كتاب : الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المؤلف : أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)

ثمَّ أقبل موسى على السَّامري فقال :
{ فما خطبك } فما قصَّتك وما الذي تخاطب به فيما صنعت؟
{ وقال : بصرت بما لم يبصروا به } علمت ما لم يعلمه بنو إسرائيل . قال موسى : وما ذلك؟ قال : رأيت جبريل عليه السَّلام على فرس الحياة ، فأُلقي في نفسي أن أقبض من أثرها ، فما ألقيته على شيءٍ إلاَّ صار له روحٌ ولحمٌ ودمٌ ، فحين رأيتُ قومك سألوك أن تجعل لهم إلهاً زيَّنت لي نفسي ذلك ، فذلك قوله : { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } طرحتها في العجل { وكذلك سوَّلت لي نفسي } حدَّثتني نفسي .
{ قال } له موسى صلوات الله عليه : { فاذهب فإنَّ لك في الحياة } يعني : ما دمت حيَّاً { أن تقول لا مساس } لا تخالط أحداً ولا يخالطك ، وأمر موسى بني إسرائيل ألا يخالطوه ، وصار السَّامريُّ بحيث لو مسَّه أحدٌ أو مسَّ هو أحداً حُمَّ كلاهما { وإن لك موعداً } لعذابك { لن تخلفه } لن يُخلفكه الله { وانظر إلى إلهك } معبودك { الذي ظلت عليه عاكفاً } دمتَ عليه مقيماً تعبده { لنحرقنَّه } بالنَّار { ثمَّ لننسفنَّه } لنذرينَّه في البحر .
{ إنما إلهكم الله الذي لا إله إلاَّ هو } لا العجل { وسع كلَّ شيء علماً } علم كلَّ شيء علماً .

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)

{ كذلك } كما قصصنا عليك هذه القصَّة { نقص عليك من أنباءِ ما قد سبق } من الأمور { وقد آتيناك من لدنا ذكراً } يعني : القرآن .
{ من أعرض عنه } فلم يؤمن به { فإنه يحمل يوم القيامة وزراً } حملاً ثقيلاً من الكفر .
{ خالدين فيه } لا يغفر ربك لهم ذلك ، ولا يكفِّر عنهم شيء { وساء لهم يوم القيامة حملاً } بئس ما حملوا على أنفسهم من المآثم كفراً بالقرآن .
{ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين } الذين اتَّخذوا مع الله إلهاً آخر { يؤمئذ زرقاً } زرق العيون سود الوجوه .
{ يتخافتون } يتساررون { بينهم إن لبثهم } ما لبثتم في قبوركم إلاَّ عشر ليالٍ يريدون : ما بين النَّفختين ، وهو أربعون سنة يُرفع العذاب في تلك المدَّة عن الكفَّار ، فيستقصرون تلك المدَّة إذا عاينوا هول القيامة ، قال الله تعالى :
{ نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة } أعدلهم قولاً { إن لبثتم إلاَّ يوماً } .
{ ويسألونك عن الجبال } سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ { فقل ينسفها ربي نسفاً } يصيِّرها كالهباء المنثور حتى تستوي مع الأرض ، وهو قوله :
{ فيذرها قاعاً صفصفاً } مكاناً مستوياً .
{ لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً } انخفاضاً وراتفاعاً .

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)

{ يومئذ يتبعون الداعي } الذي يدعوهم إلى موقف القيامة ، ولا يقدرون ألا يتَّبعوا { وخشعت } سكنت { الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاَّ همساً } وَطْءَ الأقدام في نقلها إلى المحشر .
{ يومئذ } يوم القيامة { لا تنفع الشفاعة } أحداً { إلاَّ مَنْ أذن له الرحمن } في أن يُشفَع له ، وهم المسلمون الذين رضي الله قولهم؛ لأنَّهم قالوا : لا إله إلاَّ الله ، وهذا معنى قوله : { ورضي له قولاً } .
{ يعلم ما بين أيديهم } من أمر الآخرة { وما خلفهم } في أمر الدُّنيا . وقيل : ما قدَّموا وما خلَّفوا من خيرٍ وشرٍّ { ولا يحيطون به علماً } وهم لا يعلمون ذلك .
{ وعنت الوجوه } خضعت وذلَّت { للحيّ القيوم وقد خاب مَنْ حمل ظلماً } خسر مَنْ أشرك بالله .
{ ومَنْ يعمل من الصالحات } الطَّاعات لله { وهو مؤمن } مصدِّق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم { فلا يخاف ظلماً ولا هضماً } لا يخاف أن يزاد في سيئاته ، ولا ينقص من حسناته .
{ وكذلك } وهكذا { أنزلناه قرآناً عربياً وصرَّفنا } بيَّنا { فيه من الوعيد لعلَّهم يتقون أو يحدث لهم } القرآن { ذكراً } وموعظة .

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)

{ ولا تعجل بالقرآن } كان إذا نزل جبريل عليه السَّلام بالوحي يقرؤه مع جبريل عليه السَّلام مخافة النِّسيان ، فأنزل الله سبحانه : { ولا تعجل بالقرآن } أَيْ : بقراءته { من قبل أن يقضى إليك وحيه } من قبل أن يفرغ جبريل ممَّا يريد من التَّلاوة { وقل رب زدني علماً } بالقرآن ، وكان كلمة نزل عليه شيء من القرآن ازداد به علماً .
{ ولقد عهدنا إلى آدم } أمرنا وأوصينا إليه { من قبل } هؤلاء الذين تركوا أمري ، ونقضوا عهدي في تكذيبك { فنسي } فترك ما أمر به { ولم نجد له عزماً } حفظاً لما أُمر به .

وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)

{ ولا تضحى } أَيْ : لا يؤذيك حرُّ الشَّمس . وقوله :
{ شجرة الخلد } يعني : مَنْ أكل منها لم يمت . وقوله :
{ فغوى } فأخطأ ولم ينل مراده ممَّا أكل . ويقال : لم يرشد .
{ ثم اجتباه } اختاره { ربه فتاب عليه } عاد عليه بالرَّحمة والمغفرة { وهدى } أي : هداه إلى التَّوبة .

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)

{ من أعرض عن ذكري } موعظتي ، وهي القرآن { فإنَّ له معيشة ضنكاً } ضيقى .
يعني : في جهنَّم وقيل : يعني عذاب القبر . { ونحشره يوم القيامة أعمى } البصر . { قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً } .

قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)

{ قال كذلك أتتك آياتنا } يقول : كما أتتك آياتي { فنسيتها } فتركتها ولم تؤمن بها { وكذلك اليوم تنسى } تُترك في جهنَّم .
{ وكذلك } وكما نجزي مَنْ أعرض عن القرآن { نجزي مَنْ أسرف } أشرك .
{ ولعذاب الآخرة أشدُّ } ممَّا يُعذِّبهم به في الدُّنيا والقبر { وأبقى } وأدوم .
{ أفلم يهد لهم } أفلم يتبيَّن لهم بياناً يهتدون به { وكم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون } هؤلاء إذا سافروا في مساكن أولئك الذين أهلكناهم بتكذيب الأنبياء { إنَّ في ذلك لآيات } لعبراً { لأولي النهى } لذوي العقول .
{ ولولا كلمة سبقت من ربك } في تأخير العذاب عنهم { لكان لزاماً } لكان العذاب لازماً لهم في الدُّنيا { وأجل مسمى } وهو القيامة . وقوله :
{ وسبح بحمد ربك } صلِّ لربِّك { قبل طلوع الشمس } صلاة الفجر { وقبل غروبها } صلاة العصر { ومن آناء الليل فسبح } فصلِّ المغرب والعشاء الآخرة { وأطراف النهار } صلِّ صلاة الظُّهر في طرف النِّصف الثاني ، وسمَّى الواحد باسم الجمع { لعلك ترضى } لكي ترضى من الثَّواب في المعاد .
{ ولا تمدنَّ عينيك } مُفسَّر في سورة الحجر . وقوله : { زهرة الحياة الدنيا } أَي : زينتها وبهجتها { لنفتنهم فيه } لتجعل ذلك فتنةً لهم { ورزق ربك } لك في المعاد { خير وأبقى } أكثر وأدوم .

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

{ وأمر أهلك بالصلاة } يعني : قريشاً . وقيل : أهل بيته { لا نسألك رزقاً } لخلقنا ولا لنفسك { نحن نرزقك والعاقبة } الجنَّة { للتقوى } لأهل التَّقوى . يعني : لك ولمن صدَّقك ، ونزلت هذه الآيات لمَّا استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهوديٍّ وأبى أن يعطيه إلاَّ برهنٍ ، وحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ وقالوا } يعني : المشركين { لولا } هلاَّ { يأتينا } محمَّد عليه السَّلام { بآية من ربه } ممَّا كانوا يقترحون من الآيات . قال الله : { أَوَلَمْ تأتهم بيِّنة } بيان { ما في الصحف الأولى } يعني : في القرآن بيان ما في التَّوراة والإِنجيل والزَّبور .
{ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله } من قبل نزول القرآن . وقوله : { من قبل أن نذل } بالعذاب { ونخزى } في جهنَّم .
{ قل } يا محمَّد لهم : { كلٌّ متربص } منتظرٌ دوائر الزَّمان ، ولمَنْ يكون النَّصر { فتربصوا فستعلمون } في القيامة { من أصحاب الصراط السويّ } المسقيم { ومن اهتدى } من الضَّلالة نحن أم أنتم .

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)

{ اقترب للناس } يعني : أهل مكَّة { حسابهم } وقت محاسبة الله إيَّاهم على أعمالهم . يعني : القيامة { وهم في غفلة } عن التَّأهُّب لذلك { معرضون } عن الإِيمان .
{ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } يعني : ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيءٍ من القرآن يُذكِّرهم ويعظهم به { إلاَّ استمعوه وهم يلعبون } يستهزئون به .
{ لاهية } غافلةً { قلوبهم وأسروا النجوى } قالوا سرّاً فيما بينهم { الذين ظلموا } أشركوا ، وهم أنَّهم قالوا : { هل هذا } يعنون محمَّداً { إلاَّ بشرٌ مثلكم } لحمٌ ودمٌ { أفتأتون السحر } يريدون : إنَّ القرآن سحرٌ { وأنتم تبصرون } أنَّه سحر ، فلمَّا أطلع الله سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم على هذا السِّرِّ الذي قالوه ، أخبر أنَّه يعلم القول في السَّماء والأرض .

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)

{ قل ربي يعلم القول } أَيْ : ما يقال { في السماء والأرض وهو السميع } للأقوال { العليم } بالأفعال ، ثمَّ أخبر انَّ المشركين اقتسموا القول في القرآن ، وأخذوا ينقضون أقوالهم بعضها ببعض ، فيقولون مرَّةً :
{ أضغاث أحلام } أَيْ : أباطيلها . يعنون أنَّه يرى ما يأتي به في النَّوم رؤيا باطلة ، ومرَّةً هو مفترىً ، ومرَّةً هو شعرٌ ، ومحمَّد شاعرٌ { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } بالآيات ، مثل : النَّاقة ، والعصا ، واليد ، فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهالٌ إذا كُذِّب بها ، فقال الله تعالى :
{ ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها } بالآيات التي اقترحوها { أفهم يؤمنون } يريد : إنَّ اقتراح الآيات كان سبباً للعذاب والاستئصال للقرون الماضية ، وكذلك يكون لهؤلاء .
{ وما أرسلنا قبلك إلاَّ رجالاً نوحي إليهم } ردّاً لقولهم { هل هذا إلاَّ بشر مثلكم } . { فاسألوا } يا أهل مكَّة { أهل الذكر } مَنْ آمن من أهل الكتاب { إن كنتم لا تعلمون } أنَّ الرُّسل بشر .
{ وما جعلناهم } أي : الرُّسل { جسداً } أَيْ : أجساداً { لا يأكلون الطعام } وهذا ردٌّ لقولهم : { ما لهذا الرسول يأكل الطعام } فأُعلموا أنَّ الرُّسل جميعاً كانوا يأكلون الطَّعام ، وأنَّهم يموتون ، وهو قوله : { وما كانوا خالدين } .

ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)

{ ثم صدقناهم الوعد } ما وعدناهم من عذاب مَنْ كفر بهم ، وإنجائهم مع مَنْ تابعهم ، وهو قوله : { فأنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلكنا المسرفين } المشركين .
{ لقد أنزلنا إليكم } يا معشر قريش { كتاباً فيه ذكركم } شرفكم { أفلا تعقلون } ما فضَّلكم به على غيركم؟!
{ وكم قصمنا } أهلكنا { من قرية كانت ظالمة } يعني : إنَّ أهلها كانوا كفَّاراً { وأنشأنا } أحدثنا { بعدها } بعد إهلاك أهلها { قوماً آخرين } نزلت في أهل قرىً باليمن كذَّبوا نبيَّهم وقتلوه ، فسلَّط الله سبحانه عليهم بختنصَّر حتى أهلكهم بالسَّيف ، فذلك قوله :
{ فلما أحسوا بأسنا } رأوا عذابنا { إذا هم منها } من قريتهم { يركضون } يسرعون هاربين . وتقول لهم الملائكة .
{ لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } نَعِمْتُم فيه { لعلكم تسألون } من دنياكم شيئاً . قالت الملائكة لهم هذا على سبيل الاستهزاء بهم ، كأنَّهم قيل لهم : ارجعوا إلى ما كنتم فيه من المال والنِّعمة لعلكم تُسألون ، فإنَّكم أغنياء تملكون المال ، فلمَّا رأَوا ذلك أقرُّوا على أنفسهم حيث لم ينفعهم ، فقالوا :
{ يا ويلنا إنا كنا ظالمين } لأنفسنا بتكذيب الرُّسل .
{ فما زالت } هذه المقالة { دعواهم } يدعون بها ، ويقولون : يا ويلنا { حتى جعلناهم حصيداً } بالسُّيوف كما يحصد الزَّرع { خامدين } ميِّتين .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)

{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين } عبثاً وباطلاً ، أَيْ : ما خلقتهما إلاَّ لأُجازي أوليائي ، وأُعذِّب أعدائي .
{ لو أردنا أن نتخذ لهواً } امرأةً . وقيل : ولداً { لاتخذناه من لدنا } بحيث لا يظهر لكم ، ولا تطَّلعون عليه { إن كنا فاعلين } ما كنَّا فاعلين ، ولسنا ممَّن يفعله .
{ بل نقذف بالحق على الباطل } نُلقي القرآن على باطلهم { فيدمغه } فيذهبه ويكسره { فإذا هو زاهقٌ } ذاهبٌ { ولكم الويل } يا معشر الكفَّار { مما تصفون } الله تعالى بما لا يليق به .
{ وله من في السموات والأرض } عبيداً وملكاً { ومَنْ عنده } يعني : الملائكة { لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } لا يملُّون ولا يعيون .
{ يسبحون الليل والنهار لا يفترون } لا يضعفون .
{ أم اتخذوا آلهةً من الأرض } يعني : الأصنام { هم ينشرون } يحيون الأموات ، والمعنى : أَتنشر آلهتهم التي اتَّخذوها؟
{ لو كان فيهما } في السَّماء والأرض { آلهةٌ إلاَّ اللَّهُ } غير الله { لفسدتا } لخربتا وهلك مَنْ فيهما بوقوع التَّنازع بين الآلهة .
{ لا يُسأل عما يفعل } عن حكمه في عباده { وهم يُسألون } عمَّا عملوا سؤال توبيخ .

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)

{ أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم } حجَّتكم على أن مع الله تعالى معبوداً غيره . { هذا ذكر مَنْ معي } يعني : القرآن { وذكر مَنْ قبلي } يعني : التَّوراة والإِنجيل ، فهل في واحدٍ من هذه الكتب إلاَّ توحيد الله سبحانه وتعالى؟ { بل أكثرهم لا يعلمون الحق } فلا يتأمَّلون حجَّة التَّوحيد ، وهو قوله : { فهم معرضون } .
{ وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ . . . } الآية . يريد : لم يُبعثْ رسولٌ إلاَّ بتوحيد الله سبحانه ، ولم يأتِ رسولٌ أُمّته بأنَّ لهم إلهاً غير الله .
{ وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } يعني : الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والمعنى وقالوا : اتَّخذ الرحمن ولداً من الملائكة { سبحانه } ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا يقولون { بل } هم { عباد مكرمون } يعني : الملائكة مكرمون بإكرام الله إيَّاهم .
{ لا يسبقونه بالقول } لا يتكلَّمون إلاَّ بما يأمرهم به { وهم بأمره يعملون } .
{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ما عملوا ، وما هم عاملون { ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى } لمن قال : لا إله إلاَّ الله { وهم من خشيته مشفقون } خائفون؛ لأنَّهم لا يأمنون مكر الله .
{ ومَنْ يقل منهم } من الملائكة { إني إلهٌ من دونه } من دون الله تعالى { فذلك نجزيه جهنم } يعني : إبليس حيث ادَّعى الشِّركة في العبادة ، ودعا إلى عبادة نفسه { كذلك نجزي الظالمين } المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى .
{ أَوَلَمْ يَر } أولم يعلم { الذين كفروا أنَّ السموات والأرض كانتا رتقاً } مسدودةً { ففتقناهما } بالماء والنَّبات ، كانت السَّماء لا تُمطر ، والأرض لا تُنبت ، ففتحهما الله سبحانه بالمطر والنَّبات { وجعلنا من الماء } وخلقنا من الماء { كلَّ شيء حي } يعني : إنَّ جميع الحيوانات مخلوقةٌ من الماء ، كقوله تعالى : { والله خلق كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ } ثمَّ بكَّتهم على ترك الإيمان ، فقال : { أفلا يؤمنون } . وقوله :
{ وجعلنا فيها } في الرَّواسي { فجاجاً سبلاً } طرقاً مسلوكةً حتى يهتدوا .
{ وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً } بالنُّجوم من الشَّياطين { وهم عن آياتها } شمسها وقمرها ونجومها { معرضون } لا يتفكَّرون فيها . وقوله :
{ كلٌّ في فلك يسبحون } يجرون ويسيرون ، والفَلَكُ : مدار النُّجوم .
{ وما جَعَلْنا لبشر من قبلك الخلد } دوام البقاء { أفإن مت فهم الخالدون } نزل حين قالوا : { نتربَّصُ به ريَب المنون } وقوله :
{ ونبلوكم } نختبركم { بالشر } بالبلايا والفقر { والخير } المال والصِّحة { فتنة } ابتلاءً لننظر كيف شكركم وصبركم .

وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)

{ وإذا رآك الذين كفروا } يعني : المستهزئين { إن يتخذونك } ما يتَّخذونك { إلاَّ هزواً } مهزوءاً به ، قالوا : { أهذا الذي يذكر آلهتكم } يعيب أصنامكم { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } جاحدون إلهيَّته ، يريد أنَّهم يعيبون مَنْ جحد إلهيَّة أصنامهم وهم جاحدون إلهية الرَّحمن ، وهذا غاية الجهل .
{ خلق الإنسانُ من عجل } يريد : إنَّ خلقته على العجلة ، وعليها طُبع { سَأُرِيكم آياتي } يعني : ما توعدون به من العذاب { فلا تستعجلون } .
{ ويقولون متى هذا الوعد } وعد القيامة .
{ لو يعلم الذين كفروا . . . } الآية . وجواب " لو " محذوف ، على تقدير : لآمنوا ولما أقاموا على الكفر .
{ بل تأتيهم } القيامة { بغتة } فجأةً { فتبهتهم } تُحيِّرهم .

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)

{ قل مَنْ يَكْلَؤُكُمْ } يحفظكم { بالليل والنهار من الرحمن } إن أنزل بكم عذابه { بل هم عن ذكر ربهم } كتاب ربِّهم { معرضون } .
{ أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطعيون نصر أنفسهم } فيكف تنصرتهم وتمنعهم؟! { ولا هم منا يصحبون } لا يُجارون من عذابنا .

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

{ بل متَّعنا هؤلاء } الكفَّار { وآباءهم حتى طال عليهم العمر } أَيْ : متَّعناهم بما أعطيناهم من الدُّنيا زماناً طويلاً ، فقست قلوبهم { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرفاها } بالفتح على محمد صلى الله عليه وسلم { أفهم الغالبون } أم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ .
{ قل إنما أنذركم } أُخوِّفكم { بالوحي } بالقرآن الذي أوحي إليَّ ، وأُمرت فيه بإنذاركم { ولا يسمع الصم الدُّعاء إذا ما ينذرون } كذلك أنتم يا معشر المشركين . { ولئن مستهم } أصابتهم { نفحة من عذاب ربك } قليلٌ وأدنى شيءٍ لأقرّوا على أنفسهم بسوء صنيعهم ، وهو قوله : { ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين } .
{ ونضع الموازين القسط } ذوات القسط ، أي : العدل { فلا تظلم نفسٌ شيئاً } لا يزاد على سيئاته ولا ينقص من ثواب حسناته { وإن كان } ذلك الشَّيء { مثقال حبة } وزن حبَّةٍ { من خردل أتينا بها } جئنا بها { وكفر بنا حاسبين } مُجازين ، وفي هذا تهديد .
{ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } البرهان الذي فرَّق به [ بين ] حقّه وباطل فرعون . { وضياء } يعني : التَّوراة الذي كان ضياءً ، يُضيء هدى ونوراً { وذكراً } وعِظَةً { للمتقين } من قومه .
{ الذين يخشون ربهم بالغيب } يخافونه ولم يروه .
{ وهذا ذكر مبارك } يعني : القرآن { أفأنتم له منكرون } جاحدون .

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)

{ ولقد آتينا إبراهيم رشده } هُداه وتوفيقه { من قبل } من قبل موسى وهارون { وكنا به عالمين } أنَّه أهلٌ لما آتيناه .
{ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل } الأصنام { التي أنتم لها عاكفون } على عبادتها مقيمون! .
{ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } فاقتدينا بهم .

قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)

{ قالوا أجئتنا بالحق } يعنون : أَجادٌّ أنت فيما تقول أم لاعبٌ؟
{ قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهنَّ وأنا على ذلكم من الشاهدين } أي : أشهد على أنَّه خالقها .
{ وتالله لأكيدنَّ أصنامكم } لأمكرنَّ بها { بعد أن تولوا مدبرين } قال ذلك في يوم عيدٍ لهم ، وهم يذهبون إلى الموضع الذي يجتمعون فيه .
{ فجعلهم جذاذاً } حطاماً ودقاقاً { إلاَّ كبيراً لهم } عظيم الآلهة فإنَّه لم يكسره { لعلهم إليه } إلى إبراهيم ودينه { يرجعون } إذا قامت الحُجَّة عليهم ، فلمَّا انصرفوا
{ قالوا من فعل هذا بآلهتنا . . . } الآية . قال الذين سمعوا قوله : { لأكيدن أصنامكم } :
{ سمعنا فتى يذكرهم } يعيبهم { يقال له إبراهيم } .

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)

{ قالوا فأتوا به على أعين الناس } على رؤوس النَّاس بمرأىً منهم { لعلَّهم يشهدون } عليه أنَّه الذي فعل ذلك ، وكرهوا أن يأخذوه بغير بيِّنةٍ ، فلمَّا أتوا به ، { قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } ؟
{ قال بل فعله كبيرهم هذا } غضب من أن يعبدوا معه الصِّغار ، وأراد إقامه الحجَّة عليهم { فاسألوهم } مَنْ فعل بهم هذا { إن كانوا ينطقون } إن قدروا على النُّطق .
{ فرجعوا إلى أنفسهم } تفكَّروا ورجعوا إلى عقولهم { فقالوا إنكم أنتم الظالمون } هذا الرجل بسؤالكم إيَّاه ، وهذه آلهتكم حاضرةٌ فاسألوها .
{ ثم نكسوا على رؤوسهم } أطرقوا لما لحقهم من الخجل ، وأقرُّوا بالحجَّة عليهم فقالوا : { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } فلمَّا اتَّجهت الحجَّة عليهم قال إبراهيم :
{ أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم } .
{ أفٍ لكم } أَيْ : نتناً لكم ، فلمَّا عجزوا عن الجواب .
{ قالوا حرّقوه } بالنَّار { وانصروا آلهتكم } بإهلاك مَنْ يعيبها { إن كنتم فاعلين } أمراً في أهلاكه ، فلمَّا ألقوه في النَّار .
{ قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } ذات بردٍ وسلامةٍ ، لا يكون فيها بردٌ مضرٌّ ، ولا حرٌّ مُؤذٍ .

وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)

{ وأرادوا به } بإبراهيم { كيداً } مكراً في إهلاكه { فجعلناهم الأخسرين } حين لم يرتفع مرادهم في الدُّنيا ، ووقعوا في العذاب في الآخرة .
{ ونجيناه } من نمروذ وقومِه { ولوطاً } ابن أخيه { إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } وهي الشَّام ، وذلك أنَّه خرج مهاجراً من أرض العراق إلى الشَّام .
{ ووهبنا له إسحاقَ } ولداً لصلبه { ويعقوب نافلة } ولد الولد { وكلاً جعلنا صالحين } يعني : هؤلاء الثَّلاثة .
{ وجعلناهم أئمة } يُقتدى بهم في الخير { يهدون } يدعون النَّاس إلى ديننا { بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات } أن يفعلوا الطَّاعات ، ويقيموا الصَّلاة ، ويؤتوا الزَّكاة .
{ ولوطاً آتيناه حكماً } فصلاً بين الخصوم بالحقِّ { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث } يعني : أهلها ، كانوا يأتون الذُّكران في أدبارهم .

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

{ ونوحاً إذ نادى من قبل } من قبل إبراهيم { فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } الغمِّ الذي كان فيه من أذى قومه .
{ ونصرناه } منعناه من أن يصلوا إليه بسوءٍ .

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)

{ إذ يحكمان في الحرث } قيل : كان ذلك زرعاً . وقيل : كان كرماً { إذ نفشت } رعت ليلاً { فيه غنم القوم } [ بلا راعٍ ] { وكنا لحكمهم شاهدين } لم يغبْ عن علمنا .
{ ففهمناها سليمان } ففهمنا القضيَّة سليمان دون داود عليهما السَّلام ، وذلك أنَّ داود حكم لأهل الحرث برقاب الغنم ، وحكم سليمان بمنافعها إلى أن يعود الحرث كما كان . { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } يجاوبنه بالتَّسبيح { و } كذلك { الطير وكنا فاعلين } ذلك .
{ وعلمناه صنعة لبوس لكم } عمل ما يلبسونه من الدُّروع { لتحصنكم } لتحرزكم { من بأسكم } من حربكم { فهل أنتم شاكرون } نعمتنا عليكم؟ .
{ ولسليمان الريح } وسخَّرنا له الرِّيح { عاصفة } شديدة الهبوب { تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } يعني : الشَّام ، وكان منزل سليمان عليه السَّلام بها .
{ ومن الشياطين } وسخَّرنا له من الشَّياطين { من يغوصون له } يدخلون تحت الماء لاستخراج جواهر البحر { ويعملون عملاً دون ذلك } سوى الغوص { وكنا لهم حافظين } من أن يُفسدوا ما عملوا ، وليصيروا تحت أمره .

