كتاب : الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المؤلف : أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

{ وإذا فعلوا فاحشة } يعني : طوافهم بالبيت عارين .
{ قل أمر ربي بالقسط } ردٌّ لقولهم : { والله أمرنا بها } والقسط : العدل { وأقيموا وجوهكم عند كلِّ مسجد } وجِّهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصَّلاة إلى الكعبة { وادعوه مخلصين له الدين } وحِّدوه ولا تشركوا به شيئاًَ . { كما بدأكم } في الخلق شيقيَّاً وسعيداً ، فكذلك ، { تعودون } سعداء وأشقياء ، يدلُّ على صحَّة هذا المعنى قوله :
{ فريقاً هدى } أرشد إلى دينه ، وهم أولياؤه { وفريقاً حقََّ عليهم الضلالة } أَضَلَّهُمْ ، وهم أولياء الشَّياطين { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } ثمَّ أمرهم أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرَّوا ، فقال :
{ يا بني آدم خذوا زينتكم } يعني : ما وارى العورة { عند كلِّ مسجد } لصلاةٍ أو طواف { وكلوا واشربوا } كان أهل الجاهليَّة لا يأكلون أيَّام حجِّهم إلاَّ قوتاً ، ولا يأكلون دسماً . يُعظِّمون بذلك حجِّهم ، فقال المسلمون : نحن أحقُّ أن نفعل ، فأنزل الله تعالى : { وكلوا } يعني : اللَّحم والدَّسم { واشربوا } اللَّبن والماء وما أحلَّ لكم { ولا تسرفوا } بحظركم على أنفسكم ما قد أحللته لكم من اللَّحم والدَّسم { إنَّه لا يحب } مَنْ فعل ذلك ، أَيْ : لا يُثيبه ولا يدخله الجنَّة .

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)

{ قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده } مَنْ حرَّم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم { والطيبات من الرزق } يعني : ما حرَّموه على أنفسهم أيَّام حجِّهم { قل هي } أَي : الطَّيِّبات من الرِّزق { للذين آمنوا في الحياة الدنيا } مباحةٌ لهم مع اشتراك الكافرين معهم فيها في الدُّنيا ، ثمَّ هي تخلص للمؤمنين يوم القيامة ، وليس للكافرين فيها شيء ، وهو معنى قوله : { خالصة يوم القيامة } { كذلك نفصل الآيات } نُفسِّر ما أحللت وما حرَّمت { لقومٍ يعلمون } أنِّي أنا الله لا شريك لي .
{ قل إنما حرَّم ربي الفواحش } الكبائر والقبائح { ما ظهر منها وما بطن } سرَّها وعلانيتها { والإِثم } يعني : المعصية التي توجب الإِثم { والبغي } ظلم النَّاس ، وهو أن يطلب ما ليس له { وأن تشركوا بالله } تعدلوا به في العبادة { ما لم ينزل به سلطاناً } لم ينزل كتاباً فيه حجَّةٌ { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من أنَّه حرَّم الحرث والأنعام ، وأنَّ الملائكة بنات الله .
{ ولكلِّ أمة أجل } وقتٌ مضروبٌ لعذابهم وهلاكهم { فإذا جاء أجلهم } بالعذاب { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } لا يتأخَّرون ولا يتقدَّمون حتى يُعذَّبوا .
{ يا بني آدم إمَّا يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } فرائضي وأحكامي { فمن اتقى } اتَّقاني وخافني { وأصلح } ما بيني وبينه { فلا خوف عليهم } إذا خاف الخلق في القيامة { ولا هم يحزنون } إذا حزنوا .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

{ فمن أظلم ممَّن افترى على الله كذباً } فجعل له ولداًَ أو شريكاً { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } ما كُتب لهم من العذاب ، وهو سواد الوجه ، وزرقة العيون { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } يريد : الملائكة يقبضون أرواحهم { قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله } ؟ سؤال توبيخ وتبكيت وتقريع { قالوا ضلوا عنا } بطلوا وذهبوا { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } اعترفوا عند مُعاينة الموت ، وأقروا على أنفسهم بالكفر .
{ قال ادخلوا } أَيْ : قال الله تعالى لهم : ادخلوا النَّار [ { في أمم } أَيْ : ] مع { أمم قد خلت من قبلكم } . { كلما دخلت أمة } النَّار { لعنت أختها } يعني : الأمم التي سبقتها إلى النَّار؛ لأنَّهم ضلوا باتِّباعهم { حتى إذا ادَّاركوا فيها } أَيْ : تداركوا ، وتلاحقوا ، واجتمعوا جميعاً في النَّار { قالت أخراهم } أَيْ : أُخراهم دخولاً إلى النَّار { لأولاهم } دخولاً . يعني : قالت الأتباع للقادة : { ربنا هؤلاء أضلونا } لأَنَّهم شرعوا لنا أن نتَّخذ من دونك إلهاً { فآتهم عذاباً ضعفاً } أَضْعِفْ عليهم العذاب بأشدَّ ممَّا تعذِّبنا به { قال } الله تعالى : { لكلٍّ ضعف } للتَّابع والمتبوع عذابٌ مضاعفٌ { ولكن لا تعلمون } يا أهل الكتاب في الدًّنيا مقدار ذلك ، وقوله :
{ فما كان لكم علينا من فضل } لأنَّكم كفرتم كما كفرنا ، فنحن وأنتم في الكفر سواءٌ .

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

{ إنَّ الذين كذبوا بآياتنا } بحججنا التي تدلُّ على توحيد الله ، ونبوَّة الأنبياء { واستكبروا عنها } ترفَّعوا عن الإِيمان بها والانقياد لأحكامها { لا تفتح لهم أبواب السماء } لا تصعد أرواحهم ، ولا أعمالهم ، ولا شيء ممَّا يريدون الله به إلى السَّماء { ولا يدخلون الجنة حتى يلج } يدخل { الجمل في سم الخياط } ثقب الإِبرة . يعني : أبدأً { وكذلك } وكما وصفنا { نجزي المجرمين } أَي : المكذِّبين بآيات الله ، ثمَّ أخبر عن إحاطة النَّار بهم من كلِّ جانبٍ ، فقال :
{ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } يعني : لهم منها غطاءٌ ، ووطاءٌ ، وفراشٌ ولحافٌ { وكذلك نجزي الظالمين } يعني : الذين أشركوا بالله .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلاَّ وسعها } أَيْ : إلاَّ ما تطيقه ولا تعجز عنه ، والمعنى : لا نكلِّف نفساً منهم إلاَّ وسعها ، ثمَّ أخبر بباقي الآية عن مآلهم .
{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } أذهبنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدُّنيا { تجري من تحتهم الأنهار } من تحت منازلهم وقصورهم ، فإذا استقرُّوا في منازلهم { قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } أَيْ : هدانا لما صيرَّنا إلى هذا الثَّواب من العمل الذي أدَّى إليه ، وأقرُّوا أنَّ المهتدي مَنْ هدى الله بقوله : { وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله } فحين رأوا ما وعدهم الرُّسل عياناً قالوا : { لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكُم الجنة } قيل لهم : هذه تلكمُ الجنَّة التي وُعدتم { أورثتموها } أُورثتم منازل أهل النَّار فيها لو عملوا بطاعة الله { بما كنتم تعملون } توحِّدون الله وتطيعونه .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)

{ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا } في الدُّنيا من الثَّواب { حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم } من العذاب { حقاً } ؟ وهذا سؤال تعييرٍ وتقريرٍ ، فأجاب أهل النَّار و { قالوا نعم فأذَّن مؤذنٍ بينهم } نادى منادٍ وسطهم نداءً يُسمع الفريقين ، وهو صاحب الصُّور { أن لعنة الله على الظالمين } .
{ الذين يصدون } يمنعون { عن سبيل الله } دين الله وطاعته { ويبغونها عوجاً } ويطلبونها بالصَّلاة لغير الله ، وتعظيم ما لم يعظِّمه الله .
{ وبينهما } بين أهل الجنَّة وبين أهل النَّار { حجاب } حاجزٌ ، وهو سور الأعراف { وعلى الأعراف } يريد : سور الجنَّة { رجال } وهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم { يعرفون كلاً بسيماهم } يعرفون أهل الجنَّة ببياض الوجوه ، وأهل النَّار بسوادها ، وذلك لأنَّ موضعهم عالٍ مرتفع ، فهم يرون الفريقين { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } إذا نظروا إلى الجنَّة سلَّموا على أهلها { لم يدخلوها } يعني : أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنَّة { وهم يطمعون } في دخولها .
{ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } أَيْ : جهة لقائهم .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

{ ونادى أصحاب الأعراف رجالاً } من أهل النَّار { يعرفونهم بسيماهم } من رؤساء المشركين فيقولون لهم : { ما أغنى عنكم جمعكم } المال واستكثاركم منه { وما كنتم تستكبرون } عن عبادة الله ، ثمَّ يقسم أصحاب النَّار أنَّ أصحاب الأعراف داخلون معهم النَّار ، فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف :
{ أهؤلاء الذين أقسمتم } يا أصحاب النَّار { لا ينالهم الله برحمة } يقولون لأصحاب الأعراف : { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } .
{ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } يعني : الطَّعام ، وهذا يدلُّ على جوعهم وعطشهم { قالوا إنَّ الله حرمهما على الكافرين } تحريم منع [ لا تحريم تعبُّدٍ ] .
{ الذين اتخذوا دينهم } الذي شُرع لهم { لهواً ولعباً } يعني : المستهزئين المُقتسمين { فاليوم ننساهم } نتركهم في جهنَّم { كما نسوا لقاء يومهم هذا } كما تركوا العمل لهذا اليوم { وما كانوا بآياتنا يجحدون } أَيْ : وكما جحدوا بآياتنا ولم يُصدِّقوها .
{ ولقد جئناهم } يعني : المشركين { بكتاب } هو القرآن { فصلناه } بيّناه { على علم } فيه . يعني : ما أُودع من العلوم وبيان الأحكام { هدى } هادياً { ورحمة } وذا رحمةٍ { لقوم يؤمنون } لقومٍ أريد به هدايتهم وإيمانهم .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)

{ هل ينظرون } ينتظرون ، أَيْ : كأنَّهم ينتظرون ذلك؛ لأنَّه يأتيهم لا محالة { إلاَّ تأويله } عاقبة ما وعد الله في الكتاب من البعث والنُّشور { يوم يأتي تأويله } وهو يوم القيامة { يقول الذين نسوه من قبل } تركوا الإِيمان به والعمل له من قبل إتيانه { قد جاءت رسل ربنا بالحق } بالصِّدق والبيان { فهل لنا من شفعاء } هل يشفع لنا شافعٌ؟ { أو } هل { نردُّ } إلى الدُّنيا { فنعمل غير الذي كنا نعمل } نوحِّد الله ونترك الشِّرك ، يقول الله : { قد خسروا أنفسهم } حين صاروا إلى الهلاك { وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون } سقط عنهم ما كانوا يقولونه مِنْ أنَّ مع الله إلهاً آخر .
{ إنَّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } أَيْ : في مقدار ستة أيَّامٍ ، من الأحد إلى السَّبت ، واجتمع الخلق في الجمعة { ثم استوى على العرش } أقبل على خلقه ، وقصد إلى ذلك بعد خلق السَّموات والأرض { يغشي الليل النهار } يُلبسه ويُدخله عليه { يطلبه حثيثاً } يطلب اللَّيل دائباً لا غفلة له { والشمس } وخلق الشَّمس { والقمر والنجوم مسخرات } مُذلَّلاتٍ لما يُراد منها من طلوعٍ وأُفولٍ ، وسيرٍ ورجوعٍ { بأمره } بإذنه { ألا له الخلق } يعني : إنَّ جميع ما في العالم مخلوق له { و } له { الأمر } فيهم ، يأمر بما أراد { تبارك الله } تمجَّد وتعظَّم وارتفع وتعالى .
{ ادعوا ربكم تضرُّعاً } أَيْ : تملُّقاً { وخفية } سرَّاً { إنه لا يحب المعتدين } المجاوزين ما أُمروا به .

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

{ ولا تفسدوا في الأرض } بالشِّرك والمعاصي وسفك الدِّماء { بعد } إصلاح الله إياها ببعث الرَّسول { وادعوه خوفاً } من عقابه { وطعماً } في ثوابه { إنَّ رحمة الله } ثوابَ الله { قريب من المحسنين } وهم الذين يطيعون الله فيما أمر .
{ وهو الذي يرسل الرياح نُشْراً } طيِّبة ليِّنة ، من النَّشر وهو الرَّائحة الطَّيِّبة . وقيل : مُتفرِّقةً في كلِّ جانبٍ ، بمعنى المنتشرة { بين يدي رحمته } قدَّام مطره { حتى إذا أقلَّت } أَيْ : حملت هذه الرِّياح { سحاباً ثقالاً } بما فيها من الماء سُقنا السَّحاب { لبلد ميت } إلى مكان ليس فيه نباتٌ { فأنزلنا به } بذلك البلد { الماء فأخرجنا } بذلك الماء { من كلَّ الثمرات كذلك نخرج الموتى } أَيْ : نحيي الموتى مثل ذلك الإِحياء الذي وصفناه في البلد الميت { لعلكم تذكرون } لعلَّكم بما بيَّنا تتَّعظون ، فتستدلُّون على توحيد الله وقدرته على البعث ، ثمَّ ضرب مثلاً للمؤمن والكافر فقال :
{ والبلد الطيب } يعني : العذبُ التُّراب { يخرج نباته بإذن ربه } وهذا مثل المؤمن يسمع القرآن فينتفع به ، ويحسن أثره عليه { والذي خبث } ترابه وأصله { لا يخرج } نباته { إلاَّ نكداً } عسراً مُبطئاً ، وهو مثل الكافر يسمع القرآن ، ولا يُؤثِّر فيه أثراً محموداً ، كالبلد الخبيث لا يُؤثِّر فيه المطر { كذلك نصرِّف الآيات } نبيِّنها { لقوم يشكرون } نِعَمَ الله ويطيعونه .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)

{ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } ظاهرٌ إلى قوله :
{ وأنصح لكم } أَيْ : أدعوكم إلى ما دعاني الله إليه { وأعلم من الله ما لا تعلمون } من أنَّه غفورٌ لمَنْ رجع عن معاصيه ، وأنَّ عذابه أليمٌ لمن أصرَّ عليها .
{ أَوَعجتبم أن جاءكم ذكر من ربكم } موعظةٌ من الله { على رجل } على لسان رجل { منكم } تعرفون نسبه . وقوله :
{ إنهم كانوا قوماً عمين } عميت قلوبهم عن معرفة الله تعالى وقدرته .
{ وإلى عاد أخاهم } وأرسلنا إلى عادٍ أخاهم ابن أبيهم { هوداً قال يا قوم اعبدوا الله } وحِّدوا الله { ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } أفلا تخافون نقمته .
{ قال الملأ } الرُّؤساء والجماعة { الذين كفروا من قومه إنَّا لنراك في سفاهة } حمقٍ وجهلٍ { وإنا لنظنك من الكاذبين } فيما جئت به من ادِّعاء النُّبوَّة .

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)

{ ناصح أمين } أَيْ : على الرِّسالة لا أكذب فيها .
{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قَوم نوحٍ } أَيْ : استخلفكم في الأرض بعد هلاكهم { وزادكم في الخلق بسطة } فضيلةً في الطُّول { فاذكروا آلاء الله } نِعَمَ الله عليكم { لعلكم تفلحون } كي تسعدوا وتبقوا في الجنَّة ، وقوله :
{ فأتنا بما تعدنا } أَيْ : من العذاب { إن كنت من الصادقين } أنَّ العذاب نازلٌ بنا .
{ قال : قد وقع } وجب { عليم من ربكم رجس وغضب } عذابٌ وسخطٌ { أتجادلونني في أسماء سَمَّيْتُموها } كانت لهم أصنام سمَّوها أسماءً مختلفةً ، فلمَّا دعاهم الرَّسول إلى التَّوحيد استنكروا عبادة الله وحده . { ما نَزَّلَ الله بها من سلطان } من حجةٍ وبرهانٍ لكم في عبادتها { فانتظروا } العذاب { إني معكم من المنتظرين } ذلك في تكذيبهم إيَّاي .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)

{ فذروها تأكل في أرض الله } أَيْ : سهَّل الله عليكم أمرها ، فليس عليكم رزقها ولا مؤونتها .

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)

{ وبوَّأكم في الأرض } أَيْ : أسكنكم وجعل لكم فيها مساكن { تتخذون من سهولها قصوراً } تبنون القصور بكلِّ موضعٍ { وتنحتون الجبال بيوتاً } يريد : بيوتاً في الجبال تُشققونها ، وكانوا يسكنونها شتاءً ، ويسكنون القصور بالصَّيف .
{ قال الملأ } وهم الأشراف { الذين استكبروا من قومه } عن عبادة الله { للذين استضعفوا } يريد المساكين { لمن آمن منهم } بدلٌ من قوله : { للذين استضعفوا } لأنَّهم المؤمنون .

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)

{ فعقروا الناقة } نحروها { وعتوا عن أمر ربهم } عصوا الله وتركوا أمره في النَّاقة { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا } من العذاب .
{ فأخذتهم الرجفة } وهي الزَّلزلة الشَّديدة { فأصبحوا في دارهم } بلدهم { جاثمين } خامدين مَيِّتين .
{ فتولى عنهم } أعرض عنهم صالحٌ بعد نزول العذاب بهم { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم } خوَّفتكم عقاب الله ، وهذا كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى بدر .
{ ولوطاً } وأرسلنا لوطاً ، أَيْ : واذكر لوطاً { إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة } يعني : إتيان الذُّكور { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } قالوا : ما نزا ذَكَرٌ على ذَكَرٍ حتى كان قوم لوطٍ .
{ إنكم لتأتون الرجال . . . } الآية .

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

{ وما كان جواب قومه إلاَّ أن قالوا أخرجوهم في قريتكم } يعني : لوطاً وأتباعه { إنهم أناس يتطهرون } عن إتيان الرِّجال في أدبارهم .
{ فأنجيناه وأهله } ابنتيه { إلاَّ امرأته كانت من الغابرين } الباقين في عذاب الله .
{ وأمطرنا عليهم مطراً } يعني : حجارةً .
{ وإلى مدين } وهم قبيلةٌ من ولد إبراهيم عليه السَّلام { قد جاءتكم بينة من ربكم } موعظةٌ { فأوفوا الكيل والميزان } أَتِمُّوهُمَا ، وكانوا أهلَ كفرٍ وبخسٍ للمكيال والميزان { ولا تفسدوا في الأرض } لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثه شعيبٍ والأمر بالعدل .
{ ولا تقعدوا بكلِّ صراط توعدون } لا تقعدوا على طريق النَّاس ، فتخوِّفون أهل الإِيمان بشعيبٍ بالقتل ونحو ذلك [ وتأخذون ثياب من مرَّ بكم من الغرباء ] { وتصدون عن سبيل الله من آمن به } وتصرفون عن الإسلام مَنْ آمن بشعيب { وتبغونها عوجاً } تلتمسون لها الزَّيغ { واذكروا إذْ كنتم قليلاً فكثَّركم } بعد القلَّة ، وأعزَّكم بعد الذِّلة ، وذلك أنَّه كان مدين بن إبراهيم ، وزوجه ريثا بنت لوط ، فولدت حتى كثر عدد أولادها .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)

{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا او لتعودنَّ في ملتنا } معناه أنَّهم قالوا لشعيب وأصحابه : ليكوننَّ أحد الأمرين؛ إمَّا الإِخراج من القرية؛ أو عودكم في ملَّتنا ، ولا نفارقكم على مخالفتنا ، فقال شعيب : { أو لو كنا كارهين } أَيْ : تجبروننا على العود في ملَّتكم ، وإنْ كرهنا ذلك؟ وقوله :
{ وما يكون لنا أن نعود فيها إلاَّ أن يشاء الله ربنا } أَيْ : إلاَّ أن يكون قد سبق في علم الله وفي مشيئته أن نعود فيها { وَسِعَ ربنا كلَّ شيء علماً } علم ما يكون قبل أن يكون { ربنا افتح } احكم واقضِ { بيننا وبين قومنا بالحق } .

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)

{ كأن لم يغنوا فيها } أَيْ : لم يقيموا فيها ، ولم ينزلوا ، وقوله :
{ فكيف آسى على قوم كافرين } أَيْ : كيف يشتدُّ حزني عليهم ، ومعناه : الإِنكار أَيْ : لا آسى .

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

{ وما أرسلنا من قرية } في مدينةٍ { من نبي } فكذَّبه أهلها { إلاَّ أخذنا } هم { بالبأساء والضراء } بالفقر والجوع { لعلهم يضَّرَّعون } كي يستكينوا ويرجعوا .
{ ثمَّ بدلنا مكان السيئة الحسنة } بدل البؤسِ والمرضِ الغنى والصحَّة { حتى عفوا } كثروا وسمنوا ، وسمنت أموالهم { وقالوا } من غِرَّتهم وجهلهم : { قد مسَّ آباءنا الضراء والسراء } قد أصاب آباءنا في الدَّهر مثل ما أصابنا ، وتلك عادة الدَّهر ، ولم يكن ما مسَّنا عقوبة من الله ، فكونوا على ما أنتم عليه ، فلمَّا فسدوا على الأمرين جميعاً أخذهم الله بغتة { وهم لا يشعرون } بنزول العذاب ، وهذا تخويفٌ لمشركي قريش .
{ ولو أنَّ أهل القرى آمنوا } وحَّدوا الله { واتقوا } الشِّرك { لفتحنا عليهم بركات من السماء } بالمطر { و } من { الأرض } بالنَّبات والثِّمار { ولكن كذبوا } الرُّسل { فأخذناهم } بالجدوبة والقحط { بما كانوا يكسبون } من الكفر والمعصية .
{ أفأمن أهل القرى } يعني : أهل مكَّة وما حولها ، ومعنى هذه الآية وما بعدها : أنَّه لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلاً ولا نهاراً بعد تكذيب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وقوله :
{ وهم يلعبون } أَيْ : وهم في غير ما يُجدي عليهم .
{ أفأمنوا مكر الله } عذاب الله أن يأتيهم بغتةً .
{ أَوَلَمْ يهد } يتبيَّن { للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } كفار مكَّة ومَنْ حولهم { أن لو نشاء أصبناهم } عذَّبناهم { بذنوبهم } ثمَّ { نطبع على قلوبهم } حتى يموتوا على الكفر ، فيدخلوا النَّار ، والمعنى : ألم يعلموا أنَّا لو نشاء فعلنا ذلك .
{ تلك القرى } التي أهلكتُ أهلها { نقص عليك من أنبائها } نتلو عليك من أخبارها ، كيف أُهلكت { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } يعني : الذين أُرسلوا إليهم { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } فما كان أولئك الكفَّار ليؤمنوا عند إرسال الرُّسل بما كذَّبوا يوم أخذ ميثاقهم ، فأقرُّوا بلسانهم وأضمروا التَّكذيب { كذلك } أَيْ : مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفَّار الأمم { يطبع الله على قلوب الكافرين } الذين كتب عليهم ألاَّ يؤمنوا أبداً .
{ وما وجدنا لأكثرهم من عهد } يعني : الوفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق .
{ ثم بعثنا من بعدهم } الأنبياء الذين جرى ذكرهم { موسى بآياتنا إلى فرعون ومَلَئِهِ فظلموا بها } فجحدوا بها وكذَّبوا { فانظر } بعين قلبك { كيف كان } عاقبتهم ، وكيف فعلنا بهم .

حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)

{ حقيق على أن لا أقول } أَيْ : أنا حقيق بأن لا أقول { على الله إلاَّ } ما هو { الحق } وهو أنَّه واحدٌ لا شريك له { قد جئتكم ببينة من ربكم } [ أي : بأمرٍ من ربِّكم ] وهو العصا { فأرسل معي بني إسرائيل } أَيْ : أطلق عليهم ، وخلِّهم ، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشَّاقة .

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

{ فإذا هي } أَيْ : العصا { ثعبان } وهو أعظم ما يكون من الحيَّات { مبين } بيِّنٌ أنَّه حيَّة لا لبس فيه .
{ ونزع يده } أخرجها من جيبه .

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)

{ يريد أن يخرجكم من أرضكم } هذا قول الأشراف من قوم فرعون ، قالوا : يريد موسى أن يخرجكم معشرَ القبط من أرضكم ، ويزيل ملككم بتقوية عدوِّكم بني إسرائيل ، فقال فرعون لهم : { فماذا تأمرون } أَيش تُشيرون به عليَّ؟
{ قالوا أرجه وأخاه } أَخِّرْ أمره وأمر أخيه ولا تعجل { وأرسل في المدائن } في مدائن صعيد مصر { حاشرين } رجالاً يحشرون إليك مَنْ في الصَعيد من السَّحرة ، فأرسل { وجاء السحرة فرعون } وطالبوه بالمال والجوائز إنْ غلبوه ، فأجابهم فرعون إلى ذلك ، وهو قوله :
{ نعم وإنكم لمن المقربين } أَيْ : ولكم من الأجر المنزلة الرَّفيعة عندي .
{ قالوا يا موسى إمَّا إن تلقي } عصاك { وإمَّا أن نكون نحن الملقين } ما معنا من الحبال والعصي .

قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)

{ قال ألقوا فلما أَلْقَوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم } قلبوها عن صحَّة إدراكها حيث رأوها حيَّات { وجاؤوا بسحر عظيم } وذلك أنَّهم ألقوا حبالاً غلاظاً فإذا هي حيَّاتٌ قد ملأت الوادي .
{ وأوحينا إلى موسى أن ألقِ عصاك فإذا هي تلقف } تبتلع { ما يأفكون } يكذبون فيه ، وذلك أنَّهم زعموا أنَّ عصيَّهم وحبالهم حَيّاتٍ ، وَكذبوا في ذلك .
{ فوقع الحق } ظهر وغلب .
{ فغلبوا هنالك وانقلبوا } وانصرفوا { صاغرين } ذليلين .
{ وألقي السحرة ساجدين } خرُّوا لله عابدين سامعين مطيعين .

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)

{ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم } أصدَّقتم موسى من قبل أمري إيَّاكم؟! { إنَّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة } لصينعٌ صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع { لتخرجوا منها أهلها } لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها ، وتتغلبوا عليها بسحركم { فسوف تعلمون } ما يظهر لكم .
{ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } على مخالفة ، وهو أن يقطع من كلِّ شقٍّ طرف .
{ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون } راجعون بالتَّوحيد والإِخلاص .

وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)

{ وما تنقم منا } وما تطعن علينا ولا تكره منَّا { إلاَّ أن آمنا بآيات ربنا } ما أتى به موسى من العصا واليد { ربنا أفرغ علينا صبراً } اصبب علينا الصَّبر عند الصَّلب والقطع حتى لا نرجع كفَّاراً { وتوفنا مسلمين } على دين موسى ، ثمَّ أغرى الملأ من قوم فرعون بموسى فقالوا :
{ أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } ليدعوا النَّاس إلى مخالفتك وعبادة غيرك { ويذرك وآلهتك } وذلك أنَّ فرعون كان قد صنع لقومه أصناماً صغاراً ، وأمرهم بعبادتها وقال : أنا ربُّكم وربُّ هذه الأصنام ، فذلك قوله : { أنا ربُّكم الأعلى } ، فقال فرعون : { سنقتل أَبْناءَهم } وكان قد ترك قتل أبناء بني إسرائيل ، فلمَّا كان من أمر موسى ما كان أعاد عليهم القتل ، فذلك قوله : { سنقتل أبناءهم ونَسْتَحْيِيَ نساءهم } للمهنة والخدمة { وإنا فوقهم قاهرون } وإنَّا على ذلك قادرون ، فشكا بنو إسرائيل إلى موسى إعادة القتل على أبنائهم ، فقال لهم موسى :
{ استعينوا بالله واصبروا } على ما يُفعل بكم { إنَّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } أطمعهم موسى أن يعطيهم الله ملكهم ومالهم { والعاقبة للمتقين } أَيْ : الجنَّة لمن اتَّقى . وقيل : النَّصر والظَّفر .
{ قالوا أوذينا } بالقتل الأوَّل { من قبل أن تأتينا } بالرِّسالة { ومن بعد ما جئتنا } بإعادة القتل علينا ، والإِتعاب في العمل { قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم } فرعون وقومه { ويستخلفكم في الأرض } يُملِّككم ما كان يملك فرعون { فينظر كيف تعملون } فيرى ذلك لوقوع ذلك منكم .
{ ولقد آخذنا آل فرعون بالسنين } بالجدوب لأهل البوادي { ونقص من الثمرات } لأهل القرى ، [ وصرَّفنا الآيات : بيَّناها لهم من كلِّ نوعٍ ] { لعلهم يذكرون } كي يتَّعظوا .
{ فإذا جاءتهم الحسنة } الخصب وسعة الرِّزق { قالوا لنا هذه } أَيْ : إنَّا مستحقُّوه على العادة التي جرت لنا من النِّعمة ، ولم يعلموا أنَّه من الله فيشكروا عليه { وإن تصبهم سيئة } قحط وجدب { يطيروا } يتشاءموا { بموسى } وقومه ، وقالوا : إنَّما أصابنا هذا الشرُّ بشؤمهم { ألا إنَّما طائرهم عند الله } شؤمهم جاءهم بكفرهم بالله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنَّ الذي أصابهم من الله .
{ وقالوا } لموسى : { مهما تأتنا به } أَيْ : متى ما تأتنا به { من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } فدعا عليهم موسى ، فأرسل الله عليهم السَّماء بالماء حتى امتلأت بيوت القِبْطِ ماءً ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة .

