المخرج به وأيما صبي حج به أهله فقد قضت حجته عنه ما دام صغيرا فإذا بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج به أهله فقد قضت عنه ما دام عبدا فإذا بلغ فعليه حجة أخرى انتهى ما ذكره الحافظ نقلا عن كتاب الحميدي وهو صريح فيما ذكره عنه من البيان لما زاده.
قلت: وقد راجعت جامع الأصول لابن الأثير وفروعه في كتاب الحج فوجدته قد ساق الرواية التي نسبها الحميدي إلى البخاري مقتصرا عليها ونسبها إلى البخاري ولم يأت بحرف من زيادة البرقاني وكذلك فروع الجامع صنعوا صنيعه من الاقتصار والعزو ثم راجعتها في باب حج الصبي فم أجدهم ذكروا زيادة البرقاني.
ولعل من تتبع الجامع لم يجده ينقل من كتاب الحميدي إلا ألفاظ الشيخين لا غير وحذف ما فيه من الزيادات التي زادها من غيرهما ومعلوم أنه حيث قد ميز الحميدي الزيادات وعزاها إلى من رواها أنه لا يأتي ابن الأثير وينقل الأصل، والزيادة وينسبها معا إلى الشيخين فإن هذا ما يفعله عالم ولا تقي بل ولا عاقل.
نعم كان على ابن الأثير أن يقول في خطبة الجامع حيث قال واعتمدت في النقل عن البخاري ومسلم على جمعه الإمام أبو عبد الله الحميدي في كتابه إلا أنى اقتصرت على لفظهما وحذفت ما زاده من غيرهما ليندفع الوهم الذي يأتي للمصنف في التنبيه.
واعلم أن ابن الأثير حذف ما ذكره الترمذي من جامعه في قوله عقيب الحديث صحيح حسن غريب مجموعة تارة ومفرقة أخرى وهو إخلال بما فيه نفع كثير وغنية عن الكشف عن حال الحديث من تصحيح وغيره وإن كان في كلام الترمذي في هذه الصفات أبحاث تعرفها فيما يأتي وكذلك حذف ما تعقب به أبو داود بعض الأحاديث من بيان أنها واهية كما نقل عنه وسيأتي.
إذا عرفت هذا فليس لك أن تستدل بحديث الترمذي وأبي داود بمجرد وجدانهما في جامع الأصول وفروعه بل لا بد من الكشف عن حاله ولعل من هذا قول ابن الأثير في خطبة جامع الأصول ما لفظه وأما الأحاديث التي وجدناها في كتاب رزين رحمه الله تعالى ولم أجدها في الأصول في الأمهات الست فإنني كتبتها نقلا عن كتابه على حالها في موضعها المختصة بها وتركتها بغير علامة وأخليت لاسم من أخرجها موضعا لعلى أتتبع نسخا أخرى لهذه الأصول وأعثر عليها فأثبت اسم من

أخرجها. انتهى.
وكأنه وقع له ما وقع لمشايخ الحافظ في عدم مطالعتهم لخطبة الحميدي فإنه وجد نقل بخط بعض العلماء أن في لفظ خطبة رزين في كتابه ما لفظه واعلم أني أدخلت من اختلاف نسخ الموطأ لابن شاهين والدار قطني ومن رواية معن للموطأ، أحاديث تفردت بها بعض النسخ عن بعض وكلها صحيحة وقال أيضا في موضع آخر إنه ظاهر ما اتفق عليه النسائي والترمذي واتفق عليه أحدهما مع بعض نسخ الموطأ بأحاديث يسيرة ثبتت له سماعها وهي مروية من طريق أهل البيت عليهم السلام عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما. انتهى.
هذا صريح في أنه أخرج أحاديث من غير الستة الأصول وعزاها إلى من ذكره وإن ما زاده خاص برواية الموطأ لا غير وإنما قلت: لعله وكأنه لأني لم أجد نسخة من رزين فأخبر عما نقل عنه على اليقين إلا أني أظن قوة ما نقل عنه في الخطبة لاستبعاد أن يريد جمع الأصول الستة ثم يأتي بأحاديث لا توجد في كتاب حديثي منها والعجب من الشيخ محمد بن سلمان أنه ينسب التخريج لرزين في كتابه الذي سماه جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد فإنه قال في خطبته إنه نقل ما بيض له ابن الأثير من روايات رزين التي لم ينسبها على كتاب فنسبها الشيخ لرزين كما ينسب روايات البخاري وغيره فيقول مثلا بعد سياق المتن للبخاري ويقول بعد سياق المتن لرزين فيوهم في نسبته إليه على حد نسبته إليه على حد نسبته إلى البخاري مثلا أنه أخرجه رزين وابن الأثير بيض له ولم ينسبه لرزين لأنه لم يخرجه والحال أن رزينا ليس من المخرجين للأحاديث على ما ذكره في خطبته وأن أحاديث رزين بيض لها بان الأثير فكان عليه أن يبيض لها كابن الأثير ا, يتتبع مواضع ما يخرج منه، فيخرجها فيأتي بفائدة يعتد بها وذكرت هذا لأنه يستبعد أ لا يطلع على رزين وقد كان في مكة وجمع من الكتب ما اشتهر عند أهل عصره أنه لم يجتمع عند أحد من أهل عصره مثله ثم إن ابن الديبع اختصر من جاع الأصول كتابه المسمىتيسير الوصول فصنع صنع الشيخ محمد بن سليمان في نسبة ما بيض له ابن الأثير إلى تخريج رزين فيقول أخرجه رزين وهو خلل كبير وكان الأولى أن يبيض له كما بيض له ابن الأثير وقد نبهت على هذا في التحبير شرح التيسير في محلات كثيرة والحمد لله.
"تنبيه: حكم ما نقله أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم ابن الأثير في

جامع الأصول عن البخاري ومسلم حكم ما نقله الحميدي لأنه اعتمد كتاب الحميدي في الجمع لأحاديثهما كما ذكره في خطبة الجامع ومقدمته" فإنه قال أي ابن الأثير في خطبة الجامع واعتمدت في النقل من كتاب البخاري ومسلم على ما جمعه الإمام أبو عبد الله الحميدي في كتابه فإنه أحسن في ذكر طرقه واستقصى في إيراد رواياته وإليه المنتهى في جمع هذين الكتابين انتهى.
إذا عرفت هذا عرفت أن فيما ينسبه ابن الأثير إلى البخاري ومسلم إشكالا لأنه ينقل لفظهما من كتاب الحميدي والحميدي أنى فيه بزيادات صرح أنها من كتب المستخرجين عليهما وحينئذ فكيف يسوغ النقل عن جامع الأصول أو فروعه من كتاب البازري وتيسير ابن الديبع ومعتمد ابن بهران وجمع الفوائد لأفاظ الصحيحين من تلك الكتب لتصريح ابن الأثير أنه اعتمد في نقلهما على كتاب الحميدي وتصريح الذين اختصروا الجامع أو نقلوا منه من المذكورين وغيرهم بأن جامع الأصول أصلهم ومعتمدهم ثم ينسبون ألفاظ ما ينقلونه منه إلى الشيخين فهذا لا يجوز على كلام المصنف في هذا التنبيه.
نعم على ما قررناه آنفا من أنا راجعنا جامع الأصول فوجدناه يقتصر على ما في الصحيحين من دون ذكره لما زاده الحميدي من غيرهما وقدمنا لك مثال ذلك فلا يتم قول المصنف حكم ما نقله ابن الأثير حكم ما نقله الحميدي وقد سبق له ولابن الصلاح ولزين الدين أنه لا يجوز نسبة ما في كتاب الحميدي إلى الشيخين لما عرفت ولذا قال المصنف فيما سلف آنفا وأما الجمع بين الصحيحين لعبد الحق وكذلك مختصرات البخاري ومسلم فلك أن تنقل منها وتعزو ذلك إلى الصحيح ولو باللفظ.
إذا عرفت هذا فهو إشكال لزم من كلام المصنف لا ينحل دال على عدم جواز ذلك هذا تقرير مراد المصنف رحمه الله تعالى وكلام من تقدمه وإلا فقد قدمنا لك من التحقيق ما يزيل هذا الإشكال فإن ابن الأثير قال إنه اعتمد في نقل الصحيحين على كتاب الحميدي ولم يقل نقل كتاب الحميدي ولا إشكال بعد تقرر ما نقلناه عن ابن حجر وما نقلناه من المثال واقتصار ابن الأثير فيه على كلام البخاري ومن له همة تتبع ألفاظ ابن الأثير وألفاظ جامع الحميدي فإنه يجد ما يقرر ما ذكرناه أو يقرر ما ذكره المنصف رحمه الله تعالى.

مسألة:9 [في بيان مراتب الصحيح]
"مراتب السند الصحيح عند المحدثين" يحترز من مراتبه عند الفقهاء "اعلم أن مراتب الصحيح متفاوتة" وأن جمعها الاتصاف بالصحة "بحسب تمكن الحديث من شروط الصحة وعدم تمكنه وقد ذكر أهل علوم الحديث" أي جمهورهم "أن الصحيح ينقسم" باعتبار ما ذكر "سبعة أقسام" القسم "الأول أعلاه وهو ما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم وهو الذي يعبر عنه أهل الحديث" الناقلون من كتابي الشيخين "بقولهم: متفق عليه" يطلقون ذلك ويعنون به اتفق البخاري ومسلم واتفاق الأئمة أيضا حاصل على ذلك لما تقدم من تلقيهم لها بالقبول كذا قاله البقاعي.
واعلم أنك قد عرفت مما أسلفناه في وجوب ترجيح البخاري أن شرطه أخص من شرط مسلم لأنه يشترط اللقاء ومسلم يكتفي بشرط المعاصرة مع إمكان اللقاء وكل من ثبت له اللقاء ثبتت له المعاصرة وليس كل ممن ثبتت له المعاصرة يثبت له اللقاء فرجح البخاري بخصوصية شرطه أي كان ذلك من المرجحات ووجود الأعم في ضمن الأخص ضروري فكل راو للبخاري قد حصل فيه شرط مسلم ضرورة وجود الأعم في الأخص وليس كل راو لمسلم يحصل فيه شرط البخاري الأخص وقد عرفناك أن هذا الشرط إنما هو فيما يروى بالعنعنة لا في غيره.
فعلى هذا يحسن أن يقال وإنه تقدم رواية البخاري على مسلم فيما يرويانه بالعنعنة لا مطلقا فقد أسلفنا لك في وجهوه الترجيح التي ذكرها ابن حجر مرجحات للبخاري مطلقا ما لا يتم به مدعاهم فتذكر هذا باعتبار
أصل شرطهما لا باعتبار ما اتفقا عليه فانضمام مسلم في روايته إلى البخاري لم يأت بزيادة تقوى رواية البخاري وإنما القوة حصلت من حيث إنه صار للحديث راويان البخاري ومسلم إذ قد اشتركا في رواية الحديث من أول رجاله إلى آخرهم ومن حيث إنه وجد في الرواية الشرط

الأخص إذ الغرض فيمن اتفقا عليه أنهم رواة البخاري الذين قيهم الشرط الأخص هذا إن أريد بالاتفاق ما ذكروا وإن أريد أنهما اتفقا على صحابيه فقط دون رجاله فليحقق المراد من مرادهم ثم المارد بما اتفقا عليه ما اتفقا على إخراج إسناده ومتنه معا وهذا عند جمهور المحدثين إلا عند الجوز في فإنه يعد المتن إذا اتفقا على إخراجه ولو من حديث صحابيين حديثا واحدا كما إذا أخرج البخاري المتن من حديث أبي هريرة وأخرجه مسلم من طريق أنس.
واعلم أنه تبع المصنف الزين وهو تبع ابن الصلاح في جعل أعلى أقسام الصحيح ما اتفقا عليه واعترض بأن الأولى أن يكون القسم الأول هو ما بلغ مبلغ التواتر أو قاربه في الشهرة والاستفاضة وأجاب الحافظ ابن حجر بأنا لا نعرف حديثا وصف بكونه متواترا ليس أصله في الصحيحين أو أحدهما.
قلت: ولا يخفي ما في جواب الحافظ ابن حجر فإنه لو سلم أن كل متواتر في الصحيحين فلا خفاء في أنه أرفع رتب الصحة وحينئذ فالمتعين أن يقال إلى المراتب في الصحة ما تواتر في الصحيحين من أحاديثهما ولك أن تقول الكلام إنما هو الصحيح من الحديث الأحادي فإن التدوين له وكذا في شرائطه وأما المتواتر فلا مدخل للبحث عنه هنا.
ثم قال الحافظ: والحق أن يقال:
إن القسم الأول وهو ما اتفقا عليه يتفرع فروعا :
أحدها : ما وصف بكونه متواترا.
ويليه: ما كان مشهورا كثير الطرق.
ويليهما : ما وافقهما عليه الأئمة الذين التزموا الصحة على تخريجه الذين أخرجوا السنن والذين انتقوا المسند.
ويليه : ما وافقهما عليه بعض من ذكره.
ويليه : ما انفرد بتخريجه.
فهذه أنواع للقسم الأول- وهو ما اتفقا عليه- إذ يصدق على كل منها أنهما اتفقا على تخريجه.
ثم قال: فائدتان :
إحداهما : إن اتفاقهما على التخريج عن راو من الرواة يزيده قوة، فحينئذ ما يأتي،

من رواية ذلك الراوي الذي اتفقا على التخريج عنه أقوى مما يأتي من رواية من انفرد.
أحدهما: أي بالرواية عنه.
والثانية : أن الإسناد الذي اتفقا على تخريجه يكون متنه أقوى من الإسناد الذي انفرد به أحدهما.
ومن هنا يتبين أن فائدة المتفق إنما تظهر فيما إذا أخرجا الحديث من حديث صحابي واحد، وفيه إشارة إلى خلاف الجوزقي كما قدمنا.
ثم قال: بعم قد يكون في ذلك الحديث أيضا قوة من جهة أخرى، وهو أن المتن الذي تعددت طرقه أقوى من المتن الذي ليس اه إلا طريق واحدة، والذي يظهر من هذا أنه لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي، بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد، إذا لم يكن فردا غريبا، أقوى مما أخرجه أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه الآخر، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من صحابي واحد فردا غريبا، فيكون ذلك أقوى. انتهى كلامه.
"والثاني" من الأقسام السبعة "ما أخرجه البخاري" منفردا به.
"والثالث" منها "ما أخرجه مسلم" منفردا به، فيقدم ما انفرد به البخاري على ما انفرد به مسلم.
قال الحافظ ابن حجر: هذه الأقسام للصحيح التي ذكرها المصنف- يريد ابن صلاح- ماشية على قواعد الأئمة ومحققي النقاد، إلا أنها قد تطرد لأن الحديث الذي انفرد به مسلم مثلا إذا فرض مجيئه من طرق كثيرة حتى يباغ التواتر أو الشهرة القوية أو يوافقه على تخريجه مشترطوا الصحة مثلا ى يقال فيه إن ما انفرد البخاري بتخريجه إذا كان فردا ليس له إلا مخرج واحد أقوى من ذلك، فليحمل إطلاق ما ذكر على الأغلب.
قلت: أو يقال مرادهم أن ما انفرد به مسلم أو انفرد به البخاري مقيد بقيد الحيثية أي ما انفرد به مسلم من حيث انفراده دون ما انفرد به البخاري من تلك الحيثية فلا ينافي تقديم ما انفرد به مسلم من حيثية أخرى.
"والرابع" من الأقسام "ما هو على شرطهما" أي الشيخين ولم يخرجه واحد منهما وإلا لكان من القسم الثاني.
واعلم أنه قد قال ابن الهمام في شرح الهداية من قال أصح الأحاديث ما في

الصحيحين ثم ما اشتمل على شرط أحدهما تحكم لا يجوز التقليد فيه إذا الأصحية ليست إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها فإذا وجدت تلك الشروط في رواة حديث في غير الكتابين أفلا يكون الحكم بأصحية ما في الكتابين عين التحكم. اهـ.
قلت: قد يجاب بأن ما أخرجاه ونصا على رواته يعلم أنهما قد ارتضيا رواته وأما ما كان على شرطهما فإنه لم يتم دليل على تعيين شرطهما بل أئمة الحديث تتبعوا شرائط في الرواة وقالوا هي شرط الشيخين ولم يتفقوا على ذلك بل رد بعضهم على بعض كما سنعرفه فالحديث الذي يقال فيه على شرطهما لا يفيد إلا ظنا ضعيفا أنه على شرطهما لعدم تصريحهما بشرطهما بخلاف من رويا عنه في كتابيهما فإنه يحصل الظن بأنهما قد ارتضياه وإن قدح في بعض رجالهما والأغلب عدم ذلك والحكم للأغلب عند الظن نعم إذا روي حديث بنفس رجالهما من غير نقص فله حكم ما فيهما.
"والخامس ما هو على شرط البخاري" فيقدم.
"والسادس ما هو على شرط مسلم" كما قدم ما انفرد بإخراجه والعلة العلة.
"والسابع ما هو صحيح عند غيرهما" أي غير الشيخين "من الأئمة المعتمدين وليس على شرط واحد منهما" .
هذا التقسيم هو المعروف في كتب علوم الحديث وفائدة هذا التقسيم تظهر عند الترجيح هذا وأما الحاكم أبو عبد الله فإنه قسم الصحيح عشرة أقسام خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها ذكره ابن الأثير:
الأول من المتفق عليه : اختيار الشيخين وهو الدرجة العليا من الحديث وهو الحديث الذي يرويه الصحابي المعروف بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان تثقان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور وله رواة من الطبقة الرابعة ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظا متقنا مشهورا بالعدالة في روايته فهذه الدرجة العليا من الصحيح والأحاديث المروية بهذه الشرطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف.
الثاني من المتفق عليه : الحديث الذي ينقله العدل عن العدل فيرويه الثقات الحفاظ إلى الصحابي وليس لهذا الصحابي غلا راو واحد مثل حديث عورة ابن مدرس الطائي،

قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المزدلفة فقلت: يا رسول الله أتيتك من جبل طي أكلل فرسي وأتعبت مطيتي والله ما تركت من جبل إلا وقد وقفت عليه... الحديث1 فهو حديث من أصول الشريعة منقول بين الفقهاء ورواته كلهم ثقات ولم يخرجه البخاري إذ ليس له راو عن عروة بن مدرس إلا الشعبي.
الثالث من المتفق عليه : إخبار جماعة من التابعين عن الصحابة ثقات إلا أنه ليس لكل واحد منهم إلا الراوي الواحد.
الرابع من المتفق عليه : الأحاديث الأفراد التي يرويها الثقات وليس لها طرق مخرجة في الكتب مثل حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يجيء رمضان"2 وقد أخرج مسلم أحاديث العلاء أكثرها في كتابه وترك هذا وأشباهه مما تفرد به العلاء عن أبيه عن أبي هريرة.
الخامس من المتفق عليه : أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم إلا عنهم كصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجده عبد الله بن عمرو ابن العاص ومثل بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وأحاديثهما على كثرتها محتج بها في كتب العلماء وليست في الصحيحين.
وأما الخمسة المختلف فيها :
فأولها المراسيل : فقد اختلف الأئمة في قبولها والعمل بها ويأتي كلام المصنف فيها.
الثاني من المختلف فيه : رواية ا لمدلسين إذا لم يذكروا سماعهم في الرواية فيقولون قال فلان ممن هو معاصرهم رواه أو لم يروه ولا يكون لهم فيه سماع ولا إجازة ولا طريق من طرق الرواية وأنواع التدليس كثيرة وسيأتي ذكرها.
الثالث من المختلف فيه : خبر يرويه ثقة من الثقات عن إمام من أئمة المسلمين بسنده ثم يرويه عنه جماعة من الثقات فيرسلون وهذا القسم كثير وهو صحيح على مذهب الفقهاء والقول فيه عندهم قول من زاد في الإسناد أو المتن إذا كان ثقة وأما أهل الحديث فالقول عندهم فيه قول الجمهور الذين وثقوه وأرسلوه لما يخشى من
ـــــــــــــــــــ
1 ا[و داةد في: المناسك: ب "28"، والترمذي في: الحج ب "57"، والنسائي في: المناسك: ب "211"، والدارمي في: المناسك: ب "54"، وأحمد "4/261".
2 أبو داود "2337"، والبيهقي "4/209".

الوهم على الواحد.
والرابع من المختلف فيه : رواية محدث صحيح السماع صحيح الكتاب معروف بالرواية ظاهر العدالة غير أنه لا يعرف ما يحدث به ولا يحفظه.
قال الحاكم: كأكثر محدثي زماننا هذا وهو محتج به عند أكثر أهل الحديث وجماعة من الفقهاء فأما أبو حنيفة ومالك فلا يريان الاحتجاج به.
الخامس من المختلف فيه : روايات المبتدعة وأصحاب الأهواء وهي عند أكثر أهل الحديث مقبولة إذا كانوا فيها صادقين.
وكان أبو بكر محمد ابن اسحق بن خزيمة يقول حدثني الصدوق في روايته المتهم في دينه وفي البخاري جماعة من هؤلاء وأما مالك فإنه كان يقول لا يؤخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم أنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الحاكم: هذه وجوه الصحيح المتفقة والمختلفة قد ذكرناها لئلا يتوهم متوهم أنه ليس يصح من الحديث إلا ما أخرجه البخاري ومسلم انتهى منقولا من مقدمات جامع الأصول وصوبه صاحب جامع الأصول وبني على ما قاله من شرط الشيخين وأطال في ذلك بما هو معروف.
وخالفه الحافظ ابن حجر فتعقب كلام الحاكم فقال بعد نقل معناه لولا أن جماعة من المصنفين كالمجد ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول تلقوا كلامه أي الحاكم بالقبول لقلة اهتمامهم بمعرفة هذا الشأن واسترواحهم إلى تقليد المتقدم دون البحث والنظر لأعرضت عن تعقب كلامه هذا فإن حكايته خاصة تغني اللبيب الحاذق فأقول أما القسم الأول الذي ادعى أنه شرط الشيخين فمتقوض بأنهما لم يشترطا ذلك ولا يقتضيه تصرفهما وهو ظاهر بين لمن نظر في كتابيهما.
وأما ما زعمه بأنه ليس في الصحيحين شيء من رواية صحابي ليس له إلا راو واحد فمردود بأن البخاري أخرج حديث مذكورة في أثناء الكتاب.
وأما قوله إنه ليس في الصحيحين من رواية تابعي ليس له إلا راو واحد فمردود أيضا بما أخرج البخاري عن الزهري عن عمر بن محمد بن جبير بن مطعم ولم يروه عنه الزهري في أمثلة قليلة.

وأما قوله: إن الغرائب الأفراد ليس في الصحيحين منها شيء فليس كذلك بل فيهما قدر مائتي حديث قد جمعها الحافظ ضياء الدين المقدسي في جزء مفرد.
وأما قوله: ليس فيهما من روايات من روي عن أبيه عن جده، مع تفرد الابن بذلك عن أبيه فمنتقض برواية سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده برواية عبد الله ابن محمد بن علي عن أبيهما عن علي وغير ذلك ومن ذلكما تفرد به بعضهم وهو في الصحيحين أو أحدهما.
وأما الأقسام الخمسة التي ذكر أنه مختلف فيها وليس في الصحيحين منها شيء فالأول كما قال نعم قد يخرجان منه في الشواهد وفي الثاني: نظر يعرف من كلامنا في التدليس.
وأما ما اختلفا في إرساله ووصله بين الثقات ففي الصحيحين منه جملة وقد تعقب الدار قطني بعضه في التتبع له وأجبنا عن أكثره.
وأما روايات الثقات غير الحفاظ ففي الصحيحين منه جملة أيضا لكنه حيث يقع مثل ذلك عندهما يكونان قد أخرجا له أصلا يقويه.
وأما روايات المبتدعة إذا كانوا صادقين ففي الصحيحين عن خلق كثير من ذلك لكنهم من غير الدعاة ولا الغلاة وأكثر ما يخرجان من هذا القسم في غير الأحكام نعم قد أخرجا لبعض الدعاة والغلاة كعمران بن حطان وعباد بن يعقوب وغيرهما إلا أنهما لم يخرجا لأحد منهم إلا ما توبع عليه وقد فات الحاكم من الأقسام المختلف فيها قسم نبه عليه القاضي عياض وهو رواية المستورين فإن روايتهم مما اختلف في قبولها وردها ولكن يمكن الجواب عن الحاكم في ذلك تلقي حديثهم اسم الصحة عليه بل الذين قبلوه جعلوه من قسم الحسن بشرطين:
أحدهما : أن لا تكون روايتهم شاذة.
وثانيهما : أن يوافقهم غيرهم على رواية ما رووه فقبولها حينئذ إنما هو باعتبار المجموعية كما قرر في الحسن. انتهى.
"قلت: والوجه في هذا" أي في تقديم ما انفق الشيخان عليه إلى آخر الأقسام السبعة أي دليل على ما ذهبوا إليه من الحكم بالصحة للأقسام السبعة وعلى ترتبيها المذكور "عند أهل الحديث: هو تلقي الأمة للصحيحين بالقبول ولا شك أنه" أي التلقي

من الأمة بالقبول للصحيحين "وجه ترجيح".
اعلم أن معنى تلقي الأمة للحديث بالقبول هو أن تكون الأمة بين عامل بالحديث ومتأول له كما في غاية السول وغيرها من كتب الأصول وهذا التلقي لأحاديث الصحيحين يحتاج مدعيه في إثبات هذه الدعوى إلى دليل فتقول هذه الدعوى تحتاج إلى استفسار عن طرفيها هل المراد كل الأمة من خاصة وعامة كما هو ظاهر الإطلاق أو المجتهدون من الأمة وهو معلوم بأن الأول غير مراد فالمراد الثاني: وهو دعوى أن كل فرد فرد من مجتهدي الأمة تلقي الكتابين بالقبول ولا بد مت إقامة البينة على هذه الدعوى ولا يخفي أن إقامته عليها من المتعذرات عادة كإقامة البينة على دعوى الإجماع فإن هذا فرد من أفراده.
وقد جزم أحمد ابن حنبل وغيره بأن من ادعى الإجماع فهو كاذب وإذا كان هذا في عصره قبل عصر تأليف الصحيحين فكيف بعده مع أن هذا الإجماع بتلقي الأمة لها لا يتم إلا بعد عصر تأليفهما بزمان حتى ينتشروا يبلغا مشارق الأرض ومعاربها وينزلا حيث نزل كل مجتهد مع أنه يغلب في الظن أن في العلماء المجتهدين من لا يعرف الصحيحين فإن معرفتهما بخصوصهما ليست شرطا في الاجتهاد قطعا ولاحاصل منع هذه الدعوى.
ثم إن سلمت هذه الدعوى في هذا الطرق ورد سؤال الاستفسار عن الطرق الثاني: وهو هل المراد من تلقي الأمة لهذين الكتابين الجليلين معرفة الأمة بأنهما تأليف الإمامين الحافظين فهذا لا يفيد إلا صحة الحكم بنسبتهما إلى مؤلفيهما ولا يفيد المطلوب أو المراد تلقيها لك فرد فرد من أفراد أحاديثهما بأنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو المفيد للمطلوب إذا هو الذي رتب عليه الاتفاق على تعديل روايتهما إذا التلقي بالقبول هو ما حكم المعصوم بصحته ضمنا كما رسمه المصنف في كتبه وهو يلاقي معنى ما أسلفناه عن الأصوليين من أنه ما كانت الأمة بين متأول له وعامل به، إذ لا يكون ذلك إلا بما صح لهم ولكن هذه الدعوى لا يخفي عدم تسليمها في كل حديث من أحاديث الصحيحين غيرما استثنى إذ المعصوم هو الأمة جميعا أو مجتهدوها ولا يتم أن كل حديث حكم المعصوم بصحته ضمنا إذا ذلك فرع إطلاع كل فرد من أفراد المجتهدين على كل فرد من أفراد أحاديث الكتابين.
على أن التحقيق أن الأمة إنما عصمت عن الضلالة لا عن الخطأ كما قررناه في

الدراية حواشي شرح الغاية فحكم الأمة بصحة حديث من الأحاديث الأحادية وهو غير صحيح في نفس الأمر ليس بضلالة قطعا.
ولئن سلمنا أن مجتهدي الأمة كلهم تلقوا أحاديث الصحيحين بالقبول وصاروا بين عامل بكل فرد من أحاديثهما ومتأول فإنه لا يدل ذلك على المدعى وهو الصحة لأن الحسن يعمل ويتأول فلي التلقي بالقبول خاصا بالصحيح فقول المصنف إن التلقي بالقبول حكم من المعصوم بصحته ضمنا لا يتم إلا إذا لم يعمل المعصوم بالحسن ولا يتأوله والمعلوم خلافه ولئن سلم ما ادعاه المصنف ومن سبقه ووجه دعواهم ثم ذلك وجها لأحاديث الصحيحين لا غير لا لما هو على شرطهما إذ لا شرط لهما مقطوع به كم ستعرفه حتى يشمله التلقي بالقبول ولا يشمل ذلك الوجه القسم السابع وهو ما صححه إمام من الأئمة لاختصاص التلقي بالصحيحين ثم إذا كان وجه أرجحتهما هو التلقي المذكور فهما متلقيان على السوية فلا وجه لجعل ما اتفقا عليه مقدما على ما إذا انفرد كل واحد منهما ولا يجعل ما انفرد به البخاري أرجح من حيثية التلقي لاستواء الجميع فيه إذا عرفت ما في هذا الاستدلال على تقدم الصحيحين هو إخبار مؤلفيهما بأن أحاديثهما صحيحة وقد علم أنهما عدلان بلا ريب وخبر العدل واجب القبول فقول البخاري هذه أحاديث صحيحة بمثابة قوله رواة هذه الأحاديث عدول ضابطون ولا شذوذ فيها ولا علة وحينئذ فيجب قبول خبره كما يقبل تعديله للمجهول، وإخباره بضبطه وخلوص الحديث عن العلة والشذوذ لأن لفظ صحيح متكفل بهذه المعاني كما قررناه في رسالتنا إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد تقريرا بليغا وقال المصنف في العواصم إن الثقة العارف إذا قال إن الحديث صحيح عنده وجزم بذلك وجب قبوله بالأدلة العقلية والسمعية الدالة على قبول خبر الواحد ولم يكن ذلك تقليدا له ولعله يأتي.
وأما أنهما أصح من غيرهما فقد يستأنس له بما علم من تحريهما في الرجال وعدم التساهل في ذلك بحال إلا أنه ليس حكما على كل حديث حديث بل حكم على الأغلب وقد بحثنا في استدلالهم بتلقي الأمة للصحيحين بالقبول بقريب مما هنا في رسالتنا ثمرات النظر في علم الأثر.
"وقد اختلف هل يفيد" أي تلقي الأمة للصحيحين بالقبول "القطع بالصحة" لما

فيهما "كما سيأتي" في مسألة حكم الصحيحين "فأما قوة الظن فلا شك فيها" أي في إفادته لها "وإن لم يسلم لهم" أي للمحدثين "إجماع الأمة" لأن دعواهم تلقي الأمة بالقبول يتضمن إجماعها "فلا شك في إجماع جماهير النقاد من حفاظ الأثر وأئمة الحديث على ذلك والترجيح يقع بأقل من ذلك على ما يعرفه من له أنس بعلم الأصول" هو كما قال إلا أنه خروج عن دعوى تلقي الأمة المتضمن للصحة كما قرره ورجوع إلى أن حديث الصحيحين أرجح من غيره من الصحيح.
وكأنه يقول المصنف إذا لم يتم التلقي بالقبول ثم الترجيح وعلى التقديرين فأحاديث الصحيحين أرجح من غيرها من جهة الصحة.
"واعلم أن هذا الفصل يشتمل على أمرين أحدهما أن ما في البخاري ومسلم من الحديث المسند صحيح متلقي بالقبول من الأئمة" لا يخفي أنه كان يكفي هذا عن قوله صحيح لن التلقي يتضمن الصحة بل هو دليلها "وذلك هو الظاهر فقد ذكر صحتهما المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "في كتابه العقد الثمين وفي غيره وذكر الأمير الحسين" أي ابن محمد مؤلف كتاب شفاء الأوام "صحيح البخاري في كتابه الشفاء بلفظ الصحيح" وكذلك الزمخشري في الكشاف ذكره بلفظ الصحيح في العواصم للمصنف أن الزمخشري ذكر صحيح مسلم بلفظ الصحيح فينظر هل ذكر فيه البخاري أيضا كما هنا إلا أنه قد يقال إن ذكر من ذكرهما بلفظ الصحيح لا يدل على أنه قائل بصحتهما بالمعنى المراد هنا وذلك لأن لفظ الصحيح قد صار لقبالهما في العرف فإنه لا اسم لها إلا الصحيح البخاري وصحيح مسلم ثم إنه استدل بأنه ذكرهما من ذكر بلفظ الصحيح وليس من ذكر كل الأمة وكأنه يريد الاستدلال على قول الزيدية بصحتهما لا على قول الأمة إذ قد علم أن من عدا الزيدية قائل بصحتهما وإنما الحاجة إلى بيان أنهم قائلون أيضا بصحتهما فذكر منهم المنصور بالله والأمير الحسين إلا أنه لا يناسبه ذكر الزمخشري إذ ليس من الزيدية وإن وافقهم في بعض قواعد المعتزلة ثم ذكر جماعة من الزيدية بقوله "ونقل عنهما وعن غيرهما" أي عن غير الصحيحين ولا حاجة إلى ذكره إذ الكلام في الصحيحين "المصنفون" من الزيدية "كالمتوكل على الله" هو الإمام أحمد بن سليمان في كتابه أصول الأحكام "والأمير الحسين في شفاء الأوام ولم يزل العلماء" من الزيدية "يحتجون بما فيهما قال المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "في المهذب ولم يزل أهل التحصيل" يريد من