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)

{ وأيوب إذ نادى ربه } دعا ربَّه { أني مسني الضرُّ } أصابني الجهد . وقوله :
{ وآتيناه أهله ومثلهم معهم } وهو أنَّ الله تعالى أحيا مَنْ أمات من بنيه وبناته ، ورزقه مثلهم من الولد { رحمة } نعمةً { من عندنا وذكرى للعابدين } عظةً لهم ليعلموا بذلك كمال قدرتنا . وقوله :
{ وذا الكفل } هو رجلٌ من بني إسرائيل تكفَّل بخلافه نبيٍّ في أُمَّته ، فقام بذلك .

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)

{ وذا النون } واذكر صاحب الحوت ، وهو يونس عليه السَّلام { إذ ذهب } من بين قومه { مغاضباً } لهم قبل أمرنا له بذلك { فظن أن لن نقدر عليه } أن لن نقضي عليه ما قضينا من حبسه في بطن الحوت { فنادى في الظلمات } ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة اللَّيل { أن لا إله إلاَّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } حيث غاضبت قومي وخرجت من بينهم قبل الإذن .
{ وكذلك } وكما نجيناه { ننجي المؤمنين } من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا . وقوله :
{ لا تذرني فرداً } أَيْ : وحيداً لا ولد لي ولا عقب ، { وأنت خير الوارثين } خير من يبقى بعد مَنْ يموت .

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)

{ وأصلحنا له زوجه } بأن جعلناها ولوداً بعد أن صارت عقيماً { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } يُبادرون في عمل الطَّاعات { ويدعوننا رغباً } في رحمتنا { ورهباً } من عذابنا { وكانوا لنا خاشعين } عابدين في تواضع .
{ والتي أحصنت } واذكر التي منعت { فرجها } من الحرام { فنفخنا فيها من روحنا } أمرنا جبريل عليه السَّلام حتى نفخ في جيب درعها ، والمعنى : أجرينا فيها روح المسيح المخلوقة لنا { وجعلناها وابنها آية للعالمين } دلالةً لهم على كمال قدرتنا ، وكانت الآيةُ فيهما جميعاً واحدةً ، لذلك وُحِّدت .
{ إنَّ هذه أمتكم } دينكم وملَّتكم { أمة واحدة } ملَّة واحدة وهي الإِسلام .
{ وتقطعوا أمرهم بينهم } اختلفوا في الدّين فصاروا فرقاً { كلٌّ إلينا راجعون } فنجزيهم بأعمالهم .
{ فمن يعمل من الصالحات } الطَّاعات { وهو مؤمنٌ } مصدِّق بمحمَّدٍ عليه السَّلام { فلا كفران لسعيه } لا نُبطل عمله بل نُثيبه { وإنا له كاتبون } ما عمل حتى نجازيه .
{ وحرام على قرية } يعني : قريةً كافرةً { أهلكناها } أهلكناها بعذاب الاستئصال أن يرجعوا إلى الدُّنيا ، و " لا " زائدةٌ في الآية ، ومعنى " حرامٌ " عليهم أنَّهم ممنوعون من ذلك؛ لأنَّ الله تعالى قضى على مَنْ أُهلك أن يبقى في البرزخ إلى يوم القيامة .
{ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } من سدِّها { وهم من كلِّ حدب } نَشَز وتلٍّ { ينسلون } ينزلون مسرعين .

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)

{ واقترب الوعد الحق } يعني : القيامة ، والواو زائدة؛ لأنَّ " اقترب " جواب " حتى " . { فإذا هي شاخصة } ذاهبةٌ لا تكاد تطرف من هول ذلك اليوم . يقولون : { يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا } في الدُّنيا عن هذا اليوم { بل كنا ظالمين } بالشِّرك وتكذيب الرُّسل .
{ إنكم } أيُّها المشركون { وما تعبدون من دون الله } يعني : الأصنام { حصب جهنم } وقودها { أنتم لها واردون } فيها داخلون .
{ لو كان هؤلاء } الأصنام { آلهة } على الحقيقة ما دخلوا النَّار { وكلٌّ } من العابدين والمعبودين في النَّار { خالدون } .

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)

{ إنَّ الذين سبقت لهم منا الحسنى } السَّعادة والرَّحمة { أولئك عنها } عن النَّار { مبعدون } .
{ لا يسمعون حسيسها } صوتها .
{ لا يحزنهم الفزع الأكبر } يعني : الإِطباق على النَّار . وقيل : ذبح الموت بمرأىً من الفريقين { وتتلقاهم الملائكة } تستقبلهم ، فيقولون لهم : { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } للثَّواب ودخول الجنَّة .

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)

{ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } وهو مَلَكٌ يطوي كتب بني آدم . وقيل : السِّجلُّ : الصَّحيفة ، والمعنى : كطيِّ السِّجل على ما فيه من المكتوب . { كما بدأنا أوَّل خلق نعيده } كما خلقناكم ابتداءً حُفاةً عُراةً غُرلاً ، كذلك نُعيدكم يوم القيامة { وعداً علينا } أَيْ : وعدناه وعداً { إنا كنَّا فاعلين } يعني : الإِعادة والبعث .
{ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } قيل : في الكتب المنزلة بعد التَّوراة . وقيل : أراد بالذِّكر اللَّوح المحفوظ { أنَّ الأرض } يعني : أرض الجنَّة { يرثها عبادي الصالحون } وقيل : أرض الدُّنيا تصير للمؤمنين من أُمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم .
{ إنَّ في هذا } القرآن { لبلاغاً } لوصولاً إلى البغية { لقوم عابدين } مُطيعين لله تعالى .
{ وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين } للبَرِّ والفاجر ، فمن أطاعه عُجِّلت له الرَّحمة ، ومَنْ عصاه وكذَّبه لم يلحقه العذاب في الدُّنيا ، كما لحق الأمم المكذِّبة .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)

{ فإن تولوا } عن الإسلام { فقل آذنتكم على سواءٍ } أعلمتكم بما يوحى إليَّ على سواءٍ لتستووا في ذلك ، يريد : لم أُظهر لبعضكم شيئاً كتمته عن غيره . { وإن أدري } ما أعلم { أقريب أم بعيد ما توعدون } يعني : القيامة .

وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

{ وإن أدري لعله } لعلَّ تأخير العذاب عنكم { فتنة } اختبارٌ لكم { ومتاعٌ إلى حين } إلى حين الموت .
{ قال رب احكم بالحق } اقض بيني وبين أهل مكَّة بالحقِّ ، أُمر أن يقول كما قالت الرُّسل قبله من قولهم : { ربَّنا افتحْ بيننا وبينَ قومِنا بالحقِّ } . { وربنا } أَيْ : وقل ربُّنا { الرحمن المستعان على ما تصفون } من كذبكم وباطلكم .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)

{ يا أيها الناس } يا أهل مكَّة { اتقوا ربَّكم } أطيعوه { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } وهي زلزلةٌ يكون بعدها طلوع الشَّمس من مغربها .
{ يوم ترونها } يعني : الزَّلزلة { تذهل كلُّ مرضعة عمَّأ أرضعت } تترك كلُّ امرأةٍ تُرضع ولدها الرَّضيع اشتغالاً بنفسها وخوفاً { وتَضَعُ كلُّ ذات حملٍ حملها } تُسقط ولدها من هول ذلك اليوم { وترى الناس سكارى } من شدَّة الخوف { وما هم بسكارى } من الشَّراب { ولكنَّ عذاب الله شديد } فهم يخافونه .
{ ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم } نزلت في النَّضر بن الحارث وجماعةٍ من قريش كانوا يُنكرون البعث ، ويقولون : القرآن أساطير القرآن أساطير الأولين ، ويجادلون النبيَّ صلى الله عليه وسلم { ويتبع } في جداله ذلك { كلَّ شيطان مريد } متمرِّدٍ عاتٍ .

كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)

{ كُتب عليه } قُضي على الشَّيطان { أنَّه مَنْ تولاَّه } اتَّبعه { فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } يدعوه إلى النَّار بما يُزيِّن له من الباطل .
{ يا أيها الناس } يعني : كفار مكَّة { إن كنتم في ريب من البعث } شكٍّ من الإِعادة { فإنا خلقناكم } خلقنا أباكم الذي أصل البشر { من تراب ثمَّ } خلقنا ذريَّته { من نطفة ثمَّ من علقة } وهي الدَّم الجامد { ثمَّ من مضغة } وهي لحمةٌ قليلةٌ قدر ما يُمضغ { مُخَلَّقَةٍ } مصوَّرةٍ تامَّة الخلق { وغير مخلقة } وهي ما تمجُّه الأرحام دماً ، يعني : السِّقط { لنبيِّن لكم } كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم { ونقرُّ في الأرحام ما نشاء } ننزل فيها ما لا يكون سقطاً { إلى أجل مسمى } إلى وقت خروجه { ثم نخرجكم } من بطون الأمهات { طفلاً } صغاراً { ثمَّ لتبلغوا أَشدكم } عقولكم ونهاية قوَّتكم { ومنكم من يُتوفَّى } يموت قبل بلوغ الأشدِّ { ومنكم مَنْ يردُّ إلى أرذل العمر } وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل شيئاً ، وهو قوله : { لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً } ثمَّ ذكر دلالةً أخرى على البعث فقال : { وترى الأرض هامدة } جافَّةً ذات ترابٍ { فإذا أنزلنا عليها الماء } المطر { اهتزت } تحرَّكت بالنَّبات { وربت } زادت { وأنبتت من كلِّ زوج بهيج } من كلِّ صنفٍ حسنٍ من النَّبات .
{ ذلك } الذي تقدَّم ذكره من اختلاف أحوال خلق الإِنسان ، وإحياء الأرض بالمطر { بأنَّ الله هو الحق } الدَّائم الثَّابت الموجود { وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شَىْء قَدِير } .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)

{ ومنَ الناس من يجادل في الله بغير علم } نزلت في أبي جهلٍ { ولا هدىً } ليس معه من ربِّه رشادٌ ولا بيانٌ { ولا كتابٍ } له نورٌ .
{ ثاني عطفه } لاوي عنقه تكبُّراً { ليضل } الناس عن طاعة الله سبحانه باتِّباع محمَّد عليه السَّلام { له في الدنيا خزي } يعني : القتل ببدرٍ .
{ ذلك بما قدَّمت يداك } هذا العذاب بما كسبْتَ { وإنَّ الله ليس بظلام للعبيد } لا يعاقب بغير جرمٍ .
{ ومن الناس مَن يعبد الله على حرف } على جانبٍ لا يدخل فيه دخول مُتمكِّنٍ { فإن أصابه خير } خِصبٌ وكثرةُ مالٍ { اطمأنَّ به } في الدِّين بذلك الخصب { وإن أصابته فتنة } اختبارٌ بجدبٍ وقلَّة مالٍ { انقلب على وجهه } رجع عن دينه إلى الكفر .
{ يدعو من دون الله ما لا يضرُّه } إن عصاه { ولا ينفعه } إن أطاعه { ذلك هو الضلال البعيد } الذَّهاب عن الحقِّ .

يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

{ يدعو لمَنْ ضرُّه أقرب من نفعه } ضرره بعبادته أقرب من نفعه ، ولا نفع عنده ، والعرب تقول لما لا يكون : هو بعيدٌ ، والمعنى في هذا أنَّه يضرُّ ولا ينفع { لبئس المولى } الناصر { ولبئس العشير } الصَّاحب والخليط .

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)

{ مَنْ كان يظن أن لن ينصره الله } لن ينصر الله محمَّداً صلى الله عليه وسلم حتى يُظهره على الدِّين كلِّه فليمت غيظاً ، وهو تفسير قوله : { فليمدد بسبب إلى السماء } أَيْ : فليشدد حبلاً في سقفه { ثمَّ ليقطع } أَيْ : ليَمُدَّ الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً { فلينظر هل يُذْهِبَنَّ كيده ما يغيظ } غيظه .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)

{ إنَّ الله يفصل بينهم يوم القيامة } أَيْ : يحكم ويقضي ، بأن يدخل المؤمنين الجنَّة ، وغيرهم من هؤلاء الفرق النَّار . { إنَّ الله على كلِّ شيء شهيد } يريد : إنَّ اللَّهَ عالمٌ بما في قلوبهم .
{ ألم تر أنَّ الله يسجد له } يذلُّ له ، وينقاد له { من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حقَّ عليه العذاب } وذلك أنَّ كلَّ شيءٍ منقادٌ لله عزَّ وجلَّ على ما خلقه ، وعلى ما رزقه ، وعلى ما أصحَّه وعلى ما أسقمه ، فالبَرُّ والفاجر ، والمؤمن و الكافر في هذا سواءٌ { ومَنْ يهن الله } يذلَّه بالكفر { فما له من مكرم } أحدٌ يكرمه { إنَّ الله يفعل ما يشاء } يُهين من يشاء بالكفر ، ويكرم مَنْ يشاء بالإِيمان .

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)

{ هذا خصمان } يعني : المؤمنين والكافرين { اختصموا في ربهم } في دينه { فالذين كفروا قطعت لهم ثيابٌ من نار } يلبسون مقطَّعات النِّيران { ويصبُّ من فوق رؤوسهم الحميم } ماءٌ حارٌّ ، لو سقطت منه نقطٌ على جبال الدُّنيا أذابتها .
{ يصهر } يُذاب { به } بذلك الماء { ما في بطونهم } من الأمعاء { والجلود } وتنشوي جلودهم فتسَّاقط .
{ ولهم مقامع } سياطٌ { من حديد } .
{ كلما أرادوا أن يخرجوا منها } من جهنَّم { من غمّ } يصيبهم { أعيدوا فيها } ردُّوا إليها بالمقامع ، { و } تقول لهم الخزنة : { ذوقوا عذاب الحريق } النَّار ، وقال في الخصم الذين هم المؤمنون :
{ إنَّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات . . . } الآية ، وهي مفسَّرةٌ في سورة الكهف .
{ وهدوا } أُرشدوا في الدُّنيا { إلى الطيب من القول } وهو شهادة أن لا إله إلا الله { وهدوا إلى صراط الحميد } دين اللَّهِ المحمود في أفعاله .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)

{ إنَّ الذين كفروا ويصدُّون عن سبيل الله } يمنعون عن طاعة الله تعالى . { والمسجد الحرام } يمنعون المؤمنين عنه { الذي جعلناه للناس } خلقناه وبنيناه للنَّاس كلِّهم لن نخصَّ به بعضاً دون بعض { سواءً العاكف فيه والباد } سواءٌ في تعظيم حرمته وقضاء النُّسك به الحاضر ، والذي يأتيه من البلاد ، فليس أهل مكَّة بأحقَّ به من النَّازع إليه { ومَن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ } أَيْ : إلحاداً بظلمٍ ، وهو أن يميل إلى الظُّلم ، ومعناه : صيد حمامة وقطع شجرة ، ودخوله غير مُحرمٍ ، وجميع المعاصي؛ لأنَّ السَّيئات تُضاعف بمكَّة كما تُضاعف الحسنات .
{ وإذْ بؤَّأنا لإبراهيم مكان البيت } بيَّنا له أين يُبنى { أن لا تشرك } يعني : وأمرناه أن لا تشرك { بي شيئاً وطهر بيتي } مفسَّرٌ في سورة البقرة .
{ وأذن في الناس } نادِ فيهم { بالحج يأتوك رجالاً } مُشاةً على أرجلهم ، { و } ركباناً { على كلّ ضامر } وهو البعير المهزول { يأتين من كلِّ فج عميق } طريق بعيدٍ .
{ ليشهدوا } ليحضروا { منافع لهم } من أمر الدُّنيا والآخرة { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } يعني : التَّسمية على ما ينحر في يوم النَّحر وأيَّامِ التَّشريق { فكلوا منها } أمر إباحةٍ ، وكان أهل الجاهليَّة لا يأكلون من نَسائكم ، فأمر المسلمون أن يأكلوا { وأطعموا البائس الفقير } الشَّديد الفقر .
{ ثم ليقضوا تفثهم } يعني : ما يخرجون به من الإحرام ، وهو أخذ الشَّارب ، وتقليم الظُّفر ، وحلق العانة ، ولبس الثَّوب { وليوفوا نذورهم } يعني : ما نذروه من برٍّ وهدي في أيَّام الحجِّ { وليطوفوا بالبيت العتيق } القديم . وقيل : المُعتق من أن يتسلَّط عليه جبَّار . يعني : الكعبة .
{ ذلك } أَيْ : الأمر ذلك الذي ذكرت { ومن يعظم حرمات الله } فرائض الله وسننه . { وأحلت لكم الأنعام } أن تأكلوها { إلاَّ ما يتلى عليكم } في قوله : { حُرِّمت عليكم الميتة . . . } الآية . ومعنى هذا النَّهي تحريمُ ما حرَّمه أهل الجاهليَّة من البحيرة والسَّائبة وغير ذلك { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } يعني : عبادتها { واجتنبوا قول الزور } يعني : الشِّرك بالله .
{ حنفاء لله } مسلمين عادلين عن كلِّ دينٍ سواه . { ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ } سقط { من السماء } فاختطفته الطَّير من الهواء ، أو ألقته الرِّيح في { مكان سحيق } بعيدٍ . يعني : إنَّ مَنْ أشرك فقد هلك وبَعُدَ عن الحقِّ .
{ ذلك ومن يعظم شعائر الله } يستسمن البُدن { فإنَّ ذلك من } علامات التَّقوى .

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)

{ لكم فيها منافع } الرُّكوب والدَّرُّ والنَّسل { إلى أجل مسمى } وهو أن يُسمِّيها هدياً { ثمَّ محلها } حيث يحلُّ نحرها عند { البيت العتيق } يعني : الحرم كلَّه .
{ ولكلِّ أمة } جماعةٍ سلفت قبلكم { جعلنا منسكاً } ذبحاً للقرابين { ليذكروا اسم الله } عند الذَّبح { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } يعني : الأنعام { فإلهكم إله واحد } أَيْ : لا تذكروا على ذبائحكم إلاَّ الله وحده { فله أسلموا } أخلصوا العبادة { وبشر المخبتين } المتواضعين .

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)

{ والبدن } الإبل والبقر { جعلناها لكم من شعائر الله } أعلام دينه { لكم فيها خيرٌ } النَّفع في الدُّنيا ، والأجر في العقبى { فاذكروا اسم الله } وهو أن يقول عند نحرها : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر { صواف } قائمةً معقولة اليد اليسرى { فإذا وجبت جنوبها } سقطت على الأرض { فكلوا منها وأطعموا القانع } الذي يسألك { والمعتر } الذي يتعرَّض لك ولا يسألك . { كذلك } الذي وصفنا { سخرناها لكم } يعني : البدن { لعلَّكم تشكرون } لكي تطيعوني .
{ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } كان المشركون يُلطِّخون جدار الكعبة بدماء القرابين ، فقال الله تعالى : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } أَيْ : لن يصل إلى الله لحومها ولا دماؤها { ولكن يناله التقوى منكم } أَيْ : النِّيَّةُ والإِخلاص وما أريد به وجه الله تعالى . { لتكبروا الله على ما هداكم } إلى معالم دينه { وبشر المحسنين } المُوحِّدين .
{ إن الله يدفع } غائلة المشركين عن المؤمنين { إنَّ الله لا يحب كل خوَّانٍ } في أمانته { كفور } لنعمته ، وهم الذين تقرَّبوا إلى الأصنام بذبائحهم .
{ أُذِنَ للذين يقاتلون } يعني : المؤمنين ، وهذه أوَّلُ آيةٍ نزلت في الجهاد والمعنى : أُذن لهم أن يُقاتلوا { بأنهم ظلموا } بظلم الكافرين إيَّاهم { وإنَّ الله على نصرهم لقدير } وعدٌ من الله تعالى بالنَّصر .
{ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } يعني : المهاجرين { إلاَّ أن يقولوا ربنا الله } أَيْ : لم يُخرجوا إلاَّ بأن وحَّدوا الله تعالى { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } لولا أن دفع الله بعض النَّاس ببعض { لهدِّمت صوامع وبيعٌ } في زمان عيسى عليه السَّلام { وصلوات } في أيَّام شريعة موسى عليه السَّلام ، يعني : كنائسهم وهي بالعبرانيَّة صلوتا { ومساجد } في أيام شريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم { ولينصرنَّ الله من ينصره } يعني : مَنْ نصر دين الله نصره الله على ذلك { إن الله لقوي } على خلقه { عزيز } منيعٌ في سلطانه .

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

{ الذين إن مكناهم في الأرض } يعني : هذه الأمَّة إذا فتح الله عليهم الأرض { أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } أَيْ : آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه ، ثمَّ عزَّى نبيَّه فقال :
{ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعادٌ وثمود } .
{ وقوم إبراهيم وقوم لوط } .
{ وأصحاب مدين وكُذِّب موسى فأمليت للكافرين } أَيْ : أمهلتهم { ثم أخذتهم } عاقبتهم { فكيف كان نكير } إنكاري عليهم ما فعلوا بالعذاب .
{ فكأين من قرية } وكم من قريةٍ { أهلكناها وهي ظالمة } بالكفر { فهي خاوية } ساقطةٌ { على عروشها } سقوفها { وبئر مُعَطَّلَةٍ } متروكةٍ بموت أهلها { وقصر مشيد } رفيعٍ طويلٍ .
{ أفلم يسيروا في الأرض } يعني : كفَّار مكَّة { فينظروا } إلى مصارع الأمم المكذبة ، وهو قوله : { فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } فيتفكَّروا ويعتبروا ، ثم ذكر أن الأبصار لا تعمى عن رؤية الآيات ، ولكن القلوب تعمى ، فلا يتفكروا ولا يعتبروا .

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)

{ ويستعجلونك بالعذاب } كانوا يقولون له : { فَأْتِنا بما وعدتنا إن كنت من الصَّادقين } فقال الله تعالى : { ولن يخلف الله وعده } الذي وعدك من نصرك وإهلاكهم ، ثمَّ ذكر أنَّ لهم مع عذاب الدُّنيا في الآخرة عذاباً طويلاً ، وهو قوله تعالى : { وإنَّ يوماً عند ربك } أَيْ : من أيَّام عذابهم { كألف سنة مما تعدون } وذلك أن يوماً من أيَّام الآخرة كألفِ سنةٍ في الدُّنيا ، ثمَّ ذكر سبحانه أنَّه قد أخذ قوماً بعد الإِمهال فقال :
{ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمةٌ ثمَّ أخذتها وإليَّ المصير } .

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)

{ والذين سعوا في آياتنا } عملوا في إبطالها { معاجزين } مُقدِّرين أنَّهم يُعجزوننا ويفوتوننا .
{ وما أرسلنا من قبلك من رسول } وهو الذي يأتيه جبريل عليه السًّلام بالوحي عياناً { ولا نبيّ } وهو الذي تكون نبوَّته إلهاماً ومناماً { إلاَّ إذا تمنى } قرأ { ألقى الشيطان } في قراءته ما ليس ممَّا يقرأ ، يعني : ما جرى على لسان النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين قرأ سورة " والنجم " في مجلس من قريش ، فلما بلغ قوله تعالى : { ومناة الثَّالثة الأخرى } جرى على لسانه : تلك الغرانيق العلى ، وإنَّ شفاعتهنَّ لترتجى ثمَّ نبَّهه جبريل عليه السَّلام على ذلك ، فرجع وأخبرهم أنَّ ذلك كان من جهة الشَّيطان ، فذلك قوله : { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثمَّ يحكم الله آياته } يُبيِّنها حتى لا يجد أحدٌ سبيلاً إلى إبطالها { والله عليم } بما أوحى إلى نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم { حكيم } في خلقه ، ثمَّ ذكر أنَّ ذلك ليفتن الله به قوماً ، فقال :
{ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة } ضلالةً { للذين في قلوبهم مرض } وهم أهل النِّفاق { والقاسية قلوبهم } المشركين { وإنَّ الظالمين } الكافرين { لفي شقاق بعيد } خلافٍ طويلٍ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
{ وليعلم الذين أوتوا العلم } التَّوحيد والقرآن { أنه الحق } أَيْ : الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن ، وهو الحقُّ { فتخبت له قلوبهم } فتخشع .
{ ولا يزال الذين كفروا في مرية } في شكٍّ { منه } ممَّا أُلقي على لسان الرَّسول صلى الله عليه وسلم { حتى تأتيهم الساعة } القيامة { بغتة } فجأة { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } يعين : يوم بدرٍ ، وكان عقيماً عن أني كون للكافرين فيه فرحٌ أو راحةٌ ، والعقيم معناه : التي لا تلد .

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)

{ الملك يومئذ } يعني : يوم القيامة { لله } وحده من غير مُنازعٍ ولا مُدَّعٍ { يحكم بينهم } ثمَّ بيَّن حكمه فقال : { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم } .
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين } .
{ والذين هاجروا } فارقوا أوطانهم وعشائرهم { في سبيل الله } في طاعة الله { ثمَّ قتلوا أو ماتوا لَيَرْزُقّنَّهُمُ الله رزقاً حسناً } في الجنَّة .
{ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مدخلاً } أَيْ : إدخالاً وموضعاً { يرضونه } وهو الجنة .
{ ذلك } أَيْ : الأمر ذلك قصصنا عليك { ومَنْ عاقب بمثل ما عوقب به } أَيْ : جازى العقوبة بمثلها { ثم بغي عليه } ظُلم { لينصرنَّه الله } يعني : المظلوم .
{ ذلك } أَيْ : ذلك النَّصر للمظلوم بأنَّه القادر على ما يشاء ، فمن قدرته أنَّه { يولج الليل في النهار } يزيد من هذا في ذلك ، ومن ذلك في هذا ، والباقي ظاهرٌ إلى قوله :
{ إنَّ الإنسان لكفور } يعني : إنَّ الكافر لجاحدٌ لآيات الله تعالى الدَّالة على توحيده .

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)

{ لكلّ أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه } شريعةً هم عاملون بها { فلا يُنازِعُنَّكَ } يُجادِلُنَّكَ { في الأمر } نزلت في الذين جادلوا المؤمنين فقالوا : ما لكم تأكلون ما تقتلون ، ولا تأكلون ممَّا قتله الله؟
{ وإن جادلوك } بباطلهم مِراءً وتعنُّتاً فادفعهم بقولك : { الله أعلم بما تعملون } من التَّكذيب والكفر .

