كتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

{ ياأيتها النفس } على إرادة القول ، أي : يقول الله للمؤمن : { ياأيتها النفس } إمّا أن يكلمه إكراماً له كما كلم موسى صلوات الله عليه ، أو على لسان ملك . و { المطمئنة } الآمنة التي لا يستفزّها خوف ولا حزن ، وهي النفس المؤمنة أو المطمئنة إلى الحق التي سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك ، ويشهد للتفسير الأوّل ، قراءة أبيّ بن كعب : «يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة» فإن قلت : متى يقال لها ذلك؟ قلت : إمّا عند الموت . وإمّا عند البعث ، وإمّا عند دخول الجنة . على معنى : ارجعي إلى موعد ربك { رَّاضِيَةٍ } بما أوتيت { مَّرْضِيَّةً } عند الله { فادخلى فِى عِبَادِى } في جملة عبادي الصالحين ، وانتظمي في سلكهم { وادخلى جَنَّتِى } معهم ، وقيل : النفس الروح . ومعناه : فادخلي في أجساد عبادي . وقرأ ابن عباس : «فادخلي في عبدي» ، وقرأ ابن مسعود : «في جسد عبدي» . وقرأ أبيّ : «ائتي ربك راضية مرضية ، ادخلي في عبدي» وقيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب . وقيل : في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك ، فحوّل الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله ، والظاهر العموم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1301 ) " من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نوراً يوم القيامة " .

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)

أقسم الله سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق والشدائد؛ واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد ( 2 ) } يعني : ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم . عن شرحبيل : يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ، ويستحلون إخراجك وقتلك وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالقسم ببلده ، على أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد؛ واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه . فقال : وأنت حلّ بهذا البلد ، يعني : وأنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر . وذلك أنّ الله فتح عليه مكة وأحلّها له ، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلّت له فأحلّ ما شاء وحرّم ما شاء . قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة . ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرّم دار أبي سفيان ، ثم قال :
( 1302 ) « إنّ الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلاّ ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ، ولا يختلي خلاها ، ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد » فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم : « إلاّ الإذخر » فإن قلت : أين نظير قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ } في معنى الاستقبال؟ قلت : قوله عزّ وجل : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ومثله واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع؛ لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة . وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال : أن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة عن وقت نزولها ، فما بال الفتح؟ فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولده ، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه إبراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل ، وبمن ولده وبه . فإن قلت : لم نكر؟ قلت : للإبهام المستقل بالمدح والتعجب . فإن قلت : هلا قيل ومن ولد؟ قلت : فيه ما في قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] أي : بأي شيء وضعت ، يعني موضوعاً عجيب الشأن . وقيل : هما آدم وولده . وقيل : كل والد وولد .
والكبد : أصله من قولك : كبد الرجل كبداً ، فهو أكبد : إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة .

ومنه اشتقت المكابدة ، كما قيل : كبته بمعى أهلكه . وأصله : كبده ، إذا أصاب كبده . قال لبيد :
يَا عَيْنُ هَلاَّ بكيتِ أَرْبَدَ إذْ ... قُمْنَا وَقَامَ الْخُصُومُ فِي كَبَدِ
أي : في شدة الأمر وصعوبة الخطب .
والضمير في { أَيَحْسَبُ } لبعض صناديد قريش الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد . والمعنى : أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتضعف للمؤمنين : أن لن تقوم قيامة ، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه ، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم ، وأنه يقول : { أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ، ويدعونها معالي ومفاخر { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) } حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس وافتخاراً بينهم ، يعني : أن الله كان يراه وكان عليه رقيباً . ويجوز أن يكون الضمير للإنسان ، على أن يكون المعنى : أقسم بهذا البلد الشريف ، ومن شرفه أنك حلّ به مما يقترفه أهله من المآثم متحرج برىء ، فهو حقيق بأن أعظمه بقسمي به { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ ( 4 ) } أي : في مرض : وهو مرض القلب وفساد الباطن ، يريد : الذين علم الله منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات . وقيل : الذي يحسب أن لن يقدر عليه أحد : هو أبو الأشد ، وكان قوياً يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فلا ينزع إلاّ قطعاً ويبقى موضع قدميه . وقيل : الوليد بن المغيرة «لبدا» قرىء بالضم والكسر : جمع لبدة ولبدة ، وهو ما تلبد يريد الكثرة : وقرىء : «لبداً» بضمتين : جمع لبود . ولبدا : بالتشديد جمع لا بد .

أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)

{ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) } يبصر بهما المرئيات { وَلِسَاناً } يترجم به عن ضمائره { وَشَفَتَيْنِ } يطبقهما على فيه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك { وهديناه النجدين } أي : طريقي الخير والشر . وقيل : الثديين { فَلاَ اقتحم العقبة } يعني : فلم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة : من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين ، ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة ، وأساس كل خير؛ بل غمط النعم وكفر بالمنعم . والمعنى : أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضي النافع عند الله ، لا أن يهلك مالاً لبداً في الرياء والفخار ، فيكون مثله { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ . . . } [ آل عمران : 117 ] الآية . فإن قلت : قلما تقع «لا» الداخلة على الماضي إلاّ مكرره ، ونحو قوله :
فَأَيُّ أَمْرٍ سَيِّىءٍ لاَ فَعَلَه ... لا يكاد يقع ، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ قلت : هي متكرّرة في المعنى؛ لأن معنى { فَلاَ اقتحم العقبة ( 11 ) } فلا فكّ رقبة ، ولا أطعم مسكيناً . ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك . وقال الزجاج قوله : ( ثم كان من الذين أمنوا ) يدل على معنى : { فَلاَ اقتحم العقبة ( 11 ) } ، ولا آمن . والاقتحام : الدخول والمجاوزة بشدّة ومشقة . والقحمة : الشدة ، وجعل الصالحة : عقبة ، وعملها : اقتحاماً لها ، لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس . وعن الحسن : عقبة والله شديدة . مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدّوه الشيطان . وفكّ الرقبة : تخليصها من رق أو غيره . وفي الحديث :
( 1303 ) أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دلني على عمل يدخلني الجنة . فقال : " تعتق النسمة وتفك الرقبة " قال : أو ليسا سواء؟ قال : " لا ، إعتاقها أن تنفرد بعتقها . وفكها : أن تعين في تخليصها . من قود أو غرم " والعتق والصدقة : من أفاضل الأعمال . وعن أبي حنيفة رضي الله عنه : أن العتق أفضل من الصدقة . وعند صاحبيه : الصدقة أفضل والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقديم العتق الصدقة وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة : أيضعه في ذي قرابة ، أو يعتق رقبة؟ قال : الرقبة أفضل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( 1304 ) " من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضواً منه من النار " قرىء : «فك رقبة أو إطعام» على : هي فك رقبة ، أو إطعام . وقرىء : «فك رقبة» أو أطعم ، على الإبدال من اقتحم العقبة . وقوله : { وَمآ أَدْرَاكَ مَا العقبة ( 12 ) } اعتراض ، ومعناه : أنك لم تدرِكُنْهَ صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله . والمسغبة ، والمقربة ، والمتربة : مفعلات من سغب : إذا جاع . وقرب في النسب ، يقال : فلان ذو قرابتي . وذو مقربتي . وترب : إذا افتقر ، ومعناه . التصق بالتراب . وأما أترب فاستغنى ، أي : صار ذا مال كالتراب في الكثرة ، كما قيل : أثري .
( 1305 ) وعن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { ذَا مَتْرَبَةٍ } الذي مأواه المزابل ، ووصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم : هم ناصب : ذو نصب . وقرأ الحسن : «ذا مسغبة» نصبه بإطعام . ومعناه : أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة .

ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءَامَنُواْ } جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة ، لا في الوقت؛ لأن الإيمان هو السابق المقدّم على غيره ، ولا يثبت عمل صالح إلاّ به . والمرحمة : الرحمة ، أي : أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه . أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن ، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين . أو بما يؤدي إلى رحمة الله . الميمنة والمشأمة : اليمين والشمال . أو اليمن والشؤم ، أي : الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهنّ . قرىء : «موصدة» بالواو والهمزة ، من وصدت الباب وآصدته : إذا أطبقته وأغلقته . وعن أبي بكر بن عياش : لنا إمام يهمز مؤصدة؛ فأشتهي أن أسدّ أذني إذا سمعته .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1306 ) " من قرأ لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة " .

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)

ضحاها : ضؤوها إذا أشرقت وقام سلطانها؛ ولذلك قيل : وقت الضحى ، كأن وجهه شمس الضحى . وقيل : الضحوة ارتفاع النهار . والضحى فوق ذلك . والضحاء بالفتح والمد : إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف { إِذَا تلاها } طالعاً عند غروبها آخذاً من نورها؛ وذلك في النصف الأوّل من الشهر . وقيل : إذا استدار فتلاها في الضياء والنور { إِذَا جلاها } عند انتفاخ النهار وانبساطه ، لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء . وقيل : الضمير للظلمة ، أو للدنيا ، أو للأرض ، وإن لم يجر لها ذكر ، كقولهم : أصبحت باردة : يريدون الغداة ، وأرسلت : يريدون السماء إذا يغشاها ، فتغيب وتظلم الآفاق ، فإن قلت : الأمر في نصب «إذا» معضل : لأنك لا تخلو إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر ، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك : مررت أمس بزيد ، واليوم عمرو . وإما أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه . قلت : الجواب فيه أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحاً كلياً ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر ، فكانت الواو قائمة مقام الفعل والباء سادّة مسدهما معاً ، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو ، فحققن أن يكن عوامل على الفعل والجار جميعاً ، كما تقول : ضرب زيد عمراً ، وبكر خالداً؛ فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما . جعلت «ما» مصدرية في قوله : { وَمَا بناها } { وَمَا طحاها } { وَمَا سَوَّاهَا } وليس بالوجه لقوله : { فَأَلْهَمَهَا } وما يؤدي إليه من فساد النظم ، والوجه أن تكون موصولة ، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء ، والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس ، والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها ، وفي كلامهم : سبحان ما سخركن لنا . فإن قلت : لم نكرت النفس؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يريد نفساً خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم ، كأنه قال : وواحدة من النفوس . والثاني : أن يريد كل نفس وينكر للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ التكوير : 14 ] . ومعنى إلهام الفجور والتقوى : إفهامهما وإعقالهما ، وأنّ أحدهما حسن والآخر قبيح ، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها ( 9 ) وَقَدْ خَابَ مَن دساها ( 10 ) } فجعله فاعل التزكية ، والتدسية ومتوليهما والتزكية : الإنمار والإعلاء بالتقوى . والتدسية : النقص والإخفاء بالفجوز . وأصل دسى : دسس ، كما قيل في تقضض : تقضى . وسئل ابن عباس عنه فقال : أتقرأ : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } ، [ الأعلى : 14 ] { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [ طه : 111 ] . وأما قول من زعم أنّ الضمير في زكّى ودسى لله تعالى ، وأنّ تأنيث الراجع إلى ( من ) لأنه في معنى النفس : فمن تعكيس القدرية الذين يورّكون على الله قدراً هو بريء منه ومتعال عنه ، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشة ينسبونها إليه ، فإن قلت : فأين جواب القسم؟ قلت : هو محذوف تقديره : ليدمدمنّ الله عليهم ، أي : على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً . وأما { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها ( 9 ) } فكلام تابع لقوله : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( 8 ) } على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء .

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

الباء في { بِطَغْوَاهَا } مثلها في : كتبت بالقلم . والطغوى من الطغيان : فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء ، بأن قلبوا الياء واواً في الاسم ، وتركوا القلب في الصفة ، فقالوا : امرأة خزيا وصديا ، يعني : فعلت التكذيب بطغيانها ، كما تقول : ظلمني بجرءته على الله . وقيل : كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى كقوله : { فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } [ الحاقة : 5 ] ، وقرأ الحسن : «بطغواها» بضم الطاء كالحسنى والرجعى في المصادر { إِذِ انبعث } منصوب بكذبت . أو بالطغوى . و { أشقاها } قدار بن سالف . ويجوز أن يكونوا جماعة ، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وكان يجوز أن يقال : أشقوها ، كما تقول : أفاضلهم . والضمير في { لَهُمْ } يجوز أن يكون للأشقين والتفضيل في الشقاوة ، لأنّ من تولى العقر وباشره كانت شقاوته أظهر وأبلغ . و { نَاقَةَ الله } نصب على التحذير ، كقولك الأسد الأسد ، والصبي الصبي ، بإضمار : ذروا أو أحذروا عقرها { وسقياها } فلا تزووها عنها ، ولا تستأثروا بها عليها { فَكَذَّبُوهُ } فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا { فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ } فأطلق عليهم العذاب ، وهو من تكرير قولهم : ناقة مدمومة : إذا ألبسها الشحم { بِذَنبِهِمْ } بسبب ذنبهم . وفيه إنذار عظيم بعاقبه الذنب ، فعلى كل مذنب أن يعتبر ويحذر { فَسَوَّاهَا } الضمير للدمدمة ، أي : فسوّاها بينهم لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم { وَلاَ يَخَافُ عقباها ( 15 ) } أي : عاقبتها وتبعتها؛ كما يخاف كل معاقب من الملوك فيبقى بعض الإبقاء . ويجوز أن يكون الضمير لثمود على معنى : فسواها بالأرض . أو في الهلاك ، ولا يخاف عقبى هلاكها . وفي مصاحف أهل المدينة والشأم : فلا يخاف . وفي قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ولم يخف .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1307 ) " من قرأ سورة الشمس ، فكأنما تصدّق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر " .

