كتاب : إبراز المعاني من حرز الأماني في القراءات السبع
المؤلف:الإمام الشاطبي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(1)
بَدَأْتُ بِبِسْمِ اْللهُ فيِ النَّظْمِ أوَّلاَ تَبَارَكَ رَحْمَاناً رَحِيماً وَمَوْئِلاَ

أي قدمت لفظ بسم الله الرحمن الرحيم في أول نظمي هذا يقال بدأت بكذا إذا قدمته فالباء الأولى لتعدية الفعل والثانية هي التي في أول البسملة أي بدأت بهذا اللفظ. والنظم الجمع ثم غلب على جمع الكلمات التي انتظمت شعرا فهو بمعنى منظوم أو مصدر بحاله واللام في النظم للعهد المعلوم من جهة القرينة وهي قائمة مقام الإضافة كقوله تعالى (في أدنى الأرض) ، أي أدنى أرض العرب أي في نظمي نزله منزلة المعروف المشهور تفاؤلا له بذلك أو أراد في هذا النظم نزله منزلة الموجود الحاضر فأشار إليه كقوله تعالى (هذا من شيعته وهذا من عدوه) ، أو يكون المصدر في موضع الحال أي منظوما وأولا نعت مصدر محذوف أي في أن نظمت نظما أول أي أنه مبتكر لم يسبق إليه وهو نظم قصيدة على روي واحد في مذاهب القراء السبعة موجزة بسبب ما اشتملت عليه من الرموز وقد تشبه به قوم في زماننا ، فمنهم من سلك مسلكه مختصرا لها ومنهم من غير الرموز بغيرها ومنهم من نظم في مذاهب القراء العشرة ، زاد رواية أبي جعفر المدني ويعقوب الحضرمي وخلف البزار فيما اختار والفضل للمتقدم الذي هو أتقى وأعلم فالألف في قوله أولا على هذا الوجه للإطلاق لأنه غير منصرف ، ويجوز أن تكون الألف بدلا من التنوين على أن يكون أولا ظرف زمان عامله بدأت أو النظم أي بدأت في أول نظمي بسم الله أو بدأت بسم الله في نظمي الواقع أولا فهو كقول الشاعر ، (فساغ لي الشراب وكنت قبلا ) ، والبركة كثرة الخير وزيادته واتساعه وشيء مبارك أي زائد نام وما لا يتحقق فيه ذلك يقدر في لازمه وما يتعلق به كقوله تعالى (وهذا ذكر مبارك أنزلناه)-(إنا أنزلناه في ليلة مباركة) ، أي كثير خير ذلك وما يتعلق به من الأجر وتبارك تفاعل منه كتعاظم من العظمة وتعالى من العلو ، وقيل إنه فعل لم يتصرف أصلا لا يقال يتبارك وغيره ، ثم كمل لفظ البسملة بقوله رحمانا رحيما وزاد قوله وموئلا وهذا المعنى زاد دخول الواو فيها حسنا والموئل ،

المرجع والملجأ وهو وإن لم يكن لفظه ثابت الإطلاق على الله تعالى من حيث النقل فمعناه ثابت نحو (إليه مرجعكم)-(وإلى الله المصير) وانتصاب الثلاثة على التمييز أو الحال أي تبارك من رحمن رحيم أو في حال كونه كذلك أو يكن منصوبات على المدح وتم الكلام على تبارك وهذا نحو قولهم الحمد لله الحميد ويتعلق بهذا البيت أبحاث كثيرة ذكرناها في الكبير واستوفينا ما يتعلق بشرح البسملة في كتاب مفرد وغيره والله أعلم
(2)
وَثَنَّيْتُ صَلَّى اللهُ رَبِّي عَلَى الِرَّضَا مُحَمَّدٍ الْمُهْدى إلَى النَّاسِ مُرْسَلاَ
أي ثنيت بصلى الله أي بهذا اللفظ كما قال بدأت ببسم الله أو على إضمار القول أي بقولي صلى الله أو ثنيت بالصلاة فقلت صلى الله فموضع صلى الله نصب على إسقاط الخافض في الوجه الأول وعلى أنه مفعول مطلق أو مفعول به إن قلنا إنه على إضمار القول وصلى الله لفظه خبر معناه دعاء والرضى بمعنى ذي الرضى أي الراضي من قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ، أو المرضى أي الذي ارتضاه الله تعالى أو الذي يرضيه يوم القيامة أي يعطيه ما يرضيه من الشفاعة وغيرها فيرضى ، وقرئ قوله تعالى في آخر طه (لعلك ترضى) ، بفتح التاء وضمها جمعا بين المعنيين وقوله محمد بدل أو عطف بيان والمهدي اسم مفعول من أهديت الشيء فهو مهدي لأن الله تعالى أهداه إلى خلقه تحفة لهم فأنقذ به من أسعده من النار وأدخله الجنة مع الأبرار ، وعن الأعمش عن أبي صالح قال كان النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديهم (يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة) ، أخرجه أبو محمد الدارمي في مسنده هكذا منقطعا وروي موصولا بذكر أبي هريرة فيه وفي معناه قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ، ومرسلا حال من الضمير في المهدي ، ويجوز أن يكون تمييزا كما سبق في تبارك رحمانا أي المهدي إرساله والله أعلم
(3)

وَعِتْرَتِهِ ثُمَ الصَّحَابَةِ ثُمّ مَنْ تَلاَهُمْ عَلَى اْلأِحْسَانِ بِالخَيْرِ وُبَّلاَ
سئل مالك بن أنس رحمه الله عن عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هم أهله الأدنون وعشيرته الأقربون ، وقال الجوهري عترة الإنسان نسله ورهطه الأدنون ، قلت وهو معنى قول الليث عترة الرجل أولياؤه يعني الذين ينصرونه ويهتمون لأمره ويعنون بشأنه وليس مراد الناظم بالعترة جمع من يقع عليه هذا الاسم من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما مراده المؤمنون منهم وهم الذين جاء فيهم الحديث (وإني تارك فيكم ثقلين كتاب الله وعترتي) وفي رواية موضع عترتي (وأهل بيتي) ، وكأن ذلك تفسير للعترة وأهل بيته هم آله من أزواجه وأقاربه ، وقد صح ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن كيفية الصلاة عليه فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وفي رواية على محمد وعلى أزواجه وذريته ، فكأنه فسر الآل بما في الحديث الآخر فلهذا لما صلى على النبي صلى على عترته ثم على الصحابة وإن كان بعضهم داخلا في العترة ليعم الجميع ثم على التابعين لهم بإحسان ، ومعنى تلاهم تبعهم وقوله على الإحسان أي على طلب الإحسان أو على طريقة الإحسان أو على ما فيهم من الإحسان أو يكون على بمعنى الباء كما يأتي في قوله وليس على قرآنه متأكلا وفي تلا ضمير مفرد مرفوع مستتر عائد على لفظ من ووبلا جمع وابل وهو المطر الغزير وأصله الصفة ولذلك جمع على فعل كشاهد وشهد وهو منصوب على الحال من أحد الضميرين ني تلاهم إما المرفوع العائد على التابعين وإما المنصوب العائد على الصحابة أي مشبهين الوبل في كثرة خيرهم أو يكون حالا منهما معا كقوله لقيته راكبين فإن كان حالا من المرفوع المفرد فوجه جمعه حمله على معنى من وبالخير متعلق بوبلا من حيث معناه أي جائدين بالخير ، ويجوز أن يتعلق بتلا أي تبعوهم بالخير على ما فيهم من الإحسان وإن جعلنا على بمعنى الباء كان قوله بالخير على هذا التقدير

كالتأكيد له والتفسير والله أعلم
(4)
وَثَلَّثْتُ أنَّ اْلَحَمْدَ لِلهِ دائِماً وَمَا لَيْسَ مَبْدُوءًا بِهِ أجْذَمُ الْعَلاَ
وثلثت مثل ثنيت في أنه فعل يتعدى بحرف الجر فيجوز في أن بعدها الفتح والكسر فالفتح على تقدير بأن الحمد والكسر على معنى فقلت إن الحمد لله ودائما بمعنى ثابتا وهو حال من الحمد أو من اسم الله أو نعت مصدر محذوف أي حمدا مستمرا وما مبتدأ وهي موصولة وليس مبدوءا به صلتها واسم ليس ضمير مستتر يعود على ما ومبدوءا خبرها والهاء في به عائدة على الحمد أو على اسم الله تعالى على تقدير بذكره أو باسمه وبه منصوب المحل بمبدوء أو مرفوع مبدوء ضمير عائد على ما أي وكل كلام ليس ذلك الكلام مبدوءا بالحمد أجذم العلا أي مقطوع الأعلى أي ناقص الفضل فأجذم خبر المبتدأ الذي هو ما والجزم أصله القطع والعلاء بفتح العين يلزمه المد وهو الرفعة والشرف وأتى به في قافية البيت على لفظ المقصور وليس هو من باب قصر الممدود الذي لا يجوز إلا في ضرورة الشعر بل يمكن حمله على وجه آخر سائغ في كل كلام نثرا كان أو نظما وذلك أنه لما وقف أسكن الهمزة ثم إنه قلبها ألفا فاجتمع ألفان فحذف أحدهما كما يأتي في باب وقف حمزة وهشام على نحو السماء والدعاء وهكذا نقول في كل ما ورد في هذه القصيدة من هذا الباب في قوافيها كقوله فتى العلا أحاط به الولا فتنجو من البلا وإن افتحوا الجلا بعد على الولا عن جلا أماما يأتي في حشو الأبيات كقوله وحق لوى باعد ومالي سما لوى ويا خمس أجرى فلا وجه لذلك إلا أنه من باب قصر الممدود ثم يجوز في موضع العلا أن يكون مرفوعا ومنصوبا ومجرورا لأن أجذم العلا من باب حسن الوجه فهو كما في بيت النابغة ، (أجب الظهر ليس له سنام ) ، يروى الظهر بالحركات الثلاث وأشار بما في عجز هذا البيت إلى حديث خرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم ، قال

الخطابي معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام له ، قلت وروي هذا الحديث مرسلا وروي أقطع موضع أجذم وروي (لم يبدأ فيه بذكر الله) ، فتكون البسملة على هذا إذا اقتصر عليها مخرجة من عهدة العمل بهذا الحديث ولو أن الناظم رحمه الله قال وثنيت أن الحمد وثلثت صلى الله لكان أولى تقديما لذكر الله تعالى على ذكر رسوله الله صلى الله عليه وسلم ، ووجه ما ذكر أنه أراد أن يختم خطبته بالحمدلة فإن ذكر الله تعالى قد سبق بالبسملة فهو كقوله سبحانه في آخر سورة والصافات (والحمد لله رب العالمين) والله أعلم
(5)
وَبَعْدُ فَحَبْلُ اللهِ فِينَا كِتَابُهُ فَجَاهِدْ بِهِ حِبْلَ الْعِدَا مُتَحَبِّلاَ

أي وبعد هذه الخطبة أذكر بعض ما جاء في فضائل القرآن العزيز وفضل قرائه وحبل الله مبتدأ وفينا متعلق به من حيث المعنى على ما نفسر به الحبل أو يكون صلة لموصول محذوف أي الذي فينا وكتابه خبر فحبل ، ويجوز أن يكون فينا هو الخبر وكتابه خبر مبتدإ محذوف أي هو كتابه والفاء في فحبل رابطة للكلام بما قبله ومانعة من توهم إضافة بعد إلى حبل والعرب تستعير لفظ الحبل في العهد والوصلة والمودة وانقطاعه في نقيض ذلك فلذلك استعير للقرآن العزيز لأنه وصلة بين الله تعالى وبين خلقه من تمسك به وصل إلى دار كرامته ، وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره في تفسير قوله عز وجل (واعتصموا بحبل الله جميعا) ، أنه القرآن ، وفي كتاب الترمذي من حديث الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه في حديث طويل في وصف القرآن قال (هو حبل الله المتين) ، وفي كتاب أبي بكر بن أبي شيبة في ثواب القرآن عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وفيه عن ابن شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به ، وقوله فجاهد به أي بالقرآن العزيز كما قال تعالى (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) ، أي بحججه وأدلته وبراهينه والحبل بكسر الحاء الداهية ومتحبلا حال من فاعل فجاهد يقال تحبل الصيد إذا أخذه بالحبالة وهي الشبكة واستعمل التجانس في هذا البيت والذي بعده وهو مما يعد من الفصاحة في الشعر وغيره
(6)
وَأَخْلِقْ بهِ إذْ لَيْسَ يَخْلُقُ جِدَّةً جَدِيداً مُوَاليهِ عَلَى الْجِدِّ مُقْبِلاَ

أخلق به تعجب أي ما أخلقه بالمجاهدة به أي ما أحقه بذلك يقال هو خليق بكذا أي حقيق به وإذ هنا تعليل مثلها في قوله تعالى (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم) ، ويقال أخلق الثوب خلق إذا بلى وجدّة تمييز وهي ضد البلى يستعار ذلك للقرآن العزيز لما جاء في الحديث عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا إن هذا القرآن حبل الله لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، أخرجه الحافظ البيهقي في كتاب المدخل أي لا يحدث له البلى ناشئا عن كثرة ترداده وتكراره ومرور الزمان عليه وجديدا فعيل من الجد بفتح الجيم وهو العظمة والعزة والشرف وانتصابه على الحال من ضمير يخلق العائد على القرآن العزيز أو على المدح ومواليه بمعنى مصافيه وملازمه العامل بما فيه وهو مبتدأ وعلى الجد خبره فهي جملة مستأنفة أي حصل على الجد واستقر عليه والجد بكسر الجيم ضد الهزل ومقبلا حال من الضمير المقدر في الخبر الراجع على مواليه أي استقر على الجد في حال إقباله عليه واحتفاله به عملا وعلما يشير إلى ما كان الأولون عليه من الاهتمام به ، ويجوز أن يكون مواليه فاعل جديدا فيكون بمعنى جديدا له وإن كان حالا من القرآن العزيز لفظا نحو رأيت زيدا كريما غلامه وعلى هذا يكون في على الجد ثلاثة أوجه ، أحدها أن يكون حالا ومقبلا حال بعد حال ، والثاني أن يكون معمول مقبلا قدم عليه ، والثالث أن يكون معمول مواليه أي للذي والاه على الجد حصل له العز والشرف وعند هذا يجوز أن يكون الجد هاهنا من الجد في الأمر وهو الاجتهاد فيه وهو يئول إلى ضد الهزل والله أعلم
(7)
وَقَارِئُهُ الْمَرْضِيُّ قَرَّ مِثَالُهُ كاَلاتْرُجّ حَالَيْهِ مُرِيحًا وَمُوكَلاَ

نظم في هذا البيت ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب الحديث ، فقوله وقارئه مبتدأ والمرضي صفته وأراد به تفسير المؤمن المذكور في هذا الحديث لأنه ليس المراد به أصل الإيمان بل أصله ووصفه ، وفي كتاب الترمذي من حديث صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ، والجملة من قوله قر مثاله هي خبر المبتدإ وقر بمعنى استقر أي استقر مثاله مشابها للأترج ويجوز أن يكون المرضي خبر المبتدإ أي لا يعد قارئا للقرآن إلا من كان مرضي الطريقة ثم استأنف جملة فعلية فقال قر مثاله كالأترج ويجوز أن يكون قر وحده هو خبر المبتدإ وفيه ضمير عائد على القارئ أي قرت عينه أو استقر أمره بنيل درجات الأبرار ثم استأنف جملة اسمية بقوله مثاله كالأترج فقوله كالأترج خبر مثاله وعلى هذا يجوز أن يكون قر دعاء كما تقول زيد العاقل أقر الله عينه ، والأترج بتشديد الجيم والأترنج بالنون لغتان وكلاهما مستقيم في وزن البيت وإنما اختار لغة التشديد للفظ الحديث وحاليه بدل اشتمال من الأترج ومريحا وموكلا حالان من الأترج يقال أراح الطيب إذا أعطى الرائحة وآكل الزرع وغيره إذا أطعم والله أعلم
(8)
هُوَ الْمُرْتَضَى أَمًّا إِذَا كَانَ أُمَّهً وَيَمَّمَهُ ظِلُّ الرَّزَانَةِ قَنْقَلاَ

فسر بهذا البيت ما عناه بقوله المرضي فقوله هو ضمير القارئ المرضي أو ضمير القارئ مع الإعراض عن وصفه بالمرضي لأنه أغنى عنه قوله المرتضي أما إلى آخر البيت ، ويجوز أن يكون هو المرتضى خبر قوله وقارئه المرضي وما بينهما من قوله قر مثاله آخر البيت اعتراض وإما تمييز ومعناه القصد أي هو المرتضى قصده تيمنابه وانتفاعا بعلمه وكان بمعنى صار ويقال للرجل الجامع للخير أمة كأنه قام مقام جماعات لأنه اجتمع فيه ما تفرق فيهم من المصالح ومنه قوله تعالى (إن إبراهيم كان أمة) ، وقوله ويممه أي قصده والرزانة الوقار وقد رزن الرجل بالضم فهو رزين أي وقور ثابت واستعار للرزانة ظلا إشارة إلى شمول الوقار له واستراحته في ظله وأمنه من تخليط الناقص من عقله وجعل الرزانة هي التي تقصده كأنها تفتخر به وتتزين بأن تظله لكثرة خلال الخير فيه مبالغة في مدحه وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم من جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ، وعن عبد الملك بن عمير قال كان يقال إن أبقى الناس عقولا قراء القرآن وقنقلا حال من ظل الرزانة أي مشبها قنقلا وكذا يقدر في ما جاء مثله مما هو منصوب على الحال وليس بمشتق كقوله وانقاد معناه يعملا والقنقل المكيال الضخم وكان لكسرى تاج يسمى القنقل والقنقل أيضا الكثيب من الرمل يشير إلى عظم الرزانة وتوفرها إن قصد الكثيب أو المكيال وإن قصد التاج قدرت الحال بمتوجا ومن كلامهم جلس فلان وعليه السكينة والوقار فإن قلت علام عطف قوله ويممه قلت يحتمل وجهين أحدهما أن يكون عطفا على معنى المرتضى أي هو الذي ارتضى أمة ويممه الوقار فهو من باب قوله تعالى (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا) ، أي إن الذين تصدقوا وأقرضوا ويكون مضمون البيت ثناء عليه بأنه مرتضى كامل العقل ، والوجه الثاني أن يكون معطوفا على كان أمة أي إذا اتصف بهاتين الصفتين أي أن قارئ القرآن إنما يرتضى للاقتداء به ويقصد

للانتفاع به بشرطين وهما أن يكون جامعا للخير وافر العقل والله أعلم
(9)
هُوَ الْحُرُّ إِنْ كانَ الْحَرِيّ حَوَارِياً لَهُ بِتَحَرّيهِ إلَى أَنْ تَنَبَّلاَ
هو ضمير القارئ المرتضى قصده الذي هو أمة وافر العقل ، أو يكون ضمير القارئ مع الإعراض عن تلك الأوصاف لأنه يغني عنها اشتراطها بقوله إن كان الحري أي إن كان الحري بها ولهذا قال بعضهم إن إن بمعنى إذ ولو أراد الناظم ذلك لقال إذ وكان تعليلا والوزن موافق له فلا حاجة إلى ارتكاب ما لم يثبت لغة وإن ثبت فهو لغة بعيدة ضعيفة ، فإن قلنا هو ضمير القارئ بصفاته فكل بيت كأنه تأكيد لما قبله وإن قلنا هو ضمير القارئ مطلقا كان كل بيت مستقلا بالغرض من وصفه بما يستحق به الإمامة والحرية ، على أني أقول قوله بتحريه صلة الحري وليس المراد الحري بها بل الحري بالتحري وقوله حواريا له معترض بينهما والحر الخالص من الرق أي لم تسترقه دنياه ولم يستعبده هواه لأنه لما تحقق بتدبر القرآن وفهم معانيه صغرت في عينه الدنيا وأهلها كقوله تعالى (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو)-(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) ، (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان)-(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) ، إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى وما أحسن ما قاله الشاطبي رحمه الله من قصيدة له ، (لمن يترك القراء ورد فراته ورودا من الدنيا أجاج المشارب) ، (ولو سمع القراء حين اقترائهم لفي آل عمران كنوز المطالب) ، (بها ينظر الدنيا بعين احتقارها فقيه المعاني غير عاني الذوائب) ، يعني قوله تعالى (زين للناس حب الشهوات) إلى قوله (ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) ، وما أحلى قوله فقيه المعاني يعني من أعطاه الله فهما وفقها في معاني القرآن العزيز فهذا هو الذي يحتقر الدنيا عند تلاوته لهذه الآية ونظائرها لا الفقيه الذي هو أسير الذوائب المتقيد

بلباسه وخدمة أهل الدنيا ففقيه المعاني محرر عن رق الأشياء ، ويحتمل قوله هو الحر معاني أخر ذكرناها في الكبير والحري بمعنى الحقيق ، والحواري الناصر الخالص في ولائه والياء مشددة خففها ضرورة والتحري القصد مع فكر وتدبر واجتهاد أي يطلب هو الأحرى والهاء في له للقرآن العزيز وفي تحريه للقارئ أو للقرآن وحواريا خبر لكان بعد خبر أو حال من ضمير الحري العائد على القارئ ، ويجوز أن يكون بتحريه متعلقا بحواريا أي ناصرا له بالتحري أو تكون الباء للمصاحبة أي مصاحبا للتحري فيه هذا كله على أن يكون التقدير إن كان الحري بالأوصاف السابقة والأولى ألا يتعلق قوله بتحريه بالحري كما سبق وقوله إلى أن تنبلا متعلق بالتحري أو بحواريا ومعنى تنبل مات أو أخذ الأنبل فالأنبل أي انتفى ذلك من المعاني التي تحتملها ألفاظ القرآن
(10)
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ وَأَغْنى غَنَاءً وَاهِباً مُتَفَضِّلاَ

هذا حث على التمسك بالقرآن العزيز وتحريه والعمل بما فيه ليكون القرآن العزيز شافعا له كافيه كل ما يحذر واهبا له متفضلا عليه بما يلقاه من ثواب قراءته والعمل به وفي الصحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم ، اقرءوا القرآن فإنه يجيء يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراون تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما ، وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك، قال هذا حديث حسن وأوثق من قولهم شيء وثيق أي محكم متين وقد وثق بالضم وثاقة وإنما وصفه بذلك لأن شفاعته مانعة له من وقوعه في العذاب وشفاعة غيره مخرجة له منه بعد وقوعه فيه والغناء بالفتح والمد الكفاية وفعله أفعل كقوله تعالى (ما أغنى عني ماليه) ، فقوله وأغنى غنا أي وأكفى كفاية أي كفاية القرآن العزيز أتم من كفاية غيره فأغنى في هذا البيت ليس فعلا ماضيا ولكنه أفعل التفضيل وبناؤه من غير الثلاثي المجرد شاذ والقياس أن يقال أشد غناء أو أتم غناء أو نحو ذلك ، ويجوز أن يقال هو من غنى ، إذا استغنى أو من غنى بالمكان إذا أقام به فمعناه على الأول أنه غنى من كفاية ما يحذر حامله مليء بها واسع جوده ، وعلى الثاني أنه دائم الكفاية مقيم عليها لا يسأم منها ولا يمل ولا بد من تقدير مضاف محذوف قبل غناء على الوجهين أي وأغنى ذي غناء لأن المراد أن القرآن أثرى ذوي الكفايات وأدومهم عليها ، ولك أن تقدر مثل ذلك في الوجه الذي بدأنا به أي والقرآن أكفى ذوي الكفايات وتلخيص اللفظ على الأوجه الثلاثة أن نقول التقدير وأغنى مغن والمغني الكافي ولا يتغير معناه عن ذلك في الوجوه كلها وإنما المعاني الثلاثة في لفظ أغنى ولولا تقدير المضاف المحذوف للزم نصب غناء لأن أفعل لا يضاف إلا إلى ما أفعل بعضه والقرآن ليس بعض

الكفاية فيجب النصب كقولك هو أفره عبدا بالنصب إذا كانت الفراهية في العبد وهو ليس بعبد وواهيا ومتفضلا حالان من الضمير في أغنى العائد على كتاب الله تعالى ، وقيل النصب على التمييز كقولك هو أغناهم أبا وقيل إن قلنا إن أغنى بمعنى أثرى فالنصب على التمييز وإن قلنا بالوجهين الآخرين فالنصب على الحال وقد بينا فساد هذين القولين في الكتاب الكبير والله أعلم
(11)
وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً
وخير مثل قوله وأغنى كلاهما معطوف على أوثق ولا يمل حديثه صفة خير أو جليس أو هو خبر بعد خبر لأن كل قول مكرر مملول إلا القرآن العزيز فإنه كلما كرر حلا واقتبس من فوائده ما لا يدخل تحت الحصر وأجر على تلاوته بكل حرف عشر حسنات فهو خير جليس وكيف يمل حديثه وهو أحسن الحديث كما قال سبحانه (الله نزل أحسن الحديث) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل صاحب القرآن مثل جراب مملوء مسكا يفوح به كل مكان ، فأي جليس أفضل منه والترداد بفتح التاء مصدر ردده ترديدا وتردادا والهاء المتصلة به تعود على القارئ أو على القرآن العزيز لأن المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول فهو كما سبق في قوله بتحريه والضمير المستكن في يزداد يحتمل الأمرين والهاء في فيه عائدة على الترداد وفيه بمعنى به أي يزداد القرآن بالترداد تجملا لما يظهر من تلاوته ونوره وحلاوته وفصاحته أو يزداد القارئ بالترداد تجملا لما يقتبس من فوائده وآدابه وجزيل ثوابه ، ويجوز أن يكون الضمير في يزداد للترداد وفي فيه للقارئ وتكون فيه على ظاهرها لا بمعنى به وتجمل الترداد يئول إلى جمال حاصل في القارئ وزينة له والله أعلم
(12)
وَحَيْثُ الْفَتى يَرْتَاعُ فيِ ظُلُمَاتِهِ مِنَ اْلقَبرِ يَلْقَاهُ سَناً مُتَهَلِّلاً

كنى عن القارئ بالفتى وصفا له بالفتوة وهي خلق جميل يجمع أنواعا من مكارم الأخلاق ويرتاع أي يفزع والهاء في ظلماته للفتى أي في ظلماته الناشئة من القبر ووحشته وإنما أضافها إليه لملابستها له وكونه فيها ، فقوله من القبر على هذا في موضع الحال من الظلمات أي صادرة من القبر ، ويجوز أن يكون كنى بالظلمات عن أعماله السيئة فيكون من القبر على هذا متصلا بيلقاه أي يلقاه القرآن من القبر أي يأتيه من تلك الجهة ، ويجوز أن يكون التقدير يرتاع من القبر كائنا في ظلماته ، ويجوز أن يكون قوله في ظلماته من القبر واردا على طريقة القلب لأمن الإلباس أي يرتاع في القبر من ظلماته والهاء في يلقاه للفتى أو للقرآن العزيز لأن كل واحد منهما يلقى الآخر ، والسنا بالقصر الضوء ، والسناء بالمد الرفعة والمتهلل الباش المسرور وكلاهما حال من القرآن أي يلقى القرآن الفتى في حال إضاءته وبشاشته أي ذا سنا أي مستنيرا ، ويجوز أن يكون متهللا صفة لسنا ، وفي جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا هو قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ، وفي كتاب ابن أبي شيبة وأول كتاب الوقف والابتدا لابن الأنباري آثار في فضل قارئ القرآن العامل به ذكرنا بعضها في الكتاب الكبير والله أعلم
(13)
هُنَالِكَ يَهْنِيهِ مَقِيلاً وَرَوْضَةً وَمِنْ أَجْلِهِ فِي ذِرْوَةِ الْعِزّ يجتُلَى

هنالك من تتمة قوله يلقاه أي يلقاه في ذلك المكان ثم استأنف قوله يهنيه أو يكون يهنيه حالا ، ويجوز أن يكون هنالك ظرفا ليهينه وهنالك يستعمل ظرف زمان وظرف مكان وكلاهما محتمل هنا والظرف هو هنا والكاف خطاب واللام زائدة للدلالة على البعد والعرب تنزل الميت أبعد منزلة وذلك لبعد الملتقى كقول الشاعر ، (من كان بينك في التراب وبينه شبران فهو بغاية البعد) والهاء في يهنيه للقارئ وضمير الفاعل مستتر عائد على القرآن أو على القبر فإن عاد على القرآن كان مقيلا مفعولا ثانيا ليهنيه من قولهم هنأت الرجل أهنؤه وأهنئه إذا أعطيته ثم ترك الهمز ضرورة على لغة كسر النون ولو استعمل لغة الفتح لقال يهناه وإن عاد الضمير على القبر كان مقيلا تمييزا من قولهم هنأ لي الطعام أي لذ لي طعمه وطاب وروضة عطف على مقيلا بالاعتبارين ، والمقيل موضع القائلة وهي الاستراحة في وسط النهار ولا يشترط فيها نوم أي يصير له القبر كالمقيل وكالروضة بثواب قراءة القرآن والعمل به عبر بذلك عن الراحة الحاصلة له حينئذ وفي الحديث القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، والهاء في ومن أجله للقرآن ومرفوع يجتلى للقارئ ويتعلق بيجتلى ما قبله من المجرورات وذروة كل شيء أعلاه تضم ذاله وتكسر ويجتلى معناه ينظر إليه بارزا من قولهم اجتليت العروس وعبر بذلك عن عظم أمره فهو سالم من كل آفة والله أعلم
(14)
يُنَاشِدُه في إرْضَائِهِ لحبِيِبِهِ وَأَجْدِرْ بِهِ سُؤْلاً إلَيْهِ مُوَصَّلاَ

يناشد أي يسأل ربه وقيل معناه يكثر المسألة ملجأ فيها وعدى بفي لأن في المناشدة معنى الرغبة وفاعل يناشد ضمير عائد على القرآن العزيز وهو جملة واقعة خبرا لقوله وإن كتاب الله أوثق شافع بعد أخبار سلفت أي هو أوثق شافع وخير جليس ويلقى قارئه حيث يرتاع ويناشد في إرضائه والهاء في لحبيبه تعود على القرآن العزيز وحبيبه قارئه العامل بما فيه والهاء في إرضائه يعود إلى الله تعالى وقد تقدم ذكره في قوله وإن كتاب الله كقولك غلام زيد يطلب منه كذا أي من زيد أي يناشد الله تعالى في أن يرضي حبيبه أي يعطيه من الأجر والثواب ما تقر به عينه فالإرضاء مضاف إلى الفاعل وعدى الإرضاء بلام الجر لأنه مصدر نحو عجبت من ضرب لزيد ، ويجوز أن يكون التقدير يناشد لحبيبه في إرضائه أي يسأل الله تعالى في أن يرضى حبيبه ففي الكلام تقديم وتأخير فتكون الهاء في إرضائه للحبيب والإرضاء حينئذ مضاف للمفعول وقيل الهاء في إرضائه للقرآن العزيز أي يسأل ربه أن يعطي القارئ ما يرضى به القرآن وتكون اللام في لحبيبه بمعنى لأجل حبيبه ، وفي كتاب الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، ( يجيء القرآن يوم القيامة فيقول يا رب حله فيلبس تاج الكرامة فيقول يا رب زده حلة الكرامة ثم يقول يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال اقرأ وارق ويزداد بكل آية حسنة ، قال هذا حديث حسن ، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه غير مرفوع ، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة ذكرناها في الشرح الكبير ، وقوله وأجدر به تعجب كأخلق به أي ما أجدره بذلك وأحقه به والسؤل المسئول وهو المطلوب ونصبه على التمييز وموصلا نعته وإليه متعلق بموصلا والهاء عائدة على القرآن العزيز أو على القارئ والضمير في له للإرضاء أي ما أحق سؤله أن يوصل إليه وقيل يجوز أن يكون الهاء في إليه للرضى الدال عليه الإرضاء أو للإلحاح الدال عليه يناشد وموصلا حال من القرآن العزيز وقيل غير ذلك على ما بينا

وجه فساده في الشرح الكبير والله أعلم
(15)
فَيَا أَيُّهَا الْقَارِى بِهِ مُتَمَسِّكاً مُجِلاًّ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلا
نادى قارئ القرآن المتصف بالصفات المذكورة في هذا البيت وبشره بما ذكره في البيت الآتي وبعده والقارئ مهموز وإنما أبدل الهمزة ياء ضرورة والهاء في به للقرآن وهو متعلق بمتمسكا مقدم عليه أي متمسكا به يعني عاملا بما فيه ملتجئا إليه في نوازله كما قال تعالى (والذين يمسكون بالكتاب) ، وفي الحديث الصحيح كتاب الله فيه الهدى والنور فتمسكوا بكتاب الله وخذوا به وفي رواية من استمسك وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل ، وفي به وجوه أخر بعيدة ذكرناها في الكبير وإجلال القرآن العزيز تعظيمه وتبجيله توقيره وهما متقاربان في المعنى ونصب متمسكا وما بعده على الحال من ضمير القارئ لأن المعنى يا أيها الذي قرأ القرآن ومن إجلال القرآن حسن الاستماع له والإنصات لتلاوته وتوقير حملته وصيانة القارئ نفسه مما يشين دينه جعلنا الله كذلك والله أعلم
(16)
هَنِيئاً مَرِيئاً وَالِدَاكَ عَلَيْهِما مَلاَبِسُ أَنْوَأرٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلاْ

الهنيء الذي لا آفة فيه الطيب المستلذ الخالي من المنغصات الحاصل من غير تعب ، والمريء المأمون الغائلة المحمود العاقبة المستساغ في الحلق وهما من أوصاف الطعام والشراب في الأصل ثم تجوز بهما في التهنئة بكل أمر سار وهما هنا منصوبان على الحال أي ثبت لك ثواب تمسكك بالقرآن العزيز وإجلالك له هنيئا مريئا ، ويجوز أن ينصبا بفعل مضمر أي صادفت أمرا هنيئا مريئا وأن يكونا نعتي مصدر محذوف أي كاللبس وجمعه لاختلاف الملبوس أو تكون جمع ملبس بكسر الميم وفتح الباء وهو الشيء الذي يلبس ويسمى أيضا لباسا ومثله ميزر وإزار وملحف ولحاف وملابس فاعل عليهما وعليهما خبر والداك أو يكون ملابس مبتدأ ثانيا خبره عليهما المقدم عليه والجملة خبر والداك وأنوار جمع نور والنور الضياء وأضاف الملابس إلى الأنوار لملابستها إياها والتاج الإكليل والحلي جمع حلية وهي الهيئة من التحلي الذي هو لبس الحلي ، ويجوز أن تكون الحلي جمع حلة وأراد الحلل لكنه أبدل من ثاني حرفي التضعيف حرف علة نحو أمليت وهذا وإن لم يكن مسموعا فهو جائز في الضرورة نص عليه الرماني في آخر شرح الأصول والمنظوم في هذا البيت حديث أخرجه أبو داود وغيره من حديث سهل بن معاذ الجهني عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا ، فقوله من قرأ القرآن وعمل بما فيه نظمه في البيت السابق وقوله فما ظنكم بالذي عمل بهذا منظوم في البيت الآتي والباقي منظوم في هذا البيت ، وفي مسند بقي بن مخلد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يكسى والداه حلة لا تقوم لها الدنيا وما فيها ، ففي هذا ذكر الحلة وفي الذي قبله ذكر التاج فصح تفسيرنا لقوله الحلي بالحلل ويكون نظم ما تفرق في الحديثين وقوله في الحديث تاجا وحلة أي كل واحد منها والله أعلم
(17)

فَما ظَنُّكُمْ بالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ أُولئِكَ أَهْلُ اللهِ والصَّفَوَةُ المَلاَ
هذا استفهام تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه كقوله تعالى (فما ظنكم برب العالمين) ، وقوله فما ظنكم مبتدأ وخبر وفيه معنى الأمر أي ظنوا ما شئتم من الجزاء لهذا الولد الذي يكرم والداه من أجله والخطاب للسامعين مطلقا فيكون التفاتا من خطاب القارئ إليهم ، ويجوز أن يكون خطابا إليهم مع القراء لأن قوله فيا أيها القارئ للجنس أي فما ظنكم بأنفسكم والنجل النسل كالولد يقع على المفرد والجمع فحمل على اللفظ قوله عند جزائه ثم حمل على المعنى قوله أولئك ومفعولا الظن محذوفان أي ما تظنونه واقعا بالنجل وقوله عند جزائه ظرف للمحذوف ولا يجوز أن يكون ظرفا للظن وقوله أولئك أهل الله إشارة إلى حديث آخر أخرجه أبو عبيد والبزار وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله أهلين من الناس قيل من هم يا رسول الله قال أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ، والإشارة بالأهلية إلى قرب المنزلة من رحمته وكرامته والأهل اسم جمع كالرهط والركب وقد جمع في الحديث جمع السلامة ومثله في القرآن العزيز ، (شغلتنا أموالنا وأهلونا) إلى (أهليهم أبدا) ، فيجوز أن يكون في بيت الشاطبي رحمه الله تعالى أيضا مجموعا وسقطت النون للإضافة والواو لالتقاء الساكنين واللفظ بالمفرد والجمع في مثل هذا واحد وإنما يفترقان في الخط ، فتزاد واو في الجمع والمصنف لم يكتب ما نظمه لأنه كان ضريرا وإنما أملاه ولا يظهر في اللفظ جمع فكتبه السامع مفردا ويطرد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخرها هذا الحديث أهل الله وخاصته يجوز أن يكون جمعا وهو الأظهر اعتبارا بما في أول الحديث ، ويجوز أن يكون استعمله جمعا ومفردا في حديث واحد كما قال سبحانه (أهل البيت)-(وكانوا أحق بها وأهلها)-(إذا انقلبوا إلى أهلهم) ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر هؤلاء أهل بيتي ،

والصفوة الخالص من كل شيء بكسر الصاد وفتحها وروي ضمها ، وأشار بالصفوة إلى الخاصة المذكورة في الحديث وأدخل واو العطف في قوله والصفوة ليأتي على صورة لفظ الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم أهل الله وخاصته ، والملأ الأشراف والرؤساء وهو موافق لما روي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل وفي رواية قراء القرآن وقوام الليل ، ومن حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم رفعوه حملة القرآن عرفاء أهل الجنة ، أخرجهما الحافظ أبو العلا الهمذاني والملأ مهموز أبدل من همزة ألفا للوقف والله أعلم
(18)
أُولُو الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى حُلاَهُمُ بِهَا جَاءَ الْقُرَانُ مُفَصَّلاَ

أولو مثل ذوو بمعنى أصحاب وهو خبر بعد أخبار لقوله أولئك أي هم المتصفون بهذه الصفات الجليلة من البر وما بعده وحلاهم مبتدأ ومعناه صفاتهم جمع حلية وهي الصفة وخبره الجملة التي بعده وبها متعلق بحاء ، ويجوز أن تكون حلاهم صفة البر والإحسان والصبر والتقى فيكون مجرور المحل ، ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف أي هذه حلاهم ثم قال بها جاء القرآن و القرآن بلا همز وبالهمز لغتان وهما للقراء قراءتان ومفصلا حال من القرآن ومعناه مبينا ومنه قوله تعالى (كتاب فصلت آياته) ، ويجوز أن يكون مفصلا من باب تفصيل القلائد بالفرائد كقول امرئ القيس ، (فأدبرن كالجزع المفصل بينه ) ، وقوله ، (تعرض أثناء الوشاح المفصل ) ، وقيل هذا المعنى أيضا في تفسير قوله تعالى (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) ، أي فصلت بدلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص فكذا أراد الناظم أن القرآن مشتمل على ذكر الأبرار وأخبار الكفار فصفات الأبرار فيه كالفرائد التي تفصل بها العقود وهي الجواهر التي تزينها وتعظم وقعها وهذا بالنسبة إلى المذكور وأما النسبة إلى الذاكر فكلتاهما سواء لأن كلا كلام الله عز وجل والله وأعلم
(19)
عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافِساً وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلاَ

