كتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)

عامل النصب في { ويَوْمَ تَقُومُ } يخسر ، و { يَوْمَئِذٍ } بدل من ( يوم تقول ) { جَاثِيَةً } باركة مستوفزة على الركب . وقرىء «جاذية» والجذّو : أشد استيفازاً من الجثوّ : لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه : وعن ابن عباس رضي الله عنهما : جاثية مجتمعة . وعن قتادة جماعات من الجثوة ، وهي الجماعة ، وجمعها : جثى . وفي الحديث :
( 1023 ) " من جثى جهنم " وقرىء : { كُلَّ أُمَّةٍ } على الابتداء ، وكل أمة : على الإبدال من كل أمة { إلى كتابها } إلى صحائف أعمالها ، فاكتفى باسم الجنس ، كقوله تعالى : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [ الكهف : 49 ] . { اليوم تُجْزَوْنَ } محمول على القول . فإن قلت : كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله عزَّ وجل؟ قلت : الإضافة تكون للملابسة ، وقد لابسهم ولابسه ، أما ملابسته إياهم ، فلأن أعمالهم مثبتة فيه . وأما ملابسته إياه؛ فلأنه مالكه ، والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده { يَنطِقُ عَلَيْكُم } يشهد عليكم بما عملتم { بالحق } من غير زيادة ولا نقصان { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ } الملائكة { مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي نستكتبهم أعمالكم { فِى رَحْمَتِهِ } في جنته . وجواب أما محذوف تقديره : وأما الذين كفروا فيقال لهم { أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتي تتلى عَلَيْكُمْ } والمعنى ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه .

وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)

وقرىء : «والساعة» بالنصب عطفاً على الوعد ، وبالرفع عطفاً على محل إن واسمها { مَا الساعة } أيّ شيء الساعة؟ فإن قلت : ما معنى ( إن نظن إلا ظناً ) ؟ قلت : أصله نظن ظناً . ومعناه : إثبات الظن فحسب ، فأدخل حرفا النفي والاستثناء ، ليفاد إثبات الظن مع نفي ما سواه وزيد نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله : { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ . . . سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي قبائح أعمالهم . أو عقوبات أعمالهم السيئات ، كقوله تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 45 ] .

وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)

{ نَنسَاكُمْ } نترككم في العذاب كما تركتم عدة { لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } وهي الطاعة ، أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به ، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم ولم تخطروه ببال ، كالشيء الذي يطرح نسياً منسياً . فإن قلت : فما معنى إضافة اللقاء إلى اليوم؟ قلت : كمعنى إضافة المكر في قوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] أي نسيتم لقاء اليوم في يومكم هذا ولقاء جزائه . وقرىء «لا يخرجون» بفتح الياء { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه .

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

{ فَلِلَّهِ الحمد } فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السموات والأرض والعالمين ، فإن مثل هذه الربوبية العامة يوجب الحمد والثناء على كل مربوب . وكبروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته { فِى السماوات والأرض } وحق مثله أن يكبر ويعظم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1024 ) « من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب » .

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)

{ إِلاَّ بالحق } إلا خلقاً ملتبساً بالحكمة والغرض الصحيح ( و ) بتقدير { أَجَلٍ مُّسَمًّى } ينتهى إليه وهو يوم القيامة { والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ } من هول ذلك اليوم الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه { مُعْرِضُونَ } لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له . ويجوز أن تكون ما مصدرية ، أي : عن إنذارهم ذلك اليوم .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)

{ بكتاب مّن قَبْلِ هاذآ } أي من قبل هذا الكتاب وهو القرآن ، يعني : أنّ هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك . وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله { أَوْ أثارة مِّنْ عِلْمٍ } أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأوّلين ، من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من شحم ، أي : على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب . وقرىء «أثرة» أي : من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم . وقرىء «أثرة» بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء ، فالإثرة بالكسر بمعنى الأثرة . وأما الأثرة فالمرّة من مصدر : أثر الحديث إذا رواه . وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر ، كالخطبة : اسم ما يخطب به .

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)

{ وَمَنْ أَضَلُّ } معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً من عبدة الأصنام ، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر عل تحصيل كلّ بغية ومرام ، ويدعون من دونه جماداً لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس : كانوا لهم أعداء ، وكانوا عليهم ضداً ، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة ، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة؛ وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم . وإنما قيل : { مَن } و ( هم ) لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة ، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلاً وغباوة . ويجوز أن يريد : كل معبود من دون الله من الجن والإنس والأوثان ، فغلب غير الأوثان عليها . قرى : «ما لا يستجيب» وقرىء : «يدعو غير الله من لا يستجيب» ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها . ونحوه قوله تعالى : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] .

وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

{ بينات } جمع بينة : وهي الحجة والشاهد . أو واضحات مبينات . واللام في { لِلْحَقِّ } مثلها في قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً } [ الأحقاف : 11 ] أي لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا . والمراد بالحق : الآيات ، وبالذين كفروا : المتلو عليهم ، فوضع الظاهران موضع الضميرين؛ للتسجيل عليهم بالكفر ، وللمتلوّ بالحق { لَمَّا جَآءَهُمْ } أي : بادهوه بالجحود ساعة أتاهم ، وأوّل ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر . ومن عنادهم وظلمهم : أنهم سموه سحراً مبيناً ظاهراً أمره في البطلان لا شبهة فيه .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)

{ أَمْ يَقُولُونَ افتراه } إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحراً إلى ذكر قولهم : إن محمداً افتراه . ومعنى الهمزة في أم : الإنكار والتعجيب ، كأنه قيل : دع هذا واسمع قولهم المستنكر المفضى منه العجب ، وذلك أن محمداً كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله ، ولو قدر عليه دون أمّة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة ، وإذا كانت معجزة كانت تصديقاً من الله له ، والحكيم لا يصدّق الكاذب فلا يكون مفترياً . والضمير للحق؛ والمراد به الآيات { قُلْ إِنِ افتريته } على سبيل الفرض عاجلني الله تعالى لا محالة بعقوبة الافتراء عليه . فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه عني ، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه . يقال : فلان لا يملك إذا غضب ، ولا يملك عنانه إذا صمم ، ومثله : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 17 ] ، { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } [ المائدة : 41 ] ومنه قوله عليه الصلاة السلام :
( 1025 ) « لا أملك لكم من الله شيئاً » ، ثم قال : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله تعالى ، والطعن في آياته ، وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى { كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } يشهد لي بالصدق والبلاغ ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود . ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم { وَهُوَ الغفور الرحيم } موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا ، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوا . فإن قلت : فما معنى إسناد الفعل إليهم في قوله تعالى : { فلا تملكون لي } ؟ قلت : كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والأشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم ، فكأنه قال لهم : إن افتريته وأنا أريد بذلك التنصح لكم وصدكم عن عبادة الآلهة إلى عبادة الله ، فما تغنون عني أيها المنصوحون إن أخذني الله بعقوبة الافتراء عليه .

قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

البدع ، بمعنى : البديع ، كالخف بمعنى الخفيف . وقرىء «بدعا» بفتح الدال ، أي : ذا بدع ويجوز أن يكون صفة على فعل ، كقولهم : دين قيم ، ولحم زيم : كانوا يقترحون عليه الآيات ويسألونه عما لم يوح به إليه من الغيوب . فقيل له : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل } فآتيكم بكل ما تقترحونه ، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات؛ فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم من آياته ، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم . ولقد أجاب موسى صلوات الله وسلام عليه عن قول فرعون : ( فما بال القرون الأولى ) ؟ بقوله : { علمها عند ربي } [ طه : 52 ] { وَمَآ أَدْرِى } لأنه لا علم لي بالغيب ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله ، ويقدّر لي ولكم من قضاياه { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } وعن الحسن : وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، ومن الغالب منا والمغلوب . وعن الكلبي : قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى نكون على هذا؟ فقال : ( ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) أأترك بمكة أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخيل وشجر؟ وعن ابن عباس : ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، وقال : هي منسوخة بقوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ويجوز أن يكون نفياً للدراية المفصلة . وقرىء «ما يفعل» بفتح الياء ، أي : يفعل الله عز وجل . فإن قلت : إنّ ( يفعل ) مثبت غير منفي ، فكان وجه الكلام : ما يفعل بي وبكم . قلت : أجل ، ولكن النفي في { وَمَآ أَدْرِى } لما كان مشتملاً عليه لتناوله { مَا } وما في حيزه : صح ذلك وحسن . ألا ترى إلى قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السماوات والارض وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } [ الأحقاف : 33 ] كيف دخلت الباء في حيز أنّ وذلك لتناول النفي إياها مع ما في حيزها . و ( ما ) في ( ما يفعل ) يجوز أن تكون موصولة منصوبة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة . وقرىء : «يوحي» أي الله عز وجل .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

جواب الشرط محذوف تقديره : إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين . ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } والشاهد من بني إسرائيل : عبد الله بن سلام ، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس بوجه كذاب . وتأمّله فتحقق أنه هو النبي المنتظر وقال له :
( 1026 ) إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ : ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « أما أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب . وأما أوّل طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه ، وإن سبق ماء المرأة نزعته » فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً ، ثم قال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت وإن علموا باسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك . فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أي رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا . قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا انتقصوه . قال : هذا ما كنت أخاف عليه يا رسول الله وأحذر . قال سعد بن أبي وقاص :
( 1027 ) ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزل : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ } الضمير للقرآن ، أي : على مثله في المعنى ، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك . ويدل عليه قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين } [ الشعراء : 196 ] ، { إِنَّ هذا لَفِى الصحف الاولى } [ الأعلى : 18 ] ، { كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } [ الشورى : 3 ] ويجوز أن يكون المعنى : إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك ، يعني كونه من عند الله . فإن قلت : أخبرني عن نظم هذا الكلام لأقف على معناه من جهة النظم . قلت : الواو الأولى عاطفة لكفرتم على فعل الشرط ، كما عطفته ( ثم ) في قوله تعالى : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } [ فصلت : 52 ] وكذلك الواو الآخرة عاطفة لاستكبرتم على شهد شاهد ، وأما الواو في ( وشهد شاهد ) فقد عطفت جملة قوله . { شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } على جملة قوله : ( كان من عند الله وكفرتم به ) ونظيره قولك : إن أحسنت إليك وأسأت ، وأقبلت عليك وأعرضت عني ، لم نتفق في أنك أخذت ضميمتين فعطفتهما على مثليهما ، والمعنى : قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به ، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به ، مع استكباركم عنه وعن الإيمان به ، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ وقد جعل الإيمان في قوله : { فَئَامَنَ } مسبباً عن الشهادة على مثله : لأنه لما علم أنّ مثله أنزل على موسى صلوات الله عليه ، وأنه من جنس الوحي وليس من كلام البشر ، وأنصف من نفسه فشهد عليه واعترف كان الإيمان نتيجة ذلك .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)

{ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } لأجلهم وهو كلام كفار مكة ، قالوا : عامّة من يتبع محمداً السقاط ، يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود ، فلو كان ما جاء به خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء . وقيل : لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار : قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع : لو كان خيراً ما سبقنا إليه رعاء البهم . وقيل : إن أمة لعمر أسلمت ، فكان عمر يضربها حتى يفتر ثم يقول لولا أني فترت لزدتك ضرباً ، وكان كفار قريش يقولون : لو كان ما يدعو إليه محمد حقاً ما سبقتنا إليه فلانة . وقيل : كان اليهود يقولونه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه . فإن قلت : لا بدّ من عامل في الظرف في قوله : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } ومن متعلق لقوله : { فَسَيَقُولُونَ } وغير مستقيم أن يكون { فَسَيَقُولُونَ } هو العامل في الظرف ، لتدافع دلالتي المضي والاستقبال ، فما وجه هذا الكلام؟ قلت : العامل في إذ محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، كما حذف في قوله : { فلما ذهبوا به } [ يوسف : 15 ] وقولهم : حينئذٍ الآن ، وتقديره : وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم ، فسيقولون هذا إفك قديم ، فهذا المضمر صحّ به الكلام ، حيث انتصب به الظرف وكان قوله : { فَسَيَقُولُونَ } مسبباً عنه كما صحَّ بإضمار أنّ قوله : { حتى يَقُولَ الرسول } [ البقرة : 214 ] لمصادفة ( حتى ) مجرورها ، والمضارع ناصبه . وقولهم : { إِفْكٌ قَدِيمٌ } كقولهم : أساطير الأوّلين { كتاب موسى } مبتدأ ومن قبله ظرف واقع خبراً مقدماً عليه ، وهو ناصب { إِمَاماً } على الحال ، كقولك : في الدار زيد قائماً . وقرىء : ومن قبله كتاب موسى ، على : وآتينا الذين قبله التوراة . ومعنى { إِمَاماً } : قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه ، كما يؤتم بالإمام { وَرَحْمَةً } لمن آمن به وعمل بما فيه { وهذا } القرآن { كتاب مُّصَدِّقٌ } لكتاب موسى . أو لما بين يديه وتقدّمه من جميع الكتب . وقرىء «مصدق لما بين يديه» { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } حال من ضمير الكتاب في مصدق ، والعامل فيه ( مصدق ) ويجوز أن ينتصب حالاً عن كتاب لتخصصه بالصفة ، ويعمل فيه معنى الإشارة . وجوّز أن يكون مفعولاً لمصدق ، أي : يصدق ذا لسان عربي وهو الرسول . وقرىء : «لينذر» بالياء والتاء ، ولينذر : من نذر ينذر إذا حذر { وبشرى } في محل النصب معطوف على محل لينذر ، لأنه مفعول له .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

قرىء : «حسناً» بضم الحاء وسكون السين . وبضمهما ، وبفتحهما . وإحساناً ، وكرهاً ، بالفتح والضم ، وهما لغتان في معنى المشقة ، كالفقر والفقر . وانتصابه على الحال : أي : ذات كره . أو على أنه صفة للمصدر ، أي : حملاً ذا كُرهٍ { وَحَمْلُهُ وفصاله } ومدّة حمله وفصاله { ثلاثون شَهْراً } وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأن مدّة الرضاع إذا كانت حولين لقوله عز وجل : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] بقيت للحمل ستة أشهر . وقرىء : «وفصله» والفصل والفصال : كالفطم والفطام . بناء ومعنى . فإن قلت : المراد بيان مدّة الرضاع لا الفطام ، فكيف عبر عنه بالفصال؟ قلت : لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهي به ويتم : سمى فصالاً ، كما سمي المدّة بالأمد من قال :
كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْ ... رِ وَمُودٍ إِذَا انتهى أَمَدُهْ
وفيه فائدة وهي الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته . وقرىء : «حتى إذا استوى وبلغ أشدّه» وبلوغ الأشد : أن يكتهل ويستوفي السنّ التي تستحكم فيها قوّته وعقله وتمييزه ، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين . وعن قتادة : ثلاث وثلاثون سنة ، ووجهه أن يكون ذلك أوّل الأشد ، وغايته الأربعين . وقيل : لم يبعث نبيّ قط إلا بعد أربعين سنة . والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها : نعمة التوحيد والإسلام ، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه . وقيل في العمل المرضي : هو الصلوات الخمس . فإن قلت : ما معنى ( في ) في قوله : { وَأَصْلِحْ لِى فِى ذريتى } ؟ قلت : معناه : أن يجعل ذريّته موقعاً للصلاح ومظنة له كأنه قال : هب لي الصلاح في ذرّيتي وأوقعه فيهم ونحوه :
يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي ... { مِنَ المسلمين } من المخلصين . وقرىء : «يتقبل» ويتجاوز ، بفتح الياء ، والضمير فيهما لله عز وجل . وقرئا بالنون . فإن قلت : ما معنى قوله : { فِى أصحاب الجنة } ؟ قلت : هو نحو قولك : أكرمني الأمير في ناس من أصحابه ، تريد : أكرمني في جملة من أكرم منهم ، ونظمني في عدادهم ، ومحله النصب على الحال ، على معنى : كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم { وَعْدَ الصدق } مصدر مؤكد؛ لأن قوله : يتقبل ، ويتجاوز : وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز . وقيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وفي أبيه أبي قحافة وأمّه أم الخير وفي أولاده ، واستجابة دعائه فيهم . وقيل : لم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو وولداه وبنوه وبناته غير أبي بكر رضي الله عنه .

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)

{ والذى قَالَ لوالديه } مبتدأ خبره : أولئك الذين حق عليهم القول . والمراد بالذي قال : الجنس القائل ذلك القول ، ولذلك وقع الخبر مجموعاً . وعن الحسن : هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث . وعن قتادة : هو نعت عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه . وقيل : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمّه أمّ رومان إلى الإسلام ، فأفف بهما وقال : ابعثوا لي جدعان بن عمرو وعثمان بن عمرو ، وهما من أجداده حتى أسألهما عما يقول محمد ، ويشهد لبطلانه أن المراد بالذي قال : جنس القائلين ذلك ، وأنّ قوله الذين حق عليهم القول : هم أصحاب النار ، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم . وعن عائشة رضي الله عنها إنكار نزولها فيه ، وحين كتب معاوية إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن :
( 1028 ) لقد جئتم بها هرقلية ، أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان : يا أيها الناس ، هو الذي قال الله فيه : { والذى قَالَ لوالديه أُفٍّ لَّكُمَآ } فسمعت عائشة فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن أسميه لسميته ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله . وقرىء : «أف» بالكسر والفتح بغير تنوين ، وبالحركات الثلاث مع التنوين ، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر ، كما إذا قال : حس ، علم منه أنه متوجع ، واللام للبيان ، معناه : هذا التأفيف لكما خاصة ، ولأجلكما دون غيركما . وقرىء «أتعدانني» بنونين . وأتعداني : بأحدهما . وأتعداني : بالإدغام . وقد قرأ بعضهم : أتعدانني بفتح النون ، كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرتين والياء ، ففتح الأولى تحرياً للتخفيف ، كما تحراه من أدغم ومن أطرح أحدهما { أَنْ أُخْرَجَ } أن أُبعث وأخرج من الأرض . وقرىء : «أخرج» { وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى } يعني : ولم يبعث منهم أحد { يَسْتَغِيثَانِ الله } يقولان : الغياث بالله منك ومن قولك ، وهو استعظام لقوله : { وَيْلَكَ } دعاء عليه بالثبور : والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك { فِى أُمَمٍ } نحو قوله : { فِى أصحاب الجنة } [ الأحقاف : 16 ] وقرىء : «أن» بالفتح ، على معنى : آمن بأن وعد الله حق .

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)

{ وَلِكُلٍّ } من الجنسين المذكورين { درجات مّمَّا عَمِلُواْ } أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، أومن أجل ما عملوا منهما . فإن قلت : كيف قيل : درجات ، وقد جاء : الجنة درجات والنار دركات؟ قلت : يجوز أن يقال ذلك على وجه التغليب ، لاشتمال كل على الفريقين { وَلِيُوَفّيَهُمْ } وقرىء : بالنون تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه ، كأنه قيل : وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم ، قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات .

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

ناصب الظرف هو القول المضمر قبل { أَذْهَبْتُمْ } وعرضهم على النار : تعذيبهم بها ، من قولهم : عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به ومنه قوله تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } [ غافر : 46 ] ويجوز أن يراد : عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون : عرض الحوض عليها فقلبوا . ويدل عليه تفسير ابن عباس رضي الله عنه : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها { أَذْهَبْتُمْ طيباتكم } أي : ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم ، وقد ذهبتم به وأخذتموه ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها . وعن عمر رضي الله عنه : لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسمنة ، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم طيباتهم فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا . وعنه : لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي : وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1029 ) أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً ، فقال : " أأنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة . قالوا : نحن يومئذٍ خير . قال : بل أنتم اليوم خير " وقرىء : «أأذهبتم» بهمزة الاستفهام . و«آأذهبتم» بألف بين همزتين : «الهون» و«الهوان» وقرىء «عذاب الهوان» ، وقرىء : «يفسقون» بضم السين وكسرها .

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)

الأحقاف : جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء ، من احقوقف الشيء إذا اعوج ، وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر من بلاد اليمن . وقيل : بين عمان ومهرة . و { النذر } جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } من قبله { وَمِنْ خَلْفِهِ } ومن بعده . وقرىء : «من بين يديه ومن بعده» والمعنى : أنّ هوداً عليه السلام قد أنذرهم فقال لهم : لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم العذاب؛ وأعلمهم أنّ الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره وعن ابن عباس رضي الله عنه : يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه . ومعنى { وَمِنْ خَلْفِهِ } على هذا التفسير ومن بعد إنذاره ، هذا إذا علقت ، وقد خلت النذر بقوله : أنذر قومه ، ولك أن تجعل قوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } اعتراضاً بين أنذر قومه وبين { أَلاَّ تَعْبُدُواْ } ويكون المعنى : واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم؛ وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم .

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)

الإفك : الصرف . يقال أفكه عن رأيه { عَنْ ءَالِهَتِنَا } عن عبادتها { بِمَا تَعِدُنَآ } من معاجلة العذاب على الشرك { إِن كُنتَ } صادقاً في وعدك .

قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)

فإن قلت : من أين طابق قوله تعالى : { إِنَّمَا العلم عِندَ الله } جواباً لقولهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } ؟ قلت : من حيث إنّ قولهم هذا استعجال منهم بالعذاب . ألا ترى إلى قوله تعالى : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ } فقال لهم : لا علم عندي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم حكمة وصواباً ، إنما علم ذلك عند الله ، فكيف ادعوه بأن يأتيكم بعذابه في وقت عاجل تقترحونه أنتم؟ ومعنى : «وأبلغكم» { مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ } وقرىء بالتخفيف : أن الذي هو شأني وشرطي : أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف والصرف عما يعرّضكم لسخط الله بجهدي ، ولكنكم جاهلون لا تعلمون أنّ الرسل لم يبعثوا إلا منذرين لا مقترحين ، ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه .

فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

{ فَلَمَّا رَأَوْهُ } في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهماً قد وضح أمره بقوله : { عَارِضًا } إما تمييزاً وإما حالاً . وهذا الوجه أعرب وأفصح . والعارض : السحاب الذي يعرض في أفق السماء . ومثله : الحبى والعنان ، من حبا وعنّ : إذا عرض . وإضافة مستقبل وممطر مجازية غير معروفة؛ بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفاً للنكرة { بَلْ هُوَ } القول قبله مضمر ، والقائل : هود عليه السلام ، والدليل عليه قراءة من قرأ : «قال هود ، بل هو» وقرىء : «قل بل ما استعجلتم به هي ريح» ، أي قال الله تعالى : قل { تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ } تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير ، فعبر عن الكثرة بالكلية . وقرىء يدمر كل شيء من دمر دماراً إذا هلك { لاَّ ترى } الخطاب للرائي من كان . وقرىء : «لا يرى» ، على البناء للمفعول بالياء والتاء ، وتأويل القراءة بالتاء وهي عن الحسن رضي الله عنه : لا ترى بقايا ولا أشياء منهم إلا مساكنم . ومنه بيت ذي الرمّة :
وَمَا بَقِيَتْ إِلاَّ الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ ... وليست بالقوية . وقرىء : «لا ترى إلا مسكنهم» ، و«لا يرى إلا مسكنهم» . وروى أنّ الريح كانت كانت تحمل الفسطاط والظعينة فترفعها في الجوّ حتى ترى كأنها جرادة . وقيل : أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت : رأيت ريحاً فيها كشهب النار . وروي : أوّل ما عرفوا به أنه عذاب : أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم؛ فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأمال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم كشفت الريح عنه ، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر . وروى أنّ هوداً لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : اعتزل هود ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس . وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء وتدمغهم بالحجارة وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال :
( 1030 ) " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به وإذا رأى مخيلة : قام وقعد ، وجاء وذهب ، وتغير لونه ، فيقال له : يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول : إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا : هذا عارض ممطرنا " فإن قلت : ما فائدة إضافة الرب إلى الريح؟ قلت : الدلالة على أن الريح وتصريف أعنتها مما يشهد لعظم قدرته ، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده . وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وجل يعضد ذلك ويقوّيه .

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)

{ إِن } نافية ، أي : فيما ما مكناكم فيه ، إلا أنّ { إِن } أحسن في اللفظ؛ لما فيه مجامعة ( ما ) مثلها من التكرير المستبشع . ومثله مجتنب ، ألا ترى أن الأصل في «مهما» : ( ماما ) فلبشاعة التكرير : قلبوا الألف هاء . ولقد أغث أبو الطيب في قوله :
لَعَمْرُكَ مامَا بَانَ مِنْكَ لِضَارِبِ ... وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال : لعمرك ما إن بان منك لضارب وقد جعلت إنْ صلة ، مثلها فيما أنشده الأخفش :
يُرَجّى الْمَرْءُ مَا إنْ لاَ يَرَاهُ ... وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الْخُطُوبُ
وتؤوّل بإنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه ، والوجه هو الأوّل ، ولقد جاء عليه غير آية في القرآن { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا } ، [ مريم : 74 ] { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً } [ غافر : 82 ] وهو أبلغ في التوبيخ ، وأدخل في الحث على الاعتبار { مِّن شَىْءٍ } أي من شيء من الإغناء ، وهو القليل منه . فإن قلت بم انتصب { إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ } ؟ قلت : بقوله تعالى : { فَمَا أغنى } . فإن قلت : لم جرى مجرى التعليل؟ قلت : لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك : ضريته لإساءته وضربته إذا أساء؛ لأنك إذا ضربته في وقت إساءته؛ فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه؛ إلا أن «إذ» ، وحيث ، غلبتا دون سائر الظروف في ذلك» .

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)

{ مَا حَوْلَكُمْ } يا أهل مكة { مِّنَ القرى } من نحو حجر ثمود وقرية سدوم وغيرهما . والمراد : أهل القرى . ولذلك قال : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .

فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

القربان : ما تقرب به إلى الله تعالى ، أي : اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله ، حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف ، والثاني : آلهة . وقرباناً : حال ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة بدلاً منه لفساد المعنى . وقرىء «قربانا» بضم الراء . والمعنى : فهلا منعهم من الهلاك آلهتهم { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } أي غابوا عن نصرتهم { وَذَلِكَ } إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، أي : وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء . وقرىء «إفكهم» ، والأفك والإفك : كالحذر والحذر . وقرىء : «وذلك إفكهم» أي : وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق . وقرىء : «أفكهم» على التشديد للمبالغة . وآفكهم : جعلهم آفكين . وآفكهم ، أي : قولهم الآفك ذو الإفك ، كما تقول قول كاذب ، وذلك إفك مما كانوا يفترون ، أي : بعض ما كانوا يفترون من الإفك .