الزيدية لقوله "يحتجون بأحاديث المخالفين لهم في الاعتقاد" في المسائل الأصولية كخلق الأفعال والإمامة والرؤية ونحوها "بغير مناكرة" لعل هذا آخر كلامه.
ثم استأنف المصنف فقال: "وهذه" يعني أحاديث الصحيحين إذ الكلام فيها "أصح أحاديث المخالفين بغير مناكرة وقد استمر ذلك" أي استدلال أهل التحصيل بأحاديث المخالفين في الاعتقاد "وشاع وذاع ولم ينقل عن أحد فيه نكير وهذه" أي صورة الاستدلال الشائع الذائع الذي لم ينكره أحد "طريق من طرق الإجماع السكوتي" إذ حقيقته عند أئمة الأصول أن يقول المجتهد قولا أو يفعل وينتشر ويعلم به الباقون من المجتهدين ولا ينكرونه ويعلم أن سكوتهم رضا بقوله أوفعله وهذه صورة ثم هذا مبني على أن الإجماع السكوتي هنا حجة شرعية وقد بحثنا في ذلك في الدراية على الغاية والهداية وحققنا ما في القول بحجيته.
"بل هذه أكثر طرق الإجماع المحتج به بين العلماء" فإن غاية ما يقوله الباحثون والمدعون للإجماع إنه قيل هذا القول أو فعل هذا الفعل ولم ينكره أحد فكان إجماعا وأما الإجماع المحقق وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على قول في عصر بعده فقد قال أحمد بن حنبل من ادعاه فهو كاذب وذهب إلى إحالته جماعة من أئمة الأصول فلذا قال المصنف إن الإجماع السكوتي أكثر طرق الإجماع "وهذا" أي ما ذكر من استدلال أهل التحصيل إلى آخره "في ديار الزيدية" إلا أنه لا يخفي أنه قد يقال إنه لا يتم دعوى الإجماع المذكور لأن قبول أخبار المخالفين في الاعتقاد هي مسألة قبول كفار التأويل وفساقه وسيأتي أنها مسألة خلافية.
وقد تكرر أنه لا نكير في الخلافيات وحينئذ فالسكوت على ذلك وعدم النكير لكون المسألة خلافية لا أنه للرضا من الساكت حتى يكون هذا من الإجماع السكوتي فالحق أن هذا الاستدلال المذكور بأحاديث المخالفين فرع عن قبول كفار التأويل وفساقه فاستدلال من ذكر بأحاديثهم دليل على قبولهم وسيأتي دعوى الإجماع على ذلك وتحقيق المسألة إن شاء الله تعالى.
"فأما بلاد الشافعية وغيرهم من الفقهاء" أتباع مالك وأبي حنيفة وأحمد "فلا شك في ذلك وقد أشرت إلى ذلك في العواصم وبينت أكثر من هذا فليطالع هنا لك" قال فيها والظاهر بن إجماع أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم القول بما قاله الفقهاء من صحة هذه الكتب إلا ما ظهر القدح فيه وإنما قلنا إن الظاهر إجماعهم على ذلك لأن

الاحتجاج بصحيح ما في هذه الكتب ظاهر في مصنفاتهم شائع في بلادهم ثم ذكر نقل الإمام أحمد بن سليمان والأمير الحسين وعبد الله بن حمزة وأنه إجماع سكوتي ثم قال وأقصى ما في الباب أن ينقل إنكار ذلك عن بعض العلماء في بعض الأعصار فذلك النقل في نفسه ظني نادر واعتبار القدح بالظني النادر في عصر مخصوص لا يقدح في إجماع أهل عصر آخر وذكر مثل ما هنا.
وأيما أطال هنا لك في قول أبي نصر الوائلي السجزي حيث قال أجمع أهل العلم والقدماء وغيرهم أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في البخاري مما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صح عنه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا شك فيه أنه لا يحنث ولامرأة بحالها في حبالته فقال المصنف في العواصم بعد نقله الظاهر إجماعهم على ذاك وإجماع غيرهم لأن المعروف في كتب الفقه أن من حلف بالطلاق على صحة أمر وهو يظن صحته ولم ينكشف بطلانه لم يحنث لأن الأصل بقاء الزوجية ولا تطلق بمجرد الاحتمال المرجوح كما لو ظن في طائر أنه غراب فحلف بالطلاق أنه غراب ثم غاب عن يصره ولم يتمكن من أخذ اليقين في ذلك فإن زوجته لا تطلق انتهى.
ثم ذكر في هذا المحل أربعة عشر بحثا إلا أنه لا تعلق لها بما نحن فيه.
"وأما الأمر الثاني: وهو أن البخاري ومسلما أصح كتب الحديث فهذا مما لا يوجد للزيدية فيه نص والظاهر من مذهبنا أن رواية أئمتنا" في العلم "إذا تسلسل إسنادها بهم" يأتي تفسير المسلسل "ولم يكن بينهم من هو دونهم أنها أصح الأسانيد مطلقا" لم يستدل المصنف لهذا الظاهر وقد قال الإمام عبد الله ابن حمزة مشيرا إلى هذا:
كم بين قولي عن أبي عن جده وأبي أبي فهو الإمام الهادي
وفتى يقول روي لنا أشياخنا ما ذلك الإسناد من إسناد "ولكنه يقل وجودها على هذه الصفة" حتى إنه ذكر المصنف في إيثار الحق وغيره أنه ليس في كتاب الأحكام للإمام الهادي إمام مذهب الزيدية حديث مسلسل بآبائه إلا حديثا واحدا وهو قوله حدثني أبي وعماي محمد والحسن عن أيها القسم بن إبراهيم عن أبيه عن جده إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جده الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "يا علي يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به يقال لهم الرافضة إن أدركتهم فاقتلهم قتلهم الله إنهم

مشركون1. انتهى بلفظه من الأحكام فلذا قال المصنف إنه يقل وجود الأحاديث بهذه الصفة لأهل مذهبه.
واعلم أن قول المصنف مذهبنا وأصحابنا جريا على المألوف وإلا فإنه لا يعنزي إلى فريق في مذهبه كما أشار إليه في أبياته الدالية ومنها:
والكل إخوان ودين واحد كل مصيب في الفروع ومهتدي
هذي الفروع وفي العقدية مذهبي ما لا يخاف فيه كل موحد "وأما كتب الحديث في أنفسها فلعل أصحابنا لا يخالفون في أن أصحها البخاري ومسلم لغزة شرطهما وما فيه" أي شرطهما "من التحري والاحتياط" ولما تكرر من المصنف ذكر شرطهما في تقسيم الصحيح وهنا توجه عليه ذكر شرطهما فقال: "وقد اختلف المحدثون في تفسير شرط البخاري ومسلم" اعلم أنه لم ينقل عن الشيخين شرط شرطاه وعيناه إنما تتبع العلماء الباحثون عن أساليبهما وطريقتهما حتى تحصل لهم ما ظنوه شروطا لها ولذا اختلفوا فيه لاختلاف أفهامهم فيها فإنهم اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:
الأول : ما أفاده قوله: "فقال محمد بن طاهر2" المقدسي "في كتابه في شروط الأئمة: شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلته" أي عدالة وضبطا "إلى الصحابي المشهور" فيه دليل على أنه يرى أن شرط الشيخين متحد وأنه شيء واحد قلت: ولا يخفي أنه لا يوافق ما سلف من تقسيم الصحيح ومن قولهم ثم ما على شرط البخاري ثم ما على شرط مسلم.
"قال زين الدين: وليس مما قاله ابن طاهر بجيد" حيث قال: المجمع على ثقة نقلته فإنه غير صحيح "لأن النسائي ضعف جماعة أخرج لهم الشيخان أو أحدهما" فلم تتم دعوى ابن طاهر أن رواتهما مجمع على ثقتهم.
"قلت: ما هذا" أي تضعيف جماعة من رواة الشيخين "مما اختص به النسائي بل شاركه في ذلك غير واحد من أئمة الجرح والتعديل كما هو معروف في كتب هذا
ـــــــــــــــــــ
1 الحلية 4/95 والعلل 1/160, وابن أبي عاصم 2/475.
2 محمد بن طاهر المقدسي الحافظ العالم الجوال قال ابن منده: كان أحد الحفاظ حسن الاعتقاد جميل الطريقة كثير التصانيف لازما للأثر مات سنة 507. له ترجمة في: العبر 4/14. وتذكرة الحفاظ 4/1242.

الشأن" كأنه لم يرد الزين إلا التمثيل وإلا فإنه لا يخفى على مثله أن غير النسائي قدح في جماعة من رواتهما "ولكنه" أي ما ضعف به من قدح فيه من رواتهما "تضعيف مطلق" فسر المطلق بقوله "غير مبين السبب" فهو وصف كاشف "وهو غير مقبول على الصحيح كما سيأتي بيان ذلك في موضعه من هذا المختصر" سيأتي للمصنف رحمه الله تعالى في مراتب الجرح في الفائدة السادسة أن الجرح الذي لم يبين سببه غير مفيد للجرح ولكن يوجب الريبة والوقف في غير المشاهير بالعدالة والأمانة فلا يؤثر فيهم ولا مفتر بأن الجرح مقدم على التعديل فذاك الجرح المبين للسبب انتهى.
قلت: إلا أنه لا يخفى أنه ليس كل من جرح من رجال الصحيحين جرحه مطلق مطلقا بل فيهم جماعة جرحوا جرحا مبين السبب منهم من جرح بالإرجاء كأيوب بن عائد بن مفلح أخرج له الشيخان قال النسائي وأبو داود كان مرجئا وقال غيرهما كان يرى الإرجاء إلا أنه صدوق وبالنصب فإنه أخرج البخاري لثور بن يزيد الحمصي وكان يرمي بالنصب قال ابن معين كان يجالس قوما ينالون من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لكنه كان لا يسب وأخرج البخاري لجرير بن عثمان الحمصي قال الفلاس كان يبغض عليا قال الحافظ بن حجر جاء عنه ذلك من غير وجه وجاء عنه خلاف ذلك روي عنه أنه تاب.
وبالتشيع أخرج البخاري عن خالد القطواني قال ابن سعد كان متشيعا مفرطا وبالقدر أخرج لهشام بن عبد الله الدستوائي كان حجة ثقة إلا أنه كان يرمي بالقدر قاله محمد بن سعيد وفيهم عوالم ممن رمي ببدعة وقد سقنا في ثمرات النظر جماعة من ذلك.
وقد أخذوا السلامة من البدعة في رسم العدالة فالبدعة قادحة عندهم فيها وفيهم من هو داعية إلى بدعته حتى بالغ ابن القطان وقال في رجالهما من لا يعرف إسلامه نقله عن العلامة المقبلي وإن كنا لا نرى هذا إلا من العلو فأنه من المعلوم أنه لا يروى أئمة الحديث عن غير مسلم على أنه لو سلم للمصنف أنه ليس في رجالهما إلا من جرح جرحا مطلقا فإنه قال إنه يوجب الريبة والتوقف وهذا كاف يما تعقب به زين الدين ابن طاهر حيث قال إن شرطهما أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلت:ه إذ الثقة لا يتوقف في قبول روايته لسلامته عن الجرح مطلقا مفسرا فقول المصنف وهو أي التضعيف المطلق غير مقبول على الصحيح خلاف يأتي

له من أنه يقتضي الريبة والتوقف لا أنه يجزم بعدم القبول له كما هنا.
القول الثاني : مما قيل إنه شرط الشيخين ما أفاده قوله "قال الحازمي" كما نقله عنه زين الدين "في شروط الأئمة ما حاصله إن شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمن أخفوا عنه ملازمة طويلة" هذا لا يوافق ما نقل عن البخاري من أنه يشترط اللقاء ولو مرة بل هذا يدل على أنه إنما يكتفي بالمرة في حق أهل الطبقة الثانية الذين أشار إليهم بقوله: "وأنه قد يخرج أحيانا عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه فلم يلازموه إلا ملازمة يسيرة وأن شرط مسلم" عطف على قوله أن شرط البخاري "أن يخرج أحاديث هذه الطبقة الثانية" لا يخفي أن مسلما لا يشترط اللقاء أصلا كما صرح به في مقدمة صحيحة كما يأتي لفظه.
وأهل هذه الطبقة يشترط فيهم اللقاء ولو يسيرا كما عرفت فإن أريد أن مسلما قد يخرج لأهل هذه الطبقة فنعم ويخرج لأهل الأولى وهم على شرطه وزيادة وليسوا شرطه إلا أن يريد هنا تخريجه بغير العنعنة إذ هي التي لا يشترط فيها اللقاء فلا بأس لكن كان عليه أن يصرح بذلك هنا.
"وقد يخرج مسلم أحاديث من لم يسلم عن غوائل الجرح إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه كحماد بن سلمة في ثابت اللبناني وأيوب" قال الذهبي في الميزان احتج مسلم بحماد بن سلمة في أحاديث عدة في الأصول وتحايده البخاري قال الحاكم: في المدخل ما خرج مسلم لحماد بن سلمة في الأصول إلا في حديثه عن ثابت قال الذهبي وحماد إمام جليل مفتي أهل البصرة مع اسحق ابن أبي عروبة انتهى ولم يذكر فيه جرحا إلا أنه ساق عنه أحاديث فيها نكارة.
"قال زين الدين: هذا حاصل كلام الحازمي" ونقل النووي في شرح مسلم عن ابن الصلاح أن شرط مسلم في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما عن الشذوذ والعلة.
وقال النووي أيضا ذكر مسلم في أول مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث إلى ثلاثة أقسام:
الأول : ما رواه الحفاظ المتقنون.
والثاني : ما رواه المستورون المتوسطون في الإتقان والحفظ.
و الثالث : ما رواه الضعفاء والمتروكون.

وأنه إذا فرغ من هذا القسم الأول أتبعه الثاني: وأما الثالث: فلا يعرج عليه فاختلف العلماء في مراده بهذا التقسيم فقال الإمامان الحافظان أبو عبد الله الحاكم وصاحبه أبو بكر البيهقي1 إن المنية اخترمت مسلما قبل إخراج القسم الثاني: وإنما ذكر القسم الأول.
قال القاضي عياض وهذا مما قبله الشيوخ والناس من الحاكم أبي عبد الله وتابعوه عليه قال القاضي وليس الأمر على ذلك لمن حقق نظره ولم يتقيد بالتقليد فإنك إذا نظرت في تقسيم مسلم في كتابه الحديث على ثلاث طبقات من الناس كما قال فذكر أن القسم الأول حيث الحفاظ وإنه إذ انقضى أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق والإتقان مع كونهم من أهل الستر والصدق وتعاطي العلم ثم أشار إلى ترك حديث من أجمع العلماء أو اتفق الأكثر منهم على تهمته وبقي من ذكره بعضهم وصححه بعضهم فلم يذكره هنا ووجدته ذكر في كتابه حديث الطبقتين الأوليين بالأسانيد الثابتة عنهما بطريق الاتباع للأولى والاستشهاد وحيث لم يجد في الباب من الأولى شيئا ذكر أقواما تكلم فيهم قوم وزكاهم آخرون وخرج حديثهم ممن ضعف أوانهم ببدعة وكذا فعل البخاري فتبين أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر ورتبه في كتابه وبينه في تقسيمه وطرح الرابعة كما نص عليه.
قلت: وهي التي تأتي في عبارته بقوله وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثه.
والحاكم لم يذكر إلا ثلاث طبقات كما عرفت فالحاكم تأول أنه إنما أراد أن يفرد لكل طبقة كتابا ويأتي بأحاديثها خاصة مفردة وليس ذلك مراده بل إنما أراد ما ظهر في تأليفه وبأن من غرضه أن يجمع ذلك على الأبواب ويأتي بأحاديث الطبقتين فيبتدئ بالأولى ثم يأتي ب الثانية على طريق الاستشهاد والإتباع حتى يستوفي جميع الأقسام الثلاثة.
ويحتمل أن يكون أراد بالطبقات الثلاث الحفاظ ثم الذين يلونهم و الثالثة هي التي
ـــــــــــــــــــ
1 أبو بكر البيبهقي هو: الإمام الحافظ شيخ خراسان أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسر وجردى لزم الحاكم وتخرج به وأكثر عنه جدا وانفرد بالإتقان والضبط مات سنة 458. له ترجمة في: البداية والنهاية 12/94. والعبر 3/242. ووفيات الأعيان 1/20.

طرحها وكذلك علل الأحاديث التي ذكرها ووعد أنه يأتي بها وقد جاء بها في مواضعها من الأبواب من اختلافهم في الأسانيد كالإرسال والإسناد والزيادة والنقص وذكر تصاحيف المصحفين وهذا يدل على استيفائه غرضه في تأليفه وإدخاله في كتابه كل ماوعد به.
قال القاضي وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي من يفهم هذا الباب فما رأيت منصفا إلا صوبه وبان له ما ذكرت وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع الأبواب انتهى.
قلت: قد اضطرب1 العلماء في فهم مراد مسلم فلننقل لفظه ولنبين ما يفهمه.
قال مسلم في مقدمة صحيحه2 إنه يقسم الرواة على ثلاث طبقات من الناس:
أما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوه ولم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش ثم قال فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم فبلهم على أنهم وإن كانوا ممن وصفنا فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم ثم قال وأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فأنا لا نتشاغل بتخريج أحاديثهم ثم قال وكذلك من كان الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثه ثم قال أيضا فلسنا نصرح بتخريج حديثهم ولا نتشاغل به لأن حكم هؤلاء عند أهل العلم والذي يعرف من مذهبهم في قبول ما انفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رووا وأتقن في ذلك على الموافقة لهم انتهى جملة ما قاله بلفظه إلا حذف ما أتى به من تعداد رجال من أهل كل صنف.
إذا عرفت هذا فالذي عبارته أنه يخرج أحاديث أهل القسم الأول وهم أهل الاستقامة في الحديث والإتقان لما نقلوه وهؤلاء المعروفون بتمام الضبط المأخوذ قيدا في رسم الصحيح ثم يخرج أحاديث الصنف الثاني: وهم الذين خف
ـــــــــــــــــــ
1 اضطرب: اختلف.
2 1/4- 5.