عليك بها إغراء وحث أي الزم هذه الصفات والصق بها وبادر إليها مدة حياتك منافسا فيها غيرك والمنافسة المزاحمة في الشيء رغبة فيه ومنافسا حال من الضمير في الإغراء وقيل من التاء في عشت وهو وهم ولك أن تجعل فيها من صلة عشت والضمير للدنيا وإن لم يجر لها ذكر لأن لفظ عشت يدل عليها والدنيا التي وصف بها النفس تأنيث الأدنى الذي هو الحقير الخسيس وإنما وصفها بذلك لاتضاعها مبدأ ومآلا كما قال ، (ما بال من أوله نطفة وجيفة آخره يفخر) ، (لا فخر إلا فخر أهل التقى غدا إذا ضمهم المحشر) ، والأنفاس جمع نفس بفتح الفاء أي بأرواح طيبها التي هي علا في المبدإ والمآل والهاء في أنفاسها تعود إلى حلاهم ، والعلا بضم العين والقصر له معنيان ، أحدهما أن يكون جمع عليا تأنيث أعلى فيطابق موصوفه لفظا ومعنى ، والثاني أن يكون مفردا بمعنى العلاء بالفتح والمد فيكون وصف الأنفاس بالعلاء على هذا من باب رجل عدل والتقدير ذوات العلا فالوجه الأول أولى وهذا البيت بديع اللفظ جليل المعنى يشم من رائحته أن ناظمه كان من أولياء الله رحمه الله تعالى ، ثم أثنى على علماء القراءة فقال
(20)
جَزَى اللهُ بِالْخَيْرَاتِ عَنَّا أَئِمَّةً لَنَا نَقَلُوا القُرْآنَ عَذْباً وَسَلْسَلاَ

هذا دعاء بلفظ الخبر كما تقدم في صلى الله ، وجزى بمعنى قضى ويتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) ، وأدخل الشاطبي رحمه الله تعالى على المفعول الثاني وهو قوله بالخيرات باء الجر زيادة ، والمعنى جزى الله أئمة القراءة خيرا والخيرات جمع خيرة وهي الفاضلة من كل شيء قال الله تعالى (وأولئك لهم الخيرات) ، ولنا يجوز أن يكون صفة لأئمة ويجوز أن يكون معمول نقلوا ونقلوا صفة الأئمة على الوجهين وعذبا نعت مصدر محذوف أي نقلا عذبا لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه ولا حرفوا ولا بدلوا ، ويجوز أن يكون حالا أي نقلوه وهو كذلك على هذه الحال لم يتغير عنها ويجوز أن يريد بالقرآن القراءة لأنه مصدر مثلها من قوله تعالى (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) ، وعذوبتها أنهم نقلوها غير مختلطة بشيء من الرأي بل مستندهم فيها النقل الصحيح مع موافقته خط المصحف الكريم واتضاح ذلك على الوجه الفصيح في لغة العرب وسلسلا عطف على عذبا والعذب الماء الطيب والسلسل السهل الدخول في الحلق والله أعلم
(21)
فَمِنْهُمْ بُدُورٌ سَبْعَةٌ قَدْ تَوَسَّطَتْ سَمَاءَ الْعُلَى واَلْعَدْلِ زُهْراً وَكُمَّلاَ

أي فمن تلك الأئمة الناقلين للقرآن على الوجه المرضي سبعة من صفتهم كيت وكيت جعلهم كالبدو في علو منزلتهم عند الناس واتساع علمهم وكثرة الانتفاع بهم وشهرتهم ، وقد تقدم ذكرهم وذكر طائفة من الأئمة في خطبة هذا الكتاب وستأتي أبيات في نظم البدور السبعة وأصحابهم وفي السبعة يقول أبو مزاحم الخاقاني ، (وإن لنا أخذ القراءة سنة عن الأولين المقرنين ذوي الستر) ، (فللسبعة القراء حق على الورى لإقرائهم قرآن ربهم الوتر) ، (فبالحرمين ابن الكثير ونافع وبالبصرة ابن للعلاء أبو عمرو) ، (وبالشام عبد الله وهو ابن عامر وعاصم الكوفي وهو أبو بكر) ، (وحمزة أيضا والكسائي بعده أخو الحذق بالقرآن والنحو والشعر) ، والعلا بمعنى العلاء الممدود وهو الرفعة والشرف أو يكون جمع عليا فتكون على حذف الموصوف أي سماء المناقب العلا استعار للعلى والعدل سماء وجعل هذه البدور متوسطة لتلك السماء في حال كونها زاهرة أي مضيئة كاملة من غير نقص مبالغة في وصفهم لأن القمر إذا توسط السماء في حال كماله وتمامه وقوة نوره سالما مما يستر ضوءه كان ذلك اشرف أحواله وأعظم لانتفاع الخلق به فهم أتم نورا وأعم ضوءا وزهرا جمع أزهر أو زاهر كأحمر وحمر وبازل وبزل يقال زهر إذا أضاء فهو زاهر وأزهر على المبالغة ولذلك قيل للقمر أزهر وللرجل المشرق الوجه أيضا وهو منصوب على الحال من فاعل توسطت وكملا عطف وهو جمع كامل ، فإن قلت لفظ الدبر يشعر بالكمال فما معنى هذه الحال ، قلت أراد كمال أمره من سلامته مما يشينه من خسوف وغيره لا كمال جرمه وقال فيهم أبو عمر والداني ، (فهؤلاء السبعة الأئمة هم الذين نصحوا للأمّه) ، (ونقلوا إليهم الحروفا ودونوا الصحيح والمعروفا) ، (وميزوا الخطأ والتصحيفاً واطَّرحوا الواهي والضعيفا) ، (ونبذوا القياس والآراء وسلكوا المحجة البيضاء) ، (بالاقتداء بالسادة الأخيار والبحث والتفتيش للآثار اهـ والله أعلم
(22)

لَهَا شُهُبٌ عَنْهَا اُسْتَنَارَتْ فَنَوَّرَتْ سَوَادَ الدُّجَى حَتَّى تَفَرَّق وَانْجَلاَ
كنى بالشهب عن الأصحاب الذين أخذوا العلم عن البدور السبعة ولما كانوا دونهم في العلم والشهرة كنى عنهم بما إنارته دون إنارة البدر ويقال نار واستنار إذا أضاء وضمن استنارت معنى أخذت فلذلك عداه بعن ، والدجى الظلم جمع دجية وهي هنا كناية عن الجهل ، وانجلا أي انكشف ، والشهب جمع شهاب والشهاب في أصل اللغة اسم للشعلة الساطعة من النار ثم سمي به الكوكب المضيء المرصد لرجم من استرق السمع من الجن ويتعلق به كلام طويل ومعان حسنة ذكرتها في شرح قصيدة الشقراطسي رحمه الله والله أعلم
(23)
وَسَوْفَ تَرَاهُمْ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ مَعَ اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ مُتَمَثِّلاَ

أي ترى البدور المذكورين في هذه القصيدة على هذه الصفة أي مرتبين واحد بعد واحد فنصب واحداً على الحال وبعد واحد صفته وهو كقولهم بينت حسابه بابا بابا وبابا بعد باب هذا إن كان تراهم من رؤية البصر فكأنه نزل ظهورهم في النظم سماعا أو كتابة منزلة المتشخص من الأجسام وإن كان تراهم من رؤية القلب فواحدا مفعول ثان أي تعلمهم كذلك ، ويجوز أن يكون واحدا بعد واحد بدلا من هم في تراهم ومتمثلا صفة لواحدا بعد صفة ومع اثنين متعلق بمتمثلا أي متمثلا مع اثنين من أصحابه يقال مثل قائما أي انتصب وتمثل قائما ، والمعنى متمثلا في النظم أي متشخصا فيه ، ويجوز أن يكون مع اثنين خبر مبتدإ محذوف أي كل مع اثنين أو يكون التقدير كلا مع اثنين بالنصب على البدل من واحد بعد واحد أي ترى كل واحد منهم مع اثنين من أصحابه ، ويجوز أن يكون التقدير واحدا مع اثنين من أصحابه بعد واحد مع اثنين من أصحابه ثم حذف الأول لدلالة الثاني عليه ولو قال وسوف تراهم هاهنا كل واحد مع اثنين من أصحابه لكان أسهل معنى وأحسن لفظا ، وأصحاب الإنسان أتباعه ومن أخذ بقوله كقولك أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة فقوله من أصحابه أي من الناقلين عنه ، ثم إن الذين ذكرهم على ثلاثة أقسام منهم من أخذ عن البدر نفسه وهم ثلاثة ، أصحاب نافع وعاصم والكسائي ، ومنهم من بينه وبين البدر واحد وهم أصحاب أبي عمرو وحمزة ، ومنهم من بينه وبين البدر أكثر من واحد وهم أصحاب ابن كثير وابن عامر على ما سيأتي بيان ذلك ، وبين المتوسط بين أبي عمرو وصاحبيه وهو اليزيدي وبين المتوسط بين حمزة وصاحبيه وهو سليم لتيسر ذلك عليه في النظم وترك بيان المتوسط بين ابن كثير وصاحبيه وبين ابن عامر وصاحبيه لتعذر ذلك وتعسره نظما والله أعلم
(24)
تَخَيَّرَهُمْ نُقَّادُهُمْ كُلَّ بَارِعٍ وَلَيْسَ عَلَى قُرْآنِهِ مُتَأَكِّلاَ

تخير بمعنى اختار والنقاد جمع ناقد والبازغ الذي فاق أضرابه في صفات الخير والضمير في تخيرهم ونقادهم للبدور السبعة أو للشهب أولهما وكل بارع بالنصب بدل من مفعول تخيرهم أو هو نصب على المدح أثنى عليهم بالبراعة في العلم ثم أثنى عليهم بالتواضع فيه والزهد بقوله وليس على قرآنه متأكلا فهو صفة بعد صفة أي كل بارع غير متأكل بقرآنه وإنما دخلت الواو في ليس على تقدير كل من برع وليس على قرآنه أي بقرآنه متأكلا أي لم يجعله سببا للأكل ، وقد تورع جماعة من أهل العلم عن الأكل بالقرآن العزيز مع جوازه لهم ، كان حمزة رحمه الله تعالى من أشدهم في ذلك وقيل هو من قولهم تأكل البرق والسيف إذا هاج لمعانه أي لم ينتصب ظاهر الشعاع لأهل الدنيا بالقرآن العزيز فيجعله وصلة إلى دنياهم ويقال تأكلت النار إذا هاجت أي لم يكثر الحرص على الدنيا فتكون على بمعنى مع كقوله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه) أي من حبه (وآتى المال على حبه)-(وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم)-(الحمد لله الذي وهب لي على الكبر) وفيه وجوه أخر ذكرناها في الشرح الكبير والله أعلم
(25)
فَأَمَّا الْكَرِيمُ السِّرِّ في الطيِّبِ نَافِعٌ فَذَاكَ الَّذِي اخْتَارَ الْمَدينَةَ مَنْزِلاَ

شرع في ذكر البدور السبعة واحدا بعد واحد وجرت عادة المصنفين في القراءات بذكرهم في أول مصنفاتهم وذكر طرف من أخبارهم والتعريف بهم فمنهم من اختصر ومنهم من أكثر وقد استقصينا ذلك في الشرح الكبير وتقدم في خطبة هذا الكتاب ما يجزئ من ذلك سوى ذكره وفياتهم فنأتي بها وبشرح ما نظمه الشاطبي من أحوالهم ، وقد نظم لنافع في هذا البيت سرا كريما وهو ما ذكره أبو عمرو الداني رحمه الله في كتاب الإيجاز وذكره أيضا شيخه أبو الحسن بن غلبون وأبو معشر الطبري وغيرهم ، قالوا كان نافع رحمه الله إذا تكلم يشم من فيه رائحة المسك فقيل له يا أبا عبد الرحمن أو يا أبا رويم أتطيب كلما قعدت تقرئ الناس فقال ما أمس طيبا ولا أقرب طيبا ولكني رأيت فيما يرى النائم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرا في فيّ فمن ذلك الوقت يشم من فيّ هذه الرائحة فهذا هو السر الكريم لنافع في الطيب ، والمراد بالكرم هنا الشرف والنباهة والجلالة ومنه قوله تعالى (وزرق كريم) ، والكريم في نظم الشاطبي مبتدأ والسر مضاف إليه ويجوز رفعه ونصبه لأنه من باب الحسن الوجه كما سبق ذكره في أجذم العلا وفي الطيب متعلق بالسر أو بالكريم ونافع بدل من الكريم أو عطف بيان والفاء في فذاك جواب أما لما في أما من معنى الشرط وما بعد الفاء جملة اسمية هي خبر المبتدإ ، أثنى عليه في ضمن التعريف به بأنه اختار مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم منزلا له أقام بها في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات بها في سنة تسع وستين ومائة وقيل غير ذلك ومنزلا تمييز أو مفعول ثان على تضمين اختار معنى اتخذ أو على حذف حرف الجر من الأول من باب قوله تعالى (واختار موسى قومه) ، وقيل غير ذلك والله أعلم
(26)
وَقَالُونُ عِيسى ثُمَّ عُثْمانُ وَرْشُهُمْ بِصُحْبَتِهِ المَجْدَ الرَّفِيعَ تَأَثَّلاَ

ذكر اثنين من أصحابه وفاء بوعده وكلاهما أدركه ، أحدهما أبو موسى عيسى بن ميناء المدني ويلقب بقالون وهي كلمة رومية يقولون للجيد من الأشياء هو قالون قيل لقبه نافع بذلك لجودة قراءته وقيل لقبه بذلك مالك بن أنس ومات سنة خمس ومائتين بالمدينة وقيل غير ذلك ، والثاني عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش لقبه بذلك نافع أيضا لبياضه وقيل فيه وجوه كثيرة ذكرناها في الشرح الكبير ومات بمصر سنة سبع وتسعين ومائة وقالون في البيت مبتدأ ولم يصرفه وإن كان قبل اللقب اسم جنس وعلى رأي الكوفيين وإما أن يكون قد سمي به في الأعجمية كما في العربية التسمية بحسن وسهل ولا بعد في ذلك لأنه على وزان قارون وهارون وعيسى بدل من قالون ولا يقال عطف بيان فإن اللقب هنا أشهر من الاسم ولهذا أيضا لم يقل إنه مضاف إلى عيسى لأن المعروف إضافة الاسم إلى اللقب لا عكس ذلك ، ويجوز أن يكون امتناع صرفه لما يأتي ذكره في اسم غلبون في باب المد والقصر وعثمان عطف على قالون وورشهم عطف بيان والضمير للقراء وكذا قوله فيما يأتي وصالحهم وأبو عمرهم وكوفيهم وحرميهم لابن كثيرهم والهاء في بصحبته لنافع والمجد مفعول تأثلا ضمير تثنية يعود إلى قالون وورش وهو خبر المبتدإ ، ومعنى تأثلا جمعا أي سادا بصحبة نافع والقراءة عليه والله أعلم
(27)
وَمَكَّةُ عَبْدُ اللهِ فِيهَا مُقَامُهُ هُوَ اُبْنُ كَثِيرٍ كاثِرُ الْقَوْمِ مُعْتَلاَ

وهذا البدر الثاني عبد الله بن كثير المكي وصفة الشاطبي بأنه كاثر القوم معتلا أي اعتلاء وكاثر اسم فاعل من كثر بفتح الثاء وهو بناء الغلبة يقال كاثرني فكثرته أي غلبته بالكثرة وكذلك فاخرني ففخرته وخاصمني فخصمته وعنى بالقوم القراء السبعة ومعتلا تمييز أي هو أكثر اعتلاء ووجهه لزومه مكة وهي أفضل البقاع عند أكثر العلماء وقراءته على صحابي وهو عبد الله بن السائب المخزومي وهو الذي بعث عثمان رضي الله عنه معه بمصحف إلى أهل مكة لما كتب المصاحف وسيرها إلى الأمصار وأمره أن يقرئ الناس بمصحفه فكان ممن قرأ عليه عبد الله بن كئير على ما حكاه غير واحد من المصنفين ، فإن قلت ابن عامر قرأ على جماعة من الصحابة ونافع لزم المدينة وهي أفضل البقاع عند مالك وغيره وهو مذهب ناظم القصيدة ، قلت كذلك الذي نقول إلا أن المجموع لم يحصل إلا لابن كئير ولعل الناظم كان يرى مذهب الجمهور في تفضيل مكة وهو الأصح ، وقوله ومكة مبتدأ وعبد الله مبتدأ ثان ومقامه مبتدأ ثالث وفيها خبر الثالث مقدم عليه والثالث وخبره خبر الثاني والجملة التي هي خبره خبر الأول ، ويجوز أن يكون مقامه فاعل ، والمقام بضم الميم الإقامة وموضعها أي فيها إقامته أو موضع إقامته أي اختارها مقاما كما اختار نافع المدينة منزلا ومات بمكة سنة عشرين ومائة ثم ذكر اثنين من أصحابه وبينهما وبينه أكثر من واحد فقال
(28)
رَوى أَحْمَدُ الْبَزِّي لَهُ وَمُحَمَّدٌ عَلَى سَنَدٍ وَهْوَ المُلَقَّبُ قُنْبُلاَ

له بمعنى عنه كقوله تعالى (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) ، أي عنهم وقوله على سند أي بسند أي ملتبسين بسند أو يكون التقدير معتمدين على سند في نقل القراءة عنه لأنهما لم يرياه ، أحدهما أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع ابن أبي بزة مولى لبني مخزوم مؤذن المسجد الحرام أربعين سنة وإنما قيل له البزي لأنه منسوب إلى جده أبي بزة وخفف الشاطبي ياء النسب ضرورة وهو جائز ومثله يأتي في البصرى والمكي والدوري وغيرها ، قرأ البزي على جماعة منهم عكرمة بن سليمان ، وقرأ عكرمة على شبل والقسط ، وقرأ على ابن كثير ومات البزي سنة خمس وخمسين ومائتين وقيل غير ذلك ، والثاني أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن خالد بن سعيد بن جرجة ويلقب بقنبل يقال رجل قنبل وقنابل أي غليظ شديد ذكره صاحب المحكم وغيره وقيل في سبب تلقيبه بقنبل غير ذلك ذكرناه في الشرح الكبير ، وقرأ قنبل على أبي الحسن القواس وابن فليح وقرأ على أصحاب القسط وقرأ على ابن كثير ، وروي أن قنبلا قرأ أيضا على البزي وهو في طبقة شيخيه المذكورين ومات قنبل سنة إحدى وتسعين ومائتين
(29)
وَأَمَّا الإْمَامُ المَازِنِيُّ صَرِيحُهُمْ أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِي فَوَالِدُهُ الْعَلاَ

وهذا البدر الثالث أبو عمرو بن العلا البصري المازني من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم بن مر ، والصريح هو الخالص النسب وليس في السبعة من أجمع على صراحة نسبه غيره إلا ما لا يعرج عليه فلهذا قال صريحهم وسيأتي الكلام في ابن عامر ، ودخل الفرزدق الشاعر على أبي عمرو وهو مختف بالبصرة يعوده فقال فيه ، (ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار) ، (حتى أتيت امرأ محضا ضرائبه ) ، ويروي ، (ضخما وسيعته مر المريرة حرا وابن أحرار) ، (ينميه من مازن في فرع نبعتها أصل كريم وفرع غير حوار) ، ويروي ناقص ويروي ، (جد كريم وعود غير حوار ) نسبة إلى جده في قوله أبا عمرو بن عمار وهو أبو عمرو بن العلاء بن عمار لأن عمارا كان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان لوالده العلا قدر وشرف وكان على طراز الحجاج بن يوسف فاشتهر بسبب الولاية وتقدم أبيه فلهذا صار أبو عمرو يعرف بابن العلا فهذا معنى قول الشاطبي فوالده العلا أي الرجل المشهور المتقدم في زمانه مات أبو عمرو رحمه الله سنة ثمان وأربعين ومائة وقيل سنة أربع أو خمس أو سبع وخمسين ومائة ونقل قراءته خلق كثير أضبطهم لها اليزيدي الذي يذكره الآن
(30)
أَفَاضَ عَلَى يَحْيَى الْيَزيدِيِّ سَيْبَهُ فَأَصْبَحَ بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ مُعَلَّلاَ

هو أبو محمد يحيى بن المبارك العدوي التميمي وعرف باليزيدي لأنه كان منقطعا إلى يزيد بن منصور خال المهدي يؤدب ولده فنسب إليه ثم اتصل بالرشيد فجعل المأمون في حجره يؤدبه ومات في أيامه سنة اثنتين ومائتين ، ومعنى أفاض أفرغ والسيب العطاء والعذب الماء الطيب والفرات هو العذب ووجه الجمع بينهما التأكيد أراد به صدق العذوية وكمالها ، وقيل الفرات الصادق العذوبة وسمي الشرب الأول النهل وما بعده العلل الذي سقى مرة بعد مرة وهو أبلغ في الري ، ومعنى البيت أن أبا عمرو أفاض عطاءه على اليزيدي وكنى بالسيب عن العلم الذي علمه إياه فأصبح اليزيدي ريان من العلم الحسن النافع والله أعلم
(31)
أَبُو عُمَرَ الدُّورِي وَصَالِحُهُمْ أَبُو شُعَيْبٍ هُوَ السُّوسِيُّ عَنْهُ تَقَبَّلاَ
ذكر اثنين ممن قرأ على اليزيدي ، أحدهما أبو عمر حفص بن عمر الأزدي الدوري الضرير نسبة إلى الدور موضع ببغداد بالجانب الشرقي مات سنة ست وأربعين ومائتين ، والثاني أبو شعيب صالح بن زياد السوسي نسب إلى السوس موضع بالأهواز ومات بالرقة سنة إحدى وستين ومائتين في المحرم ، وصالحهم مثل ورشهم أي هو الذي من بينهم اسمه صالح فلم يرد وصفه بالصلاح دونهم والهاء في عنه لليزيدي أي تقبلا عنه القراءة التي أفاضها أبو عمر وعليه يقال تقبلت الشيء وقبلته قبولا أي رضيته وضمن تقبلا معنى أخذا فلذلك عداه بعن والله أعلم
(32)
وَأَمَّا دِمَشْقُ الشَّامِ دَارُ ابْنُ عَامِرٍ فَتْلِكَ بِعَبْدِ اللهِ طَابَتْ مُحَلَّلاَ

وهذا البدر الرابع عبد الله بن عامر الدمشقي أحد الأئمة من التابعين ، وصفه الناظم بأن دمشق طابت به محللا أي طاب الحلول فيها من أجله أي قصدها طلاب العلم للرواية عنه والقراءة عليه وإضافة دمشق إلى الشام كإضافة ورش إلى القراء في قوله ورشهم وما أشبهه ، وفي ذلك أيضا تبين لمحلها وتنويه بذكرها لا سيما لمن بعدت بلاده من أهل المشرق والمغرب ألا يرى أن أهل الشام وما يدانيه يسمعون بالمدن الكبار شرقا وغربا ، ويتوهمون قرب مدينة منها من أخرى ولعل بينهما مسافة أشهر وإذا كان عبد المحسن الصوري ، وهو شاعر فصيح من أهل الشام قد أضاف دمشق إلى الشام في نظمه فكيف لا يفعل ذلك ناظم أندلسي من أقصى المغرب قال عبد المحسن ، (كان ذم الشآم مذ كنت شاني فنهتني عنه دمشق الشآم) ، ودار ابن عامر بدل من دمشق أو صفة وأوقع الظاهر موقع المضمر في قوله فتلك بعبد الله بيانا لاسمه وبعبد الله متعلق بطابت ومحللا تمييز يقال مكان محلل إذا أكثر الناس به الحلول ، ومات ابن عامر رحمه الله بدمشق في سنة ثمانية عشر ومائة
(33)
هِشَامٌ وَعَبْدُ اللهِ وَهْوَ انْتِسَابُهُ لِذَكْوَانَ بِالإِسْنَادِ عَنْهُ تَنَقَّلاَ

هذان راويات أخذت عنهما قراءة ابن عامر اشتهر بذلك وكل واحد منهما بينه وبين ابن عامر اثنان فهذا معنى قوله بالإسناد عنه تنقلا أي نقلا القراءة عنه بالإسناد شيئا بعد شيء فتنقل من باب تفهم وتبصر ، أما هشام فهو أبو الوليد هشام بن عمار بن نصير السلمي خطيب دمشق أحد المكثرين الثقات ، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائتين ، قرأ على أيوب بن تميم التميمي وعراك بن خالد المري ، وقرأ على يحيى بن الحارث الذماري ، وقرأ يحيى على بن عامر ، وأما ابن ذكوان فهو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشي الفهري ، قرأ على أيوب بن تميم أيضا وكان يصلي إماما بجامع دمشق سوى الجمعة ومات سنة اثنتين وأربعين ومائتين أي هشام وعبد الله تنقلا عن ابن عامر القراءة بالإسناد ، وقوله وهو انتسابه لذكوان جملة معترضة يعني لا تظن أن ذكوان والد عبد الله وإنما هو منتسب إليه كما ذكرنا والله أعلم
(34)
وَبِالْكُوفَةِ الْغَرَّاءِ مِنْهُمْ ثَلاَتَةٌ أَذَاعُوا فَقَدْ ضَاعَتْ شَذاً وَقَرَ نْفُلاَ
الغراء يعني المشهورة البيضاء المنيرة بكثرة العلماء بها ، منهم يعني من السبعة ثلاثة هم عاصم وحمزة والكسائي أذاعوا أي أفشوا العلم بها وشهروه ونشروه والضمير في ضاعت للكوفة أو للقراءة أي فاحت رائحة العلم بها والشذا كسر العود والقرنفل معروف وهما منصوبان على حذف مضاف هو مفعول مطلق أي ضوع شذا وقرنفل أو هما نصب على التمييز أي ضاع شذاها وقرنفلها أو لأن ضاع يستعمل في الرائحة الكريهة أيضا فميزه بما نفى ذلك والله أعلم
(35)
فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ اسْمُهُ فَشُعْبَةُ رَاوِيهِ المُبَرِّزُ أَفْضَلاَ

وهذا هو البدر الخامس أبو بكر عاصم بن أبي النجود أحد السادة من أئمة القراءة والحديث ، مات سنة عشرين أو سبع أو ثمان أو تسع وعشرين أو سنة ثلاثين ومائة بالسماوة ، وهو موضع بالبادية بين الشام والعراق من ناحية الفرات وقيل مات بالكوفة أثنى الشيخ الشاطبي على عاصم بأن من جملة الرواة عنه شعبة الذي برز في الفضل وهو باب من أبواب المدح معروف فكم من تابع قد زان متبوعه وكم من فرع قد شرف أصله فقوله فشعبة مبتدأ وراويه خبره والمبرز صفة راويه أو نعت شعبة أو يكون راويه نعت شعبة والمبرز خبره وأفضلا نصب على الحال بمعنى فاضلا وفيه زيادة مبالغة ، ويقال برز الرجل أي فاق أضرابه ويجوز أن يكون تمييزا من باب قولهم لله دره فارسا لأن الإسناد في المعنى إلى مصدر هذا الاسم أي المبرز فضله أي فاق فضله فضل أقرانه ، ولما كن شعبة اسما مشتركا والمشهور بهذا الاسم بين العلماء هو أبو بسطام شعبة بن الحجاج البصري ميز الذي عناه بما يعرف به فقال
(36)
وَذَاكَ ابْنُ عَيَّاشٍ أَبُو بَكْرٍ الرِّضَا وَحَفْصٌ وَبِاْلإتْقَانِ كانَ مُفصَّلاَ

ذاك إشارة إلى شعبة لأنه مشهور بكنيته واسم أبيه ومختلف في اسمه على ثلاثة عشر قولا ذكرناها في الكبير والرضا صفة له أي المرضي ذكره محمد بن سعيد في الطبقة السابعة من أهل الكوفة قال وكان من العباد ، وتوفي بالكوفة في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة في الشهر الذي توفى فيه هارون الرشيد بطوس ، والراوي الثاني لعاصم هو حفص بن سليم البزاز بزايين ، مات سنة ثمانين ومائة ، قال أبو بكر الخطيب كان المتقدمون يعدونه في الحفظ فوق أبي بكر بن عياش ويصفونه بضبط الحرف الذي قرأ به على عاصم ، وقال يحيى بن معين بن عمرو بن أيوب زعم أيوب بن المتوكل قال أبو عمر حفص البزاز أصح قراءة من أبي بكر ابن عياش وأبو بكر أوثق من أبي عمر فهذا معنى قول الشاطبي وبالإتقان كان مفضلا يعني بإتقان حرف عاصم لا في رواية الحديث والله أعلم
(37)
وَحَمْزَةُ مَا أَزْكاهُ مِنْ مُتَوَرِّعٍ إِمَاماً صَبُوراً لِلقُرانِ مُرَتِّلاَ
وهذا البدر السادس أبو عمارة حمزة بن حبيب الزيات شيخ القراء بالكوفة بعد عاصم فقوله وحمزة مبتدأ وخبره ما بعده من الجملة التعجبية ، كقوله زيد ما أكرمه ومن متورع في موضع نصب على التمييز كقولك ما أكرمه رجلا وما أكرمه من رجل وكذلك المنصوبات بعده أي ما أزكى ورعه وإمامته وصبره وترتيله للقرآن ، ويجوز نصب إماما وما بعده على المدح أي اذكر إماما صبورا ويجوز نصبهن على الحال ويجوز أن يكون ما أزكاه إلى آخر البيت كلاما معترضا لمجرد الثناء وخبر المبتدإ أول البيت الآتي ، وهو روى خلف عنه وأزكاه من زكا إذا طهر ونما صلاحه أي ما أجمعه لخصال الخير ، ومات رحمه الله سنة ست وخمسين وقيل سنة أربع أو ثمان وخمسين ومائة والله أعلم
(38)
رَوَى خَلَفٌ عَنْهُ وَخَلاَّدٌ الَّذِي رَوَاهُ سُلَيْمٌ مُتْقِناً وَمُحَصِّلاَ

اعتمد في هذا الإطلاق على معرفة ذلك واشتهاره بين أهله وهو أن سليما قرأ على حمزة وأن خلفا وخلادا أخذا قراءة حمزة عن سليم عنه وظاهر نظمه لا يفهم منه هذا فإنه لا يلزم من كونهما رويا الذي رواه سليم أن يكون أخذهما عن سليم لاحتمال أن يكون سليم رفيقا لهما ومتقنا ومحصلا حالان من الهاء في رواه أو من الذي وكلاهما واحد ، وسليم هذا هو سليم بن عيسى مولى بني حنيفة ، مات سنة ثمان أو تسع وثمانين ومائة وقيل سنة مائتين ، وأما خلف فهو صاحب الاختيار وهو أبو محمد خلف بن هشام البزار آخره راء ، مات ببغداد سنة إحدى أو ثمان أو تسع وعشرين ومائتين ، وأما خلاد فهو أبو عيسى ويقال أبو عبد الله خلاد بن خالد الأحول الصيرفي الكوفي ويقال خلاد ابن خليد ويقال ابن عيسى ، توفي سنة عشرين أو ثلاثين ومائتين
(39)
وَأَمَّا عَلِيٌّ فَالْكِسَائِيُّ نَعْتُهُ لِمَا كانَ في الْإِحْرَامِ فِيهِ تَسَرْبَلاَ

وهذا البدر السابع أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بميم ونون آخره النحوي المعروف بالكسائي ، مات سنة تسع وثمانين ومائة ، وقيل قبل ذلك ، ذكر الشاطبي في هذا البيت سبب كونه نعت بالكسائي وهو أحد الأقوال في ذلك ولم يذكر صاحب التيسير غيره وقيل له الكسائي من أجل أنه أحرم في كساء والنعت الصفة والسربال القميص وقيل كل ما يلبس كالدرع وغيره يقال سربلته فتسربل أي ألبسته السربال فلبسه ولما تنزل الكساء من الكسائي منزلة القميص أطلق عليه لفظ تسربل واللام في لما للتعليل وما مصدرية أي لكونه تسربل الكساء في وقت إحرامه بنسك الحج أو العمرة وقوله فيه يحتمل وجهين ، أحدهما أن يكون متعلقا بالإحرام أي لكونه أحرم فيه والضمير للكساء الذي دل عليه لفظ الكسائي ومفعول تسربل محذوف أي تسربل الكساء ، الوجه الثاني أن يكون فيه مفعول تسربل أي لكونه في وقت الإحرام تسربل فيه فتكون في زائدة أو عداه بفي لكونه ضمنه معنى حل أو تكون في بمعنى الباء أي به تسربل وقيل سمي الكسائي لأنه كان في حداثته يبيع الأكسية وقيل لكونه كان من قرية من قرى السواد يقال لها باكسايا وقيل كان يتشح بكساء ويجلس مجلس حمزة فكان حمزة يقول اعرضوا على صاحب الكساء ، قال الأهوازي وهذا القول أشبه بالصواب عندي
(40)
رَوَى لَيْثُهُمْ عَنْهُ أَبُو الْحَارِثِ الرِّضاَ وَحَفْصٌ هُوَ الدُّورِيُّ وَفيِ الذِّكْرِ قَدْ خَلاَ
ليثهم مثل ورشهم هو أبو الحارث الليث بن خالد ، مات سنة أربعين ومائتين ، والرضى أي المرضى أو على تقدير ذي الرضى وحفص هو الدوري الراوي عن اليزيدي ولهذا قال في الذكر قد خلا أي سبق ذكره فيما ذكرناه من النظم
(41)
أَبُو عَمْرِهِمْ والْيحْصَبِيُّ ابْنُ عَامِرٍ صَرِيحٌ وَبَاقِيهِمْ أَحَاطَ بِهِ الْولاَ

أضاف أبا عمرو إلى ضمير القراء كما سبق في ورشهم وليثهم وصالحهم وأبو عمرو وإن كان لفظه مركبا فمدلوله مفرد فلوحظ المدلول فأضيف على حد قولهم حب رماني في إضافة ما يسمى في العرف حب رمان واليحصبي منسوب إلى يحصب حي من اليمن وفي الصاد الحركات الثلاث قبل النسب وبعده وابن عامر عطف بيان لليحصبي وصريح خبر المبتدإ وما عطف عليه ولم يقل صريحان لأن الصريح كالصديق والرفيق يقع على الواحد والمتعدد أو يكون صريح خبر الأول أو الثاني وحذف خبر الآخر لدلالة المذكور عليه وقد تقدم أن معنى الصريح الخالص النسب ، فمعنى البيت أن أبا عمرو وابن عامر خالصا النسب من ولادة العجم فهما من صميم العرب وهذا على قول الأكثر ، ومنهم من زعم أن ابن عامر ليس كذلك ، ومنهم من زعم أن ابن كثير وحمزة من العرب أيضا ولم يختلف في نافع وعاصم والكسائي أنهم ليسوا من العرب ، وغلب على ذرية العجم لفظ الموالي يقال فلان من العرب وفلان من الموالي فهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه ما أشار إليه بقوله أحاط به الولا يعني ولادة العجم ولا يستقيم أن يراد به ولاء العتاقة فإن ذلك لم يتحقق فيهم أنفسهم ولا في أصول جميعهم ولا يستقيم أن يراد به ولاء الحلف فإن العربية لا تنافي ذلك وقد كان جماعة من العرب يحالفون غيرهم ، وقد قيل في نسب أبي عمرو إنه كان حليفا في بني حنيفة وقيل كان ولاؤه للعنبر وقد بينا جميع ذلك وحققناه في الشرح الكبير والهاء في به عائدة على باقيهم فهو لفظ مفرد وإن كان مدلوله هنا جماعة وأحاط أي أحدق وشمل والله أعلم
(42)
لَهُمْ طُرُقٌ يُهْدَى بِهَا كُلُّ طَارِقٍ وَلاَ طَارِقٌ يُخْشى بِهاَ مُتَمَحِّلاً

أي لهؤلاء القراء مذاهب منسوبة إيهم يهدي بها أي يهتدي بنفسه أو يرشد المستهدين بتلك الطرق كل طارق أي كل من يقصدها ويسلك سبيلها ، جعل تلك الطرق كالنجوم التي يهتدى بها كأنه قال كل سالك ومار في هذا العلم فإنه يهتدي بهذه الطرق ويهدي بها ، وقيل المراد بكل طارق أي كل نجم وكنى بالنجم عن العالم لاشتراكهما في الاهتداء بهما ثم قال ولا طارق يخشى بها أي ولا مدلس من قولهم طرق يطرق طروقا إذا جاء بليل والليل محل الآفات ، والمعنى أن تلك الطرق قد اتضحت واستنارت فلا يخشى عليها مضلل ولا مدلس ولا بمعنى ليس وطارق اسمها ويخشى خبرها أو صفة لطارق وبها الخبر ، ويجوز أن يكون بها متعلقا بمتمحلا ومتمحلا خبر لا أو حال من الضمير في يخشى العائد على طارق يقال تمحل إذا احتال ومكر فهو متمحل
(43)
وَهُنَّ الَّلوَاتِي لِلْمُوَاتِي نَصَبْتُهاَ مَنَاصِبَ فَانْصَبْ فِي نِصَابِكَ مُفْضِلاَ
وهن ضمير الطرق واللواتي من الأسماء الموصولة وهو جمع اللاتي جمع التي والمواتي الموافق وأصله الهمز ونصبتها أي رفعتها وأبرزتها وأصلتها مناصب أي أصولا جمع منصب وهو الأصل وكذلك النصاب أي وتلك الطرق والمذاهب هي التي نظمت في هذه القصيدة لمن وافقني على ما اصطلحت فيها ونصبتها أصولا لمن يقرؤها أو أعلاماً لعز من علمها وشرفه ومناصب مفعول ثان لنصبت على تضمين نصبت معنى جعلت وقيل هو حال وقيل تمييز ثم قال فانصب أي اتعب وتجرد وشمر لتحصيلها ونصاب الشيء أصله أي اتعب في تحصيل بضاعة العلم الذي يصير أصلا لك تنسب إليه إذا انتسب الناس إلى آبائهم وقبائلهم وقيل المراد به النية أي اتعب في تخليص نيتك مما يفسدها في قراءة هذا العلم ومفضلا حال من الضمير في انصب يقال أفضل الرجل إذا أتى بفاضل الأعمال كأحسن وأجمل إذا أتى بحسنها وجميلها أي مفضلا بإخلاص النية والله أعلم
(44)
وَمَا أَنَا ذَا أَسْعى لَعَلَّ حُرُوفَهُمْ يَطُوعُ بِهَا نَظْمُ الْقَوَافِي مُسَهِّلاَ

ها حرف تنبيه وأنا ضمير المتكلم وذا اسم إشارة ونظير هذه العبارة قوله تعالى (ها أنتم أولاء تحبونهم) ، فإعرابه كإعرابه وأسعى بمعنى أحرص وأجتهد أي إني مجتهد في نظم تلك الطرق راجيا حصول ذلك وتسهيله والضمير في حروفهم للقراء والمراد بالحروف قراءاتهم المختلفة ، وقال صاحب العين كل كلمة تقرأ على وجوه من القرآن تسمى حرفا ، ويجوز أن يكون المراد بالحروف الرموز لأنها حروفهم الدالة عليهم ويدل عليه قوله بعد ذلك جعلت أبا جاد كأن قائلا قال له وما تلك الحروف التي ترجو طوع القوافي بها فقال ذلك ويطوع بمعنى ينقاد فكأنه ضمنه معنى يسمح فعداه بالباء والقوافي جمع قافية وهي كلمات أواخر الأبيات بضابط معروف في علمها وقد نظمت فيها الأرجوزة الوافية بعلمي العروض والقافية ومسهلا حال من النظم ثم قال
(45)
جَعَلْتِ أَبَا جَادٍ عَلَى كُلِّ قَارِئٍ دَلِيلاً عَلَى المَنْظُومِ أَوَّلَ أَوَّلاَ

أي صيرت حروف أبي جاد فحذف المضاف للعلم به أي جعلته دليلا على كل قارئ ذكرته في هذا النظم فقوله على المنظوم بدل من قوله على كل قارئ بإعادة العامل أو يكون معمول عامل مقدر أي مرتبا على ما نظمته وتقدير أول أولا أولا فأولا أو أولا لأول ثم حذف الحرف وركبت الكلمتان معا وبنيتا على الفتح أي الأول من حروف أبي جاد للأول من القراء والثاني للثاني وهكذا إلى أن ينتهي عدد القراء السبعة والرواة الأربعة عشر وحروف أبي جاد هي حروف المعجم المعروفة جمعت في كلمات أولها أبجد وكان أصله أبو جاد فحذفت منه الواو والألف لئلا تتكرر الصور لأن أول أبجد ألف وفي هوز واو وقد بسطنا الكلام في ذلك في الشرح الكبير وصفا لنا من الحروف سبع كلمات كل كلمة لواحد من السبعة وراوييه على ترتيب نظمه الأول للشيخ والثاني لأول الروايين والثالث لثانيهما ولا يعد في القراء اليزيدي ولا سليم لأنه إنما ذكرهما لبيان السند لمن قرأ عليهما لا لتنسب القراءة إليهما والكلمات هي أبج دهز حطي كلم نصع فضق رست وهي تجيء نصف بيت بتسكين الحرف الوسط من دهز كلم نصع وتحريكه من البواقي وتمام البيت دليل على المنظوم أول أولا فالألف لنافع والباء لقالون والجيم لورش والدال لابن كثير وهكذا إلى آخرهم فتكون الراء للكسائي والسين لأبي الحارث والتاء للدوري عنه وله عن عن أبي عمرو الطاء من حطي هذا عقد هذا الاصطلاح ، وننبه بعد ذلك على فوائد تتعلق باستعماله لهذه الحروف لم يتعرض لها وإنما فهمتها من تصرفه في نظمه ، منها أن هذه الحروف لا يأتي بها مفردة بل في أوائل كلمات قد ضمن تلك الكلمات معاني صحيحة مفيدة فيما هو بصدده من ثناء على قراءة أو على قارئ أو تعليل أو نحو ذلك على ما سيأتي بيانه كقوله وبسمل بين السورتين بسنة البيت ومالك يوم الدين راويه ناصر سلاسل نون إذ رووا صرفه لنا وقد يأتي بها بعد الواو الفاصلة كقوله ألا وعلا الحرمي إن لنا هنا وكم صحبة يا كاف ودون عنا دعم

