كتاب : الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المؤلف : أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري

وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)

{ ودع أذاهم } لا تُجازهم عليه إلى أن تُؤمر فيهم بأمرنا .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات } تزوجتموهنَّ { ثمَّ طلقتموهنَّ من قبل أن تمسوهنَّ } تجامعوهنَّ { فمالكم عليهن من عدَّة تعتدونها } تحصونها عليهنَّ بالأقراء والأشهر؛ لأنَّ المُطلَّقة قبل الجماع لا عدَّة عليها { فمتعوهنَّ } أعطوهنَّ ما يستمتعن به ، وهذا أمر ندب؛ لأنَّ الواجب لها نصف الصَّداق { وسرحوهن سَراحاً جميلاً } بالمعروف كما أمر الله تعالى ، ثمَّ ذكر ما يحلُّ من النِّساء للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال :
{ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } مهورهنَّ { وما ملكت يمينك } من الإِماء { ممَّا أفاء الله عليك } جعلهنَّ غنيمة تُسبى وتُسترقُّ بحكم الشَّرع { وبنات عمك وبنات عماتك } أن يتزوجهنَّ ، يعني : نساء بني عبد المطلب { وبنات خالك وبنات خالاتك } يعني : نساء بني زُهرة { اللاتي هاجرن معك } فمن لم يهاجر منهنَّ لم يحلَّ له نكاحها { وامرأة } وأحللنا لك امرأةً { مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيِّ إن أراد النبيُّ أن يستنكحها } فله ذلك { خالصة لك من دون المؤمنين } فليس لغير النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يستبيح وطء امرأةٍ بلفظ الهبة من غير وليٍّ ، ولامهرٍ ، ولا شاهدٍ ، { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } وهو أن لا نكاح إلاَّ بوليٍّ وشاهدين { وما ملكت أيمانهم } يريد أنَّه لا يحلُّ لغير النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أربع بوليٍّ وشاهدين ، وإلا ملك اليمين ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يحلُّ له ما ذكر في هذه الآية { لكيلا يكون عليك حرج } في النِّكاح .
{ ترجي من تشاء منهن } تُؤخِّر { وتؤوي } وتضمُّ { إليك مَنْ تشاء } أباح الله سبحانه له أن يترك القسمة والتَّسوية بين أزواجه ، حتى إنَّه ليؤخِّر مَنْ شاء منهنَّ عن وقت نوبتها ، ويطأ مَنْ يشاء من غير نوبتها ، ويكون الاختيار في ذلك إليه يفعل فيه ما يشاء ، وهذا من خصائصه { ومن ابتغيت } طلبتَ وأردتَ إصابتها { ممن عزلت } هجرتَ وأخَّرت نوبتها { فلا جناح عليك } في ذلك كلِّه { ذلك أدنى أن تقرَّ أعينهنَّ . . . . } الآية . إذا كانت هذه الرُّخصة مُنزَّلة من الله سبحانه عليك كان أقرب إلى أن { يرضين بما آتيتهن كلهنَّ والله يعلم ما في قلوبكم } من أمر النِّساء والميل إلى بعضهنَّ ، ولمَّا خيَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه ورضين به ، قصره الله سبحانه عليهنَّ ، وحرَّم عليه طلاقهنَّ والتَّزوُّج بسواهنَّ ، وجعلهنَّ أُمَّهات المؤمنين .

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)

{ ولا يحلُّ لك النساء من بعد } أَيْ : من بعد هؤلاء التِّسع { ولا أن تبدَّل بهنَّ من أزواجٍ ولو أعجبك حسنهنَّ } ليس لك أن تطلِّق واحدةً من هؤلاء ، ولا تتزوَّج بدلها أخرى أعجبتك بجمالها { إلاَّ ما ملكت يمينك } من الإِماء فإنهنَّ حلالٌ لك .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي . . . } الآية . نزلت في ناسٍ من المؤمنين كانوا يتحيَّنون طعام النبي صلى الله عليه وسلم ، فيدخلون عليه قبل الطَّعام إلى أن يدرك ، ثمَّ يأكلون ولا يخرجون ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأذَّى بهم ، وهو قوله : { غير ناظرين إناه } أيْ : منتظرين إدراكه { ولا مُسْتأنِسِين لحديث } طالبين الأنس { والله لا يستحيِ من الحق } لا يترك تأديبكم وحملكم على الحقِّ { وإذا سألتموهنَّ متاعاً فاسألوهنَّ من وراء حجاب } إذا أردتم أن تخاطبوا أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أمرٍ فخاطبوهنَّ من وراء حجابٍ ، وكانت النِّساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرِّجال ، فلمَّا نزلت هذه الآية ضرب عليهنَّ الحجاب ، فكانت هذه آية الحجاب بينهنَّ وبين الرِّجال { ذلكم } أَيْ : الحجاب { أطهر لقلوبكم وقلوبهن } فإنَّ كلَّ واحدٍ من الرَّجل والمرأة إذا لم ير [ الآخر ] لم يقع في قلبه { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } أَيْ : ما كان لكم أذاه في شيءٍ من الأشياء { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } وذلك أنَّ رجلاً من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : لئن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنكحنَّ عائشة رضي الله عنها وعن أبيها ، فأعلم الله سبحانه أنَّ ذلك محرَّمٌ بقوله : { إن ذلك كان عند الله عظيماً } أَيْ : ذنباً عظيماً .
{ إن تبدوا شيئاً أو تخفوه . . . } الآية . نزلت في هذا الرَّجل الذي قال : لأنكحنَّ عائشة ، أخبر الله أنَّه عالمٌ بما يُظهر ويُكتم ، فلمَّا نزلت آية الحجاب قالت الآباء والأبناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ونحن أيضاً نُكلِّمهنَّ من وراء الحجاب؟ فأنزل الله سبحانه : { لا جناح عليهن في آبائهنَّ ولا أبنائهنَّ ولا إخوانهنّ ولا أبناءِ إخوانهنّ ولا أبناءِ أخواتهنّ ولانسائهنّ ولا ما ملكت أيمانهن } أَيْ : في ترك الاحتجاب من هؤلاء .

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)

{ إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبيِّ } الله تعالى يثني على النبيِّ ويرحمه ، والملائكة يدعون له { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } قولوا : اللهم صلِّ على محمدٍ وسلِّمْ .
{ إن الذين يؤذون الله ورسوله } يعني : اليهود والنَّصارى والمشركين في قولهم : { يد الله مغلولةٌ } و { إنَّ الله فقيرٌ } و { المسيحُ ابنُ الله } والملائكة بنات الله ، وشجُّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ساحرٌ وشاعرٌ .
{ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } يرمونهم بغير ما عملوا .
{ يا أيها النبي قل لأزواجك . . . } الآية . كان قومٌ من الزُّناة يتَّبعون النِّساء إذا خرجن ليلاً ، ولم يكونوا يطلبون إلاَّ الإِماء ، ولم يكن يؤمئذٍ تُعرفْ الحرَّة من الأمة؛ لأنَّ زِيَّهُنَّ كان واحداً ، إنَّما يخرجن في درعٍ وخمارٍ ، فنهى الله سبحانه الحرائر أن يتشبَّهنَّ بالإماء ، وأنزل قوله تعالى : { يدنين عليهنَّ من جلابيبهنَّ } أَيْ : يرخين أرديتهنَّ وملاحفهنَّ؛ ليعلم أنهنَّ حرائر فلا يتعرض لهنَّ ، وهو قوله : { ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً } لما سلف من ترك السِّتر { رحيماً } بهنَّ إذ يسترهنَّ .
{ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } يعني : الزُّناة { والمرجفون في المدينة } الذين يوقعون أخبار السَّرايا بأنهم هُزموا بالكذب والباطل { لنغرينَّك بهم } لنسلطنَّك عليهم { ثم لا يجاورونك فيها } لا يساكنونك في المدينة { إلاَّ قليلاً } حتى يخرجوا منها .
{ ملعونين } مطرودين { أينما ثقفوا } وُجدوا { أخذوا وقتلوا تقتيلاً } .
{ سنة الله في الذين خلوا من قبل } سنَّ الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يُقتلوا حيث ما ثقفوا .

وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)

{ إنا أطعنا سادتنا } أَيْ : قادتنا ورؤساءنا في الشِّرك والضَّلالة .
{ ربنا آتهم ضعفين من العذاب } مثلي عذابنا .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى } لا تؤذوا نبيَّكم كما آذَوا هم موسى عليه السَّلام ، وذلك أنَّهم رموه بالبرص والأدرة حتى برَّأه الله مما رموه به بآيةٍ معجزةٍ { وكان عند الله وجيهاً } ذا جاهٍ ومنزلةٍ . وقوله :
{ وقولوا قولاً سديداً } أَيْ : حقَّاً وصواباً . قيل : هو لا إله إلاَّ الله .

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

{ إنا عرضنا الأمانة } الفرائض التي افترض الله سبحانه علىالعباد ، وشرط عليهم أنَّ مَنْ أدَّاها جُوزي بالإِحسان ، ومَنْ خان فيها عوقب . { على السموات والأرض والجبال } أفهمهنَّ الله سبحانه خطابه وأنطقهنَّ { فأبين أن يحملْنَها } مخافةً وخشيةً لا معصيةً ومخالفةً ، وهو قوله : { وأشفقن منها } أَيْ : خشين منها { وحملها الإِنسان } آدم عليه السَّلام { إنَّه كان ظلوماً } لنفسه { جهولاً } غِرَّاً بأمر الله سبحانه وما احتمل من الأمانة ، ثمَّ بيَّن أنَّ حمل آدم عليه السَّلام هذه الأمانة كان سبباً لتعذيب المنافقين والمشركين في قوله :
{ ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } يعني : إذا خانوا في الأمانة بمعصية أمر الله سبحانه تاب عليهم بفضله { وكان الله غفوراً رحيماً } .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)

{ الحمد لله } على جهة التَّعظيم { الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة } لأنَّ أهل الجنَّة يحمدونه .
{ يعلم ما يلج في الأرض } يدخل فيها من الماء والأموات { وما يخرج منها } من النَّبات { وما ينزل من السماء } من الأمطار { وما يعرج } يصعد { فيها } من الملائكة .
{ وقال الذين كفروا } يعني : منكري البعث : { لا تأتينا الساعة } أَيْ : لا نبعث { قل } لهم يا محمَّدُ : { بلى وربي لتأتبينَّكم عالمِ الغيب } بالخفض من نعت قوله : { وربي } وبالرَّفع على معنى : هو عالم الغيب ، وقوله : { لا يعزب } مفسَّرٌ في سورة يونس ، وقوله :
{ ليجزي } يعود إلى قوله : { لتأتينكم } معناه : لتأتينَّكم السَّاعة { ليجزي الذين آمنوا . . . } الآية .
{ والذين سعوا في آياتنا } مفسَّر في سورة الحج .
{ ويرى الذين أوتوا العلم } يعني : مؤمني أهل الكتاب { الذي أنزل إليك من ربك } وهو القرآن { هو الحقَّ ويهدي إلى صراط العزيز } القرآن .
{ وقال الذين كفروا } إنكاراً للبعث وتعجُّباً منه : { هل ندلكم على رجل } وهو محمَّد صلى الله عليه وسلم { ينبئكم إذا مزقتم كلَّ ممزق } أَيْ : فُرِّقتم وصرتم رُفاتاً { إنكم لفي خلق جديد } أَيْ : تُبعثون .
{ أفترى على الله كذباً } فيما يُخبر به من البعث { أم به جنة } حالةُ جنونٍ . قال الله تعالى : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } .

أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)

{ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } يقول : أما يعلمون أنَّهم حيث ما كانوا فهم يرون ما بين أيديهم من الأرض والسَّماء مثل الذي خلفهم ، وأنَّهم لا يخرجون منها ، فكيف يأمنون؟! { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } عذاباً { إنَّ في ذلك لآية لكلِّ عبدٍ منيب } لعلامةً تدلُّ على قدرة الله سبحانه على إحياء الموتى لكلِّ مَنْ أناب إلى الله تعالى ، وتأمَّل ما خلق الله سبحانه .
{ ولقد آتينا داود منَّا فضلاً } ثمَّ بيَّن ذلك فقال : { يا جبال } أَيْ : قلنا يا جبال { أوّبي معه } سبِّحي معه { والطير } كان إذا سبَّح جاوبته الجبال بالتَّسبيح ، وعكفت عليه الطَّير من فوقه تسعده على ذلك { وألنا له الحديد } جعلناه ليِّناً في يده ، كالطِّين المبلول والعجين ، وقلنا له :
{ أن اعمل سابغات } دروعاً كوامل { وقدِّر في السرد } لا تجعل مسمار الدِّرع دقيقاً فيفلق ، ولا غليظاً فيفصم الحلق . اجعله على قدر الحاجة ، والسَّرْد : نسج الدُّروع { واعملوا } يعني : داود وآله { صالحاً } عملاً صالحاً من طاعة الله تعالى .
{ ولسليمان الرِّيح } وسخَّرنا له الرِّيح { غدوها شهر } مسيرها إلى انتصاف النَّهار مسيرة شهر ، ومن انتصاف النَّهار إلى اللَّيل مسيرة شهر ، وهو قوله : { ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر } أذبنا له عين النُّحاس ، فسالت له كما يسيل الماء { ومن الجنِّ } أَيْ : سخَّرنا له من الجنِّ { مَنْ يعمل بين يديه بإذن ربه } بأمر ربه { ومَنْ يزغ } يمل ويعدل { منهم عن أمرنا } الذي أمرناه به من طاعة سليمان { نذقه من عذاب السعير } وذلك أنَّ الله تعالى وكَّل بهم ملكاً بيده سوطٌ من نار ، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحرقته .
{ يعملون له ما يشاء من محاريب } مجالس ومساكن ومساجد { وتماثيل } صور الأنيباء؛ إذ كانت تصوَّر في المساجد ليراها النَّاس ، ويزدادوا عبادة { وجفانٍ } قصاعٍ كبارٍ { كالجوابِ } كالحياض التي تجمع الماء { وقدور راسيات } ثوابت لا تحرَّكن عن مكانها لعظمه ، وقلنا : { اعملوا } بطاعة الله يا { آل داود شكراً } له على نعمه .