ضبطهم وهم من أهل الستر والصدق وتعاطي العلم وهؤلاء هم شرط الحسن فإنهم الذي خف ضبطهم مع عدالته ثم ذكر أنه يترك الصنفين الآخرين بالكلية وهما قسمان : الأول : المتهمون عند أهل الحديث أو عند الأكثر و الثاني : من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط فإنه صرح بأنه لا يتشاغل بأهل هذين القسمين ولا يخرج أحاديثهم فعرفت أنه ذكر أنه قسم الرواة ثلاث طبقات وتحصل من كلامه أربع طبقات فكأنه جعل من لا يتشاغل بحديثه قسما واحدا وبعد تحقيقك لما ذكرناه تعرف أن قول القاضي إنه أتى مسلم بالطبقات الثلاث خلاف صريح قول مسلم بأنه لا يتشاغل بحديث المتهمين عند أهل الحديث أو عند الأكثر فإن هؤلاء هم أهل الطبقة الثالثة في كلامه وقول القاضي إنه طرح الرابعة صحيح لكنه أيضا طرح الثالثة فإنه حكم على أهل الثالثة والرابعة أنه لا يتشاغل بحديثهم وقول القاضي ويحتمل أنه أراد بالطبقات الثلاث من الناس الحفاظ ثم الذي يلونهم والثالثة التي طرح يقال هذا هو الاحتمال الذي يتبادر إليه كلام مسلم لكنه طرح الثالثة والرابعة أيضا.
وبعد هذا تعرف أن تأويل الحاكم بأنه إنما أتى بأهل الطبقة الأولى غير صحيح لأنه صرح مسلم أنه بعد تقضي أخبار أهل الطبقة الأولى يأتي بأهل الطبقة الثانية والظاهر أنه يأتي بهم في كتابه هذا لا في غيره فتبين أنه أتى بأهل طبقتين وترك أهل طبقتين هذا ما يفيده كلامه في المقدمة من دون نظر إلى ما في أبواب الكتاب ولا بد لنا من عودة إلى هذا ونذكر ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله فيما يأتي.
وقد اتضح لك أن صحيح مسلم في الصحيح والحسن بصريح ما قاله واتضح لك أن الأمر أوسع دائرة مما قاله الحازمي.
"قلت: ومراده" أي الحازمي "بإخراج مسلم لحديث من لم يسلم من غوائل الجرح إذا كان طويل الملازمة هو" أي من لم يسلم من غوائل الجرح "أن يكون متكلما عليه بضعف في حفظه لا في دينه" فهو خفيف الضبط "فإن ضعف الحفظ ينجبر بطول الملازمة" فتلحقه طول الملازمة بالحفاظ المتقنين "وهذا معروف من عرف المحدثين ولذا نجدهم يقولون في كثير من الرواة إنه قوي إذا روي عن فلان ضعيف إذا روي عن فلان" فهذا كلام حسن جدا وفائدة جليلة فإنه قد يقول الناظر إذا رأي أئمة الحديث يقولون مثلا في إسماعيل بن عباس إنه مقبول إذا روى عن أهل الشام ضعيف في روايته عن غيرهم إنه كيف يقبل في قوم ويضعف في آخرين فإنه إذا كان فيه شروط الرواية كاملة قبل في الفريقين وإلا رد فيها ولذا وصى المصنف رحمه الله بمعرفة

هذا بقوله "فاعرف ذلك" لنفاثته.
الثالثة : مما قيل إنه شرط الشيخين ما أفاده قوله: "وقال النووي إن المراد بقولهم" أي أئمة الحديث "على شرطهما أن يكون رجال إسناده في كتابيهما لأنه ليس لهما شرط في كتابيهما ولا في غيرهما قال زين الدين: وقد أخذ" أي النووي "هذا من ابن الصلاح فإنه لما ذكر كتاب المستدرك للحاكم قال إنه أودعه ما رآه على شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما إلى آخر كلامه" وهو قوله أو على شرط البخاري وحده أو على مسلم وحده "وعلى هذا" الذي ذكره ابن الصلاح "عمل الشيخ تقي الدين" ابن دقيق العيد "فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري مثلا" أي يقول بعد إخراجه في المستدرك على شطر البخاري "ثم يعترض" الشيخ تقي الدين "عليه" على الحاكم "بأن فيه" أي الحديث الذي صححه الحاكم على شرط البخاري مثلا "فلانا ولم يخرج له البخاري وكذلك فعل الذهبي في مختصر المستدرك" فدل هذا منه ومن الشيخ تقي الدين أنهما جعلا شرط البخاري ومسلم وجود رجال الإسناد في كتابيهما وأن شرطهما هو روايتهما عن الراوي في كتابيهما كما قاله النووي وتبعهم الحافظ ابن حجر فقال في النخبة وشرحها والمراد به أي شرطهما رواتهما مع باقي شروط الصحيح "وليس ذلك منهم" أي من ابن الصلاح والنووي وابن دقيق العيد والذهبي "بجيد" أي جعلهم شرط الشيخين ما ذكر غير جيد "فإن الحاكم صرح في خطبة كتابه المستدرك بخلاف ما فهموه عنه فقال وأنا أستعين بالله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما" فقوله بمثلها أي بمثل رواتها لا أنهم أنفسهم وحينئذ فلا يصح جعل شرطهما ما ذكره ابن الصلاح ومن تبعه إذا كان مستندهم هو صنيع الحاكم في المستدرك فإن كلامه في الخطبة لا يوافق ما قالوه.
قلت: ولكنه يبقى الإشكال في قول الحاكم على شرطهما ولم يخرجاه فإنه قد أثبت لهما شرطا في الرواة فلينظر ما أراد بقوله على شرطهما فإنه غير مبين ولا معلوم ووجود من ليس من رواتها في حديث يقول فيه على شرطهما دليل على أنه لا يقول بأن شرطهما رواتهما وكيف يجهل رجالهما مع شدة عنايته بكتابيهما ويجهل شرطهما مع أنه قد ذكر ابن الأثير في مقدمة كتابه جامع الأصول ما نقلناه عنه في البحث الرابع في الكلام على رسم الصحيح فإنه قال نقلا عن الحاكم شرط

الشيخين أن يرويا حديث الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان إلى آخر ما قدمناه رجحه ابن الأثير وذهب إليه ابن العربي المالكي وهذا قول رابع في شرط الشيخين وحينئذ فإذا يقال الحاكم: على شرطهما فالمراد ما ذكره هو وقد نقله عنه الحافظ ابن حجر في شرح النخبة ولكنه رده كما قدمناه.
وإذا عرفت هذه الأربعة في شرطهما وعرفت أنها مدخولة كلها بما ذكر فاعلم أنه يرد على ما ذكروه من جعلهم لشرط الشيخين متحدا كما هو الذي دل له كلام محمد بن طاهر وكلام ابن الصلاح ومن تبعه من الثلاثة المحققين إشكال من جهتين.
الأولى : أنهم قسموا الصحيح أقساما أحدهما ما كان على شرطهما ثم ما كان على شرط البخاري ثم ما كان شرط مسلم وقد قرروا أن شرطهما شيء واحد متحد فكيف يتصور انفراد شرط أحدهما عن الأخر وحينئذ فيسقط قسمان من السبعة الأقسام من أقسام الصحيح وتبقى خمسة.
و الثانية : أنهم جعلوا ما هو على شرطهما قسما ولم يتعين لهما شرط فهو إحالة على مجهول.
نعم يتم انفصال شرط أحدهما على شرط الآخر على كلام الحازمي وهو الذي أفاده كلام الحافظ ابن حجر فيما نقلناه سابقا في مرجحات البخاري على مسلم وأن شرط البخاري اللقاء ولو مرة وشرط مسلم مجرد المعاصرة ولو يسيرة إلا أن الخلاف بين الشيخين في اللقاء وعدمه إنما هو في روايته العنعنة لا مطلقا.
قلت: ولا يخفي أن هذا خلاف ما صرح به مسلم في مقدمة صحيحه بعدم شرطية اللقاء بل هجن على من اشترطه غاية التهجين كما سيأتي لفظه.
وقال الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها إن الصفات التي تدور عليها شروط الصحة من العدالة وتمام الضبط في كتاب البخاري وأتم منها في كتاب مسلم وأشد وشرطه أي البخاري أقوى وأسد إلى آخر كلامه الصريح في اختلاف شرط الشيخين.
وأنا شديد التعجب حيث لم أجد من نبه على هذا مع وضوحه والتحقيق عندي أن العمدة في الصحة وجود شرط البخاري لأنه أخص من شرط مسلم كما قررناه ووجود الأخص لازم لوجود الأعم فإذا وجد الأخص فهو الأقوى وحينئذ فشرطهما

وشرط البخاري قسم واحد وأقرب الأقوال إلى شرطهما كلام الحازمي لأنه فرق بين الشرطين إلا أنه يرد عليه أنه قال شرط مسلم أن يخرج عمن هم في أعلى درجات الإتقان ولازموا من أخذوا عنه ملازمة طويلة أو عمن ليسوا في أعلى درجات الإتقان ولا لازموا من رووا عنه ملازمة طويلة فأفاد أن مسلما يشترط اللقاء إذ هو لازم الملازمة طويلة كانت أو غير طويلة وقد عرفت أن مسلما صرح بخلاف هذا بل هو مهجن على من اشترطه إلا أن يخص كلام الحازمي بغير ما رواه مسلم بالعنعنة وفيه بعد هذا الحمل تأمل.
وأما الحافظ ابن حجر فإنه يتناقض كلامه في النخبة وشرحها فذكر ما سمعته قريبا من أن شرط بالبخاري غير شرط مسلم وذكر ما سمعنه قريبا من أن شرطهما وراتهما مع باقي شروط الصحة إلا أن يقال مراده شرطهما رواتهما وكل واحد منهما له في رواته شروط يمتاز بها عن رواة الآخر اتجه كلامه وسلم لكن قوله مع باقي شروط الصحة وهي السلامة عن الشذوذ والعلة يفت في عضد هذا لأن من كملت عدالته وأتقن ضبطه قد لا تسلم روايته عن العلة والشذوذ.
ثم من الأدلة على عدم اتحاد شرطهما ما ذكره النووي في شرح مسلم أن أبا الزبيير المكي وسهيل بن أبي صالح وحماد بن سلمة أحاديثهم صحيحة لأنهم على شرط مسلم اجتمعت فيهم الشروط المعتبرة ولم يثبت عند البخاري ذلك فيهم وكذا فيما أخرجه البخاري من حديث عكرمة عن ابن عباس واسحق بن محمد القروي وغيرهما مما احتج به البخاري ولم يحتج به مسلم انتهى بمعناه وهو مبني على أن شرطهما رواتهما كما سلف.
ولكنه لا يخفي بعد هذا كله أن جعل شرطهما ما ذكر من أحد الأربعة الأقوال إنما هو تظنن وتخمين من العلماء أنه شرط لهما إذ لم يأت عنهما تصريح ما شرطاه نعم مسلم قد أبان في مقدمة صحيحه من يخرج عنه حديثه كما عرفت.
ثم بقي بحث في تعقب الشيخ تقي الدين على الحاكم حيث يقول على شرطهما فيقول فيه فلان لم يخرج له البخاري وذلك أن ترك البخاري التخريج عن شخص ليس دليلا على أنه ليس على شرطه عند الحكم فإن الحاكم قائل بأن شرطهما على ما قدمناه عنه بلفظه وأشرنا غليه قريبا فتصريحه بشرطهما عنده يدل على أنه لا يقول بأن شرطها رواتهما وبما صرح به من شرطهما ينبغي أن يتعقب كلام ابن دقيق العيد في

تعقبه للحاكم بأن فلانا لم يخرج له البخاري مثلا وذلك لأن عدم إخراج البخاري عن فلان ليس دليلا أنه ليس على شرطه عند الحاكم بل كل من وجدت فيه الصفات التي ذكرها الحاكم وجعلها شرط رواة الشيخين فهو على شرطهما وإن لم يخرجا عنه فإذا أريد الانتقاد على الحاكم إذا قال على شرطهما ثم وجدنا فيه رجلا لم يخرجا عنه نظرنا في صفات ذلك الرجل هل هو جامع لما ذكره الحاكم من الصفات في شرط رواتهما فلا اعتراض عليه بأنه لم يخرج له الشيخان مثلا فالمعتبر وجود الشرط في الراوي لا وجوده عندهما أو عند أحدهما.
وبعد هذا تعرف أن قوله في خطبة المستدرك قد احتج بمثلها أي مثل رواتها في صفاتهم التي ذكرها وقد يكونون هم أنفسهم أو من اتصف بصفاتهم إذ ذلك هو المعتبر عنده لا أن شرطهما عنده وجود الراوي في كتابيهما كما عرفته من كلامه الذي قاله عنه ابن الأثير والحافظ ابن حجر وإن كان كلاما غير مقبول لكن المراد تطبيق كلامه على ما صرح هو به لا على كلام غيره كما فعله زين الدين ويلزم زين الدين أن الحاكم لم يخرج عمن خرجا عنه في كتابه المستدرك أصلا ولذا قال الزين لا أنهم أنفسهم وهذا خلاف الواقع فلم يرد الحاكم في خطبته إلا مثل من كان على صفة رواتهما التي هي شرطهما عنده أعم من أن يكون نفس رواتهما أو غيرهما ممن له تلك الصفات "ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث" فيكون ضمير يمثلها للأحاديث لا لرواتهما "وإنما تكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها" وبهذا الاحتمال يتم ما ادعاه ابن الصلاح ومن تبعه.
قلت: ولا يخفى ما قصدناه قريبا من أن الحاكم قد بين في كتابه المدخل شرط الشيخين وتصريحه مقدم على شيء تحتمله عبارة خطبته بل تصريحه يعين أحد المحتملين وقد أوضحناه قريبا.
إما العجب كيف يؤخذ من كلامة المحتمل شرط الشيخين ويترك ما صرح به من أنه شرطهما؟
وإذا عرفت ما أسلفناه في شروطهما عرفت أنه يتعين الإمساك عن الجزم بوصف حديث لم يخرجا في كتابيهما بأنه على شرطهما لأن شرطهما غير معلوم جزءا فكيف تجزم بوصف حديث لم يخرجاه ونصححه مع الشك فيما يوجبه ويتفرع عنه تصحيحه والشك لا يتفرع عنه يقين ولا يهاب إطباق المحققين على قولهم في حديث

لم يخرجاه إنه على شرط الشيخين فإن الحجة في الدليل لا في مجرد الأقاويل.
"قال زين الدين: وقد بينت المثلية في الشرح الكبير" إلا أنه قال الزين قبل هذا وفيه نظر أي في احتمال أن يراد بمثل تلك الأحاديث نفس رواتها فأفاد أنه لم يرتض الاحتمال الذي به يتم مراد ابن الصلاح ومن تبعه ثم قال وقد بينت المثلية إلى آخره.
"قلت: المثلية تقتضي الغيرية" أي حقيقة وإلا فإنه يأتي في الكتابة أنه قد يراد بالمثل غير المغاير نحو مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل ومنه قوله:
ولم أقل مثلك أعنى به سواك يا فراد بلا مشبه إلا أن قول المصنف "وقد تبين أن مراد الحاكم ما ذكره زين الدين بإخراجه" أي الحاكم "لحديث من لم يخرج حديثه البخاري ومسلم" يقتضي أنه لم يرد الحاكم بالمثل إلا الغير أو الأعم منه "وكلامه" أي الحاكم "يقتضي ذلك من غير هذه القرينة" التي هي إخراجه لحديث من لم يخرج له الشيخان "فكيف معها؟ والله أعلم".
واعلم أنه لا ريب أ في كتاب الحاكم جماعة من رجال الشيخين قطعا وجماعة من غير رجالها قطعا فلا يتم حمل المثلية في خطبة المستدرك على غير رواتهما وحصل فيه شرطهما الذي قرره الحاكم نفسه في المدخل كما قررناه قريبا فقول المصنف إنه قد تبين أن مراد الحاكم بالمثل ما ذكره الزين غير صحيح إذا ظاهر أنه ليس في كتاب الحاكم أحد رجال الصحيحين وهذا باطل وقول المصنف إنه قد أخرج حديث من لم يخرج له الشيخان مسلم لكن من أين له أنه لم يخرج لمن أخرج له الشيخان كيف وقد قدم المصنف كلام الذهبي بأن في المستدرك قدر النصف صحيحا على شرط الشيخين والمراد به أنه رواه برجالهما لأن ذلك شرطهما عند الذهبي كما قاله الزين آنفا ثم قال وقدر الربع على غير شرطهما أي ليس رجاله رجال الصحيحين فلذا قلنا قطعا في الطرفين وبه يتبين لك أن الحق في كلام الحاكم في المثلية ما ألهمنا الله إليه لا ما قاله زين الدين والمصنف.