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)

« وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى صرط مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين »
« صرفنا إليك نفرا » أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك . وقرئ : صرفنا بالتشديد لأنهم جماعة . والنفر : دون العشرة . ويجمع أنفارا . وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه : لو كان ههنا أحد من أنفارنا « فلما حضروه » الضمير للقرآن . أي : فلما كان بمسمع منهم . أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وتعضده قراءة من قرأ فلما قضى أي أتم قراءته وفرغ منها « قالوا » قال بعضهم لبعض « أنصتوا » اسكتوا مستمعين . يقال : أنصت لكذا واسنتصت له . روى : أن الجن كانت تسترق السمع فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلا لنبأ حدث فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى : منهم زوبعة فضربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر فاستمعوا لقراءته وذلك عند منصرفه من الطائف حين خرج إليهم يستنصرهم فلم يجيبوه إلى طلبته وأغروا به سفهاء ثقيف . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر فأنبأه الله باستماعهم . وقيل : بل أمر الله رسوله أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فصرف إليه نفرا منهم جمعهم له فقال : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني : قالها ثلاثا فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لم يحضره ليلة الجن أحد غيري فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطا وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ثم افتتح القرآن وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم انقطعوا كقطع السحاب فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت شيئا ؟ قلت : نعم رجالا سودا مستثفري ثياب بيض فقال : اولئك جن نصيبين وكانوا اثنى عشر ألفاً والسورة التي قرأها عليهم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( العلق 1 ) فإن قلت كيف قالوا مِن بَعْدِ مُوسَى قلت عن عطاء رضي الله عنه أنهم كانوا على اليهودية وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنّ الجنّ لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام فلذلك قالت مِن بَعْدِ مُوسَى فإن قلت لم بعَّض في قوله مّن ذُنُوبِكُمْ قلت لأن من الذنوب مالا يغفر بالإيمان كذنوب المظالم ونحوها ونحوه قوله عزّ وجل أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( نوح 3 4 ) فإن قلت هل للجن ثواب كما للإنس قلت اختلف فيه فقيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار لقوله تعالى وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وإليه كان يذهب أبو حنيفة رحمه الله والصحيح أنهم في حكم بني آدم لأنهم مكلفون مثلهم فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاْرْضَ أي لا ينجي منه مهرب ولا يسبق قضاءه سابق ونحوه قوله تعالى وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ( الجن 12 )

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)

{ بقادر } محله الرفع؛ لأنه خبر أن ، يدل عليه قراءة عبد الله «قادر» وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أوّل الآية على أن وما في حيزها . وقال الزجاج : لو قلت : ما ظننت أنّ زيداً يقائم : جاز ، كأنه قيل : أليس الله بقادر . ألا ترى إلى وقوع بلى مقرّره للقدرة على كل شيء من البعث وغيره ، لا لرؤيتهم . وقرىء : «يقدر» ، ويقال : عييت بالأمر ، إذا لم تعرف وجهه . ومنه : { أَفَعَيِينَا بالخلق الاول } [ ق : 15 ] .

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)

{ أَلَيْسَ هذا بالحق } محكى بعد قول مضمر ، وهذا المضمر هو ناصب الظرف . وهذا إشارة إلى العذاب ، بدليل قوله تعالى : { فَذُوقُواْ العذاب } والمعنى : التهكم بهم ، والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده ، وقولهم : { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ الشعراء : 138 ] .

فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

{ أُوْلُواْ العزم } أولوا الجد والثبات والصبر . و { مِنْ } يجوز أن تكون للتبعيض ، ويراد بأولى العزم : بعض الأنبياء . قيل : هم نوح ، صبر على أذى قومه : كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح ولده ، وإسحاق على ا لذبح ، ويعقوب على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضرّ ، وموسى قال له قومه : إنا لمدركون ، قال : كلا إنّ معي ربي سيهدين ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها . وقال الله تعالى في آدم : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] وفي يونس : { وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت } [ القلم : 48 ] ويجوز أن تكون للبيان ، فيكون أولو العز صفة الرسل كلهم { وَلاَ تَسْتَعْجِل } لكفار قريش بالعذاب ، أي : لا تدع لهم بتعجيله؛ فإنه نازل بهم لا محالة ، وإن تأخر ، وأنهم مستقصرون حينئذٍ مدّة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها { سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ } أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة . أو هذا تبليغ من الرسول عليه السلام { فَهَلْ يُهْلَكُ } إلا الخارجون عن الاتعاظ به ، والعمل بموجبه . ويدل على معنى التبليغ قراءة من قرأ : بلغ فهل يهلك : وقرىء «بلاغاً» ، أي بلغوا بلاغاً : وقرىء «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام وفتحها ، من هلك وهلك . ونهلك بالنون { إِلاَّ القوم الفاسقون } .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1035 ) " من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا " .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)

{ وَصُدُّواْ } وأعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام : أو صدّوا غيرهم عنه . قال ابن عباس رضي الله عنه : هم المطعمون يوم بدر . وعن مقاتل : كانوا اثني عشر رجلاً من أهل الشرك يصدّون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر . وقيل : هم أهل الكتاب الذين كفروا وصدّوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام . وقيل : هو عامّ في كل من كفر وصدّ { أَضَلَّ أعمالهم } أبطلها وأحبطها . وحقيقته : جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها ، كالضالة من الإبل التي هي بمضيعة لا ربَّ لها يحفظها ويعتني بأمرها . أو جعلها ضالة في كفرهم معاصيهم ومغلوبة بها ، كما يضل الماء في اللبن . وأعمالهم : ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم : من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار . وقيل : أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصدّ عن سبيل الله : بأن نصره عليهم وأظهر دينه على الدين كله .
{ والذين ءامَنُواْ } قال مقاتل : هم ناس من قريش . وقيل : من الأنصار . وقيل : هم مؤمنوا أهل الكتاب . وقيل : هو عام . وقوله : { وَءامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ } اختصاص للإيمان بالمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين ما يجب به الإيمان تعظيماً لشأنه وتعليماً ، لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به . وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله : { وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ } وقيل : معناها إنّ دين محمد هو الحق ، إذ لا يرد عليه النسخ ، وهو ناسخ لغيره . وقرىء : «نزل وأنزل» ، على البناء للمفعول . ونزّل على البناء للفاعل ، ونزل بالتخفيف { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ } ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين ، وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد .

ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

{ ذَلِكَ } مبتدأ وما بعده خبره ، أي : ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين وتكفير سيئات الثاني : كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق . ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كما ذكر بهذا السبب ، فيكون محل الجار والمجرور منصوباً على هذا ، ومرفوعاً على الأوّل و { الباطل } ما لا ينتفع به . وعن مجاهد : الباطل الشيطان ، وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير { كذلك } مثل ذلك الضرب { يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم } والضمير راجع إلى الناس ، أو إلى المذكورين من الفريقين ، على معنى : أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم . فإن قلت : أين ضرب الأمثال؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين . أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السسيئات مثلاً لفوز المؤمنين .

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)

{ لَقِيتُمُ } من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ الرقاب } أصله : فاضربوا الرقاب ضرباً ، فحذف الفعل وقدّم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول . وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد؛ لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه . وضرب الرقاب عبارة عن القتل وإن ضرب غير رقبته من المقاتل ، لأنّ الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء ، وذلك أنهم كانوا يقولون : ضرب الأمير رقبة فلان ، وضرب عنقه وعلاوته ، وضرب ما فيه عيناه إذا قتله ، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فوقع عبارة عن القتل ، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل كما ذكرنا في قوله : { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم } [ الشورى : 30 ] على أن في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه . ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله تعالى : { فاضربوا فَوْقَ الاعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] . { أَثْخَنتُمُوهُمْ } أكثرتم قتلهم وأغلظتموه ، من الشيء الثخين : وهو الغليظ . أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض { فَشُدُّواْ الوثاق } فأسروهم . والوثاق بالفتح والكسر : اسم ما يوثق به ( منا ) و ( فداء ) منصوبان بفعليهما مضمرين ، أي : فإمّا تمنون منا ، وإما تفدون فداء . والمعنى : التخيير بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم ، وبين أن يفادوهم . فإن قلت : كيف حكم أسارى المشركين؟ قلت : أمّا عند أبي حنيفة وأصحابه فأحد أمرين : إمّا قتلهم وإمّا استرقاقهم ، أيهما رأى الإمام ، ويقولون في المنّ والفداء المذكورين في الآية : نزل ذلك في يوم بدر ثم نسخ . وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء ، وإنما هو الإسلام أو ضرب العنق . ويجوز أن يراد بالمنّ : أن يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا . أو يمنّ عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية ، وكونهم من أهل الذمّة . وبالفداء أن يفادى بأساراهم أسارى المسلمين ، فقد رواه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة ، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره ، خيفة أن يعودوا حرباً للمسلمين ، وأما الشافعي فيقول : للإمام أن يختار أحد أربعة على حسب ما اقتضاه نظره للمسلمين ، وهو : القتل ، والاسترقاق ، والفداء بأسارى المسلمين ، والمن . ويحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ على أبي عروة الحجبي ، وعلى ثمامة بن أثال الحنفي ، وفادى رجلاً برجلين من المشركين . وهذا كله منسوخ عند أصحاب الرأي . وقرىء : «فدى» بالقصر مع فتح الفاء . أو زار الحرب : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع . قال الأعشى .
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا ... رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراً
وسميت أوزارها لأنه لما لم يكن لها بد من جرّها فكأنها تحملها وتستقل بها ، فإذا انقضت فكأنها وضعتها .

وقيل : أوزارها آثامها ، يعني : حتى يترك أهل الحرب . وهم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا . فإن قلت : ( حتى ) بم تعلقت؟ قلت : لا تخلو إما أن تتعلق بالضرب والشد : أو بالمن والفداء؛ فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رضي الله عنه : أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون حرب مع المشركين . وذلك إذا لم يبق لهم شوكة . وقيل : إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام . وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد؛ فالمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين . وإذا علق بالمن والفداء ، فالمعنى : أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها إلا أن يتأول المن والفداء بما ذكرنا من التأويل { ذلك } أي الأمر ذلك ، أو افعلوا ذلك { لانتصر منهم } لا نتقم منهم ببعض أسباب الهلك : من خسف ، أو رجفة ، أو حاصب ، أو غرق . أو موت جارف ، { ولكن } أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين : بأن يجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب العظيم ، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب . وقرىء : «قتلوا» بالتخفيف والتشديد : وقتلوا . وقاتلوا . وقرىء : «فلن يضل أعمالهم» ، وتضل أعمالهم : على البناء للمفعول . ويضل أعمالهم من ضل . وعن قتادة : أنها نزلت في يوم أحد { عَرَّفَهَا لَهُمْ } أعلمها لهم وبينها بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة . قال مجاهد : يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون ، كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها . وعن مقاتل : إن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله ، أو طيبها لهم ، من العرف : وهو طيب الرائحة . وفي كلام بعضهم : عزف كنوح القماري وعرف كفوح القماري . أو حددها لهم؛ فجنة كل أحد محدودة مفرزة عن غيرها ، من : عرف الدار وارفها . والعرف والأَرف ، الحدود .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)

{ إِن تَنصُرُواْ } دين { الله } ورسوله { يَنصُرْكُمْ } على عدوكم ويفتح لكم { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

{ والذين كَفَرُواْ } يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بما يفسره { فَتَعْساً لَّهُمْ } كأنه قال : أتعس الذين كفروا . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَضَلَّ أعمالهم } ؟ قلت : على الفعل الذي نصب تعساً؛ لأنّ المعنى فقال : تعسا لهم ، أو فقضى تعسا لهم . وتعسا له : نقيض «لَعَاَّلَهُ» قال الأعشى :
فَالتَّعْسُ أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا ... يريد : فالعثور والانحطاط أقرب لها من الانتعاش والثبوت . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد في الدنيا القتل ، وفي الآخرة التردي في النار { كَرِهُواْ } القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام ، لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ فشق عليهم ذلك وتعاظمهم .

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)

دمره أهلكه ودمر عليه أهلك عليه ما يختص به والمعنى دمر الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما كان لهم وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا الضمير للعاقبة المذكورة أو للهلكة لأن التدمير يدل عليها أو للسنة لقوله عزّ وعلا : سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ ( الأحزاب 38 )

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)

{ مَوْلَى الذين ءَامَنُواْ } وليهم وناصرهم . وفي قراءة ابن مسعود «ولي الذين آمنوا» ويروى :
( 1036 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الشعب يوم أحد وقد فشت فيهم الجراحات ، وفيه نزلت ، فنادى المشركون : اعل هبل : فنادى المسلمون : الله أعلى وأجل ، فنادى المشركون : يوم بيوم والحرب سجال ، إن لنا عزى ولا عزى لكم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ، إن القتلى مختلفة أما قتلانا ففي الجنة أحياء يرزقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون " فإن قلت : قوله تعالى : { وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق } [ يونس : 30 ] مناقض لهذه الآية . قلت : لا تناقض بينهما ، لأن الله مولى عباده جميعاً على معنى أنه ربهم ومالك أمرهم؛ وأما على معنى الناصر فهو مول المؤمنين خاصة .

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)

{ يَتَمَتَّعُونَ } ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياماً قلائل { وَيَأْكُلُونَ } غافلين غير مفكرين في العاقبة { كَمَا تَأْكُلُ الانعام } في مسارحها ومعالفها ، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح { مَثْوًى لَّهُمْ } منزل ومقام .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

وقرىء : «وكائن» بوزن كاعن . وأراد بالقرية أهلها ، ولذلك قال : { أهلكناهم } كأنه قال : وكم من قوم هم أشد قوّة من قومك الذين أخرجوك أهلكناهم . ومعنى أخرجوك : كانوا سبب خروجك . فإن قلت : كيف قال : { فَلاَ ناصر لَهُمْ } ؟ وإنما هو أمر قد مضى . قلت : مجراه مجرى الحال المحكية ، كأنه قال : أهلكناهم فهم لا ينصرون .

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)

من زين له : هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله ، ومن كان على بينة من ربه أي على حجة من عنده وبرهان : وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرىء : «أمن كان على بينة من ربه» وقال تعالى : { سواء عَمَلِهِ واتبعوا } للحمل على لفظ { مِّن } ومعناه .

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ } [ كمن هو خالد في النار ] ؟ قلت : هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفي والإنكار ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ، ودخوله في حيزه ، وانخراطه في سلكه ، وهو قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِه } فكأنه قيل : أمثل الجنة كمن هو خالد في النار ، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار . فإن قلت : فلم عرّى في حرف الإنكار؟ وما فائدة التعرية؟ قلت : تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوّى بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار ، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم . ونظيره قول القائل :
أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الْكِرَامَ وَأَنْ ... أُورَثَ ذُوداً شَصَائِصاً نَبلاً
هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود ، مع تعريه عن حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم قول من قال : أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله ، والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصوّر قبح ما أزنّ به فكأنه قال له : نعم مثلى يفرح بمرزأة الكرام وبأن يستبدل منهم ذوداً يقل طائلةُ وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار ، ومثل الجنة : صفة الجنة العجيبة الشأن ، وهو مبتدأ ، وخبره : كمن هو خالد . وقوله : فيها أنهار ، داخل في حكم الصلة كالتكرير لها . ألا ترى إلى صحة قولك : التي فيها أنهار . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف هي فيها أنهار ، وكأن قائلاً قال : وما مثلها؟ فقيل : فيها أنهار ، وأن يكون في موضع الحال ، أي : مستقرّة فيها أنهار ، وفي قراءة علي رضي الله عنه «أمثال الجنة» أي : ما صفاتها كصفات النار . وقرىء : «أسن» يقال : أسن الماء وأجن : إذا تغير طعمه وريحه . وأنشد ليزيد بن معاوية :
لَقَدْ سَقَتْنِي رُضَاباً غَيْرَ ذِي أَسنٍ ... كَالمِسْكِ فُتَّ عَلَى مَاءِ الْعَنَاقِيدِ
{ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } كما تتغير ألبان الدنيا ، فلا يعود قارصاً ولا حاذراً . ولا ما يكره من الطعوم «لذة» تأنيث لذّ ، وهو اللذيذ ، أو وصف بمصدر . وقرىء بالحركات الثلاث ، فالجر على صفة الخمر ، والرفع على صفة الأنهار ، والنصب على العلة ، أي : لأجل لذة الشاربين . والمعنى : ما هو إلا التلذذ الخالص ، ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ، ولا آفة من آفات الخمر { مُّصَفًّى } لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره { مَآءً حَمِيماً } قيل إذا دنا منهم شوى وجوههم ، وانمازت فروة رؤوسهم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)

هم المنافقون : كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له بالاً تهاوناً منهم ، فإذا خرجوا قالوا لأولى العلم من الصحابة ، ماذا قال الساعة؟ على جهة الاستهزاء . وقيل : كان يخطب فإذا عاب المنافقين خرجوا فقالوا ذلك للعلماء . وقيل : قالوه لعبد الله بن مسعود . وعن ابن عباس : أنا منهم ، وقد سميت فيمن سئل { ءانِفاً } وقرىء : «أنفاً» على فعل ، نصب على الظرف قال الزجاج : هو من استأنفت الشيء : إذا ابتدأته . والمعنى : ماذا قال في أوّل وقت يقرب منا .

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)

{ زَادَهُمْ } الله { هُدًى } بالتوفيق { وَءَاتَ اهم تقواهم } أعانهم عليها . أو أتاهم جزاء تقواهم . وعن السدي : بين لهم ما يتقون . وقرىء : «وأعطاهم» وقيل : الضمير في زادهم ، لقول الرسول أو لاستهزاء المنافقين .

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)

{ أَن تَأْتِيَهُم } بدل اشتمال من الساعة ، نحو : { أن تطؤهم } من قوله : { رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات } [ الفتح : 25 ] ، وقرىء : «أن تأتهم» بالوقف على الساعة واستئناف الشرط ، وهي في مصاحف أهل مكة كذلك : فإن قلت : فما جزاء الشرط؟ قلت : قوله [ فأنى لهم ] . ومعناه : إن تأتهم الساعة فكيف لهم ذكراهم ، أي تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم الساعة ، يعني لا تنفعهم الذكرى حينئذٍ ، كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى } [ الفجر : 23 ] . فإن قلت : بم يتصل قوله : { فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } على القراءتين؟ قلت : بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول ، كقولك : إن أكرمني زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه . والأشراط : العلامات . قال أبو الأسود :
فَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ بِالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فَقَدْ جَعَلَتْ أَشْرَاط أَوَّلِهِ تَبْدُو
وقيل : مبعث محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم منها ، وانشقاق القمر ، والدخان . وعن الكلبي : كثرة المال والتجارة ، وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللئام . وقرىء : «بَغِتَة» بوزن جَرِبَةَ ، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها ، وهي مروية عن أبي عمرو ، وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي على أبي عمرو ، وأن يكون الصواب : بغتة ، بفتح العين من غير تشديد ، كقراءة الحسن فيما تقدم .

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

لما ذكر حال المؤمنين وحال الكافرين قال : إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء ، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله ، وعلى التواضع وهضم النفس : باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك . والله يعلم أحوالكم ومتصرفاتكم ومتقلبكم في معايشكم ومتاجركم ، ويعلم حيث تستقرون في منازلكم أو متقلبكم في حياتكم ومثواكم في القبور . أو متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار . ومثله حقيق بأن يخشى ويتقى ، وأن يستغفر ويسترحم . وعن سفيان بن عيينة : أنه سئل عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله حين بدأ به فقال : { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله واستغفر لِذَنبِكَ } فأمر بالعمل بعد العلم وقال : { اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [ الحديد : 20 ] إلى قوله : { سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } [ الحديد : 21 ] وقال : { واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } ثم قال بعد : { فاحذروهم } [ التغابن : 14 ] وقال : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] ثم أمر بالعمل بعد .

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)

كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون : { لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } في معنى الجهاد { فَإِذآ أُنزِلَتْ } وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم ، وسقطوا في أيديهم ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس } [ النساء : 77 ] . { مُّحْكَمَةٌ } مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجهاً إلا وجوب القتال . وعن قتادة : كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة ، وهي أشدّ القرآن على المنافقين . وقيل لها «محكمة» لأنّ النسخ لا يرد عليها من قبل أنّ القتال قد نسخ ما كان من الصفح والمهادنة ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة . وقيل : هي المحدثة؛ لأنها حين يحدث نزولها لا يتناولها النسخ ، ثم تنسخ بعد ذلك أو تبقى غير منسوخة . وفي قراءة عبد الله «سورة محدثة» وقرىء : «فإذا نزلت سورة و ذَكَرَ فيها القتالُ» على البناء للفاعل ونصب القتال { الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام { نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } أي تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً وغيظاً ، كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت { فأولى لَهُمْ } وعيد بمعنى : فويل لهم . وهو أفعل : من الولي وهو القرب . ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } كلام مستأنف ، أي : طاعة وقول معروف خير لهم . وقيل : هي حكاية قولهم ، أي قالوا ( طاعةٌ وقول ) وقول معروف ، بمعنى : أمرنا طاعة وقول معروف . وتشهد له قراءة أبيّ : يقولون طاعة وقول معروف { فَإِذَا عَزَمَ الامر } أي جدّ . والعزم والجد لأصحاب الأمر . وإنما يسندان إلى الأمر إسناداً مجازياً . ومنه قوله تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور } [ الشورى : 43 ] . { فَلَوْ صَدَقُواْ الله } فيما زعموا من الحرص على الجهاد . أو : فلو صدقوا في إيمانهم وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم .

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)

عسيت وعسيتم : لغة أهل الحجاز . وأما بنو تميم فيقولون : عسى أن تفعل ، وعسى أن تفعلوا ، ولا يلحقون الضمائر ، وقرأ نافع بكسر السين وهو غريب ، وقد نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات؛ ليكون أبلغ في التوكيد . فإن قلت : ما معنى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ . . . . أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض } ؟ قلت : معناه : هل يتوقع منكم الإفساد؟ فإن قلت : فكيف يصح هذا في كلام الله عز وعلا وهو عالم بما كان وبما يكون؟ قلت : معناه إنكم لما عهد منكم أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان : يا هؤلاء ، ما ترون؟ هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم لما تبين منكم من الشواهد ولاح من المخايل { أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا؟ وقيل : إن أعرضتم وتوليتم عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض : بالتغاور والتناهب ، وقطع الأرحام : بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ووأد البنات؟ وقرىء : «وليتم» . وفي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «تُوِلِّتُم» أي : إن تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم؟ وقرىء : «وتَقْطَعُوا» «وتقطعوا» من التقطيع والتقطع { أولائك } إشارة إلى المذكورين { لَّعَنَهُمُ الله } لإفسادهم وقطعهم الأرحام ، فمنعهم ألطافه وخذلهم ، حتى صموا عن استماع الموعظة ، وعموا عن إبصار طريق الهدى . ويجوز أن يريد بالذين آمنوا : المؤمنين الخلص الثابتين ، وأنهم يتشوفون إلى الوحي إذا أبطأ عليهم ، فإذا أنزلت سورة في معنى الجهاد : رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها .

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)

{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } ويتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة ، حتى لا يجسروا على المعاصي ، ثم قال : { أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وأم بمعنى بل وهمزة التقرير ، للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكر . وعن قتادة : إذاً والله يجدوا في القرآن زاجراً عن معصية الله لو تدبروه ، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا . فإن قلت : لم نكرت القلوب وأضيفت الأقفال إليها؟ قلت : أما التنكير ففيه وجهان : أن يراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك . أو يراد على بعض القلوب : وهي قلوب المنافقين . وأما إضافة الأقفال؛ فلأنه يريد الأقفال المختصة بها ، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح . وقرىء : «إقفالها» على المصدر .

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

{ الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبراً لأنّ ، كقولك : إنّ زيداً عمرو مرّ به . سوّل لهم : سهل لهم ركوب العظائم ، من السول وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً { وأملى لَهُمْ } ومدّ لهم في الآمال والأماني . وقرىء : «وأملى لهم» يعني : إنّ الشيطان يغويهم وأنا أنظرهم ، كقوله تعالى : { إنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ } [ آل عمران : 178 ] وقرىء : «وأملى لهم» على البناء للمفعول ، أي : أمهلوا ومدّ في عمرهم . وقرىء : «سوّل لهم» ، ومعناه : كيد الشيطان زين لهم على تقدير حذف المضاف . فإن قلت : من هؤلاء؟ قلت : اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد ما تبين لهم الهدى ، وهو نعته في التوراة . وقيل : هم المنافقون . الذين قالوا : هم اليهود ، والذين كرهوا ما نزل الله : المنافقون . وقيل عكسه ، وأنه قول المنافقين لقريظة والنضير : لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم . وقيل : { بَعْضِ الأمر } : التكذيب برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بلا إله إلا الله ، أو ترك القتال معه . وقيل : هو قول أحد الفريقين للمشركين : سنطيعكم في التظافر على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد معه . ومعنى : { فِى بَعْضِ الأمر } في بعض ما تأمرون به . أو في بعض الأمر الذي يهمكم { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } وقرىء : «إسرارهم» على المصدر ، قالوا ذلك سراً فيما بينهم ، فأفشاه الله عليهم . فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذٍ؟ وقرىء : «توفاهم» ويحتمل أن يكون ماضياً ، ومضارعاً قد حذفت إحدى تاءيه ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين توفاهم الملئكة } [ النساء : 97 ] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يتوفى أحد على معصية الله إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره { ذَلِكَ } إشارة إلى التوفي الموصوف { مَآ أَسْخَطَ الله } من كتمان نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . و { رِضْوَانَهُ } : الإيمان برسول الله .

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)

{ أضغانهم } أحقادهم وإخراجها : إبرازها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين . وإظهارهم على نفاقهم وعداوتهم لهم ، وكانت صدورهم تغلى حنقاً عليهم { لاريناكهم } لعرفناكهم ودللناك عليهم . حتى تعرفهم بأعيانهم لا يخفون عليك { بسيماهم } بعلامتهم : وهو أن يسمهم الله تعالى بعلامة يُعلمون بها . وعن أنس رضي الله عنه :
( 1037 ) ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين : كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس ، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب : هذا منافق . فإن قلت : أي فرق بين اللامين في { فَلَعَرَفْتَهُم } و { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } ؟ قلت : الأولى هي الداخلة في جواب ( لو ) كالتي في { لأريناكهم } كررت في المعطوف ، وأما اللام في { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف { فِى لَحْنِ القول } في نحوه وأسلوبه . وعن ابن عباس : هو قولهم : ما لنا إن أطعنا من الثواب؟ ولا يقولون : ما علينا إن عصينا من العقاب . وقيل : اللحن : أن تلحن بكلامك ، أي : تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية . قال :
وَلَقَدْ لَحَنْتُ لَكُم لِكَيْمَا تَفْقَهُوا ... وَاللَّحْنُ يَعْرِفُهُ ذَوُو الأَلْبَابِ
وقيل للمخطىء : لاحن؛ لأنه يعدل بالكلام عن الصواب .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

{ أخباركم } ما يحكى عنكم وما يخبر به عن أعمالكم ، ليعلم حسنها من قبيحها؛ لأن الخبر على حسب المخبر عنه : إن حسناً فحسن ، وإن قبيحاً فقبيح ، وقرأ يعقوب : ونبلو ، بسكون الواو على معنى : ونحن نبلو أخباركم . وقرىء : «وليبلونكم ويعلم» ويبلو بالياء . وعن الفضيل : أنه كان إذا قرأها بكى وقال : اللَّهم لا تبلنا ، فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)

{ وَسَيُحْبِطُ أعمالهم } التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب؛ لأنها مع كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم باطلة ، وهم قريظة والنضير . أو سيحبط أعمالهم التي عملوها ، والمكايد التي نصبوها في مشاقة الرسول ، أي : سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم ، بل يستنصرون بها ولا يثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم . وقيل : هم رؤساء قريش ، والمطعمون يوم بدر .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)

{ وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } أي لا تحبطوا الطاعات بالكبائر ، كقوله تعالى : { لا تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } [ الحجرات : 2 ] إلى أن قال : { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } [ الحجرات : 20 ] وعن أبي العالية : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، حتى نزلت { وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم . وعن حذيفة : فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم . وعن ابن عمر : كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولاً ، حتى نزل { وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش ، حتى نزل { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 116 ] فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها . وعن قتادة رحمه الله : رحم الله عبداً لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء . وقيل : لا تبطلوها بمعصيتهما . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تبطلوها بالرياء والسمعة ، وعنه : بالشك والنفاق ، وقيل : بالعجب؛ فإنّ العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب . وقيل : ولا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)

{ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } قيل : هم أصحاب القليب ، والظاهر العموم .

فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)

{ فَلاَ تَهِنُواْ } ولا تضعفوا ولا تذلوا للعدوّ ( و ) لا { تَدْعُواْ إِلَى السلم } وقرىء : «السلم» وهم المسالمة { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي الأغلبون الأقهرون { والله مَعَكُمْ } أي ناصركم . وعن قتادة : لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها بالموادعة . وقرىء : «لا تدّعوا من ادّعى القوم وتداعوا : إذا دعوا . نحو قولك : ارتموا الصيد وتراموه . وتدعوا : مجزوم لدخوله في حكم النهى . أو منصوب لإضمار أنْ . ونحو قوله تعالى : { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } : قوله تعالى : { إِنَّكَ أَنتَ الاعلى } [ طه : 68 ] . { وَلَن يَتِرَكُمْ } من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم ، أو حربته ، وحقيقته : أفردته من قريبه أو ماله ، من الوتر وهو الفرد؛ فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر ، وهو من فصيح الكلام . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1038 ) " من فاتته صلاة العصر ، فكأنما وتر أهله وماله " أي أفرد عنهما قتلاً ونهباً .

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

{ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } ثواب إيمانكم وتقواكم { وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أمْوَالَكُمْ } أي ولا يسألكم جميعها ، إنما يقتصر منكم على ربع العشر ، ثم قال : { إِن يَسْألْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ } أي يجهدكم ويطلبه كله ، والإحفاء : المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء ، يقال : أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح . وأحفى شاربه : إذا استأصله { تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أضغانكم } أي تضطغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتضيق صدوركم لذلك ، وأظهرتم كراهتكم ومقتكم لدين يذهب بأموالكم ، والضمير في { يُخْرِجَ } لله عز وجل ، أي يضغنكم بطلب أموالكم . أو للبخل؛ لأنه سبب الاضطغان ، وقرىء «تخرج» بالنون . ويخرج ، بالياء والتاء مع فتحهما ورفع أضغانكم { هؤلاءآء } موصول بمعنى الذين صلته { تُدْعَوْنَ } أي أنتم الذين تدعون . أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ، ثم استأنف وصفهم ، كأنهم قالوا : وما وصفنا؟ فقيل : تدعون { لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } قيل : هي النفقة في الغزو . وقيل : الزكاة ، كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء واضطغنتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر ، فمنكم ناس يبخلون به ، ثم قال : { وَمَن يَبْخَلْ } بالصدقة وأداء الفريضة . فلا يتعداه ضرر بخله ، وإنما { يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } يقال بخلت عليه وعنه ، وكذلك ضننت عليه وعنه . ثم أخبر أنه لا يأمر بذلك ولا يدعو إليه لحاجته إليه ، فهو الغني الذي تستحيل عليه الحاجات ، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } معطوف على : وإن تؤمنوا وتتقوا { يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى ، غير متولين عنهما ، كقوله تعالى : { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ إبراهيم : 19 ] وقيل : هم الملائكة . وقيل : الأنصار . وعن ابن عباس : كندة والنخع . وعن الحسن : العجم . وعن عكرمة : فارس والروم .
( 1039 ) وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه وقال : " هذا وقومه ، والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس "
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( 1040 ) " من قرأ سورة محمد صلى الله عليه وسلم كان حقاً على الله أن يسقيه من أنهار الجنة "

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

هو فتح مكة ، وقد نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح ، وجيء به على لفظ الماضي على عادة ربّ العزة سبحانه في أخباره؛ لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة ، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخْبِر ما لا يخفى . فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة : وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك ، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل . ويجوز أن يكون فتح مكة - من حيث إنه جهاد للعدوّ - سبباً للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحاً بحرب أو بغير حرب ، لأنه منغلق ما لم يظفر به ، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح . وقيل : هو فتح الحديبية ، ولم يكن فيه قتال شديد ، ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم . وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى سألوا الصلح . فإن قلت : كيف يكون فتحاً وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت : كان ذلك قبل الهدنة ، فلما طلبوها وتمت كان فتحاً مبيناً . وعن موسى بن عقبة :
( 1041 ) أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً ، فقال رجل من أصحابه : ما هذا بفتح ، لقد صدّونا عن البيت وصد هدينا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ، ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا » ، وعن الشعبي :
( 1042 ) نزلت بالحديبية وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة أصاب : أن بويع بيعة الرضوان ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس؛ وبلغ الهدى محله ، وأطعموا نخل خيبر ، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة . وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه فيها ، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه . وقيل : فجاش الماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد - وقيل : هو فتح خيبر ، وقيل : فتح الروم . وقيل : فتح الله له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كلها ، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه . وقيل : معناه قضينا لك قضاء بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل؛ لتطوفوا بالبيت : من الفتاحة وهي الحكومة ، وكذا عن قتادة { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } يريد : جميع ما فرط منك . وعن مقاتل : ما تقدم في الجاهلية وما بعدها . وقيل : ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد { نَصْراً عَزِيزاً } فيه عز ومنعة - أو وصف بصفة المنصور إسناداً مجازياً أو عزيزاً صاحبه .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

{ السكينة } السكون كالبهيتة للبهتان ، أي : أنزل الله في قلوبهم السكون ، والطمأنينة بسبب الصلح والأمن ، ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف ، والهدنة غب القتال ، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم ، وأنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد عليه السلام من الشرائع { لِيَزْدَادُواْ إيمانا } بالشرائع مقروناً إلى إيمانهم وهو التوحيد . عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن أوّل ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة ، ثم الحج ، ثم الجهاد ، فازدادوا إيماناً إلى إيمانهم . أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله عزّ وجل ولرسوله ، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيماناً إلى إيمانهم . وقيل : أنزل فيها الرحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض } يسلط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته ، ومن قضيته أن سكّن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكروها فيستحقوا الثواب ، فيثيبهم ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه . وقع السوء : عبارة عن رداءة الشيء وفساده؛ والصدق عن جودته وصلاحه ، فقيل في المرضى الصالح من الأفعال : فعل صدق ، وفي المسخوط الفاسد منها : فعل سوء . ومعنى { ظَنَّ السوء } ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين ، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهراً { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } أي : ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم - والسوء : الهلاك والدمار . وقرىء : «دائرة السوء» بالفتح ، أي : الدائرة التي يذمونها ويسخطونها ، فهي عندهم دائر سوء ، وعند المؤمنين دائرة صدق . فإن قلت : هل من فرق بين السُّوء والسَّوء؟ قلت : هما كالكُره والكَره والضُّعْف والضَّعْف ، من ساء ، إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء . وأما السُّوء بالضم فجار مجرى الشر الذي هو نقيض الخير . يقال : أراد به السوء وأراد به الخير؛ ولذلك أضيف الظن إلى المفتوح لكونه مذموماً؛ وكانت الدائرة محمودة فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل الذي ذكرنا وأما دائرة السوء بالضم ، فلأن الذي أصابهم مكروه وشدة ، فصح أن يقع عليه اسم السوء ، كقوله عزّ وعلا : { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } [ الأحزاب : 17 ] .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)

{ شاهدا } تشهد على أمّتك ، كقوله تعالى : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] . { لّتُؤْمِنُواْ } الضمير للناس { وَتُعَزّرُوهُ } ويقووه بالنصرة { وَتُوَقّرُوهُ } ويعظموه { وَتُسَبّحُوهُ } من التسبيح . أو من السبحة ، والضمائر لله عز وجلّ والمراد بتعزيز الله : تعزيز دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم . ومن فرق الضمائر فقد أبعد . وقرىء : «لتؤمنوا» «وتعزروه» «وتوقروه» «وتسبحوه» بالتاء . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمّته . وقرىء : «وتعزروه» بضم الزاي وكسرها . وتعزروه بضم التاء والتخفيف ، وتعززوه بالزايين . وتوقروه من أوقره بمعنى وقره . وتسبحوا الله { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } عن ابن عباس رضي الله عنهما : صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر .

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

لما قال { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } أكده تأكيداً على طريق التخييل فقال : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين : هي يد الله ، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ، وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما ، كقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] والمراد : بيعة الرضوان { فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه . قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه :
( 1043 ) بايعنا رسول الله تحت الشجرة على الموت ، وعلى أن لا نفرّ ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقاً ، اختبأ تحت إبط بعيره ولم يسر مع القوم . وقرىء : «إنما يبايعون لله» أي : لأجل الله ولوجهه ، وقرىء : «ينكث» بضم الكاف وكسرها ، وبما عاهد وعهد { فَسَيُؤْتِيهِ } بالنون والياء ، يقال : وفيت بالعهد وأوفيت به ، وهي لغة تهامة . ومنها قوله تعالى : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] { والموفون بِعَهْدِهِمْ } [ البقرة : 177 ] .

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)

هم الذين خلفوا عن الحديبية ، وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل . وذلك
( 1044 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدى ، ليعلم أنه لا يريد حرباً ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم قد غزوه في عُقْرِ داره بالمدينة وقتلوا أصحابه ، فيقاتلهم ، وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس لهم من يقوم بأشغالهم . وقرىء : «شغلتنا» بالتشديد { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } تكذيب لهم في اعتذارهم . وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون ، وإنما هو الشك في الله والنفاق؛ وطلبهم للاستغفار أيضاً ليس بصادر عن حقيقة { فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ } فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ } ما يضركم من قتل أو هزيمة { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } من ظفر وغنيمة وقرىء : «ضراً» بالفتح والضم . الأهلون : جمع أهل . ويقال : أهلات ، على تقدير تاء التأنيث . كأرض وأرضات ، وقد جاء أهلة . وأمّا أهال ، فاسم جمع ، كليال .

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)

وقرىء : «إلى أهلهم» «وَزَيَّنَ» ، على البناء للفاعل وهو الشيطان ، أو الله عز وجل ، وكلاهما جاء في القرآن { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } [ النمل : 24 ] ، { وزينا لهم أعمالهم } [ النمل : 4 ] والبور : من بار ، كالهلك : من هلك ، بناء ومعنى؛ ولذلك وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث . ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ . والمعنى : وكنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم . أو هالكين عند الله مستوجبين لسخطه وعقابه .

وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)

{ للكافرين } مقام مقام لهم ، للإيذان بأنّ من لم يجمع بين الإيمانين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر ، ونكر { سَعِيراً } لأنها نار مخصوصة ، كما نكر { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] .

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

{ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والارض } يدبره تدبير قادر حكيم ، فيغفر ويعذب بمشيئته ، ومشيئته تابعة لحكمته ، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } رحمته سابقة لغضبه ، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر ، ويغفر الكبائر بالتوبة .

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

{ سَيَقُولُ المخلفون } الذين تخلفوا عن الحديبية { إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ } إلى غنائم خيبر { أَن يُبَدّلُواْ كلام الله } وقرىء : «كلم الله» أن يغيروا موعد الله لأهل الحديبية ، وذلك أنه وعدهم أن يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئاً . وقيل : هو قوله تعالى : { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا } [ التوبة : 83 ] «تحسدوننا» أن نصيب معكم من الغنائم . قرىء : بضم السين وكسرها { لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يفهمون إلا فهماً { قَلِيلاً } وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين ، كقوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا } [ الروم : 7 ] فإن قلت : ما الفرق بين حرفي الإضراب؟ قلت : الأوّل إضراب معناه : ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد . والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين ، إلى وصفهم بما هو أطم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه .

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)

{ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ } هم الذين تخلفوا عن الحديبية { إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني بني حنيفة قوم مسيلمة ، وأهل الردّة الذين حاربهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف عند أبي حنيفة ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب . والمجوس تقبل منهم الجزية ، وعن الشافعي لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس دون مشركي العجم والعرب . وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن بعد وفاته . وكيف يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى : { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا } [ التوبة : 83 ] وقيل : هم فارس والروم . ومعنى { يُسْلِمُونَ } ينقادون ، لأنّ الروم نصارى ، وفارس مجوس يقبل منهم إعطاء الجزية . فإن قلت : عن قتادة أنهم ثقيف وهوازن ، وكان ذلك في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : إن صح ذلك فالمعنى : لن تخرجوا معي أبداً ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين . أو على قول مجاهد : كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم { كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ } يريد في غزوة الحديبية . أو يسلمون . معطوف على تقاتلونهم ، أي : يكون أحد الأمرين : إما المقاتلة ، أو الإسلام ، لا ثالث لهما . وفي قراءة أبيّ : «أو يسلموا» بمعنى : إلى أن يسلموا .

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

نفى الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو . وقرىء : «ندخله» «ونعذبه» بالنون .

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

هي بيعة الرضوان ، سميت بهذه الآية ، وقصتها :
( 1045 ) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية بعث خِراش بن أمّية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة ، فهموا به فمنعه الأحابيش ، فلما رجع دعا بعمر رضي الله عنه ليبعثه فقال : إني أخافهم على نفسي ، لما عرف من عداوتي إياهم وما بمكة عدويّ يمنعني ، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني وأحب إليهم : عثمان بن عفان فبعثه فخبرهم أنه لم يأت بحرب ، وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته ، فوقروه وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل ، فقال : ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبس عندهم فأرجف بأنهم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نبرح حتى نناجز القوم ، ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة وكانت سمرة . قال جابر بن عبد الله : لو كنت أبصر لأريتكم مكانها . وقيل :
( 1046 ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها . قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائماً على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه . فرفعت الغصن عن ظهره ، فبايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنتم اليوم خير أهل الأرض» وكان عدد المبايعين ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين ، وقيل : ألفاً وأربعمائة ، وقيل : ألفاً وثلثمائة { فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه { فَأنزَلَ السكينة } أي : الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم { وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً } وقرىء : «وآتاهم» وهو فتح خيبر غب انصرافهم من مكة . وعن الحسن : فتح هجر ، وهو أجلّ فتح : اتسعوا بثمرها زماناً { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } هي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال ، فقسمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليهم ، ثم أتاه عثمان بالصلح فصالحهم وانصرف بعد أن نحر بالحديبية وحلق .

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)

{ وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً } وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } المغانم يعني مغانم خيبر { وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ } يعني أيدي أهل خيبر وحلفاؤهم من أسد وغطفان حين جاؤوا لنصرتهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا . وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح { وَلِتَكُونَ } هذه الكفة { ءَايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ } وعبرة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ، وأنه تعالى ضامن نصرهم والفتح عليهم . وقيل : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه ، ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحي ، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة { وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } ويزيدكم بصيرة ويقيناً ، وثقة بفضل الله .

وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)

{ وأخرى } معطوفة على هذه ، أي : فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } وهي مغانم هوازن في غزوة حنين ، وقال : لم تقدروا عليها لما كان فيها من الجوالة { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } أي قدر عليها واستولى وأظهركم عليها وغنمكموها . ويجوز في { أخرى } النصب بفعل مضمر ، يفسره { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } تقديره : وقضى الله أخرى قد أحاط بها . وأما { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } فصفة لأخرى ، والرفع على الابتداء لكونها موصوفة بلم تقدروا ، وقد أحاط بها : خبر المبتدأ ، والجرّ بإضمار رُبّ . فإن قلت : قوله تعالى : { وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ } [ الفتح : 20 ] كيف موقعه؟ قلت : هو كلام معترض . ومعناه : ولتكون الكفة آية للمؤمنين فعل ذلك . ويجوز أن يكون المعنى : وعدكم المغانم ، فعجل هذه الغنيمة وكف الأعداء لينفعكم بها ، ولتكون آية للمؤمنين إذا وجدوا وعد الله بها صادقاً ، لأنّ صدق الإخبار عن الغيوب معجزة وآية ، ويزيدكم بذلك هداية وإيقاناً .

وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)

{ وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ } من أهل مكة ولم يصالحوا . وقيل : من حلفاء أهل خيبر لغلبوا وانهزموا { سُنَّةَ الله } في موضع المصدر المؤكد ، أي : سن الله غلبة أنبيائه سنة ، وهو قوله تعالى : { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] .

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

{ أَيْدِيهِمْ } أيدي أهل مكة ، أي : قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك يوم الفتح . وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله ، على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحاً . وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية لما روى
( 1047 ) أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت . وقرىء : «تعملون» بالتاء والياء .

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)

وقرىء : «والهدي» والهدي : بتخفيف الياء وتشديدها ، وهو ما يهدى إلى الكعبة : بالنصب عطفاً على الضمير المنصوب في صدّوكم . أي : صدّوكم وصدّوا الهدي وبالجر عطفاً على المسجد الحرام ، بمعنى : وصدّوكم عن نحر الهدى { مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } محبوساً عن أن يباع ، وبالرفع على : وصدّ الهدي . ومحله : مكانه الذي يحل فيه نحره ، أي يجب . وهذا دليل لأبي حنيفة على أن المحصر محل هديه الحرم . فإن قلت : فكيف حل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه وإنما نحر هديهم بالحديبية؟ قلت : بعض الحديبية من الحرم . وروى أن مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ، ومصلاه في الحرم . فإن قلت : فإذن قد نحر في الحرم ، فلم قيل : { مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } ؟ قلت : المراد المحل المعهود وهو منى { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة للرجال والنساء جميعاً . و { أَن تَطَئُوهُمْ } بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تعلموهم . والمعرة : مفعلة ، من عره بمعنى عراه إذا دهاه ما يكره ويشق عليه . و { بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلق بأن تطؤهم ، يعني : أن تطئوهم غير عالمين بهم . والوطء والدوس : عبارة عن الإيقاع والإبادة . قال :
وَوَطِئْتَنَا وَطْأَ عَلَى حَنَقٍ ... وَطْأَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1048 ) " وإن آخر وطأة وطئها الله بِوَجٍّ " والمعنى : أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم ولا معروفي الأماكن : فقيل : ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم ، فتصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة : لما كف أيديكم عنهم ، وحذف جواب «لولا» لدلالة الكلام عليه . ويجوز أن يكون { لَوْ تَزَيَّلُواْ } كالتكرير للولا رجال مؤمنون ، لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون { لَعَذَّبْنَا } هو الجواب . فإن قلت : أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون . قلت : يصيبهم وجوب الدية والكفارة ، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير . فإن قلت : قوله تعالى : { لّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشآءُ } تعليل لماذا؟ قلت : لما دلت عليه الآية وسيقت له : من كف الأيدي عن أهل مكة ، والمنع من قتلهم؛ صوناً لمن بين أظهرهم من المؤمنين ، كأنه قال : كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته؛ أي : في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم . أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم { لَوْ تَزَيَّلُواْ } لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض : من زاله يزيله . وقرىء : «لو تزايلوا» .

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

{ إِذْ } يجوز أن يعمل فيه ما قبله . أي : لعذبناهم أو صدوهم عن المسجد الحرام في ذلك الوقت ، وأن ينتصب بإضمار اذكر . والمراد بحمية الذين كفروا وسكينة المؤمنين - والحمية الأنفة والسكينة والوقار - ما روى
( 1049 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأخيف ، على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك ، وكتبوا بينهم كتاباً ، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» ، فقال سهيل وأصحابه : ما نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللَّهم ، ثم قال : «اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة» فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة ، فقال عليه الصلاة والسلام : «اكتب ما يريدون ، فأنا أشهد أني رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، فهمَّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه ، فأنزل الله على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا . و { كَلِمَةَ التقوى } بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله : قد اختارها الله لنبيه وللذين معه أهل الخير ومستحقيه ومن هم أولى بالهداية من غيرهم . وقيل : هي كلمة الشهادة . وعن الحسن رضي الله عنه : كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد . ومعنى إضافتها إلى التقوى : أنها سبب التقوى وأساسها . وقيل : كلمة أهل التقوى . وفي مصحف الحرث بن سويد صاحب عبد الله : «وكانوا أهلها وأحق بها» ، وهو الذي دفن مصحفه أيام الحجاج .

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)

( 1050 ) رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا ، فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام ، فنزلت . ومعنى : { صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا } صدقه في رؤياه ولم يكذبه - تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علواً كبيراً - فحذف الجارّ وأوصل الفعل ، كقوله تعالى : { صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] . فإن قلت : بم تعلق { بالحق } ؟ قلت : إمّا بصدق ، أي : صدقه فيما رأى ، وفي كونه وحصوله صدقاً ملتبساً بالحق : أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص ، وبين من في قلبه مرض ، ويجوز أن يتعلق بالرؤيا حالاً منها أي : صدقه الرؤيا ملتبساً بالحق ، على معنى أنها لم تكن من أضغاث الأحلام . ويجوز أن يكون { بالحق } قسماً : إمّا بالحق الذي هو نقيض الباطل . أو بالحق الذي هو من أسمائه . و { لَتَدْخُلُنَّ } جوابه . وعلى الأوّل هو جواب قسم محذوف أي والله لتدخلن . فإن قلت : ما وجه دخول { إِن شَاءَ الله } في أخبار الله عز وجل؟ قلت : فيه وجوه : أن يعلق عدته بالمشيئة تعليماً لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك ، متأدّبين بأدب الله ، ومقتدين بسنته . وأن يريد : لتدخلنّ جميعاً إن شاء الله ولم يمت منكم أحداً ، أو كان ذلك على لسان ملك ، فأدخل الملك إن شاء الله . أو هي حكاية ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقصّ عليهم . وقيل : هو متعلق بآمنين { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } أي من دون فتح مكة { فَتْحاً قَرِيباً } وهو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود .

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

{ بالهدى وَدِينِ الحق } بدين الإسلام { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدين كُلِّهِ } على جنس الدين كله ، يريد : الأديان المختلفة من أديان المشركين والجاحدين من أهل الكتاب : وقد حقق ذلك سبحانه ، فإنك لا ترى ديناً قط إلا وللإسلام دونه العز والغلبة . وقيل : هو عند نزول عيسى حين لا يبقى على وجه الأرض كافر . وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات . وفي هذه الآية تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنّ الله تعالى سيفتح لهم من البلاد ويقيض لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه من فتح مكة { وكفى بالله شَهِيداً } على أنّ ما وعده كائن . وعن الحسن رضي الله عنه : شهد على نفسه أنه سيظهر دينك .

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

{ مُحَمَّدٌ } إما خبر مبتدأ ، أي : هو محمد لتقدّم قوله تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } [ الفتح : 28 ] وإما مبتدأ ، ورسول الله : عطف بيان . وعن ابن عامر أنه قرأ : رسول الله ، بالنصب على المدح { والذين مَعَهُ } أصحابه { أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } جمع شديد ورحيم . ونحوه { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] ، { واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] ، { بالمؤمنين رَءوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وعن الحسن رضي الله عنه : بلغ من تشدّدهم على الكفار : أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم؛ وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه ، والمصافحة لم تختلف فيها الفقهاء . وأما المعانقة فقد كرهها أبو حنيفة رحمه الله ، وكذلك التقبيل . قال لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئاً من جسده . وقد رخص أبو يوسف في المعانقة . ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التشدّد وهذا التعطف : فيتشدّدوا على من ليس على ملتهم ودينهم ويتحاموه ، ويعاشروا إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر والصلة . وكف الأذى . والمعونة ، والاحتمال ، والأخلاق السجيحة ووجه من قرأ : «أشداء ، ورحماء» بالنصب - : أن ينصبهما على المدح ، أو على الحال بالمقدّر في { مَعَهُ } ، ويجعل { تَرَاهُمْ } الخبر { سيماهم } علامتهم . وقرىء : «سيماؤهم» وفيها ثلاث لغات : هاتان . والسيمياء ، والمراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود ، وقوله تعالى : { مِّنْ أَثَرِ السجود } يفسرها ، أي : من التأثير الذي يؤثره السجود ، وكان كل من العليين : عليّ بن الحسين زين العابدين ، وعليّ بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك ، يقال له : ذو الثفنات؛ لأنّ كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير . وقرىء : «من أثر السجود» و«من آثار السجود» ، وكذا عن سعيد بن جبير : هي السمة في الوجه . فإن قلت : فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1051 ) " لا تعلبوا صوركم " ، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً قد أثر في وجهه السجود فقال : إن صورة وجهك أنفك ، فلا تعلب وجهك ، ولا تشن صورتك . قلت : ذلك إذا اعتمد بجبهته على الأرض لتحدث فيه تلك السمة . وذلك رياء ونفاق يستعاذ بالله منه ، ونحن فيما حدث في جبهة السجاد الذي لا يسجد إلا خالصاً لوجه الله تعالى . وعن بعض المتقدّمين : كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ، ونرى أحدنا الآن يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير ، فما ندري أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق . وقيل : هو صفرة الوجه من خشية الله . وعن الضحاك : ليس بالندب في الوجوه ، ولكنه صفرة .