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)

المغشي : إما الشمس من قوله : { واليل إِذَا يغشاها } [ الشمس : 4 ] وإما النهار من قوله : { يغشي الليل النهار } [ الرعد : 3 ] وإما كلّ شيء يواريه بظلامه من قوله : { إِذَا وَقَبَ } [ الفلق : 3 ] . { تجلى } ظهر بزوال ظلمة الليل . أو تبين وتكشف بطلوع الشمس { وَمَا خَلَقَ } والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد ، وقيل : هما آدم عليه السلام وحواء . وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : «والذكر والأنثى» . وقرأ ابن مسعود : «والذي خلق الذكر والأنثى» . وعن الكسائي : «وما خلق الذكر والأنثى بالجرّ على أنه بدل من محل { مَا خَلَقَ } بمعنى : وما خلقه الله ، أي : ومخلوق الله الذكر والأنثى . وجاز إضمار اسم الله لأنه معلوم لانفراده بالخلق . إذ لا خالق سواه . وقيل : إنّ الله لم يخلق خلقاً من ذوي الأرواح ليس بذكر ولا أنثى . والخنثى ، وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله غير مشكل ، معلوم بالذكورة أو الأنوثة؛ فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكراً ولا أنثى ، وقد لقى خنثى مشكلاً : كان حانثاً؛ لأنه في الحقيقة إمّا ذكراً أو أنثى ، وإن كان مشكلاً عندنا { شتى } جمع شتيت ، أي : إنّ مساعيكم أشتات مختلفة ، وبيان اختلافها فيما فصل على أثره .

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)

{ أعطى } يعني حقوق ماله { واتقى } الله فلم يعصه { وَصَدَّقَ بالحسنى ( 6 ) } بالخصلة الحسنى : وهي الإيمان . أو بالملة الحسنى : وهي ملة الإسلام ، أو بالمثوبة الحسنى : وهي الجنة { فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى ( 7 ) } فسنهيؤه لها من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها . ومنه قوله عليه السلام :
( 1308 ) « كل ميسر لما خلق له » والمعنى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه وأهونها ، من قوله : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } [ الأنعام : 125 ] .

وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)

{ واستغنى } وزهد فيما عند الله كأنه مستغن عنه فلم يتقه . أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة ، لأنه في مقابلة { واتقى } . { فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } فسنخذله ونمنعه الألطاف ، حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشدّه ، من قوله : { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السماء } [ الأنعام : 125 ] أو سمى طريقة الخير باليسرى ، لأنّ عاقبتها اليسر؛ وطريقة الشرّ العسرى ، لأن عاقبتها العسر . أو أراد بهما طريقي الجنة والنار ، أي : فسنهديهما في الآخرة للطريقين . وقيل : نزلتا في أبي بكر رضي الله عنه ، وفي أبي سفيان بن حرب { وَمَا يُغْنِى عَنْهُ } استفهام في معنى الإنكار . أو نفي { تردى } تفعل من الردى وهو الهلاك ، يريد : الموت . أو تردّى في الحفرة إذا قبر ، أو تردّى في قعر جهنم .

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)

{ إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل وبيان الشرائع { وَإِنَّ لَنَا لَلاَّخِرَةَ والأولى } أي : ثواب الدّارين للمهتدي ، كقوله : { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [ العنكبوت : 27 ] .

فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

وقرأ أبو الزبير : «تتلظى» فإن قلت : كيف قال : { لاَ يصلاها إِلاَّ الاشقى . . . . . . وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى ( 17 ) } ؟ وقد علم أنّ كل شقيّ يصلاها ، وكل تقي يجنبها ، لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء ، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد ناراً بعينها مخصوصة بالأشقى ، فما تصنع بقوله : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى ( 17 ) } ؟ فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة ، لا الأتقى منهم خاصة؟ قلت : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل : الأشقى ، وجعل مختصاً بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلاّ له . وقيل : الأتقى ، وجعل مختصاً بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلاّ له . وقيل : هما أبو جهل أو أمية بن خلف ، وأبو بكر رضي الله عنه { يتزكى } من الزكاء . أي : يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، لا يريد به رياء ولا سمعة . أو يتفعل من الزكاة . فإن قلت : ما محل يتزكى؟ قلت : هو على وجهين : إن جعلته بدلاً من { يُؤْتِى } فلا محل له؛ لأنه داخل في حكم الصلة ، والصلات لا محل لها وإن جعلته حالاً من الضمير من { يُؤْتِى } فمحله النصب { ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ } مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أي : ما لأحد عنده نعمة إلاّ ابتغاء وجه ربه ، كقولك : ما في الدار أحد إلاّ حماراً . وقرأ يحيى بن وثاب : «إلا ابتغاء وجه ربه» بالرفع : على لغة من يقول : ما في الدار أحد ألا حمار وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي حازم :
أَضْحَتْ خَلاءً قِفَاراً لاَ أَنِيسَ بِهَا ... إلاّ الْجَآذِرُ وَالظّلْمَانُ تَخْتَلِفُ
وقول القائل :
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إلاَّ الْيَعَافِيرُ وَإلاَّ الْعَيسُ
ويجوز أن يكون { ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ } مفعولاً له على المعنى ، لأنّ معنى الكلام : لا يؤتي ماله إلاّ ابتغاء وجه ربه ، لا لمكافأة نعمة { وَلَسَوْفَ يرضى ( 21 ) } موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه .
وعن رسول صلى الله عليه وسلم :
( 1309 ) " من قرأ سورة والليل ، أعطاه الله حتى يرضى ، وعافاه من العسر ويسر له اليسر " .

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)

المراد بالضحى : وقت الضحى ، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي شعاعها . وقيل : إنما خصّ وقت الضحى بالقسم ، لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام ، وألقي فيها السحرة سجداً ، لقوله : { وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } [ طه : 59 ] وقيل : أريد بالضحى : النهار ، بيانه قوله : { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى } [ الأعراف : 98 ] في مقابلة ( بياتاً ) . { سجى } سكون وركد ظلامه . وقيل : ليلة ساجية ساكنة الريح . وقيل معناه : سكن الناس والأصوات فيه . وسجا البحر : سكنت أمواجه . وطرف ساج : ساكن فاتر «ما ودّعك» جواب القسم . ومعناه : ما قطعك قطع المودع . وقرىء بالتخفيف ، يعني : ما تركك . قال :
وَثَمَّ وَدَعْنَا آلَ عَمْرٍو وَعَامِرٍ ... فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ
والتوديع : مبالغة في الودع؛ لأنّ من ودّعك مفارقاً فقد بالغ في تركك . روى :
( 1310 ) أنّ الوحي قد تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً ، فقال المشركون : إنّ محمداً ودعه ربه وقلاه . وقيل :
( 1311 ) إنّ أم جميل امرأة أبي لهب قالت له : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلاّ قد تركك ، فنزلت . حذف الضمير من قلى } كحذفه من ( الذاكرات ) في قوله : { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] يريد : والذاكراته ونحوه : ( فآوى . . . فهدى . . . فأغنى ) وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف .

وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)

فإن قلت : كيف اتصل قوله : { وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى ( 4 ) } بما قبله؟ قلت : لما كان في ضمن نفي التوديع والقلي : أنّ الله مواصلك بالوحي إليك ، وأنك حبيب الله ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ولا نعمة أجلّ منه : أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل ، وهو السبق والتقدّم على جميع أنبياء الله ورسله ، وشهادة أمته على سائر الأمم ، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته ، وغير ذلك من الكرامات السنية { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } موعد شامل لما أعطاه الله في الدنيا من الفلج والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ، ودخول الناس في الدين أفواجاً ، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم ، وبثّ عساكره وسراياه في بلاد العرب ، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة وأنهبهم من كنوز الأكاسرة ، وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام ، وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين ، ولما ادّخر له من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلاّ الله . قال ابن عباس رضي لله عنهما : له في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك . فإن قلت : ما هذه اللام الداخلة على سوف؟ قلت : هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف . تقديره : ولأنت سوف يعطيك ، كما ذكرنا في : لا أقسم ، أن المعنى : لأنا أقسم؛ وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم أو ابتداء فلام القسم لا تدخل على المضارع إلاّ مع نون التأكيد ، فبقي أن تكون لام ابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل إلاّ على الجملة من المبتدأ والخبر ، فلا بد من تقدير مبتدإ وخبر ، وأن يكون أصله : ولأنت سوف يعطيك . فإن قلت : ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير؟ قلت : معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخّر ، لما في التأخير من المصلحة .

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)

عدّد عليه نعمه وأياديه ، وأنه لم يخله منها من أوّل تربيه وابتداء نشئه ، ترشيحاً لما أراد به؛ ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه ، لئلا يتوقع إلاّ الحسنى وزيادة الخير والكرامة : ولا يضيق صدره ولا يقل صبره . و { أَلَمْ يَجِدْكَ } من الوجود الذي بمعنى العلم : والمنصوبان مفعولاً وجد . والمعنى : ألم تكن يتيماً ، وذلك أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر وماتت أمّه ، وهو ابن ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب ، وعطّفه الله عليه فأحسن تربيته . ومن بدع التفاسير : أنه من قولهم : «درّة يتيمة» وأن المعنى : ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك . وقرىء : «فآوى» وهو على معنيين : إما من أواه بمعنى آواه . سمع بعض الرعاة يقول : أين آوي هذه الموقسة وإما من أوى له : إذا رحمه { ضَآلاًّ } معناه الضلال عن علم الشرائع وما طريقه السمع ، كقوله : { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب } [ الشورى : 52 ] . وقيل : ضل في صباه في بعض شعاب مكة ، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب . وقيل : أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب . وقيل : ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب ، فهداك : فعرفك القرآن والشرائع . أو فأزال ضلالك عن جدك وعمك . ومن قال : كان على أمر قومه أربعين سنة ، فإن أراد أنه كان على خلوّهم عن العلوم السمعية ، فنعم؛ وإن أراد أنه كان على دينهم وكفرهم ، فمعاذ الله؛ والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوّة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة ، فما بال الكفر والجهل بالصانع { مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَىْء } [ يوسف : 38 ] وكفى بالنبي نقيصه عند الكفار أن يسبق له كفر { عَآئِلاً } فقيراً . وقرىء : «عيلاً» كما قرىء : سيحات . وعديماً { فأغنى } فأغناك بمال خديجة . أو بما أفاء عليك من الغنائم . قال عليه الصلاة السلام :
( 1312 ) " جعل رزقي تحت ظلّ رمحي " وقيل : قنعك وأغنى قلبك» .

فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

{ فَلاَ تَقْهَرْ } فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه . وفي قراءة ابن مسعود : «فلا تكهر» وهو أن يعبس في وجهه . وفلان ذو كهرورة : عابس الوجه . ومنه الحديث :
( 1313 ) " فبأبي وأمي هو ، ما كهرني " النهر ، والنهم : الزجر . عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1314 ) " إذا رردت السائل ثلاثاً فلا يرجع ، فلا عليك أن تزبره " وقيل : أما إنه ليس بالسائل المستجدي ، ولكن طالب العلم : إذا جاء فلا تنهره . التحديث بنعمة الله : شكرها وإشاعتها ، يريد : ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك . وعن مجاهد : بالقرآن ، فحدّث : أقرئه ، وبلغ ما أرسلت به . وعن عبد الله بن غالب أنه كان إذا أصبح يقول : رزقني الله البارحة خيراً : قرأت كذا وصليت كذا ، فإذا قيل له : يا أبا فراس مثلك يقول مثل هذا؟ قال : يقول الله تعالى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } وأنتم تقولون : لا تحدث بنعمة الله . وإنما يجوز مثل هذا إذا قصد به اللطف ، وأن يقتدي به غيره ، وأمن على نفسه الفتنة . والستر أفضل . ولو لم يكن فيه إلاّ التشبه بأهل الرياء والسمعة : لكفي به . وفي قراءة علي رضي الله عنه : «فخبر» والمعنى : أنك كنت يتيماً ، وضالاً وعائلاً ، فآواك الله ، وهداك : وأغناك؛ فمهما يكن من شيء وعلى ما خيلت فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث . واقتد بالله ، فتعطف على اليتيم وآوه ، فقد ذقت اليتم وهوانه ، ورأيت كيف فعل الله بك؛ وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك ، كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر؛ وحدّث بنعمة الله كلها ، ويدخل تحته هدايته الضلال ، وتعليمه الشرائع والقرآن ، مقتدياً بالله في أن هداه من الضلال .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1315 ) " من قرإ سورة الضحى جعله الله فيمن يرضى لمحمد أن يشفع له وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم وسائل " .