وحكم صحاب قصر همزة جاءنا فالحاء من حكم رمز لأبي عمرو فكأنه قال وأبو عمرو وفلان وفلان يقرءون كذا وكذلك الدال من ودون لابن كثير والكاف من وكم لابن عامر والعين من وعلى لحفص ولا يأتي ذلك إلا حيث يكون الواو زائدة على الكلمة فالعين من قوله وعى نفر ليست برمز وكذا قوله في سورة النحل معا يتوفاهم لحمزة وصلا سما كاملا يهدي الواو في وصلا فصل وهي أصلية فالصاد ليست برمز داخل مع سما كاملا وكذا لا يفعل ذلك إلا في ابتداء المسألة لا في أثناء الرمز ، فقوله حق وذو جلا حق وذو ملا ليس الذال برمز وكذا ما أشبه ذلك ولو كان تجنب الرمز في الحشو مطلقا لكان أولى ، ومنها أن رمز نافع أول حروف أبجد لأن نافعا أول القراء في نظمه وأول حروف أبجد همزة لفظا وألف خطا فاستعمل المجموع في رمز نافع فالهمزة يستعملها كثيرا نحو ورابرق افتح آمنا وقد يستعمل ألف الوصل نحو معي نفر العلا ، له الرحب له الحلا وإن افتحوا الجلا كما انجلا وهو كثير ولو تجنبه لكان أحسن فإن ألف الوصل ساقطة لفظا منه فكلما كان الرمز بلفظ بين كان أولى منه بلفظ خفي ولزم منه إلباس في قوله سورة الكهف وأقبلا على حق السدين أن يكون الألف من واقبلا رمز نافع فيكون مع على حق في فتح السدين كما فعل ذلك في وعلا وكم ودون وحكم على ما تقدم ، ومنها أنه مهما اجتمع الراويان على قراءة فالرمز لإمامهما دونهما في غالب الأمر لأنه الأخص إذ لا يحتاج إلا إلى كلمة واحدة ، وقد جاء في بعض المواضع الرمز لهما بكلمتين لاحتياجه إلى ذلك في إقامة الوزن وتتمة البيت كقوله ضوء سنا تلا ، وفي الفرقان زاكيه هللا وفي الوصل لكنا فمد له ملا ، ومنها أنه إذا اتصل شيء من هذه الحروف بضمير قراء تقدم ذكرهم لم يكن ذلك رمزا وكان الضمير كالمصرح به من أسمائهم ، ومن حكمه أن المصرح به لا رمز معه وذلك نحو قوله وصية ارفع صفو حرميه رضى ثم قال ويبصط عنهم أي أن من تقدم ذكرهم يقرءون يبصط بالصاد ولا نقول إن

العين في عنهم رمز حفص ومثله وضم الراء حق ولاغية لهم أي ضم نافع وابن كثير وأبو عمرو الياء من (لا تسمع فيها) ورفع لاغية لهم أيضا ولا نقول إن اللام في لهم رمز هشام وهذا بخلاف ما إذا كان الضمير غير راجع إلى أحد من القراء الذين سبق ذكرهم فإن الحرف حينئذ يكون رمزا مثل له الرحب له الحلا ، ومنها أنه قد جاء في مواضع ألفاظ تصلح أن تكون رمزا وليست برمز في مراده وذلك كما سنبينه في باب المد والإمالة والزوائد وفرش الحروف ، وهو مشكل وفي باب البسملة موضع ذكر أنه رمز وعندي أنه ليس برمز كما سنذكره ، ومنها أنه إذا اجتمعت قراءتان لقارئ واحد فتارة يسمى لكل قراءة منهما كقوله وفيه لم ينون لحفص كيد بالخفض عولا وتارة يسمى بعد الثانية فتكون التسمية لهما كقوله وأنث أن تكون مع الأسرى الأسارى حلا حلا وفي قوله سنكتب ياء ضم البيت رمز بعد ثلاث قراءات لحمزة بقوله فيكملا وتارة يسمى مع الأولى ويعطف الثانية عليها كقوله ويغشى سما خفا البيت فقوله والنعاس ارفعوا يعني لحق المقدم ذكره لأنه قد أتى بالواو الفاصلة في قوله ولا فلو كان رفع النعاس لغير من تقدم ذكره لسماه قبل الواو فيعلم بمحئ الواو أن لا رمز لها سوى ما تقدم والله أعلم
(46)
وَمِنْ بَعْدِ ذِكْرِى الْحَرْفَ أُسْمِى رِجَالَهُ مَتَى تَنْقَضِي آتِيكَ بِالْوَاوِ فَيْصَلاَ

الحرف مفعول ذكرى المضاف إلى ياء المتكلم والمراد بالحرف ما وقع الاختلاف فيه بين القراء من الكلمات وأسمى وأسمى لغتان بمعنى واحد ويتعديان إلى مفعول واحد لأنه واحد لأنه بمعنى ذكرى الاسم ، والهاء في رجاله تعود إلى الحرف والمراد برجاله قراؤه أي أذكرهم برموزهم التي أشرت إليها لا بصريح أسمائهم فإن ذلك يتقدم على الحرف ويتأخر كما سيأتي ، بين بهذا البيت كيفية استعماله الرمز بحروف أبجد فذكر أنه يذكر حرف القراءة أولا ثم يرمز له سواء كان المختلف فيه كلمة أو أكثر فالكلمة نحو وتقبل الأولى أنثوا دون حاجز والكلمتان نحو وكسر بيوت والبيوت يضم عن حماجلة والثلاث نحو وقيل وغيض ثم جيء يشمها البيت والربع نحو وسكن يؤده مع نوله ونصله ونؤته منها البيت وقد تكون قاعدة كلية يدخل تحتها كلم متعددة نحو وضمك أولى الساكنين البيت والأغلب أن الرمز المذكور لا يأتي إلا بعد كمال تقييد القراءة إن احتاجت إلى تقييد كالأمثلة التي ذكرناها وقد وقع قليلاً رمز قبل تمام التقييد كقوله والعين في الكل ثقلا كما دار واقصر مع مضعفة فقوله كما دار رمز متوسط بين كلمتي التقييد وهما ثقلا واقصر ومثله ومع مد كائن كسر همزته دلا ولا ياء مكسورا وأما قوله في سورة غافر أو أن زد الهمز ثملا وسكن لهم فإن قوله لهم قام مقام تكرار الرمز وقد يرمز قبل جملة التقييد كقوله وإثم كبير شاع بالثا مثلثا ومثله مع تسمية القارئ قوله وفي فأزل اللام خفف لحمزة وزد ألفا من قبله فتكملا والضمير في تنقضي للرجال ، ويجوز أن يعود على المسألة برمتها من ذكر الحرف وقرائه لدلالة سياق الكلام على ذلك ، يريد أنه إذا انقضى ذكر الحرف ورمز من قرأه أتى بكلمة أولها واو تؤذن بانقضاء تلك المسألة واستئناف أخرى لأن الواو لم يجعلها رمز القارئ بخلاف سائر الحروف ولو لم يفعل ذلك لاختلطت المسائل وظن ما ليس برمز رمزا لا سيما إذا أتى بكلام بين المسألتين للحاجة إليه في تتميم وزن البيت كقوله

وجها على الأصل أقبلا وجها ليس إلا مبجلا حق وذو جلا فإن ما بعد الواو ليس رمزا في كل ذلك وقد يأتي بكلمة أولها واو في أثناء تقييد المسألة لضرورة القافية فلا تكون الواو فيها فصلا كقوله من رجز أليم معا ولا على رفع خفض الميم دل عليه وكقوله والياسين بالكسر وصلا مع القصر مع إسكان كسر دنا غنى فالواو في ولا ووصلا في هذين الموضعين ليسا بفصل كما أن ألفاظ التقييد لا تكون أوائلها إلا رمزا وإنما الرمز ما يأتي بعد كمال التقييد غالبا كذلك الواو الفاصلة هي ما يأتي بعد كمال المسألة من التقييد والرمز والله أعلم ، وإثبات الياء في تنقضي وآتيك وهما فعلا شرط وجزاء على لغة من قال ، (ألم يأتيك والأنباء تنمي ) وحقها حذف الياء منها للجزم ولم يستقم له حذف الياء من تنقضي أما من آتيك فكان حذفها جائزا له على ارتكاب زحاف جائز والناظم لم يفعله لنفور الطبع السليم منه وفيصلا حال وهو من الصفات التي جاءت على وزن فيعل كضيغم وبيئس وفيه معنى المبالغة والله أعلم
(47)
سِوَى أَحْرُفٍ لاَ رِيبَةٌ فِي اتِّصَالِهَا وَبالَّلفْظِ أَسْتَغْنِي عَنِ الْقَيْدِ إِنْ جَلاَ

نبه بهذا البيت على أنه إنما جعل الواو فاصلة لترتفع الريبة واللبس من اختلاط الحروف وإنما خص الواو بالفصل لتأتيها له في النظم وتيسرها عليه من حيث هي في الأغلب عاطفة والقراءات تراجم ومسائل يعطف بعضها على بعض وربما فصل بغير العاطفة كقوله دار وجها شاع وصلاه في عمد وعوا وهو قليل وليس كل كلمة أولها واو يكون الواو فيها فصلا فإن ذلك قد يقع في كلمات القرآن وفي ألفاظ التقييد كقوله وراؤه بكسر بعد قوله وصحبة يصرف فتح ضم ومنه قوله وبالضم واقصروا كسر التاء قاتلوا وقد تقدم أنها تقع في أثناء كلمات التقييد وإن لم تكن تلك الكلمة تقييدا بل احتيج إليها لتتميم القافية كقوله وفك ارفعن ولا فإن قوله ولا وقع حشوا لأجل القافية وقوله بعد ذلك وبعد اخفضن واكسر ومد الواو في الكلمات الثلاث داخلة على ما هو تقييد لا فصل في واحدة منها إلى قوله ومؤصدة فإنما الواو الفاصلة هي الآتية بعد كمال الرمز ، ثم إن الكلمة التي أولها واو للفصل تارة ليس المراد منها إلا ذلك نحو وضم حليهم بكسر شفا واف فكلمة واف لم يأت بها إلا للفصل وإن تضمنت معنى صحيحا فيما يرجع إلى الثناء على القراءة وتارة تأتي الكلمة ويكون ما بعد الواو مقصودا لغير الفصل إما هو من الحروف المختلف فيها نحو وموصدة فاهمز وحمالة المرفوع وإما اسم لقارئ نحو وحمزة أسرى وورش لئلا وبصر وأتبعنا أو تقييد للحرف المختلف فيه نحو وخاطب حرفا تحسبن وبالضم صر أشاع وميم ابن أم اكسر وذكر لم يكن شاع وقد يكون ما بعد الواو رمزا وهو قليل وقد تقدم الكلام فيه نحو وعلى الحرمي ثم ذكر في هذا البيت أنه قد لا يأتي بالواو الفاصلة وذلك في أحرف من القراءات إذا اتصلت لم يلبس أمرها ولا يرتاب الناظر فيها لأنها من كلم القرآن وذلك كقوله وينبت نون صح يدعون عاصم ويدعون خاطب إذ لوى ورابرق افتح آمنا البيتين ففي كل بيت منهما ثلاثة أحرف ولا واو بينها وقد يقع الاتصال من تقييد قراءة ورمز أخرى كقوله

يظلمون غيب شهددنا ثم قال إدغام بيت في حلا وقوله واكسر الضم اثقلا نعم عم في الشورى ، فالحاصل أنه يلتزم الواو في مواضع الريبة وفيما عداها قد يأتي بالواو طردا للباب وقد لا يأتي بها للاستغناء عنها وأكثر المواضع التي أتى فيها بالواو لا لبس فيها كقوله وعند سراط والسراط ورضوان اضمم زكا وقواريرا وقد ترك الواو سهوا في موضع واحد ملبس في سورة القصص وقل قال موسى واحذف الواو دخللا نما نفر بالضم ثم ذكر حكما آخر فيما يتعلق بتقييد الحرف المختلف فيه فقال وباللفظ استغنى عن القيد ولم يكن هنا موضع ذكره ولو أخره إلى ما بعد انقضاء الرموز لكان أولى وذلك عند قوله وما كان ذا ضد إلى قوله وفي الرفع والتذكير والغيب فهاتيك الأبيات كلها فيما يتعلق بتقييد القراءات وهذه الأبيات من قوله جعلت أبا جاد إلى قوله وما كان ذا ضد كلها في الرمز وما يتعلق به ويتفرع عنه فاعترض بهذا الحكم في أثناء ذلك فذكر أنه قد لا يحتاج إلى تقييد الحرف بهيئة قراءته إذا كان التلفظ به كاشفا عن ذلك القيد ولهذا قال إن جلا أي إن كشف اللفظ عن المقصود وبينه يقال جلوت الأمر إذا كشفته وهذا قد أتى في القصيدة على ثلاثة أقسام إما أن يلفظ بالقراءتين معا كقوله وحمزة أسرى في أسارى وفي طائر طيرا سكارى معا سكرى وعالم قل علام ، وإما أن يلفظ بإحداهما ويقيد الأخرى كقوله وبالتاء آتينا ، والثالث أن يلفظ بإحداهما ولا يقيد الأخرى كقوله و(مالك يوم الدين) ، كأنه قال بالمد ففهم من ذلك القراءة الأخرى من جهة الضد ، وقد يلفظ بالقراءتين معا ويذكر بعد بعض قيود إحداهما كقوله تمارونه تمرونه وافتحوا شذا وطأ وطاء فاكسروه وكل موضع لفظ بحرف مختلف فيه ولم يستغن باللفظ به عن القيد ثم قيده بما فهم منه الخلاف باعتبار الأضداد على ما سيأتي ذكرها فإن لم يكن أن يلفظ بذلك اللفظ إلا على إحدى القراءتين تعين ، وهو في القصيدة على نوعين ، أحدهما أن يكون القيد لما لفظ به كقوله وما

يخدعون الفتح من قبل ساكن وبعد ذكا وخفف كوف يكذبون وعدنا جميعا دون ما ألف وكفلها الكوفي ثقيلا البيت وحامية بالمد صحبته كلا وفي حاذرون المد ، والثاني أن يكون القيد لما لم يلفظ به وهذا أحسن لأخذ كل من القراءتين حظا إما لفظا وإما تقييدا كقوله وفي تكملوا قل شعبة الميم ثقلا وقصر قياما عم مع القصر شدد ياء قاسية شفا ووحد للمكي آيات الولا فإن أمكن أن يلفظ بذلك اللفظ على كل واحدة من القراءتين فالأولى أن يلفظ بما لم يقيده كقوله عليهم إليهم حمزة بكسر الهاء وصحبة يصرف بضم الياء وذكر لم تكن بالتاء الدالة على التأنيث وقد جاء في سورة طه موضع استغنى فيه باللفظ عن القيد ولم يحصل الاستغناء به لأنه لم يجل القراءة الأخرى ولم يكشفها وهو قوله وأنجيتكم واعدتكم ما رزقتكم شفا وسيأتي ما يمكن الاعتذار به في موضعه إن شاء الله تعالى
(48)
وَرُبَّ مَكاَنٍ كَرَّرَ الْحَرْفَ قَبْلَهَا لِمَا عَارِضٍ وَالْأَمْرُ لَيْسَ مُهَوِّلاَ

الحرف مفعول كرر وفاعله ضمير راجع إلى مكان على طريقة المجاز جعل المكان مكرر لما كان التكرار واقعا فيه كقولهم ليل نائم أو يرجع إلى الناظم على طريقة الالتفات من استغنى إلى كرر كقوله تعالى (لنريه من آياتنا إنه هو) ، أي كرر فيه الناظم الحرف قبلها أي قبل الواو الفاصلة ومراده بالحرف هنا حرف الرمز الدال على القارئ لا الكلمة المختلف فيها المعبر عنها بقوله ومن بعد ذكرى الحرف ولو قال ورب مكان كرر الرمز لكان أظهر لغرضه وأبين ورب حرف تقليل وعامله محذوف مقدر بعده أي وجد أو عثر عليه أشار إلى أن ذلك يوجد قليلا وهو تكرار الرمز تأكيدا وزيادة بيان ، وهو في ذلك على نوعين ، أحدهما أن يكون الرمز لمفرد فيكرره بعينه كقوله اعتاد فضلا ، وحلا حلاء ، وعلا علا ، والثاني أن يكون الرمز لجماعة لم يرمز لواحد من تلك الجماعة كقوله سما العلا ، ذا أسوة تلا ، وقد يتقدم المفرد كقوله إذ سما كيف عولا ، وقوله قبلها يعني قبل الواو الفاصلة المنطوق بها أو قبل موضعها وإن لم توجد فإن حلا حلا وعلا علا ليس بعدهما واو فاصلة ، وقوله لما عارض تعليل للتكرير وما نكرة موصوفة أي لأمر عارض أو زائدة كزيادتها في قوله تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم) ، أي لأجل عارض اقتضى ذلك من تحسين لفظ أو تتميم قافية ثم سهل هذا الأمر على الطالب وهونه بقوله والأمر ليس مهولا أي ليس مفزعا أي لا يجر لبسا ولا يؤدي إلى إشكال ، واعلم أنه كما يكرر الرمز لعارض فقد تكرر الواو الفاصلة أيضا لذلك كقوله قاصداً ولا ومع جزمه ، ولم يخشوا هناك مضللا وأن يقبلا التذكير ، ولم ينبه على ذلك وهو واضح والله أعلم
(49)
وَمِنْهُنَّ لِلْكُوفِيِّ ثَاءٌ مُثَلَّتٌ وَسِتَّتُهُمْ بِالْخَاءِ لَيْسَ بِأَغْفَلاَ

الضمير في منهن للحروف للعلم بها ووصف الثاء بأنه مثلث بالنقط ليميزه من الباء والتاء وكذلك قوله في الخاء ليس بأغفلا أي أنه منقوط ليميزه من الحاء ، لما اصطلح الناظم رحمه الله على رموز للقراء منفردين اصطلح أيضا على رموز لهم مجتمعين إلا أنه ليس لكل اجتماع بل لما يكثر دوره ووقوعه ، واعلم أن لكل واحد من القراء شيئا ينفرد به وقد جمعت ذلك في مصنف بترتيب حسن ولكل واحد منهم اجتماع مع كل واحد منهم هذا مطرد ويتفق اجتماع ثلاثة على قراءة ولا يطرد في الجميع وكذا يتفق اجتماع أربعة وخمسة وستة وكان قد بقي ستة أحرف فجعل كل حرف منها رمزا لما يذكره فذكر في هذا البيت حرفين الثاء والخاء فالثاء رمز للقراء الكوفيين وهم ثلاثة كما سبق وقوله للكوفي أي للقارئ الكوفي من السبعة أي لهذا الجنس منهم والحروف كلها تذكر وتؤنث واختار التذكير في وصف هذه الحروف هنا لما كانت عبارة عن ذكور فقال مثلث وليس بأغفلا وكذا الأربعة البواقي على ما يأتي فالضمير في وستتهم للقراء أي يعبر عنهم بالخاء ثم بين الستة منهم فقال
(50)
عَنَيْتُ الْأُلَى أَثْبَتُّهُمْ بَعْدَ نَافِعٍ وَكُوفٍ وَشَامٍ ذَا لُهُمْ لَيْسَ مُغْفَلاَ
الألى بمعنى الذين أي عنيت بالستة الذين ذكرتهم بعد ذكر نافع وهم باقي السبعة ، وعبر عن الكوفيين وابن عامر وهو الشامي بالذال وقال ليس مغفلا ليميزه عن الدال ووجه قوله وكوف وشام وكذا ما يأتي بعده مثل وبصر ومك أنه حذف إحدى ياءي النسب تخفيفا كما يخفف المشدد لضرورة الشعر وكأن المحذوف المتحركة فبقيت الساكنة مع التنوين فحذفت لالتقاء الساكنين فصار كقاض والألف واللام مقدرة أو الإضافة ولهذا صح الابتداء به أي والكوفي والشامي أو وكوفيهم وشاميهم ذالهم التي هي عبارة عنهم منقوطة ثم قال
(51)
وَكُوفٍ مَعَ المَكِّيِّ بِالظَّاءِ مُعْجَماً وَكُوفٍ وَبَصْرٍ غَيْنُهُمْ لَيْسَ مُهْمَلاَ

المعجم من الحروف ما نقط من قولهم أعجمت الكتاب أي أزلت عجمته والمهمل ما لم ينقط ولسنا بخائضين في بيان مناسبة كل حرف لمن جعله له من جهة مخارج الحروف وصفاتها فإنه لو عكس ما ذكره لأمكن توجيهه أيضا والله أعلم
(52)
وَذُو النَّقْطِ شِينٌ لِلْكِسَائِي وَحَمْزَةٍ وَقُلْ فِيهِمَا مَعْ شُعْبَةٍ صُحْبَةٌ تَلاَ
شين بدل من وذو النقط وتمت حروف أبجد واحتاج إلى الاصطلاح في التعبير عن جماعات يكثر اتفاقهم على القراءة فوضع ثماني كلمات لمن يأتي ذكرهم وهي صحبة صحاب عم سما حق نفر حرمي حصن منها ما هو دال على اثنين وهو عم حق حرمي والبواقي مدلولها جماعة فجعل لحمزة والكسائي إذا اتفق معهما أبو بكر عن عاصم لفظ صحبة كقوله رمى صحبة وصحبة يصرف ، وتارة رمز لهم بالحروف كقوله وموص ثقله صح شلشلا وتلا بمعنى تبع أي تبع ما قبله في أنه رمز وليس بصفة لصحبة وإلا تقيدت وأشعر اللفظ بأنه المجموع هو الرمز وكذا ما يأتي في قوله نفر حلا
(53)
صِحَابٌ هَمَا مَعْ حَفْصِهِمْ عَمَّ نَافِعٌ وَشَامٍ سَمَا فِي نَافِعٍ وَفَتَى الْعَلاَ
هما يعني حمزة والكسائي مع حفص عن عاصم يعبر عنهم بصحاب ولفظ عم دليل نافع وشام وسما مستقر في التعبير به عن نافع ، وفتى العلا وهو أبو عمرو بن العلا وفي ابن كثير وهو المراد بقوله ومك في البيت الآتي
(54)
وَمَكٍّ وَحَقٌّ فِيهِ وَابْنِ الْعَلاَءِ قُلْ وَقُلْ فِيهِمَا وَالْيَحْصُبِي نَفَرٌ حَلاَ
فيه أي في المكي وهو ابن كثير أي استقر لفظ حق فيه وفي ابن العلاء فحذف حرف الجر من المعطوف على الضمير المجرور وهو جائز في الشعر مختلف فيه في غيره ولفظ نفر قل فيهما أي في ابن كثير وأبي عمرو وفي اليحصبي وهو ابن عامر فحذف حرف الجر أيضا
(55)
وَحِرْمِيٌّ الْمَكِّيُّ فِيهِ وَنَافِعٍ وَحِصْنٌ عَنِ الْكُوفِي وَنَافِعِهِمْ عَلاَ

أي ولفظ حرمي اشترك فيه ابن كثير ونافع وهو نسبة إلى الحرم والحرم والحرم واحد ، فإن قلت هذه نسبة صحيحة فتكون كالعبارة الصريحة فقوله حرمي كقوله مكي وبصري وشامي وكوفي لأن كل واحد من ابن كثير ونافع منسوب إلى الحرم هذا من حرم مكة وذا من حرم المدينة ، قلت موضع الرمز كون اللفظ مفردا أراد به مثنى ولم يستعمل المفرد لإلباسه إذ لا يعلم أي الحرميين أراد والتصريح بنسبتهما أن يقول الحرميان كما يقوله صاحب العنوان وغيره ولكونه جعل هذا اللفظ رمزا لم يتصرف فيه بحذف ياء النسبة ولا تخفيفها بخلاف قوله ومن تحتها المكي سوى الشام ضموا إشعارا بأنه رمز لا نسبة ، ثم قال وحصن جعلته عبارة عن الكوفيين ونافع وقوله علا أي الحصن أو المذكور أي ظهر المراد وانكشف وهذه الألفاظ الثمانية تارة يأتي بها بصورتها وتارة يضيف بعضها إلى ضمير القراء كقوله ونذر أصحابهم حموه كما قال وكوفيهم تساءلون شاميهم تلا وتارة يضيفه إلى الهاء والكاف نحو وحامية بالمد صحبته كلا وقل مرفقا فتح مع الكسر عمه حقه بتنبت وحقك يوم لا ثم قال
(56)
وَمَهْماَ أَتَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ كِلْمَةٌ فَكُنْ عِنْدَ شَرْطِى وَاقْضِ بِالْوَاوِ فَيْصَلاَ

أي هذه الكلمات الثماني التي وضعتها رمزا تارة أستعملها مجردة عن الرمز الحرفي الذي تقدم ذكره وتارة يجتمعان ، فإذا اجتمعا لم ألتزم ترتيبا بينهما فتارة يتقدم الحرف على الكلمة وتارة تتقدم الكلمة على الحرف كقوله وعم فتى نعم عم صحبة كهف كفء صحبة وتارة تتوسط الكلمة بين حرفين كقوله صفو حرميه رضى يبشركم سما نعم ، ومدلول كل واحد من الحرف والكلمة بحاله لا يتغير بالاجتماع فهذا معنى قوله فكن عند شرطي أي على ما شرطته واصطلحت عليه من موضوع كل واحد منهما أي أنه باق بحاله واقض بالواو فيصلا عند انتهاء كل مسألة سواء كان رمزها بالحرف أو بالكلمات أو بهما إلا حيث لا ريبة في الاتصال كقوله وخفف حق سجرت البيت ، فالمعنى مهما أتت من قبل الرمز الحرفي أو من بعده كلمة من هذه الكلمات الثماني أو مهما أتت من قبل هذه الكلمات الثماني أو بعدها كلمة من الكلمات التي تدخل حروف أوائلها على القارئ سواء كان مفردا كالألف والدال أو مجتمعا كالشين والذال ، وفي مهما بحوث حسنة ذكرناها في الشرح الكبير ، وحاصله أنها في استعمال الناظم هنا وفي قوله ومهما تصلها أو بدأت براءة بمعنى شيء ما ووجه صحة هذا الاستعمال أن مهما مركبة من ما التي للشرط ومن ما المزيدة للتأكيد ثم أبدلت ألف ما الجزائية هاء فصار مهما ، وقد استقر أن ما الجزائية تتضمن معنى الزمان ولهذا يقال لها الظرفية كقوله تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، فمتى أبدلت ألف الظرفية هاء لدخول المزيدة عليها صار مهما متى ما ومتى كانت المبدلة غير ظرفية لم تكن بهذا المعنى والله أعلم
(57)
وَمَا كانَ ذَا ضِدٍّ فَإِنِّي بَضِدِّهِ غَنّيٌّ فَزَاحِمْ بِالذَّكاءِ لِتَفْضُلاَ

أي وما كان من وجوه القراءات له ضد فإنه يستغني بذكر أحدهما عن ذكر الآخر فيكون من سمى يقرأ بما ذكر ومن لم يسم يقرأ بضد ما ذكر كقوله ، وخف لووا إلفا فيعلم أن غير نافع يشدده وليس هذا الاستغناء بلازم فإنه قد يذكر القراءة الأخرى المعلومة من الضد كقوله ولكن خفيف والشياطين رفعه البيت وإن لم تكن القراءة الأخرى تعلم بالضد ذكرهما نحو أوصى بوصي كما اعتلا أنجيت للكوفي أنجا تحولا ، ومتى لفظ بالقراءتين فلا حاجة إلى تقييد واحدة منهما فإن قيده كان زيادة بيان كما فعل في وما يخدعون وإنما قال بضده ولم يقل به ولا بذكره لأنه قصد المعنى المذكور في قوله تعالى (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) ، ولم يقل فتذكرها أي أيتهما ضلت ذكرتها الأخرى فهذا اللفظ أوغل في الإبهام من ذكر الضمير وكذا قوله بضده أي استغنى بأحد الضدين عن الآخر ، واعلم أنه لم يبن كلامه في الأضداد هنا على ما يعلم بالعقل أنه ضده بل بعضه كذلك وبعضه اصطلح هو عليه وبيان ذلك فيما ذكر من الأمثلة كما سيأتي وقد لف بعضها ببعض والذكي يميز ذلك ولهذا قال فزاحم بالذكاء لتفضلا
(58)
كَمَدٍّ وَإِثْبَاتٍ وَفَتْحٍ وَمُدْغَمٍ وَهَمْزٍ وَنَقْلٍ وَاخْتِلاَسٍ تَحَصَّلاَ

شرع يمثل الألفاظ التي يستغنى بها عن أضدادها أو بأضدادها عنها أي هي كمد وما بعده ، وقوله ومدغم اسم مفعول ويجوز أن يكون مصدرا وهو أولى ليناسب ما قبله وما بعده من الكلمات المذكورات ، وهي منقسمة إلى ماله ضد معين وإلى ما ليس كذلك فالأول يفهم بالعقل والثاني بالاصطلاح وإنما أشرح ما ذكره واحدا واحدا وأبين ما فيه وأزيد على ما ذكره أمثلة أخر ، أما المد فضده القصر وهو متعين وكلاهما مستعمل مستغنى به عن الآخر في هذه القصيدة كقوله وفي حاذرون المد وفي لابثين القصر ومد وخفف ياء زاكية وآتاكم فاقصر ، وأما الإثبات فضده الحذف وكلاهما مستعمل وما في معناهما كقوله وتثبت في الحالين واحذف الواو ودخللا والواو زد بعد مفسدين وما الواو دع كفى وزد ألفا من قبله فتكملا وعدنا جميعا دون ما ألف حلا وقبل يقول الواو غصن وأسقط الأولى في اتفاقهما معا ، وأما الفتح فلم يكن له حاجة إلى ذكره لأنه سيذكر فيما بعد أنه آخا بين الفتح والكسر فصارا ضدين بالاصطلاح وإن كان أراد به أنه ضد للإمالة كما ذكره الشيخ في شرحه فهو قليل الفائدة لم يستعمله إلا في قوله في سورة يوسف والفتح عنه تفضلا وفي باب الإمالة ولكن رءوس الآي قد قل فتحها وإنما الذي يستعمله كثيرا الإمالة وضدها ترك الإمالة ويعبر عنه بعض القراء بالفتح كما يعبر بعض النحويين عن الإمالة بالكسر ويعبر الناظم عنها أيضا بالإضجاع نحو وإضجاعك التوراة ما رد حسنه ، وأما المدغم فضده المظهر وكلاهما مستعمل نحو وأدغم باقيهم تمدونني الإدغام وأظهر لدى واع ومن حيى اكسر مظهرا ، وأما الهمز فضده ترك الهمز وكلاهما مستعمل وترك الهمز قد يكون بحذفه وهو حيث لا صورة له في الرسم كقوله وفي الصابئين الهمز والصابئون خذ وننسها مثله من غير همز وقد يكون بإبداله بالحرف الذي صور به الهمز كقوله وحيث ضياء وافق الهمز قنبلا وبادئ بعد الدال بالهمز حللا ويأجوج مأجوج اهمز الكل ناصرا ويهمز ضيزى وفي ضد ذلك وورش

لئلا والنسيء بيائه ويجوز أن يقال الهمز وتركه من باب الإثبات والحذف فكان مغنيا عنه ، وأما النقل فعبارة عن تحويل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها مع حذف الهمزة فضد ذلك إبقاء الهمز على حاله والساكن على حاله ولم يقع التقييد في القصيدة إلا بالعقل لا بضده نحو ونقل ردا عن نافع ونقل قران والقران وفي معنى النقل لفظا التسهيل والإبدال كقوله لأعنتكم بالخلف أحمد سهلا وسهل أخا حمدوكم مبدل جلا وتسهيل أخرى همزتين وحمزة عند الوقف سهل همزه وضد ذلك كله تحقيق الهمز وقد استعمله في قوله وحققها في فصلت صحبة أآلهه كوف يحقق ثانيا ، وأما الاختلاس فضده إكمال الحركة لأن معناه خطف الحركة والإسراع بها وضده ترك ذلك وهو التؤدة في النطق بها تامة كاملة والاختلاس كالنقل في أنه لم يقع التقييد إلا به دون ضده مع أن استعماله قليل كقوله وكم جليل عن الدوري مختلسا جلا وقد عبر عنه بالإخفاء كثيرا كقوله وإخفاء كسر العين وأخفى العين قالون وأخفى بنو حمد وأخف حلوبر وقوله تحصلا أي تحصل في الرواية وئبت والله أعلم
(59)
وَجَزْمٍ وَتَذْكِيرٍ وَغَيْبٍ وَخِفَّةٍ وَجَمْعٍ وَتَنْوِينٍ وَتَحْرِيكٍ اْعَمِلاَ

ضد الجزم عنده الرفع ولا ينعكس الأمر فهذا مما اصطلح عليه فإذا كانت القراءة دائرة بين الجزم والرفع فإن ذكر قراءة الجزم ذكر الجزم مطلقا بلا قيد فتكون القراءة الأخرى بالرفع لأنه ضده عنده كقوله وحرفا يرث بالجزم وإن ذكر قراءة الرفع لم يطلق ذلك لأن ضد الرفع النصب على ما يأتي من اصطلاحه بل يقيد ذلك كقوله وتلقف ارفع الجزم يضاعف ويخلد رفع جزم يصدقني ارفع جزمه فكان الواجب أن يذكر الجزم مع الرفع والضم في قوله وحيث أقول الضم والرفع لأن كل واحد منهما لا ينعكس ضده به ، وأما التذكير فضده التأنيث وكلاهما مستعمل كقوله وذكر تسقي عاصم وأنث يكن عن دارم وليس بلازم أن يكونا عبارتين عن الياء والتاء في أفعال المضارعة فقد يأتي غير ذلك كقوله وذكر فناداه وذكر مضجعا توفاه ، وأما الغيبة فضدها الخطاب عنده وكلاهما مستعمل كقوله ولا يعبدون الغيب وبالغيب عما يعملون وخاطب تروا شرعا وفي أم تقولون الخطاب وللتحقيق أن ضد الغيبة الحضور ، والحضور ينقسم إلى خطاب وتكلم وتردد القراءة بين الغيبة والخطاب كثير فجعلهما ضدين والتردد بين الغيب والتكلم قليل كقوله تعالى في الأعراف (وإذ أنجيناكم من آل فرعون) ، يقرؤه ابن عامر على الغيبة وإذ أنجاكم فعبر الناظم عن هذا بالحذف والإثبات فقال وانجا بحذف الياء والنون كفلا ، والخفة ضدها الثقل وكلاهما قد جاء كقوله وخف قدرنا دار وثقل غساقا معا ومثله وشدد حفص منزل ، والجمع ضده التوحيد ومثله الإفراد والكل مستعمل كقوله وجمع رسالاتي رسالات فرد ووحد حق مسجد الله خطيئته التوحيد لكنه إذا ذكر لفظ الجمع كان ضده معلوما وهو الإفراد والتوحيد وإذا ذكر التوحيد فضده الجمع إلا أن الجمع على قسمين جمع سلامة وجمع تكسير فإن لفظ به اتضح كقوله رسالات فرد وإن لفظ بالإفراد فتارة يكون ضده جمع السلامة كقوله خطيئته التوحيد وتارة جمع التكسير كقوله ووحد حق مسجد الله وهنا يمكن التلفظ بالجمع فيقرأ البيت خطيآته

التوحيد ولكل واحد من الجمع والإفراد ضد آخر وهو التثنية ولكن لم يجيء إلا ضميرها ولقلته أدرجه في باب الحذف والإثبات تارة كقوله ودع ميم خيرا منهما وتارة أدرجه في باب المد والقصر كقوله وحكم صحاب قصر همزة جاءنا والتنوين ضده ترك التنوين إما لعدم الصرف وإما للإضافة وكلاهما قد استعمله بهذا اللفظ وبما يؤدي معناه كقوله ونونوا عزيز رضا نص ثمود مع الفرقان والعنكبوت لم ينون وقلب نونوا من حميد خالصة أضف أكل أضف حلا ، وقد يعبر عن التنوين بالنون نفيا وإثباتا كقوله شهاب بنون ثق معا سبأ افتح دون نون وفي درجات النون ولا نون شركا ولو تجنب ذلك لكان أحسن لأنه قد آخى بين النون والياء كما يأتي فيتحد اللفظ والضد يختلف فيقول تارة نغفر بنونه فيكون ضده الياء وضابطه أن يكون الحرف المختلف فيه فعلا مضارعا ، وحيث يكون الحرف المختلف فيه اسما تكون النون فيه عبارة عن التنوين ، وأما التحريك فضده الإسكان سواء كان التحريك مقيدا أو مطلقا وكلاهما مستعمل كقوله معا قدر حرك وحرك عين الرعب ضما وسكن معا شنآن وأرنا وأرني ساكنا الكسر وقوله اعملا أي اجعل عاملا في الحرف ما يتصف به الحرف من ارتفاع وانفتاح وانخفاض فمتى ذكر التحريك فضده السكون ومتى ذكر اسم الحركة دونها فالضد له مثاله إذا قال ارفع فضده انصب وإذا قال انصب فضده اخفض وإذا قال اخفض فضده انصب ولا مدخل للسكون في القراءة المسكوت عنها ، وإن ذكر التحريك مع واحد من هذه الثلاثة فالضد له وهو السكون ولا التفات إلى كونه قد قيد التحريك بضم أو فتح أو كسر مثاله قوله وتسأل ضموا التاء واللام حركوا برفع فلأجل قوله حركوا أخذنا السكون للقراءة الأخرى ولم نأخذ ضد الرفع ولو قال موضع حركوا برفع رفعوا لأخذنا ضد الرفع وهو النصب وكذا قوله وحمزة وليحكم بكسر ونصبه يحركه لولا قوله يحركه لكانت قراءة الباقين بفتح اللام وخفض الميم فلما قال يحركه سكن الحرفان فاعرف ذلك فإنه قل من أتقنه فهذا شرح

ما ذكر من أمثلة الأضداد في هذين البيتين وقد استعمل ألفاظا أخر كثيرة لم يذكرها هنا منها التقديم والتأخير كقوله هنا قاتلوا أخر وختامه بفتح وقدم مده ومنها القطع والوصل كقوله وشام قطع اشدد وشدد وصل وامدد ، ويجيء صل بمعنى آخر وهو وصل ميم الجمع وهاء الكناية بواو أو ياء وضده ترك ذلك ، ومنها الإهمال الدال على النقط في القراءة الأخرى كقوله في سورة الأنعام في يقض الحق شدد وأهملا ومنها الاستفهام والخبر كقوله واستفهام إنا صفا ولا وأخبروا بخلف إذا ما مت وغير ذلك مما يأتي في مكانه إن شاء الله تعالى
(60)
وَحَيْثُ جَرَى التَّحْرِيكُ غَيْرَ مُقَيَّدٍ هُوَ الْفَتْحُ وَالْإِسْكانُ آخَاهُ مَنْزِلاَ