وعن سعيد بن المسيب : ندى الطهور وتراب الأرض . وعن عطاء رحمه الله : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل ، كقوله :
( 1052 ) «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» { ذَلِكَ } الوصف { مَثَلُهُمْ } أي وصفهم العجيب الشأن في الكتابين جميعاً ، ثم ابتدأ فقال : { كَزَرْعٍ } يريد : هم كزرع . وقيل : تم الكلام عند قوله : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التوراة } ثم ابتديء : ( ومثلهم في الإنجيل كزرع ) ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } كقوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] . وقرىء : «الأنجيل» بفتح الهمزة { شَطْأَهُ } فراخه . يقال : أشطا الزرع إذا فرّخ . وقرىء : «شطأه» بفتح الطاء . وشطاه ، بتخفيف الهمزة : وشطاءه بالمدّ . وشطه ، بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها . وشطوه ، بقلبها واواً { فَآزَرَهُ } من المؤازرة وهي المعاونة . وعن الأخفش : أنه أفعل . وقرىء : «فأزره» بالتخفيف والتشديد ، أي : فشدّ أزره وقوّاه . ومن جعل { آزَرَ } أفعل ، فهو في معنى القراءتين { فاستغلظ } فصار من الدقة إلى الغلظ { فاستوى على سُوقِهِ } فاستقام على قصبه جمع ساق . وقيل : مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر ، فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان ، فاستوى على سوقه بعليّ . وهذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ، قام وحده . ثم قوّاه الله بمن آمن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع . فإن قلت : قوله : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } تعليل لماذا؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلل به { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ } لأنّ الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك . ومعنى { مِنْهُم } البيان ، كقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان } [ الحج : 30 ] .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( 1053 ) " من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد فتح مكة " .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)

قدّمه وأقدمه : منقولان بتثقيل الحشو والهمزة ، مِنْ قَدَمَهُ إذا تقدّمه ، في قوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } [ هود : 98 ] ونظيرهما معنى ونقلاً : سلفه وأسلفه . وفي قوله تعالى : { لاَ تُقَدّمُواْ } من غير ذلك مفعول : وجهان ، أحدهما : أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدّم . والثاني : أن لا يقصد قصد مفعول ولا حذفه ، ويتوجه بالنهي إلى نفس التقدمة ، كأنه قيل : لا تقدموا على التلبس بهذا الفعل ، ولا تجعلوه منكم بسبيل كقوله تعالى : { هُوَ الذى * لاَ إله } [ غافر : 68 ] ويجوز أن يكون من قدّم بمعنى تقدّم ، كوجه وبين . ومنه مقدّمة الجيش خلاف ساقته ، وهي الجماعة المتقدّمة منه . وتعضده قراءة من قرأ : «لا تقدموا» بحذف إحدى تاءي تتقدموا ، إلا أن الأوّل أملأ بالحسن وأوجه ، وأشدّ ملاءمة لبلاغة القرآن ، والعلماء له أقبل . وقرىء : «لا تقدموا» من القدوم ، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليهما . وحقيقة قولهم : جلست بين يدي فلان ، أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه ، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً ، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع ، وقد جرت هذه العبارة هاهنا على سنن ضرب من المجاز ، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلاً . ولجريها هكذا فائدة جليلة ليست في الكلام العريان : وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة : والمعنى : أن لا تقطعوا أمراً إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل . وإما مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم . وعليه يدور تفسير ابن عباس رضي الله عنه . وعن مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه على لسان رسوله . ويجوز أن يجري مجرى قولك : سرني زيد وحسن حاله ، وأعجبت بعمرو وكرمه . وفائدة هذا الأسلوب : الدلالة على قوّة الاختصاص ، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى : سلك له ذلك المسلك . وفي هذا تمهيد وتوطئة لما نقم منهم فيما يتولوه من رفع أصواتهم فوق صوته : لأنّ من أحظاه الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص القوي : كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت ، ويخافت لديه بالكلام . وقيل :
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلاً وعليهم المنذر بن عمرو الساعدي ، فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل . إلا الثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة ، فاعتزيا لهم إلى بني عامر ، لأنهم أعز من بني سليم ، فقتلوهما وسلبوهما ، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

« بئسما صنعتم كانا من سليم ، والسلب ما كسوتهما » فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت ، أي : لا تعملوا شيئاً من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن مسروق :
دخلت على عائشة في اليوم الذي يشك فيه ، فقالت للجارية : اسقه عسلاً ، فقلت : إني صائم ، فقالت : قد نهى الله عن صوم هذا اليوم . وفيه نزلت . وعن الحسن :
أنّ أناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت ، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحاً آخر . وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، إلا أن تزول الشمس . وعند الشافعي : يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة . وعن الحسن أيضاً : لما استقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل ، فنهوا أن يبتدؤه بالمسألة حتى يكون هو المبتديء وعن قتادة : ذكر لنا أنّ ناساً كانوا يقولون : لو أنزل فيه كذا لكان كذا ، فكره الله ذلك منهم وأنزلها . وقيل : هي عامة في كل قول وفعل؛ ويدخل فيه أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبقوه بالجواب ، وأن لا يمشي بين يديه إلا لحاجة ، وأن يستأني في الافتتاح بالطعام { واتقوا } فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهى عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله تجنبه ، فإن التقيّ حذر لا يشافه أمراً إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا تبعة عليه فيه ، وهذا كما تقول لمن يقارف بعض الرذائل : لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق بك العار . فتنهاه أوّلاً عن عين ما قارفه ، ثم تعم وتشيع وتأمره بما لو امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يضرب في طريقها ويتعلق بسببها { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لما تقولون { عَلِيمٌ } بما تعملون ، وحق مثله أن يتقى ويراقب .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)

إعادة النداء عليهم : استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد ، وتطرية الإنصات لكل حكم نازل ، وتحريك منهم لئلا يفترقوا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به عند حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدب الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم . وذلك لأنّ في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به ، ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملاً بما يحدوه عليه . وارتداعاً عما يصده عنه ، وانتهاء إلى كل خير ، والمراد بقوله : { لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوت ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم ، وجهره باهراً لجهركم؛ حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق غير خاف ، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم . وبقوله : ولا تجهروا له بالقول : إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت ، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم ، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللبين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر ، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم ، عاملين بقوله عز اسمه : { وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ } [ الفتح : 9 ] وقيل معنى : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } لا تقولوا له : يا محمد ، يا أحمد ، وخاطبوه بالنبوّة . قال ابن عباس :
لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله ، وعن عمر رضي الله عنه :
أنه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كأخي السرار لا يسمعه حتى يستفهمه
وكان أبو بكر إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد : أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر : ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة ، لأنّ ذلك كفر ، والمخاطبون مؤمنون ، وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، فيتكلف الغض منه ، وردّه إلى حدّ يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزيز والتوقير ، ولم يتناول النهى أيضاً رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدوّ أو ما أشبه ذلك ، ففي الحديث ، أنه قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين :
«اصرخ بالناس» وكان العباس أجهر الناس صوتاً .

يروى : أنّ غارة أتتهم يوماً فصاح العباس يا صباحاه ، فأسقطت الحوامل لشدّة صوته . وفيه يقول نابغة بني جعدة :
زَجْرَ أَبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا ... أَشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بِالْغَنَمِ
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه ، وفي قراءة ابن مسعود «لا ترفعوا بأصواتكم» والباء مزيدة محذوّ بها حذر التشديد في قول الأعلم الهذلي :
رَفَعْتُ عَيْنِي بِالْحِجَا ... زِ إِلى أُنَاسٍ بِالمَنَاقِبْ
وليس المعنى في هذه القراءة أنهم نهوا عن الرفع الشديد ، تخيلاً أن يكون ما دون الشديد مسوغاً لهم ، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة ، واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون . وعن ابن عباس :
نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، وكان جمهوري الصوت ، فكان إذا تكلم رفع صوته ، وربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته . وعن أنس
أن هذه الآية لما نزلت : فقد ثابت ، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بشأنه ، فدعاه ، فسأله فقال : يا رسول الله ، لقد أنزلت إليك هذه الآية ، وإني رجل جهير الصوت ، فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لست هناك ، إنك تعيش بخير وتموت بخير ، وإنك من أهل الجنة " . وأمّا ما يروى عن الحسن : أنها نزلت فيمن كان يرفع صوته من المنافقين فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمحمله والخطاب للمؤمنين : على أن ينهى المؤمنون ليندرج المنافقون تحت النهي ، ليكون الأمر أغلظ عليهم وأشق . وقيل : كان المنافقون يرفعون أصواتهم ليظهروا قلة مبالاتهم ، فيقتدي بهم ضعفة المسلمين . وكان التشبيه في محل النصب ، أي : لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض . وفي هذا : أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً ، حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني : الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوّة وجلالة مقدارها ، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } منصوب الموضع ، على أنه مفعول له ، وفي متعلقه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بمعنى النهي ، فيكون المعنى : انتهوا عما نهيتهم عنه لحبوط أعمالكم ، أي : لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف ، كقوله تعالى : { يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] والثاني : أن يتعلق بنفس الفعل ، ويكون المعنى : أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط ، لأنه لما كان بصدد الأداء إلى الحبوط : جعل كأنه فعل لأجله ، وكأنه العلة والسبب في إيجاده على سبيل التمثيل ، كقوله تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } [ القصص : 8 ] فإن قلت : لخص الفرق بين الوجهين . قلت : تلخيصه أن يقدر الفعل في الثاني مضموماً إليه المفعول له ، كأنهما شيء واحد ، ثم يصب النهي عليهما جميعاً صباً .

وفي الأوّل يقدر النهي موجهاً على الفعل على حياله ، ثم يعلل له منهياً عنه . فإن قلت : بأي النهيين تعلق المفعول له؟ قلت : بالثاني عند البصريين ، مقدراً إضماره عند الأوّل ، كقوله تعالى : { اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] وبالعكس عند الكوفيين ، وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أنّ الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل : وقراءة ابن مسعود : «فتحبط أعمالكم» أظهر نصاً بذلك؛ لأنّ ما بعد الفاء لا يكون إلا مسبباً عما قبله ، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى : { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى } [ طه : 81 ] والحبوط من حبطت الإبل : إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها ، وربما هلكت . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حَبَطاً أو يُلِمُ ومن أخواته ، حبجت الإبل» إذا أكلت العرفج فأصابها ذلك . وأحبض عمله : مثله أحبطه . وحبط الجرح وحبر : إذا غفر ، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد : جعل العمل السيء في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرص لمن يصاب به ، أعاذنا الله من حبط الأعمال وخيبة الآمال . وقد دلت الآية على أمرين هائلين ، أحدهما : أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله . والثاني : أن في آثامه ما لا يدري أنه محبط ، ولعله عند الله كذلك؛ فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشي في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ .

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

{ امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } من قولك : امتحن فلان لأملا كذا وجرب له ، ودرب للنهوض به . فهو مضطلع به غير وان عنه . والمعنى أنهم صبر على التقوى ، أقوياء على احتمال مشاقها . أو وضع الامتحان موضع المعرفة؛ لأنّ تحقق الشيء باختباره ، كما يوضع الخبر موضعها ، فكأنه قيل : عرف الله قلوبهم للتقوى ، وتكون اللام متعلقة بمحذوف ، واللام هي التي في قولك : أنت لهذا الأمر ، أي كائن له ومختص به قال :
أَنْتَ لَهَا أَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْبَشَر ... أَعَدَّاءٌ مَنْ لِلْيَعْمُلاَتِ عَلَى الْوَجَى
وهي مع معمولها منصوبة على الحال . أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى ، أي لتثبت وتظهر تقواها ، ويعلم أنهم متقون؛ لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها . وقيل أخلصها للتقوى . من قولهم : امتحن الذهب وفتنه ، إذا أذابه فخلص إبريزه من خبشه ونقاه . وعن عمر رضي الله عنه : أذهب الشهوات عنها . والامتحان : افتعال ، من محنه ، وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد . قال أبو عمرو : كل شيء جهدته فقد محنته . وأنشد :
أَتَتْ رَذَايَا بَادِياً كِلاَلُهَا ... قَدْ مَحَنَتْ واضطربت آطَالُهَا
قيل : أنزلت في الشيخين رضي الله عنهما ، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار . وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسماً لأنّ المؤكدة . وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً . والمبتدأ : اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء نكرة : مبهماً أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خفض أصواتهم ، وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدر شرف منزلته ، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء .

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام . ومن لابتداء الغاية ، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان . فإن قلت : فرق بين الكلامين بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه . قلت : الفرق بينهما أنّ المنادي والمنادى في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء ، وفي الثاني : لا يجوز لأنّ الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية . ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد ، والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار . لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من أقطارها الظاهرة كان مطلقاً بغير تعيين واختصاص ، والإنكار لم يتوجه عليهم من قبل أنّ النداء وقع منهم في أدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر عليهم أنهم نادوه من البرّ والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض ، من غير قصد إلى جهة دون جهة . والحجرة : الرقعة والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض ، من غير قصد إلى جهة دون جهة . والحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها ، وحظيرة الإبل تسمى الحجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة ، وجمعها : الحجرات بضمتين ، «والحجرات» بفتح الجيم ، والحجرات بسكينها . وقرىء بهنّ جميعاً ، والمراد : حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت لكل واحد منهنّ حجرة . ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات متطلبين له ، فناداه بعض من وراء هذه ، وبعض من وراء تلك ، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها ، وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمكان حرمته . والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم ، وكان الباقون راضين ، فكأنهم تولوه جميعاً ، فقد ذكر الأصم : أنّ الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس . والإخبار عن أكثرهم بأنهم لا يعقلون : يحتمل أن يكون فيهم من قصد بالمحاشاة . ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ، فإنَّ القلة تقع موقع النفي في كلامهم . وروي :
أن وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد ، فجعلوا ينادونه : محمد اخرج إلينا ، فاستيقظ فخرج ونزلت :
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال : «هم جفاة بني تميم ، لولا أنهم من أشدّ الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم» فورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر : من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله : منها مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل ، لما أقدموا عليه .

ومنها لفظ الحجرات وإيقاعها كناية عن موضع خلوته . ومقيله مع بعض نسائه . ومنها : المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم . ومنها : التعريف باللام دون الإضافة . ومنها : أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات ، تهوينا للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية له ، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم وسوء أدبهم ، وهلم جرا : من أوّل السورة إلى آخرها هذه الآية ، فتأمّل كيف ابتدىء بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى ا لله ورسوله متقدّمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد ، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر . كأن الأوّل بساط للثاني ووطأه لذكره ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك فغضوا أصواتهم ، دلالة على عظيم موقعه عند الله ، ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم وهجنته أتم : من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر ، كما يصاح بأهون الناس قدراً ، لينبه على فظاعة من أجروا إليه وجسروا عليه؛ لأنّ من رفع الله قدره على أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار ، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً؛ ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب ، كما يحكى عن أبي عبيد ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال : ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج من وقت خروجه { أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } في موضع الرفع على الفاعلية؛ لأنّ المعنى : ولو ثبت صبرهم . والصبر : حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها . قال الله تعالى : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الكهف : 28 ] وقولهم : صبر عن كذا ، محذوف منه المفعول ، وهو النفس ، وهو حبس فيه شدَّة ومشقة على المحبوس ، فلهذا قيل للحبس على اليمين أو القتل : صبر . وفي كلام بعضهم : الصبر مرّ لا يتجرّعه إلا حرّ . فإن قلت : هل من فرق بين { حتى تَخْرُجَ } وإلى أن تخرج؟ قلت : إنّ «حتى» مختصة بالغاية المضروبة . تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ، ولو قلت : حتى نصفها ، أو صدرها : لم يجز ، و«إلى» عامّة في كل غاية ، فقد أفادت «حتى» بوضعها : أنّ خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم غاية قد ضربت لصبرهم ، فما كان لهم أن يقطعوا أمراً دون الانتهاء إليه . فإن قلت : فأي فائدة في قوله : { إِلَيْهِمْ } ؟ قلت : فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم ، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أنّ خروجه إليهم { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } في ( كان ) إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو ، وإما ضمير مصدر { صَبَرُواْ } ، كقولهم : من كذب كان شراً له { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بليغ الغفران والرحمة واسعهما ، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمّه وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً ، ثم قال : هل أزيدكم ، فعزله عثمان عنهم مصدّقاً إلى بني المصطلق ، وكانت بينه وبينهم إحنة ، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له ، فحسبهم مقاتليه ، فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قد ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم . فبلغ القوم فوردوا وقالوا : نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم فقال : «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلاً هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم ، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي الله عنه . وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلوات متهجدين ، فسلموا إليه الصدقات ، فرجع . وفي تنكير الفاسق والنبأ : شياع في الفساق والأنباء ، كأنه قال : أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ . فتوقفوا فيه وتطلبوا الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا تعتمدوا قول الفاسق «لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه . والفسوق : الخروج من الشيء والانسلاخ منه . يقال : فسقت الرطبة عن قشرها . ومن مقلوبه : فقست البيضة ، إذا كسرتها وأخرجت ما فيها . ومن مقلوبه أيضاً : قفست الشيء إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصباً له عليه ، ثم استعمل في الخروج عن القصد والانسلاخ من الحق . قال رؤبة :
فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا ... وقرأ ابن مسعود : «فتثبتوا» والتثبت والتبين : متقاربان ، وهما طلب الثبات والبيان والتعرّف ، ولما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب ، وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة . قيل : إن جاءكم بحرف الشك وفيه أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة ، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور { ءانٍ } مفعول له ، أي : كراهة إصابتكم { تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } حال ، كقوله تعالى : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ } [ الأحزاب : 25 ] يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة . والإصباح : بمعنى الصيرورة . والندم : ضرب من الغم ، وهو : أن تغتمّ على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع ، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزام ، لأنه كلما تذكر المتندّم عليه راجعه من الندام : وهو لزام الشريب ودوام صحبته . ومن مقلوباته : أدمن الأمر أدامه . ومدن بالمكان : أقام به . ومنه : المدينة وقد تراهم يجعلون الهم صاحباً ونجياً وسميراً وضجيعاً ، وموصوفاً بأنه لا يفارق صاحبه . الجملة المصدّرة بلولا تكون كلاماً مستأنفاً ، لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور .

وكلاهما مذهب سديد . والمعنى : أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها . أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها : وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأى ، واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له فيما يرتثيه ، المحتذى على أمثلته؛ ولو فعل ذلك { لَعَنِتُّمْ } أي لوقعتم في العنت والهلاك . يقال : فلان يتعنت فلاناً ، أي : يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك . وقد أعنت العظم : إذا هيض بعد الجبر . وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد . وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله تعالى : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمان } أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض : صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة ، التي لا يفطن لها إلا الخواص . وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . وقوله : { أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون } والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : أولئك المستثنون هم الراشدون يصدق ما قلته . فإن قلت : ما فائدة تقديم خبر إن على اسمها؟ قلت : القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن الله منهم من استتباع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لارائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه . فإن قلت : فلم قيل { يُطِيعُكُمْ } دون : أطاعكم؟ قلت : للدلالة على أنه كان في أرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه . وأنه كلما عنّ لهم رأى في أمر كان معمولاً عليه ، بدليل قوله : { فِى كَثِيرٍ مّنَ الامر } كقولك : فلان يقري الضيف ويحمي الحريم ، تريد : أنه مما اعتاده ووجد منه مستمرّاً . فإن قلت : كيف موقع { ولكن } وشريطتها مفقودة : من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً؟ قلت : هي مفقودة من حيث اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى؛ لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدّم ذكرهم ، فوقعت ، لكنّ في حاق موقعها من الاستدراك . ومعنى تحبيب الله وتكريهه للطف والإمداد بالتوفيق ، وسبيله الكتابة كما سبق ، وكل ذي لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبي عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله؛ وحمل الآية على ظاهرها يؤدّي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ] فإن قلت : فإنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه ، وذلك فعل الله ، وهو مدح مقبول عند الناس غير مردود . قلت : الذي سوّغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب ، يسفر عن مخبر مرضى وأخلاق محمودة ومن ثم قالوا : أحسن ما في الدميم وجهه ، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته ، ولكن لدلالته على غيره ، على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به ، وقصر المدح على النعت بأمّهات الخير : وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة ، وما يتشعب منها ويرجع إليها ، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس للإنسان فيه عمل غلطاً ومخالفة عن المعقول و { الكفر } تغطية نعم الله تعالى وغمطها بالجحود .

و { الفسوق } الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب الكبائر { والعصيان } ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع . والعرق العاصي : العاند . واعتصت النواة : اشتدّت . والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة . قال أبو الوازع : كل صخرة وشادة . وأنشد :
وَغَيْرُ مُقَلَّدٍ وَمُوَشَّمَات ... صَلينَ الضَّوْءَ مِنْ صُمِّ الرَّشَادِ
و { فَضْلاً } مفعول له ، أو مصدر من غير فعله فإن قلت : من أين جاز وقوعه مفعولاً له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن يتحد الفاعل . قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه ، مسندة إلى اسمه تقدست أسماؤه : صار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه أو لا ينتصب عن الراشدون ، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى ، والجملة التي هي { أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون } اعتراض . أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلاً من الله . وأما كونه مصدراً من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشداً؛ لأنّ رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام { والله عَلِيمٌ } بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل { حَكِيمٌ } حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم .

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار ، فأمسك عبد الله بن أبيّ بأنفه وقال : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه . فقال عبد الله بن رواحة : والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك وروى : حماره أفضل منك ، وبول حماره أطيب من مسكك؛ ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا ، وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج ، فتجالدوا بالعصي ، وقيل : بالأيدي والنعال والسعف ، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم ، ونزلت . وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا . والبغي : الاستطالة والظلم وإباء الصلح . والفيء : الرجوع ، وقد سمى به الظل والغنيمة؛ لأنّ الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة : ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين ، وعن أبي عمرو : «حتى تفيء» بغير همز؛ ووجهه أنّ أبا عمرو خفف الأولى من الهمزتين الملتقيتين فلطفت على الراوي تلك الخلسة فظنه قد طرحها . فإن قلت : ما وجه قوله : { اقتتلوا } والقياس اقتتلتا ، كما قرأ ابن أبي عبلة «أو اقتتلا» كما قرأ عبيد بن عمير على تأويل الرهطين أو النفرين؟ قلت : هو مما حمل على المعنى دون اللفظ؛ لأنّ الطائفتين في معنى القوم والناس . وفي قراءة عبد الله «حتى يفيئوا إلى أمر الله» فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط . وحكم الفئة الباغية : وجوب قتالها ما قاتلت . وعن ابن عمر : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدته من أمر هذه الآية إن لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله عز وجل . قاله بعد أن اعتزل ، فإذا كافت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ، وإذا تولت اعمل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا ابن أم عبد ، هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمّة؟ " قال : الله ورسوله أعلم قال : " لا يجهر على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها " ولا تخلوا الفئتان من المسلمين في اقتتالهما : إما أن يقتتلا على سبيل البغى منهما جميعاً ، فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة ، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي : صير إلى مقاتلتهما ، وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما . وكلتاهما عند أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، وإطلاعهما على مراشد الحق . فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا من اتباع الحق بعد وضوحه لهما ، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين . وإما أن تكون إحداهما الباغية على الأخرى؛ فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل ، وفي ذلك تفاصيل : إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها : ضمنت بعد الفيئة ما جئت؛ وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة ، لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله؛ فإن كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت .

وأمّا قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ، فما جنته ضمنته عند الجميع ، فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله تعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل ، وعلى قول غيره : وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد ، والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات : ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط . فإن قلت : فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأوّل؟ قلت : لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معاً أو راكبتي شبهة ، وأيتهما كانت؛ فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما : إصلاح ذات البين ، وتسكين الدهماء بإرادة الحق والمواعظ الشافية ، ونفي الشبهة؛ إلا إذا أصرتا ، فحينئذٍ تجب المقاتلة . وأما الضمان فلا يتجه ، وليس كذلك إذا بغت إحداهما؛ فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين { وَأَقْسِطُواْ } أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين ، والقول فيه مثله في الأمر باتقاء الله على عقب النهي عن التقديم بين يديه ، والقسط بالفتح : الجور من القسط : وهو اعوجاج في الرجلين . وعود قاسط : يابس . وأقسطته الرياح . وأمّا القسط بمعنى العدل ، فالفعل منه : أقسط ، وهمزته للسلب ، أي : أزال القسط وهو الجور .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

هذا تقرير لما ألزمه من تولى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين ، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق : ما إن لم يفضل الأخوّة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها . ثم قد جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد ، لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته ، ويركبوا الصعب والذلول مشياً بالصلح وبثاً للسفراء بينهما ، إلى أن يصادف ما وهي من الوفاق من يرقعه ، وما استشن من الوصال من يبله؛ فالأخوة في الدين أحق بذلك وبأشدّ منه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
" المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يعيبه ، ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ، ولا يؤذيه بقتار قدره " ثم قال : " احفظوا ، ولا يحفظ منكم إلا قليل " . فإن قلت : فلم خص الاثنان بالذكر دون الجمع؟ قلت : لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان؛ فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم؛ لأنّ الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين ، وقيل : المراد بالأخوين الأوس والخزرج ، وقرىء : «بين إخوتكم وإخوانكم» والمعنى : ليس المؤمنون إلا إخوة ، وأنهم خلص لذلك متمحضون ، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية ، وأبي لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع ، فبادروا قطع ما يقع من ذلك إن وقع واحسموه { واتقوا الله } فإنكم إن فعلتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف ، والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه ، وكان فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم ، واشتمال رأفته عليكم حقيقاً بأن تعقدوا به رجاءكم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

القوم : الرجال خاصة؛ لأنهم القوّام بأمور النساء . قال الله تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } [ النساء : 34 ] وقال عليه الصلاة والسلام :
( 1069 ) " النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه " والذابون هم الرجال ، وهو في الأصل جمع قائم ، كصوّم وزوّر : في جمع صائم وزائر . أو تسمية بالمصدر . عن بعض العرب : إذا أكلت طعاماً أحببت نوماً وأبغضت قوماً . أي قياماً ، واختصاص القوم بالرجال : صريح في الآية وفي قول زهير :
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ ... وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن ، وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين : أن يراد : لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض؛ وأن تقصد إفادة الشياع ، وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية ، وإنما لم يقل : رجل من رجل ، ولا امرأة من امرأة على التوحيد ، إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية ، واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه ، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله ، ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار ، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر ، وكذلك كل من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به ، فيؤدي ذلك - وإن أوجده واحد - إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوماً . وقول تعالى : { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ } كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء . والمعنى وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر ، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم بالخفيات ، وإنما الذي يزن عند الله؛ خلوص الضمائر وتقوى القلوب ، وعلمهم من ذلك بمعزل ، فينبغي أن لا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال ، أو ذا عاهة في بدنه ، أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضدّ صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهانة بمن عظمه الله ، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمر بن شرحبيل : لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه : خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه . وعن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلباً . وفي قراءة عبد الله : «عسوا أن يكونوا» وعسين أن يكن ، فعسى على هذه القراءة هي ذات الخبر كالتي في قوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } [ محمد : 22 ] وعلى الأولى هي التي لا خبر لها كقوله تعالى :

{ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا } [ البقرة : 216 ] . واللمز : الطعن والضرب باللسان . وقرىء : «ولا تلمزوا» بالضم . والمعنى : وخصوا أيها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء من عيبها والطعن فيها ، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم ، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1070 ) " اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس " وعن الحسن رضي الله عنه في ذكر الحجاج : أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول : يا أبا سعيد يا أبا سعيد ، وقال لما مات : اللَّهم أنت أمته فاقطع سنته ، فإنه أتانا أخيفش أعيمش يخطر في مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها الرجل ، هيهات دون ذلك السيف والسوط . وقيل : معناه لا يعب بعضكم بعضاً ، لأنّ المؤمنين كنفس واحدة ، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه . وقيل : معناه لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة . والتنابز بالألقاب : التداعي بها : تفاعل من نبزه ، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون ويقال : النبز والنزب : لقب السوء والتلقيب المنهي عنه ، وهو ما يتداخل المدعوّ به كراهة لكونه تقصيراً به وذمّاً له وشيئاً ، فأما ما يحبه مما يزينه وينوّه به فلا بأس به . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1071 ) " من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه " ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن . قال عمر رضي الله عنه : أشيعوا الكنى فإنها منبهة . ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصدّيق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بسيف الله ، وقلَّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب ، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير . روي عن الضحاك أن قوماً من بني تميم استهزؤوا ببلال وخباب وعمار وصهيب وأبي ذرّ وسالم مولى حذيفة . فنزلت . وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة . وعن ابن عباس أن أمّ سلمة ربطت حقويها بسبنيّة وسدلت طرفها خلفها وكانت تجرّه ، فقالت عائشة لحفصة : انظري ما تجرّ خلفها كأنه لسان كلب . وعن أنس : عيرت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة بالقصر . وعن عكرمة عن ابن عباس
( 1072 ) أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« هلا قلت إن أبي هرون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد » ، روي :
( 1073 ) أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر ، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع؛ فأتى يوماً وهو يقول : تفسحوا لي ، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فقال لرجل : تنح ، فلم يفعل ، فقال : من هذا؟ فقال الرجل : أنا فلان ، فقال : بل أنت ابن فلانة ، يريد : أمّاً كان يعير بها في الجاهلية ، فخجل الرجل فنزلت ، فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً { الاسم } هاهنا بمعنى الذكر ، من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته . وحقيقته : ما سما من ذكره وارتفع بين الناس . ألا ترى إلى قولهم : أشاد بذكره؛ كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر أن يذكروا بالفسق . وفي قوله : { بَعْدَ الايمان } ثلاثة أوجه : أحدها استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة والثاني : أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود : يا يهودي يا فاسق ، فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه ، والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز . والثالث : أن يجعل من فسق غير مؤمن ، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة : بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

