كتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)

{ تِلْكَ } إشارة إلى آيات السورة . والمراد بالكتاب السورة ، أي : تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ، ثم قال : { والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن كله هو { الحق } الذي لا مزيد عليه ، لا هذه السور وحدها ، وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية : هم كالحلقة المفرعة ، لا يدرى أين طرفاها؟ تريد الكملة .

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)

{ الله } مبتدأ ، و { الذى } خبره ، بدليل قوله : { وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض } ويجوز أن يكون صفة . وقوله : { يُدَبّرُ الأمر يُفَصّلُ الآيات } خبر بعد خبر . وينصره ما تقدّمه من ذكر الآيات { رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } كلام مستأنف استشهاد برؤيتهم لها كذلك . وقيل : هي صفة لعمد . ويعضده قراءة أبي «ترونه» . وقرىء : «عُمُد» ، بضمتين { يُدَبِّرُ الأمر } يدبر أمر ملكوته وربوبيته { يُفَصّلُ } آياته في كتبه المنزلة { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ } بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه . وقرأ الحسن : «ندبر» ، بالنون { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين } خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدّها ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت . وقيل : أراد بالزوجين : الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة { يغشى الليل النهار } يلبسه مكانه ، فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً . وقرىء : «يغشّى» بالتشديد .

وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

{ قِطَعٌ متجاورات } بقاع مختلفة ، مع كونها متجاورة متلاصقة : طيبة إلى سبخة ، وكريمة إلى زهيدة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على عكسها ، مع انتظامها جميعاً في جنس الأرضية . وذلك دليل على قادر مريد ، موقع لأفعاله على وجه دون وجه . وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع ، مختلفة الأجناس والأنواع ، وهي تسقى بماء واحد ، وتراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح ، متفاضلة فيها . وفي بعض المصاحف : قطعاً متجاورات على : وجعل وقرىء : «وجناتٍ» ، بالنصب للعطف على زوجين . أو بالجرّ على كل الثمرات . وقرىء : «وزرعٍ ونخيلٍ» ، بالجرّ عطفاً على أعناب أو جنات والصنوان : جمع صنو ، وهي النخلة لها رأسان ، وأصلها واحد . وقرىء بالضم . والكسر : لغة أهل الحجاز ، والضم : لغة بني تميم وقيس { تَسْقِى } بالتاء والياء { وَنُفَضّلُ } بالنون وبالياء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً { في الأكل } بضم الكاف وسكونها .

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)

{ وَإِن تَعْجَبْ } يا محمد من قولهم في إنكار البعث ، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه؛ لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعي بخلقهنّ ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب { أَءِذَا كُنَّا } إلى آخر قولهم : يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم ، وأن يكون منصوباً بالقول . وإذا نصب بما دل عليه قوله : { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } ، { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم { وَأُوْلَئِكَ الأغلال فِى أعناقهم } وصف بالإصرار ، كقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا } [ يس : 8 ] ونحوه :
لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلاَلٌ وَأَقْيَادُ ... أو هو من جملة الوعيد .

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)

{ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } بالنقمة قبل العافية ، والإحسان إليهم بالإمهال . وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } أي عقوبات أمثالهم من المكذبين ، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا والمثلة : العقوبة ، بوزن السمرة . والمثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة ، { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ويقال : أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه . والمثال : القصاص . وقرىء : «المُثُلات» بضمتين لإتباع الفاء العين . و «المَثْلات» ، بفتح الميم وسكون الثاء ، كما يقال : السمرة . و «المُثْلات» بضم الميم وسكون الثاء ، تخفيف «المُثُلات» بضمتين . والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات { لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب . ومحله الحال ، بمعنى ظالمين لأنفسهم وفيه أوجه . أن يريد السيئات المكفرة لمجتنب الكبائر . أو الكبائر بشرط التوبة . أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال . وروي أنها لما نزلت قال النبي عليه الصلاة والسلام :
( 561 ) " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد " .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)

{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عناداً ، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى ، من انقلاب العصا حية ، وإحياء الموتى ، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل أرسلت منذراً ومخوّفاً لهم من سوء العاقبة . وناصحاً كغيرك من الرسل ، وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر ، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت ، والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوة بها لا تفاوت بينها ، والذي عنده كل شيء بمقدار يعطي كل نبي آية على حسب ما اقتضاه علمه بالمصالح وتقديره لها { وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } من الأنبياء يهديهم إلى الدين ، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية ، وبآية خص بها ، ولم يجعل الأنبياء شرعاً واحداً في آيات مخصوصة . ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون ، فلا يهمنك ذلك ، إنما أنت منذر ، فما عليك إلا أن تنذر لا أن تثبت الإيمان في صدورهم ، ولست بقادر عليه ، ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالإلجاء ، وهو الله تعالى . ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضاء حكمته أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره : أمر مدبر بالعلم النافذ مقدّر بالحكمة الربانية ، ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً ومصلحة ، لأجابهم إليه . وأما على الوجه الثاني ، فقد دل به على أن من هذه قدرته وهذا علمه ، هو القادر وحده على هدايتهم ، العالم بأي طريق يهديهم ، ولا سبيل إلى ذلك لغيره .

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)

{ الله يَعْلَمُ } يحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً ، وأن يكون المعنى : هو الله ، تفسيراً لهاد على الوجه الأخير ، ثم ابتدىء فقيل : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } «وما» في { مَا تَحْمِلُ } ، { وَمَا تَغِيضُ } ، { وَمَا تَزْدَادُ } إما موصولة ، وإما مصدرية . فإن كانت موصولة ، فالمعنى : أنه يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو . من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخداج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة ، ويعلم ما تغيضه الأرحام : أي تنقصه . يقال : غاض الماء وغضته أنا . ومنه قوله تعالى : { وَغِيضَ الماء } [ هود : 44 ] وما تزداده : أي تأخذه زائداً ، تقول : أخذت منه حقي ، وازددت منه كذا ومنه قوله تعالى : { وازدادوا تِسْعًا } [ الكهف : 25 ] ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد ، ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد ، فإنها تشتمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة . ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه . ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاما ومخدجاً . ومنه مدة ولادته ، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك ، وقيل : إنّ الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين ، ولذلك سمي هرماً . ومنه الدم ، فإنه يقل ويكثر . وإن كانت مصدرية ، فالمعنى أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ومن أوقاته وأحواله . ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أنّ الفعلين غير متعدّيين ، ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن تزيد على تسعة أشهر . وعنه الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام ، والازدياد ما ولد لتمام { بِمِقْدَارٍ } بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، كقوله { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] { الكبير } العظيم الشأن الذي كل شيء دونه { المتعال } المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها .

سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)

{ سارب } ذاهب في سربه - بالفتح - أي في طريقه ووجهه . يقال : سرب في الأرض سروباً . والمعنى : سواء عنده من استخفى : أي طلب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته ، ومن يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار يبصره كل أحد . فإن قلت : كان حق العبارة أن يقال : ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار ، حتى يتناول معنى الاستواء المستخفي والسارب؛ وإلا فقد تناول واحداً هو مستخف وسارب قلت : فيه وجهان : أحدهما أنّ قوله { وَسَارِبٌ } عطف على من هو مستخف ، لا على مستخف ، والثاني أنه عطف على مستخف؛ إلا أن { مِنْ } في معنى الاثنين ، كقوله :
نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَاذِئْبُ يصْطَحِبَانِ ... كأنه قيل : سواء منكم اثنان : مستخف بالليل ، وسارب بالنهار . والضمير في { لَهُ } مردود على { مِنْ } كأنه قيل : لمن أسرّ ومن جهر ، ومن استخفى ومن سرب { معقبات } جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته ، والأصل : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، كقوله { وَجَاء المعذرون } [ التوبة : 90 ] بمعنى المعتذرون . ويجوز معقبات ، بكسر العين ولم يقرأ به . أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء على عقبه ، كما يقال : قفاه ، لأنّ بعضهم يعقب بعضاً أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } هما صفتان جميعاً وليس { مِنْ أَمْرِ الله } بصلة للحفظ ، كأنه قيل : له معقبات من أمر الله . أو يحفظونه من أجل أمر الله أي من أجل أنّ الله أمرهم بحفظه . والدليل عليه قراءة علي رضي الله عنه وابن عباس وزيد بن علي وجعفر بن محمد وعكرمة : «يحفظونه بأمر الله» . أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب ، بدعائهم له ومسئلتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب ، كقوله : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن } [ الأنبياء : 42 ] وقيل : المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان ، يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله أي من قضاياه ونوازله ، أو على التهكم به ، وقرىء : «له معاقيب» جمع معقب أو معقبة . والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ } من العافية والنعمة { حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من الحال الجميلة بكثرة المعاصي { مِن وَالٍ } ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم .

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)

{ خَوْفًا وَطَمَعًا } لا يصح أن يكونا مفعولاً لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف ، أي : إرادة خوف وطمع . أو على معنى إخافة وإطماعاً ، ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق ، كأنه في نفسه خوف وطمع . أو على : ذا خوف وذا طمع . أو من المخاطبين ، أي : خائفين وطامعين . ومعنى الخوف والطمع : أنّ وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق ، ويطمع في الغيث . قال أبو الطيب :
فَتَى كالسَّحَابِ الْجُونِ تُخْشَى وَتُرْتَجَى ... يُرْجَى الْحَيَاء مِنْهَا وَيُخْشَى الصَّوَاعِقُ
وقيل : يخاف المطر من له فيه ضرر ، كالمسافر ، ومن له في جرينه التمر والزبيب ، ومن له بيت يكف ، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ، ويطمع فيه من له فيه نفع ، ويحيا به { السحاب } اسم الجنس ، والواحدة سحابة . و { الثقال } جمع ثقيلة؛ لأنك تقول سحابة ثقيلة ، وسحاب ثقال ، كما تقول : امرأة كريمة ونساء كرام ، وهي الثقال بالماء { وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } ويسبح سامع الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له . أي يضجون بسبحان الله والحمد لله . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :
( 562 ) « سبحان من يسبح الرعد بحمده » وعن علي رضي الله عنه : سبحان من سبحت له .
وإذا اشتدّ الرعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 563 ) « اللهمّ لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك » وعن ابن عباس .
( 564 ) أنّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال : « ملك من الملائكة موكل بالسحاب ، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب » وعن الحسن : خلق من خلق الله ليس بملك . ومن بدع المتصوّفة . الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم ، والمطر بكاؤهم { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده ، وما دلّ على قدرته الباهرة ووحدانيته ثم قال { وَهُمْ } يعني الذين كفروا وكذّبوا رسول الله وأنكروا آياته { يجادلون فِى الله } حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعاد ، الخلائق بقولهم { مِنْ يحيى العظام وَهِىَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] ويردّون الوحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد ، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم { الملائكة * بَنَات الله } فهذا جدالهم بالباطل ، كقولهم { وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } [ غافر : 5 ] وقيل : الواو للحال . أي : فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم . وذلك .
( 565 ) أنّ أربد أخا لبيد ابن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم - حين وفد عليه مع عامر بن الطفيل قاصدين لقتله فرمى الله عامراً بغدّة كغدّة البعير وموت في بيت سلولية ، وأرسل على أربد صاعقة فقتلته - أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد؟ { المحال } المماحلة ، وهي شدّة المماكرة والمكايدة .

ومنه : تمحل لكذا ، إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان . ومنه الحديث :
( 566 ) « ولا تجعله علينا ما حلا مصدّقاً » وقال الأعشى :
فَرْعُ نَبْعٍ يَهَشُّ في غُصُنِ الْمَجْ ... دِ غَزِيرُ النّدَى شَدِيدُ الْمِحَالِ
والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه ، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون . وقرأ الأعرج بفتح الميم ، على أنه مفعل ، من حال يحول محالا إذا احتال . ومنه : أحول من ذئب ، أي أشدّ حيلة . ويجوز أن يكون المعنى : شديد الفقار ، ويكون مثلا في القوة والقدرة كما جاء : فساعد الله أشدّ ، وموساه أحدّ؛ لأن الحيوان إذا اشتدّ محاله ، كان منعوتاً بشدّة القوّة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره . ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر؟ وذلك أن الفقار عمود الظهر وقوامه .

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)

{ دَعْوَةُ الحق } فيه وجهان أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل ، كما تضاف الكلمة إليه في قولك : كلمة الحق ، للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به ، وأنها بمعزل من الباطل . والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ، ويعطي الداعي سؤاله إن كان مصلحة له ، فكانت دعوة ملابسة للحق ، لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء ، لما في دعوته من الجدوى والنفع ، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه . والثاني : أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وعلا ، على معنى : دعوة المدعوّ الحق الذي يسمع فيجيب . وعن الحسن : الحق هو الله ، وكلّ دعاء إليه دعوة الحق . فإن قلت : ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبله؟ قلت أما على قصة أربد فظاهر؛ لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكرٌ به من حيث لم يشعر . وقد
( 567 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صاحبه بقوله : ( اللهمّ اخسفهما بما شئت ) ، فأجيب فيهما ، فكانت الدعوة دعوة حق . وأما على الأوّل فوعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله بحلول محاله بهم ، وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دعا عليهم فيهم { والذين يَدْعُونَ } والآلهة الذين يدعوهم الكفار { مِنْ } دون الله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء } من طلباتهم { إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ } إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه ، أي كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم . وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه ، فبسطهما ناشراً أصابعه ، فلم تلق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ طلبته من شربه . وقرىء : «تدعون» بالتاء . كباسط كفيه ، بالتنوين { إِلاَّ فِى ضلال } إلا في ضياع لا منفعة فيه؛ لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم .

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)

{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ } أي ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله ، شاؤا أو أبوا . لا يقدرون أن يمتنعوا عليه ، وتنقاد له { ظلالهم } أيضاً حيث تتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص ، والفيء والزوال . وقرىء : «بالغدو والإيصال» ، من آصلوا : إذا دخلوا في الأصيل .

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)

{ قُلِ الله } حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم؛ لأنه إذا قال لهم : من رب السموات والأرض ، لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا الله . كقوله : { قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون : 86 ] وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك فإذا قال : هذا قولي قال : هذا قولك ، فيحكي إقراره تقريراً له عليه واستيثاقاً منه ، ثم يقول له : فيلزمك على هذا القول كيت وكيت . ويجوز أن يكون تلقيناً ، أي : إن كعوا عن الجواب فلقنهم ، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه { أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء ، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك { لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا } لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضرراً ، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب ، فما أبين ضلالتكما { أَمْ جَعَلُواْ } بل أجعلوا . ومعنى الهمزة الإنكار و { خَلَقُواْ } صفة لشركاء ، يعني أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله { فَتَشَابَهَ } عليهم خلق الله وخلقهم ، حتى يقولوا : قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه ، فاستحقوا العبادة ، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد ، إذ لا فرق بين خالق وخالق؛ ولكنهم اتخذوا له شركاه عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق ، فضلاً أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق { قُلِ الله خالق كُلّ شَىْء } لا خالق غير الله ، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق ، فلا يكون له شريك في العبادة { وَهُوَ الواحد } المتوحد بالربوبية { القهار } لا يغالب ، وما عداه مربوب ومقهور .

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)

هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه ، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلاً لهما ، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع ، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحليّ منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفي به ، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً ، يثبت الماء في منافعه . وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب ، والثمار التي تنبت به مما يدّخر ويكنز ، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة ، بزبد السيل الذي يرمي به ، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب . فإن قلت : لم نكرت الأودية؟ قلت : لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع ، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض . فإن قلت : فما معنى قوله : { بِقَدَرِهَا } ؟ قلت : بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ . ألا ترى إلى قوله : { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } لأنه ضرب المطر مثلا للحق ، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة ، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف . فإن قلت : فما فائدة قوله : { ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع } ؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة في قوله : { بِقَدَرِهَا } لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله : { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } لأنّ المعنى : وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب ، وهو الحلية والمتاع . وقوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع } عبارة جامعة لأنواع الفلز ، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك ، نحو ما جاء في ذكر الآجر { أوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين } [ القصص : 38 ] و «من» لابتداء الغاية . أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء . أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبداً رابياً منفخاً مرتفعاً على وجه السيل [ { جُفَآءً } يجفؤه السيل : ] ، أي يرمي به . وجفأت القدر بزبدها ، وأجفأ السيل وأجفل . وفي قراءة رؤبة ابن العجاج : جفالا وعن أبي حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ، لأنه كان يأكل الفأر . وقرىء : «يوقدون» ، بالياء : أي يوقد الناس .

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)

{ لِلَّذِينَ استجابوا } اللام متعلقة بيضرب ، أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ، وللكافرين الذين لم يستجيبوا ، أي : هما مثلا الفريقين . و { الحسنى } صفة لمصدر استجابوا ، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى . وقوله { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين . وقيل : قد تم الكلام عند قوله : { كذلك يَضْرِبُ الله الامثال } [ الرعد : 17 ] وما بعده كلام مستأنف . والحسنى : مبتدأ ، خبره { لِلَّذِينَ استجابوا } والمعنى : لهم المثوبة الحسنى ، وهي الجنة { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأ خبره ، «لو» مع ما في حيزه و { سُوء الحِسَابِ } المناقشة فيه . وعن النخعي : أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء .

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)

دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله { أَفَمَن يَعْلَمُ } لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم { أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق } فاستجاب ، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب : كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب } أي الذين عملوا على قضيات عقولهم ، فنظروا واستبصروا .

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)

{ والذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } مبتدأ . و { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار } خبره كقوله : والذين ينقضون عهد الله أولئك لهم اللعنة . ويجوز أن يكون صفة لأولي الألباب ، والأوّل أوجه . وعهد الله : ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] { وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه : من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد ، تعميم بعد تخصيص { مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } من الأرحام والقرابات ، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ، ونصرتهم ، والذب عنهم ، والشفقة عليهم ، والنصيحة لهم ، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم ، وإفشاء السلام عليهم ، وعيادة مرضاهم ، وشهود جنائزهم . ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر ، وكل ما تعلق منهم بسبب ، حتى الهرة والدجاجة . وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم؟ قالوا : من أهل خراسان . قال : اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم ، واعلموا أنّ العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي يخشون وعيده كله { وَيَخَافُونَ } خصوصاً { سُوء الحِسَابِ } فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا { صَبَرُواْ } مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف { ابتغاء وَجْهِ } الله ، لا ليقال : ما أصبره وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء كقوله :
وَتَجَلُّدِي لِلشّامِتِينَ أُرِيِهمُ ... ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مردّ فيه للفائت ، كقوله :
مَا أنْ جَزعْتُ وَلاَ هَلَعْ ... تُ وَلاَ يَرُدُّ بُكاي زَنْدَا
وكل عمل له وجوه يعمل عليها ، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما به كان حسناً عند الله ، وإلا لم يستحق به ثواباً ، وكان فعلا كلا فعل { مّمّا رزقناهم } من الحلال؛ لأنّ الحرام لا يكون رزقاً ولا يسند إلى الله { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } يتناول النوافل ، لأنها في السر أفضل والفرائض ، لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة { وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة } ويدفعونها عن ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيء غيرهم . وعن الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا . وعن ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا . وقيل : إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره { عقبى الدار } عاقبة الدنيا وهي الجنة ، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها و { جنات عَدْنٍ } بدل من عقبى الدار . وقرىء «فنعم» بفتح النون . والأصل : نعم فمن كسر النون فلنقل كسرة العين إليها ، ومن فتح فقد سكن العين ولم ينقل وقرىء : «يدخلونها» على البناء للمفعول .

وقرأ ابن أبي عبلة «صلُح» بضم اللام ، والفتح أفصح ، أعلم أنّ الأنساب لا تنفع إذا تجردت من الأعمال الصالحة . وآباؤهم جمع أبوي كل واحد منهم ، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم { سلام عَلَيْكُمُ } في موضع الحال ، لأنّ المعنى : قائلين سلام عليكم أو مسلمين ، فإن قلت : بم تعلق قوله { بِمَا صَبَرْتُمْ } ؟ قلت : بمحذوف تقديره : هذا بما صبرتم ، يعنون هذا الثواب بسبب صبركم ، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه هذه الملاذ والنعم والمعنى : لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة ، كقوله :
بِمَا قَدْ أرَى فِيهَا أوَانِسَ بُدَّنَا ... وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 568 ) أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ويجوز أن يتعلق بسلام ، أي نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم .

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)

{ مِن بَعْدِ ميثاقه } من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول { سُوء الدار } يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا ، لأنه في مقابلة عقبى الدار ، ويجوز أن يراد بالدار جهنم ، وبسوئها عذابها .

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)

{ الله يَبْسُطُ الرزق } أي الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره ، وهو الذي بسط رزق أهل مكة ووسعه عليهم { وَفَرِحُواْ } بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لافرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة ، وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزرا يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)

فإن قلت : كيف طابق قولهم { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } قوله : { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء } ؟ قلت : هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبيّ قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية ، فإذا جحدوها ولم يعتدّوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط ، كان موضعاً للتعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم : إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدّة الشكيمة في الكفر ، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ } كان على خلاف صفتكم { أَنَابَ } أقبل إلى الحق ، وحقيقته دخل في نوبة الخير ، و { الذين ءَامَنُواْ } بدل من { مَنْ أَنَابَ } { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله } بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته ، كقوله : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } [ الزمر : 23 ] أو تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته ، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها { الذين ءَامَنُواْ } مبتدأ ، و { طوبى لَهُمْ } خبره . ويجوز أن يكون بدلاً من القلوب ، على تقدير حذف المضاف ، أي : تطمئن القلوب قلوب الذين آمنوا ، وطوبى مصدر من طاب ، كبشرى وزلفى ، ومعنى «طوبى لك» أصبت خيراً وطيباً ، ومحلها النصب أو الرفع ، كقولك : طيباً لك ، وطيب لك ، وسلاماً لك ، وسلام لك ، والقراءة في قوله «وحسن مآب» بالرفع والنصب ، تدلك على محليها . واللام في { لَهُمْ } للبيان مثلها في سقيا لك ، والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها ، كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي : «طيبى لهم» ، فكسر الطاء لتسلم الياء ، كما قيل : بيض ومعيشة .

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)

{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ } مثل ذلك الإرسال أرسلناك ، يعني : أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات ، ثم فسر كيف أرسله فقال : { فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ } أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء { لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } وحال هؤلاء أنهم يكفرون { بالرحمن } بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء ، وما بهم من نعمة فمنه ، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم { قُلْ هُوَ رَبّى } الواحد المتعالي عن الشركاء { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في نصرتي عليكم { وَإِلَيْهِ مَتَابِ } فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم .

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)

{ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا } جوابه محذوف ، كما تقول لغلامك : لو أني قمت إليك ، وتترك الجواب والمعنى : ولو أن قرآنا { سُيّرَتْ بِهِ الجبال } عن مقارّها ، وزعزعت عن مضاجعها { أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض } حتى تتصدع وتتزايل قطعاً { أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى } فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف ، كما قال : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله } [ الحشر : 21 ] هذا يعضد ما فسرت به قوله : { لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الرعد : 30 ] من إرادة تعظيم ما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن . وقيل : معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى وتنبيههم ، لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة } [ الأنعام : 111 ] الآية . وقيل : إن أبا جهل بن هشام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سيِّر بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها البساتين والقطائع ، كما سخرت لداود عليه السلام إن كنت نبياً كما تزعم ، فلست بأهون على الله من داود . وسخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ثم نرجع في يومنا ، فقد شق علينا قطع المسافة البعيدة كما سخرت لسليمان عليه السلام . أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا : منهم قصي بن كلاب فنزلت ومعنى تقطيع الأرض على هذا : قطعها بالسير ومجاوزتها . وعن الفراء : هو متعلق بما قبله . والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } وما بينهما اعتراض ، وليس ببعيد من السداد . وقيل { قُطّعَتْ بِهِ الارض } شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا } على معنيين ، أحدهما : بل لله القدرة على كل شيء ، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها؛ إلا أنّ علمه بأنّ إظهارها مفسدة يصرفه . والثاني : بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان ، وهو قادر على الالجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار . ويعضده قوله : { أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الذين ءامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء الله } يعني مشيئة الإلجاء والقسر { لَهَدَى الناس جَمِيعًا } ومعنى { أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ } أفلم يعلم . قيل : هي لغة قوم من النخع . وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه؛ لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك . قال سحيم بن وثيل الرياحي :
أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعْبِ إذْ يَيْسُرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
ويدل عليه أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرؤا : «أفلم يتبين» وهو تفسير ( أفلم ييئس ) وقيل : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوى السينات ، وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام .

وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها البناء ، وهذه والله فرية ما فيها مرية . ويجوز أن يتعلق { أَن لَّوْ يَشَاء } بآمنوا ، على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم { تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ } من كفرهم وسوء أعمالهم { قَارِعَةٌ } داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم { أَوْ تَحُلُّ } القارعة { قَرِيبًا } منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها ، ويتعدى إليهم شرورها { حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله } وهو موتهم ، أو القيامة . وقيل : ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من العداوة والتكذيب قارعة؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم ، وتصيب من مواشيهم . أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك ، كما حل بالحديبية ، حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة ، وكان الله قد وعده ذلك .

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)

الإملاء : الإمهال ، وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن ، كالبهيمة يملي لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء به وتسلية له .

أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)

{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ } احتجاج عليهم في إشراكهم بالله ، يعني أفا الله الذي هو قائم رقيب { على كُلّ نَفْسٍ } صالحة أو طالحة { بِمَا كَسَبَتْ } يعلم خيره وشره ، ويعدّ لكل جزاءه ، كمن ليس كذلك . ويجوز أن يقدّر ما يقع خبراً للمبتدأ ويعطف عليه وجعلوا ، وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه { وَجَعَلُواْ } له وهو الله الذي يستحق العبادة وحده { شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ } أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم ، ثم قال : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } على أم المنقطعة ، كقولك للرجل : قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف ، ومعناه : بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض ، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم ، والمراد نفي أن يكون له شركاء . ونحو : { قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض } [ يونس : 18 ] ، { أَم بظاهر مّنَ القول } بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة ، { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } [ التوبة : 30 ] ، { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } [ يوسف : 40 ] وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق : أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه ، فتبارك الله أحسن الخالقين . وقرىء : «أتنبئونه» بالتخفيف { مَكْرِهِمْ } كيدهم للإسلام بشركهم { وَصُدُّواْ } قرىء بالحركات الثلاث . وقرأ ابن أبي إسحاق : «وصدّ» بالتنوين { وَمَن يُضْلِلِ الله } ومن يخذله لعلمه أنه لا يهتدي { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } فما له من أحد يقدر على هدايته { لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا } وهو ما ينالهم من القتل والأسر وسائر المحن ، ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر ، ولذلك سماه عذاباً { وَمَا لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ } وما لهم من حافظ من عذابه . أو ما لهم من جهته واق من رحمته .

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)

{ مَّثَلُ الجنة } صفتها التي هي في غرابة المثل ، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف على مذهب سيبويه ، أي فيما قصصناه عليكم مثل الجنة . وقال غيره : الخبر { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } كما تقول : صفة زيد أسمر ، وقال الزجاج : معناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، على حذف الموصوف تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد . وقرأ علي رضي الله عنه «أمثال الجنة» على الجمع أي صفاتها { أُكُلُهَا دَائِمٌ } كقوله { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 33 ] { وِظِلُّهَا } دائم لا ينسخ ، كما ينسخ في الدنيا بالشمس .

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)

{ والذين ءاتيناهم الكتاب } يريد من أسلم من اليهود ، كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون بنجران ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، وثمانية من أهل اليمن ، هؤلاء { يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحزاب } يعني ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه ، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني [ مما ] هو ثابت في كتبهم غير محرف ، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرّفوه وبدّلوه من الشرائع . فإن قلت : كيف اتصل قوله : { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله } بما قبله؟ قلت : هو جواب للمنكرين معناه : قل إنما أمرت فيما أنزل إليّ بأن أعبد الله ولا أشرك به . فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } [ آل عمران : 64 ] وقرأ نافع في رواية أبي خليد : «ولا أشرك» بالرفع على الاستئناف كأنه قال : وأنا [ لا ] أشرك به ويجوز أن يكون في موضع الحال على معنى : أمرت أن أعبد الله غير مشرك به { إِلَيْهِ أَدْعُو } خصوصاً لا أدعو إلى غيره { وَإِلَيْهِ } لا إلى غيره مرجعي ، وأنتم تقولون مثل ذلك ، فلا معنى لإنكاركم .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)

{ وكذلك أنزلناه } ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه ، والإنذار بدار الجزاء { حُكْمًا عَرَبِيّا } حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ، وانتصابه على الحال . كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يوافقهم عليها منها أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله عنها ، فقيل له : لئن تابعتهم على دين ما هو إلا أهواء وشبه بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج القاطعة ، خذلك الله فلا ينصرك ناصر ، وأهلكك فلا يقيك منه واق ، وهذا من باب الإلهاب والتهييج ، والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه ، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة ، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة الشكيمة بمكان .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)

كانوا يعيبونه بالزواج والولاد ، كما كانوا يقولون : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، وكانوا يقترحون عليه الآيات ، وينكرون النسخ فقيل : كان الرسل قبله بشراً مثله ذوي أزواج وذرية . وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم ، والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات؛ فلكل وقت حكم يكتب على العباد ، أي : يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم { يَمْحُواْ الله مَا يَشَاء } ينسخ ما يستصوب نسخه ، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته ، أو يتركه غير منسوخ ، وقيل : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة؛ لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل { وَيُثَبّتْ } غيره . وقيل يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة ، ويثبت إيمانهم وطاعتهم . وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسي وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها ، والكلام في نحو هذا واسع المجال { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه . وقرىء : «ويثبت» .

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)

{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ } وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم . أو توفيناك قبل ذلك ، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب ، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، فلا يهمنك إعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)

{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض } أرض الكفر { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بما نفتح على المسلمين من بلادهم ، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام ، وذلك من آيات النصرة والغلبة ونحوه { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [ الأنبياء : 44 ] ، { أَفَهُمُ الغالبون } [ الأنبياء : 44 ] ، { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق } [ فصلت : 53 ] والمعنى : عليك بالبلاغ الذي حملته؛ ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر ، ولا يضجرك تأخره؛ فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر . وقرىء «ننقصها» بالتشديد { لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } لا رادّ لحكمه . والمعقب : الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، وحقيقته : الذي يعقبه أي يقفيه بالردّ والإبطال . ومنه قيل لصاحب الحق : معقب؛ لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب . قال لبيد :
طَلَبُ الْمُعَقِّبِ حَقَّهُ الْمَظْلُومُ ... والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا . فإن قلت : ما محل قوله لا معقب لحكمه؟ قلت : هو جملة محلها النصب على الحال ، كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه ، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة ، تريد حاسراً .

وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)

{ وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } وصفهم بالمكر ، ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال { فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا } ثم فسر ذلك بقوله : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكافر لِمَنْ عُقْبَى الدار } لأنّ من علم ما تكسب كل نفس ، وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كله؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون . وهم في غفلة مما يراد بهم . وقرىء : «الكفار» ، و «الكافرون» . و «الذين كفروا» . والكفر : أي أهله . والمراد بالكافر الجنس : وقرأ جناح بن حبيش ، و «سَيُعلم الكافر» ، من أعلمه أي سيخبر .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)

{ كفى بالله شَهِيدًا } لما أظهر من الأدلة على رسالتي { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } والذي عنده علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز الفائت لقوى البشر . وقيل : ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا . لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم : وقيل : هو الله عز وعلا والكتاب : اللوح المحفوظ وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله . والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو ، شهيداً بيني وبينكم . وتعضده قراءة من قرأ : «ومن عنده علم الكتاب» على من الجارّة ، أي ومن لدنه علم الكتاب ، لأن علم من علمه من فضله ولطفه . وقرىء : «ومن عنده علم الكتاب» على من الجارّة ، وعلم ، على البناء للمفعول وقرىء : «وبمن عنده علم الكتاب» . فإن قلت : بم ارتفع علم الكتاب؟ قلت : في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدّر في الظرف ، فيكون فاعلاً؛ لأنّ الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول ، فعمل عمل الفعل ، كقولك ، مررت بالذي في الدار أخوه ، فأخوه فاعل ، كما تقول : بالذي استقرّ في الدار أخوه . وفي القراءة التي لم يقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالإبتداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 569 ) " من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة ، وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله "

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)

{ كتاب } هو كتاب ، يعني السورة . وقرىء : «ليخرج الناس» . والظلمات والنور : استعارتان للضلال والهدى { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } بتسهيله وتيسيره ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب ، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل ، كقوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف ، كأنه قيل : إلى أي نور؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد . وقوله : { الله } عطف بيان للعزيز الحميد؛ لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب النجم في الثريا . وقرىء بالرفع على : «هو الله» . الويل : نقيض الوأل ، وهو النجاة اسم معنى ، كالهلاك؛ إلا أنه لا يشتق منه فعل ، إنما يقال : ويلاً له ، فينصب نصب المصادر ، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات ، فيقال : ويل له ، كقوله سلام عليك . ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل . فإن قلت : ما وجه اتصال قوله : { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بالويل؟ قلت : لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد ، ويضجون منه ، ويقولون : يا ويلاه ، كقوله : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] { الذين يَسْتَحِبُّونَ } مبتدأ خبره : أولئك في ضلال بعيد ويجوز أن يكون مجروراً صفة للكافرين ، ومنصوباً على الذمّ . أو مرفوعاً على أعني الذين يستحبون أو هم الذين يستحبون ، والاستحباب : الإيثار والاختيار ، وهو استفعال من المحبة؛ لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إِليه وأفضل عندها من الآخر . وقرأ الحسن «ويصِدّون» ، بضم الياء وكسر الصاد . يقال : صدّه عن كذا ، وأصدّه ، قال :
أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ ... والهمزة فيه داخلة على صدّ صدوداً ، لتنقله من غير التعدّي إلى التعدّي . وأما صدّه ، فموضوع على التعدية كمنعه ، وليست بفصيحة كأوقفه؛ لأنّ الفصحاء استغنوا بصدّه ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً ، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية ، والأصل : ويبغون لها ، فحذف الجار وأوصل الفعل { فِى ضلال بَعِيدٍ } أي ضلوا عن طريق الحق ، ووقفوا دونه بمراحل . فإن قلت : فما معنى وصف الضلال بالبعد . قلت : هو من الإسناد المجازي ، والبعد في الحقيقة للضالّ؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق ، فوصف به فعله ، كما تقول : جدّ جدّه ، ويجوز أن يراد : في ضلال ذي بعد . أو فيه بعد : لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

{ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } أي ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به ، كما قال : { وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } [ فصلت : 44 ] فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعاً { قل يا أَيُّهَا النَّاس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] بل إلى الثقلين ، وهم على ألسنة مختلفة ، فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية ، لم تكن للعرب حجة أيضاً . قلت : لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فبقي أن ينزل بلسان واحد ، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول؛ لأنهم أقرب إليه ، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر . قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة ، على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها - مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحد منها ، وكلم الرسول العربي كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً - لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء . ومعنى { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } بلغة قومه . وقرىء : «بلسن قومه» . واللسن واللسان : كالريش والرياش ، بمعنى اللغة . وقرىء : «بلُسن قومه» بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة ، وهو جمع لسان ، كعماد وعمد وعمد على التخفيف . وقيل : الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ورووه عن الضحاك . وأن الكتب كلها نزلت بالعربية ، ثم أدّاها كل نبيّ بلغة قومه ، وليس بصحيح؛ لأنّ قوله ليبين لهم ضمير القوم وهم العرب ، فيؤدّي إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب ، وهذا معنى فاسد { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآء } كقوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن . ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن . والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف ، وبالهداية : التوفيق واللطف ، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان { وَهُوَ العزيز } فلا يغلب على مشيئته { الحكيم } فلا يخذل إلا أهل الخذلان ، ولا يلطف إلا بأهل اللطف .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)

{ أَنْ أَخْرِجْ } بمعنى أي أخرج؛ لأنّ الإرسال فيه معنى القول ، كأنه قيل : أرسلناه وقلنا له أخرج . ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل ، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر ، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر ، وغيره سواء في الفعلية . والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل : قولهم أوعز إليه بأن أفعل ، فأدخلوا عليها حرف الجر . وكذلك التقدير بأن أخرج قومك { وَذَكِّرْهُمْ بأيام الله } وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم : قوم نوح وعاد وثمود . ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها ، كيوم ذي قار ، ويوم الفجار ، ويوم قضة وغيرها ، وهو الظاهر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : نعماؤه وبلاؤه . فأمّا نعماؤه ، فإنه ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى . وفلق لهم البحر . وأمّا بلاؤه فإهلاك القرون { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه ، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر وقيل : أراد لكل مؤمن ، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم ، تنبيهاً عليهم .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

{ إِذْ أَنجَاكُمْ } ظرف للنعمة بمعنى الإنعام ، أي إنعامه عليكم ذلك الوقت . فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب بعليكم؟ قلت : لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام ، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية ، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرّة عليكم عمل فيه ، ويتبين الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت : نعمة الله عليكم ، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها ، وإلا كان كلاماً ، ويجوز أن يكون «إذ» بدلا من نعمة الله ، أي : اذكروا وقت إنجائكم ، وهو من بدل الاشتمال . فإن قلت : في سورة البقرة { يُذَبّحُونَ } وفي الأعراف { يَقْتُلُونَ } وههنا { وَيُذَبِّحُونَ } مع الواو ، فما الفرق؟ قلت : الفرق أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له ، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أوفى على جنس العذاب ، وزاد عليه زيادة ظاهرة كأنه جنس آخر . فإن قلت : كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت : تمكينهم وإمهالهم ، حتى فعلوا ما فعلوا ابتلاء من الله . ووجه آخر وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم ، والبلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً ، قال تعالى { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] وقال زهير :
فَأَبْلاَهُمَا خَيرَ البَلاَءِ الذي يَبْلُوا ...

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } من جملة ما قال موسى لقومه ، وانتصابه للعطف على قوله : { نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 231 ] كأنه قيل : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم ، واذكروا حين تأذن ربكم . ومعنى تأذن ربكم : أذن ربكم . ونظير تأذن وأذن : توعد وأوعد ، تفضل وأفضل . ولا بدّ في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل ، كأنه قيل : وإذ أذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبه . والمعنى : وإذ تأذن ربكم فقال : { لَئِن شَكَرْتُمْ } أو أجرى { تَأَذَّنَ } مجرى ، قال : لأنه ضرب من القول . وفي قراءة ابن مسعود : «وإذ قال ربكم لئن شكرتم» ، أي لئن شكرتم يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح { لأَزِيدَنَّكُمْ } نعمة إلى نعمة ، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } وغمطتم ما أنعمت به عليكم { إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ } لمن كفر نعمتي .

وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)

{ وَقَالَ موسى } إن كفرتم أنتم يا بني إسرائيل والناس كلهم ، فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لا بدّ لكم منه وأنتم إليه محاويج ، والله غني عن شكركم { حَمِيدٌ } مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وأياديه ، وإن لم يحمده الحامدون .

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)

{ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } جملة من مبتدأ وخبر ، وقعت اعتراضاً : أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح . و { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } اعتراض . والمعنى : أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون ، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون ، يعني أنهم يدّعون علم الأنساب ، وقد نفي الله علمها عن العباد { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل ، كقوله : { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] أو ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه . أو وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره ، إقناطاً لهم من التصديق . ألا ترى إلى قوله : { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } وهذا قول قوي . أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء : أطبقوا أفواهكم واسكتوا . أو ردّوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت . أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون . وقيل : الأيدي ، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادي ، أي : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم ، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها ، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها [ إلى حيثُ جاءت ] منه على طريق المثل { مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ } من الإيمان بالله . وقرىء : «تدعونا» بإدغام النون { مُرِيبٍ } موقع في الريبة أو ذي ريبة ، من أرابه ، وأراب الرجل ، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر .

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)

{ أَفِى الله شَكٌّ } أدخلت همزة الإنكار على الظرف ، لأن الكلام ليس في الشك ، إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } أي يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم أو يدعوكم لأجل المغفرة كقوله : دعوته لينصرني ، ودعوته ليأكل معي ، وقال :
دَعَوْتُ لِمَا نَابنِي مِسْوَرا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ
فإن قلت : ما معنى التبعيض في قوله : من ذنوبكم؟ قلت : ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين ، كقوله : { واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 3 - 4 ] ، { ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذنوبكم } [ الأحقاف : 31 ] وقال في خطاب المؤمنين : { هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] إلى أن قال { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ الصف : 12 ] وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد ، وقيل : أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله ، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها { وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى وقت قد سماه الله وبين مقداره ، يبلغكموه إن آمنتم ، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت { إِنْ أَنتُمْ } ما أنتم { إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } لا فضل بيننا وبينكم ، ولا فضل لكم علينا ، فلم تخصون بالنبوّة دوننا ، ولو أرسل الله إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة { بسلطان مُّبِينٍ } بحجة بينة ، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والحجج ، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجاً .

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)

{ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } تسليم لقولهم ، وأنهم بشر مثلهم ، يعنون أنهم مثلهم في البشرية وحدها ، فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم ، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم ، واقتصروا على قولهم { ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } بالنبوّة ، لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها ، لخصائص فيهم قد استؤثروا بها على أبناء جنسهم { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا ، وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً وأمروها به ، كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قوله : { وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } ومعناه : وأيّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه { وَقَدْ هَدَانَا } وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين ، فإن قلت : كيف كرّر الأمر بالتوكل؟ قلت : الأول لاستحداث التوكل ، وقوله : { فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)

{ لَنُخْرِجَنَّكُمْ } ، { أَوْ لَتَعُودُنَّ } ليكونن أحد الأمرين لا محالة ، إما إخراجكم إما عودكم حالفين على ذلك . فإن قلت : كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها . قلت : معاذ الله ، ولكن العود بمعنى الصيرورة ، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون صار ، ولكن عاد ، ما عدت أراه ، عاد لا يكلمني ، ما عاد لفلان مال . أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به ، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد { لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } حكاية تقتضي إضمار القول ، أو إجراء الإيجاء مجرى القول ، لأنه ضرب منه . وقرأ أبو حيوة : «ليهلكنّ» ، «وليسكننكم» بالياء اعتباراً لأوحى ، وأن لفظه لفظ الغيبة ، ونحوه قولك : أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن . والمراد بالأرض . أرض الظالمين وديارهم ، ونحوه { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها } [ الأعراف : 127 ] ، { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم } [ الأحزاب : 27 ] . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 570 ) " من آذى جاره ورثه الله داره " ولقد عاينت هذا في مدة قريبة : كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه ، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته ، فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يتردّدون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدّثتهم به ، وسجدنا شكراً لله { ذلك } إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم ، أي ذلك الأمر حق { لِمَنْ خَافَ مَقَامِى } موقفي وهو موقف الحساب ، لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة ، أو على إقحام المقام . وقيل : خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله . والمعنى أنّ ذلك حق للمتقين ، كقوله : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] .

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)

{ واستفتحوا } واستنصروا الله على أعدائهم { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 89 ] وهو معطوف على { أوحي إليهم } وقرىء : «واستفتحوا» بلفظ الأمر . وعطفه على { لتهلكنّ } أي : أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكنّ وقال لهم استفتحوا { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا ، وخاب كل جبار عنيد ، وهم قومهم . وقيل : واستفتح الكفار على الرسل ، ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل ، وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه { مِّن وَرَآئِهِ } من بين يديه . قال :
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ
وهذا وصف حاله وهو في الدنيا ، لأنه مرصد لجهنم ، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف ، فإن قلت : علام عطف { ويسقى } ؟ قلت : على محذوف تقديره : من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقي من ماء صديد ، كأنه أشد عذابها فخصص بالذكر مع قوله : { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ } . فإن قلت : ما وجه قوله تعالى { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } ؟ قلت : صديد عطف بيان لماء ، قال : { ويسقى مِن مَّآءٍ } فأبهمه إبهاماً ثم بينه بقوله { صَدِيدٍ } وهو ما يسيل من جلود أهل النار { يَتَجَرَّعُهُ } يتكلف جرعه { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } دخل كاد للمبالغة . يعني : ولا يقارب أن يسيغه ، فكيف تكون الإساغة ، كقوله : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ } كأنّ أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه وأحاطت به من جميع الجهات ، تفظيعاً لما يصيبه من الآلام . وقيل : { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } من جسده حتى من إبهام رجله . وقيل : من أصل كل شعرة { وَمِن وَرَآئِهِ } ومن بين يديه { عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله وأغلظ . وعن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد . ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا - والفتح المطر - في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا ، فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر ، وهو صديد أهل النار . واستفتحوا - على هذا التفسير - : كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم .

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)

هو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه ، تقديره : وفيما يقص عليك { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله : { أعمالهم كَرَمَادٍ } جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم؟ فقيل : أعمالهم كرماد . ويجوز أن يكون المعنى : مثل أعمال الذين كفروا بربهم . أو هذه الجملة خبراً للمبتدأ ، أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد ، كقولك صفة زيد عرضه مصون وما له مبذول ، أو يكون أعمالهم بدلاً من { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ } على تقدير : مثل أعمالهم ، وكرماد : الخبر وقرىء : «الرياح» { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } جعل العصف لليوم ، وهو لما فيه ، وهو الريح أو الرياح ، كقولك : يوم ماطر وليلة ساكرة . وإنما السكور لريحها وقرىء : «في يوم عاصف» ، بالإضافة وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم ، من صلة الأرحام وعتق الرقاب ، وفداء الأسارى ، وعقر الإبل للأضياف ، وإغاثة الملهوفين ، والإجازة ، وغير ذلك من صنائعهم ، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به ، وكونها لوجهه : برماد طيرته الريح العاصف { لاَّ يَقْدِرُونَ } يوم القيامة { مِمَّا كَسَبُواْ } من أعمالهم { على شَىْءٍ } أي لا يرون له أثراً من ثواب ، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء { ذلك هُوَ الضلال البعيد } إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب { بالحق } بالحكمة والغرض الصحيح والأمر العظيم ، ولم يخلقها عبثاً ولا شهوة .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)

وقرىء : «خالق السموات والأرض» { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقاً آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم ، إعلاماً منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم ، يقدر على الشيء وجنس ضده { وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } بمتعذر ، بل هو هين عليه يسير ، لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، فإذا خلص له الداعي إلى شيء وانتفى الصارف ، تكوّن من غير توقف : كتحريك أصبعك إذا دعاك إليه داع ولم يعترض دونه صارف ، وهذه الآيات بيان لإبعادهم في الضلال وعظيم خطئهم في الكفر بالله ، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يعبد ، ويخاف عقابه ويرجىثوابه في دار الجزاء .

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)

{ وَبَرَزُواْ للَّهِ } ويبرزون يوم القيامة . وإنما جيء به بلفظ الماضي ، لأنّ ما أخبر به عزّ وعلا لصدقه كأنه قد كان ووجد ، ونحوه : { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] ، { ونادى أصحاب النار } [ الأعراف : 50 ] ونظائر له . ومعنى بروزهم لله - والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له - أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ، ويظنون أن ذلك خاف على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أنّ الله لا يخفى عليه خافية . أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه . فإن قلت : لما كتب { الضعفؤا } بواو قبل الهمزة؟ قلت : كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو . ونظيره { علمؤا بَنِى إسراءيل } [ الشعراء : 197 ] والضعفاء : الأتباع والعوام والذين استكبروا : ساداتهم وكبراؤهم ، الذين استتبعوهم واستغووهم وصدوهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم { تَبَعًا } تابعين : جمع تابع على تبع ، كقولهم : خادم وخدم وغائب وغيب أو ذوي تبع . والتبع : الأتباع ، يقال : تبعه تبعاً . فإن قلت : أي فرق بين من في { مّنْ عَذَابِ الله } وبينه في { مِن شَىْء } ؟ قلت : الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله . ويجوز أن تكونا للتبعيض معاً ، بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ، أي : بعض بعض عذاب الله فإن قلت : فما معنى قوله : { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } ؟ قلت : الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم وعتاباً على استتباعهم واستغوائهم . وقولهم : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا } من باب التبكيت؛ لأنهم قد علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم ، فأجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم : بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ولم يضلوهم ، إما موركين الذنب في ضلالهم وإضلالهم على الله ، كما حكى الله عنهم وقالوا { لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] ، { لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } [ النحل : 35 ] يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا . ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء } [ المجادلة : 18 ] . وإما أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان . وقيل : معناه لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم ، أي : لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا } مستويان علينا الجزع والصبر . والهمزة وأم للتسوية . ونحوه : { فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم } [ الطور : 16 ] وروي أنهم يقولون : تعالوا نجزع ، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون : تعالوا نصبر ، فيصبرون كذلك ثم يقولون : سواء علينا .