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)

استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه ، فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك؛ ولذلك عطف عليه : وضعنا : اعتباراً للمعنى . ومعنى : شرحنا صدرك : فسحناه حتى وسع هموم النبوّة ودعوة الثقلين جميعاً . أو حتى احتمل المكاره التي يتعرض لك بها كفار قومك وغيرهم : أو فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم ، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل . وعن الحسن : مليء حكمة وعلماً . وعن أبي جعفر المنصور أنه قرأ : «ألم نشرح لك» بفتح الحاء . وقالوا : لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها ، فظنّ السامع أنه فتحها ، والوزر الذي أنقض ظهره - أي : حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله - مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغمّه من فرطاته قبل النبوّة . أو من جهله بالأحكام والشرائع . أو من تهالكه على إسلام أولي العناد من قومه وتلهفه . ووضعه عنه : أن غفر له ، أو علم الشرائع ، أو مهد عذره بعد ما بلغ وبلغ . وقرأ أنس : «وحللنا» حططنا . وقرأ ابن مسعود : «وحللنا عنك وقرك» . ورفع ذكره : أن قرن بذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب ، وفي غير موضع من القرآن { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } [ النساء : 13 ] ، { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ المائدة : 92 ] وفي تسميته رسول الله ونبيّ الله؛ ومنه ذكره في كتب الأولين ، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به ، فإن قلت : أيّ فائدة في زيادة لك ، والمعنى مستقل بدونه؟ قلت : في زيادة لك ما في طريقة الإبهام والإيضاح ، كأنه قيل : ألم نشرح لك ، ففهم أن ثم مشروحاً ، ثم قيل : صدرك ، فأوضح ما علم مبهما ، وكذلك { لَكَ ذِكْرَكَ } و { عَنكَ وِزْرَكَ } .

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)

فإن قلت : كيف تعلق قوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } بما قبله؟ قلت : كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة ، حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم ، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ( 5 ) } كأنه قال : خوّلناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله ، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً . فإن قلت : { إِنَّ مَعَ } للصحبة ، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟ قلت : أراد أن الله يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب ، فقرّب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر ، زيادة في التسلية وتقوية القلوب . فإن قلت : ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما : لن يغلب عسر يسرين وقد روي مرفوعاً :
( 1316 ) أنه خرج صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول : « لن يغلب عسر يسرين » قلت : هذا عمل على الظاهر ، وبناء على قوّه الرجاء ، وأن موعد الله لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ وأبلغه ، والقول في أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر قوله : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } [ الطور : 11 ] لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب ، وكما تكرر المفرد في قولك : جاءني زيد زيد ، وأن تكون الأولى عدّة بأنّ العسر مردوف بيسر لا محالة ، والثانية عدة مستأنفة بأنّ العسر متبوع بيسر ، فهما يسران على تقدير الاستئناف ، وإنما كان العسر واحداً لأنه لا يخلو ، إما أن يكون تعريفه للعهد ، وهو العسر الذي كانوا فيه ، فهو هو؛ لأنّ حكمه حكم زيد في قولك : إن مع زيد مالاً ، إن مع زيد مالاً . وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه لك كل أحد فهو هو أيضاً . وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس ، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرّر فقد تناول بعضاً غير البعض الأوّل بغير إشكال . فإن قلت : فما المراد باليسرين؟ قلت : يجوز أن يراد بهما ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم في أيام الخلفاء ، وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة ، كقوله تعالى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين } [ التوبة : 52 ] وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب . فإن قلت : فما معنى هذا التنكير؟ قلت : التفخيم ، كأنه قيل : إن مع العسر يسراً عظيماً وأيّ يسر ، وهو في مصحف ابن مسعود مرة واحدة . فإن قلت : فإذا ثبت في قراءته غير مكرر ، فلم قال : والذي نفسي بيده ، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنه لن يغلب عسر يسرين؟ قلت : كأنه قصد باليسرين : ما في قوله : { يُسْراً } من معنى التفخيم ، فتأوله بيسر الدارين ، وذلك يسران في الحقيقة .

فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

فإن قلت : فكيف تعلق قوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب ( 7 ) } بما قبله؟ قلت : لما عدد عليه نعمه السالفة ووعده الآنفة ، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها ، وأن يواصل بين بعضها وبعض ، ويتابع ويحرص على أن لا يخلي وقتاً من أوقاته منها ، فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى . وعن ابن عباس : فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء . وعن الحسن : فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة . وعن مجاهد : فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك . وعن الشعبي : أنه رأى رجلاً يشيل حجراً فقال : ليس بهذا أمر الفارغ ، وقعود الرجل فارغاً من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعينه في دينه أو دنياه : من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة ، ولقد قال عمر رضي الله عنه : إني لأكره أن أرى أحدكم فارغاً سهللاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة . وقرأ أبو السّمّال : فرغت - بكسر الراء - وليست بفصيحة . ومن البدع : ما روى عن بعض الرافضة أنه قرأ : «فانصب» بكسر الصاد ، أي : فانصب علياً للإمامة؛ ولو صحّ هذا للرافضي لصحّ للناصبي أن يقرأ هكذا ، ويجعله أمراً بالنصب الذي هو بغض عليّ وعداوته { وإلى رَبِّكَ فارغب ( 8 ) } واجعل رغبتك إليه خصوصاً ، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه . وقرىء : «فرغب» أي : رغب الناس إلى طلب ما عنده .
عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1317 ) " من قرأ ألم نشرح ، فكأنما جاءني وأنا مغتمّ ففرج عني " .

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين أصناف الأشجار المثمرة ، وروي :
( 1318 ) أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه : «كلوا ، فلو قلت إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه ، لأنّ فاكهة الجنة بلا عجم ، فكلوها . فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس» . ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيباً واستاك به وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( 1319 ) " نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة " وسمعته يقول : " هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي " وعن ابن عباس رضي الله عنه : هو تينكم هذا وزيتونكم . وقيل : جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانيّة : طورتينا وطورزيتا ، لأنهما منبتا التين والزيتون . وقيل : «التين» جبال ما بين حلوان وهمذان . و «الزيتون» جبال الشام ، لأنها منابتهما ، كأنه قيل : ومنابت التين والزيتون . وأضيف الطور : وهو الجبل ، إلى سنين : وهي البقعة . ونحو سينون ، يبرون ، في جواز الإعراب بالواو والياء ، والإقرار على الياء ، وتحريك النون بحركات الإعراب . والبلد : مكة حماها الله . والأمين : من أمن الرجل أمانة فهو أمين . وقيل : أمان ، كما قيل : كرّام في كريم . وأمانته : أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه . ويجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول ، من أمنه لأنه مأمون الغوائل ، كما وصف بالأمن في قوله تعالى : { حرماً ءامناً } [ القصص : 57 ] بمعنى ذي أمن : ومعنى القسم بهذه الأشياء : الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين . فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه ، والطور : المكان الذي نودي منه موسى . ومكة : مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه { فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية لأعضائه . ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية : أن رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً ، يعني : أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة ، وهم أصحاب النار أو أسفل من سفل من أهل الدركات . أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل : حيث نكسناه في خلقه ، فقوّس ظهره بعد اعتداله ، وابيض شعره بعد سواده ، وتشنن جلده وكان بضاً وكلَّ سمعه وبصره وكانا حديدين ، وتغير كل شيء منه : فمشيه دليف ، وصوته خفات ، وقوته ضعف ، وشهامته خرف وقرأ عبد الله : «أسفل السافلين» . فإن قلت : فكيف الاستثناء على المذهبين؟ قلت : هو على الأول متصل ظاهر الاتصال ، وعلى الثاني : منقطع . يعني : ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم .

فإن قلت : { فَمَا يُكَذّبُكَ } من المخاطب به؟ قلت : هو خطاب للإنسان على طريقة الالتفات ، أي : فما يجعلك كاذباً بسبب الدين وإنكاره بعد هذا الدليل ، يعني أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء ، لأنّ كل مكذب بالحق فهو كاذب ، فأيّ شيء يضطرك إلى أن تكون كاذباً بسبب تكذيب الجزاء . والباء مثلها في قوله تعالى : { الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم به مُّشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ] والمعنى : أنّ خلق الإنسان من نطفة ، وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي ، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر : لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق ، وأن من قدر من الإنسان على هذا كله : لم يعجز عن إعادته ، فما سبب تكذيبك أيها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع . وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين ( 8 ) } وعيد للكفار ، وأنه يحكم عليهم بما هم أهله . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1320 ) أنه كان إذا قرأها قال : « بلى وأنا على ذلك من الشاهدين »
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1321 ) « من قرأ سورة التين أعطاه الله خصلتين : العافية واليقين ما دام في دار الدنيا ، وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة » .

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)

عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم . محل { باسم رَبّكَ } النصب على الحال ، أي : اقرأ مفتتحاً باسم ربك ، قل : بسم الله ، ثم اقرأ . فإن قلت : كيف قال : { خَلَقَ } فلم يذكر له مفعولاً ، ثم قال : { خَلَقَ الإنسان } ؟ قلت : هو على وجهين : إما أن لا يقدّر له مفعول وأن يراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه . وإما أن يقدّر ويراد خلق كل شيء ، فيتناول كل مخلوق ، لأنه مطلق ، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض . وقوله : { خَلَقَ الإنسان } تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق؛ لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض . ويجوز أن يراد : الذي خلق الإنسان ، كما قال : { الرحمن عَلَّمَ القرءان خَلَقَ الإنسان } [ الرحمن : 1 - 2 - 3 ] فقيل : { الذى خَلَقَ } مبهماً ، ثم فسره بقوله : { خَلَقَ الإنسان } تفخيماً لخلق الإنسان . ودلالة على عجيب فطرته . فإن قلت : لم قال { مِنْ عَلَقٍ } على الجمع ، وإنما خلق من علقة ، كقوله : { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } ؟ [ غافر : 67 ] قلت : لأن الإنسان في معنى الجمع ، كقوله : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 2 ] . { الأكرم } الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كرم ، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى ، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي وإطراحهم الأوامر ، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم ، فما لكرمه غاية ولا أمد ، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم ، حيث قال : الأكرم { الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم ( 4 ) عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ( 5 ) } فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلاّ هو ، وما دوّنت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلاّ بالكتابة؛ ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا؛ ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره ودليل إلاّ أمر القلم والخط ، لكفى به . ولبعضهم في صفة القلم :
وَرَوَاقِمُ رُقْشٍ كَمِثْلِ أَرَاقِم ... قُطْفِ الْخُطَا نَيَّالَةٍ أَقْصَى المُدَى
سُودِ الْقَوَائِمِ مَا يَجِدُّ مِسِيرُهَا ... إلاَّ إذَا لَعِبَتْ بِهَا بِيضُ المُدَى
وقرأ ابن الزبير : «علم الخط بالقلم» .

كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

{ كَلاَّ } ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه ، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه { أَن رَّءاهُ } أن رأى نفسه . يقال : في أفعال القلوب : رأيتني وعلمتني ، وذلك بعض خصائصها . ومعنى الرؤية : العلم ، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين . و { استغنى } هو المعفول الثاني { إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى } واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان ، تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان . والرجعى : مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع . وقيل : نزلت في أبي جهل . وكذلك { أَرَءَيْتَ الذى ينهى ( 9 ) } وروي :
( 1322 ) أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتزعم أن من استغنى طغى ، فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهباً ، لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك ، فنزل جبريل فقال : إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة ، فكفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم . وروي عنه لعنه الله أنه قال :
( 1323 ) هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم . قال : فوالذي يحلف به ، لئن رأيته توطأت عنقه ، فجاءه ثم نكص على عقبيه ، فقالوا له : مالك يا أبا الحكم ، فقال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة { أَرءَيْتَ الذى ينهى ( 9 ) } ومعناه : أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله . أو كان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح ، كما نقول نحن { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى ( 14 ) } ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك . وهذا وعيد . فإن قلت : ما متعلق أرأيت؟ قلت : الذي ينهى مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين . فإن قلت : فأين جواب الشرط؟ قلت : هو محذوف ، تقديره : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ، ألم يعلم بأن الله يرى؟ وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني . فإن قلت : فكيف صحّ أن يكون { أَلَمْ يَعْلَم } جواباً للشرط؟ قلت : كما صحّ في قولك : إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت : فما أرأيت الثانية وتوسطها بين مفعول أرأيت؟ قلت : هي زائدة مكرّرة للتوكيد . وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة { كَلاَّ } ردع لأبي جهل وخسوء له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات ، ثم قال { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ } عما هو فيه { لَنَسْفَعاً بالناصية } لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار . والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدّة . قال عمرو بن معديكرب :

قَوْمٌ إذَا يَقَعُ الصَّرِيخُ رَأَيْتَهُمْ ... مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
وقرىء : «لنسفعنّ» بالنون المشدّدة . وقرأ ابن مسعود : لأسفعا . وكتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف ، ولما علم أنها ناصية المذكور ، اكتفى بلام العهد عن الإضافة { نَاصِيَةٍ } بدل من الناصية؛ وجاز بدلها عن المعرفة ، وهي نكرة؛ لأنها وصفت فاستقلت بفائدة . وقرىء : «ناصية» على : هي ناصية ، وناصية بالنصب . وكلاهما على الشتم . ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازي . وهما في الحقيقة لصاحبها . وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك : ناصية كاذب خاطىء . والنادي : المجلس الذي ينتدى فيه القوم . أي : يجتمعون . والمراد : أهل النادي . كما قال جرير :
لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّبَالِ أَذِلَّةٌ ... وقال زهير :
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ... والمقامة : المجلس . روى :
( 1324 ) أن أبا جهل مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال : ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : " أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً " ، فنزلت . وقرأ ابن أبي عبلة : «سيدعى الزبانية» على البناء للمفعول ، والزبانية في كلام العرب : الشرط ، الواحدة ، زبنية ، كعفرية ، من الزبن : وهو الدفع . وقيل : زبني ، وكأنه نسب إلى الزبن ، ثم غير للنسب ، كقولهم أمسى؛ وأصله : زباني ، فقيل : زبانية على التعويض؛ والمراد : ملائكة العذاب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1325 ) " لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عياناً " { كَلاَّ } ردع لأبي جهل { لاَ تُطِعْهُ } أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه ، كقوله : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } [ القلم : 8 ] . { واسجد } ودم على سجودك ، يريد : الصلاة { واقترب } وتقرّب إلى ربك . وفي الحديث :
( 1326 ) " أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد "
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1327 ) " من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصّل كله " .

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

عظم القرآن من ثلاثة أوجه : أحدها : أن أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره؛ والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه؛ والثالث : الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه . روي أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا . وأملاه جبريل على السفرة ، ثم كان ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة . وعن الشعبي : المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر واختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها . وأكثر القول أنها السابعة منها؛ ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيي من يريدها الليالي الكثيرة : طلباً لموافقتها ، فتكثر عبادته ويتضاعف ثوابه ، وأن لا يتكل الناس عند إظهارها على إصابة الفضل فيها فيفرَّطوا في غيرها . ومعنى ليلة القدر : ليلة تقدير الأمور وقضائها ، من قوله تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ الدخان : 4 ] وقيل : سميت بذلك لخطرها وشرفها على سائر الليالي { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر } يعني : ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علوّ قدرها ، ثم بين ذلك بأنها خير من ألف شهر ، وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها : من تنزل الملائكة والروح ، وفصل كل أمر حكيم ، وذكر في تخصيص هذه المدّة :
( 1328 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون من ذلك ، وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلة هي خير من مدّة ذلك الغازي . وقيل : إنّ الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله ألف شهر ، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحقّ بأن يسموا عابدين من أولئك العباد { تَنَزَّلَ } إلى السماء الدنيا ، وقيل : إلى الأرض { والروح } جبريل . وقيل : خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلاّ تلك الليلة { مّن كُلّ أَمْرٍ } أي : تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل . وقرىء : «من كل امرىء» أي : من أجل كل إنسان . وقيل : لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلاّ سلموا عليه في تلك الليلة { سلام هِىَ } ما هي إلاّ سلامة ، أي : لا يقدر الله فيها إلاّ السلامة والخير ، ويقضي في غيرها بلاء وسلامة . أو : ما هي ألاّ سلام لكثرة ما يسلمون على المؤمنين . وقرىء : «مطلع» بفتح اللام وكسرها .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1329 ) " من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر " .

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم : لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق : إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرّهم على الكفر إلاّ مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله الغنى ، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقاً ، فيقول واعظه : لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك في الفسق إلاّ بعد اليسار : يذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً . وانفكاك الشيء من الشيء . أن يزايله بعد التحامه به ، كالعظم إذا انفك من مفصله؛ والمعنى : أنهم متشبثون بدينهم ا يتركونه إلاّ عند مجيء البينة . و { البينة } الحجة الواضحة . و { رَّسُولٌ } بدل من البينة . وفي قراءة عبد الله : «رسولا» حالاً من البينة { صُحُفاً } قراطيس { مُّطَهَّرَةً } من الباطل { فِيهَا كُتُبٌ } مكتوبات { قَيِّمَةٌ } مستقيمة ناطقة بالحق والعدل؛ والمراد بتفرقهم : تفرقهم عن الحق وانقشاعهم عنه . أو تفرقهم فرقاً؛ فمنهم من آمن ، ومنهم من أنكر ، وقال : ليس به؛ ومنهم من عرف وعاند . فإن قلت : لم جمع بين أهل الكتاب والمشركين أوّلاً ثم أفرد أهل الكتاب في قوله : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } ؟ قلت : لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف { وَمَا أُمِرُواْ } يعني في التوراة والإنجيل إلاّ بالدين الحنيفي ، ولكنهم حرفوا وبدلوا { وَذَلِكَ دِينُ القيمة } أي : دين الملة القيمة . وقرىء؛ «وذلك الدين القيمة» على تأويل الدين بالملة . فإن قلت : ما وجه قوله : { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله } ؟ قلت : معناه : وما أمروا بما في الكتابين إلاّ لأجل أن يعبدوا الله على هذه الصفة . وقرأ ابن مسعود : «إلا أن يعبدوا» ، بمعنى : بأن يعبدوا . قرأ نافع : «البريئة» بالهمز؛ والقرّاء على التخفيف . والنبيّ ، والبرية : مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل وقرىء : «خيار البرية» جمع خير ، كجياد وطياب : في جمع جيد وطيب .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1330 ) " من قرأ لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقبلاً " .

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

«زلزالها» قرىء : بكسر الزاي وفتحها؛ فالمكسور : مصدر ، والمفتوح : اسم؛ وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلاّ في المضاعف . فإن قلت : ما معنى زلزالها بالإضافة؟ قلت : معناه زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة وهو مشيئة الله ، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده . ونحوه قولك : أكرم التقيّ إكرامه ، وأهن الفاسق إهانته ، تريد : ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة أو زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه . الأثقال : جمع ثقل . وهو متاع البيت ، وتحمل أثقالكم جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها { وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا } زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها؛ وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ أمواتها أحياء ، فيقولون ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع ، كما يقولون : { من بعثنا من مرقدنا } [ يس : 52 ] . وقيل : هذا قول الكافر؛ لأنه كان لا يؤمن بالبعث؛ فأما المؤمن فيقول : { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } [ يس : 52 ] . فإن قلت : ما معنى تحديث الأرض والإيحاء لها؟ قلت : هو مجاز عن إحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان ، حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال ، فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات؟ وأنّ هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه ويحذرون منه . وقيل : ينطقها الله على الحقيقة . وتخبر بما عمل عليها من خير وشرّ . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1331 ) " تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها " فإن قلت : ( إذا ، ويومئذ ) : ما ناصبهما؟ قلت : { يَوْمَئِذٍ } بدل من ( إذا ) ، وناصبهما { تُحَدِّثُ } . ويجوز أن ينتصب ( إذا ) بمضمر ، و { يَوْمَئِذٍ } بتحدّث . فإن قلت : أين مفعولا ( تحدث ) ؟ قلت : قد حذف أوّلهما ، والثاني : أخبارها ، وأصله تحدث الخلق أخبارها؛ إلاّ أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيماً لليوم . فإن قلت : بم تعلقت الباء في قوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ } ؟ قلت : بتحدّث ، معناه : تحدّث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها ، وأمره إياها بالتحديث . ويجوز أن يكون المعنى : يومئذ تحدث بتحديث أنّ ربك أوحى لها أخبارها ، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها : تحديث بأخبارها ، كما تقول : نصحتني كل نصيحة ، بأن نصحتني في الدين . ويجوز أن يكون { بِأَنَّ رَبَّكَ } بدلاً من { أَخْبَارَهَا } كأنه قيل : يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها؛ لأنك تقول : حدثته كذا وحدثته بكذا ، و { أوحى لَهَا } بمعنى أوحى إليها ، وهو مجاز كقوله : { أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] قال :
أَوْحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتْ ... وقرأ ابن مسعود : «تنبىء أخبارها» . وسعيد بن جبير : تنبىء ، بالتخفيف . يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف { أَشْتَاتاً } بيض الوجوه آمنين؛ وسود الوجوه فزعين . أو يصدرون عن الموقف أشتاتاً يتفرق بهم طريقا الجنة والنار ، ليروا جزاء أعمالهم .

وفي قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ليروا» بالفتح . وقرأ ابن عباس وزيد بن علي : «يره» بالضم . ويحكى أنّ أعرابياً أخر { خَيْراً يَرَهُ } فقيل له : قدّمت وأخّرت؛ فقال :
خُذَا بَطْنَ هَرْشَى أَوْ قَفَاهَا فَإن ... كِلاَ جَانِبَيْ هَرْشَى لَهُنَّ طَرِيقُ
والذرّة : النملة الصغيرة ، وقيل : «الذرّ» ما يرى في شعاع الشمس من الهباء . فإن قلت : حسنات الكافر محبطة بالكفر ، وسيئات المؤمن معفوّة باجتناب الكبائر ، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرّ من الخير والشرّ؟ قلت : المعنى فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً : من فريق السعداء . ومن يعمل مثقال ذرّة شراً : من فريق الأشقياء؛ لأنه جاء بعد قوله : { يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً } .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1332 ) " من قرأ سورة إذا زلزلت أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله " .

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح . والضبح : صوت أنفاسها إذا عدون . وعن ابن عباس أنه حكاه فقال : أح أح . قال عنترة :
وَالْخَيْلُ تَكْدَحُ حِينَ تَضْ ... بَحُ فِي حِيَاضِ الْمَوْتِ ضَبْحَا
وانتصاب ضبحا على : يضبحن ضبحا ، أو بالعاديات ، كأنه قيل : والضابحات؛ لأن الضبح يكون مع العدو . أو على الحال ، أي : ضابحات { فالموريات } توري نار الحباحب وهي ما ينقدح من حوافرها { قَدْحاً } قادحات صاكات بحوافرها الحجارة . والقدح : الصك . والإيراء : إخراج النار . تقول : قدح فأورى ، وقدح فأصلد ، وانتصب قدحاً بما انتصب به ضبحا { فالمغيرات } تغير على العدوّ { صُبْحاً } في وقت الصبح { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ( 4 ) } فهيجن بذلك الوقت غباراً { فَوَسَطْنَ بِهِ } بذلك الوقت ، أو بالنقع ، أي : وسطن النقع الجمع . أو فوسطن ملتبسات به { جَمْعاً } من جموع الأعداء . ووسطه بمعنى توسطه . وقيل : الضمير لمكان الغارة . وقيل : للعدوّ الذي دلّ عليه { والعاديات } ويجوز أن يراد بالنقع : الصياح ، من قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1333 ) " ما لم يكن نقع ولا لقلقة " وقول لبيد :
فَمَتَى يَنْقَعْ صُراخٌ صَادِق ... أي : فهيجن في المغاز عليهم صياحاً وجلبة . وقرأ أبو حيوة : «فأثرن» بالتشديد ، بمعنى : فأظهرن به غباراً؛ لأنّ التأثير فيه معنى الإظهار . أو قلب ثورّن إلى وثرن ، وقلب الواو همزة ، وقرىء : «فوسطن» بالتشديد للتعدية . والباء مزيدة للتوكيد ، كقوله : { وَأُتُواْ بِهِ } [ البقرة : 25 ] وهي مبالغة في وسطن . وعن ابن عباس :
( 1334 ) كنت جالساً في الحجر فجاء رجل فسألني عن { والعاديات ضَبْحاً ( 1 ) } ففسرتها بالخيل ، فذهب إلى عليّ وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت : فقال : ادعه لي ، فلما وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك به ، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر ، وما كان معنا إلاّ فرسان : فرس الزبير وفرس للمقداد { العاديات ضَبْحاً ( 1 ) } الإبل من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى منى؛ فإن صحّت الرواية فقد استعير الضبح للإبل ، كما استعير المشافر والحافر للإنسان ، والشفتان للمهر ، والثغر للثورة وما أشبه ذلك . وقيل : الضبح لا يكون إلاّ للفرس والكلب والثعلب . وقيل : الضبح بمعنى الضبع ، يقال : ضبحت الإبل وضبعت : إذا مدّت أضباعها في السير ، وليس بثبت . وجمع : هو المزدلفة . فإن قلت : علام عطف ( فأثرن ) ؟ قلت : على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه؛ لأنّ المعنى : واللاتي عدون فأورين ، فأغرن فأثرن . الكنود : الكفور . وكند النعمة كنوداً . ومنه سمي : كندة ، لأنه كند أباه ففارقه . وعن الكلبي : الكنود بلسان كندة : العاصي ، وبلسان بني مالك : البخيل ، وبلسان مضر وربيعة : الكفور ، يعني : أنه لنعمة ربه خصوصاً لشديد الكفران؛ لأن تفريطه في شكر نعمة غير الله تفريط قريب لمقاربة النعمة ، لأن أجلّ ما أنعم به على الإنسان من مثله نعمة أبويه ، ثم إن عُظماها في جنب أدنى نعمة الله قليلة ضئيلة { وإنه } وإن الإنسان { على ذلك } على كنوده { لَشَهِيدٌ } يشهد على نفسه ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره .

وقيل : وإنّ الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد { الخير } المال من قوله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } [ البقرة : 180 ] والشديد : البخيل الممسك . يقال : فلان شديد ومتشدّد . قال طرفة :
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ المَتَشَدِّدِ
يعني : وإنه لأجل حب المال وأن إنفاقه يثقل عليه : لبخيل ممسك . أو أراد بالشديد : القوي ، وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس . تقول : هو تشديد لهذا الأمر ، وقويٌّ له : إذا كان مطيقاً له ضابطاً . أو أراد : أنه لحب الخيرات غير هش منبسط ، ولكنه شديد منقبض { بُعْثِرَ } بعث . وقرىء : «بحثر» وبحث ، وبحثر . وحصل : على بنائهما للفاعل . وحصل : بالتخفيف . ومعنى ( حصلّ ) جمع في الصحف ، أي : أظهر محصلاً مجموعاً . وقيل : ميز بين خيره وشره . ومنه قيل للمنخل : المحصل . ومعنى علمه بهم يوم القيامة : مجازاته لهم على مقادير أعمالهم؛ لأنّ ذلك أثر خبره بهم . وقرأ أبو السمال : «إن ربهم بهم يومئذ خبير» .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( 1335 ) " من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً "

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

الظرف نصب بمضمر دلّت عليه القارعة ، أي : تقرع { يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث ( 4 ) } شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة ، والتطاير إلى الداعي من كل جانب ، كما يتطاير الفراش إلى النار . قال جرير :
إنَّ الْفَرَذْدَقَ مَا عَلِمْتُ وَقَوْمَهُ ... مِثْلُ الْفَرَاشِ غَشِينَ نَارَ الْمُصْطَلِي
وفي أمثالهم : أضعف من فراشة وأذل وأجهل . وسمى فراشا : لتفرّشه وانتشاره . وشبه الجبال بالعهن وهو الصوف المصبغ ألواناً؛ لأنها ألوان ، وبالمنفوش منه؛ لتفرّق أجزائها . وقرأ ابن مسعود : «كالصوف» . الموازين : جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله . أو جمع ميزان . وثقلها : رجحانها . ومنه حديث أبي بكر لعمر رضي الله عنهما في وصيته له : «وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقلها في الدنيا ، وحق لميزان لا توضع فيه إلاّ الحسنات أن يثقل ، وإنما خفت موازين من خفت موازينه لاتباعهم الباطل وخفتها في الدنيا ، وحق لميزان لا توضع فيه إلاّ السيئات أن يخف» { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( 9 ) } من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة : هوت أمّه؛ لأنه إذا هوى أي : سقط وهلك ، فقد هوت أمّه ثكلاً وحزناً قال :
هَوَتْ أُمُّهُ مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِياً ... وَمَاذَا يَرُدُّ اللَّيْلُ حِينَ يَئُوبُ
فكأنه قيل : وأما من خفت موازينه فقد هلك . وقيل : { هَاوِيَةٌ } من أسماء النار ، وكأنها النار العميقة لهوي أهل النار فيها مهوى بعيداً ، كما روي :
( 1336 ) «يهوي فيها سبعين خريفاً» أي : فمأواه النار . وقيل : للمأوى : أمّ ، على التشبيه؛ لأنّ الأمّ مأوى الولد ومفزعه . وعن قتادة : فأمّه هاوية ، أي : فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنم ، لأنه يطرح فيها منكوساً ( هيه ) ضمير الداهية التي دلّ عليها قوله : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( 9 ) } في التفسير الأوّل . أو ضمير هاوية والهاء للسكت ، وإذا وصل القارىء حذفها . وقيل : حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج ، لأنّها ثابتة في المصحف . وقد اجيز إثباتها مع الوصل .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1337 ) " من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة " .

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

ألهاه عن كذا وأقهاه : إذا شغله . و { التكاثر } التباري في الكثرة والتباهي بها ، وأن يقول هؤلاء : نحن أكثر ، وهؤلاء : نحن أكثر . روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عدداً ، فكثرهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم : إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات ، فكثرتهم بنو سهم . والمعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات : عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكماً بهم . وقيل : كانوا يزورون المقابر فيقولون : هذا قبر فلان وهذا قبر فلان عند تفاخرهم . والمعنى : ألهاكم ذلك - وهو مما لا يعينكم ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم - عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعني من كل مهم . أو أراد ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم . منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاستباق إليها والتهالك عليها ، إلى أن أتاكم الموت لا همّ لكم غيرها ، عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم والعمل لآخرتكم . وزيارة القبور : عبارة عن الموت . قال :
لَنْ يُخْلِصَ الْعَامَ خَلِيلٌ عِشْراً ... ذَاقَ الضِّمَادَ أَوْ يَزُورَ الْقَبْرا
وقال :
زَارَ الْقُبُورَ أَبُو مَالِكٍ ... فَأَصْبَحَ أَلأمَّ زُوَّارِهَا
وقرأ ابن عباس : «أألهاكم»؟ على الاستفهام الذي معناه التقرير { كَلاَّ } ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } إنذار ليخافوا فيتنبهوا من غفلتهم . والتكرير : تأكيد للردع والأنذار عليهم . و ( ثم ) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشد ، كما تقول للمنصوح : أقول لك ثم أقول لك : لا تفعل ، والمعنى : سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدّامكم من هول لقاء الله ، وإنّ هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم . ثم كرّر التنبيه أيضاً وقال : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } محذوف الجواب ، يعني : لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين ، أي : كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور التي وكلتم بعملها هممكم : لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه؛ ولكنكم ضلال جهلة؛ ثم قال : { لَتَرَوُنَّ الجحيم ( 6 ) } فبين لهم ما أنذرهم منه وأوعدهم به؛ وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه وتعظيمه ، وهو جواب قسم محذوف ، والقسم لتوكيد الوعيد ، وأن ما أوعدوا به ما لا مدخل فيه للريب؛ وكرره معطوفاً بثم تغليظاً في التهديد وزيادة في التهويل . وقرىء : «لترؤن» بالهمز وهي مستكرهة . فإن قلت : لم استكرهت والواو المضمومة قَلَبَهَا همزة قياس مطرد؟ قلت : ذاك في الواو التي ضمتها لازمة ، وهذه عارضة لالتقاء الساكنين . وقرىء : «لترون» ولترونها : على البناء للمفعول { عَيْنَ اليقين } أي : الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته .

ويجوز أن يراد بالرؤية : العلم والإبصار { عَنِ النعيم } عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه . فإن قلت : ما النعيم الذي يسئل عنه الإنسان ويعاتب عليه؟ فما من أحد إلاّ وله نعيم؟ قلت : هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات ، ولم يعش إلاّ ليأكل الطيب ويلبس اللين ، ويقطع أوقاته باللهو والطرب ، لا يعبأ بالعلم والعمل ، ولا يحمّل نفسه مشاقهما؛ فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلاّ لعباده ، وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل ، وكان ناهضاً بالشكر : فهو من ذاك بمعزل؛ وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي :
( 1338 ) أنه أكل هو وأصحابه تمر وشربوا عليه ماء فقال : « الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين »
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1339 ) « من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا ، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية » .

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

أقسم بصلاة العصر لفضلها ، بدليل قوله تعالى : ( والصلاة الوسطى ) صلاة العصر ، في مصحف حفصة . وقوله عليه الصلاة والسلام :
( 1340 ) « من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله » ولأنّ التكليف في أدائها أشقّ لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار ، واشتغالهم بمعايشهم . أو أقسم بالعشي كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعاً من دلائل القدرة . أو أقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب . والإنسان : للجنس . والخسر : الخسران ، كما قيل : الكفر في الكفران . والمعنى : أن الناس في خسران من تجارتهم إلاّ الصالحين وحدهم ، لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ، فربحوا وسعدوا ، ومن عداهم تجروا خلاف تجارتهم ، فوقعوا في الخسارة والشقاوة { وَتَوَاصَوْاْ بالحق } بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، وهو الخير كله : من توحيد الله وطاعته ، واتباع كتبه ورسله ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } عن المعاصي وعلى الطاعات ، على ما يبلو الله به عباده .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورة والعصر غفر الله له وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر » .

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

الهمز : الكسر ، كالهرم . واللمز : الطعن . يقال : لمزه لهزه طعنه ، والمراد : الكسر من أعراض الناس والغض منهم ، واغتيابهم؛ والطعن فيهم وبناء «فعلة» يدلّ على أنّ ذلك عادة منه قد ضرى بها . ونحوهما : اللعنة والضحكة . قال :
وَإنِ أُغَيَّبْ فَأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ ... وقرىء : «ويل للهمزة اللمزة» وقرىء : «ويل لكل همزة لمزة» بسكون الميم : وهو المسخرة الذي يأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ، ويشتم . وقيل : نزلت في الأخنس بن شريق وكانت عادته الغيبة والوقيعة . وقيل : في أمية بن خلف . وقيل : في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه منه . ويجوز أن يكون السبب خاصاً والوعيد عاماً ، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح ، وليكون جارياً مجرى التعريض بالوارد فيه ، فإنّ ذلك أزجر له وأنكى فيه { الذى } بدل من كل . أو نصب على الذم . وقرىء : «جمع» بالتشديد ، وهو مطابق لعدده . وقيل : { عدّده } جعله عدة لحوادث الدهر . وقرىء : «وعدده» أي : جمع المال وضبط عدده وأحصاه . أو جمع ماله وقومه الذين ينصرونه ، من قولك : فلان ذو عدد وعدد : إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم . وقيل : { وَعَدَّدَهُ } معناه : وعدّه على فك الإدغام ، نحو : ضننوا { أَخْلَدَهُ } وخلده بمعنى أي : طوّل المال أمله ، ومنّاه الأماني البعيدة ، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أنّ المال تركه خالداً في الدنيا لا يموت . أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض : عمل من يظن أن ماله أبقاه حياً . أو هو تعريض بالعمل الصالح . وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم؛ فأما المال فما أخلد أحداً فيه . وروي أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار . وقيل : عشرة آلاف . وعن الحسن : أنه عاد موسراً فقال : ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت بها على كريم؟ قال : ولكن لماذا؟ قال : لنبوة الزمان ، وجفوة السلطان ، ونوائب الدهر . ومخافة الفقر . قال : إذن تدعه لمن لا يحمدك ، وترد على من لا يعذرك { كَلاَّ } ردع له عن حسبانه . وقرىء : «لينبذان» أي : هو وماله . ولينبذن ، بضم الذال ، أي : هو وأنصاره . ولينبذنه { فِى الحطمة } في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها . ويقال للرجل الأكول : إنه لحطمة . وقرىء : «الحاطمة» يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى لا تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم ، وهي أوساط القلوب ، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ، ولا أشدّ تألماً منه بأدنى أذى يمسه ، فكيف إذا أطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه . ويجوز أن يخصّ الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة . ومعنى اطلاع النار عليها : أنها تعلوها وتغلبها وتشتمل عليها .