يعني إذا أطلق التحريك فمراده به الفتح دون الضم والكسر مثاله معا قدر حرك من صحاب أي افتح الدال وقال في الضم والكسر وحرك عين الرعب ضما وضيقا مع الفرقان حرك مثقلا بكسر فقيدهما ولم يطلق لفظ التحريك ، وقوله والإسكان آخاه فيه وجهان أحدهما أن السكون آخا التحريك غير المقيد في أنه متى ذكر غير مقيد فضده التحريك المطلق وهو الفتح أي كأنه قال سكن حركة الفتح كقوله ويطهرون في الطاء السكون فضد السكون هنا الفتح ، أما إذا كان ضد السكون حركة غير الفتح فإنه يقيدها كقوله وأرنا وأرني ساكنا الكسر وفي سبلنا في الضم الإسكان ، وقد استعمل الأمرين معا في نصف بيت في حرف دار ست حق في سورة الأنعام فقال وحرك وسكن كافيا فأطلق التحريك والإسكان فكان المراد بما نطق به من الحركة وبضد السكون الفتح فابن عامر افتح السين وسكن التاء والباقون سكنوا السين وفتحوا التاء ، الوجه الثاني أن تكون الهاء في آخاه عائدة على التحريك كله المطلق والمقيد والمراد بالإخوة الضدية كما قال في البيت بعده وآخيت بين النون والياء ويفهم من الإسكان المطلق أن ضده الفتح لأن ضده الحركة المطلقة ، وقد قال وحيث جرى التحريك غير مقيد هو الفتح يعني سواء جرى ذكره نصا صريحا أو أخذ ضدا لما نص على إسكانه مطلقا ولهذا قلت أنا بدل هذا البيت ما أظنه وفيا إن شاء الله تعالى بالمقصود ، (وإن أطلق التحريك نصا ولازما من الضد فهو الفتح حيث تنزلا) ، ولم يخرج عن الأصل الذي ذكره إلا قوله وفي الصعقة اقصر مسكن العين وكان حقه أن يقول مسكن الكسر وأما قوله وإسكان بارئكم فيأتي الكلام عليه في موضعه ومنزلا تمييز وهو مصدر أي آخاه نزولا أو اسم مكان أي آخا منزل كل واحد منهما الآخر وقيل هو ظرف والله تعالى أعلم
(61)
وَآخَيْتُ بَيْنَ النُّونِ وَالْيَأ وَفَتْحِهِمْ وَكَسْرٍ وَبَيْنَ النَّصْبِ وَالخَفْضِ مُنْزِلاَ

أي وبين فتحهم وكسر فحذف بين لدلالة ما قبله وبعده عليه والمعنى بالمؤاخاة أنه جعل كل اثنين مقترنين من هذه الستة يغني ذكر أحدهما عن الآخر كقوله ويدخله نون مع طلاق ويؤتيه باليا في حماه أن الدين بالفتح رفلا إن الله يكسر في كلا وانصب بينكم عم وقوم بخفض الميم وأراد بالفتح والكسر حركتي البناء وبالنصب والخفض حركتي الإعراب وفائدة محافظته على ذلك الاختصار فإن الكلمة تشتمل على حركات البناء والإعراب فإذا اتفق الخلاف في كلمة فيها حركتا إعراب وبناء من جنس واحد كضمة ورفع وفتحة ونصب وكسرة وجر أولا من جنس واحد فإذا كان الخلاف في حركة البناء قال اكسر وإذا كان في حركة الإعراب قال اخفض أو جر ولو لم يكن ملتزما لهذه التفرقة لما علم عند إطلاقه أنه قصد الحرف الذي فيه حركة البناء أو حرف الإعراب مثاله قوله والوتر بالكسر شائع فلفظ الوتر مشتمل على الكسر والفتح في الواو والجر في الراء فتعلم من قوله بالكسر أنه أراد كسر الواو وقوله وفك ارفعن تعلم أنه أراد حركة الكاف لا الفاء ثم قال وبعد اخفضن يعني آخر رقبة واكسر يعني همزة إطعام مع الرفع يعني في ميم إطعام وقد اختل عليه هذا الالتزام في موضع واحد سهوا وهو قوله في الزخرف وفي قيله اكسر واكسر الضم وصوابه اخفض في الأول لأنه للام وهو حرف إعراب وأما قوله في تضارر وضم الراء حق وهي حركة إعراب فلأجل القراءة الأخرى بالفتح لأنها حركة بناء فلم يكن له بد من الإخلال بأحدهما وأما قوله في الأنعام رسالات فرد وافتحوا وإنما هو نصب وكذا قوله في الأعراف ويقصر ذريات مع فتح تائه فسيأتي عذر حسن عنهما في موضعهما إن شاء تعالى ومنزلا حال من التاء في وآخيت
(62)
وَحَيْثُ أَقُولُ الضَّمُّ وَالرَّفْعُ سَاكِتاً فَغَيْرُهُمُ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ أَقْبَلاَ

في حيث معنى الشرط فلهذا دخلت الفاء في الجواب في قوله فغيرهم كقوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك) ، وسقطت في البيت المتقدم وحيث جرى التحريك غير مقيد هو الفتح أي فهو الفتح وقوله الضم مبتدأ محكي والرفع عطف عليه والخبر محذوف أي الضم لفلان والرفع لفلان وأقبل خبر فغيرهم لأنه مفرد لفظا وإن أضيف إلى جماعة من القراء والضم حركة بناء والرفع حركة إعراب وقوله ساكتا أي مقتصرا على ذلك غير منبه على قراءة الباقين أي أقول هذا ساكتا عن غيره مثال ذلك وفي إذ يرون الياء بالضم كللا وحتى يقول الرفع في اللام أولا فقراءة الباقين بالفتح في ياء يرون وبالنصب في لام يقول فإذا كانت قراءة الباقين ليست بفتح ولا نصب فإنه لا يسكت حينئذ بل يبين ذلك بالتقييد كقوله وجزء أو جزؤ ضم الإسكان صف ورضوان اضمم كسره يضاعف ويخلد رفع جزم وخضر برفع الخفض ويرفع بعد الجر ، واعلم أنه لم يواخ بين ما ذكر في هذا البيت بخلاف ما في البيت المتقدم فإن الفتح ليس ضده الضم وإنما ضده الكسر وكذلك النصب ضده الخفض لا الرفع وقد سبق أنه كان ينبغي له أن يذكر الجزم هنا لأنه إذا ذكر الجزم فالقراءة الأخرى بالرفع وإذا ذكر الرفع فالأخرى بالنصب وإذا ذكر النصب فالأخرى بالخفض ولا ينعكس إلا هذا الأخير لأنه آخا بين النصب والخفض فجعلهما ضدين باصطلاحه ثم سواء في ذلك المثبت والمنفي من هذه التقييدات كلها فالأضداد لا تختلف بذلك فقوله في البقرة نغفر بنونه ولا ضم معناه افتح ، واعلم أنه كما يطلق حركات البناء والإعراب فقد يقيدهما بذكر الحرف الذي هما فيه كقوله وبا عبد اضمم وفتحك سين السلم يضركم بكسر الضاد الرفع في اللام أولا وبا ربنا بالنصب وقوم بخفض الميم ومن المواضع المطلقة في حركة البناء ما يلبس نحو وضمهم في يزلقونك خالد وكان يمكنه أن يقول وضمهم يا يزلقونك والله أعلم
(63)

وَفي الرَّفْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالْغَيْبِ جُمْلَةٌ عَلَى لَفْظِهَا أَطْلَقْتُ مَنْ قَيَّدَ الْعُلاَ
جملة مبتدأ خبره ما قبله وما بعد جملة صفة لها ومن موصولة أو موصوفة أي وفي هذه الثلاثة جملة مواضع في هذه القصيدة أطلقت أي أرسلت على لفظها من غير تقييد من قيد العلا أي حصله وحازه أو حصلها أو حازها لأن العلا يحتمل الإفراد والجمع أو يكون التقدير من حاز الرتب العلا في الفهم والذكاء لأنه لا يكاد يفهم مثل هذه الدقائق إلا من كان كذلك ، ومعنى البيت أن هذه الثلاثة وهي الرفع والتذكير والغيب يذكر الكلمات التي هي فيها مطلقة فيعلم من إطلاقه أنها هي المرادة أضدادها مثاله وأربع أولا صحاب ويجبي خليط وبل يؤثرون حز ، فيعلم من هذا الإطلاق أن مقصوده الرفع في أربع والياء في يجبي وهي الدالة على التذكير والياء في يؤثرون وهي الدالة على الغيب ، وكل قراءة دائرة بين الياء والتاء فهي إما تذكير أو تأنيث أو غيب أو خطاب فلا يقيدها إذا أراد تقييدها إلا بهذه العبارة نحو وذكر يكن شاف ولا يعبدون الغيب وأنث تكن عن دارم وخاطب تروا شرعا وإنما يقيد بالياء ما كان ضده النون كما سبق فقوله في سورة الأحزاب ويعمل يؤت بالياء قوله بالياء تقييد ليؤت ليكون قراءة الباقين بالنون ولا يكون تقييدا ليعمل لأن القراءة الأخرى بالتاء للتأنيث فقوله ويعمل لفظ مطلق تعلم من إطلاقه أنه أراد به التذكير ثم هذا الإطلاق في هذه الثلاثة ليس بلازم بل أخبر أنه وقع منها مواضع مطلقة ووقعت أيضا مواضع مقيدة كما سبق تمثيله في الغيب والخطاب والتذكير والتأنيث ومثله في الرفع وقل مثل ما بالرفع وقد اجتمع إطلاق الثلاثة في بيت واحد في سورة الأعراف وخالصة أصل البيت ، ويجوز أن يكون وخالصة مقيدا بما قبله من قوله ولباس الرفع كما استغنى بذكر الخفة في الأول عن الخفة في الثاني نحو ورب خفيف إذ نما سكرت دنا ما نزل الخفيف إذ عز والصادان والله أعلم
(64)

وَقبْلَ وبَعْدَ الْحَرْفِ آتِي بِكُلِّ مَا رَمَزْتُ بِهِ فِي الْجَمْعِ إِذْ لَيْسَ مُشْكِلاَ
أراد وقبل الحرف وبعده والمراد بالحرف كلمة القراءة والرمز في اللغة الإشارة والإيماء ، ولما كانت هذه الكلمات والحروف التي جعلها دلالة على القراء كالإشارة إليهم سماها رمزا وأراد بما رمز به في الجمع الكلمات الثماني فإنها هي التي لا يشكل أمرها في أنها رمز سواء تقدمت على الحرف أو تأخرت أما الحروف الدالة على الجمع كالثاء والخاء وما بعدهما فلها حكم الحروف الدالة على القراء منفردين وقد التزم ذكرها بعد الحرف بقوله ومن بعد ذكرى الحرف أسمى رجاله لينحصر موضعها فلا يتعدد المحال على الناظر المفكر فيها نعم إذا اجتمعت الحروف المرموزة للإفراد وللاجتماع مع شيء من كلمات الرمز تبعت الحروف الكلمات تتقدم معها وتتأخر إذ لفظ الكلمات دل على محل الرمز كقوله وحق نصير كسر واو مسومين على حق السدين ثقل نشرت شريعة حق ومنزلها التخفيف حق شفاؤه وقد نبه على ذلك قوله ومهما أتت من قبل أو بعد كلمة كما سبق ، ويحتمل أن يكون هذا المعنى مستفادا من هذا البيت وأراد بكل ما رمزت به الحروف كلها وقوله في الجمع أي آتى بها مع كلمات رمز الجمع فهو من باب قوله تعالى (فادخلي في عبادي) ، ويقوي هذا المعنى أنه لو أراد المعنى الأول لقال للجمع باللام فلما عدل إلى لفظ في من غير ضرورة دلنا على أنه لمح هذا المعنى فإذا ثبت جواز هذا قلنا يحتمل أيضا أن يكون معنى قوله ومهما أتت من قبل أو بعد كلمة هو المعنى الذي جعلناه أولا لهذا البيت أي من قبل الحرف المختلف فيه أو من بعده كلمة أي الكلمات الثماني لا التزام لها قبلية ولا بعدية بل آتى بها كذا وكذا والله أعلم ، فهذه ثلاثة أبيات فرقها وكان الأولى اتصالها وجميع كلمات الرمز اتفق له تقديمها وتأخيرها على حرف القراءة وفاء بعموم قوله بل ما رمزت به كقوله رمى صحبة وصحبة يصرف من يرتدد عم وعم بلا واو الذين فتذكر

حقا وحقا بضم الحاء فلا يحسبنهم وما موصولة أو موصوفة وإذ تعليل واسم ليس ضمير الأبيات الدال عليه آتى
(65)
وَسَوْفَ أُسَمِّي حَيْثُ يَسْمَحُ نَظْمُهُ بِهِ مُوضِحاً جِيداً مُعَمًّا وَمُخْوَلاَ
أي أذكر اسم القارئ صريحا حيث يسهل علي نظمه قبل الحرف وبعده يقال سمح به أي جاد به فالهاء في نظمه وبه عائدة على الاسم الدال عليه أسمى ، ويجوز أن تكون في نظمه عائدة على الشعر للعلم به من سياق الكلام ، وقد استقريت المواضع التي سمى فيها فوجدته قد استوعب جميع السبعة ورواتها الأربعة عشر ، ومن عادته أن لا يأتي في ترجمة واحدة برمز مع اسم صريح استمر له هذا ولم ينبه عليه وإنما علم بالاستقراء ولولا ذلك للزم الإشكال في نحو قوله في سورة النساء يصلون ضم كم صفا نافع بالرفع واحدة جلا فلم يأت بواو فاصلة بين حرف يصلون وواحدة فكان ذكره لنافع محتملا أن يكون من جملة رجال ضم يصلون ويكون جلا رمز قراءة واحدة بالرفع ولكن لما كان محافظا على تلك القاعدة بان أن قوله نافع ابتداء مسألة وجلا ليس برمز وليس لك أن تقول هو مثل قوله شاع تنزلا أي أنه رمز مكرر لما تقدم من أنه لا يرمز مع مصرح به كما أنه لا يصرح مع مرموز به وهذا كله مخصوص بالقراءة الواحدة وإلا فيجوز له في الحرف الواحد المختلف فيه أن يرمز لقراءة ويسمى للقراءة الأخرى في ذلك الحرف كما قال وقالون ذو خلف بعد قوله له دار جهلا وقوله سوى أو وقل لابن العلا وبكسره لتنوينه ، قال ابن ذكوان بعد قوله كسره في ندخلا وقوله ووجهان فيه لابن ذكوان بعد قوله لاح وجملا وكذا يصرح إذا استثنى من رمز كقوله وأن لعنة التخفيف والرفع نصه سما ما خلا البزي وإضجاع راكل الفواتح ذكره حمى غير حفص ليقضوا سوى بزيهم نفرجلا غلبوا سوى شعبة ، ثم التصريح يكون باسم القارئ أو كنيته أو نسبته أو ضميره كقوله ونقل ردا عن نافع وقطبه أبو عمرو وكوفيهم تساءلون وما قبله التسكين لابن كثيرهم يمد هشام واقفا معهم ولا

وبصروهم أدرى ، وأما حرمى فإنه وإن كان نسبة إلا أنه جعله رمزا فيجئ بالرمز معه كقوله وإستبرق حرمي نصر ، ثم تمم الناظم رحمه الله هذا البيت بألفاظ يصعب على الطالب المبتدى فهمها مع أنه مستغن عنها والبيت مفتقر إلى أن ينبه فيه على أنه إذا صرح باسم القارئ لا يأتي معه برمز فلو أنه بين ذلك في موضع تلك الألفاظ لكان أولى نحو أن يقول ، (وسوف أسمى حيث يسمح نظمه به خاليا من كل رمز ليقبلا) وموضحا حال من فاعل أسمى وقيل لفظ به الذي قبله يتعلق به ، والجيد العنق ، والمعم والمخول الكريم الأعمام والأخوال لأن كلا من الفريقين يزين ذلك الجيد ، فمعناه أوضح شيئا يشبه جيدا هذه صفته أو أوضحه إيضاح جيد بهذه الصفة ، وقال امرؤا القيس ، (بجيد معم في العشيرة مخول ) ، فأضاف الجيد إلى الموصوف بذلك وكذا وجدته في استعمالهم يصفون به الجملة لا يخصون به الجيد كقوله ، (معم لعمري في الجياد ومخول ) ، وقال يحيى بن عروة بن الزبير ، (أنا والله المعم المخول تفرقت العرب عن عمي وخالي) ، يريد عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم
(66)
وَمَنْ كانَ ذَا بَابٍ لَهُ فِيهِ مَذْهَبٌ فَلاَ بُدَّ أَنْ يُسْمَى فَيُدْرَى وَيُعْقَلاَ

أي ومن كان من القراء منفردا بمذهب مطرد قد بوب له باب في الأصول فلابد من أن يسمى ذلك الباب كقوله باب الإدغام الكبير باب هاء الكناية ونحو ذلك ، أو يكون المعنى فإني ألتزم التصريح باسمه ولا أرمزه زيادة في البيان كقوله وحمزة عند الوقف ورقق ورش فإن وافقه غيره في شيء منه أو عرض له فيه مذهب يناسبه فربما سمى ذلك الغير وربما ذكره رمزا كما في باب هاء الكناية ونقل الحركة والإمالة وقولهم لابد من كذا أي لا فرار منه والتقدير من أن يسمى وهذا آخر ما أعلمنا به مما يستعمله في نظمه رمزا وتقييدا وقد نبهت على فوائد فاتته فيها من قوله جعلت أبا جاد إلى هنا في الترتيب والنظم والاصطلاح وكنت أود به ذكر أبيات الرموز يتلو بعضها بعضا ثم ذكر كيفية استعمالها ثم اصطلاحه في الأضداد والتقييد ، وقد نظمت عشرة أبيات في موضع ثلاثة عشر بيتا وفيها من الزيادات والاحترازات كثير مما تقدم شرحه فلو أنه قال ، (حروف أبي جاد جعلت دلالة على القارئ المنظوم أول أولا) ، ثم قال ومنهن للكوفي ثاء مثلث إلى آخر الرمز في قوله ونافعهم علا ثم بين كيفية استعماله للرموز فقال ، (ومن بعد ذكرى الحرف رمز رجاله بأحرفهم والواو من بعد فيصلا) ، هذه العبارة أظهر من قوله أسمى رجاله وفيصلا حال ، (سوى أحرف لا ريب في وصلها وقد تكرر حرف الفصل والرمز مسجلا) ، أي حرف الرمز وحرف الفصل وهو الواو ، (وقبل وبعد الحرف ألفاظ رمزهم وإن صحبت حرفا من الرمز أولا) ، هذا بيت يتضمن بيتين ومعناهما فيه أظهر منه فيهما ، (وطورا أسميهم فلا رمز معهم وباللفظ أستغني عن القيد إن جلا) ، (وما كان ذا ضد غنيت بضده كصل زد ودع حرك وسهل وأبدلا) ، (ومد وتنوين وحذف ومدغم وهمز ونقل واختلاس وميلا) ، (وجمع وتذكير واغيب وخفة ورقق وغلظ أخر اقطع وأهملا) ، (وإن أطلق التحريك نصا ولازما من الضد فهو الفتح حيث تنزلا) ، (وحيث أقول الضم والجزم ساكتا فغيرهم بالفتح والرفع أقبلا) ، (وفي الرفع

والتذكير والغيب لفظها وبالفتح واليا الكسر والنون قوبلا) ، أي لفظها مغن عن تقييدها وقوبل الكسر بالفتح وقوبل النون بالياء ولم أعدد ألقاب الحركات باعتبار البناء والإعراب إذ ألقاب كل نوع تطلق على الآخر وهو مجرد اصطلاح ، والمعنى الذي ذكرناه في فائدة ذكره للمغايرة بينهما قد أعرض عنه حيث يبين حرف الإعراب والبناء كما سبق ، وقد يطلق حيث لا يتعين ذلك الحرف كما في يزلقونك فهو قليل الجدوى فالإعراض عنه أولى تخفيفا عن خاطر الطالب ، ثم شرع يثني على قصيدته ويصفها بالجزالة وصحة المعاني ويذكر ما اشتملت عليه من العلم فقال
(67)
أَهَلَّتْ فَلَبَّتْهَا المَعَانِي لُبَابُهاَ وَصُغْتُ بِهَا مَا سَاغَ عَذْباً مُسَلْسَلاَ
أي لكثرة ما أودعت من جيد المعاني كأنها كانت صرخت بها ، أي نادتها فأجابتها بالتلبية ولبابها بدل من المعاني بدل البعض من الكل وقيل بدل اشتمال وهو وهم أي لم يلبها إلا خيار المعاني وشرافها وصغت من الصياغة ويعبر بها عن إتقان الشيء وإحكامه ما ساغ أي الذي ساغ استعماله من الكلمات يقال ساغ الشراب أي سهل مدخله في الحلق وتسلسل الماء جرى في حدور وعذبا مسلسلا حالان من فاعل ساغ العائد على ما أو يكون مسلسلا صفة عذبا أي مشبها ذلك أو يكون عذبا نعت مصدر محذوف أي صوغا عذبا يستلذه السمع ويقبله الطبع
(68)
وَفي يُسْرِهَا التَّيْسِيرُ رُمْتُ اخْتَصَارَهُ فَأَجْنَتْ بِعَوْنِ اللهِ مِنْهُ مُؤَمَّلاَ

أي وفيما يسره الله سبحانه منها جميع مسائل كتاب التيسير في القراءات السبع من الطرق التي تقدم ذكرها فالتيسير مبتدأ وما قبله خبره وقيل في يسرها من صلة رمت أو اختصاره وجاز تقديمه على المصدر لأنه ظرف ورمت الشيء طلبت حصوله فأجنت أي كثر جناها منه أي من التيسير أو من الله تعالى ومؤملا حال من الهاء على التقديرين وقيل إن عادت على التيسير فهو تمييز ، ويجوز أن تكون الهاء في منه للاختصار ومؤملا حال منه ، ويجوز أن تكون من أجنيته الثمرة فيكون مؤملا مفعولا به ثانيا أي فأجنتني مؤملي ومنه على هذا يجوز تعلقه بأجنت وبمؤملا ولو قال على هذا المعنى المؤملا بالألف واللام لظهر المعنى وكان أحسن ، ومصنف التيسير هو الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني وأصله من قرطبة مقرئ محدث ، مات بدانية سنة أربع وأربعين وأربعمائة
(69)
وَأَلْفَافُهَاً زَادَتْ بِنَشْرِ فَوَائِدٍ فَلَفَّتْ حَيَاءً وَجْهَهَا أَنْ تُفَضَّلاَ
الألفاف الأشجار الملتف بعضها ببعض وفي الكتاب العزيز (وجنات ألفافا) ، أي ذوات ألفاف وحسن استعارة الألفاف هنا بعد قوله فأجنت لالتفاف المعاني فيها والأبيات كأن كل بيت ملتف بما قبله وبعده لتعلق بعضها ببعض وانضمامه إليه فتلك الألفاف نشرت فوائد زيادة على ما في كتاب التيسير من زيادة وجوه أو إشارة إلى تعليل وزيادة أحكام وغير ذلك مما يذكره في مواضعه ومن جملة ذلك جميع ، باب مخارج الحروف ثم بعد هذا استحيت أن تفضل على كتاب التيسير استحياء الصغير من الكبير والمتأخر من المتقدم وإن كان الصغير فائقا والمتأخر زائدا ، والذي لفت به وجهها أي سترته هو الرمز لأنها به كأنها في ستر وحياء مفعول له أو مصدر مؤكد مبين لمعنى لفت لأن لف الوجه يشعر بالحياء وأن تفضلا معمول حياء على حذف من أي من أن تفضلا أو هو معمول لفت على تقدير خشية أن تفضل
(70)

وَسَمَّيْتُهاَ "حِرْزَ الْأَمَانِي" تَيَمُّناً وَوَجْهَ التَّهانِي فَاهْنِهِ مُتَقبِّلاَ
الحرز ما يعتمد عليه في حفظ ما يجعل فيه ، والأماني جمع أمنية ، والتهاني جمع تهنئة وخفف ياء الأماني وأبدل همز التهاني ياء ساكنة لأنه لما استعملهما سجعتين سكنتا فخفف هذه وأبدل هذه لتتفقا ، ومعنى هذه التسمية أنه أودع في هذه القصيدة أماني طالبي هذا العلم وأنها تقابلهم بوجه مهنئ بمقصودهم وهو من قولهم فلان وجه القوم أي شريفهم ومعنى تيمنا تبركا وهو مفعول من أجله ، يريد أن هذه التسمية سبقت النظم ليكون كذلك وقوله فاهنه أي تهنأ بهذا الوجه أو بهذا الحرز من قولهم هنأت الرجل بفتح النون أهنئه بكسرها إذا أعطيته حكاه الجوهري أي أعطه القبول منك والإقبال عليه لتنال الغرض منه وكن له هنيئا كما تقول هنأني الطعام ، والمعنى ترفق به لتنال الغرض بسهولة ولا تنفر من الشيء قبل وقوفك على حقيقته وأصله فأهنئه بالهمز ثم أبدله لكونه ياء ثم حذفها للأمر فصار اهنه كارمه وفي جواز مثل هذا نظر من حيث النقل والقياس وقد بسطنا القول فيه في الشرح الكبير ومثله قول زهير ، (وإن لا يبد بالظلم يظلم ) ، وحكى ابن مجاهد في القراءات الشواذ (قال يا آدم أنبئهم) ، مثل أعطهم ومتقبلا حال أي في حال تقبلك إياه ولشيخنا أبي الحسن علي بن محمد رحمه الله من جملة أبيات ، (هذى القصيدة بالمراد وفية من أجل ذلك لقبت حرز المنى)
(71)
وَنَادَيْتُ أللَّهُمَّ يَا خَيْرَ سَامِعٍ أَعِذْنِي مِنَ التَّسْمِيعِ قَوْلاً وَمِفْعَلاَ

معنى اللهم يا الله الميم عوض عن حذف حرف النداء وقطع همزته ضرورة ثم كرر النداء بقوله يا خير سامع أعذني أي اعصمني ، والتسميع مصدر سمع بعلمه إذا عمله يريد به السمعة في الناس والشهرة ومثله راءى بعمله إذا عمله ليراه الناس فيثنوا عليه يقال فعل ذلك رثاء وسمعة وكلاهما خلق مذموم محبط للعمل كأن الناظم رحمه الله لما مدح نظمه بما مدحه به خاف أن يكون في ذلك تسميع فاستعاذ بالله سبحانه منه وقولا ومفعلا مصدران في موضع الحال من الياء في أعذني أي قائلا وفاعلا أو منصوبان على إسقاط الحافض أي فيهما وبهما ويكون العامل فيهما التسميع على هذا التقدير أو هما بدلان من ياء أعذني بدل اشتمال أي أعذ قولي وفعلي من التسميع وقيل هما تمييزان
(72)
إِلَيكَ يَدِي مِنْكَ الْأَيَادِي تَمُدُّهَا أَجِرْنِي فَلاَ أَجْرِي بِجَوْرٍ قَأَخْطَلاَ
يدي مفعول فعل مضمر أي إليك مددت يدي سائلا الإعاذة من التسميع والإجارة من الجور ثم قال الأيادي منك تمدها أي هي الحاملة لي على مدها والمسهلة لذلك أي هي التي أطمعتني في ذلك وجرأتني عليه وإلا فمن حقي أن لا أمدها حياء من تقصيري في القيام بما يجب من طاعتك ، والأيادي النعم جمع أيد وأيد جمع يد ، واليد النعمة ويجوز أن تكون يدي مبتدأ والأيادي مبتدأ ثان أي يدي الأيادي منك تمدها إليك والفاء في فلا أجري جواب الأمر وفي فأخطلا جواب النفي وهي ناصبة بإضمار أن في الموضعين وإنما سكن أجري ضرورة أو على تقدير فأنا لا أجري ، ومعنى فلا أجري بجوز أي فلا أفعله والجور ، الميل أي يميل عن طريق الاستقامة ، والخطل المنطق الفاسد وقد خطل بالكسر خطلا
(73)
أَمِينَ وَأَمْناً لِلأَمِينِ بِسِرِّهَا وَإنْ عَثَرَتْ فَهُوَ الْأَمُونُ تَحَمُّلاَ

أمين صوت أو اسم فعل بني آخره على الفتح ومعناه اللهم استجب وأمتا مفعول فعل مضمر معطوف على معنى أمين كأنه قال اللهم استجب وهب أمنا للأمين بسرها أي بخالصها وما فيها من الفوائد وهي لباب المعاني الذي تقدم ذكره ، وسر النسب محضه وأفضله ، وسر الوادي أفضل موضع فيه والباء في بسرها بمعنى على يقال هو أمين بكذا وعلى كذا والأمين الموثوق به دعاء له بالأمن وهو ضد الخوف ومن أمانته اعترافه بما فيها من الصواب وإذاعته وتعليمه ، والعثرة ، الزلة وأضافها إلى القصيدة مجازا أو إنما يريد عثرة ناظمها فيها ، والأمون الناقة الموثقة الخلق التي أمن ضعفها ، كأنه أمن منها العثور لقوتها أي إن كان فيها اختلال فاحتمله كما تتحمل هذه الناقة الأعباء الثقيلة وتصبر عليها أي يكون بمنزلة هذه الناقة في تحمل ما يراه من زلل أو خطأ فلا يوجد عنده قلق ولا نفرة بل يقيم المعاذير بجهده ويعترف بتقصير البشر عن إدراك الكمال في أمر ما ، ومن زل في موضع وأصاب في مواضع عديدة فهو على ما أجرى الله تعالى به العادة في حق الأكابر إلا من ثبتت عصمته وقوله تحملا تمييز وهو من باب قولهم هو حاتم جوادا وزهير شعرا ، وقيل هو مفعول من أجله وهو وهم
(74)
أَقُولُ لِحُرٍ وَالْمُرُوءةُ مَرْؤُهَا لِإخْوَتِهِ الْمِرْآةُ ذُو النُّورِ مِكْحَلاَ

شرع في ذكر وصايا وآداب ومواعظ والحر أراد به من تقدم شرحه في قوله هو الحر والمقول يأتي في البيت الثاني ، واعترض بباقي البيت بين القول والمقول إرادة أن ينبه على سبب النصيحة فنظم ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المؤمن مرآة المؤمن ، أخرجه أبو داود ، أي أنه له بمنزلة المرآة تريه عيوبه فيصلحها ، والمروءة كمال الرجولية وهي مشتقة من لفظ المرء كالإنسانية من لفظ الإنسان والمرء والإنسان مترادفان فهي عبارة عن صفات الإنسان الشريفة التي يتميز بها عن غيره من الحيوانات ، وقوله والمروءة مبتدأ أول ومرؤها مبتدأ ثان ، ومعناه رجلها الذي قامت به المروءة والمرآة خبر مرؤها والجملة خبر المروءة ولإخوته متعلق بمضاف محذوف تقديره نفع مرئها لإخوته كنفع المرآة لهم وذو النور صفة مرؤها أو خبر بعد خبر أو صفة للمرآة على تقدير التذكير فيها كما قالوا ، ليلة غم لأن معناها الشيء المنور ومكحلا تمييز كما تقول زيد ذو الحسن وجها أي مكحله ذو نور أي هو منور يشفي الداء بنوره كما تشفي العين المريضة بما يفعله المكحل فيها وهو الميل المعروف ، وقيل مكحلا حال من مرؤها أو من المرآة على حذف المضاف فيهما كما ذكرناه وهو العامل وقيل حال من ذو النور لأن معناه صاحب النور نحو زيد ذو مال مقيما
(75)
أَخي أَيُّهَا الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوْقِ أَجْمِلاَ

هذا هو المقول للحر نادى أخاه في الإسلام والدين الذي جاز هذا النظم ببابه أي مر به كنى بذلك عن السماع به أو الوقوف عليه إنشادا أو في كتاب وكساد السلعة ضد نفاقها أي إذا رأيت هذا النظم غير ملتفت إليه فأجمل أنت أي ائت بالقول الجميل فيه والألف في آخر أجملا بدل من نون التأكيد الخفيفة أراد أجملن مثل (لنسفعا بالناصية) ، وقد استعمل ذلك كثيرا نحو فاعلمه واعملا ومسئولا اسئلا واثنان فاعقلا ويبلو واقبلا ونظمي فاعل المجتاز وكاسد السوق حال من هاء عليه وعليه مفعول ينادي القائم مقام الفاعل ، رقق الشاطبي رحمه الله خطابه بقوله أخي أجمل وتواضع بجعله نظمه كاسد السوق ولم يكسد سوقه والحمد لله بل نفقت قصيدته نفاقا واشتهرت شهرة لم تحصل لغيرها من مصنفات هذا الفن ، وكان شيخنا أبو الحسن رحمه الله قد أخبرنا عنه أنه قال لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله بها لأني نظمتها لله سبحانه
(76)
وَظُنَّ بِهِ خَيْراً وَسَامِحْ نَسِيجَهُ بِالأِغْضاَءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلاَ
النسيج المنسوج واستعاره في بيوت الشعر تشبيها ببيوت الشعر والإغضاء التغافل عن الشيء والحسنى تأنيث الأحسن أي وبالطريقة الحسنى أو بالكلمة الحسنى والهلهل السخيف النسج ، لما عبر عن النظم بالنسيج عبر عن عيبه بما يعد عيبا في النسيج من الثياب وهو كونه سخيفا أي أحسن القول فيه وتجاوز عنه
(77)
وَسَلِّمْ لِإِحْدَىا الْحُسْنَيَيْنِ إِصَابَةٌ وَالأُخْرَى اجْتِهادٌ رَامَ صَوْباً فَأَمْحَلاَ

أي وسلم لإحدى الحسنيين اللتين لا ينفك عن إحداهما أي عبر عنه بأنه متصف بإدراك إحدى الحسنيين فهذا من جملة الطريقة الحسنى التي يسامح بها نسيجه أو سلمه من الطعن والاعتراض لأجل أنه لا ينفك من إحداهما أو لحصول إحدى الحسنيين له ثم بينهما يقول إصابة واجتهاد ممحل وفي رام ضمير عائد على الاجتهاد جعله طالبا للصواب كما جعله وإنما المتصف بذلك حقيقة من قام به الاجتهاد وكنى بالصوب وهو نزول المطر عن الإصابة وبالمحل عن الخطأ يقال أمحل الرجل صادف محلا والمحل انقطاع المطر ويبس الأرض فللناظم على تقدير الإصابة أجران وله على التقدير الآخر أجر واحد وذلك مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم من طلب علما فأدركه كان له كفلان من الأجر وإن لم يدركه كان له كفل من الأجر ، أخرجه الدارمي في مسنده من حديث واثلة بن الأسقع وفي الصحيحين في اجتهاد الحاكم نحو ذلك ، وفي إصابة وجهان الجر على البدل من إحدى والرفع على معنى هي إصابة ثم استأنف بيان الحسنى الأخرى فقال والأخرى اجتهاد وكأن هذا كله اعتذار عن الرموز التي اصطلح عليها وعن هذه الطريقة الغريبة التي سلكها رحمه الله سبحانه
(78)
وَإِنْ كانَ خَرْقُ فَأدرِكْهُ بِفَضْلَةٍ مِنَ الْحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلاَ
كان هنا تامة أي وإن وجد خرق في نسيجه وحسن ذكر الخرق هنا ما تقدم من لفظ النسيج وكنى بالخرق عن الخطإ وقوله فأدركه أي فتداركه أي تلافه ملتبسا بفضلة من الرفق والأناة وليصلح الخرق من جاد مقوله وهو لسانه ونصب مقولا على التمييز ، وجودة اللسان كناية عن جودة القول به ، وقد امتثل شيخنا أبو الحسن رحمه الله أدبه في ذلك فنبه على مواضع سنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى وحذوت حذوه في ذلك في مواضع ستراها وذلك مساعدة له فيما فعله لله وإعانة له على تقريب هذا العلم على الناس ولله الحمد
(79)

وَقُلْ صَادِقًا لَوْلاَ الْوِئَامُ وَرُوحُهُ لَطاَحَ الْأَنَامُ الْكُلُّ فِي الْخُلْفِ وَالْقِلاَ
صادقا حال أو أراد قولا صادقا نظم في هذا البيت مثلا مشهورا وهو لولا الوئام لهلك الأنام أي لولا موافقة الناس بعضهم بعضا في الصحبة والمعاشرة لكانت الهلكة ، وزاد الشاطبي قوله وروحه أي روح الوئام تنبيها على ما في الوئام من مصلحة الدين والدنيا ، وفي الحديث الصحيح لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، وروح الوئام حياته أراد الحياة التي تحصل بسببه لأنه سبب لبقاء الناس وتوادهم والروح يعبر به عما تحصل به الحياة ومنه قوله تعالى (ينزل الملائكة بالروح من أمره) ، أي بالوحي سماه روحا لحصول حياة القلوب به فكأنه قال لولا الوئام وثمرته ولكنه جاء بالمثل على طريقة قولهم يعجبني زيد وحسنه المقصود الحسن لكن جئ به معطوفا على من اتصف به مبالغة وطاح بمعنى هلك والأنام الإنس وقيل الإنس والجن وقيل كل ذي روح والقلا البغض أي لهلك الناس في الاختلاف والتباغض جعلهما ظرفين مجاز أو يكون في بمعنى الباء أي لهلكوا بهما كأنه وقع في نفسه أن من الناس من يخالفه فيما قصد من الاصطلاح ويعيبه وربما اغتيب لأجله فحذر من ذلك كله والله اعلم
(80)
وَعِشْ سَالماً صَدْراً وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ تُحَضَّرْ حِظَارَ الْقُدْسِ أَنْقَى مُغَسَّلاَ

سالما حال وصدرا تمييز أي سالما صدرك من كل خلق ردئ ، والغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره سماعه لا لمصلحة دينية وقوله فغب أي لا تحضر مع المغتابين ولا توافقهم ولا تصغ إليهم فتكون في حكمهم فإن لم يستطع أن يغيب بجسمه فليغب بقلبه وسمعه ولسانه فيكون حاضرا صورة غائبا معنى ، وإنما اعتنى بذكر الغيبة من بين الأخلاق المذمومة لغلبتها على أهل العلم ومنه قيل الغيبة فاكهة القراء ، وقال بشر بن الحارث هلك القراء في هاتين الخصلتين ، الغيبة والعجب وقوله تحضر من الحضور الذي هو ضد الغيبة وحظار القدس مفعول ثان لتحضر أو على حذف حرف الجر أي في حظار القدس والحظار الحظيرة تعمل للإبل من شجر لتقيها البرد والريح ، وحظيرةالقدس الجنة وأنقى مغسلا حالان أي نقيا من الذنوب مغسلا منها ، والقدس الطهارة وقيل هو موطن في السماء فيه أرواح المؤمنين والله أعلم
(81)
وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبلاَ

يريد أن الناس قد تغيروا وفسدوا وساءت مقاصدهم وكثر نفاقهم فقل من يوثق به منهم أو يسلم من أذاهم ، وقد أدركنا الزمان الذي أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو ثعلبة الخشني عنه قال ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر ، أخرجهما الترمذي وقال حديث حسن غريب ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من بعدي أيام الصبر المتمسك فيهن بمثل ما أنتم عليه له كأجر خمسين عاملا ، وقوله من لك بكذا جملة استفهامية تستعمل فيما يستبعد وقوعه وتقديره من يسمح لك به ، فمعنى البيت من يسمح لك بحصول الحالة التي هي كقبض على جمر وحصولها هو القيام فيها بحقوق الله تعالى ، وقد ذكر الشيخ الشاطبي رحمه الله زمان الصبر في قصيدة أخرى له فقال ، (إلى الله أشكو وحدتي في مصائبي وهذا زمان الصبر لو كنت حازما) ، (عليك بالاسترجاع إنك فاقد حياة العلى وابغ السلو منادما) ، أي عليك بقولك (إنا لله وإنا إليه راجعون) ، على فقدك لحياة العلى ونادم السلو عنها فقد أيست منها
(82)
وَلَوْ أَنَّ عَيْناً سَاعَدتْ لتَوَكَّغَتْ سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِ دِيماً وَهُطّلاَ

أي ولو ساعدت عين صاحبها لكثر بكاؤها دائما على التقصير في الطاعة وقلة البضاعة ، ومعنى توكفت قطرت وتصببت وسالت ، قال الأزهري وكف البيت وتوكف أي هطل وقوله سحائبها أي مدامعها على وجه الاستعارة والديم جمع ديمة كجيز ولين في جمع جيزة ولينة وهما الناحية والنخلة ، والأكثر في جمع ديمة ديم بفتح الياء ، والديمة المطر الدائم ليس بشديد الوقع وهطلا جمع هاطلة والهطل تتابع المطر والدمع وسيلانه وديما وهطلا حالان من السحائب المتوكفة أي دائمة هاطلة فهي حقيقة بذلك ومن فسر توكفت هنا بمعنى توقعت فقد جهل معنى البيت وأخطأ اللغة وقد بينا ذلك في الشرح الكبير والله أعلم
(83)
وَلكِنَّها عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهاَ فَيَا ضَيْعَةَ الْأَعْمَارِ تَمْشِى سَبَهْلَلاَ
الهاء في لكنها للعين أو هو ضمير القصة والهاء في قحطها للعين والقحط الجدب أي لم ينقطع الدمع إلا بسبب أن القلب قاس وذلك من علامات الشقاء ، ففي جامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى ، هذا حديث حسن صحيح ، وفي مسند البزار عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ، وضيعة الأعمار مفعول فعل مضمر والمنادى محذوف أي يا قوم احذوا ضيعة الأعمار أو يكون ناداها على معنى التلهف والتأسف نحو (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) ، وقوله تمشي حال من الأعمار أو جملة مستأنفة مفسرة مؤكدة لقوله يا ضيعة الأعمار ، أي تمر وتذهب باطلة ضائعة يقال لكل فارغ سبهلل وجاء فلان سبهلل أي غير محمود المجيء أي جاء وذهب في غير شيء والله أعلم
(84)
بِنَفسِي مَنِ اسْتَهْدَىَ إلى اللهِ وَحْدَهُ وَكانَ لَهُ الْقُرْآنُ شِرْباً وَمَغْسَلاَ