فإن قلت : كيف اتصل قوله سواء علينا بما قبله؟ اتصاله من حيث أنّ عتابهم لهم كان جزعاً مما هم فيه ، فقالوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ، يريدون أنفسهم وإياهم ، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها ، يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطمّ . أو لما قالوا لو هدانا الله طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم ، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا : { مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } أي منجى ومهرب ، جزعنا أم صبرنا ، ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً ، كأنه قيل : قالوا جميعاً سواء علينا ، كقوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أخنه } [ يوسف : 52 ] والمحيص يكون مصدراً كالمغيب والمشيب . ومكاناً كالمبيت والمصيف . ويقال : حاص عنه وجاض ، بمعنى واحد .

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)

{ لَمَّا قُضِىَ الأمر } لما قطع الأمر وفرغ منه ، وهو الحساب ، وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار . وروي أنّ الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً في الأشقياء من الجنّ والإنس فيقول ذلك { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم { وَوَعَدتُّكُمْ } خلاف ذلك { فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني ، وليس الدعاء من جنس السلطان ، ولكنه كقولك : ما تحيتهم إلا الضرب . { فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم ، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم ، وهذا دليل على أنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه ، وليس من الله إلا التمكين ، ولا من الشيطان إلا التزيين . ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم ، فإنّ الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه . فإن قلت : قول الشيطان باطل لا يصح التعلق به . قلت : لو كان هذا القول منه باطلاً لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره ، على أنه لا طائل له في النطق بالباطل في ذلك المقام : ألا ترى إلى قوله : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } كيف أتى فيه بالحق والصدق ، وفي قوله : { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } وهو مثل قول الله تعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] ، { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ } لا ينجي بعضنا بعضاً من عذاب الله ولا يغيثه . والإصراخ : الإغاثة . وقرىء : «بمصرخي» بكسر الياء وهي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول :
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَاتَا في ... قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِي
وكأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة ، فحرّكها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح ، لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة ، حيث قبلها ألف في نحو عصاي ، فما بالها وقبلها ياء؟ فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام ، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن ، فحرّكت بالكسر على الأصل . قلت : هذا قياس حسن ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات . «ما» في { بِمَا أشركتموني } مصدرية ، و { مِن قَبْلُ } متعلقة بأشركتموني ، يعني : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم ، أي في الدنيا ، كقوله تعالى : { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] ومعنى كفره بإشراكهم إياه : تبرؤه منه واستنكاره له ، كقوله تعالى : { إِنَّا بُرَءاء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ }

[ الممتحنة : 4 ] وقيل : { مِن قَبْلُ } يتعلق بكفرت . وما موصولة ، أي : كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل ، تقول : شركت زيداً ، فإذا نقلت بالهمزة قلت : أشركنيه فلان ، أي : جعلني له شريكاً . ونحو «ما» هذه «ما» في قولهم : سبحان ما سخركنّ لنا . ومعنى إشراكهم الشيطان بالله : طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها ، وهذا آخر قول إبليس ، وقوله : { إِنَّ الظالمين } قول الله عزّ وجلّ ، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس ، وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت ، ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه ، وأن يتصوّروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول ، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجهم . وقرىء : «فلا يلوموني» ، بالياء على طريقة الالتفات ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)

وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : «وأدخل الذين آمنوا» على فعل المتكلم ، بمعنى : وأدخل أنا وهذا دليل على أنه من قول الله ، لا من قول إبليس { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } متعلق بأدخل ، أي : أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره . فإن قلت : فبم يتعلق في القراءة الأخرى ، وقولك : وأدخلهم أنا بإذن ربهم ، كلام غير ملتئم؟ قلت : الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله : { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } بما بعده ، أي { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } بإذن ربهم ، يعني : أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)

قرىء : «ألم تر» ساكنة الراء ، كما قرىء : «من يتق» ، وفيه ضعف { ضَرَبَ الله مَثَلاً } اعتمد مثلاً ووضعه . و { كَلِمَةً طَيّبَةً } نصب بمضمر ، أي : جعل كلمة طيبة { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } وهو تفسير لقوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } كقولك : شرّف الأمير زيداً : كساه حلة ، وحمله على فرس . ويجوز أن ينتصب { مثل الذين } و { كَلِمةًَ } بضرب ، أي : ضرب كلمة طيبة مثلاً ، بمعنى جعلها مثلاً ثم قال : { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } على أنها خبر مبتدأ محذوف ، بمعنى هي كشجرة طيبة { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها { وَفَرْعُهَا } وأعلاها ورأسها { فِى السماء } ويجوز أن يريد : وفروعها ، على الاكتفاء بلفظ الجنس . وقرأ أنس بن مالك «كشجرة طيبة ثابت» أصلها فإن قلت : أيّ فرق بين القراءتين؟ قلت : قراءة الجماعة أقوى معنى؛ لأنّ في قراءة أنس أجريت الصفة على الشجرة ، وإذا قلت : مررت برجل أبوه قائم ، فهو أقوى معنى من قولك : مررت برجل قائم أبوه؛ لأنّ المخبر عنه إنما هو الأب لا رجل . والكلمة الطيبة : كلمة التوحيد . وقيل : كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة . وعن ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله . وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة الثمار ، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان وغير ذلك وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم :
( 571 ) " إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي " فوقع الناس في شجر البوادي ، وكنت صبياً ، فوقع في قلبي أنها النخلة ، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم . وروي : فمنعني مكان عمر واستحييت ، فقال لي عمر : يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إنها النخلة "
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : شجرة في الجنة وقوله : { فِى السماء } معناه في جهة العلوّ والصعود ، ولم يرد المظلة ، كقولك في الجبل : طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } تعطي ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها { بِإِذْنِ رَبّهَا } بتيسير خالقها وتكوينه { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني .

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)

{ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } كمثل شجرة خبيثة ، أي : صفتها كصفتها . وقرىء : «ومثل كلمة» بالنصب ، عطفاً على كلمة طيبة ، والكلمة الخبيثة : كلمة الشرك . وقيل : كل كلمة قبيحة . وأمّا الشجرة الخبيثة فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث ونحو ذلك . وقوله : { اجتثت مِن فَوْقِ الأرض } في مقابلة قوله : { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } [ إبراهيم : 24 ] ومعنى { اجتثت } استؤصلت ، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } أي استقرار . يقال : قرّ الشيء قراراً ، كقولك : ثبت ثباتاً شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة ، فهو داحض غير ثابت والذي لا يبقى إنما يضمحل عن قريب لبطلانه ، من قولهم : الباطل لجلج . وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقراً ، ولا في السماء مصعداً ، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة .

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)

{ القول الثابت } الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه ، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه ، وتثبيتهم به في الدنيا : أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا ، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود ، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما . وتثبيتهم في الآخرة . أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم ، لم يتلعثموا ولم يبهتوا ، ولم تحيرهم أهوال الحشر . وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر . وعن البراء ابن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 572 ) ذكر قبض روح المؤمن فقال « ثم يعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله : » يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت « { وَيُضِلُّ الله الظالمين } الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم ، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم ، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا : { إِنَّا وَجَدْنآ ءابآءَنَا } [ الزخرف : 22 - 23 ] وإضلالهم في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أوّل شيء ، وهم في الآخرة أضل وأذل { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآء } أي ما توجبه الحكمة؛ لأن مشيئة الله تابعة للحكمة ، من تثبيت المؤمنين وتأييدهم ، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم ، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم ، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)

{ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله } أي شكر نعمة الله { كُفْراً } لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً ، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً ، ونحوه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] أي شكر رزقكم حيث وضعتم التكذيب موضعه . ووجه آخر : وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر ، حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة . وهم أهل مكة : أسكنهم الله حرمه ، وجعلهم قوّام بيته ، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم . أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين ، فكفروا نعمته ، فضربهم بالقحط سبع سنين ، فحصل لهم الكفر بدل النعمة ، كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر وقد ذهبت عنهم النعمة وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم ، وعن عمر رضي الله عنه : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر . وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين . وقيل : هم متنصرة العرب : جبلة بن الأيهم وأصحابه { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ } ممن تابعهم على الكفر { دَارَ البوار } دار الهلاك . وعطف { جَهَنَّمَ } على دار البوار عطف بيان قرىء : «ليضلوا» بفتح الياء وضمها . فإن قلت : الضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد فما معنى اللام قلت : لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد ، كما كان الإكرام في قولك : جئتك لتكرمني ، نتيجة المجيء ، دخلته اللام وإن لم يكن غرضاً ، على طريق التشبيه والتقريب { تَمَتَّعُواْ } إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر ، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه ، مأمورون به ، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمراً دونه ، وهو أمر الشهوة . والمعنى : إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار } [ الزمر : 8 ] .

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)

المقول محذوف ، لأن جواب { قُل } يدل عليه ، وتقديره { قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ } أقيموا الصلاة وأنفقوا { يُقِيمُواْ الصلاوة وَيُنْفِقُواْ } وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا ، بمعنى : ليقيموا ولينفقوا ، ويكون هذا هو المقول ، قالوا : وإنما جاز حذف اللام ، لأنّ الأمر الذي هو { قُل } عوض منه ، ولو قيل : يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام ، لم يجز فإن قلت : علام انتصب { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } ؟ قلت : على الحال ، أي : ذوي سرّ وعلانية ، بمعنى : مسرين ومعلنين . أو على الظرف ، أي وقتي سر وعلانية ، أو على المصدر ، أي : إنفاق سر وإنفاق علانية ، [ و ] المعنى : إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب . والخلال : المخالة . فإن قلت : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال } قلت : من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات ، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيراً منها . وأمّا الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله تعالى : { وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تَجْزِى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الاعلى } [ الليل : 19-20 ] فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال ، أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة ، ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله ، وقرىء : «لا بيع فيه ولا خلالُ» بالرفع .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

{ الله } مبتدأ ، و { الذى خَلَقَ } خبره ، و { مِنَ الثمرات } بيان للرزق ، أي : أخرج به رزقاً هو ثمرات . ويجوز أن يكون { مِنَ الثمرات } مفعول أخرج ، و { رِزْقاً } حالاً من المفعول ، أو نصباً على المصدر من أخرج ، لأنه في معنى رزق { بِأَمْرِهِ } بقوله كن { دآئِبَينَ } يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات ، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات { وَسَخَّر لَكُمُ الَّيْلَ والنَّهَارَ } يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم { وءاتاكم مِّن كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ } من للتبعيض ، أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه ، نظراً في مصالحكم . وقرىء : «من كلّ» بالتنوين ، وما سألتموه نفي ومحله النصب على الحال أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، ويجوز أن تكون { مَا } موصولة ، على : وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال { لاَ تُحْصُوهَا } لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها ، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال . وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله { لَظَلُومٌ } يظلم النعمة بإغفال شكرها { كَفَّارٌ } شديد الكفران لها . وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع . والإنسان للجنس ، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)

{ هذا البلد } يعني البلد الحرام ، زاده الله أمناً ، وكفاه كل باغ وظالم ، وأجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام { ءَامِناً } ذا أمن . فإن قلت : أي فرق بين قوله : { اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا } [ البقرة : 126 ] وبين قوله : { اجعل هذا البلد ءَامِنًا } ؟ قلت : قد سأل في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف ، فاجعله آمناً { واجنبنى } وقرىء : «وأجنبني» ، وفيه ثلاث لغات : جنبه الشر ، وجنبه ، وأجنبه؛ فأهل الحجاز يقولون : جنبني شره بالتشديد ، وأهل نجد جنبني وأجنبني ، والمعنى : ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها { وَبَنِىَّ } أراد بنيه من صلبه وسئل ابن عيينة : كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال : ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً ، واحتج بقوله : { واجنبني وبني } { أَن نَّعْبُدَ الأصنام } إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم ، قالوا : البيت حجر ، فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت ، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار ، فاستحب أن يقال : طاف بالبيت ، ولا يقال : دار بالبيت { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } فأعوذ بك أن تعصمني وبنيَّ من ذلك ، وإنما جعلن مضلات؛ لأنّ الناس ضلوا بسببهنّ ، فكأنهنّ أضللنهم ، كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرّتهم ، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها { فَمَن تَبِعَنِى } على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي { فَإِنَّهُ مِنِّى } أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي وملابسته لي ، وكذلك قوله :
( 573 ) " من غشنا فليس منا " أي ليس بعض المؤمنين ، على أنّ الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم { وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي . وقيل : معناه ومن عصاني فيما دون الشرك .

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

{ مِن ذُرّيَّتِى } بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه { بِوَادٍ } هو وادي مكة { غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } لا يكون فيه شيء من زرع قط ، كقوله : { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ، ما فيه إلا الاستقامة لا غير . وقيل للبيت المحرم ، لأنّ الله حرم التعرض له والتهاون به ، وجعل ما حوله حرماً لمكانه ، أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار ، كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب ، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها ، أو لأنه حرّم على الطوفان أي منع منه ، كما سُمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستول عليه { لِيُقِيمُواْ الصلاة } اللام متعلقة بأسكنت ، أي : ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق ، إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك ، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع ، مستسعدين بجوارك الكريم ، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك ، والطواف به ، والركوع والسجود حوله ، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك { أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } أفئدة من أفئدة الناس ، ومن للتبعيض ، ويدل عليه ما روي عن مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم ، وقيل : لو لم يقل { مِّنَ } لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند ويجوز أن يكون { مِّنَ } للابتداء ، كقولك : القلب مني سقيم ، تريد قلبي ، فكأنه قيل : أفئدة ناس ، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة ، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة . وقرىء : «آفدة» ، بوزن عاقدة . وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون من القلب كقولك : آدر ، في أدؤر . والثاني : أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت ، أي جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم . وقرىء : «أفدة» ، وفيه وجهان : أن تطرح الهمزة للتخفيف ، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين . وأن يكون من أفد { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً من قوله :
يَهْوِي مَخَارِمَهَا هُوِىَّ الأَجْدَلِ ... وقرىء : «تُهْوَى إليهم» ، على البناء للمفعول ، من هوى إليه وأهواه غيره . وتهوى إليهم ، من هوى يهوي إذا أحب ، ضمن معنى تنزع فعدّى تعديته { وارزقهم مّنَ الثمرات } مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها ، بأن تجلب إليهم من البلاد { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجلّ أجاب دعوته فجعله حرماً آمناً تجبى إليه . ثمرات كل شيء رزقاً من لدنه ، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً ، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذي زرع ، وهي اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته بعجيب ، متعنا الله بسكنى حرمه ، ووفقنا لشكر نعمه ، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام ، ورزقنا طرفاً من سلامة ذلك القلب السليم .

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)

النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله تعالى { إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } تعلم السرَّ كما تعلم العلن علماً لا تفاوت فيه ، لأنّ غيباً من الغيوب لا يحتجب عنك . والمعنى : أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا ، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها ، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب ، وإنما ندعوك إظهاراً للعبودية لك ، وتخشعاً لعظمتك ، وتذللا لعزتك ، وافتقاراً إلى ما عندك ، واستعجالاً لنيل أياديك ، وولهاً إلى رحمتك ، وكما يتملق العبد بين يدي سيده ، رغبة في إصابة معروفه ، مع توفر السيد على حسن الملكة . وعن بعضهم : أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح ، فأراد أن يذكره فقال : مثلك لا يذكر استقصاراً ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين ، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها . وقيل : ما تخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة ، وما نعلن من البكاء والدعاء . وقيل : ما نخفي من كآبة الافتراق ، وما نعلن : يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله أكلكم . قالت : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم . قالت : إذن لا نخشى ، تركتنا إلى كاف { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْءٍ } من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام ، كقوله : { وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] أو من كلام إبراهيم ، يعني : وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان . «ومن» للاستغراق ، كأنه قيل : وما يخفى عليه شيء ما . { عَلَى } في قوله : { عَلَى الكبر } بمعنى مع كقوله :
إنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِى ... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ
وهو في موضع الحال ، معناه : وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر . روي أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة ، وقد روي أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين . وإسحاق لتسعين . وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة ، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم ، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة . والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر ، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم { إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدعاء } كان قد دعا ربه وسأله الولد ، فقال : رب هب لي من الصالحين ، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت : الله تعالى يسمع كل دعاء ، أجابه أو لم يجبه . قلت : هو من قولك : سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه : سمع الله لمن حمده وفي الحديث .
( 574 ) " ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن " فإن قلت : ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء؟ قلت : إضافة الصفة إلى مفعولها ، وأصله لسميع الدعاء . وقد ذكر سيبويه فعيلاً في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل ، كقولك : هذا ضروب زيداً ، وضراب أخاه ، ومنحار إبله ، وحذر أموراً ، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله ، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي . والمراد سماع الله .

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)

{ وَمِن ذُرّيَّتِى } وبعض ذرّيتي ، عطفاً على المنصوب في اجعلني ، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار ، وذلك قوله : { اَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] . { وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } أي عبادتي { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] في قراءة أبيّ «ولأبويّ» . وقرأ سعيد بن جبير : «ولو الدي» ، على الإفراد ، يعني أباه ، وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما : «ولولديّ» يعني إسماعيل وإسحاق . وقرىء : «لولدي» بضم الواو . والولد بمعنى الولد ، كالعدم والعدم . وقيل : جمع ولد ، كأسد في أسد . وفي بعض المصاحف : ولذرّيتي . فإن قلت : كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ قلت : هو من مجوّزات العقل لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف . وقيل : أراد بوالديه آدم وحواء وقيل : بشرط الإسلام . ويأباه قوله { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاِبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحاً لا مقال فيه ، فكيف يستثني الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم { يَوْمَ يَقُومُ الحساب } أي يثبت ، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل ، والدليل عليه قولهم : قامت الحرب على ساقها . ونحوه قولهم : ترجلت الشمس : إذا أشرقت وثبت ضوؤها ، كأنها قامت على رجل . ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً ، أو يكون مثل { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] وعن مجاهد : قد استجاب الله له فيما سأل ، فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته ، وجعل البلد آمناً ، ورزق أهله من الثمرات . وجعله إماماً ، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة ، وأراه مناسكه ، وتاب عليه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كانت الطائف من أرض فلسطين ، فلما قال إبراهيم { ربنا إني أسكنت } الآية [ إبراهيم : 37 ] ، رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم .

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)

فإن قلت : يتعالى الله عن السهو والغفلة ، فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس به غافلاً حتى قيل { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا } ؟ قلت : إن كان خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان . أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً ، كقوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] ، { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } [ الشعراء : 213 ] ، كما جاء في الأمر { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] والثاني : أنّ المراد بالنهي عن حسبانه غافلاً ، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون ، لا يخفى عليه منه شيء ، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ البقرة : 283 ] يريد الوعيد . ويجوز أن يراد : ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم ، المحاسب على النقير والقطمير ، وإن كان خطابا لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلاً ، لجهله بصفاته ، فلا سؤال فيه ، وعن ابن عيينة : تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، فقيل له من قال هذا؟ فغضب وقال : إنما قاله من علمه وقرىء : «يؤخرهم» بالنون والياء { تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } أي أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى { مُهْطِعِينَ } مسرعين إلى الداعي . وقيل : الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف { مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ } رافعيها { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم ، أي : لا يطرفون ، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان . أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم . الهواء : الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ، فوصف به فقيل : قلب فلان هواء إذا كان جباناً لا قوّة في قلبه ولا جرأة . ويقال للأحمق أيضاً : قلبه هواء . قال زهير :
مِنَ الظُّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ ... لأنّ النعام مثل في الجبن والحمق . وقال حسان :
فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ ... وعن ابن جريج { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوآءُ } صفر من الخير خاوية منه ، وقال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم .

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)

{ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة . ومعنى { أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب ، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك . أو أريد باليوم : يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى ، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب ، كقوله : { لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } [ المنافقون : 10 ] { أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ } على إرادة القول ، وفيه وجهان : أن يقولوا ذلك بطرا وأشراً ، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه ، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأمّلوا بعيداً و { مَا لَكُمْ } جواب القسم ، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله { أَقْسَمْتُمْ } ولو حكى لفظ المقسمين لقيل : ما لنا { مّن زَوَالٍ } والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء ، وقيل : لا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرهم بالبعث ، كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] يقال : سكن الدار وسكن فيها . ومنه قوله تعالى : { وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } لأنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث ، والأصل تعدّيه بفي ، كقولك : قرّ في الدار وغنى فيها وأقام فيها ، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل : سكن الدار كما قيل : تبوأها وأوطنها . ويجوز أن يكون : سكنوا من السكون ، أي : قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النفوس ، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد ، لا يحدّثونها بما لقي الأوّلون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم ، فيعتبروا ويرتدعوا { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ } بالإخبار والمشاهدة { كَيْفَ } أهلكناهم وانتقمنا منهم . وقرىء : «ونبين لكم» ، بالنون { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم ، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } لا يخلو إمّا أن يكون مضافاً إلى الفاعل كالأوّل ، على معنى : ومكتوب عند الله مكرهم ، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه ، أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } الذي يمكرهم به ، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة ، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته ، أي : وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال ، معداً لذلك ، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } [ البقرة : 143 ] والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم ، على أنّ الجبال مثل لآيات الله وشرائعه ، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً .

وتنصره قراءة ابن مسعود : «وما كان مكرهم» . وقرىء : «لتزول» ، بلام الابتداء ، على : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } من الشدّة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها . وقرأ علي وعمر رضي الله عنهما : «وإن كاد مكرهم» { مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } يعني قوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] ، { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] ، فإن قلت : هلا قيل : مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المعفول الثاني على الأول؟ قلت : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً ، كقوله : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } [ آل عمران : 9 ] ثم قال : { رُسُلَهُ } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً - وليس من شأنه إخلاف المواعيد - كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ وقرىء : «مخلف وعدَه رسلهِ» ، بحرّ الرسل ونصب الوعد . وهذه في الضعف كمن قرأ { قَتْلَ أولادهم شُرَكَائِهِمْ } [ الأنعام : 137 ] . { العزيز } غالب لا يماكر { ذُو انتقام } لأوليائه من أعدائه .

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)

{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض } انتصابه على البدل من يوم يأتيهم . أو على الظرف للانتقام . والمعنى : يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة ، وكذلك السموات . والتبديل : التغيير ، وقد يكون في الذوات كقولك : بدّلت الدراهم دنانير ومنه { بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا } [ النساء : 56 ] و { بدّلناهم بجنتيهم جنتين } [ سبأ : 16 ] وفي الأوصاف ، كقولك : بذلت الحلقة خاتماً ، إذا أذبتها وسويتها خاتماً ، فنقلتها من شكل إلى شكل ، ومنه قوله تعالى : { فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } [ الفرقان : 70 ] واختلف في تبديل الأرض والسموات ، فقيل : تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها . وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت وعن ابن عباس : هي تلك الأرض وإنما تغير ، وأنشد :
وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ عَهِدْتَهُم ... وَلاَ الدَّارُ بِالدَّارِ الّتِي كُنْتَ تَعْلَم
وتبدّل السماء بانتثار كواكبها ، وكسوف شمسها ، وخسوف قمرها ، وانشقاقها ، وكونها أبواباً . وقيل : يخلق بدلها أرض وسموات أخر . وعن ابن مسعود وأنس : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة . وعن علي رضي الله عنه تبدّل أرضاً من فضة ، وسموات من ذهب . وعن الضحاك : أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف . وقرىء : «يوم نبدّل الأرض» ، بالنون . فإن قلت : كيف قال { الواحد القهار } ؟ قلت : هو كقوله { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] لأنّ الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب ولا يعازّ فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار ، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدّة { مُقْرِنِينَ } قرن بعضهم مع بعض . أو مع الشياطين . أو قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين . وقوله : { فِى الأصفاد } إمّا أن يتعلق بمقرّنين ، أي : يقرنون في الأصفاد . وإمّا أن لا يتعلق به ، فيكون المعنى : مقرّنين مصفدين . والأصفاد : القيود وقيل الأغلال ، وأنشد لسلامة بن جندل :
وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَدْ لاَقَى صِفَادا ... يَعَضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمِ سَاقِ
القطران : فيه ثلاث لغات : قطران ، وقطران وقطران : بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء ، وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ، فتهنأ به الإبل الجربى ، فيحرق الجرب بحرّه وحدّته ، والجلد ، وقد تبلغ حرارته الجوف ، ومن شأنه أن يسرع في اشتغال النار ، وقد يستسرج به ، وهو أسود اللون منتن الريح ، فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص ، لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران . وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح . على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ، وكل ما وعده الله أو وعد به في الآخرة ، فبينه وبين ما نشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره ، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة ، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه ، ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه ، وقرىء : «من قطران» والقطر : النحاس أو الصفر المذاب . والآني : المتناهي حرّه { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } كقوله تعالى : { أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب } [ الزمر : 24 ] ، { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه ، كالقلب في باطنه ، ولذلك قال : { تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة } [ الهمزة : 7 ] وقرىء : «وتغشى وجوههم» ، بمعنى تتغشى : أي يفعل بالمجرمين ما يفعل { لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ } مجرمة { مَّا كَسَبَتْ } أو كل نفس من مجرمة ومطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم .

هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)

{ هذا بلاغ لّلنَّاسِ } كفاية في التذكير والموعظة ، يعني بهذا ما وصفه من قوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } إلى قوله : { سَرِيعُ الحساب } [ آل عمران : 169 ] . { وَلِيُنذَرُواْ } معطوف على محذوف ، أي لينصحوا ولينذروا { بِهِ } بهذا البلاغ . وقرىء : «ولينذروا» بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعدّ له { وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به ، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد ، لأنّ الخشية أمّ الخير كله . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 575 ) " من قرأ سورة إبراهيم أُعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد " .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)

{ تِلْكَ } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات . والكتاب ، والقرآن المبين : السورة وتنكير القرآن للتفخيم . والمعنى : تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً وأي قرآن مبين؟ كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان .

رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)

قرىء : «ربّما» و «ربّتما» بالتشديد . و «ربما» ، «وربَما» بالضم والفتح مع التخفيف . فإن قلت : لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ قلت : لأن المترقب في إخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه ، فكأنه قيل : ربما ودّ . فإن قلت : متى تكون ودادتهم؟ قلت : عند الموت ، أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين . وقيل : إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار ، وهذا أيضاً باب من الودادة . فإن قلت : فما معنى التقليل؟ قلت : هو وارد على مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك ، وربما ندم الإنسان على ما فعل ، ولا يشكون في تندمه ، ولا يقصدون تقليله ، ولكنهم أرادوا : ولو كان الندم مشكوكاً فيه أو كان قليلاً لحق عليك أن لاتفعل هذا الفعل ، لأنّ العقلاء يتحرّزون من التعرّض للغم المظنون ، كما يتحرّزون من المتيقن ومن القليل منه ، كما من الكثير ، وكذلك المعنى في الآية : لو كانوا يودّون الإسلام مرة واحدة ، فبالحري أن يسارعوا إليه ، فكيف وهم يودّونه في كل ساعة { لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } حكاية ودادتهم ، وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم ، كقولك : حلف بالله ليفعلنّ . ولو قيل : حلف بالله لأفعلن ولو كنا مسلمين لكان حسناً سديداً وقيل : تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين ، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكرتهم تمنوا ، فلذلك قلل { ذَرْهُمْ } يعني اقطع طمعك من ارعوائهم ، ودعهم عن النهي عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة ، وخلهم { يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } بدنياهم وتنفيذ شهواتهم ، ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال ، وأن لا يلقوا في العاقبة إلا خيراً { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } سوء صنيعهم . والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان ، وأنهم لا يجيء منهم إلا ما هم فيه ، وأنه لا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك فأمر رسوله بأن يخليهم وشأنهم ولا يشتغل بما لا طائل تحته ، وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندماً في العاقبة . وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار وإعذار فيه . وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدّي إليه طول الأمل . وهذه هجيرى أكثر الناس ليس من أخلاق المؤمنين ، وعن بعضهم : التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين .

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)

{ وَلَهَا كتاب } جملة واقعة صفة لقرية ، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُّنذِرِينَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب ، وجاءني وعليه ثوب . كتاب { مَّعْلُومٌ } مكتوب معلوم ، وهو أجلها الذي كتب في اللوح وبين ، ألا ترى إلى قوله { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } في موضع كتابها ، وأنث الأمة أوّلا ثم ذكرها آخراً حملا على اللفظ والمعنى وقال : { وَمَا يَسْتَأخِرُونَ } بحذف «عنه» لأنه معلوم .

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)

قرأ الأعمش : «يا أيها الذي ألقي عليه الذكر» ، وكأن هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء ، كما قال فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وكيف يقرّون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون . والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم مذهب واسع . وقد جاء في كتاب الله في مواضع ، منها { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ، { إِنَّك لأَنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] وقد يوجد كثيراً في كلام العجم ، والمعنى : إنك لتقول قول المجانين حين تدعي أنّ الله نزل عليك الذكر .

لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)

{ لَّوْ } ركبت مع «لا» و «لا» لمعنيين : معنى امتناع الشيء لوجود غيره ، ومعنى التحضيض ، وأما «هل» فلم تركب إلا مع «لا» وحدها للتحضيض : قال ابن مقبل :
لَوْمَالْحَيَاءُ وَلَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِى
والمعنى : هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك ، كقوله تعالى { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] أو : هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقاً كما كانت تاتي الأمم المكذبة برسلها؟

مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)

قرىء : «تنزل» ، بمعنى تتنزل «وتنزل» على البناء للمفعول من نزل ، و { نُنَزّلُ الملائكة } : بالنون ونصب الملائكة { إِلاَّ بالحق } إلا تنزلا ملتبساً بالحكمة والمصلحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنكم حينئذ مصدّقون عن اضطرار ومثله قوله تعالى { وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق } [ الحجر : 85 ] وقيل : الحق الوحي أو العذاب . و { إِذَا } جواب وجزاء ، لأنه جواب لهم وجزاء لشرط مقدر تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم .

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)

{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم : { يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 6 ] ولذلك قال : إنا نحن ، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات ، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه رصد ، حتى نزل وبلغ محفوظاً من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبدبل ، بخلاف الكتب المتقدمة؛ فإنه لم يتول حفظها . وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا فكان التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه . فإن قلت : فحين كان قوله { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } رداً لإنكارهم واستهزائهم ، فكيف اتصل به قوله { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } ؟ قلت : قد جعل ذلك دليلاً على أنه منزل من عنده آية؛ لأنه لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه . وقيل : الضمير في { لَهُ } لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى { والله يَعْصِمُكَ } [ المائدة : 67 ] .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)

{ فِى شِيَعِ الأولين } في فرقهم وطوائفهم . والشيعة : الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة . ومعنى أرسلناه فيهم : نبأناه فيهم وجعلناه رسولاً فيما بينهم { وَمَا يَأْتِيهِم } حكاية حال ماضية ، لأنّ «ما» لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال .

كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)

يقال : سلكت الخيط في الإبرة ، وأسلكته إذا أدخلته فيها ونظمته . وقرىء : «نسلكه» ، [ والضمير ] للذكر ، أي : مثل ذلك السلك ، ونحوه : نسلك الذكر في { قُلُوبِ المجرمين } على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزءاً به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام ، تعني مثل هذا الإنزال أنزلناها بهم مردودة غير مقضية . ومحل قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } النصب على الحال ، أي غير مؤمن به ، أو هو بيان لقوله : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } . { سُنَّةُ الأوّلِينَ } طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم ، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم .

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)

قرىء : «يعرجون» بالضم والكسر . و { سُكّرَتْ } حيرت أو حبست من الإبصار ، من السكر أو السكر . وقرىء : «سُكِرَت» بالتخفيف أي حبست كما يحبس النهر من الجري . وقرىء : «سَكِرَت» من السكر ، أي حارت كما يحار السكران . والمعنى أنّ هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد : أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها ، ورأوا من العيان ما رأوا ، لقالوا : هو شيء نتخايله لا حقيقة له ، ولقالوا قد سحرنا محمد بذلك . وقيل : الضمير للملائكة ، أي : لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا ذلك . وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون . وقال : إنما ، ليدل على أنهم يبتون القول بأنّ ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار .

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)

{ مَنِ استرق } في محل النصب على الاستثناء . وعن ابن عباس : أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات ، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد منعوا من السموات كلها { شِهَابٌ مُّبِينٌ } ظاهر للمبصرين { مَّوْزُونٍ } وزن بميزان الحكمة ، وقدّر بمقدار تقتضيه ، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أو له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة ، وقيل : ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها { معايش } بياء صريحة ، بخلاف الشمائل والخبائث ونحوهما ، فإن تصريح الياء فيها خطأ ، والصواب الهمزة ، أو إخراج الياء بين بين . وقد قرىء : «معائش» بالهمزة على التشبيه { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } عطف على معايش ، أو على محل لكم ، كأنه قيل : وجعلنا لكم فيها معايش ، وجعلنا لكم من لستم له برازقين ، أو : وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين . وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون ، فإنّ الله هو الرزاق ، يرزقهم وإياهم ، ويدخل فيه الأنعام والدواب وكل ما بتلك المثابة ، مما الله رازقه ، وقد سبق إلى ظنهم أنهم هم الرزاقون . ولا يجوز أن يكون مجروراً عطفاً على الضمير المجرور في { لَكُمْ } لأنه لا يعطف على الضمير المجرور .

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)

ذكر الخزائن تمثيل . والمعنى : وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به ، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة له ، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور .

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)

{ لَوَاقِحَ } فيه قولان ، أحدهما : أنّ الريح لاقح إذا جاءت بخير ، من إنشاء سحاب ماطر كما قيل للتي لا تأتي بخير : ريح عقيم . والثاني : أن اللواقح بمعنى الملاقح ، كما قال :
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ ... يريد المطاوح جمع مطيحة . وقرىء : «وأرسلنا الريح» ، على تأويل الجنس { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } فجعلناه لكم سقيا { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين } نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } كأنه قال : نحن الخازنون للماء ، على معنى نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها ، وما أنتم عليه بقادرين : دلالة على عظيم قدرته وإظهاراً لعجزهم .

وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

{ وَنَحْنُ الوارثون } أي الباقون بعد هلاك الخلق كله . وقيل للباقي «وارث» استعارة من وارث الميت ، لأنه يبقى بعد فنائه . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه :
( 576 ) " اجعله الوارث منا " { وَلَقَدْ عَلِمْنَا } من استقدم ولادة وموتاً ، ومن تأخر من الأوّلين والآخرين . أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد . أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر . وقيل : المستقدمين في صفوف الجماعة والمتسأخرين . وروي
( 577 ) أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها ، وبعض يستأخر ليبصرها فنزلت { هُوَ يَحْشُرُهُمْ } أي هو وحده القادر على حشرهم ، والعالم بحصرهم مع إفراط كثرتهم وتباعد أطراف عددهم { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } باهر الحكمة واسع العلم ، يفعل كل ما يفعل على مقتضى الحكمة والصواب ، وقد أحاط علماً بكل شيء .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)

الصلصال : الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ ، وإذا طبخ فهو فخار . قالوا : إذا توهمت في صوته مدّا فهو صليل ، وإن توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة . وقيل : هو تضعيف «صل» إذا أنتن . والحمأ : الطين الأسود المتغير . والمسنون : المصوّر ، من سنة الوجه ، وقيل : المصبوب المفرغ ، أي : أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها . وقيل : المنتن ، من سننت الحجرعلى الحجر إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سنين ، ولا يكون إلا منتنا { مّنْ حَمَإٍ } صفة لصلصال ، أي : خلقه من صلصال كائن من حمأ وحق { مَّسْنُونٍ } بمعنى مصور ، أن يكون صفة لصلصال ، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر { والجآن } للجن كآدم للناس . وقيل : هو إبليس . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : «والجأن» ، بالهمزة { مِن نَّارِ السموم } من نار الحرّ الشديد النافذ في المسام . قيل : هذه السموم جزء من سبعين جزأ من سموم النار التي خلق الله منها الجانّ .

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } واذكر وقت قوله { سَوَّيْتُهُ } عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها . ومعنى { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } وأحييته ، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه . واستثنى إبليس من الملائكة؛ لأنه كان بينهم مأموراً معهم بالسجود ، فغلب اسم الملائكة ، ثم استثنى بعد التغليب كقولك : رأيتهم إلا هنداً . و { أبى } استئناف على تقدير قول قائل بقول : هلا سجد؟ فقيل : أبى ذلك واستكبر عنه . وقيل : معناه ولكن إبليس أبى . حرف الجر مع «أن» محذوف . وتقديره { مَا لَكَ } في { أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } بمعنى أيّ غرض لك في إبائك السجود . وأي داع لك إليه . اللام في { لأسْجُدَ } لتأكيد النفي . ومعناه : لا يصحّ مني وينافي حالي . ويستحيل أن أسجد لبشر { رَّجِيمٍ } شيطان من الذين يرجمون بالشهب ، أو مطرود من رحمة الله؛ لأن من يطرد يرجم بالحجارة . ومعناه : ملعون؛ لأن اللعن هو الطرد من الرحمة والإبعاد منها . والضمير في { مِنْهَا } راجع إلى الجنة أو السماء ، أو إلى جملة الملائكة . وضرب يوم الدين حداً للعنة ، إما لأنه [ أبعد ] غاية يضربها الناس في كلامهم ، كقوله { مَا دَامَتِ السموات والأرض } [ هود : 107 ] في التأبيد . وإما أن يراد أنك مذموم مدعوّ عليك باللعن في السموات والأرض إلى يوم الدين ، من غير أن تعذب ، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما يُنسى اللعن معه . و { يَوْمِ الدين } و { يَوْمِ يُبْعَثُونَ } و { يَوْمِ الوقت المعلوم } [ الحجر : 38 ] في معنى واحد ، ولكن خولف بين العبارات سلوكاً بالكلام طريقة البلاغة . وقيل : إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت؛ لأنه لا يموت يوم البعث أحد ، فلم يجب إلى ذلك ، وأُنظر إلى آخر أيام التكليف { بِمَا أغويتني } الباء للقسم . و «ما» مصدرية وجواب القسم { لأُزَيِّنَنَّ } المعنى : أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم . ومعنى إغوائه إياه : تسبيبه لغيه ، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام ، فأفضى ذلك إلى غيه . وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله ، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك ، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به ، ونحو قوله { بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } قوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] في أنه إقسام ، إلا أن أحدهما إقسام بصفته والثاني إقسام بفعله ، وقد فرق الفقهاء بينهما . ويجوز أن لا يكون قسماً ، ويقدر قسم محذوف ، ويكون المعنى : بسبب تسبيبك لإغوائي أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم ، بأن أزين لهم المعاصي وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم { فِى الأرض } في الدنيا التي هي دار الغرور ، كقوله تعالى

{ أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] أو أراد أني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء ، فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر . أو أراد : لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض ، ولأوقعن تزييني فيها ، أي : لأزيننها في أعينهم ولأحدّثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها ، حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها . ونحوه :
يَجْرَحْ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي ... استثنى المخلصين؛ لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه . أي { هذا } طريق حق { عَلَىَّ } أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي ، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته : وقرىء : «عليّ» وهو من علو الشرف والفضل { لَمَوْعِدُهُمْ } الضمير للغاوين . وقيل : أبواب النار أطباقها وأدراكها ، فأعلاها للموحدين ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : إن جهنم لمن ادعى الربوبية ، ولظى لعبدة النار ، والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحدين . وقرىء : «جزء» ، بالتخفيف والتثقيل . وقرأ الزهري : «جزّ» ، بالتشديد؛ كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ، كقولك : خبّ في خبء ، ثم وقف عليه بالتشديد ، كقولهم : الرجل ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)

المتقي على الإطلاق : من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : اتقوا الكفر والفواحش ، ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها { ادخلوها } على إرادة القول . وقرأ الحسن : «أدخلوها» { بِسَلامٍ } سالمين أو مسلماً عليكم : تسلم عليكم الملائكة . الغل : الحقد الكامن في القلب ، من انغل في جوفه وتغلغل ، أي : إن كان لأحدهم في الدنيا غلّ على آخر . نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم . وعن عليّ رضي الله عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم . وعن الحرث الأعور : كنت جالساً عنده إذ جاء ابن طلحة فقال له عليّ : مرحباً بك يا ابن أخي . أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } فقال له قائل : كلا ، الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد ، فقال : فلمن هذه الآية لا أمّ لك؟ وقيل : معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ، ونزع منها كل غل ، وألقى فيها التوادّ والتحاب . و { إِخْوَانًا } نصب على الحال . و { على سُرُرٍ متقابلين } كذلك . وعن مجاهد . تدور بهم الأسرة حيثما داروا ، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين .

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)

لما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه { فِى عِبَادِى } تقريراً لما ذكر وتمكيناً له في النفوس . وعن ابن عباس رضي الله عنه : غفور لمن تاب ، وعذابه لمن لم يتب . وعطف { وَنَبّئْهُمْ } على نبىء عبادي ، ليتخذوا ما أحل من العذاب يوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، ويتحققوا عنده أنّ عذابه هو العذاب الأليم .

وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)

{ سَلاَماً } أي نسلم عليك سلاماً ، أو سلمت سلاماً { وَجِلُونَ } خائفون ، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل . وقيل : لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت . وقرأ الحسن : «لا توجل» بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه . وقرىء : «لا تأجل» . «ولا تواجل» ، من واجله بمعنى أوجله . وقرىء : «نبشرك» بفتح النون والتخفيف { إِنَّا نُبَشّرُكَ } استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل : أرادوا أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل . يعني { أَبَشَّرْتُمُونِى } مع مس الكبر ، بأن يولد لي . أي : أن الولادة أمر عجيب مستنكر في العادة مع الكبر { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب ، كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشرونني أو أراد أنكم تبشرونني بما هو غير مقصور في العادة فبأي شيء تبشرون يعني لا تبشرونني في الحقيقة بشيء؛ لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء . ويجوز أن لا يكون صلة لبشر ، ويكون سؤالاً عن الوجه والطريقة يعني : بأي طريقة تبشرونني بالولد ، والبشارة لا طريقة لها في العادة . وقوله { بشرناك بالحق } يحتمل أن تكون الباء فيه صلة ، أي : بشرناك باليقين الذي لا لبس فيه ، أو بشرناك بطريقة هي حق وهي قول الله ووعده ، وأنه قادر على أن يوجد ولداً من غير أبوين ، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر . وقرىء : «تبشرونَ» ، بفتح النون وبكسرها على حذف نون الجمع ، والأصل تبشرونن ، «وتبشرونِّ» بإدغام نون الجمع في نون العماد . وقرىء : «من القنطين» من قنط يقنط ، وقرىء : و «من يقنط» ، بالحركات الثلاث في النون ، أراد : ومن يقنط من رحمة ربه إلا المخطئون طريق الصواب ، أو إلا الكافرون ، كقوله : { لا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] يعني : لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ، ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله .

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)

فإن قلت قوله تعالى : { إِلا ءالَ لُوطٍ } استثناء متصل أو منقطع؟ قلت ، لا يخلو من أن يكون استثناء من قوم ، فيكون منقطعاً؛ لأنّ القوم موصوفون بالإجرام ، فاختلف لذلك الجنسان وأن يكون استثناء من الضمير في مجرمين ، فيكون متصلاً ، كأنه قيل : إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم ، كما قال { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين } [ الذاريات : 36 ] . فإن قلت : فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين؟ قلت : نعم ، وذلك أنّ آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال ، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة ، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلاً . ومعنى إرسالهم إلى القوم المجرمين ، كإرسال الحجر أو السهم إلى المرميّ . في أنه في معنى التعذيب والإهلاك ، كأنه قيل : إنا أهلكنا قوماً مجرمين ، ولكن آل لوط أنجيناهم . وأمّا في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال ، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء ، فلا يكون الإرسال مخلصاً بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأوّل . فإن قلت : فقوله { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } بم يتعلق على الوجهين؟ قلت : إذا انقطع الاستثناء جرى مجرى خبر «لكنّ» في الاتصال بآل لوط ، لأنّ المعنى . لكن آل لوط منجون ، وإذا اتصل كان كلاماً مستأنفاً ، كأنّ إبراهيم عليه السلام قال لهم فما حال آل لوط ، فقالوا : إنا لمنجوهم . فإن قلت : فقوله : { إِلاَّ امرأته } ممّ استثني؛ وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت : استثنى من الضمير المجرور في قوله { لَمُنَجُّوهُمْ } وليس من الاستثاء في شيء؛ لأنّ الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط ، إلا امرأته ، كما اتحد الحكم في قول المطلق : أنت طالق ثلاثاً ، إلا اثنتين ، إلا واحدة . وفي قول المقرّ : لفلان عليّ عشرة دراهم ، إلا ثلاثة ، إلا درهما . فأمّا في الآية فقد اختلف الحكمان ، لأنّ { إِلا ءالَ لُوطٍ } متعلق بأرسلنا ، أو بمجرمين ، و { إِلاَّ امرأته } قد تعلق بمنجوهم ، فأنى يكون استثناء من استثناء . وقرىء : «لمنجوهم» بالتخفيف والتثقيل . فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم ، ولذلك فسر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم . فإن قلت : فلم أسند الملائكة فعل التقدير- وهو لله وحده - إلى أنفسهم ، ولم يقولوا : قدّر الله؟ قلت : لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم ، كما يقول خاصة الملك : دبرنا كذا وأمرنا بكذا ، والمدبر والآمر هو الملك لا هم ، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنهم لا يتميزون عنه . وقرىء : «قدرنا» ، بالتخفيف .

فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)

{ مُنكِرُونَ } أي تنكركم نفسي وتنفر منكم ، فأخاف أن تطرقوني بشرّ ، بدليل قوله : { بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله ، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوّك ، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله ، فيمترون فيه ويكذبونك { بالحق } باليقين من عذابهم { وِإِنَّا لصادقون } في الإخبار بنزوله بهم . وقرىء : «فأسر» بقطع الهمزة ووصلها ، من أسرى وسرى . وروى صاحب الإقليد : فسر ، من السير والقطع في آخر الليل . قال :
افْتَحِى الْبَابَ وانْظُرِي في النُّجُوم ... كَمْ عَلَيْنَا من قِطعِ لَيْلٍ بَهِيم
وقيل : هو بعد ما يمضي شيء صالح من الليل . فإن قلت : ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قومه ، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم ، وخرج مهاجراً فلم يكن له بدّ من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك ، فأمر بأن يقدّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه ، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم ، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدّم سربه ويفوت به ، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ، ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي إليه أخادعه ، كما قال :
تَلَفَّتُّ نَحْوَ حَييِّ حتى وَجَدتُنِي ... وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لِيتاً وَأَخْدَعَا
أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف ، لأنّ من يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } قيل هو مصر وعدي { وامضوا } الى { حيث } تعديته الى الظرف المبهم لأن { حَيْثُ } مبهم في الأمكنة ، وكذلك الضمير في { تَأْمُرُونَ } وعدي { قَضَيْنَا } بإلى لأنه ضمن معنى : أوحينا ، كأنه قيل : وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً . وفسر { ذَلِكَ الأمر } بقوله { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ } وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له . وقرأ الأعمش : «إن» ، بالكسر على الاستئناف كأن قائلاً قال : أخبرنا عن ذلك الأمر ، فقال : إنّ دابر هؤلاء . وفي قراءة ابن مسعود : «وقلنا إنّ دابر هؤلاء» . ودابرهم : آخرهم ، يعني : يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد .

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

{ أَهْلِ المدينة } أهل سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور ، مستبشرين بالملائكة { فلا تَفْضَحُونِ } بفضيحة ضيفي ، لأنّ من أسيء إلى ضيفه أو جاره فقد أسيء إليه ، كما أن من أُكرم من يتصل به فقد أُكرم { وَلاَ تُخْزُونِ } ولا تذلونِ بإذلال ضيفي ، من الخزي وهو الهوان . أو ولا تشوّروا بي ، من الخزاية وهي الحياء { عَنِ العالمين } عن أن تجير منهم أحداً ، أو تدفع عنهم ، أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا يتعرّضون لكل أحد ، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر ، والحجر بينهم وبين المتعرّض له ، فأوعدوه وقالوا : لئن لم تنته يا لوط لتكوننّ من المخرجين . وقيل : عن ضيافة الناس وإنزالهم ، وكانوا نهوه أن يضيف أحداً قط { هؤلاءآء بَنَاتِى } إشارة إلى النساء؛ لأنّ كل أمّة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته ، فكأنه قال لهم : هؤلاء بناتي فانكحوهنّ ، وخلوا بنيّ فلا تتعرضوا لهم { إِن كُنتُمْ فاعلين } شك في قبولهم لقوله ، كأنه قال : إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون . وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرّم { لَعَمْرُكَ } على إرادة القول ، أي قالت الملائكة للوط عليه السلام : لعمرك { إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ } أي غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم ، من ترك البنين إلى البنات { يَعْمَهُونَ } يتحيرون ، فكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك ، وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له ، والعمر والعمر واحد ، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه ، وذلك لأن الحلف كثير الدور على ألسنتهم ، ولذلك حذفوا الخبر ، وتقديره : لعمرك مما أقسم به ، كما حذفوا الفعل في قولك : بالله . وقرىء : «في سكرهم وفي سكراتهم» { الصيحة } صيحة جبريل عليه السلام { مُشْرِقِينَ } داخلين في الشروق وهو بزوع الشمس { مّن سِجّيلٍ } قيل : من طين ، عليه كتاب من السجل ، ودليله قوله تعالى : { حِجَارَةً مّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ } [ الذاريات : 33 - 34 ] أي معلمة بكتاب { لِلْمُتَوَسّمِينَ } للمتفرّسين المتأملين . وحقيقة المتوسمين النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء . يقال : توسمت في فلان كذا ، أي عرفت وسمه فيه . والضمير في { عاليها سَافِلَهَا } لقرى قوم لوط { وَإِنَّهَا } وإنّ هذه القرى يعني آثارها { لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد ، وهم يبصرون تلك الآثار ، وهو تنبيه لقريش كقوله : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] .

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)

{ أصحاب الأيكة } قوم شعيب { وَإِنَّهُمَا } يعني قرى قوم لوط والأيكة . وقيل : الضمير للأيكة ومدين ، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } لبطريق واضح ، والإمام اسم لما يؤتم به ، فسمي به الطريق ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه ، لأنها مما يؤتم به .

وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)

{ أصحاب الحجر } ثمود ، والحجر واديهم ، وهو بين المدينة والشأم { المرسلين } يعني بتكذيبهم صالحاً ، لأنّ من كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً ، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين كما قيل : الخبيبون في ابن الزبير وأصحابه . وعن جابر :
( 578 ) ( مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا " «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين ، حذراً أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء " ثم زجر النبي صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها ) { ءامِنِينَ } لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تتهدم ويتداعى بنيانها ، ومن نقب اللصوص ومن الأعداء وحوادث الدهر . أو آمنين من عذاب الله يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه { مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من بناء البيوت الوثيقة والأموال والعدد .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)

{ إِلاَّ بالحق } إلا خلقاً ملتبساً بالحق والحكمة ، لا باطلا وعبثاً . أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال { وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ } وإنّ الله ينتقم لك فيها من أعدائك ، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيآتهم؛ فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا لذلك { فاصفح } فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء . وقيل : هو منسوخ بآية السيف . ويجوز أن يراد به المخالقة فلا يكون منسوخاً .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)

{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق } الذي خلقك وخلقهم ، وهو { العليم } بحالك وحالهم ، فلا يخفى عليه ما يجري بينكم وهو يحكم بينكم . أو إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم ، وقد علم أنَّ الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح . وفي مصحف أُبيّ وعثمان : إن ربك هو الخالق وهو يصلح للقليل والكثير ، والخلاق للكثير لا غير ، كقولك : قطع الثياب . وقطع الثوب والثياب .

وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)

{ سَبْعاً } سبع آيات وهي الفاتحة . أو سبع سور وهي الطوال ، واختلف في السابعة فقيل : الأنفال وبراءة ، لأنهما في حكم سورة واحدة ، ولذلك لم يفصل بينهما بآية التسمية . وقيل سورة يونس . وقيل : هي آل حم ، أو سبع صحائف وهي الأسباع . و { المثاني } من التثنية وهي التكرير؛ لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة وغيرها ، أو من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله ، الواحدة مثناة أو مثنية صفة للآية . وأمّا السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ، ولما فيها من الثناء ، كأنها تثني على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى . و «من» إما للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال ، وللبيان إذا أردت الأسباع . ويجوز أن يكون كتب الله كلها مثاني ، لأنها تثني عليه ، ولما فيها من المواعظ المكررة ، ويكون القرآن بعضها ، فإن قلت : كيف صح عطف القرآن العظيم على السبع ، وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت : إذا عنى بالسبع الفاتحة أو الطوال ، فما وراءهنّ ينطلق عليه اسم القرآن ، لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل . ألا ترى إلى قوله : { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان } يعني سورة يوسف : وإذا عنيت الأسباع فالمعنى : ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم ، أي : الجامع لهذين النعتين ، وهو الثناء أو التثنية والعظم .

لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)

أي : لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ } أصنافاً من الكفار . فإن قلت : كيف وصل هذا بما قبله؟ قلت : يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة ، وهي القرآن العظيم؛ فعليك أن تستغني به ، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا . ومنه الحديث :
( 579 ) « ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن » ، وحديث أبي بكر
( 580 ) « من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي ، فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً » وقيل : وافت من بصرى وأذرعات : سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير ، فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ، ولأنفقناها في سبيل الله ، فقال لهم الله عز وعلا : لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي لا تتمنّ أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوّى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون ، وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم ، وطب نفساً عن إيمان الأغنياء والأقوياء { وَقُلْ } لهم { إِنّى أَنَا النذير المبين } أنذركم ببيان وبرهان أنّ عذاب الله نازل بكم .

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)

فإن قلت : بم تعلق قوله : { كَمَآ أَنْزَلْنَا } ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما ، أن يتعلق بقوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك } [ الحجر : 87 ] أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون { الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ } حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل ، وعضوه . وقيل : كانوا يستهزؤن به فيقول بعضهم : سورة البقرة لي ، ويقول الآخر : سورة آل عمران لي ، ويجوز أن يراد بالقرآن : ما يقرؤنه من كتبهم ، وقد اقتسموه بتحريفهم ، وبأنّ اليهود أقرّت ببعض التوراة وكذبت ببعض ، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض ، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم ، وقولهم سحر وشعر وأساطير ، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم . والثاني أن يتعلق بقوله : { وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين } [ الحجر : 89 ] أي : وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين ، يعني اليهود ، وهو ما جرى على قريظة والنضير ، جعل المتوقع بمنزلة الواقع ، وهو من الإعجاز؛ لأنه إخبار بما سيكون وقد كان . ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير ، أي : أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير ، مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم ، فقعدوا في كل مدخل متفرّقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر . ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات ، كالوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب وغيرهم ، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام ، والاقتسام بمعنى التقاسم . فإن قلت : إذا علقت قوله : { كَمَآ أَنْزَلْنَا } بقوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك } [ الحجر : 87 ] فما معنى توسط { لاَ تَمُدَّنَّ } [ الحجر : 88 ] إلى آخره بينهما؟ قلت : لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم ، اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ، ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين { عِضِينَ } أجزاء ، جمع عضة ، وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء . قال رؤبة :
وَلَيْسَ دينُ اللَّهِ بِالْمَعْضِيِّ ... وقيل : هي فعلة ، من عضهته إذا بهته . وعن عكرمة : العضة السحر ، بلغة قريش ، يقولون للساحر عاضهة .
( 581 ) ولعن النبي صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة ، نقصانها على الأوّل واو ، وعلى الثاني هاء .

فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)

{ لَنَسْئَلَنَّهُمْ } عبارة عن الوعيد . وقيل يسألهم سؤال تقريع . وعن أبي العالية : يسأل العباد عن خلتين : عما كانوا يعبدون وماذا أجابوا المرسلين .

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)

{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } فاجهر به وأظهره . يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً ، كقولك : صرح بها ، من الصديع وهو الفجر ، والصدع في الزجاجة : الإبانة . وقيل : { فاصدع } فافرق بين الحق والباطل بما تؤمر ، والمعنى بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجارّ ، كقوله :
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... ويجوز أن تكون ( ما ) مصدرية ، أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول .

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)

عن عروة بن الزبير في المستهزئين : هم خمسة نفر ذوو أسنان وشرف : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن الطلاطلة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ماتوا كلهم قبل بدر
( 582 ) قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبال فتعلق بثوبه سهم ، فلم ينعطف تعظَّماً لأخذه ، فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات ، وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل ، فدخلت فيها شوكة ، فقال : لدغت لدغت وانتفخت رجله ، حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب ، فعمى وأشار إلى أنف الحرث بن قيس ، فامتخط قيحاً فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات .

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

{ بِمَا يَقُولُونَ } من أقاويل الطاعنين فيك وفي القرآن { فَسَبّحْ } فافزع فيما نابك إلى الله ، والفزع إلى الله : هو الذكر الدائم وكثرة السجود ، يكفك ويكشف عنك الغم . ودم على عبادة ربك { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } أي الموت ، أي ما دمت حياً فلا تخل بالعبادة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 583 ) « أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 584 ) « من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار ، والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم »

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)

كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر ، استهزاء وتكذيباً بالوعد ، فقيل لهم { أتى أَمْرُ الله } الذي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } روي أنه لما نزلت { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت ، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن ، فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئاً ، فنزلت { اقترب لِلنَّاسِ حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا وانتظروا قربها ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ، ما نرى شيئاً مما تخوفنا به ، فنزلت { أتى أَمْرُ الله } فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم ، فنزلت { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فاطمأنوا وقرىء : «تستعجلوه» بالتاء والياء { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } تبرأ عز وجل عن أن يكون له شريك ، وأن تكون آلهتهم له شركاء ، أو عن إشراكهم . على أنّ «ما» موصولة أو مصدرية ، فإن قلت : كيف اتصل هذا باستعجالهم؟ قلت : لأنّ استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك . وقرىء : «تشركون» ، بالتاء والياء .

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

قرىء : «ينزل» بالتخفيف والتشديد وقرىء : «تنزل الملائكة» أي تتنزل { بالروح مِنْ أَمْرِهِ } بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه ، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد ، و { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدل من الروح ، أي ينزلهم بأن أنذروا . وتقديره : بأنه أنذروا ، أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا . أو تكون «أن» مفسرة؛ لأنّ تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول . ومعنى أنذروا { أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ } أعلموا بأنّ الأمر ذلك ، من نذرت بكذا إذا علمته . والمعنى : يقول لهم أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا { فاتقون } .

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)

ثم دلّ على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر ، مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وما يصلحه ، ومالا بدّ له من خلق البهائم لأكله وركوبه وجرّ أثقاله وسائر حاجاته ، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه ، ومثله متعال عن أن يشرك به غيره . وقرىء : «تشركون» ، بالتاء والياء { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } فيه معنيان ، أحدهما : فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم مبين للحجة ، بعد ما كان نطفة من منيّ جماداً لا حس به ولا حركة ، دلالة على قدرته . والثاني : فإذا هو خصيم لربه ، منكر على خالقه ، قائل : من يحيي العظام وهي رميم ، وصفاً للإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل ، والتمادي في كفران النعمة . وقيل نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أترى الله يحيي هذا بعدما قد رمّ؟

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)

{ الانعام } الأزواج الثمانية ، وأكثر ما تقع على الإبل ، وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر ، كقوله : { والقمر قدرناه } [ يس : 39 ] ويجوز أن يعطف على الإنسان ، أي : خلق الإنسان والأنعام ، ثم قال : { خَلَقَهَا لَكُمْ } أي ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان والدفء : اسم ما يدفأ به ، كما أنّ الملء اسم ما يملأ به ، وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر . وقرىء : «دفّ» ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء { ومنافع } هي نسلها ودرّها وغير ذلك . فإن قلت : تقديم الظرف في قوله { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } مؤذن بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها . قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم . وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتدّ به وكالجاري مجرى التفكه ، ويحتمل أن طعمتكم منها ، لأنكم تحرثون بالبقر فالحبّ والثمار التي تأكلونها منها وتكتسبون بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها .

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)

منّ اللَّه بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها ، لأنه من أغراض أصحاب المواشي ، بل هو من معاظمها؛ لأنّ الرعيان إذا روّحوها بالعشي وسرحوها بالغداة - فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء - أنست أهلها وفرحت أربابها ، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها ، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس . ونحوه { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] ، { يُواري سَوآتِكُمْ وَرِيشًا } [ الأعراف : 26 ] . فإن قلت : لم قدّمت الإراحة على التسريح؟ قلت : لأنّ الجمال في الإراحة أظهر ، إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها . وقرأ عكرمة : «حينا تريحون وحينا تسرحون» على أن { تُرِيحُونَ وتسرحون } وصف للحين . والمعنى : تريحون فيه وتسرحون فيه ، كقوله تعالى : { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ } [ لقمان : 33 ] .

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)

قرىء : «بشق الأنفس» ، بكسر الشين وفتحها . وقيل : هما لغتان في معنى المشقة ، وبينهما فرق : وهي أن المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا ، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع . وأما الشق فالنصف ، كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد . فإن قلت : ما معنى قوله : { لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه } كأنهم كانوا زماناً يتحملون المشاق في بلوغه حتى حملت الإبل أثقالهم . قلت : معناه وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه في التقدير لو لم تخلق الإبل إلا بجهد أنفسكم ، لا أنهم لم يكونوا بالغيه في الحقيقة . فإن قلت : كيف طابق قوله : { لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه } قوله : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وهلا قيل : لم تكونوا حامليها إليه؟ قلت : طباقه من حيث أن معناه : وتحمل أثقالكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة ، فضلاً أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم . ويجوز أن يكون المعنى : لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس . وقيل : أثقالكم أجرامكم . وعن عكرمة البلد مكة { لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح .

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)

{ والخيل والبغال والحمير } عطف على الأنعام ، أي : وخلق هؤلاء للركوب والزينة ، وقد احتج على حرمة أكل لحومهن بأن علل خلقها بالركوب والزينة ، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام . فإن قلت : لم انتصب { وَزِينَةً } ؟ قلت : لأنه مفعول له ، وهو معطوف على محل لتركبوها . فإن قلت : فهلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد؟ قلت : لأنّ الركوب فعل المخاطبين ، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق . وقرىء : «لتركبوها زينة» ، بغير واو ، أي : وخلقها زينة لتركبوها . أو تجعل زينة حالا منها ، أي : وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يجوز أن يريد به : ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته . ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به ، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك ، وإن طوى عنا علمه لحكمة له في طيه ، وقد حمل على ما خلق في الجنة والنار ، مما لم يبلغه وهم أحد ، ولا خطر على قلبه .

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)

المراد بالسبيل : الجنس ، ولذلك أضاف إليها القصد وقال { وَمِنْهَا جَائِرٌ } والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد . يقال : سبيل قصد وقاصد ، أي : مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه . ومعنى قوله { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه ، كقوله : { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } [ الليل : 12 ] . فإن قلت : لم غير أسلوب الكلام في قوله { وَمِنْهَا جَائِرٌ } ؟ قلت : ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز ، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل : وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر . وقرأ عبد الله : «ومنكم جائر» يعني : ومنكم جائر جار عن القصد بسوء اختياره ، والله بريء منه { وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } قسراً وإلجاء .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)

{ لَّكُم } متعلق بأنزل ، أو بشراب ، خبراً له . والشراب ما يشرب { شَجَرٌ } يعني الشجر الذي ترعاه المواشي . وفي حديث عكرمة : لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت . يعني الكلأ { تُسِيمُونَ } من سامت الماشية إذا رعت ، فهي سائمة ، وأسامها صاحبها ، وهو من السومة وهي العلامة ، لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض . وقرىء : ««ينبت» ، بالياء والنون . فإن قلت : لم قيل { وَمِن كُلّ الثمرات } ؟ قلت : لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة ، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة { يَتَفَكَّرُونَ } ينظرون فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته . والآية : الدلالة الواضحة . وعن بعضهم : ينبت بالتشديد . وقرأ أبيّ بن كعب : «ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب» ، بالرفع .

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)

قرئت كلها بالنصب على وجعل النجوم مسخرات أو على أن معنى تسخيرها للناس : تصييرها نافعة لهم ، حيث يسكنون بالليل ، ويبتغون من فضله بالنهار ، ويعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر ، ويهتدون بالنجوم . فكأنه قيل : ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له بأمره . ويجوز أن يكون المعنى : أنه سخرها أنواعاً من التسخير جمع مسخر ، بمعنى تسخير ، من قولك : سخره الله مسخراً ، كقولك : سرحه مسرحاً ، كأنه قيل : وسخرها لكم تسخيرات بأمره . وقرىء بنصب «الليل والنهار» وحدهما ، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر . وقرىء : «والنجوم مسخرات» ، بالرفع ، وما قبله بالنصب ، وقال { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فجمع الآية . وذكر العقل؛ لأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة ، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة .

وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ } معطوف على الليل والنهار يعني : ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلف الهيآت والمناطر .

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)

{ لَحْمًا طَرِيّا } هو السمك ، ووصفه بالطراوة؛ لأنّ الفساد يسرع إليه ، فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه . فإن قلت : ما بال الفقهاء قالوا : إذا حلف الرجل لا يأكل لحماً ، فأكل سمكاً ، لم يحنث . والله تعالى سماه لحماً كما ترى؟ قلت : مبنى الأيمان على العادة ، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه السمك ، وإذا قال الرجل لغلامه : اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك ، كان حقيقاً بالإنكار . ومثاله أن الله تعالى سمى الكافر دابة في قوله : إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا ، فلو حلف حالف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث . { حِلْيَةً } هي اللؤلؤ والمرجان . والمراد بلبسهم : لبس نسائهم ، لأنهنّ من جملتهم ، ولأنهنّ إنما يتزينّ بها من أجلهم ، فكأنها زينتهم ولباسهم . المخر : شق الماء بحيزومها . وعن الفراء : هو صوت جري الفلك بالرياح . وابتغاء الفضل : التجارة .

وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)

{ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } كراهة أن يميل بكم وتضطرب والمائد : الذي يدار به إذا ركب البحر . قيل : خلق الله الأرض فجعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ أحد على ظهرها ، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ، لم تدر الملائكة ممّ خلقت { وأنهارا } وجعل فيها أنهاراً ، لأن { وألقى } فيه معنى : جعل ألا ترى إلى قوله { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَاداً } [ النبأ : 6 ] . { وعلامات } هي معالم الطرق وكل ما تستدل به السابلة من جبل ومنهل وغير ذلك . والمراد بالنجم : الجنس ، كقولك : كثر الدرهم في أيدي الناس . وعن السديّ : هو الثريا ، والفرقدان؛ وبنات نعش ، والجدي . وقرأ الحسن : «وبالنجم» ، بضمتين ، وبضمة وسكون ، وهو جمع نجم ، كرهن ورهن ، والسكون تخفيف . وقيل حذف الواو من النجوم تخفيفاً . فإن قلت : قوله { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } مخرج عن سنن الخطاب ، مقدم فيه «النجم» ، مقحم فيه «هم» ، كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون ، فمن المراد ب { هُمْ } ؟ قلت : كأنه أراد قريشاً : كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ، وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم ، فكان الشكر أوجب عليهم ، والاعتبار ألزم لهم ، فخصصوا .

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)

فإن قلت : { مَّن لاَّ يَخْلُقُ } أريد به الأصنام ، فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم؟ قلت : فيه أوجه ، أحدها : أنهم سموها آلهة وعبدوها ، فأجروها مجرى أولي العلم . ألا ترى إلى قوله على أثره { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل : 20 ] والثاني : المشاكلة بينه وبين من يخلق . والثالث : أن يكون المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم ، فكيف بما لا علم عنده كقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا } [ الأعراف : 195 ] يعني أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب ، لأنّ هؤلاء أَحياء وهم أموات ، فكيف تصح لهم العبادة؟ لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصحّ أن يعبدوا . فإن قلت : هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله ، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق ، فكان حق الإلزام أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه ، فقد جعلوا الله تعالى من جنس المخلوقات وشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } .

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)

{ لاَ تُحْصُوهَا } لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم ، فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر ، أتبع ذلك ما عدّد من نعمه تنبيهاً على أنّ وراءها ما لا ينحصر ولا ينعدّ { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة ، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها { والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } من أعمالكم ، وهو وعيد .

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)

{ والذين يَدْعُونَ } والآلهة الذين يدعوهم الكفار { مِن دُونِ الله } وقرىء بالتاء . وقرىء : «يُدْعَون» ، على البناء للمفعول ، نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث ، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب . ومعنى : { أموات غَيْرُ أَحْيَاء } أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات ، أي غير جائز عليها الموت كالحيّ الذي لا يموت وأمرهم على العكس من ذلك . والضمير في { يُبْعَثُونَ } للداعين ، أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم . وفيه تهكم بالمشركين وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم . وفيه دلالة على أنه لا بدّ من البعث وأنه من لوازم التكليف . ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير ، وهم لا يقدرون على نحو ذلك ، فهم أعجز من عبدتهم أموات جمادات لا حياة فيها ، غير أحياء يعني أنَّ من الأموات ما يعقب موته حياة ، كالنطف التي ينشئها الله حيواناً وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها . وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة ، وذلك أعرق في موتها { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكم بحالها ، لأنّ شعور الجماد محال ، فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحيّ القيوم سبحانه . ووجه ثالث : وهو أن يراد بالذين يدعون الملائكة ، وكان ناس منهم يعبدونهم ، وأنهم أموات : أي لا بدّ لهم من الموت ، غير أحياء : غير باقية حياتهم . وما يشعرون : ولا علم لهم بوقت بعثهم . وقرىء : «إيان» ، بكسر الهمزة .

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)

{ إلهكم إله واحد } يعني أنه قد ثبت بما تقدّم من إبطال أن تكون الإلهية لغيره ، وأنها له وحده لا شريك له فيها ، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح دليلها : استمرارهم على شركهم ، وأنّ قلوبهم منكرة للوحدانية ، وهم مستكبرون عنها وعن الإقرار بها { لاَ جَرَمَ } حقاً { أَنَّ الله يَعْلَمُ } سرّهم وعلانيتهم فيجازيهم ، وهو وعيد { أَنَّهُ لا يُجِبُّ1649;لْمُسْتَكْبِرِينَ } يجوز أن يريد المستكبرين عن التوحيد يعني المشركين . ويجوز أن يعمّ كل مستكبر . ويدخل هؤلاء تحت عمومه .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)

{ مَّاذَآ } منصوب بأنزل ، بمعنى : أي شيء { أَنزَلَ رَبُّكُمْ } أو مرفوع بالابتداء بمعنى : أي شيء أنزله ربكم ، فإذا نصبت فمعنى { أساطير الأولين } ما يدّعون نزوله أساطير الأوّلين ، وإذا رفعته فالمعنى : المنزل أساطير الأوّلين ، كقوله : { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] فيمن رفع . فإن قلت : هو كلام متناقض ، لأنه لا يكون منزل ربهم وأساطير؟ قلت : هو على السخرية كقوله : { إِنَّ رَسُولَكُمُ } [ الشعراء : 27 ] وهو كلام بعضهم لبعض ، أو قول المسلمين لهم ، وقيل : هو قول المقتسمين : الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا أحاديث الأوّلين وأباطيلهم { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } أي قالوا ذلك إضلالا للناس وصدّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحملوا أو زاد ضلالهم { كَامِلَةٌ } وبعض أوزار من ضلّ بضلالهم ، وهو وزر الإضلال ، لأن المضلّ والضال شريكان : هذا يضله ، وهذا يطاوعه على إضلاله ، فيتحاملان الوزر ، ومعنى اللام التعليل من غير أن يكون غرضاً ، كقولك : خرجت من البلد مخافة الشر { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من المعفول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز المحق والمبطل .

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

القواعد : أساطين البناء التي تعمده . وقيل : الأساس وهذا تمثيل ، يعني : أنهم سووا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله ، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات ، كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا . ونحوه : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً . وقيل : هو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع . وقيل فرسخان ، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا . ومعنى إتيان الله : إتيان أمره { مّنَ القواعد } من جهة القواعد { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون . وقرىء : «فأتى الله بيتهم» . «فخرّ عليهم السقُفُ» ، بضمتين { يُخْزِيهِمْ } يذلهم بعذاب الخزي { رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عمران : 192 ] يعني هذا لهم في الدنيا ، ثم العذاب في الآخرة { شُرَكَائِىَ } على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم ، ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم { تشاقون فِيهِمْ } تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ومعناهم . وقرىء : «تشاقونِ» ، بكسر النون ، بمعنى : تشاقونني؛ لأنّ مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم ، فلا يلتفتون إليهم ويتكبرون عليهم ويشاقونهم ، يقولون ذلك شماتة بهم وحكى الله ذلك من قولهم ليكون لطفاً لمن سمعه . وقيل : هم الملائكة قرىء : «تتوفاهم» ، بالتاء والياء . وقرىء : «الذين توفاهم» ، بإدغام التاء في التاء { فَأَلْقَوُاْ السلم } فسالموا وأخبتوا ، وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر ، وقالوا : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء } وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان ، فردّ عليهم أولو العلم { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فهو يجازيكم عليه ، وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك { فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } .

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

{ خَيْرًا } أنزل خيراً فإن قلت : لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت : فصلا بين جواب المقرّ وجواب الجاحد ، يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفاً مفعولاً للإنزال ، فقالوا خيراً : أي أنزل خيراً ، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأوّلين ، وليس من الإنزال في شيء . وروي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا : إن لم تلقه كان خيراً لك ، فيقول : أنا شرّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه ، فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه ، وأنه نبيّ مبعوث ، فهم الذين قالوا خيراً . وقوله : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } وما بعده بدل من خيراً ، حكاية لقوله : { لّلَّذِينَ اتقوا } أي : قالوا هذا القول ، فقدّم عليه تسميته خيراً ثم حكاه . ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ عدة للقائلين ، ويجعل قولهم من جملة إحسانهم ويحمدوه عليه { حَسَنَةٌ } مكافأة في الدنيا بإحسانهم ، ولهم في الآخرة ما هو خير منها ، كقوله { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } [ آل عمران : 148 ] { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } دار الآخرة ، فحذف المخصوص بالمدح لتقدّم ذكره . و { جنات عَدْنٍ } خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح { طَيّبِينَ } طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي . لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم { يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ } قيل : إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال : السلام عليك يا وليّ الله ، الله يقرأ عليك السلام ، وبشره بالجنة .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)

{ تَأْتِيَهُمُ الملائكة } قرىء بالتاء والياء ، يعني : أن تأتيهم لقبض الأرواح . و { أَمْرُ رَبّكَ } العذاب المستأصل ، أو القيامة { كذلك } أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب { فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بتدميرهم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لأنهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير { سَيّئَاتُ مَا عَلِمُواْ } جزاء سيئات أعمالهم . أو هم كقوله { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)

هذا من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم وعنادهم ، من شركهم بالله وإنكار وحدانيته بعد قيام الحجج وإنكار البعث واستعجاله ، استهزاء منهم به وتكذيبهم الرسول ، وشقاقهم ، واستكبارهم عن قبول الحق ، يعني : أنهم أشركوا بالله وحرّموا ما أحل الله ، من البحيرة والسائبة وغيرهما ، ثم نسبوا فعلهم إلى الله وقالوا : لو شاء لم نفعل ، وهذا مذهب المجبرة بعينه { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي أشركوا وحرموا حلال الله فلما نبهوا على قبح فعلهم ورّكوه على ربهم { فَهَلْ عَلَى الرسل } إلا أن يبلغوا الحق ، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد ، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له ، وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه .

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)

ولقد أمدّ إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله ، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله } أي لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } أي ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف ، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتي منه خير { فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا } ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أقدّر الشر ولا أشاؤه ، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار .

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)

ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم ، وعرّفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة ، وأنه { لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } أي لا يلطف بمن يخذل ، لأنه عبث ، والله تعالى متعال عن العبث؛ لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه . وقرىء : «لا يُهدَى» أي : لا تقدر أنت ولا أحد على هدايته وقد خذله الله . وقوله { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } دليل على أنّ المراد بالإضلال الخذلان الذي هو نقيض النصرة . ويجوز أن يكون { لاَّ يَهِدِّى } بمعنى لا يهتدي . يقال : هداه الله فهدى . وفي قراءة أبيّ «فإنّ الله لا هادي لمن يضل ، ولمن أضلّ» ، وهي معاضدة لمن قرأ «لا يهدي» على البناء للمفعول . وفي قراءة عبد الله : «يهدي» ، بإدغام تاء يهتدي ، وهي معاضدة للأولى . وقرىء «يضل» بالفتح . وقرأ النخعي : «إن تحرص» ، بفتح الراء ، وهي لغية .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)

{ وَأَقْسَمُواْ بالله } معطوف على { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ } [ النحل : 35 ] إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان ، حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا : توريك ذنوبهم على مشيئة الله ، وإنكارهم البعث مقسمين عليه . و { بلى } إثبات لما بعد النفي ، أي : بلى يبعثهم . ووعد الله : مصدر مؤكد لما دلّ عليه بلى ، لأن يبعث موعد من الله ، وبين أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه في الحكمة { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أنهم يبعثون أو أنه وعد واجب على الله؛ لأنهم يقولون : لا يجب على الله شيء ، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة { لِيُبَيّنَ لَهُمُ } متعلق بما دل عليه «بلى» أي يبعثهم ليبين لهم . والضمير لمن يموت ، وهو عام للمؤمنين والكافرين ، والذين اختلفوا فيه هو الحق { وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ } كذبوا في قولهم : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ، وفي قولهم : لا يبعث الله من يموت . وقيل : يجوز أن يتعلق بقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } [ النحل : 36 ] أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه ، وأنهم كانوا على الضلالة قبله ، مفترين على الله الكذب .

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

{ قَوْلُنَا } مبتدأ ، و { إِن نَّقُولُ } خبره . { كُنْ فَيَكُونُ } من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود ، أي : إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له : احدث ، فهو يحدث عقيب ذلك لا يتوقف ، وهذا مثل لأنّ مراداً لا يمتنع عليه ، وأنّ وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف ، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل ، ولا قول ثم . والمعنى : أنّ إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة ، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات . وقرىء : «فيكون» ، عطفاً على { نَّقُولَ } .

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

{ والذين هاجروا } هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ظلمهم أهل مكة ففرّوا بدينهم إلى الله ، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين . ومنهم من هاجر إلى المدينة . وقيل : هم الذين كانوا محبوسين معذبين بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلما خرجوا تبعوهم فردّوهم : منهم بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار . وعن صهيب أنه قال لهم : أنا رجل كبير ، إن كنت معكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضرّكم ، فافتدى منهم بماله وهاجر ، فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال له : ربح البيع يا صهيب . وقال له عمر : نعم الرجل صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه ، وهو ثناء عظيم : يريد لو لم يخلق الله ناراً لأطاعه ، فكيف { فِى الله } في حقه ولوجهه { حَسَنَةٌ } صفة للمصدر ، أي لنبوأنهم تبوئة حسنة . وفي قراءة علي رضي الله عنه . «لنثوّينهم» ومعناه : أثوأة حسنة . وقيل : لننزلهم في الدنيا منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب . وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذاً أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك ربك في الدنيا . وما ذخر لك في الآخرة أكثر وقيل : لنبوّأنهم مباءة حسنة وهي المدينة ، حيث آواهم أهلها ونصروهم { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } الضمير للكفار ، أي : لو علموا أنّ الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة ، لرغبوا في دينهم . ويجوز أن يرجع الضمير إلى المهاجرين ، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم { الذين صَبَرُواْ } على هم الذين صبروا . أو أعني الذين صبروا ، وكلاهما مدح ، أي : صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب ، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤسهم ، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

قالت قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً ، فقيل { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } على ألسنة الملائكة { فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر } وهم أهل الكتاب ، ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً . فإن قلت : بم تعلق قوله { بالبينات } ؟ قلت : له متعلقات شتى ، فأما أن يتعلق بما أرسلنا داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات ، كقولك : ما ضربت إلا زيداً بالسوط؛ لأن أصله : ضربت زيداً بالسوط وإما برجالا ، صفة له : أي رجالاً ملتبسين بالبينات . وإما بأرسلنا مضمراً ، كأنما قيل : بما أرسلوا؟ فقلت بالبينات ، فهو على كلامين ، والأوّل على كلام واحد ، وإما بيوحي ، أي : يوحي إليهم بالبينات . وإما بلا تعلمون ، على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام ، كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي . وقوله : { فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر } اعتراض على الوجوه المتقدّمة ، وأهل الذكر : أهل الكتاب . وقيل للكتاب الذكر؛ لأنه موعظة وتنبيه للغافلين { مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } يعني ما نزل الله إليهم في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا وأوعدوا { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا .

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

{ مَكَرُواْ السيئات } أي المكرات السيئات ، وهم أهل مكة ، وما مكروا به رسول الله صلى الله عليه وسلم { فِى تَقَلُّبِهِمْ } متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم { على تَخَوُّفٍ } متخوفين ، وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوّفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون ، وهو خلاف قوله { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } وقيل : هو من قولك : تخوفنه وتخونته ، إذا تنقصته قال زهير :
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِدا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النّبْعةِ السَّفَنُ
أي يأخذهم على أن يتنقصهم شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا . وعن عمر رضي الله عنه . أنه قال على المنبر : ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا : التخوّف التنقص . قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم ، قال شاعرنا . وأنشد البيت . فقال عمر : أيها الناس ، عليكم بديوانكم لا يضل . قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } حيث يحلم عنكم ، ولا يعاجلكم مع استحقاقكم .

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)

قرىء : «أو لم يروا» و «يتفيؤا» بالياء والتاء . و { مَا } موصولة بخلق الله ، وهو مبهم بيانه { مِن شَىْء يَتَفَيَّؤُاْ ظلاله } واليمين ، بمعنى الأيمان . و { سُجَّدًا } حال من الظلال . { وَهُمْ داخرون } حال من الضمير في ظلاله ، لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل ، وجمع بالواو ، لأن الدخور من أوصاف العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب . والمعنى : أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن إيمانها وشمائلها ، أي عن جانبي كل واحد منها . وشقيه استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء ، أي : ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله ، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً ، صاغرة منقادة لأفعال الله فيها ، لا تمتنع .

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

{ مِن دَابَّةٍ } يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً ، على أنّ في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما يدب الأناسي في الأرض ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ، ويراد بما في السموات : الخلق الذي يقال له الروح ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ، ويراد بما في السموات : الملائكة وكرّر ذكرهم على معنى : والملائكة خصوصاً من بين الساجدين؛ لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم . ويجوز أن يراد بما في السموات : ملائكتهنّ . وبقوله والملائكة : ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم ، فإن قلت : سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم ، فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ قلت : المراد بسجود المكلفين : طاعتهم وعبادتهم ، وبسجود غيرهم : انقياده لإرادة الله وأنها غير ممتنعة عليها ، وكلا السجودين يجمعها معنى الانقياد فلم يختلفا ، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد . فإن قلت : فهلا جيء بمن دون «ما» تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ قلت : لأنه لوجيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب ، فكان متناولاً للعقلاء خاصة ، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم ، إرادة العموم { يَخَافُونَ } يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي : لا يستكبرون خائفين ، وأن يكون بياناً لنفي الاستكبار وتأكيداً له ، لأنّ من خاف الله لم يستبكر عن عبادته { مّن فَوْقِهِمْ } إن علقته بيخافون ، فمعناه : يخافونه أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم ، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه : يخافون ربهم عالياً لهم قاهراً ، كقوله { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ، 61 ] ، { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } [ الأعراف : 127 ] وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين ، وأنهم بين الخوف والرجاء .

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)

فإن قلت : إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين ، فقالوا عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة؛ لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص . وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان ، فمعدودان فيهما دلالة على العدد ، فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد ورجلان اثنان ، فما وجه قوله إلهين اثنين؟ قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين : على الجنسية والعدد المخصوص ، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنىّ به منهما ، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده ، فدل به على القصد إليه والعناية به . ألا ترى أنك لو قلت : إنما هو إله ، ولم تؤكده بواحد : لم يحسن ، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية { فإياي فارهبون } نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم ، وجاز لأنّ الغالب هو المتكلم ، وهو من طريقة الالتفات ، وهو أبلغ في الترهيب من قوله : وإياه فارهبوه ، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم .

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)

{ الدين } الطاعة { وَاصِبًا } حال عمل فيه الظرف . والواصب : الواجب الثابت؛ لأنّ كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه . ويجوز أن يكون من الوصب ، أي : وله الدين ذا كلفة ومشقة ، ولذلك سمي تكليفاً . أو : وله الجزاء ثابتاً دائماً سرمداً لا يزول ، يعني الثواب والعقاب .

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ } وأيّ شيء حل بكم ، أو اتصل بكم من نعمة ، فهو من الله { فإلَيْهِ تَجْئَرُونَ } فما تتضرعون إلا إليه ، والجؤار : رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة . قال الأعشى يصف راهبا :
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِي ... كِ طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا
وقرىء : «تجرون» ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم . وقرأ قتادة «كاشف الضر» على : فاعل بمعنى فعل ، وهو أقوى من كشف؛ لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة . فإن قلت : فما معنى قوله : { إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } ؟ قلت : يجوز أن يكون الخطاب في قوله : { وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله } عاماً ، ويريد بالفريق : فريق الكفرة وأن يكون الخطاب للمشركين ومنكم للبيان ، لا للتبعيض ، كأنه قال فإذا فريق كافر ، وهم أنتم . ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر ، كقوله { فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ] { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } من نعمة الكشف عنهم ، كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } تخلية ووعيد . وقرىء : «فيُمَتَّعوا» ، بالياء مبنيا للمفعول ، عطفا على { لِيَكْفُرُواْ } ويجوز أن يكون : ليكفروا فيمتعوا ، من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية ، واللام لام الأمر .

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)

{ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } أي لآلهتهم . ومعنى لا يعلمونها : أنه يسمونها آلهة ، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله ، وليس كذلك . وحقيقتها أنها جماد لا يضر ولا ينفع ، فهم إذاً جاهلون بها ، وقيل : الضمير في { لاَّ يَعْلَمُونَ } للآلهة . أي : لأشياء غير موصوفة بالعلم ، ولا تشعر أجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا؟ وكانوا يجعلون لهم ذلك تقرباً إليهم { لَتُسْئَلُنَّ } وعيد { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } من الإفك في زعمكم أنها آلهة ، وأنها أهل للتقرب إليها .

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)

كانت خزاعة وكنانة تقول : الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيه لذاته من نسبة الوالد إليه . أو تعجب من قولهم { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } يعني البنين . ويجوز في { مَّا يَشْتَهُونَ } الرفع على الابتداء ، والنصب على أن يكون معطوفاً على البنات ، أي : وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور . و { ظَلَّ } بمعنى صار كما يستعمل بات وأصبح وأمسى بمعنى الصيرورة . ويجوز أن يجيء ظل؛ لأن أكثر الوضع يتفق بالليل ، فيظل نهاره مغتما مربد الوجه من الكآبة والحياء من الناس { وَهُوَ كَظِيمٌ } مملوء حنقاً على المرأة { يتوارى مِنَ القوم } يستخفي منهم { مِنْ } أجل { سُوء } المبشر به ، ومن أجل تعييرهم ، ويحدث نفسه وينظر أيمسك ما بشر به { على هُونٍ } على هوان وذل { أَمْ يَدُسُّهُ فِى التراب } أم يئده . وقرىء : «أيمسكها على هون أم يدسها» ، على التأنيث . وقرىء : «على هوان» { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله ، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف .

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

{ مَثَلُ السوء } صفة السوء : وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكرهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق ، وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } وهو الغني عن العالمين ، والنزاهة عن صفات المخلوقين وهو الجواد الكريم .

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)

{ بِظُلْمِهِمْ } بكفرهم ومعاصيهم { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } أي على الأرض { مِن دَابَّةٍ } قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين . وعن أبي هريرة : أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه ، فقال : بلى والله ، حتى أنّ الحباري لتموت في وكرها بظلم الظالم . وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم . أو من دابة ظالمة . وعن ابن عباس { مِن دَابَّةٍ } من مشرك يدب عليها . وقيل : لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء .

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم ، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم . ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ } مع ذلك { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } عند الله كقوله { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] . وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوي اليسار : كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى : هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم ، فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة . وإذا قال : هاتوا ما دفع إليّ فيؤتى بالكسر والخرق وما لا يؤبه له ، أما تستحي من ذلك الموقف؟ وقرأ هذه الآية وعن مجاهد : «أنّ لهم الحسنى» . هو قول قريش : لنا البنون ، وأن لهم الحسنى : بدل من الكذب . وقرىء «الكذب» جمع كذوب ، صفة للألسنة { مُّفْرَطُونَ } قرىء مفتوح الراء ومكسورها مخففاً ومشدّداً ، فالمفتوح بمعنى مقدّمون إلى النار معجلون إليها ، من أفرطت فلاناً ، وفرّطته في طلب الماء ، إذا قدمته . وقيل منسيون متروكون ، من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته . والمكسور المخفف ، من الإفراط في المعاصي . والمشدّد . من التفريط في الطاعات وما يلزمهم .

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

{ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها . أو فهو وليهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا . ومعنى { وَلِيُّهُمُ } قرينهم وبئس القرين . أو يجعل { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } حكاية للحال الآتية ، وهي حال كونهم معذبين في النار ، أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش ، [ و ] أنه زين للكفار قبلهم أعمالهم ، فهو ولي وهؤلاء : لأنهم منهم . ويجوز أن يكون على حذف المضاف ، أي : فهو ولي أمثالهم اليوم .

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

{ وَهَدَىً و رَحْمَةً } معطوفان على محل { لِتُبَيّنَ } إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب . ودخل اللام على لتبين : لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل . وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعل فاعل الفعل المعل . والذي اختلفوا فيه : البعث؛ لأنه كان فيهم من يؤمن به ، ومنهم عبد المطلب ، وأشياء من التحريم والإنكار والإقرار { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع إنصاف وتدبر؛ لأنّ من لم يسمع بقلبه ، فكأنه أصم لا يسمع .

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)

ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم : ثوب أكياش؛ ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً . وأمّا { فِى بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] في سورة المؤمنين : فلأنّ معناه الجمع . ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان ، أحدهما : أن يكون تكسير نعم كأجبال في جبل ، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم ، فإذا ذكر فكما يذكر «نعم» في قوله :
في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَه ... يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَتَنْتِجُونَهْ
وإذا أنث ففيه وجهان : أنه تكسير نعم . وأنه في معنى الجمع . وقرىء : «نَسقيكم» بالفتح والضم ، وهو استئناف ، كأنه قيل : كيف العبرة ، فقيل نسقيكم { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } أي يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من ذلك كله . قيل : إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها طبخته ، فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه لبناً ، وأعلاه دماً . والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها ، فتجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، وتبقى الفرث في الكرش . فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل . وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين فرث ودم { سَآئِغًا } سهل المرور في الحلق ويقال : لم يغص أحد باللبن قط . وقرىء : «سيغاً» ، بالتشديد . و «سيغاً» ، بالتخفيف . كهين ولين . فإن قلت : أي فرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت : الأولى للتبعيض؛ لأن اللبن بعض ما في بطونها ، كقولك : أخذت من مال زيد ثوباً . والثانية : لابتداء الغاية؛ لأنّ بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ ، فهو صلة لنسقيكم ، كقولك : سقيته من الحوض ، ويجوز أن يكون حالا من قوله { لَّبَنًا } مقدماً عليه ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائناً من بين فرث ودم . ألا ترى أنه لو تأخر فقيل : لبناً من بين فرث ودم كان صفة له ، وإنما قدم لأنه موضع العبرة ، فهو قمن بالتقديم . وقد احتج بعض من يرى أن المني طاهر على من جعله نجساً ، لجريه في مسلك البول بهذه الآية ، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر ، كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهراً .

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

فإن قلت : بم تعلق قوله { وَمِن ثمرات النخيل والأعناب } ؟ قلت : بمحذوف تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرها وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه ، وقوله : { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } بيان وكشف عن كنه الإسقاء . أو يتعلق بتتخذون ، ومنه من تكرير الظرف للتوكيد ، كقولك : زيد في الدار فيها ، ويجوز أن يكون { تَتَّخِذُونَ } صفة موصوف محذوف ، كقوله :
جادت بِكَفّى كَانَ مِنْ أَرْمَى الْبَشَرْ ... تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً؛ لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر . فإن قلت : فالإم يرجع الضمير في منه إذا جعلته ظرفاً مكرّراً؟ قلت : إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كما رجع في قوله تعالى { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] إلى الأهل المحذوف ، والسكر : الخمر ، سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً . نحو رشد رشداً ورشداً . قال :
وَجَاؤُنَا بهِمْ سَكَرٌ عَلَيْنَا ... فَأَجْلَى اليَوْمُ والسَّكْرَانُ صَاحِى
وفيه وجهان : أحدهما أن تكون منسوخة . وممن قال بنسخها : الشعبي والنخعي . والثاني : أن يجمع بين العتاب والمنة . وقيل : السكر النبيذ . وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتدّ ، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حدّ السكر ويحتج بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم .
( 586 ) « الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب » وبأخبار جمة . ولقد صنف شيخنا أبو علي الجبائي قدّس الله روحه غير كتاب في تحليل النبيذ ، فلما شيخ وأخذت منه السنّ العالية قيل له : لو شربت منه ما تتقوى به ، فأبى . فقيل له : فقد صنفت في تحليله ، فقال : تناولته الدعارة فسمج في المروءة . وقيل : السكر الطُعم وأنشد :
جَعَلْتُ أَعْرَاضَ الكِرَامِ سَكَرَاً ... أي تنقلت بأعراضهم . وقيل هو من الخمر ، وإنه إذا ابترك في أعراض الناس ، فكأنه تخمر بها . والرزق الحسن : الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك . ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً ، كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن .

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

الإيحاء إلى النحل : إلهامها والقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم به ، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه ، وإلا فنيَّقتها في صنعتها ، ولطفها في تدبير أمرها ، وإصابتها فيما يصلحها ، دلائل بينة شاهدة على أنّ الله أودعها علماً بذلك وفطنها ، كما أولى أولي العقول عقولهم . وقرأ يحيى بن وثاب { إلى النحل } بفتحتين . وهو مذكر كالنحل ، وتأنيثه على المعنى { أَنِ اتخذى } هي أن المفسرة؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول . وقرىء : «بيوتاً» بكسر الباء لأجل الياء . و { يَعْرِشُونَ } بكسر الراء وضمها : يرفعون من سقوف البيوت . وقيل : ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تتعسل فيها . والضمير في { يعرشون } للناس فإن قلت : ما معنى «من» في قوله { أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } وهلا قيل في الجبال وفي الشجر؟ قلت : أريد معنى البعضية ، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ولا في كل مكان منها { مِن كُلّ الثمرات } إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل وتعتاد أكلها ، أي ابني البيوت ، ثم كلي من كل ثمرة تشتهينها ، فإذا أكلتها { فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ } أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل . أو فاسلكي ما أكلت في سبل ربك ، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المرّ عسلا من أجوافك ومنافذ مآكلك . أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك ، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك ، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها ، فقد بلغني أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة . أو أراد بقوله : { ثُمَّ كُلِى } ثم اقصدي أكل الثمرات فاسلكلي في طلبها في مظانها سبل ربك { ذُلُلاً } جمع ذلول ، وهي حال من السبل؛ لأنّ الله ذللها لها ووطأها وسهلها ، كقوله : { هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] أو من الضمير في { فاسلكى } أي : وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة { شَرَابٌ } يريد العسل ، لأنه مما يشرب { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } منه أبيض وأسود وأصفر وأحمر { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة ، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل ، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض ، كما أن كل دواء كذلك . وتنكيره إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه ، أو لأن فيه بعض الشفاء ، وكلاهما محتمل . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 587 ) أن رجلاً جاء إليه فقال : إن أخي يشتكي بطنه ، فقال : " اذهب واسقه العسل " فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع ، فقال : " اذهب واسقه عسلاً» فقد صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه فشفاه الله فبرأ ، كأنما أنشط من عقال " وعن عبد الله بن مسعود :
( 588 ) " العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين : القرآن والعسل " ومن بدع التأويلات الرافضة : أن المراد بالنحل علي وقومه : وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم ، يخرج من بطونهم العلم ، فقال له رجل : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور ، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم .

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

{ إلى أَرْذَلِ العمر } إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة عن عليّ رضي الله عنه وتسعون سنة عن قتادة : لأنه لا عمر أسوأ حالا من عمر الهرم { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولة في النسيان ، وأن يعلم شيئاً ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن سئل عنه . وقيل : لئلا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئاً : وقيل : لئلا يعلم زيادة علم على علمه .