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)

{ ألم تعلم أنَّ الله يعلم ما في السماء والأرض إنَّ ذلك } كلَّه { في كتاب } يعني : اللَّوح المحفوظ { إن ذلك } يعني : علمه بجميع ذلك { على الله يسير } .
{ ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به } بعبادته { سلطاناً } حجَّةً وبرهاناً { وما ليس لهم من به علم } لم يأتهم به كتابٌ ولا نبيٌّ { وما للظالمين } المشركين { من نصير } مانعٍ من عذاب الله تعالى .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } يعني : القرآن { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } الإِنكار بالعبوس والكراهة { يكادون يسطون } يقعون ويبطشون { بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم } بِشَرٍ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون { النار } أَيْ : هي النَّار .
{ يا أيها الناس } يعني : يا أهل مكَّة { ضرب مثل } بُيِّن لكم ولمعبودكم شَبَهٌ { فاستمعوا له إنَّ الذين تدعون من دون الله } من الأصنام { لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا } كلُّهم لخلقه { وإن يسلبهم الذباب شيئاً } ممَّا عليهم من الطَّيب { لا يستنقذوه منه } لا يستردُّوه منه لعجزهم { ضعف الطالبُ والمطلوب } يعني : العابد والمعبود ، والطَّالب : الذُّباب يطلب من الصَّنم ما لطِّخ به من الزَّعفران والطِّيب ، وهو مَثَلٌ لعابده يطلب منه الشَّفاعة والنُّصرة ، والمطلوب : الصنم .
{ ما قدروا الله حق قدره } ما عظَّموه حقَّ تعظيمه إذ أشركوا به ما لا يمتنع من الذُّباب ولا ينتصر منه .
{ الله يصطفي من الملائكة رسلاً } مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السَّلام { ومن الناس } يعني : النبيِّين عليهم السَّلام { إنَّ الله سميع } لقول عباده { بصير } بمَنْ يختاره .
{ يعلم ما بين أيديهم } ما عملوه { وما خلفهم } وما هم عاملون ممَّا لم يعلموه .

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)

{ وجاهدوا في الله } في سبيل الله { حق جهاده } بنيَّةٍ صادقةٍ { هو اجبتاكم } اختاركم لدينه { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ضيقٍ؛ لأنَّه سهَّل الشَّريعة بالتَّرخيص { ملَّة أبيكم } اتبعوا ملَّة أبيكم { إبراهيم } كان هو في الحرمة كالأب صلى الله عليه وسلم ، ولذلك جُعل أبا المسلمين { هو سماكم } أَيْ : الله تعالى سمَّاكم { المسلمين من قبل } [ أي : من قبل القرآن ] في سائر الكتب { وفي هذا } يعني : القرآن { ليكون الرسول شهيداً عليكم } وذلك أنَّه يشهد لمَنْ صدَّقه ، وعلى مَنْ كذَّبه { وتكونوا شهداء على الناس } تشهدون عليهم أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم ، وقوله : { واعتصموا بالله } أَيْ : تمسَّكوا بدينه { هو مولاكم } ناصركم ومتولي أموركم { فنعم المولى ونعم النصير } .

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)

{ قد أفلح المؤمنون } سعد المصدِّقون ، ونالوا البقاء في الجنَّة .
{ الذين هم في صلاتهم خاشعون } ساكنون لا يرفعون ابصارهم عن مواضع سجودهم .
{ والذين هم عن اللغو معرضون } عن كلِّ ما لا يجمل في الشَّرع من قولٍ وفعلٍ .
{ والذين هم للزكاة فاعلون } للصَّدقة الواجبة مُؤَدُّون .
{ والذين هم لفروجهم حافظون } يحفظونها عن المعاصي .
{ إلاَّ على أزواجهم } من زوجاتهم { أو ما ملكت أيمانهم } من الإماء { فإنهم غير ملومين } لا يلامون في وطئهنَّ .
{ فمن ابتغى } طلب ما { وراء ذلك } بما بعد الزَّوجة والأَمَة { فأولئك هم العادون } المتعدُّون عن الحلال إلى الحرام .

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)

{ والذين هم لأماناتهم } ما ائتمنوا عليه من أمر الدِّين والدُّنيا { وعهدهم راعون } وحلفهم الذي يُوجد عليهم راعون ، يرعون ذلك ويقومون بإتمامه .
{ والذين هم على صلواتهم يحافظون } بإدائها في مواقيتها .
{ أولئك هم الوارثون } ثمَّ ذكر ما يرثون فقال :
{ الذين يرثون الفردوس } وذلك أنَّ الله تعالى جعل لكلِّ امرىءٍ بيتاً في الجنَّة ، فمَنْ عمل عمل أهل الجنَّة ورث بيته في الجنَّة ، والفردوس خير الجنان .
{ ولقد خلقنا الإنسان } ابن آدم { من سلالة } من ماءٍ سُلَّ واستُخرِجَ من ظهر آدم ، وكان آدم عليه السَّلام خُلق من طينٍ .
{ ثمَّ جعلناه } جعلنا الإنسان { نطفة } في أوَّل بُدوِّ خلقه { في قرار مكين } يعني : الرَّحم . وقوله :
{ ثم أنشأنا خلقاً آخر } قيل : يريد الذُّكورية والأُنوثيَّة . وقيل : يعني : نفخ الرُّوح . وقيل : نبات الشَّعر والأسنان { فتبارك الله } استحقَّ التَّعظيم والثَّناء بدوام بقائه { أحسن الخالقين } المُصوِّرين والمُقدِّرين .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)

{ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } سبع سمواتٍ ، كلٌّ سماءٍ طريقةٌ { وما كنَّا عن الخلق غافلين } عمَّن خلقنا من الخلق كلِّهم .

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)

{ وأنزلنا من السماء ماء بقدر } بمقدارٍ معلومٍ عند الله تعالى { فأسكناه } أثبتناه { في الأرض } قيل : هو النِّيل ودجلة ، والفرات ، وسيحان وجيحان . وقيل : هو جميع المياه في الأرض { وإنا على ذهابٍ به لقادرون } حتى تهلكوا أنتم ومواشيكم عطشاً .

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)

{ وشجرة تخرج } يعني : الزَّيتون { من طور سيناء } يعني : جبلاً معروفاُ ، أوَّل ما ينبت الزَّيتون ينبت هناك { تنبت بالدهن } لأنَّه يتَّخذ الدُّهن من الزَّيتون { وصبغ } إدامٍ { للآكلين } .

فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)

{ يريد أن يتفضل عليكم } يتشَّرف عليكم ، فيكون أفضل منكم بأن يكون متبوعاً ، وتكونوا له تبعاً { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } تُبلِّغنا عنه { ما سمعنا بهذا } الذي يدعوا إليه نوحٌ { في آبائنا الأولين } .
{ إن هو } ما هو { إلاَّ رجلٌ به جنة } جنونٌ { فتربصوا به حتى حين } انتظروا موته حتى يموت .
{ قال رب انصرني } بإهلاكهم { بما كذَّبون } بتكذيبهم إيّاي .

فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)

{ فأوحينا إليه . . . } الآية . مُفسَّرة في سورة هود . { فاسلك فيها } أَيْ : اُدخل في السَّفينة ، والباقي مفسَّر في سورة هود .
{ فإذا استويت } اعتدلت في السَّفينة راكباً . الآية .
{ وقل رب أنزلني } منها { منزلاً } إنزالاً { مباركاً } فاستجاب الله تعالى دعاءَه حيث قال : { اهبط بسلام منا وبركات عليك } وبارك فيهم بعد إنزالهم من السَّفينة ، حتى كان جميع الخلق من نسل نوحٍ [ ومَنْ كان معه في السَّفينة ] .
{ إنَّ في ذلك } الذي ذكرت { لآيات } لدلالاتٍ على قدرتنا { وإن كنا لمبتلين } مُختبرين طاعتهم بإرسال نوحٍ إليهم .
{ ثم أنشأنا من بعدهم } أحدثنا { قرناً آخرين } يعني : عاداً .
{ فأرسلنا فيهم رسولاً منهم } وهو هود . وقوله :
{ وأترفناهم } أَيْ : نعَّمناهم ووسَّعنا عليهم .

أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)

{ أنكم مخرجون } أَيْ : من قبوركم أحياء .
{ هيهات هيهات } بُعْداً { لما توعدون } من البعث .
{ إن هي } ما هي { إلاَّ حياتنا الدنيا } يعني : الحياة الدَّانية في هذه الدَّار { نموت ونحيا } يموت الآباء ، ويحيا الأولاد .

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

{ قال رب انصرني } عليهم { بما كذبون } بتكذيبهم إيَّاي .
{ قال عمَّا قليل } عن قريبٍ { ليصبحنَّ نادمين } يندمون إذا نزل بهم العذاب على التَّكذيب .
{ فأخذتهم الصيحة } صيحة العذاب { بالحق } بالأمر من الله تعالى { فجعلناهم غثاء } هلكى هامدين كغثاء السَّيل ، وهو ما يحمله من بالي الشَّجر { فبعداً } فهلاكاً { للقوم الظالمين } المشركين .

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)

{ ما تسبق من أمة أجلها } لا تموت قبل أجلها { وما يستأخرون } بعد الأجل طرفة عين . وقوله :
{ تترا } أَيْ : متتابعةً { وجعلناهم أحاديث } أَيْ : لمَنْ بعدهم يتحدَّثون بهم . وقوله :
{ وكانوا قوماً عالين } مستكبرين قاهرين غيرهم بالظُّلم .

فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)

{ وقومهما لنا عابدون } أَيْ : مُطيعون مُتذلِّلون .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)

{ ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون } لكي يهتدي به قومه .
{ وجعلنا ابن مريم وأُمَّه آية } دلالةً على قدرتنا { وآويناهما إلى ربوة } يعني : بيت المقدس ، وهو أقرب الأرض إلى السَّماء { ذات قرار } أرضٍ مستويةٍ ، وساحةٍ واسعةٍ { ومعين } ماءٍ ظاهرٍ . وقيل : هي دمشق .
{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } هذا خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمراد به أنَّ الله تبارك وتعالى كأنه أخبر أنَّه قد قال لجميع الرُّسل قبله هذا القول ، وأمرهم بهذا ، والمعنى : كلوا من الحلال .
{ وإنَّ هذه أمتكم أمة واحدة } أَيْ : ملَّتكم أيُّها الرُّسل ملَّةٌ واحدةٌ ، وهي الإِسلام { وأنا ربكم } شرعتها لكم [ وبيَّنتها لكم ] { فاتقون } فخافون .
{ فتقطعوا أمرهم بينهم } يعني : المشركين واليهود والنَّصارى { زبراً } فرقاً { كلُّ حزب } جماعةٍ { بما لديهم } بما عندهم من الدِّين { فرحون } مُعجبون مسرورون .

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)

{ فذرهم في غمرتهم } حيرتهم وضلالتهم { حتى حين } [ يريد : حتى حينِ ] الهلاكِ بالسَّيف أو الموت .
{ أيحسبون أنما نمدُّهم به } ما نبسط عليهم { من مال وبنين } من المال والأولاد في هذه الدُّنيا .
{ نسارع لهم في الخيرات } نُعطيهم ذلك ثواباً لهم { بل لا يشعرون } أنَّ ذلك استدراجٌ ، ثمَّ رجع إلى ذكر أوليائه فقال :
{ إنَّ الذين هم من خشية ربهم مشفقون } خائفون عذابه ومكره .

وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)

{ والذين يؤتون ما آتوا } يُعطون ما يُعطون { وقلوبهم وجلة } خائفةٌ أنَّ ذلك لا يُقبل منهم ، وقد أيقنوا أنَّهم إلى ربِّهم صائرون بالموت . وقوله :
{ وهم لها سابقون } أَيْ : إليها ، ثمَّ ذكر أنَّه لم يُكلِّف العبد إلاَّ ما يسعه ، فقال :
{ ولا نكلف نفساً إلاَّ وسعها } فمَنْ لم يستطع أن يصلي قائماً فليصلِّ جالساً { ولدينا كتاب } يعني : اللَّوح المحفوظ { ينطق بالحق } يُبيِّن بالصِّدق { وهم لا يظلمون } لا يُنقصون من ثواب أعمالهم .

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)

ثمَّ عاد إلى ذكر المشركين فقال : { بل قلوبهم في غمرة } في جهالةٍ وغفلةٍ { من هذا } الكتاب الذي ينطق بالحقِّ { ولهم أعمال من دون ذلك } وللمشركين أعمالٌ خبيثةٌ دون أعمال المؤمنين الذين ذكرهم { هم لها عاملون } .
{ حتى إذا أخذنا مترفيهم } رؤساءَهم وأغنياءَهم { بالعذاب } بالقحط والجوع سبع سنين { إذا هم يجأرون } يضجُّون ويجزعون ، ونقول لهم :
{ لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون } لا تُمنعون ، ولا ينفعكم جزعكم .
{ قد كانت آياتي تتلى عليكم } يعني : القرآن { فكنتم على أعقابكم } على أدباركم { تنكصون } ترجعون القهقرى مُكذِّبين به .
{ مستكبرين به } أي : بالحرم ، تقولون : لا يظهر علينا أحدٌ؛ لأنَّا أهل الحرم { سامراً } سُمَّاراً باللَّيل { تُهْجِرُون } تهذون وتقولون الهُجر من سبِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
{ أفلم يدبروا القول } يتدبَّروا القرآن ، فيقفوا على صدقك { أم جاءهم } بل أَجاءهم { ما لم يأت آباءهم الأولين } يريد : إنَّ إنزال الكتاب قد كان قبل هذا ، فليس إنزال الكتاب عليك ببديعٍ ينكرونه .
{ أم لم يعرفوا رسولهم } الذي نشأ فيما بينهم وعرفوه بالصِّدق .
{ أم يقولون } بل أيقولون { به جنة } جنونٌ { بل جاءهم } ليس الأمر كما يقولون ، بل جاءهم الرَّسول { بالحق } بالقرآن من عند الله .

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)

{ ولو اتبع الحق } القرآن الذي يدعو إلى المحاسن { أهواءَهم } التي تدعو إلى المقابح ، أي : لو كان التَّنزيل بما يُحبُّون { لفسدت السموات والأرض } وذلك أنَّها خُلقت دلالةً على توحيد الله ، فلو كان القرآن على مرادهم كان يدعو إلى الشِّرك ، وذلك يُؤدِّي إلى إفساد أدلة التَّوحيد ، وقوله : { ومَنْ فيهنَّ } لأنَّهم حينئذٍ يُشركون بالله تعالى { بل أتيناهم بذكرهم } بشرفهم في الدُّنيا والآخرة .
{ أم تسألهم } أنت يا محمَّد على ما جئت به { خرجاً } جُعلاً وأجراً { فخراجُ ربك } فعطاء ربِّك وثوابه { خير } .

وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)

{ لناكبون } أَيْ : عادلون مائلون .
{ ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضرّ } جدبٍ وقحطٍ { للجوا } لتمادوا { في طغيانهم يعمهون } نزلت هذه الآية حين شكوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقالوا : قتلْتَ الآباء بالسَّيف ، والأبناء بالجوع .
{ ولقد أخذناهم بالعذاب } بالجوع { فما استكانوا لربهم } ما تواضعوا .
{ حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد } يوم بدرٍ . وقيل : عذاب الآخرة { إذا هم فيه مبلسون } آيسون من كلِّ خيرٍ .

وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)

{ وله اختلاف الليل والنهار } أَي : هو الذي جعلهما مختلفين .

قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)

{ ملكوت كل شيء } أَيْ : ملكه . يعني : مَنْ يملك كلَّ شيء؟ { وهو يجير } يُؤمن من يشاء { ولا يجار عليه } لا يُؤمَنُ مَنْ أخافه . وقوله :
{ فأنى تسحرون } تُخدعون وتُصرفون عن توحيده وطاعته .
{ بل أتيناهم بالحق } يعني : القرآن { وإنهم لكاذبون } أنَّ الملائكة بنات الله .
{ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق } ينفرد بمخلوقاته فيمنع الإله الآخر عن الاستيلاء عليها { ولعلا بعضهم على بعض } بالقهر والمزاحمة كالعادة بين الملوك { سبحان الله } تنزيهاً له { عما يصفون } من الكذب .

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)

{ قل رب إما تريني ما يوعدون } ما يُوعَدُ المشركون من العذاب .
{ فلا تجعلني } معهم أَيْ : إنْ أنزلت بهم النِّقمة فاجعلني خارجاً منهم .

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)

{ ادفع بالتي هي أحسن } من الحلم والصَّفح { السيئة } التي تأتيك منهم من الأذى والمكروه { نحن أعلم بما يصفون } فنجازيهم به ، وهذا كان قبل الأمر بالقتال .
{ وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } نزغاتها ووساوسها .
{ وأعوذ بك رب أن يحضرون } في شيءٍ من أموري . وقوله :
{ رب ارجعون } أي : ارددني إلى الدُّنيا .
{ لعلي أعمل صالحاً } أَيْ : أشهد بالتَّوحيد { فيما تركت } حين كنت في الدُّنيا { كلا } لا يرجع إلى الدُّنيا { إنها كلمة هو قائلها } عند الموت ، ولا يُجاب إلى ذلك ، { ومن ورائهم } أمامهم { برزخ } حاجزٌ بينهم وبين الرُّجوع إلى الدُّنيا .
{ فإذا نفخ في الصور } النَّفخة الأخيرة { فلا أنساب بينهم يومئذ } لا يفتخرون بالأنساب { ولا يتساءلون } كما يتساءلون في الدُّنيا من أيِّ قبيلةٍ ونَسبٍ أنت .

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)

{ تلفح } تحرق . { وهم فيها كالحون } عابسون لتقلُّص شفاههم بالانشواء ، فيقال لهم :
{ ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } .
{ قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا } التي قضيتَ علينا { وكنا قوماً ضالين } أقرُّوا على أنفسهم بالضَّلال .

قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)

{ اخسؤوا } أي : تباعدوا تباعد سخطٍ عليكم .

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

{ فاتخذتموهم سخرياً } أَيْ : سخرتم منهم ، واستهزأتم { حتى أنسوكم ذكري } لاشتغالكم بالاستهزاء منهم .
{ إني جزيتهم اليوم } قابلتُ عملهم بما يستحقُّون من الثَّواب { بما صبروا } على أذاكم { أنهم هم الفائزون } النَّاجون من العذاب والنَّار .
{ قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين } قال الله تعالى لمنكري البعث إذا بعثهم من قبورهم : كم لبثتم في قبوركم؟ وهذا سؤال توبيخٍ لهم؛ لأنَّهم كانوا يُنكرون أن يُبعثوا من قبورهم .
{ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } وذلك أنَّ العذاب رُفع عنهم فيما بين النَّفختين ، ونسوا ما كانوا من العذاب ، فاستقصروا مدَّة لبثهم ، فلذلك قالوا : { لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين } أي : فاسأل الملائكة الذين يحفظون عدد ما لبثنا .
{ قال إن لبثتم } ما لبثتم { إلاَّ قليلاً } وإن طال لبثكم؛ في طول لبثكم في النَّار { لو أنكم كنتم تعلمون } مقدار لبثكم في القبر ، وذلك أنَّهم لم يعلموا ذلك حيث قالوا : { لبثنا يوماً أو بعض يوم } فقيل لهم : لو كنتم تعلمون ذلك كان قليلاً عند طول لبثكم في النَّار .
{ أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثاً } أَيْ : للعبث لا لحكمة من ثوابٍ للمطيع ، وعقابٍ للعاصي . وقيل : عبثاً للعبث ، حتى تعبثوا وتغفلوا وتلهوا .
{ رب العرش الكريم } أي : السَّرير الحسن .
{ ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به } لا حجَّة له بما يفعل من عبادته غير الله { فإنما حسابه عند ربه } جزاؤه عند الله تعالى ، فهو يجازيه بما يستحقُّه { إنه لا يفلح الكافرون } لا يسعد المُكذِّبون ، ثمَّ أمره رسوله أن يستغفر للمؤمنين ، ويسأل لهم الرَّحمة فقال :
{ وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين } .

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

{ سورة أنزلناها } أَيْ : هذه سُورةٌ أنزلناها { وفرضناها } ألزمنا العمل بما فُرض فيها .
{ الزانية والزاني } إذا كانا حُرَّين بالغين غير محصنين { فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة } رقَّةٌ ورحمةٌ فَتُعطِّلوا الحدود ، وتخفِّفوا الضَّرب حتَّى لا يُؤلم ، وقوله : { في دين الله } أَيْ : في حكم الله . { وليشهد } وليحضر { عذابهما } جلدهما { طائفة } نفرٌ { من المؤمنين } .
{ الزاني لا ينكح إلاَّ زانية . . . } الآية . نزلت في قومٍ من فقراء المهاجرين همُّوا أن يتزوَّجوا بغايا كنَّ بالمدينة لِعَيْلَتِهم ، فأنزل الله تعالى تحريم ذلك؛ لأنهنَّ كنَّ زانياتٍ مشركاتٍ ، وبيَّن أنَّه لا يتزوَّج بهنَّ إلاَّ زانٍ أو مشركٌ ، وأنَّ ذلك حرامٌ على المؤمنين .

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)

{ والذين يرمون } بالزِّنا { المحصنات } الحرائر العفائف { ثمَّ لم يأتوا } على ما رموهنَّ به { بأربعة شهداء } أَيْ : يشهدون عليهنَّ بذلك { فاجلدوهم } أَي : الرَّامين { ثمانين جلدة } يعني : كلَّ واحدٍ منهم { ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً } لا تُقبل شهادتهم إذا شهدوا؛ لأنَّهم فسقوا برمي المحصنات إلاَّ أن يرجعوا ويُكذِّبوا أنفسهم ويتركوا القذف ، فحينئذٍ تُقبل شهادتهم لقوله تعالى :
{ إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك } .
{ والذين يرمون أزواجهم } يقذفونهنَّ بالزِّنا { ولم يكن لهم شهداء إلاَّ أنفسهم } يشهدون على صحَّة ما قالوا [ إلاَّ هم ] { فشهادة أحدهم أربع شَهاداتٍ بالله } أربع مرات أنَّه صادقٌ فيما قذفها به ، يُسقط عنه الحدَّ ، ثم يقول في الخامسة : لعنةُ الله عليه إنْ كان من الكاذبين ، فإذا فعل الزَّوج هذا وجب الحدُّ على المرأة ، ويسقط ذلك عنها بأن تقول : أشهد بالله إنَّه لمن الكاذبين فيما قذفني به ، أربع مرات ، وذلك قوله تعالى :
{ ويدرأ عنها العذاب } أَيْ : يدفع عنها عقوبة الحدِّ ، والخامسة تقول : عليَّ غضب الله إنْ كان من الصَّادقين .

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)

{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } جواب " لولا " محذوفٌ ، على تقدير : لفضحكم بارتكاب الفاحشة ، ولعاجلكم بالعقوبة ، ولكنَّه { توابٌ } يقبل التَّوبة ، ويرحم مَنْ رجع عن السَّيئة [ { حكيم } فيما فرض من الحدود ] .
{ إنَّ الذين جاؤوا بالإِفك } بالكذب على عائشة رضوان الله عليها وصفوان { عصبة } جماعة { منكم } يعني : حسَّان بن ثابت ، ومسطحاً ، وعبد الله ابن أُبيّ المنافق ، وحمنة بنت جحش { لا تحسبوه } لا تحسبوا ذلك الإفك { شرّاً لكم بل هو خيرٌ لكم } لأنَّ الله تعالى يأجركم على ذلك ، ويُظهر براءتكم { لكلِّ امرىء منهم ما اكتسب من الإِثم } جزاء ما اجترح من الذَّنب { والذي تولَّى كبره } تحمَّل معظمه فبدأ بالخوض فيه ، وهو عبد الله ابن أُبيّ .
{ لولا } هلاَّ { إذ سمعتموه } يعني : الإِفك { ظنَّ المؤمنون والمؤمنات } رجع من الخطاب إلى الخبر ، والمعنى : ظننتم أيُّها المؤمنون بالذين هم كأنفسهم { خيراً } والمؤمنون كلُّهم كالنَّفس الواحدة ، وقلتم : { هذا إفك مبين } كذبٌ ظاهرٌ .

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)

{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسّكم } لأصابكم { فيما أفضتم } خضتم { فيه } من الإفك { عذاب عظيم } .
{ إذ تلقونه بألسنتكم } تأخذونه ويرويه بعضكم عن بعض { وتحسبونه هيناً } وتظنُّونه سهلاً ، وهو كبيرٌ عند الله سبحانه .
{ ولولا } هلاَّ { إذ سمعتموه } سمعتم هذا الكذب { قلتم ما يكون لنا أن نتكلَّم بهذا سبحانك } تعجُّباً من هذا الكذب { هذا بهتان } كذبٌ نتحيَّر من عظمه ، والمعنى : هلا أنكرتموه وصنتم ألسنتكم عن الخوض فيه؟ .
{ يعظكم الله أن تعودوا } كراهة أن تعودوا لمثل هذا الإِفك أبداً .

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)

{ إنَّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } يفشوَ الزِّنا { في الذين آمنوا لهم عذاب أليمٌ } وهم المنافقون كانوا يشيعون هذا الكذب ، ويطلبون العيب للمؤمنين ، وأن يكثر فيهم الزِّنا .
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } لعجَّل لكم الذي تستحقُّونه من العقوبة .
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى } ما صلح وطهر من هذا الذَّنب أحد { منكم } يعني : من الذين خاضوا فيه { ولكنَّ الله يزكي مَنْ يشاء } يُطهِّر مَنْ يشاء من الإِثم والذَّنب بالرَّحمة والمغفرة .
{ ولا يأتل } ولا يحلف { أولو الفضل منكم والسعة } يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه { أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } يعني : مسطحاً ، وكان مسكيناً مهاجراً وكان ابن خالة أبي بكر ، وكان قد حلف أن لا ينفق عليه ولا يُؤتيه شيئاً . { وليعفوا وليصفحوا } عنهم لخوضهم في حديث عائشة { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } فلمَّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق : بلى ، أنا أحبُّ أن يغفر الله لي ، ورَجَع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه .
{ إنَّ الذين يرمون المحصنات الغافلات } عن الفواحش ، كغفلة عائشة رضي الله عنها عمَّا قذفت به { لعنوا } عُذِّبوا { في الدنيا } بالجلد { و } في { الآخرة } بالنَّار .
{ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } وقوله :
{ يوفيهم الله دينهم الحق } أي : جزاءهم الواجب { ويعلمون أنَّ الله هو الحق المبين } لأنَّه قد بيَّن لهم حقيقة ما كان يعدهم به في الدُّنيا .
{ الخبيثات } من القول . وقيل : من النِّساء { للخبيثين } من الرِّجال { والخبيثون } من النَّاس { للخبيثات } من القول . وقيل : من النِّساء { والطيبات } من القول .
وقيل : من النِّساء { للطيبين } من النَّاس { والطيبون } من النَّاس { للطيبات } من القول . وقيل : من النَّاس . { أولئك } يعني : عائشة وصفوان { مبرَّؤون مما يقولون } يقوله أهل الخبث والقاذفون .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا } تستأذنوا { وتسلموا على أهلها } وهو أن يقول : السَّلام عليكم ، أَأَدخلُ؟
{ فإن لم تجدوا فيها } في البيوت { أحداً } يأذن لكم في دخولها { فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا } انصرفوا { فارجعوا } ولا تقفوا على أبوابهم { هو } أي : الرُّجوع { أزكى لكم } أطهر لكم وأصلح ، فلمَّا نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، أفرأيت الخانات والمساكن في الطَّريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله سبحانه :
{ ليس علكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة } بغير استئذانٍ { فيها متاع } منفعةٌ { لكم } في قضاء حاجةٍ ، أو نزولٍ وغيره .
{ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } يكفُّوها عن النَّظر إلى ما لا يحلُّ { ويحفظوا فروجهم } عن مَنْ لا يحلُّ . وقيل : يستروها حتى لا تظهر .