أو تطالع على سبيل المجاز معادن موجبها { مُّؤْصَدَةٌ } مطبقة . قال :
تَحِنُّ إلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِي ... وَمِنْ دُونِهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُوصَدَهْ
وقرىء : «في عمد» بضمتين . وعمد ، بسكون الميم . وعمد بفتحتين . والمعنى : أنه يؤكد يأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد ، فتؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد ، استيثاقاً في استيثاق . ويجوز أن يكون المعنى : إنها عليهم مؤصدة ، موثقين في عمد ممدّدة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص . اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1342 ) " من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه " .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

روي أنّ أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القُليس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً ، فأغضبه ذلك . وقيل : أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها ، فحلف ليهدمنّ الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل له اسمه محمود ، وكان قوياً عظيماً ، واثنا عشر فيلاً غيره . وقيل : ثمانية وقيل : كان معه ألف فيل ، وقيل كان وحده؛ فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع ، فأبى وعبأ جيشه وقدّم الفيل ، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيرها من الجهات هرول؛ فأرسل الله طيراً سوداً . وقيل : خضراً وقيل : بيضاً ، مع كل طائر حجر في منقاره ، وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى منها عند أم هانيء نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفارى ، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ، ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل؛ ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه . وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائره يحلق فوقه ، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة ، فلما اتمّها وقع عليه الحجر فخرّ ميتاً بين يديه . وقيل : كان أبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، وقيل : بثلاث وعشرين سنة . وعن عائشة رضي الله عنها : رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان . وفيه أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير ، فخرج إليه فيها ، فجهره وكان رجلاً جسيماً وسيماً . وقيل : هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، فلما ذكر حاجته قال : سقطت من عيني ، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم في قديم الدهر ، فألهاك عنه ذود أخذ لك؛ فقال أنا رب الإبل ، وللبيت رب سيمنعه ، ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول :
لاَهُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْ ... نَعُ رحله فَامنَعْ حَلاَلَكْ
لاَ يغْلِبَنَّ صَلُيبُهُم ... وَمُحَالُهُمْ عَدْواً مْحَالَكْ
إنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَع ... بَتَنَا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ
يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا
فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال : والله إنها لطير غريبة ما هي ببحرية ولا تهامية . وفيه : أنّ أهل مكة قد احتووا على أموالهم ، وجمع عبد المطلب من جواهرهم وذهبهم الجور ، وكان سبب يساره . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سئل عن الطير فقال : حمام مكة منها .

وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم . وعن عكرمة : من أصابته جدّرته وهو أوّل جدري ظهر . وقرىء : «ألم تر» بسكون الراء للجد في إظهار أثر الجازم : والمعنى : أنك رأيت أثار فعل الله بالحبشة ، وسمعت الأخبار به متواترة ، فقامت لك مقام المشاهدة . و { كَيْفَ } في موضع نصب بفعل ربك ، لا بألم تر؛ لما في { كَيْفَ } من معنى الاستفهام { فِى تَضْلِيلٍ } في تضييع وإبطال . يقال : ضلل كيده ، إذا جعله ضالاً ضائعاً . ومنه قوله تعالى : { وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } [ غافر : 25 ] وقيل : لامريء القيس : الملك الضليل؛ لأنه ضلل ملك أبيه ، أي : ضيعه ، يعني : أنهم كادوا البيت أوّلاً ببناء القليس ، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه ، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه؛ وكادوه ثانياً بإرادة هدمه ، فضلل بإرسال الطير عليهم { أَبَابِيلَ } حزائق ، الواحدة : إبالة . وفي أمثالهم : ضغث على إبالة ، وهي : الحزمة الكبيرة ، شبهت الحزقة من الطير في تضامّها بالإبالة . وقيل : أبابيل مثل عباديد ، وشماطيط لا واحد لها ، وقرأ أبو حنيفة رحمه الله : «يرميهم» أي : الله تعالى أو الطير ، لأنه اسم جمع مذكر؛ وإنما يؤنث على المعنى . وسجيل : كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار ، كما أن سجيناً علم لديوان أعمالهم ، كأنه قيل : بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن ، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال؛ لأنّ العذاب موصوف بذلك ، وأرسل عليهم طيراً ، { فأرسلنا عليهم الطوفان } [ الأعراف : 133 ] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر . وقيل : هو معرب من سنككل . وقيل : من شديد عذابه؛ ورووا بيت ابن مقبل :
ضَرْباً تَوَاصَتْ بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيلاَ ... وإنما هو سجينا ، والقصيدة نونية مشهورة في ديوانه؛ وشبهوا بورق الزرع إذا أكل ، أي : وقع فيه الأكال : وهو أن يأكله الدود . أو بتبن أكلته الدواب وراثته ، ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن ، كقوله : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } [ المائدة : 75 ] أو أريد : أكل حبه فبقي صفراً منه .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1343 ) " من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ " .

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

{ لإيلاف قُرَيْشٍ } متعلق بقوله : { فَلْيَعْبُدُواْ } أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين فإن قلت : فلم دخلت الفاء؟ قلت : لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى : إما لا فليعبدوه لإيلافهم ، على معنى : أنّ نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة . وقيل : المعنى : عجبوا لإيلاف قريش . وقيل : هو متعلق بما قبله ، أي : فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، وهذا بمنزلة التضمين في الشعر : وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصحّ إلاّ به ، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة ، بلا فصل . وعن عمر : أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب . وقرأ في الأولى : «والتين» . والمعنى أنه أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك ، فيتهيبوهم زيادة تهيب ، ويحترموهم فضل احترام ، حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتهم ، فلا يجترىء أحد عليهم ، وكانت لقريش رحلتان؛ يرحلون في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، فيمتارون ويتجرون ، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته ، فلا يتعرّض لهم ، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم ، والإيلاف من قولك : آلفت المكان أولفه إيلافاً : إذا ألفته ، فأنا مألف . قال :
مِنَ الْمُؤْلِفَاتِ الرَّهْوِ غَيْرِ الأوَاركِ ... وقرىء : «لئلاف قريش» أي : لمؤالفة قريش . وقيل : يقال : ألفته إلفاً وإلافاً . وقرأ أبو جعفر : «لإلف قريش» ، وقد جمعهما من قال :
زَعَمْتُمْ أَنْ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لَهُمْ إلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إلاَفُ
وقرأ عكرمة : «ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف» . وقريش : ولد النضر بن كنانة سموا بتصغير القرش : وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ، ولا تطاق إلاّ بالنار . وعن معاوية أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما : بم سميت قريش؟ قال : بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى . وأنشد :
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ ... الْبَحْرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشاً
والتصغير للتعظيم . وقيل : من القرش وهو الكسب : لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد . أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين ، تفخيماً لأمر الإيلاف ، وتذكيراً بعظم النعمة فيه؛ ونصب الرحلة بإيلافهم مفعولاً به ، كما نصب ( يتيماً ) بإطعام ، وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس ، كقوله :
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ . . . . . . ... وقرىء : «رحلة» بالضم : وهي الجهة التي يرحل إليها : والتنكير في { جُوعٍ } و { خوْفٍ } لشدتهما ، يعني : أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما ، وآمنهم من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم . وقيل : كانوا قد أصابتهم شدّة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ، وآمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدهم . وقيل : ذلك كله بدعاء إبراهيم صلوات الله عليه . ومن بدع التفاسير : وآمنهم من خوف ، من أن تكون الخلافة في غيرهم . وقرىء : «من خوف» بإخفاء النون .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1344 ) " من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها " .

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

قرىء : «أريت» ، بحذف الهمزة ، وليس بالاختيار؛ لأنّ حذفها مختص بالمضارع ، ولم يصحّ عن العرب : ريت ، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أوّل الكلام . ونحوه :
صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ ... رَدَّ فِي الضَّرْعِ مَا قَرَى فِي الْحِلاَبِ
وقرأ ابن مسعود : «أرأيتك» بزيادة حرف الخطاب ، كقوله : { أرأيتك هذا الذي كرّمت عليّ } [ الإسراء : 62 ] والمعنى : هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو؟ إن لم تعرفه { فَذَلِكَ الذى } يكذب بالجزاء ، هو الذي { يَدُعُّ اليتيم } أي : يدفعه دفعاً عنيفاً بجفوة وأذى ، ويردّه ردّاً قبيحاً بزجر وخشونة . وقرىء : «يدع» أي : يترك ويجفو { وَلاَ يَحُضُّ } ولا يبعث أهله على بذل طعام المسكين ، جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف ، يعني : أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد ، لخشي الله تعالى وعقابه ولم يقدم على ذلك ، فحين أقدم عليه : علم أنه مكذب ، فما أشدّه من كلام ، وأما أخوفه من مقام . وما أبلغه في التحذير من المعصية وأنها جديرة بأن يستدلّ بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين ، ثم وصل به قوله { فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ } كأنه قال : فإذا كان الأمر كذلك ، فويل للمصلين الذين يسهون عن الصلاة قلة مبالاة بها ، حتى تفوتهم أو يخرج وقتها ، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع وإخبات ولا اجتناب لما يكره فيها : من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات ، لا يدري الواحد منهم عن كم انصرف ، ولا ما قرأ من السور ، وكما ترى صلاة أكثر من ترى الذين عادتهم الرياء بأعمالهم ومنع حقوق أموالهم . والمعنى : أن هؤلاء أحق بأن يكون سهوهم عن الصلاة - التي هي عماد الدين ، والفارق بين الإيمان والكفر والرياء الذي هو شعبة من الشرك ، ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام - علماً على أنهم مكذبون بالدين . وكم ترى من المتسمين بالإسلام ، بل من العلماء منهم من هو على هذه الصفة ، فيا مصيبتاه . وطريقة أخرى : أن يكون { فَذَلِكَ } عطفاً على { الذى يُكَذّبُ } إمّا عطف ذات على ذات ، أوصفة على صفة ، ويكون جواب { أَرَءَيْتَ } محذوفاً لدلالة ما بعده عليه ، كأنه قيل : أخبرني ، وما تقول فيمن يكذب بالجزاء؟ وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين؟ أنِعم ما يصنع؟ ثم قال : { فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ } أي : إذا علم أنه مسىء ، فويل للمصلين ، على معنى : فويل لهم ، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم؛ لأنهم مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين ، غير مزكين أموالهم . فإن قلت : كيف جعلت المصلين قائماً مقام ضمير الذي يكذب ، وهو واحد؟ قلت : معناه الجمع ، لأنّ المراد به الجنس .

فإن قلت : أيّ فرق بين قوله : { عَن صلاتهم } وبين قولك : ( في صلاتهم ) ؟ قلت : معنى : ( عن ) : أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة التفات إليها؛ وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشطار من المسلمين . ومعنى ( في ) : أنّ السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس ، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم .
( 1345 ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلاً عن غيره؛ ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم . وعن أنس رضي الله عنه : الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم . وقرأ ابن مسعود : «لاهون» فإن قلت : ما معنى المراآة قلت : هي مفاعلة من الإراءة ، لأنّ المرائي يري الناس عمله ، وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به ، ولا يكون الرجل مرائياً بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة ، فمن حقّ الفرائض الإعلان بها وتشهيرها ، لقوله عليه الصلاة السلام :
( 1346 ) " ولا غمة في فرائض الله " لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين؛ ولأن تاركها يستحق الذمّ والمقت ، فوجب إماطة التهمة بالإظهار؛ وإن كان تطوعاً ، فحقه أن يخفي ، لأنه مما لا يلام برتكه ولا تهمة فيه؛ فإن أظهره قاصداً للاقتداء به كان جميلاً ، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين ، فيثنى عليه بالصلاح . وعن بعضهم : أنه رأى رجلاً في المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها ، فقال : ما أحسن هذا لو كان في بيتك؛ وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة؛ على أن اجتناب الرياء صعب إلاّ على المرتاضين بالإخلاص . ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1347 ) " الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود " { الماعون } الزكاة ، قال الراعي :
قِوْمٌ عَلَى الإسْلاَمِ لما يَمْنَعُوا ... مَاعُونَهُمْ وِيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلاَ
وعن ابن مسعود : ما يتعاور في العادة من الفأس والقدر والدلو والمقدحة ونحوها . وعن عائشة الماء والنار والملح؛ وقد يكون منع هذه الأشياء محظوراً في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار ، وقبيحاً في المروءة في غير حال الضرورة .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1348 ) " من قرأ سورة أرأيت غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا " .