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)

{ فلما قضينا عليه الموت ما دلَّهم . . . } الآية . كان سليمان عليه السَّلام يقول : اللَّهم عمِّ على الجنِّ موتي؛ ليعلم الإِنس أنَّ الجنَّ لا يعلمون الغيب ، فمات سليمان عليه السَّلام مُتوكِّئاً على عصاه سنةً ، ولم تعلم الجنُّ ذلك حتى أكلت الأرضةُ عصاه ، فسقط ميِّتاً ، وهو قوله : { ما دلَّهم على موته إلاَّ دابَّةُ الأرض تأكل منسأته } عصاه { فلما خرَّ } سقط { تبينت الجن } علمت { أنْ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا } بعد موت سليمان { في العذاب المهين } فيما سخَّرهم فيه سليمان عليه السَّلام واستعملهم .
{ لقد كان لسبأ } وهو اسم قبيلةٍ { في مساكنهم } باليمن { آية } دلالةٌ على قدرتنا { جنتان } أَيْ : هي جنَّتان { عن يمين وشمال } بستانٌ يمنةً ، وبستانٌ يسرةً ، وقيل لهم : { كلوا من رزق ربكم واشكروا له } على ما أنعم عليكم { بلدة طيبة } أَيْ : بلدتكم بلدةٌ طيِّبةٌ ليست بسبخةٍ { و } الله { ربٌّ غفور } والمعنى : تمتَّعوا ببلدتكم الطَّيِّبة واعبدوا ربَّاً يغفر ذنوبكم .

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

{ فأعرضوا } عن أمر الله تعالى بتكذيب الرُّسل { فأرسلنا عليهم سيل العرم } وهو السِّكْر الذي يحبس الماء ، وكان لهم سِكْرٌ يحبس الماء عن جنَّتيهم ، فأرسل الله تعالى فيه جرذاناً ثقبته ، فانبثق الماء عليهم ، فغرق جنَّاتهم { وبدلناهم بجنَّتيهم جنتين ذواتي أكل خمط } أَيْ : ثمرٍ مُرٍّ { وأثل } وهو الطَّرفاء { وشيء من سدر قليل } وذلك أنَّ الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة ، وأنبت بدلها الأراك والطَّرفاء والسِّدر .
{ وذلك جزيناهم بما كفروا } أَيْ : جزيناهم ذلك الجزاء بكفرهم { وهل نجازي إلاَّ الكفور } بسوء عمله ، وذلك أنَّ المؤمن تُكفَّر عنه سيئاته ، والكافر يُجازى بكلِّ سوءٍ يعمله .
{ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } يعني : قرى الشَّام ، { قرى ظاهرة } متواصلةً ، يُرى من هذه القرية القرية الأخرى ، فكانوا يخرجون من سبأ إلى الشَّام ، فيمرُّون على القرى العامرة { وقدرنا فيها السير } جعلنا سيرَهم بمقدارٍ ، إذا غدا أحدهم من قريةٍ قال في أخرى ، وإذا راح من قريةٍ أوى إلى أخرى ، وقلنا لهم : { سيروا فيها } في تلك القرى { ليالي وأياماً } أَيَّ وقت شئتم من ليلٍ أو نهارٍ { آمنين } لا تخافون عدوَّاً ولا جوعاً ولا عطشاً .
{ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } وذلك أنَّهم سئموا الرَّاحة ، وبطروا النِّعمة فتمنَّوا أن تتباعد قراهم ليبعد سفرهم بينها { وظلموا أنفسهم } بالكفر والبطر { فجعلناهم أحاديث } لمَنْ بعدهم يتحدَّثون بقصَّتهم { ومزَّقناهم كلَّ ممزق } وفرَّقناهم في البلاد ، فصاروا يُتمثَّل بهم في الفُرقة ، وذلك أنَّهم ارتحلوا عن أماكنهم وتفرَّقوا في البلاد { إنَّ في ذلك } الذي فعلنا { لآيات لكلّ صبار شكور } أَيْ : لكلِّ مؤمنٍ؛ لأنَّ المؤمن هو الذي إذا ابتُليَ صبر ، وإذا أُعطيَ شكر .

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

{ ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه } الذي ظنَّ بهم من إغوائهم { فاتبعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين } أَيْ : وجدهم كما ظنَّ بهم إلاَّ المؤمنين .
{ وما كان لهم عليهم من سلطان } من حجَّةٍ يستتبعهم بها { إلاَّ لنعلم } المعنى : لكن امتحانهم بإبليس لنعلم { مَنْ يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك } عُلِمَ وقوعه منه .
{ قل } يا محمد لمشركي قومك : { ادعوا الذين زعمتهم } أنَّهم آلهةٌ { من دون الله } وهذا أمرُ تهديدٍ ، ثمَّ وصفهم فقال : { لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما } في السَّموات ولا في الأرض { من شرك } شركةٍ { وما له } لله { منهم من ظهير } عونٍ . يريد : لم يُعنِ اللَّهَ على خلق السَّموات والأرض آلهتُهم ، فكيف يكونون شركاء له؟ ثمَّ أبطل قولهم أنَّهم شفعاؤنا عند الله فقال :
{ ولا تنفع الشفاعة عنده إلاَّ لمن أذن له } أَيْ : أذن الله له أن يشفع { حتى إذا فزّع } أذهب الفزع { عن قلوبهم } يعني : كشف الفزع عن قلوب المشركين بعد الموت إقامةً للحجَّة عليهم وتقول لهم الملائكة : { ماذا قال ربكم } ؟ فيما أوحى إلى أنبيائه { قالوا الحق } فأقرُّوا حين لا ينفعهم الإِقرار .

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)

{ قل من يرزقكم من السموات } المطر { و } من { الأرض } النَّبات ، ثمَّ أمره أن يخبرهم فقال : { قل الله } أَيْ : الذي يفعل ذلك الله ، وهذا احتجاجٌ عليهم ، ثمَّ أمره بعد إقامة الحجَّة عليهم أن يُعرَّض بكونهم على الضَّلال فقال : { وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين } أَيْ : نحن أو أنتم إمَّا على هدىً أو ضلالٍ ، والمعنى : أنتم الضَّالون حيث أشركتم بالذي يرزقكم من السَّماء والأرض ، وهذا كما تقول لصاحبك إذا كذب : أحدنا كاذبٌ ، وتعنيه ، ثمَّ بيَّن براءته منهم ومن أعمالهم فقال :
{ قل لا تسألون عما أجرمنا . . . } الآية . وهذا كقوله تعالى : { لكم دينكم ولي دين } ثمَّ أخبر أنَّه يجمعهم في القيامة ، ثمَّ يحكم بينهم ، وهو قوله تعالى :
{ قل يجمع بيننا ربنا ثمَّ يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم } .
{ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء } ألحقتموهم بالله تعالى في العبادة ، يعني : الأصنام ، أَيْ : أرونيهم هل خلقوا شيئاً ، وهذه الآية مختصرةٌ ، تفسيرها قوله تعالى : { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دُونِ اللَّهِ أروني ماذا خلقوا من الأرضِ أَمْ لهم شِركٌ في السَّموات } ثمَّ قال : { كلا } أيْ : ليس الأمر على ما يزعمون { بل هو الله العزيز الحكيم } .
{ وما أرسلناك إلاَّ كافَّة للناس } جامعاً لهم كلَّهم بالإِنذار والتَّبشير { ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون } ذلك .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)

{ ولا بالذي بين يديه } أَيْ : من الكتب المُتقدِّمة ، وقوله : { يرجع بعضهم إلى بعض القول } أَيْ : في التَّلاوم ، ثمَّ ذكر إيش يرجعون فقال : { يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين } .
{ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين } .
{ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار } أَيْ : مكركم بنا فيهما { إذ تأمروننا أن نكفر بالله } { وأسروا } : وأظهروا .
{ وما أرسلنا من قرية من نذير } نبيٍّ يُنذرهم { إلاَّ قال مترفوها } رؤساؤها وأغنياؤها { إنَّا بما أُرسلتم به كافرون } .
{ وقالوا } للرُّسل : { نحن أكثر أموالاً وأولاداً } منكم . يعنون أنَّ الله سبحانه رضي منَّا حيث أعطانا المال { وما نحن بمعذبين } كما تقولون .
{ قل إنَّ ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } وليس ذلك ممَّا يدلُّ على العواقب { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ذلك .
{ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } أَيْ : قُربى . يعني : تقريباً { إلاَّ من آمن } لكنْ مَنْ آمن { وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف } من الثَّواب بالواحد عشرة { وهم في الغرفات آمنون } قصور الجنَّة .

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)

{ وما أنفقتم من شيء } ما تصدَّقتم من صدقةٍ { فهو يخلفه } يعطي خلفه؛ إمَّا عاجلاً في الدُّنيا؛ وإمَّا آجلاً في الآخرة .
{ ويوم نحشرهم جميعاً } العابدين والمعبودين { ثم نقول للملائكة } توبيخاً للكفَّار : { أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } .
{ قالوا سبحانك } تنزيهاً لك { أنت ولينا } الذي نتولاَّه ويتولاَّنا { من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } يُطيعون إبليس وأعوانه { أكثرهم بهم مؤمنون } مُصدِّقون ما يمنُّونهم ويعدونهم .

وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)

{ وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } يعني : مشركي مكَّة لم يكونوا أهل كتابٍ ، ولا بُعث إليهم نبيٌّ قبل محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وكذب الذين من قبلهم } من الأمم { وما بلغوا } يعني : مشركي مكَّة { معشار } عشر { ما آتيناهم } من القُوَّة والنِّعمة { فكذبوا رسلي فكيف كان نكيرِ } إنكاري عليهم ما فعلوا بالإِهلاك والعقوبة؟
{ قل إنما أعظكم بواحدة } بخصلةٍ واحدةٍ ، وهي الطَّاعة لله تعالى { أن تقوموا } لأن تقوموا { لله مثنى وفرادى } مُجتمعين ومُنفردين { ثم تتفكروا } فتعلموا { ما بصاحبكم } محمَّد { من جنةٍ } من جنونٍ { إنْ هو إلاَّ نذير لكم } ما هو إلاَّ نذيرٌ لكم { بين يدي عذاب شديد } إنْ عصيتموه .
{ قل ما سألتكم من أجر } على تبليغ الرِّسالة { فهو لكم إن أجري إلاَّ على الله } يعني : إنَّما أطلب الثَّواب من الله لا عَرضاً من الدُّنيا .
{ قل إنَّ ربي يقذف بالحق } يُلقيه إلى أنبيائه .
{ قل جاء الحق } جاء أمر الله الذي هو الحقُّ { وما يبدىء بالباطل وما يعيد } أَيْ : ما يخلق إبليس أحداً ولا يبعثه ، إنَّما يفعل ذلك الله تعالى .

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

{ قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي } أَيْ : على نفسي يكون وبال ضلالي ، وهذا إخبارٌ أنَّ مَنْ ضلَّ فإنما يضرُّ نفسه { وإن اهتديت فبما يوحي إليَّ ربي } يعني : لولا الوحيُ ما كنت أهتدي .
{ ولو ترى } يا مُحمّد { إذ فزعوا } عن البعث { فلا فوت } لهم منَّا { وأخذوا من مكان قريب } على الله وهو القبور .
{ وقالوا } حين عاينوا العذاب { آمنا به } بالله { وأنى لهم التناوش } أَيْ : كيف يتناولون التَّوبة . وقيل : الرَّجعة ، وقد بعدت عنهم ، يريد : إنَّ التَّوبة كانت تُقبل عنهم في الدُّنيا ، وقد ذهبت الدُّنيا وبعدت عن الآخرة .
{ وقد كفروا به } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { من قبل } أَيْ : في الدُّنيا { ويقذفون بالغيب } يرمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالكذب والبهتان ظنَّاً لا يقيناً { من مكان بعيد } وهو أنَّ الله تعالى أبعدهم قبل أن يعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وحيل بينهم } مُنعوا ممَّا يشتهون من التَّوبة والإِيمان والرُّجوع إلى الدنيا { كما فُعل بأشياعهم } ممَّن كانوا على مثل دأبهم من تكذيب الرُّسل قبلهم حين لم يقبل منهم الإِيمان والتَّوبة { إنهم كانوا في شك } من أمر الرُّسل والبعث { مريب } موقعٍ للرِّيبة والتُّهمة .

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)

{ الحمد لله فاطر السموات والأرض } خالقهما على ابتداء { جاعل الملائكة رسلاً أولي } أصحاب { أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق } في خلق الملائكة وأجنحتها { ما يشاء } .
{ ما يفتح الله للناس من رحمة } رزقٍ ومطرٍ ، فلا يقدر أحدٌ أن يمسكه ، والذي يمسك لا يرسله أحد .
{ يا أيها الناس } خطاب أهل مكَّة { اذكروا نعمة الله عليكم } بالرِّزق والمطر وسائر ذلك . { هل من خالق غير الله } هل يخلق أحدٌ سواه ، ثُمَّ { يرزقكم من السماء } المطر { و } من { الأرض } النَّبات { لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } من أين يقع لكم الإِفك والكذب بتوحيد الله؟! ثمَّ عزَّى نبيَّه عليه السَّلام بقوله :
{ وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور } .

أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

{ أفمن زين له سوء عمله } بإضلال الله تعالى إيَّاه ، فرأى قبيح ما يعمله حسناً { فإنَّ الله يضلُّ مَنْ يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } لا تغتمَّ لكفرهم ولا تتحسَّر على تركهم الإيمان .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

{ مَنْ كان يريد العزة } أَيْ : عِلْمَ العزَّةِ لمَنْ هي { فللَّه العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب } إليه يصل الكلام الذي هو توحيده ، وهو قول لا إله إلا الله { والعمل الصالح } يرفع ذلك الكلم الطَّيَّب ، والكلم الطَّيَّب : ذكر الله تعالى . والعمل الصَّالح : أداء فرائضه ، فمن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل ، ومعنى الرَّفع رفعه إلى محل القبول { والذين يمكرون السيئات } يعني : الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار النَّدوة . { ومكر أولئك هو يبور } أي : يفسد ويبطل . وقوله تعالى :
{ وما يعمَّر من معمَّر } أَيْ : ما يُطوَّل عُمر أحدِ { ولا ينقص من عمره } ولا يكون أحدٌ ناقص العمر إلاَّ وهو مُحصىً في الكتاب . يعني : عدد عمر الطَّويل العمر ، وعمر القصير العمر .
{ وما يستوي البحران هذا عَذْبٌ فرات } شديد العذوبة { وهذا ملح أجاج } شديد المرارة { ومن كلٍّ } من الملح والعذب { تأكلون لحماً طرياً } من السَّمك { وتستخرجون } منه من الملح { حلية تلبسونها } يعني : المرجان ، وإنَّما ذكر هذا للدَّلالة على قدرته . وقوله :
{ من قطمير } يعني : لفافة النَّواة .
{ ويوم القيامة يكفرون بشرككم } أَيْ : يقولون : ما كنتم إيَّانا تعبدون { ولا ينبئك مثل خبير } وهو الله عزَّ وجلَّ .

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)

{ ولا تزرُ وازِرَةٌ } أَيْ : لا تحمل نفسٌ حاملةٌ { وزِرْ أخرى } حِمل نفسٍ أخرى { وإن تدع مثقلة } نفسٌ مُثقَلةٌ بالذُّنوب { إلى حملها } ذنوبها { لا يحمل منه شيء ولو كان } المدعو { ذا قربى } مثل الأب والابن { إنما تنذر الذين يخشون ربَّهم بالغيب } إنَّما ينفع إنذارك الذين يخافون الله تعالى ، ولم يروه { ومَنْ تزكَّى } عمل خيراً .
{ وما يستوي الأعمى } عن الحقِّ ، وهو الكافر { والبصير } الذي يبصر رشده ، وهو المؤمن .
{ ولا الظلمات ولا النور } يعني : الكفر والإيمان .
{ ولا الظل ولا الحرور } يعني : الجنَّة التي فيها ظلٌّ دائمٌ ، والنَّار التي لها حرارةٌ شديدةً .
{ وما يستوي الأحياء ولا الأموات } يعني : المؤمنين والكفَّار { إنَّ الله يُسمع من يشاء } فينتفع بذلك { وما أنت بمسمع مَنْ في القبور } يعني : الكفَّار ، شبَّههم بالأموات ، أيْ : كما لا يسمع أصحاب القبور كذلك لا يسمع الكفَّار .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

{ ومن الجبال جدد بيض وحمر } أَيْ : طرائق تكون في الجبال كالعروق بيض وحمر ، { وغرابيب سود } وهي الجبال ذات الصُّخور السُّود .
{ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك } أَيْ : كاختلاف الجبال والثَّمرات في اختلاف الألوان . { إنما يخشى الله من عباده العلماء } أَيْ : مَنْ كان عالماً بالله اشتدَّت خشيته . وقوله :
{ يرجون تجارة لن تبور } يعني : لن تكسد ولن تفسد .
{ إنه غفور } لذنوبهم { شكور } لحسناتهم .
{ ثمَّ أورثنا } أعطينا بعد هلاك الأمم { الكتاب } القرآن ل { الذين اصطفينا من عبادنا } وهم أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ ذكر أصنافهم فقال : { فمنهم ظالم لنفسه } وهو الذي زادت سيئاته على حسناته { ومنهم مقتصد } وهو الذي استوت حسناته وسيِّئاته { ومنهم سابق الخيرات } وهو الذي رجحت حسناته { بإذن الله } بقضائه وإرادته . { ذلك هو الفضل الكبير } يعني : إيتاء الكتاب .

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)

{ الحمد له الذي أذهب عنا الحَزَنَ } يعني : كلَّ ما يحزن له الإنسان من أمر المعاش والمعاد .
{ الذي أحلنا } أنزلنا { دار المقامة } دار الخلود { من فضله } أَيْ : ذلك بتفضُّله لا بأعمالنا { لا يمسنا فيها نصب } تعبٌ { ولا يمسنا فيها لغوب } إعياءٌ .
{ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا } .
{ وهم يصطرخون } يستغيثون . وقوله : { أولم نعمركم ما يتذكَّر فيه مَنْ تذكَّر } أَيْ : العمر الذي يتَّعظ فيه ، يرجع فيه إلى الله مَنْ يتَّعظ ، وهو ستون سنةً { وجاءكم النذير } يعني : الرَّسول ، وقيل : الشَّيب .

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)

{ هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } أَيْ : جعلكم أُمَّةً خلقت مَنْ قبلها من الأمم .
{ قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني } أخبروني عنهم { ماذا خلقوا من الأرض } . أَيْ : بأيِّ شيءٍ أوجبتم لهم الشِّركة مع الله ، أَلخلقٍ خلقوه من الأرض { أم لهم شرك في } خلق { السموات أم آتيناهم } أعطينا المشركين { كتاباً } بما يدَّعونه من الشِّرك { فهم على بيَّنةٍ } من ذلك الكتاب { بل إن يعد الظالمون } ما يعد بعض الظالمين بعضاً { إلاَّ غروراً } أباطيل .
{ إنَّ الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } لئلا تزولا وتتحرَّكا { ولئن زالتا } ولو زالتا { إن أمسكهما } ما أمسكهما { من أحدٍ من بعده } سوى الله تعالى .
{ وأقسموا بالله جهد إيمانهم } يعني : المشركين ، كانوا يقولون قبل بعثه محمد صلى الله عليه وسلم لئن أتانا رسولٌ { ليكونن أهدى من إحدى الأمم } أَيْ : من اليهود والنَّصارى والمجوس { فلما جاءهم نذير } هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم { ما زادهم } مجئيه { إلاَّ نفوراً } عن الحقِّ .
{ استكباراً في الأرض } أَيْ : استكبروا عن الإيمان استكباراً ، { ومكر السَّيِّىء } ومكروا المكر السَّيِّىءَ ، وهو مكرهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليقتلوه { ولا يحيق } أَيْ : يحيط { المكرُ السيِّىء إلاَّ بأهله } فحاق بهم مكرهم يوم بدرٍ . { فهل ينظرون } بعد تكذيبك { إلاَّ سنة الأولين } يعني : العذاب .

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

{ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا } من الجرائم { ما ترك على ظهرها } على ظهر الأرض { من دابة } من الإنس والجنِّ وكلِّ ما يعقل { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمَّىً فإذا جاء أجلهم فإنَّ الله كان بعباده بصيراً } .

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)

{ يس } يا إنسان .
{ والقرآن الحكيم } أقسم الله تعالى بالقرآن المحكم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين ، وهو قوله :
{ إنك لمن المرسلين } .
{ على صراط مستقيم } على طريق الأنبياء الذين تقدَّموك .
{ تنزيل } أَيْ : القرآن تنزيل { العزيز الرحيم } .
{ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } في الفترة { فهم غافلون } عن الإيمان والرُّشد .
{ لقد حقَّ القول } وجبت عليهم كلمة العذاب { فهم لا يؤمنون } ثمَّ بيَّن سبب تركهم الإيمان .

إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)

{ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } أراد : في أعناقهم وأيديهم؛ لأنَّ الغلَّ لا يكون في العنق دون اليد { فهي إلى الأذقان } أَيْ : فأيديهم مجموعةٌ إلى أذقانهم؛ لأنَّ الغلَّ يجعل في اليد ممَّا يلي الذقن { فهم مقمحون } رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق؛ لأنَّ مَنْ غُلَّت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه ، وهذا مَثَلٌ معناه : أمسكنا أيديهم عن النَّفقة في سبيل الله بموانعَ كالأغلال .
{ وجعلنا من بين أيديهم سدَّاً ومن خلفهم سداً } هذا وصف إضلال الله تعالى إيَّاهم ، فهو بمنزلة مَنْ سُدَّ طريقه من بين يديه ومن خلفه . يريد : إنَّهم لا يستطيعون أن يخرجوا من ضلالهم { فأغشيناهم } فأعميناهم عن الهدى { فهم لا يُبصرون } ه ثم ذكر أنَّ هؤلاء لا ينفعهم الإِنذار فقال :
{ وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } .
{ إنما تنذر من اتبع الذكر } إنما ينفع إنذارك من اتَّبع القرآن فعمل به { وخشي الرحمن بالغيب } خاف الله تعالى ولم يره .
{ إنا نحن نُحْيِ الموتى } عند البعث { ونكتب ما قدَّموا } من الأعمال { وآثارهم } ما استُنَّ به بعدهم . وقيل : خطاهم إلى المساجد { وكلَّ شيء أحصيناه } عددناه وبيَّناه { في إمام مبين } وهو اللَّوح المحفوظ .
{ واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } وهي أنطاكية { إذ جاءها المرسلون } رسل عيسى عليه السَّلام .
{ إذْ أرسلنا إليهم اثنين } من الحوارييِّن { فكذبوهما فَعَزَّزْنا بثالث } قوَّينا الرِّسالة برسولٍ ثالثٍ .

قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)

{ إنّا تطيرنا بكم } أَيْ : تشاءمنا ، وذلك أنَّهم حُبس عنهم المطر ، فقالوا : هذا بشؤمكم { لئن لم تنتهوا لَنَرْجُمَنَّكم } لنقتلنَّكم رجماً بالحجارة .
{ قالوا طائركم معكم } شؤمكم معكم بكفركم { أَإِنْ ذكرتم } وُعظتم وخُوِّفتم تطيَّرتم { بل أنتم قوم مسرفون } مُجاوزون الحدّ بشرككم .
{ وجاء من أقصى المدينة رجل } وهو حبيب النَّجار ، كان قد آمن بالرُّسل ، وكان منزله في أقصى البلد ، فلمَّا سمع أنَّ القوم كذَّبوهم وهمُّوا بقتلهم أتاهم يأمرهم بالإيمان ، فقال : { يا قوم اتبعوا المرسلين } .
{ اتبعوا مَنْ لا يسألكم أَجْراً } على أداء النُّصح وتبليغ الرِّسالة { وهم مهتدون } يعني : الرُّسل ، فقيل له : أنت على دين هؤلاء؟ فقال :
{ ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون } .
{ أأتخذ من دونه إلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغنِ عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون } .
{ إني إذاً لفي ضلال مبين } .

إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)

{ إني آمنت بربكم فاسمعون } فلمَّا قال ذلك وثبوا إليه فقتلوه ، فأدخله الله تعالى الجنَّة ، فذلك قوله تعالى :
{ قيل ادخل الجنَّة } فلمَّا شاهدها قال : { يا ليت قومي يعلمون } .
{ بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } أَيْ : بمغفرة ربِّي .
{ وما أنزلنا على قومه } يعني : على قوم حبيب { من جند من السماء } لنصرة الرُّسل الذين كذَّبوهم . يريد : لم نحتج في إهلاكهم إلى إرسال جند .
{ إن كانت } ما كانت عقوبتهم { إلاَّ صيحة واحدة } صاح بهم جبريل عليه السَّلام ، فماتوا عن آخرهم ، وهو قوله : { فإذا هم خامدون } ساكنون قد ماتوا .
{ يا حسرة على العباد } يعني : هؤلاء حين استهزؤوا بالرُّسل ، فتحسَّروا عند العقوبة .
{ ألم يروا } يعني : أهل مكَّة { كم أهلكنا قبلهم من القرون أنَّهم إليهم لا يرجعون } يعني : ألم يروا أنَّ الذين أهلكناهم قبلهم لا يرجعون إليهم .
{ وإن كل } وما كلُّ مَنْ خُلق مِن الخلق إلاَّ { جميع لدينا محضرون } عند البعث يوم القيامة يحضرهم ليقفوا على ما عملوا .
{ وآية لهم } على البعث { الأرض الميتة أحييناها } .

لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)

{ وما عملته أيديهم } أَيْ : لم تعمله ولا صنع لهم في ذلك .
{ سبحان الذي خلق الأزواج كلها } أَيْ : الأجناس من النَّبات والحيوان { وممَّا لا يعلمون } ممَّا خلق الله سبحانه من جميع الأنواع والأشباه .
{ وآية لهم } ودلالةٌ لهم على توحيد الله سبحانه وقدرته { الليل نسلخ } نُخرج { منه النهار } إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النَّهار ، والمعنى : ننزع النَّهار فنذهب به ، ونأتي باللَّيل { فإذا هم مظلمون } داخلون في الظَّلام .
{ والشمس } أَيْ : وآيةٌ لهم الشَّمس { تجري لمستقرٍ لها } عند انقضاء الدُّنيا .
{ والقمر قدرنا منازل } ذا منازلٍ { حتى عاد } في آخر منزله { كالعرجون القديم } وهو عود الشِّمراخ إذا يبس اعوجَّ .
{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } فيجتمعا معاً { ولا الليل سابق النهار } يسبقه فيأتي قبل انقضاء النَّهار { وكلٌّ } من الشَّمس والقمر والنُّجوم { في فلك يسبحون } . [ يسيرون ] .
{ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } أباهم { في الفلك المشحون } يعني : سفينة نوحٍ عليه السَّلام .

وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)

{ وخلقنا لهم من مثله } من مثل جنس سفينة نوح { ما يركبون } في البحر .
{ وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } فلا مُغيث لهم { ولا هم يُنقذون } يُنجون .
{ إلاَّ رحمةً منا ومتاعاً إلى حين } أَيْ : إلا أن نَرحمهم ونُمتِّعهم إلى انقضاء آجالهم .
{ وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم } العذاب الذي عُذِّب به الأمم قبلكم { وما خلفكم } يعني : عذاب الآخرة { لعلكم ترحمون } لكي تكونوا على رجاء الرَّحمة ، وجواب { إذا } محذوف تقديره : وإذا قيل لهم هذا أعرضوا ، ودلَّ على هذا قوله تعالى :
{ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلاَّ كانوا عنها معرضين } .
{ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } كان فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون للمشركين : أعطونا من أموالكم ما زعمتم أنَّها لله تعالى ، فكانوا يقولون استهزاءً : { أنطعم مَن لو يشاء الله أطعمه } فقال الله تعالى : { إن أنتم إلاَّ في ضلال مبين } .
{ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } أنَّا نُبعث .
{ ما ينظرون } ما ينتظرون { إلاَّ صيحة واحدة } وهي نفخة إسرافيل { تأخذهم وهم يخصمون } يختصمون ، يُخاصم بعضهم بعضاً . يعني : يوم تقوم الساعة وهم في غفلةٍ عنها .

فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)

{ فلا يستطيعون } بعد ذلك أن يُوصوا في أمورهم بشيءٍ { ولا إلى أهلهم يرجعون } لا ينقلبون إلى أهليهم من الأسواق ، ويموتون في مكانهم .
{ ونفخ في الصور } يعني : نفخة البعث { فإذا هم من الأجداث } القبور { إلى ربهم ينسلون } يخرجون بسرعة .
{ قالوا : يا وليا مَنْ بعثنا من مرقدنا } أَيْ : منامنا ، وذلك أنَّهم كانوا قد رُفع عنهم العذاب فيما بين النَّفختين ، فيرقدون ثم يقولون : { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } أقرُّوا حين لم ينفعهم .
{ إن كانت إلاَّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون } يريد : إنَّ بعثهم وإحياءهم كان بصيحة تُصاح بهم ، وهو قول إسرافيل عليه السَّلام : أيَّتها العظام البالية .

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)

{ إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } بافتضاض الأبكار { فاكهون } ناعمون فرحون مُعجبون .

لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)

{ ولهم ما يدعون } يتمنَّون .
{ سلام } أَيْ : لهم سلامٌ { قولاً } يقوله الله عزَّ وجلَّ قولاً .
{ وامتازوا اليوم أيها المجرمون } أَيْ : انفردوا عن المؤمنين .
{ ألم أعهد إليكم } ألم آمركم { يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنَّه لكم عدوٌ مبين } .

وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)

{ ولقد أضل منكم جبلاً } خلقاً { كثيراً أفلم تكونوا تعقلون } عدوانه وإضلاله .

اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)

{ اصلوها اليوم } اُدخلوها وقاسوا حرَّها { بما كنتم تكفرون } بكفركم .

وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)

{ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } لأعميناهم وأذهبنا أبصارهم { فاستبقوا الصراط } فتبادروا إلى الطَّريق { فأنى } يبصرون حينئذٍ وقد طمسنا أعينهم؟
{ ولو نشاء لمسخناهم } حجارةً وقردةً وخنازير { على مكانتهم } في منازلهم { فما استطاعوا مُضيّاً ولا يرجعون } أَيْ : لم يقدروا على ذهابٍ ولا مجيءٍ .
{ ومَنْ نعمره ننكسه في الخلق } مَنْ أطلنا عمره نكَّسنا خلقه ، فصار بدل القوَّة صعفاً ، وبدل الشَّباب هرماً { أفلا تعقلون } أنَّا نفعل ذلك .
{ وما علمناه الشعر } لم نعلِّمْ محمداً صلى الله عليه وسلم قول الشِّعر { وما ينبغي له } وما يتسهَّل له ذلك { إن هو } أَيْ : لس الذي أتى به { إلاَّ ذكرٌ وقرآن مبين } .
{ لينذر مَنْ كان حيَّاً } عاقلاً ، فلا يغفل ما يُخاطب به؛ لأنَّ الكافر كالميِّت { ويحق القول على الكافرين } تجب الحُجَّة عليهم .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)

{ أَوَلَمْ يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً } أَيْ : عملناه من غير واسطةٍ ولا توكيلٍ ، ولا شريكٍ أعاننا { أنعاماً فهم لها مالكون } ضابطون .
{ وذللناها } سخَّرناها { لهم فمنها ركوبهم } ما يركبون .

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

{ واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون } يُمنعون من عذاب الله تعالى .
{ لا يستطيعون نصرهم } لا تنصرهم آلهتهم { وهم لهم جند محضرون } . في النار؛ لأنَّ أوثانهم معهم فيها .
{ فلا يحزنك قولهم } فيك بالسُّوء والقبيح . { إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } فنجازيهم بذلك .
{ أَوَلَمْ ير الإِنسان أنا خلقناه من نطفة } يعني : العاص بن وائل . وقيل : أُبيّ بن خلف { فإذا هو خصيم مبين } جَدِلٌ بالباطل ، خاصم النبيَّ صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث ، وهو قوله :
{ وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه } وهو أنَّه قال : متى يُحيي الله العظيم البالي المتفتِّت؟ ونسي ابتداء خلقه؛ لأنَّه لو علم ذلك ما أنكر الإِعادة ، وهذا معنى قوله : { قال : مَنْ يُحْيِ العظام وهي رميم } أَيْ : باليةٌ .
{ قل : يحييها الذي أنشأها } خلقها { أول مرة وهو بكلّ خلق } من الابتداء والإِعادة { عليم } .
{ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً } يعني : المرخ والعفار ، ومنهما زنود الأعراب { فإذا أنتم منه توقدون } تورون النَّار ، ثمَّ احتجَّ عليهم بخلق السَّموات والأرض ، فقال :
{ أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } ثمَّ ذكر كمال قدرته فقال :
{ إنما أمره إذا أراد شيئاً } أَيْ : خلق شيءٍ { أن يقول له كن فيكون } ذلك الشَّىء .
{ فسبحان } تنزيهاً لله سبحانه من أن يُوصف بغير القدرة على الإعادة { الذي بيده ملكوت كلِّ شيء } أَيْ : القدرة على كلِّ شيء { وإليه ترجعون } تُردُّون في الآخرة .

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)

{ والصافات صفاً } يعني : صفوف الملائكة في السَّماء .
{ فالزاجرات زجراً } يعني : الملائكة تزجر السَّحاب وتسوقه .
{ فالتاليات ذكراً } جماعة قرَّاء القرآن .
{ إن إلهكم لواحد } أقسم الله سبحانه بهؤلاء أنَّ إلهكم لواحد .
{ وربّ المشارق } مطالع الشمس .
{ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } بضوئها ، { و } حفظناها .
{ حفظاً من كلِّ شيطان مارد } متمرِّدٍ خبيثٍ .

لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)

{ لا يَسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى } يعني : الملائكة . { ويقذفون من كلّ جانب } ويُرمون .
{ دحوراً } يُدحرون دحوراً ، أَيْ : يُباعدون { ولهم عذاب واصب } دائم .
{ إلاَّ من خطف الخطفة } سمع الكلمة من الملائكة فأخذها بسرعةٍ { فأتبعه } لقحه { شهاب ثاقب } كوكبٌ مضيءٌ .
{ فاستفتهم } فسلهم . يعني : أهل مكَّة { أهم أشد خلقاً أم من خلقنا } من الأمم السَّالفة قبلهم ، وغيرهم من السَّموات والأرض { إنا خلقناهم من طين لازب } لاصقٍ لازمٍ .
{ بل عجبت } يا محمَّد من تكذيبهم إيَّاك { و } هم { يسخرون } من تعجُّبك .

وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)

{ وإذا رأوا آية } معجزةً سخروا .
{ وقالوا إن هذا إلاَّ سحر مبين } .

قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)

{ قل : نعم } تبعثون { وأنتم داخرون } صاغرون أذلاَّء .
{ فإنما هي } يعني : القيامة { زجرة } صيحةٌ { واحدة فإذا هم } أحياءٌ { ينظرون } سوء أعمالهم . وقيل : ما كذَّبوا به .
{ وقالوا : يا ويلنا هذا يوم الدين } يوم نُجازى فيه بما عملنا .
{ هذا يوم الفصل } بين الحقِّ والباطل . { الذي كنتم به تكذبون } .
{ احشروا الذين ظلموا } كفروا { أزواجهم } قرناءهم من الشَّياطين وأوثانهم .
{ فاهدوهم } دلُّوهم إلى النار .
{ وقفوهم } احبسوهم { إنهم مسؤولون } عن أقوالهم وأفعالهم .
{ مالكم لا تناصرون } لا ينصر بعضكم بعضاً .
{ بل هم اليوم مستسلمون } مُنقادون .
{ وأقبل بعضهم على بعض } يعني : الأتباع والرُّؤساء { يتساءلون } يتخاصمون .
{ قالوا } يعني : الأتباع للرُّؤساء { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } تقهروننا بالقوَّة من قبل الدِّين ، فتضلُّونا عنه .
{ قالوا بل لم تكونوا مؤمنين } أَيْ : إنَّما الكفر من قِبَلِكم .

فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)

{ فحق علينا } جميعاً { قول ربنا } كلمة العذاب .

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)

{ إلاَّ عباد الله المخلصين } المؤمنين لكن عباد الله المخلصين .
{ أولئك لهم رزق معلوم } بكرةً وعشياً .

يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)

{ بكأس من معين } خمرٍ تجري على وجه الأرض .
{ بيضاء لذة للشَّاربين } ذات لذَّةٍ .
{ لا فيها غولٌ } داءٌ ولا وجعٌ { ولا هم عنها ينزفون } لا تذهب بعقولهم .
{ وعندهم قاصرات الطرف } نساء لا ينظرن إلى غير أزواجهنَّ { عين } نُجْل العيون .
{ كأنهن بيض } في صفاء لونها { مكنون } يستره ريش النَّعام .
{ فأقبل بعضهم } يعني : أهل الجنَّة { على بعض يتساءلون } عمَّا مرَّ بهم .
{ قال قائل منهم إني كان لي قرين } يعني : الذين قصَّ الله خبرهما في سورة الكهف ، كان يقول له قرينه :
{ أَإِنّك لمن المصدقين } ممَّن يصدِّق بالبعث والجزاء؟ وقوله :
{ أإنَّا لمدينون } أَيْ : مجزيون .
{ قال } الله سبحانه لأهل الجنَّة : { هل أنتم مطلعون } إلى النَّار .
{ فاطلع } المسلم فرأى قرينه الكافر { في سواء الجحيم } وسطه ، فقال له :
{ تالله إن كدت لَتُرِديْنَ } تهلكني وتضلُّني .

وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)

{ ولولا نعمة ربي } عصمته ورحمته { لكنت من المحضرين } في النَّار .
{ أفما نحن بميتين } . { إلاَّ موتتنا الأولى } يقوله أهل الجنَّة للملائكة حين يُذبح الموت ، فتقول الملائكة : لا ، فيقولون : { إنَّ هذا لهو الفوز العظيم } . { لمثل هذا فليعمل العاملون } .
{ أذلك } الذي ذكرتُ من نعيم أهل الجنَّة { خيرٌ نُزُلاً أم شجرة الزقوم } .
{ إنا جعلناها فتنة للظالمين } افتتنوا بها ، وكذَّبوا بكونها فصارت فتنةً لهم ، وذلك أنَّهم أنكروا أن يكون في النَّار شجرة . قال الله تعالى :
{ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أصلها في قعر جهنَّم .
{ طلعها } ثمرها { كأنَّه رؤوس الشياطين } في القبح وكراهية المنظر .

ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)

{ ثمَّ إنَّ لهم عليها } على شجرة الزَّقوم { لشوباً } خلطاً ومزاجاً { من حميم } ماءٍ حارٍ .
{ ثم إنَّ مرجعهم } مرجع الكفَّار { لإِلى الجحيم } الذي يجمع هذه الأشياء .

فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)

{ يهرعون } أَيْ : يزعجون إلى أتباعهم .

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)

{ ولقد نادانا نوح } يعني : قوله : { إنِّي مغلوبٌ فانتصر } { فلنعم المجيبون } نحن .
{ ونجيناه وأهله من الكرب العظيم } يعني : الغرق .
{ وجعلنا ذريته هم الباقين } لأنَّ الخلق كلَّهم أُهلكوا إلاَّ مَنْ كان معه في سفينته ، وكانوا من ذرِّيَّته .
{ وتركنا عليه في الآخرين } فيمن يأتي بعده ثناءً حسناً ، وهو أن يُصلَّى عليه ويُسلَّم ، وهو معنى قوله : { سلام على نوح في العالمين } .

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)

{ وإن من شيعته } أهل دينه وملَّته { لإِبراهيم } .
{ إذ جاء ربه بقلب سليم } من الشِّرك .

فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)

{ فما ظنكم برب العالمين } قال إبراهيم عليه السَّلام لقومه وهم يعبدون الأصنام : أَيُّ شيءٍ ظنُّكم بربِّ العالمين وأنتم تعبدون غيره؟
{ فنظر نظرة في النجوم } وذلك أنَّه كان لقومه من الغد عيدٌ يخرجون إليه ، ويضعون أطعمتهم بين يدي أصنامهم لتبرِّك عليها زعموا ، فقالوا لإِبراهيم : ألا تخرج معنا إلى عيدنا؟ فنظر إلى نجم وقال :
{ إني سقيم } وكانوا يتعاطون علم النُّجوم ، فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه ، واعتلَّ في التَّخلُّف من عيدهم بأنَّه يعتلُّ ، وتأوَّل في قوله : { سقيم } سأسقم .
{ فتولوا عنه مدبرين } أدبروا عنه إلى عيدهم وتركوه .
{ فراغ } فمال { إلى آلهتهم فقال } إظهاراً لضعفها وعجزها { ألا تأكلون } من هذه الأطعمة .

فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)

{ فراغ } فمال { عليهم } يضربهم { ضرباً باليمين } بيده اليمنى .
{ فأقبلوا إليه } من عيدهم { يزفون } يسرعون . فقال لهم إبراهيم محتجاً .
{ أتعبدون ما تنحتون } . { والله خلقكم وما تعملون } من نحتكم وجميع أعمالكم .
{ قالوا ابنوا له بنياناً } حظيرة واملؤوه ناراً ، وألقوا إبراهيم في تلك النَّار .
{ فأرادوا به كيداً } حين قصدوا إحراقه بالنَّار { فجعلناهم الأسفلين } المقهورين ، لأنَّه علاهم بالحجَّة والنُّصرة .
{ وقال إني ذاهب إلى ربي } إلى المكان الذي أمرني بالهجرة إليه { سيهدين } يثبتني على الهدى .
{ رب هب لي } ولداً { من الصالحين } .
{ فبشرناه بغلام حليم } سيِّدٍ يُوصف بالحلم .
{ فلما بلغ } ذلك الغلام { معه السعي } أَيْ : أدرك معه العمل { قال : يا بنيَّ إني أرى في المنام أني أذبحك } وذلك أنَّه أُمر في المنام بذبح ولده { فانظر ماذا ترى } ما الذي تراه فيما أقول لك ، هل تستسلم له؟ فاستسلم الغلام و { قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } .
{ فلما أسلما } انقادا لأمر الله { وتلَّه للجبين } صرعه على أحد جنبيه .
{ وناديناه أن يا إبراهيم } . { قد صدَّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين } .
{ إنّ هذا لهو البلاء المبين } الاختيار الظاهر . يعني : حين اختبره بذبح ولده ، فانقاد وأطاع .
{ وفديناه بذبحٍ } بكبشٍ { عظيم } لأنَّه رعى في الجنَّة أربعين خريفاً ، وكان الكبش الذي تُقبِّل من ابن آدم عليه السَّلام .

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)

{ ولقد مننا على موسى وهارون } بالنُّبوَّة .
{ ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم } يعني : الغرق .

أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)

{ أتدعون بعلاً } يعني : صنماً كان لهم .

فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)

{ فكذبوه فإنهم لمحضرون } في النَّار .
{ إلاَّ عباد الله المخلصين } من قومه .

سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)

{ سلام على إِلْ ياسين } يعني : إلياس عليه السَّلام . وقيل : يعني قومه ممَّن ينتسب إلى اتَّباعه .

إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)

{ إذ أبق } هرب { إلى الفلك المشحون } السَّفينة المملوءة حين ذهب مُغاضباً ، فوقفت السَّفينة ولم تجرِ ، فقارعه أهل السَّفينة فخرجت القرعة عليه ، فخرج منها وألقى نفسه في البحر ، فذلك قوله :
{ فساهم } فقارع { فكان من المدحضين } المغلوبين بالقرعة .
{ فالتقمه } فابتلعه { الحوت وهم مليم } أتى بما يُلام عليه .
{ فلولا أنَّه كان من المسبحين } من المُصلِّين قبل ذلك .
{ للبث في بطنه } في بطن الحوت إلى يوم القيامة .
{ فنبذناه } طرحناه { بالعراء } وجه الأرض { وهو سقيم } عليلٌ كالفرخ الممعَّط .
{ وأنبتنا عليه } عنده { شجرة من يقطين } وهو القرع ليستظلَّ بها .
{ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } بل يزيدون .
{ فآمنوا فمتعناهم إلى حين } إلى انقضاء آجالهم .
{ فاستفتهم } فسل يا محمَّد أهلَ مكَّة { ألربك البنات ولهم البنون } وذلك أنَّهم كانوا يزعمون أنَّ الملائكة بنات الله .
{ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون } حاضرون خلقنا إيَّاهم .

أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)

{ أَصطفى البنات على البنين } أتَّخذ البنات دون البنين فاصطفاها ، وجعل لكم البنين؟ كقوله : { أفأصفاكم ربُّكم بالبنين واتَّخذَ من الملائكة إِناثاً . }

أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)

{ أم لكم سلطان } برهانٌ { مبين } على أنَّ لله ولداً .
{ فأتوا بكتابكم } الذي فيه حُجَّتكم { إن كنتم صادقين } .
{ وجعلوا بينه وبين الجنة } يعني : الملائكة { نسباً } حين قالوا : إنَّهم بنات الله . { ولقد علمت الجنة } الملائكة { إنهم لمحضرون } أنَّ الذين قالوا هذا القول محضرون في النَّار .

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)

{ إلاَّ عباد الله المخلصين } فإنهم ناجون من النَّار .
{ فإنكم وما تعبدون } من الأصنام .
{ وما أنتم عليه بفاتنين } لا تفتنون أحداً على ما يعبدون ولا تضلونه .
{ إلاَّ مَنْ هو صال الجحيم } أَيْ : إلا مَنْ هو في معلوم الله أنَّه يدخل النَّار .
{ وما منا إلاَّ له } هذا من قول الملائكة ، والمعنى : ما منَّا مَلَكٌ إلاَّ له { مقام معلوم } من السَّماء يعبد الله سبحانه هناك .
{ وإنا لنحن الصافون } في الصَّلاة .
{ وإنا لنحن المسبحون } المُصلُّون .
{ وإن كانوا ليقولون } كان كفار مكَّة يقولون : لو جاءنا كتابٌ كما جاء غيرنا من الأوَّلين لأخلصنا عبادة الله سبحانه ، فلمَّا جاءهم كفروا به .

فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)

{ فسوف يعلمون } عاقبة كفرهم .
{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } .
{ إنهم لهم المنصورون } .
{ وإن جندنا لهم الغالبون } أَيْ : تقدَّم الوعد بنصرتهم ، وهو قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي } { فَتَوَلَّ عنهم حتى حين } حتى تنقضي المدة التي أمهلوا فيها .
{ وأَبْصرْهم } انظر إليهم إذا عذِّبوا { فسوف يبصرون } ما أنكروا .
{ أفبعذابنا يستعجلون } وذلك أنَّهم كانوا يقولون : متى هذا الوعد؟
{ فإذا نزل } العذاب { بساحتهم } بِفِنائهم { فَسَاءَ صباح المنذرين } .

وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)

{ وأبصر } انظر فبئس ما يصبحون عند ذلك .

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)

{ ص } صدق الله { والقرآن ذي الذكر } ذي الشَّرف .
{ بل الذين كفروا في عزَّة } امتناعٍ من الدِّين { وشقاق } خلافٍ وعداوةٍ .
{ كم أهلكنا } هذا جواب القسم ، اعترض بينهما قوله : { بل الذين كفروا } .
{ فنادوا } بالاستغاثة عند الهلاك { ولات حين مناص } وليس حين منجىً وفوت .
{ وعجبوا } يعني : أهل مكَّة { أن جاءهم منذر منهم } محمَّد صلى الله عليه وسلم .
{ أجعل الآلهة إلهاً واحداً } وذلك أنَّهم اجتمعوا عند أبي طالب يشكون إليه النبيَّ صلى الله عيله وسلم ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : إني أدعوكم إلى كلمة التَّوحيد لا إله إلاَّ الله ، فقالوا : كيف يسع الخلق كلَّهم إلهٌ واحد؟ { إنَّ هذا } الذي يقوله { لشيء عجاب } عجيب .
{ وانطلق الملأ منهم } نهضوا من مجلسهم ذلك ، يقول بعضهم لبعض : { امشوا واصبروا على آلهتكم إنَّ هذا } الذي يقوله محمَّد { لشيءٌ يراد } أَيْ : لأَمرٌ يُراد . بنا ، ومكرٌ يمكر علينا .
{ ما سمعنا بهذا } الذي يقوله { في الملَّة الآخرة } فيما أدركنا عليه آباءنا { إن هذا إلاَّ اختلاق } زورٌ وكذب .
{ أَأنزل عليه الذكر من بيننا } كيف خُصَّ بالوحي من جملتنا؟ قالوا هذا حسداً له على النُّبوَّة . قال الله تعالى : { بل هم في شك من ذكري } أَيْ : وَحْيِي [ أَيْ : حين قالوا : اختلاق ] { بل لما يذوقوا عذاب } ولو ذاقوه لأيقنوا وصدَّقوا .
{ أم عندهم خزائن رحمة ربك } أَيْ : مفاتيح النُّبوَّة حتى يعطوا النُّبوَّة مَن اختاروا .

أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)

{ أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما } يعني : إنَّ ذلك لله عزَّ وجلَّ فيصطفي مَنْ يشاء { فليرتقوا في الأسباب } أَيْ : إن ادَّعوا شيئاً من ذلك فليصعدوا فيما يوصلهم إلى السَّماء ، وليأتوا منها بالوحي إلى مَنْ يختارون ، ثمَّ وعد نبيَّه النَّصر فقال :
{ جند ما هنالك } أَيْ : هم جندٌ هنالك { مهزوم } مغلوبٌ { من الأحزاب } كالقرون الماضية الذين قُهروا وأُهلكوا ، وهذا إخبارٌ عن هزيمتهم ببدرٍ ، ثمَّ عزَّى نبيَّه عليه السَّلام فقال :
{ كذبت قبلهم قوم نوح وعادٌ وفرعون ذو الأوتاد } ذو الملك الشَّديد .

إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)

{ إنْ كلٌّ } ما كلٌّ من هؤلاء { إلاَّ كذَّب الرسل فحقَّ } فوجب { عقاب } .
{ وما ينظر هؤلاء } أَيْ : ما ينتظر هؤلاء كفار مكَّة { إلاَّ صيحة واحدة } وهي نفخة القيامة { ما لها من فواق } رجوعٌ ومردٌّ .
{ وقالوا ربنا عجِّلْ لنا قطنا } كتابنا وصحيفة أعمالنا { قبل يوم الحساب } وذلك لمَّا نزل قوله : { فأمَّا مَنْ أوتي كتابه بيمينه } { وأمَّا مَنْ أوتي كتابه بشماله } سألوا ذلك ، فنزلت هذه الآية . وقوله :
{ داود ذا الأيد } أي : ذا القوَّة في العباد { إنَّه أوَّابٌ } رجَّاع إلى الله سبحانه .
{ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن } يجاوبنه بالتَّسبيح { بالعشي والإِشراق } يعني : الضُّحى .
{ والطير } أَيْ : وسخَّرنا الطَّير { محشورة } مجموعةً { كلٌّ له } لداود { أواب } مطيعٌ يأتيه ويسبِّح معه .
{ وشددنا ملكه } بالحرس ، وكانوا ثلاثةً وثلاثين ألف رجلٍ يحرسون كلَّ ليلةٍ محرابه . { وآتيناه الحكمة } الإِصابة في الأمور { وفصل الخطاب } بيان الكلام ، والبصر في القضاء ، وهو الفصل بين الحقِّ والباطل .
{ وهل أتاك نبأ الخصم } يعني : الملكين اللذين تصوَّرا في صورة خصمين من بني آدم { إذ تسوروا المحراب } علوا غرفة داود عليه السَّلام .
{ إذ دخلوا على داود ففزع منهم } لأنَّهما دخلا بغير إذنٍ في غير وقت دخول الخصوم { قالوا لا تخف خصمان } أَيْ : نحن خصمان { بغى بعضنا على بعض } أَيْ : ظلم بعضنا بعضاً { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } ولا تَجُرْ { واهدنا إلى سواء الصراط } إلى طريق الحقِّ .
{ إنَّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجة } يعني : امرأة { ولي نعجة واحدة } أَي : امرآةٌ { فقال : أكفلنيها } أَي : انزل عنها واجعلني أنا أكفلها { وعزَّني في الخطاب } غلبني في الاحتجاج لأنَّه أقوى مني . وأقدر على النُّطق ، وهذا القول من الملكين على التّمثيل لا على التَّحقيق ، كأنَّ القائل منهما قال : نحن كخصمين هذه حالهما ، فلمَّا قال هذا أحد الخصمين اعترف له الآخر .

قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)

{ قال } داود عليه السَّلام : { لقد ظلمك بسؤال نعجتك } أَيْ : بسؤاله إيَّاك نعجتك : امرأتك أن يضمَّها { إلى نعاجه ، وإن كثيراً من الخلطاء } الشُّركاء { ليبغي بعضهم على بعض إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم } [ وقليلٌ هم ] { وظنَّ داود } علم عند ذلك { إنّما فتناه } ابتليناه بتلك المرأة التي أحبَّ أن يتزوَّجها ، ثمَّ تزوَّجها بعد قتل زوجها { فاستغفر ربه } ممَّا فعل ، وهو محبَّته يتزوَّج امرأةَ مَنْ له امرأةٌ واحدةٌ ، وله تسع وتسعون امرأةً { وخرَّ راكعاً } سقط للسُّجود بعد ما كان راكعاً { وأناب } رجع إلى الله سبحانه بالتَّوبة .
{ فغفرنا له ذلك وإنَّ له عندنا } بعد المغفرة { لزلفى } قربةً { وحسن مآب } مرجع .
{ يا داود إنَّا جعلناك خليفة في الأرض } أَيْ : عَنْ مَنْ قبلك من الأنبياء ، وقوله : { بما نسوا يوم الحساب } أَيْ : تركوا الإِيمان به والعمل له .
{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } إلاَّ لأمرٍ صحيحٍ ، وهو الدَّلالة على قدرة خالقهما وتوحيده وعبادته .

إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)

{ الصافناتُ الجياد } أي : الخيل القائمة .
{ فقال : إني أحببت حبَّ الخير عن ذكر ربي } آثرت حبَّ الخير ، أي : الخيل ، على ذكر الله حتى فاتني في وقته { حتى توارت } الشَّمس { بالحجاب } أَيْ : غربت ، وقوله :
{ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } أَيْ : أقبل يقطع سوقها وأعناقها ، ولم يفعل ذلك إلاَّ لإِباحة الله عزَّ وجلَّ له ذلك ، وقوله :
{ ولقد فتنا سليمان } ابتليناه { وألقينا على كرسيِّه جسداً } شيطاناً تصوَّر في صورته ، وذلك أنَّه تزوَّج امرأة وهويها ، وعبدت الصَّنم في داره بغير علمه ، فنزع الله ملكه أيَّاماً ، وسلَّط شيطاناً على مملكته ، ثمَّ تاب سليمان وأعاد الله عليه ملكه ، فسأل الله أن يهب له ملكاً يدلُّ على أنَّه غفر له ، وردَّ عليه ما نزع منه ، وهو قوله :
{ وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي } . وقوله :
{ رخاءً } أي : ليِّنةً مُطيعةً سريعةً { حيث أصاب } أراد وقصد سليمان عليه السَّلام .
{ والشياطين } أَيْ : وسخَّرنا له { كلَّ بناء } من الشَّياطين مَنْ يبنون له { وغوَّاص } يغوصون في البحر ، فيستخرجون ما يريد .
{ وآخرين مقرنين في الأصفاد } وسخَّرنا له مردة الشَّياطين حتى قرنهم في السَّلاسل من الحديد ، وقلنا له :
{ هذا } الذي أعطيناك { عطاؤنا فامنن } أَيْ : أعطِ { أو أمسك بغير حساب } عليك في إعطائه ولا إمساكه ، وهذا مما خصَّ به .

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)

{ بنصب } أَيْ : بتعبٍ ومشقَّةٍ في بدني { وعذاب } في أهلي ومالي ، فقلنا له :
{ اركض برجلك } أَيْ : دُسْ وحرِّك برجلك في الأرض ، فداس فنبعت عين ماءٍ ، فاغتسل به حتى ذهب الدّاء من ظاهره ، ثمَّ شرب منه فذهب الدَّاء من باطنه .
{ ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب } مُفسَّرةٌ في سورة الأنبياء عليهم السَّلام .
{ وخذ بيدك ضغثاً } حزمةً من الحشيش { فاضرب به } امرأتك { ولا تحنث } في يمينك . وقوله :
{ أولي الأيدي } أَيْ : ذوي القوَّة في العبادة { والأبصار } البصائر في الدِّين .
{ إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } أَيْ : جعلناهم يُكثرون ذكر الدَّار الآخرة والرُّجوع إلى الله تعالى .

وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)

{ من الأخيار } جمع خيِّر .
{ هذا ذكر } شرفٌ وذكرٌ جميلٌ يُذكرون به أبداً { وإنَّ للمتقين } مع ذلك { لحسن مآب } مرجعٍ في الآخرة ، ثمَّ بيَّن ذلك المرجع فقال :
{ جنات عدن } .

وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)

{ أتراب } [ أقرانٌ وأمثالٌ ] أسنانهنَّ واحدةٌ .

هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)

{ هذا وإنَّ للطاغين } أي : الأمر هذا الذي ذكرت .

هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)

{ هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق } أَيْ : هذا حميمٌ وغسَّاقٌ فليذوقوه ، والغسَّاق : ما سال من جلود أهل النَّار .
{ وآخر } أَيْ : وعذابٌ آخر { من شكله } من مثل ذلك الأوَّل { أزواج } أنواع فإذا دخلت الرُّؤساء النَّار ، ثمَّ دخل بعدهم الأتباع قالت الملائكة :
{ هذا فوج } جماعةٌ { مقتحمٌ معكم } داخلوا النَّار ، فقال الرُّؤساء : { لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار } كما صليناها ، فقال الأتباع :
{ بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدَّمتموه لنا } شرعتم وسنتتم الكفر لنا { فبئس القرار } قرارانا وقراراكم .
{ قالوا } أي : الأتباع { ربنا مَنْ قدَّم لنا هذا } شرعه وسنَّه { فزده عذاباً ضعفاً في النار } كقوله : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } { وقالوا } يعني : صناديد قريش : { ما لنا لا نرى رجالاَ كنَّا نعدُّهم من الأشرار } أي : فقراء المسلمين .
{ أتخذناهم سخرياً } كنَّا نسخر بهم في الدَّنيا ، أَمفقودون هم؟ { أم زاغت عنهم الأبصار } فلا نراهم ها هنا .
{ إن ذلك } الذي ذكرنا عن أهل النَّار { لحق } ثمَّ بيَّن ما هو فقال : { تخاصم أهل النار } .

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)

{ قل هو نبأٌ عظيم } أَي : القرآن الذي أنبأكم به وجئتكم فيه بما لا يُعلم إلاَّ بوحي .

مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)

{ ما كان لي من علم بالملأ الأعلى } وهم الملائكة { إذ يختصمون } في شأن آدم عليه السَّلام . يعني : قولهم : { أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها . . . } الآية .

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)

{ لما خلقت بيدي } أَيْ : تولَّيت خلقه ، وهذا اللَّفظ ذُكر تخصيصاً وتشريفاً لآدم عليه السَّلام ، وإن كان كلُّ شيءٍ يتولَّى الله خلقه دون غيره .

قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

{ قال فالحقُّ والحقَّ أقول } أَيْ : فبالحقِّ أقول ، وأقول الحقَّ [ قَسمٌ جوابه ] : { لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } .
{ قل ما اسألكم عليه } على تبليغ الرِّسالة { من أجر وما أنا من المتكلفين } المُتقوِّلين للقرآن من تلقاء نفسي .
{ إن هو } ليس القرآن { إلاَّ ذكر } عظةٌ { للعالمين } .
{ ولتعلمنَّ } أنتم أيُّها المشركون { نبأه } ما أخبرتكم فيه من البعث والقيامة { بعد حين } بعد الموت .

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

{ تنزيل الكتاب } ابتداءٌ ، وخبرُه قوله : { من الله العزيز الحكيم } . وقوله :
{ مخلصاَ له الدين } أَيْ : الطَّاعة ، والمعنى : اعبده مُوحِّداً لا إله إلاَّ هو .
{ ألا لله الدين الخالص } أَيْ : الطَّاعة لا يستحقُّها إلاَّ الله تعالى ، ثمَّ ذكر الذين يعبدون غيره فقال : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم } أَيْ : ويقولون : { ما نعبدهم إلاَّ ليُقَرِّبونا إلى الله زلفى } أَيْ : قربى { إنَّ الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون } من أمر الدِّين ، ثمَّ ذكر أنَّه لا يهدي هؤلاء ، فقال : { إنَّ الله لا يهدي مَنْ هو كاذب } في إضافة الولد إلى الله تعالى { كفار } يكفر نعمته بعبادة غيره ، ثمَّ ذكر براءته عن الولد فقال :
{ لو أراد الله أن يتخذ ولداً } كما يزعم هؤلاء { لاصطفى } لاختار { ممَّا يخلق ما يشاء ، سبحانه } تنزيهاً له عن الولد . وقوله :
{ يكور الليل على النهار } أَيْ : يدخل أحدهما على الآخر .
{ خلقكم من نفس واحدة } يعني : آدم عليه السَّلام { ثمَّ جعل منها زوجها } حوَّاء { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } مشروحٌ في سورة الأنعام ، وقوله : { خلقاً من بعد خلق } أَيْ : نطفةً ، ثمَّ علقةً ، ثمَّ مضغةً { في ظلمات ثلاث } ظلمة البطن ، وظلمة الرَّحم ، وظلمة المشيمة { فأنى تُصرفون } عن عبادته إلى عبادة غيره بعد هذا اليبان! وقوله :
{ ولا يرضى لعباده الكفر } أَيْ : المؤمنين المخلصين منهم ، كقوله : { عيناً يشرب بها عباد الله } . { وإن تشكروا } أَيْ : إن تطيعوا ربَّكم { يرضه لكم } يرض الشُّكر لكم ويُثبكم عليه .

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)

{ وإذا مسَّ الإنسان } يعني : الكافر { ضرٌّ دعا ربَّه منيباً إليه } راجعاً { ثمَّ إذا خَوَّلَهُ } أعطاه { نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل } نسي الله الذي كان يتضرَّع إليه من قبل النِّعمة ، وترك عبادته { قل } يا محمَّد عليه السَّلام لمن يفعل ذلك : { تمتع بكفرك قليلاًَ إنك من أصحاب النار } . وهذا تهديدٌ .
{ أم مَنْ هو قانت } قائمٌ مطيعٌ لله { آناء الليل } أوقاته { يحذر } عذاب { الآخرة } كمَنْ هو عاص؟ ثمَّ ضرب لهما مثلاً فقال : { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } أَيْ : هل يستوي العالم والجاهل؟ كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . { إنما يتذكر أولوا الألباب } إنَّما يتَّعظ بوعظ الله ذوو العقول . وقوله :
{ للذين أحسنوا في هذه الدنيا } وحَّدوا الله تعالى وعملوا بطاعته { حسنة } وهي الجنَّة { وأرض الله واسعة } فهاجروا فيها ، واخرجوا من بين الكفَّار { إنما يوفى الصابرون } على طاعة الله تعالى وما يبتليهم به { أَجْرَهُمْ بغير حساب } بغير مكيالٍ ولا ميزان .
{ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين } أَيْ : مُوحِّداً .
{ وأمرت لأن أكون أول المسلمين } من هذه الأُمَّة .

فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)

{ قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم } بالتَّخليد في النَّار { وأهليهم } لأنَّهم لم يدخلوا مدخلِ المؤمنين الذين لهم أهل في الجنَّة .
{ لهم من فوقهم ظللٌ } هذا كقوله { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم . . . } الآية ، وكقوله : { لهم من جهنَّم مهادٌ ومن فوقهم غواشٍ } { ذلك } الذي وصفت من العذاب { يخوِّف الله به عباده } .
{ والذين اجتنبوا الطاغوت } أَيْ : الأوثان { أن يعبدوها وأنابوا إلى الله } رجعوا إليه بالَّطاعة { لهم البشرى } بالجنَّة { فبشر عباد } .
{ الذين يستمعون القول } القرآن وغيره { فيتبعون أحسنة } وهو القرآن .
{ أفمن حقَّ عليه كلمةُ العذاب أفأنت } يا محمَّدُ { تنقذ } ه ، أَيْ : تُخرجه من النَّار ، أيْ : إنَّه لا يقدر إلى هدايته ، وقوله :
{ لهم غرفٌ من فوقها غرفٌ مبنية } أَيْ : لهم منازل في الجنَّة رفيعةٌ ، وفوقها منازل أرفع منها .
{ ألم تر أنَّ الله أنزل من السماء ماءً فسلكه } أدخل ذلك الماء { ينابيع في الأرض } وهي المواضع التي ينبع منها الماء ، وكلُّ ماءٍ في الأرض فمن السَّماء نزل . { ثم يخرج به } بذلك الماء { زرعاً مختلفاً ألوانه } خضرةً ، وحمرةً ، وصفرةً { ثمَّ يهيج } ييبس { فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً } دُقاقاً فتاتاً { إنَّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب } يذكرون ما لهم من الدَّلالة في هذا على توحيد الله تعالى وقدرته .
{ أفمن شرح الله صدره } وسَّعه { للإِسلام فهو على نور من ربه } أَيْ : فاهتدى إلى دين الإِسلام ، كمَنْ طبع على قلبه ، ويدل على هذا المحذوف قوله : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } .
{ والله نزل أحسن الحديث } أي : القرآن { كتاباً متشابهاً } يشبه بعضه بعضاً من غير اختلافٍ ولا تناقضٍ { مثاني } يثني فيه الأخبار والقصص ، وذكر الثَّواب والعقاب { تقشعر } تضطرب وتتحرَّك بالخوف { منه جلود الذين يخشون ربهم } يعني : عند ذكر آية العذاب { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } أَيْ : من آية الرَّحمة { ذلك هدى الله } أَيْ : ذلك الخشية من العذبا ورجاء الرَّحمة هدى الله .
{ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } وهو الكافر يُلقي في النَّار مغلولاً ، فلا يتهيَّأ له أن يتَّقي النَّار إلاَّ بوجهه ، ومعنى الآية : أَفَمن هذه حاله كمَن يدخل الجنَّة؟

قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)

{ غير ذي عوج } أَيْ : ليس فيه اختلافٌ وتضادٌّ ، ثمَّ ضرب مثلاً للموحِّد والمشرك فقال :
{ ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون } متنازعون سيِّئةٌ أخلاقهم ، وكلُّ واحدٍ يستخدمه بقدر نصيبه ، وهذا مَثَلُ المشرك الذي يعبد آلهةً شتى { ورجلاً سالماً } خالصاً لرجل وهو الذي يعبد الله وحده { هل يستويان مثلاً } أَيْ : هل يستوي مَثَل الموحِّد ومَثَل المشرك؟ { الحمد لله } وحده دون غيره من المعبودين { بل أكثرهم لا يعلمون } مفسَّر في سورة النَّحل . ثمَّ ذكر أنهم يموتون ويرجعون إلى الله فيختصمون عنده ، فقال :
{ إنك ميت وإنهم ميتون } { ثمَّ إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } يعني : المؤمن والكافر ، والمظلوم والظَّالم .
{ فمن أظلم ممن كذب على الله } وزعم أنَّ له ولداً وشريكاً { وكذَّب بالصدق } بالقرآن { إذ جاءه } على لسان الرَّسول . { أليس في جهنَّم مثوى } مقامٌ ومنزلٌ لهؤلاء .
{ والذي جاء بالصدق } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن { وصدَّق } أبو بكر رضي الله عنه ثمَّ المؤمنون بعده .