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

{ ولا يبدين زينتهنَّ } يعني : الخلخالين ، والقُرطين ، والقلائد ، والدَّماليج ، ونحوها ممَّا يخفى { إلاَّ ما ظهر منها } وهو الثِّياب ، والكحل ، والخاتم والخضاب ، والسِّوار ، فلا يجوز للمرأة أن تظهر إلاَّ وجهها ويديها إلى نصف الذِّراع { وليضربن بخمرهنَّ } وليلقين مقانعهنَّ { على جيوبهنَّ } ليسترن بذلك شعورهنَّ وقرطهنَّ وأعناقهنَّ { ولا يبدين زينتهن } يعني : الزِّنية الخفيَّة لا الظَّاهرة { إلاَّ لبعولتهن } أزواجهنَّ . وقوله : { أو نسائهنَّ } يعني : النِّساء المؤمنات ، فلا يحلُّ لامرأةٍ مسلمةٍ أن تتجرَّد بين يدي امرأةٍ مشركةٍ إلاَّ إذا كانت المشركة مملوكةً لها ، وهو قوله : { أو ما ملكت أيمانهن أوالتابعين غير أولي الإربة من الرجال } يعني : الذين يتَّبعون النِّساء يخدمونهنَّ ليصيبوا شيئاً ، ولا حاجة لهم فيهنَّ ، كالخصيِّ والخنثى ، والشَّيخ الهَرِم ، والأحمق العنِّين { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } لم يقووا عليها { ولا يضربن بأرجلهنَّ ليعلم ما يخفين من زينتهنَّ } أَيْ : لا يضربن بإحدى الرِّجلين على الأخرى ليصيب الخلخالُ الخلخالَ فيعلم أنَّ عليها خلخالين ، فإنَّ ذلك يحرِّك من الشَّهوة { وتوبوا إلى الله جميعاً } راجعوا طاعة الله سبحانه فيما أمركم ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السُّورة .

وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)

{ وأنكحوا الأيامى منكم } الذين لا أزواج لهم من الرِّجال والنِّساء { والصالحين من عبادكم } عبيدكم { وإمائكم } جواريكم { إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله } هذا وعدٌ من الله تعالى بالغنى على النِّكاح ، وإعلامٌ أنَّه سببٌ لنفي الفقر .
{ وليستعفف } وليعفَّ عن الحرام مَنْ لا يقدر على تزوُّج امرأةٍ ، بأن لا يملك المهر والنًّفقة { حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون } يطلبون { الكتاب } المكاتبة { مما ملكت أيمانكم } من عبيدكم ، وهو أن يطلب من مولاه أن يبيعه منه بمالٍ معلومٍ يُؤدِّيه إليه في مدَّةٍ معلومةٍ ، فإذا أدَّى ذلك عتق { فكاتبوهم } فأعطوهم ما يطلبون من الكتابة { إن علمتم فيهم خيراً } اكتساباً للمال ، يقدرون على أداء مال الكتابة { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } يعني : حطُّوا عنهم من المال الذي كاتبتموهم عليه ، ويستحبُّ ذلك للسيِّد ، وهو أن يحطَّ عنه ربع المال . وقيل : المراد بهذا أن يُؤتوا سهمهم من الزَّكاة { ولا تكرهوا فتياتكم } إماءكم { على البغاء } الزِّنا . نزلت في عبد الله ابن أُبيِّ ، وكانت له جوارٍ يكرههنَّ على الزِّنا ، ويأخذ منهنَّ أجراً معلوماً { إن أردن تحصناً } قيل : إنَّ هذا راجعٌ إلى قوله : { وانكحوا الأيامى منكم والصَّالحين من عبادكم وإمائكم } إن أردن تحصُّناً . وقيل : " إنْ " بمعنى : " إذ " ، والمعنى : لا تكرهوهنَّ على الزِّنا إذ أردن التًّعفُّف عنه { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } يعني : ما يؤخذ من أجورهنَّ { ومن يكرههنَّ } على الزِّنا { فإنَّ الله من بعد إكراههنَّ } لهنَّ { غفور رحيم } والوزر على المُكْرِه .
{ ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } يعني : القرآن { ومثلاً } وخبراً وعبرةً { من الذين خَلَوا } مضوا { من قبلكم } يعني : ما ذُكر من قصص القرون الماضية .
{ الله نور السموات والأرض } أَيْ : بنوره وهداه يَهتدي من في السموات والأرض ، ثمَّ ضرب مثلاً لذلك النُّور الذي يقذفه في قلب المؤمن حتى يهتدي به فقال : { مثل نوره كمشكاة } وهي الكوَّة غير النَّافذة ، والمراد بها ها هنا الذي وسط القنديل كالكوَّة يُوضع فيها الذُّبالة ، وهو قوله : { فيها مصباح } يعني : السِّراج { المصباح في زجاجة } لأنَّ النُّور في الزُّجاج ، وضوء النَّار أبين منه في كلِّ شيءٍ . { الزجاجة كأنها كوكب } لبياضه وصفائه { دريّ } منسوبٌ إلى أنَّه كالدُّرِّ { تُوقدُ } أي : الزُّجاجة ، والمعنى للمصباح ، ولكنه حذف المضاف ، مَنْ قرأ بالياء أراد : يُوقد المصباح { من شجرة } أَيْ : من زيت شجرةٍ { مباركة زيتونة لا شرقية } ليست ممَّا يطلع عليها الشَّمس في وقت شروقها فقط { ولا غربية } أو عند الغروب ، والمعنى : ليس يسترها عن الشَّمس في وقتٍ من النَّهار شيءٌ ، فهو أنضر لها ، وأجود لزيتها { يكاد زيتها يضيء } لصفائه دون السِّراج ، وهو قال عزَّ مِنْ قائلٍ : { يهدي الله لنوره مَنْ يشاء .

. . } الآية
{ في بيوت } أَي : المصباح يوقد في بيوتٍ ، يعني : المساجد { أذن الله أن ترفع } تبنى ، وقوله تعالى :
{ تتقلب فيه القلوب } بين الطَّمع في النَّجاة ، والحذر من الهلاك { والأبصار } تتقلَّب في أيِّ ناحيةٍ يُؤخذ بهم ، أذات اليمين أم ذات الشِّمال؟ ومن أيِّ جهةٍ يُؤتون كُتبهم من جهة اليمين أم من جهة الشِّمال؟
{ ليجزيهم الله أحسن } بأحسن { ما عملوا ويزيدهم من فضله } ما لم يستحقُّوه بأعمالهم ، ثمَّ ضرب مثلاً لأعمال الكافرين ، فقال :
{ والذين كفروا أعمالهم كسراب } وهو ما يرى في الفلوات عند شدَّة الحرِّ ، كأنَّه ماءٌ { بقيعة } جمع قاعٍ ، وهو المنبسط من الأرض { يحسبه الظمآن } يظنُّه العطشان { ماءً حتى إذا جاءه } جاء موضعه { لم يجده شيئاً } كذلك الكافر يحسب أنَّ عمله مُغنٍ عنه أو نافعه شيئاً ، فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد علمه أغنى عنه شيئاً { ووجد الله عنده } ووجد الله بالمرصاد عند ذلك { فوفَّاه حسابه } تحمَّل جزاء عمله .

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)

{ أو كظلمات } وهذا مثلٌ آخرُ ضربه الله لأعمال الكافر { في بحر لجيٍّ } وهو البعيد القعر الكثير الماء { يغشاه } يعلوه { موجٌ } وهو ما ارتفع من الماء { من فوقه موج } متراكمٌ بعضه على بعض { مِن } فوق الموج { سحاب } وهذه كلُّها { ظلمات بعضها فوق بعض } ظلمة السَّحاب ، وظلمة الموج ، وظلمة البحر . { إذا أخرج } النَّاظر { يده } بين هذه الظُّلمات { لم يكد يراها } لم يرها لشدَّة الظُّلمة ، وأراد بالظُّلمات أعمال الكفار ، وبالبحر اللُّجيِّ قلبه ، وبالموج من فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشَّكِّ والحيرة ، وبالسَّحاب الرِّين والختم على قلبه ، ثمَّ قال : { ومَنْ لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } أَيْ : مَنْ لم يهده الله للإِسلام لم يهتد .
{ ألم تر أنَّ الله يسبح له } يصلّي له { من في السموات والأرض } المطيع يُسبِّح له ، والعاصي يذلُّ أيضاً بخلق الله تعالى إيَّاه على ما يشاء ، على أنَّ الله بريءٌ من السُّوء { والطير صافات } أجنحتهنَّ في الهواء تسبِّح الله . { كلٌّ قد علم صلاته } وهي لبني آدم { وتسبيحه } وهو عامٌّ لغيرهم من الخلق .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)

{ ألم تر أنَّ الله يزجي } يسوق { سحاباً } إلى حيث يريد { ثمَّ يؤلف بينه } يجمع بين قطع ذلك السَّحاب { ثم يجعله ركاماً } بعضه فوق بعض { فترى الودق } المطر { يخرج من خلاله } فُرَجِه { وينزل من السماء من جبالٍ } في السَّماء { من بَردٍ فيصيب } بذلك البرد { مَنْ يشاء ويصرفه عَنْ مَنْ يشاء يكاد سنا برقه } ضوء برق السَّحاب { يذهب بالأبصار } من شدَّة توقُّده .
{ يقلب الله الليل والنهار } يُصرِّفهما في اختلافهما وتعاقبهما { إنَّ في ذلك } الذي ذكرت من هذه الأشياء { لعبرة لأولي الأبصار } لذوي العقول .
{ والله خلق كلَّ دابة من ماء } أَيْ : من نطفةٍ { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحيًّات والحيتان { ومنهم من يمشي على رجلين } كالإنس والجنِّ والطَّير { ومنهم مَنْ يمشي على أربع } كالبقر والجمال وغيرهما .

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)

{ ويقولون آمنا بالله } يعني : المنافقين { ثمَّ يتولى } يعرض عن قبول حكم الرَّسول صلى الله عليه وسلم { فريق منهم من بعد ذلك } الإقرار { وما أولئك بالمؤمنين } .
{ وإذا دعوا إلى الله } إلى كتاب الله { ورسوله ليحكم بينهم } نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهوديّ ، كان اليهوديُّ يجرُّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما ، وجعل المنافق يجرُّه إلى كعب بن الأشرف ، وهذا إذا كان الحقُّ على المنافقين أعرضوا عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه كان لا يقبل الرُّشا ، وإن كان لهم الحقُّ على غيرهم أسرعوا إلى حكمه ، وهو وقوله تعالى :
{ وإن يكن لهم الحقُّ يأتوا إليه مذعنين } مُطيعين مُنقادين .

أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)

{ أفي قلوبهم مرض } فجاء بلفظ التَّوبيخ ليكون أبلغ في ذمِّهم { أم ارتابوا } شكُّوا { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } أي : يظلم { بل أولئك هم الظالمون } لأنفسهم بكفرهم ونفاقهم .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجنَّ } وذلك أنَّ المنافقين حلفوا أنَّهم يخرجون إلى حيث يأمرهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم للغزو والجهاد ، فقال الله تعالى : { قل لا تقسموا طاعة معروفة } خيرٌ وأمثلُ من يمينٍ تحنثون فيها .
{ قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمَّل } من تبليغ الرِّسالة { وعليكم ما حملتم } من طاعته . الآية .
{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض } ليورثنَّهم أرض الكفَّار من العرب والعجم { كما استخلف الذين من قبلهم } يعني : بني إسرائيل { وليمكنَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } حتى يتمكَّنوا منه من غير خوفٍ { وليبدلنَّهم من بعد خوفهم } من العدوِّ { أمناً } لا يخافون معه العدوَّ { ومن كفر } بهذه النِّعمة فعصى الله ورسوله ، وسفك الدِّماء { فأولئك هم الفاسقون } فكان أوَّل [ مَنْ كفر ] بهذه النِّعمة بعد ما أنجز الله وعده الذين قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فعادوا في الخوف ، وظهر الشَّرُّ والخلاف .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

{ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } من العبيد والإماء { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } من الأحرار { ثلاث مرَّات } ثمَّ بيَّنهنَّ فقال : { من قبل صلاة الفجر } وهو حين يخرج الإنسان من ثياب النَّوم { وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } للقائلة { ومن بعد صلاة العشاء } الآخرة { ثلاث عورات لكم } يعني : هذه الأوقات؛ لأنَّها أوقات التَّجرُّد وظهور العورة ، { ليس علكم ولا عليهم جناح } ألا يستأذنوا بعد هذه الأوقات { طوافون } أَيْ : هم طوَّافون { عليكم } يريد أنَّهم خدمكم ، فلا بأس عليهم أن يدخلوا في غير هذه الأوقات الثَّلاثة بغير إذنٍ ، وهذه الآية منسوخةٌ عند قومٍ ، وعند قومٍ لم تُنسخ ، ويجب العمل بها .

وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

{ وإذا بلغ الأطفال منكم } من أحراركم { الحلم فليستأذنوا } في كلِّ وقتٍ { كما استأذن الذين من قبلهم } يعني : الكبار من الأحرار .
{ والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً } يعني : العجائز اللاتي أيسن من البعولة { فليس عليهم جناح أن يضعن ثيابهن } جلابيبهنَّ { غير متبرجات بزينة } غير مُظهراتٍ زينتهنَّ ، وهو أن لا تريد بوضع الجلباب أن تُري زينتها { وأن يستعففن } فلا يضعن الجلباب { خيرٌ لهن } .
{ ليس على الأعمى حرج . . . } الآية . كان المسلمون يخرجون للغزو ، ويدفعون مفاتيح بيوتهنَّ إلى الزَّمنى الذين لا يخرجون ، ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ممَّا فيها ، فكانوا يتوقَّون ذلك حتى نزلت هذه الآية . وقوله : { ولا على أنفسكم } أراد : ولا عليكم أنفسكم { أن تأكلوا من بيوتكم } أَيْ : بيوت أولادكم ، فجعل بيوت أولادهم بيوتهم؛ لأنَّ ولد الرَّجل من كسبه ، ومالَه كمالِه ، وقوله : { أو ما ملكتم مفاتحه } يريد : الزَّمنى الذين كانوا يخزنون للغزاة { ليس عليكم جناح أن تأكلوا } من منازل هؤلاءٍ إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ولم يعلموا من غير أن يحملوا ، وهذه رخصةٌ من الله تعالى لطفاً بعباده ، ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق وضيق النَّظر ، وقوله : { أو صديقكم } يجوز للرَّجل أن يدخل بيت صديقه فيتحرَّم بطعامه من غير استئذانٍ بهذه الآية ، وقوله : { أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً } يقول : لا جناح عليكم إن اجتمعتم في الأكل ، أو أكلتم فرادى ، وإن اختلفتم فكان فيكم الزَّهيد والرغيب ، والعليل والصَّحيح ، وذلك أنَّ المسلمين تركوا مؤاكلة المرضى والزَّمنى بعد نزول قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } فقالوا : إنَّهم لا يستوفون من الأكل ، فلا تحلُّ لنا مؤاكلتهم ، فنزلت الرُّخصة في هذه الآية . { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } فليسلِّم بعضكم على بعض . وقيل : إذا دخلتم بيوتاً خالية فليقل الدَّاخل : السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

{ وإذا كانوا معه على أمر جامع } يجمعهم في حربٍ حضرت ، أو صلاةٍ في جمعةٍ ، أو تشاورٍ في أمرٍ { لم يذهبوا } لم يتفرقوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم { حتى يستأذنوه } نزلت في حفر الخندق ، كان المنافقون ينصرفون بغير امر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله :
{ لا تجعلوا دعاءَ الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } أَيْ : لا تقولوا إذا دعوتموه : يا محمد ، كما يقول أحدكم لصاحبه ، ولكن قولوا : يا رسول الله ، يا نبيَّ الله { قد يعلم الله الذين يتسللون } يخرجون في خُفيةٍ من بين النَّاس { لواذاً } يستتر بغيره فيخرج مُختفياً { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } أَيْ : يخالفون أمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وينصرفون بغير إذنه { أن تصيبهم فتنة } بليَّةٌ تُظهر نفاقهم { أو يصيبهم عذاب أليم } عاجلٌ في الدُّنيا .
{ ألا إنَّ لله ما في السموات والأرض } عبيداً وملكاً وخلقاً .

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)

{ تبارك } ثبت ودام { الذي نزل الفرقان } القرآن الذي فرق بين الحقِّ والباطل { على عبده } محمَّد صلى الله عليه وسلم { ليكون للعالمين } الجنِّ والإِنس { نذيراً } مخوِّفاً من العذاب .
{ وخلق كلَّ شيء } ممَّا يُطلق في صفة المخلوق { فقدَّره تقديراً } جعله على مقدارٍ . وقوله :
{ نشوراً } أَيْ : حياةً بعد الموت .
{ وقال الذين كفروا إن هذا } ما هذا القرآن { إلاَّ إفك } كذبٌ { افتراه } اختلقه { وأعانه عليه قوم آخرون } يعنون : اليهود { فقد جاؤوا } بهذا القول { ظلماً وزوراً } كذباً .
{ وقالوا أساطير الأولين } أَيْ : هو ما سطره الأوَّلون { اكتتبها } كتبها { فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً } يعنون أنَّه يختلف إلى مَنْ يعلَّمه بالغداة والعشيِّ .
{ قل } يا محمد لهم : { أنزله } أنزل القرآن { الذي يعلم السر في السموات والأرض } يعلم بواطن الأمور ، فقد أنزله على ما يقتضيه علمه .
{ وقالوا ما لهذا الرسول } يعنون محمداً عليه السَّلام { يأكل الطعام } أنكروا أن يكون الرَّسول بصفة البشر { ويمشي في الأسواق } طلباً للمعاش ، يعنون أنَّه ليس بمَلِكٍ ولا مَلَكٍ { لولا } هلاَّ { أنزل إليه ملك } يُصدِّقه { فيكون معه نذيراً } داعياً إلى الله يشاركه في النُّبوَّة .
{ أو يلقى إليه كنز } يستغني به عن طلب المعاش { وقال الظالمون } المشركون : { إن تتبعون } ما تتبعون { إلاَّ رجلاً مسحوراً } مخدوعاً .
{ انظر } يا محمَّد { كيف ضربوا لك الأمثال } إذ مثَّلوك بالمسحور والفقير الذي لا يصلح أن يكون رسولاً ، والناقص عن القيام بالأمور إذ طلبوا أن يكون معك مَلَك { فضلوا } بهذا القول عن الدَّين والإِيمان { فلا يستطيعون سبيلاً } إلى الهدى ومخرجاً من ضلالتهم .
{ تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } الذي قالوه من إلقاء الكنز ، وجعل الجنَّة ، ثمَّ بيَّن ذلك فقال : { جنات تجري من تحتها الأنهار } يعني : في الدُّنيا؛ لأنَّه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة .

إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)

{ سمعوا لها تغيظاً } أَيْ : صوتاً بغيظٍ ، وهو التَّغضُّب { وزفيراً } صوتاً شديداً .
{ وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً } وذلك أنَّهم يُدفعون في النَّار كما يُدفع الوتد في الحائط { مقرَّنين } مقرونين مع الشَّياطين { دعوا هنالك ثبوراً } ويلاً وهلاكاً ، فيقال لهم :
{ لا تدعوا اليوم ثُبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً } .
{ قل أذلك } الذي ذكرتُ من موضع أهل النَّار ومصيرهم { خيرٌ أم جنة الخلد . . . } الآية . وقوله :
{ وعداً مسؤولاً } لأنَّ الملائكة سألت ذلك لهم في قوله تعالى : { ربَّنا وأَدْخِلْهم جنَّاتِ عدنٍ التي وَعَدْتَهُم ومَنْ صلَحَ من آبائِهم وأزوَاجِهم وذُرِّيَّاتهم } { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله } الأصنام ، والملائكة ، والمسيح ، وعزيراً { فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } هذا توبيخ للكفَّار ، كقوله لعيسى عليه السَّلام : { أَأنتَ قُلْتَ للنَّاس اتَّخذوني وأُمِّي إلهين من دُونِ الله } { قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتَّخذ من دونك أولياء } أن نوالي أعداءك ، وفي هذا براءةُ معبوديهم منهم { ولكن متعتهم وآباءهم } في الدُّنيا بالصَّحة والنِّعمة { حتى نسوا الذكر } تركوا ما وُعظوا به { وكانوا قوماً بوراً } هلكى بكفرهم .
{ فقد كذبوكم بما تقولون } بقولكم : إنَّهم كانوا آلهة { فما تستطيعون } يعني : الآلهة { صرفاً } للعذاب عنكم { ولا نصراً } لكم { ومن يظلم } أَيْ : يشرك { منكم نذقه عذاباً كبيراً } .
{ وما أرسلنا قبلك . . . } الآية . هذا جوابٌ لقولهم : { ما لهذا الرسول . . . } الآية . أخبر الله سبحانه أنَّ كلَّ مَنْ خلا من الرُّسل كان بهذه الصِّفة { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } الصَّحيح للمريض ، والغنيّ للفقير فيقول الفقير : لو شاء الله لأغناني كما أغنى فلاناً ، ويقول المريض : لو شاء الله لعافاني كما عافى فلاناً ، وكذلك كلُّ النَّاس مبتلى بعضهم ببعض ، فقال الله تعالى : { أتصبرون } على البلاء؟ فقد عرفتم ما وُعد الصَّابرون { وكان ربك بصيراً } بمَنْ يصبر ، وبمَنْ يجزع .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)

{ وقال الذين لا يرجون لقاءنا } لا يخافون البعث : { لولا } هلاَّ { أنزل علينا الملائكة } فتخبرنا أنَّ محمداً صادقٌ { أو نرى ربنا } فيخبرنا بذلك { لقد استكبروا في أنفسهم } حين طلبوا من الآيات ما لم يطلبه أُمَّة { وعتوا عتوّاً كبيراً } وغلوا في كفرهم أشدَّ الغلوِّ .
{ يوم يرون الملائكة } يعني : إنَّ ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة ، وإنَّ الله سبحانه حرمهم البشرى في ذلك اليوم ، وتقول لهم الملائكة : { حجراً محجوراً } أَيْ : حراماً محرَّماً عليهم البشرى .
{ وقدمنا } وقصدنا { إلى ما عملوا من عمل } ممَّا كانوا يقصدون به التقرُّب إلى الله سبحانه { فجعلناه هباءً منثوراً } باطلاً لا ثواب له؛ لأنَّهم عملوه للشَّيطان ، والهباء : دقاق التُّراب ، والمنثور : المتفرِّق .
{ أصحاب الجنة يومئذ خيرٌ مستقراً } موضع قرار { وأحسن مقيلاً } موضع قيلولة .
{ ويوم تشقق السماء بالغمام } عن الغمام ، وهو السَّحاب الأبيض الرَّقيق { ونزل الملائكة تنزيلاً } لإكرام المؤمنين .
{ الملك يومئذ الحق } أَيْ : الملك الذي هو الملك حقَّاً ملك الرَّحمن يومئذ .

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)

{ ويوم يعض الظالم } الكافر ، يعني : عُقبة بن أبي مُعَيط كان قد آمن ثمَّ ارتدَّ لرضى أُبيّ بن خلف { على يديه } ندماً وتحسُّراً { يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً } طريقاً إلى الجنة بالإِسلام .
{ يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً } يعني : أُبيَّاً { خليلاً } .
{ لقد أضلني عن الذكر } القرآن { بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً } عند البلاء . يعني : إنًّ قبوله قول أُبيِّ بن خلف في الكفر كان من عمل الشيطان .
{ وقال الرسول } في ذلك اليوم : يا { ربِّ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } متروكاً أعرضوا عنه .
{ وكذلك } وكما جعلنا لك أعداءً من المشركين { جعلنا لكلِّ نبيٍّ عدوَّاً من المجرمين وكفى بربك هادياً } يهديك وينصرك ، فلا تُبالِ بِمَنْ يعاديك .
{ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة } أَيْ : لم نزل عليه متفرِّقاً؟ وهلاَّ كان دفعةً واحدةُ كالتَّوراة والإِنجيل؟ قال الله تعالى : { كذلك } فرَّقنا تنزيله { لنثبت به فؤادك } لِنُقوِّيَ به قلبك ، وذلك أنَّه كلَّما نزل عليه وحيٌ جديدٌ ازداد هو قوَّة قلبٍ { ورتلناه ترتيلاً } بيَّناه تبييناً في تثبُّتٍ ومهلةٍ .

وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)

{ ولا يأتونك } يعني : المشركين { بمثل } يضربونه في إبطال أمرك { إلاَّ جئناك بالحق } بما يردُّ ما جاؤوا به المثل { وأحسن تفسيراً } بياناً وتفصيلاً ممَّا ذكروا .
{ الذين } أَيْ : هم الذين { يحشرون على وجوههم } يُمشيهم الله عليها ، فهم يُساقون على وجوههم { إلى جهنم أولئك شرٌّ مكاناً وأضلُّ سبيلاً } من كلِّ أحدٍ .
{ ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً } أَيْ : مُعيناً وملجأ .
{ فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذَّبوا بآياتنا } وهم القبط ، فكذَّبوهما { فدمَّرناهم تدميراً } أهلكناهم إهلاكاً .
{ وقوم نوحٍ لمَّا كذَّبوا الرسل } مَنْ كذَّب نبيَّاً فقد كذَّب الرُّسل كلَّهم؛ لأنَّهم لا يفرِّقون بينهم في الإيمان بهم . { أغرقناهم وجعلناهم للناس آية } عبرة { وأعتدنا للظالمين } في الآخرة { عذاباً اليماً } سوى ما ينزل بهم من عاجل العذاب . وقوله :
{ وأصحاب الرَّسِّ } كانوا أهل بئرٍ قعودٍ عليها ، وأصحاب مواشٍ يعبدون الأصنام ، فأُهلكوا بتكذيب نبيِّهم { وقروناً } وجماعاتٍ { بين ذلك } الذين ذكرناهم { كثيراً } .
{ وكلاً ضربنا له الأمثال } بيَّنا لهم الأشباه في إقامة الحجَّة عليهم { وكلاًّ تبرنا تتبيراً } أهلكنا إهلاكاً .