أي أفدي بنفسي ومن موصولة أو موصوفة ، ومعنى استهدى طلب الهداية ، أي سلك الطريق المستقيم الموصل إلى الله تعالى والهاء في وحده لله عز وجل أو تعود على المستهدى ، فمعناه على الأول أنه مخلص لله في استهدائه لا يريد إلا الله ، وعن الثاني هو منفرد في ذلك لأنه في زمان خمول الحق وعلو الباطل والشرب النصيب ، أي إذا اقتسم الناس حظوظهم كان القرآن العزيز حظه فيكون القرآن العزيز له شربا يتروى به ومغسلا يتطهر به من الذنوب بدوام تلاوته والعمل بما فيه والتلذذ بمناجاة منزله به في ظلام الليل فمغسلا اسم مكان على التجوز أو مصدر على معنى ذا غسل
(85)
وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ فَتفَتَّقَتْ بِكُلِّ عَبِيرٍ حِينَ أَصْبَحَ مُخْضَلاَ
طابت معطوف على استهدى والهاء في عليه وأرضه للمستهدي وقيل هي في أرضه لله والمراد بالأرض المعروفة وعليه بمعنى له أي طابت له الأرض التي تحمله لما عنده من الانشراح بسبب صلاح حاله مع الله تعالى وكنى بقوله فتفتقت بكل عبير عن ثناء أهلها عليه واغتباطهم به ، والعبير الزعفران وقيل أخلاط من الطيب تجمع بالزعفران ، ومعنى تفتقت تشققت أو يكون المعنى أن الأرض زكت وكثر خيرها بسبب هذا المستهدي لقيامه بالحق وعمله بطاعة الله من قولك طابت نفسي على كذا أي وافقتها وطابت الأرض إذا أخصبت وقيل الهاء في أرضه للقرآن العزيز استعار للقرآن العزيز أرضا كأن القارئ له حالة تفكره فيه وتدبره لمعانيه كالسالك في أرض تفتقت بكل عبير ، يشير إلى كثرة الفوائد الحاصلة له بذلك علما وعملا ، ومعنى مخضلا أي مبتلا كنى بذلك عما أفاض الله تعالى عليه من نعمه بالمحافظة على حدوده
(86)
فَطُوبى لَهُ وَالشَّوْقُ يَبْعَثُ هَمُّهُ وَزَنْدُ الْأَسَى يَهْتَاجُ فِي الْقَلْبِ مُشْعِلاَ

طوبى له خبر أو دعاء والواو في والشوق للحال أي العيش الطيب له في هذه الحالة أي ما أطيب عيشه حين يبعث الشوق همه والهم هنا الإرادة أي الشوق إلى ثواب الله العظيم والنظر إلى وجهه الكريم يثير إرادته ويوقظها ويحركها مهما آنس منها فتورا أو غفلة ، ويجوز أن يكون طوبى له دعاء معترضا والشوق وما بعده معطوف على ما تقدم من الجمل أي بنفسي من استهدى وطابت عليه أرضه ومن الشوق يبعث همه والأسى الحزن والزند الذي يقدح به النار استعارة له ويهتاج أي يثور وينبعث ومشعلا حال من فاعل يهتاج أي موقدا ، وسبب هذا الحزن المشتعل التأسف على ما ضاع من العمر والخوف من التغير ، وفي طوبى بحوث أخر حسنة ذكرناها في الشرح الكبير
(87)
هُوَ المُجْتَبَى يَغْدُو عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ قَرِيباً غَرِيباً مُسْتَمَالاً مُؤَمَّلاَ
المجتبى المختار وفي يغدو وجهان أحدهما أنها جملة مستأنفة ، والثاني أنها حال من ضمير المجتبى ، وفي معناها أيضا وجهان أحدهما أنها من غدا يغدو إذا مر أي أنه يمر بالناس متصفا بهذه الصفات الجليلة المذكورة وهو باين منهم أي يمر بهم مرورا غير مزاحم لهم على الدنيا ولا مكاثر لهم ، والثاني أنه من غدا بمعنى صار التي من أخوات كان وعلى الناس خبرها أي رفع الله تعالى منزلته على الناس وقريبا وما بعده أخبار لها أيضا أو أحوال والمراد بقربه تواضعه أو هو قريب من الله تعالى قرب الرحمة والطاعة وهو غريب في طريقته ومذهبه لقلة أشكاله في التمسك بالحق لأنه كالقابض على الجمر مستمالا أي يطلب منه من يعرف حاله الميل إليه والإقبال عليه ويؤمل عند نزول الشدائد كشفها بدعائه وبركته أي من جملة صفاته أن يكون مطلوبا للناس لا طالبا لهم بل ينفر منهم بجهده
(88)
يَعُدُّ جَمِيعَ النَّاسِ مَوْلى لِأَنَّهُمْ عَلَى مَا قَضَاهُ اللهُ يُجْرُونَ أَفْعَلاَ

يعد هنا بمعنى يعتقد ويحسب فلهذا عداها إلى مفعولين وأفرد مولى لأن جميع لفظ مفرد كقوله (نحن جمع منتصر) ، وفي معناه وجهان ، أحدهما أنه أراد يعد كل واحد منهم عند الله تعالى مأمورا مقهورا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فلا يرجوهم ولا يخافهم بل يكون اعتماده واتكاله على خالقه أو لا يرى لهم نفعا ولا ضرا لأن أفعالهم تجري على سابق القضاء والقدر ، والثاني أنه أراد سيدا فلا يحتقر أحدا منهم بل يتواضع لكبيرهم وصغيرهم لجواز أن يكون خيرا منه فإن النظر إلى الخاتمة ، فعلى الأول وصفه بالتوكل وقطع طمعه عن الخلق ، وعلى الثاني وصفه بالتواضع وصيانة نفسه عن الكبر والعجب ونحوهما ، ثم علل ذلك بقوله لأنهم على ما قضاه الله أي تجري أفعالهم على ما سبق به القضاء من السعادة والشقاء وأفعلا تمييز ، ووجه جمعه اختلاف أنواع أفعال الخلق فهو كقوله تعالى (بالأخسرين أعمالا) والله أعلم
(89)
يَرَى نَفْسَهُ بِالذَّمِّ أَوْلَى لِأَنَّهَا عَلَى المَجْدِ لَمْ تَلْعقْ مِنَ الصَّبْرِ وَالْأَلاَ

أي لا يشغل نفسه بعيب الناس وذمهم ويرى ذمه لنفسه أولى لأنه يعلم منها ما لا يعلمه من غيرها أو يرى نفسه مقصرة بالنسبة إلى غيره ممن سبقه من المجتهدين فيذمها لذلك وقوله على المجد أي على تحصيل الشرف يصفها بالتقصير عن مجاهدات الصديقين وعبر عن تحمله في ذلك المكاره والمشاق بتناوله ما هو مر المذاق ، والصبر بكسر الصاد وفتحها مع سكون الباء وبفتح الصاد مع كسر الباء ثلاث لغات كما في كبد وكتف ذكر ذلك الناظم فيما أملاه من الحواشي على قصيدته ، ومنهم من أنكر فتح الصاد مع سكون الباء وهو الشي المر الذي يضرب بمرارته المثل والألا بالمد ، شجر حسن المنظر مر الطعم وقيل إنه الدفلى وقيل إنه يؤكل ما دام رطبا فإذا يبس لسع ودبغ به واحده ألاة ، قال الشيخ في شرحه ، ولو قال لم تصبر على الصبر والألا لكان أحسن لأن الألا لا يلعق وهو نبت يشبه الشيح رائحة وطعما ولا يستعظم لعقه وإنما يستعظم الصبر عليه مع العدم وقوله ، من الصبر أي من مثل الصبر ، قلت هو من باب قولهم ، (متقلدا سيفا ورمحا ) و (علفتها تبنا وماء ) ، أي لم تلعق من الصبر ولم تأكل من الألا أي لم يتناول الأشياء المرة لعقا مما يلعق وأكلا مما يؤكل ولو قال لم تطعم لجمع الأمرين والله أعلم
(90)
وَقَدْ قِيلَ كُنْ كَالْكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ وَمَا يَأْتَلِى فِي نُصْحِهِمْ مُتَبَذِّلاَ

أي لا يحملك ما ترى من تقصير الناس في حقك على ترك نصحهم أو لا يحملك الفقر والبؤس على ترك طاعة الرب سبحانه وتعالى وحث المخاطبين بالصفة المحمودة في أخس الحيوانات وأنجسها من المحافظة على خدمة أهله وإن قصروا في حقه ، وقد صنف أبو بكر محمد بن خلف المرزبان جزءا ذكر فيه أشياء مما وصفت الكلاب ومدحت به سماه تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ونظم الشيخ الشاطبي رحمه الله تعالى في هذا البيت من ذلك أثرا ، روي عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال ، أوصى راهب رجلا فقال انصح لله حتى تكون كنصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويضربونه ويأبى إلا أن يحيط بهم نصحا ، ويقصيه أي يبعده ويأتلي أي يقصر وهو يفتعل من الائتلاء وقوله تعالى (ولا يأتل أولو الفضل منكم) ، هو أيضا يفتعل ولكن من الألية وهي الحلف ومتبذلا حال من فاعل يأتلي أو خبر كن أي كن مبتذلا كالكلب والتبذل في الأمر الاسترسال فيه لا يرفع نفسه عن القيام بشيء من جليله وحقيره
(91)
لَعَلَّ إِلهَ الْعَرْشِ يَا إِخْوَتِي يَقِى جَمَاعَتَنَا كُلَّ المَكاَرِهِ هُوّلاَ
أي لعل الله تعالى يقينا إن قبلنا هذه الوصايا وعملنا بها جميع مكاره الدنيا والآخرة وهو لا حال من المكاره وهو جمع هائل يقال هالني الأمر يهولني هولا أي أفزعني فهو هائل أي مفرغ
(92)
وَيَجْعَلُنَا مِمَّنْ يَكُونُ كِتاَبُهُ شَفِيعاً لَهُمْ إِذْ مَا نَسُوْهُ فَيمْحَلاَ

يجعلنا معطوف على يقي ومن موصولة أو موصوفة وإذ ظرف شفيعا كقوله تعالى (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم) ، فقيل هي تعليل في الموضعين كما في قوله تعالى (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا) ، قلت التقدير وإذ اعتزلتموهم أفلحتم وخلصتم فأووا الآن إلى الكهف ، وأما إذ ظلمتم فنزل المسبب عن الشيء كأنه وقع زمن سببه فكأنه انتفى نفع الاشتراك في العذاب زمن ظلمهم ، وفي بيت الشاطبي رضي الله عنه كأن الشفاعة حصلت زمن عدم النسيان لما كانت مسببة عنه ، وقال أبو علي الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله وعلمه حتى كأنها واقعة وكأن اليوم ماض وقيل التقدير بعد إذ ظلمتم فهكذا يقدر بعد إذ ما نسوه وقيل العامل في إذ ويجعلنا ولا خفاء بفساد هذا ، ويقال محل به إذا سعى به إلى سلطان ونحوه وبلغ أفعاله القبيحة مثل وشى به ومكر به وانتصاب فيمحلا على جواب النفي بالفاء ، قال أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن ثنا حجاج عن ابن جريج قال حدثت عن أنس بن مالك أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن شافع مشفع وماحل مصدق من شفع له القرآن يوم القيامة نجا ومن محل به القرآن يوم القيامة كبه الله في النار على وجهه ، وفي كتاب الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها ، وروي في ذم نسيان القرآن آثار كثيرة والمراد بها ترك العمل به فإن النسيان الترك ومنه قوله تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) ، وقد فسر ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه ، القرآن شافع مشفع وماحل مصدق فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار ، أخرجه مع غيره أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب ثواب القرآن ، فالحاصل أن للقرآن يوم القيامة حالتين ، إحداهما الشفاعة لمن قرأه ولم ينس العمل به ، والثانية الشكاية لمن نسيه أي تركه متهاونا به

ولم يعمل بما فيه ، ولا يبعد أن يكون من تهاون به حتى نسي تلاوته كذلك والله أعلم ، قال الشيخ وفي الدعاء ولا تجعل القرآن بنا ماحلا أي ذاكرا لما أسلفناه من المساوي في صحبته
(93)
وَبِاللهِ حَوْلِى وَاعْتِصَامِي وَقُوَّتِى وَمَاليَ إِلاَّ سِتْرُهُ مُتَجَلِّلاَ
حولي أي تحولي من أمر إلى أمر والاعتصام الامتناع من كل ما يشين أي ذلك كله بيد الله لا يحصل إلا بمعونته ومشيئته ، وفي الحديث الصحيح لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة ، قال ابن مسعود في تفسيرها لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله ، قال الخطابي هذا أحسن ما جاء فيه ومتجملا حال من الياء في لي أي ومالي ما أعتمد عليه إلا ما قد جللني به من ستره في الدنيا فأنا أرجو مثل ذلك في الآخرة أي ومالي إلا ستره في حال كوني متجللا به أي متغطيا به وقيل هو حال من الستر وفيه نظر
(94)
فَيَا رَبِّ أَنْتَ اللهُ حَسْبي وَعُدَّنِي عَلَيْكَ اعْتِمَادِي ضَارِعاً مُتَوَكِّلاَ
حسبي أي كافي والعدة ما يعد لدفع الحوادث والضارع الذليل والمتوكل المظهر للعجز معتمدا على من يتوكل عليه وهما حالان من الياء في اعتمادي وهذا أخر شرح الخطبة
باب الاستعاذة
(95)
إِذَا مَا أَرَدْتَ الدَّهْرَ تَقْرَأُ فَاسْتَعِذْ جِهَاراً مِنَ الشَّيْطَانِ بِاللهِ مُسْجَلاَ

الدهر منصوب على الظرف وجهارا مصدر في موضع الحال أي مجاهرا أو جاهرا أو يكون نعت مصدر محذوف أي تعوذا جهارا أي ذا جهار ، وهذا في استعاذة القارئ على المقرئ أو بحضرة من يسمع قراءته أما من قرأ خاليا أو في الصلاة فالإخفاء له أولى ومسجلا بمعنى مطلقا لجميع القراء في جميع القرآن لا يختص ذلك بقارئ دون غيره ولا بسورة ولا بحزب ولا بآية دون باقي السور والأحزاب والآيات وهذا بخلاف البسملة على ما سيأتي ، ووقت الاستعاذة ، ابتداء القراءة على ذلك العمل في نقل الخلف عن السلف إلا ما شذ عن بعضهم أن موضعها بعد الفراغ من القراءة وقوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) ، معناه إذا أردت القراءة كقوله (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أحدكم فليستنثر ومن أتى الجمعة فليغتسل ، كل ذلك على حذف الإرادة للعلم بها وأظهر الشاطبي رحمه الله في نظمه ذلك المقدر المحتاج إليه في الآية وهو الإرادة فقال إذا ما أردت الدهر تقرأ ولم يقل إذا ما قرأت الدهر للكل فاستعذ إشارة إلى تفسير الآية وشرحها وهو كقولك إذا أكلت فسم الله إذا أردت الأكل استغنى بالفعل عن ذكر الإرادة لشدة اتصاله بها ولكونه موجودا فيها
(96)
عَلَى مَا أَتَى في النَّحْلِ يُسْراً وَإِنْ تَزِدْ لِرَبِّكَ تَنْزِيهاً فَلَسْتَ مُجَهَّلاَ

أي استعذ معتمدا على ما أتى في سورة النحل دليلا ولفظا وهو قوله سبحانه وتعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) ، فهذا اللفظ هو أدنى الكمال في الخروج عن عهدة الأمر بذلك ولو نقص منه بأن قال أعوذ بالله من الشيطان ولم يقل الرجيم كان مستعيذا ولم يكن آتيا باللفظ الكامل في ذلك ويسرا مصدر في موضع الحال من فاعل أتى أي أتى ذا يسر ، أي سهلا ميسرا وتيسره قلة كلماته فهو أيسر لفظا من غيره على ما سنذكره وزاد يتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى (وزدناهم هدى) ، والمفعول الأول هنا محذوف أي وإن تزد لفظ الاستعاذة تنزيها أي لفظ تنزيه يريد بذلك أن تذكر صفة من صفات الله تعالى تثني عليه بها سواء كانت صفة سلب أو ثبوت نحو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم أو أعوذ بالله السميع العليم فكل صفة أثبتها له فقد نزهته عن الاتصاف بضدها وقوله لربك متعلق بتنزيها ولا يمتنع ذلك من جهة كونه مصدرا فلا يتقدم معموله عليه فإن هذه القاعدة مخالفة في الظروف لاتساع العرب فيها وتجويزها من الأحكام فيها ما لم تجوزه في غيرها ، وقد ذكرت ذلك في نظم المفصل وقررناه في الشرح الكبير ، ومن منع هذا قدر لأجل تعظيم ربك وقيل لربك هو المفعول الأول دخلت اللام زائدة أي وإن تزد ربك تنزيها وقوله فلست مجهلا أي منسوبا إلى الجهل لأن ذلك كله صواب مروي وليس في الكتاب ولا في السنة الثابتة ما يرد ذلك
(97)
وَقَدْ ذَكَرُوا لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَمْ يَزِدْ وَلَوْ صَحَّ هذَا النَّقْلُ لَمْ يُبْقِ مُجْمَلاَ

أي وقد ذكر جماعة من المصنفين في علم القراءات أخبارا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره لم يزد لفظها على ما أتى في النحل ، منها أن ابن مسعود قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أعوذ بالله السميع العليم فقال قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وعن جبير بن مطعم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وكلا الحديثين ضعيف والأول لا أصل له في كتب أهل الحديث ، والثاني أخرجه أبو داود بغير هذه العبارة وهو أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه ، ثم يعارض كل واحد منهما بما هو أصح منهما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ، قال الترمذي هو أشهر حديث في هذا الباب ، وفي صحيح أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ونفخه وهمزه ونفثه ، وأشار بقوله ولو صح هذا النقل إلى عدم صحته كما ذكرناه وقوله لم يبق مجملا أي إجمالا في الآية وذلك أن آية النحل لا تقتضي إلا طلب أن يستعيذ القارئ بالله من الشيطان الرجيم فبأي لفظ فعل المخاطب فقد حصل المقصود كقوله تعالى (واسئلوا الله من فضله) ، ولا يتعين للسؤال هذا اللفظ فبأي لفظ سأل كان ممتثلا ، ففي الآية إطلاق عبر عنه بالإجمال وكلاهما قريب وإن كان بينهما فرق في علم أصول الفقه ، وأما زوال إجمال الآية لصحة ما رواه من الحديث فوجهه أنه كان يتعين ختما أو أولوية وأياما كان فهو معنى غير المفهوم من الإطلاق والإجمال إذ الألفاظ كلها في الاستعاذة بالنسبة إلى الأمر المطلق سواء يتخير فيها المكلف وإذا ثبتت الأولوية لأحدها أو تعين فقد زال التخيير والله أعلم
(98)

وَفِيهِ مَقَالٌ في الْأُصُولِ فُرُوعُهُ فَلاَ تَعْدُ مِنْهَا بَاسِقاً وَمُظَلِّلاَ
أي في التعوذ قول كثير وكلام طويل تظهر لك فروعه في الكتب التي هي أصول وأمهات ، يشير إلى الكتب المطولة في هذا العلم كالإيضاح لأبي علي الأهوازي والكامل لأبي القاسم الهذلي وغيرهما ففيها يبسط الكلام في ذلك ونحوه فطالعها وانظر فيها ولا تتجاوز منها القول الصحيح الظاهر البين المتضح الحجج وأشار إلى ذلك بقوله ، باسقا أي عاليا والمظلل ماله ظل لكثرة فروعه وورقه أي قولا باسقا وقيل مراده بالأصول علم أصول الفقه لأجل الكلام المتعلق بالنصوص فالهاء في فيه تعود إلى لفظ الرسول أو إلى النقل أو إلى المذكور بجملته ، وقد أوضحنا ذلك كله في الشرح الكبير وبالله التوفيق
(99)
وَإِخْفَاؤُهُ (فَـ) ـصلْ (أَ) بَاهُ وَعُاَتُنَا وَكَمْ مِنْ فَتىً كالْمَهْدَوِي فِيهِ أَعْمَلاَ

أي روى إخفاء التعوذ عن حمزة ونافع لأن الفاء رمز حمزة والألف رمز نافع وهذا أول رمز وقع في نظمه والواو في وعاتنا للفصل وتكررت بقوله وكم هذا هو المقصود بهذا النظم في الباطن ، وأما ظاهره فقوله فصل يحتمل وجهين ، أحدهما أنه فصل من فصول القراءة وباب من أبوابها كرهه مشايخنا وحفاظنا أي ردوه ولم يأخذوا به والوعاة جمع واع كقاض وقضاة يقال وعاه أي حفظه ، والثاني أن يكون أشار بقوله فصل إلى بيان حكمة إخفاء التعوذ وهو الفصل بين ما هو من القرآن وغيره فقوله وإخفاؤه فصل جملة ابتدائية وأباه وعاتنا جملة فعلية وهي صفة لفصل على الوجه الأول مستأنفة على الوجه الثاني لان الوعاة ما أبوا كونه فاصلا بين القرآن وغيره وإنما أبا الإخفاء الوعاة لأن الجهر به إظهار لشعار القراءة كالجهر بالتلبية وتكبيرات العيد ، ومن فوائده أن السامع له ينصت للقراءة من أولها لا يفوته منها شيء وإذا أخفى التعوذ لم يعلم السامع بالقراءة إلا بعد أن فاته من المقروء شيء وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة خارج الصلاة وفي الصلاة فإن المختار في الصلاة الإخفاء لأن المأموم منصت من أول الإحرام بالصلاة ثم أشار بقوله وكم من فتى إلى أن جماعة من المصنفين الأقوياء في هذا العلم اختاروا الإخفاء وقرروه واحتجوا له وذكر منهم المهدوي وهو أبو العباس أحمد بن عمار المقرئ المفسر مؤلف الكتب المشهورة التفصيل والتحصيل والهداية وشرحها منسوب إلى المهدية من بلاد أفريقية بأوائل المغرب والهاء في فيه للإخفاء وأعملا فعل ماض خبر وكم من فتى أي أعمل فكره في تصحيحه وتقريره وفيه وجوه أخر ذكرناها في الشرح الكبير والله أعلم
باب البسملة
(100)
وَبَسْمَلَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ (بِـ)سُنَّةٍ (رِ) جَالٌ (نَـ)ـمَوْهاَ (دِ)رْيَةً وَتَحَمُّلاَ

البسملة تقع في قراءة القراء في ثلاثة مواضع ، إذا ابتدءوا سورة أو جزءا وسيأتي الكلام فيهما والثالث بين كل سورتين فابتدأ ببيانه لأن الاختلاف فيه أكثر والحاجة إلى معرفته أمس وفاعل بسمل قوله رجال وبسنة حال مقدمة أي آخذين أو متمسكين بسنة وهي كتابة الصحابة رضي الله عنهم لها في المصحف وما روي من الآثار في ذلك أو تكون نعت مصدر محذوف أي بسملة ملتبسة بسنة منقولة ونموها أي نقلوها ورفعوها وأسندوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين والضمير للبسملة أو للسنة والجملة صفة لرجال أو للسنة ودرية وتحملا مصدران في موضع الحال من فاعل نموها أي ذوي درية وتحمل أي دارين متحملين لها أي جامعين بين الدراية والرواية والمبسملون من القراء هم الذين رمز لهم في هذا البيت من قوله بسنة رجال نموها درية وعلم من ذلك أن الباقين لا يبسملون لأن هذا من قبيل الإثبات والحذف ، قال أبو طاهر بن أبي هاشم صاحب ابن مجاهد أولى القولين بالصواب عندي الفصل بين السورتين بالبسملة لاتباع المصحف وللحديث الذي يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت اقرءوا ما في المصحف ثم ذكر قول ابن عمر فلم كتبت في المصحف إن لم تقرأ قال أبو طاهر ألا ترى أن ترك قراءتها كان عند ابن عمر كترك قراءة غيرها مما هو مرسوم في المصحف من سائر آي القرآن إذ كان رسمها في الخط كرسم ما بعدها لا فرق بينهما ، قال وقد أجمع مع ذلك من أئمة القراءة بالأمصار على الجهر بها بين السورتين أهل الحرمين وعاصم والكسائي وأهل الشام
(101)
وَوَصْلُكَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ (فَـ)ـصَاحَةٌ وَصِلْ وَاسْكُتَنْ (كُـ)ـلٌّ (جَـ)ـلاَيَاهُ (حَـ)ـصَّلاَ

بين في صدر هذا البيت قراءة حمزة رضي الله عنه ورمز له بقوله فصاحة وبين في عجز البيت قراءة ابن عامر وورش وأبي عمرو ورمز لهم بقوله كل جلاياه حصلا وبين السورتين ظرف للوصل أو مفعول به وفصاحة خبره وإنما كان فصاحة لأنه يستلزم بيان إعراب أواخر السور ومعرفة أحكام ما يكسر منها وما يحذف لالتقاء الساكنين كآخر المائدة والنجم وبيان همزة القطع والوصل كأول القارعة و(ألهاكم التكاثر) وما يسكت عليه في مذهب خلف كآخر والضحى فكل ذلك لا يحكمه ويتقنه إلا من عرف كيف يصله وسكوت خلف لا يخرجه عن كونه وصلا فإنه لا يفعل ذلك إلا في الوصل كما سيأتي شرحه في قوله روى خلف في الوصل ، وقد نقل أبو علي الأهوازي عن حمزة أنه قال ، إنما فعلت ذلك ليعرف القارئ كيف إعراب أواخر السور أي ووصلك بين السورتين بعد إسقاط البسملة يستلزم فصاحة ثم بين قراءة غير حمزة ممن لم يبسمل فقال وصل واستكن وهذا على التخيير وإلا فالجمع بينهما محال إلا في حالتين أي صل إن شئت كما سبق لحمزة واسكت على آخر السورة إن شئت وبهذا التقدير دخل الكلام معنى التخيير وإلا فالواو ليست بموضوعة له وقد قيل إنها قد تأتي للتخيير مجازا والنون في واسكتن للتوكيد ولعله قصد بذلك أن السكوت لهم أرجح من الوصل ، وقال صاحب التيسير على اختيار ذلك لهم وقال الشيخ رحمة الله عليه أكثر أهل الأداء لما فيه من الفصل وقد روى السكت أيضا عن حمزة وجلاياه جمع جلية وهو مفعول حصل والهاء في جلاياه تعود على التخيير أي كل من أهل الأداء استوضح التخيير ورآه صوابا أو تعود على كل أي كل من القراء حصل جلايا ما ذهب إليه وصوبه والله أعلم
(102)
وَلاَ نَصَّ كَلاَّ حُبَّ وجْهٍ ذَكَرْتُهُ وَفِيهاَ خِلاَفٌ جِيدُهُ وَاضِحُ الطُّلاَ

أي لم يرد بذلك نص عن هؤلاء بوصل ولا سكوت وإنما التخيير بينهما لهم اختيار من المشايخ واستحباب منهم وهذا معنى قوله حب وجه ذكرته وكلا حرف ردع وزجر كأنه منع من اعتقاد النصوصية عن أحد منهم على ذلك ثم قال وفيها أي في البسلمة خلاف عنهم جيد ذلك الخلاف واضح الطلا أي أنه مشهور معروف عند العلماء والجيد العنق والطلا جمع طلاة أو طلية والطلية صفحة العنق وله طليتان فجاء بالجمع في موضع التثنية لعدم الإلباس كقولهم عريض الحواجب وطويل الشوارب وقيل الطلا الأعناق أنفسها فكأنه قال عنق هذا الخلاف واضح الأعناق أي هو الواضح من بينها وإنما تتضح الأعناق إذا كانت مرتفعة وارتفاع الأعناق والرءوس يكنى به عن ارتفاع المنزلة وعلو المرتبة ومنه الحديث الصحيح ، المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة ، فحاصل ما في هذا البيت أن الخلاف في البسملة مروي عن ابن عامر وورش وأبي عمرو بل أكثر المصنفين لم يذكروا عن ابن عامر إلا البسملة وقد ذكرنا عبارة المصنفين عنهم في ذلك في الشرح الكبير فإذا قلنا لا يبسملون فهل يصلون كحمزة أو يسكتون لم يأت عنهم في ذلك نص وذكر الشيوخ الوجهين لهم استحبابا وقد بسطنا الكلام في ذلك بسطا شافيا ولم نجعل في هذا البيت رمزا لأحد كما ذكر غيرنا فإنا إذا قلنا إن كلا حب رمز ابن عامر وأبي عمرو لزم من مفهوم ذلك أن يكون ورش عنه نص في التخيير وليس كذلك بل لم يرد عنه نص في ذلك ، وإن قلنا إن جيده رمز ورش لزم أن يكون ابن عامر وأبو عمرو لم يرد عنهما خلاف في البسملة وهو خلاف المنقول فلهذا قلنا لا رمز في البيت أصلا والله أعلم
(103)
وسَكْتُهُمُ الْمُخْتَارُ دُونَ تَنَفُّسٍ وَبَعْضُهُمُ فِي الْأَرْبِعِ الرُّهْرِ بَسْمَلاَ

السكت والسكوت واحد كلاهما مصدر سكت والضمير في سكتهم يعود على الثلاثة المخير لهم بين الوصل والسكت أي السكت المنسوب إليهم المختار فيه أن يكون دون تنفس فالمختار على هذا يكون مبتدأ ثانيا ويجوز أن يكون صفة السكت ويجوز أن يكون خبره كأنه لما خير أولا بين الوصل والسكت أردفه بأن السكت هو المختار على ما أشرنا إليه في قوله واسكتن وقوله بعد ذلك دون تنفس خبر بعد خبر أو خبر مبتدإ محذوف أو حال من ضمير المختار والإشارة بقولهم دون تنفس إلى عدم الإطالة المؤذنة بالإعراض عن القراءة وإلا فلأواخر السور حكم الوقف على أواخر الآيات وفي أثنائها من الوقوف التامة والكافية فما ساغ ثم من السكوت فهو سائغ هنا وأكثر والله أعلم ، ثم قال وبعضهم أي وبعض المشايخ من المقرئين الذين استحبوا التخيير بين الوصل والسكوت واختاروا في السكوت أن يكون دون تنفس اختاروا أيضا البسملة لهؤلاء الثلاثة في أوائل أربع سور هي القيامة والمطففين والبلد والهمزة دون سائر السور قالوا لأنهم استقبحوا وصلها بآخر السور قبلها من غير تسمية وقوله الزهر جمع زهراء تأنيث أزهر أي المضيئة المنيرة كنى بذلك عن شهرتها ووضوحها بين أهل هذا الشأن فلم يحتج إلى تعيينها
(104)
لَهُمْ دُونَ نَصٍّ وَهْوَ فِيهِنَّ سَاكِتٌ لِحَمْزَةَ فَافْهَمْهُ وَلَيْسَ مُخَذَّلاَ

لهم أي لابن عامر وورش وأبي عمرو دون نص أي من غير نص وقد استعمل رحمه الله لفظ دون بمعنى غير كثيرا كقوله ومن دون وصل ضمها (وسلطانية) من دون هاء ولفظ غير مؤات له في المواضع كلها ، قال صاحب التيسير وليس في ذلك أثر عنهم وإنما هو استحباب من الشيوخ ثم قال وهو فيهن أي وذلك البعض يسكت في هذه المواضع الأربعة لحمزة لأن حمزة مذهبه الوصل فاكتفى له هنا بالسكت ثم قال فافهمه أي افهم هذا المذهب المذكور وليس مخذلا يقال خذله إذا ترك عونه ونصرته خذلانا وخذل عنه أصحابه تخذيلا أي حملهم على خذلانه فالتقدير وليس مخذلا عنه أصحابه ويجوز أن يكون اسم ليس عائدا على البعض في قوله وبعضهم كأن التقدير ، وليس ذلك القائل مخذلا عن نصرة هذا المذهب بل قد انتصب له من ساعده ونصره وأعانه ، وإني أقول لا حاجة إلى تكلف التسمية لأجل المعنى المذكور بل السكوت كاف للجميع كما يكتفي به لحمزة وكما يكتفي به بين الآيات الموهم اتصالها أكثر مما في هذه الأربعة أو مثلها مثل (الذين يحملون العرش) بعد قوله (إنهم أصحاب النار) وقوله (لا خير في كثير) بعد قوله (وكان فضل الله عليك عظيما) ، ويمكن حمل قول الشاطبي رحمه الله وليس مخذلا على السكوت المفهوم من قوله وهو فيهن ساكت أي ليس هذا السكوت مخذلا بل هو مختار لحمزة وغيره ولقد أعجبني قول أبي الحسن الحصري ، (ولم أقر بين السورتين مبسملا لورش سوى ماجا في الأربع الغر) ، (وحجتهم فيهن عندي ضعيفة ولكن يقرون الرواية بالنصر) قال من شرح هذا لو قلا يقرون المقالة موضع قوله الرواية لكان أجود إذ لا رواية عنهم بذلك قد أشبعت الكلام في هذا في الشرح الكبير
(105)
وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأْتَ بَرَاءَةً لِتَنْزِيلِهاَ بالسَّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلاَ

قد سبق الكلام في مهما وأن فيها معنى الشرط فتدخل الفاء في جوابها كقوله فيما مضى فكن عند شرطي وفيما يأتي فلا تقفن الدهر وهي محذوفة في هذا البيت لضرورة الشعر ، والتقدير فلست مبسلا وقيل إنما تدخل الفاء لأنه خبر بمعنى النهي وهو فاسد فإن الفاء لازمة في النهي فكيف الخبر الذي بمعناه وقوله تصلها الضمير فيه لبراءة أضمر قبل الذكر على شريطة التفسير وبراءة مفعول بدأت والقاعدة تقتضي حذف المفعول من الأول فلا حاجة إلى إضماره كقوله تعالى (آتوني أفرغ عليه قطرا) ، وقيل براءة بدل من الضمير في تصلها بمعنى أن سورة براءة لا بسملة في أولها سواء ابتدأ بها القارئ أو وصلها بالأنفال لأن البسملة لم ترسم في أولها بخلاف غيرها من السور ، ثم بين الحكمة التي لأجلها لم تشرع في أولها البسملة فقال لتنزيلها بالسيف أي ملتبسة بالسيف كنى بذلك عما اشتملت عليه السورة من الأمر بالقتل والأخذ والحصر ونبذ العهد وفيها الآية التي يسميها المفسرون آية السيف وهذا التعليل يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن غيره ، قال القاضي أبو بكر ابن الباقلاني وعليه الجمهور من أهل العلم ، وقد زدت في الشرح الكبير هذا المعنى بسطا وتقريرا وذكرت وجوها أخر في التعليل ونقل الأهوازي أن بعضهم بسمل في أول براءة
(106)
وَلاَ بُدَّ مِنْهاَ في ابْتِدَائِكَ سُورَةً سِوَاهاَ وَفي الْأَجْزَاءِ خُيِّرَ مَنْ تَلاَ

الضمير في منها للبسملة وفي سواها لبراءة وسورة منصوب على إسقاط الخافض أي بسورة وكذا قوله أبو بدأت براءة أي براءة يقال بدأت بالشيء أي ابتدأت به وأما بدأت الشيء من غير باء فمعناه فعلته ابتداء ومنه ، (بدأ الله الخلق) ، وسورة نكرة في كلام موجب فلا عموم لها إلا من جهة المعنى فكأنه قال مهما ابتدأت سورة سوى براءة فبسمل ولو قال ولا بد منها في ابتدا كل سورة سواها لزال هذا الإشكال ، ومعنى البيت أن القراء كلهم اتفقوا في إبتداء السور على البسملة سواء في ذلك من بسمل منهم بين السورتين ومن لم يبسمل ، ووجهه أنهم حملوا كتابة ما في المصحف على ذلك كما تكتب همزات الوصل وهي ساقطة في الدرج ، قال بعض العلماء ولا خلاف بين القراء في البسملة أول فاتحة الكتاب سواء وصلها القارئ بسورة أخرى قبلها أو ابتدأ بها ولم يذكر ذلك في القصيدة اعتمادا على أن الفاتحة في غالب الأحوال لا يكون القارئ لها إلا مبتدئا ثم قال وفي الأجزاء أي وفي ابتداء الأجزاء والأحزاب والأعشار وغير ذلك ويجمع ذلك أن تقول كل آية يبتدأ بها غير أوائل السور خير المشايخ فيه فسوغوا البسملة فيه لأنه موضع ابتداء في الجملة كما يسمى في ابتداء الوضوء والأكل والشرب ومن تلا فاعل خير وتلا بمعنى قرأ كنى بذلك عن أهل الأداء ولو كان خير بضم الخاء وكسر الياء لكان حسنا أي خير التالي وهو القارئ في ذلك والله أعلم
(107)
وَمَهْمَا تَصِلْهَا مَعْ أَوَاخِرِ سُورَةٍ فَلاَ تَقِفَنَّ الدَّهْرَ فِيهاَ فَتَثْقُلاَ

الضمير في تصلها وفيها للبسملة وأواخر جمع في موضع مفرد أي بآخر سورة أي بالكلمات الأواخر أو نقول سورة لفظ مفرد في موضع جمع لأنه ليس المراد سورة واحدة بل جميع السور فكأنه قال مع أواخر السور والدهر نصب على الظرفية وفيها بمعنى عليها كما قيل ذلك في قوله تعالى (في جذوع النخل) ، أي عليها ولا تقفن نهي نصب في جوابه فتثقلا بإضمار أن بعد الفاء ، ومعنى فتثقل أي يستثقل ويتبرم بك لأن البسملة لأوائل السور لا لأواخرها فإن ابتليت بوصلها بالآخر فتمم الوصل بأول السورة الأخرى فتتصل بهما كما تتصل سائر الآيات بما قبلها وما بعدها ، ولك أن تقطعها من الآخر والأول وتلفظ بها وحدها والأولى قطعها من الآخر ووصلها بالأول فهذه أربعة أوجه الأول مكروه والآخر مستحب وما بينهما وجهان متوسطان وهما وصل البسملة بهما وقطعها عنهما ويتعلق بالوصل والقطع أحكام ذكرناها في الكبير قال صاحب التيسير والقطع عليها إذا وصلت بأواخر السور غير جائز والله أعلم
سورة أم القرآن
(108)
وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (رَ)اوِيهِ (نَـ)ـاَصِرٌ وَعَنْدَ سِرَاطِ وَالسِّرَاطَ لِ قُنْبُلاَ

هذا من جملة المواضع التي استغنى فيها باللفظ عن القيد فلم يحتج إلى أن يقول ومالك بالمد أو مد أو نحو ذلك لأن الشعر لا يتزن على القراءة الأخرى فصار اللفظ كأنه مقيد فكأنه قال بالمد كما قال في موضع آخر وفي حاذرون المد أي قرأ مالك بالمد الكسائي وعاصم وقراءة الباقين بالقصر لأنه ضد المد والمد هنا هو إثبات الألف والقصر حذفها ، وكان التقييد ممكنا له لو قال ومالك ممدودا نصير رواته والقراءتان صحيحتان ثابتتان وكلا اللفظين من مالك وملك صفة لله تعالى ، وقد أكثر المصنفون في القراءات والتفاسير من الكلام في الترجيح بين هاتين القراءتين حتى إن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى وليس هذا بمحمود بعد ثبوت القراءتين وصحة اتصاف الرب سبحانه وتعالى بهما فهما صفتان لله تعالى يتبين وجه الكمال له فيهما فقط ولا ينبغي أن يتجاوز ذلك ، وممن اختار قراءة مالك بالألف عيسى بن عمر وأبو حاتم وأبو بكر بن مجاهد وصاحبه أبو طاهر بن أبي هاشم وهي قراءة قتادة والأعمش وأبي المنذر وخلف ويعقوب ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبي هريرة ومعاوية ثم عن الحسن وابن سيرين وعلقمة والأسود وسعيد بن جبير وأبي رجاء والنخعي وأبي عبد الرحمن السلمي ويحيى بن يعمر وغيرهم ، واختلف فيه عن علي وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين ، وأما قراءة ملك بغير ألف فرويت أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ بها جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم منهم أبو الدرداء وابن عمر وابن عباس ومروان بن الحكم ومجاهد ويحيى بن وثاب والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن جريج والجحدري وابن جندب وابن محيصن وخمسة من الأئمة السبعة وهي اختيار أبي عبيد وأبي بكر بن السراج النحوي ومكي المقري وقد بينت كلامهم في ذلك في الشرح الكبير وأنا أستحب القراءة بهما هذه تارة وهذه تارة