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)

{ فأرسلنا عليهم الطوفان } ودام ذلك سبعة أيَّام ، فقالوا : { يا موسى ادعُ لنا ربك } يكشف عنا فنؤمن لك ، فدعا ربَّه فكشف ، فلم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجراد ، فأكلت عامَّة زروعهم وثمارهم ، فوعدوه أن يؤمنوا إن كشف عنهم ، فكشف فلم يؤمنوا ، فبعث الله عليهم القمَّل ، وهو الدّباء الصِّغار [ البق ] التي لا أجنحة لها ، فتتبَّعَ ما بقي من حروثهم وأشجارهم ، فصرخوا فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ، فعادوا بكفرهم ، فأرسل الله عليهم الضَّفادع تدخل في طعامهم وشرابهم ، فعاهدوا موسى أن يؤمنوا ، فكشف عنهم فعادوا لكفرهم ، فأرسل الله عليهم الدَّم ، فسال النِّيل عليهم دماً ، وصارت مياههم كلُّها دماً ، فذلك قوله :
{ آيات مفصلات } مبيَّنات { فاستكبروا } عن عبادة الله .
{ ولما وقع عليهم الرجز } أَيْ : العذاب ، وهو ما كانوا فيه من الجراد وما ذكر بعده { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } بما أوصاك به وتقدَّم إليك أن تدعوه به { لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننَّ لك ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل } وقوله :
{ إلى أجل هم بالغوه } يعني : إلى الأجل الذي غَرَّقهم فيه { إذا هم ينكثون } ينقضون العهد ولا يوفون .
{ فانتقمنا منهم } سلبنا نعمتهم بالعذاب { فأغرقناهم في اليم } في البحر { بأنهم كذبوا بآياتنا } جزاء تكذيبهم { وكانوا عنها غافلين } غير معتبرين بها .
{ وأورثنا القوم } ملَّكناهم { الذين كانوا يستضعفون } بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم { مشارق الأرض ومغاربها } جهات شرق أرض الشَّام ، وجهات غربها ، { التي باركنا فيها } بإخراج الزُّروع والثِّمار ، والأنهار والعيون { وتمت كلمة ربك الحسنى } مواعيده التي لا خلف فيها بما كانوا يحبُّون ، وذلك جزاء صبرهم على صنيع فرعون { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } أهلكنا ما عمل فرعون وقومه في أرض مصر { وما كانوا يعرشون } وما بنوا المنازل والبيوت .
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } عبرنا بهم البحر { فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم } يعبدونها مقيمين عليها { قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً } من دون الله { كما لهم آلهة قال إنكم قومٌ تجهلون } نعمة الله عليكم وما صنع بكم ، حيث توهَّمتم أنَّه يجوز عبادة غيره .
{ إنَّ هؤلاء } يعني : الذين عكفوا على أصنامهم { متبَّرٌ ما هم فيه } مهلَكٌ ومدَمَّرٌ { وباطل ما كانوا يعملون } يعني : إنَّ عملهم للشَّيطان ، ليس لله فيه نصيبٌ .
{ قال أغير الله أبغيكم } أطلب لكم { إلهاً } معبوداً { وهو فضلكم على العالمين } على عالمي زمانكم بما أعطاكم من الكرامات .

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)

{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } يترقَّب انقضاءها للمناجاة ، وهي ذو القعدة . أمره الله تعالى أن يصوم فيها ، فلمَّا انسلخ الشَّهر استاك لمناجاة ربِّه يريد إزالة الخلوف ، فأُمر بصيام عشرةٍ من ذي الحجَّة؛ ليكلِّمه بخُلوفِ فيه ، فذلك قوله : { وأتممناها بعشر فتمَّ ميقات ربِّه } أَيْ : الوقت الذي قدَّره الله لصوم موسى { أربعين ليلة } فلمَّا أراد الانطلاق إلى الجبل استخلف أخاه هارون على قومه ، وهو معنى قوله : { وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح } أَيْ : وارفق بهم { ولا تتبع سبيل المفسدين } لا تطع مَنْ عصى الله ، ولا توافقه على أمره .
{ ولما جاء موسى لميقاتنا } أَيْ : في الوقت الذي وقَّتنا له { وكلمه ربُّه } فلمَّا سمع كلام الله { قال ربِّ أرني } نفسك { أنظر إليك } والمعنى : إنَّي قد سمعتُ كلامك فأنا أحبُّ أن أراك { قال لن تراني } في الدُّنيا { ولكن } اجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك ، وهو الجبل { فإن استقر مكانه } أَيْ : سكن وثبت { فسوف تراني } وإن لم يستقرَّ مكانه فإنَّك لا تطيق رؤيتي ، كما أنَّ الجبل لا يطيق رؤيتي { فلما تجلى ربه } أَيْ : ظهر وبان { جعله دكاً } أَيْ : مدقوقاً مع الأرض كِسَراً تراباً { وخرَّ } وسقط { موسى صعقاً } مغشياً عليه { فلما أفاق قال سبحانك } تنزيهاً لك من السُّوء { تبتُ إليك } من مسألتي الرُّؤية في الدُّنيا { وأنا أول المؤمنين } أوَّل قومي إيماناً .
{ قال يا موسى إني اصطفيتك } اتَّخذتك صفوةً { على الناس برسالاتي } أَيْ : بوحيي إليك { وبكلامي } كلَّمتك من غير واسطة { فخذ ما آتيتك } من الشَّرف والفضيلة { وكن من الشاكرين } لأنعمي في الدنيا والآخرة .

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)

{ وكتبنا له في الألواح } يعني : ألواح التَّوراة { من كل شيء } يحتاج إليه في أمر دينه { موعظة } نهياً عن الجهل { وتفصيلاً لكل شيء } من الحلال والحرام { فخذها } أَيْ : وقلنا له : فخذها { بقوة } بجدٍّ وصحِّةٍ وعزيمةٍ { وأمر قومك } أن { يأخذوا بأحسنها } أَيْ : بحسنها ، وكلُّها حسن { سأريكم دار الفاسقين } يعني : جهنَّم ، أَيْ : ولتكن على ذكرٍ منهم لتحذورا أن تكونوا منهم .
{ سأصرف عن آياتي } يعني : السَّموات والأرض . أصرفهم عن الاعتبار بما فيها { الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } يعني : المشركين . يقول : أعاقبهم بحرمان الهداية { وإن يروا سبيل الرشد } الهدى والبيان الذي جاء من الله { لا يتخذوه سبيلاً } ديناً { وإن يروا سبيل الغي } طاعة الشَّيطان { يتخذوه سبيلاً } ديناً { ذلك } فعل الله بهم { بأنهم كذبوا بآياتنا } جحدوا الإِيمان بها { وكانوا عنها غافلين } غير ناظرين فيها ، ولا معتبرين بها .
{ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة } يريد : الثَّواب والعقاب { حبطت أعمالهم } ضلَّ سعيهم { هل يجزون إلاَّ ما } أَيْ : جزاء ما { كانوا يعملون } .
{ واتخذ قوم موسى من بعده } أَيْ : من بعد انطلاقه إلى الجبل { من حليِّهم } التي بقيت في أيديهم ممَّا استعاروه من القبط { عجلاً جسداً } لحماً ودماً { له خوار } صوتٌ { الم يروا } يعني : قوم موسى { أنه } أنَّ العجل { لا يكلَِّمهم ولا يهديهم سبيلاً } لا يرشدهم إلى دينٍ { اتخذوه } أَيْ : إلهاً ومعبوداً { وكانوا ظالمين } مشركين .

وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)

{ ولما سُقط في أيديهم } أَيْ : ندموا على عبادتهم العجل { ورأوا أنهم قد ضلوا } قد ابتلوا بمعصية الله ، وهذا كان بعد رجوع موسى إليهم .
{ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان } عليهم { أسفاً } حزيناً؛ لأنَّ الله تعالى فتنهم { قال بئس ما خلفتموني من بعدي } بئسما عملتم من بعدي حين اتَّخذتم العجل إلهاً ، وكفرتم بالله { أعجلتم أمر ربكم } أسبقتم باتَّخاذ العجل معياد ربِّكم؟ يعني : الأربعين ليلة ، وذلك أنَّه كان قد وعدهم أن يأتيهم بعد ثلاثين ليلةَ ، فلمَّا لم يأتهم على رأس الثَّلاثين قالوا : إنَّه قد مات { وألقى الألواح } التي فيها التَّوراة { وأخذ برأس أخيه } بذؤابته وشعره { يجرُّه إليه } إنكاراً عليه إذ لم يلحقه فَيُعرِّفه ما فعل بنو إسرائيل ، كما قال في سورة طه : { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألاَّ تتبعنِ . . . } الآية . فأعلمه هارون أنَّه أَنَّما أقام بين أظهرهم خوفاً على نفسه من القتل ، وهو قوله : { قال ابن أمَّ } وكان أخاه لأبيه وأُمِّه ، ولكنَّه قال : يا ابنَ أمَّ ليرقِّقه عليه { إنَّ القوم استضعفوني } استذلُّوني وقهروني { وكادوا } وهمُّوا أن { يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء } يعني : أصحاب العجل بضربي وإهانتي { ولا تجعلني } في موجدتك وعقوبتك لي { مع القوم الظالمين } الذين عبدوا العجل ، فلمَّا عرف براءة هارون ممَّا يوجب العتب عليه ، إذا بلغ من إنكاره على عبدة العجل ما خاف على نفسه القتل .

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

{ قال ربِّ اغفر لي } ما صنعتُ إلى أخي { ولأخي } إن قصَّر في الإِنكار { وأدخلنا في رحمتك } جنَّتك .
{ إنَّ الذين اتخذوا العجل } يعني : اليهند الذين كانوا في عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهم أبناء الذين اتَّخذوا العجل إلهاً ، فأضيف إليهم تعييراً لهم بفعل آبائهم { سينالهم غضب من ربهم } عذابٌ في الآخرة { وذلة في الحياة الدنيا } وهي الجزية { وكذلك نجزي المفترين } كذلك أعاقب مَن اتَّخذ إلهاً دوني .
{ والذين عملوا السيئات } الشِّرك { ثم تابوا } رجعوا عنها { وآمنوا } صدَّقوا أنَّه لا إله غيري { إنَّ ربك من بعدها } من بعد التَّوبة { لغفور رحيم } .
{ ولما سكت } [ سكن ] { عن موسى الغضب أخذ الألواح } التي كان ألقاها { وفي نسختها } وفيما كُتب فيها : { هدىً } من الضَّلالة { ورحمة } من العذاب { للذين هم لربهم يرهبون } للخائفين من ربِّهم .
{ واختار موسى قومه } من قومه { سبعين رجلاً لميقاتنا } أمره الله تعالى أن يأتيه في ناس من بي إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعده لذلك موعداً ، فاختار موسى سبعين رجلاً ليعتذروا ، فلمَّا سمعوا كلام الله قالوا لموسى : أرنا الله جهرةٌ فأخذتهم { الرَّجفة } وهي الحركة الشَّديدة ، فماتوا جميعاً ، فقال موسى : { رب لو شئت أهلكتهم } وإيَّاي قبل خروجنا للميقات ، وكان بنو إسرائيل يُعاينون ذلك ولا يتَّهمونني ، ظنَّ أنَّهم أهلكوا باتِّخاذ أصحابهم العجل ، فقال : { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } وإنَّما أُهلكوا لمسألتهم الرُّؤية { إن هي إلاَّ فتنتك } أَيْ : تلك الفتنة التي وقع فيها السُّفهاء لم تكن إلاَّ فتنتك ، أي : اختبارك وابتلاؤك أضللتَ بها قوماً فافتتنوا ، وعصمتَ آخرين وهذا معنى قوله : { تضل بها مَنْ تشاء وتهدي مَنْ تشاء } .
{ واكتب لنا } أوجب لنا { في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } أَي : اقبل وفادتنا ، ورُدَّنا بالمغفرة والرَّحمة { إنا هُدْنا إليك } تبنا ورجعنا إليك بالتَّوبة { قال عذابي أصيب به من أشاء } آخذ به مَنْ أشاء على الذَّنب اليسير { ورحمتي وسعت كلَّ شيء } يعني : إنَّ رحمته في الدُّنيا وسعت البرَّ والفاجر ، وهي في الآخرة للمؤمنين خاصَّةً ، وهذا معنى قوله : { فسأكتبها } فسأوجبها في الآخرة { للذين يتقون } يريد : أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم { ويؤتون الزكاة } صدقات الأموال عند محلها { والذين هم بآياتنا يؤمنون } يصدِّقون بما أنزل على محمد والنَّبييِّن .

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

{ الذين يتبعون الرسول النبيَّ الأميَّ } وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وكانت هذه الخلَّة مؤكِّدة لمعجزته في القرآن { الذي يجدونه } بنعته وصفته { مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل يأمرهم بالمعروف } بالتَّوحيد وشرائع الإِسلام { وينهاهم عن المنكر } عبادة الأوثان وما لا يُعرف في شريعة { ويحلُّ لهم الطيبات } يعني : ما حرَّم عليهم في التَّوراة من لحوم الإِبل ، وشحوم الضَّأن { ويحرِّم عليهم الخبائث } الميتة والدَّم ، وما ذُكر في سورة المائدة { ويضع عنهم إصرهم } ويُسقط عنهم ثقل العهد الذي أُخذ عليهم { والأغلال التي كانت عليهم } الشَّدائد التي كانت عليهم ، كقطع أثر البول ، وقتل النَّفس في التَّوبة ، [ وقطع ] الأعضاء الخاطئة { فالذين آمنوا به } من اليهود { وعزَّروه } ووقَّروه { ونصروه } على عدوه { واتبعوا النور الذي أنزل معه } يعني : القرآن . . الآيتين .

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

{ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } يدعون إلى الحقِّ { وبه يعدلون } وبالحقِّ يحكمون ، وهم قوم وراء الصِّين آمنوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يصل إلينا منهم أحد ، ولا منَّا إليهم . وقوله :
{ فانبجست } أَي : انفجرت ، وهذه الآية مفسَّرة في سورة البقرة .

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)

{ واسألهم } يعني : سؤال توبيخٍ وتقريرٍ { عن القرية } وهي أيلة { التي كانت حاضرة البحر } مُجاورته { إذ يعدون في السبت } يظلمون فيه بصيد السَّمك { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً } ظاهرة على الماء { ويوم لا يسبتون } لا يفعلون ما يفعل في السَّبت . يعني : سائر الأيام { لا تأتيهم } الحيتان { كذلك } مثل هذا الاختبار الشَّديد { نبلوهم } نختبرهم { بما كانوا يفسقون } بعصيانهم الله ، أَيْ : شدَّدتُ عليهم المحنة لفسقهم ، ولمَّا فعلوا ذلك صار أهل القرية ثلاث فرق : فرقةٌ صادت وأكلت ، وفرقةٌ نهت وزجرت ، وفرقةٌ أمسكت عن الصَّيد ، وهم الذين قال الله تعالى :
{ وإذ قالت أمة منهم } قالوا للفرقة النَّاهية { لم تعظون قوماً الله ملهلكهم } لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنَّهم غير مُقلعين ، فقالت الفرقة النَّاهية للذين لاموهم : { معذرة إلى ربكم } أَي : الأمر بالمعروف واجبٌ علينا ، فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى الله { ولعلهم يتقون } فيتركون الصَّيد في السَّبت .
{ فلما نسوا ما ذكروا به } تركوا ما وُعظوا به { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا } اعتدوا في السَّبت { بعذاب بئيس } شديدٍ ، وهو المسخ جزاءً لفسقهم وخروجهم عن أمر الله .

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

{ فلما عتوا } أَيْ : طغوا واستكبروا { عمَّا نهوا عنه } أَيْ : عن ترك ما نُهوا عنه من صيد الحيتان يوم السَّبت { قلنا لهم } الآية مُفسَّرة في سورة البقرة .
{ وإذ تأذَّن ربك } قالَ وأعلم ربُّك { ليبعثنَّ } ليرسلنَّ { عليهم } على اليهود { مَنْ يسومهم } أَيْ : يذيقهم { سوء العذاب } إلى يوم القيامة . يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم وأُمَّته يقاتلونهم أو يعطون الجزية { إنَّ ربك لسريع العقاب } لمن استحقَّ تعجيله .
{ وقطعناهم في الأرض أمماً } فرَّقناهم في البلاد ، فلم يجتمع لهم كلمة { منهم الصالحون } وهم الذين آمنوا { ومنهم دون ذلك } الذين كفروا { وبلوناهم } عاملناهم معاملة المختبر { بالحسنات } بالخِصب والعافية { والسيئات } الجدب والشَّدائد { لعلهم يرجعون } كي يتوبوا .
{ فَخَلَفَ من بعدهم خلف } من بعد هؤلاء الذين قطَّعناهم خلفٌ من اليهود . يعني : أولادهم { ورثوا الكتاب } أخذوه عن آبائهم { يأخذون عرض هذا الأدنى } يأخذون ما أشرف لهم من الدُّنيا حلالاً أو حراماً { ويقولون سيغفر لنا } ويتمنَّون على الله المغفرة { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } وإن أصابوا عرضاً ، أيْ : متاعاً من الدُّنيا مثل رشوتهم تلك التي أصابوا بالأمس قبلوه . وهذا إخبارٌ عن حرصهم على الدُّنيا { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلاَّ الحق } وأكَّد الله عليهم في التوراة ألا يقولوا على الله إلاَّ الحق فقالوا الباطل ، وهو قولهم : { سيغفر لنا } وليس في التَّوراة ميعاد المغفرة مع الإِصرار { ودرسوا ما فيه } أَيْ : فهم ذاكرون لما أخذ عليهم الميثاق؛ لأنَّهم قرؤوه .
{ والذين يمسكون بالكتاب } يؤمنون به ويحكمون بما فيه . يعني : مؤمني أهل الكتاب { وأقاموا الصلاة } التي شرعها محمد صلى الله عليه وسلم { إنا لا نضيع أجر المصلحين } منهم .
{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم } رفعناه باقتلاع له من أصله . يعني : ما ذكرنا عند قوله : { ورفعنا فوقكم الطور . . . } الآية . { وظنوا } وأيقنوا { أنَّه واقع بهم } إن خالفوا ، وباقي الآية مضى فيما سبق .

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)

{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } أخرج الله تعالى ذريَّة آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء ، وجميعُ ذلك أخرجه من صلب آدم مثل الذَّرِّ ، وأخذ عليهم الميثاق أنَّه خالقهم ، وأنَّهم مصنوعون ، فاعترفوا بذلك وقبلوا ذلك بعد أن ركَّب فيهم عقولاً ، وذلك قوله : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم } أي : قال : ألستُ بربكم { قالوا بلى } فأقرُّوا له بالربوبيَّة ، فقالت الملائكة عند ذلك { شهدنا } أَيْ : على إقراركم { أن } لا { تقولوا } لئلا [ تقولوا ، أي : لئلا ] يقول الكفار { يوم القيامة إنا كنا عن هذا } الميثاق { غافلين } لم نحفظه ولم نذكره ، ويذكرون الميثاق ذلك اليوم فلا يمكنهم الإنكار مع شهادة الملائكة ، وهذه الآية تذكيرٌ لجميع المكلَّفين ذلك الميثاق؛ لأنَّها وردت على لسان صاحب المعجزة ، فقامت في النُّفوس مقام ما هو على ذكرٍ منها .
{ أو تقولوا } أَيُّها الذُّريَّة محتجِّين يوم القيامة : { إنما أشرك آباؤنا من قبل } أَيْ : قبلنا ، ونقضوا العهد { وكنا ذرية من بعدهم } صغاراً فاقتدينا بهم { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } أَفَتُعَذَّبنا بما فعل المشركون المكذِّبون بالتَّوحيد ، وإَّنما اقتدينا بهم ، وكنا في غفلةٍ عن الميثاق ، وهذه الآية قطعٌ لمعذرتهم ، فلا يمكنهم الاحتجاج بكون الآباء على الشِّرك بعد تذكير الله بأخذ الميثاق بالتَّوحيد على كلِّ واحدٍ من الذُّريَّة .
{ وكذلك } وكما بيَّنا في أمر الميثاق { نفصل الآيات } نبيِّنها ليتدبَّرها العباد { ولعلهم يرجعون } ولكي يرجعوا عمَّا هم عليه من الكفر .
{ واتل عليهم } واقرأ واقصص يا محمَّد على قومك { نبأ } خبر { الذي آتيناه آياتنا } علَّمناه حجج التَّوحيد { فانسلخ } خرج { منها فأتبعه الشيطان } أدركه { فكأن من الغاوين } الضَّالين . يعني : بلعم من باعوراء . أعان أعداء الله على أوليائه بدعائه ، فَنُزِعَ عنه الإِيمان .

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)

{ ولو شئنا لرفعناه بها } بالعمل بها . يعني : وفَّقناه للعمل بالآيات ، وكنَّا نرفع بذلك منزلته { ولكنه أخلد إلى الأرض } مال إلى الدُّنيا وسكن إليها ، وذلك أنَّ قومه أهدوا له رسوةً ليدعوَ على قوم موسى ، فأخذها { واتبع هواه } انقاذ لما دعاه إليه الهوى { فمثله كمثل الكلب } أراد أنَّ هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر ، وإن تركته لم يهتدِ ، فالحالتان عنده سواءٌ ، كحالتي الكلب اللاهث ، فإنَّه إنْ حُمل عليه بالطَّرد كان لاهثاً ، وإن تُرك وربض كان أيضاً لاهثاً كهذا الكافر في الحالتين ضالٌّ ، وذلك أنَّه زُجر في المنام عن الدُّعاء على موسى فلم ينزجر ، وتُرك عن الزَّجر فلم يهتد ، فضرب الله له أخسَّ شيءٍ في أخسّ أحواله ، وهو حال اللَّهث مثلاً ، وهو إدلاع اللِّسان من الإِعياء والعطش ، والكلب يفعل ذلك في حال الكلال وحال الرَّاحة ، ثمَّ عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذِّبين بآيات الله فقال : { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } يعني : أهل مكَّة . كانوا يتمنَّون هادياً يهديهم ، فلما جاءهم مَنْ لا يشكُّون في صدقه كذَّبوه ، فلم يهتدوا لمَّا تُركوا ، ولم يهتدوا أيضاً لمَّا دُعوا بالرَّسول ، فكانوا ضالِّين عن الرُّشد في الحالتين { فاقصص القصص } يعني : قصص الذين كذَّبوا بآياتنا { لعلهم يتفكرون } فيتَّعظون ، ثمَّ ذمَّ مَثلَهم ، فقال :
{ ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا } أَيْ : بئس مثل القوم كذَّبوا بآياتنا { وأنفسهم كانوا يظلمون } بذلك التَّكذيب . يعني : إنَّما يخسرون حظَّهم .

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

{ ولقد ذَرَأْنا } [ خلقنا ] { لجهنم كثيراً من الجن والإِنس } وهم الذين حقَّت عليهم الشَّقاوة { لهم قلوب لا يفقهون بها } لا يعقلون بها الخير والهدى { ولهم أعين لا يبصرون بها } سبل الهدى { ولهم آذان لا يسمعون بها } مواعظ القرآن { أولئك كالأنعام } يأكلون ويشربون ولا يلتفتون إلى الآخرة { بل هم أضلُّ } لأنَّ الأنعام مطيعةٌ لله ، والكافر غير مطيع { أولئك هم الغافلون } عمَّا في الآخرة من العذاب .
{ ولله الأسماء الحسنى } يعني : التِّسعة والتِّسعين { فادعوه بها } كقولك : يا اللَّهُ ، يا قديرُ ، يا عليمُ { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } يميلون عن القصد ، وهم المشركون عدلوا بأسماء الله عمّا هي عليه ، فسمُّوا بها أوثانهم ، وزادوا فيها ونقصوا ، واشتقوا اللاَّت من الله ، والعُزَّى من العزيز ، ومناة من المنَّان { سيجزون ما كانوا يعملون } جزاء ما كانوا يعملون في الآخرة .
{ وممن خلقنا أمة . . . } الآية . يعني : أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال في قوم موسى عليه السلام : { ومن قوم موسى أمةٌ . . . } الآية .
{ والذين كذبوا بآياتنا } محمدٍ والقرآن . يعني : أهل مكَّة { سنستدرجهم } سنمكر بهم { من حيث لا يعلمون } كلما جدَّدوا لنا معصية جدَّّدنا لهم نعمةً .
{ وأملي لهم } أُطيل لهم مدَّة عمرهم ليتمادوا في المعاصي { إنَّ كيدي متين } مكري شديد . نزلت في المستهزئين من قريش ، قتلهم الله في ليلةٍ واحدةٍ بعد أن أمهلهم طويلاً .

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)

{ أَوَلَم يتفكروا } فيعلموا { ما بصاحبهم } محمَّدٍ { من جنة } من جنونٍ .
{ أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } ليستدلُّوا بها على توحيد الله ، وفسَّرنا ملكوت السَّموات والأرضِ في سورة الأنعام { وما خلق الله من شيء } وفيما خلق الله من الأشياء كلها { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } وفي أنْ لعلَّ آجالهم قريبة ، فيهلكوا على الكفر ، ويصيروا إلى النَّار { فبأيِّ حديث بعده يؤمنون } فبأيِّ قرآنٍ غير ما جاء به محمَّد يُصدِّقون؟ يعني : إنَّه خاتم الرُّسل ، ولا وحي بعده ، ثمَّ ذكر علَّة إعراضهم عن الإِيمان ، فقال :
{ ومَنْ يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون } .
{ يسألونك عن الساعة } أَي : السَّاعة التي يموت فيها الخلق . يعني : القيامة نزلت في قريش قالت لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم : أسرَّ إلينا متى السَّاعة { إيَّان مرساها } متى وقوها وثبوتها؟ { قل إنما علمها } العلم بوقتها ووقوعها { عند ربي لا يجليها لوقتها إلاَّ هو } لا يظهرها في وقتها إلاَّ هو { ثقلت في السموات والأرض } ثقل وقوعها وكَبًُر على أهل السَّموات والأرض لما فيها من الأهوال { لا تأتيكم إلاَّ بغتة } فجأة { يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها } عالمٌ بها مسؤول عنها { قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنَّ علمها عند الله حين سألوا محمداً عن ذلك .

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)

{ قل لا أملك لنفسي . . . } الآية . إنَّ أهل مكة قالوا : يا محمَّد ، ألا يخبرك ربُّك بالسِّعر الرَّخيص ، قبل أن يغلو ، فنشتري من الرَّخيص لنربح عليه؟ وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل عنها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ومعنى قوله : { لا أملك لنفسي نفعاً } أي : اجتلاب نفع بأن أربح ، { ولا ضرَّاً } دفع ضرٍّ بأن أرتحل من الأرض التي تريد أن تجدب { إلاَّ ما شاء الله } أن أملكه بتمليكه { ولو كنت أعلم الغيب } ما يكون قبل أن يكون { لاستكثرت من الخير } لادَّخرت في زمانِ الخِصْبِ لزمن الجدب { وما مسني السوء } وما أصابني الضرُّ والفقر { إن أنا إلاَّ نذير } لمَنْ يصدِّق ما جئت به { وبشير } لمن اتَّبعني وآمن بي .
{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني : آدم { وجعل منها زوجها } حوَّاء خلقها من ضلعه { ليسكن إليها } ليأنس بها ، فيأوي إليها { فلما تغشاها } جامعها { حملت حملاً خفيفاً } يعني : النُّطفة والمنيِّ { فمرَّت به } استمرَّت بذلك الحمل الخفيف ، وقامت وقعدت ، ولم يُثْقِلها { فلما أثقلت } صار إلى حال الثِّقل ودنت ولادتها ، { دعوا الله ربهما } آدم وحواء { لئن آتيتنا صالحاً } بشراً سويَّاً مثلنا { لنكوننَّ من الشاكرين } وذلك أنَّ إبليس أتاها في غير صورته التي عرفته ، وقال لها : ما الذي في بطنك؟ قالت : ما أدري . قال : إنِّي أخاف أن يكون بهيمةً ، أو كلباً أو خنزيراً ، وذكرت ذلك لآدم ، فلم يزالا في همٍّ من ذلك ، ثمَّ أتاها وقال : إن سألتُ الله أن يجعله خلقاً سويَّاً مثلك أَتُسمِّينه عبد الحارث؟ وكان إبليس في الملائكة الحارث ، ولم يزل بها حتى غرَّها ، فلمَّا ولدت ولداً سويَّ الخلق سمَّته عبد الحارث ، فرضي آدم .

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)

{ فلما آتاهما صالحاً } ولداً سويّاً { جعلا له } لله { شركاء } يعني : إبليس ، فأوقع الواحد موقع الجميع { فيما آتاهما } من الولد إذ سمَّياه عبد الحارث ، ولا ينبغي أن يكون عبداً إلاَّ لله ، ولم تعرف حوَّاء أنَّه إبليس ، ولم يكن هذا شركاً بالله ، لأنَّهما لم يذهبا إلى أنَّ الحارث ربَّهما ، لكنهما قصدا إلى أنَّه كان سبب نحاته ، وتمَّ الكلام عند قوله : { آتاهما } ، ثمَّ ذكر كفَّار مكة ، فقال : { فتعالى الله عمَّا يشركون } .
{ أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } يريد : أيعبدون ما لا يقدر أن يخلق شيئاً وهم مخلوقون! عنى الأصنام .
{ ولا يستطيعون لهم نصراً } لا تنصر مَنْ أطاعها { ولا أنفسهم ينصرون } ولا يدفعون عن أنفسهم مكروه مَنْ أرادهم بكسرٍ أو نحوه ، ثمَّ خاطب المؤمنين .

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)

{ وإن تدعوهم } يعني : المشركين { إلى الهدى لا يتبعوكم . . . } الآية .
{ إنَّ الذين تدعون من دون الله } يعني : الأصنام { عباد } مملوكون مخلوقون { أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم } فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجازونكم!؟ { إن كنتم صادقين } أنَّ لكم عند الأصنام منفعةً ، أو ثواباً ، أو شفاعةً ، ثمَّ بيَّن فضل الآدميِّ عليهم فقال :
{ ألهم أرجل يمشون بها } مشيَ بني آدم { أَمْ لهم أيدٍ يبطشون بها } يتناولون بها مثل بطش بني آدم { أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم } الذين تعبدون من دون الله { ثمَّ كيدون } أنتم وشركاؤكم { فلا تنظرون } لا تُمهلون واعجلوا في كيدي .
{ إنَّ وليي الله } الذي يتولَّى حفظي ونصري { الذي نزل الكتاب } القرآن { وهو يتولى الصالحين } الذين لا يعدلون بالله شيئاً .