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)

{ ولقد أتوا } يعني : مشركي مكَّة { على القرية التي أمطرت مطر السوء } يعني : الحجارة ، وهي قرية قوم لوطٍ { أفلم يكونوا يرونها } إذا مرُّوا بها مسافرين فيعتبروا { بل كانوا لا يرجون نشوراً } لا يخافون بعثاً .
{ وإذا رأوك إن يتخذونك إلاَّ هزواً } ما يتَّخذونك إلاَّ مهزوءاً به ، ويقولون : { أهذا الذي بعث الله رسولاً } إلينا؟
{ إن كاد } إنَّه كاد { ليضلنا عن آلهتنا } فيصدُّنا عن عبادتها { لولا أن صبرنا عليها } لصرفنا عنها .
{ أرأيت من اتخذ إلهه هواه } وهو أنَّهم كانوا يعبدون شيئاً حجراً ، أو ما كان ، فإذا رأوا حجراً أحسن طرحوا الأوَّل وعبدوا الأحسن ، فهم يعبدون ما تهواه أنفسهم { أفأنت تكون عليه وكيلاً } حفيظاً حتى تردَّه إلى الإِيمان ، أَيْ : ليس عليك إلاَّ التبليغ . وقيل : إنَّ هذا ممَّا نسخته آية السَّيف .
{ أم تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون } سماع تفهيم { أو يعقلون } بقلوبهم ما تقول لهم : { إن هم } ما هم { إلاَّ كالأنعام } في جهل الآيات وما جعل لهم من الدَّليل { بل هم أضلُّ سبيلاً } لأنَّ النَّعم تنقاد لمن يتعهده ، وهم لا يطيعون مولاهم الذي أنعم عليهم .
{ ألم ترَ } ألم تعلم { إلى ربك كيف مدَّ الظلَّ } وقت الإِسفار إلى وقت طلوع الشَّمس { ولو شاء لجعله } لجعل الظلَّ { ساكناً } ثابتاً دائماً { ثمَّ جعلنا الشمس عليه دليلاً } لأنَّ بالشَّمس يُعرف الظِّلُّ .
{ ثم قبضناه } قبضنا الظِّلَّ إلينا بارتفاع الشَّمس { قبضاً يسيراً } قيل : خفيَّاً . وقيل : سهلاً .
{ وهو الذي جعل لكم الليل لباساً } يستركم { والنوم سباتاً } راحةً لأبدانكم { وجعل النهار نشوراً } حياة تنتشرون فيه من النَّوم . وقوله :
{ طهوراً } هو الطَّاهر المُطهِّر .
{ لنحيي به } بالماء الذي أنزلناه من السَّماء { بلدة ميتاً } بالجدوبة { ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً } جمع إنسيٍّ ، وهم الذين سقيناهم المطر .
{ ولقد صرفناه } أَيْ : المطر { بينهم } بأنواعه وابلاً ، وطشَّاً ، ورُهَاماً ، ورذاذاً { ليذكروا } ليتذكَّروا به نعمة الله تعالى { فأبى أكثر الناس إلاَّ كفوراً } جُحوداً حين قالوا : سُقينا بِنَوء كذا .
{ ولو شِئنا لبعثنا في كلِّ قرية نذيراً } لنخفِّف عليك أعباء النبوَّة ، ولكن لم نفعل ذلك ليعظم أجرك .
{ فلا تطع الكافرين } في هواهم ولا تداهنهم { وجاهدهم به } وجاهد بالقرآن { جهاداً كبيراً } لا يُخالطه فتورٌ .

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

{ وهو الذي مرج البحرين } خلطهما { هذا عذب فرات } شديد العذوبة { وهذا ملحٌ أجاج } شديد الملوحة { وجعل بينهما } بين العذب والمالح { برزخاً } حاجزاً من قدرته حتى لا يختلط أحدهما بالآخر { وحجراً محجوراً } حراماً محرَّماً أن يغلب أحدهما صاحبه .
{ وهو الذي خلق من الماء } النُّطفة { بشراً } آدمياً { فجعله نسباً } لا يحلُّ تزوُّجه { وصهراً } يحلُّ تزوُّجه ، كابنة العمِّ والخال ، وابنهما { وكان ربك قديراً } قادراً على ما يشاء . وقوله :
{ وكان الكافر على ربه ظهيراً } معيناً للشَّيطان على معصية الله سبحانه .

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)

{ قل ما أسألكم عليه } على تبليغ الرِّسالة والوحي { من أجر } فيقولون : إنَّه يطلب أموالنا { إلاَّ من شاء } لكن مَنْ شاء { أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } بإنفاق ماله .

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)

{ فاسأل به خبيراً } فاسأل أيُّها الإنسان الذي لا تعلم صفته خبيراً يخبرك بصفاته .
{ وإذا قيل لهم } لهؤلاء المشركين : { اسجدوا للرحمن } وهو اسم الله سبحانه ، كانوا لا يعرفونه لذلك قالوا : { وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا } أنت يا محمد { وزادهم } قول القائل لهم : اسجدوا للرَّحمن { نفوراً } عن الإِيمان .

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)

{ تبارك الذي جعل في السماء بروجاً } أَيْ : منازل الكواكب السَّبعة { وجعل فيها سراجاً } وهو الشَّمس .
{ وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْقَةً } إذا ذهب هذا أتى هذا ، فأحدهما يخلف الآخر ، فمَنْ فاته عملٌ بالليل فله مُسْتَدْرَكٌ بالنَّهار ، وهو قوله : { لمن أراد أن يذكَّر } يذكر الله بصلاةٍ وتسبيحٍ وقراءةٍ { أو أراد شكوراً } شكراًَ لنعمته وطاعته .
{ وعباد الرحمن } يعني : خواصَّ عباده { الذين يمشون على الأرض هوناً } بالسَّكينة والوقار { وإذا خاطبهم الجاهلون } بما يكرهونه { قالوا سلاماً } سداداً من القول يسلمون فيه من الإِثم .

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)

{ غراماً } أيْ : شرَّاً لازماً .

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)

{ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا } لم يكن إنفاقهم في معصية الله تعالى { ولم يقتروا } لم يمنعوا حقَّ الله سبحانه { وكان } إنفاقهم بين الإِسراف والإِقتار { قوماً } قائماً ، قوله :
{ يلق أثاماً } أَيْ : عقوبةً . وقيل : جزاء الآثام .

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

{ يبدّل الله سيئاتهم حسنات } يُبدِّلهم الله بقبائح أعمالهم في الشِّرك محاسن الأعمال في الإسلام ، بالشِّرك إيماناً ، وبالزِّنا عفَّة وإحصاناً ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين .
{ ومن تاب } أَيْ : عزم على التَّوبة { فإنه يتوب إلى الله متاباً } فينبغي أن يبادر إليها ويتوجَّه بها إلى الله .
{ والذين لا يشهدون الزور } لا يشهدون بالكذب { وإذا مرُّوا باللغو مروا كراماً } سمعوا من الكفار الشَّتم والأذى صفحوا وأعرضوا ، وهو منسوخ بالقتال على هذا التَّفسير .
{ والذين إذا ذكروا } وُعظوا { بآيات ربهم } بالقرآن { لم يخروا عليها صماً وعمياناً } لم يتغافلوا عنها كأنَّهم صمٌّ لم يسمعوها ، وعميٌّ لم يروها .
{ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } بأَنْ نراهم مطيعين لك صالحين { واجعلنا للمتقين إماماً } أَيْ : اجعلنا ممَّن يهتدي به المُتَّقون ، ويهتدي بالمتَّقين .

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)

{ أولئك يجزون } يثابون { الغرفة } الدرجة في الجنة { بما صبروا } على طاعة الله سبحانه { ويلقون } ويُستقبلون { فيها } في الغرقة بالتَّحيَّة والسَّلام .

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

{ قل ما يعبأ بكم } أَيْ : ما يفعل ويصنع ، وأيُّ وزنٍ لكم عنده { لولا دعاؤكم } توحيدكم وعبادتكم إياه { فقد كذبتم } يا أهل مكَّة ، فخرجتم عن أن يكون لكم عنده مقدار { فسوف يكون } العذاب لازماً لكم .

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)

{ طسم } أقسم الله بطَوله وسنائه وملكه .
{ تلك } هذه { آيات الكتاب المبين } يعني : القرآن .
{ لعلَّك باخعٌ نفسك } قاتلٌ نفسك { ألا يكونوا مؤمنين } لتركهم الإِيمان ، وذلك أنَّه لما كذَّبه أهل مكًّة شقَّ عليه ذلك ، فأعلمه الله سبحانه أنَّه لو شاء لاضطرهم إلى الإِيمان ، فقال :
{ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } يذلُّون بها ، فلا يلوي أحدٌ منهم عنقه إلى معصية الله تعالى .
{ وما يأتيهم من ذكرٍ } من وعظٍ { من الرحمن محدث } في الوحي والتَّنزيل .
{ فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } فسيعلمون نبأ ذلك ، وهو وعيدٌ لهم .

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)

{ كم أنبتنا فيها من كلِّ زوج كريم } من كلِّ نوع محمودٍ ممَّا يحتاج إليه النَّاس .
{ إنَّ في ذلك لآية } لدلالةً على توحيد الله سبحانه وقدرته { وما كان أكثرهم مؤمنين } لما سبق في علمي وقضائي فيهم .

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)

{ و } اذكر يا محمَّدُ { إذ نادى ربك موسى } ليلة رأى الشَّجرة والنَّار { أن ائت القوم الظالمين } لأنفسهم بالكفر .
{ قوم فرعون ألا يتقون } ألا يخافون الله سبحانه فيؤمنوا به .

وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)

{ ويضيق صدري } من تكذيبهم إيَّاي { ولا ينطلق لساني } بأداء الرِّسالة للعقدة التي في فيه { فأرسل إلى هارون } ليظاهرني على التَّبليغ .
{ ولهم عليَّ ذنب } بقتل القبطيِّ .
{ قال كلا } لا يقتلونك { إنَّا معكم } بالنُّصرة { مستمعون } نسمع ما تقول ويقال لك .
{ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول } ذوا رسالة { ربّ العالمين } .
{ أن أرسل معنا بني إسرائيل } مفسَّرٌ في سورة طه ، فلمَّا أتاه بالرِّسالة عرفه فرعون .

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)

{ ألم نُربِّك فينا وليداً } صبيّاً { ولبثت فينا من عمرك سنين } ثلاثين سنةً .
{ وفعلت فعلتك التي فعلت } يعني : قتل القبطيِّ { وأنت من الكافرين } الجاحدين لنعمتي عليك .
{ قال } موسى : { فعلتها إذاً وأنا من الضالين } الجاهلين ، لم يأتني من الله شيءٌ .

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)

{ وتلك نعمة تمنُّها عليَّ } أقرَّ بإنعامه عليه ، فقال : هي نعمةٌ إذ ربَّيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إسرائيل . و { عبَّدت } معناه : اتَّخذت عبيداً .
{ قال فرعون وما ربُّ العالمين } أَيُّ شيءٍ ربُّ العالمين الذي تزعم أنَّك رسوله؟
{ قال ربُّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين } أنَّه خالقهما .
{ قال } فرعون { لمن حوله } من أشراف قومه مُعجبِّاً لهم : { ألا تستمعون } إلى ما يقوله : موسى؟! فقال موسى :
{ ربكم وربُّ آبائكم الأولين } .
{ قال } فرعون : { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } يتكلَّم بكلام لا تعرف صحَّته .
{ قال } موسى : { ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } فقال فرعون حين لزمته الحجَّة :
{ لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين } من المحبوسين في السِّجن .

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)

{ قال } موسى : { أَوَلَوْ جِئِتُكَ بشيء مبين } يعني : أَوَ تَفْعَلُ ذلك وإن أتيتُك على ما أقول بحجَّةٍ بيِّنةٍ؟
{ قال فأت به } مفسَّر أكثره إلى قوله تعالى :
{ قالوا لا ضير } لا ضرر { إنا إلى ربنا منقلبون } راجعون إلى ثوابٍ .
{ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أنْ كنا } لأن كنَّا { أول المؤمنين } من هذه الأُمَّة .
{ وأوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي إنكم متبعون } يتَّبعكم فرعون وقومه .

{ قال } موسى : { أَوَلَوْ جِئِتُكَ بشيء مبين } يعني : أَوَ تَفْعَلُ ذلك وإن أتيتُك على ما أقول بحجَّةٍ بيِّنةٍ؟
{ قال فأت به } مفسَّر أكثره إلى قوله تعالى :
{ قالوا لا ضير } لا ضرر { إنا إلى ربنا منقلبون } راجعون إلى ثوابٍ .
{ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أنْ كنا } لأن كنَّا { أول المؤمنين } من هذه الأُمَّة .
{ وأوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي إنكم متبعون } يتَّبعكم فرعون وقومه .

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)

{ فأرسل فرعون في المدائن حاشرين } يعني : الشُّرَط ليجمعوا له الجيش ، وقال لهم :
{ إنَّ هؤلاء } يعني : بني إسرائيل { لشرذمة } عصبةٌ { قليلون } .
{ وإنهم لنا لغائظون } مُغضبون بمخالفتهم إيَّانا .
{ وإنا لجميع حاذرون } مُستعدّون للحرب بأخذ أداتها و { حذرون } متيقِّظون .
{ فأخرجناهم من جنات } يعني : حين خرجوا من مصر ليلحقوا موسى وقومه .
{ ومقام كريم } مجلسٍ حسنٍ .
{ كذلك } كما وصفنا { وأورثناها } بهلاكهم { بني إسرائيل } .
{ فأتبعوهم } لحقوهم { مشرقين } في وقت شروق الشَّمس .
{ فلما تراءى الجمعان } رأى كلُّ واحدٍ الآخر { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } أيْ : سيدركنا جمع فرعون .
{ قال : كلا } لن يدركونا { إنًّ معي ربي } بالنُّصرة { سيهدين } طريق النَّجاة .
{ فكان كلُّ فرق } قطعةٍ من الماء { كالطود العظيم } كالجبل .
{ وأزلفنا ثمَّ الآخرين } قرَّبنا قوم فرعون إلى الهلاك ، وقدَّمناهم إلى البحر .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)

{ وما كان أكثرهم مؤمنين } لم يؤمن من أهل مصر إلاَّ رجلٌ وامرأتان .

فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)

{ فإنَّهم عدوٌّ لي } أَيْ : هذه الآلهة التي تعبدونها عدوٌّ لي ، أعاديهم أنا ولا أعبدهم { إلاَّ ربَّ العالمين } لكن ربّ العالمين أعبده .
{ الذي خلقني } ظاهرٌ إلى قوله :
{ لسان صدقٍ في الآخرين } أَيْ : ذكراً جميلاً ، وثناءً حسناً في الأمم التي تجيء بعدي .
{ واجعلني } ممَّن يرث الجنَّة بفضلك ورحمتك .

إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)

{ إلاَّ مَنْ أتى الله بقلب سليم } سلم من الشِّرك .
{ وأزلفت الجنة } قرِّبت { للمتقين } .
{ وبرزت } وأُظهرت { الجحيم للغاوين } للكافرين .

فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)

{ فكبكبوا فيها } طُرح بعضهم على بعض في الجحيم { هم والغاوون } يعني : الشَّياطين .
{ وجنود إبليس } أتباعه من الجنِّ والإِنس .
{ قالوا } للشَّياطين والمعبودين .
{ تالله إن كنا لفي ضلال مبين } .
{ إذ نسويكم } نَعْدِلُكُمْ { بربِّ العالمين } في العبادة .
{ وما أضلّنا } وما دعانا إلى الضَّلال { إلاَّ المجرمون } أوَّلونا الذين اقتدينا بهم .
{ فما لنا من شافعين } .
{ ولا صديق حميم } قريبٍ يشفع .
{ فلو أنَّ لنا كرَّة } رجعةً إلى الدُّنيا ، تمنَّوا أن يرجعوا إلى الدُّنيا فيؤمنوا . وقوله :
{ إني لكم رسول أمين } على الوحي والرِّسالة؛ لأنَّكم عرفتموني قبل هذا بالأمانة .

قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)

{ واتبعك الأرذلون } يعني : السَّفلة والحاكة .

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)

{ من المرجومين } أَيْ : من المشتومين . وقيل : من المقتولين .

فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)

و { الفلك المشحون } المملوء .

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)

{ أتبنون بكلِّ ريع } أَيْ : شَرَفٍ ومكانٍ مرتفعٍ { آية } علماً { تعبثون } تلعبون : يعني : أبنية الحمام وبروجها .
{ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } أَيْ : تتخذون مباني وقصوراً للخلود ، لا تُفكِّرون في الموت .
{ وإذا بطشتم بَطَشْتُمْ جبارين } إذا ضربتم بالسَّوط ، و [ إذا عاقبتم ] قتلتم فعل الجبَّارين الذين يقتلون على الغضب بغير حقٍّ .

إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)

{ إن هذا } ما هذا الذي تدعونا إليه { إلا خَلْق الأوَّلين } كذبهم وافتراؤهم . ومَنْ قرأ { خُلق الأولين } فمعناه : عادة الأوَّلين ، أَيْ : الذي نحن فيه عادة الأوَّلين يعيشون ما عاشوا ، ثمَّ يموتون ولا بعثٌ ولا حسابٌ .

أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)

{ أتتركون في ما هاهنا } أَيْ : في الدُّنيا { آمنين } من الموت والعذاب .

وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)

{ ونخل طلعها } أَيْ : ثمرها . { هضيم } أَيْ : [ ليِّنٌ ] نضيجٌ .
{ وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين } حاذقين بنحتها ، و { فرهين } أشرين بطرين ، وكانوا مُعمَّرين لا يبقى البناء مع عمرهم ، فنحتوا في الجبال بيوتاً .

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)

{ إنما أنت من المسحرين } أَيْ : من الذين سُحروا مرَّةً بعد أخرى : وقيل : ممَّن له سَحر ، وهو الرِّئة ، أَيْ : إنَّما أنت بشرٌ مثلنا .

قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)

{ لها شربٌ } أَيْ : حظٌّ ونصيبٌ من الماء .
{ لا تمسوها بسوء } بعقرٍ .

أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)

{ أتأتون الذكران من العالمين } يريد : ما كان من فعل قوم لوطٍ مِنْ إتيان الرِّجال في أدبارهم .
{ وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } وتدَعون أن تأتوا نسائكم { بل أنتم قوم عادون } ظالمون غاية الظُّلم .
{ قالوا : لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين } عن بلدنا .
{ قال : إني لعملكم } يعني : اللِّواط { من القالين } من المُبْغِضين .

إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)

{ إلاَّ عجوزاً } يعني : امرأته { في الغابرين } في الباقين في العذاب .
{ ثمَّ دمرنا } أهلكنا .

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)

{ كذَّب أصحاب الأيكة } وهي الغيضة ، وهم قوم شعيب .

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)

{ أوفوا الكيل } أتمُّوه { ولا تكونوا من المخسرين } النَّاقصين للكيل والوزن .

وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

{ والجبلَّة الأولين } أَيْ : الخليقة السَّابقين .

فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)

{ فأسقط علينا كسفاً من السماء } أَيْ : قطعةً .
{ قال ربي أعلم بما تعملون } فيجازيكم به ، وما عليَّ إلاَّ الدَّعوة .
{ فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة } وذلك أنَّ الحرَّ اخذهم ، فلم ينفعهم ماءٌ ولا كَنٌّ ، فخرجوا إلى البرِّيَّة ، وأظلَّتهم سحابةٌ وجدوا لها برداً ، واجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا به .

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)

{ وإنه } يعني : القرآن { لتنزيل رب العالمين } .
{ نزل به الروح الأمين } جبريل عليه السَّلام .
{ على قلبك } حتى وعيته .

وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)

{ وإنه } وإنَّ ذكر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { لفي زبر الأولين } لفي كتب الأوَّلين .
{ أو لم تكن لهم } للمشركين { آية } دلالةً على صدقه { أن يعلمه علماء بني إسرائيل } يعلمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالنُّبوَّة والرِّسالة .

وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)

{ ولو نزلناه } يعني : القرآن { على بعض الأعجمين } جمع الأعجم ، وهو الذي لا يحسن العربيَّة .
{ فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } أنفةً من اتَّباعه .
{ كذلك سلكناه } أدخلنا التَّكذيب { في قلوب المجرمين } فذلك الذي منعهم عن الإِيمان .
{ لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم } .
{ فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون } .
{ فيقولوا هل نحن منظرون } فلمَّا نزلت هذه الآيات قالوا : إلى متى توعدنا بالعذاب؟ فأنزل الله سبحانه :
{ أفبعذابنا يستعجلون } .
{ أفرأيت إن متعناهم } بالدُّنيا وأبقيناهم فيها { سنين } .
{ ثمَّ جاءهم } العذاب لم ينفعهم إمتاعهم بالدُّنيا فيما قبل .

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

{ وما أهلكنا من قرية إلاَّ لها منذرون } رسلٌ ينذرونهم .
{ ذكرى } إنذاراً للموعظة { وما كنا ظالمين } في إهلاكهم بعد قيام الحُجَّة عليهم .
{ وما تَنَزَّلَتْ به } بالقرآن { الشياطين } .
{ وما ينبغي لهم } ذلك { وما يستطيعون } ذلك .
{ إنَّهم } عن استراق السَّمع من السَّماء { لمعزولون } بالشُّهب .

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)

{ وأنذر } خوِّف { عشيرتك الأقربين } أدنى أهلك وأقاربك .
{ واخفض جناحك } ليِّن جانبك .

الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)

{ الذي يراك حين تقوم } أَيْ : إلى صلاتك .
{ وتقلبك } تصرُّفك في أركان الصَّلاة قائماً وقاعداً ، وراكعاَ ، وساجداً { في الساجدين } في المُصلِّين .

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

{ هل أنبئكم } أخبركم { على مَنْ تنزل الشياطين } .
{ تنزَّل على كلِّ أفاك } كذَّاب { أثيم } فاجرٍ ، مثل مسيلمة وغيره من الكهنة .
{ يلقون } إليهم ما سمعوا ويخلطوا بذلك كذباً كثيراً ، وهذا كان قبل أن حجبوا عن السَّماء .
{ والشعراء يتبعهم الغاوون } يعني : شعراء الكفَّار ، كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتَّبعهم الكفَّار .
{ ألم ترَ أنهم في كلِّ وادٍ يهيمون } في كلِّ لغوٍ يخوضون ، يمدحون بباطلٍ ، ويشتمون بباطلٍ ، ثمَّ استثنى شعراء المؤمنين فقال :
{ إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا } ردُّوا على مَنْ هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين { وسيعلم الذين ظلموا أَيَّ منقلب ينقلبون } أَيَّ مرجعٍ يرجعون إليه بعد مماتهم .

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)

{ طس تلك آيات القرآن } هذه الآيات التي وُعدتم بها ، وذلك أنَّهم وُعدوا بالقرآن في كتبهم { وكتاب } أَيْ : وآياتِ كتابٍ { مبين } .
{ هدىً } أَيْ : هو هدىً { وبشرى للمؤمنين } .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)

{ إنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم } جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زيَّنا لهم أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنةً { فهم يعمهون } يتحيَّرون .
{ أولئك الذين لهم سوء العذاب } في الدُّنيا القتل ببدرٍ ، { وهم في الآخرة هم الأخسرون } بحرمان النَّجاة ، والمنع من الجنان .
{ وإنك لتلقى القرآن . . . } الآية . أَيْ : يلقى إليك القرآن وحياً من الله سبحانه .
{ إذ قال موسى } اذكر يا محمَّد قصَّة موسى حين قال { لأهله } في مسيرة من مدين إلى مصر ، وقد ضلَّ الطَّريق ، وأصلد زنده : { إني آنست ناراً } أبصرتها من بعيد { سآتيكم منها بخير } عن الطَّريق أين هو { أو آتيكم بشهاب قبسٍ } شعلة نار أقتبسها لكم { لعلكم تصطلون } تستدفئون من البرد .
{ فلمَّا جاءها نودي أن بورك مَنْ في النار } أَيْ : مَنْ في طلب النَّار وقصدها ، والمعنى : بورك فيك يا موسى . يقال : بورك فلانٌ ، وبورك له ، وبورك فيه { ومَنْ حولها } وفيمن حولها من الملائكة ، وهذا تحيَّةٌ من الله سبحانه لموسى وتكرمةٌ له { وسبحان الله ربِّ العالمين } تنزيهاً لله من السُّوء .

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

{ تهتزُّ } أَيْ : تتحرَّك { كأنَّها جانّ } حيَّةٌ خفيفةٌ { ولى مدبراً ولم يعقب } ولم يرجع ولم يلتفت قلنا : { يا موسى لا تخف } .
{ إلاَّ مَنْ ظلم } لكن مَنْ ظلم نفسه { ثمَّ بدَّل حسناً بعد سوء } أَيْ : تاب { فإني غفورٌ رحيم } . وقوله :
{ في تسع آيات } أَيْ : من تسع آيات أنت مرسلٌ بها . { إلى فرعون وقومه } . وقوله :
{ مبصرة } أَيْ : مضيئةً واضحةً .
{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم . . . } الآية . معناها : وجحدوا بها ظلماً وترفُّعاً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنَّها من عند الله عزَّ وجلَّ .

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)

{ وورث سليمان داود } نبوَّته وعلمه دون سائر أولاده { وقال : يا أيُّها الناس علِّمنا منطق الطير } فهمنا ما يقوله الطَّير .
{ وحشر } وجُمع { لسليمان جنوده } في مسيرٍ له { فهم يوزعون } يُحبس أوَّلهم على آخرهم حتى يجتمعوا .
{ حتى إذا أتوا على وادي النمل } كان هذا الوادي بالشَّام ، وكانت نملة كأمثال الذُّباب { لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده } لا يكسرنَّكم بأن يطؤوكم .
{ فتبسَّم } سليمان عليه السلام لمَّا سمع قولها ، وتذكَّر ما أنعم الله به عليه فقال : { ربِّ أوزعني } ألهمني { أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن عمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } .
{ وتفقد الطير } طلبها وبحث عنها { فقال : ما لي لا أرى الهدهد أم كان } بل أَكان { من الغائبين } لذلك لم يره .
{ لأعذبنه عذاباً شديداً } لأنتفنَّ ريشه وألقينَّه في الشَّمس { أو ليأتيني بسلطان مبين } حجَّةٍ واضحةٍ في غيبته .
{ فمكث غير بعيدٍ } لم يطل الوقت حتى جاء الهدهد ، وقال لسليمان : { أحطتُ بما لم تحط به } علمتُ ما لم تعلمه { وجئتك من سبأ } وهي مدينةٌ باليمن { بنبأ يقين } بخبرٍ لا شكَّ فيه . وقوله :
{ وأوتيت من كلِّ شيء } أَيْ : ممَّا يُعطى الملوك { ولها عرش } سريرٌ { عظيم } .

أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)

{ ألا يسجدوا } أَيْ : لأنْ لا يسجدوا لله { الذي يخرج الخبء في السموات والأرض } القطر من السَّماء ، والنَّبات من الأرض .

اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)

{ ثمَّ تولَّ عنهم } أَيْ : استأخر غير بعيدٍ { فانظر ماذا يرجعون } ما يردُّون من الجواب ، فمضى الهدهد ، وألقى إليها الكتاب ، ف
{ قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليَّ كتاب كريم } حسنٌ ما فيه ، ثمَّ بيَّنت ما فيه فقالت :
{ إنَّه من سليمان وإنَّه بسم الله الرحمن الرحيم } .
{ ألا تعلوعليَّ } أَيْ : لا تترفَّعوا عليَّ وإن كنتم ملوكاً { وأتوني مسلمين } طائعين مُنقادين .
{ قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } بيِّنوا لي ما أعمل { ما كنت قاطعة } قاضيةً وفاصلةً { أمر حتى تشهدون } حتى تحضرون ، أَيْ : لا أقطع أمراً دونكم .
{ قالوا } مُجيبين لها : { نحن أولو قوَّة } في القتال { وأولو بأس شديد } عند الحرب { والأمر إليك } أيَّتها الملكة { فانظري ماذا تأمرين } نُطِعْك .
{ قالت : إنَّ الملوك إذا دخلوا قرية } عنوةً وغلبةً { أفسدوها } خرَّبوها { وجعلوا أعزَّة أهلها أذلة } أهانوا أشرافها بها؛ ليستقيم لهم الأمر ، أشارت إلى أنَّها لو جاءت سليمان محاربةً احتاجت إلى التَّخريب والإِفساد ، وصدَّقها الله سبحانه في قولها فقال : { وكذلك يفعلون } .
{ وإني مرسلة إليهم بهدية } أُصانعه بها وأختبره أملكٌ هو أم نبيٌّ؟ فإن كان ملكاً قبلها ، وإن كان نبيّاً لم يقبلها { فناظرة بِمَ } بأيِّ شيءٍ { يرجع المرسلون } من عنده .
{ فلما جاء } البريد أو الرَّسول { سليمان قال أتمدونني بمالٍ فما آتاني الله } من الدِّين والنُّبوَّة والحكمة { خيرٌ مما آتاكم } من الدُّنيا { بل أنتم بهديتكم تفرحون } لأنَّهم أهل مكاثرة بالدُّنيا ، ثمَّ قال للرَّسول :
{ ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم } لا طاقة لهم { بها ولنخرجنَّهم منها } من أرضهم { أذلة } ، فجاءها الرَّسول وأخبرها بما رأى وشاهد ، فتجهَّزت للمسير إلى سليمان ، فلمَّا علم سليمان عليه السَّلام بمسيرها إليه .
{ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } سريرها { قبل أن يأتوني مسلمين } لأنَّه حينئذٍ لا يحلُّ أخذ ما في أيديهم .

قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)

{ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } سريرها { قبل أن يأتوني مسلمين } لأنَّه حينئذٍ لا يحلُّ أخذ ما في أيديهم .
{ قال عفريت من الجن } وهو المارد القويُّ : { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } من مجلسك الذي جلستَ فيه للحكم { وإني عليه } على حمله { لقويٌّ أمين } على ما فيه من الجواهر ، فقال سليمان عليه السَّلام : أريد أسرع من هذا ، ف
{ قال الذي عنده علم من الكتاب } وهو آصف بن برخيا ، وكان قد قرأ كتب الله سبحانك { أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك } قبل أن يرجع إليك الشَّخَص من منتهى طرفك { فلما رآه } رأى سليمان عليه السَّلام العرش { مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر } نعمته { أم أكفر } ها { ومَنْ شكر فإنما يشكر لنفسه } لأَنَّ نفع ذلك يعود إليه ، حيث يستوجب المزيد { ومَنْ كفر فإنَّ ربي غنيٌّ } عن شكره { كريم } بالإٍفضال على مَنْ يكفر النِّعمة .
{ قال نكروا } غيِّروا لها { عرشها } بتغيير صورته { ننظر أتهتدي } أتعلم أنَّه عرشها فتعرفه .
{ فلما جاءت قيل : أهكذا عرشك قالت كأنّه هو } شبَّهته به؛ لأنَّه كان مُغيَّراً ، وأراد سليمان أن يختبر عقلها؛ لأنَّه قيل له : إنَّ في عقلها شيئاً ، ثمَّ قالت : { وأوتينا العلم } بصحَّة نبوَّة سليمان { من قبلها } من قبل هذه الآية التي رأيتُها في إحضار العرش { وكنا مسلمين } منقادين له قبل مجيئنا .

وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)

{ وصدَّها } ومنها [ عن ] الإيمان { ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين } فنشأت فيهم ، ولم تعرف إلاَّ قوماً يعبدون الشَّمس .
{ قيل لها ادخلي الصرح } وذلك أنَّه قيل لسليمان عليه السَّلام : إنَّ قدميها كحافر الحمار ، فأراد سليمان أن يرى قدميها ، فاتَّخذ له ساحةً من زجاجٍ تحته الماء والسَّمك ، وجلس سليمان في صدر الصَّرح ، وقيل لها : ادخلي الصَّرح { فلما رأته حسبته لجة } ماءً ، وهي معظمه { وكشفت عن ساقيها } لدخول الماء ، فرأى سليمان قدمها وإذا هي أحسن النَّاس ساقاً وقدماً ، و { قال } لها : { إنَّه صرح ممرَّد } أملس { من قوارير } ، ثمَّ إنَّ سليمان عليه السَّلام دعاها إلى الإِسلام فأجابت و { قالت : رب إني ظلمت نفسي } بالكفر { وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين } . وقوله :
{ فإذا هم فريقان } فإذا قوم صالحٍ فريقان مؤمنٌ وكافرٌ { يختصمون } يقول كلُّ فريقٍ : الحقُّ معي ، وطلبت الفرقة الكافرة على تصديق صالح عليه السَّلام العذاب ، فقال :
{ يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة } أَي : لمَ قلتم : إنْ كان ما أتيت به حقاً فأْتنا بالعذاب { لولا } هلاَّ { تستغفرون الله } بالتَّوبة من الكفر { لعلكم ترحمون } لكي ترحموا .

قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)

{ قالوا اطيرنا بك } تشاءمنا بك { وبمن معك } وذلك إنَّهم قُحطوا بتكذيبهم ، فقالوا : أصابنا القحط بشؤمك وشؤم أصحابك ، فقال صالح عليه السَّلام : { طائركم عند الله } أَيْ : ما أصابكم من خيرٍ وشرٍّ فمن الله { بل أنتم قوم تفتنون } تختبرون بالخير والشرِّ .
{ وكان في المدينة } مدينة ثمود { تسعة رهط } كانو عتاةَ قومِ صالحٍ .
{ قالوا : تقاسموا } احلفوا { بالله لنبيتنَّه وأهله } لنأتينَّ صالحاً ليلاً ، ولنقتلنَّه وأهله { ثم لنقولنَّ } لوليِّ دمه : { ما شهدنا مهلك أهله } ما حضرنا إهلاكهم { وإنا لصادقون } في قولنا .
{ ومكروا مكراً } لتبييت صالحٍ { ومكرنا مكراً } جازيناهم على ذلك . وقوله :
{ إنَّا دمرناهم } وذلك أنَّهم لمَّا خرجوا ليلاً لإِهلاك صالحٍ دَمَغتهم الملائكة بالحجارة من حيث لا يرونهم فقتلوهم ، وقوله : { وقومهم أجميعن } إهلاك قوم ثمود بالصَّيحة .
{ فتلك بيوتهم } مساكنهم { خاوية } ساقطةً خاليةً { بما ظلموا } بكفرهم بالله سبحانه .

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)

{ أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون } تعلمون أنَّها فاحشة ، فهو أعظم لذنوبكم .

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)

{ إنَّهم أناس يتطهرون } يتنزَّهون عن أدبار الرِّجال ، يقولونه استهزاءً . وقوله :
{ قدرناها من الغابرين } أَيْ : قضينا عليها أنَّها من الباقين في العذاب .
{ وأمطرنا عليهم } على شُذَّاذهم ومَنْ كان منهم في الأسفار { مطراً } وهو الحجارة .
{ قل } لهم يا محمد : { الحمد لله } أَيْ : على إهلاك الكفَّار من الأمم الخالية { وسلامٌ على عباده الذين اصطفى } اصطفاهم لرسالته { آلله خير أم ما يشركون } به من الأصنام ، وقوله :
{ حدائق ذات بهجة } أَيْ : بساتين ذات حسنٍ { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } أَيْ : ما قدرتم عليه { بل هم قومٌ يعدلون } يشركون .
{ أم من جعل الأرض قراراً } لا تتحرَّك { وجعل خلالها أنهاراً } وسطها أنهاراً جاريةً { وجعل لها رواسي } جبالاً ثوابت { وجعل بين البحرين } العذب والمالح { حاجزاً } مانعاً من قدرته حتى لا يختلطا .
{ أم من يجيب المضطر } المجهود ذا الضرورة { ويكشف السوء } الضُّرَّ { ويجعلكم خلفاء الأرض } سكَّانها بإهلاك مَنْ قبلكم .

أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)

{ ومن يرزقكم من السماء } المطر { و } من { الأرض } النَّبات .

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)

{ بل أدرك علمهم في الآخرة } أَيْ : لحقهم علمهم بأنَّ السَّاعة والبعث حقٌّ في الآخرة حين لا ينفعهم ذلك ، ومَنْ قرأ : { ادَّارك } فمعناه : تدارك ، أَيْ : تكامل علمهم يوم القيامة؛ لأنَّهم يبعثون ويشاهدون ما وعدوا . { بل هم في شك منها } في الدُّنيا { بل هم منها } من علمها { عمون } جاهلون .

وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)

{ ولا تحزن عليهم } أَيْ : على تكذيبهم وإعراضهم عنك { ولا تكن في ضيق مما يمكرون } ولا تضيّق قلبك بمكرهم .
{ ويقولون متى هذا الوعد } أَيْ : وعد العذاب { إن كنتم صادقين } أنَّ العذاب نازلٌ بالمكذِّب .
{ قل عسى أن يكون ردف لكم } أَي : ردفكم ، والمعنى : تبعكم ودنا منكم { بعض الذي تستعجلون } من العذاب ، وكان ذلك يوم بدرٍ .

وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)

{ وما من غائبة } أَيْ : جملةٍ غائبةٍ عن الخلق { إلاَّ في كتاب مبين } وهو اللَّوح المحفوظ .
{ إنَّ هذا القرآن يقصُّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } وذلك أنَّ بني إسرائيل اختلفوا حتى لعن بعضهم بعضاً ، فقال الله سبحانه : إنَّ هذا القرآن ليقصُّ عليهم الهدى ممَّا اختلفوا فيه لو أخذوا به .

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)

{ إنَّ ربك يقضي بينهم } بين المختلفين في الدِّين { بحكمه } يوم القيامة { وهو العزيز } القويُّ فلا يردُّ له أمرٌ { العليم } بأحوالهم .

إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)

{ إنك لا تسمع الموتى } الكفَّار { ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين } يعني : الكفَّار الذين هم بمنزلة الصُّمِّ لا يسمعون النِّداء إذا أعرضوا .
{ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } يريد : إنَّه أعماهم حتى لا يهتدوا ، فكيف يهدي النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ضلالتهم قوماً عمياً . { إن تُسمع } ما تُسمع سماع إفهام { إلاَّ مَنْ يؤمن بآياتنا } بأدلَّتنا { فهم مسلمون } في علم الله سبحانه .
{ وإذا وقع القول عليهم } وجب العذاب والسُّخط عليهم ، وذلك حين لا يقبل الله سبحانه من كافرٍ وإيمانه ، ولم يبق إلاَّ مَنْ يموت كافراً في علم الله سبحانه { أخرجنا لهم دابة من الأرض } وخروجها من أوَّل أشراط القيامة { تكلمهم } تُحدِّثهم بما يسوءهم { أنَّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } تخبر الدَّابَّة مَنْ رآها أنَّ أهل مكَّة كانوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن لا يوقنون ، ومَنْ كسر { إنَّ النَّاس } كان المعنى : تقول لهم : إنَّ الناس .
{ ويوم نحشر } نجمع { من كلِّ أمة فوجاً } جماعةً { ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون } يحبس أوَّلهم على آخرهم ليجتمعوا .
{ حتى إذا جاؤوا قال } الله تعالى لهم : { أكذَّبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً } ولم تعرفوها حقَّ معرفتها ، وهذا توبيخٌ لهم { أم ماذا كنتم تعملون } حين لم تتفكَّروا فيها .
{ ووقع القول } وجبت الحُجَّة { عليهم بما ظلموا } بإشراكهم { فهم لا ينطقون } بحجَّةٍ وعذرٍ ، ثمَّ ذكر الدَّليل على قدرته وإلهيتَّه سبحانه وتعالى ، فقال :
{ ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً إنَّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } .

وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

{ إلاَّ مَنْ شاء الله } يعني : الشّهداء { وكلٌّ أتوه } يأتون الله سبحانه { داخرين } صاغرين .
{ وترى الجبال تحسبها جامدة } واقفةً مُستقرَّةً { وهي تمرُّ مرَّ السحاب } وذلك أنَّ كلَّ شيءٍ عظيمٌ ، وكلَّ جمع كثيرٌ يقصر عنه الطَّرف لكثرته فهو في حسبان النَّاظر واقفٌ وهو يسير { صنع الله } أَيْ : صنع الله ذلك صنعه { الذي أتقن } أحكم { كلَّ شيء } .
{ من جاء بالحسنة } وهي كلمة لا إله إلاَّ الله { فله خيرٌ منها } فمنها يصل إليه الخير { ومَنْ جاء بالسيئة } الشِّرك { فَكُبَّت } أُلقيت وطُرحت { وجوههم في النار } وقيل لهم : { هل تجزون إلاَّ ما كنتم } بما كنتم { تعملون } .
قل يا محمَّد : { إنما أمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة } يعني : مكَّة { الذي حرَّمها } جعلها حرماً آمناً { وله كلُّ شيء } مِلكاً وخلقاً . وقوله :
{ ومن ضلَّ فقل إنما أنا من المنذرين } أَيْ : ليس عليَّ إلاَّ البلاغ .
{ وقل الحمد لله سيريكم آياته } أيُّها المشركون . يعني : يوم بدر { فتعرفونها وما ربك بغافل بما تعملون } .

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)

{ طسم } .
{ تلك آيات الكتاب المبين } يعني : القرآن ، وهو مبينٌ للأحكام .
{ تتلو } نقصُّ { عليك من نبأ موسى } خبر موسى { وفرعون بالحق } بالصِّدق الذي لا شكَّ فيه { لقوم يؤمنون } يُصدِّقون أنَّ ما يأتيهم به صدقٌ .
{ إنَّ فرعون علا } استكبر وتعظَّم { في الأرض } أرض مصر { وجعل أهلها شيعاً } فرقاً تتبع بعض تلك الفرق بعضاً في خدمته { يستضعف طائفة منهم } وهم بنو إسرائيل .
{ ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض } ننعم على بني إسرائيل { ونجعلهم أئمّة } قادةً في الخير { ونجعلهم الوارثين } يرثون ملك فرعون وقومه . وقوله :
{ ونمكن لهم في الأرض } أرض مصر والشَّام حتى يغلبوا عليها من غير مُنازعٍ { ونُرِيَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } وذلك أنَّهم كانوا قد أُخبروا أنَّ هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل ، فكانوا على وجلٍ منهم .
{ وأوحينا إلى أم موسى } قيل : إنَّه وحي إلهام . وقيل : وحي إعلام .
{ فالتقطه } أخذه { آل فرعون } عن الماء { ليكون لهم عدواً وحزناً } أَيْ : ليصير الأمر إلى ذلك { إنَّ فروعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } أَيْ : عاصين آثمين .
{ وقالت امرأة فرعون قرة عين } أَيْ : هو قرَّة عين لي { ولك لا تقتلوه } فإنَّه أتانا به الماء من أرضٍ أخرى ، وليس هو من بني إسرائيل { وهم لا يشعرون } بما هو كائنٌ من أمرهم وأمره .
{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } خالياً عن كلِّ شيء إلاَّ عن ذكر موسى وهمِّه { إن كادت لتبدي به } بأنَّه ابنها { لولا أن ربطنا على قلبها } قوَّينا قلبها وألهمناها الصَّبر { لتكون من المؤمنين } المُصدِّقين بوعد الله سبحانه .

وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)

{ وقالت لأخته } لأخت موسى { قصته } اتَّبعي أثره ، فاتَّبعته { فبصرت به عن جنب } أبصرته من بعيدٍ { وهم لا يشعرون } أنَّها أخته .
{ وحرَّمنا عليه المراضع } منعنا موسى أن يقبل ثدي مرضعةٍ { من قبل } أن نردَّه على أُمَّه { فقالت } أخته حين تعذَّر عليهم رضاعة : { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } يضمُّونه إليهم { وهم له ناصحون } مخلصون شفقته .
{ فرددناه إلى أمه } وذلك أنَّها دلَّتهم على أمِّ موسى ، فَدُفِعَ إليها تُربِّيه لهم . وقوله : { ولكن أكثرهم لا يعلمون } آل فرعون كانوا لا يعلمون أنَّ الله وعدها ردَّه عليها .
{ ولما بلغ أشدَّه } منتهى قوَّته ، وهو ما فوق الثَّلاثين { واستوى } وبلغ أربعين سنةً { آتيناه حكماً } عقلاً وفهماً { وعلماً } قبل النُّبوَّة .
{ ودخل المدينة } يعني : مدينةً بأرض مصر { على حين غفلة من أهلها } فيما بين المغرب والعشاء { فوجد فيها رجلين يقتتلان } أحدهما إسرائيليٌّ ، وهو الذي من شيعته ، والآخر قبطيٌّ ، وهو الذي من عدوه { فاستغاثه } الإِسرائيلي على الفرعونيِّ { فوكزه موسى } ضربه بجميع كفِّه { فقضى عليه } فقتله ولم يتعمَّد قتله ، فندم على ذلك لأنَّه لم يُؤمر بقتله ف { قال هذا من عمل الشيطان إنَّه عدوٌّ مضلٌّ مبين } ثمَّ استغفر فقال :
{ ربِّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } .

قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)

{ قال رب بما أنعمت عليَّ } بالمغفرة { فلن أكون ظهيراً للمجرمين } لن أُعين بعدها على خطيئة .
{ فأصبح في } تلك { المدينة خائفاً } من قتله القبطيَّ { يترقب } ينتظر الأخبار { فإذا } الإسرائيليُّ { الذي استنصره بالأمس يستصرخه } يستغيثه . { قال له موسى : إنك لغويٌّ مبين } ظاهر الغواية ، قد قتلتُ بك بالأمس رجلاً ، وتدعوني إلى آخر ، وأقبل إليهما ، [ { فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدوٌّ لهما } أَيْ : بالقبطِيِّ ] ، فظنَّ الذي من شيعته أنَّه يريده ، فقال :
{ أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريدإلا أن تكون جباراً في الأرض } تقتل ظلماً ، فلمَّا قال الإِسرائيلي هذا علم القبطيُّ أنَّه قاتل القبطيِّ بالأمس ، فأتى فرعون فأخبره بذلك ، فأمر فرعون بقتل موسى ، فأتاه رجلٌ فأخبره بذلك ، وهو قوله :
{ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } وهو مؤمن آل فرعون { قال يا موسى إنَّ الملأ يأتمرون بك } يأمر بعضهم بعضاً يتشاورون { ليقتلوك فاخرج } من هذه المدينة { إني لك من الناصحين } .
{ فخرج منها خائفاً يترقب } ينتظر الطَّلب { قال : ربّ نجني من القوم الظالمين } قوم فرعون .

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

{ ولما توجَّه } قصد بوجهه { تلقاء مدين } نحوها { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } قصد الطَّريق ، وذلك أنَّه لم يكن يعرف الطَّريق .
{ ولما ورد ماء مدين } وهو بئرٌ لهم { وجد عليه أمة } جماعةً { من الناس يسقون } مواشيهم { ووجد من دُونِهمُ امرأتين تذودان } تحسبان غنمهما عن الماء حتى يصدر مواشي النَّاس { قال } موسى لهما : { ما خطبكما } ؟ ما شأنكما لا تسقيان مع النَّاس؟ { قالتا لا نسقي } مواشينا { حتى يصدر الرعاء } عن الماء ، لأنا لا نطيق أن نستقي وأن نُزاحم الرِّجال ، فإذا صدروا سقينا من فضل مواشيهم { وأبونا شيخ كبير } لا يمكنه أن يرد وأن يستقي .
{ فسقى لهما } أغنامهما من بئرٍ أخرى رفع عنها حجراً كان لا يرفعه إلاَّ عشرة أنفس { ثمَّ تولى إلى الظلّ } أَيْ : إلى ظلِّ شجرةٍ { فقال ربِّ إني لما أنزلت إليَّ من خير } طعامٍ { فقير } محتاجٌ ، وكان قد جاع فسأل الله تعالى ما يأكل ، فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بما فعل موسى ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه ، فذلك قوله :
{ فجاءته إحداهما } أخذت { تمشي على استحياء } مُستترةً بكُمِّ درعها { قالت : إنَّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقصَّ عليه القصص } أخبره بأمره والسَّبب الذي أخرجه من أرضه { قال : لا تخف نجوت من القوم الظالمين } يعني : من فرعون وقومه؛ فإنَّه لا سلطان له بأرضنا .

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

{ قالت إحداهما يا أبت استأجره } ليرعى أغنامنا { إنَّ خير من استأجرت القويُّ الأمين } وإنَّما قالت ذلك لأنَّها عرفت قوَّته برفع الحجر من رأس البئر ، وأمانته بأنَّ موسى قال لها لمَّا دعته إلى أبيها : امشي خلفي ، فإنَّا بني يعقوب لا ننظر إلى أعجاز النِّساء .
{ قال } عند ذلك الشِّيخ لموسى : { إني أريد أن أنكحك } أزوِّجك { إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجرني } تكون أجيراً لي { ثماني حجج } سنين { فإن أتممت عشراً فمن عندك } وليس بواجبٍ عليك { وما أريد أن أشقَّ عليك } بأن اشترط العشر { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } الوافين بالعهد .
{ قال } موسى : { ذلك } الذي وصفت { بيني وبينك } أَيْ : لك ما شرطتَ عليَّ ولي ما شرطتُ من تزويج إحداهما . { أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ } لا ظلم عليَّ بأن أُطالب بأكثر منه { والله على ما نقول وكيل } والله شاهدنا على ما عقدنا .

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)

{ فلما قضى موسى الأجل } مفسَّر فيما مضى إلى قوله : { أو جذوة من النار } قطعةٍ وشعلةٍ من النَّار .
{ فلما أتاها نودي من شاطىء } جانب { الوادي الأيمن } من يمين موسى { في البقعة } في القطعة من الأرض { المباركة } بتكليم الله سبحانه فيها موسى عليه السَّلام ، وإتيانه النُّبوَّة { من الشجرة } من جانب الشَّجرة { أن يا موسى إني أنا الله ربُّ العالمين } والباقي مفسَّرٌ فيما سبق .

اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)

{ واضمم إليك جناحك } أَيْ : يدك { من الرهب } من الخوف ، والمعنى : سكِّن روعك واخفض عليك جنبيك ، وذلك أنه كان يرتعد خوفاً { فذانك } اليد والعصا { برهانان من ربك . . . } الآية .

وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)

{ ردءاً } أَيْ : مُعيناً .
{ قال : سنشدُّ عضدك } أَيْ : نُقوِّيك { بأخيك ونجعل لكما سلطاناً } حُجَّةً بيِّنة { فلا يصلون إليكما } بسوءٍ ، { بآياتنا } العصا واليد ، وسائر ما أُعطيا .

وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

{ وقال موسى } لمَّا كُذِّب ونُسب إلى السِّحر : { ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده } يعني : نفسه ، أَيْ : ربِّي أعلم بي أنَّ الذي جئتُ به من عنده { ومن تكون له عاقبة الدار } أَيْ : العقبى المحمودة في الدَّار الآخرة ، وقوله :
{ فأوقد لي يا هامان على الطين } أَيْ : اطبخ لي الآجر { فاجعل لي صرحاً } بناء طويلاً مشرفاً { لعلي أطلع إلى إله موسى } أنظر إليه وأقف عليه .

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

{ وجعلناهم أئمة } قادةً ورؤساء { يدعون إلى النار } أَيْ : إلى الضَّلالة التي عاقبتها النَّار .
{ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً } وذلك أنَّهم لمَّا هلكوا لُعنوا ، فهم يُعرضون على النار غدوةً وعشيةً إلى يوم القيامة { ويوم القيامة هم من المقبوحين } الممقوتين المهلكين .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)

{ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس } أَيْ : مبيِّناً لهم .
{ وما كنت بجانبي الغربيّ } أَيْ : الجبل الغربيّ الذي هو في جانب الغرب { إذ قضينا إلى موسى الأمر } أحكمناه معه ، وعهدنا إليه بأمرنا ونهينا { وما كنت من الشاهدين } الحاضرين هناك .
{ ولكنا أنشأنا } أحدثنا وخلقنا { قروناً } أمماً { فتطاول عليهم العمر } فنسوا عهد الله وتركوا أمره . { وما كنت ثاوياً } مُقيماً { في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين } أرسلناك رسولاً وأنزلنا عليك هذه الأخبار ، ولولا ذلك ما علمتها .
{ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } موسى { ولكن } أوحينا إليك هذه القصص { رحمة من ربك } .
{ ولولا أن تصيبهم مصيبة } عقوبةٌ ونقمةٌ { بما قدَّمت أيديهم } وجواب " لولا " محذوف ، تقديره : لعاجلناهم بالعقوبة .
{ فلما جاءهم الحق } محمد صلى الله عليه وسلم { من عندنا قالوا : لولا أوتي } محمد { مثل ما أوتي موسى } كتاباً جملةً واحدةً { أَوَلَمْ يكفروا بما أوتي موسى من قبل } أَيْ : فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمَّد صلى الله عليه وسلم و { قالوا ساحران تظاهرا } وذلك حين سألوا اليهود عنه فأخبروهم أنَّهم يجدونه في كتابهم بنعته وصفته ، وقالوا : ساحران تظاهرا . يعنون : موسى ومحمداً عليهما السَّلام تعاونا على السِّحر { وقالوا إنَّا بكلٍّ } من موسى ومحمدٍ عليهما السَّلام { كافرون } .
{ قل } لهم : { فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما } من كتابيهما { أتبعه أن كنتم صادقين } أَنَّهما كانا ساحرين .
{ فإن لم يستجيبوا لك } أَيْ : لم يجيبوك إلى الإِتيان بالكتاب { فاعلم أنَّما يتبعون أهواءهم } أَيْ : يُؤثرون هواهم على الدِّين .
{ ولقد وصلنا لهم القول } أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً { لعلهم يتذكرون } يتَّعظون ويعتبرون .
{ الذين آتيناهم الكتاب من قبله } من قبل محمد صلى الله عليه وسلم { هم به يؤمنون } يعني : مؤمني أهل الكتاب .
{ وإذا يُتلى عليهم } القرآن { قالوا آمنا به } صدَّقنا به { إنَّه الحقُّ من ربنا } وذلك أنَّهم عرفوا بما ذُكر في كتبهم من نعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكتابه { إنَّا كنا من قبله } من قبل القرآن ، أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم { مسلمين } لأنَّا كنَّا نؤمن به وبكتابه .

أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)

{ أولئك يؤتون أجرهم مرتين } مرَّةً بإيمانهم بكتابهم ، ومرَّةً بإيمانهم بالقرآن { بما صبروا } بصبرهم على ما أُوذوا { ويدرؤون بالحسنة السيئةَ } ويدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدَّم لهم من السَّيئات { ومما رزقناهم ينفقون } يتصدَّقون .
{ وإذا سمعوا اللغو } القبيح من القول { أعرضوا عنه } لم يلتفتوا إليه . يعني : إذا شتمهم الكفَّار لم يشتغلوا بمعارضتهم بالشَّتم { وقالوا : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } ليس هذا تسليم التحيَّة ، وإنَّما هو تسليم المُتاركة ، أَيْ : بيننا وبينكم المتاركة والتَّسليم ، وهذا قبل أن يُؤمر المسلمون بالقتال { لا نبتغي الجاهلين } لا نصحبهم .
{ إنك لا تهدي مَنْ أحببت } نزلت حين حرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على إيمان عمِّه عند موته ، فلم يؤمن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى : لا تهدي مَنْ أحببت هدايته { ولكنَّ الله يهدي من يشاء } هدايته { وهو أعلم بالمهتدين } بمن يهتدي في معلومه .
{ وقالوا } يعني : مشركي مكَّة : { إن نتبع الهدى معك } بالإِيمان بك { نُتخطف } نُسلب ونُؤخذ { من أرضنا } لإِجماع العرب على خلافنا ، فقال الله تعالى : { أَوَلَمْ نمكن لهم حرماً آمناً } أخبر سبحانه أنَّه آمنهم بحرمة البيت ، ومنع منهم العدوَّ ، فكيف يخافون أن تسحتلَّ العرب قتالهم فيه؟ { يجبى } يُجمع . { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنَّ ذلك ممَّا تفضَّل الله به سبحانه عليهم .
{ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } عاشوا في البطر وكفران النِّعمة { فتلك مساكنهم } خاويةً { لم تسكن من بعدهم إلاَّ قليلاً } لا يسكنها إلاَّ المسافر والمارُّ يوماً أو ساعةً .
{ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها } أعظمها ، الآية .

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)

{ أفمن وعدناه وعداً حسناً } يعني : الجنَّة { فهو لاقيه } مُدركه ومُصيبه { كمَنْ متعناه متاع الحياة الدنيا ثمَّ هو يوم القيامة من المحضرين } في النَّار . نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل .
{ ويوم يناديهم } أَيْ : المشركين { فيقول : أين شركائي الذين كنتم تزعمون } في الدُّنيا أنَّهم شركائي .
{ قال الذين حقَّ عليهم القول } وجب عليهم العذاب يعني : الشَّياطين { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون } كعادة الشَّيطان في التَّبَرُّؤِ ممَّن يطيعه إذا أورده الهلكة .

وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)

{ وقيل } للكفَّار : { ادعوا شركاءَكم } مَنْ كنتم تعبدون من دون الله { فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } لم يجيبوهم بشيءٍ ينفعهم { ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون } لما اتَّبعوهم ولما رأوا العذاب .
{ ويوم يناديهم فيقول : ماذا أجبتم المرسلين } .
{ فعميت عليهم الأنباء } عميت عليهم الحجج؛ لأنَّ الله تعالى قد أعذر إليهم في الدُّنيا ، فلا تكون لهم حُجَّةٌ يومئذٍ ، فسكتوا فذلك قوله : { فهم لا يتساءلون } أَيْ : لا يسأل بعضهم بعضاً عمَّا يحتجُّون به .

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

{ وربك يخلق ما يشاء } كما يشاء { ويختار } ممَّا يشاء ما يشاء ، فاختار من كلِّ ما خلق شيئاً { ما كان لهم الخيرة } ليس لهم أن يختاروا على الله تعالى ، وليس لهم الاختيار ، والمعنى : لا يرسل الرُّسل إليهم على اختيارهم ، والباقي ظاهرٌ إلى قوله :
{ ونزعنا من كلِّ أمة } أَيْ : أخرجنا { شهيداً } يعني : رسولهم الذي أُرسل إليهم { فقلنا هاتوا برهانكم } أَيْ : ما اعتقدتم به أنّه برهانٌ لكم في أنَّكم كنتم على الحقِّ { فعلموا أنَّ الحق لله } أنَّ الحقَّ ما دعا إليه الله سبحانه ، وأتاهم به الرَّسول صلى الله عليه وسلم { وضلَّ عنهم ماكانوا يفترون } لم ينتفعوا بما عبدوه من دون الله سبحانه .
{ إنَّ قارون كان من قوم موسى } كان ابن عمِّه . { فبغى عليهم } بالكبر والتجبُّر والبذخ وكثرة المال { وآتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتحه } جمع المفتح ، وهو ما يُفتح به { لتنوء بالعصبة } تُثقل الجماعة { أولي القوة } { إذ قال له قومه : لا تفرح } بكثرة المال ولا تأشر { إنَّ الله لا يحبُّ الفرحين } الأشرين البطرين .
{ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } أَيْ : اطلبها بإنفاق مالك في رضا الله تعالى { ولا تنس نصيبك من الدنيا } لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك { وأحسن } إلى الناس { كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض } العمل بالمعاصي .
{ قال إنما أوتيته على علمٍ عندي } على فضل علمٍ عندي ، وكنت بذلك العلم مُسحقَّاً لفضل المال ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتَّوراة . قال الله تعالى : { أو لم يعلم أنَّ الله قد أهلك من قبله من القرون مَنْ هو أشدُّ منه قوة وأكثر جمعاً } للمال منه { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } لأنَّهم يدخلون النَّار بغير حسابٍ .

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)

{ فخرج على قومه في زينته } في ثيابٍ حمرٍ عليه وعلى دوابِّه ، والرُّكبان الذين معه { قال الذين يردون الحياة الدنيا } ظاهرٌ إلى قوله :
{ ولا يلقاها } أَيْ : ولا يُلقَّن ولا يُوفَّق لهذه الكلمة { إلاَّ الصابرون } عن زينة الدُّنيا .

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)

{ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } صار الذين كانوا يقولون : " يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون " { يقولون : ويكأنَّ الله } ألم تر ألم تعلم أن { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } يُوسِّع لن يشاء ويُضيِّق { لولا أنْ منَّ الله علينا } عصمنا عن مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي { لخسف بنا } كما خُسف به .
{ تلك الدار الآخرة } يعني : الجنَّة { نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض } تكبُّراً وتجبُّراً فيها { ولا فساداً } عملاً بالمعاصي وأخذاً للمال بغير حقٍّ { والعاقبة } المحمودة { للمتقين } .

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

{ إن الذي فرض عليك القرآن } أنزله . وقيل : فرض عليك العمل بما في القرآن { لرادُّك إلى معاد } إلى مكَّة ظاهراً عليها ، وذلك حين اشتاق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مولده .
{ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلاَّ رحمة من ربك } لكن رحمك ربُّك ، فاختارك للنُّبوَّة ، وأنزل عليك الوحي .
{ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك } وهذا حين دُعي إلى دين آبائه . وقوله :
{ كل شيء هالك إلاَّ وجهه } أَيْ : إلاَّ إيَّاه { له الحكم } يحكم بما يريد { وإليه ترجعون } .

الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)

{ الم } .
{ أحسب الناس أن يتركوا . . . } اية . نزلت في الذين جزعوا من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين . معناه : أحسبوا أن يُقنع منهم بأن يقولوا : إنَّا مؤمنون فقط ، ولا يُمتحنون بما يُبيِّن حقيقة إيمانهم .
{ ولقد فتنا الذين من قبلهم } اختبرنا وابتلينا { فليعلمنَّ الله } صِدقَ { الذين صدقوا } في قولهم : آمنَّا ، بوقوعه منهم ، وهو الصَّبر على البلاء { وليعلمنَّ } كذب { الكاذبين } في قولهم : آمنَّا ، بارتدادهم إلى الكفر عن الدِّين عند البلاء ، ومعنى العلم ها هنا العلم به موجوداً كائناً .
{ أم حسب الذين يعملون السيئات } الشِّرك { أن يسبقونا } يفوتونا { ساء ما يحكمون } بئس حكماً يحكمون لأنفهسم بهذا الظَّنِّ .
{ من كان يرجو لقاء الله } يخشى البعث { فإنَّ أجل الله } وعده بالثَّواب والعقاب { لآتٍ } لكائن .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

{ ولنجزينَّهم أحسن الذي كانوا يعملون } أَيْ : بأحسن أعمالهم ، وهو الطَّاعة .
{ ووصينا الإِنسان بوالديه حسناً } أمرناه أن يُحسن إليهما { وإن جاهداك } اجتهدا عليك { لتشرك بي ما ليس لك به علم } أنَّه لي شريك { فلا تطعهما } أُنزلت في سعد بن أبي وقَّاص لمَّا أسلم ، حلفت أمُّه أن لا تأكل ولا تشرب ، ولا يظلُّها سقف بيت حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويرجع إلى ما كان عليه ، فأُمر أن يترضَّاها ويُحسن إليها ، ولا يُطيعها في الشِّرك . وقوله :
{ لندخلنَّهم في الصالحين } أَيْ : في زمرتهم وجملتهم ، ومعناه : لنحشرنَّهم معهم . وقوله :
{ جعل فتنة الناس } أَيْ : أذاهم وعذابهم { كعذاب الله } جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ، ولا يصبر على الأذيَّة في الله . { ولئن جاء } المؤمنين { نصرٌ من ربك ليقولنَّ } هؤلاء الذين ارتدُّوا حين أُوذوا : { إنا كنَّا معكم } وهم كاذبون ، فقال الله تعالى : { أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } يعني : إنَّه علامٌ بإيمان المؤمن وكفر الكافر .
{ وليعلمنَّ الله الذين آمنوا وليعلمنَّ المنافقين } هذا إخبارٌ عن الله تعالى أنَّه يعلم إيمان المؤمن ونفاق المنافق .
{ وقال الذين كفروا } من أهل مكَّة { للذين آمنوا : اتبعوا سبيلنا } الطَّريق الذي نسلكه في ديننا { ولنحمل خطاياكم } أَيْ : إن كان فيه إثمٌ فنحن نحمله ، قال الله تعالى : { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } يخفِّف عنهم العذاب { إنهم لكاذبون } في قولهم؛ لأنَّهم في القيامة لا يحملون عنهم خطاياهم ، ثمَّ أعلم الله عزَّ وجلَّ أنَّهم يحملون أوزار أنفسهم ، وأثقالاً أخرى بسبب إضلالهم مع أثقال أنفسهم؛ لأنَّ مَنْ دعا إلى ضلالةٍ فاتُّبع فعليه مثل أوزار الذين اتَّبعوه ، ثمَّ ذكر أنَّه يُوبِّخهم على ما قالوا فقال : { وليسألنَّ يوم القيامة عما كانوا يفترون } أَيْ : سؤال توبيخٍ .

إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

{ وتخلقون إفكاً } أَيْ : تقولون كذباً : إنَّ الأوثان شركاء الله .

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

{ أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده } كما بدأ ، وليس المعنى : على أو لم يروا كيف يعيده؛ لأنَّهم لم يروا الإِعادة .
{ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق } يعني : الأمم الماضية ، كيف قدر الله سبحانه على خلقهم ابتداءً { ثمَّ الله ينشىء النشأة الآخرة } أيْ : يبعثهم ثانيةً بإنشائه إيَّاهم .

وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)

{ وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } لو كنتم فيها ، ثمَّ عاد الكلام إلى قصَّة إبراهيم عليه السَّلام .

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

{ فما كان جواب قومه } حين دعاهم إلى الله سبحانه { إلاَّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه . . . } الآية .
{ وقال } لهم إبراهيم : { إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم } أَيْ : ليتوادُّوا بها ، فهي مودَّة بينكم ما دمتم في هذه الدَّنيا ، ثمَّ تنقطع ولا تنفع في الآخرة ، وهو قوله تعالى : { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } تتبرَّأُ الأوثان من عابديها . وقوله تعالى :
{ فآمن له لوط } هو أوَّل مَنْ آمن بإبراهيم عليه السَّلام { وقال إني مهاجر إلى ربي } هاجر من سواد الكوفة إلى الشَّام .
{ وآتيناه أجره في الدنيا } قيل : هو الذِّكر الحسن . وقيل : هو الولد الصَّالح .

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)

{ وتقطعون السبيل } أَيْ : سبيل الولد . وقيل : يأخذون النَّاس من الطُّرق لطلب الفاحشة { وتأتون في ناديكم } مجلسكم { المنكر } كان بعضهم يُجامع بعضاً في مجالسهم { فما كان جواب قومه إلاَّ أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصَّادقين } أنًّه نازلٌ بنا .

وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

{ ولقد تركنا منها } من قرية قوم لوط { آية بينة } عبرةً ظاهرةً ، وهي خرابها وآثارها .

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)

{ وكانوا مستبصرين } أَيْ : في ضلالتهم معجبين بها . وقيل : حسبوا أنَّهم على الهدى ، وهم علىالباطل . وقيل : أتوا ما أتوه وقد بيِّن لهم أنَّ عاقبته العذاب .

فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)

{ فكلاً } من الكفَّار { أخذنا } عاقبنا { بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً } وهم قوم لوط { ومنهم من أخذته الصيحة } قوم ثمود { ومنهم مَنْ خسفنا به الأرض } قارون وقومه { ومنهم من أغرقنا } قوم نوح وفرعون { وما كان الله ليظلمهم } لأنَّه قد بيَّن لهم بإرسال الرَّسول { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بكفرهم .
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء } يعني : الأصنام في قلَّة غنائها عنهم { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } لا يدفع عنها حراً ولا برداً { وإنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت } وذلك أنَّه لا بيت أضعف منه فيما يتَّخذه الهوامُّ . { لو كانوا يعلمون } موضعَه عند قوله : مثلُ الذين اتخذوا من دونه أولياء لو كانوا يعلمون كمثل العنكبوت ، فهو مؤخَّر معناه التَّقديم .

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

{ إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } يعني : إنَّ في الصَّلاة منهاةً ومزدجراً عن معاصي الله تعالى ، فمن لم تنهه صلاته عن المنكر فليست صلاته بصلاةٍ { ولذكر الله أكبر } من كلِّ شيء في الدُّنيا وأفضل .
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن } وهو الجميل من القول بالدُّعاء إلى الله عزَّ وجلَّ ، والتَّنبيه على الحجج { إلاَّ الذين ظلموا منهم } أَيْ : إلاَّ الذين ظلموكم بالقتال ومنع الجزية .
{ وكذلك } أَيْ : وكما آتيناهم الكتاب { أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به } بمحمد صلى الله عليه وسلم . يعني : مَنْ كانوا قبل عصره كانوا يؤمنون به لما يجدونه من نعته في كتابهم { ومن هؤلاء } الذين هو بين ظهرانيهم { مَنْ يؤمن به } .
{ وما كنت تتلو من قبله } من قبل هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك { من كتابٍ ولا تخطُّه } ولا تكتبه { بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } لشكُّوا فيك واتَّهموك لو كنت تكتب . وأراد بالمبطلين كفَّار قريش ، يعني : لقالوا : إنَّه كتبه وتعلَّمه من كتاب .
{ بل هو } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم والعلم بأنَّه أُمِّيٌّ { آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } من أهل الكتاب ، قرؤوها من التَّوراة وحفظوها .

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)

{ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربِّه } كما أُنزل على مَنْ قبله من الأنيباء { قل إنما الآيات عند الله } إذا شاء أرسلها ، وليست بيدي .
{ قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً } يشهد على صديقي وعلى تكذيبكم .

يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)

{ ويقول : ذوقوا ما كنتم تعملون } أَيْ : جزاءه من العذاب .
{ يا عبادي الذين آمنوا إنَّ أرضي واسعة } نزلت في حثِّ مَنْ كانوا بمكَّة لا يقدرون على إظهار دينهم على الهجرة .
{ كلُّ نفس ذائقة الموت } أينما كانت ، فلا تُقيموا بدار الشِّرك . وقوله :
{ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ من الجنة غرفاً } أَيْ : ولننزلنَّهم منها قصوراً .

وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

{ وكأين } وكم { من دابَّة لا تحمل رزقها } فتخبئه لغدٍ { الله يرزقها } يوماً بيوم { وإياكم } وذلك أنَّ الذين كانوا بمكَّة من المؤمنين إذا قيل لهم اخرجوا إلى المدينة قالوا : فمَنْ يُطعمنا بها ، ولا مال لنا هنالك ، فأنزل الله تعالى : { الله يرزقها وإياكم } .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)

{ ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولنَّ الله قل الحمد لله } على إنزاله الماء لإِحياء الأرض { بل أكثرهم لا يعقلون } العقل الذي يعرفون به الحقَّ من الباطل .
{ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب } لنفادها عن قريب { وإنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان } الحياة الدَّائمة { لو كانوا يعلمون } أنَّها كذلك ، ولكنَّهم لا يعلمون .
{ فإذا ركبوا في الفلك } وخافوا الغرق { دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } .
{ ليكفروا بما آتيناهم } أَيْ : ليجحدوا بما أنعمنا عليهم من إنجائهم ، والظَّاهر أنَّ هذ لام الأمر ، أمر التَّهديد ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وليتمتعوا فسوف يعلمون } .
{ أَوَلَمْ يروا } يعني : أهل مكَّة { أنا جعلنا حرماً آمناً } ذا أمنٍ لا يُغار على أهله { ويتخطف الناس من حولهم } بالقتل والنَّهب والسَّبي { أفبالباطل يؤمنون } يعني : الأصنام { وبنعمة الله } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن { يكفرون } .

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

{ والذين جاهدوا فينا } أعداء الدِّين والكفَّار { لنهدينَّهم سبلنا } سبل الشًّهادة والمغفرة . وقيل : من اجتهد في عملٍ لله زاده الله تعالى هدىً على هدايته { وإنَّ الله لمع المحسنين } بنصره إيَّاهم .

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)

{ الم } .
{ غلبت الروم } غلبتها فارس { في أدنى الأرض } أدنى أرض الشَّام من أرض العرب وفارس ، وهي أذرعات وعسكر . { وهم } والرُّوم { من بعد غلبهم } غلبة فارس إيَّاهم { سيغلبون } فارس .
{ في بضع سنين } البضع : ما بين الثّلاث إلى التِّسع . { لله الأمر من قبل } من قبل أن تغلب الرُّوم { ومن بعد } ما غلبت . { ويومئذٍ يفرح المؤمنون } يوم تغلب الرُّومُ فارسَ يفرح المؤمنون { بنصر اللَّهِ } الرُّوم؛ لأنَّهم أهل كتاب ، فهم أقرب إلى المؤمنين ، وفارس مجوس فكانوا أقرب إلى المشركين ، فالمؤمنون يفرحون بنصر الله الرُّوم على فارس ، والمشركون يحزنون لذلك .

وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)

{ وعد الله } وعد ذلك وعداً { ولكنَّ أكثر الناس } يعني : مشركي مكَّة { لا يعلمون } ذلك ، ثمَّ بيَّن مقدار ما يعلمون فقال :
{ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } يعني : أمر معاشهم ، وذلك أنَّهم كانوا أهل تجارة تكسُّب بها .
{ أو لم يتفكروا في أنفسهم } فيعلموا { ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق } أَيْ : للحقِّ ، وهو الدّلالة على توحيده وقدرته { وأجل مسمى } ووقتٍ معلومٍ تفنى عنده . يعني : يوم القيامة . وقوله :
{ وأثاروا الأرض } أَيْ : قلبوها للزِّراعة { وعمروها أكثر مما عمروها } يعني : إنَّ الذين أُهلكوا من الأمم الخالية كانوا أكثر حرثاَ وعمارةً من أهل مكَّة .
{ ثم كان عاقبة الذين أساؤوا } أشركوا { السوأى } النَّار { أن كذَّبوا } بأن كذَّبوا .

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

{ يبلس المجرمون } أَيْ : يسكتون لانقطاع حجَّتهم ، وليأسهم من الرَّحمة .
{ ولم يكن لهم من شركائهم } أوثانهم التي عبدوها رجاء الشَّفاعة { شفعاء وكانوا بعبادتهم كافرين } قالوا : ما عبدتمونا ، وقوله :
{ يؤمئذ يتفرَّقون } يعني : المؤمنين والكافرين ، ثمَّ بيَّن كيف ذلك التَّفرُّق فقال :
{ فأمَّا قال آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون } أَي : يسمعون في الجنَّة .

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)

{ فسبحان الله } فصلُّوا لله سبحانه { حين تمسون } يعني : صلاة المغرب والعشاء الآخرة { وحين تصبحون } صلاة الفجر { وعشياً } يعني : صلاة العصر { وحين تظهرون } يعني : صلاة الظُّهر .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)

{ ومن آياته أن خلقكم من تراب } يعني : أباكم آدم { ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } يعني : ذريته .
{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم } : من جنسكم { أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } يعني : الأُلفة بين الزَّوجين .
{ ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم } وأنتم بنو رجلٍ واحدٍ ، وامرأةٍ واحدةٍ .

وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)

{ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله } أَي : اللَّيل لتناموا فيه ، والنَّهار لتبتغوا فيه من فضله .
{ ومن آياته يريكم البرق خوفاً } للمسافر { وطعماً } للحاضر . وقوله :
{ ثمَّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } ثم إذا دعاكم دعوة ، إذا أنتم تخرجون من الأرض ، هكذا تقدير الآية على التَّقديم والتأخير . وقوله :
{ كلٌّ له قانتون } أَيْ : مُطيعون ، لا طاعة العبادة ولكن طاعة الإرادة ، خلقهم على ما أراد فكانوا على ما أراد ، لا يقدر أحدٌ أن يتغيَّر عمَّا خُلق عليه . وقوله :
{ وهو أهون عليه } أَيْ : هيِّنٌ عليه . وقيل : هو أهون عليه عندكم وفيما بينكم؛ لأَنَّ الإِعادة عندنا أيسر من الابتداء { وله المثل الأعلى } الصِّفة العليا ، وهو أنَّه لا إله إلاَّ هو ولا ربَّ غيره .
{ ضرب لكم مثلاً } بيَّن لكم شبهاً في اتِّخاذكم الأصنام شركاء مع الله سبحانه { من أنفسكم } ثمَّ بيَّن ذلك فقال : { هل لكم ممَّا ملكت أيمانكم } من العبيد والإِماء { من شركاء فيما رزقناكم } من المال والولد ، أّيْ : هل يشاركونكم فيما أعطاكم الله سبحانه حتى تكونوا أنتم وهم { فيه سواء تخافونهم } أن يرثوكم ، كما يخاف بعضكم بعضاً أن يرثه ماله ، والمعنى : كما لا يكون هذا فكيف يكون ما هو مخلوقٌ لله تعالى مثلَه حتى يُعبد كعبادته؟ فلمَّا لزمتهم الحجَّة بهذا ذكر أنَّهم يعبدونها باتَّباع الهوى فقال : { بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم } في عبادة الأصنام .
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً } أَيْ : أقبل عليه ولا تُعرض عنه . { فطرة الله } أي : اتَّبع فطرة الله ، أَيْ : خِلقة الله التي خلق النَّاس عليها ، وذلك أنَّ كلَّ مولودٍ يُولد على ما فطره الله عليه من أنَّه لا ربَّ له غيره ، كما أقرَّ له لمَّا أُخرج من ظهر آدم عليه السَّلام { لا تبديل لخلق الله } لم يبدَّلِ الله سبحانه دينه ، فدينُه أنَّه لا ربَّ غيره . { ذلك الدين القيم } المستقيم .
{ منيبين إليه } راجعين إلى ما أمر به ، وهو حالٌ من قوله : { فأقم وجهك } ، والمعنى : فأقيموا وجوهكم؛ لأنَّ أمره أمرٌ لأمته .

مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)

{ من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً } مفسَّرٌ في سورة الأنعام { كلُّ حزب } كلُّ جماعةٍ من الذين فارقوا دينهم { بما لديهم فرحون } أَيْ : يظنون أنَّهم على الهدى ، ثمَّ ذكر أنَّهم مع شركهم لا يلتجئون في الشَّدائد إلى الأصنام ، فقال :
{ وإذا مسَّ الناس ضرٌّ دعوا ربهم منيبين إليه . . . } الآية . وقوله :
{ وليكفروا بما آتيناهم } مفسَّرٌ في سورة العنكبوت إلى قوله :
{ أم أنزلنا } أَيْ : أَأنزلنا { عليهم سلطاناً } كتاباً { فهو يتكلَّم بما كانوا به يشركون } ينطق بعذرهم في الإِشراك .
{ وإذا أذقْنا الناس رحمة فرحوا بها . . . } الآية . هذا من صفة الكافر يبطر عند النِّعمة ، ويقنط عند الشِّدَّة ، لا يشكر في الأُولى ، ولا يحتسب في الثَّانية .

وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)

{ وما آتيتم من رباَ ليربوَ في أموال الناس } يعني : ما يعطونه من الهدية ليأخذوا أكثر منها ، وهو من الرِّبا الحلال { فلا يربو عند الله } لأنَّكم لم تريدوا بذلك وجه الله ، وقوله : { فأولئك هم المضعفون } أصحاب الإِضعاف ، يُضَاعِفُ لهم بالواحدة عشراً .

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)

{ ظهر الفساد } القحط وذهاب البركة { في البر } القفاز { والبحر } القرى والرِّيف { بما كسبت أيدي الناس } بشؤم ذنوبهم { ليذيقهم بعض الذي عملوا } كان ذلك لِيُذَاقوا الشِّدَّة بذنوبهم في العاجل .

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)

{ فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يومٌ } القيامةُ ، فلا ينفع نفساً إيمانها { يومئذٍ يصدَّعون } يتفرَّقون؛ فريقٌ في الجنَّة ، وفريقٌ في السَّعير .
{ مَنْ كفر فعليه كفره } أي : وبال كفره وعذابه { ومَنْ عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون } يفرشون ويُسَوُّون المضاجع ، والمعنى : لأنفسهم يبغون الخير .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)

{ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } بالمطر { وليذيقكم من رحمته } نعمته بالمطر يُرسلها { ولتجري الفلك بأمره } وذلك أنَّها تجري بالرِّياح { ولتبتغوا من فضله } بالتِّجارة في البحر ، وقوله :
{ فانتقمنا من الذين أجرموا } أَيْ : عاقبنا الذين اشركوا { وكان حقاً عليناً نصر المؤمنين } في العاقبة ، وكذلك ننصرك في العاقبة على مَنْ عاداك .
{ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً } تُزعجها وتُخرجها من أماكنها { فيبسطه } الله { في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً } قطعاً . يريد أنَّه مرَّةً يبسطه ، ومرَّةً يقطعه { فترى الودق } المطر { يخرج من خلاله } وسطه وشقوقه { فإذا أصاب به } بالودق { من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون } يفرحون .
{ وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم } المطر { من قبله } كرَّر " من قبل " للتَّأكيد { لمبلسين } آيسين .
{ فانظر إلى آثار رحمة الله } يعني : آثار المطر الذي هو رحمة الله تعالى { كيف يحيي الأرض } جعلها تنبت { بعد موتها } [ يُبسها ] { إنَّ ذلك } الذي فعل ذلك ، وهو الله عزَّ وجلَّ { لمحيي الموتى } .
{ ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً } رأوا النَّبت قد اصفرَّ وجفَّ { لظلُّوا من بعده يكفرون } يريد : إنَّ الكفَّار يستبشرون بالغيث ، فإذا جفَّ النَّبت ولم يحتاجوا إلى الغيث ظلُّوا يكفرون بنعمة الله عزَّ وجلَّ فلم يؤمنوا ، ولم يشكروا إنعامه بالمطر .
{ فإنك لا تسمع الموتى } مضت الاية في سورة الأنبياء ، والتي بعدها في سورة النمل .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

{ الله الذي خلقكم من ضعف } من نطفةٍ . الآية .
{ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون } يحلف الكافرون { ما لبثوا } في قبورهم { غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون } أَيْ : كذَّبوا في هذا الوقت كما كانوا يُكذِّبون في الدُّنيا .
{ وقال الذين أوتوا العلم والإِيمان لقد لبثتم في كتاب الله } أَيْ : فيما بيَّن في كتابه ، وهو اللَّوح المحفوظ { إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون } أنَّه يكون . وقوله :
{ ولا هم يستعتبون } أَيْ : لا يُطلب منهم أن يرجعوا إلى ما يُرضي الله سبحانه .
{ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلِّ مثل } بيَّنا لهم الأمثال للاعتبار { ولئن جئتهم بآية } لهم فيها بيانٌ واعتبارٌ { ليقولنَّ الذين كفروا إن أنتم إلاَّ مبطلون } ما أنتم إلاَّ أصحاب الأباطيل .
{ كذلك } كما طبع الله على قلوبهم حتى لم يفهموا { يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون } أدلَّة التَّوحيد .
{ فاصبر إنَّ وعد الله } في نصرك وتمكينك { حق ولا يستخفنَّك } لا يستفزنَّك عن دينك { الذين لا يوقنون } أي : الضُّلال الشَّاكُّون .

الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)

هذه السورة مفسَّرة فيما مضى إلى قوله :
{ ومن الناس من يشتري لهو الحديث } يعني : النَّضر بن الحارث ، كان يخرج تاجراً إلى فارس ، فيشتري أخبار الأعاجم ، ثمَّ يأتي بها فيقرؤها في أندية قريش ، فيستمحلونها ويتركون استماع القرآن ، وقوله : { ويتخذها هزواً } أَيْ : يتَّخذ آيات الكتاب هزواً .

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

{ ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله } أَيْ : وقلنا له : أن اشكر لله .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)

{ حملته أمه وهناً على وهن } أَيْ : لزمها بحملها إيَّاه أن تضعف مرَّةً بعد مرَّةً . { وفصاله } وفطامه { في عامين } لأنَّها ترضع الولد عامين { أن اشكر لي ولوالديك } المعنى : وصَّينا الإِنسان أن اشكر لي ولوالديك .
{ وإن جاهداك } مُفسَّرٌ فيما مضى ، وقوله : { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } أَيْ : مُصَاحَباً معروفاً ، وهو المستحسن { واتبع سبيل من أناب } رجع { إليَّ } يعني : اسلك سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وقد مرَّ .
{ يا بني إنها إن تك مثقال } رُوي أنَّ ابنه قال له : إنْ عملتُ بالخطيئة حيث لا يراني أحدٌ كيف يعلمها الله عزَّ وجلَّ؟ فقال : { إنها } أي : الخطيئة { إن تك مثقال حبة من خردل } أو : السَّيِّئة ، ثمَّ كانت { في صخرة } أَيْ : في أخفى مكان { أو في السموات أو الأرض } أينما كانت أتى الله بها ولن تخفى عليه ، ومعنى { يأت بها الله } أَيْ : للجزاء عليها { إنَّ الله لطيف } باستخراجها { خبير } بمكانها . وقوله :
{ إنَّ ذلك من عزم الأمور } أي : الأمور الواجبة .
{ ولا تصعر خدِّك للناس } لا تُعرض عنهم تكبُّراً { ولا تمش في الأرض مرحاً } مُتَبختراً مختالاً .
{ واقصد في مشيك } ليكن مشيك قصداً ، لا بِخُيلاء ولا بإسراع { واغضض } واخفض { من صوتك إنَّ أنكر الأصوات } أقبحها { لصوت الحمير } .
{ ألم تروا أنَّ الله سخر لكم ما في السموات } من الشَّمس والقمر والنُّجوم لنتنفعوا بها { وما في الأرض } من البحار والأنهار والدَّوابِّ { وأسبغ } وأوسعَ وأتمَّ { عليكم نعمة ظاهرة } وهي حسن الصُّورة وامتداد القامة { وباطنة } وهي المعرفة ، والباقي قد مضى تفسيره . إلى قوله تعالى :
{ أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير } أَيْ : موجباته ، فيتَّبعونه .
{ ومن يسلم وجهه إلى الله } يُقبل على طاعته وأوامره { وهو محسن } مؤمنٌ موحِّدٌ { فقد استمسك بالعروة الوثقى } بالطَّرفِ الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه { وإلى الله عاقبة الأمور } مرجعها .

نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)

{ نمتعهم قليلاً } بالدُّنيا { ثمَّ نضطرهم } نُلجئهم { إلى عذاب غليظ } .
{ ولئن سالتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله } الذي خلقها { بل أكثرهم لا يعلمون } إذ أشركوا به بعد إقرارهم بأنَّه خالقهما .

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

{ ولو أنَّ ما في الأرض من شجرة أقلام . . . } الآية . وذلك أنَّ المشركين قالوا في القرآن : هذا كلامٌ سينفذ وينقطع ، فأعلم الله سبحانه أنَّ كلامَهُ لا ينفد { والبحر يمده } أَيْ : يزيد فيه ، ثمَّ كتبت به كلمات الله { ما نفدت } .
{ ما خلقكم ولا بعثكم إلاَّ كنفس واحدة } أَيْ : كخلق وكبعث نفسٍ واحدةٍ؛ لأنَّ قدرة الله سبحانه على بعث الخلق كقدرته على بعث نفسٍ واحدةٍ ، وقوله :
{ ألم تر أنَّ الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كلٌّ يجري إلى أجل مسمىً وأنَّ الله بما تعملون خبير } .
{ ذلك } أَيْ : فعل الله ذلك لتعلموا { بأن الله هو الحق } الذي لا إله غيره . وقوله :
{ إنَّ في ذلك لآيات لكلّ صبار شكور } أَيْ : لكلِّ مؤمنٍ بهذه الصِّفة .
{ وإذا غشيهم } علاهم { موج كالظلل } كالجبال . وقيل : كالسَّحاب . وقوله : { فمنهم مقتصد } أَيْ : مؤمنٌ مُوفٍ بما عاهد الله في البحر . وقوله : { كلُّ ختار } غدَّارٍ { كفور } جحودٍ . وقوله :
{ لا يجزي والد عن ولده } لا يكفي ولا يُغني عنه شيئاً ، و { الغَرُور } الشَّيطان .
{ إنَّ الله عنده علم الساعة } متى تقوم { وينزل الغيث } المطر { ويعلم ما في الأرحام } ذكراً أوأنثى .

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

قوله :
{ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } يعني : القضاء من السَّماء فينزله إلى الأرض مدَّة أيام الدُّنيا { ثمَّ يعرج إليه } أَيْ : يرجع الأمر والتَّدبير إلى السَّماء ، ويعود إليه بعد انقضاء الدُّنيا وفنائها { في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } وهو يوم القيامة ، وذلك اليوم يطول على قومٍ ويشتدُّ حتى يكون كخمسين ألف سنة ، ويقصر على قوم ، فلا آخر له معلوم .

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)

{ الذي أحسن كلَّ شيء خلقه } أَيْ : أتقنه وأحكمه { وبدأ خلق الإنسان من طين } آدم عليه السَّلام .
{ ثم جعل نسله } ذريَّته { من سلالةٍ } نطفةٍ { من ماء مهين } ضعيفٍ حقيرٍ .

وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

{ وقالوا } يعني : منكري البعث { أإذا ضللنا في الأرض } صرنا تراباً وبطلنا { أإنا لفي خلق جديد } نُخلق بعد ذلك خلقاً جديداً .
{ قل يتوفاكم } يقبض أرواحكم .
{ ولو ترى } يا محمد { إذ المجرمون } المشركون { ناكسو رؤوسهم } مُطأطئوها حياءً من ربِّهم عزَّ وجلَّ ، ويقولون : { ربنا أبصرنا } ما كنا به مُكذِّبين { وسمعنا } منك صدق ما أتت به الرُّسل { فارجعنا } فارددنا إلى الدُّنيا { نعمل صالحاً }
{ ولو شئنا لآتينا كلَّ نفس هداها } رشدها . الآية . ويقال لأهل النَّار .
{ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } أَيْ : تركتم الإِيمان به { إنا نسيناكم } تركناكم في النَّار .

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)

{ إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها } أي : وُعظوا { خرُّوا سجداً } لله سبحانه خوفاً منه { وسبحوا بحمد ربهم } نزَّهوا الله تعالى بالحمد لله { وهم لا يستكبرون } عن الإيمان به والسُّجود له .
{ تتجافى جنوبهم } ترتفع أضلاعهم { عن المضاجع } الفرش ومواضع النَّوم { يدعون ربهم خوفاً } من النَّار { وطمعاً } في الجنَّة { ومما رزقناهم ينفقون } يصَّدَّقون .
{ فلا تعلم نفس } من هؤلاء { ما أخفي لهم } ما أُعدَّ لهم { من قرة أعين } ممَّا تقرُّ به عينه إذ رآه .
{ أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً } نزلت في أمير المرمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط .

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)

{ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } قيل : المصيبات في الدُّنيا ، وقيل : القتل ببدر . وقيل : عذاب القبر . وقيل : الجوع سبع سنين ، والأولى المُصيبات والجوع لقوله : { لعلهم يرجعون } . وقوله :
{ فلا تكن في مرية من لقائه } أَيْ : من لقاء موسى عليه السَّلام ليلة المعراج ، وعده الله تعالى أن يريه موسى عليه السَّلام ليلة الإِسراء به .
{ وجعلنا منهم } من بني إسرائيل { إئمة } قادة { يهدون } يدعون الخلق { بأمرنا لما صبروا } حين صبروا على الحقِّ .
{ إنَّ ربك هو يفصل } يحكم { بينهم يوم القيامة } بين المُكذِّبين بك { فيما كانوا فيه يختلفون } من أمرك .
{ أو لم يهد لهم } يتبيَّن لهم صدقك { كم أهلكنا } إهلاكنا مَنْ كذَّب الرُّسل منهم وهم { يمشون في مساكنهم } إذا سافروا ، فيرون خرابَ منازلهم { إنَّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون } آيات الله وعظاته .
{ أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز } الغليظة التي لا نبأت فيها { فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون } هذا فيعلموا أنَّا نقدر على إعادتهم .

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

{ ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } وذلك أنَّ المؤمنين قالوا للكفَّار : إنَّ لنا يوماً يحكم الله بيننا وبينكم فيه ، يريدون يوم القيامة ، فقالوا : متى هذا الفتح؟ فقال الله تعالى : { قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون } يُمهلون للتَّوبة .
{ فأعرض عنهم } منسوخٌ بآية السَّيف { وانتظر } عذابهم { إنهم منتظرون } هلاكك [ في زعمهم الكاذب ] .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)

{ يا أيها النبي اتق الله } اثبت على تقوى الله ، ودُمْ عليه { ولا تطع الكافرين والمنافقين } وذلك أنَّ الكافرين قالوا له : ارفض ذكر آلهتنا ، وقل : إنَّ لها شفاعةً ومنفعةً لمن عبدها ، ووازَرَهم المنافقون على ذلك { إنَّ الله كان عليماً } بما يكون قبل كونه { حكيماً } فيما يخلق .

مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)

{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } هذا تكذيبٌ لبعض مَنْ قال من الكافرين : إنَّ لي قلبين أفهم بكلِّ واحدٍ منهما أكثر ممَّا يفهم محمد ، فأكذبه الله تعالى . قيل : إنَّه ابن خطل { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتهم } لم يجعل نساءكم اللائي تقولون : هنَّ علينا كظهور أمهاتنا في الحرام كما تقولون ، وكان هذا من طلاق الجاهليَّة ، فجعل الله في ذلك كفَّارة { وما جعل أدعياءكم } مَنْ تبنَّيتموه { أبناءكم } في الحقيقة كما تقولون { ذلكم قولكم بأفواهكم } قولٌ بالفم لا حقيقة له { والله يقول الحق } وهو أنَّ غير الابن لا يكون ابناً { وهو يهدي السبيل } أَيْ : السَّبيل المستقيم .
{ ادعوهم لآبائهم } أَيْ : انسبوهم إلى الذين ولدوهم { هو أقسط عند الله } أعدل عند الله { فإن لم تعلموا آباءهم } مَنْ هم { فإخوانكم في الدين } أي فهم إخوانكم في الدِّين { ومواليكم } وبنو عمّكم . وقيل : أولياؤكم في الدِّين { وليس عليكم جناج فيما أخطأتم به } وهو ن يقول لغير ابنه : يا بنيَّ من غير تَعَمُّدٍ أن يجريه مجرى الولد في الميراث ، وهو قوله : { ولكن ما تعمَّدت قلوبكم } يعني : ولكنَّ الجُناح في الذي تعمَّدت قلوبكم .
{ النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم } إذا دعاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى شيءٍ ، ودعتهم أنفسهم إلى شيءٍ كانت طاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أولى . { وأزواجه أمهاتهم } في حرمة نكاحهنَّ عليهم { وأولوا الأرحام } والأقارب { بعضهم أولى ببعض } في الميراث { في كتاب الله } في حكمه { من المؤمنين والمهاجرين } وذلك أنَّهم كانوا في ابتداء الإِسلام يرثون بالإِيمان والهجرة { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } لكن إن يوصوا له بشيءٍ من الثُّلث فهو جائزٌ { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } كان هذا الحكم في اللَّوح المحفوظ مكتوباً .
{ وإذا أخذنا } واذكر إذ أخذنا { من النبيّين ميثاقهم } على الوفاء بما حملوا ، وأن يُصدِّق بعضهم بعضاً .
{ ليسأل الصادقين عن صدقهم } المُبلِّغين من الرُّسل عن تبليغهم ، وفي تلك المسألة تبكيتٌ للكفَّار { وأعدَّ للكافرين } بالرُّسل { عذاباً أليماً } .
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود } يعني : الأحزاب ، وهم قريش وغطفان وقُريظة والنَّضير ، حاصروا المسلمين أيَّام الخندق { فأرسلنا عليهم ريحاً } [ وهي الصَّبا ] كفأت قدورهم ، وقلعت فساطيطهم { وجنوداً لم تروها } وهم الملائكة { وكان الله بما يعملون } من حفر الخندق { بصيراً } .
{ إذ جاؤوكم من فوقكم } من قبل المشرق ، يعني : قُريظة والنَّضير ، { ومن أسفل منكم } قريشٌ من ناحية مكَّة { وإذ زاغت الأبصار } مالت وشخصت ، وتحيَّرت لشدَّة الأمر وصعوبته عليكم { وبلغت القلوب الخناجر } ارتفعت إلى الحلوق لشدَّة الخوف { وتظنون به الظنونا } ظنَّ المنافقون أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُستأصلون ، وأيقن المؤمنون بنصر اللَّهِ .

{ هنالك } في تلك الحال { ابتلي المؤمنون } اختبروا ليتبيَّن المخلص من المنافق { وزلزلوا } وحرِّكوا وخُوِّفوا .
{ وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } شكٌّ ونفاقٌ : { ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غرورا } إذْ وعدنا أنَّ فارس والرُّوم يُفتحان علينا .
{ وإذ قالت طائفة منهم } من المنافقين : { يا أهل يثرب } يعني : المدينة { لا مقام لكم } لا مكان لكم تُقيمون فيه { فارجعوا } إلى منازلكم بالمدينة ، أمروهم بترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلانه ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان قد خرج من المدينة إلى سلع لقتال القوم { ويستأذن فريقٌ منهم } من المنافقين { النبيَّ } في الرُّجوع إلى منازلهم { يقولون : إنَّ بيوتنا عورة } ليست بحصينةٍ ، نخاف عليها العدوِّ ، قال الله تعالى : { وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً } من القتال .
{ ولو دخلت عليهم } لو دخل عليهم هؤلاء الذين يريدون قتالهم المدينة { من أقطارها } جوانبها { ثمَّ سئلوا الفتنة } سألتهم الشِّرك بالله { لأتوها } لأعطوا مرادهم { وما تلبثوا بها إلاَّ يسيراً } وما احتبسوا عن الشِّرك إلا يسيراً ، أَيْ : لأسرعوا الإجابة إليه .

وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)

{ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة الخندق { لا يولون الأدبار } لا ينهزمون عن العدوِّ { وكان عهد الله مسؤولاً } والله تعالى يسألهم عن ذلك العهد يوم القيامة .
{ قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } الذي كُتب عليكم { وإذاً لا تمتعون إلاَّ قليلاً } لا تبقون في الدُّنيا إلاَّ إلى آجالكم .

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

{ قد يعلم الله المعوقين منكم } الذين يُعوِّقون النَّاس عن نصرة محمَّد عليه السَّلام ، { والقائلين لإِخوانهم هلمَّ إلينا } يقولون لهم : خلُّوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنَّه مغرورٌ وتعالوا إلينا { ولا يأتون البأس إلاَّ قليلاً } لا يحضرون الحرب مع [ أصحاب ] النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاّ تعذيراً وتقصيراً ، [ يرى أنَّ له عذراً ولا عذر له ] ، يوهمونهم أنَّهم معهم .
{ أشحة عليكم } بخلاء عليكم بالخير والنَّفقة { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليكم تدور أعينهم } في رؤوسهم من الخوف كدوران عين الذي { يُغشى عليه من الموت } قَرُبَ أن يموت فانقلبت عيناه { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } آذوكم بالكلام وجادلوكم في الغنيمة { أشحة } بخلاء { على الخير } الغنيمة .
{ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } لجبنهم وشدَّة خوفهم يظنون أنَّهم بعد انهزامهم لم ينصرفوا بعد { وإن يأت الأحزاب } يرجعوا كرَّةً ثانية { يودوا لو أنَّهم بادون في الأعراب } خارجون من المدينة إلى البادية في الأعراب { يسألون عن أنبائكم } أَيْ : يودوا لو أنَّهم غائبون عنكم يسمعون أخباركم بسؤالهم عنها من غير مشاهدة . قال الله تعالى : { ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلاَّ قليلاً } رياءً من غير حِسْبَةٍ ، ولمَّا وصف الله تعالى حال المنافقين في الحرب وصف حال المؤمنين فقال :
{ لقد كان لكم } أيُّها المؤمنون { في رسول الله أسوة حسنة } سنَّةٌ صالحةٌ ، واقتداءٌ حسنٌ حيث لم يخذلوه ولم يتولَّوا عنه ، كما فعل هو صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ شُجَّ حاجبه ، وكُسرت رباعيته ، فوقف صلى الله عليه وسلم ولم ينهزم ، ثمَّ بيَّن لمَنْ كان هذا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } أَيْ : يخافهما .
{ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا } تصديقاً لوعد الله تعالى : { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } ووعدُ الله تعالى إيَّاهم في قوله : { أمْ حسبْتُم أن تدخلوا الجنَّة ولمَّا يأتكم مثَلُ الذين خلوا مِنْ قبلِكم مسًّتهم البأساءُ والضَّراء وزُلزلوا حتَّى يقولَ الرَّسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله؟ ألا إِنَّ نصر الله قريبٌ } فعلموا بهذه الآية أنَّهم يُبتلون ، فلمَّا ابتلوا بالأحزاب علموا أنَّ الجنَّة والنَّصر قد وجبا لهم إن سلَّموا وصبروا ، وذلك قوله : { وما زادهم إلاَّ إيماناً } وتصديقاً بالله ورسوله { وتسليماً } لله أمره .
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } كانوا صادقين في عهودهم بنصرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم { فمنهم من قضى نحبه } فرغٍ من نذره واستُشهد . يعني : الذين قُتلوا بأُحدٍ { ومنهم مَنْ ينتظر } أن يقتل شهيداً { وما بدلوا تبديلاً } عهدهم ، ثمَّ ذكر جزاء الفريقين فقال :
{ ليجزي الله الصادقين بصدقهم . . . } الآية .
{ وردَّ الله الذين كفروا } قريشاً والأحزاب { بغيظهم } على ما فيهم من الغيظ { ولم ينالوا خيراً } لم يظفروا بالمسلمين { وكفى الله المؤمنين القتال } بالرِّيح والملائكة .

{ وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب } الذين عاونوا الأحزاب من قريظة { من صياصيهم } حصونهم ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حاصرهم ، واشتدَّ ذلك عليهم حتى نزلوا على حكمه ، وذلك قوله تعالى : { وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون } يعني : الرِّجال { وتأسرون فريقاً } يعني : النِّساء والذُّريَّة . وقوله :
{ وأرضاً لم تطؤوها } يعني : خيبر ، ولم يكونوا نالوها ، فوعدهم الله تعالى إيَّاها .
{ يا أيها النبيُّ قل لأزواجك . . } الآية . نزلت حين سألت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من عرض الدُّنيا ، وآذْينَهُ بزيادة النَّفقة ، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات ، وأمره أن يُخيِّرهنَّ بين الإِقامة معه على طلب ما عند الله ، أو السِّراح إن أردْنَ الدُّنيا ، وهو قوله : { إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكنَّ } متعة الطَّلاق ، فقرأ عليهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات ، فاخترن الآخرة على الدُّنيا ، والجنَّة على الزِّينة ، فرفع الله سبحانه درجتهنَّ على سائر النِّساء بقوله :
{ يا نساء النبيّ مَنْ يأت منكنَّ بفاحشة مبيِّنة } بمعصيةٍ ظاهرةٍ { يضاعف لها العذاب ضعفين } ضعفي عذاب غيرها من النِّساء .

وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)

{ ومن يقنت } يطع { نؤتها أجرها مرَّتين } مثلي ثواب غيرها من النِّساء { وأَعتدنا لها رزقاً كريماً } يعني : الجنَّة . وقوله :
{ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } أَيْ : لا تقلن قولاَ يجد منافقٌ به سبيلاً إلى أن يطمع في موافقتكنَّ له . وقوله : { وقلن قولاً معروفاً } أَيْ : قلن بما يوجبه الدِّين والإِسلام بغير خضوعٍ فيه بل بتصريحٍ .

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)

{ وقرن في بيوتكن } أمرٌ لهنَّ من الوقار والقرار جميعاً { ولا تبرجن } ولا تُظهرن المحاسن كما كان يفعله أهل الجاهليَّة ، وهو ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما . { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } وهو كلُّ مُستَنكرٍ ومُستقذَرٍ من عملٍ { أهل البيت } يعني : نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورجال أهل بيته .
{ واذكرن ما يتلى في بيوتكنَّ من آيات الله } يعني : القرآن { والحكمة } يعني : السُّنَّة .
{ إنَّ المسلمين والمسلمات . . . } الآية . قالت النِّساء : ذكر الله تعالى الرِّجال بخيرٍ في القرآن ، ولم يذكر النِّساء بخيرٍ ، فما فينا خيرٌ يُذكر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة . . . } الآية . نزلت في عبد الله بن جحش وأخته زينب ، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة ، وظنَّت أنَّه خطبها لنفسه ، فلمَّا علمت أنًّه يريدها لزيدٍ كرهت ذلك ، فأنزل الله تعالى : { وما كان لمؤمن } يعني : عبد الله بن جحش { ولا مؤمنة } يعني : أخته زينب { إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } أَيْ : الاختيار ، فأعلم أنَّه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله ، وزوَّجها من زيدٍ ، ومكثت عنده حيناً ، ثمَّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يومٍ لحاجة ، فأبصرها قائمةً في درعٍ وخمارٍ ، فأعجبته وكأنَّها وقعت في نفسه ، وقال : سبحان الله مُقلِّب القلوب ، فلمَّا جاء زيدٌ أخبرته بذلك ، وأُلقي في نفس زيدٍ كراهتها ، فأراد فراقها ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي؛ فإنَّها تؤذيني بلسانها .

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)

{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } بالإسلام ، يعني : زيداً { وأنعمت عليه } بالإِعتاق : { أمسك عليك زوجك واتق الله } فيها ، وكان صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يتزوَّج بها ، إلا أنَّه آثر ما يجب من الأمر بالمعروف ، وقوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } أن لو فارقَها تزوَّجتها ، وذلك أنَّ الله تعالى كان قد قضى ذلك ، وأعلمه أنَّها ستكون من أزواجه ، وإأنَّ زيداً يُطلِّقها { وتخشى الناس } تكره قالة النَّاس لو قلت : طَلِّقْها ، فيقال أمر رجلاً بطلاق امرأته ، ثمَّ تزوَّجها { والله أحقُّ أن تخشاه } في كلِّ الأحوال ، ليس أنَّه لم يَخْشَ الله في شيءٍ من هذه القضيَّة ، ولكن ذكر الكلام ها هنا على الجملة . وقيل والله أحقُّ أن تستحيي منه ، فلا تأمر زيداً بإمساك زوجته بعد إعلام الله سبحانه إياك أنها ستكون زوجتك ، وأنت تستحيي من النَّاس وتقول : أمسك عليك زوجك . { فلما قضى زيد منها وطراً } حاجته من نكاحها { زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج . . . } الآية . لكيلا يظنَّ ظانٌّ أنَّ امرأة المتبنَّى لا تحلُّ للمتبنِّي ، وكانت العرب تظنُّ ذلك ، وقوله : { وكان أمر الله مفعولاً } كائناً لا محالة ، وكان قد قضى في زينب أن يتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } فيما أحلَّ له من النِّساء { سنة الله في الذين خلوا من قبل } يقول : هذه السُّنَّة قد مضت أيضاً لغيرك . يعني : كثرة أزواج داود وسليمان عليهما السَّلام ، والمعنى : سنَّ الله له سنَّةٌ واسعةً لا حرج عليه فيها { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } قضاءً مقضياً .

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)

{ الذين يبلغون رسالات الله } " الذين " نعت قوله : { في الذين خلوا من قبل } . { ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاَّ الله } لا يخشون قالة النَّاس ولائمتهم فيما أحلَّ الله لهم { وكفى بالله حسيباً } حافظاً لأعمال خلقه .
{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } فتقولوا : إنَّه تزوجَّ امرأة ابنه ، يعني : زيداً ليس له بابنٍ وإن كان قد تبنَّاه { ولكن } كان { رسول الله وخاتم النبيين } لا نبيَّ بعده .
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } وهو أن لا يُنسى على حالٍ .
{ وسبحوه } صلُّوا له { بكرة } صلاة الفجر { وأصيلاً } صلاة العصر والعشاءين .
{ هو الي يصلي عليكم } يغفر لكم ويرحمكم { وملائكته } يستغفرون لكم { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } من ظلمات الجهل والكفر إلى نور اليقين والإسلام .
{ تحيتهم } تحيَّةُ الله للمؤمنين { يوم يلقونه } يرونه { سلام } يسلِّم عليهم { وأعدَّ لهم أجراً كريماً } وهو الجنَّة .
{ يا أيها النبيُّ إنا أرسلناك شاهداً } على أُمَّتك بإبلاغ الرِّسالة .
{ وداعياً إلى الله } إلى ما يُقرب منه من الطَّاعة والتَّوحيد { بإذنه } بأمره ، أَيْ : إنَّه أمرك بهذا لا أنَّك تفعله من قبلك { وسراجاً منيراً } يُستضاء به من ظلمات الكفر .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7