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

أي : جعلكم متفاوتين في الرزق ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تتساووا في الملبس والمطعم ، كما يحكي عن أبي ذرّ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
( 589 ) " إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون ، وأطعموهم مما تطعمون " فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } فجعل ذلك من جملة جحود النعمة . وقيل : هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء ، فقال لهم : أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ، ولا تجعلونهم فيه شركاء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء . وقيل المعنى أنّ الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً ، فهم في رزقي سواء ، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق . فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم . وقرىء : «يجحدون» ، بالتاء والياء .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)

{ مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم . وقيل : هو خلق حواء من ضلع آدم . والحفدة : جمع حافد ، وهو الذي يحفد ، أي يسرع في الطاعة والخدمة . ومنه قول القانت . وإليك نسعى ونحفد وقال :
حَفَدَ الْوَلاَئِدَ بَيْنَهُنَّ وَأُسْلِمَت ... بِأَكُفِّهِنَّ أزِمَّةَ الأَجْمَالِ
واختلف فيهم فقيل : هم الأختان على البنات وقيل : أولاد الأولاد ، وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأوّل ، وقيل : المعنى وجعل لكم حفدة ، أي خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم ويجوز أن يراد بالحفدة : البنون أنفسهم؛ كقوله : { سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [ النحل : 67 ] كأنه قيل : وجعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون ، أي جامعون بين الأمرين { مّنَ الطيبات } يريد بعضها؛ لأنّ كل الطيبات في الجنة ، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها . وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة ، فليس لهم إيمان إلا به ، كأنه شيء معلوم مستيقن . ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز : هم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول . وقيل : الباطل يسوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما . ونعمة الله : ما أحل لهم .

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)

الرزق يكون بمعنى المصدر ، وبمعنى ما يرزق ، فإن أردت المصدر نصبت به { شَيْئاً } كقوله { أَوْ إِطْعَامٌ . . . . يَتِيماً } [ البلد : 14 ] على لا يملك أن يرزق شيئاً . وإن أردت المرزوق كان شيئاً بدلاً منه بمعنى قليلاً ويجوز أن يكون تأكيداً للا يملك : أي لا يملك شيئاً من الملك . و { مّنَ السماوات والأرض } صلة للرزق إن كان مصدراً بمعنى : لا يرزق من السموات مطراً ، ولا من الأرض نباتاً . أو صفة إن كان اسماً لما يرزق . والضمير في { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } لما؛ لأنه في معنى الآلهة ، بعد ما قيل { لاَ يَمْلِكُ } على اللفظ . ويجوز أن يكون للكفار ، يعني : ولا يستطيع هؤلاء - مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب - من ذلك شيئاً ، فكيف بالجماد الذي لا حس به . فإن قلت : ما معنى قوله : ( ولا يستطيعون ) بعد قوله { لاَ يَمْلِكُ } ؟ وهل هما إلا شيء واحد؟ قلت : ليس في { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } تقدير راجع ، وإنما المعنى : لا يملكون أن يرزقوا ، والاستطاعة منفية عنهم أصلا؛ لأنهم موات ، إلا أن يقدر الراجع ويراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة للتوكيد أو يراد : أنهم لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه ، ولا يتأتى ذلك منهم ولا يستقيم .

فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)

{ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به ، لأنّ من يضرب الأمثال مشبه حالا بحال وقصة بقصة { أَنَّ الله يَعْلَمُ } كنه ما تفعلون وعظمه ، وهو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم؛ لأنّ العقاب على مقدار الإثم { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } كنهه وكنه عقابه ، فذاك هو الذي جرّكم إليه وجرأكم عليه ، فهو تعليل للنهي عن الشرك . ويجوز أن يراد : فلا تضربوا لله الأمثال ، إنّ الله يعلم كيف يضرب الأمثال ، وأنتم لا تعلمون .

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)

ثم علمهم كيف تضرب فقال : مثلكم في إشراككم بالله الأوثان : مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف ، وبين حرّ مالك قد رزقه الله مالاً فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف شاء . فإن قلت : لم قال { مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } وكل عبد مملوك ، وغير قادر على التصرف؟ قلت : أما ذكر المملوك فليميز من الحرّ؛ لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً ، لأنهما من عباد الله . وأما { لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له؛ لأنهما يقدران على التصرف . واختلفوا في العبد هل يصح له ملك؟ والمذهب الظاهر أنه لا يصحّ له . فإن قلت : { من } في قوله { وَمَن رزقناه } ما هي؟ قلت : الظاهر أنها موصوفة ، كأنه قيل : وحراً رزقناه؛ ليطابق عبداً . ولا يمتنع أن تكون موصولة . فإن قلت : لم قيل { يَسْتَوُونَ } على الجمع؟ قلت : معناه : هل يستوي الأحرار والعبيد؟

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

الأبكم الذي ولد أخرس ، فلا يَفهم ولا يُفهم { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ } أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله { أَيْنَمَا يُوَجّههُّ } حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم ، لم ينفع ولم يأت بنجح { هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن } هو سليم الحواس نفاعاً ذو كفايات ، مع رشد وديانة ، فهو { يَأْمُرُ } الناس { بالعدل } والخير { وَهُوَ } في نفسه { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } على سيرة صالحة ودين قويم . وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية ، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع وقرىء : «أينما يوجه» ، بمعنى أينما يتوجه ، من قولهم : أينما أوجه ألق سعداً : وقرأ ابن مسعود : «أينما يُوَجَّهَ» ، على البناء للمفعول .

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)

{ وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } أي يختصّ به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه . أو أراد بغيب السموات والأرض : يوم القيامة ، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم { إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } أي هو عند الله وإن تراخى ، كما تقولون أنتم في الشيء الذي تستقربونه : هو كلمح البصر أو هو أقرب ، إذا بالغتم في استقرابه . ونحوه قوله : { ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] أي هو عنده دان وهو عندكم بعيد . وقيل : المعنى أن إقامة الساعة وإماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين ، يكون في أقرب وقت وأوحاه ، { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق ، لأنه بعض المقدورات . ثم دل على قدرته بما بعده .

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

قرىء «أمهاتكم» بضم الهمزة وكسرها ، والهاء مزيدة في أمات ، كما زيدت في أراق ، فقيل : أهراق . وشذت زيادتها في الواحدة قال :
أُمَّهَتِي خِنْدِفٌ وَإلْيَاسُ أبي ... { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } في موضع الحال . ومعناه : غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون ، وسوّاكم وصوّركم ، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة . وقوله : { وَجَعَلَ لَكُمُ } معناه : وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به ، من شكر المنعم ، وعبادته ، والقيام بحقوقه ، والترقي إلى ما يسعدكم . والأفئدة في فؤاد ، كالأغربة في غراب ، وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة ، والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها ، كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير ، فجرت ذلك المجرى .

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)

قرىء : «ألم يروا» ، بالتاء والياء { مسخرات } مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك . والجوّ : الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلوّ والسكاك أبعد منه ، واللوح مثله { مَا يُمْسِكُهُنَّ } في قبضهن وبسطهن ووقوفهن { إِلاَّ الله } بقدرته .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)

{ مِن بُيُوتِكُمْ } التي تسكنونها من الحجر والمدر والأخبية وغيرها . والسكن : فعل بمعنى مفعول ، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف { بُيُوتًا } هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع { تَسْتَخِفُّونَهَا } ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقامتكم } أي يوم ترحلون خف عليكم حملها وثقلها ، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها . أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جيمعاً ، على أنّ اليوم بمعنى الوقت { ومتاعا } وشيئاً ينتفع به { إلى حِينٍ } إلى أن تقضوا منه أوطاركم . أو إلى أن يبلى ويفنى أو إلى أن تموتوا . وقرىء : «يوم ظعنكم» ، بالسكون .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)

{ مّمَّا خَلَقَ } من الشجر وسائر المستظلات { أكنانا } جمع كنّ ، وهو ما يستكنّ به من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف { سَرَابِيلَ } هي القمصان والثياب من الصوف والكتان والقطن وغيرها { تَقِيكُمُ الحر } لم يذكر البرد؛ لأنّ الوقاية من الحرّ أهمّ عندهم ، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيراً محتملاً . وقيل : ما يقي من الحرّ يقي من البرد فدل ذكر الحرّ على البرد { وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } يريد الدروع والجواشن والسربال عامّ يقع على كل ما كان من حديد وغيره { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أي تنظرون في نعمه الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له . وقرىء : «تسلمون» ، من السلامة : أي تشكرون فتسلمون من العذاب . أو تسلم قلوبكم من الشرك . وقيل : تسلمون من الجراح بلبس الدروع .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } فلم يقبلوا منك فقد تمهد عذرك بعدما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ ، فذكر سبب العذر وهو البلاغ ليدل على المسبب { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله } التي عددناها حيث يعترفون بها وأنها من الله { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم : هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا . وقيل : إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا . وقيل : قولهم لولا فلان ما أصبت كذا لبعض نعم الله . وإنما لا يجوز التكلم بنحو هذا إذا لم يعتقد أنها من الله وأنه أجراها على يد فلان وجعله سبباً في نيلها { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } أي الجاحدون غير المعترفين . وقيل : «نعمة الله» نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً ، وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم . فإن قلت : ما معنى ثم؟ قلت : الدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة؛ لأنّ حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر .

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)

{ شَهِيداً } نبيهاً يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق ، والكفر والتكذيب { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } في الاعتذار . والمعنى لا حجة لهم ، فدل بترك الإذن على أن لا حجة لهم ولا عذر ، وكذا عن الحسن { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ولا هم يسترضون ، أي : لا يقال لهم أرضوا ربكم؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل . فإن قلت : فما معنى ثم هذه؟ قلت : معناها أنهم يمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منها ، وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة . وانتصاب اليوم بمحذوف تقديره : واذكر يوم نبعث ، أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه ، وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } كقوله { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ } [ الأنبياء : 40 ] الآية .

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)

إن أرادوا بالشركاء آلهتهم ، فمعنى { شُرَكَآؤُنَا } آلهتنا التي دعوناها شركاء . وإن أرادوا الشياطين ، فلأنهم شركاؤهم في الكفر وقرناؤهم في الغيّ : و { ندعو } بمعنى نعبد . فإن قلت : لم قالوا : { إِنَّكُمْ لكاذبون } وكانوا يعبدونهم على الصحة؟ قلت : لما كانوا غير راضين بعبادتهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة . والدليل عليه قول الملائكة { كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } [ سبأ : 41 ] يعنون أن الجن كانوا راضين بعبادتهم لا نحن ، فهم المعبودون دوننا . أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيها لله من الشريك . وإن أريد بالشركاء الشياطين ، جاز أن يكون «كاذبين» في قولهم { إِنَّكُمْ لكاذبون } كما يقول الشيطان : إني كفرت بما أشركتموني من قبل { وَأَلْقَوْاْ } يعني الذين ظلموا . وإلقاء السلم : الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا { وَضَلَّ عَنْهُم } وبطل عنهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من أن لله شركاء ، وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤا منهم .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)

{ الذين كَفَرُواْ } في أنفسهم ، وحملوا غيرهم على الكفر : يضاعف الله عقابهم كما ضاعفوا كفرهم . وقيل في زيادة عذابهم حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفاً . وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار { بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } بكونهم مفسدين الناس بصدّهم عن سبيل الله .

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

{ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ } يعني نبيهم؛ لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { شَهِيدًا على هَؤُلآء } على أمتك { تِبْيَانًا } بياناً بليغاً ونظير «تبيان» «تلقاء» في كسر أوله ، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن . فإن قلت : كيف كان القرآن تبياناً { لّكُلّ شَىْء } ؟ قلت : المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين ، حيث كان نصاً على بعضها وإحالة على السنة ، حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته . وقيل : وما ينطق عن الهوى . وحثاً على الإجماع في قوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } [ النساء : 115 ] وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله صلى الله عليه وسلم :
( 590 ) " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم " وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤا طرق القياس والاجتهاد ، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد ، مستندة إلى تبيان الكتاب ، فمن ثمّ كان تبياناً لكل شيء .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

العدل هو الواجب؛ لأن الله تعالى عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم واقعاً تحت طاقتهم { والإحسان } الندب؛ وإنما علق أمره بهما جميعاً؛ لأنّ الفرض لا بدّ من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب ، ولذلك
( 591 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لمن علمه الفرائض فقال : والله لازدت فيها ولا نقصت - : " أفلح إن صدق " فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط وقال صلى الله عليه وسلم
( 592 ) " استقيموا ولن تحصوا " فما ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل . والفواحش : ما جاوز حدود الله { والمنكر } ما تنكره العقول { والبغى } طلب التطاول بالظلم ، وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ، أقيمت هذه الآية مقامها . ولعمري إنها كانت فاحشة ومنكراً وبغياً ، ضاعف الله لمن سنها غضباً ونكالاً وخزياً ، إجابة لدعوة نبيه :
( 593 ) «وعاد من عاداه» وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون .

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

عهد الله : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] . { وَلاَ تَنقُضُواْ } إيمان البيعة { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } أي بعد توثيقها باسم الله . وأكد ووكد : لغتان فصيحتان ، والأصل الواو ، والهمزة بدل { كَفِيلاً } شاهداً ورقيباً؛ لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه { وَلاَ تَكُونُواْ } في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته { أنكاثا } جمع نكث وهو ما ينكث فتله . قيل : هي ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء ، اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها ، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ، ثم تأمرهنّ فينقضن ماغزلن { تَتَّخِذُونَ } حال و { دَخَلاً } أحد مفعولي اتخذ . يعني : ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلاً { بَيْنِكُمْ } أي مفسدة ودغلا { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ } بسبب أن تكون أمة يعني جماعة قريش { هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } هي أزيد عدداً وأوفر مالاً . من أمة من جماعة المؤمنين { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } الضمير لقوله : أن تكون أمة؛ لأنه في معنى المصدر ، أي : إنما يختبركم بكونهم أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوّتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟ { وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ } إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام .

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

{ وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار ، وهو قادر على ذلك { ولكن } الحكمة اقتضت أن يضلّ { مَن يَشَآء } وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان . يعني : أنه بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ولم يبنه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك ، وحققه بقوله : { وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ولو كان هو المضطرّ إلى الضلال والاهتداء ، لما أثبت لهم عملا يسئلون عنه .

وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)

ثم كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بينهم ، تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظم ما يركب منه { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } فتزلّ أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها { وَتَذُوقُواْ السوء } في الدنيا بصدودكم { عَن سَبِيلِ الله } وخروجكم من الدين . أو بصدّكم غيركم؛ لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدّوا ، لا تخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الآخرة .

وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)

كان قوماً ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان - لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين ، وإيذائهم لهم ، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد - أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله ، { وَلاَ تَشْتَرُواْ } ولا تستبدلوا { بِعَهْدِ الله } وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثَمَناً قَلِيلاً } عرضاً من الدنيا يسيراً ، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا { إِنَّمَا عِنْدَ الله } من إظهاركم وتغنيمكم ، ومن ثواب الآخرة { خَيْرٌ لَّكُمْ } .

مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)

{ مَا عِندَكُمْ } من أعراض الدنيا { يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله } من خزائن رحمته { بَاقٍ } لا ينفد وقرىء : «لنجزين» بالنون والياء { الذين صَبَرُواْ } على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام . فإن قلت : لم وحدت القدم ونكرت؟ قلت : لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة؟

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

فإن قلت : { مِنْ } متناول في نفسه للذكر والأنثى ، فما معنى تبيينه بهما؟ قلت : هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور ، فقيل { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } على التبيين ، ليعمّ الموعد النوعين جميعاً { حياوة طَيِّبَةً } يعني في الدنيا وهو الظاهر ، لقوله { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } وعده الله ثواب الدنيا والآخرة ، كقوله { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة } [ آل عمران : 148 ] وذلك أنّ المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً إن كان موسراً ، فلا مقال فيه . وإن كان معسراً ، فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله . وأمّا الفاجر فأمره على العكس : إن كان معسراً فلا إشكال في أمره ، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحياة الطيبة : الرزق الحلال . وعن الحسن : القناعة . وعن قتادة : يعني في الجنة . وقيل : هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه .

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه ، وصل به قوله { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } إيذاناً بأن الاستعاذة من جمله الأعمال الصالحة التي يجزل الله عليها الثواب . والمعنى : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] وكقولك : إذا أكلت فسمّ الله . فإن قلت : لم عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل؟ قلت : لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه ، فكان منه بسبب قويّ وملابسة ظاهرة . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
( 594 ) قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال لي : « يا ابن أمّ عبد ، قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ » { لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } أي تسلط وولاية على أولياء الله ، يعني : أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته { إِنَّمَا سلطانه } على من يتولاه ويطيعه { بِهِ مُشْرِكُونَ } الضمير يرجع إلى ربهم . ويجوز أن يرجع إلى الشيطان ، على معنى : بسببه وغروره ووسوسته .

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

تبديل الآية مكان الآية : هو النسخ ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح ، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم ، وخلافه مصلحة . والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد ، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته . وهذا معنى قوله { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمآ أَنتَ مُفْتَرٍ } وجدوا مدخلاً للطعن فطعنوا ، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ وكانوا يقولون : إن محمداً يسخر من أصحابه : يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً ، فيأتيهم بما هو أهون؛ ولقد افتروا ، فقد كان ينسخ الأشق بالأهون ، والأهون بالأشق ، والأهون بالأهون ، والأشق بالأشق ، لأنّ الغرض المصلحة ، لا الهوان والمشقة . فإن قلت : هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله ، ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس؟ قلت : فيه أن قرآناً ينسخ بمثله وليس فيه نفي نسخه بغيره ، على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم ، فنسخه بها كنسخه بمثله ، وأمّا الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها .

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

في { يُنَزّلٍ } و { نَزَّلَهُ } وما فيهما من التنزيل شيئاً على حسب الحوادث والمصالح : إشارة إلى أن التبديل من باب المصالح كالتنزيل ، وأن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة . و { رُوحُ القدس } جبريل عليه السلام ، أضيف إلى القدس وهو الطهر ، كما يقال : حاتم الجود وزيد الخير ، والمراد الروح المقدّس ، وحاتم الجواد ، وزيد الخير . والمقدّس المطهر من المآثم . وقرىء : بضم الدال وسكونها { بالحق } في موضع الحال ، أي نزله ملتبساً بالحكمة ، يعني أن النسخ من جملة الحق { لِيُثَبِّتَ الذين ءَامَنُواْ } ليبلوهم بالنسخ ، حتى إذا قالوا فيه : هو الحق من ربنا والحكمة ، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب ، على أن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب { وَهدىً وبشرى } مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت . والتقدير : تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم . وقرىء : «ليثبت» ، بالتخفيف .

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

أرادوا بالبشر : غلاماً كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب . وقيل : هو جبر ، غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي . وقيل عبدان : جبر ويسار ، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن ، فقالوا : يعلمانه ، فقيل لأحدهما ، فقال : بل هو يعلمني . وقيل : هو سلمان الفارسي . واللسان : اللغة . ويقال : ألحد القبر ولحده ، وهو ملحد وملحود ، إذا أمال حفره عن الاستقامة ، فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن استقامة ، فقالوا : ألحد فلان في قوله ، وألحد في دينه . ومنه الملحد؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها ، لم يمله عن دين إلى دين . والمعنى : لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان { أَعْجَمِىٌّ } غير بين { وهذا } القرآن { لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } ذو بيان وفصاحة ردّاً لقولهم وإبطالاً لطعنهم وقرىء : «يلحدون» بفتح الياء والحاء . وفي قراءة الحسن : «اللسان الذي يلحدون إليه» بتعريف اللسان . فإن قلت : الجملة التي هي قوله : { لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ } ما محلها؟ قلت : لا محل لها؛ لأنها مستأنفة جواب لقولهم . ومثله قوله { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] بعد قوله { وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله } [ الأنعام : 124 ] .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)

{ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَات الله } أي يعلم الله منهم أنهم لا يؤمنون { لاَ يهابهم الله } لا يلطف بهم؛ لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة ، لا من أهل اللطف والثواب { إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ } ردّ لقولهم { إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } [ النحل : 101 ] يعني : إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه لا يترقب عقاباً عليه { وَأُوْلئِكَ } إشارة إلى قريش { هُمُ الكاذبون } أي هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون ، أو إلى الذين لا يؤمنون . أي أولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب؛ لأنّ تكذيب آيات الله أعظم الكذب : أو أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء ، لا تحجبهم عنه مروءة ولا دين . أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : { إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } [ النحل : 101 ] .

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)

{ مَن كَفَرَ } بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله ، على أن يجعل { وَأُوْلئِكَ هُمُ الكاذبون } [ النحل : 105 ] اعتراضاً بين البدل والمبدل منه . والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ، ثم قال : { ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي طاب به نفساً واعتقده { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله } ويجوز أن يكون بدلاً من المبتدأ الذي هو { أولئك } على : ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون . أو من الخبر الذي هو الكاذبون ، على : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه . ويجوز أن ينتصب على الذمّ . وقد جوّزوا أن يكون { مَن كَفَرَ بالله } شرطاً مبتدأ ، ويحذف جوابه؛ لأن جواب { مَّن شَرَحَ } دال عليه ، كأنه قيل : من كفر بالله فعليهم غضب ، إلا من أكره ، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب ، روي
( 595 ) أنّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمار ، وأبواه - ياسر وسمية - وصهيب ، وبلال ، وخباب ، وسالم : عذبوا ، فأمّا سمية فقد ربطت بين بعيرين ووجىء في قبلها بحربة ، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت ، وقتل ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً . فقيل يا رسول الله ، إن عماراً كفر ، فقال : «كلا ، إنّ عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : «مالكا إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ومنهم جبر مولى الحضرمي . أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه وأسلم ، وحسن إسلامهما ، وهاجرا فإن قلت : أي الأمرين أفضل ، أفعل عمار أم فعل أبويه؟ قلت : بل فعل أبويه؛ لأنّ في ترك التقية والصبر على القتل إعزازاً للإسلام . وقد روي :
( 596 ) أنّ مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله . قال : فما تقول فيّ؟ قال أنت أيضاً ، فخلاه . وقال للآخر : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله . قال : فما تقول فيّ؟ قال أنا أصمّ . فأعاد عليه ثلاثاً ، فأعاد جوابه ، فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أما الأوّل فقد أخذ برخصة الله . وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له " { ذلك } إشارة إلى الوعيد ، وأنّ الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة ، واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم { وأولئك هُمُ الغافلون } الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم؛ لأنّ الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها .

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك ، وهم عمار وأصحابه . ومعنى : إنّ ربك لهم ، أنه لهم لا عليهم ، بمعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوّهم وخاذلهم ، كما يكون الملك للرجل لا عليه ، فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } بالعذاب والإكراه على الكفر . وقرىء : «فتنوا» على البناء للفاعل ، أي : بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه { مِن بَعْدِهَا } من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر { يَوْمَ تَأْتِى } منصوب برحيم . أو بإضمار اذكر . فإن قلت : ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟ قلت : يقال لعين الشيء وذاته نفسه ، وفي نقيضه غيره ، والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها ، فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره ، كل يقول : نفسي نفسي . ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار عنها كقوله : { هَؤُلاء أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 ] ، { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ونحو ذلك .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)

{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة ، فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته . فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأوّلين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلا لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها { مُّطْمَئِنَّةً } لا يزعجها خوف ، لأن الطمأنينة مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف { رَغَدًا } واسعاً . والأنعم : جمع نعمة ، على ترك الاعتداد بالتاء ، كدرع وأدرع . أو جمع نعم ، كبؤس وأبؤس . وفي الحديث :
( 597 ) نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم بالموسم بمنى : " إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا " فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ، فما وجه صحة إيقاعها عليه؟ قلت : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب : شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ والبشع . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس : ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث . وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان لا بد من الإحاطة بهما ، فإن الاستنكار لا يقع إلا لمن فقدهما ، أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه ههنا . ونحوه قول كثير :
غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكا ... غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ
استعارة الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه . ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا صفة الرداء ، نظر إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار ، كقوله :
يُنَازِعُنِي رِدَائِي عَبْدُ عَمْرو ... رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرو بْنِ بَكْر
ليَ الشطْرُ الَّذِي مَلَكَتْ يَمِيِني ... وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ
أراد بردائه سيفه ، ثم قال : فاعتجر منه بشطر ، فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لباس الجوع والخوف ، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً { وَهُمْ ظالمون } في حال التباسهم بالظلم ، كقوله : ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة . وقرىء : «والخوف» عطفاً على اللباس ، أو على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه . أصله : ولباس الخوف . وقرىء : «لباس الخوف والجوع» .