مسألة 10 [في إمكان التصحيح في كل عصر ومن كل إمام]
"إمكان التصحيح مطلقا" أي: عصر من الأعصار ومن أي إمام من الأئمة "اعلم أن التصحيح على ضربين :
أحدهما: أن ينص على صحة الحديث أحد الحفاظ المرضيين المأمونين فيقبل ذلك منه" وهذا القسم قد تقدم فإنه أحد الأقسام السبعة الماضية لكنه ذكره هنا استيفاء للأقسام ولأجل الاستدلال عليه بقوله: "للإجماع وغيره من الأدلة الدالة على وجوب قبول خير الآحاد كما ذلك مبين في موضعه" من أصول الفقه وقد استدل ابن الحاجب بالإجماع بعد ذكره لخلاف القاشاني والرافضة وأبي داود واستدل أحمد والقفال وابن سريج وأبو الحسن على وجوب العلم بخير الآحاد بالعقل وبيانه بالدليل العقلي مذكور في مختصر ابن الحاجب واستدل الجمهور بإجماع الصحابة والتابعين قالوا بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال بخبر الواحد وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى وقد تكرر ذلك مرة بعد أخرى وشاع وذاع بينهم ولم ينكر عليهم أحد غلا لنقل وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح وإن كان احتمال غيره قائما في كل واحد واحد هكذا قرر الاستدلال عضد الدين في شرح المختصر وتأتي الأدلة على ذلك في قبول رواية كفار التأويل وفساقه وهو من باب الاستدلال بالإجماع السكوتي.
"ولا يجوز ترك ذلك" أي العمل بخبر الواحد بصحة الحديث الذي نحن بصدده "متى تعلق الحديث بحكم شرعي" وذلك لأنا قد تعبدنا بالأحكام الشرعية قطعا وقد قام الدليل على وجوب قبول خبر الآحاد وأكثر تفاصيل الشرعيات أحادية فيجب قبوله وسره أن قول العدل هذا حديث صحيح في قوة هذا حديث عدلت نقلت:ه وثبت إتقانهم في الضبط وسلم الحديث من الشذوذ والعلة والعدل إذا عدل غيره

وجب قبول خبره وإذا شهد له بالإتقان في حفظه وجب قبول خبره أيضا وقد بسطنا هذا في رسالتنا المسماة إرشاد النقاد بسطا شافيا وبينا أن قول العدل فلان عمل عبارة إجمالية معناها أنه آت بالواجبات مجتنب للمقبحات ولما فيه خسة من الصغائر محافظ على المروءة وكما وقع الإجماع على قبول تلك العبارة الإجمالية يجب قبول قول القائل من الأئمة هذا حديث صحيح فإنه إخبار عما تضمنه الإجمال من التفصيل وهذا الذي ذكره المصنف هنا هو الحق لا ما تقدم له من قوله إن من قلد في ذلك لا يكون مجتهدا وسيأتي زيادة في بحث المرسل إن شاء الله تعالى.
"إلا أن تظهر علة قادحة في صحة الحديث من فسق في الراوي حفي على من صحح حديثه أو تغفيل كثير أو غير ذلك من قبول الثقات" حاصلة أن قبول خبر العدل بأن الحديث صحيح مقتض للعمل به ما لم يعارضه المانع.
واعلم أنه قد سبق أنه إذا صحح الحديث إمام من المتقدمين كابن خزيمة وابن حبان قبل تصحيحه وجوبا على ما ذكره المصنف إذا تضمن حكما شرعيا وهذان الإمامان اللذان نص على التمثيل بهما قد قدمناه ما قيل في كتابيهما ومثلهما تصحيح الترمذي فإنه قال ابن حجر الهيتمي في فهرسته فإن قلت: قد صرحوا بأن عنده أي الترمذي نوع تساهل في التصحيح فقد حكم بالحسن مع وجود الانقطاع في أحاديث في سننه وحسن فيها بعض ما انفرد به رواته كما صرح هو بذلك فإنه يورد الحديث ثم يقول عقيبه إنه حسن غريب وحسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من الوجه قلت: هذا كله لا يضره لأن ذلك اصطلاح جديد له ومن بلغ النهاية في الإمامة والحفظ لا ينكر عليه ابتداع اصطلاح يختص به وحينئذ فلا مشاححة في الاصطلاح وبهذا يجاب عما استشكلوه من جمعه بين الصحة والحسن على متن واحد مع ما هو معلوم من تغايرهما انتهى.
قلت: إذا كان اصطلاح الترمذي أن الحسن والصحيح شيء واحد فإنه لا يصح حمل قوله صحيح على المعنى الذي نحن بصدده بل يحمل على أنه قسم من الحسن وسيأتي كلام آخر في وجه جمعه بين الوصفين على أنه لا يتم ما قاله ابن حجر إلا إذا أريد بالحسن الذي يرادف الصحيح في اصطلاح الترمذي الحسن لذاته لا الحسن لغيره فإنه قال ابن حجر أيضا إن أبا داود قال في خطبة كتابه ذكرت الصحيح وما يشابهه وما يقاربه ثم قال والذي يتجه أن المراد بما يشبه الصحيح الحسن لذاته

وبمقاربة الحسن لغيره وقد تقرر أن كلام من هذين معتمد قال وإنما حملتهما على ذلك لأن الحسن لذاته في الاحتجاج به مثله أي مثل الصحيح اتفاقا بخلاف الحسن لغيره فإنه بعيد عن الصحيح لأنه باعتبار ذاته وحده ضعيف لكنه لما انجبر بغيره صارت له قوة عرضية وصار بسبب ما عرض له من تلك القوة حجة أيضا انتهى.
وقد وقع للبغوي في المصابيح اصطلاح آخر في الصحيح والحسن فجعل الصحيح ما رواه الشيخان أو أحدهما في كتابيهما والحسن ما رواه غيرهما واعترضه ابن الصلاح والنووي وغيرهما أن تخصيصه الصحاح بما رواه الشيخان أو أحدهما في كتابيهما والحسان بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدرامي اصطلاح لا يعرف بل هو خلاف الصواب إذا الحسن عند أهل الحديث ليس عبارة عن هذا الذي ذكره لما أنه وقع في كتب السنن الصحيح وهو كثير والضعيف وهو كثير.
وقد أجاب التاج التبريزي بأن هذا الاعتراض عجيب إذ من المشهور المقرر عند أرباب العلوم العقلية والنقلية أن لا مشاححة في الاصطلاح وحينئذ فتخطئه المرء في اصطلاحه بعيد عن الصواب وقد اخترع غيره له اصطلاحا آخر كالحاكم والخطيب فإنهما اصطلحا على إطلاق الصحة علىجميع ما يف سنن أبي داود والنسائي ورافقهما في النسائي جماعة منهم أبو على النيسابوري وأبو أحمد بن عدي والدار قطني انتهى ملتقطا من فهرسة ابن حجر الهيتمي.
وإنما نقلته لئلا يقف الناظر على تصحيح الترمذي أو تحسين البغوي فيظن أنه من قسم ما صححه إمام من الأئمة أو تحسين بالمعنى الذي ذكره المصنف وغيره للصحيح بل لا بد من معرفة اصطلاح الإمام الذي قال صحيح أو حسن قبل ذلك.
على أنه قد تعقب الحافظ ابن حجر كلام التبريزي في اعتراضه على ابن الصلاح فقال وعندي أن ابن الصلاح لم يسق كلامه اعتراضا على البغوي وإنما أراد أن يعرف أن البغوي اصطلح لنفسه أن يسمي السنن الأربعة الحسان ليستغني بذلك عن أن يقول عقب كل حديث يخرجه منها خرجه أصحاب السنن أو بعضهم.
وكلامه يكاد يكون صرحا في ذلك حيث قال هذا اصطلاح لا يعرف فبين أنه اصطلاح وأنه حادث ثم قال وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك حتى لا يظن أنه ليس فيها إلا الحسن الذي تقدم تعريفه ثم قال الحافظ ابن حجر والحاصل أنا لا نسلم أن البغوي أراد الحسن المتقدم تعريفه ولا نسلم أن ابن الصلاح

اعترض عليه انتهى.
"الضرب الثاني من ضربي التصحيح: أن لا ينص على صحة الحديث أحد من المتقدمين ولكن تبين لنا رجال إسناده" أي الحديث "وعرفناهم" بصفاتهم "من كتب الجرح والتعديل الصحيحة بنقل الثقات سماعا أو غيره من طرق النقل كالإجازة والوجادة" يأتي بينهما "فهذا" الذي لم يصححه أحد من المتقدمين "وقع فيه" أي في تصحيحه "خلاف لابن الصلاح فإنه ذكر أنا لا نجزم بصحة ذلك" أي التصحيح بل ولا التحسين كما سنعرفه من لفظه "لعدم خلو الإسناد في هذه الأعصار ممن يعتمد على كتابه من غير تمييز لما فيه" لفظه إذا وجدنا فيما يروي من كتب الحديث وغيرها حديثا صحيح الإسناد ولم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة فأنا لا تتجاسر على سوم الحكم بصحته فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد لأنه ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من يعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان فآل الأمر إذن في معرفة الصحيح إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة انتهى.
قال عليه الحافظ ابن حجر فيه أمور:
الأول : قوله فيما يشترط في الصحيح من الحفظ فيه نظر لأن الحفظ لم يعده أحد من أئمة الحديث شرطا للصحيح وإن كان حكى عن بعض المتقدمين من الفقهاء ولكن العمل في الحديث والقديم على خلافه لا سيما عند رواية الكتب وقد ذكر المؤلف يريد به ابن الصلاح في النوع السادس والعشرين أن ذلك من مذاهب أهل التشديد هذا إن أراد المصنف بالحفظ حفظ مما يحدث به الراوي بعينه وإن أراد الراوي شرطه أن يعد حافظا فللحافظ في عرف المحدثين شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا وهو المشهور بالطلب والأخذ من أقواه الرجال لا من الصحف والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم والمعرفة بالتجريح والتعديل وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون مما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره مع استحضار الكثير من المتون فهذه الشروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا ولم يجعله أحد من أئمة الحديث شرطا للحديث الصحيح نهم المصنف لما ذكر حد الصحيح لم يتعرض للحفظ أصلا فما قاله يشعر هنا بمشروطيته ومما يدل أنه أراد حفظه ما يحدث بعينه

أنه قائل به من اعتمد عل ما في كتابه فدل على أنه يعيب من حدث من كتابه ويصوب من حدث عن ظهر قلبه والمعروف عن أئمة الحديث خلاف ذلك كالإمام أحمد وغيره.
الأمر الثاني : أن من اعتمد في روايته على ما في كتابه لا بعاب بل هو وصف أكثر رواة الصحيح من بعد الصحابة وكبار التابعين ثم قال:
الأمر الثالث : قوله فآل الأمر إلخ فيه نظر لأنه يشعر بالاقتصار على ما يوجد منصوصا على صحته ورد ما جمع شروط الصحة إذا لم يوجد النص على صحته من الأئمة المتقدمين فيلزم على الأول تصحيح ما ليس بصحيح لأن كثيرا من الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل تحطها عن رتبة الصحة ولا سيما من لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن فكم في كتاب ابن خزيمة من حديث محكوم بصحته وهو لا يرتقى عن رتبة الحسن وكذا في صحيح ابن حبان وفيما صححه الترمذي من ذلك جملة مع أن الترمذي ممن يفرق بين الصحيح والحسن لكنه قد يخفي على الحافظ بعض العلل في حديث فيكم عليه بالصحة بمقتضى ما ظهر له ويطلع عليه غيره فيرد به الخبر وللحاذق الناقد بعدهما الترجيح بين كلاميهما بميزان العدل والعمل بما يقتضيه الإنصاف.
الأمر الرابع : كلامه يقتضي الحكم بصحة ما تقل عن الأئمة المتقدمين مما حكوا بصحته في كتبهم المتقدمة المسرودة والطريق التي وصل إلينا بها كلامهم على الحديث بالصحة وغيرها هي الطريق التي وصلت إلينا بها أحاديثهم فإن أفاد الإسناد صحة لمقالة عنهم فليقد الصحة بأنهم حدثوا بذلك الحديث ويبقى النظر إنما هو في الرجال الذين فوقهم وأكثرهم رجال الصحيح كما سنقرره.
الأمر الخامس : ما استدل به على تعذر التصحيح في هذه الأعصار المتأخرة بما ذكره من كون الأسانيد ما فيها سند إلا وفيه من لا يبلغ درجة الضبط والحفظ والإتقان ليس بدليل ينهض لصحة ما ادعاه من التعذر لأن الكتاب المشهور المغني بشهرته عن اعتبار الأسانيد إلى مصنفه كسنن النسائي مثلا لا يحتاج في صحة نسبته إلى النسائي اعتبار حال رجال الإسناد منا إلى مصنفه فإذا روي حديثا ولم يعلله وجمع إسناده شروط الصحة ولم يطلع المحدث المطلع فيه على علة ما المانع من الحكم بصحته ولو لم ينص على صحته أحد من الأئمة المتقدمين لا سيما وأكثر ما يوجد من هذا النقل ما رواته

رواة الصحيح.
هذا لا ينازع فيه من له ذوق في هذا الفن ولذا قال المنصف "وخالفه" أي ابن الصلاح "في دعواه النووي فقال: الأظهر عندي جوازه" أي التصحيح "لمن تمكن وقويت معرفته قال زين الدين: وهذا" أي التصحيح لما لم يسبق تصحيحه عن أحد من المتقدمين "هو الذي عليه عمل أهل الحديث فقد صحح غير واحد من المعاصرين لابن الصلاح ومن بعده أحاديث لم يجر لمن تقدم فيها تصحيح كأبي الحسن ابن القطان والضياء المقدسي والزكي عبد العظيم" المنذري "ومن بعدهم" انتهى كلام الزين من شرح ألفيته قال الحافظ ابن حجر أما استدلال شيخنا بأن من عاصر ابن الصلاح قد خالفه فيما ذهب إليه وحكم بالصحة لأحاديث لم يوجد لأحد من المتقدمين الحكم بتصحيحها فليس بدليل ناهض على رد ما اختار ابن الصلاح لأنه مجتهد وهم مجتهدون فكيف ينقض الاجتهاد بالاجتهاد وما أوردناه في نقض دعواه أوضح فيما يظهر انتهى.
"واختار ذلك" أي تصحيح المتأخرين لما لم يصححه المتقدمين "ابن كثير في علوم الحديث له وذكر" انتصارا لما اختاره "أنه قد جمع في ذلك الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابا سماه المختار ولم يتم كان بعض مشائخنا يرجحه على مستدرك الحاكم" قلت: لا يخفى أن ذكر المصنف لاختيار ابن كثير وذكر ابن كثير لجمع الضياء كاستدلال الزين بعمل أهل عصر ابن الصلاح وغيرهم ويأتي فيه من النظر ما أتى في ذلك إلا أن يقال إن كلام الجميع إشارة إلى كون المسألة خلافية في عصر ابن الصلاح وبعده وإن لم يخرج ذلك مخرج الاستدلال بل مجرد حكاية الأقوال "وسوف يأتي بيان كيفية التصحيح في هذه الأعصار في" مسألة "معرفة من تقبل روايته ومن ترد في آخر الفصل قبل مراتب التعديل" ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

مسألة:11 [في بيان حكم ما أسنده الشيخان أو علقاه]
"حكم الصحيحين" أي ذكر حكم ما أسنده في الصحيحين كما يرشد إلى تقدير ذلك قوله والتعاليق فإنه من مسمى الصحيحين وإن لم تشمله الصحة.
"اختلف الحفاظ من المحدثين والنقاد من الأصوليين فيما أسنده البخاري ومسلم أو علقاه" وهو الذي حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر وأغلب ما وقع ذلك في كتاب البخاري وهو في كتاب مسلم قليل جدا قال ابن الصلاح: في جزء له ما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه فهو مقطوع بصدق مخبره ثابت لتلقي الأمة ذلك بالقبول وذلك يقيد العلم النظري وهو في إفادة العلم كالمتواتر إلا أن المتواتر يفيد العلم الضروري وتلقي الأمة يفيد العلم النظري وقد اتفقت الأمة على أن ما اتفق البخاري ومسلم على صحته فهو حق وصدق انتهى.
"فأما ما أسنداه" أي الشيخان "أو أحدهما فذكر ابن الصلاح أن العلم اليقيني النظري واقع به" أي بما أسنداه أو أحدهما "خلافا لقول من نفى ذلك" أي إفادة اليقين وفي شرح مسلم ما يفيد أن هذا الخلاف لبعض محققي الأصوليين "محتجا بأنه" أي الحديث الصحيح "لا يفيد في أصله" أي في حق كل واحد من الأمة "إلا الظن" وأما قول ابن الصلاح في الاستدلال على إفادتهما اليقين يتلقى الأمة لها بالقبول فجوابه قوله "وإنما تلقته" أي حديث الكتابين "الأمة بالقبول" لأنه يفيد الظن "ولأنه يجب عليهم العمل بالظن والظن قد يخطئ" ولا يتم به اليقين.
"قال" ابن الصلاح: "وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويا ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولا" وهو كونه يفيد العلم اليقيني النظري "هو الصحيح لأن ظن من هو معصوم عن الخطأ" وهم الأمة "لا يخطئ إلى آخر كلامه" وهو قوله ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد مقطوعا بها وأكثر إجماعات العلماء كذلك وهذه

نكتة نفيسة نافعة ومن فوائدها القول بأن ما انفرد به البخاري ومسلم يتدرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما انتهى.
وقال إمام الحرمين لو حلف إنسان بطلاق امرأته بأن ما في كتاب البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم: لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع المسلمين على صحتهما قال النووي لقائل أن يقول إنه لا يحنث ولو لم يجمع المسلون على صحتهما للشك في الحنث فإنه لو حلف على ذلك في حديث ليس هذه صفته لم يخنث وإن كان رواية فاسقا فعدم الحنث حاصل قبل الإجماع فلا يضاف إلى الإجماع قال والجواب أن المضاف إلى الإجماع هو القطع بعدك الحنث ظاهرا وباطنا وأما عند الشك فعدم الحنث حاصل محكوم به ظاهرا مع احتمال وجوده باطنا فعلى هذا يحمل كلام إمام الحرمين فهو اللائق بتحقيقه. انتهى.
وأقول: في هذا الكلام بحثان :
الأول : أنه مبني على دعوى تلقي كل الأمة للكتابين بالقبول وقد قدمنا أن هذه دعوى على الأمة كلها وهي غير صحيحة كما أوضحناه في ثمرات النظر وغيرها وقد أقر ابن الصلاح بعدم تمامها فإنه قال إن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه ولا يخفى أن مسمى الأمة ودليل العصمة شامل لكل مجتهد والقول بأنه لا يعتد بمجتهد وإخراجه عن مسمى الأمة لا يقبله ذو تحقيق وإلا لادعى من شاء ما شاء بغير دليل وقد قدمنا سؤال الاستفسار عن هذا التلقي هل هو لأصل الكتابين من حيث الجملة أو لكل فرد فرد من أحاديثهما الأول مراد لا يفيد المطلوب الثاني: هو المراد ولا يتم فيه الدعوى كما أشرنا إليه سابقا وقررناه في ثمرات النظر وفي غيرها.
البحث الثاني : بعد تسليم الدعوى الأولى أن التحقيق أن الأمة معصومة عن الضلالة وعليها دلت الأدلة كما حققناه في حواشينا على شرح الغاية المسماة بالدراية وقد أشرنا إليه سابقا والخطأ ليس بضلالة وتأتي زيادة في هذا.
"وقد سبقه" أي ابن الصلاح "إلى نحو ذلك محمد بن طاهر المقدسي وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف واختاره ابن كثير وحكى في علوم الحديث1
ـــــــــــــــــــ
1 ص 29.