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)

{ وتراهم ينظرون إليك } تحسبهم يرونك { وهم لا يبصرون } وذلك لأنَّ لها أعيناً مصنوعةً مركَّبةً بالجواهر ، حتى يحسب الإِنسان أنَّها تنظر إليه .
{ خذ العفو } اقبل الميسور من أخلاق النَّاس ، ولا تستقصِ عليهم . وقيل : هو أن يعفو عمَّنْ ظلمه ، ويصل مَنْ قطعه { وأمر بالعرف } المعروف الذي يعرف حسنه كلُّ أحدٍ . { وأعرض عن الجاهلين } لا تقابل السَّفيه بسفهه ، فلمَّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يا ربِّ والغضب؟ فنزل :
{ وإمَّا ينزغنَّك من الشيطان نزغ } يعرض لك من الشيطان عارضٌ ، ونالك منه أدنى وسوسة { فاستعذ بالله } اطلب النَّجاة من تلك البليَّة بالله { إنَّه سميع } لدعائك { عليم } عالمٌ بما عرض لك .
{ إنَّ الذين اتقوا } يعني : المؤمنين { إذا مسَّهم } أصابهم { طيف من الشيطان } عارضٌ من وسوسته { تذكَّروا } استعاذوا بالله { فإذا هم مبصرون } مواقع خَطَئِهِمْ ، فينزعون من مخالفة الله .
{ وإخوانهم } يعني : الكفَّار ، وهم إخوان الشَّياطين { يمدونهم } أَي : الشَّياطين يطوِّلون لهم الإِغواء والضَّلالة { ثم لا يقصرون } عن الضلالة ولا يبصرونها ، كما أقصر المُتَّقي عنها حين أبصرها .

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

{ وإذا لم تأتهم } يعني : أهل مكَّة { بآية } سألوكها { قالوا لولا اجتبيتها } اختلقتها وأنشأتها من قبل نفسك { قل إنما أتبع ما يوحى إليَّ من ربي } أَيْ : لستُ آتي بالآيات من قبل نفسي . { هذا } أَيْ : هذا القرآن الذي أتيتُ به { بصائر من ربكم } حججٌ ودلائلُ تعود إلى الحقِّ .
{ وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } الآيةُ نزلت في تحريم الكلام في الصَّلاة ، وكانوا يتكلَّمون في الصَّلاة في بدء الأمر . وقيل : نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإِمام . وقيل : نزلت في السُّكوت للخطبة ، وقوله : { وأنصتوا } أَيْ : عمَّا يحرم من الكلام في الصَّلاة ، أو عن رفع الصَّوت خلف الإِمام ، أو اسكتوا لاستماع الخطبة .
{ واذكر ربك في نفسك } يعني : القراءة في الصَّلاة { تضرُّعاً وخيفة } استكانةًَ لي وخوفاً من عذابي { ودون الجهر } دون الرَّفع { من القول بالغدو والآصال } بالبُكُر والعشيَّات . أُمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإِسرار ، ودون الجهر فيما يرفع به الصَّوت { ولا تكن من الغافلين } الذين لا يقرؤون في صلاتهم .
{ إنَّ الذين عند ربك } يعني : الملائكة ، وهم بالقرب من رحمة الله { لا يستكبرون عن عبادته } أَيْ : هم مع منزلتهم ودرجتهم يعبدون الله . كأنَّه قيل : مَنْ هو أكبر منك أيُّها الإِنسان لا يستكبر عن عبادة الله { ويسبحونه } يُنزِّهونه عن السُّوء { وله يسجدون } .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)

{ يسألونك عن الأنفال } الغنائم ، لمَنْ هي؟ نزلت حين اختلفوا في غنائم بدر ، فقال الشُّبان : هي لنا؛ لأنَّا باشرنا الحرب ، وقالت الأشياخ : كنَّا ردءاً لكم؛ لأنَّا وقفنا في المصافِّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو انهزمتهم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا ، فأنزل الله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } يضعها حيث يشاء من غير مشاركة فيها ، فقسمها بينهم على السَّواء { فاتقوا الله } بطاعته واجتناب معاصية { وأصلحوا ذات بينكم } حقيقة وصلكم ، أَيْ : لا تَخَالفوا { وأطيعوا الله ورسوله } سلِّموا لهما في الأنفال؛ فإنَّهما يحكمان فيها ما أرادا { إن كنتم مؤمنين } ثمَّ وصف المؤمنين فقال :
{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } أَيْ : المؤمن الذي إذا خُوِّف بالله فرق قلبه ، وانقاد لأمره { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } تصديقاً ويقيناً { وعلى ربهم يتوكلون } بالله يثقون لا يرجون غيره .

أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)

{ أولئك هم المؤمنون حقاً } صدقاً من غير شكٍّ ، لا كإيمان المنافقين { لهم درجات عند ربهم } يعني : درجات الجنَّة { ومغفرة ورزق كريم } وهو رزق الجنَّة .
{ كما أخرجك } أيْ : امض لأمر الله في الغنائم وإن كره بعضهم ذلك؛ لأنَّ الشُّبان أرادوا أن يستبدُّوا به ، فقال الله تعالى : أعط مَنْ شئت وإن كرهوا ، كما مضيت لأمر الله في الخروج وهم له كارهون . ومعنى { كما أخرجك ربُّك من بيتك } أمرك بالخروج من المدينة لعير قريش { بالحقِّ } بالوحي الذي أتاك به جبريل { وإنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون } الخروج معك كراهة الطَّبع لاحتمال المشقَّة؛ لأنَّهم علموا أنَّهم لا يظفرون بالعير دون القتال .
{ يجادلونك في الحق بعد ما تبيَّن } في القتال بعد ما أُمرت به ، وذلك أنَّهم خرجوا للعير ، ولم يأخذوا أُهبة الحرب ، فلمَّا أُمروا بحرب النَّفير شقَّ عليهم ذلك ، فطلبوا الرُّخصة في ترك ذلك ، فهو جدالهم { كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } أَيْ : لشدَّة كراهيتهم للقاء القوم كأنَّهم يُساقون إلى الموت عياناً .

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)

{ وإذْ يعدكم الله إحدى الطائفتين } العير أو النَّفير { أنَّها لكم وتودون أنَّ غير ذات الشوكة تكون لكم } أَيْ : العير التي لا سلاح فيها تكون لكم { ويريد الله أن يحق الحق } يُظهره ويُعليَه { بكلماته } بِعِدَاتِه التي سبقت بظهور الإِسلام { ويقطع دابر الكافرين } آخر مَنْ بقي منهم . يعني : إنَّه إنَّما أمركم بحرب قريشٍ لهذا .
{ ليحقَّ الحق } أَيْ : ويقطع دابر الكافرين ليُظهر الحقَّ ويُعليَه { ويبطل الباطل } ويُهلك الكفر ويُفنيه { ولو كره المجرمون } ذلك .
{ إذ تستغيثون ربكم } تطلبون منه المعونة بالنَّصر على العدوِّ لقلَّتكم { فاستجاب لكم أني ممدُّكم بألفٍ من الملائكة مردفين } متتابعين ، جاؤوا بعد المسلمين ، ومَنْ فتح الدَّال أراد : بألفٍ أردف الله المسلمين بهم .
{ وما جعله الله } أَيْ : الإِرداف { إلاَّ بشرى } الآية ماضية في سورة آل عمران .
{ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } وذلك أنَّ الله تعالى أمَّنهم أمناً غشيهم النُّعاس معه ، وهذا كما كان يوم أُحدٍ ، وقد ذكرنا ذلك في سورة آل عمران . { وينُزِّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وذلك أنَّهم لمَّا بايتوا المشركين ببدرٍ أصابت جماعة منهم جنابات ، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء ، فوسوس إليهم الشَّيطان ، وقال لهم : كيف ترجون الظَّفر وقد غلبوكم على الماء؟ وأنتم تُصلُّون مُجنِبين ومُحدِثين ، وتزعمون أنَّكم أولياء الله وفيكم نبيُّه؟ فأنزل الله تعالى مطراً سال منه الوادي حتى اغتسلوا ، وزالت الوسوسة ، فذلك قوله : { ليطهركم به } أَيْ : من الأحداث والجنابات { ويذهب عنكم رجز الشيطان } وسوسته التي تكسب عذاب الله { وليربط } به { على قلوبكم } باليقين والنَّصر { ويثبت به الأقدام } وذلك أنَّهم كانوا قد نزلوا على كثيبٍ تغوص فيه أرجلهم ، فلبَّده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام .
{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة } الذين أمدَّ بهم المسلمين { إني معكم } بالعون والنُّصرة { فثبتوا الذين آمنوا } بالتَّبشير بالنَّصر ، وكان المَلَك يسير أمام الصَّف على صورة رجلٍ ويقول : أبشروا؛ فإنَّ الله ناصركم { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } الخوف من أوليائي { فاضربوا فوق الأعناق } أَيْ : الرُّؤوس { واضربوا منهم كلَّ بنان } أَيْ : الأطراف من اليدين والرِّجلين .
{ ذلك } الضَّرب { بأنهم شاقوا الله ورسوله } باينوهما وخالفوهما .
{ ذلكم } القتل والضَّرب ببدرٍ { فذوقوه وأنَّ للكافرين عذاب النار } بعدما نزل بهم من ضرب الأعناق .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } مُجتمعين مُتدانين إليكم للقتال { فلا تولوهم الأدبار } لا تجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم .

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

{ ومن يُوَلَّهِمْ يومئذٍ } أَيْ : يوم لقاء الكفَّار { دبره إلاَّ متحرِّفاً لقتال } مُنعطفاً مُستَطرداً يطلب العودة { أو متحيزاً } مُنضمَّاً { إلى فئة } لجماعةٍ يريدون العود إلى القتال { فقد باء بغضب من الله . . . } الآية . وأكثر المفسرين على أنَّ هذا الوعيد ، إنَّما كان لمَنْ فرَّ يوم بدرٍ ، وكان هذا خاصَّاً للمنهزم يوم بدرٍ .
{ فلم تقتلوهم } يعني : يوم بدرٍ { ولكنَّ الله قتلهم } بتسبيبه ذلك ، من المعونة عليهم وتشجيع القلب { وما رميت إذ رميت } وذلك أنَّ جبريل عليه السَّلام قال للنبيِّ عليه السَّلام يوم بدرٍ : خذ قبضةً من تراب فارمهم بها ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من حصى الوادي ، فرمى بها في وجوه القوم ، فلم يبقَ مشركٌ إلاَّ دخل عينيه منها شيءٌ ، وكان ذلك سبب هزيمتهم ، فقال الله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكنَّ الله رمى } أَيْ : إنَّ كفَّاً من حصى لا يملأ عيون ذلك الجيش الكثير برمية بَشرٍ ، ولكنَّ الله تعالى تولَّى إيصال ذلك إلى أبصارهم { وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً } وينعم عليهم نعمةً عظيمةً بالنَّصر والغنيمة فعل ذلك . { إنَّ الله سميع } لدعائهم { عليم } بنيَّاتهم .
{ ذلكم وأنَّ الله موهن كيد الكافرين } يُهنِّىء رسوله بإيهانه كيد عدوِّه ، حتى قُتلت جبابرتهم ، وأُسِر أشرافهم .
{ إن تستفتحوا } هذا خطابٌ للمشركين ، وذلك أنَّ أبا جهلٍ قال يوم بدرٍ : اللَّهم انصر أفضل الدِّينَيْن ، وأهدى الفئتين ، فقال الله تعالى : { إن تستفتحوا } تستنصروا لأَهْدى الفئتين { فقد جاءكم الفتح } النَّصر { وإن تنتهوا } عن الشِّرك بالله { فهو خير لكم وإن تعودوا } لقتال محمَّدٍ { نعد } عليكم بالقتل والأسر { ولن تغني عنكم } تدفع عنكم { فئتكم } جماعتكم { شئياً ولو كثرت } في العدد { وأنَّ الله مع المؤمنين } فالنَّصر لهم .
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه } لا تُعرضوا عنه بمخالفة أمره { وأنتم تسمعون } ما نزل من القرآن .
{ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } سماع قابلٍ ، وليسوا كذلك ، يعني : المنافقين ، وقيل : أراد المشركين؛ لأنَّهم سمعوا ولم يتفكَّروا فيما سمعوا ، فكانوا بمنزلة مَنْ لم يسمع .
{ إنَّ شرَّ الدواب عند الله الصمُّ البكم الذين لا يعقلون } يريد نفراً من المشركين كانوا صمَّاً عن الحقِّ ، فلا يسمعونه ، بُكماً عن التَّكلُّم به . بيَّن الله تعالى أنَّ هؤلاء شرُّ ما دبَّ على الأرض من الحيوان .
{ ولو علم الله فيهم خيراً } لو علم أنَّهم يصلحون بما يُورده عليهم من حججه وآياته { لأسمعهم } إيَّاها سماع تفهمٍ { ولو أسمعهم } بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك و { لتولوا وهم معرضون } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } أجيبوا لهما بالطَّاعة { إذا دعاكم لما يحييكم } يعني : الجهاد؛ لأنَّ به يحيا أمرهم ويقوى ، ولأنَّه سبب الشَّهادة ، والشُّهداء أحياءٌ عند ربهم ، ولأنَّه سببٌ للحياة الدَّائمة في الجنَّة { واعلموا أنَّ الله يحول بين المرءِ وقلبه } يحول بين الإِنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن إلاَّ بإذنه ، ولا أن يكفر ، فالقلوب بيد الله تعالى يُقلِّبها كيف يشاء { وأنَّه إليه تحشرون } للجزاء على الأعمال .
{ واتقوا فتنة . . . } الآية . أمر الله تعالى المؤمنين ألا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم ، فيعمَّهم الله بالعذاب ، والفتنة ها هنا : إقرار المنكر ، وترك التَّغيير له ، وقوله : { لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة } أَيْ : تصيب الظَّالم والمظلوم ، ولا تكون للظَّلمة وحدهم خاصَّة ، ولكنَّها عامَّة ، والتَّقدير : واتَّقوا فتنةً ، إن لا تتقوها لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصَّة ، أَيْ : لا تقع بالظَّالمين دون غيرهم ، ولكنها تقع بالصَّالحين والطَّالحين { واعلموا أنَّ الله شديد العقاب } حثٌّ على لزوم الاستقامة خوفاً من الفتنة ، ومن عقاب الله بالمعصية فيها .
{ واذكروا } يعني : المهاجرين { إذ أنتم قليل } يعني : حين كانوا بمكَّة في عنفوان الإِسلام قبل أن يُكملوا أربعين { مستضعفون في الأرض } يعني : أرض مكَّة { تخافون أن يتخطفكم الناس } المشركون من العرب لو خرجتم منها { فآواكم } جعل لكم مأوىً ترجعون إليه ، وضمَّكم إلى الأنصار { وأيَّدكم بنصره } يوم بدرٍ بالملائكة { ورزقكم من الطيبات } يعني : الغنائم أحلَّها لكم { لعلكم تشكرون } كي تطيعوا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله } بترك فرائضه { والرسول } بترك سنَّته { وتخونوا } أَيْ : ولا تخونوا { أماناتكم } وهي كلُّ ما ائتمن الله عليها العباد ، وكلُّ أحدٍ مؤتمنٌ على ما افترض الله عليه { وأنتم تعلمون } أنَّها أمانةٌ من غير شبهةٍ . وقيل : نزلت هذه الآية في أبي لُبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُريظة لمَّا حاصرهم ، وكان أهله وولده فيهم ، فقالوا له : ما ترى لنا؟ أننزل على حكم سعدٍ فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه ، أنَّه الذَّبح ، فلا تفعلوا ، وكانت منه خيانةً لله ورسوله .
{ واعلموا أنَّما أموالكم وأولادكم فتنة } أَيْ : محنةٌ يظهر بها ما في النَّفس من اتِّباع الهوى أو تجنُّبه ، ولذلك مال أبو لبابة إلى قُريظة في إطلاعهم على حكم سعد؛ لأنَّ ماله وولده كانت فيهم { وإنَّ الله عنده أجر عظيم } لمن أدى الأمانة ولم يخن .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } باجتناب الخيانة فيما ذُكر { يجعل لكم فرقاناً } يفرق بينكم وبين ما تخافون ، فتنجون { ويكفر عنكم سيئاتكم } يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم { والله ذو الفضل العظيم } لا يمنعكم ما وعدكم على طاعته .

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)

{ وإذ يمكر بك الذين كفروا } وذلك أنَّ مشركي قريش تآمروا في دارة النَّدوة في شأن محمَّد عليه السًّلام ، فقال بعضهم : قيِّدوه نتربص به ريب المنون ، وقال بعضهم : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه ، وقال أبو جهل - لعنه الله - : ما هذا برأي ، ولكن اقتلوه ، بأن يجتمع عليه من كلِّ بطنٍ رجلٌ ، فيضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ ، فإذا قتلوه تفرَّق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلِّها ، فأوحى الله تعالى إلى نبيِّه بذلك ، وأمره بالهجرة ، فذلك قوله : { ليثبتوك } أَيْ : ليوثقوك ويشدُّوك { أو يقتلوك } بأجمعهم قتلةَ رجلٍ واحدٍ ، كما قال اللَّعين أبو جهل ، { أو يخرجوك } من مكَّة إلى طرفٍ من أطراف الأرض { ويمكرون ويمكر الله } أَيْ : يجازيهم جزاء مكرهم بنصر المؤمنين عليهم { والله خير الماكرين } أفضل المجازين بالسَّيئِة العقوبة ، وذلك أنَّه أهلك هؤلاء الذين دبَّروا لنبيِّه الكيد ، وخلَّصه منهم .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا . . . } الآية . كان النَّضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجراً ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة ، فكان يقعد به مع المستهزئين ، فيقرأ عليهم ، فلمَّا قصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية قال النَّضرُ بن الحارث : لو شئتُ لقلتُ مثل هذا ، إنْ هذا إلاَّ ما سطَّر الأوَّلون في كتبهم ، وقال النَّضر أيضاً :
{ اللهم إن كان هذا } الذي يقوله محمَّدٌ حقَّاً { من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } كما أمطرتها على قوم لوط { أو ائتنا بعذابٍ أليم } أَيْ : ببعض ما عذَّبت به الأمم . حمله شدَّة عداوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم على إظهار مثل هذا القول ، ليوهم أنَّه على بصيرةٍ من أمره ، وغاية الثِّقة في أمر محمَّد ، أنَّه ليس على حقٍّ .

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)

{ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } وما كان الله ليعذِّب المشركين وأنت مقيمٌ بين أظهرهم؛ لأنَّه لم يعذِّب الله قريةً حتى يخرج النبيُّ منها والذين آمنوا معه { وما كان الله } معذِّبَ هؤلاء الكفَّار وفيهم المؤمنون { يستغفرون } يعني : المسلمين ، ثمَّ قال :
{ وما لهم ألا يعذِّبهم الله } أَيْ : ولمَ لا يعذِّبهم الله بالسَّيف بعد خروج مَنْ عنى بقوله : { وهم يستغفرون } من بينِهم { وهم يصدون } يمنعون النبيِّ والمؤمنين { عن المسجد الحرام } أن يطوفوا به { وما كانوا أولياءه } وذلك أنَّهم قالوا : نحن أولياء المسجد ، فردَّ الله عليهم بقوله : { إن أولياؤه إلاَّ المتقون } يعني : المهاجرين والأنصار { ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون } غيبَ علمي وما سبق في قضائي .
{ وما كان صلاتهم عند البيت إلاَّ مكاءً وتصديةً } أَيْ : صفيراً وتصفيقاً ، وكانت قريش يطوفون بالبيت عُراةً يُصفِّرون ويُصفِّقون ، جعلوا ذلك صلاةً لهم ، فكان تَقرُّبُهم إلى الله بالصَّفير والصَّفيق { فذوقوا العذاب } ببدرٍ { بما كنتم تكفرون } تجحدون توحيد الله تعالى .
{ إنَّ الذين كفروا } نزلت في المُنفقين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيَّام بدرٍ ، وكانوا اثني عشر رجلاً . قال تعالى : { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة } بذهاب الأموال ، وفوات المراد .
{ ليميز الله الخبيث من الطيب } أَيْ : إنما تحشرون إلى جهنَّم ليميِّز بين أهل الشَّقاوة ، وأهل السَّعادة { ويجعل الخبيث } أَي : الكافر ، وهو اسم الجنس { بعضه على بعض } يلحق بعضهم ببعض { فيركمه جميعاً } أَيْ : يجمعه حتى يصير كالسَّحاب المركوم ثمَّ { فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون } لأنَّهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة .
{ قل للذين كفروا } أبي سفيان وأصحابه : { إن ينتهوا } عن الشِّرك وقتال المؤمنين { يغفر لهم ما قد سلف } تقدَّم من الزِّنا والشِّرك؛ لأنَّ الحربيَّ إذا أسلم عاد كَمِثْلِهِ يوم ولدته أمه { وإن يعودوا } للقتال { فقد مضت سنَّة الأولين } بنصر اللَّهِ رسلَه ومَنْ آمن على مَنْ كفر .
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } كفرٌ { ويكون الدين كله لله } لا يكون مع دينكم كفرٌ في جزيرة العرب { فإن انتهوا } عن الشِّرك { فإنَّ الله بما يعملون بصير } يُجازيهم مُجازاة البصير بهم وبأعمالهم .

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)

{ وإن تولوا } أَبَوا أن يدعوا الشِّرك وقتال محمد { فاعلموا أنَّ الله مولاكم } ناصركم يا معشر المؤمنين .
{ واعلموا أنما غنمتم من شيء } أخذتموه قسراً من الكفَّار { فَأَنَّ لله خمسه } هذا تزيينٌ لافتتاح الكلام ، ومصرف الخمس إلى حيث ذَكر ، وهو قوله : { وللرسول } كان له خمس الخمس يصنع فيه ما شاء ، واليوم يُصرف إلى مصالح المسلمين { ولذي القربى } وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين حُرِّمت عليهم الصَّدقات المفروضة ، لهم خمس الخمس من الغنيمة { واليتامى } وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم ، يُنفق عليهم من خُمس الخمس { والمساكين } وهم أهل الحاجة والفاقة من المسلمين ، لهم أيضاً خمس الخمس { وابن السبيل } المنقطع به في سفره ، فخمس الغنيمة يقسم على خمسة أخماس كما ذكره الله تعالى ، وأربعة أخماسها تكون للغانمين ، وقوله : { إن كنتم آمنتم بالله } أَيْ : فافعلوا ما أُمرتم به في الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله { وما أنزلنا على عبدنا } يعني : هذه السُّورة { يوم الفرقان } اليوم الذي فرَّقت به بين الحقِّ والباطل { يوم التقى الجمعان } حزب الله ، وحزب الشَّيطان { والله على كلِّ شيء قدير } إذ نصركم الله وأنتم أقلَّةٌ أذلَّةٌ .

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

{ إذ أنتم بالعدوة الدنيا } نزولٌ بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة ، وعدوكم نزولٌ بشفير الوادي الأقصى إلى مكَّة { والركب } أبو سفيان وأصحابه ، وهم أصحاب الإِبل . يعني : العير { أسفل منكم } إلى ساحل البحر { ولو تواعدتم } للقتال { لاختلفتم في الميعاد } لتأخَّرتم فنقضتم الميعاد لكثرتهم وقلَّتكم { ولكن } جمعكم الله من غير ميعاد { ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } في علمه وحكمه من نصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بيِّنة } أَيْ : فعل ذلك ليضلَّ ويكفر مَنْ كفر من بعد حجَّةٍ قامت عليه ، وقطعت عذره ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، وأراد بالبيِّنة نصرة المؤمنين مع قلَّتهم على ذلك الجمع الكثير مع كثرتهم وشوكتهم { وإنَّ الله لسميع } لدعائكم { عليمٌ } بنيَّاتكم .
{ إذ يريكهم الله في منامك } عينك ، وهو موضع النَّوم { قليلاً } لتحتقروهم وتجترؤوا عليهم { ولو أراكهم كثيراً لفشلتهم } لجّبُنْتُم ولَتأخَّرتم عن حربهم { ولتنازعتم في الأمر } واختلفت كلمتكم { ولكنَّ الله سلَّم } عصمكم وسلَّمكم من المخالفة فيما بينكم { إنه عليم بذات الصدور } علم ما في صدوركم من اليقين ثمَّ خاطب المؤمنين جميعأً بهذا المعنى فقال :
{ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً } قال ابن مسعودٍ : لقد قُلَّلوا في أعيننا يوم بدرٍ حتى قلت لرجلٍ إلى جنبي : تراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، وأسرنا رجلاً فقلنا : كم كنتم؟ قال : ألفاً . { ويقللكم في أعينهم } ليجترئوا عليكم ولا يراجعوا عن قتالكم { ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } في علمه بنصر الإسلام وأهله ، وذلِّ الشِّرك وأهله { وإلى الله ترجع الأمور } وبعد هذا إليَّ مصيركم ، فأكرم أوليائي ، وأعاقب أَعدائي .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)

{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة } جماعةً كافرةً { فاثبتوا } لقتالهم ولا تنهزموا { واذكروا الله كثيراً } ادعوه بالنَّصر عليهم { لعلكم تفلحون } كي تسعدوا وتبقوا في الجنة ، فإنَّهما خصلتان؛ إمَّا الغنيمة؛ وإمَّا الشَّهادة .
{ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا } ولا تختلفوا { فتفشلوا } تجبنوا { وتذهب ريحكم } جَلَدكم وجرأتكم ودولتكم .
{ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } يعني : النَّفير { بطراً } طُغياناً في النِّعمة ، للجميل مع إبطان القبيح { ويصدون عن سبيل الله } لمعاداة المؤمنين وقتالهم { والله بما يعملون محيط } عالم فيجازيهم به .
{ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم . . . } الآية . وذلك أنَّ قريشاً لمَّا أجمعت المسير خافت كنانة وبني مدلج لطوائلَ كانت بينهم ، فتبدَّى لهم إبليس [ في جنده ] على صورة سُراقة بن مالك بن جعشم الكنانيِّ ثمَّ المدلجيِّ ، فقالوا له : نحنُ نريد قتال هذا الرَّجل ، ونخاف من قومك ، فقال لهم : أنا جارٌ لكم ، أَيْ : حافظٌ من قومي ، فلا غالب لكم اليوم من النَّاس { فلما تراءت الفئتان } التقى الجمعان { نكص على عقبيه } رجع مولياً ، فقيل له : يا سراقة ، أفراراً من غير قتال؟! فقال : { إني أرى ما لا ترون } وذلك أنَّه رأى جبريل مع الملائكة جاؤوا لنصر المؤمنين { إني أخاف الله } أن يهلكني فيمن يهلك { والله شديد العقاب } .

إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)

{ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } وهم قومٌ أسلموا بمكة ولم يهاجروا ، فلمَّا خرجت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا معهم ، وقالوا : نكون مع أكثر الفئتين ، فلمَّا رأوا قلَّة المسلمين قالوا : { غرَّ هؤلاء دينهم } إذ خرجوا مع قلَّتهم يقاتلون الجمع الكثير ، ثمَّ قُتلوا جميعاً مع المشركين . قال الله تعالى : { ومَنْ يتوكل على الله } يُسلم أمره إلى الله { فإنَّ الله عزيز } قويٌّ منيع { حكيم } في خلقه .
{ ولو ترى } يا محمَّد { إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } يأخذون أرواحهم . يعني : مَنْ قُتلوا ببدرٍ { يضربون وجوههم وأدبارهم } مقاديمهم إذا أقبلوا إلى المسلمين ، ومآخيرهم إذا ولًّوا { وذوقوا } أَيْ : ويقولون لهم بعد الموت : ذوقوا بعد الموت { عذاب الحريق } .
{ ذلك } أَيْ : هذا العذاب { بما قدَّمت أيديكم } بما كسبتم وجنيتم { وأنَّ الله ليس بظلام للعبيد } لأنَّه حكم فيما يقضي .
{ كدأب آل فرعون . . . } الآية . يريد : عادة هؤلاء في التَّكذيب كعادة آل فرعون ، فأنزل الله تعالى بهم عقوبته ، كما أنزل بآل فرعون { إنَّ الله قويٌّ } قادرٌ لا يغلبه شيء { شديد العقاب } لمَنْ كفر به وكذَّب رسله .
{ ذلك بأنَّ الله . . . } الآية . إنَّ الله تعالى أطعم أهل مكَّة من جوعٍ ، وآمنهم من خوف ، وبعث إليهم محمداً رسولاً ، وكان هذا كلُّه ممَّا أنعم عليهم ، ولم يكن يُغيِّر عليهم لو لم يُغيِّروا هم ، وتغييرهم كفرهم بها وتركهم شكرها ، فلمَّا غيَّروا ذلك غيَّر الله ما بهم ، فسلبهم النِّعمة وأخذهم ، ثمَّ نزل في يهود قريظة .