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

لما وعظهم بما ذكر من حال القرية وما أوتيت به من كفرها وسوء صنيعها ، وصل بذلك بالفاء في قوله { فَكُلُواْ } صدّهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة التي كانوا عليها ، بأن أمرهم بأكل ما رزقهم الله من الحلال الطيب ، وشكر إنعامه بذلك ، وقال : { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } يعني تطيعون . أو إن صحّ زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة ، لأنها شفعاؤكم عنده . ثم عدد عليهم محرمات الله ، ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم ، دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه .

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)

وانتصاب { الكذب } بلا تقولوا ، على : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم { مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } [ الأنعام : 139 ] من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله أو إلى قياس مستند إليه ، واللام مثلهافي قولك : ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام . وقوله : { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بدل من الكذب . ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول ، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم ، فتقول هذا حلال وهذا حرام . ولك أن تنصب الكذب بتصف ، وتجعل «ما» مصدرية ، وتعلق { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بلا تقولوا : على ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب ، أي : لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم ، لا لأجل حجة وبينة ، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة . فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصوّرته بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال . وعينها تصف السحر . وقرىء : «الكذب» بالجرّ صفة لما المصدرية ، كأنه قيل : لوصفها الكذب ، بمعنى الكاذب ، كقوله تعالى { بِدَمٍ كَذِبٍ } [ يوسف : 18 ] والمراد بالوصف : وصفها البهائم بالحل والحرمة . وقرىء : «الكذب» جمع كذوب بالرفع ، صفة للألسنة ، وبالنصب على الشتم . أو بمعنى : الكلم الكواذب ، أو هو جمع الكذاب من قولك : كذب كذاباً ، ذكره ابن جني . واللام في { لّتَفْتَرُواْ } من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض { متاع قَلِيلٌ } خبر مبتدأ محذوف ، أي منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم .

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

{ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ } يعني في سورة الأنعام .

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

{ بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال ، أي : عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه ، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم { مِن بَعْدِهَا } من بعد التوبة .

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)

{ كَانَ أُمَّةً } فيه وجهان ، أحدهما : أنه كان وحده أمّة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير كقوله :
وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَع الْعَالَمَ في وَاحِدِ
وعن مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار . والثاني : أن يكون أمّة بمعنى مأموم ، أي : يؤمّه الناس ليأخذوا منه الخير ، أو بمعنى مؤتم به كالرحلة والنخبة ، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول ، فيكون مثل قوله { قَالَ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } [ البقرة : 124 ] وروى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي عن ابن مسعود أنه قال : إنّ معاذاً كان أمّة قانتاً لله ، فقلت : غلطت ، إنما هو إبراهيم . فقال : الأمّة الذي يعلم الخير . والقانت المطيع لله ورسوله ، وكان معاذ كذلك . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال - حين قيل له : ألا تستخلف؟- : لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته : ولو كان معاذ حياً لاستخلفته . ولو كان سالم حياً لاستخلفته فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( 598 ) « أبو عبيدة أمين هذه الأمّة ، ومعاذ أمّة قانت لله ، ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون ، وسالم شديد الحب لله ، لو كان لا يخاف الله لم يعصه » وهو ذلك المعنى ، أي : كان إماماً في الدين؛ لأنّ الأئمة معلموا الخير . والقانت : القائم بما أمره الله . والحنيف : المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه . ونفى عنه الشرك تكذيباً لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم { شَاكِراً لأنْعُمِهِ } روي أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف ، فلم يجد ذات يوم ضيفاً ، فأخر غداءه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر ، فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أنّ بهم جذاماً؟ فقال : الآن وجبت مواكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم { اجتباه } اختصه واصطفاه للنبوّة { وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } إلى ملة الإسلام { حَسَنَةٌ } عن قتادة : هي تنويه الله بذكره ، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه . وقيل : الأموال والأولاد ، وقيل : قول المصلي منا : كما صليت على إبراهيم { لَمِنَ الصالحين } لمن أهل الجنة .

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)

{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } في «ثم» هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجلال محله ، والإيذان بأنّ أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم من الكرامة ، وأجلّ ما أولي من النعمة : اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته . من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها .

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

{ السبت } مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها . إنما جعل وبال السبت وهو المسخ { على الذين اختلفوا فِيهِ } واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فية تارة وحرّموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعد ما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه وتعظيمه . والمعنى في ذكر ذلك ، نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلاً ، وغير ما ذكر ، وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته . فإن قلت : ما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرّمين؟ قلت : معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرّمين أخرى ووجه آخر : وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة وأن يكون يوم الجمعة ، فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت ، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة ، فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاره وبعضهم اختار عليه الجمعة ، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه ، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة ، فكانوا لا يصيدون فيه ، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك ، وهو يحكم { بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه . ومعنى جعل السبت : فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه . وقرىء : «إنما جعل السبت» ، على البناء للفاعل وقرأ عبد الله : «إنا أنزلنا السبت» .

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)

{ إلى سَبِيلِ رَبّكَ } إلى الإسلام { بالحكمة } بالمقالة المحكمة الصحيحة ، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة { والموعظة الحسنة } وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها . ويجوزأن يريد القرآن ، أي : ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة { وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ } بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين ، من غير فظاظة ولا تعنيف { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ } بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة ، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل ، وكأنك تضرب منه في حديد بارد .

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة . والمعنى : إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه ، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه . وقرىء : «وإن عقبتم فعقبوا» ، أي : وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم . روي
( 599 ) أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد : بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم ، ما تركوا أحداً غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به ، وروي : فرآه مبقور البطن فقال : " أما والذي أحلف به ، لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك " فنزلت ، فكفر عن يمينه وكفّ عما أراده ، ولا خلاف في تحريم المثلة . وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور . إما أن يرجع الضمير في { لَهُوَ } إلى صبرهم وهو مصدر صبرتم . ويراد بالصابرين : المخاطبون ، أي : ولئن صبرتم لصبركم خير لكم ، فوضع الصابرون موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد . أو وصفهم بالصفة التي تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة . وإما أن يرجع إلى جنس الصبر - وقد دل عليه صبرتم - ويراد بالصابرين جنسهم ، كأنه قيل : وللصبر خير وللصابرين ونحوه قوله تعالى { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] . { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم { واصبر } أنت فعزم عليه بالصبر { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } أي بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبك { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي على الكافرين ، كقوله { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } [ المائدة : 68 ] أو على المؤمنين وما فعل بهم الكافرون { وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ } وقرىء : «ولا تكن في ضيق» أي : ولا يضيقن صدرك من مكرهم والضيق : تخفيف الضيق ، أي في أمر ضيق . ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين ، كالقيل والقول { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا } أي هو وليّ الذين اجتنبوا المعاصي { و } ولي { الذين هُمْ مُّحْسِنُونَ } في أعمالهم . وعن هرم ابن حيان أنه قيل له حين احتضر : أوص . فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي ، وأوصيكم بخواتم سورة النحل . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 600 ) " من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلته ، كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية " .

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

{ سُبْحَانَ } علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره ، تقديره : أسبح الله سبحان ، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسدّه ، ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله . و { أسرى } وسرى لغتان . و { لَيْلاً } نصب على الظرف فإن قلت : الإسراء لا يكون إلا بالليل ، فما معنى ذكر الليل؟ قلت : أراد بقوله { لَيْلاً } بلفظ التنكير : تقليل مدّة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشأم مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية . ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة : «من الليل» ، أي بعض الليل ، كقوله { وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً } [ الإسراء : 79 ] يعني الأمر بالقيام في بعض الليل . واختلف في المكان الذي أسرى منه فقيل : هو المسجد الحرام بعينه ، وهو الظاهر . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 601 ) " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " وقيل : أسري به من دار أم هانىء بنت أبي طالب والمراد بالمسجد الحرام : الحرم ، لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد وروي :
( 602 ) ( أنه كان نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسرى به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانيء . وقال : مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : مالك؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم ، قال : وإن كذبوني ، فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء ، فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي ، هلم فحدّثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً . وارتد ناس ممن كان قد آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : أتصدقه على ذلك؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك ، فسمي الصدّيق . وفيهم من سافر إلى ماثمّ ، فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أمّا النعت فقد أصاب ، فقالوا : أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ، وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية ، فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت ، فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ) .
ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلا سحر مبين ، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة ، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى واختلفوا في وقت الإسراء فقيل كان قبل الهجرة بسنة .

وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعث واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه» وعن معاوية : إنما عرج بروحه . وعن الحسن . كان في المنام رؤيا رآها . وأكثر الأقاويل بخلاف ذلك . والمسجد الأقصى : بيت المقدس ، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد { بَارَكْنَا حَوْلَهُ } يريد بركات الدين والدنيا ، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي ، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة . وقرأ الحسن : «ليريه» بالياء ، ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم فقيل : أسرى به ثم باركنا ليريه ، على قراءة الحسن ، ثم من آياتنا ، ثم إنه هو ، وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة { إِنَّهُ هُوَ السميع } لأقوال محمد { البصير } بأفعاله ، العالم بتهذبها وخلوصها ، فيكرمه ويقرّبه على حسب ذلك .

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

{ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ } قرىء بالياء على : «لئلا يتخذوا» ، وبالتاء على : أي «لا تتخذوا» كقولك : كتبت إليه أن أفعل كذا { وَكِيلاً } ربا تكلون إليه أموركم { ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا } نصب على الاختصاص . وقيل : على النداء فيمن قرأ «لا تتخذوا» بالتاء على النهي ، يعني : قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا { مَعَ نُوحٍ } وقد يجعل { وَكِيلاً ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا } مفعولي تتخذوا ، أي لا تجعلوهم أرباباً كقوله { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } ومن ذرية المحمولين مع نوح عيسى وعزير عليهم السلام وقرىء : «ذرية من حملنا» بالرفع بدلا من واو { تَتَّخِذُواْ } وقرأ زيد بن ثابت : «ذِرية» ، بكسر الذال . وروي عنه أنه قد فسرها بولد الولد ، ذكرهم الله النعمة في إنجاء آبائهم من الغرق { إِنَّهُ } إن نوحاً { كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } قيل : كان إذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمني ، ولو شاء أجاعني . وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ، ولو شاء أظمأني . وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني ، ولو شاء أعراني . وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذاني ، ولو شاء أحفاني . وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ، ولو شاء حبسه . وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به ، فإن وجده محتاجاً آثره به . فإن قلت : قوله إنه كان عبداً شكوراً ما وجه ملاءمته لما قبله؟ قلت : كأنه قيل : لا تتخذوا من دوني وكيلاً ، ولا تشركوا بي ، لأنّ نوحاً عليه السلام كان عبداً شكوراً ، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه ، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم . ويجوز أن يكون تعليلاً لاختصاصهم والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح ، فهم متصلون به ، فاستأهلوا لذلك الاختصاص . ويجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد .

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)

{ وَقَضَيْنآ إلى بنى إسراءيل } وأوحينا إليهم وحياً مقضيا ، أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة ، ويعلون ، أي : يتعظمون ويبغون { فِى الكتاب } في التوراة ، و { لَتُفْسِدُنَّ } جواب قسم محذوف . ويجوز أن يجري القضاء المبتوت مجرى القسم ، فيكون { لَتُفْسِدُنَّ } جواباً له ، كأنه قال : وأقسمنا لتفسدن . وقرىء : «لتفسدّن» ، على البناء للمفعول . «ولتفسدن» بفتح التاء من فسد { مَّرَّتَيْنِ } أولاهما : قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله ، والآخرة : قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم { عِبَادًا لَّنآ } وقرىء : «عبيداً لنا» وأكثر ما يقال : عباد الله وعبيد الناس : سنحاريب وجنوده وقيل بختنصر . وعن ابن عباس : جالوت . قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة ، وخربوا المسجد ، وسبوا منهم سبعين ألفاً . فإن قلت : كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه ، قلت : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم ، على أنّ الله عزّ وعلا أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه ، فهو كقوله تعالى { وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] وكقول الداعي . وخالف بين كلمهم . وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم ، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم . وقرأ طلحة «فحاسوا» بالحاء . وقرىء : «فجوّسو» ، و «خلل الديار» . فإن قلت : ما معنى { وَعْدُ أولاهما } ؟ قلت : معناه وعد عقاب أولاهما { وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً } يعني : وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة } أي الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو . قيل : هي قتل بختنصر واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم ، وقيل : هي قتل داود جالوت { أَكْثَرَ نَفِيرًا } مما كنتم . والنفير ، من ينفر مع الرجل من قومه ، وقيل : جمع نفر كالعبيد والمعيز .

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

أي الإحسان والإساءة : كلاهما مختص بأنفسكم ، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم . وعن عليّ رضي الله عنه : ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه ، وتلاها { فَإِذَا جَآء وَعْدُ } المرّة { الأخرة } بعثناهم { ليسائوا وُجُوهَكُمْ } حذف لدلالة ذكره أوّلا عليه . ومعنى { ليسائوا وُجُوهَكُمْ } ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها ، كقوله : { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] وقرىء : «ليسوء» والضمير لله تعالى ، أو للوعد ، أو للبعث «ولنسوء» بالنون . وفي قراءة عليّ : «لنسوأنّ» «وليسوأنّ» وقرىء : «لنسوأن» ، بالنون الخفيفة . واللام في { ليدخلوا } على هذا متعلق بمحذوف وهو : وبعثناهم ليدخلوا ولنسو أن : جواب إذا جاء { مَا عَلَوْاْ } مفعول ليتبروا ، أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه . أو بمعنى : مدة علوّهم .

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

{ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي { وَإِنْ عُدتُّمْ } مرة ثالثة { عُدْنَا } إلى عقوبتكم وقد عادوا ، فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم وعن الحسن : عادوا فبعث الله محمداً ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وعن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب ، فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة { حَصِيرًا } محبساً يقال للسجن محصر وحصير . وعن الحسن : بساطاً كما يبسط الحصير المرمول .

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)

{ لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها . أو للملة . أو للطريقة . وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه . وقرىء : «ويبشر» ، بالتخفيف ، فإن قلت : كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت : كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي ، وإما مشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك . فإن قلت : علام عطف { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } ؟ قلت : على { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } على معنى : أنه بشر المؤمنين ببشارتين اثنتين : بثوابهم ، وبعقاب أعدائهم ويجوز أن يراد : ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون .

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)

أي : ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله ، كما يدعوه لهم بالخير ، كقوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } [ يونس : 11 ] . { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله ، لا يتأنى فيه تأني المتبصر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 603 ) أنه دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً ، فأقبل يئن بالليل ، فقالت له : مالك تئن؟ فشكا ألم القدّ ، فأرخت من كتافه ، فلما نامت أخرج يده وهرب ، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه ، فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم اقطع يديها» فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة ، وأن يقطع الله يديها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلتردّ سودة يديها " ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر ، وأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل به ، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدّة . { وكان الإنسان عجولاً } : يعني أن العذاب آتيه لا محالة ، فما هذا الاستعجال ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو النضر بن الحرث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية ، فأجيب له ، فضربت عنقه صبراً .

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)

فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما ، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين ، كإضافة العدد إلى المعدود ، أي : فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة . والثاني : أن يراد : وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، يريد الشمس والقمر . { فمحونا آية الليل } : أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلماً ، لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحوّ ، وجعلنا النهار مبصراً أي تبصر فيه الأشياء وتستبان . أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعاً كشعاع الشمس ، فترى به الأشياء رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبّكُمْ } لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم والتصرف في معايشكم { وَلِتَعْلَمُواْ } باختلاف الجديدين { عَدَدَ السنين و } جنس { الحساب } وما يحتاجون إليه منه ولولا ذلك لما علم أحد حسبان الأوقات ، ولتعطلت الأمور { وَكُلَّ شىْءٍ } مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم { فصلناه } بيناه بياناً غير ملتبس ، فأزحنا عللكم ، وما تركنا لكم حجة علينا .

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)

{ طائره } عمله وقد حققنا القول فيه في سورة النمل . وعن ابن عيينة : هو من قولك : طار له سهم ، إذا خرج ، يعني : ألزمناه ما طار من عمله . والمعنى أنّ عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه ، ومنه مثل العرب : تقلدها طوق الحمامة . وقولهم : الموت في الرقاب . وهذا وبقة في رقبته . عن الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك . وقرىء : «في عنقه» بسكون النون . وقرىء : «نخرج» بالنون . «ويخرج» بالياء ، والضمير لله عز وجل «ويخرج» ، على البناء للمفعول . ويخرج من خرج ، والضمير للطائر . أي : يخرج الطائر كتاباً ، وانتصاب { كتابا } على الحال . وقرىء : «يلقَّاه» ، بالتشديد مبنيا للمفعول . و { يلقاه مَنْشُوراً } صفتان للكتاب . أو { يلقاه } صفة و { مَنْشُوراً } حالٌ من يلقاه { اقرأ } على إرادة القول . وعن قتادة : يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئاً . و { بِنَفْسِكَ } فاعل كفى . و { حَسِيباً } تمييز وهو بمعنى حاسب كضريب القداح بمعنى ضاربها وصريم بمعنى صارم ذكرهما سيبويه . وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا . ويجوز أن يكون بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد فعدّي بعلى لأنّ الشاهد يكفي المدعي ما أهمه . فإن قلت : لم ذكر حسيباً؟ قلت : لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير؛ لأنّ الغالب أنّ هذه الأمور يتولاها الرجال ، فكأنه قيل : كفى بنفسك رجلاً حسيباً . ويجوز أن يتأوّل النفس بالشخص ، كما يقال : ثلاثة أنفس . وكان الحسن إذا قرأها قال : يا ابن آدم ، أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك .

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)

أي : كل نفس حاملة وزراً ، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ } وما صحّ منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب قوماً إلا بعد أن { نَبْعَثَ } إليهم { رَسُولاً } فتلزمهم الحجة . فإن قلت : الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل ، لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله ، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه ، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ، وكفرهم لذلك ، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف ، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان . قلت : بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة ، لئلا يقولوا : كنا غافلين فلو لا بعث إلينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل .

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)

{ وَإِذَا أَرَدْنَا } وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل ، أمرناهم { فَفَسَقُواْ } أي أمرناهم بالفسق ففعلوا ، والأمر مجاز : لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبرّ ، كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على الخير والشرّ ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق ، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمّرهم . فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز ، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه ، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه ، وهو كلام مستفيض ، يقال : أمرته فقام؛ وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدّر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم على هذا قولهم : أمرته فعصاني ، أو فلم يمتثل أمري . لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي؛ لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به ، وكأنه يقول : كان مني أمر فلم تكن منه طاعة ، كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع ، ويأمر وينهى ، غير قاصد إلى مفعول . فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير ، دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت : لا يصحّ ذلك؛ لأن قوله { فَفَسَقُواْ } يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدعي إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه ، ونظير { أَمْرٍ } شاء : في أن مفعوله استفاض فيه الحذف ، لدلالة ما بعده عليه ، تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك . تريد : لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة ، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة ، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة - لم تكن على سداد . وقد فسر بعضهم { أَمْرُنَا } بكثرنا ، وجعل أمرته فأمر من باب فعلته ففعل . كثبرته فثبر . وفي الحديث :
( 604 ) « خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة » أي كثيرة النتاج وروي :
( 605 ) أن رجلاً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أرى أمرك هذا حقيراً فقال صلى الله عليه وسلم : إنه سيأمر . أي سيكثر وسيكبر .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)

وقرىء : «آمرنا» من أمر وأمره غيره . «وأمّرنا» بمعنى أمرنا . أو من أمر إمارة ، وأمره الله . أي : جعلناهم أمراء وسلطناهم { كَمْ } مفعول { أَهْلَكْنَا } و { مّنَ القرون } بيان لكم وتمييز له ، كما يميز العدد بالجنس . يعني عادا وثموداً وقرونا بين ذلك كثيراً . ونبه بقوله { وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا } على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير ، وأنه عالم بها ومعاقب عليها .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)

من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة ، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد ، فقيد الأمر تقييدين ، أحدهما : تقييد المعجل بمشيئته . والثاني : تقييد المعجل له بإرادته ، وهكذا الحال : ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه وكثيراً منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه ، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة ، وأمّا المؤمن التقي فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة ، فما يبالي : أوتي حظاً من الدنيا أو لم يؤت فإن أوتي فبها وإلا فربما كان الفقر خيراً له وأعون على مراده . وقوله { لِمَن نُّرِيدُ } بدل من له ، وهو بدل البعض من الكل : لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو في معنى الكثرة . وقرىء : «يشاء» وقيل : الضمير لله تعالى ، فلا فرق إذاً بين القراءتين في المعنى ويجوز أن يكون للعبد ، على أنّ للعبد ما يشاء من الدنيا . وأن ذلك لواحد من الدهماء يريد به الله ذلك . وقيل : هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة ، كالمنافق ، والمرائي ، والمهاجر للدنيا ، والمجاهد للغنيمة والذكر ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
( 606 ) " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " { مَّدْحُورًا } مطروداً من رحمة الله { سَعْيَهَا } حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة . اشترط ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً : إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور ، والسعي فيما كلف من الفعل والترك . والإيمان الصحيح الثابت . وعن بعض المتقدّمين : من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ، ونية صادقة ، وعمل مصيب . وتلا هذه الآية . وشكر الله : الثواب على الطاعة .

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)

{ كُلاًّ } كل واحد من الفريقين ، والتنوين عوض من المضاف إليه { نُّمِدُّ } هم : نزيدهم من عطائنا ، ونجعل الآنف منه مدداً للسالف لا نقطعه . فنرزق المطيع والعاصي جميعاً على وجه التفضل { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ } وفضله { مَحْظُورًا } أي ممنوعاً ، لا يمنعه من عاص لعصيانه .

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)

{ انظر } بعين الاعتبار { كَيْفَ } جعلناهم متفاوتين في التفضل . وفي الآخرة التفاوت أكبر ، لأنها ثواب وأعواض وتفضل ، وكلها متفاوتة . وروي أن قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه ، فخرج الإذن لبلال وصهيب ، فشق على أبي سفيان ، فقال سهيل بن عمرو : إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة . ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر . وقرىء : «وأكثر تفضيلاً» ، وعن بعضهم : «أيها المباهي» بالرفع منك في مجالس الدنيا «أما ترغب في المباهاة» بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)

{ فَتَقْعُدَ } من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت ، كأنها حربة بمعنى صارت ، يعني : فتصير جامعاً على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك ، والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكاً له .

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)

{ وقضى رَبُّكَ } وأمر أمراً مقطوعاً به { أَلاَّ تَعْبُدُواْ } أن مفسرة ولا تعبدوا نهي . أو بأن لا تعبدوا { وبالوالدين إحسانا } وأحسنوا بالوالدين إحساناً . أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً وقرىء : «وأوصى» وعن ابن عباس رضي الله عنهما : «ووصى» . وعن بعض ولد معاذ بن جبل : وقضاء ربك . ولا يجوز أن يتعلق الباء في بالوالدين بالإحسان : لأن المصدر لا يتقدّم عليه صلته { إِمَّا } هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» تأكيداً لها ، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل ، ولو أفردت «إن» لم يصح دخولها ، لا تقول : إن تكرمن زيداً يكرمك ، ولكن إما تكرمنه . و { أَحَدُهُمَا } فاعل يبلغنّ ، وهو فيمن قرأ «يبلغان» بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين و { كِلاَهُمَا } عطف على أحدهما فاعلاً وبدلاً . فإن قلت : لو قيل إما يبلغان كلاهما ، كان كلاهما توكيداً لا بدلا ، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين ، فانتظم في حكمه ، فوجب أن يكون مثله . فإن قلت : ما ضرّك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاً ، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية لقيل : كلاهما ، فحسب ، فلما قيل : أحدهما أو كلاهما ، علم أنّ التوكيد غير مراد ، فكان بدلاً مثل الأول { أُفٍّ } صوت يدل على تضجر . وقرىء : «أف» بالحركات الثلاث منوناً وغير منون : الكسر على أصل البناء ، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كثم ، والضم إتباع كمنذ . فإن قلت : ما معنى عندك؟ قلت : هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه ، وذلك أشق عليه وأشدّ احتمالاً وصبراً ، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة ، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال ، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما : أف ، فضلاً عما يزيد عليه . ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ، ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً ، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته ، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في استطاعة { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك . والنهي والنهر والنهم : أخوات { وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيمًا } جميلاً ، كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة . وقيل : هو أن يقول : يا أبتاه ، يا أماه ، كما قال إبراهيم لأبيه : ياأبت ، مع كفره ، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفا وسوء الأدب وعادة الدعار . قالوا : ولا بأس به في غير وجهه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : نحلني أبو بكر كذا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20