له أن ابن تيمية1 حكى ذلك عن أهل الحديث وعن السلف وعن جماعات كثيرة من الشافعية والحنابلة والأشاعرة والحنفية وغيرهم والله أعلم".
رأيت في بعض رسائل ابن تيمية ما لفظه ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم: قاله تارة بتواتره عندهم وتارة لتلقي الأمة له بالقبول وخير الواحد المتلقي بالقبول يفيد العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهو قول أكثر أصحاب الأشعري كالأسفرائيني وابن فوزك فإنه وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن لكنه لما اقترن به إجماع علماء أهل الحديث على تلقيه بالتصديق كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالصحة على حكم مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد فإن ذلك الحكم يصير قطعيا عند الجمهور وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي انتهى.
وفيه أنه حكم على أكثر متون الصحيحين وأن ذلك إجماع أئمة الحديث وهذا حسن ولكنه ليس بالإجماع الذي ادعاه ابن الصلاح فإن أراد ابن كثير هذا الكلام الذي لابن تيمية فلا يخفى أنه لا يحسن ضمه إلى ابن الصلاح ومن سبقه لأن أولئك ادعوا الإجماع من الأمة على التلقي وابن تيمية يقول إنه تلقاه علماء الحديث أي تلقوا أكثر متونهما بالقبول وإنه بمنزلة الإجماع وإن علماء الحديث هم يعلمون علما قطعيا أنه صلى الله عليه وسلم قال ما في الصحيحين مما نسب إليه وهذا قول عدل إلا أن الدليل عليه كونه بمنزلة الإجماع ولا يخفى أن الدليل إنما هو الإجماع لا ما هو بمنزلة لأنه ليس إجماعا ضرورة واتفاقا إذ الدليل هو الإجماع كما في علم الأصول لا ما هو بمنزلتة.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر ابن تيمية إلا أنه بأبسط من هذه العبارة وضمه إلى من ضمه ابن كثير وقوله غير قول من ضموه إليهم ولا بد من حمل كلامهم على كلامه لأن من يعتبر تلقيه بالقبول إنما هو من يعرف الفن ويميز بين صحيحه وسقيمه ويعرف رجاله وذلك خاص بأهل الحديث وأئمة هذا الشأن وهم الذين تروج دعوى
ـــــــــــــــــــ
1 ابن تيمية هو شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني عني بالحديث وخرج وانتقى وبرع في الرجال وعلل الحديث وفقهه مات سنة 728. له ترجمة في شذرات الذهب 6/80. وانجوم الزاهرة 9/271. والبداية والنهاية 14/163.

ذلك عليهم لا الأئمة كلها فلو قال ابن الصلاح: وغيره مثل هذا لقبل منه وأما دعوى القطعية بعد تسليمه هذا القدر من التلقي ففيها خفاه وإنما قلنا إنه لا بد من رد كلامهم إلى كلامه لأنه الواقع وهو يفيد أرجحية ما فيها كما أشار إليه المصنف فيما سلف لا القطعية المدعاة.
"قال النووي" في شرح مسلم "وخالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون فقالوا يفيد الظن ما لم يتواتر ونحو ذلك حكى زين الدين عن المحققين واختاره" قال النووي:
فإنهم أي المحققين قالوا إن أحاديث الصحيحين التي ليست متواترة إنما تفيد الظن لأنها آحاد والآحاد إنما تفيد الظن كما تقرر ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيها وهذا متفق عليه فإن أخبار الآحاد في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها ولا تفيد الظن وكذا الصحيحان وإنما يفترق الصحيحان وغرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه بل يجب العمل به مطلقا وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر فيه وتوجد فيه شروط الصحيح ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم: انتهى.
واعلم أنه قال الحافظ ابن حجر إن شيخه يريد زين الدين أفر كلام النووي هذا وفيه نظر وذلك أن ابن الصلاح لم يقل إن الأمة أجمعت على العمل بما فيهما وكيف يسوغ له ذلك والأمة لم تجمع على العمل بما فيهما لا من حيث الجملة ولا من حيث التفصيل لأن فيهما أحاديث ترك العمل بما دلت عليه لوجود معارض أو ناسخ انتهى.
قلت: ولا يخفي أنه وهم فإن القائل إن الأمة أجمعت على العمل بما فيهما هو النووي نفسه لا أنه نقله عن ابن الصلاح ثم إن قوله أجمعت على العمل إنما مراده مما تعبدنا بالعمل به فالمنسوخ والمخصص قد خرجا من ذلك.
ثم إنه نقل عن الأستاذ أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك تفصيلا في المتلقي بالقبول فقال الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول مقطوع بصحته ثم فصل ذلك فقال إن اتفقوا على العمل به لم يقطعوا بصدقه وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب العلم بخبر الواحد وإن تلقوه بالقبول قولا وفعلا حكم بصدقه قطعا ثم قال إنما اختلفوا فيما إذا أجمعت الأمة على العمل بخبر المخبر هل يدل ذلك على صحته أم لا؟ على

قولين فذهب الجمهور إلى أنه لا يكون صحيحا بذلك وذهب عيسى ابن أبان إلى أنه يدل على صحته قال وقد تعقب شيخنا شيخ الإسلام في محاسن الاصطلاح يريد به البلقيني قول النووي إن ابن الصلاح خالفه المحققون والأكثرون فقال هذا ممنوع فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين عن جمع من الشافعية والحنفية والحنابلة والمالكية أنهم يقطعون بصحة الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول.
قلت: وكأنه عنى بهذا البعض الشيخ تقي الدين ابن تيمية ثم ذكر ما أسلفناه من كلام ابن تيمية.
قلت: إلا أن هاهنا بحثا فإنه لا يخفي اختلاف أحوال العلماء وغيرهم فيما يستفيدونه اعتقادا فمنهم من يفيده خبر الآحاد العلم وقد قدمنا في شرح رسم الصحيح شيئا من ذلك ومنهم من يفيده الظن ومنهم من لا يفيده علما ولا ظنا ولذا اختلف فيما يفيده خبر الآحاد الاختلاف الذي سبق ذكره هنالك أيضا فالتلقي بالقبول لا يجزم بإفادته القطع لكل أحد محقق لاختلاف الناس في الاعتقاد فدعوى إفادته القطع لكل أحد غير صحيحة وأيضا إنما يستوي الناس في البديهيات ككون الكل أعظم من الجزء ونحوه وأما في الأمور النقلية فلا فإنه يتواتر الأمر لشخص دون شخص فيكون حجة على الأول دون الثاني.
إذا عرفت هذا فالرد على ابن الصلاح بأن جماعة قالوا لا يفيد إلا الظن والرد على من رد عليه بأن جماعة قالوا يفيد القطع غير صحيح في الطرفين لأن هذه أمور وجدانية يختلف فيها الناس فلا يحكم أحد على غيره بما عند نفسه ولو كان المتلقي بالقبول يفيد القطع لكل أحد أو الظن لما وقع اختلاف في المسألة.
ثم اعلم أن هذا التلقي المدعى مراد به تلقي العلماء هو من بعد تأليف الصحيحين وهي الطبقة الأولى من بعد ذلك وأما من بعدهم من أهل الأزمنة المتأخرة فالدليل عيه نقل تلك الطبقة التلقي بالقبول ولعله قد يكون آحادا فلا يفيده أو متواترا فتقوم الحجة بنقل تلقي الأمة لهما بالصحة.
ولما قال ابن الصلاح: إن ظن من هو معصوم لا يخطئ قال المصنف "قلت: والمسألة دقيقة وقد بسطت القول عليها في العواصم وهي في أصول الفقه مذكورة وحاصل الجواب" على ابن الصلاح في قوله إن ظن من هو معصوم ع الخطأ لا يخطئ "أن المعصوم معصوم في ظنه عن الخطأ الذي هو خلاف الصواب" قال المصنف في مختصره

في علوم الحديث والحق أنه أي الخطأ لا يناقضها أي العصمة حيث خطؤه فيما طلب لا فيما وجب ولا يوصف خطؤه حينئذ بقبح "لا عن الخطأ الذي هو خلاف الإصابة كالخطأ في رمي" المؤمن "الكافر حيث رماه" فأصاب مؤمنا فإنه غير آثم قطعا.
"وفي الحكم بشهادة العدلين في الظاهر" وهما في الباطن غير عدلين "ومن ذلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيادة" كما في صلاته الأربع خمسا "أو نقصان" كم في صلاته الأربع اثنتين أخرجه الستة من حديث ابن بحينة وسماها الظهر "حيث سها وظن أنه ماسها" فإنه قال له صلى الله عليه وسلم ذو اليدين أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت قال لم تقصر ولم أنس وسيأتي.
"فمن جوز هذا على المعصوم" كالرسول صلى الله عليه وسلم "لأنه خطأ لغوي" وهو الخطأ المرفوع عن الأمة في حديث رفع عن أمتي الخطأ "وهو في الحقيقة صواب لأنه مأمور به مثاب عليه" وقد استدل المصنف لجوازه بالعقل والنقل في مختصره حيث قال لنا لو وجب القطع بانتقائه لبطل كونه ظنا والفرض أنه ظن فهذا خلف ولوجوب الترجيح عند تعارض المتلقي بالقبول ولا ترجيح مع القطع ومن السمع قول يعقوب في قصة أخي يوسف: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف: 18] وقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وقوله في حديث إنما أقطع له قطعة من نار1 أخرجه الشيخان مرفوعا من حديث أم سلمة وأوله إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه شيئا الحديث وأحاديث سهوه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ولا يمتنع أن يدخل الظن في استدلال الأمة ثم يجب القطع باتباعهم كخبر الواحد وطرق الفقه ولذلك يسمى الفقه علما فبطل القطع بأن حديث البخاري ومسلم معلوم كما ظنه ابن الصلاح وابن طاهر وأبو نصر.
"قال" جواب من جوز "إن تلق الأمة لخبر الواحد لا يفيد العلم القاطع ومن لم يجوزه" أي الخطأ الذي هو خلاف الصواب "على المعصوم قال إنه يفيد العلم القاطع والله أعلم" ثم لا يخفي أن ابن الصلاح قال في دعواه إن المتلقي بالقبول يفيد العلم اليقيني النظري قال الحافظ ابن حجر لو اقتصر على قوله العلم النظري لكان أليق
ـــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.

بهذا المقام أما العلم اليقيني فمعناه القطعي فلذلك أنكر عليه من أنكر لأن المقطوع به لا يمكن الترجيح بين آحاده وإنما يقع الترجيح بين مفهوماته ونحن نجد علماء هذا الشأن قديما وحديثا يرجحون بعض أحاديث الكتاب على بعض بوجوه من الترجيحات النقلية فلو كان الجميع مقطوعا به ما بقي للترجيح مسلك انتهى وهذا مناد على أن مرادهم أنه تلقي بالقبول كل فرد فرد من أفراد أحاديث الصحيحين إلا ما استثنوه مما يأتي.
"قال زين الدين: ولما ذكر ابن الصلاح أن ما أسنداه مقطوع بصحته قال سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد كالدار قطني وغيره" كأبي مسعود الدمشقي وأبي علي الغساني الجياني "وهي" أي الأحرف اليسيرة "معروفة عند أهل هذا الشأن" قال البقاعي في النكت الوفية قال شيخنا إن الدار قطني ضعف من أحاديثهما مائتين وعشرة يختص البخاري بثمانين واشتركا في ثلاثين وانفرد مسلم بمائة قال وقد ضعف غيره أيضا غير هذه الأحاديث انتهى وقدمنا كلام الحافظ ابن حجر في عدة ذلك.
"قال زين الدين: روينا عن محمد بن طاهر المقدسي ومن خطة نقلت: قال سمعت أبا عبد الله بن أبي نصر الحميدي" صاحب الجمع بين الصحيحين "يقول: قال لنا أبو محمد بن حزم" هو الظاهري المعروف صاحب المؤلفات البديعية "ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديثين لكل واحد منهما حديث تم عليه في تخريجه مع إتقانهما وحفظهما وصحة معرفتهما فذكر" أبو محمد "من البخاري حديث شريك عن أنس في الإسراء وأنه قبل أن يوحى إليه وفيه شق صدره قال ابن حزم والآفة فيه من شريك" وهو شريك بن عبد الله بن أبي نمير المدني تابعي صدوق قال ابن معين والنسائي ليس بالقوي وقال ابن معين في موضع آخر لا بأس به ذكر هذا الذهبي في المغني.
"والحديث الثاني: حديث عكرمة بن عمار" بفتح العين المهملة وتشديد الميم "عن أبي زميل" بضم الزاي وفتح الميم وسكون المثناة التحتية فلام هو سماك ابن الوليد تابعي "عن ابن عباس: كان الناس لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أعطيكهن قال نعم قال عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها قال نعم الحديث قال ابن حزم هذا موضوع لا

شك في وضعه والآفة فيه من عكرمة بن عمار" قال النووي في شرح مسلم واعلم أن هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال لأن أبا سفيان إنما أسلم عام الفتح وكان النبي صلى الله عليه وسلم: إنما تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل وجزم ابن حزم أنه موضوع ويف رواية عنه أنه وهم والآفة فيه من عكرمة بن عمار الراوي عن أبي زميل وأنكر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح هذا على ابن حزم وبالغ في الشناعة عليه قال وهذا القول من جسارته وكان هجوما على تخطئة الأئمة الكبار وإطلاق اللسان فيهم ولا نعلم أحدا نسب إلى عكرمة وضع الحديث وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وغيرهما وكان مستجاب الدعوة.
وأما ما توهمه ابن حزم من منافاة هذا الحديث لتقدم زواجها فغلط منه وغفلة وجهل لأنه يحتمل أنه سأله تجديد عقد النكاح تطبيبا لقلبه لأنه ربما رأى عليه غضاضة في رياسته ونسبه أن تزوج منه بغير رضاه وأنه ظن أن إسلام الأب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد انتهى.
وليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: جدد العقد ولا قال لأبي سفيان إنه يحتاج إلى تجديده فلعله قال له نعم وأراد أن مقصودك يحصل وإن لم يكن بحقيقة العقد وكأن المصنف لم يرتض هذا الجواب فقال: "قلت: قد رد الحفاظ على ابن حزم ما ذكره وجمع ابن كثير الحافظ جزءا مفردا في بيان ضعف كلامه وفي الحديث غلط ووهم في اسم المخطوب لها النبي صلى الله عليه وسلم: وهي عزة" بفتح العين المهملة وتشديد الزاي "أخت أم حبيبة خطب أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وخطبته لها أختها أم حبيبة كما ثبت في الصحيحين فأخبرها بتحريم الجمع بين الأختين وقد ذكر له تأويلات كثيرة هذا أقربها" ووجه قربه أن التأويل في لفظة واحدة أسهل "والموجب للتأويل ما علم من تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة قبل إسلام أبي سفيان".
قلت: ولم يتعرض المصنف لتأويل حديث شريك الذي أورده ابن حزم على صحيح البخاري وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري في الحديث العاشر والمائة مما اعترض على البخاري تخريجه في صحيحه حديث شريك عن أنس في الإسراء بطوله وقد خالف فيه شريك أصحاب أنس في سنده ومتنه ووجه إشكال حديث شريك ما فيه من قوله إن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم فإنه

أخرجه الشيخان عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمير بلفظ أنه سمع أنس ابن مالك يقول ليلة الإسراء أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه.
وقد قال مسلم إنه قدم فيه شيئا وأخر وزاد ونقص يعني شريكا قال النووي في شرح مسلم في رواية شريك في هذا الحديث أوهام أنكرها عليه بعض العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله قدم شيئا وأخر وزاد ونقص وذلك قوله قبل أن يوحى إليه فإنه غلط لم يوافق عليه فإن الإسراء أقل ما فيه إنه كان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهرا وهو قول الزهري وقال الحربي كان ليلة سبعة وعشرين من ربيع قبل الهجرة بستة وقال الزهري كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين قلت: ولعل للزهري فيه قولين وقال ابن اسحق أسري به وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل قال النووي وأشبه الأقوال قول الزهري وابن اسحق.
قلت: ومثله قال القاضي عياض واستدل بقوله إذ لم يختلفوا أن خديجة صلت معه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلاة عليه ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة بمدة قيل بثلاث سنين وقيل بخمس كما أن العلماء مجمعون أنه كان فرض الصلاة قبل الإسراء فكيف يكون هذا كله قبل أن يوحى إليه؟.
قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين بعد ذكر رواية شريك إنه قد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة فقد روي حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتثنين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقنادة يعني عن أنس ولم يأت أحد منهم بما أتى به شريك وشريك ليس بالحفاظ عند أهل الحديث وكذلك أنكر من حديث شريك قوله إن شق صدره وغسله في تلك الليلة لأن المصحح أنه شق صدره وهو في بني سعد عند حليمة قال القاضي عياض وقد جود الحديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وأتقنه وفصله حديثين وجعل شق الصدر في صغره والإسراء بعد ذلك بمكة وهو المشهور الصحيح.
إذا عرفت هذه الأقاويل عرفت أنه لا اعتراض على مسلم في إيراده لحديث شريك بعد بيانه ما فيه من الزيادة والنقصان والتقديم والتأخير.
"وذكر الذهبي شرط مسلم في ترجمته من النبلاء وطول القول في ذلك وأجاد وأفاد فينبغي مراجعته ونقله من النبلاء" قلت: إلا أنه لا يخفي أنه شرط تخميني