حتى إني في الصلاة أقرأ بهذه في ركعة وهذه في ركعة ونسأل الله تعالى اتباع كل ما صح نقله والعمل به ، ثم قال وعند سراط والسراط أي مجردا عن لام التعريف ومتصلا بها ، ثم المجرد عن اللام قد يكون نكرة نحو (إلى صراط مستقيم)-(هذا صراط مستقيم)-(أهدك صراطا سويا) ، وقد تكون معرفة بالإضافة نحو (صراط الذين أنعمت عليهم)-(صراط الله الذي)-(صراطك المستقيم)-(صراطي مستقيما) ، فلهذا لم أقل إرادة المنكر والمعرف ومثله وكسر بيوت والبيوت ونقل قران والقران بخلاف قوله في لؤلؤ في العرف والنكر شعبة فإنه لم يأت مجردا عن اللام إلا وهو نكرة ولو اقتصر على لفظ النكرة في الكل لحصل الغرض فإن لام التعريف زائدة على الكلمة كما قال ووالاه في بئر وفي بئس ورشهم والحكم عام في كل ما في القرآن من لفظ بئس مجردا من الراء والفاء واللام وفي وبئس بالواو وفي فبئس بالفاء وفي لبئس باللام وإنما نبه على ما فيه لام التعريف دون المضاف لاتحاد لفظ اللام وتعدد المضاف إليه ولو أنه قال سراط بسين قنبل كيف أقبلا وبالصاد باقيهم وزايا أشمها البيت لتم له المقصود والله أعلم ، ثم هذا أيضا مما استغنى فيه باللفظ عن القيد فكأنه قال بالسين واعتمد على صورة الكتابة فلم يخف التباسا إذ يقرأ بالصاد وقنبلا منصوب لأنه مفعول به لقوله (ل) وهذه اللام المنفردة هي فعل أمر من قوله ولى هذا هذا يليه إذا جاء بعده أي اتبع قنبلا عند هاتين اللفظتين فاقرأ قراءته فيهما بالسين في جميع القرآن وقد بين ذلك بقوله رحمه الله
(109)
بِحَيْثُ أَتَى وَالصَّادُ زَاياً اشِمَّهَا لَدَى خَلَفٍ وَاشْمِمْ لِخَلاَّدِ الاَوَّلاَ

أي بحيث أتى المذكور وهذا لفظ يفيد العموم كقوله تعالى (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) ، والباء في بحيث زائدة ولو لم يقل بحيث أتى لاقتصر الحكم على ما في الفاتحة وهكذا كل موضع يطلق فيه اللفظ يكون مخصوصا بتلك السورةكقوله ، وخفف كوف يكذبون سبيل برفع خذ وفي شركاي الخلف فإن كان الخلاف مطردا في موضعين قال معا وإن كان في أكثر قال جميعا أو كلا أو حيث جاء ونحو ذلك ولم يخرج عن هذا إلا حروف يسيرة كالتوراة وكأين في آل عمران وقراءة الباقين بالصاد وهي أقوى القراءات لاتفاق الرسم عليها وأفصحها لغة وعلم أن قراءة الباقين بالصاد من قوله والصاد زايا أشمها كأنه قال والباقون بالصاد وأشمها زايا خلف ، ويجوز في قوله الصاد النصب والرفع والنصب هو المختار لأجل الأمر وغلط من قال هنا الرفع أجود وأصل كلمة السراط السين والصاد بدل منها لأجل قوة الطاء ومن أشمها زايا بالغ في المناسبة بينهما وبين الطاء ، وروي عن بعضهم إبدالها زايا خالصة والمعنى بهذا الإشمام خلط صوت الصاد بصوت الزاي فيمتزجان فيتولد منهما حرف ليس بصاد ولا زاي ، والإشمام في عرف القراء يطلق باعتبارات أربعة ، أحدها خلط حرف بحرف كما في الصراط وما يأتي في أصدق ومصيطر ، والثاني خلط حركة بأخرى كما يأتي في قيل وغيض وأشباههما ، والثالث إخفاء الحركة فيكون بين الإسكان والتحريك كما يأتي في (تأمنا على يوسف) ، على ظاهر عبارة صاحب التيسير ، والرابع ضم الشفتين بعد سكون الحرف ، وهو الذي يأتي في باب الوقف وفي باب وقف حمزة وهشام وآخر باب الإدغام على ما سنبين ذلك ونوضح ما فيه من الإشكالات إن شاء الله وقوله لدى خلف أي عنده ومعنى عنده أي في مذهبه وقراءته ووصل همزة القطع من قوله وأشمم لخلاد ضرورة كما صرف براءة فيما تقدم وأصله من قولهم أشممته الطيب أي أوصلت إليه شيئا يسيرا مما يتعلق به وهو الرائحة والأولا مفعول واشمم ونقل الحركة من همزة أول إلى لام التعريف فتحركت فإن لم يعتد

بالحركة كان حذف التنوين من قوله لخلاد لالتقاء الساكنين تقديرا وإن اعتد بها فحذف التنوين ضرورة وسيأتي تحقيق هذين الوجهين في مسألة عادا الأولى والمراد بالأول ، (اهدنا الصراط المستقيم) ، أي أشمه وحده خلاد دون ما بقي في الفاتحة وفي جميع القرآن وهذه إحدى الروايات عنه وقل من ذكرها ، وروي أنه يوافق خلفا في حرفي الفاتحة معا دون سائر القرآن ، وروي أنه يشم ما كان بالألف واللام فقط في الفاتحة وغيرها ، والرواية الرابعة أنه يقرأ بالصاد خالصة كسائر القراء في الفاتحة وغيرها ، قال أبو الطيب بن غلبون المشهور عن خلاد بالصاد في جميع القرآن قال وهذه الرواية هي المعول عليها وبها آخذ في فاتحة الكتاب وغيرها ، وفي الشرح الكبير تعليل هذه الروايات وبسط القول في ذلك والله أعلم
(110)
عَلَيْهِمْ إِلَيْهِمْ حَمْزَةٌ وَلَدَيْهِموُ جَمِيعاً بِضَمِّ الْهاءِ وَقْفاً وَمَوْصِلاَ

أي قرأ حمزة هذه الألفاظ الثلاثة بضم الهاء وحذف واو العطف من إليهم ضرورة وسيأتي له نظائر فموضع عليهم وإليهم ولديهم نصب على المفعولية ويجوز الرفع على الابتداء وخبره حمزة أي يقرؤهن بالضم أو قراءة حمزة والأولى أن يلفظ بالثلاثة في البيت مكسورات الهاء ليتبين قراءة الباقين لأن الكسر ليس ضدا للضم فلا تتبين قراءتهم من قوله بضم الهاء ولو قال بضم الكسر لبان ذلك ولعله أراده وسبق لسانه حالة الإملاء إلى قوله بضم الهاء وسيأتي في قوله كسر الهاء بالضم شمللا وقف للكل بالكسر مكملا ما يوضح أن الخلاف في هذا الباب دائر بين كسر الهاء وضمها ومن عادته المحافظة على قيوده وإن كان موضع الخلاف مشهورا أو لا يحتمل غيره كقوله وهاهو وهاهي أسكن ثم قال والضم غيرهم وكسر مع كونه صرح بلفظي هو وهي وهذه الكلمات الثلاث ليس منها في الفاتحة إلا عليهم وأدرج معها إليهم ولديهم لاشتراكهن في الحكم وهذا يفعله كثيرا حيث يسمح النظم به كقوله وقيل وغيض وجئ وحيل وسيق وسيء وسيت ويتركه حيث يتعذر عليه فيذكر كل واحد في سورته كقوله في الأحزاب بما يعلمون اثنان عن ولد العلا ، ثم قال في سورة الفتح بما يعملون حج وقال في البقرة وفتحك سين السلم ثم ذكر في الأنفال الذي في سورة القتال فكل واحد من الجمع والتفريق يقع مع اتحاد القارئ واختلافه وقوله جميعا أي حيث وقعت هذه الثلاث في جميع القرآن ووقفا وموصلا حالان من حمزة أي ذا وقف ووصل أي في حالتي وقفه ووصله فالموصل والوصل مثل المرجع والرجع ، واعلم أن الضم في الهاء هو الأصل مطلقا للمفرد والمثنى والمجموع نحو منه وعنه ومنهما وعنهما ومنهم وعنهم ومنهن وعنهن ، وفتحت في منها وعنها لأجل الألف وكسرت إذا وقع قبلها كسر أو ياء ساكنة نحو بهم وفيهم فمن قرأ بالضم فهو الأصل ، وإن كان الكسر أحسن في اللغة كما قلنا في الصراط وإنما اختص حمزة هذه الألفاظ الثلاثة بالضم لأن الياء فيها بدل عن الألف ولو نطق بالألف لم

يكن إلا الضم في الهاء فلحظ الأصل في ذلك وإنما اختص جمع المذكر دون المؤنث والمفرد والمثنى فلم يضم عليهن ولا عليه ولا عليهما لأن الميم في عليهم يضم عند ساكن في قراءته ومطلقا في قراءة من يصلها بواو فكان الضم في الهاء إتباعا وتقديرا وليس في عليه وعليهما وعليهن ذلك ولم يلحظ يعقوب الحضرمي هذا الفرق فضم هاء التثنية وجمع المؤنث ونحو فيهم وسيؤتيهم وقد ضم حمزة فيما يأتي (لأهله امكثوا) ، وضم حفص (عليه الله)في الفتح (وما أنسانيه إلا الشيطان) ، والضم الأصل في الكل والله أعلم
(111)
وَصِلْ ضَمَّ مِيمِ الْجَمْعِ قَبْلَ مُحَرَّكٍ (دِ)رَاكاً وَقاَلُونٌ بِتَخْيِيرِهِ جَلاَ

نبه على أن أصل ميم الجمع أن تكون مضمومة والمراد بوصل ضمها إشباعه فيتولد منه واو وذلك كقولهم في أنتم ومنهم أنتمو ومنهمو فيكون زيادة الجمع على حد زيادة التثنية هذه بواو وهذه بألف فأنتمو وأنتما كالزيدون والزيدان وقاما وقاموا وكلاهما لغة فصيحة وقد كثر مجيئها في الشعر وغيره ، قال لبيد (وهموا فوارسها وهم حكامها ) ، فجمع بين اللغتين وكذا فعل الكميت في قوله ، (هززتكمو لو أن فيكم مهزة ) ، وقال الفرزدق ، (من معشر حبهم دين وبغضهموا ) كفر ، وقوله قبل محرك احتراز مما بعده ساكن وسيأتي حكمه لأن الزيادة قبل الساكن مفضية إلى حذفها لالتقاء الساكنين ، وبقي عليه شرط آخر وهو أن لا يتصل بميم الجمع ضمير فإنه إن اتصل بها ضمير وصلت لجميع القراء وهي اللغة الفصيحة حينئذ وعليها جاء الرسم نحو (فإذا دخلتموه - فاتخذتموهم سخريا - فأسقيناكموه - أنلزمكموها - حيث وجدتموهم - حيث ثقفتموهم - وإذ يريكموهم) ، وقوله دراكا أي متابعة وهو مصدر في موضع الحال أي صلة تابعا لما نقل يقال دارك الرجل صوبه أي تابعه والدال رمز ابن كثير وصرف اسم قالون هنا وترك صرفه فيما تقدم فيكون صرفه أو ترك صرفه للضرورة وجلا أي كشف وذلك لأنه نبه بتخييره بين مثل قراءة ابن كثير وقراءة الجماعة على صحة القراءتين وثبوتهما أي يروى عن قالون الوجهان الوصل وتركه وهذا التخيير منقول أيضا عن نافع نفسه ويروى عن قالون مثل ورش وعن ابن كثير مثل الجماعة
(112)
وَمِنْ قَبْلِ هَمْزِ الْقَطْعِ صِلْهَا لِوَرْشِهِمْ وَأَسْكَنَهاَ الْبَاقُونَ بَعْدُ لِتَكْمُلاَ

كان يلزمه أن يذكر مع ورش ابن كثير وقالون لئلا يظن أن هذا الموضع مختص بورش كما قال في باب الإمالة رمى صحبة ولو قال ومن قبل همز القطع وافق ورشهم لحصل الغرض ، ومعنى البيت أن ورشا يقرأ مثل قراءة ابن كثير إذا كان بعد الميم همزة قطع وهي التي تثبت في الوصل نحو (عليهم - أأنذرتهم أم لم - ومنهم أميون - إنا معكم إنما) ، لكن ورشا يكون أطول مدا من ابن كثير على أصله وإنما خص ورش الصلة بما كان قبل همزة لحبه المد وإيثاره له ولهذا مد ما بعد الهمزة في وجه كما سيأتي وأراد أيضا الجمع بين اللغتين كما قال امرؤ القيس ، (أمرخ خيامهمو أم عشر أم القلب في إثرهم منحدر) ، وخص ذلك ليستعين بالمد على النطق بالهمز ، قال أبو علي كأنه أحب الأخذ باللغتين وكان المد قبل الهمزة مستحبا ، واعتل له المهدوي وغيره بما يلزمه من نقل الحركة على أصله ولو نقل إليها لتحركت بالضم والفتح والكسر فآثر أن يحركها بحركتها الأصلية ولا تعتورها الحركات العارضة والهاء في صلها وأسكنها تعود على ميم الجمع وإنما بين قراءة الباقين أنها بالإسكان لئلا يظن أنها بترك الصلة ولا يلزم من ترك الصلة الإسكان إذ ربما تبقى الميم مضمومة من غير صلة كما يفعل في هاء الكناية وهو المعبر عنه ثم بالقصر وسيأتي ولم يقرأ بذلك في الميم لقوتها واستغنائها عن الحركة ولما كانت الهاء خفية ضعيفة قويت بالحركة تارة وبها وبالصلة أخرى وقوله بعد متعلق بالباقون أي الذين بقوا في ذكرى بعد ذكر من وصل ولا يجوز تعلقه بأسكنها لأن من المسكنين من سبق الواصلين في الزمان كابن عامر إلا على تأويل ترتيب الذكر فيرجع إلى المعنى الأول ويجوز أن يتعلق بمحذوف ولتكملا أيضا متعلق به أي أعلمتك بقراءة الباقين بعد ما ذكرت قراءة الواصلين لتكمل وجوه القراءة في ميم الجمع وإن علقنا بعد بالباقون كان لتكملا متعلقا بأسكنها واللام للعاقبة لأنهم لم يسكنوها لهذه العلة وإنما كانت العاقبة ذلك ، ويجوز على هذا

أن يتعلق اللام بصلها والواو في وأسكنها للحال أي صلها لورش في الحال التي أسكنها فيها الباقون لتكمل وجوهها وإسكان ميم الجمع هو اللغة الفصيحة الفاشية ، وقد وافق من وصلها على ترك الصلة في الوقت وكذا في هاء الكناية ولم ينبه الناظم على ذلك في البابين والله أعلم
(113)
وَمِنْ دُونِ وَصْلٍ وضُمَّهَا قَبْلَ سَاكِنٍ لِكُلٍ وَبَعْدَ الْهَاءِ كَسْرُ فَتَى الْعَلاَ
ذكر في هذا البيت حكم ميم الجمع إذا لقيها ساكن ولا يقع ذلك الساكن في القرآن إلا بعد همزة الوصل فقال ضمها من غير صلة لكل القراء ووجه الضم تحريكها لالتقاء الساكنين واختير ذلك لأنه حركتها الأصلية فهي أولى من حركة عارضة ولم تمكن الصلة لأن إثباتها يؤدي إلى حذفها لأجل ما بعدها من الساكن وضمها فعل أمر ، وفي نسخة ضمها على أنه مبتدأ خبره ما قبله أو ما بعده ومثله (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) -(وأنتم الأعلون) ، وكان يمكن إثبات الصلة في (ومنهم الذين) ، لأن الساكن بعدها مدغم فيبقى من باب إدغام أبي عمرو (قال رب) ، وقد فعل ذلك البزي في عنهو تلهى فظلتمو تفكهون إلا أن الفرق أن إدغام أبي عمرو والبزي طارئ على حرف المد فلم يحذف له ، وكذا إدغام دابة والصاخة وخاصة فلم يحذف حرف المد خوفا من الإجحاف باجتماع إدغام طارئ وحذف ، وأما إدغام اللام في الذين ونحوه فلأصل لازم وليس بطارئ على حرف المد فإنه كذلك أبدا كان قبله حرف مد أو لم يكن فحذف حرف المد للساكنين طردا للقاعدة فلم يقرأ منهمو الذين كما لم يثبت حرف المد في مثل (قالوا اطيرنا)-(وادخلا النار)-(وفي النار) ، ثم قال وبعد الهاء كسر فتى العلا أي إن وقع قبل الميم التي قبل الساكن هاء كسر أبو عمرو الميم إتباعا للهاء لأن الهاء مكسورة وبقي الباقون على ضم الميم ثم ذكر شرط كسر الهاء فقال
(114)
مَعَ الْكَسْرِ قَبْلَ الْهَا أَوِ الْيَاءِ سَاكِناً وَفي الْوَصْلِ كَسْرُ الْهَاءِ بالضَّمَّ (شَـ)ـمْلَلاَ

أي إذا كان قبل الهاء كسر أو ياء ساكنة وقصر لفظ الهاء ضرورة وساكنا حال من الياء والياء كغيرها من الحروف يجوز تأنيثها وتذكيرها ، ومعنى شملل أسرع وفاعله ضمير عائد على كسر الهاء أي أتى بالضم في عجل جعل الكسر آتيا بالضم تجوزا واتساعا وإن كانا لا يجتمعان ، ووجهه توافق معنى القراءتين وصحتهما وحلول كل واحد منهما في محل الآخر والشين رمز حمزة والكسائي قرءا بضم الهاء والميم على الأصل في الميم والإتباع في الهاء وأبو عمرو وكسر الهاء لما قبلها والميم للإتباع والباقون ضموا الميم على الأصل لما احتاجوا إلى تحريكها لأجل الساكن بعدها وكسروا الهاء لمجاورة ما أوجب ذلك من الكسر أو الياء الساكنة كما أجمعوا على بهم وفيهم إذا لم يكن بعدها ساكن ولم يبالوا بالخروج من كسر إلى ضم لأن الكسر عارض قاله أبو علي ، وقوله في الوصل لم يكن إليه حاجة فإن الكلام فيه فكان ينبغي أن ينبه على أنه شرط في ضم الميم كما أنه شرط في ضم الهاء وإلا فإتيانه به هاهنا يوهم أنه شرط في ضم الهاء فقط وليس كذلك وكان يغني عنه أيضا قوله بعد ذلك وقف للكل بالكسر ثم مثل ما ذكره فقال
(115)
كَمَا بِهِمُ الْأَسْبَابُ ثُمَّ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ وَقِفْ لِلْكُلِّ بِالْكَسْرِ مُكْمِلاَ

ما في كما زائدة مثل ما قبل الهاء فيه كسر بقوله تعالى (وتقطعت بهم الأسباب) ومثله في (قلوبهم العجل)-(من دونهم امرأتين) ، ومثل ما قبله ياء ساكنة بقوله سبحانه (فلما كتب عليهم القتال) ومثله (يريهم الله أعمالهم)-(إذ أرسلنا إليهم اثنين) ، ثم قال وقف للكل بالكسر يعني في الهاء لأن ضمها في قراءة حمزة والكسائي كان إتباعا لضم الميم لا لمجرد كون الضم هو الأصل فإنهما لم يضما الهاء في نحو (في قلوبهم مرض) ولا ضم الكسائي نحو (أنعمت عليهم) ، وإذا كان ضم الهاء إتباعا للميم ففي الوقف سكنت الميم فلم يبق إتباع فعاودا كسر الهاء ولا يستثني من هذا إلا الكلمات الثلاث المقدم ذكرها وهي عليم وإليهم ولديهم فإن حمزة يضم الهاء فيها وقفا ووصلا فلا يؤثر الوقف في مذهبه شيئا في نحو (عليهم القتال) ، إلا سكون الميم فقط وكان ينبغي للناظم أنه ينبه على سكون الميم وقفا كما نبه على كسر الهاء ولكنه أهمله لوضوحه ومكملا حال أي قف مكملا وجوه القراءة في ميم الجمع والله أعلم
باب الإدغام الكبير
(116)
وَدُونَكَ الاُِدْغَامَ الْكَبِيرَ وَقُطْبُهُ أَبُو عَمْرٍ والْبَصْرِيُّ فِيهِ تَحَفَّلاَ

دونك هنا من ألفاظ الإغراء يقال دونك كذا أي خذه والإدغام مفعول به وقطب كل شيء ملاكه وهو ما يقوم به وقطب القوم سيدهم الذي يدور عليه أمرهم والواو في وقطبه للحال أو للاستئناف وقطبه مبتدأ وأبو عمرو خبره ثم استأنف جملة أخرى فقال فيه تحفلا أي في أبي عمرو اجتمع الإدغام يقال تحفل المجلس وتحفل اللبن في الضرع وتحفل الوادي إذا امتلأ بالماء ويجوز أن يكون أبو عمرو عطف بيان والخبر فيه تحفلا على أن تكون الهاء في فيه للإدغام وفاعل تحفل ضمير عائد على أبي عمرو أي تحفل أبو عمرو في أمر الإدغام من جميع حروفه ونقله والاحتجاج له والقراءة به يقال احتفلت لكذا أو بكذا أو في كذا وتحفل بمعناه مثل اكتسب وتكسب أراد بذلك أن مدار الإدغام على أبي عمرو فمنه أخذ وإليه أسند وعنه اشتهر من بين القراء السبعة والإظهار والإدغام كلامهما مروي عن اليزيدي عن أبي عمرو من طريق الدوري والسوسي وغيرهما ولم أر بعد في كتاب تخصيص رواية السوسي بذلك عن الدوري وقد كان الشيخ الشاطبي رحمه الله يقرئ به من طريق السوسي ولم يوافق أبا عمرو في المشهور على شيء من الإدغام الكبير سوى حمزة في إدغام (بيت طائفة) (والصافات صفا) ، وما ذكر معها في سورتها ، واختلاف أبو طاهر بن أبي هاشم الإظهار كما هو مذهب سائر القراء قال لأن فيه إيتاء كل حرف حقه من إعرابه أو حركة بنيته التي استحقها والإدغام يلبس على كثير من الناس وجه الإعراب ، ويوهم غير المقصود من المعنى نحو قوله تعالى (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه)-(والمصور له) ، ولم يذكر أبو عبيد الإدغام في كتابه وقال في (بيت طائفة) ، القراءة عندنا هي الأولى يعني الإظهار لكراهتنا الإدغام إذا كان تركه ممكنا
(117)
فَفِي كِلْمَةٍ عَنْهُ مَنَاسِكَكُمْ وَمَا سَلَككُّمْ وَبَاقِي الْبَابِ لَيْسَ مُعَوَّلاَ

الأولى أن يقرأ مناسككم في هذا البيت من غير إدغام لأنه إن قرىء مدغما لزم ضم الميم وصانتها بواو وليست قراءة أبي عمرو ولا غيره هكذا نعم يجوز من حيث اللغة فلهذا نقول إن اضطررنا إليه جاز ارتكابه كقوله فيما بعد (وطبع على قلوبهم) ، لأن البيت لا يتزن إلا بالصلة وأما سلككم فلا يستقيم التلفظ به في البيت إلا مدغما ساكن الميم وأراد قوله (فإذا قضيتم مناسككم) في البقرة (وما سلككم في سقر) ، في سورة المدثر أي لم يأت الإدغام من أبي عمرو في حرفين في كلمة واحدة إلا في هذين الموضعين ، ويرد عليه نحو (يرزقكم) ، كما سيأتي في أول الباب الآتي فإنه أدغم ذلك وشبهه وجميعه من باب الإدغام الكبير في كلمة واحدة وإنما خصص هذين من باب التقاء المثلين في كلمة واحدة وما أوردناه هو من باب المتقاربين وإنما ورد عليه من جهة أنه لم يقيد بالمثلين بل قال ففي كلمة عنه ولم يتقدم قبل هذا البيت سوى أنه حضنا على الإدغام الكبير ولم يعرفنا ما هو ووقع لي أنه لو قال عوض البيت السابق ، (أبو عمرو البصري يدغم أن تحرركا والتقى المثلان في الثاني الأولا) ، لكان شرحا للإدغام الكبير الواقع في المثلين ويأتي قوله ففي كلمة عنه بعد تمهيد قاعدته وقولنا تحركا والتقى من باب قاما وقعد الزيدان وهو الوجه المختار للبصريين في باب توجه الفعلين إلى فاعل واحد فاعلم أن الإدغام الكبير ضربان ، أحدهما إدغام حرف في مثله وهو الذي ذكره في جميع هذا الباب ، والآخر إدغام حرف في مقاربه وسيأتي في الباب الآخر وشرطهما معا أن يكونا متحركين فإن سكن أول المثلين وجب له إدغام لكل بشرط أن لا يكون حرف مد ولين ثم الحرف الذي يدغم في مثله لا يخلو هو والذي يدغم فيه إما أن يلتقيا في كلمة أو في كلمتين فإن التقيا في كلمة لم يدغم إلا في هاتين الكلمتين المذكورتين في هذا البيت ، ثم قال وباقي الباب ليس معولا أي على إدغامه أو لا معول عليه بإدغام أو التقدير وإدغام باقي الباب ليس

معولا عليه فحذف المضاف كما أن التقدير ففي كلمة عنه إدغام مناسككم وباقي الباب مثل قوله تعالى بأعيننا وأتعدانني وجباههم ووجوههم وبشرككم وقد روى إدغام ذلك وهو في بأعيننا أقوى لتحرك ما قبل المثلين وفي بشرككم ضعيف لسكونه وهو حرف صحيح ، وقد أدغم أبو عمرو وغيره مواضع تأتي في سورها مثل ما مكنني وتأمروني أعبد وأتحاجوني في الله وروى إدغام (إن ولي الله) ، في آخر الأعراف وعو ضعيف لأن الحرف المدغم مشدد وسيأتي لأنه لا يدغم مثل ذلك نحو (مس سقر) والله أعلم
(118)
وَمَا كَانَ مِنْ مِثْلَيْنِ في كِلْمَتَيْهِمَا فَلاَ بُدَّ مِنْ إدْغَامِ مَا كانَ أَوَّلاَ
أي وما وجد من هذا القبيل وهو التقاء مثلين في كلمتين ويلزم من ذلك أن يكون أحدهما آخر كلمة والآخر أول كلمة بعدها فلابد من إدغام الأول في الثاني إلا ما يأتي استثناؤه مما أجمع عليه أو اختلف فيه وشرطهما أن يتحركا فإن سكن الأول أدغم للجميع وإن سكن الثاني فلا إدغام للجميع ، مثال الأول (إذ ذهب)-(وقد دخلوا) ومثال الثاني (إلى الصلاة اتخذوها)-(كمثل العنكبوت اتخذت) ، ثم هذا الإدغام في المثلين من كلمتين يأتي في القرآن في سبعة عشر حرفا لأن عشرة من باقي الحروف لم يلتق منها مثلان متحركان في القرآن وهي الجيم والخاء المعجمة والدال والذال والزاي والشين المعجمة والصاد والضاد والطاء الظاء ، وأما الألف فلا يتأتى إدغامها لأنها لا تزال ساكنة ، وأما الهمزتان إذا التقتا فأبو عمرو يسقط الأولى إن اتفقتا ويسهل الثانية إن اختلفتا على ما سيأتي بيانه فلا إدغام فيها ، وأما الحروف التي تدغم في مقاربها فستة عشر حرفا ستأتي في الباب الآتي وأما نحو قوله (أنا نذير) ، فإن المثلين التقيا لفظا ولا إدغام محافظة على حركة النون ولهذا تعمد بألف في الوقف ومما يدغم آخر سورة الرعد وإبراهيم إذا وصلا بالنسبة عند من يرى ذلك لأبي عمرو وقد ذكر فيه خلاف والله أعلم
(119)

كَيَعْلَمُ مَا فِيهِ هُدًى وَطُبِعْ عَلَى قُلُوبِهِمُ وَالْعَفْوَ وَأْمُرْ تَمَثَّلاَ
مثلى التقاء المثلين في كلمتين ، وقد تقدم أن ذلك واقع في سبعة عشر حرفا وهي الباء والتاء والثاء والحاء المهملة والراء والسين المهملة والعين وعشرة الأحرف بعدها مثال ذلك (لذهب بسمعهم)-(الشوكة تكون)-(ثالث ثلاثة)-(لا أبرح حتى)-(فاستغفر ربه)-(وترى الناس سكارى)-(وطبع على قلوبهم)-(ومن يبتغ غير الإسلام) ، وليس في القرآن للغين غيره (تعرف في وجوههم)-(الغرق قال آمنت)-(إنك كنت بنا)-(جعل لكم)-(تعلم ما)-(أحسن نديا)-(إلا هو والملائكة)-(إنه هو) ولا تمنع صلة الهاء ، (نودي يا موسى) ، وقوله تمثلا أي تمثل المذكور وهو إدغام أول المثلين إذا التقيا في كلمتين ، ومعنى تمثلا أي تشخص وتشكل وتصور وتبين وقد تضمن ما مثل به في هذا البيت ثلاثة أنواع عليها مدار الباب ، وذلك أن الحرف المدغم إما أن يكون قبله متحرك أولا فإن كان فمثاله (يعلم ما)-(وطبع على) ، وإن لم يكن متحركا فإما أن يكون حرف مد أو لا فإن كان فمثاله (فيه هدى) ، وإن لم يكن حرف مد فهو حرف صحيح ومثاله (خذ العفو وأمر) ، وهذا القسم إطلاق الإدغام عليه فيه مسامحة بخلاف النوعين المتقدمين وسيأتي تحقيق ذلك في آخر باب إدغام المتقاربين ، ثم ذكر ما استثنى إدغامه من المثلين فقال
(120)
إِذَا لَمْ يَكُنْ تَا مُخْبِرٍ أَوْ مُخَاطَبٍ أوِ الْمُكْتَسِي تنْوِينُهُ أَوْ مُثَقَّلاَ

الضمير في يكن عائد إلى قوله ما كان أولا أي إذا لم يكن ذلك الأول من المثلين تاء مخبر أي ضميرا هو تاء دالة على المتكلم أو يكن تاء مخاطب أو يكن الذي اكتسى تنوينه أي منونا ، وأشار بذلك إلى أن نون التنوين كالحلية والزينة فلا ينبغي أن يعدم وقصر لفظ تا وأسكن ياء المكتسي ضرورة وهما منصوبان خبرين لقوله يكن ولهذا نصب أو مثقلا وعلة استثناء المنون والمثقل ظاهرة ، أما المنون فلأن التنوين حاجز بين المثلين وهو حرف صحيح معتد به في زنة الشعر ، وتنقل إليه حركة الهمزة ويكسر لالتقاء الساكنين ، وأما المثقل فيستحيل إدغامه بدون حذف أحد الحرفين من المشدد وقد حكى بعضهم إدغامه على لغة تخفيف المشدد وحكى بعضهم إدغام (من أنصار ربنا) ، ولم يعتد بالتنوين لذهابه في الوقف وحكى بعضهم إدغام (لقد كدت تركن) ، وفيه المانعان الخطاب والتشديد والعلة في استثناء تاء المخبر والمخاطب كونهما كناية عن الفاعل أو شبهه والإدغام تقريب من الحذف والفاعل لا يحذف نحو (كنت ترابا)-(وما كنت تتلو) ، وألحق بذلك التاء من أنت تكره وشبهه ليكون الباب واحدا وذكر لذلك علل أخر هي في الشرح الكبير
(121)
كَكُنْتُ تُرَاباً أَنْتَ تُكْرِهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَأَيْضاً تَمَّ مِيقاَتُ مُثِّلاَ

هذه أمثلة ما تقدم استثناؤه في البيت السابق على ترتيبه وقوله وأيضا أي أمثل النوع الرابع ولا أقتصر على تمثيل الأنواع الثلاثة وهو مصدر آض إذا رجع والضمير في مثلا عائد على المذكورات أي مثل جميع المستثنى أو يكون عائدا على لفظ (تم ميقات) ، أي وأيضا ثم ميقات مثل به كما مثل بالثلاثة الأول ومثله (مس سقر)-(وخر راكعا)-(وأحل لكم) ، وقد أورد على استثناء المنون الهاء الموصولة بواو أو ياء نحو (سبحانه هو الله)-(من فضله)-(هو خيرا لهم) ، وقيل يلزم استثناؤه أيضا فإن الواو والياء حرف حاجز بين المثلين ، زعم أبو حاتم وغيره أن الإدغام فيها غير جائز ، والفرق بينهما أن التنوين حرف مستقل مقصود في نفسه دال على تمكن الاسم وصرفه والصلة عبارة عن إشباع حركة الهاء فلم يكن لها استقلال ولهذا تحذف للساكن والتنوين يحرك ، وإذا اجتمع التنوين وحرف العلة حذف حرف العلة وبقي التنوين نحو قاض وغاز فهو أولى بالاعتداد فضلا عن الصلة والله أعلم
(122)
وَقَدْ أَظْهَرُوا فِي الْكَافِ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِذِ النُّونُ تُخْفَى قَبْلَهَا لِتُجَمَّلاَ

أراد قوله تعالى في سورة لقمان (ومن كفر فلا يحزنك كفره) ، استثناه بعضهم للعلة التي ذكرها وبعضهم أدغمه جريا على الأصل والضمير في أظهروا يعود إلى بعض المصنفين والرواة وأهل الاختيار لا إلى جميعهم لأنهم مختلفون في ذلك على ما نقلناه في الشرح الكبير وهذه العلة ذكرها أبو طاهر بن أبي هاشم وغيره وهي أن الإخفاء تقريب من الإدغام والنون تخفى قبل الكاف على ما سيأتي تقريره في باب أحكام النون الساكنة والتنوين وإذا كان الإخفاء كالإدغام فكأن الكاف ، الأولى مدغم فيها فتكون كالحرف المشدد في (مس سقر) ونحوه وذلك ممتنع الإدغام فكذا هذا وهذه العلة تقوي استثناء تاء المخبر والمخاطب في نحو كنت وأنت لأن النون أيضا مخفاة قبل التاء فكأن الناظم أراد بهذه العبارة الاستدلال على صحة استثناء تاء المخبر والمخاطب فقال إنهم أظهروا الكاف من (يحزنك) لهذه العلة وهي موجودة في تاءى المخبر والمخاطب وإذ ظرف فيه معنى التعليل وقوله لتجملا تعليل لإخفاء النون أو للإظهار والضمير فيه للكلمة أي لتجمل الكلمة ببقائها على صورتها والله أعلم
(123)
وَعِنْدَهُمُ الْوَجْهَانِ في كُلِّ مَوْضِعٍ تَسَمَّى لِأَجْلِ الْحَذْفِ فِيهِ مُعَلَّلاَ

أي وعند المصنفين من المشايخ الوجهان من الإظهار والإدغام في كل موضع التقى فيه مثلان بسبب حذف وقع في آخر الكلمة الأولى لأمر اقتضى ذلك وقد يكون المحذوف حرفا أو حرفين ، فمن نظر إلى أصل الكلمة فيظهر إذ لم يلتق في الأصل مثلان ومن نظر إلى الحالة الموجودة فيدغم وقوله تسمى فعل ماض وقع صفة لموضع وأضاف التسمية إليه تجوزا لأجل أنه وجد فيه ما اقتضى تلقينه بذلك ولو قال يسمى بضم الياء المثناة من تحت لكان حسنا وهو حقيقة الكلام ومعللا مفعول به على الوجهين وكل كلمة فيها حرف العلة وهي الألف والياء والواو موضع أحد حروفها الأصول تسمى معلة فإن طرأ عليها ما يغير حرف العلة فيها من حذف أو قلب يقال هذه كلمة معتلة وقد أعلت كأنه حصل بها إعلال ومرض فقوله معللا لا يجيء من أعله إنما هو اسم مفعول من علله ولا يبعد استعماله بمعناه مثل نزل وأنزل ثم مثل ذلك فقال
(124)
كَيَبْتَغِ مَجْزُوماً وَإِنْ يَكُ كاذِباً وَيَخْلُ لَكُمْ عَنْ عَالِمٍ طَيِّبِ الْخَلاَ
أراد (ومن يبتغ غير الإسلام دينا) ، كان الأصل يبتغي بالياء فحذف للجزم وقوله مجزوما حال نبه بها على أن هذا اللفظ فرع عن غيره وإن يك أصله يكون فسكنت النون للجزم فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ثم حذفت النون تخفيفا فهذه الكلمة حذف منها حرفان ، (يخل لكم وجه أبيكم) ، أصله يخلو بالواو وإنما حذفت جوابا للأمر وقوله عن عالم متعلق بقوله في البيت السابق وعندهم الوجهان أي عند أهل الأداء الوجهان مرويان عن عالم طيب الخلا وأراد به أبا عمرو بن العلاء نفسه لأنه قطب ذلك كما سبق أو أراد به أبا محمد اليزيدي لأنه هو الذي شهر ذلك عنه ، والخلا بالقصر الرطب من الحشيش وكنى به عن العلم لأن الناس يقتبسونه كما يختلون الخلا ويقال هو طيب الخلا أي حسن الحديث ، وقال الشيخ أبو الحسن رحمه الله أراد بالعالم الطيب نفسه أو صاحب التيسير أي خذه أو أخذته أنا عنه والله أعلم
(125)

وَيَا قَوْمِ مَالِي ثُمَّ يَا قَوْمِ مَنْ بِلاَ خِلاَفٍ عَلَى الْإِدْغَامِ لاَ شَكَّ أُرْسِلاَ
أراد (يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة)-(ويا قوم من ينصرني من الله) ، أرسلا أطلقا على الإدغام بلا خلاف لا شك في ذلك إذ ليس فيهما ما يمنع الإدغام وإن توهم متوهم أنه من باب المعتل لأن أصله يا قومي بالياء ثم حذفت رد عليه وهمه فإن اللغة الفصيحة يا قوم بحذف الياء وصاحبها لا يثبت الياء بحال فصارت الياء كالعدم من حيث التزم حذفها ولأن الياء المحذوفة من يا قوم ليست من أصل الكلمة بل هي ضمير المضاف إليه بخلاف المحذوف من يبتغ ونحوه وكأن الناظم أورد هذا البيت في صورة الاحتجاج على ترجيح الإدغام في المعتل فقال قد أجمعوا على إدغام هذا فكذا ما سبق ونص صاحب التيسير على أنه من المعتل مع الإجماع على الإدغام
(126)
وَإِظْهَارُ قَوْمٍ آلَ لُوطٍ لِكَوْنِهِ قَلِيلَ حُرُوفٍ رَدَّه مَنُْ تَنَبَّلاَ
عنى بالقوم أبا بكر بن مجاهد وغيره من البغداديين منعوا إدغام (آل لوط) حيث وقع لقلة حروفه وهو في الحجر والنمل والقمر ولا أعلم ما معنى قولهم إنه قليل الحروف فإنهم إن عنوا به أنه في الخط حرفان فلا اعتبار بالخط وإنما الاعتبار باللفظ وهو باللفظ ثلاثة أحرف فهو مثل قال لهم فكما يدغم قال يدغم آل لأنه مثله وعلى وزنه فيمنع هذا التعليل من أصله ويرد على قائله فقوله وإظهار قوم مبتدأ خبره قوله رده من تنبلا يعني به صاحب التيسير وغيره أي من صار نبيلا في العلم أي من رسخت فيه قدمه أو من مات من المشايخ يعني أن هذا رد قديم ، ثم بين الذي رده به فقال
(127)
بِإِدْغاَمِ لَكَ كَيْدًا وَلَوْ حَجَّ مُظْهِرٌ بِإِعْلاَلِ ثَانِيهِ إِذَا صَحَّ لاَعْتَلاَ