يقال : جنبه الشر إذا أبعده عنه ، وحقيقته : جعله منه في جانب ، فيعدى إلى مفعولين . قال الله عز وجل : { واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصنام } [ إبراهيم : 35 ] ثم يقال في مطاوعه : اجتنب الشر فتنقص المطاوعة مفعولاً . والمأمور باجتنابه هو بعض الظن ، وذلك البعض موصوف بالكثرة : ألا ترى إلى قوله : { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } ؟ فإن قلت : بَيِّن الفصل بيْنَ { كَثِيراً } ، حيث جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة . قلت : مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية ، وإنّ في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين . لئلا يجترىء أحد على ظنّ إلا بعد نظر وتأمّل ، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة ، مع استشعار للتقوى والحذر؛ ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطاً بما يكثر من دون ما يقل ، ووجب أن يكون كل ظنّ متصف بالكثرة مجتنباً ، وما اتصف منه بالقلة مرخصاً في تظننه . والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها : أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر : كان حراماً واجب الاجتناب؛ وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظنّ الفساد والخيانة به محرّم ، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث . عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1074 ) " إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء " وعن الحسن : كنا في زمان الظنُّ بالناس حرام ، وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت ، وظنّ بالناس ما شئت . وعنه : لا حرمة لفاجر . وعنه : إن الفاسق إذا أظهر فسقه وهتك ستره هتكه الله ، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعله أن يتوب . وقد روي :
( 1075 ) من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له . والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب . ومنه قيل لعقوبته : الأثام ، فعال منه : كالنكال والعذاب والوبال ، قال :
لَقَدْ فَعَلَتْ هاذي النَّوَى بِيَ فَعْلَة ... أَصَابَ النَّوَى قَبْلَ المَمَاتِ أَثَامُهَا
والهمزة فيه عن الواو ، كأنه يثم الأعمال : أي يكسرها بإحباطه . وقرىء : «ولا تحسسوا» بالحاء والمعنيان متقاربان . يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه : تفعل من الجس ، كما أن التلمس بمعنى التطلب من اللمس ، لما في اللمس من الطلب . وقد جاء بمعنى الطلب في قوله تعالى : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء } [ الجن : 8 ] والتحسس : التعرّف من الحس ، ولتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان : الحواس بالحاء والجيم ، والمراد النهي عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه . وعن مجاهد . خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1076 ) أنه خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهنّ . قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تتبعوا عورات المسلمين : فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته "

وعن زيد بن وهب : قلنا لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة بن أبي معيط تقطر لحيته خمراً؟ فقال ابن مسعود : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به . غابه واغتابه : كغاله واغتاله . والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال : وهي ذكر السوء في الغيبة
( 1077 ) سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال : " أن تذكر أخاك بما يكره . فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته " وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الغيبة إدام كلاب الناس { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه . وفيه مبالغات شتى : منها الاستفهام الذي معناه التقرير . ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة . ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك . ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، حتى جعل الإنسان أخاً . ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتاً . وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها ، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي . وانتصب { مَيْتًا } على الحال من اللحم . ويجوز أن ينتصب عن الأخ . وقرىء : «ميِّتا» ولما قرّرهم عز وجل بأنّ أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله تعالى : { فَكَرِهْتُمُوهُ } معناه : فقد كرهتموه واستقرّ ذلك . وفيه معنى الشرط ، أي : إن صحّ هذا فكرهتموه ، وهي الفاء الفصيحة ، أي : فتحققت - بوجوب الإقرار عليكم وبأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره : لإباء البشرية عليكم أن تجحدوه - كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين . وقرىء : «فكرهتموه» أي : جبلتم على كراهته . فإن قلت : هلا عدّى بإلى كما عدّى في قوله : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر } وأيهما القياس؟ قلت : القياس تعدّيه بنفسه ، لأنه ذو مفعول واحد قبل تثقيل حشوه ، تقول : كرهت الشيء ، فإذا ثقل استدعى زيادة مفعول . وأما تعدّيه بإلى ، فتأوّل وإجراء لكره مجرى بغض ، لأنّ بعض منقول من بغض إليه الشيء فهو بغيض إليه ، كقولك : حب إليه الشيء فهو حبيب إليه . والمبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده ، أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفواً عنه بالتوبة . أو لأنه بليغ في قبول التوبة ، منزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط ، لسعة كرمه . والمعنى : واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه ، فإنكم إن اتقتيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليك بثواب المتقين التائبين . وعن ابن عباس :
( 1078 ) أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما ، فنام عن شأنه يوماً ، فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً ، وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء ، فأخبرهما سلمان بذلك ، فعند ذلك قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، فقالا : ما تناولنا لحماً فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

{ مّن ذَكَرٍ وأنثى } من آدم وحوّاء . وقيل : خلقنا كل واحد منكم من أب وأمّ ، فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلى به الآخر سواء بسواء ، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب . والشعب : الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب ، وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة؛ فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل : خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصى بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة ، وسميت الشعوب؛ لأنّ القبائل تشعبت منها . وقرىء : «لتتعارفوا» ولتعارفوا بالإدغام . ولتعرفوا ، أي لتعلموا كيف تتناسبون . ولتتعرفوا . والمعنى : أن الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض . فلا يعتزى إلى غير آبائه ، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد ، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب . ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله تعالى فقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } وقرىء : «أنّ» بالفتح ، كأنه قيل : لم لا يتفاخر بالأنساب؟ فقيل : لأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1079 ) أنه طاف يوم فتح مكة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها ، يا أيها الناس ، إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقيّ هين على الله " ثم قرأ الآية . وعنه عليه السلام :
( 1080 ) " من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله " وعن ابن عباس : كرم الدنيا الغني ، وكرم الآخرة التقوى . وعو يزيد بن شجرة :
( 1081 ) مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاماً أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يراه عند كل صلاة ، ففقده يوماً فسأل عنه صاحبه ، فقال : محموم ، فعاده ثم سأل عنه بعد ثلاثة أيام فقال : هو لما به ، فجاءه وهو في ذمائه . فتولى غسله ودفنه ، فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم ، فنزلت .

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

الإيمان : هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس . والإسلام : الدخول في السلم . والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمان فِى قُلُوبِكُمْ } فاعلم أنّ ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان . فإن قلت : ما وجه قوله تعالى : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } والذي يقتضه نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا . أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلاً ، ودفع ما انتحلوه ، فقيل : قل لم تؤمنوا . وروعى في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه ، فل يقل : كذبتم ، ووضع { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه ، ثم نبه على ما فعل من وضعه موضع كذبتم في قوله في صفة المخلصين { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } [ الحجرات : 15 ] تعريضاً بأن هؤلاء هم الكاذبون ، ورب تعريض لا يقاومه التصريح ، واستغنى بالجملة التي هي لم : { تُؤْمِنُواْ } عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه النهي عن القول بالإيمان ، ثم وصلت بها الجملة المصدّرة بكلمة الاستدراك محمولة على المعنى ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ، ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى ، كما كان قولهم : { ءَامَنَّا } كذلك ، ولو قيل : ولكن أسلمتم ، لكان خروجه في معرض التسليم لهم والاعتداد بقولهم وهو غير معتدّ به . فإن قلت : قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمان فِى قُلُوبِكُمْ } بعد قوله تعالى : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة . قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } هو تكذيب دعواهم ، وقوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمان فِى قُلُوبِكُمْ } توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم { ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في { قُولُواْ } وما في ( لما ) من معنى التوقع : دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد { لاَ يَلِتْكُمْ } لا ينقصكم ولا يظلمكم . يقال : ألته السلطان حقه أشدّ الألت ، وهي لغة غطفان . ولغة أسد وأهل الحجاز : لاته ليتا . وحكى الأصمعي عن أمّ هشام السلولية أنها قالت : الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ، ولا تصمه الأصوات . وقرىء باللغتين «لا يلتكم» ولا يألتكم . ونحوه في المعنى { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ الأنبياء : 47 ] . ومعنى طاعة الله ورسوله : أن يتوبوا عما كانوا عليه من النفاق ويعقدوا قلوبهم على الإيمان ويعملوا بمقتضياته ، فإن فعلوا ذلك تقبل الله توبتهم ، ووهب لهم مغفرته . وأنعم عليهم بجزيل ثوابه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ نفراً من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة ، فأظهروا الشهادة ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارها ، وهم يغدون ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والذراري ، يريد الصدقة ويمنون عليه ، فنزلت .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)

ارتاب : مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة . والمعنى : أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ، ولا اتهام لمن صدّقوه واعترفوا بأنّ الحق منه . فإن قلت : ما معنى ثم هاهنا وهي التراخي وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارناً للإيمان لأنه وصف فيه ، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت : الجواب على طريقين ، أحدهما أنّ من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان أو بعض المضلين بعد ثلج الصدر فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه ، أو نظر هو نظراً غير سديد يسقط به على الشك ثم يستمرّ على ذلك راكباً رأسه لا يطلب له مخرجاً ، فوصف المؤمنون حقاً بالبعد عن هذه الموبقات . ونظيره قوله : { ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] والثاني : أنّ الإيقان وزوال الريب لما كان ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدّم الإيمان ، تنبيهاً على مكانه؛ وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً . { وجاهدوا } يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدوّ المحارب أو الشيطان أو الهوى . وأن يكون جاهد مبالغة في جهد . ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس : الغزو ، وأن يتناول العبادات بأجمعها ، وبالمجاهدة بالمال : نحو ما صنع عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة ، وأن يتناول الزكوات وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر التي يتحامل فيها الرجل على ماله لوجه الله تعالى { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } الذين صدقوا في قولهم آمنا ، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد ، أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وإيمان حق وجدّ وثبات .

قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)

يقال : ما علمت بقدومك ، أي : ما شعرت به ولا أحطت به . ومنه قوله تعالى : { أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ } وفيه تجهيل لهم .

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

يقال : منّ عليه بيد أسداها إليه ، كقولك : أنعم عليه وأفضل عليه . والمنة : النعمة التي لا يستثيب مسديها من يزلها إليه؛ واشتقاقها من المنّ الذي هو القطع ، لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير ، من غير أن يعمد لطلب مثوبة . ثم يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً . وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة ، وذلك أنّ الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاماً ، ونفى أن يكون كما زعموا إيماناً؛ فلما منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منهم قال الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام : إنّ هؤلاء يعتدّون عليك بما ليس جديراً بالاعتداد به من حدثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام . فقل لهم : لا تعتدّوا على إسلامكم ، أي حدثكم المسمى إسلاماً عندي لا إيماناً . ثم قال : بل الله يعتد عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له إن صحّ زعمكم وصدقت دعواكم ، إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه . وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الإيمان غير مضاف : ما لا يخفى على المتأمل ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، تقديره : إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان ، فللَّه المنة عليكم . وقرىء : «إن هداكم» بكسر الهمزة . وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : إذ هداكم . وقرىء : «تعلمون» بالتاء والياء ، وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم ، يعني أنه عزّ وجل يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه منه شيء ، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم ولا يظهر على صدقكم وكذبكم ، وذلك أنّ خاله مع كل معلوم واحدة لا تختلف .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1082 ) " من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه " .

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)

الكلام في { ق والقرءان المجيد بَلْ عجبوا } نحوه في { ص والقرءان ذِى الذكر بَلِ الذين كَفَرُواْ } [ ص : 1 - 2 ] سواء بسواء ، لالتقائهما في أسلوب واحد . والمجيد : ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ، ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل بما فيه : مجد عند الله وعند الناس ، وهو بسبب من الله المجيد ، فجاز اتصافه بصفته . قوله بل عجبوا : { أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ } إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالتهم وأمانته ، ومن كان على صفته لم يكن إلا ناصحاً لقومه مترفرفاً عليهم ، خائفاً أن ينالهم سوء ويحل بهم مكروه ، وإذا علم أنّ مخوفاً أظلهم ، لزمه أن ينذرهم ويحذرهم ، فكيف بما هو غاية المخاوف ونهاية المحاذير ، وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث ، مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السموات والأرض وما بينهما ، وعلى اختراع كل شيء وإبداعه ، وإقرارهم بالنشأة الأولى ، ومع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء . ثم عوّل على أحد الإنكارين بقوله تعالى : { فَقَالَ الكافرون هذا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا } دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار ، ووضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم . وهذا إشارة إلى الرجع؛ وإذا منصوب بمضمر؛ معناه : أحين نموت ونبلى نرجع؟ { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } مستبعد مستنكر ، كقولك : هذا قول بعيد . وقد أبعد فلان في قوله . ومعناه : بعيد من الوهم والعادة . ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع . وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف قبله على هذا التفسير حسن . وقرىء : «إذا متنا» على لفظ الخبر ، ومعناه : إذا متنا بعد أن نرجع ، والدال عليه { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } . فإن قلت : فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع؟ قلت : ما دل عليه المنذر من المنذر به ، وهو البعث .

قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)

{ قَدْ عَلِمْنَا } ردّ لاستبعادهم الرجع ، لأن من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم ، كان قادراً على رجعهم أحياء كما كانوا . عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1083 ) « كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب » ، وعن السدي : { مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } ما يموت فيدفن في الأرض منهم { كتاب حَفِيظٌ } محفوظ من الشياطين ومن التغير ، وهو اللوح المحفوظ . أو حافظ لما أودعه وكتب فيه .

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

{ بَلْ كَذَّبُواْ } إضراب أتبع الإضراب الأوّل ، للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم؛ وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات في أوّل وهلة من غير تفكر ولا تدبر { فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } مضطرب . يقال : مرج الخاتم في أصبعه وجرج؛ فيقولون تارة : شاعر ، وتارة : ساحر ، وتارة : كاهن ، لا يثبتون على شيء واحد : وقرىء : «لما جاءهم» بكسر اللام وما المصدرية ، واللام هي التي في قولهم لخمس خلون ، أي : عند مجيئه إياهم ، وقيل : { الحق } : القرآن . وقيل : الإخبار بالبعث .

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)

{ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ } حين كفروا بالبعث إلى آثار قدرة الله في خلق العالم { بنيناها } رفعناها بغير عمد { مِن فُرُوجٍ } من فتوق : يعني أنها ملساء سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل ، كقوله تعالى : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] .

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)

{ مددناها } دحوناها { رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت لولا هي لتكفأت { مِن كُلّ زَوْجٍ } من كل صنف { بَهِيجٍ } يبتهج به لحسنه { تَبْصِرَةً وذكرى } لتبصر به وتذكر كل { عَبْدٍ مُّنِيبٍ } راجع إلى ربه ، مفكر في بدائع خلقه . وقرىء : «تبصرة وذكرى» بالرفع ، أي : خلقها تبصرة .

وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)

{ مَاء مباركا } كثير المنافع { وَحَبَّ الحصيد } وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد ، وهو ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير وغيرهما { باسقات } طوالاً في السماء : وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : باصقات ، بإبدال السين صاداً لأجل القاف { نَّضِيدٌ } منضود بعضه فوق بعض : إما أن يراد كثرة الطلع وتراكمه؛ أو كثرة ما فيه من الثمر { رِزْقاً } على أنبتناها رزقاً ، لأنّ الإنبات في معنى الرزق . أو على أنه مفعول له ، أي : أنبتناها لنرزقهم { كذلك الخروج } كما حييت هذه البلدة الميتة ، كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم ، والكاف في محل الرفع على الابتداء .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)

أراد بفرعون قومه كقوله تعالى : { مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } [ يونس : 83 ] لأنّ المعطوف عليه قوم نوح ، والمعطوفات جماعات { كُلٌّ } يجوز أن يراد به كل واحد منهم ، وأن يراد جميعهم ، إلا أنه وحد الضمير الراجع إليه على اللفظ دون المعنى { فَحَقَّ وَعِيدِ } فوجب وحل وعيدي ، وهو كلمة العذاب . وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتهديد لهم .

أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

عيى بالأمر : إذا لم يهتد لوجه عمله ، والهمزة للإنكار . والمعنى : أنا لم نعجز كما علموا عن الخلق الأول ، حتى نعجز عن الثاني ، ثم قال : هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأوّل ، واعترافهم بذلك في طيه الاعتراف بالقدرة على الإعادة { بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ } أي في خلط وشبهة . قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم . ومنه قول علي رضي الله عنه : يا حار ، إنه لملبوس عليك ، اعرف الحق تعرف أهله . ولبس الشيطان عليهم : تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة ، فتركوا لذلك القياس الصحيح : أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر . فإن قلت : لم نكر الخلق الجديد ، وهلا عرّف الخلق الأول؟ قلت : قصد في تنكيره إلى خلق جديد له شأن عظيم وحال شديد . حق من سمع به أن يهتم به ويخاف ، ويبحث عنه ولا يقعد على لبس في مثله .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)

الوسوسة : الصوت الخفي . ومنها : وسواس الحلى . ووسوسة النفس : ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس . والباء مثلها في قولك : صوت بكذا وهمس به . ويجوز أن تكون للتعدية والضمير للإنسان ، أي : ما تجعله موسوساً ، وما مصدرية ، لأنهم يقولون : حدّث نفسه بكذا ، كما يقولون : حدثته به نفسه . قال :
وَاكْذِبِ النَّفْسَ إِذَا حَدَّثْتَهَا ... { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } مجاز ، والمراد : قرب علمه منه ، وأنه يتعلق بمعلومه منه ومن أحواله تعلقاً لا يخفى عليه شيء من خفياته ، فكأنه ذاته قريبة منه ، كما يقال : الله في كل مكان ، وقد جل عن الأمكنة . وحبل الوريد : مثل في فرط القرب ، كقولهم : هو مني مقعد القابلة ومعقد الإزار . وقال ذو الرمة :
وَالْمَوْتُ أَدْنَى لي مِنَ الْوَرِيدِ ... والحبل : العرق ، شبه بواحد الحبال ، ألا ترى إلى قوله :
كَأَنْ وَرِيدَيْهِ رشاءا خُلُبِ ... والوريدان : عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوتين ، يردان من الرأس إليه . وقيل : سمي وريداً لأنّ الروح ترده . فإن قلت : ما وجه إضافة الحبل إلى الوريد ، والشيء لا يضاف إلى نفسه؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن تكون الإضافة للبيان ، كقولهم : بعير سانية . والثاني : أن يراد حبل العاتق فيضاف إلى الوريد ، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد» كما لو قيل : حبل العلياء مثلاً .

إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)

{ إِذْ } منصوب بأقرب ، وساغ ذلك لأنّ المعاني تعمل في الظرف متقدّمة ومتأخرة ، والمعنى : أنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس وما لا شيء أخفى منه ، وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به ، إيذاناً بأن استحفاظ الملكين أمر هو غني عنه؛ وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟ وإنما ذلك لحكمة اقتضت ذلك : وهي ما في كتبة الملكين وحفظهما ، وعرض صحائف العمل يوم يقوم الأشهاد . وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله بعمله . من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1084 ) " إنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله تعالى ولا منهما " ويجوز أن يكون تلقي الملكين بياناً للقرب ، يعني : ونحن قريبون منه مطلعون على أحواله مهيمنون عليه ، إذ حفظتنا وكتبتنا موكلون به ، والتلقي : التلقن بالحفظ والكتبة . والقعيد : القاعد ، كالجليس بمعنى الجالس ، وتقديره : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين ، فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه ، كقوله :
. . . كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيَّا . . . . . . . . .
{ رَقِيبٌ } ملك يرقب عمله { عَتِيدٌ } حاضر ، واختلف فيما يكتب الملكان ، فقيل : يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقيل : لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر به . ويدل عليه قوله عليه الصلاة و السلام :
( 1085 ) " كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر " وقيل : إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه . وقرىء : «ما يلفظ» على البناء للمفعول .

وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بوصف قدرته وعلمه ، أعلمهم أن ما أنكروه وجحدوه هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة ، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه بلفظ الماضي . وهو قوله : { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ } { وَنُفِخَ فِى الصور } ، وسكرة الموت : شدّته الذاهبة بالعقل . والباء في بالحق للتعدية ، يعني : وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله . أو حقيقة الأمر وجلية الحال : من سعادة الميت وشقاوته . وقيل : الحق الذي خلق له الإنسان ، أن كل نفس ذائقة الموت . ويجوز أن تكون الباء مثلها في قوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي وجاءت ملتبسة بالحق ، أي : بحقيقة الأمر . أو بالحكمة والغرض الصحيح ، كقوله تعالى : { خَلَقَ السموات والأرض بالحق } [ الأنعام : 73 ] وقرأ أبو بكر وابن مسعود رضي الله عنهما «سكرة الحق بالموت» على إضافة السكرة إلى الحق والدلالة على أنها السكرة التي كتبت على الإنسان وأوجبت له ، وأنها حكمة . والباء للتعدية؛ لأنها سبب زهوق الروح لشدتها ، أو لأنّ الموت يعقبها؛ فكأنها جاءت به . ويجوز أن يكون المعنى : جاءت ومعها الموت . وقيل سكرة الحق سكرة الله ، أضيفت إليه تفظيعاً لشأنها وتهويلاً . وقرىء : «سكرات الموت» { ذَلِكَ } إشارة إلى الموت ، والخطاب للإنسان في قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } [ الحجر : 26 ] على طريق الالتفات . أو إلى الحق والخطاب للفاجر { تَحِيدُ } تنفر وتهرب . وعن بعضهم : أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فحكاه لصالح بن كيسان فقال : والله ما سنّ عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب ، هو للكافر . ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال : أخالفهما جميعاً : هو للبر والفاجر { ذَلِكَ يَوْمَ الوعيد } على تقدير حذف المضاف ، أي : وقت ذلك يوم الوعيد ، والإشارة إلى مصدر نفخ { سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } ملكان : أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد عليه بعمله . أو ملك واحد جامع بين الأمرين ، كأنه قيل : معها ملك يسوقها ويشهد عليها؛ ومحل { مَّعَهَا سَائِقٌ } النصب على الحال من كل لتعرّفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة . قرىء : «لقد كنت» عنكِ غطائكِ فبصركِ ، بالكسر على خطاب النفس ، أي : يقال لها لقد كنتِ . جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله أو غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً؛ فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت الغفلة عنه وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق . ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته : حديداً لتيقظه .

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)

{ وَقَالَ قَرِينُهُ } هو الشيطان الذي قيض له في قوله : { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] يشهد له قوله تعالى : { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } [ ق : 27 ] . { هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } هذا شيء لديّ وفي ملكتي عتيد لجهنم . والمعنى : أن ملكاً يسوقه وآخر يشهد عليه ، وشيطاناً مقروناً به ، يقول : قد أعتدته لجهنم وهيئته لها بإغوائي وإضلالي . فإن قلت : كيف إعراب هذا الكلام؟ قلت : إن جعلت { مَا } موصوفة ، فعتيد : صفة لها : وإن جعلتها موصولة ، فهو بدل ، أو خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف .

أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)

{ أَلْقِيَا } خطاب من الله تعالى للملكين السابقين : السائق والشهيد : ويجوز أن يكون خطاباً للواحد على وجهين : أحدهما قول المبرد : أن تثنية الفاعل نزلت منزلة تثنية الفعل لاتحادهما ، كأنه قيل : ألق ألق : للتأكيد . والثاني : أنّ العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان ، فكثر على ألسنتهم أن يقولوا : خليليّ وصاحبيّ ، وقفا وأسعدا ، حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين عن الحجاج أنه كان يقول : يا حرسيّ ، اضربا عنقه . وقرأ الحسن «ألقين» بالنون الخفيفة . ويجوز أن تكون الألف في { أَلْقِيَا } بدلاً من النون : إجراء للوصل مجرى الوقف { عَنِيدٍ } معاند مجانب للحق معاد لأهله { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } كثير المنع للمال على حقوقه ، جعل ذلك عادة له لا يبذل منه شيئاً قط . أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله يحول بينه وبينهم . قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يمنع بني أخيه من الإسلام ، وكان يقول : من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت { مُعْتَدٍ } ظالم متخط للحق { مُرِيبٍ } شاك في الله وفي دينه { الذى جَعَلَ } مبتدأ مضمن معنى الشرط ، ولذلك أجيب بالفاء . ويجوز أن يكون { الذى جَعَلَ } منصوباً بدلاً من { كُلَّ كَفَّارٍ } ويكون { فألقياه } تكريراً للتوكيد .

قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)

فإن قلت : لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الأولى؟ قلت : لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون . فإن قلت : فأين التقاول هاهنا؟ قلت : لما قال قرينه : { هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } وتبعه قوله : { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } وتلاه : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } [ ق : 28 ] : علم أنّ ثم مقاولة من الكافر ، لكنها طرحت لما يدل عليها ، كأنه قال : رب هو أطغاني ، فقال قرينه : ربنا ما أطغيته . وأمّا الجملة الأولى فواجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين : وقول قرينه ما قال له : { مَا أَطْغَيْتُهُ } ما جعلته طاغياً ، وما أوقعته في الطغيان ، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى } [ إبراهيم : 22 ] .

قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)

{ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ } استئناف مثل قوله : { قَالَ قرِينُهُ } [ ق : 27 ] كأن قائلاً قال : فماذا قال الله؟ فقيل : قال لا تختصموا . والمعنى : لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب ، فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته ، وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي ، فما تركت لكم حجة عليَّ ، ثم قال : لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي فأعفيكم عما أوعدتكم به { وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } فأعذب من ليس بمستوجب للعذاب . والباء في { بالوعيد } مزيدة مثلها في { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } أو معدية ، على أن «قدّم» مطاوع بمعنى «تقدّم» ويجوز أن يقع الفعل على جملة قوله : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بظلام لِّلْعَبِيدِ } ولأن { بالوعيد } حالاً ، أي : قدّمت إليكم هذا ملتبساً بالوعيد مقترناً به . أو قدّمته إليكم موعداً لكم به . فإن قلت : إنّ قوله : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم } واقع موقع الحال من { لاَ تَخْتَصِمُواْ } والتقديم بالوعيد في الدنيا والخصومة في الآخرة واجتماعها في زمان واحد واجب . قلت : معناه ولا تختصموا وقد صح عندكم أني قدمت إليكم بالوعيد ، وصحة ذلك عندهم في الآخرة ، فإن قلت : كيف قال : { بظلام } على لفظ المبالغة؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون من قولك : هو ظالم لعبده ، وظلام لعبيده . والثاني : أن يراد لو عذبت من لا يستحق العذاب لكنت ظلاماً مفرط الظلم . فنفى ذلك .

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

قرىء : «نقول» بالنون والياء . وعن سعيد بن جبير : يوم يقول الله لجهنم . وعن ابن مسعود والحسن : يقال . وانتصاب اليوم بظلام أو بمضمر . نحو : أذكر وأنذر . ويجوز أن ينتصب بنفخ ، كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم نقول لجهنم . وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم نقول ، ولا يقدّر حذف المضاف . وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب وتثبيته ، وفيه معنيان ، أحدهما : أنها تمتلىء مع اتساعها وتباعد أطرافها حتى لا يسعها شيء ولا يزاد على امتلائها ، لقوله تعالى : { لأَ مْلاَنَّ جَهَنَّمَ } [ السجدة : 13 ] والثاني : أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع للمزيد . ويجوز أن يكون { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } استكثاراً للداخلين فيها واستبداعاً للزيادة عليهم لفرط كثرتهم . أو طلباً للزيادة غيظاً على العصاة . والمزيد : إما مصدر كالمحيد والمميد ، وإما اسم مفعول كالمبيع .