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)

{ إن شرَّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون } .
{ الذين عاهدت منهم . . . } الآية . وذلك أنَّهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعانوا عليه مشركي مكَّة بالسِّلاح ، ثمَّ اعتذروا وقالوا : أخطأنا ، فعاهدهم ثانيةً فنقضوا العهد يوم الخندق ، وذلك قوله : { ثمَّ ينقضون عهدهم في كلِّ مرَّة وهم لا يتقون } عقاب الله في ذلك .
{ فإمَّا تثقفنَّهم في الحرب } فإن أدركتهم في القتال وأسرتهم { فشرد بهم مَنْ خلفهم } فافعل بهم فعلاً من التَّنكيل والعقوبة يفرق به جمعُ كلِّ ناقضِ عهدٍ ، فيعتبروا بما فعلت بهؤلاء ، فلا ينقضوا العهد ، فذلك قوله تعالى : { لعلهم يذكرون } .
{ وإمَّا تخافنَّ من قوم } تعلمنَّ من قومٍ { خيانة } نقضاً للعهد بدليلٍ يظهر لك { فانبذ إليهم على سواء } أَي : انبذ عهدهم الذي عاهدتهم عليه؛ لتكون أنت وهم سواءً في العداوة ، فلا يتوهموا أنَّك نقضت العهد بنصب الحرب ، أَيْ : أعلمهم أنَّك نقضت عهدهم لئلا يتوهَّموا بك الغدر { إنَّ الله لا يحبُّ الخائنين } الذين يخونون في العهود وغيرها .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)

{ ولا تحسبنَّ الذين كفروا سبقوا } وذلك أنَّ مَنْ أفلت من حرب بدرٍ من الكفَّار خافوا أن ينزل بهم هلكة في الوقت ، فلمَّا لم ينزل طغوا وبغوا ، فقال الله : لا تحسبنَّهم سبقونا بسلامتهم الآن ف { إنهم لا يعجزون } نا ولا يفوتوننا فيما يستقبلون من الأوقات .
{ وأعدوا لهم } أَيْ : خذوا العُدَّة لعدوِّكم { ما استطعتم من قوة } ممَّا تتقوون به على حربهم ، من السِّلاح والقسي وغيرهما { ومن رباط الخيل } ممَّا يرتبط من الفرس في سبيل الله { ترهبون به } تخوِّفون به بما استطعتم { عدو الله وعدوكم } مشركي مكَّة وكفَّار العرب { وآخرين من دونهم } وهم المنافقون { لا تعلمونهم الله يعلمهم } لأنَّهم معكم يقولون : لا إله إلاَّ الله ، ويغزون معكم ، والمنافق يريبه عدد المسلمين { وما تنفقوا من شيء } من آلةٍ ، وسلاحٍ ، وصفراء ، وبيضاء { في سبيل الله } طاعة الله { يوف إليكم } يخلف لكم في العاجل ، ويوفَّر لكم أجره في الآخرة { وأنتم لا تظلمون } لا تنقصون من الثَّواب .
{ وإن جنحوا للسلم } مالوا إلى الصُّلح { فاجنح لها } فملْ إليها . يعني : المشركين واليهود ، ثمَّ نسخ هذا بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } { وتوكَّل على الله } ثق به { إنَّه هو السميع } لقولكم { العليم } بما في قلوبكم .
{ وإن يريدوا أن يخدعوك } بالصُّلح لتكفَّ عنهم { فإنَّ حسبك الله } أَيْ : فالذي يتولَّى كفايتك الله { هو الذي أيدك } قوَّاك { بنصره } يوم بدرٍ { وبالمؤمنين } يعني : الأنصار .
{ وألف بين قلوبهم } بين قلوب الأوس والخزرج ، وهم الأنصار { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم } للعداوة التي كانت بينهم ، { ولكنَّ الله ألف بينهم } لأنَّ قلوبهم بيده يُؤلِّفها كيف يشاء { إنَّه عزيز } لا يمتنع عليه شيء { حكيم } عليمٌ بما يفعله .
{ يا أيها النبيُّ حسبك الله . . . } الآية . أسلم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً ، وستُّ نسوةٍ ، ثمَّ أسلم عمر رضي الله عنه ، فنزلت هذه الآية ، والمعنى : يكفيك الله ، ويكفي من اتَّبعك من المؤمنين .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)

{ يا أيها النبيُّ حرِّض المؤمنين على القتال } حُضَّهم على نصر دين الله { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } يريد : الرَّجل منكم بعشرة منهم في الحرب ، { وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنَّهم قومٌ لا يفقهون } أَيْ : هم على جهالةٍ ، فلا يثبتون إذا صدقتموهم القتال خلاف مَنْ يقاتل على بصيرةٍ يرجو ثواب الله ، وكان الحكم على هذا زماناً ، يُصابر الواحد من المسلمين العشرة من الكفَّار ، فتضرَّعوا وشكوا إلى الله عزَّ وجلَّ ضعفهم ، فنزل :
{ الآن خفف الله عنكم } هوَّن عليكم { وعلم أنَّ فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين } . فصار الرَّجل من المسلمين برجلين من الكفَّار ، وقوله : { بإذن الله } أَيْ : بإرادته ذلك .
{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى . . . } الآية . نزلت في فداء أسارى بدر ، فادوهم بأربعة ألاف ألف ، فأنكر الله عزَّ وجلَّ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : لم يكن لنبيِّ أن يحبس كافراً قَدَر عليه للفداء ، فلا يكون له أيضاً حتى يُثخن في الأرض : يُبالغ في قتل أعدائه { تريدون عرض الدنيا } أي : الفِداء { والله يريد الآخرة } يريد لكم الجنة بقتلهم ، وهذه الآية بيان عمَّا يجب أن يجتنب من اتِّخاذ الأسرى للمنِّ أو الفِداء قبل الإِثخان في الأرض بقتل الأعداء ، وكان هذا في يوم بدر ، ولم يكونوا قد أثخنوا ، فلذلك أنكر الله عليهم ، ثمَّ نزل بعده : { فإمَّا منَّاً بعدُ وإمَّا فداءً . }

لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

{ لولا كتاب من الله سبق } يا محمَّد أنَّ الغنائم وفداء الأسرى لك ولأمَّتك حلال { لَمَسَّكُمْ فيما أخذتم } من الفِداء { عذاب عظيم } فلمَّا نزل هذا أمسكوا أيديهم عمَّا أخذوا من الغنائم ، فنزل :
{ فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله } بطاعته { إنَّ الله غفور } غفر لكم ما أخذتم من الفِداء { رحيم } رحمكم لأنَّكم أولياؤه .
{ يأ أيها النبيُّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً } إرادةً للإِسلام { يؤتكم خيراً مما أخذ منكم } من الفِداء . يعني : إِنْ أسلمتم وعلم الله إسلام قلوبكم أخلف عليكم خيراً ممَّا أُخذ منكم { ويغفر لكم } ما كان من كفركم وقتالكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ وإن يريدوا خيانتك } وذلك أنَّهم قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : آمنَّا بك ، ونشهد أنَّك رسول الله ، فقال الله تعالى : إن خانوك وكان قولهم هذا خيانة { فقد خانوا الله من قبل } كفروا به { فأمكن منهم } المؤمنين ببدرٍ ، وهذا تهديدٌ لهم إن عادوا إلى القتال { والله عليم } بخيانةٍ إن خانوها { حكيم } في تدبيره ومجازاته إيَّاهم .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

{ إنَّ الذين آمنوا وهاجروا . . . } الآية . نزلت في الميراث كانوا في ابتداء الإسلام يتوارثون بالهجرة والنُّصرة ، فكان الرَّجل يُسلم ولا يهاجر ، فلا يرث أخاه فذلك قوله : { الذين آمنوا وهاجروا } هجروا قومهم وديارهم وأموالهم { والذين آووا ونصروا } يعني : الأنصار ، أسكنوا المهاجري ديارهم ونصروهم { أولئك بعضهم أولياء بعض } أيْ : هؤلاء هم الذين يتوارثون بعضهم من بعض .
{ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } أَيْ : ليسوا بأولياء ، ولا يثبت التَّوارث بينكم وبينهم { حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين } يعني : هؤلاء الذين لم يهاجروا فلا تخذولهم وانصروهم { إلاَّ } أن يستنصروكم { على قوم بينكم وبينهم ميثاق } عهدٌ فلا تغدروا ولا تعاونوهم .
{ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } أَيْ : لا توارث بينكم وبينهم ، ولا ولاية ، والكافر وليُّ الكافر دون المسلم { إلاَّ تفعلوه } إلاَّ تعاونوا وتناصروا وتأخذوا في الميراث بما أمرتكم به { تكن فتنة في الأرض } شركٌ { وفساد كبير } وذلك أنَّ المسلم إذا هجر قريبه الكافر كان ذلك أدعى إلى الإسلام ، فإن لم يهجره وتوارثه بقي الكافر على كفره ، وقوله :
{ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً } أَيْ : هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنُّصرة خلاف من أقام بدار الشِّرك .
{ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } يعني : الذين هاجروا بعد الحديبية ، وهي الهجرة الثانية { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } نَسخ الله الميراثَ بالهجر والحِلْفِ بعد فتح مكَّة . ردَّ الله المواريث إلى ذوي الأرحام : ابن الأخ والعمِّ وغيرهما { في كتاب الله } في حكم الله { إن الله بكل شيء عليم } .

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

{ براءة من الله ورسوله . . . } الآية . أخذت المشركون ينقضون عهوداً بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره الله تعالى أن ينقض عهودهم وينبذها إليهم ، وأنزل هذه الآية ، والمعنى : قد برىء الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا ، ثمَّ خاطب المشركين فقال :
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } سيروا فيها آمنين حيث شئتم . يعني : شوالاً إلى صفر ، وهذا تأجيلٌ من الله سبحانه للمشركين ، فإذا انقضت هذه المدَّة قُتلوا حيثما أُدركوا { واعلموا أنكم غير معجزي الله } لا تفوتونه وإنْ أُجِّلتم هذه المدَّة { وأنَّ الله مُخْزي الكافرين } مذلُّهم في الدُّنيا بالقتل ، والعذاب في الآخرة .
{ وأذان من الله } إعلامٌ منه { ورسوله إلى الناس } يعني : العرب { يوم الحج الأكبر } يوم عرفة . وقيل : يوم النَّحر ، والحجُّ الأكبر [ الحجُّ ] بجميع أعماله ، والأصغر العمرة { أنَّ الله بريء من المشركين ورسولُهُ } أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُعلم مشركي العرب في يوم الحجِّ الأكبر ببراءته من عهودهم ، فبعث عليَّاً رضي الله عنه حيث قرأ صدر براءة عليهم يوم النَّحر ، ثمَّ خاطب المشركين ، فقال : { فإن تبتم } رجعتم عن الشِّرك { فهو خيرٌ لكم } من الإِقامة عليه { وإن توليتم } عن الإِيمان { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } لا تفوتونه بأنفسكم عن العذاب ، ثمَّ أوعدهم بعذاب الآخرة فقال : { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } ثمَّ استثنى قوماً من براءة العهود ، فقال :
{ إلاَّ الذين عاهدتم من المشركين ثمَّ لم ينقصوكم } من شروط العهد { شيئاً } وهم بنو ضمرة وبنو كنانة { ولم يظاهروا عليكم أحداً } لم يعاونوا عليكم عدوَّاً { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدَّتهم } إلى انقضاء مدَّتهم ، وكان قد بقي لهم من مدَّتهم تسعة أشهر ، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإتمامها لهم { إنَّ الله يحب المتقين } مَنِ اتَّقاه بطاعته .

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم } يعني : مدَّة التَّأجيل { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } في حلٍّ أو حرمٍ { وخذوهم } بالأسر { واحصروهم } إنْ تحصَّنوا { واقعدوا لهم كلَّ مرصد } على كلِّ طريقٍ تأخذون فيه { فإنْ تابوا } رجعوا عن الشِّرك { وأقاموا الصلاة } المفروضة { وآتوا الزكاة } من العين والثِّمار والمواشي { فخلوا سبيلهم } فدعوهم وما شاؤوا { إنَّ الله غفور رحيم } لمَنْ تاب وآمن .
{ وإن أحد من المشركين } الذين أمرتك بقتلهم { استجارك } طلب منك الأمان من القتل { فأجره } فاجعله في أمنٍ { حتى يسمع كلام الله } القرآن ، فتقيم عليه حجَّةَ الله ، وتبيِّن له دين الله { ثمَّ أبلغه مأمنه } إذا لم يرجع عن الشِّرك لينظر في أمره { ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون } [ يفعلونَ ] كلَّ هذا لأنَّهم قومٌ جهلةٌ لا يعلمون دين الله وتوحيده .
{ كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله } مع إضمارهم الغدر ونكثهم العهد { إلاَّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } يعني : الذين استثناهم من البراءة { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فأقيموا أنتم .
{ كيف } أَيْ : كيف يكون لهم عهدهم { و } حالُهم أنَّهم { إنْ يظهروا عليكم } يظفروا بكم ويقدروا عليكم { لا يرقبوا فيكم } لا يحفظوا فيكم { إلاًّ ولا ذمَّةً } قرابةً ولا عهداً { يرضونكم بأفواههم } يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً { وتأبى قلوبهم } الوفاء به { وأكثرهم فاسقون } غادرون ناقضون للعهد .
{ اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً } استبدلوا بالقرآن متاع الدُّنيا { فصدوا عن سبيله } فأعرضوا عن طاعته { إنهم ساء } بئس { ما كانوا يعملون } من اشترائهم الكفر بالإِيمان .
{ لا يرقبون } يعني : هؤلاء النَّاقضين للعهد { وأولئك هم المعتدون } المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد .
{ فإن تابوا } عن الشِّرك { وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم } أَيْ : فهم إخوانكم { في الدين ونفصِّل الآيات } نبيِّن آيات القرآن { لقوم يعلمون } أنَّها من عند الله .
{ وإن نكثوا أيمانهم } نقضوا عهودهم { وطعنوا في دينكم } اغتابوكم وعابوا دينكم { فقاتلوا أئمة الكفر } رؤساء الضَّلالة . يعني : صناديد قريش { إنهم لا أيمان لهم } لا عهود لهم { لعلهم ينتهون } كي ينتهوا عن الشِّرك بالله ، ثمَّ حرَّض المؤمنين عليهم .

أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)

{ ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم } يعني : كفَّار مكَّة نقضوا العهد ، أعانوا بني بكر على خزاعة { وهموا بإخراج الرسول } من مكَّة { وهم بدؤوكم } بالقتال { أول مرة } حين قاتلوا حلفاءكم خزاعة ، فبدؤوا بنقض العهد { أتخشونهم } أن ينالكم من قتالهم مكروه فتتركون قتالهم { فالله أحق أن تخشوه } فمكروهُ عذابِ الله أحقُّ أن يُخشى في ترك قتالهم { إن كنتم مؤمنين } مصدِّقين بعقاب الله وثوابه .
{ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } يقتلهم بسيوفكم ورماحكم { ويخزهم } يُذلُّهم بالقهر والأسر { ويشف صدور قوم مؤمنين } يعني : بني خزاعة . أعانت قريشٌ بني بكر عليهم حتى نكثوا فيها ، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ والمؤمنين .
{ ويذهب غيظ قلوبهم } كَرْبَها ووَجْدَها بمعونة قريش بكراً عليهم { ويتوب الله على من يشاء } من المشركين ، كأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو . هداهم الله للإسلام .
{ أم حسبتم } أيُّها المنافقون { أن تتركوا } على ما أنتم عليه من التَّلبيس ، وكتمان النفاق { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } بنيَّةٍ صادقةٍ . يعني : العلم الذين يتعلَّق بهم بعد الجهاد ، وذلك أنَّه لما فُرض القتال تبيَّن المنافق من غيره ، ومَنْ يوالي المؤمنين ممَّن يوالي أعداءهم { ولم يتخذوا } أَيْ : ولمَّا يعلم الله الذين لم يتَّخذوا { من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } أولياء ودُخُلاً .

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)

{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } نزلت في العباس بن عبد المطلب حين عُيِّر لمَّا أُسر ، فقال : إنَّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحاجَّ ، فردَّ الله ذلك عليه بقوله : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } بدخوله والتعوُّذ فيه؛ لأنَّهم ممنوعون عن ذلك { شاهدين على أنفسهم بالكفر } بسجودهم للأصنام واتِّخاذها آلهة . { أولئك حبطت أعمالهم } لأنَّ كفرهم أذهب ثوابها .
{ إنما يعمر مساجد الله } بزيارتها والقعود فيها { مَنْ آمن بالله وباليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة } والمعنى : إنَّ مَنْ كان بهذه الصِّفة فهو من أهل عمارة المسجد { ولم يخش } في باب الدِّين { إلاَّ الله فعسى أولئك } أَيْ : فأولئك هم المهتدون والمتمسكون بطاعة الله التي تؤدِّي إلى الجنَّة .
{ أجعلتم سقاية الحاج } قال المشركون : عمارة بيت الله ، وقيامٌ على السِّقاية خيرٌ من الإِيمان والجهاد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وسقاية الحاج : سقيهم الشَّراب في الموسم ، وقوله : { وعمارة المسجد الحرام } يريد : تجميره وتخليقه { كمَنْ آمن } أَيْ : كإيمان من آمن { بالله } ؟ { لا يستوون عند الله } في الفضل { والله لا يهدي القوم الظالمين } يعني : الذين زعموا أنَّهم أهل العمارة سمَّاهم ظالمين بشركهم .

الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)

{ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله } أَيْ : من الذين افتخروا بعمارة البيت وسقي الحاجِّ { وأولئك هم الفائزون } الذين ظفروا بأمنيتهم .
{ يبشرهم ربهم برحمة منه . . . } الآية . أَيْ : يعلمهم في الدُّنيا ما لهم في الآخرة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم . . . } الآية . لمَّا أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة كان من النَّاس مَنْ يتعلَّق به زوجته وولده وأقاربه ، ويقولون : ننشدك بالله أن تضيِّعنا ، فيرقُّ لهم ويدع الهجرة ، فأنزل الله تعالى : { لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء } أصدقاء تُؤثرون المقام بين أظهرهم على الهجرة { إن استحبوا } اختاروا { الكفر على الإِيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } أَيْ : مشركون مثلهم ، فلمَّا نزلت هذه الآية قالوا : يا نبيَّ الله ، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدِّين نقطع آباءنا وعشائرنا ، وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا ، فأنزل الله تعالى :
{ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها } أَيْ : اكتسبتموها { فتربصوا } مقيمين بمكَّة { حتى يأتي الله بأمره } فتح مكَّة ، فيسقط فرض الهجرة ، وهذا أمر تهديد { والله لا يهدي القوم الفاسقين } تهديدٌ لهؤلاء بحرمان الهداية .
{ ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين } وهو وادٍ بين مكَّة والطَّائف ، قاتل عليه نبيُّ الله عليه السَّلام هوازن وثقيفاً { إذ أعجبتكم كثرتكم } وذلك أنَّهم قالوا : لن نُغلب اليوم من قلَّةٍ ، وكانوا اثني عشر ألفاً { فلم تغن } لم تدفع عنكم شيئاً { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } لشدَّة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض على سعتها ، فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لقراركم { ثم وليتم مدبرين } انهزمتم . أعلمهم الله تعالى أنَّهم ليسوا يغلبون بكثرتهم ، إنَّما يَغلبون بنصر الله .
{ ثم أنزل الله سكينته } وهو ما يسكن إليه القلب من لطف الله ورحمته { على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها } يريد : الملائكة { وعذب الذين كفروا } بأسيافكم ورماحكم { وذلك جزاء الكافرين } .
{ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } فيهديهم إلى الإِسلام ، من الكفَّار { والله غفور رحيم } بمَنْ آمن .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } لا يغتسلون من جنابةٍ ، ولا يتوضؤون من حدثٍ { فلا يقربوا المسجد الحرام } أَيْ : لا يدخلوا الحرم . مُنعوا من دخول الحرم ، فالحرمُ حرامٌ على المشركين { بعد عامهم هذا } يعني : عام الفتح ، فلمَّا مُنعوا من دخول الحرم قال المسلمون : إنَّهم كانوا يأتون بالميرة ، فالآن تنقطع عنا المتاجر ، فأنزل الله تعالى : { وإن خفتم عيلة } فقراً { فسوف يغنيكم الله من فضله } فأسلم أهل جدَّة وصنعاء وجرش ، وحملوا الطَّعام إلى مكَّة ، وكفاهم الله ما كانوا يتخوَّفون { إنَّ الله عليم } بما يصلحكم { حكيم } فيما حكم في المشركين ، ثمَّ نزل في جهاد أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى قوله :
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } يعني : كإيمان الموحِّدين وإيمانُهم غيرُ إيمانٍ إذا لم يؤمنوا بمحمد { ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله } يعني : الخمر والميسر { ولا يدينون دين الحق } لا يتدينون بدين الإِسلام { حتى يعطوا الجزية } وهي ما يعطي المعاهِد على عهده { عن يد } يعطونها بأيديهم يمشون بها كارهين ، ولا يجيئون بها ركباناً ، ولا يرسلون بها { وهم صاغرون } ذليلون مقهورون يُجَرُّون إلى الموضع الذي تقبض منهم فيه بالعنف ، حتى يؤدُّوها من يدهم .
{ وقالت اليهود عزير ابنُ الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم } ليس فيه برهانٌ ولا بيانٌ ، إنَّما هو قولٌ بالفم فقط { يُضاهئون } يتشبَّهون بقول المشركين حين قالوا : الملائكة بنات الله ، وقد أخبر الله عنهم . بقوله : { وخرقوا له بنين وبناتٍ } { قاتلهم الله } لعنهم الله { أنى يؤفكون } كيف يُصرفون عن الحقِّ بعد وضوح الدَّليل حتى يجعلوا لله الولد ، وهذا تعجيب للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم } علماؤهم وعُبَّادهم { أرباباً } آلهةً { من دون الله } حيث أطاعوهم في تحليل ما حرَّم الله ، وتحريم ما أحلَّ الله { والمسيح ابن مريم } اتخذوه ربَّاً { وما أمروا } في التَّوراة والإِنجيل { إلاَّ ليعبدوا إلهاً واحداً } وهو الذي لا إله غيره { سبحانه عمَّا يشركون } تنزيهاً له عن شركهم .
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } يخمدوا دين الإِسلام بتكذيبهم { ويأبى الله إلاَّ أن يتم نوره } إلاَّ أَنْ يُظهر دينه .
{ هو الذي أرسل رسوله } محمداً { بالهدى } بالقرآن { ودين الحق } الحنيفيَّة { ليظهره على الدين كله } ليعليَه على جميع الأديان .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

{ يا أيها الذين آمنوا إنَّ كثيراً من الأحبار الرهبان } من فقهاء أهل الكتاب وعلمائهم { ليأكلون أموال الناس بالباطل } يعني : ما يأخذونه من الرُّشا في الحكم { ويصدون عن سبيل الله } ويصرفون النَّاس عن الإِيمان بمحمَّد عليه السَّلام ، ثمَّ أنزل في مانعي الزَّكاة من أهل القبلة : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } لا يُؤَدُّون زكاتها { فبشرهم بعذاب أليم } أخبرهم أنَّ لهم عذاباً أليماً .
{ يوم يحمى عليها } يوم تدخل كنوزهم النَّار حتى تحمى وتشتدَّ حرارتها { فتكوى بها } أَيْ : فلتصق بجباههم وجنوبهم وظهورهم حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم ، ويقال لهم : هذا الذي تكوون به ما جمعتم لأنفسكم ، وبخلتم به عن حقِّ الله { فذوقوا } العذاب ب { ما كنتم تكنزون } .
{ إنَّ عدَّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } عدد شهور المسلمين التي تُعبِّدوا بأن يجعلوها لسنتهم اثنا عشر شهراً ، على منازل القمر واستهلال الأهلَّة ، لا كما يعدُّه أهل الرُّوم وفارس { في كتاب الله } في الإِمام الذي عند الله كتبه يوم خلق السَّموات والأرض { منها أربعة حرم } رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرَّم ، يعظهم انتهاك المحارم فيها بأشدَّ ممَّا يعظم في غيرها { ذلك الدين القيم } الحساب المستقيم { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } تحفَّظوا من أنفسكم في الحرم ، فإنَّ الحسنات فيهن تضعف ، وكذلك السيئات { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } قاتلوهم كلَّهم ، ولا تُحَابوا بعضهم بترك القتال ، كما إنَّهم يستحلُّون قتال جميعكم { واعلموا أنَّ الله مع المتقين } مع أوليائه الذين يخافونه .
{ إنما النسيء } تأخير حرمةِ شهرٍ حرَّمه الله إلى شهرٍ آخر لم يحرِّمه ، وذلك أنَّ العرب في الجاهليَّة ربما كانت تستحلُّ المحرم ، وتحرِّم بدله صفر ، فأخبر الله تعالى أنَّ ذلك كلَّه { زيادة في الكفر } حيث أحلُّوا ما حرَّم الله ، وحرَّموا ما أحلَّ الله { يضل به } بذلك التَّأخير { الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } إذا قاتلوا فيه أحلُّوه وحرَّموا مكانه صفر ، وإذا لم يقاتلوا فيه حرَّموه { ليواطئوا } ليوافقوا { عدَّة ما حرم الله } وهو أنَّهم لم يُحلُّوا شهراً من الحرم إلاَّ حرَّموا مكانه شهراً من الحلال ، ولم يحرِّموا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرم ، لئلا يكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرَّم الله ، فيكون موافقة للعدد . { زين لهم سوء أعمالهم } زيَّن لهم الشَّيطان ذلك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)

{ يا أيها الذين آمنوا ما لكم } نزلت في حثِّ المؤمنين على غزوة تبوك ، وذلك أنَّهم دُعوا إليها في زمان عسرةٍ من النَّاس ، وجدبٍ من البلاد ، وشدةٍ من الحرِّ ، فشقَّ عليهم الخروج ، فأنزل الله تعالى : { ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله } أخرجوا في الجهاد لحرب العدوِّ { اثاقلتم إلى الأرض } أَحْبَبْتُمْ المقام { أرضيتم بالحياة الدنيا } بدلاً { من الآخرة } يعني : الجنَّة { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة } يريد : الدُّنيا كلَّها { إلاَّ قليل } عند شيءٍ من الجنَّة .
{ إلاَّ تنفروا } تخرجوا مع نبيِّكم إلى الجهاد { يعذبكم عذاباً أليماً } بالقحط وحبس المطر { ويستبدل قوماً غيركم } يأت بقومٍ آخرين ينصرُ بهم رسوله { ولا تضرّوه شيئاً } لأنَّ الله عصمه عن النَّاس ، ولا يخذله أَنْ تثاقلتم ، كما لم يضرَّه قلَّة ناصريه حين كان بمكَّة وهم به الكفَّار ، فتولَّى الله نصره ، وهو قوله :
{ إلاَّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا } أَيْ : اضطروه إلى الخروج لمَّا همُّوا بقتله ، فكانوا سبباً لخروجه من مكَّة هارباً منهم ، { ثاني اثنين } أَيْ : واحد اثنين هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه ، والمعنى : نصره الله منفرداً إلاَّ من أبي بكر : { إذْ هما في الغار } هو غارٌ في جبل مكة يقال له : ثور { إذْ يقول لصاحبه } أبي بكر : { لا تحزن } وذلك أنَّه خاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم الطَّلب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تحزن إنَّ الله معنا } يمنعهم منَّا ، وينصرنا { فأنزل الله سكينته } ألقى في قلب أبي بكر ما سكن به ، { وأيده } أَيْ : رسوله { بجنود لم تروها } قوَّاه وأعانه بالملائكة يوم بدر . أخبر أنَّه صرف عنه كيد أعدائه ، ثمَّ أظهره : نصره بالملائكة يوم بدر { وجعل كلمة الذين كفروا } وهي كلمة الشِّرك { السفلى وكلمة الله هي العليا } [ يعني : كلمة التَّوحيد ] لأنَّها علت وظهرت ، وكان هذا يوم بدر .
{ انفروا خفافاً وثقالاً } شباباً وشيوخاً { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم } من التَّثاقل إلى الأرض { إن كنتم تعلمون } ما لكم من الثَّواب والجزاء ، ثمَّ نزل في المنافقين الذين تخلَّفوا عن هذه الغزوة :
{ ولو كان عرضاً قريباً } أَيْ : لو كان ما دُعوا إليه غنيمةً قريبةً { وسفراً قاصداً } قريباً هيِّناً { لاتبعوك } طمعاً في الغنيمة { ولكن بعدت عليهم الشقة } المسافة { وسيحلفون بالله } عندك إذا رجعت إليهم { لو استطعنا لخرجنا معكم } لو قدرنا وكان لنا سعةٌ من المال { يهلكون أنفسهم } بالكذب والنِّفاق { والله يعلم إنهم لكاذبون } لأنَّهم كانوا يستطيعون الخروج .
{ عفا الله عنك لم أذنت لهم } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لطائفةٍ في التَّخلُّف عنه ، من غير مؤامرةٍ ، ولم يكن له أن يمضي شيئاً إلاَّ بوحي ، فعاتبه الله سبحانه ، وقال : لم أَذنت لهم في التَّخلُّف { حتى يتبيَّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } حتى تعرف مَنْ له العذر منهم ، ومَنْ لا عذر له ، فيكون إذنك لمَنْ له العذر .

لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)

{ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر } في القعود والتَّخلُّف عن الجهاد كراهة { أن يجاهدوا } في سبيل الله { بأموالهم وأنفسهم } الآية .
{ إنما يستأذنك } في التَّخلُّف { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم } شكُّوا في دينهم { فهم في ريبهم يترددون } في شكِّهم يتمادون .
{ ولو أرادوا الخروج لأعدُّوا له عدَّة } من الزَّاد والمركوب ، لأنَّهم كانوا مياسير { ولكن كره الله انبعاثهم } لم يرد خروجهم معك { فثبطهم } فخذلهم وكسَّلهم { وقيل اقعدوا } وحياً إلى قلوبهم . يعني : إنَّ الله ألهمهم أسباب الخذلان { مع القاعدين } الزَّمنى وأولي الضَّرر ، ثمَّ بّيَّنَ لِمَ كره خروجهم فقال :
{ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاَّ خبالاً } يقول : لو خرجوا لأفسدوا عليكم أمركم { ولأوضعوا خلالكم } لأسرعوا بالنَّميمة في إفساد ذاتِ بينكم { يبغونكم الفتنة } يُثبِّطونكم ويفرِّقون كلمتكم حتى تنازعوا فتفتتنوا { وفيكم سماعون لهم } مَنْ يسمع كلامهم ويطيعهم ، ولو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم { والله عليم بالظالمين } المنافقين .
{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل } طلبوا لك الشَّرَّ والعنتَ قبل تبوك ، وهو أنَّ جماعةً منهم أرادوا الفتك به ليلة العقبة { وقلَّبوا لك الأمور } اجتهدوا في الحيلة عليك ، والكيد بك { حتى جاء الحق } الآية . أَيْ : حتى أخزاهم الله بإظهار الحقِّ ، وإعزاز الدِّين على كُرهٍ منهم .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

{ ومنهم مَنْ يقول ائذن لي } نزلت في جدِّ بن قيس المنافق ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لك في جلاد بني الأصفر ، تتخذ منه سراري وُصفاءَ ، فقال : ائذن لي يا رسول الله في القعود عنك وأُعينك بمالي { ولا تفتني } ببنات [ بني ] الأصفر ، فإني مُسْتَهترٌ بالنِّساء ، إني أخشى إن رأيتهنَّ ألا أصبر عنهنَّ ، فقال الله تعالى : { ألا في الفتنة سقطوا } أَيْ : في الشِّرك وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمرك { وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين } لمحدقةٌ بمَنْ كفر جامعةٌ لهم .
{ إن تصبك حسنة } نصرٌ وغنيمةٌ { تسؤهم وإن تصبك مصيبة } من قتلٍ وهزيمةٍ { يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } قد أخذنا حذرنا ، وعملنا بالحزم [ حين تخلَّفنا ] { ويتولوا } وينصرفوا { وهم فرحون } معجبون بذلك ، وبما نالك من السُّوء .
{ قُلْ لن يصيبنا } خيرٌ ولا شرٌّ { إلاَّ } وهو مقدَّرٌ مكتوبٌ علينا . { هو مولانا } ناصرنا { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وإليه فليفوِّض المؤمنون أمورهم على الرِّضا بتدبيره .