قال صاحب التيسير رحمه الله قد أجمعوا على إدغام لك كيدا في يوسف وهو أقل حروفا من آل لأنه على حرفين وقيل لا يستقيم هذا الرد لأن ذلك كلمتان اللام حرف والكاف مجرورة المحل بها فهي قائمة مقام اسم مظهر وهو يوسف فكما يدغم (ليوسف في الأرض) فكذا الكاف التي هي كناية عنه ، ثم قال ولو حج مظهر أي ولو احتج من اختار الإظهار استعمل حج بمعنى احتج مثل قرأ واقترأ وكسب واكتسب والمعروف أن حج بمعنى غلب في الحجة في كقوله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى ، وإن حمل ما في البيت على هذا المعنى لم يبق لقوله لاعتلا فائدة فإن من غلب في حجته معتل أي مرتفع وأراد أن يذكر حجة سائغة غير منقوضة عليه لمن اختار الإظهار في آل لوط وهي حجة قد سبق بها جماعة من المتقدمين مثل ابن أبي هاشم وابن مهران وصاحب التيسير وهي أن ثاني حروف آل قد تغير مرة بعد مرة والإدغام تغيير آخر فعدل عنه خوفا من أن يجتمع على كلمة قليلة الحروف في نظرهم تغييرات كثيرة فيصير مثل (وإن يك كاذبا) ، وقوله إذا صح بعد قوله بإعلال ثانيه من محاسن الكلام حيث قابل الإعلال بالصحة يعني إذا صح له الإظهار من جهة النقل فإن أبا عمرو الداني قال في غير التيسير لا أعلم الإظهار فيه من طريق اليزيدي ، ثم بين إعلال ثانيه فقال
(128)
فَإِبْدَالُهُ مِنْ هَمْزَةٍ هَاءٌ أصْلُهَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ وَاوٍ ابْدِلاَ

أي إبدال ثاني إبدال حروف آل وهو الألف من حمزة أصل تلك الهمزة هاء يعني هذا القائل أن أصل الكلمة أهل فأبدلت الهاء همزة كما قيل أرقت في هرقت فاجتمعت همزة ساكنة بعد همزة مفتوحة فوجب قلبها ألفا على القياس المطرد المعروف الذي بينه في آخر باب الهمز المفرد وهذا القول وإن اعتمد عليه جماعة فهو مجرد دعوى وحكمة لغة العرب تأبى ذلك إذ كيف يبدل من الحرف السهل وهو الهاء حرف مستثقل وهو الهمزة التي من عادتهم الفرار منها حذفا وإبدالا وتسهيلا على ما عرف في بابه مع أنهم إذا أبدلوا الهاء همزة في هذا المكان فهي في موضع لا يمكن إثباتها بل يجب قلبها ألفا فأي حاجة إلى اعتبار هذا التكثير من التغيير بلا دليل وفي لفظ ماء قام دليل إبدالها همزة لتقوى على الإعراب وأما أرقت فالهاء فيه بدل من الهمزة وليست الهمزة بدلا من الهاء كذا يقول أهل النحو وهو الموافق للقياس ، ثم قال وقد قال بعض الناس يعني أبا الحسن بن شنبوذ وغيره إن ثاني آل أبدل من واو وهذا هو الصحيح الجاري على القياس ، وأهل التصانيف من اللغويين وأصحاب الأعزية لا يفسرون هذه الكلمة إلا في فصل الواو بعد الهمزة فيكون أصل الكلمة أول كما أن أصل قال قول فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا في اللفظين على قياس معروف في علم التصريف فهو مشتق من آل يئول إذا رجع أي أن آل الرجل إليه يرجعون في النسب أو الدين والمذهب ، وإذا كان من باب قال فله حكم قال فيدغم ، ولم يذكر الشاطبي رحمه الله هذا القول الثاني حجة للإظهار فإنه غير مناسب له وإنما بين أن العلماء مختلفون في أصل الكلمة فيعطى كل أصل حكمه
(129)
وَوَاوَ هُوَ الْمَضْمومُ هَاءً َكَهُووَ مَنْ فَأَدْغِمْ وَمَنْ يُظْهِرْ فَبِالْمَدِّ عَلَّلاَ

المضموم بالخفض صفة لهو وهاء منصوب على التمييز أي الذي ضمت هاؤه نحو (هو ومن يأمر بالعدل) ، احترز بذلك عما سكنت هاؤه في قراءة أبي عمرو وهو ثلاثة مواضع ، (فهو وليهم بما)-(وهو وليهم اليوم)-(وهو واقع بهم) ، والجمهور على منع الإدغام في هذه المواضع الثلاثة ، وبعضهم قال هي مظهرة بلا خلاف ووجهه أن الكلمة قد خففت بسكون هائها فلم تحتج إلى تخفيف الإدغام ، وقال صاحب التيسير لا خلاف في الإدغام ، قلت يريد في طرقه التي قرأ بها وإلا فقد ذكر الخلاف فيها أبو علي الأهوازي والحافظ أبو العلا وغيرهما قدس سرهم ، وأما المواضع المضمومة الهاء وهي ثلاثة عشر موضعا فإدغامها ظاهر ولهذا جزم بقوله فأدغم ومنهم من أظهرها لأن الواو زيدت تقوية لهاء الضمير ففي إدغامها كالإخلال بما زيدت لأجله ولأن الواو تشدد في لغة قوم من العرب والتخفيف هو اللغة الفصيحة التي نزل بها القرآن ففي إدغامها ما يؤدي إلى أن الواو تشتبه بتلك اللغة ، وقيل أيضا إن تشديد الواو هو الأصل ثم خففت فاستغني بذلك التخفيف عن تخفيف الإدغام وكل هذه علل حسنة للإظهار لا بأس بها وقول الشاطبي ومن يظهر فبالمد عللا يوهم أنه لم يعلله بغير ذلك ، ثم تقديره أن يقال إذا كان قبل الواو ضمة وقصد إلى إدغامها وجب إسكانها للإدغام فتصير حرف مد ولين وحروف المد واللين لا تدغم لأداء الإدغام إلى ذهاب المد مثل قالوا وأقبلوا وهذا خطأ من المعلل فإن هذا مد تقديري لا ثبوت له فلا يلزم من منع الإدغام حيث كان المد محققا أن يمتنع أيضا إذا كان المد مقدرا
(130)
وَيَأْتِيَ يَوْمٌ أَدْغَمُوهُ وَنَحْوَهُ وَلاَ فَرْقَ يُنْجِي مَنْ عَلَى الْمَدِّ عَوَّلاَ

نقض على من علل بالمد في إظهار الواو بأنه يلزمه مثل ذلك في الياء في يأتي يوم ونودي يا موسى وهذا مدغم عند من يرى الإظهار في هو ومن ونحوه ولا فرق بينهما فيما يرجع إلى المد فإن ما قرره في الواو موجود مثله في الياء فهذا معنى قوله ولا فرق ينجي من على المد عولا ، وأما قوله (فهي يومئذ واهية) ، فينبغي أن يكون حكمه حكم قوله تعالى وهو واقع بهم فإن الكلمة خففت بإسكان الهاء فيهما والضمير في أدغموه عائد على معنى من في قوله ومن يظهر فبالمد عللا
(131)
وَقَبْلَ يَئِسْنَ الْيَاءُ في الَّلاءِ عَارِضٌ سُكُونًا أَوَ اصْلاً فَهُوَ يُظْهِرُ مُسْهِلاَ

أي فأبو عمرو يظهره راكبا للطريق الأسهل يقال أسهل إذا ركب السهل يعني أنه أظهر الياء من قوله تعالى (واللائي يئسن من المحيض) ، بلا خلاف وعلل ذلك بأن الياء عارض سكونها أو أصلها فقوله سكونا أو أصلا منصوبان على التمييز ونقل حركة همزة أصلا إلى واو أو فكأنه أراد تعليلين ولو أراد أن يجعل المجموع علة واحدة لقال سكونا وأصلا أي سكونها عارض وأصلها عارض وكلا التعليلين غير مستقيم ، أما السكون العارض فغير صالح لأن يمنع الإدغام كما لم يمنع في نحو (فاصبر لحكم)-(ومن لم يتب فأولئك) ، وأما إن كانت في نفسها عارضة وأصلها همزة فكان ينبغي أن يجري فيها الوجهان المتقدمان في يبتغ ونحوه نظرا إلى الأصل وإلى ما عليه اللفظ الآن وفي قوله عارض أصلا نظر فإن الأصل هو الهمز وليس بعارض ولو قال لفظا موضع أصلا لكان أبين وشيخنا أبو الحسن زاد في شرحه بآخره أن أصلا منصوب على المصدر كقولك ما فعلته أصلا ، قال وأو بمعنى بل أو بمعنى الواو فكأنه جعل المجموع علة واحدة والظاهر خلافه ، ثم الصواب أن يقال لا مدخل لهذه الكلمة في هذا الباب بنفي ولا إثبات فإن الياء كما زعم الناظم ساكنة وباب الإدغام الكبير مختص بإدغام المتحرك وإنما موضع ذكر هذه قوله وما أول المثلين فيه مسكن فلا بد من إدغامه وعند ذلك يجب إدغامه لسكون الأول وقبله حرف مد فالتقاء الساكنين فيه على حدهما ، على أني أقول سبب الإظهار عدم التقاء المثلين بسبب أن أبا عمرو رحمه الله كان يقرأ هذه الكلمة بتليين الهمزة بين بين وعبروا عنه بياء مختلسة الكسرة والهمزة المسهلة كالمحققة ، قال أبو بكر بن مهران ولا تدغم واللائي يئسن لأنها ليست بياء خالصة فيدغمها في مثلها إنما هي همزة ملينة ولو كانت ياء خالصة لأدغم ، قلت ومن عبر من الرواة عن قراءة أبي عمرو بإسكان الياء خفي عنه أمر التسهيل فلم يضبطه والله أعلم ، وقد نظمت هذا التعليل الصحيح فقلت ، (وقبل يئسن الياء في اللاء همزة ملينة حقا

فأظهر مسهلا).
باب إدغام الحرفين المتقاربين في كلمة و في كلمتين
(132)
وَإِنْ كِلْمَةٌ حَرْفَانِ فِيهَا تَقَارَبَا فإِدْغَامُهُ لِلْقَافِ في الْكافِ مُجْتَلاَ
كلمة فاعل فعل مضمر أي وإن وجدت كلمة وكان ينبغي أن يكون بعدها ما يفسر هذا المضمر كقوله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك) ، فالوجه أن يقول وإن كلمة وجد فيها حرفان تقاربا فيكون حرفان فاعل فعل مضمر ، أو نقول حرفان مبتدأ وتقاربا خبره ولك أن تجعل حرفان بدلا من كلمة بدل بعض من كل فيكون تقاربا نعت حرفان وهو تفسير للمضمر المقدر أي وإن تقارب حرفان في كلمة والهاء في فإدغامه تعود على أبي عمرو وهو مبتدأ ومجتلى خبره أي إدغام أبي عمرو للقاف في الكاف مكشوف منظور إليه أي أنه مشهور ظاهر ويجوز أن يكون الخبر قوله للقاف في الكاف كما تقول إكرامي لزيد أي أخصه بذلك دون غيره فكذا هاهنا أي إدغام أبي عمرو في الحرفين المتقاربين في كلمة كائن للقاف في الكاف لا غير ومجتلى على هذا في موضع نصب على الحال ، ومعنى البيت أنه لم يدغم من كل حرفين متقاربين التقيا في كلمة واحدة سوى القاف في الكاف بشطرين يأتي ذكرهما في البيت الآتي فنحو متجاورات ويتدبرون والمتطهرين ويتذكرون والمتصدقين لا يدغمه وإن كانت التاء تدغم في الجيم والدال والطاء والذال والصاد على ما سيأتي في هذا الباب وغيره ، ثم ذكر الشرطين فقال
(133)
وَهذَا إِذَا مَا قَبْلَهُ مُتَحَرِّكٌ مُبِينٌ وَبَعْدَ الْكافِ مِيمٌ تَخَلَّلاَ

ما زائدة مثلها في قوله تعالى (وإذا ما أنزلت سورة) ، أي وهذا الإدغام كائن إذا استقر قبل القاف حرف متحرك ووقع بعد الكاف ميم وإنما اشترطا ليكونا على منهاج ما أدغم من المثلين في كلمة وهو (مناسككم - وما سلككم) وقوله (مبين) أي بين ولم يحترز به من شيء وإنما هو صفة مؤكدة ، ومعنى تخلل من قولهم تخلل المطر إذا خص ولم يكن عاما أي تخلل أبو عمرو بإدغامه ذلك ولم يعم جميع ما التقت فيه القاف بالكاف ، وقيل الضمير في تخلل للميم من تخللت القوم إذا دخلت بين خللهم وخلالهم أي تخلل الميم الحروف التي قبله وبعده والله أعلم
(134)
كَيَرْزُقْكُّمُ وَاثقَكُّمُوا وَخَلَقكُّمُو وَمِيثَاقَكُمْ أظْهِرْ وَنَرْزُقُكَ انْجلاَ
مثل في النصف الأول من البيت ما وجد فيه الشرطان من التحريك والميم فأتى بثلاثة أمثلة فالكلمة الأولى يمكن أن تقرأ في البيت مدغمة وغير مدغمة وما بعدها لا يتزن الشعر إلا بقراءتهما مدغمتين ويلزم الإدغام في الثلاثة صلة الميم بواو ثم قال وميثاقكم أظهر لأجل فقد أحد الشرطين وهو تحريك ما قبل القاف ونرزقك أيضا أظهره لفقد الشرط الثاني وهو عدم وجود الميم في آخره ومعنى انجلى انكشف أي ظهر الأمر بتمثيل المدغم وغير المدغم وميثاقكم في البيت بفتح القاف لأنه مفعول أظهر وقد جاء في القرآن منصوبا في البقرة ومرفوعا في الحديد على قراءة أبي عمرو فلم يمكن أن تجعله حكاية إذ يعم المحكي في الموضعين وقد روى إدغام ما قبله ساكن وروى ترك الإدغام في المتحرك أيضا وأما قوله في سورة المرسلات (ألم نخلقكم) فمجمع على إدغامه
(135)
وَاِدْغَامُ ذِي التَّحْرِيمِ طَلَّقَكُنَّ قُلْ أَحَقُّ وَبِالتَّأْنِيثِ وَالْجَمْعِ أُثْقِلاَ

أي وقل إدغام طلقكن أحق مما تقدم ذكره من يرزقكم ونحوه أي أولى بالإدغام منه لأن الإدغام أريد به التخفيف وكلما كانت الكلمة أثقل كان أشد مناسبة للإدغام مما هو دونها في الثقل وقد وجد فيه أحد الشرطين وهو تحريك ما قبل القاف وفقد الشرط الثاني وهو الميم ولكن قام مقامها ما هو أثقل منها وهو النون لأنها متحركة ومشددة ودالة على التأنيث والميم ساكنة خفيفة دالة على التذكير فهذا وجه الأحقية بذلك والناظم جعله قد ثقل بالتأنيث والجمع ، أما التأنيث فهو ما أشرنا إليه وهو أحد أسباب الترجيح الثلاثة وأما الجمع فمشترك فإن الميم أيضا دالة على الجمع فإن أردت نظم المرجحات الثلاثة فقل ، (وطلقكن ادغم أحق فنونه محركة جمع المؤنث ثقلا) ، أي هو أحق يعني الإدغام ومحركة وما بعدها أخبار لقوله فنونه والنون تؤنث وتذكر فلهذا أنث محركة وذكر ثقلا ، وكان ابن مجاهد وعامة أصحابه يظهرونه لما يلزم في الإدغام من توالي ثلاثة أحرف مشددة اللام والكاف والنون ، واختلف الرواة عن أبي عمرو في إدغامه ، واختلف المشايخ في الاختيار من ذلك فمنهم من أظهره للاستثقال المذكور ومنهم من أدغمه وقال هو أحق لما تقدم ذكره وقول الناظم ذي التحريم أي صاحب التحريم أي الحرف الذي في سورة التحريم وقوله (طلقكن) بيان له
(136)
وَمَهْماَ يَكُونَا كِلْمَتَيْنِ فَمُدْغِمٌ أَوَائِلِ كِلْمِ الْبَيْتِ بَعْدُ عَلَى الْوِلاَ

أي ومهما يكن المتقاربان ذوي كلمتين أي إذا التقيا في كلمتين على حد التقاء المثلين فيما تقدم فأبو عمرو مدغم من ذلك الحروف التي هي أوائل كلم البيت الآتي عقيب هذا البيت فهذا معنى قوله بعد على الولا أي بعد هذا البيت وهو الذي يليه والولاء المتابعة وهو ممدود وقف عليه وأبدل همزه فانقصر وأراد خذ كلم هذا البيت الآتي على الولاء أي استوعبها يتلو بعضها بعضا والكلم جمع كلمة كلاهما بفتح الكاف فكسر اللام ويجوز فيهما إسكان اللام ونقل حركتها إلى الكاف فتكسر فعلى هذا استعملهما في هذا البيت وغيره والكلمة في عرف القراء الحروف المتصلة ما لم يحسن قطع شيء منها مما قبلها فنحو (خلقكم-وطلقكن) كلمة وهي كلمات عند أهل النحو وبما ومنه كل واحدة عندهم كلمتان وهي في العرف كلمة ، والغرض من هذا أن تعلم أن كلمات البيت الآتي التي تأخذ حروفها الأوائل ست عشرة كلمة فخذ منها ستة عشر حرفا ثم ذكرها فقال
(137)
(شِ)فَا (لَـ)ـمْ (تُـ)ـضِقْ (نَـ)ـفْسًا (بِـ)ـهَا (رُ)مْ(دَ) وَا(ضَ)نٍ (ثَـ)ـوَى (كَ)ـانَ (ذَ)ا (حُـ)سْنٍ (سَـ)ـأى (مِـ)ـنْهُ (قَـ)ـدْ (جَـ)ـلاَ

اعلم أنه أتى في مثل هذا البيت الذي يذكر فيه كلما لأجل حروف أوائلها تضمنها معاني قصدها من غزل ومواعظ لئلا يبقى كلاما منتظما صورة لا معنى تحته وقد ضمن هذا البيت التغزل بامرأة من نساء الآخرة وسماها شفا وقد سمت العرب بذلك النساء وكثر في أمهات القرشيين وهو ممدود وقصره ضرورة ولم ينونه لأنه جعله علما على مؤنث وقوله لم تضق نفسا أي أنها حسنة الخلق ونصب نفسا على التمييز ورم أي اطلب بها أي بوصلها وقربها دواء ضن وقصر دواء ضرورة أي دواء رجل ضن على أنه اسم منقوص ولو قال ضنا بالفتح على أنه مقصور لكان معناه أيضا حسنا والضنا بالقصر المرض يقال منه ضنى بالكسر ضنا شديدا فهو رجل ضنا وضن مثل حرا وحر قاله الجوهري ومعنى ثوى أقام وسأى على وزن رأى مقلوب ساء على وزن جاء وهو بمعناه ومثله له نأى وناء أي ساءت حاله من أجل الضنا أو كانت مساءته ناشئة من الضنا وقوله قد جلا أي كشف الضنا أمره فالضمير في ثوى ومنه وجلا للضنا الدال عليه لفظ ضن وفي كان وسآى لضن وهذه جمل أتى بها من غير حرف عطف استئنافا لا أخبارا بعد أخبار كقوله تعالى (يدبر الأمر يفصل الآيات)-(الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان) ، وقيل المعنى سأى من يرى ذلك منه أو ساءه الضنا على أن من زائدة وسيذكر كل حرف من هذه الستة عشر فيما ذا يدغم ولكن لم يلتزم ترتيب ما في هذا البيت بل أتى به على ترتيب صاحب التيسير ولم يمكنه جمع الحروف على ذلك الترتيب في بيت له معنى مستقيم فخالف الترتيب في جميع حروفها ثم شرط في إدغام هذه الحروف الستة عشر أن تكون سالمة من أربعة أوصاف فقال
(138)
إِذَا لَمْ يُنَوَّنْ أَوْ يَكُنْ تَا مُخَاطَبٍ وَمَا لَيْسَ مَجْزُومًا وَلاَ مُتَثَقِّلاَ

أ ي إذا لم يكن الحرف المدغم موصوفا بإحدى هذه الصفات الأربع فالمنون وتاء المخاطب والمثقل مضى الكلام عليها في باب المثلين وإذا امتنع إدغام ذلك هناك فهنا أولى ، فمثال المنون (في ظلمات ثلاث)-(شديد تحسبهم)-(رجل رشيد)-(نذير لكم) ومثال الخطاب (كنت ثاويا)-(فلبثت سنين)-(دخلت جنتك)-(خلقت طينا) ومثال المثقل (أو أشد ذكرا)-(للحق كارهون)-(لا يضل ربي)-(لنؤمنن لك) ، ولم يقع في القرآن تاء متكلم عند مقارب لها فلهذا لم يذكرها في المستثنى ، وأما المجزوم فنحو (لم يؤت سعة) ، لم يدغم بلا خلاف وإن كان المجزوم في باب المثلين فيه وجهان لأن اجتماع المثلين أثقل من اجتماع المتقاربين وسيأتي خلاف في قوله تعالى (ولتأت طائفة)-(وآت ذا القربى) ، لأن الطاء والدال أقرب إلى التاء من السين ويأتي خلاف في (جئت شيئا فريا) ، ولم يذكر الناظم تمثيلا لما استثنى من المتقاربين كما ذكر في المثلين وكان ذكر المتقاربين أولى لعسر أمثلته وقد نظمت فيه بيتا فقلت ، (نذير لكم مثل به كنت ثاويا ولم يؤت قبل السين هم بها انجلا) ، أراد يؤت سعة من المال ولم يمكن نظمه لكثرة حركاته فقال قبل السين
(139)
فَزُحْزِحَ عَنِ النَّارِ الَّذِي حَاهُ مُدْغَمٌ وَفي الْكاَفِ قَافٌ وَهْوَ في الْقَافِ أُدْجِلاَ

شرع من هنا يبين المواضع التي أدغمت فيها تلك الحروف الستة عشر فبدأ بالحاء أي أدغمت في العين في قوله تعالى (فمن زحزح عن النار) ، فقط لطول الكلمة وتكرر الحاء فيها وهذا هو المشهور ورواية الجمهور وروى ترك إدغامه وروى إدغامها في العين حيث التقيا مطلقا نحو (ذبح على النصب)-(والمسيح عيسى)-(فلا جناح عليهما) ، وقوله فزحزح عن النار بالفاء أراد فمنها أي من الكلمات المدغمات زحزح الذي أدغم حاؤه وقصر الحاء ضرورة ثم ذكر أن القاف والكاف يدغم كل واحد منهما في الآخر بشرط أن يتحرك ما قبل كل واحد منهما ، وقد بين ذلك في البيت الآتي ولم يذكر في الكلمة الواحدة إلا إدغام القاف في الكاف فقط لأن عكسه لم يوجد في القرآن ثم مثل ذلك فقال
(140)
خَلَقْ كُلَّ شَيْءٍ لَكْ قُصُوراً وأَظْهِرَا إِذَا سَكَنَ الْحَرْفُ الَّذِي قَبْلُ أُقْبِلاَ
نطق بالحرفين مدغمين في هذين المثالين ثم قال وأظهرا يعني القاف والكاف إذا سكن الحرف الذي قبلهما نحو (وفوق كل)-(وتركوك قائما) ، ويقال أقبلته الشيء إذا جعلته يلى قبالته يقال أقبلنا الرماح نحو القوم وأقبلنا الإبل أفواه الوادي فهذه ثلاثة أحرف من الستة عشر الحاء والقاف والكاف ثم ذكر الجيم فقال
(141)
وَفي ذِي المَعَارِجِ تَعْرُجُ الْجِيمُ مُدْغَمٌ وَمِنْ قَبْلُ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قَدْ تَثَقَّلاَ
أي أدغم حرف الجيم في حرفين التاء في (ذي المعارج تعرج) والشين في (أخرج شطأه) ، وهو قبل ذي المعارج في تأليف القرآن وليس لهما نظير وحكى الإظهار فيهما وقوله قد تثقلا أي أدغم ثم ذكر الشين والضاد فقال
(142)
وَعِنْدَ سَبِيلاً شِينُ ذِي الْعَرْشِ مُدْغَمٌ وَضَادُ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ مُدْغَمًا تَلاَ

أراد قوله تعالى في سبحان (إلى ذي العرش سبيلا) ، ولا يجوز عند النحويين إدغام الشين والضاد إلا في مثلهما ولم يلتق منهما مثلان في القرآن ويجوز في قوله وضاد الرفع على الابتداء وتلا خبره أي تبع ما قبله في حال كونه مدغما ويجوز نصبه على أنه مفعول تلا وفاعله ضمير يعود على أبي عمرو أي تلاه أبو عمرو أي قرأه مدغما
(143)
وَفي زُوِّجَتْ سِينُ النُّفُوسِ وَمُدْغَمٌ لَهُ الرَّأْسُ شَيْبًا بِاخْتِلاَفٍ تَوَصَّلاَ
أي وأدغمت سين النفوس في زاي زوجت من قوله تعالى (وإذا النفوس زوجت) وموضع قوله (الرأس شيبا) ، رفع بالابتداء وقوله ومدغم له خبر مقدم عليه والضمير في له لأبي عمرو ويقال توصل إليه أي تلطف في الوصول إليه أي وصل الخلاف إلى هذا الحرف ففي هذا البيت إدغام السين في حرفين ثم قال
(144)
وَلِلدَّالِ كَلْمٌ (تُـ)رْبُ (سَـ)ـهْلٍ (ذَ)كَا (شَـ)ـذاً (ضَـ)ـفَا (ثُـ)ـمَّ (زُ)هْدٌ (صِـ)ـدْقُهُ (ظَ)ـاهِرٌ (جَ)ـلاَ

أي وللدال كلم تدغم عندها وهي ما وافق أوائلها أوائل هذه الكلمات العشر في هذا البيت من قوله ترب سهل إلى قوله جلا ، وضمن في هذا البيت الثناء على أبي محمد سهل بن عبد الله التستري أحد أولياء الله المشهورين ، قال القشيري في رسالته هو أحد أئمة القوم ولم يكن له في وقته نظير في المعاملات والورع وكان صاحب كرامات ، لقي ذا النون المصري بمكة سنة حج توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين وقيل ثلاث وسبعين والترب والتراب وذكا من قولهم ذكت النار تذكو ذكا مقصور أي اشتعلت والشذا حدة الرائحة أي فاحت رائحة ترابه يشير بذلك إلى الثناء عليه وما ظهر من كرامته وأعماله الصالحة وشذا منصوب على التمييز أي ذكا شذاه وصفا طال يشير إلى كثرة ذلك وثم بفتح الثاء بمعنى هناك أي دفن في ذلك التراب زهد ظاهر الصدق لم يكن عن رياء ولا تصنع وجلا بمعنى كشف أي أو صح الزهد أمر سهل رحمة الله عليه وأبان أنه من خيار عباد الله ، وقال الشيخ أراد جلاء بالمد وهو منصوب على التمييز أي صدق ذلك الزهد ظاهر أي بين مكشوف جلاء مثال إدغام الدال في الحروف العشرة ، (في المساجد تلك)-(عدد سنين)-(والقلائد ذلك)-(وشهد شاهد)-(من بعد ضراء)-(يريد ثواب)-(تريد زينة)-(نفقد صواع)-(من بعد ظلمه)-(داود جالوت) وفي (دار الخلد جزاء) خلاف ، ثم ذكر حكم الدال بعد الساكن فقال
(145)
وَلَمْ تُدَّغَمْ مَفْتُوحَةً بَعْدَ سَاكِنٍ بِحَرْفٍ بِغَيْرِ التَّاءِ فَاعْلَمْهُ وَاعْمَلاَ

تدغم وتدغم لغتان بفتح الدال المشددة وإسكانها أي إذا انفتحت الدال وقبلها ساكن لم تدغم في غير التاء فالباء في بحرف وفي بغير التاء بمعنى في وبغير التاء بدل من قوله بحرف على إعادة العامل والألف في واعملا بدل من نون التأكيد ، فمثال الدال المفتوحة مع غير التاء (لداود سليمان)-(بعد ذلك زنيم)-(آل داود شكرا)-(وآتينا داود زبورا)-(بعد ضراء مسته)-(بعد ظلمه)-(بعد ثبوتها) ، فهذا كله لا يدغم ، ومثالها مع التاء (كاد تزيغ)-(بعد توكيدها) ، ولا ثالث لهما فهذان يدغمان لأن التاء من مخرج الدال فكأنهما مثلان فإن كسرت الدال أو ضمت بعد ساكن أدغمت نحو (من بعد ذلك)-(وقتل داود جالوت)
(146)
وفِى عَشْرِهَا وَالطَّاءِ تُدْغَمُ تَاؤُهَا وَفي أَحْرُفٍ وَجْهَانِ عَنْهُ تَهَلَّلاَ

أي والتاء تدغم في حروف الدال العشرة وفي الطاء إلا أن من جملة حروف الدال العشرة التاء فيكون إدغام التاء فيها من باب المثلين وإنما لم يستننها لحصول الغرض مع الاختصار من غير إلباس فإذا أسقطت التاء من العدد عددت الطاء عوضها فيكمل للتاء أيضا عشرة أحرف ولم يلق الدال طاء في القرآن فلهذا لم يذكر الطاء في حروفها وكذا لم يلق التاء دالا في القرآن إلا والتاء ساكنة نحو (أجيبت دعوتكما) ، وذلك واجب الإدغام كما سيأتي فلهذا أيضا لم يذكر الدال في حروف التاء والهاء في عشرها للدال وفي تائها يجوز أن يكون للدال ويجوز أن يكون للعشر وأن يكون للحروف السابقة الستة عشر ، وفي شرح الشيخ لك أن تعيد الضمير في عشرها على الأحرف السابقة التي للدال وهو مشكل فإنه من إضافة الشيء إلى نفسه وذلك غير جائز فمثال إدغام التاء في الطاء (الملائكة طيبين) ومع السين (بالساعة سعيرا) ومع الذال (والذاريات ذروا) ومع الشين (بأربعة شهداء) ومع الضاد (والعاديات ضبحا) ولا ثاني له ومع الثاء (والنبوة ثم يقول) ومع الزاي (إلى الجنة زمرا) ومع الصاد (والملائكة صفا) ومع الظاء (والملائكة ظالمي) ، في النساء والنحل ليس غيره ومع الجيم (وعملوا الصالحات جناح) ، ولم يذكر في التاء ما ذكره للدال من كونها لم تدغم مفتوحة بعد ساكن لأن التاء لم تقع كذلك إلا وهي حرف خطاب وهو قد علم استثناؤه نحو (دخلت جنتك)-(وأوتيت سؤلك) ، إلا في مواضع وقعت فيها مفتوحة بعد ألف فهي على قسمين منها ما نقل فيها الخلاف وهي الأربعة المذكورة في البيت الآتي وهي المشار إليها بقوله وفي أحرف وجهان عنه تهللا والألف في تهللا ضمير الوجهين أي استنارا وظهرا ونقلا عن أبي عمرو ومنها موضع واحد لا خلاف في إدغامه وهو قوله (وأقم الصلاة طرفي النهار) ، لأن الطاء من مخرج التاء فهو كاستثناء التاء مع الدال لأن الثلاثة من مخرج واحد ولو اتفق أن وقعت الطاء بعد الدال المفتوحة بعد ساكن لكان هذا

حكمها ، وأما (بيت طائفة) ، فأكثر المصنفين في الإدغام لا يذكرونه في الإدغام الكبير بل يذكرونه في سورته ، وسببه أن أبا عمرو كان يدغمه وإن لم يقرأ بالإدغام الكبير وهو معنى قولهم إنه كان يدغمه في الأحوال كلها وبعضهم يقول في الحالين أي سواء قرأ بالإدغام أو بالإظهار فهذا الموضع لابد من إدغامه عنده ، ثم اختلفوا هل هو من قبيل الإدغام الكبير أو الصغير وهو مبني على أن التاء في قراءته مفتوحة أو ساكنة والظاهر أنها مفتوحة كقراءة الجماعة فيكون من باب الإدغام الكبير وقد بينا وجه الخلاف في ذلك في الشرح الكبير
(147)
فَمَعَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ الزَّكَاةَ قُلْ وَقُلْ آتِ ذَا الْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ عَلاَ

أي قل هي الزكاة مع حملوا التوراة ولو قال الزكاة ثم قل آت لكان أولى لأنه أبين لموضع الإدغام وتخلص من تكرار قل أراد قوله تعالى في البقرة (وآتوا الزكاة ثم توليتم) ، وفي سورة الجمعة (حملوا التوراة ثم لم يحملوها) ، وأراد بقوله آت ذل قوله تعالى (وآت ذا القربى) ، في سورة سبحان وفي سورة الروم (فآت ذا القربى) ، وبين الذال ولام التعريف من القربي ألفان أحدهما ألف ذا والأخرى همزة الوصل في القربى وهي تسقط في الدرج وسقطت ألف ذا لأجل لام التعريف بعدها لكونها ساكنة فلهذا كتبتها أناذل بإسقاط الألفين على صورة اللفظ ويقع في النسخ بالألفين على الأصل وقطع لام التعريف مما دخلت عليه جائز في الشعر كقوله دع ذا وقدم ذا وألحقنا بذل وقصد الناظم بذلك زيادة البيان وإلا فكان يمكنه أن يقول وقل آت ذا والهمزة في (ولتأت طائفة) تبدل ألفا في قراءة المدغم فجاءت التاء في هذه المواضع الأربعة بعد ألف فوجه الخلاف في التوراة والزكاة كونها مفتوحة بعد ساكن فخفت فلم تدغم ووجه الخلاف في آت ولتأت ما تقدم في (ومن يبتغ غير الإسلام) ، لأنها كلها من المجزوم ولا خلاف في إظهار (ولم يؤت سعة) ، وهو مثلهما وليس قوله علا رمزا لأن الباب كله لأبي عمرو وقد تقدم قوله وفي أحرف وجهان عنه
(148)
وَفي جِئْتِ شَيْئًا أَظْهَرُوا لِخِطَابِهِ وَنُقْصَانِهِ وَالْكَسْرُ الإِدْغَامَ سَهَّلاَ

يريد قوله في سورة مريم عليها السلام ، (لقد جئت شيئا فريا) ، بكسر التاء فهذا الذي اختلف فيه فأما مفتوح التاء فلا خلاف في إظهاره وهو موضعان في الكهف (لقد جئت شيئا إمرا)-(فقد جئت شيئا نكرا) ، لأن تاء الخطاب لم تدغم في المثلين ففي المتقاربين أولى أن لا تدغم فعلل وجه الإظهار بالخطاب يعني بالخطاب الموجود فيه تاء الخطاب وأما مجرد الخطاب فغير مانع من الإدغام بدليل إدغام (لك كيدا) و(إنك كنت) ، ونحوه وعلل أيضا بالنقصان وهو حذف عين الفعل لسكون ما قبل تاء الخطاب وهذا مطرد في كل فعل معتل الوسط نحو قمت وبعت وسرت ووجه الإدغام ثقل الكسرة في التاء وهي ضمير تأنيث فهو الذي سهل الإدغام بخلاف ما في الكهف وبخلاف ثقل الضم في (كنت ترابا)
(149)
وَفي خَمْسَةٍ وَهْيَ الأَوائِلُ ثَاؤُهَا وَفي الصَّادِ ثُمَّ السِّينِ ذَالٌ تَدَخَّلاَ
الهاء في ثاؤها كما تقدم في تاؤها تعود على الحروف السابقة أو على الدال أو على عشرها أي أدغمت الثاء المثلثة في خمسة أحرف وهي الخمسة الأوائل من حروف الدال يريد أوائل كلمات ترب سهل ذكا شذا ضفا مثال ذلك ، (حيث تؤمرون)-(وورث سليمان)-(والحرث ذلك) و(حيث شئتم)-(وحديث ضيف) وليس غيره ، ثم ذكر أن الذال المعجمة أدغمت في السين والصاد المهملتين وذلك في (فاتخذ سبيله) ، في الكهف في موضعين وفي الجن موضع (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) ، والتدخل بمعنى الدخول يقال تدخل الشيء إذا دخل قليلا قليلا ومثله تحصل من حصل وتعلم من علم
(150)
وَفي الَّلامِ رَاءٌ وَهْيَ في الرَّا وَاُظْهِرَا إِذا انْفَتَحَا بَعدَ المُسَكَّنِ مُنْرَلاَ

أي إذا أدغمت اللام في الراء والراء في اللام ونحو (كمثل ريح)-(هن أطهر لكم) ، وفي إدغام الراء ضعف عند نحاة البصرة وإذا انفتحا بعد مسكن أظهرا نحو (فعصوا رسول ربهم)-(إن الأبرار لفي) ، ومنزلا حال من ضمير المسكن المقدر فيه وأنت ضمير اللام في قوله وهي ، ثم ذكر ضمير اللام والراء معا في قوله وأظهرا إذا انفتحا جمعا بين اللغتين وقصر الراء ضرورة
(151)
سِوَى قالَ ثُمَّ النُّونُ تُدْغَمُ فِيهِمَا عَلَى إِثْرِ تَحْرِيكٍ سِوَى نَحْنُ مُسْجَلاَ
يعني سوى كلمة قال فإنها أدغمت في كل راء بعدها وإن كانت اللام مفتوحة وقبلها حرف ساكن وهو الألف نحو (قال ربي)-(قل رجلان)-(وقال ربكم) ، لأن ذلك كثير الدور في القرآن فخفف بالإدغام بخلاف (فيقول رب)-(رسول ربهم) ونحوه ، ثم ذكر أن النون تدغم فيهما أي في الراء واللام بشرط أن يتحرك ما قبلهما وهو معنى قوله على إثر تحريك أي تكون النون بعد محرك مثل (وإذ تأذن ربك)-(خزائن رحمة ربي)-(لن نؤمن لك)-(من بعد ما تبين لهم) ، فإن وقع قبل النون ساكن لم تدغم مطلقا سواء كان ذلك الساكن ألفا أو غيرها وسواء كانت النون مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة نحو (يخافون ربهم)-(بإذن ربهم)-(أنى يكون له الملك) ، ولهذا قال مسجلا أي يشترط التحريك قبلها مطلقا في جميع أحوال النون وليس الأمر فيها كما سبق في اللام والراء من أنه لم يستثن من ذلك إلا المفتوح بعد ساكن ، ثم قال الشيخ الشاطبي رحمه الله سوى نحن أي استثنى مما قبل النون فيه ساكن كلمة نحن فأدغمت في اللام بعدها حيث أتت نحو (ونحن له)-(وما نحن لك) ، وهو عشرة مواضع ومسجلا حال من فاعل تدغم العائد على النون أو هو نعت مصدر محذوف أي إدغاما مطلقا ويجوز أن يكون حالا من نحن أي في جميع القرآن والأول أولى والله أعلم
(152)
وَتُسْكُنُ عَنْهُ الْمِيمُ مِنْ قَبْلِ بَائِهَا عَلَى إِثْرِ تَحْرِيكٍ فَتَخْفَى تَنَزُّلاَ

عنه يعني عن أبي عمرو والهاء في بائها تعود على الحروف السابقة أو على الميم وتخفي عطف على تسكن غير أن تاء تخفي مفتوحة وتاء تسكن مضمومة وتنزلا تمييز وقوله على إثر تحريك أي تكون الميم بعد محرك نحو (آدم بالحق)-(أعلم بالشاكرين)-(علم بالقلم)-(حكم بين العباد) والمصنفون في التعبير عن هذا مختلفون فمنهم من يعبر عنه بالإدغام كما يطلق على ما يفعل بالنون الساكنة والتنوين عند الواو والياء أنه إدغام وإن بقي لكل واحد منهم غنه كما يبقى الإطباق في الحرف المطبق إذا أدغم ومنهم من يعبر عنه بالإخفاء لوجود الغنة وهي صفة لازمة للميم الساكنة فلم يكن إدغاما محضا فإن سكن ما قبل الميم أظهرت نحو (إبراهيم بنيه)-(اليوم بجالوت)-(وأولوا الأرحام بعضهم) وقيل في ذلك خلاف
(153)
وَفي مَنْ يَشَاءُ با يُعَذِّبُ حَيْثُمَا أَتَى مُدْغَمٌ فَادْرِ الأُصُولَ لِتَأْصُلاَ
أي وإدغام الباء من كلمة (يعذب) في (من يشاء) حيث أتى في القرآن (يعذب من يشاء) ، بضم الباء وهو خمسة مواضع سوى الذي في البقرة فإنه ساكن الباء في قراءة أبي عمرو فهو واجب الإدغام عنده من جهة الإدغام الصغير لا الإدغام الكبير ولهذا وافقه عليه جماعة على ما سنذكره فقوله با مبتدأ وقصره ضرورة ومدغم خبره وما عدا كلمة يعذب لا يدغم باؤها في الميم نحو (ضرب مثل)-(سنكتب ما قالوا) ، لأنه اقتون بكلمة بعذب ما يجب إدغامه في أصله وهو (يرحم من)-(ويغفر لمن) ، إما قبلها أو بعدها فطرد الإدغام فيه موافقة لما جاورها فهذا آخر ذكر إدغام الحروف الستة عشر ولهذا ختم ذلك بقوله فادر الأصول أي قف على أصول الإدغام وحصلها لتأصلا أي لتشرف يقال رجل أصيل الرأي أي محكم الرأي وقد أصل أصالة ، ثم لما فرغ من تفصيل الحروف المدغمة في باب المتقاربين ذكر بعد ذلك ثلاث قواعد تتعلق بجميع باب الإدغام الكبير مثليا كان أو متقاربيا كل قاعدة في بيت فقال في القاعدة الأولى
(154)