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

{ غَيْرَ بَعِيدٍ } نصب على الظرف ، أي : مكاناً غير بعيد . أو على الحال ، وتذكيره لأنه على زنة المصدر ، كالزئير والصليل؛ والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث . أو على حذف الموصوف ، أي : شيئاً غير بعيد ، ومعناه التوكيد ، كما تقول : هو قريب غير بعيد ، وعزيز غير ذليل . وقرىء : { تُوعَدُونَ } بالتاء والياء ، وهي جملة اعتراضية . و { لِكُلّ أَوَّابٍ } بدل من قوله للمتقين ، بتكرير الجارّ كقوله تعالى : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] ، وهذا إشارة إلى الثواب . أو إلى مصدر أزلفت . والأوّاب : الرجاع إلى ذكر الله تعالى ، والحفيظ : الحافظ لحدوده تعالى . و { مَّنْ خَشِىَ } بدل بعد بدل تابع لكل . ويجوز أن يكون بدلاً عن موصوف أوّاب وحفيظ ، ولا يجوز أن يكون في حكم أوّاب وحفيظ؛ لأنّ من لا يوصف به ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي وحده . ويجوز أن يكون مبتدأ خبره : يقال لهم ادخلوها بسلام ، لأنّ { مَّنْ } في معنى الجمع . ويجوز أن يكون منادى كقولهم : من لا يزال محسناً أحسن إليّ ، وحذف حرف النداء للتقريب { بالغيب } حال من المفعول ، أي : خشيه وهو غائب لم يعرفه ، وكونه معاقباً إلا بطريق الاستدلال . أو صفة لمصدر خشى ، أي خشية خشية ملتبسة بالغيب ، حيث خشي عقابه وهو غائب ، أو خشية بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه ، وقيل : في الخلوة حيث لا يراه أحد . فإن قلت : كيف قرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة؟ قلت : للثناء البليغ على الخاشي وهو خشيته ، مع علمه أنه الواسع الرحمة . كما أثنى عليه بأنه خاش ، مع أنّ المخشى منه غائب ، ونحوه : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [ المؤمنون : 60 ] فوصفهم بالوجل مع كثرة الطاعات . وصف القلب بالإنابة وهي الرجوع إلى الله تعالى؛ لأنّ الاعتبار بما ثبت منها في القلب . يقال لهم : { ادخلوها بِسَلامٍ } أي سالمين من العذاب وزوال النعم . أو مسلماً عليكم يسلم عليكم الله وملائكته { ذَلِكَ يَوْمُ الخلود } أي يوم تقدير الخلود ، كقوله تعالى : { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] أي مقدرين الخلود { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } هو ما لم يخطر ببالهم ولم تبلغه أمانيهم ، حتى يشاؤه . وقيل : إن السحاب تمرّ بأهل الجنة فتمطرهم الحور ، فتقول : نحن المزيد الذي قال الله عز وجل : { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)

«فنقبوا» وقرىء بالتخفيف : فخرقوا في البلاد ودوّخوا . والتنقيب : التنقير عن الأمر والبحث والطلب . قال الحارث بن حلزة :
نَقَّبُوا فِي الْبِلاَد مِنْ حَذَرِ الْمَو ... تِ وَجَالُوا فِي الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ
ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله : { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } أي : شدّة بطشهم أبطرتهم وأقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه . ويجوز أن يراد : فنقب أهل مكة في أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون ، فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم ، والدليل على صحته قراءة من قرأ : «فنقبوا» على الأمر ، كقوله : { فَسِيحُواْ فِى الأرض } [ التوبة : 2 ] وقرىء بكسر القاف مخففة من النقب وهو أن يتنقب خف البعير . قال :
مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَبٍ وَلاَ دَبَرْ ... والمعنى : فنقبت أخفاف إبلهم . أو : حفيت أقدامهم ونقبت ، كما تنقب أخفاف الإبل لكثرة طوفهم في البلاد { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } من الله ، أو من الموت .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)

{ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي قلب واع؛ لأنّ من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له . وإلقاء السمع : الإصغاء { وَهُوَ شَهِيدٌ } أي حاضر بفطنته . لأنّ من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب ، وقد ملح الإمام عبد القاهر في قوله لبعض من يأخذ عنه :
مَا شِئْتَ مِنْ زَهْزَهَةٍ وَالْفَتَى ... بِمُصْقِلاَبَاذٍ لِسَقْيِ الزُّرُوعِ
أو : وهو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحي من الله ، أو وهو بعض الشهداء في قوله تعالى : { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] وعن قتادة وهو شاهد على صدقه من أهل الكتاب لوجود نعته عنده وقرأ السدي وجماعة «ألقى السمع» على البناء للمفعول . ومعناه : لمن ألقى غيره السمع وفتح له أذنه فحسب ولم يحضر ذهنه وهو حاضر الذهن متفطن . وقيل : ألقى سمعه أو السمع منه . اللغوب الإعياء . وقرىء بالفتح بزنة القبول والولوع ، قيل نزلت في اليهود - لعنت - تكذيبا لقولهم خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد ، وآخرها الجمعة ، واستراح يوم السبت ، واستلق على العرش وقالوا ان الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة انما وقع من اليهود ، ومنهم أخذ .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)

{ فاصبر على مَا يَقُولُونَ } أي اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه . وقيل : فاصبر على ما يقول المشركون من إنكارهم البعث؛ فإنّ من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منهم . وقيل : هي منسوخة بآية السيف . وقيل : الصبر مأمور به في كل حال { بِحَمْدِ رَبّكَ } حامداً ربك ، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة ، فالصلاة { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } الفجر { وَقَبْلَ الغروب } الظهر والعصر { وَمِنَ اليل } العشاآن . وقيل التهجد { وأدبار السجود } التسبيح في آثار الصلوات ، والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة . وقيل النوافل بعد المكتوبات . وعن علي رضي الله عنه : الركعتان بعد المغرب . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1086 ) " من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين " وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الوتر بعد العشاء . والأدبار : جمع دبر . وقرىء : «وأدبار» من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت . ومعناه : ووقت انقضاء السجود ، كقولهم : آتيك خفوق النجم { واستمع } يعني واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة . وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه ، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم
( 1087 ) أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل : " يا معاذاً اسمع ما أقول لك " ، ثم حدّثه بعد ذلك . فإن قلت : بم انتصب اليوم؟ قلت : بما دل عليه { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } أي : يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . ويوم يسمعون : بدل من { يَوْمَ يُنَادِ } و { المناد } إسرافيل ينفخ في الصور وينادي : أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . وقيل : إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالحشر { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } من صخرة بيت المقدس ، وهي أقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلاً ، وهي وسط الأرض . وقيل : من تحت أقدامهم . وقيل : من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة : أيتها العظام البالية ، و { الصيحة } النفخة الثانية { بالحق } متعلق بالصيحة ، والمراد به البعث والحشر للجزاء .

يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)

وقرىء : «تشقق» وتشقق بإدغام التاء في الشين ، وتشقق على البناء للمفعول ، وتنشق { سِرَاعاً } حال من المجرور { عَلَيْنَا يَسِيرٌ } تقديم الظرف يدل على الاختصاص ، يعني : لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن ، كما قال تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } [ لقمان : 28 ] .

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم { بِجَبَّارٍ } كقوله تعالى : { بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] حتى تقسرهم على الإيمان ، إنما أنت داع وباعث . وقيل : أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم . ويجوز أن يكون من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه ، أي : ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان . وعلى بمنزلته في قولك : هو عليهم ، إذا كان واليهم ومالك أمرهم { مَن يَخَافُ وَعِيدِ } كقوله تعالى : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها } [ النازعات : 45 ] لأنه لا ينفع إلا فيه دون المصرّ على الكفر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1088 ) « من قرأ سورة ق هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته » .

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)

{ والذاريات } الرياح لأنها تذور التراب وغيره . قال الله تعالى : { تذروه الرياح } [ الكهف : 45 ] وقرىء بإدغام التاء في الذال { فالحاملات وِقْراً } السحاب ، لأنها تحمل المطر . وقرىء : «وقراً» بفتح الواو على تسمية المحمول بالمصدر . أو على إيقاعه موقع حملاً { فالجاريات يُسْراً } الفلك . ومعنى ( يسراً ) : جريا ذا يسر ، أي ذا سهولة { فالمقسمات أَمْراً } الملائكة ، لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها . أوتفعل التقسيم مأمورة بذلك . وعن مجاهد : تتولى تقسيم أمر العباد : جبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة . وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر : سلوني قبل أن لا تسألوني ، ولن تسألوا بعدي مثلي ، فقام ابن الكوّاء فقال : ما الذريات ذروا؟ قال : الرياح . قال : فالحاملات وقرا؟ قال السحاب . قال : فالجاريات يسراً؟ قال : الفلك . قال فالمقسمات أمراً؟ قال : الملائكة وكذا عن ابن عباس . وعن الحسن ( المقسمات ) السحاب ، يقسم الله بها أرزاق العباد ، وقد حملت على الكواكب السبعة ، ويجوز أن يراد : الرياح لا غير؛ لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه ، وتجري في الجو جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب . فإن قلت : ما معنى الفاء على التفسيرين؟ قلت : أمّا على الأوّل فمعنى التعقيب فيها أنه تعالى أقسم بالرياح ، فبالسحاب الذي تسوقه ، فبالفلك التي تجريها بهبوبها ، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعه . وأمّا على الثاني ، فلأنها تبتدىء بالهبوب ، فتذرو التراب والحصباء ، فتنقل السحاب ، فتجري في الجوّ باسطة له فتقسم المطر { إِنّمَا تُوعَدُونَ } جواب القسم ، وما موصولة أو مصدرية ، والموعود : البعث . ووعد صادق : كعيشة راضية . والدين : الجزاء . والواقع : الحاصل .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)

{ الحبك } الطرائق ، مثل حبك الرمل والماء : إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك الشعر : آثار تثنيه وتكسره . قال زهير : يصف غديراً
مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... رِيحٌ خَرِيقٌ لِضَاحِي مَائِهِ حُبُكُ
والدرع محبوكة : لأنّ حلقها مطرق طرائق . ويقال : إنّ خلقه السماء كذلك . وعن الحسن : حبكها نجومها . والمعنى : أنها تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشي . وقيل : حبكها صفاتها وإحكامها ، من قولهم : فرس محبوك المعاقم؛ أي محكمها . وإذا أجاد الحائك الحياكة قالوا : ما أحسن حبكه ، وهو جمع حباك ، كمثال ومثل . أو حبيكة ، كطريقة وطرق . وقرىء : «الحبك» بوزن القفل . والحبك ، بوزن السلك . والحبك ، بوزن الجبل . والحبك بوزن البرق . والحبك بوزن النعم . والحبك بوزن الإبل { إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } قولهم في الرسول : ساحر وشاعر ومجنون ، وفي القرآن : شعر وسحر وأساطير الأوّلين . وعن الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً ، إنما هو متناقض مختلف . وعن قتادة : منكم مصدّق ومكذب ، ومقرّ ومنكر { يُؤْفَكُ عَنْهُ } الضمير للقرآن أوللرسول ، أي : يصرف عنه ، من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم؛ كقوله : لا يهلك على الله إلا هالك . وقيل : يصرف عنه من صرف في سابق علم الله ، أي : علم فيما لم يزل أنه مأفوك عن الحق لا يرعوى . ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين : أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق ، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه ، فمنهم شاكّ ، ومنهم جاحد . ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك . ووجه آخر : وهو أن يرجع الضمير إلى قول مختلف وعن مثله في قوله :
يَنْهَوْنَ عَنْ أَكْلٍ وَعَنْ شُرْبِ ... أي : يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب . وحقيقته : يصدر تناهيهم في السمن عنهما ، وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف . وقرأ سعيد بن جبير «يؤفك عنه» من أفك» ، على البناء للفاعل . أي : من أفك الناس عنه وهم قريش ، وذلك أنّ الحيّ كانوا يبعثون الرجل ذا العقل والرأي ليسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون له : احذره ، فيرجع فيخبرهم . وعن زيد بن عليّ : يأفك عنه من أفك ، أي : يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه . وعنه أيضاً : يأفك عنه من أفك؛ أي : يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب . وقرىء : «يؤفن عنه من أفن» أي : يحرمه من رحم ، من أفن الضرع إذا نهكه حلباً .

قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

{ قُتِلَ الخراصون } دعاء عليهم ، كقوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ، ثم جرى مجرى : لعن وقبح . والخرّاصون : الكذابون المقدرون ما لا يصح ، وهم أصحاب القول المختلف ، واللام إشارة إليهم ، كأنه قيل : قتل هؤلاء الخراصون . وقرىء : «قتل الخراصين» أي : قتل الله { فِى غَمْرَةٍ } في جهل يغمرهم { سَاهُونَ } غافلون عما أمروا به { يَسْئَلُونَ } فيقولون : «أيان يوم الدين» أي متى يوم الجزاء؟ وقرىء بكسر الهمزة وهي لغة . فإن قلت : كيف وقع أيان ظرفاً لليوم ، وإنما تقع الأحيان ظروفاً للحدثان؟ قلت : معناه : أيان وقوع يوم الدين . فإن قلت : فيم انتصب اليوم الواقع في الجواب؟ قلت : بفعل مضمر دلّ عليه السؤال ، أي : يقع يوم هم على النار يفتنون ، ويجوز أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى غير متمكن وهي الجملة . فإن قلت : فما محله مفتوحاً؟ قلت : يجوز أن يكون محله نصباً بالمضمر الذي هو يقع؛ ورفعا على هو يوم هم على النار يفتنون . وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع { يُفْتَنُونَ } يحرقون ويعذبون . ومنه الفتين : وهي الحرّة؛ لأن حجارتها كأنها محرقة { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } في محل الحال ، أي : مقولاً لهم هذا القول { هذا } مبتدأ ، و { الذى } خبره ، أي : هذا العذاب هو الذي { كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم؛ أي : ذوقوا هذا العذاب .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)

{ ءَاخِذِينَ مآ ءاتاهم رَبُّهُمْ } قابلين لكل ما أعطاهم راضين به ، يعني أنه ليس فيما آتاهم إلا ما هو ملتقي بالقبول مرضي غير مسخوط ، لأن جميعه حسن طيب . ومنه قوله تعالى : { وَيَأْخُذُ الصدقات } [ التوبة : 104 ] أي يقبلها ويرضاها { مُحْسِنِينَ } قد أحسنوا أعمالهم ، وتفسير إحسانهم ما بعده { مَا } مزيدة . والمعنى : كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل إن جعلت قليلاً ظرفاً ، ولك أن تجعله صفة للمصدر ، أي : كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً . ويجوز أن تكون { مَا } مصدرية أو موصولة؛ على : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ، أو ما يهجعون فيه ، وارتفاعه بقليلاً على الفاعلية . وفيه مبالغات لفظ الهجوع ، وهو الفرار من النوم . قال :
قَدْ حَصَتِ الْبَيْضَةُ رَأْسِي فَمَا ... أَطْعَمُ نَوْماً غَيْرَ تَهْجَاعِ
وقوله : { قَلِيلاً } و { مِّنَ اليل } لأن الليل وقت السبات والراحة ، وزيادة { مَا } المؤكدة لذلك : وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم . وقوله : { هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرّين ، فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه . فإن قلت : هل يجوز أن تكون ما نافية كما قال بعضهم ، وأن يكون المعنى : أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ، ويحيونه كله؟ قلت : لا ، لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . تقول : زيداً لم أضرب ، ولا تقول : زيداً ما ضربت : السائل : الذي يستجدي { والمحروم } الذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1089 ) " ليس المسكين الذي تردّه الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان " قالوا : فما هو؟ قال : «الذي لا يجد ولا يتصدق عليه» وقيل : الذي لا ينمى له مال . وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب .

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)

{ وَفِى الأرض ءايات } تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوّة كالبساط لما فوقها كما قال : { الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض مَهْداً } [ طه : 53 ] وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها والماشين في مناكبها ، وهي مجزأة : فمن سهل وجبل وبر وبحر : وقطع متجاورات : من صلبة ورخوة ، وعذاة وسبخة؛ وهي كالطروقة تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح تسقى بماء واحد { وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل } [ الرعد : 4 ] وكلها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم ، وما فيها من العيون المتفجرة والمعادن المفتنة والدّواب المنبثة في برها وبحرها المختلفة الصور والأشكال والأفعال : من الوحشي والإنسي والهوام ، وغير ذلك { لِّلْمُوقِنِينَ } الموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة ، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة ، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها ، فازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، وإيقاناً إلى إيقانهم { وَفِى أَنفُسِكُمْ } في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق : ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وخصت به من أصناف المعاني ، وبالألسن ، والنطق ، ومخارج الحروف ، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها : من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة المدبر ، دع الأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له ، وما سوّى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثنى . فإنه إذا جسا شيء منها جاء العجز ، وإذا استرخى أناخ الذل ، فتبارك الله أحسن الخالقين .

وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

{ وَفِى السمآء رِزْقُكُمْ } هو المطر؛ لأنه سبب الأقوات . وعن سعيد بن جبير : هو الثلج وكل عين دائمة منه . وعن الحسن : أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه : فيه والله رزقكم ، ولكنكم تحرمونه لخطاياكم { وَمَا تُوعَدُونَ } الجنة : هي على ظهر السماء السابعة تحت العرش . أو أراد : أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدون به في العقبى كله مقدّر مكتوب في السماء . قرىء : «مثل ما» بالرفع صفة للحق ، أي حق مثل نطقكم ، وبالنصب على : إنه لحق حقاً مثل نطقكم . ويجوز أن يكون فتحاً لإضافته إلى غير متمكن . وما مزيدة بنص الخليل ، وهذا كقول الناس : إن هذا لحق ، كما أنك ترى وتسمع ، ومثل ما إنك ههنا . وهذا الضمير إشارة إلى ما ذكر من أمر الآيات والرزق وأمر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أو إلى ما توعدون . وعن الأصمعي : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له فقال : من الرجل؟ قلت : من بني أصمع . قال : من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن . فقال : اتل عليّ ، فتلوت { والذاريات } فلما بلغت قوله تعالى : { وَفِى السمآء رِزْقُكُمْ } قال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف ، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق ، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر ، فسلم عليّ واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ، ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت : فوربّ السماء والأرض إنه لحق ، فصاح وقال : يا سبحان الله ، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين؛ قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

{ هَلْ أتاك } تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما عرفه بالوحي . والضيف للواحد والجماعة كالزور والصوم؛ لأنه في الأصل مصدر ضافه ، وكانوا اثني عشر ملكاً . وقيل : تسعة عاشرهم جبريل . وقيل ثلاثة : جبريل ، وميكائيل ، وملك معهما . وجعلهم ضيفاً؛ لأنهم كانوا في صورة الضيف : حيث أضافهم إبراهيم . أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك . وإكرامهم : أنّ إبراهيم خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجل لهم القِرى أو أنهم في أنفسهم مكرمون . قال الله تعالى : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] . { إِذْ دَخَلُواْ } نصب بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم؛ وإلا فبما في ضيف من معنى الفعل . أو بإضمار أذكر { سلاما } مصدر سادّ مسدّ الفعل مستغنى به عنه . وأصله : نسلم عليكم سلاماً ، وأمّا { سلام } فمعدول به إلى الرفع على الابتداء . وخبره محذوف ، معناه : عليكم سلام ، للدلالة على ثبات السلام ، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به ، أخذا بأدب الله تعالى . وهذا أيضاً من إكرامه لهم . وقرئا مرفوعين . وقرىء : «سلاما» قال «سلما» والسلم : السلام . وقرىء «سلاما قال سلم» { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام . أو أراد : أنهم ليسوا من معارفه أو من جنس الناس الذين عهدهم ، كما لو أبصر العرب قوماً من الخزر أو رأى لهم حالاً وشكلاً خلاف حال الناس وشكلهم ، أو كان هذا سؤالاً لهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون ، فعرّفوني من أنتم { فَرَاغَ إلى اأهله } فذهب إليهم في خفية من ضيوفه؛ ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادره بالقرى من غير أن يشعر به الضيف ، حذراً من أن يكفه ويعذره . قال قتادة : كان عامة مال نبي الله إبراهيم : البقر { فَجآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } . والهمزة في { أَلا تَأْكُلُونَ } للإنكار : أنكر عليهم ترك الأكل . أو حثهم عليه { فَأَوْجَسَ } فأضمر . وإنما خافهم لأنهم لم يتحرّموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءاً . وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب . وعن عون بن شداد : مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمّه { بغلام عَلِيمٍ } أي يبلغ ويعلم . وعن الحسن : عليم : نبيّ ، والمبشر به إسحاق ، وهو أكثر الأقاويل وأصحها؛ لأن الصفة صفة سارّة لا هاجر ، وهي امرأة إبراهيم وهو بِعلها . وعن مجاهد : هو إسماعيل { فِى صَرَّةٍ } في صيحة ، من : صر الجندب ، وصرّ القلم و صرّ الباب ، ومحله النصب على الحال ، أي : فجاءت صارّة . قال الحسن : أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم ، لأنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء ، وقيل : فأخذت في صرة ، كما تقول : أقبل يشتمني . وقيل : صرتها قولها : أوه . وقيل : يا ويلتا . وعن عكرمة : رنتها { فَصَكَّتْ } فلطمت ببسط يديها . وقيل : فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب { عَجُوزٌ } أنا عجوز ، فكيف ألد { كَذَلِكِ } مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به { قَالَ رَبُّكِ } أي إنما نخبرك عن الله ، والله قادر على ما تستبعدين . وروى أنّ جبريل قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة .

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)

لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله رسلاً في بعض الأمور { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } أي : فما شأنكم وما طلبكم { إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } إلى قوم لوط { حِجَارَةً مّن طِينٍ } يريد : السجيل ، وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر ، حتى صار في صلابة الحجارة { مُّسَوَّمَةً } معلمة ، من السومة ، وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به . وقيل : أعلمت بأنها من حجارة العذاب . وقيل : بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا . سماهم مسرفين ، كما سماهم عادين ، لإسرافهم وعدوانهم في عملهم : حيث لم يقنعوا بما أبيح لهم . الضمير في { فِيهَا } للقرية ، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة . وفيه دليل على أنّ الإيمان والإسلام واحد ، وأنهما صفتا مدح . قيل : هم لوط وابنتاه . وقيل : كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشرة . وعن قتادة : لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم ، ليعلموا أن الإيمان محفوظ لا ضيعة على أهله عند الله { ءَايَةً } علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم . قال ابن جريج : هي صخر منضود فيها . وقيل : ماء أسود منتن .

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)

{ وَفِى موسى } عطف على { وَفِى الأرض ءايات } أو على قوله : { وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً } على معنى : وجعلنا في موسى آية كقوله :
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... { فتولى بِرُكْنِهِ } فأزورّ ، وأعرض ، كقوله تعالى : { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [ فصلت : 51 ] وقيل : فتولى بما كان يتقوّى به من جنوده وملكه . وقرىء : «بركنه» ، بضم الكاف { وَقَالَ ساحر } أي هو ساحر { مُلِيمٌ } آت بما يلام عليه من كفره وعناده ، والجملة مع الواو حال من الضمير في فأخذناه . فإن قلت : كيف وصف نبيّ الله يونس صلوات الله عليه بما وصف به فرعون في قوله تعالى : { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 142 ] ؟ قلت : موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافهما تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكبيرة ملوم على مقدارها ، وكذلك مقترف الصغيرة . ألا ترى إلى قوله تعالى { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } [ هود : 59 ] ، { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ } [ طه : 121 ] لأنّ الكبيرة والصغيرة يجمعهما اسم العصيان ، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة .

وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)

{ العقيم } التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر ، وهي ريح الهلاك . واختلف فيها : فعن علي رضي الله عنه : النكباء . وعن ابن عباس : الدبور . وعن ابن المسيب : الجنوب . الرميم : كل ما رم أي بلى وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك .

وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)

{ حتى حِينٍ } تفسيره قوله : { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ } [ هود : 65 ] { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } فاستكبروا عن امتثاله . وقرىء : «الصعقة» وهي المرّة ، من مصدر صعقتهم الصاعقة : والصاعقة النازلة نفسها { وَهُمْ يَنظُرُونَ } كانت نهاراً يعاينونها . وروى أن العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم وما ضرَّتهم { فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ } كقوله تعالى : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين } [ العنكبوت : 37 ] وقيل : هو من قولهم : ما يقوم به ، إذا عجز من دفعه { مُنتَصِرِينَ } ممتنعين من العذاب .

وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)

{ وَقَوْمَ } قرىء : بالجر على معنى : وفي قوم نوح وتقوّيه قراءة عبد الله : وفي قوم نوح . وبالنصب على معنى : وأهلكنا قوم نوح؛ لأنّ ما قبله يدل عليه . أو واذكر قوم نوح .

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)

{ بِأَيْدٍ } بقوّة . والأيد والآد . القوّة . وقد آد يئيد وهو أيد { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } لقادرون ، من الوسع وهو الطاقة . والموسع : القوى على الإنفاق . وعن الحسن : لموسعون الرزق بالمطر . وقيل : جعلنا بينها وبين الأرض سعة { فَنِعْمَ الماهدون } فنعم الماهدون نحن .

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)

{ وَمِن كُلِّ شَىْءٍ } أي من كل شيء من الحيوان { خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } ذكراً وأنثى . وعن الحسن : السماء والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والبرّ والبحر ، والموت والحياة؛ فعدّد أشياء وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثل له { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه .

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

{ ففروا إِلَى الله } أي إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ، ووحدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وكرّر قوله : { إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أنّ العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما . ألا ترى إلى قوله تعالى : { لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إيمانها لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فى إيمانها خَيْرًا } [ الأنعام : 158 ] والمعنى : قل يا محمد : ففرّوا إلى الله .

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)

{ كذلك } الأمر ، أي مثل ذلك ، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتسميته ساحراً ومجنوناً ، ثم فسر ماأجمل بقوله { مَآ أَتَى } ولا يصح أن تكون الكاف منصوبة يأتي؛ لأنّ ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . ولو قيل : لم يأتى ، لكان صحيحاً ، على معنى : مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلا قالوا { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } الضمير للقول ، يعنى : أتواصى الأوّلون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعًا متفقين عليه { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد ، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان ، والطغيان هو الحامل عليه .

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)

{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } فأعرض عن الذين كرّرت عليهم الدعوة فلم يجيبوا ، وعرفت عنهم العناد واللجاج ، فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة ، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله { فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } أي تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان . أو يزيد الداخلين فيه إيماناً . وروى أنه لما نزلت { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد ذلك على أصحابه ، ورأوا أنّ الوحي قد انقطع وأنّ العذاب قد حضر ، فأنزل الله . وذكر .

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)

أي : وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها . فإن قلت : لو كان مريداً للعبادة منهم لكانوا كلهم عباداً؟ قلت : إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريداً لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم .

مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)

يريد : أنّ شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، فإنّ ملاّك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم ، فإمّا مجهز في تجارة ليفي ربحا . أو مرتب في فلاحة ليعتلّ أرضاً . أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته . أو محتطب . أو محتش . أو طابخ . أو خابز ، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق ، فأمّا مالك ملك العبيد وقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غنيّ عنكم وعن مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أنا وحدي «المتين» الشديد القوة . قرىء بالرفع صفة لذو وبالجر صفة للقوّة على تأويل الإقتدار والمعنى في صفة بالقوّة المتانة أنه القادر البليغ الإقتدار على كل شيء . وقرىء : «الرازق» وفي :
( 1090 ) قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : " إني أنا الرازق . "

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

الذنوب : الدلو العظيمة ، وهذا تمثيل ، أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب . قال :
لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوب ... فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ
ولما قال عمرو بن شاس :
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لشَاسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
قال الملك : نعم وأذنبة . والمعنى : فإنّ الذين ظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب من أهل مكة لهم نصيب من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون . وعن قتادة : سجلاً من عذاب الله مثل سجل أصحابهم { مِن يَوْمِهِمُ } من يوم القيامة . وقيل : من يوم بدر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1091 ) « من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا . »

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)

{ والطور } : الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين . والكتاب المسطور في الرق المنشور ، والرق : الصحيفة . وقيل : الجلد الذي يكتب فيه الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال . قال الله تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] وقيل : هو ما كتبه الله لموسى وهو يسمع صرير القلم . وقيل : اللوح المحفوظ . وقيل القرآن ، ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب ، كقوله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [ الشمس : 7 ] . { والبيت المعمور } الضراح في السماء الرابعة . وعمرانه : كثرة غاشيته من الملائكة . وقيل : الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار والمجاورين { والسقف المرفوع } السماء { والبحر المسجور } المملوء . وقيل : الموقد ، من قوله تعالى : { وَإِذَا البحار سُجّرَتْ } [ التكوير : 6 ] وروى أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلها ناراً تسجر بها نار جهنم . وعن علي رضي الله عنه أنه سأل يهودياً : أين موضع النار في كتابكم؟ قال : في البحر . قال علي : ما أراه إلا صادقاً ، لقوله تعالى { والبحر المسجور } . { لَوَاقِعٌ } لنازل . قال جبير بن مطعم :
( 1092 ) أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور ، فلما بلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ } أسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب { تَمُورُ السماء } تضطرب وتجيء وتذهب . وقيل : المور تحرك في تموّج ، وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة في الركبة .

فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب . ومنه قوله تعالى : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين } [ المدثر : 45 ] ، { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] الدع : الدفع العنيف ، وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزخاً في أقفيتهم . وقرأ زيد بن عليّ «يدعون» من الدعاء أي يقال لهم : هلموا إلى النار ، وادخلوا النار { دَعًّا } مدعوعين ، يقال لهم : هذه النار { أَفَسِحْرٌ هذا } يعني كنتم تقولون للوحي هذا سحر ، أفسحر هذا؟ يريد : أهذا المصداق أيضاً سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى { أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر ، وهذا تقريع وتهكم { سَوَآءٌ } خبر محذوف ، أي : سواء عليكم الأمران : الصبر وعدمه ، فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؟ قلت : لأنّ الصبر إنما يكون له مزية على الجزع ، لنفعه في العاقبة بأن يجازي عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

{ فِى جنات وَنَعِيمٍ } في آية جنات وأي نعيم ، بمعنى الكمال في هذه الصفة . أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة . وقرىء : «فاكهين فكهين وفاكهون» : من نصبه حالاً جعل الظرف مستقراً ، ومن رفعه خبراً جعل الظرف لغواً ، أي : متلذذين { بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ } . فإن قلت : علام عطف قوله؟ { ووقاهم رَبُّهُمْ } ؟ قلت : على قوله : { فِي جنات } أو على { ءاتاهم رَبُّهُمْ } على أن تجعل ما مصدرية؛ والمعنى : فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم . ويجوز أن تكون الواو للحال وقد بعدها مضمرة . يقال لهم : { كُلُواْ واشربوا } أكلا وشرباً { هَنِيئَاً } أو طعاماً وشراباً هنيئاً ، وهو الذي لا تنغيص فيه . ويجوز أن يكون مثله في قوله :
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ... لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا استحلت
أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل مرتفعاً به ما استحلت كما يرتفع بالفعل ، ، كأنه قيل : هناء عزة المستحل من أعراضنا ، وكذلك معنى { هَنِيئَاً } ههنا : هناءكم الأكل والشرب . أو هناءكم ما كنتم تعملون؛ أي : جزاء ما كنتم تعملون . والباء مزيدة كما في { كفى بالله } [ الرعد : 43 ] والباء متعلقة بكلوا واشربوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب . وقرىء : «بعيس عين» .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)

{ والذين ءامَنُواْ } معطوف على { بِحُورٍ عِينٍ } أي : قرناهم بالحور وبالذين آمنوا ، أي : بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى : { إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين } [ الحجر : 47 ] فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين { واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1093 ) " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقرّبهم عينه " ثم تلا هذه الآية . فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، ومزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم . ثم قال : { بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم . فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة . ويجوزأن يراد : إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم . وقرىء : «وأتبعتهم ذريتهم وأتبعتهم ذريتهم» . وذرياتهم : وقرىء : «ذرياتهم» بكسر الذال . ووجه آخر : وهو أن يكون { والذين ءامَنُواْ } مبتدأ خبره { بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } وما بينهما اعتراض { وَمَا ألتناهم } وما نقصناهم . يعني : وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب والتفضل ، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء . وقيل معناه : وما نقصناهم من ثوابهم شيئاً نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم ، إنما ألحقناهم بهم على سبيل التفضل . قرىء : «ألتناهم» وهو من بابين : من ألت يألت ، ومن ألات يليت ، كأمات يميت . وآلتناهم ، من آلت يؤلت ، كآمن يؤمن . ولتناهم ، من لات يليت . وولتناهم ، من ولت يلت . ومعناهنّ واحد { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أي مرهون ، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به ، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه ، فإن عمل صالحاً فكها وخلصها ، وإلا أوبقها { وأمددناهم } وزدناهم في وقت بعد وقت { يتنازعون } يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم { كَأْساً } خمراً { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } في شربها { وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وما لا طائل تحته كفعل المتنادمين في الدنيا على الشراب في سفههم وعربدتهم ، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله ، أي : ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب والشتم والفواحش ، وإنما يتكلمون بالحكم والكلام الحسن متلذذين بذلك ، لأنّ عقولهم ثابتة غير زائلة ، وهم حكماء علماء . وقرىء : «لا لغو فيها ولا تأثيم» { غِلْمَانٌ لَّهُمْ } أي مملوكون لهم مخصوصون بهم { مَّكْنُونٌ } في الصدف ، لأنه رطباً أحسن وأصفى . أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة . وقيل لقتادة : هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1094 ) " والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " ، وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1095 ) " إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه : لبيك لبيك " .

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

{ يَتَسَآءَلُونَ } يتحادثون ويسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله وما استوجب به نيل ما عند الله { مُشْفِقِينَ } أرقاء القلوب من خشية الله . وقرىء : «ووقانا» بالتشديد { عَذَابَ السموم } عذاب النار ووهجها ولفحها . والسموم : الريح الحارّة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة { مِن قَبْلُ } من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه ، يعنون في الدنيا { نَدْعُوهُ } نعبده ونسأله الوقاية { إِنَّهُ هُوَ البر } المحسن { الرحيم } العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب . وقرىء : «أنه» بالفتح ، بمعنى : لأنه .

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)

{ فَذَكِّرْ } فأثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم : كاهن أو مجنون ، ولا تبال به فإنه قول باطل متناقض لأنّ الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله . وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوّة ورجاحة العقل أحد هذين .

أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

وقرىء : «يتربص به ريب المنون» ، على البناء للمفعول . وريب المنون . ما يقلق النفوس ويشخص بها من حوادث الدهر . قال :
أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهِ تتَوَجَّعُ ... وقيل : المنون الموت ، وهو في الأصل فعول؛ من منه إذا قطعه؛ لأن الموت قطوع؛ ولذلك سميت شعوب قالوا : ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء : زهير والنابغة { مّنَ المتربصين } أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي { أحلامهم } عقولهم وألبابهم . ومنه قولهم : أحلام عاد . والمعنى : أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض في القول ، وهو قولهم : كاهن وشاعر ، مع قولهم مجنون . وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق لهم . فإن قلت : ما معنى كون الأحلام آمرة؟ قلت : هو مجاز لأدائها إلى ذلك ، كقوله تعالى : { أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } [ هود : 87 ] وقرىء : «بل هم قوم طاغون» { تَقَوَّلَهُ } اختلقه من تلقاء نفسه { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن ، مع علمهم ببطلان قولهم ، وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه ، وما محمد إلا واحد من العرب . وقرىء ( بحديث مثله ) على الإضافة ، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعناه : أن مثل محمد في فصاحته ليس بمعوز في العرب ، فإن قدر محمد على نظمه كان مثله قادراً عليه ، فليأتوا بحديث ذلك المثل : { أَمْ خُلِقُواْ } أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم { مِنْ غَيْرِ شَىْء } من غير مقدّر { أَمْ هُمُ } الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق { بل لا يوقنون } أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون ، لا يوقنون . وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب؟ وقيل : أخلقوا من غير أب وأم؟ { أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ } الرزق حتى يرزقوا النبوّة من شاؤا . أو : أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ { أَمْ هُمُ المسيطرون } الأرباب الغالبون ، حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم؟ وقرىء «المصيطرون» بالصاد { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } منصوب إلى السماء يستمعون صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون؟ { بسلطان مُّبِينٍ } بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم . المغرم : أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه ، أي : لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في أتباعك؟ { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } أي اللوح المحفوظ { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما فيه حتى يقولوا لا نبعث ، وإن بعثنا لم نعذب { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين { فالذين كَفَرُواْ } إشارة إليهم أو أريد بهم كل من كفر بالله { هُمُ المكيدون } هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم . وذلك أنهم قتلوا يوم بدر . أو المغلوبون في الكيد ، من كايدته فكدته .

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)

الكسف : القطعة ، وهو جواب قولهم : { أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } [ الإسراء : 92 ] يريد : أنهم لشدّة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا : هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا ، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب . وقرىء : «حتى يلقوا» ويلقوا { يُصْعَقُونَ } يموتون . وقرىء : «يصعقون» . يقال . صعقه فصعق ، وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وإن . لهؤلاء الظلمة { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } دون يوم القيامة : وهو القتل ببدر ، والقحط سبع سنين ، وعذاب القبر . وفي مصحف عبد الله : دون ذلك تقريباً .

وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

{ لِحُكْمِ رَبّكَ } بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقة والكلفة { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } مثل ، أي : بحيث نراك ونكلؤك . وجمع العين لأنّ الضمير بلفظ ضمير الجماعة . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى } [ طه : 39 ] . وقرىء : «بأعينا» ، بالإدغام { حِينَ تَقُومُ } من أي مكان قمت . وقيل : من منامك { وإدبار النجوم } وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل . وقرىء : «وأدبار » ، بالفتح بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت ، والمراد الأمر بقول : سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات . وقيل التسبيح : الصلاة إذا قام من نومه ، ومن الليل : صلاة العشاءين ، وأدبار النجوم : صلاة الفجر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1096 ) " من قرأ سورة الطور كان حقاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته " .

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)

( النجم ) : الثريا ، وهو اسم غالب لها . قال :
إذَا طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءَ ... إبْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءَ
أو جنس النجوم . قال :
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ ... يريد النجوم { إِذَا هوى } إذا غرب أو انتثر يوم القيامة . أو النجم الذي يرجم به إذا هوى : إذا انفض . أو النجم من نجوم القرآن ، وقد نزل منجماً في عشرين سنة ، إذا هوى : إذا نزل . أو النبات إذا هوى : إذا سقط على الأرض . وعن عروة بن الزبير :
( 1098 ) أنّ عتبة بن أبي لهب وكانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام ، فقال : لآتينّ محمداً فلأوذينه؛ فأتاه فقال : يا محمد ، وهو كافر بالنجم إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى ، ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّ عليه ابنته وطلقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ، وكان أبو طالب حاضراً ، فوجم لها وقال : ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة! فرجع عتبة إلى أبيه ، فأخبره ، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلاً ، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة ، فقال أبو لهب لأصحابه : أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة ، فإني أخاف على ابني دعوة محمد ، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم؛ وأحدقوا بعتبة ، فجاء الأسد يتشمم وجوههم ، حتى ضرب عتبة فقتله . وقال حسان :
مَنْ يَرْجِعُ الْعَامَ إِلى أَهْلِهِ ... فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ
{ مَا ضَلَّ صاحبكم } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم : والخطاب لقريش ، وهو جواب القسم ، والضلال : نقيض الهدى ، والغيّ نقيض الرشد ، أي : هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي ، وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه ، وإنما هو وحي من عند الله يوحى إليه . ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء ، ويجاب بأنّ الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد ، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً لا نطقاً عن الهوى { شَدِيدُ القوى } ملك شديد قواه ، والإضافة غير حقيقية ، لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهو جبريل عليه السلام ، ومن قوّته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود ، وحملها على جناحه ، ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف ، ورأى إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة ، فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند { ذُو مِرَّةٍ } ذو حصافة في عقله ورأيه ومتانة في دينه { فاستوى } فاستقام على صورة نفسه الحقيقة دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي؛ وكان ينزل في صورة دحية ، وذلك :
( 1098 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق .

وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة في الأرض ، ومرة في السماء { ثُمَّ دَنَا } من رسول الله صلى الله عليه وسلم { فتدلى } فتعلق عليه في الهواء . ومنه : تدلت الثمرة ، ودلى رجليه من السرير . والدوالي : الثمر المعلق . قال :
تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخِيطَةٍ ... ويقال : هو مثل القرليّ : إن رأى خيراً تدلى ، وإن لم يره تولى { قَابَ قَوْسَيْنِ } مقدار قوسين عربيتين : والقاب والقيب؛ والقاد والقيد ، والقيس : المقدار . وقرأ زيد بن علي : قاد . وقرىء : «قيد» وقدر . وقد جاء التقدير بالقوس والرمح ، والسوط ، والذراع ، والباع ، والخطوة ، والشبر ، والفتر ، والأصبع . ومنه :
( 1099 ) " لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين " وفي الحديث :
( 1100 ) " لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قدّه خير من الدنيا وما فيها " والقدّ : السوط . ويقال : بينهما خطوات يسيرة . وقال :
وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ حَزِيمَةَ أَصْبُعَا ... فإن قلت : كيف تقدير قوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } ؟ قلت : تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله :
وقد جعلتني من حزيمة أصبعا ... أي : ذا مقدار مسافة أصبع { أَوْ أدنى } أي على تقديركم ، كقوله تعالى : { أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] . { إلى عَبْدِهِ } إلى عبد الله ، وإن لم يجر لاسمه عزّ وجل ذكر ، لأنه لا يلبس؛ كقوله : { على ظَهْرِهَا } [ فاطر : 45 ] . { مَا أوحى } تفخيم للوحي الذي أوحي إليه : قيل أوحي إليه «إنّ الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» { مَا كَذَبَ } فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام ، أي : ما قال فؤاده لما رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذباً ، لأنه عرفه ، يعني : أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أنّ ما رآه حق وقرىء : «ما كذب» أي صدّقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته { أفتمارونه } من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مرى الناقة ، كأن كل واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه . وقرىء : «أفتمرونه» أفتغلبونه في المراء ، من ماريته فمريته ، ولما فيه من معنى الغلبة عدّى بعلى ، كما تقول : غلبته على كذا : وقيل : أفتمرونه : أفتجحدونه . وأنشدوا :
لَئِنْ هَجَوْتَ أَخَاً صِدْقٍ وَمَكْرُمَةٍ ... لَقَدْ مَرَيْتَ أخاً مَا كَانَ يَمْرِيكاً
وقالوا : يقال مريته حقه إذا جحدته ، وتعديته بعلى لا تصح إلا على مذهب التضمين { نَزْلَةً أخرى } مرة أخرى من النزول ، نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة ، لأنّ الفعلة اسم للمرّة من الفعل ، فكانت في حكمها ، أي : نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه ، فرآه عليها ، وذلك ليلة المعراج عند سدرة المنتهى .

قيل : في سدرة المنتهى : هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش : ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان الفيول ، تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها . والمنتهى : بمعنى موضع الانتهاء ، أو الانتهاء ، كأنها في منتهى الجنة وآخرها . وقيل : لم يجاوزها أحد ، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ، ولا يعلم أحد ما وراءها . وقيل : تنتهي إليها أرواح الشهداء { جَنَّةُ المأوى } الجنة التي يصير إليها المتقون : عن الحسن . وقيل : تأوى إليها أرواح الشهداء . وقرأ علي وابن الزبير وجماعة «جنة المأوى» أي سترة بظلاله ودخل فيه . وعن عائشة : أنها أنكرته وقالت : من قرأ به فأجنه الله { مَا يغشى } تعظيم وتكثير لما يغشاها ، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله : أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف . وقد قيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1101 ) " رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله " وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1102 )
يغشاها رفرف من طير خضر ... وعن ابن مسعود وغيره : يغشاها فراش من ذهب [ ما زاغ ] بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وما طغى ] أي أثبت ما رآه اثباتا مستقيماً صحيحاً ، من غير أن يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه ، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها ، وما طغى : وما جاوز ما أمر برؤيته { لَقَدْ رأى } والله لقد رأى { مِنْ ءايات رَبِّهِ } الآيات التي هي كبراها وعظماها ، يعني : حين رقى به إلى السماء فأري عجائب الملكوت .

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)

{ اللات والعزى ومناة } أصنام كانت لهم ، وهي مؤنثات؛ فاللات كانت لثقيف بالطائف . وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش ، وهي فعلة من لوى؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة . أو يلتوون عليها : أي يطوفون . وقرىء «اللات» بالتشديد . وزعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالسويق ويطعمه الحاج . وعن مجاهد : كان رجل يلت السويق بالطائف ، وكانوا يعكفون على قبره ، فجعلوه وثناً ، والعزى كانت لغطفان وهي سمرة ، وأصلها تأنيث الأعز .
( 1103 ) وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها ، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها ، واضعة يدها على رأسها ، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول :
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لاَ سُبْحَانَك ... إني رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهانَكَ
ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام تلك العزى ولن تعبد أبداً . ومناة : صخرة كانت لهذيل وخزاعة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لثقيف . وقرىء : «ومناءة» وكأنها سميت مناة لأنّ دماء النسائك كانت تمنى عندها ، أي : تراق ، ومناءة مفعلة من النوء ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها . و { الأخرى ا } ذمّ ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله تعالى : { وقالت أخراهم لأولاهم } [ الأعراف : 38 ] أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم . ويجوز أن تكون الأوّلية والتقدّم عندهم للات والعزى . كانوا يقولون إنّ الملائكة وهذه الأصنام بنات الله ، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى مع وأدهم البنات ، فقيل لهم { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى ( 21 ) } ويجوز أن يراد : أنّ اللات والعزى ومناة إناث ، وقد جعلتموهنّ لله شركاء ، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم ، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمونهنّ آلهة { قِسْمَةٌ ضيزى } جائرة ، من ضازه يضيزه إذا ضامه ، والأصل : ضوزى . ففعل بها ما فعل ببيض؛ لتسلم الياء . وقرىء : «ضئزى» من ضأزه بالهمز . وضيزى : بفتح الضاد { هِىَ } ضمير الأصنام ، أي ما هي { إِلاَّ أَسْمَاءٌ } ليس تحتها في الحقيقة مسميات ، لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشدّه منافاة لها . ونحوه قوله تعالى : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } [ يوسف : 40 ] أو ضمير الأسماء وهي قولهم ، اللات والعزى ومناة ، وهم يقصدون بهذه الأسماء الآلهة ، يعني : ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها بهواكم وشهوتكم ، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان تتعلقون به . ومعنى { سَمَّيْتُمُوهَا } سميتم بها ، يقال : سميته زيداً ، وسميته بزيد [ إن يتبعون ] وقرىء بالتاء { إِلاَّ الظن } إلا توهم أنّ ما هم عليه حق ، وأنّ آلهتهم شفعاؤهم ، وما تشتهيه أنفسهم ، ويتركون ما جاءهم من الهدى والدليل على أنّ دينهم باطل .

أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)

{ أَمْ للإنسان مَا تمنى ( 24 ) } هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي : ليس للإنسان ما تمنى ، والمراد طمعهم في شفاعة الآلهة ، وهو تمنّ على الله في غاية البعد ، وقيل : هو قولهم : { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] وقيل : هو قول الوليد بن المغيرة «لأوتين مالاً وولدا» وقيل هو تمنى بعضهم أن يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم فللَّه الآخرة والأولى أي هو مالكهما ، فهو يعطي منهما من يشاء ويمنع من يشاء ، وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما .

وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)

يعني : أنّ أمر الشفاعة ضيق وذلك أنّ الملائكة مع قربتهم وزلفاهم وكثرتهم واغتصاص السموات بجموعهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً قط ولم تنفع ، إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلاً لأن يشفع له ، فكيف تشفع الأصنام إليه بعبدتهم .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)

{ لَيُسَمُّونَ الملائكة } أي كل واحد منهم { تَسْمِيَةَ الأنثى } لأنهم إذا قالوا : الملائكة بنات الله ، فقد سموا كل واحد منهم بنتاً وهي تسمية الأنثى { بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي بذلك وبما يقولون . وفي قراءة أبيّ : «بها» ، أي : بالملائكة . أو التسمية { لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا } يعني إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظنّ والتوهم { فَأَعْرِضْ } عن دعوة من رأيته معرضاً عن ذكر الله وعن الآخرة ولم يرد إلا الدنيا ، ولا تتهالك على إسلامه ، ثم قال : { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ } أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب ، وأنت لا تعلم ، فخفض على نفسك ولا تتعبها ، فإنك لا تهدي من أحببت ، وما عليك إلا البلاغ . وقوله تعالى : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم } اعتراض أو فأعرض عنه ولا تقابله ، إنّ ربك هو أعلم بالضال والمهتدي ، وهو مجازيهما بما يستحقان من الجزاء .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

قرىء : «ليجزي» ويجزى ، بالياء والنون فيهما . ومعناه : أنّ الله عز وجل إنما خلق العالم وسوّى هذه الملكوت لهذا الغرض : وهو أن يجازي المحسن من الملكفين والمسيء منهم . ويجوز أن يتعلق بقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى } لأن نتيجة العلم بالضال والمهتدي جزاؤهما { بِمَا عَمِلُواْ } بعقاب ما عملوا من السوء . و { بالحسنى } بالمثوبة الحسنى وهي الجنة . أو بسبب ما عملوا من السوء وبسبب الأعمال الحسنى { كبائر الإثم } أي الكبائر من الإثم؛ لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر ، والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة . وقيل : التي يكبر عقابها بالإضافة إلى ثواب صاحبها { والفواحش } مافحش من الكبائر ، كأنه قال : والفواحش منها خاصة : وقرىء : «كبير الإثم» أي : النوع الكبير منه وقيل : هو الشرك بالله . واللمم : ما قل وصغر . ومنه : اللمم المس من الجنون ، واللوثة منه . وألمّ بالمكان إذا قل فيه لبثه . وألمّ بالطعام : قل منه أكله : ومنه :
لِقَاءُ أَخِلاَّءِ الصَّفَاِ لِمَامُ ... والمراد الصغائر من الذنوب ، ولا يخلو قوله تعالى : { إِلاَّ اللمم } من أن يكون استثناء منقطعاً أو صفة ، كقوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله } [ الأنبياء : 22 ] كأنه قيل : كبائر الإثم غير اللمم ، وآلهة غير الله : وعن أبي سعيد الخدري : اللمم هي النظرة ، والغمزة ، والقبلة ، وعند السدّي : الخطرة من الذنب ، وعن الكلبي : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدّاً ولا عذاباً ، وعن عطاء : عادة النفس الحين بعد الحين { إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة } حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ، والكبائر بالتوبة { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير وعمل الطاعات : أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله الزكي منكم والتقي أوّلاً وآخراً قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم . وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، فنزلت : وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء : فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح : لم يكن من المزكين أنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر .

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)

{ وأكدى } قطع عطيته وأمسك ، وأصله : من إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كدية : وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر ، ونحوه : أجبل الحافر ، ثم استعير فقيل : أجبل الشاعر إذا أفحم . روى :
( 1104 ) أن عثمان رضي الله عنه كان يعطي ما له في الخير ، فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة : يوشك أن لا يبقي لك شيء ، فقال عثمان : إن لي ذنوباً وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه ، فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء . فنزلت . ومعنى { تولى } ترك المركز يوم أحد ، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل { فَهُوَ يرى } فهو يعلم أن ما قاله له أخوه من احتمال أو زاره حق { وفى } قرىء مخففاً ومشدّداً ، والتشديد مبالغة في الوفاء . أو بمعنى : وفر وأتم ، كقوله تعالى : { فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية ، من ذلك : تبليغه الرسالة ، واستقلاله بأعباء النبوّة ، والصبر على ذبح ولده وعلى نار نمروذ ، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه ، وأنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخاً يرتاد ضيفاً ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم . وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به . وعن الهزيل بن شرحبيل : كان بين نوح وبين إبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة غيره ، ويقتل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده؛ فأوّل من خالفهم إبراهيم . وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً ، فلما قذف في النار قال له جبريل وميكائيل : ألك حاجة؟ فقال . أمّا إليكما فلا . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1105 ) " وفّى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار ، وهي صلاة الضحى " وروى :
( 1106 ) ألا أخبركم لم سمى الله خليله { الذى وفى } ؟ كان يقول إذا أصبح وأمسى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ . . . } إلى { . . . حِين تُظْهِرُونَ } [ الروم : 17 ] وقيل : وفي سهام الإسلام : وهي ثلاثون : عشرة في التوبة ( التائبون . . ) وعشرة في الأحزاب : { إِنَّ المسلمين . . . } وعشرة في المؤمنين { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون . . } وقرىء : «في صحف» ، بالتخفيف { أَلاَّ تَزِرُ } أن مخففة من الثقيلة . والمعنى : أنه لا تزر ، والضمير ضمير الشأن ، ومحل أن وما بعدها : الجر بدلاً من ما في صحف موسى . أو الرفع على : هو أن لا تزر ، كأن قائلاً قال : وما في صحف موسى وإبراهيم ، فقيل : أن لا تزر { إِلاَّ مَا سعى } إلا سعيه . فإن قلت : أما صح في الأخبار : الصدقة عن الميت ، والحج عنه ، وله الإضعاف؟ قلت : فيه جوابان ، أحدهما : أن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً صالحاً وكذلك الإضعاف كأن سعى غيره كأنه سعى نفسه ، لكونه تابعاً له وقائماً بقيامه .