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

( 1349 ) في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنا أنطيناك» بالنون . وفي حديثه صلى الله عليه وسلم :
( 1350 ) " وانطوا الثبجة " والكوثر فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة . وقيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك؟ قالت : آب بكوثر . وقال :
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ ... وَكَانَ أَبُوكَ ابْنَ الْعَقَائِلِ كَوْثَرَا
وقيل : ( الكوثر ) نهر في الجنة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1351 ) أنه قرأها حين أنزلت عليه فقال : " أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر في الجنة وعدنيه ربي ، فيه خير كثير " وروي في صفته :
( 1352 ) " أحلى من العسل ، وأشدّ بياضاً من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد؛ حافتاه الزبرجد ، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء " وروي :
( 1353 ) " لا يظمأ من شرب منه أبداً : أول وارديه : فقراء المهاجرين : الدنسو الثياب ، الشعث الرؤوس ، الذين لا يزوجون المنعمات ، ولا تفتح لهم أبواب السدد ، يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره ، لو أقسم على الله لأبرّه " وعن ابن عباس أنه فسر الكوثر بالخير الكثير ، فقال له سعيد بن جبير : إن ناساً يقولون : هو نهر في الجنة! فقال : هو من الخير الكثير . والنحر : نحر البدن؛ وعن عطية : هي صلاة الفجر بجمع ، والنحر بمنى . وقيل : صلاة العيد والتضحية . وقيل : هي جنس الصلاة . والنحر : وضع اليمين على الشمال ، والمعنى : أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك ، ومعطي ذلك كله أنا إله العالمين ، فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان : إصابة أشرف عطاء ، وأوفره ، من أكرم معط وأعظم منعم؛ فاعبد ربك الذي أعزّك بإعطائه ، وشرفك وصانك من منن الخلق ، مراغماً لقومك الذين يعبدون غير الله ، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت ، مخالفاً لهم في النحر للأوثان ( إن ) من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم { هُوَ الأبتر } لا أنت؛ لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك ، وذكرك موفوع على المنابر والمنار ، وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر ، يبدأ بذكر الله ويثني بذكرك ، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف ، فمثلك لا يقال له أبتر : وإنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والآخرة ، وإن ذكر ذكر باللعن . وكانوا يقولون : إنّ محمداً صنبور : إذا مات مات ذكره . وقيل : نزلت في العاص بن وائل ، وقد سماه الأبتر ، والأبتر : الذي لا عقب له . ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1354 ) " من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر أو يقربونه " .

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)

المخاطبون كفرة مخصوصون قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون . روي أنّ رهطاً من قريش قالوا : يا محمد ، هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فقال : «معاذ الله أن أشرك بالله غيره» فقالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك ، فنزلت؛ فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم فقرآها عليهم . فأيسوا . { لاَ أَعْبُدُ } أريدت به العبادة فيما يستقبل ، لأنّ «لا» لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن «ما» لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الحال ، ألا ترى أن «لن» تأكيد فيما تنفيه «لا» . وقال الخليل في «لن» : أنّ أصله «لا أن» والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : وما كنت قطّ عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه يعني : لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته . فإن قلت : فهلا قيل : ما عبدت ، كما قيل : ما عبدتم؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث ، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت . فإن قلت : فلم جاء على «ما» دون «من»؟ قلت : لأن المراد الصفة ، كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق . وقيل : إن «ما» مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } لكم شرككم ، ولي توحيدي . والمعنى : أني نبيّ مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة ، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني ، فدعونى كفافاً ولا تدعوني إلى الشرك .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1355 ) " من قرأ سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت منه مردة الشياطين ، وبرىء من الشرك ويعافي من الفزع الأكبر " .

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)

{ إِذَا جَاء } منصوب بسبح ، وهو لما يستقبل . والاعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوّة . روي أنها نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع . فإن قلت : ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه؟ قلت : النصر الإغاثة والإظهار على العدوّ . ومنه : نصر الله الأرض غاثها . والفتح : فتح البلاد والمعنى نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على العرب أو على قريش وفتح مكة وقيل : جنس نصر الله للمؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم . وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب ، وأقام بها خمس عشرة ليلة ، ثم خرج إلى هوازن ، وحين دخلها
( 1356 ) وقف على باب الكعبة ، ثم قال : " لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ، ثم قال : " يا أهل مكة ، ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم» . قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيئاً ، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام { فِى دِينِ الله } في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] . { أَفْوَاجاً } جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً واثنين اثنين . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه :
( 1357 ) أنه بكى ذات يوم ، فقيل له . فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا " وقيل : أراد بالناس أهل اليمن . وقال أبو هريرة :
( 1358 ) لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر جاء نصر الله والفتح ، وجاء أهل اليمن : قوم رقيقة قلوبهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية " وقال :
( 1359 ) " أجد نفير ربكم من قبل اليمن " وعن الحسن : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض ، فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وعن كل من أرادهم ، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال . وقرأ ابن عباس : فتح الله والنصر . وقرىء : «يدخلون» على البناء للمفعول . فإن قلت : ما محل يدخلون؟ قلت : النصب إما على الحال ، على أن رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت . أو هو مفعول ثانٍ على أنه بمعنى علمت { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } فقل سبحان الله : حامداً له ، أي : فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم ، واحمده على صنعه .

أو : فاذكره مسبحاً حامداً ، زيادة في عبادته والثناء عليه ، لزيادة إنعامه عليك . أو فصل له . روت أمّ هانيء :
( 1360 ) أنه لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثماني ركعات ، وعن عائشة :
( 1361 ) كان عليه الصلاة والسلام يكثر قبل موته أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك " ، والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين : من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية ، ليكون أمره بذلك مع عصمته لطفاً لأمته ، ولأنّ الاستغفار من التواضع لله وهضم النفس ، فهو عبادة في نفسه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1362 ) " إني لأستغفر في اليوم والليلة مائة مرة " وروي :
( 1363 ) أنه لما قرآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه استبشروا وبكى العباس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما يبكيك يا عم»؟ قال : نعيت إليك نفسك . قال : «إنها لكما تقول» فعاش بعدها سنتين لم ير فيهما ضاحكاً مستبشراً ، وقيل :
( 1364 ) إن ابن عباس هو الذي قال ذلك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد أوتي هذا الغلام علماً كثيراً " وروي :
( 1365 ) أنها لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه ، فاختار لقاء الله " ، فعلم أبو بكر رضي الله عنه ، فقال : فديناك بأنفسما وأموالنا وآبائنا وأولادنا .
( 1366 ) وعن ابن عباس أن عمر رضي الله عنهما كان يدينه ويأذن له مع أهل بدر ، فقال عبد الرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا وفي آبائنا من هو مثله؟ فقال إنه ممن قد علمتم . قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن قول الله تعالى : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله } ولا أراه سألهم إلاّ من أجلي؛ فقال بعضهم : أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه؛ فقلت : ليس كذلك ، ولكن نعيت إليه نفسه؛ فقال عمر : ما أعلم منها إلاّ مثل ما تعلم ، ثم قال : كيف تلومونني عليه بعدما ترون؟ وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1367 ) أنه دعا فاطمة رضي الله عنها فقال : " يا بنتاه إنه نعيت إليّ نفسي " ، فبكت ، فقال : " لا تبكي ، فإنك أوّل أهلي لحوقاً بي " وعن ابن مسعود أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع { كَانَ تَوَّاباً } أي : كان في الأزمنة الماضية منذ خلق المكلفين تواباً عليهم إذا استغفروا ، فعلى كل مستغفر أن يتوقع مثل ذلك .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1368 ) " من قرأ سورة إذا جاء نصر الله أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة " .

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

التباب : الهلاك . ومنه قولهم : أشابة أم تابة؟ أي : هالكة من الهرم والتعجيز . والمعنى : هلكت يداه ، لأنه فيما يروى : أخذ حجراً ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَتَبَّ } وهلك كله . أو جعلت يداه هالكتين . والمراد : هلاك جملته ، كقوله تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] ومعنى : { وَتَبَّ } : وكان ذلك وحصل ، كقوله :
جَزَانِي جَزَاهُ اللَّهُ شَرَّ جَزَائِه ... جَزَاءَ الْكلاَبِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ
ويدلّ عليه قراءة ابن مسعود : «وقد تب» وروي :
( 1369 ) أنه لما نزل { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] رقى الصفا وقال : يا صباحاه ، فاستجمع إليه الناس من كل أوب . فقال : " يا بني عبد المطلب ، با بني فهر ، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقيَّ " ؟ قالوا : نعم؛ قال : " فإني نذير لكم بين يدي الساعة " ؛ فقال أبو لهب : تباً لك ، ألهذا دعوتنا؟ فنزلت . فإن قلت : لم كناه ، والتكنية تكرمة؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون مشتهراً بالكنية دون الاسم ، فقد يكون الرجل معروفاً بأحدهما ، ولذلك تجري الكنية على الاسم ، أو الاسم على الكنية عطف بيان ، فلما أريد تشهيره بدعوة السوء ، وأن تبقى سمة له ، ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة من قرأ «يدا أبو لهب» ، كما قيل : علي بن أبو طالب . ومعاوية بن أبو سفيان؛ لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع ، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان ، أحدهما : عبد الله - بالجرّ ، والآخر عبد الله بالنصب . كان بمكة رجل يقال له : عبد الله - بجرّة الدال ، لا يعرف إلاّ هكذا . والثاني : أنه كان اسمه عبد العزّى ، فعدّل عنه إلى كنيته . والثالث : أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب ، وافقت حاله كنيته؛ فكان جديراً بأن يذكر بها . ويقال : أبو لهب ، كما يقال : أبو الشر للشرير . وأبو الخير للخير ، وكما كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المهلب : أبا صفرة ، بصفرة في وجهه . وقيل : كنى بذلك لتهلب وجنتيه وإشراقهما ، فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به ، وبافتخاره بذلك . وقرىء : «أبي لهب» بالسكون . وهو من تغيير الأعلام ، كقولهم : شمس بن مالك بالضم { مَا أغنى } استفهام في معنى الإنكار ، ومحله النصب أو نفي { وَمَا كَسَبَ } مرفوع . وما موصولة أو مصدرية بمعنى : ومكسوبه . أو : وكسبه . والمعنى : لم ينفعه ماله وما كسب بماله ، يعني : رأس المال والأرباح . أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها ، وكان ذا سابياء . أو ماله الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه . أو ماله التالد والطارف . وعن ابن عباس : ما كسب ولده . وحكي أن بني أبي لهب احتكموا إليه ، فاقتتلوا ، فقام يحجز بينهم ، فدفعه بعضهم فوقع فغضب ، فقال : أخرجوا عني الكسب الخبيث ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :

" إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه " وعن الضحاك : ما ينفعه ماله وعمله الخبيث ، يعني كيده في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن قتادة : عمله الذي ظنّ أنه منه على شيء ، كقوله : { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ } [ الفرقان : 23 ] وروي أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي «سيصلى» قرىء : بفتح الياء وبضمها مخففاً ومشدداً ، والسين للوعيد ، أي : هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته { وامرأته } هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : كانت تمشى بالنميمة ويقال : للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس : يحمل الحطب بينهم ، أي : يوقد بينهم النائرة ويورث الشرّ . قال :
مِنَ الْبِيضِ لَمْ تَصْطَدْ عَلَى ظَهْرِ لَأْمَةٍ ... وَلَمْ تَمْشِ بَيْنَ الْحَيِّ بالْحَطَبِ الرَّطْبِ
جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ ، ورفعت عطفاً على الضمير في { سيصلى } أي : سيصلى هو وامرأته . و { فِى جِيدِهَا } في موضع الحال ، أو على الابتداء ، وفي جيدها : الخبر . وقرىء : «حمالة الحطب» بالنصب على الشتم؛ وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل : من أحب شتم أم جميل . وقرىء : «حمالة الحطب» و«حمالة للحطب» : بالتنوين ، بالرفع والنصب . وقرىء : «ومريته» بالتصغير . المسد : الذي فتل من الحبال فتلاً شديداً ، من ليف كان أو جلد ، أو غيرهما . قال :
وَمَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانِقِ ... ورجل ممسود الخلق مجدوله . والمعنى : في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون : تخسيساً لحالها ، وتحقيراً لها ، وتصويراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن ، لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها؛ وهما في بيت العزّ والشرف . وفي منصب الثروة والجدة . ولقد عيّر بعض الناس الفضل بن العباس ابن عتبة ابن أبي لهب بحمالة الحطب ، فقال :
مَاذَا أَرَدْتَ إلَى شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي ... أَمْ مَا تَعَيَّرُ مِنْ حَمَّالَةِ الْحَطَب
ِ غَرَّاءَ شَادِخَةٍ فِي الْمَجْدِ غُرَّتُهَا ... كَانَتْ سَلِيلَةَ شَيْخٍ نَاقِبِ الحَسَبِ
ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك؛ فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل من ما مسد من سلاسل النار؛ كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1370 ) " من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة " .

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)

{ هُوَ } ضمير الشأن ، و { الله أَحَدٌ } هو الشأن ، كقولك : هو زيد منطلق ، كأنه قيل : الشأن هذا ، وهو أن الله واحد لا ثاني له . فإن قلت : ما محل هو؟ قلت : الرفع على الابتداء والخبر الجملة . فإن قلت : فالجملة الواقعة خبراً لا بد فيها من راجع إلى المبتدأ ، فأين الراجع؟ قلت : حكم هذه الجملة حكم المفرد في قولك : «زيد غلامك» في أنه هو المبتدأ في المعنى ، وذلك أن قوله : { الله أَحَدٌ } هو الشأن الذي هو عبارة عنه ، وليس كذلك «زيد أبوه منطلق» فإن زيداً والجملة يدلان على معنيين مختلفين ، فلا بد مما يصل بينهما . وعن ابن عباس : قالت قريش : يا محمد ، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه ، فنزلت : يعني : الذي سألتموني وصفه هو الله ، وأحد : بدل من قوله ، «الله» . أو على : هو أحد ، وهو بمعنى واحد ، وأصله وحد . وقرأ عبد الله وأبيّ : «هو الله أحد» بغير { قُلْ } وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : «الله أحد» بغير { قُلْ هُوَ } وقال من قرأ : الله أحد ، كان بعدل القرآن . وقرأ الأعمش : «قل هو الله الواحد» . وقرىء : «أحد الله» بغير تنوين : أسقط لملاقاته لام التعريف . ونحوه :
وَلاَ ذَاكِر اللَّهِ إلاّ قَلِيلاً ... والجيد هو التنوين ، وكسره لالتقاء الساكنين . و { الصمد } فعل بمعنى مفعول ، من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج . والمعنى : هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم ، وهو واحد متوحد بالإلهية لا يشارك فيها ، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه ، وهو الغني عنهم { لَمْ يَلِدْ } لأنه لا يجانس ، حتى يكون له من جنسه صاحبه فيتوالدا . وقد دلّ على هذا المعنى بقوله : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة } [ الأنعام : 101 ] . { وَلَمْ يُولَدْ } لأنّ كل مولود محدث وجسم ، وهو قديم لا أوّل لوجوده وليس بجسم ولم يكافئه أحد ، أي : لم يماثله ولم يشاكله . ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح ، نفياً للصاحبة : سألوه أن يصفه لهم ، فأوحى إليه ما يحتوى على صفاته ، فقوله : { هُوَ الله } إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء وفاطرها ، وفي طيّ ذلك وصفه بأنه قادر عالم؛ لأنّ الخلق يستدعي القدرة والعلم ، لكونه واقعاً على غاية إحكام واتساق وانتظام . وفي ذلك وصفه بأنه حيّ سميع بصير . وقوله : { أَحَدٌ } وصف بالوحدانية ونفي الشركاء . وقوله : { الصمد } وصف بأنه ليس إلاّ محتاجاً إليه ، وإذا لم يكن إلاّ محتاجاً إليه : فهو غني . وفي كونه غنياً مع كونه عالماً : أنه عدل غير فاعل للقبائح ، لعلمه بقبح القبيح وعلمه بغناه عنه . وقوله : { لَمْ يُولَدْ } وصف بالقدم والأوّلية .

وقوله : { لَمْ يَلِدْ } نفي للشبه والمجانسة . وقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } تقرير لذلك وبت للحكم به ، فإن قلت : الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم ، وقد نصّ سيبويه على ذلك في كتابه ، فما باله مقدّماً في أفصح كلام وأعربه؟ قلت : هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه؛ وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف ، فكان لذلك أهم شيء وأعناه ، وأحقه بالتقدم وأحراه . وقرىء : «كفؤاً» بضم الكاف والفاء . وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء : فإن قلت : لم كانت هذه السورة عدل القرآن كله على قصر منها وتقارب طرفيها؟ قلت : لأمر ما يسود من يسود ، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده ، وكفى دليلاً من اعتراف بفضلها وصدق بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها : إنّ علم التوحيد من الله تعالى بمكان ، وكيف لا يكون كذلك والعلم تابع للمعلوم : يشرف بشرفه ، ويتضع بضعته؛ ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله ، وإنافته على كل علم ، واستيلائه على قصب السبق دونه؛ ومن ازدراه فلضعف علمه بمعلومه ، وقلة تعظيمه له ، وخلوه من خشيته ، وبعده من النظر لعاقبته . اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك ، القائلين بعدلك وتوحيدك ، الخائفين من وعيدك . وتسمى سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين ، وروى : أبيّ وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1371 ) " أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد " يعني ما خلقت إلاّ لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه السورة . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1372 ) أنه سمع رجلاً يقرأ : قل هو الله أحد فقال : «وجبت» . قيل : يا رسول الله وما وجبت؟ قال : " وجبت له الجنة " .

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

الفلق والفرق : الصبح ، لأنّ الليل يفلق عنه ويفرق : فعل بمعنى مفعول . يقال في المثل : هو أبين من فلق الصبح ، ومن فرق الصبح . ومنه قولهم : سطع الفرقان ، إذا طلع الفجر . وقيل : هو كل ما يفلقه الله ، كالأرض عن النبات ، والجبال عن العيون ، والسحاب عن المطر ، والأرحام عن الأولاد ، والحب والنوى وغير ذلك . وقيل : هو واد في جهنم أوجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض ، الفلق ، والجمع : فلقان . وعن بعض الصحابة أنه قدم الشأم فرأى دور أهل الذمّة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم ، فقال : لا أبالى ، أليس من ورائهم الفلق؟ فقيل : وما الفلق؟ قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه { مِن شَرّ مَا خَلَقَ } من شر خلقه . وشرّهم : ما يفعله المكلفون من الحيوان من المعاصي والمآثم ، ومضارة بعضهم بعضاً من ظلم وبغي وقتل وضرب وشتم وغير ذلك ، وما يفعله غير المكلفين منه من الأكل والنهش واللدع والعضّ كالسباع والحشرات ، وما وضعه الله في الموات من أنواع الضرر كالإحراق في النار والقتل في السم . والغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه من قوله تعالى : { إلى غسق الليل } [ الإسراء : 78 ] ومنه : غسقت العين امتلأت دمعاً ، وغسقت الجراحة : امتلأت دماً . ووقوبه : دخول ظلامه في كل شيء ، ويقال : وقبت الشمس إذا غابت . وفي الحديث :
( 1373 ) لما رأى الشمس قد وقبت قال : « هذا حين حلها ، يعني صلاة المغرب » وقيل : هو القمر إذا امتلأ ، وعن عائشة رضي الله عنها :
( 1374 ) أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشار إلى القمر فقال : « تعوّذي بالله من شرّ هذا ، فإنه الغاسق إذا وقب » ووقوبه : دخوله في الكسوف واسوداده . ويجوز أن يراد بالغاسق : الأسود من الحيات : ووقبه : ضربه ونقبه . والوقب : النقب . ومنه : وقبة الثريد؛ والتعوّذ من شرّ الليل؛ لأن انبثاثه فيه أكثر ، والتحرّز منه أصعب . ومنه قولهم : الليل أخفى للويل . وقولهم : أغدر الليل؛ لأنه إذا أظلم كثر فيه الغدر وأسند الشرّ إليه لملابسته له من حدوثه فيه { النفاثات } النساء ، أو النفوس ، أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين : والنفث النفخ من ريق ، ولا تأثير لذلك ، اللهم إلاّ إذا كان ثم إطعام شيء ضار ، أو سقيه ، أو إشمامه . أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه؛ ولكن الله عزّ وجلّ قد يفعل عند ذلك فعلاً على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحقّ من الحشوية والجهلة من العوام ، فينسبه الحشوية والرعاع إليهنّ وإلى نفثهن ، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به ، فإن قلت : فما معنى الاستعاذة من شرّهن؟ قلت : فيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ومن إثمهنّ في ذلك .

والثاني : أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس عند نفثهن ، ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات ، من قوله : { إن كيدكن عظيم } [ يوسف : 28 ] تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث في العقد . أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم ومحاسنهنّ ، كأنهنّ يسحرنهم بذلك { إِذَا حَسَدَ } إذا ظهر حسده ، وعمل بمقتضاه : من بغي الغوائل للمحسود ، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره فلا ضرر يعود منه على من حسده ، بل هو الضارّ لنفسه لاغتمامه بسرور غيره . وعن عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد . ويجوز أن يراد بشرّ الحاسد : إثمه وسماجة حاله في وقت حسده ، وإظهاره أثره . فإن قلت : قوله : { مِن شَرّ مَا خَلَقَ } تعميم في كل ما يستعاذ منه ، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟ قلت : قد خص شرّ هؤلاء من كلّ شر لخفاء أمره ، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم ، كأنما يغتال به . وقالوا : شر العداة المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر . فإن قلت : فلم عرّف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ قلت : عرفت النفاثات ، لأن كل نفاثة شريرة ، ونكر غاسق ، لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر ، إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضرّ . ورب حسد محمود ، وهو الحسد في الخيرات . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1375 ) « لا حسد إلاّ في اثنتين » وقال أبو تمام :
وَمَا حَاسِدٌ فِي المَكْرُمَاتِ بِحَاسِدِ ... وقال :
إنَّ الْعُلاَ حَسَنٌ فِي مِثْلِهَا الْحَسَدُ ... عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1376 ) « من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها » .

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

قرىء : «قل أعوذ» بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام ، ونحوه . { فخذ أربعة } [ البقرة : 260 ] . فإن قلت : لم قيل { بِرَبّ الناس } مضافاً إليهم خاصة؟ قلت : لأنّ الاستعاذة وقعت من شرّ الموسوس في صدور الناس ، فكأنه قيل : أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم ، وهو إلههم ومعبودهم ، كما يستغيث بعض الموالى إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم . فإن قلت : { مَلِكِ الناس إله الناس } ما هما من رب الناس؟ قلت : هما عطف بيان ، كقولك : سيرة أبي حفص عمر الفاروق . بين بملك الناس ، ثم زيد بياناً بإله الناس ، لأنه قد يقال لغيره : رب الناس ، كقوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] وقد يقال : ملك الناس . وأمّا { إله الناس } فخاص لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان . فإن قلت : فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة؟ قلت : لأنّ عطف البيان للبيان ، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار { الوسواس } اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة . وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال . والمراد به الشيطان ، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه ، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه . أو أريد ذو الوسواس . والوسوسة : الصوت الخفي . ومنه : وسواس الحلي . و { الخناس } الذي عادته أن يخنس ، منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والبتات ، لما روي عن سعيد بن جبير : إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى ، فإذا غفل وسوس إليه { الذى يُوَسْوِسُ } يجوز في محله الحركات الثلاث ، فالجر على الصفة ، والرفع والنصب على الشتم ، ويحسن أن يقف القارىء على { الخناس } ويبتدىء { الذى يُوَسْوِسُ } على أحد هذين الوجهين { مِنَ الجنة والناس } بيان للذي يوسوس ، على أن الشيطان ضربان : جنى وإنسي ، كما قال { شياطين الإنس والجن } وعن أبي ذر رضي الله عنه قال لرجل : هل تعوذت بالله من شيطان الإنس؟ ويجوز أن يكون ( من ) متعلقاً بيوسوس ، ومعناه : ابتداء الغاية ، أي : يوسوس في صدروهم من جهة الجنّ ومن جهة الناس ، وقيل : من الجنّة والناس بيان للناس ، وأن اسم الناس ينطلق على الجنة ، واستدلّوا ( بنفر ) و ( رجال ) في سورة الجن . وما أحقه؛ لأن الجن سموا «جنا» لاجتنانهم ، والناس «ناساً» لظهورهم ، من الإيناس وهو الإبصار ، كما سموا بشراً؛ ولو كان يقع على الناس على القبيلين ، وصحّ ذلك وثبت : لم يكن مناسباً لفصاحة القرآن وبعده من التصنع . وأجود منه أن يراد بالناس : الناسي ، كقوله : { يَوْمَ يَدْعُ الداع } [ القمر : 6 ] كما قرىء : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } [ البقرة : 199 ] ثم يبين بالجنة والناس؛ لأنّ الثقلين هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله عزّ وجلّ .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1877 ) " لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما ، وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما " يعني : المعوذتين . ويقال للمعوذتين : المقشقشتان .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20