وَلاَ يَمْنَعُ الإِدْغامُ إِذْ هُوَ عَارِضٌ إِمَالَةَ كَالأَبْرَارِ وَالنَّارِ أُثْقِلاَ
أثقلا أي ثقيلا وهو حال من الإدغام يريد بالثقل التشديد الحاصل بالإدغام ولم يرد أنه أثقل لفظا من الإظهار لأنه ما أدغم إلا طلبا للخفة وإذ هو عارض ظرف خرج مخرج التعليل ، وقد سبق تحقيق القول فيه في شرح قوله إذ ما نسوه فيمحلا وإمالة مفعول يمنع وسقط التنوين منه لإضافته إلى كالأبرار وهو مشكل فإنه ليس في القرآن كالأبرار بالكاف فالوجه أن يقال هو مضاف إلى الكاف وحدها وهي هنا اسم بمعنى مثل كقول الراجز ، (يضحكن عن كالبرد المثهم ) ، أي إمالة مثل الأبرار ويجوز أن تكون الكاف ضمير المخاطب والأبرار مفعول إمالة أي إمالتك الأبرار فهو مثل قوله وإضجاعك التوراة والناظم رحمه الله كان ضريرا فأملى هذا اللفظ فسبق إلى ذهن الكاتب السامع منه أنها كاف التشبيه فكتبها متصلة بالأبرار والله أعلم أي لا يمنع الإدغام في حال ثقله إمالة الألف في نحو (وتوفنا مع الأبرار ربنا)-(إن كتاب الأبرار لفي علين) ، لزوال الكسر الموجب للإمالة بالإدغام وعلة ذلك أن الإدغام عارض فكأن الكسرة موجودة وهو كالوقف الذي تحذف الحركة فيه أيضا فهي وإن حذفت مرادة منوية وهذه مسألة من مسائل الإمالة فبابها أليق من باب الإدغام ، وقد ذكر في باب الإمالة أن عروض الوقف لا يمنع الإمالة فالإدغام معه كذلك ، وكان يغنيه عن البيتين هنا وثم أن يقول ، (ولا يمنع الإدغام والوقف ساكنا إمالة ما للكسر في الوصل ميلا) ، فيستغني عن بيتين مفرقين في بابين بهذا البيت الواحد في باب الإمالة ، ثم ذكر القاعدة الثانية فقال
(155)
وَأَشْمِمْ وَرُمْ فِي غَيْرِ بَاءٍ وَمِيمِهَا مَعَ الْبَاءِ أَوْ مِيمٍ وَكُنْ مُتَأَمِّلاَ

يعني بالإشمام والروم ما يأتي تحقيقه في باب الوقف على أواخر الكلم أي لك أن تشم وتروم في جميع الحروف المدغمة في المثلين والمتقاربين سوى أربع صور ، وهي أن يلتقي الباء مع مثلها نحو (نصيب برحمتنا) أو مع الميم نحو (يعذب من يشاء) ، أو يلتقي الميم مع مثلها نحو (يعلم ما) أو مع الباء نحو (أعلم بما كانوا) ، فهذا معنى قوله مع الباء أو ميم أي كل واحد من الباء والميم مع الباء أو ميم والهاء في ميمها تعود إلى الباء لأنها مصاحبتها ومن مخرجها أو تعود على الحروف السابقة ، والإشمام يقع في الحروف المضمومة والروم يدخل في المضمومة والمكسورة ولا يقعان في المفتوحة ، ويمتنع الإدغام الصحيح مع الروم دون الإشمام فالروم هنا عبارة عن الإخفاء والنطق ببعض الحركة فيكون مذهبا آخر غير الإدغام وغير الإظهار ، وهذان المذهبان المحكيان عن أبي عمرو من الإشمام والروم في الحروف المدغمة سيأتيان لجميع القراء في مسألة (لا تأمنا على يوسف) ، ووجه دخولهما في الحروف المدغمة وهما من أحكام الوقف أن الحرف المدغم يسكن للإدغام فشابه إسكانه إسكانه للوقف فجرت أحكام الوقف فيه ، واستثناء هذه الصور الأربع ، إنما يتجه بعض الاتجاه على مذهب الإشمام للعلة التي ذكرها صاحب التيسير وهو قوله لأن الإشارة تتعذر في ذلك من أجل انطباق الشفتين أي تتعسر لأن الإشارة بالشفة والباء والميم من حروف الشفة والإشارة غير النطق بالحرف فيتعذر فعلهما معا في الإدغام لأنه وصل ولا يتعذران في الوقف لأن الإشمام فيه هو ضم الشفتين بعد سكون الحرف فلا يقعان معا ، ومنهم من استثنى الفاء أيضا ومنهم من لم يستثن شيئا من ذلك ، أما الروم فلا يتعذر لأنه نطق ببعض حركة الحرف فهي تابعة لمخرجه فكما ينطق بالباء والميم بكل حركتهما كذلك ينطق بهما بعض حركتهما ، وأظن الناظم رحمه الله أشار إلى هذه الأشياء ونحوها بقوله وكن متأملا أي تأمل ما قد أطلقه المصنفون في التعبير عن ذلك بفهمك

وتدبره بعقلك وعلمك ونزل كل شيء في منزلته ولا تزله عن مرتبته ، وقد نقلت في الشرح الكبير ، من كلام المصنفين في ذلك عبارات كثيرة مختلفة ولله الحمد ، ثم ذلك القاعدة الثالثة فقال
(156)
وَإِدْغَامُ حَرْفٍ قَبْلَهُ صَحَّ سَاكِنٌ عَسِيرٌ وَبِالإِخْفَاءِ طَبَّقَ مَفْصِلاَ
أي إدغام الحرف الذي قبله حرف صحيح ساكن عسير أي يعسر النطق به وتعسر الدلالة على صحته لأنه يؤدي إلى الجمع بين الساكنين لأن الحرف المدغم لا بد من تسكينه وقوله عسير خبر المبتدإ الذي هو إدغام حرف وقوله قبله صح ساكن جملة في موضع الصفة لحرف ، واحترز بقوله صح ساكن عما قبله ساكن ليس بحرف صحيح بل هو حرف مد فإن الإدغام يصح معه نحو(فيه هدى)-(وقال لهم) ، ويقول ربنا وكذا إذا انفتح ما قبل الواو والياء (قوم موسى) ، كيف فعل فإن في ذلك من المد ما يفصل بين الساكنين ، وأما ما قبله ساكن صحيح فلا يتأتى إدغامه إلا بتحريك ما قبله وإن خفيت الحركة فإن لم يحرك انحذف الحرف الذي تسكنه للإدغام وأنت تظن أنه مدغم ودليل ذلك أن العرب إذا أدغمت نحو ذلك في الكلمة الواحدة حركت الساكن نحو استعد واستعف ولذلك لما أجمع على إدغام الميم في مثلها في ، (فنعما هي) ، كسرت العين وهي ساكنة في غير هذا الموضع نحو (نعم العبد) ، فإذا ثبت أن ذلك ممتنع الإدغام لم يبق فيه إلا الإظهار أو الروم السابق ذكره وهو النطق ببعض الحركة ويعبر عنه بالاختلاس وبالإخفاء فهذه العبارات كلها صحيحة والتعبير عنه بالإدغام تجوز ، قال الجوهري في (شهر رمضان) ، إنما هو بحركة مختلسة ولا يجوز أن تكون الراء الأولى ساكنة لأن الهاء قبلها ساكنة فيؤدي إلى الجمع بين الساكنين في الوصل من غير أن يكون قبلها حرف لين وهذا غير موجود في شيء من لغات العرب وكذا (إنا نحن نزلنا الذكر) و(أمن لا يهدي) و( يخصمون) وأشباه ذلك قال ولا معتبر بقول القراء إن هذا ونحوه مدغم لأنهم لا يحصلون هذا الباب والضمير في طبق للقارئ

أي إذا أخفاه القارئ أصاب وإن رام إدغامه امتنع عليه ، ويجوز أن يكون الضمير للتعبير وإن لم يجر له ذكر لأنه مفهوم من سياق الكلام أي العبارة عنه بالإخفاء هي العبارة الصحيحة أو طبق من عبر عنه بالإخفاء مفصلا ، وقيل الضمير في طبق للحرف وليس بشيء ، ومعنى مفصلا أصاب وهو من قولهم طبق السيف إذا أصاب المفصل وكذا طبق الجزار المفصل ويقال للرجل إذا أصاب الحجة أنه يطبق المفصل ثم مثل ما قبله ساكن فقال
(157)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ ثُمَّ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَفي المَهْدِ ثُمَّ الخُلْدِ وَالْعِلْمِ فَاشْمُلاَ
ذكر أمثلة من المثلين والمتقاربين فذكر من المثلين (خذ العفو وأمر بالعرف)-(من العلم مالك) ومن المتقاربين (من بعد ظلمه) و(في المهد صبيا)-(ودار الخلد جزاء) ، وقوله فاشملا أراد فاشملن ثم أبدل من النون الخفيفة المؤكدة ألفا يقال شملهم الأمر إذا عمهم بكسر الميم في الماضي وفتحها في المضارع ، وفيه لغة أخرى وهي فتحها في الماضي وضمها في المضارع أي فاشمل الجميع من البابين بالحفظ والفهم أي اجمعه فالأمر من ذلك بفتح الميم على اللغة الفصيحة وبضمها على اللغة الأخرى ، وقال ابن دريد شمل الرجل وانشمل أسرع أي أسرع في حفظ ذلك وفهمه وتعليمه ولا تتبطأ في ذلك ولا تتخلف عنه والله أعلم
باب هاء الكناية
(158)
وَلَمْ يَصِلُوا هَا مُضْمَرٍ قَبْلَ سَاكِنٍ وَمَا قَبْلَهُ التَّحْرِيكُ لِلْكُلِّ وُصِّلاَ

قصر لفظ ها ضرورة أي هاء الضمير إذا لقيها ساكن لم توصل لجميع القراء لأن الصلة تؤدي إلى الجمع بين ساكنين بل تبقى الهاء على حركتها ضمة كانت أو كسرة ومثاله (لعلمه الذين)-(وجه ربه الأعلى) ، وكذا إذا كانت الصلة ألفا وذلك في ضمير المؤنث المجمع على صلته بها مطلقا فإن صلتها تحذف للساكن بعدها نحو (من تحتها الأنهار)-(فأجاءها المخاض) ، فقوله ولم يصلوا ها مضمر عام يشمل ضمير المذكر والمؤنث وإن كان خلاف القراء واقعا في المذكر فحسب فأمكن حمل اللفظ فيه على عمومه ، ولا يرد على هذا الإطلاق إلا موضع واحد في قراءة البزي فإنه يقرأ في سورة عبس عنهو تلهى بالصلة وتشديد التاء بعدها فقد وصل قبل ساكن في قراءته وأما قنبل فوصل قبل متحرك وهذا كما أنه يصل ميم الجميع في قوله تعالى (ولقد كنتمو تمنون)-(فظلتمو تفكهون) ، على رواية تشديد التاء بعدها ، ووجهه أن الجمع بين الساكنين في مثل هذا جائز فصيح من حيث اللغة لأن الأول حرف مد والثاني مدغم فهو من باب (دابة-والضالين) ، فإن قلت فلم لا يوصل نحو (لعلمه الذين) فهو كذلك ، قلت لأن الإدغام في الذين متأصل لازم بخلاف تلك المواضع وقد سبق هذا الفرق في ترك صلة ميم الجمع قبل الساكن ، ثم قال وما قبله التحريك أي والذي تحرك ما قبله من هاءات المضمر المذكر التي ليس بعدها ساكن فكل القراء يصلها بواو إن كانت مضمومة وبياء إن كانت مكسورة والضمير في وصل يرجع إلى ما لأنها بمعنى الذي وشدد وصل للتكثير لكثرة المواضع نحو كسر وقطع ومثال ذلك (أماته فأقبره)-(وختم على سمعه وقلبه) ، ووجه أصل الصلة أن الهاء حرف خفي فقوي بالصلة بحرف من جنس حركته إلا أن هذه الصلة تفعل في الهاء التي تكون من نفس الكلمة نحو (ما نفقه كثيرا)-(فواكه كثيرة)-(ولما أن توجه) ، لأن صلة مثل ذلك قد توهم تثنية وجمعا بخلاف هاء الضمير ولأن هاء الضمير اسم على حرف واحد فناسب أن تقوى وما أجروه مجرى هاء الضمير الهاء في اسم الإشارة

إلى المؤنث نحو (هذه ناقة الله) ، فهي موصولة للكل لتحرك ما قبلها وتحذف عند الساكن نحو (هذه النار) ، ثم إن الصلة تسقط في الوقف كما ذكرنا في صلة ميم الجمع إلا الألف في ضمير المؤنث ، وذلك لأن الصلة زيادة في الآخر لتتميم وتكميل فشابهت التنوين فحذفت كما تحذف مع الضم والكسر وتثبت مع الفتح كما تبدل من التنوين ألفا في الوصل
(159)
وَمَا قَبْلَهُ التَّسْكِينُ لاِبُنِ كَثِيرِهِمْ وَفِيهِ مُهَاناً مَعْهُ حَفْصٌ أَخُو وِلاَ

أي وصل ما قبله ساكن لابن كثيرهم وحده نحو (فيه-وعليه-وإليه-ومنه-واجتباه-وعقلوه) فإن لقي الهاء ساكنا لم يصل على ما سبق تقريره نحو (إليه المصير)-(فأراه الآية)-(يعلمه الله) ، وقراءة الباقين بترك الصلة في كل ما قبله ساكن وعلم ذلك من الضد لأن ضد الصلة تركها ، ووافق ابن كثير هشام على صلة (أرجئه) بواو على ما سنذكره ووافقه حفص على صلة (فيه مهانا) ، في سورة الفرقان بياء فهذا معنى قوله وفيه مهانا معه حفص أي مع ابن كثير والولاء بكسر الواو والمد بمعنى المتابعة مصدر والاه ولاء مثل راماه رماء وهذه اللفظة قد كثر ورودها في قافية هذه القصيدة وهذا معناها حيث جاءت ولوقوفه عليها سقط همزها ومدها على ما سبق تقريره في أجذم العلا فقوله وفيه مهانا مبتدأ وما بعده الخبر والعائد إلى المتبدإ محذوف للعلم به أي وهذه الكلمة حفص أخو متابعة لابن كثير فيها فقوله حفص مبتدأ ثان وخبره أخو ولا أي ذو متابعة لابن كثير في مذهبه لأن الموافقة كالمتابعة أو هو صاحب متابعة السنة في قراءته وكل من أكثر من شيء ولازمه جاز أن يدعى أخاه كقوله ، (قل لابن قيس أخي الرقيات ) ، فإن قلت هل يجوز أن تعود الهاء في معه إلى لفظ (فيه مهانا) كما يقال زيد معه المال ، قلت هو جائز من حيث اللفظ ولكنه ممتنع من جهة أنه يوهم أن حفصا وحده يصله دون ابن كثير وإن رجع الضمير في معه إلى ابن كثير زال هذا الوهم ، فمن قرأ بالصلة فعلى الأصل والأكثر على ترك الصلة تخفيفا وهشام وحفص جمعا بين اللغتين وقيل قصدا بالصلة تطويل اللفظ تشنيعا على (ملإ فرعون-ما أمروا به) وإسماعا للخلق ما أوعد به العاصي
(160)
وَسَكِّنْ يُؤَدِّهْ مَعْ نُوَلِّهْ وَنُصْلِهْ وَنُؤْتِهِ مِنْهَا فَاعَتَبِرْ صَافِياً حَلاَ

شرع يذكر ما وقع فيه الخلاف بين القراء في إسكان هاء الكناية منه وهو عشرة ألفاظ جاءت في خمسة عشر موضعا وهي (نوله-ونصله-ويأته-ويرضه-وألقه-ويتقه) فهذه ستة لم يكرر شيء منها (ويؤده-وأرجه-ويره) كل واحد جاء مرتين فهي ستة أيضا (ونؤته) في ثلاثة مواضع وعدها أبو بكر بن مجاهد ستة عشر موضعا فزاد (لم يره) ، في سورة البلد وكلها هاءات كناية اتصلن بأفعال حذفت أواخرها للجزم بالشرط أو جوابه أو للأمر ولم يذكرها صاحب التيسير إلا مفرقة في أماكنها في القرآن وكلها غير أرجئه كان واجب الصلة للكل لتحرك ما قبل الهاء ولكن عرض فيه أمر آخر اقتضى جواز الإسكان فيه وجواز القصر على ما سيأتي فصار فيها ثلاثة أوجه ولقد لفظ الناظم رحمه الله بالكلمات المذكورة في هذا البيت على الوجوه الثلاثة فسكن يؤده ونوله ووصل نصله وقصر (نؤته منها) ، وهذا من عجيب ما اتفق أي أن حمزة وأبا بكر عن عاصم وأبا عمرو سكنوا هاء الكناية في هذه الكلمات الأربع من بين العشر المذكورة وهي في سبعة مواضع (يؤده إليك) موضعان في آل عمران (نوله ما تولى ونصله) في سورة النساء (نؤته منها) موضع في (حم عسق) وموضعان في آل عمران ، فإن قلت من أين يعلم أنه أراد تكرير يؤده ونؤته وعادته في مثل ذلك أن يقول معا أو جميعا أو حيث أتى أو نحو ذلك قلت إطلاقه وعدم تقييده دل على ذلك لأنه ليس بعضه أولى به من بعض فإن ما يذكره في أبواب الأصول لنسبته إلى المواضع كلها سواء ولهذا قال (أرجئه) ولم يبين أنه في سورتين وإنما يحتاج إلى قوله معا وجميعا في فرش الحروف لئلا يظن أن ذلك مختص بما في تلك السورة دون غيرها هذا هو الغالب من أمره ، وقد جاء في بعض المواضع مقيدا في الأصول كقوله (تسؤ-ونشأ) ست وعشر (يشأ-ونبى) بأربع (وأرجى) معا (وأقرأ) ثلاثا ولم يستوعب التقييد في هذه المواضع المستثناة فقال بعد ذلك (ومؤصدة) ولم يقل معا فأطلق على الأصل وجاء الإطلاق في الفرش في مواضع مع عموم الحكم

كالتوراة وكائن على ما يأتي ، وإسكان هاء الكناية لغة محكية سواء اتصلت بمجزوم أو غيره كقوله وأنشده ابن مجاهد ، (وأشرب الماء مائي نحوه عطش إلا لأن عيونه سيل واديها) ، ولم يسكنها القراء إلا في المجزوم كالكلمات المذكورة ووجه الإسكان تشبيه هاء الضمير بألف وواوه ويائه فأسكنت أو اسنثقلت صلتها فأسكنت كما فعل في ميم الجميع أو وصلت بنية الوقف وهذه الوجوه الثلاثة تعم المجزوم وغيره ، وفي المجزوم وجهان آخران ، أحدهما أنها سكنت تنبيها على الحرف المحذوف قبلها للجزم ، والثاني أنها سكنت لحلولها محله ونبه بقوله صافيا حلا على صحة هذه القراءة وحسن وجهها في العربية وإن كانت قد جاءت على خلاف المعهود في هاءات الكناية من التحريك والصلة وصافيا نعت المفعول المحذوف أي لفظا صافيا حلوا أو يكون حالا من فاعل فاعتبر أي اعتبر المذكور في حال صفاء ذهنك وباطنك من النفرة منه وحلاوة عبارتك في ذكر دليله أو يكون حالا من مفعول فاعتبر المحذوف إن قدرته معرفة أي فاعتبر المذكور في حا صفائه وحلاوته فيعود المعنى إلى ما ذكرناه في الوجه الأول أو أراد فاعتبر نظما صافيا حلوا ، ووجهه ما ذكرناه من أنه لفظ في هذا البيت بوجوه الاختلاف الثلاثة في هذه الكلمات ونحوه والله أعلم وأحكم
(161)
وَعَنْهُمْ وَعَنْ حَفْصٍ فَأَلْقِهْ وَيَتَّقِهْ حَمى صَفْوَهُ قَوْمٌ بِخُلْفٍ وَأَنْهَلاَ

أي وعن من تقدم ذكرهم وعن حفص إسكان قوله تعالى (فألقه إليهم) ، في سورة النمل ، والتقدير وسكن فألقه عنهم وعن حفص فيكون عطفا على قوله وسكن يؤده وقد تقدم في شرح الخطبة أن ضمير من تقدم رمزه نازل منزلة المسمى بصريح لفظه لا منزلة الرمز فلهذا جمع بين الضمير في وعنهم وبين قوله وعن حفص فصار على إسكان فألقه عاصم بكماله وأبو عمرو وحمزة وقوله ويتقه مبتدأ وليس عطفا على فألقه والواو من نفس التلاوة أراد قوله تعالى في سورة النور (ويخش الله ويتقه) ، وخبر المبتدإ حمى صفوه إلى آخر البيت ، وتقدير الكلام فيه وإسكان ويتقه على حذف مضاف أي أسكن هاءه أبو بكر وأبو عمرو وخلاد عن حمزة بخلاف عنه فنقص من الرمز المذكور في البيت السابق راو وهو خلف وزاد في فألقه راو وهو حفص ، ومعنى حمى صفوه ، أي صفو إسكانه قوم بخلف أي حماه جماعة بحجج مختلفة وهي خمسة أوجه سبق ذكرها ومعنى أنهل سقاه النهل وهو الشرب الأول وحسن استعارة النهل بعد ذكر الصفو أشار بذلك إلى أنهم قاموا في نصرة الإسكان بما انشرحت له الصدور فهذا معنى ظاهر هذا الكلام والمراد بباطنه رمز القراء وقوله بخلف ليس رمزا وكذلك كل ما جاء منه نحو بخلفه بخلفهما بخلفهم لأن المراد منه أن القارئ المذكور قبلها اختلفت الرواية عنه فكأنه من تتمة ذكره وأفرد الضمير في أنهل ردا على لفظ قوم ، ويجوز أن يكون الضمير فيه ليتقه أي روى هذا الحرف القوم الذين حموه لما استنبطوا من المعاني والفوائد أو يعود على الصفو وهو أليق أي حموه مما يكدره حفظا له بحاجتهم إليه فأنهلهم ورواهم ثم بين قراءة حفص لهذه الكلمة فقال
(162)
وَقُلْ بسُكُونِ الْقَافِ وَالْقَصْرِ حَفْصُهُمْ وَيَأْتِهْ لَدَى طه بِالْإِسْكَانِ (يُـ)ـجْتَلاَ

أي قراءة حفصهم فحذف المضاف يعني أن حفصا يسكن القاف ويحرك الهاء بالكسر من غير صلة وهذا معنى القصر وهو ترك الصلة لأنها مد وأسكن القاف لأنها صارت آخر الفعل بعد حذف الياء للجزم ، وقيل أجرى يتقه مجرى كتف فأسكن الوسط تخفيفا وأنشد ، (فبات منتصبا وما تكردسا ) ، فلما سكنت القاف ذهبت صلة الهاء لأن أصل حفص أن لا يصل الهاء التي قبلها ساكن إلا في قوله تعالى (فيه مهانا) وبقيت كسرة الهاء أمارة على عروض الإسكان في القاف والأصل كسرها ولولا هذا المعنى لوجب ضم الهاء لأن الساكن قبلها غير ياء فهو مثل منه وعنه ، وقيل كانت الهاء ساكنة في قراءة حفص كما أسكنها في فألقه فلما أسكن القاف كسر الهاء لالتقاء الساكنين وهذا ضعيف إذ لا مقتضى لإسكان القاف على تقدير سكون الهاء ولأن كسر القاف وسكون الهاء أخف من العكس فلا معنى للعدول عنه وأما قوله (ومن يأته مؤمنا) ، في سورة طه فلم يذكر الإسكان فيه إلا عن السوسي تبعا لصاحب التيسير وذكره الأهوازي عن ابن عامر وعاصم وأبي عمرو وحمزة رحمهم الله تعالى ، ومعنى يجتلا ينظر إليه بارزا غير مستتر من قولهم اجتليت العروس يشير إلى أن الإسكان محكي مسطور في الكتب فلا ينفى لعدم ذكر بعض المصنفين له كابن الفحام في تجريده وغيره ، وقوله لدى طه أي عندها وفي أثناء آياتها وسمى سورة هذا الحرف زيادة في البيان لا للتمييز إذ ليس غيره
(163)
وَفي الْكُلِّ قَصْرُ الْهَاءِ (كـ)ـانَ (لِـ)سَانَهُ بخُلْفٍ وَفي طه بِوَجْهَيْنِ (بُـ)ـجِّلاَ

يعني بالكل جميع الألفاظ المجزومة من قوله وسكن يؤده إلى يتقه وقصر الهاء عبارة عن ترك الصلة ويسمى أيضا الاختلاس ، وقوله بان لسانه رمز لقالون وهشام ومعناه في الظاهر اتضحت لغته وظهر نقله لأن قصر الهاء لغة فصيحة سواء اتصلت بمجزوم أو غيره أنشد الداني للأعشى جمعا بين اللغتين القصر والصلة قوله ، (وماله من مجد تليد وماله من الريح حظ لا الجنوب ولا الصباء) ، ووجه لغة القصر في المجزوم النظر إلى الحرف المحذوف قبل الهاء للجزم لأن حذفه عارض ولو كان موجودا لم توصل الهاء لوجود الساكن قبلها على ما تقرر فهذا توجيه حسن لما جاءت القراءة به من القصر في المجزوم ولم تأت في غيره لفقد هذه العلة فيه وقوله بخلف يعني عن هشام لأنه الذي يليه ولو كان الخلاف عنه وعن قالون لقال بخلفهما ولو كان عن ثلاثة لقال بخلفهم وكل هذا قد استعمله في نظمه كما سيأتي ، والخلف الذي عن هشام وجهان ، أحدهما القصر وقد ذكره ، والثاني الصلة كسائر القراء ولا يجوز أن يكون الإسكان لأنه قد ذكر الإسكان عن الذين قرءوا به ولم يذكر هشاما معهم ، وأما حرف طه فوصله هشام كسائر القراء غير السوسي ، ولقالون وجهان القصر والصلة ولا يكون الإسكان لما ذكرنا ، ووجه الصلة تحرك الحرف الذي قبل الهاء ولا نظر إلى الحرف المحذوف ، وقوله بوجهين متعلق بمحذوف أي يقرأ حرفه بوجهين بجلا أي وقرأ كلاهما يشير إلى أن القصر أفشا من الإسكان في لغة العرب كما تقدم بيانه ولأنه ضمير على حرف واحد صحيح فكان محركا كالتاء والكاف ، ووجه أسكانها تشبيهها بالألف والواو ، وفي ياء الإضافة وجهان الفتح والإسكان وسيأتيان ، ويجوز أن يكون التقدير والحرف الذي في طه بجل بوجهين
(164)
وَإِسْكَانُ يَرْضَهُ (يُـ)ـمْنُهُ (لُـ)ـبْسُ (طَ)ـيِّبٍ بِخُلْفِهِمِاَ وَالْقَصُرُ (فَـ)ـاذْكُرْهُ (نَـ)ـوْفَلاَ

أراد قوله تعالى في سورة الزمر (وإن تشكروا يرضه لكم) ، أسكنه السوسي بلا خلاف وهشام والدوري عن أبي عمرو وبخلفهما وأخبر بظاهر لفظه عن الإسكان بأن يمنه لبس طيب تقريرا له وإزالة للنفرة عنه ، ويجوز في قوله والقصر وجهان الرفع على الابتداء وخبره ما بعده أو محذوف أي والقصر كذلك يمنه ليس طيب ، أو والقصر مقروء به فهو قريب من قوله تعالى ، (الزانية والزاني فاجلدوا)-(والسارق والسارقة فاقطعوا) ، والنصب بفعل مضمر فسره ما بعده والفاء في فاذكره زائدة كقوله ، (وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي ) ، والخلف الذي للدوري هو الإسكان والصلة والذي لهشام الإسكان والقصر وعلم ذلك من جهة أنه ذكر هشاما مع أصحاب القصر في أول البيت الآتي ولم يذكر الدوري معهم فكان مع المسكوت عنهم وهم أصحاب الصلة ونوفلا حال والنوفل الكثير العطاء
(165)
(لَـ)ـهُ (ا)لرُّحّبُ وَلزِّلْزَالُ خَيْراً يَرَهْ بِهَا وَشَرًّا يَرَهْ حَرْفَيْهِ سَكِّنْ (لِـ)ـيَسْهُلاَ

الرحب السعة أشار إلى شهرته وصحته أي يجد المتصدي لنصرة القصر رحبا وسعة ومجالا من نقل ذلك لغة وقوة تعليلية فالذين قصروا يرضه حمزة وعاصم وهشام ، بخلاف عنه ونافع ، ثم قال والزلزال أي وسورة الزلزال يعني (إذا زلزلت الأرض زلزالها) ، وهو مبتدأ وسكن خبره والعائد إلى المبتدإ الضمير في بها وأنثه لأنه ضمير السورة ، (خيرا يره) و (شرا يره) ، مفعول سكن وحرفيه صفة لهما يفيد التأكيد ، وإنما أكثر من هذا البيان ولم يكتف بقوله يره كما نص على ألقه ويتقه ويؤده وغير ذلك حذرا من التي في سورة البلد قوله (لم يره أحد) ، فتلك لم يذكر في التيسير فيها خلافا وذكره في غيره والهاء في حرفيه تعود على لفظ الزلزال ويجوز أن يكون بدلا من خيرا يره وشرا يره بدل البعض من الكل ويعني بحرفيه هاءى الكناية في هذا اللفظ وكأن الوجه على هذا أن يقول حرفيهما وإنما وحد ردا على يره لأنه لفظ واحد تكرر والألف في ليسهلا للتثنية أي ليسهل الحرفان بالإسكان ويجوز أن يكون خبر الزلزال قوله خيرا يره بها وشرا يره ، ثم قال سكن حرفي هذا اللفظ كما تقول الدار بها زيد وعمرو أكرمهما ، وقيل أشار بقوله ليسهلا إلى ثقل الصلة هنا من جهة أن بعد كل هاء منهما واو فيلتقي واوان في قوله يرهو ومن يعمل يرهو والعاديات لأن هذه الصلة إنما اعتبارها في الوصل وأما الوقف فبالإسكان لا صلة فيه لجميع القراء في جميع الهاءات وقد تقدم ذكره ، فإن قلت هذه المواضع التي نص لبعض القراء على إسكانها من أين تعلم قراءة الباقين ، قلت قد سبق الإعلام بها في قوله وما قبله التحريك للكل وصلا وهذه المواضع المسكنة كلها قبل هاآتها متحركات فكأنه قال القراء كلهم على صلة الهاء إذا تحرك ما قبلها ، واستثنى هؤلاء هذه المواضع فأسكنوها والله أعلم
(166)
وَعى (نَفَرٌ) أَرْجِئْهُ بِالْهَمْزِ سَاكِناً وَفي الْهَاءِ ضَمٌّ (لَـ)ـفَّ (دَ)عْوَاهُ (حَـ)ـرْمَلاَ

أرجئه موضعان في الأعراف والشعراء ومعنى وعى حفظ أي حفظ مدلول نفر وهم ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر أرجئه بهمزة ساكنة وحفظ الباقون بلا همز وهما لغتان فصيحتان قرئ بهما قوله تعالى (وآخرون مرجئون)-(وترجي من تشاء) ، ونفر همزوا الجميع يقال أرجأت الأمر إذا أخرته وبعض العرب يقول أرجيت كما يقول أخطيت وتوضيت فلا يهمز حكاه الجوهري وقوله بالهمز يؤخذ منه أن قراءة الباقين بلا همز ولم تكن له حاجة إلى قوله ساكنا فإنه قد لفظ به كذلك ، فإن قلت فيه زيادة بيان ، قلت صدقت ولكنه يلبس الضد إذ يلزم من ذلك أن يكون الضد فتح الهمز كقوله (ويطهرن) في الطاء السكون (والأيكة) اللام ساكن (منسأته) سكون همزته ماض فإنه ضد السكون فيها فتح الطاء واللام والهمزة ، وعذره في ذلك أن الهمز هو صاحب الضد فضده لا همز كما ذكر ذلك في (الصابئين) و (الأيكة) ولم يقدح في ذلك وصفه الهمز بالسكون وهذا كما أن الحركة ضدها السكون ولا يقدح في ذلك ذكره الكسر والضم والفتح معها على ما مهدناه في شرح الخطبة وساكنا حال من الهمز ، ولو قال مكانه فيهما لكان جيدا وارتفع الإيهام المذكور أي في الموضعين ، ثم ذكر أن جميع من همز أرجئه ضم الهاء إلا ابن ذكوان فإنه كسرها ، واستبعدت قراءته وتكلم فيها من جهة أن الهاء إنما تكسر بعد كسر أو ياء ساكنة وحقها الضم في غير ذلك فأرجئه مثل منه وزنه وأهبه ، وقد اعتذر له بأن الهمز لم يعتد به حاجزا لقبوله الإبدال فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة أو كأنها بعد ياء ساكنة في التقدير لو أبدلت الهمزة ياء ، ويضعف هذا الاعتذار وجوه ، الأول أن الهمز معتد به حاجزا بإجماع في (أنبئهم ونبئهم) والحكم واحد في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكسر والضم ، الثاني أنه كان يلزمه صلة الهاء إذ هي في حكمه كأنها قد وليت الجيم ، الثالث أن الهمز لو قلب ياء لكان الوجه المختار ضم الهاء مع صريح الياء نظرا إلى أن أصلها همزة فما الظن بمن يكسر

الهاء مع صريح الهمزة وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقف حمزة فضم الهاء مع الهمز هو الوجه فلهذا قال فيه لف دعواه حرملا والهاء في دعواه للضم ، والحرمل ثبت معروف له في الأدوية مدخل أشار بذلك إلى ظهور وجه الضم مع الهمز ، أي في طي الدعوى به ما يبين حسنه وجودة القراءة به ، وذكر ابن جني في كتابه المحتسب قال وروى عن ابن عامر (أنبئهم) بهمزة وكسر الهاء ، قال ابن مجاهد وهذا لا يجوز ، قال ابن جنى طريقه أن هذه الهمزة ساكنة والساكن ليس بحاجز حصين عندهم فكأن لا همز هناك أصلا ، ثم قرر ذلك بنحو مما تقدم والله أعلم قال
(167)
وَأَسْكِنْ (نَـ)ـصِيراً (فَـ)ـازَ وَاكْسِرْ لِغَيْرِهِمْ وَصِلْهَا (جـ)ـوَاداً (دُ)ونَ (رَ)يْبٍ (لِـ)ـتُوصَلاَ

نصيرا حال من فاعل أسكن أي ناصرا فائزا بظهور الحجة وقد تقدم وجه الإسكان وقرأ به سنا عاصم وحمزة ولا همز في قراءتهما فصار أرجه كألقه وهما يسكنانهما وأبو عمرو وافقهما على ألقه ولم يمكنه الإسكان في أرجه لأنه يهمز ففي الإسكان جمع بين ساكنين ثم قال واكسر لغيرهم أي لغير الذين ضموا والذين سكنوا وهم نافع والكسائي وابن ذكوان ، وقد مضى الكلام في قراءة ابن ذكوان ونافع والكسائي كسرا الهاء لكسرة الجيم قبلها إذ ليسا من أصحاب الهمز ، ثم ذكر الذين وصلوا الهاء وهم أربعة اثنان من أصحاب الضم والهمز وهما ابن كثير وهشام واثنان من أصحاب الكسر بلا همز وهما الكسائي وورش وصلاها بياء على أصلهما في صلة ما قبله متحرك وابن كثير وصلها بواو على أصله في صلة ما قبله ساكن وهشام وافقه وخالف أصله في ترك صلة ما قبله ساكن فقد وافق ابن كثير على مذهبه في الصلة راويان كل واحد منهما في حرف واحد أحدهما في صلة الضم بواو وهو هشام في هذا الحرف ، والآخر في صلة الكسر بياء وهو حفص في (فيه مهانا) ، وقد تقدم وأبو عمرو ضم من غير صلة على أصله وقالون قصر الهاء فكسرها من غير صلة على أصله في المواضع المجزومة كلها ، فالحاصل أن في كلمة أرجه ست قراءات ثلاث لأصحاب الهمز لابن كثير وهشام وجه ولأبي عمرو وجه ولابن ذكوان وجه ، وثلاث لمن لم يهمز لعاصم وحمزة وجه ، وللكسائي وورش وجه ولقالون وجه وقد جمعت هذه القراءات الست في بيت واحد في النصف الأول قراءات الهمز الثلاث وفي النصف الآخر قراءات من لم يهمز الثلاث فقلت ، وأرجئه مل والضم خر صله دع لنا وأرجه ف نل صل جي رضي قصره بلا) ، فابتدأت بقراءة ابن ذكوان ولم أخف تصحيفها بغيرها إذ لا يمكن في موضعها من جهة الوزن شيء من القراءات الست إلا قراءة أبي عمرو وهي مبينة بعدها وقراءة قالون على زحاف في البيت وقراءة قالون سنبين في آخر البيت مع أن صورة الكتابة مختلفة فتعين ما ابتدأ به لابن ذكوان والله أعلم

وجميع الكلمات المجزومة الخمسة عشر توصل بالياء إلا كلمتين يرضه ويره فإنهما يوصلان بالواو ، وفي أرجئه الوجهان من وصل هامزا فبالواو وغير الهامز يصل بالياء ، وقوله جوادا حال من فاعل صلها ، والريب الشك وقوله لتوصل من محاسن الكلام
باب المد والقصر
(168)
إِذَا أَلِفٌ أَوْ يَاؤُهَا بَعْدَ كَسْرَةٍ أَوِ الْوَاوُ عَنْ ضَمّ لَقِي الْهَمْزَ طُوِّلاَ
ألف فاعل فعل مضمر فسره قوله لقي الهمز أي إذا لقيت الألف الهمز والهاء في ياؤها تعود على الألف لأنها أختها في المد أو تعود على حروف الهجاء للعلم بها وقوله عن ضم أي بعد ضم لأن عن للمجاوزة وأسكن الياء في لقي ضرورة والضمير في طول الحرف المد مطلقا أي الذي لقي الهمز ومعنى طول مد لأن حرف المد كلما طول ازداد مدا وقد تقدم أن حروف الهجاء يجوز تأنيثها وتذكيرها فلهذا أنث في قوله ياؤها وذكر في قوله لقي الهمز طول وذكر في هذا البيت حروف المد الثلاثة وهن الألف والياء والواو ولم يقيد الألف لأنها لا تقع إلا بعد فتحه وقيد الياء بكسرة قبلا والواو بضمة قبلها لأن كل واحدة منهما يجوز أن يقع قبلها فتحة (كهيئة-وسوأة) ولذلك حكم سيأتي وشرط الياء والواو أيضا أن يكونا ساكنين وأما الألف فلا تكون إلا ساكنة فالألف لا يزال حرف مد ، وأما أختاها فبشرطين ، أحدهما السكون ، والثاني أن يكون حركة ما قبلهما من جنسهما قبل الياء كسرة وقبل الواو ضمة فحينئذ يكونان حرفي مد نحو قال وقيل ويقول ينطق في هذه الثلاثة بعد القاف بمدة ثم لام ، فإذا اتفق وجود همز بعد أحد هذه الحروف طول ذلك المد استعانة على النطق بالهمز محققا وبيانا لحرف المد خوفا من سقوطه عند الإسراع لخفائه وصعوبة الهمز بعده وهذا عام لجميع القراء إذا كان ذلك في كلمة واحدة نص على ذلك جماعة من العلماء المصنفين في علم القراءات من المغاربة والمشارقة ومنهم من أجرى فيه الخلاف المذكور في كلمتين على ما سيأتي ، وبعضهم اختار تفضيل الألف

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7