والثاني؛ أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه ، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه { ثُمَّ يُجْزَاهُ } ثم يجزى العبد سعيه ، يقال : أجزاه الله عمله وجزاه على عمله ، بحذف الجار وإيصال الفعل . ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله : { الجزاء الأوفى } أو أبدله عنه ، كقوله تعالى : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] ، { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى ( 42 ) } قرىء بالفتح على معنى : أن هذا كله في الصحف ، وبالكسر على الابتداء ، وكذلك ما بعده . والمنتهى : مصدر بمعنى الانتهاء ، أي : ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه ، كقوله تعالى : { إِلَى الله المصير } [ فاطر : 18 ] . { أَضْحَكَ وأبكى } خلق قوتي الضحك والبكاء { إِذَا تمنى } إذا تدفق في الرحم ، يقال : منى وأمنى . وعن الأخفش : تخلق من منى الماني ، أي قدر المقدّر : قرىء : «النشأة»« النشاءة» بالمد . وقال : ( عليه ) لأنهاواجبة عليه في الحكمة ، ليجازى على الإحسان والإساءة { وأقنى } وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك { الشعرى } مرزم الجوزاء : وهي التي تطلع وراءها ، وتسمى كلب الجبار ، وهما شعريان الغميصاء والعبور وأراد العبور . وكانت خزاعة تعبدها ، سنّ لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو كبشة ، تشبيهاً له به لمخالفته إياهم في دينهم ، يريد : أنه رب معبودهم هذا . عاد الأولى : قوم هود ، وعاد الأخرى : إرم . وقيل : الأولى القدماء؛ لأنهم أوّل الأمم هلاكاً بعد قوم نوح ، أو المتقدمون في الدنيا الأشراف . وقرىء : «عاد لولي» وعاد لولى ، بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى ونقل ضمتها إلى لام التعريف ( وثمودا ) وقرىء : وثمود { أَظْلَمَ وأطغى } لأنهم كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكون به حراك ، وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه ، وما أثر فيهم دعاؤه قريباً من ألف سنة { والمؤتفكة } والقرى التي ائتفكت بأهلها ، أي : انقلبت ، وهم قوم لوط ، يقال : أفكه فائتفك : وقرىء : «والمؤتفكات» { أهوى } رفعها إلى السماء على جناج جبريل ، ثم أهواها إلى الأرض أي : أسقطها { مَا غشى } تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود .

فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)

{ فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكَ تتمارى ( 55 ) } تتشكك ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو للإنسان على الإطلاق ، وقد عدد نعماً ونقماً وسماها كلها آلاء من قبل ما في نقمه من المزاجر والمواعظ للمعتبرين { هذا } القرآن { نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى } أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم . أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأولين ، وقال : الأولى على تأويل الجماعة { أَزِفَتِ الأزفة ( 57 ) } قربت الموصوفة بالقرب من قوله تعالى : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] ، { لَيْسَ لَهَا } نفس { كَاشِفَةٌ } أي مبينة متى تقوم ، كقوله تعالى : { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] أو ليس لها نفس كاشفة ، أي : قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله ، غير أنه لا يكشفها . أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير ، وقيل الكاشفة مصدر بمعنى الكشف : كالعافية . وقرأ طلحة «ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة وهي على الظالمين ساءت الغاشية» .

أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

{ أَفَمِنْ هذا الحديث } وهو القرآن { تَعْجَبُونَ } إنكاراً { وَتَضْحَكُونَ } استهزاء { وَلاَ تَبْكُونَ } والبكاء والخشوع حق عليكم . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1107 ) " أنه لم ير ضاحكاً بعد نزولها " وقرىء : «تعجبون تضحكون» ، بغير واو { وَأَنتُمْ سامدون } شامخون مبرطمون . وقيل : لاهون لاعبون . وقال بعضهم لجاريته : اسمدي لنا ، أي غني لنا { فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا } ولا تعبدوا الآلهة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1108 ) " من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة " .

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)

انشقاق القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته النيرة . عن أنس بن مالك رضي الله عنه :
( 1109 ) أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر مرتين . وكذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما ، قال ابن عباس :
( 1110 ) انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت وقال ابن مسعود :
( 1111 ) رأيت حراء بين فلقتي القمر . وعن بعض الناس : أن معناه ينشق يوم القيامة . وقوله : { وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } يردّه ، وكفى به رادّاً ، وفي قراءة حذيفة «وقد انشق القمر» أي : اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه . وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال :
( 1112 ) ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم . مستمر : دائم مطرد ، وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله ، قيل فيه : قد استمرّ . لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات : قالوا : هذا سحر مستمرّ . وقيل : مستمرّ قوي محكم ، من قولهم : استمر مريره . وقيل : هو من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته ، أي : مستبشع عندنا ، مرّ على لهواتنا ، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ المر الممقر . وقيل : مستمر مارّ ، ذاهب يزول ولا يبقى ، تمنية لأنفسهم وتعليلاً . وقرىء : «وإن يروا» { واتبعوا أَهْوَاءهُمْ } وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } أي كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقرّ عليها ، وإن أمر محمد سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق ، أو باطل وسيظهر لهم عاقبته . أو وكل أمر من أمرهم وأمره مستقر ، أي : سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا ، وشقاوة أو سعادة في الآخرة . وقرىء : بفتح القاف ، يعني «كل أمر ذو مستقرّ» أي : ذو استقرار . أو ذو موضع استقرار أو زمان استقرار . وعن أبي جعفر؛« مستقر» ، بكسر القاف والجرّ عطفاً على الساعة ، أي : اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله .

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

{ مّنَ الأنباء } من القرآن المودع أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة ، وما وصف من عذاب الكفار { مُزْدَجَرٌ } ازدجار أو موضع ازدجار . والمعنى : هو في نفسه موضع الازدجار ومظنة له ، كقوله تعالى : { لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] أي هو أسوة . وقرىء : «مزجر» بقلب تاء الإفتعال زايا وإدغام الزاي فيها { حِكْمَةٌ بالغة } بدل من ما . أو على : هو حكمة . وقرىء بالنصب حالاً من ما . فإن قلت : إن كانت ما موصولة ساغ لك أن تنصب حكمة حالا ، فكيف تعمل إن كانت ما موصولة ساغ لك أن تنصب كلمة حالاً ، فكيف تعمل إن كانت موصوفة؟ وهو الظاهر . قلت : تخصصها الصفة؛ فيحسن نصب الحال عنها { فَمَا تُغْنِى النذر } نفي أو إنكار . وما منصوبة ، أي فأي غناء تغني النذر { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } لعلمك أن الإنذار لا يغني فيهم . نصب { يَوْمَ يَدْعُو الداعى } بيخرجون ، أو بإضمار اذكر . وقرىء : بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة عنها ، والداعي إسرافيل أو جبريل ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يُنَادِ المناد } [ ق : 41 ] { إلى شَىْء نُّكُرٍ } منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة . وقرىء : «نكر» بالتخفيف؛ ونكر بمعنى أنكر { خُشَّعاً أبصارهم } حال من الخارجين فعل للأبصار وذكر ، كماتقول : يخشع أبصارهم . وقرى : «خاشعة» على : تخشع أبصارهم . وخشعاً ، على : يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء . ويجوز أن يكون في { خُشَّعاً } ضميرهم ، وتقع { أبصارهم } بدلاً عنه . وقرىء «خشع أبصارهم» ، على الابتداء والخبر ، ومحل الجملة النصب على الحال . كقوله :
وَجَدْتُهُ حاضِرَاهُ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ... وخشوع الأبصار : كناية عن الذلة والانخزال ، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما . وقرىء : «يخرجون من الأجداث» من القبور { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } الجراد مثل في الكثرة والتموّج . يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض : جاؤا كالجراد ، وكالدبا منتشر في كل مكان لكثرته { مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع } مسرعين مادّي أعناقهم إليه . وقيل : ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم . قال :
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدِ وَقَدْ أَرَى ... وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

{ قَبْلَهُمْ } قبل أهل مكة { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } يعني نوحاً . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : { فَكَذَّبُواْ } بعد قوله : { كَذَّبَتْ } ؟ قلت : معناه : كذبوا فكذبوا عبدنا أي : كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب . أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا ، أي : لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوّة رأساً ، كذبوا نوحًا؛ لأنه من جملة الرسل { مَّجْنُونٍ } هو مجنون { وازدجر } وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم { لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } [ الشعراء : 116 ] وقيل : هو من جملة قيلهم ، أي : قالوا هو مجنون ، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه . قرىء : «أني» بمعنى : فدعا بأني مغلوب ، وإني : على إرادة القول ، فدعا فقال : إني مغلوب غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي { فانتصر } فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم ، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمروبلغ السيل الزُّبا ، فقد روى : أنّ الواحد من أمّته كان يلقاه فيخنقه حتى يخرّ مغشياً عليه . فيفيق وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . وقرىء : «ففتحنا» مخففاً ومشدّداً ، وكذلك وفجرنا { مُّنْهَمِرٍ } منصبّ في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً { وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً } وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من قولك : وفجرنا عيون الأرض ونظيره في النظم { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] . { فَالْتَقَى الماء } يعني مياه السماء والأرض . وقرىء : «الماآن» ، أي : النوعان من الماء السماوي والأرضي . ونحوه قولك : عندي تمران ، تريد : ضربان من التمر : برني ومعقلي . قال :
لَنَا إبْلاَنِ فِيهِمَا مَا علمْتُمُ ... وقرأ الحسن «الماوان» ، بقلب الهمزة واواً ، كقولهم : علباوان { على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } على حال قدرها الله كيف شاء . وقيل : على حال جاءت مقدّرة مستوية : وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء . وقيل : على أمر قد قدر في اللوح أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان { على ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ } أراد السفينة ، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتودي مؤداها . بحيث لا يفصل بينها وبينها . ونحوه :
. . . . . . . . . وَلَكِنْ ... قمِيصِي مَسْرُودَةٌ مِنْ حَدِيدِ
أراد : ولكن قميصي درع ، وكذلك :
وَلَوْ فِي عُيُونِ النَّازِيَاتِ بِأَكْرُعِ ... أراد : ولو في عيون الجراد . ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة ، أو بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين : لم يصح ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه . والدسر : جمع دسار : وهو المسمار ، فعال من دسره إذا دفعه؛ لأنه يدسر به منفذه { جَزآءً } مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده ، أي فعلنا ذلك جزاء ، { لّمَن كَانَ كُفِرَ } وهو نوح عليه السلام ، وجعله مكفوراً لأنّ النبي نعمة من الله ورحمة .

قال الله تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة ، ومن هذا المعنى ما يحكى أنّ رجلاً قال للرشيد : الحمد لله عليك ، فقال : ما معنى هذا الكلام؟ قال : أنت نعمة حمدت الله عليها . ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل . وقرأ قتادة «كفر» أي جزاء للكافرين . وقرأ الحسن «جزاء» ، بالكسر : أي مجازاة . الضمير في { تركناها } للسفينة . أو للفعلة ، أي : جعلناها آية يعتبر بها . وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة . وقيل : على الجودى دهراً طويلاً ، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة . والمدّكر : المعتبر . وقرىء : «مذتكر» على الأصل . ومذكر ، بقلب التاء ذالاً وإدغام الذال فيها . وهذا نحو : مذجر . والنذر : جمع نذير وهو الإنذار { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ } أي سهلناه للادكار والاتعاظ ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد { فَهَلْ مِن } متعظ . وقيل : ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه . ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر ، من يسر ناقته للسفر : إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو ، إذا أسرجه فألجمه . قال :
وَقمت إِلَيْهِ بِاللِّجَامِ مُيَسِّراً ... هُنَالِكَ يَجْزِيني الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
ويروى : أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظراً ولا يحفظونها ظاهراً كما القرآن .

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)

{ وَنُذُرِ } وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله . أو إنذار أتى في تعذيبهم لمن بعدهم { فِى يَوْمِ نَحْسٍ } في يوم شؤم . وقرىء : «في يوم نحس» كقوله : { فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] . { مُّسْتَمِرٌّ } قد استمر عليهم ودام حتى أهلكهم . أو استمر عليهم جميعاً كبيرهم وصغيرهم ، حتى لم يبق منهم نسمة ، وكان في أربعاء في آخر الشهر لا تدور . ويجوز أن يريد بالمستمر : الشديد المرارة والبشاعة { تَنزِعُ الناس } تقلعهم عن أماكنهم ، وكانوا يصطفون آخذين أيديهم بأيدي بعض . ويتدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } يعني أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتاً وهم جثث طوال عظام ، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولهابلا فروع ، منقعر : منقلع : عن مغارسه . وقيل : شبهوا بأعجاز النخل ، لأنّ الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجساداً بلا رؤوس . وذكر صفة { نَخْلٍ } على اللفظ ، ولو حملها على المعنى لأنث ، كما قال : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] .

سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

{ أَبَشَراً مّنَّا واحدا } نصب بفعل مضمر يفسره { نَّتَّبِعُهُ } وقرىء : «أبشر منا واحد» على الابتداء . ونتبعه خبره ، والأوّل أوجه للاستفهام . كان يقول : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق ، وسعر : ونيران ، جمع سعير ، فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذن كما تقول . وقيل : الضلال : الخطأ والبعد عن الصواب . والسعر : الجنون . يقال : ناقة مسعورة . قال :
كَأَنَّ بِهَا سُعْرًا إذَا الْعِيسُ هَزَّهَا ... ذَمِيلٌ وَإِرْخَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ
فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشراً منهم واحداً؟ قلت : قالوا أبشراً : إنكاراً لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم الملائكة ، وقالوا : { مِّنَّا } لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى ، وقالوا : { واحدا } إنكاراً لأن تتبع الأمّة رجلاً واحداً . أو أرادوا واحداً من أفنائهم ليس بأشرفهم وأفضلهم ، ويدل عليه قولهم : { أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } أي أنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوّة { أَشِرٌ } بطر متكبر ، حمله بطره وشطارته وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك { سَيَعْلَمُونَ غَداً } عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة { مَّنِ الكذاب الاشر } أصالح أم من كذبه . وقرىء : «ستعلمون» بالتاء على حكاية ما قال لهم صالح مجيباً لهم . أو هو كلام الله تعالى على سبيل الالتفات . وقرىء : «الأشر» بضم الشين ، كقولهم حدث وحدث . وحذر وحذر ، وأخوات لها . وقرىء : «الأشر» وهو الأبلغ في الشرارة . والأخير والأشر : أصل قولهم : هو خير منه وشر منه ، وهو أصل مرفوض ، وقد حكى ابن الأنباري قول العرب : هو أخير وأشر ، وما أخيره وما أشره { مُرْسِلُواْ الناقة } باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا { فِتْنَةً لَّهُمْ } امتحاناً لهم وابتلاء { فارتقبهم } فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون { واصطبر } على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري { قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } مقسوم بينهم : لها شرب يوم ولهم شرب يوم . وإنما قال : بينهم ، تغليباً للعقلاء «محتضر» محضور لهم أو للناقة . وقيل : يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها { صاحبهم } قدار بن سالف أحيمر ثمود { فتعاطى } فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له ، فأحدث العقر بالناقة . وقيل فتعاطى الناقة فعقرها ، أو فتعاطى السيف { صَيْحَةً واحدة } صيحة جبريل . والهشيم؛ الشجر اليابس المتهشم المتكسر «والمحتظر» الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم . وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار ، أي «الحظيرة» .

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

{ حاصبا } ريحا تحصبهم بالحجارة ، أي : ترميهم { بِسَحَرٍ } بقطع من الليل ، وهو السدس الأخير منه . وقيل : هما سحران ، فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر ، والآخر عند انصداعه ، وأنشد :
مَرَّتْ بِأَعْلَى السَّحَرَيْنِ تَذْأَلُ ... وصرف لأنه نكرة . ويقال : لقيته سحر أذا لقيته في سحر يومه { نِّعْمَةًَ } إنعاماً ، مفعول له { مَن شَكَرَ } نعمة الله بإيمانه وطاعته { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ } لوط عليه السلام { بَطْشَتَنَا } أخذتنا بالعذاب { فَتَمَارَوْاْ } فكذبوا { بالنذر } متشاكين { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } فمسحناها وجعلناها كسائر الوجه لا يرى لها شق . روى أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا قالت الملائكة خلهم يدخلوا ، { إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } [ هود : 81 ] فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقة فتركهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط { فَذُوقُواْ } فقلت لهم : ذوقوا على ألسنة الملائكة { بُكْرَةً } أوّل النهار وباكره ، كقوله : ( مشرقين ) ، و ( مصبحين ) . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما : «بكرة» ، غير منصرفة ، وتقول : أتيته بكرة وغدوة بالتنوين . إذا أردت التنكير ، وبغيره إذا عرّفت وقصدت بكرة نهارك وغدوته { عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } ثابت قد استقرّ عليهم إلى أن يفضى بهم إلى عذاب الآخرة . فإن قلت : ما فائدة تكرير قوله { فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؟ قلت : فائدته أن يجدّدوا عند استماع كل نبإ من أنباء الأوّلين ادكاراً واتعاظاً ، وأن يستأفنوا تنبهاً واستيقاظاً ، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه ، وأن يقرع لهم العصا مرات ، يقعقع لهم الشن تارات؛ لئلا يغلبهم السهو ولا تستولى عليهم الغفلة ، وهكذا حكم التكرير ، كقوله : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] عند كل نعمة عدّها في سورة الرحمن ، وقوله : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب . مصورة للأذهان ، مذكورة غير منسية في كل أوان .

وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)

{ النذر } موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون . أو جمع نذير وهو الإنذار { بأاياتنا كُلِّهَا } بالآيات التسع { أَخْذَ عِزِيزٍ } لا يغالب { مُّقْتَدِرٍ } لا يعجزه شيء .

أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

{ أكفاركم } يا أهل مكة { خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ } الكفار المعدودين : قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، أي أهم خير قوّة وآلة ومكانة في الدنيا . أو أقل كفراً وعناداً يعني : أنّ كفاركم مثل أولئك بل شر منهم { أَمْ } أنزلت عليكم يا أهل مكة { بَرَاءةٌ } في الكتب المتقدّمة . أنّ من كفر منكم وكذب الرسل كان آمناً من عذاب الله ، فأمنتم بتلك البراءة { نَحْنُ جَمِيعٌ } جماعة أمرنا مجتمع { مُّنتَصِرٌ } ممتنع لا نرام ولا نضام . وعن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر ، فتقدَّم في الصف وقال : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ، فنزلت { سَيُهْزَمُ الجمع } عن عكرمة :
( 1113 ) لما نزلت هذه الآية قال عمر : أي جمع يهزم ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول : «سيهزم الجمع» عرف تأولها { وَيُوَلُّونَ الدبر } أي الأدبار كما قال :
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... وقرىء : «الأدبار» { أدهى } أشدّ وأفظع . والداهية : الأمر المنكر الذي لا يهتدي لدوائه { وَأَمَرُّ } من الهزيمة والقتل والأسر . وقرىء : «سنهزم الجمع» .

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)

{ فِى ضلال وَسُعُرٍ } في هلاك ونيران . أو في ضلال عن الحق في الدنيا ، ونيران في الآخرة { مَسَّ سَقَرَ } كقولك : وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب؛ لأنّ النار إذا أصابتهم بحرهاولفحتهم بإيلامها ، فكأنها تمسهم مساً بذلك ، كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذى ويؤلم . وذوقوا : على إرادة القول . وسقر : علم لجهنم . من سقرته النار وصقرته إذا لوحته . قال ذو الرمّة :
إذَا ذَابَتِ الشَّمْسُ اتقى صَقَرَاتِهَا ... بِأَفْنَانِ مَرْبُوعِ الصَّرِيمَةِ مُعْبِلِ
وعدم صرفها للتعريف والتأنيث { كُلَّ شَىْءٍ } منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر وقرىء : «كل شيء» بالرفع «والقدر والقدر» التقدير . وقرىء بهما ، أي : خلقنا كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة . أو مقدّراً مكتوباً في اللوح . معلوماً قبل كونه ، قد علمنا حاله وزمانه { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة } إلا كلمة واحدة سريعة التكوين { كَلَمْحٍ بالبصر } أراد قوله كن ، يعني أنه إذا أراد تكوين شيء لم يلبث كونه .

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)

{ أشياعكم } أشباهكم في الكفر من الأمم { فِى الزبر } في دواوين الحفظة { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } من الأعمال ومن كل ما هو كائن { مُّسْتَطَرٌ } مسطور في اللوح .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

«ونهر» وأنهار ، اكتفى باسم الجنس . وقيل : هو السعة والضياء من النهار . وقرىء : بسكون الهاء . «ونهَر» جمع نهر ، كأسد وأسد { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } في مكان مرضيّ . وقرىء : «في مقاعد صدق» { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } مقرّبين عند مليك مبهم أمره في الملك والاقتدار ، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته ، فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1114 ) " من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر " .

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

عدّد الله عز وعلا آلاءه ، فأراد أن يقدّم أوّل شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه ، وهي نعمة الدين ، فقدّم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها : وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، لأنه أعظم وحي الله رتبة ، وأعلاه منزلة ، وأحسنه في أبواب الدين أثراً ، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها ، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه : ليعلم أنه إنما خلقه للدين ، وليحيط علماً بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله ، وكأن الغرض في إنشائه كان مقدّماً عليه وسابقاً له ، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان ، وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير ، { الرحمن } مبتدأ ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من إحسانه؟ { بِحُسْبَانٍ } بحساب معلوم وتقدير سويّ { يجريان } في بروجهما ومنازلهما . وفي ذلك منافع للناس عظيمة : منها علم السنين والحساب { والنجم } والنبات الذي لا ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول { والشجر } الذي له ساق . وسجودهما : انقيادههما لله فيما خلقا له ، وأنهما لا يمتنعان ، تشبيهاً بالساجد من المكلفين في انقياده . فإن قلت : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن؟ قلت : استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي ، لما علم أن الحسبان حسبانه ، والسجود له لا لغيره ، كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه ، والنجم والشجر يسجدان له ، فإن قلت : كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول ، ثم جيء به بعد؟ قلت : بَكَّت بتلك الجمل الأول واردة على سنن التمديد ، ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تقريع الذين أنكروا الرحمن وآلاءه ، كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدّمته ، ثم ردّ الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف . فإن قلت : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ قلت : إنّ الشمس والقمر سماويان ، والنجم والشجر أرضيان ، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل ، وأنّ السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين ، وأن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله ، فهو مناسب لسجود النجم والشجر وقيل : { عَلَّمَ القرءان ( 2 ) } جعله علامة وآية . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الإنسان آدم . وعنه أيضاً : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن مجاهد النجم : نجوم السماء { والسمآء رَفَعَهَا } خلقها مرفوعة مسموكة ، حيث جعلها منشأ أحكامه ، ومصدر قضاياه ، ومتنزل أوامره ونواهيه ، ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه؛ ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه { وَوَضَعَ الميزان } وفي قراءة عبد الله «وخفض الميزان» .

وأراد به كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس ، أي خلقه موضوعاً مخفوضاً على الأرض : حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم { أَلاَّ تَطْغَوْاْ } لئلا تطغوا . أو هي أن المفسرة . وقرأ عبد الله «لا تطغوا» بغير أن ، على إرادة القول { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط } وقوّموا وزنكم بالعدل { وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } ولا تنقصوه : أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان . وكرّر لفظ الميزان : تشديداً للتوصية به ، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه . وقرىء : «والسماء» بالرفع . «ولا تخسروا» بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها . يقال : خسر الميزان يخسره ويخسره ، وأمّا الفتح فعلى أن الأصل : ولا تخسروا في الميزان ، فحذف الجار وأوصل الفعل . { وَضَعَهَا } خفضها مدحوّة على الماء { لِلأَنَامِ } للخلق ، وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة . وعن الحسن : الإنس والجنّ ، فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها { فاكهة } ضروب مما يتفكه به ، و { الأكمام } كل ما يكم أي يغطى من ليفة وسعفة وكفّراة وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه . وقيل الأكمام أوعية التمر-الواحد كِم بكسر الكاف و { العصف } ورق الزرع وقيل التبن { والريحان } الرزق وهو اللب : أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التلذذ والتغذي وهو ثمر النخل ، وما يتغذى به وهو الحب . وقرىء : «والريحان» ، بالكسر . ومعناه : والحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام ، والريحان الذي هو مطعم الناس . وبالضم على ، وذو الريحان ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : معناه وفيها الريحان الذي يشم ، وفي مصاحف أهل الشأم : ( والحب ذو العصف والريحان ) أي : وخلق الحب والريحان ، أو وأخص الحب والريحان . ويجوز أن يراد : وذا الريحان ، فيحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه ، والخطاب في { رَبِّكُمَا تُكَذّبَانِ } للثقلين بدلالة الأنام عليهما . وقوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } [ الرحمن : 31 ] .

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)

الصلصال : الطين اليابس له صلصلة . والفخار : الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف . فإن قلت : قد اختلف التنزيل في هذا ، وذلك قوله عزّ وجلّ : { مّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 - 28 - 33 ] ، { مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] { مّن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] . قلت : هو متفق في المعنى ، ومفيد أنه خلقه من تراب : جعله طيناً ، ثم حمأ مسنون ، ثم صلصالا . و { الجآن } أبو الجن . وقيل : هو إبليس . والمارج : اللهب الصافي الذي لا دخان فيه . وقيل : المختلط بسواد النار ، من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط . فإن قلت : فما معنى قوله : { مِّن نَّارٍ } ؟ قلت : هو بيان لمارج ، كأنه قيل : من صاف من نار . أو مختلط من نار أو أراد من نار مخصوصة ، كقوله تعالى : { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] .

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)

قرىء : «رب المشرقين ورب المغربين» بالجر بدلاً من ( ربكما ) وأراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما .

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)

{ مَرَجَ البحرين } أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين ، لا فصل بين الماءين في مرأى العين { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } حاجز من قدرة الله تعالى { لاَّ يَبْغِيَانِ } لا يتجاوزان حدّيهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة . قرىء : «يُخرَج» ويَخْرُج من أُخرج . وخرج . ويُخرِج : أي الله عز وجل اللؤلؤَ والمرجانَ بالنصب . ونخرج بالنون . واللؤلؤ : الدرّ . والمرجان : هذا الخرز الأحمر وهو البسذ . وقيل : اللؤلؤ كبار الدرّ . والمرجان : صغاره . فإن قلت : لم قال : ( منهما ) وإنما يخرجان من الملح؟ قلت : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد : جاز أن يقال : يخرجان منهما ، كما يقال يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه . وتقول : خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله ، بل من دار واحدة من دوره . وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب .

وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

{ الجوار } السفن . وقرىء : «الجوار» بحذف الياء ورفع الراء ، ونحوه :
لَهَا ثَنَايَا أَرْبَعٌ حِسَانٌ ... وَأَرْبَعٌ فَكُلُّهَا ثَمَانُ
و { المنشئات } المرفوعات الشُّرّع . وقرىء : بكسر الشين : وهي الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهنّ . والأعلام : جمع علم ، وهو الجبل الطويل .

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)

{ عَلَيْهَا } على الأرض { وَجْهُ رَبّكَ } ذاته ، والوجه يعبر به عن الجملة والذات ، ومساكين مكة يقولون : أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان ، و { ذُو الجلال والإكرام } صفة الوجه . وقرأ عبد الله : «ذي» على : صفة ربك . ومعناه : الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم . أو الذي يقال له : ما أجلك وأكرمك . أو من عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده ، وهذه الصفة من عظيم صفات الله؛ ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1115 ) " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1116 ) أنه مر برجل وهو يصلي ويقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : " قد استجيب لك " فإن قلت : ما النعمة في ذلك؟ قلت : أعظم النعمة وهي مجيء وقت الجزاء عقيب ذلك .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20