لتصريحهم بأنه لم ينقل عن الشيخين ولا عن أحدهما ذلك نعم مسلم قد ذكر في مقدمة صحيحه ما قدمنا لفظه فهو شرطه.
"قال زين الدين: وقد ذكرت في الشرح الكبير أحاديث غير هذين" مما انتقده الحفاظ على الشيخين ويأتي غيرهما في كلام المصنف "وقد أفردت كتابا لما ضعف من أحاديث الصحيحين مع الجواب عنها فمن أراد الزيادة في ذلك فليقف عليه" أي على الكتاب الذي أفرده "ففيه فوائد ومهمات" قال الحافظ ابن حجر بعد نقل كلام شيخه ما لفظه كأن مسودة هذا التصنيف ضاعت وقد طال بحثي عنها وسؤالي من الشيخ أن يخرجها فلم أظفر بها ثم حكى ولده أنه ضاع منها كراسان أو لا فكان ذلك سبب إهمالها وعدم انتشارها.
واعلم أنه قد سبق عن ابن الصلاح أن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول قال سوى أحرف يسيرة قد تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ قال زين الدين إن الذي استثناه من المواضع قد أجاب العلماء عنها ومع ذلك أنها ليست بيسيرة قال الحافظ ابن حجر تعقبا له اعترض الشيخ أولا على ابن الصلاح استثناء المواضع اليسيرة بأنها ليست يسيرة بل كثيرة وبكونه قد جمعها وأجاب عنها وهذه لا يمنع استثناءها أما بكونها يسيرة فهو أمر نسبي نعم هي بالنسبة إلى ما لا طعن فيه في الكتابين يسيرة جدا وأما كونها يمكن الجواب عنها فلا يمنع ذلك استثناءها لأن من تعقبها من جملة من ينسب إليه الإجماع بالتلقي فالمواضع المذكورة متخلفة عنده عن التلقي فيتعين استثناءها انتهى.
"قلت: وقد ذكر النووي في مقدمة شرحه لكتاب مسلم قطعة حسنة في ذلك وذكر من صنف في ذلك كأبي مسعود الدمشقي وأبي على الغساني والدار قطني وذكر أنه يبين جميع ذلك أو أكثره ويجيب عنه في شرح مسلم" وذكر فصلا مستقلا فيما عيب به مسلم فقال فيه عاب عائبون مسلم بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذي ليسوا من شروط الصحيح ولا عيب عليه في ذلك بل جوابه من أوجه ذكرها الإمام أبو عمرو بن الصلاح:
أحدها : أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده بل نقل عن الخطيب وغيره أنه قال ما احتج به البخاري ومسلم وأبو داود من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت المؤثر مفسرا قلت: وهذا هو الذي أشار إليه

المصنف آنفا.
الثاني : أن يكون واقعا في المتابعات والشواهد لا في الأصول.
الثالث : أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه باختلاطه وذلك غير قادح فيما رواه من قبل في زمن الاستقامة.
الرابع : أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيا بمعرفة أهل هذا الشأن ذلك وهذا العذر قد رويناه تنصيصا انتهى وذكر أمثلة لما ذكره يطول ذكرها قلت: ولا يخفي على الناقد ما في هذه الوجوه.
"قال النووي وينبغي أن يكون هذا مخرجا عن حكم المجمع على صحته المتلقي بالقبول مستثنى من الخلاف المقدم في القطع بصحة المجمع عليه" وهذا هو الذي قد أشار إليه ابن الصلاح واستثناه بقوله سوى أحرف يسيرة "وهذا الكلام فيما أسنداه وقد قصر هؤلاء في هذا الموضع وجوده الحافظ ابن حجر في مقدمة شرح البخاري فذكر مما اعترضه حفاظ الحديث على البخاري مائة حديث وعشرة أحاديث" وقال في نكته على ابن الصلاح إنه تتبع الدار قطني ما فيهما من الأحاديث المعلة فزادت على المائتين " ولكنها اعتراضات لطيفة في مشكلات اصطلحوا عيها أكثرها من علم العلل التي لا يقدح بها الفقهاء وأهل الأصول ثم أشار إلى الخلاف في كل حديث في البخاري مروي عن مدلس بالعنعنة" سيأتي بيان التدليس وأقسامه والعنعنة إن شاء الله تعالى "وهذا غير ما ذكر في كل حديث روي من طريق راو مختلف فيه وهم" أي الرواة المختلف فيهم "خلق كثير ثم مسألة الخلاف فيما عدا ذلك كله فاعرف ذلك والله أعلم" .
قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر جملة الانتقادات من قبل التفصيل من وجوه منها ما هو مندفع بالكلية ومنها ما قد يندفع فمنها الزيادة التي قد تقع في بعض الأحاديث إذا انفرد بها ثقة ولم يذكرها من هو مثله أو أحفظ منه فاحتمال كون هذا الثقة غلط ظن مجرد وغايتها أنها زيادة ثقة فليس فيها منافاة لما رواه الأحفظ والأكثر فهي مقبولة.
ومنها المروي من حديث تابعي مشهور عن صحابي سمع منه فيعلل بكونه روي عنه بواسطة كالذي يروي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ويروي عن سعيد عن أبيه

عن أبي هريرة فإن مثل هذا لا مانع أن يكون التابعي سمعه بواسطة ثم سمعه بدون تلك الواسطة ويلتحق بهذا ما يرويه التابعي عن صحابي فيروي من روايته عن صحابي آخر فإن هذا يمكن أن يكون سمعه منهما فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا وهذا إنما يطرد حيث يستوي الضبط والإتقان.
ومنها ما يشير صاحب الصحيح إلى علته كحديث يرويه مسندا ثم يشير إلى أنه روي مرسلا فذلك مصير منه إلى ترجيح رواية من أسنده على من أرسله.
ومنها ما تكون علته مرجوحة بالنسبة إلى صحته كالحديث الذي يرويه ثقات متصلا ويخالفهم ثقة فيرويه منقطعا أو يرويه ثقة متصلا ويرويه ضعيف منقطعا ومسألة التعليل بالانقطاع وعدم اللقاء قل أن تقع في البخاري بخصوصه لأنه معلوم أن مذهبه عدم الاكتفاء في الإسناد المعنعن بمجرد إمكان اللقاء.
وإذا اعتبرت هذه الأمور من جملة الأحاديث التي انتقدت عليهما لم يبق بعد ذلك مما انتقد عليهما سوى مواضع يسيرة جدا ومن أراد حقيقة ذلك فليطالع المقدمة التي كتبتها لشرح صحيح البخاري فقد بينت فيها ذلك بينا شافيا بحمد الله بحذف يسير.
"وأما ما وقع فيهما" وهو عطف على قوله فأما ما أسنداه "غير مسند وهو المعبر عنه بالتعليق" أي المسمى به عندهم "و" حقيقته "هو أن يسقط البخاري أو غيره" عبارة النخبة من تصرف مصنف "من أول إسناده" أي بالنظر إليه ومنهم من يعبر عنه بمبدأ السند "راويا فأكثر" ولا يشترط التوالي بين الساقطين وإن صرح به ملا على قاري في حواشيه على النخبة وشرحها "ويعزو الحديث إلى من فوق المحذوف بصيغة الجزم كقول البخاري في الصوم1 قال يحيى بن أبي كثير عن عمر بن الحكم بن ثوبان عن أبي هريرة قال فإذا قآء فلا يفطر قال ابن الصلاح: ولم أجد لفظ التعليق مستعملا فيما سقط منه بعض رجال الإسناد من وسطه أو من آخره" فلذا قال في حقيقته من أول إسناده "ولا" مستعملا "فيما ليس فيه جزم كيروي" بصيغة المجهول ولذا قال المصنف في حقيقته أيضا بصيغة الجزم.
"قال زين الدين: استعمل غير واحد من المتأخرين التعليق في غير المجزوم به منهم
ـــــــــــــــــــ
1 ب 32.

الحافظ المزي" بكسر الميم وبتشديد الزاي نسبة إلى بلد بالشام وهو الحافظ الكبير أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحيم بن يوسف القضاعي الكلبي "في الأطراف" كتابه له سيأتي ذكره وذكر حقيقتها قال زين الدين: كقول البخاري في باب مس الحرير من غير لبس ويروي فيه عن الزبيدي عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: وذكره في الأطراف وعلم عليه علامة تعليق البخاري.
"قلت: أما ما سقط فيه رجل من وسط الإسناد يسمى المقطوع والمنقطع" ولذا قيل في رسم التعليق من أول إسناده "وما سقط من آخره فهو المرسل كما يأتي جميع ذلك" أي كل ما ذكر "وأما إذا سقط الإسناد كله وقال قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو ذكر الصحابي فقط من رجال الإسناد فقال ابن الصلاح: تعليق" قال ابن الصلاح: إن لفظ التعليق وجدته مستعملا فيما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر حتى إن بعضهم استعمله في حذف كل الإسناد مثال ذلك قوله قال صلى الله عليه وسلم كذا وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما كذا وكذا قال سعيد بن المسيب كذا وكذا عن أبي هريرة كذا وكذا.
قلت: وبه تعرف أن ابن الصلاح نقله عن غيره لا أنه له ولذا قال الزين حكاه ابن الصلاح عن بعضهم وتعرف أيضا أنه إذا ذكر الصحابي أو التابعي يكون على هذا القول تعليقا أيضا واقتصر المصنف على الصحابي فقط "ولم يذكره" أي هذا القسم "المزي تعليقا في الأطراف" لفظ الزين ولم يذكر هذا المزي في الأطراف في التعليق بل ولا ما اقتصر فيه على ذكر الصحابي غالبا وإن كان مرفوعا.
"وأما إذا روي" أي البخاري "عن شيخه بصيغة الجزم ولم يقل حدثنا ولا أخبرنا" قال الزين كقوله قال فلان وزاد فلان "فمتصل حكمه كحكم العنعنة كما يأتي" قال الزين أي حكمه أي المعنعن الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس واللقاء في شيوخه أي البخاري معروف والبخاري سالم من التدليس فله حكم الاتصال انتهى.
قلت: فهذا يختص بالبخاري ومن هو مثله في شرط اللقاء لا أنها قاعدة من قواعد علوم الحديث "كذا عند ابن الصلاح واختاره الزين" فإنه قال بعد نقله لكلام ابن الصلاح أنه الصواب قال ابن الصلاح: ولا الثقات إلى أبي محمد ابن حزم الحافظ الظاهري في رده ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر أو أبو مالك الأشعري عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن في أمتي...", الحديث1 وسيأتي في كلام المصنف قريبا "خلاف لبعض المغاربة والمزي وابن منده" وهذا البعض من المغاربة غير ابن حزم لأنه ساق كلامه بعد رده على ابن حزم فإنه قال أي زين الدين بعد ذلك وبلغني عن بعض المتأخرين من أهل المغرب أنه جعله قسما من التعليق ثانيا وأضاف إليه قول البخاري في غير موضع من كتابه وقال لي فلان وزدنا فلان فوسم كل ذلك بالتعليق المتصل من حيث الظاهر المنفصل من حيث المعنى وقال متى رأيت البخاري يقول وقال لي فاعلم أنه إسناد لم يذكره للاحتجاج به وإنما ذكره للاستشهاد به وكثيرا ما يعبر المحدثون بهذا اللفظ لما جرى بينهم في المذكرات والمناظرات وأحاديث المذاكرة قل ما يحجون بها.
قلت: ما ادعاه على البخاري مخالف لما قاله من هو أقدم منه وأعرف بالبخاري وهو العبد الصالح أبو جعفر بن حمدان النيسابوري فقد روينا عنه أنه قال كل ما في البخاري قال لي فلان فإنه عرض ومناولة2 وانتهى.
قلت: ولا يخفي أنه لا يقوم كلام غيره حجة غيره حجة عليه بمجرد قوله.
"وقال" أي ابن الصلاح "وذلك" أي مثال ما يسقط من أوله واحد "مثل قول البخاري عفان" لفظ الزين قال عفان "وقال القعنبي" بالقاف مفتوحة فعين مهملة ساكنة فنون فموحدة نسبة إلى قعنب "وأخطأ ابن الصلاح في تمثيل التعليق بذلك مع اختياره أنه ليس بتعليق" عبارة الزين فقوله قال عفان قال القعنبي كذا في أمثلة ما سقط من أول إسناده واحد مخالف لكلامه الذي قدمناه عنه لأن عفان والقعنبي كلاهما شيخ البخاري حدث عنهما في مواضع من صحيحه متصلا بالتصريح فيكون قوله قال عفان قال القعنبي محمولا على الاتصال كالحديث المعنعن وهذا المثال ذكره ابن الصلاح في الفائدة السادسة من النوع الأول وهذا إيضاح لكلام المصنف.
"قال ابن الصلاح3: وكأنه مأخوذ من تعليق الجدار" فال ملا على في شرح شرح النخبة انتقد المصنف يريد ابن حجر أخذه من تعليق الجدار ولعل وجهه أن الطرفين أو أحدهما في تعليق الجدار باق على حاله غير ساقط بخلاف تعليق الحديث
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري 7/138. وأبو داود 4039.
2 علوم الحديث ص 93.
3 علوم الحديث ص 93.

"وتعليق الطلاق ونحوه لما يشترك فيه الجميع من قطع الاتصال وقد ذكر ابن الصلاح أن التعليق وقع فيهما" أي في الصحيحين.
"قال وأغلب ما وقع ذلك في البخاري وهو في مسلم قليل جدا قال زين الدين" في شرح ألفيته بعد نقل كلام ابن الصلاح "في كتاب مسلم من ذلك" أي من التعليق "موضع واحد في التيمم وهو حديث أبي الجهيم بن الحارث" بضم الجيم وفتح الهاء فمثناة تحتية وهو عبد الله بن الحارث ابن الصمة وقع في صحيح مسلم أبو الجهم بفتح الجيم من دون مثناة قال النووي في شرح مسلم هكذا في مسلم وهو غلط وصوابه ما وقع في صحيح البخاري أبو الجهيم وضبطه بما ضبطناه فهذا المشهور في كتب الأسماء وكذا ذكره مسلم في كتابه في أسماء الرجال "ابن الصمة" بسكر الصاد المهملة وتشديد الميم "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل" بفتح الجيم والميم وفي رواية النسائي الجمل "قال فيه مسلم وروي الليث بن سعد ولم يوصل مسلم إسناده إلى الليث1" قال النووي هكذا وقع في صحيح مسلم من جميع الروايات منقطعا بين مسلم والليث قال وهذا النوع يسمى معلقا "وقد أسنده البخاري عن يحيى بن بكير عن الليث ولا أعلم في مسلم بعد مقدمة الكتاب حديثا لم يذكره إلا تعليقا غير هذا الحديث وفيه مواضع أخر يسيرة رواها بإسناده المتصل ثم قال ورواه فلان وهذا ليس من باب التعليق إنما أراد ذكر من تابع رواية الذي أسنده من طريقه عليه أو أراد بيان اختلاف في السند كما يفعل أهل الحديث وبدل على أنه ليس مقصودة بهذا إدخاله في كتابه أنه يقع في بعض أسانيد ذلك من ليس هو من شرط مسلم كعبد الرحمن بن خالد بن مسافر" وهذا بناء على أن شرطهما رواتهما وقد تقدم الكلام فيه "وقد بينت بقية المواضع" التي علقها مسلم "في الشرح الكبير" انتهى كلام الزين.
"فإذا عرفت هذا" هو جواب قول المصنف وأما ما وقع فيهما وفيه نبوة والمعنى على أن قوله "فاعلم" هو الجواب إذا لا جواب أما "أن المحققين قسموه" أي التعليق "ثلاثة أقسام" ولكنهم ذكروا المعلق من حيث هو منقسم المردود مع أن بعض أقسامه مقبول يعمل به وإنما ردوه للجهل يحال من حذف من إسناده.
ـــــــــــــــــــ
1 والحديث رواه أحمد 4/169.