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)

{ أليس الله بكافٍ عبده } يعني : محمداً صلوات الله عليه ، ينصره ويكفيه أمر مَنْ يُعاديه { ويخوفونك بالذين من دونه } أَيْ : يُخوِّفونك بأوثانهم ، يقولون : إنَّك لتعيبها ، وإنَّها لتصيبنَّك بسوء ، ثمَّ بيَّن أنَّهم مع عبادتهم الأوثان يُقرُّون بأنَّ الخالق هو الله .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)

{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنَّ الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله } الأوثان . { إن أرادني بضرٍّ } بلاءٍ وشدَّةٍ . هل يكشفنَ ذلك عني { أو أرادني برحمة } نعمةٍ . هل يمسكن ذلك عني؟ وهذا بيان أنَّها لا تنفع ولا تدفع .

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

{ الله يتوفى الأنفس } يقبض الأرواح { حين } عند { موتها والتي لم تمت } أَيْ : ويقبض روح التي لم تمت { في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت } أَيْ : يمسك أنفس الأموات عنده ، { ويرسل الأخرى } أنفس الأحياء [ إذا أنتبهوا من منامهم يردُّ عليهم أرواحهم ] { إلى أجل مسمى } وهو أجل الموت .
{ أم اتخذوا من دون الله شفعاء } أَيْ : الأوثان التي عبدوها لتشفع لهم . { قل أَوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئاً } من الشَّفاعة { ولا يعقلون } أنَّهم يعبدونهم لا يتركون عبادتهم .
{ قل لله الشفاعة جميعاً } فليس يشفع أحدٌ إلاَّ بإذنه .
{ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } كان المشركون إذا سمعوا قول لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له نفروا من ذلك ، وإذا ذكر الأوثان فرحوا ، و { اشمأزَّت } : نفرت .

وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)

{ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } في الدُّنيا أنَّه نازلٌ بهم في الآخرة .

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)

{ إنما أوتيته على علمٍ } أُعطيته على شرفٍ وفضلٍ ، وكنت علمتُ أنِّي سأُعطى هذا باستحقاقي { بل هي فتنة } أَيْ : تلك العطيَّة فتنةٌ من الله تعالى يبتلي به العبد ليشكر أو يكفر .
{ قد قالها الذين من قبلهم } يعني : قارون حين قال : { إنَّما أُوتيته على علمٍ عندي . }

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)

{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } بارتكاب الكبائر والفواحش ، نزلت في قومٍ من أهل مكَّة همُّوا بالإسلام ، ثمَّ قالوا : إنَّ محمداً يقول : إنَّ مَنْ عبد الأوثان ، واتَّخذ مع الله آلهةً ، وقتل النَّفس لا يُغفر له ، وقد فعلنا كلَّ هذا ، فأعلم الله تعالى أنَّ مَنْ تاب وآمن غفر الله له كلَّ ذنب ، فقال : { لا تقنطوا من رحمة الله . . . } الآية .
{ وأنيبوا إلى ربكم } أَيْ : ارجعوا إليه الطَّاعة { وأسلموا } وأطيعوا { له } .
{ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم } أَيْ : القرآن ، كقوله : { اللَّهُ نزَّل أَحسنَ الحَديثِ } وقوله :
{ أن تقول نفس يا حسرتى } أَيْ : افعلوا ما أمرتكم به من الإنابة واتِّباع القرآن خوفَ أن تصيروا إلى حالةٍ تقولون فيها هذا القول . وقوله : { على ما فرطت في جنب الله } أَيْ : قصَّرت في طاعة الله ، وسلوك طريقة { وإن كنت لمن الساخرين } أَيْ : ما كنت إلاَّ من المستهزئين بدين الله تعالى وكتابه .

وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)

{ وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } بمنجاتهم من العذاب ، والمفازة ها هنا بمعنى الفوز .

لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)

{ له مقاليد السموات والأرض } أَيْ : مفاتيح خزائنها ، فكلُّ شيء في السموات والأرض؛ واللَّهُ فاتحُ بابه .
{ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } هذا جواب الذين دعوه إلى دين آبائه .

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)

{ والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } أَيْ : ملكه من غير منازعٍ ، كما يقال : هو في قبضة فلان : إذا ملك التَّصرُّف فيه وإن لم يقبض عليه بيده ، { والسموات مطويات } كقوله : { يوم نطوي السَّماء } { بيمينه } أَيْ : بقوَّته . وقيل : بقسمه؛ لأنَّه حلف أنَّه يطويها .
{ ونفخ في الصور فصعق } أَيْ : مات { مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض إلاَّ من شاء الله } قيل : هم الشُّهداء ، وهم أحياءٌ عند ربِّهم . وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وحملة العرش عليهم السَّلام . { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } ينتظرون أمر الله فيهم .
{ وأشرقت الأرض } أُلبست الإِشراق عَرَصَاتُ القيامة { بنور ربها } وهو نورٌ يخلقه الله في القيامة يلبسه وجه الأرض { ووضع الكتاب } أَيْ : الكتب التي فيها أعمال بني آدم { وجيء بالنبيين والشهداء } الذين يشهدون للرُّسل بالتَّبليغ .

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)

{ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً } جماعاتٍ وأفواجاً .

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

{ طبتم } أَيْ : كنتم طيِّبين في الدُّنيا . وقوله :
{ وأورثنا الأرض } أَيْ : أرض الجنَّةَ { نتبوَّأ من الجنة } نتَّخذ منها منازل { حيث نشاء فنعم أجر العاملين } ثواب المطيعين .
{ وترى الملائكة حافين من حول العرش } محيطين به { وقضي بينهم } أيْ : حُكم بين أهل الجنَّة والنَّار . { وقيل الحمد لله رب العالمين } .

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)

{ حم } قُضي ما هو كائن .
{ تنزيل الكتاب } ابتداءٌ ، وخبره : { من الله العزيز العليم } .
{ غافر الذنب } لمن قال لا إله إلاَّ الله { وقابل التوب } ممن قال : لا إله إلاَّ الله { شديد العقاب } لمَنْ لم يقل لا إله إلاَّ الله . { ذي الطول } الغنى والسَّعة .
{ ما يجادل في آيات الله } أَيْ : في دفعها وإبطالها . { فلا يغررك تقلبهم } تصرُّفهم { في البلاد } للتِّجارت ، أَيْ : سلامتهم بعد كفرهم حتى إنَّهم يتصرَّفون حيث شاؤوا؛ فإنَّ عاقبتهم كعاقبة مَنْ قبلهم من الكفَّار ، وهو قوله :
{ كذبت قبلهم قوم نوحٍ والأحزاب من بعدهم } أي : الذين تحزَّبوا على انبيائهم بالمخالفة والعداوة كعادٍ وثمود { وهمَّت كلُّ أمة برسولهم ليأخذوه } أَيْ : قصدت كلُّ أمة رسولها ليتمكَّنوا منه فيقتلوه { وجادلوا } بباطلهم { ليدحضوا } ليدفعوا { به الحق فأخذتهم } فعاقبتهم { فكيف كان عقاب } استفهام تقرير .
{ وكذلك } ومثل ما ذكرنا { حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار } يعني : قوله : { لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك . . . } الآية . ثمَّ أخبر بفضل المؤمنين وأنَّ الملائكة يستغفرون لهم فقال :
{ الذين يحملون العرش ومَنْ حوله } من الملائكة ، وقوله : { ربنا وسعت كلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً } أَيْ : وسعت رحمتك كلَّ شيء ، وعلمتَ كلَّ شيء .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)

{ إن الذين كفروا ينادون } وهم في النَّار وقد مقتوا أنفسهم حين وقعوا في العذاب . { لمقت الله } إيَّاكم في الدُّنيا إذ تُدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبرُ من مقتكم أنفسكم .
{ قالوا ربنا أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } وذلك أنَّهم كانوا أمواتاً نُطفاً ، فأُحيوا ثمَّ أُميتوا في الدُّنيا ، ثمَّ أُحيوا للبعث { فاعترفنا بذنوبنا } أي : أريتنا من الآيات ما أوجب علينا الإقرار بذنوبنا { فهل إلى خروج } من الدُّنيا { من سبيل } ؟ فقيل لهم :
{ ذلكم } العذاب { بأنَّه إذا دعي الله وحده كفرتم } [ نكرتم وحدانيته ] { وإن يشرك به تؤمنوا } تُصدِّقوا ذلك الشِّرك { فالحكم لله } في إنزال العذاب بكم لا يمنعه عن ذلك مانع .
{ هو الذين يريكم آياته } دلائل توحيده { وينزل لكم من السماء رزقاً } بالمطر { وما يتذكر } وما يتَّعظ بآيات الله { إلاَّ مَنْ ينيب } يرجع إلى الله بالإيمان .
{ فادعوا الله مخلصين له الدين } الطَّاعة .
{ رفيع الدرجات } رافعها لأهل الثَّواب في الجنَّة { ذو العرش } مالكه وخالقه { يلقي الروح } الوحي الذي تحيا به القلوب من موت الكفر { من أمره } من قوله { على مَنْ يشاء من عباده } على مَنْ يختصه بالرِّسالة { لينذر يوم التلاق } ليخوِّف الخلق يوم يلتقي أهل الأرض وأهل السَّماء ، أَيْ : يوم القيامة .
{ يوم هم بارزون } خارجون من قبورهم { لا يخفى على الله } من أعمالهم وأموالهم { شيء } يقول الله في ذلك اليوم : { لمن الملك اليوم } ثمَّ يجيب نفسه { لله الواحد القهار } .

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)

{ وأنذرهم يوم الآزفة } خوّفهم بيوم القيامة ، والآزقة ، القريبة { إذ القلوب لدى الحناجر } وذلك أنَّ القلوب ترتفع من الفزع إلى الحناجر { كاظمين } ممتلئين غمّاً وخوفاً وحزناً { ما للظالمين } أي : الكافرين { من حميم } قريبٍ { ولا شفيع يطاع } فيشفع فيهم .
{ يعلم خائنة الأعين } خيانة الأعين ، وهي مسارقتها النَّظر إلى ما لا يحلُّ .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)

{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } بعلاماتنا التي تدلُّ على صحة نبوّته { وسلطان مبين } أيْ : حجَّةٍ ظاهرةٍ .

فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)

{ فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه } وذلك أَنَّ فرعون أمر بإعادة القتل على الذُّكور من أولاد بني إسرائيل لمَّا أتاه موسى عليه السَّلام؛ ليصدَّهم بذلك عن متابعة موسى . { وما كيد الكافرين } مكر فرعون وسوء صنيعه { إلاَّ في ضلال } زوالٍ وبطلانٍ وذهابٍ .
{ وقال فرعون } لملَئهِ : { ذروني أقتل موسى وليدع ربه } الذي أرسله إلينا ، فيمنعه { إني أخاف أن يبدل دينكم } الذين أنتم عليه يبطله { أو أن يظهر في الأرض الفساد } أو يفسد عليكم دينكم إن لم يبطله ، فلمَّا توعَّده بالقتل قال موسى :
{ إني عذت بربي وربكم من كلِّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } . وقوله :
{ يصبكم بعض الذي يعدكم } قيل : كلُّ الذي يعدكم .
{ يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } هذا من قول مؤمن آل فرعون؛ أعلمهم أنَّ لهم الملك ظاهرين عالين على بني إسرائيل في أرض مصر ، ثمَّ أعلمهم أنَّ عذاب الله لا يدفعه دافع فقال : { فمن ينصرنا من بأس الله } أَيْ : مَنْ يمنعنا من عذابه { إن جاءنا } ؟ ف { قال فرعون } حين منع من قتله : { ما أُريكُمْ } من الرَّأي والنَّصيحة { إلاَّ ما أرى } لنفسي .
{ وقال الذين آمن } يعني : مؤمن آل فرعون : { يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب } ثمَّ فسَّر ذلك فقال :
{ مثل دأب قوم نوح وعادٍ وثمود والذين من بعدهم } خوَّفهم إن أقاموا على كفرهم مثل حال هؤلاء حين عذِّبوا ، ثمَّ خوَّفهم بيوم القيامة . وهو قوله :

وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)

{ إني أخاف عليكم يوم التناد } وذلك أنَّه يكثر النِّداء في ذلك اليوم ، يُنادى بالسَّعادة والشَّقاوة ، ويُنادى فيُدعى كلُّ أناسٍ بإمامهم .
{ يوم تولون مدبرين } مُنصرفين عن موقف الحساب إلى النَّار { ما لكم من الله } [ من عذاب الله ] { من عاصم } مانعٍ يمنعكم من عذاب الله .
{ ولقد جاءكم يوسف من قبل } أَيْ : من قبل موسى { بالبينات } بالآيات المعجزات { كذلك } مثل ذلك الضَّلال { يضل الله مَنْ هو مسرف } مشركٌ { مرتاب } شاكٌّ فيما أتى به الأنبياء .
{ الذين يجادلون في آيات الله } أَيْ : في إبطالها ودفعها { بغير سلطان } أَيْ : حُجَّةٍ { أتاهم كبر } ذلك الجدال { مقتاً } بغضاً .
{ وقال فرعون : يا هامان ابن لي صرحاً } قصراً طويلاً { لعلي أبلغ الأسباب } أبواب السَّموات وأطرافها التي تُوصلني إليها .
{ وإني لأظنه كاذباً } في ادِّعائه إلهاً دوني . { وكذلك } مثل ما وصفنا { زين لفرعون سوء عمله وصدَّ عن السبيل } ومُنع عن الإيمان { وما كيد فرعون إلاَّ في تباب } خسارٍ . يريد : أنه خسر كيده ولم ينفعه ذلك .
{ وقال الذي آمن } من قوم فرعون : { يا قوم اتَّبِعُون أهدكم سبيل الرشاد } طريق الصَّواب .
{ يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع } متعةٌ ينتفعون بها مدَّة ولا تبقى . وقوله :

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)

{ وأشرك به ما ليس لي به علم } أيْ : أشرك بالله شيئاً لا علم لي به أنَّه شريك له .
{ لا جرم } حقّاً { إنَّ ما تدعونني إليه ليس له دعوة } إجابة دعوة ، أَيْ : لا يستجيب لأحدٍ { في الدنيا ولا في الآخرة وأنَّ مردَّنا } مرجعنا { إلى الله } .
{ فستذكرون } إذا عاينتم العذاب { ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله } وذلك أنَّهم تَوَعَّدُوه لمخالفته دينهم .