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

{ قل هل تربصون بنا } هل تنتظرون أن يقع بنا { إلاَّ إحدى الحسنين } الغنيمة أو الشَّهادة { ونحن نتربص } ننتظر { بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } بقارعةٍ من السَّماء { أو بأيدينا } يأذن لنا في قتلكم فنقتلكم { فتربصوا إنا معكم متربصون } فانتظروا مواعيد الشَّيطان ، إنَّا منتظرون مواعيد الله من إظهار دينه وهلاك مَنْ خالفه ، ثمَّ ذكر في الآية الثَّانية والثَّالثة أنَّه لا يقبل منهم ما أنفقوا في الجهاد ، لأنَّ منهم مَنْ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اقعد وأُعينك بمالي ، فأخبر الله تعالى أنَّه لا يقبل ذلك؛ فعلوه طائعين أو مكرهين ، وبيَّن أنَّ المانع لقبول ذلك كفرهم بالله ورسوله ، وكسلهم في الصَّلاة؛ لأنَّهم لا يرجون لها ثواباً ، وكراهتهم الإِنفاق في سبيل الله؛ لأنَّهم يعدُّونه مغرماً .

فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)

{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال الكثيرة والأولاد { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } يعني : بالمصائب فيها ، فهي لهم عذابٌ ، وللمؤمن أجر { وتزهق أنفسهم } وتخرج أرواحهم { وهم } على الكفر .
{ ويحلفون بالله إنهم لمنكم } أَيْ : إنَّهم مؤمنون ، وليسوا مؤمنين { ولكنهم قوم يفرقون } يخافون فيحلفون تقيَّةً لكم .
{ لو يجدون ملجأً } مهرباً { أو مغارات } سراديب { أو مدخلاً } وجهاً يدخلونه { لوَلَّوا إليه } لرجعوا إليه { وهم يجمحون } يُسرعون إسراعاً لا يردُّ وجوهَهم شيءٌ ، أَيْ : لو أمكنهم الفرار من بين المسلمين بأيِّ وجهٍ كان لَفَرُّوا ، ولم يُقيموا بينهم .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

{ ومنهم } ومن المنافقين { مَن يَلْمِزُكَ } يعيبك ويطعن عليك { في } أمر { الصدقات } يقول : إنَّما يعطيها محمَّد مَنْ أحبَّ ، فإنْ أكثرت لهم من ذلك فرحوا ، وإنْ أعطيتهم قليلاً سخطوا ، ثمَّ ذكر في الآية الثَّانية أنَّهم لو رضوا بذلك وتوكَّلوا على الله لكان خيراً لهم ، وهو قوله :
{ ولو أنَّهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } ثمَّ بيَّن لمن الصَّدقات ، فقال :
{ إنما الصدقات للفقراء } وهم المُتعفِّفون عن السُّؤال { والمساكين } الذين يسألون ويطوفون على النَّاس { والعاملين عليها } السُّعاة لجباية الصَّدَقة { والمؤلفة قلوبهم } كانوا قوماً من أشراف العرب استألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليردُّوا عنه قومهم ويُعينوه على عدوِّه { وفي الرقاب } المكاتبين { والغارمين } أهل الدِّيْن { وفي سبيل الله } الغزاة والمرابطون { وابن السبيل } المنقطع في سفره { فريضة من الله } افترضها الله على الأغنياء في أموالهم .
{ ومنهم الذين يؤذون النبيَّ } بنقل حديثه وعيبه { ويقولون هو أذنٌ } أنَّهم قالوا فيما بينهم : نقول ما شئنا ، ثمَّ نأتيه فَنَحْلِفُ له فيصدِّقنا؛ لأنَّه أُذنٌ [ والأُذن : الذي يسمع كلَّ ما يُقال له ] ، فقال الله تعالى { قل أذن خير لكم } أَيْ : مستمعُ خيرٍ وصلاح ، لا مستمع شرٍّ وفسادٍ ، ثمَّ أَكَّد هذا وبيَّنه فقال : { يؤمن بالله } أَيْ : يسمع ما ينزله الله عليه ، فيصدِّق به { ويؤمن للمؤمنين } ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه ، لا الكافرين { ورحمة للذين آمنوا منكم } أَيْ : وهو رحمةٌ؛ لأنَّه كان سبب إيمانهم .
{ يحلفون بالله لكم ليرضوكم } يحلف هؤلاء المنافقون فيما بلغكم عنهم من أذى الرَّسول والطَّعن عليه أنَّهم ما أتوا ذلك؛ ليرضوكم بيمينهم { والله ورسوله أحقُّ أن يرضوه } فيؤمنوا بهما ويصدِّقوهما إن كانوا على ما يظهرون .

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)

{ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم } على المؤمنين { سورة } تخبرهم { بما في قلوبهم } من الحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وذلك أنَّهم كانوا يفرقون من هتكهم وفضيحتهم { قل استهزئوا } أمرُ وعيدٍ { إنَّ الله مخرج } مظهرٌ { ما تحذرون } ظهوره .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)

{ ولئن سَأَلْتَهُمْ } عمَّا كانوا فيه من الاستهزاء { ليقولنَّ إنما كنا نخوض ونلعب } وذلك " أنَّ رجلاً من المنافقين قال في غزوة تبوك : ما رأيتُ مثل هؤلاء أرغبَ بطوناً ، ولا أكذبَ أَلْسُناً ، ولا أجبنَ عند اللِّقاء . يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فأُخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فجاء هذا القائل ليعتذر ، فوجد القرآن قد سبقه فقال : يا رسول الله ، إنما كنَّا نخوض ونلعب ، ونتحدَّث بحديث الرَّكب نقطع به عنا الطريق ، وهو معنى قوله : { إنَّما كنا نخوض } أَيْ : في الباطل من الكلام ، كما يخوض الرَّكب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أباللَّهِِ وآياته ورسوله كنتم تستهزئون "
{ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } أَيْ : ظهر كفركم بعد إظهاركم الإِيمان { إنْ نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } وذلك أنَّهم كانوا ثلاثة نفر ، فهزىء اثنان وضحك واحد ، وهو المغفوُّ عنه ، فلمَّا نزلت هذه الآية برىء من النِّفاق .
{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } على دين بعض { يأمرون بالمنكر } بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم { وينهون عن المعروف } عن اتِّباعه { ويقبضون أيديهم } عن النَّفقة في سبيل الله { نسوا الله فنسيهم } تركوا أمر الله ، فتركهم من كلِّ خيرٍ وخذلهم { إنَّ المنافقين هم الفاسقون } الخارجون عمَّا أمر الله .
{ وعد الله المنافقين . . . } الآية ظاهرة ، ثمَّ خاطبهم .

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)

{ كالذين من قبلكم } أَيْ : فعلتم كأفعال الذين من قبلكم { فاستمتعوا بخلاقهم } رضوا بنصيبهم من الدُّنيا ، ففعلتم أنتم أيضاً مثل ما فعلوا { وخضتم } في الطَّعن على النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما خاضوا في الطَّعن على أنبيائهم { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } لأنَّها لا تُقبل منهم ولا يُثابون عليها .
{ أَلَمْ يأتيهم نبأ الذين من قبلهم } ألم يأتهم خبر الذين أُهلكوا في الدُّنيا بذنوبهم ، فيتَّعظوا ، ثم ذكرهم { قوم نوحٍ وعاد وثمود وقوم إبراهيم } يعني : نمروذ { وأصحاب مدين } قوم شعيب { والمؤتَفِكاتِ } وأصحاب المؤتفكات ، وهي قرى قوم لوط { فما كان الله ليظلمهم } ليعذِّبهم قبل بعث الرَّسول { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بتكذيب الرُّسل .
{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } في الرَّحمة والمحبَّة { يأمرون بالمعروف } يدعون إلى الإِسلام { وينهون عن المنكر } الشِّرك بالله . الآية .
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة } يريد قصور الزَّبرجد والدُّرِّ والياقوت { في جنات عدن } هي قصبة الجنَّة وسقفُها عرش الرَّحمن { ورضوان من الله أكبر } ممَّا يوصف .
{ يا أيها النبيُّ جاهد الكفار } بالسَّيف { والمنافقين } باللِّسان والحُجَّة { واغلظ عليهم } يريد شدَّة الانتهار ، والنَّظر بالبغضة والمقت .

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)

{ يحلفون بالله ما قالوا } نزلت حين أساء المنافقون القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعنوا في الدِّين ، وقالوا : إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أُبيّ تاجاً يباهي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَسُعِي بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم ، فحلفوا ما قالوا { ولقد قالوا كلمة الكفر } سبَّهم الرَّسول وطعنهم في الدِّين { وهموا بما لم ينالوا } من عقدهم التَّاج على رأس ابن أُبيّ . وقيل : من الاغتيال بالرَّسول { وما نقموا } كرهوا { إلاَّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله } بالغنيمة حتى صارت لهم الأموال ، أَيْ : إنَّهم عملوا بضدِّ الواجب ، فجعلوا موضع شكر الغنى أن نقموه ، ثمَّ عرض عليهم التَّوبة فقال : { فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإنْ يتولوا } يعرضوا عن الإِيمان { يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا } بالقتل { و } في { الآخرة } بالنار { وما لهم في الأرض من وليٍّ ولا نصير } لا يتولاَّهم أحدٌ من المسلمين .
{ ومنهم مَنْ عاهد الله } يعني : ثعلبة بن حاطب ، عاهد ربَّه لئن وسَّعَ عليه أن يؤتى كلَّ ذي حقٍ حقَّه ، ففعل الله ذلك فلم يفِ بما عاهد ، ومنع الزَّكاة ، فهذا معنى قوله : { لئن آتانا من فضله لنصدقنَّ } لنعطينَّ الصَّدقة ، { ولنكوننَّ من الصالحين } ولنعملنَّ ما يعمل أهل الصَّلاح في أموالهم .
{ فلما آتاهم من فضله بخلوا به . . . } الآية .
{ فأعقبهم نفاقاً } صيَّر عاقبة أمرهم إلى ذلك بحرمان التَّوبة ، حتى ماتوا على النِّفاق جزاءً لإخلافهم الوعد ، وكذبهم في العهد ، وهو قوله : { إلى يوم يلقونه . . . } الآية .

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)

{ الذين يلمزون } يعيبون ويغتابون { المطوعين } المتطوعين المُتنفلِّين { من المؤمنين في الصدقات } وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثَّ على الصَّدقة ، فجاء بعض الصحابة بالمال الكثير ، وبعضهم - وهم الفقراء - بالقليل ، فاغتابهم المنافقون وقالوا : مَنْ أكثرَ [ أكثر ] رياءً ، ومَنْ أقلَّ أراد أن يذكر نفسه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { والذين لا يجدون إلاَّ جهدهم } وهو القليل الذي يتعيَّش به { فيسخرون منهم سخر الله منهم } جازاهم جزاء سخريتهم حيث صاروا إلى النَّار ، ثمَّ آيس الله رسوله من إيمانهم ومغفرتهم فقال :
{ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } وهذا تخييرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ قال : { إن تستغفر لهم سبعين مرة } أَيْ : إن استكثرت من الدُّعاء بالاستغفار للمنافقين لن يغفر الله لهم .
{ فرح المخلفون } يعني : الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين { بمقعدهم } بقعودهم { خلاف رسول الله } مخالفةً له { وقالوا : لا تنفروا } مع محمدٍ إلى تبوك { في الحرِّ قل نار جهنم أشدُّ حراً لو كان يفقهون } يعلمون أنَّ مصيرهم إليها .
{ فليضحكوا قليلاً } في الدُّنيا ، لأنَّها تنقطع عنهم { وليبكوا كثيراً } في النار بكاءً لا ينقطع { جزاءً بما كانوا يكسبون } في الدُّنيا من النِّفاق .
{ فإن رجعك الله } ردَّك { إلى طائفة منهم } يعني : الذين تخلَّفوا بالمدينة { فاستأذنوك للخروج } إلى الغزو معك { فقل لن تخرجوا معي أبداً } إلى غزاةٍ { ولن تقاتلوا معي عدواً } من أهل الكتاب { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } حين لم تخرجوا إلى تبوك { فاقعدوا مع الخالفين } يعني : النِّساء والصِّبيان والزَّمنى الذين يخلفون الذَّاهبين إلى السَّفر ، ثمَّ نُهِيّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاة عليهم إذا ماتوا ، والدُّعاء لهم عند الوقوف على القبر .

وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)

{ ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره . . . } الآية .
{ ولا تعجبك أموالهم } مضى تفسيره .
{ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم } يعني : أصحاب الغنى والقدرة يستأذنونك في التَّخلُّف .
{ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } النِّساء اللاتي يخلفن في البيت { وطبع على قلوبهم } بالنِّفاق { فهم لا يفقهون } لا يفهمون الإِيمان وشرائعه وأمر الله .

وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)

{ وجاء المعذِّرون } المعتذرون ، وهم قوم { من الأعراب } اعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في التَّخلُّف فعذرهم ، وهو قوله : { ليؤذن لهم } أَيْ : في القعود { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } لم يُصدِّقوا نبيَّه ، واتَّخذوا إسلامهم جُنَّة ، ثمًّ ذكر أهل العذر .

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)

{ ليس على الضعفاء } يعني : الزَّمنى والمشايخ والعجزى { ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } أخلصوا أعمالهم من الغِشِّ لهما { ما على المحسنين من سبيل } من طريق بالعقابِ ، لأنَّه قد سُدَّ طريقه بإحسانه { والله غفور رحيمٌ } لمَنْ كان على هذه الخصال .
{ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } نزلت في سبعة نفرٍ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على الدَّوابِّ ، فقال : { لا أجد ما أحملكم عليه } فانصرفوا باكين شوقاً إلى الجهاد ، وحزناً لضيق ذات اليد .

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)

{ يعتذرون إليكم } بالأباطيل { إذا رجعتم إليهم } من هذه الغزوة { قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم } لن نصدِّقكم { قد نبأنا الله من أخباركم } قد أخبرنا الله بسرائركم وما تخفي صدوركم { وسيرى الله عملكم ورسوله } فيما تستأنفون ، تبتم من النِّفاق أم أقمتم عليه { ثمَّ تردون إلى عالم الغيب والشهادة } إلى مَنْ يعلم ما غاب عنّا من ضمائركم { فينبئكم بما كنتم تعملون } فيخبركم بما كنتم تكتمون وتسرون .
{ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم } إذا رجعتم { إليهم } من تبوك أنَّهم ما قدروا على الخروج { لتعرضوا عنهم } إعراض الصَّفح { فأعرضوا عنهم } اتركوا كلامهم وسلامهم { إنهم رجس } إنَّ عملهم قبيحٌ من عمل الشَّيطان .

الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

ثمَّ نزل في أعاريب أسدٍ وغطفان : { الأعراب أشدُّ كفراً ونفاقاً } من أهل المدر ، لأنَّهم أجفى وأقسى { وأجدر } وأولى [ وأحقُّ ] { ألا يعلموا حدود ما أنزل الله } من الحلال والحرام .
{ ومن الأعراب مَنْ يتخذ ما ينفق مغرماً } لأنَّه لا يرجو له ثواباً { ويتربَّص بكم الدوائر } وينتظر أن ينقلب الأمر عليكم بموت الرَّسول عليه السَّلام { عليهم دائرة السوء } عليهم يدور البلاء والخزي ، فلا يرون في محمد ودينه إلاَّ ما يسوءهم ، ثمَّ نزل في مَنْ أسلم منهم :
{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله } يتقرَّب بذلك إلى الله عزَّ وجلَّ { وصلوات الرسول } يعني : دعاءه بالخير والبركة ، والمعنى : أنَّه يتقرَّب بصدقته ودعاء الرَّسول إلى الله { ألاَ إنّها قربة لهم } أَيْ : نورٌ ومكرمةٌ عند الله .

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

{ والسابقون الأولون } يعني : الذين شهدوا بدراً { من المهاجرين والأنصار } يعني : الذين آمنوا منهم قبل قدوم الرَّسول عليهم ، فهؤلاء السُّبَّاق من الفريقين . وقيل : أراد كلَّ مَنْ أدركه من أصحابه ، فإنَّهم كلَّهم سبقوا هذه الأمَّة بصحبة النَّبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته { والذين اتبعوهم بإحسان } يعين : ومن اتَّبعهم على منهاجهم إلى يوم القيامة ممَّن يُحسن القول فيهم .
{ وممن حولكم من الأعراب منافقون } يعني : مزينة وجهينة وغفاراً { ومن أهل المدينة } الأوس والخزرج { مردوا على النفاق } لجُّوا فيه ، وأبوا غيره { سنعذبهم مرتين } بالأمراض والمصائب في الدُّنيا ، وعذاب القبر { ثم يردون إلى عذاب عظيم } وهو الخلود في النَّار .
{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم } في التَّخلُّف عن الغزو { خلصوا عملاً صالحاً } وهو جهادهم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل هذا { وآخر سيئاً } تقاعدهم عن هذه الغزوة { عسى الله } واجبٌ من الله { أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم } ثمَّ تاب على هؤلاء وعذرهم ، فقالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا التي خلَّفتنا عنك فخذها منَّا صدقةً وطهِّرنا ، واستغفر لنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً .

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)

{ خذ من أموالهم صدقة } فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم ، وكانت كفَّارةً للذُّنوب التي أصابوها ، وهو قوله : { تطهرهم } يعني : هذه الصَّدقة تطهِّرهم من الذُّنوب { وتزكيهم بها } أَيْ : ترفعهم أنت يا محمَّدُ بهذه الصَّدقة من منازل المنافقين { وصل عليهم } ادع لهم { إنَّ صلاتك سكن لهم } إنَّ دعواتك ممَّا تسكن نفوسهم إليه بأن قد تاب الله عليهم { والله سميع } لقولهم { عليم } بندامتهم ، فلمَّا نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين : هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يُكلَّمون ولا يُجالسون ، فما لهم؟ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا رجع إلى المدينة نهى المؤمنين عن مكالمة المنافقين ومجالستهم ، فأنزل الله سبحانه :
{ ألم يعلموا أنَّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } يقبلها { وأنَّ الله هو التواب الرحيم } يرجع على مَنْ يرجع إليه بالرَّحمة والمغفرة .
{ وقل اعملوا } يا معشر عبادي ، المحسن والمسيء { فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } أَيْ : إنَّ الله يُطلعهم على ما في قلوب إخوانهم من الخير والشَّرِّ ، فيحبُّوب المحسن ويبغضون المسيء بإيقاع الله ذلك في قلوبهم ، وباقي الآية سبق تفسيره .
{ وآخرون مرجون لأمر الله } مُؤخَّرون ليقضي الله فيهم ما هو قاضٍ ، وهم كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، كانوا تخلَّفوا من غير عذر ، ثمَّ لم يبالغوا في الاعتذار ، كما فعل أولئك الذين تصدَّقوا بأموالهم ، فوقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمرهم ، وهم مهجورون حتَّى نزل قوله : { وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا . . . } الآيات . { إمَّا يعذبهم } بعقابه جزاءً لهم { وإمَّا يتوب عليهم } بفضله { والله عليم } بما يؤول إليه حالهم { حكيم } فيما يفعله بهم .
{ والذين اتخذوا } ومنهم الذين اتَّخذوا مسجداً ، وكانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين ، بنوا مسجداً يضارُّون به مسجد قباء ، وهو قوله : { ضراراً وكفراً } بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وما جاء به { وتفريقاً بين المؤمنين } يفرِّقون به جماعتهم ، لأنَّهم كانوا يصلُّون جميعاً في مسجد قباء ، فبنوا مسجد الضِّرار ليصلِّي فيه بعضهم ، فيختلفوا بسبب ذلك { وإرصاداً } وانتظاراً { لمن حارب الله ورسوله من قبل } يعني : أبا عامرٍ الرَّاهب ، كان قد خرج إلى الشَّام ليأتي بجندٍ يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرسل إلى المنافقين أن ابنوا لي مسجداً { وليحلفنَّ إن أردنا } ببنائه { إلاَّ } الفعلة { الحسنى } وهي الرِّفق بالمسلمين ، والتَّوسعة عليهم ، فلمَّا بنوا ذلك المسجد سألوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيصلِّي بهم في ذلك المسجد ، فنهاه الله عزَّ وجلَّ .

لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)

{ لا تقم فيه أبداً لمسجدٌ أسس على التقوى } بُنيت جُدُره ، ورُفعت قواعده على طاعة الله تعالى { من أول يوم } بُني وحَدث بناؤه ، وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هو مسجد قباء { أحقُّ أن تقوم فيه } للصَّلاة { فيه رجال } يعني : الأنصار { يحبون أن يتطهروا } يعني : غسل الأدبار بالماء ، وكان من عادتهم في الاستنجاء استعمال الماء بعد الحجر { والله يحب المطهرين } من الشِّرك والنِّفاق .
{ أفمن أسس بنيانه } أَيْ : بناءه الذي بناه { على تقوى من الله } مخافة الله ، ورجاء ثوابه ، وطلب مرضاته { خيرٌ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار } على حرف مهواةٍ { فانهار به } أُوقع بنيانه { في نار جهنم } وهذا مَثَل . والمعنى : إنَّ بناء هذا المسجد كبناءٍ على حرفِ جهنَّم يتهوَّر بأهله فيها ، لأنَّه معصيةٌ وفعلٌ لما كرهه الله من الضِّرار .
{ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبه في قلوبهم } شكَّاً في قلوبهم { إلاَّ أن تقطَّع قلوبهم } بالموت ، والمعنى : لا يزالون في شكٍّ منه إلى الموت ، يحسبون أنَّهم كانوا في بنائه محسنين { والله عليم } بخلقه { حكيم } فيما جعل لكلِّ أحدٍ .
{ إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم . . . } الآية . نزلت في بيعة العقبة ، " لمَّا بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً ، وأن يمنعوه ممَّا يمنعون أنفسهم . قالوا : فإذا فعلنا ذلك يا رسول الله ، فماذا لنا؟ قال : الجنَّة . قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل " ، فنزلت هذه الآية ومعنى : { اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة } أنَّ المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يُقتل ، وأنفق ماله في سبيل الله أخذ من الله الجنَّة في الآخرة جزاءً لما فعل ، وقوله : { وعداً } أَيْ : وعدهم اللَّهُ الجنَّة وعداً { عليه حقاً } لا خلف فيه { في التوراة والإِنجيل والقرآن } أَيْ : إنَّ الله بيَّن في الكتابين أنَّه اشترى من أمة محمَّدٍ أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنَّة ، كما بيَّن في القرآن { ومَنْ أوفى بعهده من الله } أَيْ : لا أحدٌ أوفى بما وعد من الله ، ثمًّ مدحهم فقال :
{ التائبون } أَيْ : هم التَّائبون من الشِّرك { العابدون } يرون عبادة الله واجبةً عليهم { الحامدون } الله على كلِّ حال { السائحون } الصًّائمون { الراكعون الساجدون } في الفرائض { الآمرون بالمعروف } بالإِيمان بالله وفرائضه وحدوده { والناهون عن المنكر } الشِّرك وترك فرائض الله { والحافظون لحدود الله } العاملون بما افترض الله عليهم .
{ ما كان للنبيِّ . . . } الآية . نزلت في استغفار النبيِّ عليه السَّلام لعمِّه أبي طالب ، وأبيه ، وأُمِّه ، واستغفار المسلمين لآبائهم المشركين ، نُهوا عن ذلك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال : " لأستغفرنَّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه " ، فبيَّن الله سبحانه كيف كان ذلك .

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)

{ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاَّ عن موعدة وعدها إياه } وذلك أنَّه كان قد وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه ، وأن ينقله الله باستغفاره إيَّاه من الكفر إلى الإِسلام ، وهذا ظاهر في قوله : { سأستغفر لك ربي } وقوله : { لأستغفرنَّ لك } فلمَّا مات أبوه مشركاً تبرَّأ منه وقطع الاستغفار { إنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ } دَعَّاءٌ كثير البكاء { حليم } لم يعاقب أحداً إلاََ في الله ، ولم ينتصر من أحدٍ إلاَّ لله ، فلمَّا حرَّم الاستغفار للمشركين بيَّن أنَّه لا يأخذهم بما فعلوا؛ لأنَّه لم يكن قد بيَّن لهم أنَّه لا يجوز ذلك ، فقال :
{ وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم } ليوقع الضَّلالة في قلوبهم بعد الهدى { حتى يبيِّن لهم ما يتقون } فلا يتَّقوه ، فعند ذلك يستحقُّون الإِضلال .

لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

{ لقد تاب الله على النبيِّ } مِنْ إذنه للمنافقين في التَّخلُّف عنه ، وهو ما ذُكر في قوله : { عفا الله عنك . . . } الآية { والمهاجرين والأنصار الذين اتَّبعوه في ساعة العسرة } في زمان عسرة الظَّهر ، وعسرة الماء ، وعسرة الزَّاد { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } من بعد ما همَّ بعضهم بالتَّخلُّف عنه والعصيان ، ثمَّ لحقوا به { ثم تاب عليهم } ازداد عنهم رضا .
{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا } أَي : عن التَّوبة عليهم . يعني : مَنْ ذكرناهم في قوله : { وأخرون مرجون لأمر الله } { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض } لأَنَّهم كانوا مهجورين لا يُعاملون ولا يُكلَّمون { وضاقت عليهم أنفسهم } بالهمِّ الذي حصل فيها { وظنوا } أيقنوا { أن لا ملجأ من الله إلاَّ إليه } أن لا مُعتَصَم من عذاب الله إلاَّ به { ثمَّ تاب عليهم ليتوبوا } أَيْ : لطف بهم في التَّوبة ووفَّقهم لها .
{ يا أيها الذين آمنوا } يعني : أهل الكتاب { اتقوا الله } بطاعته { وكونوا مع الصادقين } محمدٍ وأصحابه ، يأمرهم أن يكونوا معهم في الجهاد والشِّدَّة والرَّخاء .

مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)

{ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدَّعَة ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحرِّ والمشقَّة { ذلك } أَيْ : ذلك النَّهي عن التَّخلُّف { بأنهم لا يصيبهم ظمأ } وهو شدَّة العطش { ولا نصب } إعياء من التَّعب { ولا مخمصة } مجاعةٌ { ولا يطؤون موطئاً } ولا يقفون موقفاً { يغيظ الكفار } يُغضبهم { ولا ينالون من عدو نيلاً } أسراً وقتلاً إلاَّ كان ذلك قُربةً لهم عند الله .
{ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة } تمرةً فما فوقها { ولا يقطعون وداياً } يُجاوزونه في سيرهم { إلاَّ كتب لهم } آثارهم وخُطاهم { ليجزيهم الله أحسن } بأحسن { ما كانوا يعملون } فلمَّا عِيبَ مَنْ تخلَّف عن غزوة تبوك قال المسلمون : والله لا نتخلَّف عن غزوةٍ بعد هذا ، ولا عن سرية أبداً ، فلمَّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسَّرايا إلى العدُّو ، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو ، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة } ليخرجوا جميعاً إلى الغزو { فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة } فهلاَّ خرج إلى الغزو من كل قبيلةٍ جماعةٌ { ليتفقهوا في الدين } ليتعلَّموا القرآن والسُّنن والحدود . يعني : الفرقة القاعدين { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } وليعلِّموهم ما نزل من القرآن ويخوّفوهم به { لعلهم يحذرون } فلا يعملون بخلاف القرآن .
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم } يقربون منكم . أُمروا بقتال الأدنى فالأدنى من عدوِّهم من المدينة { وليجدوا فيكم غلظة } شدَّةً وعُنفاً .
{ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم } من المنافقين { مَنْ يقول أيكم زادته هذه إيماناً } يقوله المنافقون بعضهم لبعض هزؤاً ، فقال الله تعالى : { فأمَّا الذين آمنوا فزادتهم إيماناً } تصديقاً ، لأنَّهم صدَّقوا بالأولى والثَّانية { وهم يستبشرون } يفرحون بنزول السُّورة .
{ وأما الذين في قلوبهم مرض } شكٌّ ونفاقٌ { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } كفراً إلى كفرهم؛ لأنَّهم كلَّما كفروا بسورةٍ ازداد كفرهم .
{ أَوَلاَ يرون أنهم يفتنون في كلِّ عام مرَّة أو مرتين } يُمتحنون بالأمراض والأوجاع ، وهنَّ روائد الموت { ثمَّ لا يتوبون } من النِّفاق ، ولا يتَّعظون كما يتَّعظ المؤمن بالمرض .
{ وإذا ما أنزلت سورة } كان إذا نزلت سورةٌ فيها عيبُ المنافقين ، وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقَّ ذلك عليهم ، و { نظر بعضهم إلى بعض } يريدون الهرب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم لبعض : { هل يراكم من أحد } إنْ قمتم ، فإن لم يرهم أحدٌ خرجوا من المسجد ، وإنْ علموا أنَّ أحداً يراهم ثبتوا مكانهم حتى يفرغ من خطبته { ثم انصرفوا } على عزم الكفر والتَّكذيب { صرف الله قلوبهم } عن كلِّ رشدٍ وهدى { بأنهم قومٌ لا يفقهون } جزاءً على فعلهم ، وهو أنَّهم لا يفقهون عن الله دينه وما دعاهم الله إليه .