"أحدهما ما يورده البخاري بصيغة الجزم ويكون رجاله" غير من حذف فإنه مجهول "رجال الصحيح فيحكم" أي يوقع الحكم من الناظر فيه "بصحته لأنه" أي البخاري "لا يستجيز أن يجزم بذلك" أي بنسبته جزما "إلا وقد صح عنده" وقى قسم مثل هذا القسم في الصحة أشار إليه الحافظ أين حجر في شرح النخبة حيث قال وقد يحكم بصحته إن عرف المحذوف بالعدالة والضبط بأن يجيء مسمى أي موصوفا باسمه أو كنيته أو لقبه من وجه آخر أي من طريق أخرى. انتهى.
ولا يخفى أن وجه هذا الثاني: من التصحيح واضح وأما الأول فمرجع الحكم بصحته حسن الظن بالبخاري في أنه لا يجزم إلا بما صح إلا أن قوله:
"وثانيها ما يورده بصيغة الجزم أيضا ولكن يجزم يه عمن لا يحتج به" أي البخاري يفت في عضد حسن الظن في الطرف الأول إذ العلة هي جزمه وقد حصل في القسمين "فليس فيه" أي هذا الثاني: "إلا الحكم بصحته عمن أسنده إليه وجزم به عنه كقول البخاري" في أول باب من آداب الغسل كذا قال بن الصلاح.
قلت: ورجعت البخاري فرأيت كره في الثامن عشر من أبواب الغسل "وقال بهز" بفتح الموحدة وسكون الهاء فزاى وهو مقول البخاري "عن أبيه" هو حكيم "عن جده" هو معاوية بن حيدة صحابي معروف "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أحق أن يستحى منه" هذا مقول قول بهز.
"قال ابن الصلاح": بعد سياقه لهذا الكلام "فهذا" أي بهز عن أبيه عن جده "ليس من شرط البخاري قطعا ولذلك" أي لكونه ليس من شرط البخاري "لم يورده الحميدي في الجمع بين الصحيحين" قال الحافظ في الفتح إن يهزا وأباه ليسا من شرطه قال ولهذا لما علق في النكاح شيئا من حديث جد بهز لم يجزم به بل قال ويذكر عن معاوية بن حيدة انتهى.
قلت: وهذا مبني أيضا على أن شرط رواته كما سلف وفيه ما سلف.
"وثالثها: أن يورده" أي البخاري "ممرضا وصيغة التمريض عندهم" وهي خالف صيغة الجزم "أن يقول ويذكر أو يروي" مبني للمجهول مضارع "أو نقل وذكر" ماضيا "ونحوها فهذا لا يحكم بصحته" واعلم أن هذا أمر عرفي وأن إتيان الراوي بصيغة المجهول دليل على ضعف ما يرويه وإلا فإن الإتيان بصيغة المجهول في علم البيان نكتا معروفة "كقوله" أي البخاري في بابا ما يذكر في الفخذ "ويروي عن ابن العباس

وجرهد" بفتح الجيم وسكون الراء وفتح الهاء فدال مهملة هو ابن خويلد صحابي "ومحمد بن جحش" بالجيم المفتوحة فمهملة ساكنة فشين معجمة وهو محمد بن عبد الله بن جحش نسبة إلى جده ولأبيه عبد الله صحبة وكان محمد صغيرا في عصره صلى الله عليه وسلم "عن النبي صلى الله عليه وسلم: الفخذ عورة لأن هذه الألفاظ" أ ي صيغ التمريض "استعمالها في الضعيف أكثر وإن استعملت" نادرا "في الصحيح" والحمل على الأغلب أولى.
واعلم أن ابن الصلاح جعل القسمين واحدا أي ما جزم به عمن يحتج به وما أورده بصيغة التمريض وقال إنهما ليسا على شرطه قطعا ولفظه قول البخاري باب ما يذكر في الفخذ ويروى عن ابن عباس إلى آخر ما ذكره المصنف ثم قال وقوله في أول باب من أبواب الغسل وقال بهز إلى آخره ثم قال فهذا قطعا ليس من شرطه انتهى.
وإنما كان حديث ابن عباس ليس من شرطه لأن فيه يحيى القنات بقاف ومثناتين من فوق وهو ضعيف وحديث جرهد ضعفه البخاري للاضطراب في إسناده وحديث محمد بن جحش فيه أبو كثير قال الحافظ ابن حجر لم أجد فيه تصريحا "وكذا قوله" أي البخاري "وفي الباب يستعمل في الأمرين معا" في الصحيح والضعيف إلا أنه لا أغلبية له في أحدهما على الآخر حتى يحمل عليه الفرد المجهول بل يتوقف الأمر على البحث.
"قال ابن الصلاح: ومع ذلك" أي مع كونه أورده بصيغة التمريض "فإيراده له" أي البخاري للحديث عن الممرض "في أثناء الصحيح" أي كتابه المسمى بذلك "مشعر بصحة أصله إشعارا يؤنس به ويركن إليه" هذا كلام ابن الصلاح.
واعلم أن هذا يفيد أن التعليقات المجزومة ممن التزم صحة كتابه وإن لم يصرح بأن ما علقه صحيح يحكم بصحتها إذا لم يجزم بمن لا يحتج به وذلك بأنه لا يستجيز أن يجزم بذلك إلا وقد صح عنده وكذا أيضا بعض ما روي بغير بصيغة الجزم وهذا لا يوافق ما قاله الجمهور من أنه إذا قال راوي المعلق مثلا جميع من أحذفه ثقات فإن لا يقبل حتى يسمى قالوا لاحتمال أن يكون ثقة عنده دون غيره فإذا ذكر يعلم حاله وكذا قول من قال حدثني الثقة فإذا لم يقبل هذا فكيف يقبل قول من قال قد التزمت في كتابي أن لا أذكر إلا الصحيح فيجعل التزامه أبلغ من قوله حدثني

الثقة بل غاية التزامه هذا يفيد ما يفيده قول الراوي برفعه وأما ما قيل من المناقشة لكلام الجمهور بأنه تقديم للجرح المتوهم على التعديل الصريح فليس بشيء لأن التعديل الصريح للمبهم المجهول ليس بشيء.
"وشذ ابن حزم فلم يقبل شيئا من تعليقات الصحيح وتراجمه" سواء أوردها بصيغة الجزم أو غيرها ولعل وجه ما ذهب إليه هو ما قدمناه قريبا من عدم قبول الجمهور لمسألة التعديل على الإبهام فالأولى عدم قبول تعليق من التزم الصحة.
ولما كان في صحيح البخاري ما ليس بصحيح قطعا احتاج المصنف أن يذكر ما قاله ابن الصلاح في التلفيق بين ما قاله البخاري وبين ما وجد في كتابه فقال "وحمل ابن الصلاح قول البخاري ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وقول الأئمة في الحكم بصحته" أي صحة كتابه "على مقاصد الكتاب وموضوعه ومتون الأبواب دون التراجم ونحوها" وقد تقدم هذا.
"وأما الحافظ ابن حجر فصرح في مقدمة شرح البخاري" المسماة هداية الساري "بأن جميع تعاليقه" بجزم أو تمريض "غير صحيحة عنده" أي عند البخاري "يعني على شرطه وإن كان يمكن تصحيح بعضها على شرط غيره إلا أن يسند" أي البخاري "المعلق" أي الحديث الذي علقه "مرة ويعلقه أخرى ويكون تعليقه المرة الأخرى اختصارا".
قلت: اعمل أن المصنف رحمه الله تعالى أجمل ما نقله عن مقدمة الفتح وبيانه أنه قسم في المقدمة تعليقات البخاري إلى قسمين:
الأول : المعلق بصيغة الجزم ثم قسمة إلى صحيح على شرطه وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله إلا أن يسند المعلق وهذا في الحقيقة معلق صورة عنده لا حقيقة وإلى حسن تقوم به الحجة وإلى ضعيف بسبب انقطاع يسير.
الثاني : ما علقه بصيغة التمريض فإنه قسمه إلى خمسة أقسام صحيح على شرطه صحيح على شرط غيره جزما لا إمكانا كما قاله المصنف حسن ضعيف غير منجبر ضعيف منجبر فهذه خمسة أقسام.
إذا عرفت هذا عرفت أن تعاليق البخاري لا يتم الحكم على المروي منها بشيء من الصحة ولا الحسن ولا الضعيف إلا بعد الكشف والفحص عن حال ما علقه وعرفت أن هذا الذي ذكره الحافظ في المقدمة مجمل لا بيان فيه وقد بسطت الكلام على كلامه

في هامش مقدمة الفتح.
نعم قد بين الحافظ هذا الإجمال في نكته على ابن الصلاح وأتى بأمثلته فقال:
أقول: الأحاديث المرفوعة التي لم يوصل البخاري إسنادها في صحيحه:
منها: ما يوجد في محل آخر من كتابه موصولا.
ومنها: ما لا يوجد إلا معلقا.
فإما الأول : فالسبب في تعليقه أن البخاري من عادته في صحيحه أن لا يكرر شيئا إلا لفائدة وإذا كان المتن يشتمل على أحكام كرره في الأبواب بحسبها أو قطعه في الأبواب إذا كانت الجملة يمكن انفصالها من الجملة الأخرى ومع ذلك لا يكرر الإسناد بل يغاير بين رجاله إما بشيوخه أو بشيوخ شيوخه أو نحو ذلك فإذا ضاق مخرج الحديث ولم يكن له إلا إسناد واحد واشتمل على أحكام واحتاج إلى تكريرها فإنه والحال هذه إما أن يختصر المتن أو يختصر الإسناد وهذا أحد الأسباب في تعليق الحديث الذي وصله في موضع آخر.
وأما الثاني : وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقا فهو على صورتين:
إما بصيغة الجزم وإما بصيغة التمريض:
فأما الأول : فهو صحيح إلى من علقه عنه وبقي النظر فيما أبرز من رجاله فبعضه يلتحق بشرطه والسبب في تعليقه له إما لكون لم يحصل له مسموعا وإنما أخذه على طريق المذاكرة أو الإجازة أو كان قد خرج ما يقوم مقامه فاستغنى بذلك من إيراد هذا المعلق مستوفي السياق أو لمعنى غير ذلك ولتقاعده عن شرطه وإن صححه غيره أو حسنه وبعضه يكون ضعيفا من جهة الانقطاع خاصة.
وأما الثاني : وهو المعلق بصيغة التمريض مما لم يورده في مواضع أخر فلا يوجد ما يعلق بغير شرطه إلا مواضع يسرة قد أوردها بهذه الصيغة لكونه ذكرها بالمعنى.
نعم فيه ما هو صحيح وإن تقاعد عن شرطه إما لكونه لم يخرج لرجاله أو لوجود علة فيه عنده ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف وهو على قسمين:
أحدهما : ما يجبر بأمر آخر.
وثانيهما : ما لا يرتقي عن مرتبة الضعيف وحيث يكون بهذه المثابة فإنه يبين ضعفه ويصرح به حيث يورده في كتابه.
ثم سرد أمثلة لما ذكره انتزعها عن عدة أبواب من صحيح بخاري لا نطول بنقلها

ثم قال فقد لاح بهذه الأمثلة واتضح أن الذي يتقاعد عن شرط البخاري من العليق الجازم جملة كثيرة وأن الذي علقه بصيغة التمريض حين أورده في معرض الاحتجاج والاستشهاد فهو صحيح أو حسن أو ضعيف ينجبر وإن أورده في موضع الرد فهو ضعيف عنده وقد بينا كونه يبين كونه ضعيفا والله الموفق.
وجميع ما ذكرناه يتعلق بالأحاديث المرفوعة وأما الموقوفات فإنه يجزم بما صح عنده منها ولو لم يبلغ شرطه ويمرض ما كان من ضعف وانقطاع وإذا علق عن شخصين وكان لهما إسنادان مختلفان مما يصح أحدهما أو يضعف الأخر فإنه يعبر فيما هذا سبيله بصيغة التمريض والله أعلم.
وهذا كلام فيما صرح بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم: وإلى أصحابه أما ما لم يصرح بإضافته إلى قائل وهي الأحاديث التي يوردها في تراجم الأبواب من غير أن يصرح بكونها أحاديث فمنها ما يكون صحيحا وهو الأكثر ومنها ما يكون ضعيفا كقوله اثنان فما فوقهما جماعة لكن ليس شيء من ذلك ملتحقا بأقسام التعليق التي قدمناها إذا لم يسقها مساق الأحاديث وهي قسم مستقل ينبغي الاعتناء بجمعه والتكلم عليه وبه بالتعاليق يظهر كثرة ما اشتمل عليه البخاري من الأحاديث ويوضح سعة اطلاعه ومعرفته بأحاديث الأحكام جملة وتفصيلا انتهى.
إنما أطلنا بنقله لإفادته ولأن المصنف رحمه الله تعالى اختصر اختصارا مخلا مع الإشارة إلى كلام الحافظ وقد عرفت معنى قوله "قال" أي الحافظ ابن حجر "وقد عرفت ذلك من مقصد البخاري فإن الحديث لو كان على شرطه في الصحة ما ترك وصل إسناده وهذا الذي ذكره هو الصواب ومن أمثلة التعليق المختلف فيها" بين ابن الصلاح ومن تبعه وابن حزم "قول البخاري قال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد قال ثنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر ثنا عطية ابن قيس قال ثنى عبد الرحمن بن غنم قال ثنى أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الخز" بالخاء المعجمة والزاي ويروى بالحاء المهملة والراء "والحرير والخمر والمعازف" بالعين المهملة والزاي بعد الألف ثم فاء قال في القاموس المعازف الملاهي كالعود والطنبور والعازف اللاعب بها والمعنى "الحديث" تمامه "ولينزلن قوم إلى جنب علم تروح عليهم سارحتهم يأتيهم سائل لحاجة فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم وتمسخ أخرى قردة وخنازير إلى

يوم القيامة1 "فنعد ابن الصلاح وزين الدين ومحيي الدين النووي أن حكمه حكم المتصل بالعنعنة" مصدر مأخوذ من عن فلان عن فلان كالسبحلة والحولقة ويأتي تحقيقها "وهي صحيحة ممن لا يدلس" يأتي بيان التدليس وأقسامه "والبخاري ممن لا يدلس وذلك" أي وجه كونها كالعنعنة من غير المدلس "لأن هشام بن عمار من شيوخ البخارى حدث عنه بأحاديث" متصلة بلفظ حدثنا "وقد مثل المزي والشيخ تقي الدين" ابن دقيق العيد "التعليق بهذا الحديث" وهذا على رأيهما لا على رأي ابن الصلاح فإنه ليس عنده بتعليق كما تقدم أنه إذا روي البخاري عن شيخه بصيغة الجزم فإنه متصل وتقدم تخطئه المصنف له حيث مثل المعلق بهذا الحديث.
"وقال أبو عبد الله بن منده" في جزء له في اختلاف الأئمة في القراءة والسماع والمناولة والإجازة ما لفظه "أخرجه البخاري في كتابه الصحيح قال لنا فلان وهي إجازة وقال فلان وهو تدليس قال وكذلك مسلم أخرجه على هذا قلا الشيخ زين الدين انتهى كلام ابن منده ولم يوافق عليه وقال" أبو محمد "ابن حزم في المحلى" بضم الميم فحاء مهملة ولام مشدده من النحلية "هذا حديث من قطع لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد ولا يصح في هذا الباب" أي باب النهي عن المعازف "شيء أبدا وكل ما فيه" من حديث "فموضوع" .
قلت: قال ابن القيم في إغاثة اللهفان بعد ذكره لهذا الحديث وتصحيحه له ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي وزعم أنه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده وجواب هذا الوهم من وجوه:
أحدها : أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه فإذا قال قال هشام فهو بمنزلة قوله عن هشام.
الثاني : أنه لو لم يسمعه منه لم يستجز الجزم به إلا وقد صح عنه أنه حدث به وهذا كثير ما يكون لكثرة من رواه عن ذلك الشيخ وشهرته والبخاري أبعد خلق الله عن التدليس.
الثالث : أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به فلولا صحته عنه ما فعل ذلك.
ـــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.

الرابع : أنه علقه بصيغة الجزم دون صبغة التمريض فإنه إذا توقف في هذا الحديث أو لم يكون على شرطه قال ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ويذكر عنه ونحو ذلك فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد جزم وقطع بإضافته إليه.
الخامس : أنا لو أضربنا عن هذا صفحا فالحديث صحيح متصل عند غيره ثم ساقه بإسناده عن أبي داود انتهى.
وأما قول ابن حزم إن كل حديث في الملاهي موضوع فليس كما قال بل هي أحاديث منها حسن ومنها ما فيه لين وبمجموعها يثبت الحكم وقد أطلنا الكلام في ذلك في حواشينا على ضوء النهار.
"وقال ابن الصلاح: ولا التفات إلى ابن حزم في رده ذلك وأخطأ في ذلك من وجوه والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح" وكأنه قيل فإذا كان كذلك فلم صنع البخاري فيه هذا الصنيع فقال "والبخاري قد يفعل ذلك لكون الحديث معروفا من جهة الثقات" عن الشخص الذي علقه عنه "أو لكونه ذكره في موضع آخر من كتابه متصلا".
قلت: هذا العذر يوهم أن قول البخاري وقال هشام غير متصل وأنه أخرج البخاري حديث هشام بن عمار متصلا في كتابه في موضع آخر وهو خلاف ما هو بصدد تقريره "ولغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع قال الحافظ زين الدين" مقررا لكلام ابن الصلاح "والحديث" أي حديث هشام بن عمار "متصل من طرق طريق هشان وغيره" فهو يرد قول من قال إنه غير متصل إلا أنه لا يخفي أن ابن حزم قال هو غير متصل عند البخاري ولم يتعرض طريقه نعم قوله توكل ما فيه فموضوع يشمل حديث هشام إلا أن يقال تقد كلامه عليه بخصوصه يخصصه عن العموم اللاحق "قال" أبو بكر "الإسماعيلي في المستخرج" على البخاري "حدثنا الحسن وهو ابن سفيان النسوي الإمام قال ثنا هشام بن عمار فذكره" فهذا اتصال بالاتفاق برجال البخاري "وقال" أبو أيوب "الطبراني في مسند الشاميين حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد ثنا هشام بن عمار" انتهى كلام الزين.
قال المصنف "والصحيح صحة الحديث" أي حديث هشام بن عمار "بلا ريب" لما عرفت من ثبوت اتصاله "ولكن دلالته على التحريم" أي تحريم الملاهي "ظنية معارضة:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5