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم } من العرب من بني إسماعيل ليفهموا منه { عزيز عليه ما عنتم } شديدٌ عليه مشقَّتكم وكلُّ مضرَّة تُصيبكم { حريص عليكم } أن تؤمنوا . وهذا خطابٌ للكفَّار ومَنْ لم يؤمن به ، ثمَّ ذكر أنَّه { بالمؤمنين رؤوف رحيم } .
{ فإن تولوا } أعرضوا عن الإِيمان . يعني : المشركين والمنافقين { فقل حسبي الله } أَيْ : الذي يكفيني الله { لا إله إلاَّ هو عليه توكلت } وبه وثقت { وهو رب العرش العظيم } خصَّ بالذِّكر لأنه أعظم ما خلق الله عزَّ وجلَّ .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)

{ الر } أنا الله أرى { تلك آيات الكتاب } هذه الآيات التي أنزلتها عليك آيات القرآن { الحكيم } الحاكم بين النَّاس .
{ أكان للناس } أَهلِ مكَّةَ { عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم } وذلك أنَّهم قالوا : ما وجدَ الله مَنْ يُرسله إلينا إلاَّ يتيم أبي طالب؟! { أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا } أَيْ : بعثناه بشيراً ونذيراً { أنَّ لهم قدم صدق عند ربهم } يعني : الأعمال الصَّالحة . { قال الكافرون إنَّ هذا } القرآن { لسحرٌ مبين } .
{ إنَّ ربكم الله } مفسَّرةٌ في سورة الأعراف ، وقوله : { يدبِّر الأمر } يقضيه { ما من شفيع إلاَّ من بعد إذنه } ردٌّ لقولهم : الأصنام شفعاؤنا عند الله .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

{ هو الذي جعل الشمس ضياءً } ذات ضياءٍ { والقمر نوراً } ذا نورٍ { وقدَّره } وقدَّر له { منازل } على عدد أيام الشَّهر { ما خلق الله ذلك } يعني : ما تقدَّم ذكره { إلاَّ بالحق } بالعدل ، أَيْ : هو عادلٌ في خلقه ، لم يخلقه ظلماً ولا باطلاً { يفصِّل الآيات } يُبيِّنها { لقوم يعلمون } يستدلُّون بها على قدرة الله .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)

{ إنَّ الذين لا يرجون لقاءنا } لا يخافون البعث { ورضوا بالحياة الدنيا } بدلاً من الآخرة { واطمأنوا بها } وركنوا إليها { والذين هم عن آياتنا } ما أنزلتُ من الحلال والحرام والشرائع { غافلون } .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)

{ يهديهم ربُّهم بإيمانهم } أَيْ : إلى الجنان ثواباً لهم بإيمانهم .
{ دعواهم } دعاؤهم { فيها سبحانك اللهم } وهو أنَّهم كلَّما اشتهوا شيئاً قالوا : سبحانك اللَّهم ، فجاءهم ما يشتهون ، فإذا طعموا ممَّا يشتهون قالوا : الحمد لله ربَّ العالمين .

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)

{ ولو يعجل الله للناس الشرَّ . . . } الآية . نزلت في دعاء الرَّجل على نفسه وأهله وولده بما يكره أني يستجاب له ، والمعنى : لو استجبتُ لهم في الشَّرِّ كما يحبُّون أن يستجاب لهم في الخير { لقضي إليهم أجلهم } لماتوا ، وفُرغ من هلاكهم . نزلت في النَّضر بن الحارث حين قال : { اللَّهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك . . . } الآية . يدلُّ على هذا قوله : { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } يعني : الكفَّار الذين لا يخافون البعث .
{ وإذا مسَّ الإِنسان } يعني : الكافر { الضرُّ } المرض والبلاء { دعانا لجنبه } أَيْ : مضطجعاً { أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضرَّه مرَّ } طاغياً على ترك الشُّكر { كأن لم يدعنا إلى ضرٍّ مسَّه } لنسيانه ما دعا الله فيه ، وما صنع الله به { كذلك زين } كما زُيِّن لهذا الكافر الدُّعاء عند البلاء ، والإِعراض عند الرَّخاء { زين للمسرفين } عملهم ، وهم الذين أسرفوا على أنفسهم ، إذ عبدوا الوثن .
{ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم } يخوِّف كفار مكَّة بمثل عذاب الأمم الخالية { وما كانوا ليؤمنوا } لأنَّ الله طبع على قلوبهم جزاءً لهم على كفرهم { كذلك نحزي القوم المجرمين } نفعل بمَنْ كذَّب بمحمَّدٍ كما فعلنا بمَنْ قبلهم جزاءً لكفرهم .

ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)

{ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } يعني : أهل مكَّة { لننظر كيف تعملون } لنختبر أعمالكم .
{ وإذا تتلى عليهم } على هؤلاء المشركين { آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا } لا يخافون البعث : { ائت بقرآن غير هذا } ليس فيه عيب آلهتنا { أو بدَّله } تكلَّمْ به من ذات نفسك ، فبدِّلْ منه ما نكرهه { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفس } ما ينبغي لي أَنْ أغيِّره من قبل نفسي { إن أتبع إلاَّ ما يوحى غليَّ } ما أُخبركم إلاَّ ما أخبرني الله به ، أَي : الذي أتيتُ به من عند الله ، لا من عندي نفسي فأبدِّله .
{ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم } ما قرأتُ عليكم القرآن { ولا أدراكم به } ولا أعلمكم الله به { فقد لبثت فيكم عُمراً من قبله } أقمتُ فيكم أربعين سنةً لا أُحدِّثكم شيئاً { أفلا تعقلون } أنَّه ليس من قبلي .
{ فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً } لا أحد أظلم ممَّن يظلم ظلم الكفر ، أَيْ : إني لم أفترِ على الله ، ولم أكذب عليه ، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أنَّ معه شريكاً { إنَّه لا يفلح المجرمون } لا يسعد مَنْ كذَّب أنبياء الله .
{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرُّهم } إنْ لم يعبدوه { ولا ينفعهم } إن عبدوه { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } في إصلاح معاشهم في الدُّنيا؛ لأنَّهم لا يقرُّون بالبعث { قل أتنبؤون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض } أتخبرون الله أنَّ له شريكاً ، ولا يعلم الله سبحانه لنفسه شريكاً في السَّموات ولا في الأرض ، ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا افتروه فقال : { سبحانه وتعالى عما يشركون } .
{ وما كان الناس إلاَّ أمة واحدة } يعني : من لدن عهد إبراهيم عليه السَّلام إلى أن غيَّر الدِّين عمرو بن لُحي { فاختلفوا } واتَّخذوا الأصنام { ولولا كلمة سبقت من ربك } بتأخير عذاب هذه الأُمَّة إلى القيامة { لقضي بينهم } بنزول العذاب .
{ ويقولون } يعني : أهل مكَّة : { لولا } هلاَّ { أنزل عليه آية من ربه } مثلُ العصا وما جاءت به الأنبياء { فقل إنما الغيب لله } أَيْ : إنَّ قولكم : هلاَّ أنزل عليه آيةٌ غيبٌ ، وإنَّما الغيب لله لا يعلم أحدٌ لمَ لمْ يفعل ذلك { فانتظروا } نزول الآية { إني معكم من المنتظرين } .
{ وإذا أذقنا الناس } كفار مكَّة { رحمة } مطراً وخَصْباً { من بعد ضرَّاء مستهم } فقرٍ وبؤسٍ { إذا لهم مكر في آياتنا } قولٌ بالتَّكذيب ، أَيْ : إذا أخصبوا بطروا ، فاحتالوا لدفع آيات الله { قل الله أسرع مكراً } أسرع نقمةً . يعني : إنَّ ما يأتيهم من العقاب أسرعُ في أهلاكهم ممَّا أتوه من المكر في إبطال آيات الله { إنَّ رسلنا } يعني : الحفظة { يكتبون ما تمكرون } للمجازاة به في الآخرة .

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)

{ هو الذي يسيِّركم في البر } على المراكب والظُّهور { والبحر } على السُّفن { حتى إذا كنتم في الفلك } السُّفن { وجرين بهم } يعني : وجرت السُّفن بمَنْ ركبها في البحر { بريح طيبة } رُخاءٍ ليِّنةٍ { وفرحوا } بتلك الرِّيح للينها واستوائها { جاءتها ريحٌ عاصف } شديدةٌ { وجاءهم الموج } وهو ما ارتفع من الماء { من كلِّ مكان } من البحر { وظنوا أنهم أحيط بهم } دنوا من الهلاك { دعوا الله مخلصين له الدين } تركوا الشِّرك وأخلصوا لله الرُّبوبيَّة ، وقالوا { لئن أنجيتنا من هذه } الرِّيح العاصفة { لنكوننَّ من الشاكرين } الموحِّدين الطَّائعين .
{ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } يعملون بالفساد والمعاصي والجرأة على الله . { يا أيها الناس } يعني : أهل مكَّة { إنما بغيكم على أنفسكم } أَيْ : بغي بعضكم على بعضٍ { متاع الحياة الدنيا } أَيْ : ما ينالونه بهذا الفساد والبغي إنَّما يتمتَّعون به في الحياة الدُّنيا { ثم إلينا مرجعكم } .
{ إنما مثل الحياة الدنيا } يعني : الحياة الفانية في هذه الدَّار { كماءٍ } كمطرٍ { أنزلناه من السماء فاختلط به } بذلك المطر وبسببه { نبات الأرض ممَّا يأكل الناس } من البقول والحبوب والثِّمار { والأنعام } من المراعي والكلأ { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } زينتها وحسنها { وازَّينت } بنباتها { وظنَّ } أهل تلك الأرض { أنهم قادرون } على حصادها والانتفاع بها { أتاها أمرنا } عذابنا { فجعلناها حصيداً } لا شيء فيها { كأن لم تغن } لم تكن بالأمس { كذلك } الحياةُ في الدُّنيا سببٌ لاجتماع المال وزهرة الدُّنيا ، حتى إذا كثر ذلك عند صاحبه ، [ وظنَّ ] أنَّه ممتَّعٌ به سُلِب ذلك عنه بموته ، أو بحادثةٍ تهلكه { كذلك نفصل الآيات } كما بيَّنا هذا المثل للحياة الدُّنيا كذلك يُبيِّن الله آيات القرآن { لقوم يتفكرون } في المعاد .
{ والله يدعو إلى دار السلام } وهي الجنَّة ببعث الرَّسول ، ونصب الأدلة { ويهدي من يشاء } عمَّ بالدَّعوة ، وخصَّ بالهداية مَنْ يشاء .
{ للذين أحسنوا } قالوا : لا إله إلاَّ الله { الحسنى } الجنَّة { وزيادة } النَّظر إلى وجه الله الكريم عزَّ وجلَّ { ولا يرهق } يغشى { وجوههم قترٌ } سوادٌ من الكآبة { ولا ذلة } كما يصيب أهل جهنَّم ، وهذا بعد نظرهم إلى ربِّهم تبارك وتعالى .

وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)

{ والذين كسبوا السيئات } عملوا الشِّرك { جزاء سيئة } أَيْ : فهلم جزاء سيئةٍ { بمثلها وترهقهم ذلة } يُصيبهم ذلٌّ وخزيٌ وهوانٌ { ما لهم من الله } من عذاب الله { من عاصم } من مانعٍ يمنعهم { كأنما أغشيت } أُلبست { وجوههم قطعاً } طائفةً { من الليل } وهو مظلم .
{ ويوم نحشرهم جميعاً } نجمعهم جميعاً : الكفَّارَ وآلهتَهم { ثمَّ نقول للذين أشركوا مكانكم } قفوا والزموا مكانكم { أنتم وشركاؤكم فزيلنا } فرَّقنا وميَّزنا { بينهم } بين المشركين وبين شركائهم ، وانقطع ما كان بينهم من التَّواصل في الدُّنيا { وقال شركاؤهم } وهي الأوثان : { ما كنتم إيانا تعبدون } أنكروا عبادتهم ، وقالوا : ما كنَّا نشعر بأنَّكم إيَّانا تعبدون ، والله يُنطقها بهذا .
{ فكفى بالله شهيداً . . . } الآية . هذا من كلام الشُّركاء . قالوا : شهد الله على علمه فينا ، ما { كنا عن عبادتكم } إلاَّ غافلين؛ لأنَّا كنَّا جماداً لم يكن فينا روحٌ .
{ هنالك } في ذلك الوقت { تبلو } تختبر { كلُّ نفس ما أسلفت } جزاء ما قدَّمَتْ من خيرٍ أو شرٍّ { ورُدُّوا إلى الله مولاهم الحق } أَي : الذي يملك تولِّي أمرهم ويجازيهم بالحقِّ { وضلَّ عنهم } زال وبطل { ما كانوا يفترون } في الدُّنيا من التَّكذيب .
{ قل مَنْ يرزقكم من السماء والأرض } مَنْ يُنزِّل من السَّماء المطر ، ويُخرج النَّبات من الأرض؟ { أم مَنْ يملك السمع والأبصار } مَنْ جعلها وخلقها لكم؟ على معنى : مَنْ يملك خلقها { ومن يخرج الحيَّ من الميت } المؤمن من الكافر ، والنَّبات من الأرض ، والإِنسان من النُّطفة ، وعلى الضدِّ من ذلك { يخرج الميِّتَ من الحيِّ ومَنْ يدبر } أمر الدُّنيا والآخرة { فسيقولون الله } أَي : الله الذي يفعل هذه الأشياء ، فإذا أقرُّوا بعد الاحتجاج عليهم { فقل أفلا تتقون } أفلا تخافون الله ، فلا تشركوا به شيئاً .
{ فذلكم الله ربكم الحق } أَي : الذي هذا كلُّه فِعْلُه هو الحقُّ ، ليس هؤلاء الذين جعلتم معه شركاء { فماذا بعد الحق } بعد عبادة الله { إلاَّ الضلال } يعني : عبادة الشَّيطان { فأنى تصرفون } يريد : كيف تُصرف عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت .
{ كذلك } هكذا { حقت } صدَّقت { كلمت ربك } بالشَّقاوة والخذلان { على الذين فسقوا } تمرَّدوا في الكفر { أنَّهم لا يؤمنون } .

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)

{ قل هل من شركائكم } يعني : آلهتكم { من يهدي } يرشد { إلى الحق } إلى دين الإسلام { قل الله يهدي للحق } أَيْ : إلى الحقِّ { أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع أم من لا يهدي } أَي : الله الذي يهدي ، ويرشد إلى الحقِّ أهلَ الحقِّ أحقُّ أن يتَّبع أمره أم الأصنام التي لا تهدي أحداً { إلاَّ أن يُهدى } يُرشد ، وهي - وإنْ هُديت - لم تهتد ، ولكنَّ الكلام نزل على أنَّها إِن هُديت اهتدت؛ لأنَّهم لمَّا اتخذوها آلهةً عُبِّر عنهما كما يُعبَّر عمَّن يعلم { فما لكم } أيُّ شيءٍ لكم في عبادة الأوثان ، وهذا كلامٌ تامٌّ { كيف تحكمون } يعني : كيف تقضون حين زعمتم أنَّ مع الله شريكاً .

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)

{ وما يتبع أكثرهم } يعني : الرُّؤساء؛ لأنَّ السَّفلة يتَّبعون قولهم { إلاَّ ظناً } يظنون أنَّها آلهةٌ { إنَّ الظن لا يغني من الحق شيئاً } ليس الظنُّ كاليقين . يعني : إنَّ الظَّنَّ لا يقوم مقام العلم . { إنَّ الله عليم بما يفعلون } من كفرهم .
{ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } هذا جوابٌ لقولهم : { ائت بقرآنٍ غير هذا } يقول : ما كان هذا القرآن افتراءً من دون الله { ولكن تصديق } [ ولكن كان تصديق ] { الذي بين يديه } من الكتب { وتفصيل الكتاب } [ يعني : تفصيل ] المكتوب من الوعد لمَنْ آمن ، والوعيد لمَنْ عصى { لا ريب فيه } لا شكَّ في نزوله من عند ربِّ العالمين .
{ أم يقولون افتراه } بل أتقولون : افتراه محمد { قل فأتوا بسورة مثله } إن كان مفترىً { وادعوا } إلى معاونتكم على المعارضة كلَّ مَنْ تقدرون عليه { إن كنتم صادقين } في أنَّ محمَّداً اختلقه من عند نفسه ، ونظيرُ هذه الآية في سورة البقرة : { وإنْ كنتم في ريب . . . } الآية .
{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } أَيْ : بما في القرآن من الجنَّة والنَّار ، والبعث والقيامة { ولما يأتهم تأويله } ولم يأتهم بعدُ حقيقة ما وُعدوا في الكتاب { كذلك كذَّب الذين من قبلهم } بالبعث والقيامة .
{ ومنهم } ومن كفَّار مكَّة { مَنْ يؤمن به } يعني : قوماً علم أنَّهم يؤمنون { ومنهم مَنْ لا يؤمن به ، وربك أعلم بالمفسدين } يريد : المكذِّبين ، وهذا تهديدٌ لهم .
{ وإن كذبوك فقل لي عملي . . . } الآية . نسختها آية الجهاد .
{ ومنهم مَنْ يستمعون إليك } نزلت في المستهزئين كانوا يستمعون الاستهزاء والتَّكذيب ، فقال الله تعالى : { أفأنت تُسمع الصمَّ } يريد أنَّهم بمنزلة الصُّمِّ لشدَّة عداوتهم { ولو كانوا لا يعقلون } أَيْ : ولو كانوا مع كونهم صمَّاً جهَّالاً! أخبر الله سبحانه أنَّهم بمنزلة الصُّمِّ الجُهَّال إذْ لم ينتفعوا بما سمعوا .
{ ومنهم مَنْ ينظر إليك } مُتعجِّباً منك غير منتفعٍ بنظره { أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون } يريد : إنَّ الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون شيئاً من الهدى .
{ إنَّ الله لا يظلم الناس شيئاً } لمَّا ذكر أهل الشَّقاوة ذكر أنَّه لم يظلمهم بتقدير الشَّقاوة عليهم؛ لأنَّه يتصرَّف في ملكه { ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون } بكسبهم المعاصي .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)

{ ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلاَّ ساعةً من النهار } كأن لم يلبثوا في قبورهم إلاَّ قدر ساعة من النَّهار ، استقصروا تلك المدَّة من هول ما استُقبلوا من أمر البعث .
والقيامة { يتعارفون بينهم } يعرف بعضهم بعضاً تعارف توبيخٍ؛ لأنَّ كلَّ فريق يقول للآخر : أنت أضللتني وما يشبه هذا { قد خسر } ثواب الجنَّة { الذين كذَّبوا } بالبعث .
{ وإمَّا نرينَّك بعض الذي نعدهم } يريد : ما ابتُلوا به يوم بدرٍ { أو نتوفينك } قبل ذلك { فإلينا مرجعهم } أَيْ : فنعذِّبهم في الآخرة { ثمَّ الله شهيد على ما يفعلون } من محاربتك وتكذيبك ، فيجزيهم بها ، ومعنى الآية : إنْ لم ينتقم منهم في العاجل ينتقم منهم في الآجل .
{ ولكلِّ أمة رسول } يُرسل إليهم { فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط } وهو هلاك مَنْ كذَّبه ، ونجاة من تبعه { وهم لا يظلمون } لا يُنقص ثواب المُصدِّق ، ويُجازى المكذِّب بتكذيبه .
{ ويقولون متى هذا الوعد } قالوا ذل حين قيل لهم : { وإمَّا نرينَّك بعض الذي نعدهم . . . } الآية ، فقالوا : متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمَّد؟ { إن كنتم } أنت يا محمَّد وأتباعك صادقين .
{ قل لا أملك لنفسي ضرَّاً ولا نفعاً إلاَّ ما شاء الله . . . } الآية مفسَّرةٌ في آيتين من سورة الأعراف .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)

فلمَّا استعجلوا العذاب قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : { قل أرأيتم } أعلمتم { إن أتاكم عذابُهُ بياتاً } ليلاً { أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون } أَيٌّ شيءٍ يستعجل المجرمون من العذاب؟ وهذا استفهام ٌ معناه التَّهويل والتًّفظيع ، أَيْ : ما أعظم ما يلتمسون ويستعجلون! كما تقول : أعلمت ماذا تجني على نفسك؟! فلمَّا قال لهم النبيُّ عليه السَّلام هذا ، قالوا : نكذِّب بالعذاب ونستعجله ، فإذا وقع آمنَّا به ، فقال الله تعالى :
{ أثمَّ إذا ما وقع } وحلَّ بكم { آمنتم به } بعد نزوله ، فلا يقبل منكم الإِيمان ، ويقال لكم : { آلآن } تؤمنون به { وقد كنتم به تستعجلون } في الدُّنيا مستهزئين .

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)

{ ويستنبئونك } يستخبرونك { أحقٌّ } ما أخبرتنا به من العذاب والبعث؟ { قل : إي } نعم { وربي إنَّه لحقٌّ } يعين : العذاب نازلٌ بكم { وما أنتم بمعجزين } بعد الموت ، أَيْ : فتجازون بكفركم .
{ ولو أنَّ لكلِّ نفسٍ ظلمت } أشركت { ما في الأرض لافتدت به } لبذلته لدفعِ العذاب عنها { وأسروا } أخفوا وكتموا { الندامة } يعني : الرُّؤساء من السَّفلة الذين أضلُّوهم { وقضي بينهم } بين السَّفلة والرُّؤساء { بالقسط } بالعدل ، فيجازي كلٌّ على صنيعه .
{ ألاَ إنَّ وعد الله حقٌّ } ما وعد لأوليائه [ وأعدائه ] { ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون } يعني : المشركين .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)

{ يا أيها الناس } يعني : قريشاً { قد جاءتكم موعظة من ربكم } القرآن { وشفاءٌ لما في الصدور } ودواءٌ لداء الجهل { وهدىً } وبيانٌ من الضَّلالة { ورحمةٌ للمؤمنين } ونعمةٌ من الله سبحانه لأصحاب محمَّدٍ .
{ قل بفضل الله } الإِسلام { وبرحمته } القرآن { فبذلك } الفضل والرَّحمة { فليفرحوا هو خيرٌ } أَيْ : ما آتاهم الله من الإِسلام والقرآن خيرٌ ممَّا يجمع غيرهم من الدُّنيا .
{ قل } لكفَّار مكَّة : { أرأيتم ما أنزل الله } خلقه وأنشأه لكم { من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً } يعني : ما حرَّموه ممَّا هو حلالٌ لهم من البحيرة وأمثالها ، وأحلُّوه ممَّا هو حرامٌ من الميتة وأمثالها { قل الله أذن لكم } في ذلك التَّحريم والتَّحليل { أم } بل { على الله تفترون } .
{ وما ظنُّ الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } أَيْ : ما ظنُّهم ذلك اليوم بالله وقد افتروا عليه؟ { إنَّ الله لذو فضلٍ على الناس } أهل مكَّة حين جعلهم في أمنٍ وحرمٍ إلى سائر ما أنعم به عليهم { ولكنَّ أكثرهم لا يشكرون } لا يُوحدِّون ولا يُطيعون .
{ وما تكون } يا محمَّد { في شأن } أمرٍ من أمورك { وما تتلوا منه } من الله { من قرآنٍ } أنزله عليك { ولا تعملون من عمل } خاطبه وأمَّته { إلاَّ كُنَّا عليكم شهوداً } نشاهد ما تعلمون { إذ تفيضون } تأخذون { فيه وما يعزب } يغيب ويبعد { عن ربك من مثقال ذرة } وزن ذرَّة { إلاَّ في كتاب مبين } يريد : اللَّوح المحفوظ الذي أثبت الله سبحانه فيه الكائنات .
{ ألا إنَّ أولياء الله } هم الذين تولَّى الله سبحانه هداهم .
{ الذين آمنوا } صدَّقوا النبيَّ { وكانوا يتقون } خافوا مقامهم بين يدي الله سبحانه .
{ لهم البشرى في الحياة الدنيا } عند الموت تأتيهم الملائكة بالبشرى من الله { وفي الآخرة } يُبشَّرون بثواب الله وجنَّته { لا تبديل لكلمات الله } لا خلف لمواعيده .
{ ولا يحزنك قولهم } تكذيبهم إيَّاك { إنَّ العزة لله } القوَّة لله والقدرة لله { جميعاً } وهو ناصرك { وهو السميع } يسمع قولهم { العليم } بما في ضميرهم ، فيجازيهم بما يقتضيه حالهم .
{ ألاَّ إن لله مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض } يعني : يفعل بهم وفيهم ما يشاء { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } أيْ : ليسوا يتَّبعون شركاء على الحقيقة؛ لأنَّهم يعدُّونها شركاء شفعاء لهم ، وليست على ما يظنُّون { إن يتبعون إلاَّ الظنَّ } ما يتَّبعون إلاَّ ظنَّهم أنَّها تشفع لهم { وإن هم إلا يخرصون } يقولون ما لا يكون .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)

{ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً } مُضيئاً لتهتدوا به في حوائجكم { إنًّ في ذلك لآيات لقومٍ يسمعون } سَمعَ اعتبار .
{ قالوا اتَّخذ الله ولداً } يعني : قولهم : الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيهاً له عمَّا قالوه { هو الغنيُّ } أن يكون له زوجةٌ أو ولدٌ { إنْ عندكم من سلطانٍ بهذا } ما عندكم من حجَّةٍ بهذا .

مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)

{ متاع في الدنيا } أيْ : لهم متاعٌ في الدُّنيا يتمتَّعون به أيَّاماً يسيراً ، وقوله :
{ إن كان كَبُرَ عليكم مقامي } أَيْ : عَظُم وشقَّ عليكم مكثي ولبثي فيكم { وتذكيري بآيات الله } وعظي وتخويفي إيَّاكم عقوبة الله { فعلى الله توكلت } فافعلوا ما شئتم ، وهو قوله : { فأجمعوا أمركم وشركاءَكم } أَيْ : اعزموا على أمرٍ مُحكمٍ تجتمعون عليه { وشركاءكم } مع شركائكم . وقيل : معناه : وادعوا شركاءكم يعني : آلهتكم { ثمِّ لا يكن أمركم عليكم غمة } أَيْ : ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً تتمكنون فيه ممَّا شئتم لا كمَنْ يكتم أمراً ويخفيه ، فلا يقدر أن يفعل ما يريد { ثمَّ اقضوا إليَّ } افعلوا ما تريدون ، وامضوا إليَّ بمكروهكم { ولا تنظرون } ولا تُؤخِّروا أمري ، والمعنى : ولا تألوا في الجمع والقوَّة؛ فإنَّكم لا تقدرون على مساءتي؛ لأنَّ لي إلهاً يمنعني ، وفي هذا تقويةٌ لقلب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، لأنَّ سبيله مع قومه كسبيل الأنبياء من قبله .

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)

{ فإن توليتم } أعرضتم عن الإِيمان { فما سألتكم من أجر } مالٍ تعطونيه ، وهذا من قول نوح عليه السَّلام لقومه .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)

{ فما كانوا ليؤمنوا } يعني : أمم الأنبياء والرُّسل { بما } كذَّب به قوم نوح . أَيْ : هؤلاء الآخرون لم يؤمنوا بما كذَّب به أوَّلُوهم ، وقد علموا أنَّ الله سبحانه أغرقهم بتكذيبهم ، ثم قال : { كذلك } كما طبعنا على قلوبهم { نطبع على قلوب المعتدين } المُجاوزين الحقّ إلى الباطل .

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)

{ قالوا أجئتنا لتلفتنا } لتردَّنا { عمَّا وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء } الملك والعزُّ { في الأرض } في أرض مصر .

فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)

{ إنَّ الله سيبطله } سيهلكه { إنَّ الله لا يصلح عمل المفسدين } لا يجعله ينفعهم .
{ ويحق الله الحق } ويظهره بالدَّلائل الواضحة { بكلماته } بوعده .
{ فما آمن لموسى إلاَّ ذرية من قومه } يعني : مَنْ آمن به من بني إسرائيل ، وكانوا ذريَّة أولاد يعقوب { على خوفٍ من فرعون ومَلَئِهِمْ } ورؤسائهم { أن يفتنهم } يصرفهم عن دينهم بمحنةٍ وبليَّةٍ يوقعهم فيها { وإنَّ فرعون لعالٍ } متطاولٌ { في الأرض } في أرض مصر { وإنه لمن المفسرين } حيث كان عبداً فادَّعى الرُّبوبيَّة .

فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)

{ لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } أَيْ : لا تُظهرهم علينا فيروا أنَّهم خيرٌ منا ، فيزدادوا طغياناً ويقولوا : لو كانوا على حقٍّ ما سُلِّطنا عليهم ، فَيُفتنوا .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)

{ وأوحينا إلى موسى وأخيه . . . } الآية . لمَّا أُرسل موسى صلوات الله عليه إلى فرعون أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فَخُرِّبت كلُّها ، ومُنعوا من الصَّلاة ، فأُمروا أن يتَّخذوا مساجد في بيوتهم ، ويصلُّوا فيها خوفاً من فرعون ، فذلك قوله : { تَبَوَّأا لقومكما } أَيْ : اتَّخذا لهم { بمصر بيوتاً } في دورهم { واجعلوا بيوتكم قبلة } أَيْ : صلُّوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف ، وقوله :
{ ربنا ليضلوا عن سبيلك } أَيْ : جعلت هذه الأموال سبباً لضلالهم؛ لأنَّهم بطروا ، فاستكبروا عن الإِيمان { ربنا اطمس على أموالهم } امسخها وأذهبها عن صورتها ، فصارت دراهمهم ودنانيرهم حجارةً منقوشةً صحاحاً وأنصافاً ، وكذلك سائر أموالهم { واشدُدْ على قلوبهم } اطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإِيمان { فلا يؤمنوا } دعاءٌ عليهم { حتى يروا العذاب الأليم } يعني : الغرق ، فاستجيب في ذلك ، فلم يؤمن فرعون حتى أدركه الغرق .

قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)

{ قال قد أجيبت دعوتكما } وذلك أنَّ موسى دعا ، وأمَّن هارون { فاستقيما } على الرِّسالة والدًّعوة { ولا تَتَّبِعَانِّ سبيل الذين لا يعلمون } لا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلا قضائي ، وقوله :
{ فأتبعهم فرعون وجنوده } طلبوا أن يلحقو بهم { بغياً } طلباً للاستعلاء بغير حقٍّ { وعدواً } ظلماً { حتى إذا أدركه الغرق } تلفَّظ بما أخبر الله عنه حين لم ينفعه ذلك ، لأنَّه رأى اليأس وعاينه ، فقيل له : { آلآن وقد عصيت قبل } أَيْ : آلآن تؤمن أو تتوب؟ فلمَّا أغرقه الله جحد بعض بني إسرائيل غَرَقَةُ ، وقالوا : هو أعظم شأناً من أن يغرق ، فأخرجه الله سبحانه من الماء حتى رأوه ، فذلك قوله :
{ فاليوم ننجيك } نخرجك من البحر بعد الغرق { ببدنك } بجسدك الذي لا روح فيه { لتكون لمَنْ خلفك آية } نكالاً وعبرةً { وإنَّ كثيراً من الناس } يريد : أهل مكَّة { عن آياتنا } عمَّا يراد بهم { لغافلون } .

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)

{ ولقد بوَّأنا بني إسرائيل مبوَّأ صدق } أنزلنا قريظة والنضير منزل صدقٍ ، أَيْ : محموداً مختاراً ، يريد : من أرض يثرب ، ما بين المدينة والشّام { ورزقناهم من الطيبات } من النَّخل والثِّمار ، ووسَّعنا عليهم الرِّزق { فما اختلفوا } في تصديق النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنَّه رسولٌ مبعوثٌ { حتى جاءهم العلم } حقيقةُ ما كانوا يعلمونه ، وهو محمَّد عليه السَّلام بنعته وصفته ، والقرآن ، وذلك أنَّهم كانوا يُخبرون عن زمانه ونبوَّته ، ويؤمنون به ، فلمَّّا أتاهم اختلفوا ، فكفر به أكثرهم .
{ فإن كنت في شك } هذا في الظَّاهر خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمراد به غيره من الشَّاكِّين في الدِّين ، وقوله : { فَاسْأَلِ الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } يعني : مَنْ آمن من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأصحابه ، فيشهدون على صدق محمد ، ويخبرون بنبوَّته وباقي الآية والتي تليها خطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره .

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)

{ إنَّ الذين حقت عليهم كلمة ربك } وجبت عليهم كلمة العذاب .
{ لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية } وذلك أنَّهم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالآيات حتى يؤمنوا ، فقال الله تعالى : { لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية حتى يروا العذاب الأليم } فلا ينفعهم حينئذٍ الإِيمان كما لم ينفع فرعون .
{ فلولا كانت قرية } أَيْ : فما كانت قريةٌ { آمنت فنفعها إيمانها } عند نزول العذاب { إلاَّ قوم يونس لما آمنوا } عند نزول العذاب { كشفنا عنهم عذاب الخزي } يعني : سخط الله سبحانه { ومتعناهم إلى حين } يريد : حين آجالهم ، وذلك أنَّهم لمَّا رأوا الآيات التي تدلُّ على قرب العذاب أخلصوا التَّوبة ، وترادُّوا المظالم ، وتضرَّعوا إلى الله تعالى ، فكشف عنهم العذاب .
{ ولو شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلهم جميعاً } الآية : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يؤمن جميع النَّاس ، فأخبره الله سبحانه أنَّه لا يؤمن إلاَّ من سبق له من الله السَّعادة ، وهو قوله :
{ وما كان لنفس أن تؤمن إلاَّ بإذن الله } أَيْ : إلاَّ بما سبق لها في قضاء الله وقدره { ويجعل الرجس } العذاب { على الذين لا يعقلون } عن الله تعالى أمره ونهيه وما يدعوهم إليه .
{ قل } للمشركين الذين يسألونك الآيات : { انظروا ماذا } [ أي : الذي أعظم منها ] { في السموات والأرض } من الآيات والعبر التي تدلُّ على وحدانيَّة الله سبحانه ، فيعلموا أنَّ ذلك كلَّه يقتضي صانعاً لا يشبه الأشياء ، ولا تشبهه ، ثمَّ بيَّن أنَّ الآيات لا تُغني عمَّن سبق في علم الله سبحانه أنَّه لا يؤمن فقال : { وما تغني الآيات والنذر } جمع نذير { عن قومٍ لا يؤمنون } يقول : الإنذار غير نافعٍ لهؤلاء .
{ فهل ينتظرون } أَيْ : يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك { إلاَّ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } إلاَّ مثل وقائع الله سبحانه فيمَنْ سلف قبلهم من الكفَّار .

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)

{ ثمَّ ننجي رسلنا والذين آمنوا } هذا إخبارٌ عن ما كان الله سبحانه يفعل في الأمم الماضية من إنجاء الرُّسل والمُصدِّقين لهم عما يعذِّب به مَنْ كفر { كذلك } أَيْ : مثل هذا الإِنجاء { ننج المؤمنين } بمحمَّد صلى الله عليه وسلم من عذابي .
{ قل يا أيها الناس } يريد : أهل مكَّة { إن كنتم في شك من ديني } الذي جئت به { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } أيْ : بشكِّكم في ديني لا أعبد غير الله { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } يأخذ أرواحكم ، وفي هذا تهديدٌ لهم؛ لأنَّ وفاة المشركين ميعاد عذابهم ، وقوله :
{ وأن أقم وجهك للدين حنيفاً } استقم بإقبالك على ما أُمرت به بوجهك .
{ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرُّك } أَيْ : شيئاً ما؛ لأنَّه لا يتحقق النَّفع والضَّرُّ إلاَّ من الله ، فكأنَّه قال : ولا تدع من دون الله شيئاً .
{ وإن يمسسك بضرٍّ } بمرضٍ وفقرٍ { فلا كاشف له } لا مزيل له { إلاَّ هو } ، { وإن يردك بخيرٍ } يرد بك الخير { فلا رادَّ لفضله } لا مانع لما تفضَّل به عليك من رخاءٍ ونعمةٍ { يصيب به } بكلَّ واحدٍ ممَّا ذُكر { من يشاء من عباده } .
{ قل يا أيها الناس } يعني : أهل مكَّة { قد جاءكم الحق } القرآن { من ربكم } وفيه البيان والشِّفاء { فمن اهتدى } من الضَّلالة { فإنما يهتدي لنفسه } يريد : مَنْ صدَّق محمَّداً عليه السَّلام فإنَّما يحتاط لنفسه { ومَنْ ضلَّ } بتكذيبه { فإنما يضلُّ عليها } إنَّما يكون وبال ضلاله على نفسه { وما أنا عليكم بوكيلٍ } بحفيظٍ من الهلاك حتى لا تهلكوا .
{ واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله } نسخته آية السَّيف؛ لأنَّ الله سبحانه حكم بقتل المشركين ، والجزية على أهل الكتاب .

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)

{ الر } أنا الله الرَّحمن { كتاب } هذا كتابٌ { أُحْكمتْ آياته } بعجيب النَّظم ، وبديع المعاني ورصين اللَّفظ { ثمَّ فصلت } بُيِّنت بالأحكام من الحلال والحرام ، وجميع ما يحتاج إليه من { لدن حكيم } في خلقه { خبير } بمَنْ يُصدِّق نبيَّه وبمَنْ يُكذِّبه .
{ ألا تعبدوا } أَيْ : بأن ، والتَّقدير : هذا كتابٌ بأن لا تعبدوا { إلاَّ الله } .
{ و } ب { أن استغفروا ربكم } أَيْ : من ذنوبكم السَّالفة { ثم توبوا إليه } من المستأنفة متى وقعت { يمتعكم متاعاً حسناً } يتفضَّل عليكم بالرِّزق والسِّعة { إلى أجل مسمى } أجل الموت { ويؤت كلَّ ذي فضلٍ فضله } يؤت كلَّ مَنْ فَضُلَت حسناته على سيئاته فضله؛ يعني : الجنَّة ، وهي فضل الله سبحانه { وإن تولوا } تتولَّوا عن الإِيمان { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } وهو يوم القيامة .

أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)

{ ألا إنهم يثنون صدورهم } نزلت في طائفةٍ من المشركين قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا ، وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم كيف يعلم ربُّنا؟ فأنزل الله تعالى : { ألا إنهم يثنون صدورهم } أَيْ : يعطفونها ويطوونها على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم { ليستخفوا منه } ليتواروا عنه ويكتموا عداوته { ألا حين يستغشون ثيابهم } يتدثَّرون بها { يعلم ما يسرون وما يعلنون } أعلم الله سبحانه أنَّ سرائرهم يعلمها كما يعلم مظهرهم { إنه عليم بذات الصدور } بما في النُّفوس من الخير والشَّرِّ .
{ وما من دابة } حيوانٍ يدبُّ { في الأرض إلاَّ على الله رزقها } فضلاً لا وجوباً { ويعلم مستقرها } حيث تأوي إليه { ومستودعها } حيث تموت { كلٌّ في كتاب مبين } يريد : اللَّوح المحفوظ ، والمعنى : أنَّ ذلك ثابتٌ في علم الله .
{ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } ذكرنا تفسيره في سورة الأعراف { وكان عرشه على الماء } يعني : قبل خلق السَّموات والأرض { ليبلوكم } أَيْ : خلقها لكم لكي يختبركم بالمصنوعات فيها من آياته؛ ليعلم إحسان المحسن وإساءة المسيء ، وهو قوله تعالى : { أيكم أحسن عملاً } أَيْ : أَعملُ بطاعة الله تعالى . { ولئن قلت } للكفَّار بعد خلق الله السَّموات والأرض وبيان قدرته { إنكم مبعوثون من بعد الموت } كذَّبوا بذلك وقالوا : { إن هذا إلاَّ سحر مبين } أَيْ : باطلٌ وخداعٌ .
{ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } إلى أجلٍ وحينٍ معلومٍ { ليقولَّن ما يحبسه } ما يحبس العذاب عنا؟ تكذيباً واستهزاء ، فقال الله سبحانه : { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم } إذا أخذتهم سيوف المسلمين لم تغمد عنهم حتى يُباد الكفر ، وتعلوَ كلمة الإِخلاص { وحاق } نزل وأحاط { بهم } جزاء { ما كانوا به يستهزئون } وهو العذاب والقتل .
{ ولئن أذقنا الإِنسان } يعني : الوليد بن المغيرة { منَّا رحمة } رزقاً { ثمَّ نزعناها منه إنَّه ليؤسٌ } مُؤْيَسٌ قانطٌ { كَفُور } كافرٌ بالنِّعمة . يريد : إنَّه لجهله بسعة رحمة الله يستشعر القنوط واليأس عند نزول الشِّدَّة .
{ ولئن أذقناه نعماء . . . } الآية . معناه : إنَّه يبطر فينسى حال الشِّدَّة ، ويترك حمد الله على ما صرف عنه ، وهو قوله : { ليقولنَّ ذهب السيئات عني } فارقني الضُّرُّ والفقر { إنه لفرحٌ فخورٌ } يُفاخر المؤمنين بما وسَّعَ الله عليه ، ثمَّ ذكر المؤمنين فقال :
{ إلاَّ الذين صبروا } والمعنى : لكن الذين صبروا على الشِّدَّة والمكاره { وعملوا الصالحات } في السَّراء والضرَّاء .

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

{ فعلك تاركٌ . . . } الآية . قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتابٍ ليس فيه سبُّ آلهتنا حتى نتَّبعك ، وقال بعضهم : هلاَّ اُنزل عليك مَلَكٌ يشهد لك بالنُّبوَّة والصِّدق ، أو تُعطى كنزاً تستغني به أنت وأتباعك ، فهمَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يدع سبَّ آلهتهم ، فأنزل الله تعالى : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } أَيْ : لعظيم ما يَرِدُ على قلبك من تخليطهم تتوهَّم أنَّهم يُزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربِّك { وضائق به صدرك أن يقولوا } أَيْ : ضائق صدرك بأن يقولوا { لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير } عليك أن تُنذرهم ، وليس عليك أن تأتيهم بما يقترحون { والله على كلِّ شيء وكيل } حافظٌ لكلِّ شيءٍ .
{ أم يقولون } بل أيقولون { افتراه } افترى القرآن وأتى به من قبل نفسه { قل فأتوا بعشر سورٍ مثله } مثل القرآن في البلاغة { مُفترياتٍ } بزعمكم { وادعوا من استطعتم من دون الله } إلى المعاونة على المعارضة { إن كنتم صادقين } أنَّه افتراه .
{ فإن لم يستجيبوا لكم } فإن لم يستجب لكم مَنْ تدعونهم إلى المعاونة ، ولم يتهيَّأ لكم المعارضة فقد قامت عليكم الحجَّة { فاعلموا أنما أُنْزِلَ بعلم الله } أَيْ : أُنزل والله عالمٌ بإنزاله ، وعالمٌ أنَّه من عنده { فهل أنتم مسلمون } استفهامٌ معناه الأمر ، كقوله : { فهل أنتم منتهون . }

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)

{ من كان يريد الحياة الدنيا } أَيْ : مَنْ كان يريدها من الكفَّار ، ولا يؤمن بالبعث ولا بالثَّواب والعقاب { نوف إليهم أعمالهم } جزاء أعمالهم في الدُّنيا . يعني : إنَّ مَنْ أتى من الكافرين فِعلاً حسناً من إطعام جائعٍ ، وكسوة عارٍ ، ونصرة مظلومٍ من المسلمين عُجِّل له ثواب ذلك في دنياه بالزِّيادة في ماله { وهم فيها } في الدُّنيا { لا يُبخسون } لا يُنقصون ثواب ما يستحقُّون ، فإذا وردوا الآخرة وردوا على عاجل الحسرة؛ إذ لا حسنة لهم هناك ، وهو قوله تعالى :
{ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاَّ النار . . . } الآية .
{ أفمن كان } يعني : النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم { على بيِّنة من ربه } بيانٍ من ربِّه ، وهو القرآن { ويتلوه شاهد } وهو جبريل عليه السَّلام { منه } من الله عزَّ وجلَّ . يريد أنَّه يتَّبعه ويؤيِّده ويشهده { ومن قبله } ومن قبل القرآن { كتاب موسى } التَّوراة يتلوه أيضاً في التَّصديق ، لأنّ موسى عليه السلام بَشّر به في التوراة ، فالتوراة تتلو النبي صلى الله عليه وسلم في التصديق ، وقوله : { إماماً ورحمة } يعني أنَّ كتاب موسى كان إماماً لقومه ورحمة ، وتقدير الآية : أفمَنْ كان بهذه الصِّفة كمَنْ ليس يشهد بهذه الصِّفة؟ فترك ذكر المضادِّ له . { أولئك يؤمنون به } يعني : مَنْ آمن به مِنْ [ أهل ] الكتاب { ومن يكفر به من الأحزاب } أصنافِ الكفَّار { فالنار موعده فلا تك في مِرْيةٍ منه } من هذا الوعد { إنَّه الحقُّ من ربك ولكنَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون } يعني : أهل مكَّة .
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } فزعم أنَّ له ولداً وشريكاً { أولئك يعرضون على ربهم } يوم القيامة { ويقول الأشهاد } وهم الأنبياء والملائكة والمؤمنون { هؤلاء الذين كَذَبوا على ربهم ألا لعنةُ اللَّهِ } إبعاده من رحمته { على الظالمين } المشركين .

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)

{ الذين يصدون عن سبيل الله } تقدَّم تفسير هذه الآية .
{ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } أَيْ : سابقين فائتين ، لم يعجزونا أن نعذِّبهم في الدُّنيا ، ولكن أخَّرْنا عقوبتهم { وما كان لهم من دون الله من أولياء } يمنعوهم من عذاب الله { يضاعف لهم العذاب } لإِضلالهم الأتباع { ما كانوا يستطيعون السمع } لأني حُلْتُ بينهم وبين الإِيمان ، فكانوا صُمَّاً عن الحقِّ فلا يسمعونه ، وعمياً عنه فلا يبصرونه ، ولا يهتدون .
{ أولئك الذين خسروا أنفسهم } بأن صاروا إلى النَّار { وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون } بطل افتراؤهم في الدُّنيا ، فلم ينفعهم شيئاً .
{ لا جرم } حقَّاً { أنهم في الآخرة هم الأخسرون } .
{ إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأَخْبَتُوا إلى ربهم } اطمأنُّوا وسكنوا ، وقيل : تابوا .
{ مثل الفريقين } فريق الكافرين وفريق المسلمين { كالأعمى والأصم } وهو الكافر { والبصيرِ والسميع } وهو المؤمن { هو يستويان مثلاً } أَيْ : في المَثل . أَيْ : هل يتشابهان؟ { أفلا تَذَكَّرون } أفلا تتعظون يا أهل مكَّة .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)

{ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } فقال [ لهم ] : يا قومي { إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلاَّ الله } أَيْ : أُنذركم لِتُوحِّدوا الله وتتركوا عبادة غيره { إني أخاف عليكم } بكفركم { عذاب يومٍ أليم } مؤلمٍ .
{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه } وهم الأشراف والرُّؤساء : { ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا } إنساناً مثلنا لا فضل لك علينا { وما نراك اتبعك إلاَّ الذين هم أراذلنا } أخسَّاؤنا . يعنون : مَنْ لا شرفَ لهم ولا مال { بادي الرأي } اتَّبعوك في ظاهر الرَّأي ، وباطنهم على خلاف ذلك { وما نرى لكم } يعنون لنوحٍ وقومه { علينا من فضل } وهذا تكذيبٌ منهم؛ لأنَّ الفضل كلَّه في النُّبوَّة { بل نظنُّكم كاذبين } ليس ما أتيتنا به من الله .
{ قال يا قوم أرأيتم } أَيْ : أعلمتم { إنْ كنت على بينة من ربي } يقينٍ وبرهانٍ { وآتاني رحمة من عنده } نُبوَّةً { فعميت عليكم } فخفيت عليكم؛ لأنَّ الله تعالى سلبكم علمها ، ومنعكم معرفتها لعنادكم الحقَّ { أنلزمكموها } أَنُلزمكم قبولها ونضطركم إلى معرفتها إذا كرهتم؟
{ ويا قوم لا أسألكم عليه } على تبليغ الرِّسالة { مالاً إن أجري إلاَّ على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا } سألوه طرد المؤمنين عنه ليؤمنوا به أنفةً من أن يكونوا معهم على سواء ، فقال : لا يجوز لي طردهم إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم ، ويأخذ لهم ممَّن ظلمهم وصغَّر شؤونهم ، وهو قوله : { إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون } أنَّ هؤلاء خيرٌ منكم؛ لإِيمانهم وكفركم .
{ ويا قوم مَنْ ينصرني من الله } مَنْ يمنعني من عذاب الله { إن طردتهم } ؟
{ ولا أقول لكم عندي خزائن الله } يعني : مفاتيح ، وهذا جوابٌ لقولهم : اتَّبعوك في ظاهرِ ما نرى منهم ، وهم في الباطن على خلافك ، فقال مجيباً لهم : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } غيوب الله { ولا أعلم الغيب } ما يغيب عني ممَّا يسترونه في نفوسهم ، فسبيلي قبول ما ظهر منهم { ولا أقول إني مَلَك } جوابٌ لقولهم : { ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا } { ولا أقول للذين تزدري } تستصغر وتستحقر { أعينكم } يعني : المؤمنين : { لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم } أَيْ : بضمائرهم ، وليس عليَّ أن أطَّلع على ما في نفوسهم { إني إذاً لمن الظالمين } إن طردتهم تكذيباً لهم بعد ما ظهر لي منهم الإِيمان .

وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

{ إن كان الله يريد أن يغويكم } أَيْ : يُضِلَّكم ويوقع الغيَّ في قلوبكم لما سبق لكم من الشَّقاء { هو ربكم } خالقكم وسيِّدكم ، وله أن يتصرَّف فيكم كما شاء .
{ أم يقولون } بل أيقولون { افتراه } اختلف ما أتى به من الوحي { قل إن افتريته فعليَّ إجرامي } عقوبة جرمي { وأنا بريء مما تجرمون } من الكفر والتَّكذيب .

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)

{ فلا تبتئس } أَيْ : لا تحزن ولا تغتم .
{ واصنع الفلك بأعيننا } بمرأى منا ، وتأويله : بحفظنا إيَّاك حفظ مَنْ يراك ، ويملك دفع السُّوء عنك { ووحينا } وذلك أنَّه لم يعلم صنعة الفلك حتى أوحى الله إليه كيف يصنعها { ولا تخاطبني } لا تراجعني ولا تحاورني { في الذين ظلموا } في إمهالهم وتأخير العذاب عنهم ، وقوله :
{ إن تسخروا منا } أَيْ : لما يرون من صنعه الفلك { فإنا نسخر منكم } ونعجب من غفلتكم عمَّا قد أظلَّكم من العذاب .
{ فسوف تعلمون مَنْ يأتيه عذابٌ يخزيه } أَيْ : فسوف تعلمون مَنْ أخسر عاقبةً .
{ حتى إذا جاء أمرنا } بعذابهم وهلاكهم { وفار التنور } بالماء ، يعني : تنُّور الخابز ، وكان ذلك علامةً لنوح عليه السَّلام ، فركب السَّفينة { قلنا احمل فيها } في الفلك { من كلّ زوجين } من كلِّ شيءٍ له زوج { اثنين } ذكراً وأنثى { وأهلك } واحمل أهلك يعني : ولده وعياله { إلاَّ مَنْ سبق عليه القول } يعني : مَنْ كان في علم الله أنَّه يغرق بكفره ، وهو امرأته واغلة ، وابنه كنعان ، { ومَنْ آمن } واحمل مَنْ صدَّقك { وما آمن معه إلاَّ قليل } ثمانون إنساناً .
{ وقال } نوحٌ لقومه الذين أُمر بحملهم : { اركبوا } يعني : الماء { فيها } في الفلك { بسم الله مجريها ومرساها } يريد : تجري باسم الله ، وترسي باسم الله ، فكان إذا أراد أن تجري السفينة قال : بسم الله ، فجرت ، وإذا أراد أن ترسي قال : بسم الله ، فَرَسَتْ ، أَيْ : ثبتت { إن ربي لغفور } لأصحاب السَّفينة { رحيم } بهم .
{ وهي تجري بهم في موج } جمع موجةٍ ، وهي ما يرتفع من الماء { كالجبال } في العِظَم { ونادى نوح ابنه } كنعان ، وكان كافراً { وكان في معزل } من السَّفينة ، أَيْ : في ناحيةٍ بعيدة عنها .
{ قال سآوي إلى جبل } أنضمُّ إلى جبلٍ { يعصمني } يمنعني { من الماء } فلا أغرق ، { قال } نوح : { لا عاصم اليوم من أمر الله } لا مانع اليوم من عذاب الله { إلاَّ مَنْ رحم } لكن مَنْ رحم الله فإنَّه معصوم { وحال بينهما } بين ابن نوحٍ وبين الجبل { الموج } ما ارتفع من الماء .
{ وقيل يا أرض ابلعي ماءك } اشربي ماءك { ويا سماء أقلعي } أمسكي عن إنزال الماء { وغيض الماء } نقص { وقضي الأمر } أُهلك قوم نوحٍ ، وفُرِغ من ذلك { واستوت } السَّفينة { على الجودي } وهو جبل بالجزيرة { وقيل : بعداً } من رحمة الله { للقوم الظالمين } المتَّخذين من دون الله آلهاً .

وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)

{ ونادى نوح ربَّه فقال ربِّ إنَّ ابني } كنعان { من أهلي وإنَّ وعدك الحق } وعدتني أن تنجيني وأهلي ، أَيْ : فأنجه من الغرق { وأنت أحكم الحاكمين } أعدل العادلين .
{ قال يا نوح إنه ليس من أهلك } الذين وعدتك أن أُنجيهم { إنه عمل غير صالح } أيْ : سؤالك إيَّاي أن أنجي كافراً عملٌ غير صالح ، وقيل : معناه : إنَّ ابنك ذو عملٍ غير صالحٍ { فلا تسألني ما ليس لك به علم } وذلك أنَّ نوحاً لم يعلم أنَّ سؤاله ربَّه نجاةَ ولدِه محظورٌ عليه مع إصراره على الكفر ، حتى أعلمه الله سبحانه ذلك ، والمعنى : فلا تسألني ما ليس لك به علمٌ بجواز مسألته { إني أعظك } أنهاك { أن تكون من الجاهلين } من الآثمين ، فاعتذر نوحٌ عليه السَّلام لمَّا أعلمه الله سبحانه أنَّه لا يجوز له أن يسأل ذلك وقال :
{ ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاَّ تغفر لي } جهلي { وترحمني أكن من الخاسرين } .
{ قيل يا نوح اهبط } من السَّفينة إلى الأرض { بسلامٍ } بسلامةٍ . وقيل : بتحيَّةٍ { منا وبركات عليك } وذلك أنَّه صار أبا البشر؛ لأنَّ جميع مَن بقي كانوا من نسله { وعلى أمم ممن معك } أَيْ : من أولادهم وذراريهم ، وهم المؤمنون وأهل السَّعادة إلى يوم القيامة { وأمم سنمتعهم } في الدُّنيا . يعني : الأمم الكافرة من ذريَّته لى يوم القيامة .

تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)

{ تلك } القصَّة التي أخبرتك بها { من أنباء الغيب } أخبار ما غاب عنك وعن قومك { فاصبر } كما صبر نوح على أذى قومه { إنَّ العاقبة للمتقين } آخر الأمر بالظَّفر لك ولقومك ، كما كان [ لمؤمني ] قوم نوحٍ ، وقوله :
{ إن أنتم إلاَّ مفترون } ما أنتم إلاَّ كاذبون في إشراككم الأوثان .

وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)

{ يرسل السماء عليكم مدراراً } كثير الدَّرِّ . يعني : المطر { ويزدكم قوة إلى قوتكم } يعني : المال والولد ، وكان الله سبحانه قد حبس عنهم المطر ثلاث سنين ، وأعقم أرحام نسائهم ، فقال لهم هود : إن آمنتم أحيا الله سبحانه بلادكم ، ورزقكم المال والولد .
{ قالوا } مُنكرين لنبوَّته : { يا هود ما جئتنا ببينة } بحجَّةٍ واضحةٍ ، وقوله : { اعتراك } أصابك ومسَّك { بعض آلهتنا بسوء } بجنونٍ فأفسد عقلك ، فالذي يظهر مِنْ عيبها لما لحق عقلك من التَّغيير { قال } نبيُّ الله عليه السَّلام عند ذلك : { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون } أَيْ : إن كانت عندكم الأصنام أنَّها عاقبتني لطعني عليها ، فإني أزيد الآن في الطَّعن عليها ، وقوله :
{ فيكدوني جميعاً } احتالوا أنتم وأوثانكم في عداوتي { ثم لا تنظرون } لا تُؤجِّلون .

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)

{ ما من دابة إلاَّ هو آخذٌ بناصيتها } أَيْ : هي في قبضته ، وتنالها بما شاء قدرته { إنَّ ربي على صراط مستقيم } أَيْ : إنَّ الذي بعثني الله به دينٌ مستقيمٌ .
{ فإن تولوا } تتولَّوا ، بمعنى : تُعرضوا عمَّا دعوتكم إليه من الإِيمان { فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم } فقد ثبتت الحُجَّة عليكم بإبلاغي { ويستخلف ربي قوماً غيركم } أَيْ : ويخلف بعدكم مَنْ هو أطوعُ له منكم { ولا تضرونه } بإعراضكم { شيئاً } إنَّما تضرُّون أنفسكم { إنَّ ربي على كل شيء } من أعمال العباد { حفيظ } حتى يجازيهم عليها .
{ ولما جاء أمرنا } بهلاك عادٍ { نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمةٍ منا } حيث هديناهم إلى الإِيمان ، وعصمناهم من الكفر { ونجيناهم من عذاب غليظ } يعني : ما عُذِّب به الذين كفروا .
{ وتلك عاد } يعني : القبيلة { جحدوا بآيات ربهم } كذَّبوها فلم يُقِرّوا بها { وعصوا رسله } يعني : هوداً عليه السَّلام؛ لأنَّ مَنْ كذَّب رسولاً واحداً فقد كفر بجميع الرُّسل { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } واتَّبع السَّفلةُ الرُّؤساءَ . والعنيد : المعارضُ لك بالخلاف .
{ وأُتْبِِعُوا في هذه الدنيا لعنةً } أُردفوا لعنةً تلحقهم وتنصرف معهم { ويوم القيامة } أَيْ : وفي يوم القيامة ، كما قال : { لعنوا في الدنيا والآخرة } { ألاَ إنَّ عاداً كفروا ربهم } قيل : بربِّهم . وقيل : كفروا نعمة ربِّهم { ألا بعداً لعاد } يريد : بعدوا من رحمة الله تعالى ، وقوله :
{ وهو أنشأكم } أَيْ : خلقكم { من الأرض } من آدم ، وآدم خُلق من تراب الأرض { واستعمركم فيها } جعلكم عمَّاراً لها .
{ قالوا يا صالح قد كنتَ فينا مَرْجُوّاً قبل هذا } وذلك أنَّ صالحاً عليه السَّلام كان يعدل عن دينهم ، ويشنأ أصنامهم ، وكانوا يرجون رجوعه إلى دين عشيرته ، فلمَّا أظهر دعاءهم إلى الله تعالى زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه ، وقوله { مريب } موقعٍ في الرِّيبة .
{ قال يا قوم أرأيتم . . . } الآية . يقول : أعلمتم مَنْ ينصرني من الله ، أَيْ : مَنْ يمنعني من عذاب الله إن عصيته بعد بيِّنةٍ من ربِّي ونعمةٍ { فما تزيدونني غير تخسير } أَيْ : ما تزيدونني باحتجاجكم بعبادة آبائكم الأصنام ، [ وقولكم ] : { أتنهانا أن نعبدَ ما يعبدُ آباؤُنا } إلاَّ بنسبتي إيَّاكم إلى الخسارة ، أَيْ : كلَّما اعتذرتم بشيءٍ زادكم تخسيراً . وقيل : معنى الآية : ما تزيدونني غير تخسيرٍ [ لي ] إن كنتم أنصاري ، ومعنى التَّخسير : التَّضليل والإِبعاد من الخير .

فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)

{ تمتعوا في داركم } أَيْ : عيشوا في بلادكم { ثلاثة أيام ذلك وعدٌ } للعذاب { غير مكذوب } [ غير كذبٍ ] ، وقوله :
{ ومن خزي يومئذٍ } أَيْ : نجَّيناهم من العذاب الذي أهلك قومه ، ومن الخزي الذي لزمهم ، وبقي العارُ فيهم مأثوراً عنهم ، فالواوُ في { ومِنْ } نسقٌ على محذوف ، وهو العذاب .
{ وأخذ الذين ظلموا الصيحة } لمَّا أصبحوا اليوم الرَّابع أتتهم صيحةٌ من السَّماء فيها صوت كلِّ صاعقةٍ ، وصوت كلِّ شيء في الأرض ، فتقطَّعت قلوبهم في صدورهم .

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)

{ ولقد جاءت رسلنا } يعني : الملائكة الذين أتوا { إبراهيم } عليه السَّلام على صورة الأضياف { بالبشرى } بالبشارة بالولد { قالوا سلاماً } أَيْ : سلِّموا سلاماً { قال سلامٌ } أَيْ : عليكم سلامٌ { فما لبث أن جاء بعجل حنيذٍ } مشويٍّ .
{ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه } إلى العجل { نكرهم } أنكرهم { وأوجس منهم خيفة } أضمر منهم خوفاً ، ولم يأمن أن يكونوا جاؤوا لبلاءٍ لمَّا لم يتحرَّموا بطعامه ، فلمَّا رأوا علامة الخوف في وجهه { قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط } بالعذاب .

وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)

{ وامرأته } سارة { قائمة } وراء السِّتر تتسمَّع إلى الرُّسل { فضحكت } سروراً بالأمن حيث قالوا : { إنا أُرسلنا إلى قوم لوط } ، وذلك أنَّها خافت كما خاف إبراهيم عليه السَّلام ، فقيل لها : يا أيتها الضَّاحكة ستلدين غلاماً ، فذلك قوله : { فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق } أَيْ : بعده { يعقوب } [ عليهما السَّلام ] . وذلك أنَّهم بشَّروها بأنَّها تعيش إلى أن ترى ولد ولدها .
{ قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز } وكانت بنت تسع وتسعين سنةً { وهذا بعلي شيخاً } وكان ابن مائة سنة [ واثنتي عشرة سنة ] { إنَّ هذا } الذي [ تذكرون ] من ولادتي على كبر سنِّي وسنِّ بعلي { لشيء عجيب } معجب .
{ قالوا أتعجبين من أمر الله } قضاء الله وقدره { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } يعني : بيت إبراهيم عليه السَّلام ، فكان من تلك البركات أنَّ الأسباط ، وجميع الأنبياء كانوا من إبراهيم وسارة ، وكان هذا دعاءً من الملائكة لهم ، وقوله : { إنّه حميدٌ } أَيْ : محمودٌ في أفعاله { مجيد } كريمٌ .
{ فلما ذهب عن إبراهيم الروع } الفزع { وجاءته البشرى } بالولد { يجادلنا } أَيْ : أقبل وأخذ يجادل رسلنا { في قوم لوط } وذلك أنَّهم لما قالوا لإِبراهيم عليه السَّلام : { إنَّا مهلكو أهلِ هذه القرية } قال لهم : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا : لا . قال : فأربعون؟ قالوا : لا ، فما زال ينقص حتى قال : فواحدٌ؟ قالوا : لا ، فاحتجَّ عليهم بلوط ، و { قال : إنَّ فيها لوطاً قالوا : نحن أعلم . . } الآية . فهذا معنى جداله ، وعند ذلك قالت الملائكة :
{ يا إبراهيم أعرض عن هذا } الجدال ، وخرجوا من عنده فأتوا قرية قوم لوطٍ .

يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

{ يا إبراهيم أعرض عن هذا } الجدال ، وخرجوا من عنده فأتوا قرية قوم لوطٍ ، وذلك قوله :
{ ولما جاءت رسلنا لوطاً سِيءَ بهم } حزن بمجيئهم؛ لأنَّه رآهم في أحسن صورةٍ ، فخاف عليهم قومه ، وعلم أنَّه يحتاج إلى المدافعة عنهم ، وكانوا قد أتوه في صورة الأضياف { وضاق بهم ذرعاً } أَيْ : صدراً { وقال هذا يوم عصيب } شديدٌ . ولمَّا علم قومه بمجيء قومٍ حسانِ الوجوه أضيافاً للوط قصدوا داره ، وذلك ، قوله :
{ وجاء قومه يهرعون إليه } أَيْ : يُسرعون إليه { ومن قبل } أَيْ : ومِنْ قبل مجيئهم إلى لوطٍ { كانوا يعملون السيئات } يعني : فعلهم المنكر { قال يا قومِ هؤلاء بناتي } أُزوِّجكموهنَّ ف { هنَّ أَطْهَرُ لكم } من نكاح الرِّجال . أراد أن يقي أضيافه ببناته { فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي } لا تفضحوني فيهم؛ لأنَّهم إذا هجموا إلى أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة { أليس منكم رجل رشيد } يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
{ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } لَسْنَ لنا بأزواجٍ فنستحقهنَّ { وإنك لتعلم ما نريد } أَيْ : إنَّا نريد الرِّجال لا النِّساء .
{ قال لو أنَّ لي بكم قوَّة } لو أنَّ معي جماعةً أقوى بها عليكم { أو آوي } أنضمُّ { إلى ركن شديد } عشيرةٍ تمنعني وتنصرني لَحُلْتُ بينكم وبين المعصية ، فلمَّا رأت الملائكة ذلك ،
{ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } بسوءٍ فإنَّا نحولُ بينهم وبين ذلك { فأسرِ بأهلك بقطع الليل } في ظلمة اللَّيل { ولا يلتفت منكم أحد } لا ينظر أحدٌ إلى ورائه إذا خرج من قريته { إلاَّ امرأتك } فلا تسرِ بها ، وخلِّفها مع قومها؛ فإنَّ هواها إليهم و { إنَّه مصيبها ما أصابهم } من العذاب { إنَّ موعدهم الصبح } للعذاب ، فقال لوط : أريد أعجلَ من ذلك ، بل السَّاعةَ يا جبريل ، فقالوا له : { أليس الصبح بقريب } .
{ فلما جاء أمرنا } عذابنا { جعلنا عاليها سافلها } وذلك أنَّ جبريل عليه السَّلام أدخل جناحه تحتها حتى قلعها ، وصعد بها إلى السَّماء ، ثمَّ قلبها إلى الأرض { وأمطرنا عليها حجارة } قبلَ قلبها إلى الأرض { من سجيل } من طينٍ مطبوخٍ ، طُبخ حتى صار كالآجر ، فهو سنك كل بالفارسية ، فَعُرِّب ، { منضود } يتلو بعضه بعضاً .
{ مسوَّمة } مُعلَّمةً بعلامةٍ تُعرف بها أنَّها ليست من حجارة أهل الدُّنيا { عند ربك } في خزائنه التي لا يُتصرَّف في شيءٍ منها إلاَّ بإرادته { وما هي من الظالمين ببعيد } يعني : كفَّار قريش ، يُرهبهم بها .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)

{ وإلى مدين } ذكرنا تفسير هذه الآية في سورة الأعراف ، وقوله : { إني أراكم بخير } يعني : النِّعمة والخصب ، يقول : أيُّ حاجةٍ بكم إلى التَّطفيف مع ما أنعم الله سبحانه به عليكم من المال ورخص السِّعر { وإني أخاف عليكم عذاب يومٍ محيط } يُوعدهم بعذابٍ يُحيط بهم فلا يفلت منهم أحدٌ .
{ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط } أَتِمّوهما بالعدل .
{ بقية الله } أَيْ : ما أبقى الله لكم بعد إيفاء الكيل والوزن { خير لكم } من البخس ، يعني : من تعجيل النَّفع به { إن كنتم مؤمنين } [ مُصدِّقين ] في نعمه .
شَرَطَ الإِيمانَ لأنَّهم إنَّما يعرفون صحَّة ما يقول إذا كانوا مؤمنين { وما أنا عليكم بحفيظ } أَيْ : لم أُؤمر بقتالكم وإكراهكم على الإِيمان .
{ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } يريدون : دينُك يأمرك ، أَيْ : أفي دينك الأمر بذا؟ { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } من البخس والظُّلم ، ونقص المكيال والميزان { إنك لأنت الحليم الرشيد } أيْ : السَّفيه الجاهل ، وقالوا : الحليم الرَّشيد على طريق الاستهزاء .
{ قال يا قوم أرأيتم } أعلمتم { إن كنت على بينة من ربي } بيانٍ وحجَّةٍ من ربي { ورزقني منه رزقاً حسناً } حلالاً ، وذلك أنَّه كان كثير المال ، وجواب " إنْ " محذوف على معنى : إنْ كنت على بيِّنةٍ من ربي ورزقني المال الحلال أتَّبع الضَّلال فأبخس وأُطفف؟ يريد : إنَّ الله تعالى قد أغناه بالمال الحلال ، { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } أَيْ : لست أنهاكم عن شيءٍ وأدخل فيه ، وإنَّما أختار لكم ما أختار لنفسي { إن أريد } ما أريد { إلاَّ الإصلاح } فيما بيني وبينكم بأن تعبدوا الله وحده ، وأَنْ تفعلوا ما يفعل مَنْ يخاف الله { ما استطعت } أَيْ : بقدر طاقتي ، وطاقة الإِبلاغ والإِنذار ، ثمَّ أخبر أنَّه لا يقدر هو ولا غيره على الطَّاعة إلاَّ بتوفيق الله سبحانه ، فقال : { وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب } أرجع في المعاد .
{ ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي } لا يكسبنَّكم خلافي وعداوتي { أن يصيبكم } عذاب العاجلة { مثل ما أصاب قوم نوحٍ } من الغرق { أو قوم هود } من الرِّيح العقيم { أو قوم صالح } من الرَّجفة والصِّيحة { وما قوم لوط منكم ببعيد } في الزَّمان الذي بينكم وبينهم وكان إهلاكهم أقربَ الإِهلاكات التي عرفوها .
{ واستغفروا ربكم } اطلبوا منه المغفرة { ثمَّ توبوا إليه } توصَّلوا إليه بالتَّوبة { إنَّ ربي رحيم } بأوليائه { ودودٌ } محبٌّ لهم .

قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

{ قالوا يا شعيب ما نفقه } [ ما نفهم ] { كثيراً مما تقول } أَيْ : صحَّته . يعنون : ما يذكر من التَّوحيد والبعث والنُّشور { وإنا لنراك فينا ضعيفاً } لأنَّه كان أعمى { ولولا رهطك } عشيرتك { لرجمناك } قتلناك { وما أنت علينا بعزيز } بمنيعٍ .
{ قال يا قوم أرهطي أعزُّ عليكم من الله } يريد : أمنع عليكم من الله ، كأنَّه يقول : حفظكم إيَّاي في الله أولى منه في رهطي { واتَّخذتموه وراءكم ظهرياً } ألقيتموه خلف ظهوركم ، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي ، والله أعزُّ وأكبر من جميع خلقه { إنَّ ربي بما تعملون محيط } خبيرٌ بأعمال العباد حتى يجازيهم بها ، ثمَّ هدَّدهم فقال :
{ ويا قوم اعملوا . . . } الآية . يقول : اعملوا على ما أنتم عليه { إني عاملٌ } على ما أنا عليه من طاعة الله ، وسترون منزلتكم من منزلتي ، وهو قوله : { سوف تعلمون مَنْ يأتيه عذاب يخزيه } يفضحه ويذله { ومَنْ هو كاذب } منَّا { وارتقبوا إني معكم رقيب } ارتقبوا العذاب من الله سبحانه ، إنِّي مرتقب من الله سبحانه الرَّحمة ، وقوله :
{ وأخذت الذين ظلموا الصيحة } صاح بهم جبريل صيحةً فماتوا في أمكنتهم .
{ ألا بعداً لمدين } أَيْ : قد بعدوا من رحمة الله سبحانه .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)

{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } يريد : التَّوراة وما أنزل الله فيها من الأحكام { وسلطان مبين } وحجَّةٍ بيِّنةٍ ، وهي العصا .
{ وما أمر فرعون برشيد } بمرشدٍ إلى خيرٍ .
{ يقدم قومه } يتقدَّمهم إلى النَّار ، وهو قوله : { فأوردهم النار } أدخلهم النار { وبئس الورد المورود } المدخل المدخول .
{ وأُتْبِعُوا في هذه } الدُّنيا { لعنة } يعني : الغرق { ويوم القيامة } يعني : ولعنة يوم القيامة ، وهو عذاب جهنَّم { بئس الرفد المرفود } يعني : اللَّعنة بعد اللَّعنة ، وقوله :
{ منها قائمٌ وحصيد } أَيْ : من القرى التي أُهلكت قائمٌ بقيت حيطانه ، وحصيدٌ مخسوفٌ به قد مُحي أثره .
{ وما ظلمناهم } بالعذاب والإِهلاك { ولكن ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعصية { فما أغنت عنهم } ما نفعتهم وما دفعت عنهم { آلهتهم التي يدعون } يعبدون { من دون الله } سوى الله { وما زادوهم } وما زادتهم عبادتها { غير تتبيب } بلاءٍ وهلاكٍ وخسارةٍ .
{ وكذلك } وكما ذكرنا من أهلاك الأمم { أخذ ربك } بالعقوبة { إذا أخذ القرى وهي ظالمة } يعني : أهلها .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)

{ إنَّ في ذلك } يعني : ما ذكر من عذاب الأمم الخالية { لآية } لعبرةً { لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس } لأنَّ الخلق كلهم يحشرون ويجمعون لذلك اليوم { وذلك يوم مشهود } يشهده البرُّ والفاجر .
{ وما نؤخره } وما نؤخِّر ذلك اليوم فلا نُقيمه عليكم { إلاَّ لأجلٍ معدود } لوقتٍ معلومٍ ، ولا يعلمه أحدٌ غير الله سبحانه .
{ يوم يأتِ } ذلك اليوم { لا تكلم نفس إلا بإذنه ، فمنهم شقيٌّ وسعيد } فمن الأنفس في ذلك اليوم شقيٌّ وسعيدٌ .
{ فأمَّا الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق } وهما من أصوات المكروبين والمحزونين ، والزَّفير مثل أوَّل نهيق الحمار ، والشَّهيق آخره إذا ردَّده في الجوف .
{ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } أبداً ، وهذا من ألفاظ التأبيد { إلاَّ ما شاء ربك } أن يُخرجهم ، ولكنَّه لا يشاء ذلك ، والمعنى : لو شاء أن لا يخلِّدهم لقدر . وقيل : إلاَّ ما شاء ربك . يعني : إلاَّ مقدار مكثهم في الدُّنيا والبرزخ والوقوف للحساب ، ثمَّ يصيرون إلى النَّار أبداً ، وقوله :
{ عطاء غير مجذوذ } أَيْ : مقطوعٍ .
{ فلا تك } يا محمَّدُ { في مرية } شكٍّ { ممَّا يعبد هؤلاء } أيْ : مِن حال ما يعبدون في أنَّها لا تضرُّ ولا تنفع { ما يعبدون إلاَّ كما آباؤهم من قبل } أَيْ : كعبادة آبائهم ، يريد : إنَّهم على طريق التَّقليد يعبدون الأوثان كعبادة آبائهم { وإنا لموفوهم نصيبهم } من العذاب { غير منقوص } .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)

{ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } هذه الآية تعزيةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وتسليةٌ له باختلاف قوم موسى في كتابه { ولولا كلمة سبقت من ربك } بتأخير العذاب عن قومك { لَقُضي بينهم } لَعُجِّل عقابهم ، وفُرِغَ من ذلك { وإنهم لفي شك منه } من القرآن { مريب } موقعٍ للرِّيبة .
{ وإنَّ كلاًّ } من البرِّ والفاجر ، والمؤمن والكافر { لما } يعني : لمَنْ ، في قول الفرَّاء ، وفي قول البصريين " ما " زائدة ، والمعنى : وإنَّ كلاً { ليوفينهم ربك أعمالهم } أَيْ : ليتمنَّ لهم جزاء أعمالهم .
{ فاستقم } على العمل بأمر ربك والدُّعاء إليه { كما أمرت } في القرآن { ومن تاب معك } يعني : أصحابه ، أَيْ : وليستقيموا هم أيضاً على ما أُمروا به { ولا تَطْغَوا } تواضعوا لله ولا تتجبَّروا على أحدٍ { إنه بما تعملون بصير } لا تخفى عليه أعمال بني آدم .
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } لا تُداهنوهم ولا ترضوا بأعمالهم ، يعني : الكفَّار { فتمسكم النار } فيصيبكم لفحها { وما لكم من دون الله من أولياء } من مانع يمنعكم من عذاب الله { ثم لا تنصرون } استئنافٌ .

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)

{ وأقم الصلاة طرفي النهار } بالصبح والمغرب { وزلفاً من الليل } صلاة العشاء قرب أوَّل الليل ، والزُّلف : أوَّل ساعات اللَّيل . وقيل : صلاة طرفي النَّهار : الفجر والظُّهر والعصر ، وأمَّا المغرب والعشاء فإنَّهما من صلاة زلف اللَّيل . { إن الحسنات يذهبن السيئات } إنَّ الصَّلوات الخمس تكفِّر ما بينها من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر { ذلك ذكرى } أَيْ : هذه موعظةٌ { للذاكرين } .
{ واصبر } على الصَّلاة { فإنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين } يعني : المُصلِّين .
{ فلولا كان من القرون من قبلكم } أَيْ : ما كان منهم { أولوا بقية } دينٍ وتميزٍ وفضلٍ { ينهون عن الفساد في الأرض } عن الشِّرك والاعتداء في حقوق الله والمعصية { إلاَّ قليلاً } لكن قليلاً { ممن أنجينا منهم } وهم أتباع الأنبياء وأهل الحقِّ ، نهوا عن الفساد { واتَّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه } آثروا الَّلذات على أمر الآخرة ، وركنوا إلى الدُّنيا والأموال وما أُعطوا من نعيمها .
{ وما كان ربك ليهلك القرى } أَيْ : أهلها { بظلمٍ } بشركٍ { وأهلها مصلحون } فيما بينهم ، أَيْ : ليس من سبيل الكفَّار إذا قصدوا الحقَّ في المعاملة أن يُنزِّل اللَّهُ بهم عذاب الاستئصال ، كقوم لوطٍ عُذِّبوا باللِّواط ، وقوم شعيب عُذِّبوا ببخس المكيال .
{ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } مسلمين كلَّهم { ولا يزالون مختلفين } في الأديان .

إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

{ إلاَّ من رحم ربك } يعني : أهل الحقِّ { ولذلك خلقهم } أَيْ : خلق أهل الاختلاف للاختلاف ، وأهل الرَّحمة للرَّحمة .
{ وكلاًّ نقصُّ عليك } أَيْ : كلَّ الذي تحتاج إليه { من أنباء الرسل } نقصُّ عليك { ما نثبت به فؤادك } ليزيدك يقيناً { وجاءك في هذه } أَيْ : في هذه السُّورة { الحق } يعني : ما ذُكر من أقاصيص الأنبياء ومواعظهم ، وذكر السَّعادة والشَّقاوة ، وهذا تشريفٌ لهذه السُّورة؛ لأنَّ غيرها من السُّور قد جاء فيها الحقُّ { وموعظة وذكرى للمؤمنين } يتَّعظون إذا سمعوا هذه السُّورة ، وما نزل بالأمم لمَّا كذَّبوا أنبياءهم .
{ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم } أمر تهديد ، أَيْ : اعملوا ما أنتم عاملون .
{ وانتظروا } ما يعدكم الشَّيطان { إنَّا منتظرون } ما يعدنا ربُّنا من النَّصر .
{ ولله غيب السموات والأرض } أَيْ : علم ما غاب عن العباد فيهما { وإليه يرجع الأمر كله } في المعاد حتى لا يكون لأحدٍ سواه أمرٌ { وما ربك بغافل عما يعملون } أَيْ : إنَّه يجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءَته .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)

{ الر } أنا الله الرَّحمن { تلك } هذه { آيات الكتاب المبين } للحلال والحرام ، والأحكام ، يعني : القرآن .
{ إنا أنزلناه } يعني : الكتاب { قرآنا عربياً } بلغة العرب { لعلكم تعقلون } كي تفهموا .
{ نحن نقصُّ عليك أحسن القصص } نبيِّن لك أحسن البيان { بما أوحينا } بإيماننا { إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } وما كنتَ من قبل أن يُوحى إليك إلاَّ من الغافلين .
{ إذ قال } اذكر إذ قال { يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم . . . } الآية . رأى يوسف عليه السَّلام هذه الرُّؤيا ، فلمَّا قصَّها على أبيه أشفق عليه من حسد إخوته له ، فقال :
{ يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً } يحتالوا في هلاكك؛ لأنهم لا يعلمون تأويلها .
{ وكذلك } ومثل ما رأيت { يجتبيك ربك } يصطفيك ويختارك { ويعلمك من تأويل الأحاديث } تعبير الأحلام { ويتم نعمته عليك } بالنبُّوَّة { وعلى آل يعقوب } يعني : المُختَصِّين منهم بالنُّبوَّة { على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إنَّ ربك عليم } حيث يضع النبوَّة { حكيم } في خلقه .
{ لقد كان في يوسف وإخوته } أَيْ : في خبرهم وقصصهم { آيات } عبرٌ وعجائبُ { للسائلين } الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأخبرهم بها وهو غافلٌ عنها لم يقرأ كتاباً ، فكان في ذلك أوضح دلالةٍ على صدقه .
{ إذ قالوا } يعني : إخوة يوسف : { ليوسفُ وأخوه } لأبيه وأُمِّه { أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبة } جماعةٌ { إنَّ أبانا لفي ضلالٍ مبين } ضلَّ بإيثاره يوسف وأخاه علينا . ضلالٍ : خطأ .
{ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً } في أرضٍ يبعد فيها عن أبيه { يخلُ لكم وجه أبيكم } يُقبل بكليته عليكم { وتكونوا من بعده قوماً صالحين } تُحدثوا توبةً بعد ذلك يقبلها الله سبحانه منكم .

قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)

{ قال قائل منهم } وهو يهوذا أكبر إخوته : { لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب } في موضعٍ مظلمٍ من البئر لا يلحقه نظر النَّاظرين { يلتقطه بعض السيارة } مارَّة الطَّريق { إن كنتم فاعلين } ما قصدتم من التًّفريق بينه وبين أبيه ، فلمَّا تآمروا بينهم ذلك وعزموا على طرحه في البئر .
{ قالوا } لأبيهم : { مالك لا تأمنا على يوسف } لِمَ تخافنا عليه؟ { وإنا له لناصحون } في الرَّحمة والبرِّ والشَّفقة .
{ أرسله معنا غداً } إلى الصَّحراء { نرتعْ ونلعبْ } نسعى وننشط { وإنا له لحافظون } من كلِّ ما تخافه عليه .
{ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به } ذهابكم به يحزنني؛ لأنَّه يفارقني ، فلا أراه { وأخاف أن يأكله الذئب } وذلك أنَّ أرضهم كانت مذأبة { وأنتم عنه غافلون } مشتغلون برعيتكم .
{ قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة } جماعةٌ بحضرته { إنا إذاً لخاسرون } لعاجزون .
{ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه غيابت الجب } وعزموا على ذلك أوحينا إلى يوسف في البئر تقويةً لقلبه : لتصدقنَّ رؤياك ولَتُخبِرِنَّ إخوتك بصنيعهم هذا بعد هذا اليوم { وهم لا يشعرون } بأنَّك يوسف في وقت إخبارك إيَّاهم .

قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)

{ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق } نشتدُّ ونعدو ليتبيَّن أيُّنا أسرع عَدْواً { وتركنا يوسف عند متاعنا } ثيابنا { فأكله الذئب وما أنت بمؤمنٍ لنا } بمصدِّق لنا { ولو كنَّا صادقين } في كلِّ الأشياء لأنَّك اتَّهمتنا في هذه القصَّة .
{ وجاؤوا على قميصه بدم كذب } لأنَّه لم يكن دمه ، إنَّما كان دم سخلةٍ { قال } يعقوب عليه السَّلام : { بل } أَيْ : ليس كما تقولون { سوَّلت لكم } زيَّنت لكم { أنفسكم } في شأنه { أمْراً } غير ما تصفون { فصبر } أَيْ : فشأني صبرٌ { جميل } وهو الذي لا جزع فيه ولا شكوى { والله المستعان على ما تصفون } أَيْ : به أستعين في مكابدة هذا الأمر .
{ وجاءت سيارة } رفقةٌ تسير للسَّفر { فأرسلوا واردهم } وهو الذي يرد الماء ليستقي للقوم { فأدلى دلوه } أرسلها في البئر ، فَتَشَبَّثَ يوسف عليه السَّلام بالرِّشاء فأخرجه الوارد ، فلمَّا رآه { قال يا بشرى } أَيْ : يا فرحتا { هذا غلام وأسروه بضاعة } أسرَّه الوارد ومَنْ كان معه من التُّجار من غيرهم ، وقالوا : هذه بضاعةٌ استبضعها بعض أهل الماء { والله عليم بما يعملون } بيوسف ، فلمَّا علم إخوته ذلك أتوهم ، وقالوا : هذا عبدٌ آبقٌ منَّا ، فقالوا لهم : فبيعوناه ، فباعوه منهم ، وذلك قوله : { وشروه بثمن بخسٍ } حرامٍ؛ لأنَّ ثمن الحُرِّ حرامٌ { دراهم معدودة } باثنين وعشرين درهماً { وكانوا } يعني : إخوته { فيه } في يوسف { من الزاهدين } لم يعرفوا موضعه من الله سبحانه وكرامته عليه .

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)

{ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته } وهو العزيز صاحب ملك مصر : { أكرمي مثواه } أحسني إليه طول مقامه عندنا { عسى أن ينفعنا } أَيْ : يكفينا - إذا بلغ وفهم الأمور- بعض شؤوننا { أو نتخذه ولداً } وكان حصوراً لا يولد له . { وكذلك } وكما نجَّيناه من القتل والبئر { مكَّنا ليوسف في الأرض } يعني : أرض مصر حتى بلغ ما بلغ { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } فعلنا ذلك تصديقاً لقوله { ويُعلِّمك من تأويل الأحاديث } { والله غالب على أمره } على ما أراد من قضائه ، لا يغلبه غالبٌ على أمره ، ولا يُبطل إرادته منازعٌ { ولكنَّ أكثر الناس } هم المشركون ومَنْ لا يؤمن بالقدر { لا يعلمون } أَنَّ قدرة الله غالبةٌ ، ومشيئته نافذةٌ .
{ ولما بلغ أشده } ثلاثين سنةً { آتيناه حكماً وعلماً } عقلاً وفهماً { وكذلك } ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف { نجزي المحسنين } الصَّابرين على النَّوائب ، كما صبر يوسف عليه السَّلام .
{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } يعني : امرأة العزيز طلبت منه أن يُواقعها { وغلقت الأبواب } أَيْ : أغلقتها { وقالت هيت لك } أَيْ : هلمَّ وتعال { قال معاذ الله } أعوذ بالله أن أفعل هذا { إنه ربي } إنَّ الذي اشتراني هو سيِّدي { أحسن مثواي } أنعم عليَّ بإكرامي ، فلا أخونه في حرمته { إنه لا يفلح الظالمون } لا يسعد الزُّناة .
{ ولقد همت به وهمَّ بها } طمعت فيه وطمع فيها { لولا أن رأى برهان ربِّه } وهو أنَّه مُثِّل له يعقوب عليه السَّلام عاضَّاً على أصابعه يقول : أتعمل عمل الفجَّار ، وأنت مكتوبٌ في الأنبياء ، فاستحيا منه ، وجواب " لولا " محذوف ، على معنى : لولا أن رأى برهان ربِّه لأمضى ما همَّ به { كذلك } أَيْ : أريناه البرهان { لنصرف عنه السوءَ } وهو خيانة صاحبه { والفحشاء } ركوب الفاحشة { إنَّه من عبادنا المخلصين } الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه .
{ واستبقا الباب } وذلك أنَّ يوسف عليه السَّلام لمَّا رأى البرهان قام مُبادراً إلى الباب ، واتَّبعته المرأة تبغي التَّشبُّث به ، فلم تصل إلاَّ إلى دُبر قميصه ، فقدَّته ، ووجدا زوج المرأة عند الباب ، فحضرها في الوقت كيدٌ ، فأوهمت زوجها أنَّ الذي تسمع من العدو والمبادرة إلى الباب كان منها لا من يوسف ف { قالت ما جزاء مَنْ أراد بأهلك سوءاً } تريد الزِّنا { إلاَّ أن يسجن } يحبس في الحبس { أو عذاب أليم } بالضَّرب ، فلمَّا قالت ذلك غضب يوسف و { قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد } وحكم حاكمٌ ، وبيَّن مبيِّنٌ { من أهلها } وهو ابنُ عمِّ المرأة ، فقال { إن كان قميصه قدَّ من قبلٍ فصدقت وهو من الكاذبين } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7