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)

{ النار يعرضون عليها غدوّاً وعشياً } وذلك أنَّهم يُعرضون على النَّار صباحاً ومساءً ، ويقال لهم : هذه منازلكم إذا بعثتم .

وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)

{ وقال الذين في النار لخزنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب } .
{ قالوا : أَوَلَمْ تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا : بلى ، قالوا : فادعوا } أَيْ : فادعوا أنتم إذاً ، فإنَّا لن ندعو الله لكم { وما دعاء الكافرين إلاَّ في ضلال } هلاكٍ وبطلانٍ؛ لأنَّه لا ينفعهم .
{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } بظهور حجتهم ، والانتصار ممَّن عاداهم بالعذاب في الدُّنيا والآخرة { ويوم يقوم الاشهاد } الملائكةُ الذين يكتبون أعمال بني آدم .

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)

{ فاصبر } يا محمَّدُ { إنَّ وعد الله } في نصرتك وإهلاك أعدائك { حق وسبِّح بحمد ربك } صلِّ بالشُّكر منك لربِّك { بالعشي والإِبكار } أَيْ : طرفي النَّهار ، وقوله :
{ إن في صدورهم إلاَّ كبر ما هم ببالغيه } أَيْ : تكبُّرٌ وطمعٌ أن يعلوا على محمدٍ عليه السلام ، وما هم ببالغي ذلك { فاستعذ بالله } أي : فامتنع بالله من شرِّهم .
{ لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } أَيْ : أعظم في القدرة من إعادة النَّاس للبعث .

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)

{ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } اعبدوني أُثبكم وأغفر لكم ، وقوله : { داخرين } أي : صاغرين .

كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)

{ كذلك يؤفك } أَيْ : كما صُرفتم عن الحقِّ مع قيام الدلائل يُصرف عن الحقِّ { الذين كانوا بآيات الله يجحدون } .

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)

{ ولتبلغوا أجلاً مسمَّى } أَيْ : وقتاً محدوداً لا تجاوزونه { ولعلكم تعقلون } ولكي تعقلوا أنَّ الذي فعل ذلك لا إله غيره .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)

{ ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله } أيْ : في دفعها وإبطالها { أنى يصرفون } عن الحقِّ .

إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)

{ والسلاسل يسحبون } يُجَرُّون .
{ في الحميم ثم في النار يسجرون } يُصيَّرون وقوداً للنَّار .
{ ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون } .
{ من دون الله } أي : الأصنام . { قالوا ضلوا عنا } زالوا عنَّا وبطلوا ، فلا نراهم { بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً } أَيْ : ضاعت عبادتنا ، فلم تكن تصنع شيئاً { كذلك } كما أضلَّهم { يضل الله الكافرين } .
{ ذلكم } العذاب الذي نزل بكم { بما كنتم تفرحون } بالباطل وتبطرون .

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

{ فإمَّا نرينك بعض الذي نعدهم } من العذاب في حياتك { أو نتوفينك } قبل أن ينزل بهم ذلك { فإلينا يرجعون } . وقوله :
{ فإذا جاء أمر الله } بعذاب الأمم المُكذِّبة { قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون } أَيْ : تبيَّن خسران أصحاب الباطل .

وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)

{ ولكم فيها منافع } من الصُّوف والوبر ، والدَّرِّ والنَّسل { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } من حمل أثقالكم إلى البلاد .

فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)

{ فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } رضوا بما عندهم من العلم ، وقالوا : نحن أعلم منهم لن نُبعث ولن نعذَّب .

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

{ سنة الله } أَيْ : سنَّ الله هذه السُّنَّةَ في الأمم كلِّها أن لا ينفعهم الإِيمان إذا رأوا العذاب { وخسر هنالك الكافرون } تبيَّن لهم الخسران .

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)

{ حم } .
{ تنزيلُ من الرحمن الرحيم } ابتداءٌ وخبره [ قوله ] :
{ كتابٌ فصلت آياته } بُيِّنت . { لقوم يعلمون } لمَنْ يعلم ذلك ممَّن يعلم العربيَّة .

وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)

{ وقالوا قلوبنا في أكنَّة } أغطيةٍ . { وفي آذاننا وقر } صممٌ ، أَيْ : نحن في ترك القبول منك بمنزلة مَن لا يفقه ولا يسمع . { ومن بيننا وبينك حجاب } خلافٌ في الدِّين فلا نجتمع معك ولا نوافقك { فاعمل } على دينك ف { إننا عاملون } على ديننا . وقوله :
{ فاستقيموا إليه } وجِّهوا إليه وجوهكم بالطَّاعة . { وويلٌ للمشركين } .
{ الذين لا يؤتون الزكاة } لا يؤمنون بوجوبها فلا يُؤدُّونها .

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)

{ قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } الأحد والأثنين .
{ وبارك فيها } بما خلق فيها من المنافع { وقدَّر فيها أقواتها } أرزاق أهلها وما يصلح لمعاشهم من البحار والأنهار ، والأشجار والدَّوابِّ { في أربعة أيام } في تتمة أربعة أَيَّامٍ وهو يوم الثلاثاء والأربعاء ، فصارت الجملة أربعة أيَّام خلق الله الأرض وما فيها من سبب الأقوات والمنافع والتجارات ، فتمَّ أمرها في أربعة أيَّام { سواء } أَيْ : استوت استواء ، وسواءً { للسائلين } عن ذلك ، أَيْ : لمَنْ سأل في كم خُلقت السَّموات والأرض؟ فيقال : في أربعة أيام .

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)

{ ثم استوى } قصد وعمد { إلى } خلق { السماء وهي دخان } بخارٌ مرتفعٌ عن الماء { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً } بما خلقت فيكما من المنافع ، وأَخْرِجاها لمنافع خلقي . قال للسَّموات : أطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وقال للأرض : أخرجي ماءك وثمارك طائعةً أو كارهةً ، ففعلتا ما أمرهما طوعاً ، وهو قوله : { قالتا أتينا طائعين } .
{ فقضاهن } صنعهنَّ وأحكمهنَّ { سبع سموات في يومين وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها } أوحى في أهل كلِّ سماءٍ بما أراد من الأمر والنَّهي . وقوله : { وحفظاً } أَيْ : حفظناها من استماع الشَّياطين بالكواكب حفظاً .
{ فإن أعرضوا } عن الإِيمان بعد هذا البيان { فقل أنذرتكم } خوَّفتكم { صاعقة } مهلكةً تنزل بكم كما نزلت بمن قبلكم { إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم } أتت الرُّسل إيَّاهم ومَنْ كان قبلهم { ومن خلفهم } ومن بعد الرُّسل الذين أُرسلوا إلى آبائهم جاءتهم الرُّسل أنفسهم .

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)

{ ريحاً صرصراً } أي : لها صوتٌ شديدٌ { في أيام نحسات } مشؤوماتٍ عليهم .

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

{ وأما ثمود فهديناهم } دعوناهم ودللناهم { فاستحبوا العمى على الهدى } فاختاروا الكفر على الإيمان { فأخذتهم صاعقة } مهلكةُ { العذاب } ذي { الهون } وهو الهوان ، أي : العذاب الذي يُهينهم . وقوله :
{ وهو خلقكم أوَّل مرة } ابتداءُ إخبارٍ عن الله تعالى ، وليس من كلام الجلود .
{ وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم } [ أَيْ مِنْ أن يشهد عليكم سمعكم ] أي : لم تكونوا تخافون أن يشهد عليكم جوارحكم ، فتستتروا منها { ولكن ظننتم أنَّ الله } أي : ظننتم أنَّ ما تُخفون { لا يعلم } اللَّهُ ذلك ولا يطَّلع عليه ، وذلك الظَّنُّ منكم بربِّكم .
{ أرداكم } أهلككم .
{ فإن يصبروا } في جهنَّم { فالنار مثوىً لهم } أي : مقامهم لا يخرجون منها { وإن يستعتبوا } يطلبوا الصلح { فما هم من المعتبين } أَيْ : ممَّن يُصالح ويرضى .

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)

{ وقيضنا لهم } أيْ : سبَّبنا لهم { قرناء } من الشَّياطين { فزينوا لهم ما بين أيديهم } من أمر الدُّنيا حتى آثروه { وما خلفهم } من أمر الآخرة ، فدعوهم إلى التَّكذيب به ، وأن لا جنَّة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب . { وحقَّ عليهم القول في أمم } مع أممٍ بالخسران والهلاك . وقوله :
{ والغوا فيه } أَيْ : عارضوه بكلامٍ لا يُفهم من المُكاء ، والصَّفير ، وباطل الكلام { لعلكم تغلبون } ه على قراءته فيترك القراءة .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)

{ ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس } يعنون : إبليس وقابيل؛ لأنًّهما أوَّل مَنْ سنَّ الضَّلالة { نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا } في الدَّرك الأسفل من النَّار .
{ إنَّ الذين قالوا ربنا الله } أَيْ : وحَّدوه { ثمَّ استقاموا } على التَّوحيد ، فلم يشركوا به شيئاً { تتنزل عليهم الملائكة } عند الموت { ألا تخافوا } ذنوبكم { ولا تحزنوا } عليها؛ فإنَّ الله يغفرها لكم .
{ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } أَيْ : أنصاركم وأحباؤكم ، وهم قرناؤهم الذين كانوا معهم في الدُّنيا من الحفظة ، يقولون لهم : لن نُفارقكم [ في القيامة ] حتى ندخلكم الجنَّة . { ولكم فيها ما تدَّعون } تتمنَّون وتسألون .
{ نزلاً } أيْ : جعل الله ذلك زرقاً لهم مُهيَّئاً .
{ ومَنْ أحسن قولاً ممن دعا إلى الله . . . } الآية . قيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه دعا إلى توحيد الله . وقيل : إنَّها نزلت في المُؤّذِّنين .
{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } " لا " زائدة . { ادفع } السَّيئة { بالتي هي أحسن } كالغضب يُدفع بالصَّبر ، والجهل بالحلم ، والإِساءة بالعفو { فإذا الذي بينك وبينه عداوة } يصير لك كأنًّه صديقٌ قريبٌ إذا فعلت ذلك .
{ وما يلقاها } أَي : ْ ما يُلقَّى هذه الخصلة { إلاَّ الذين صبروا } بكظم الغيظ واحتمال الأذى { وما يلقَّاها إلاَّ ذو حظ عظيم } وهو الجنَّة .
{ وإمَّا ينزغنك من الشيطان نزغ } أَيْ : إنْ صرفك عن الاحتمال نَزْغُ الشَّيطان { فاستغذ بالله } من شرِّه وامض على حلمك .
{ ومن آياته } علاماته التي تدلُّ على أنَّه واحدٌ { الليل والنهار والشمس والقمر . . } الآية .
{ فإن استكبروا } أي : الكفَّار . يقول : إن استكبروا عن السُّجود لله { فالذين عند ربك } وهم الملائكة { يسبحون } يُصلُّون له { بالليل والنهار وهم لا يسأمون } لا يملُّون .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)

{ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } مُغبَّرةً لا نبات فيها { فإذا أنزلنا عليهم الماء اهتزَّت } تحرَّكت بالنًّبات { وربت } انتفخت وعلت ، ثمَّ تصدَّعت عن النَّبات .
{ إنَّ الذين يلحدون في آياتنا } يجعلون الكلام فيها على غير جهته ، بأن ينسبوها إلى الكذب والسِّحر { لا يخفون علينا } بل نعلمهم ونجازيهم بذلك .
{ إنَّ الذين كفروا بالذكر } أَيْ : بالقرآن { لما جاءهم وإنَّه لكتاب عزيز } منيعٌ من الشَّيطان والباطل .
{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه } أي : الكُتب التي تقدَّمت لا تبطله ، ولا يأتي كتابٌ بعده يبطله . وقيل : إنَّه محفوظٌ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه ، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه .
{ ما يقال لك إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلك } أَيْ : إنْ كذَّبك قومك فقد كذَّب الذين من قبلك .
{ ولو جعلناه قرآناً أعجمياً } لا بلسان العرب { لقالوا : لولا فصلت } بُيِّنت { آياته } بلغتنا حتى نعرفها { أأعجمي وعربي } أي : القرآنُ أعجميٌّ ، ونبيٌّ عربيٌّ { قل هو } أي : القرآن { للذين آمنوا هدى } من الضَّلالة { وشفاء } من الجهل { والذين لا يؤمنون } في ترك قبوله بمنزلة مَنْ { في آذانهم وقرٌ وهو } أي : القرآن { عليهم } ذو { عمى } لأنَّهم لا يفقهونه { أولئك ينادون من مكان بعيد } أَيْ : كأنهم لقلَّة استماعهم وانتفاعهم يُنادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعونه لبعد المسافة .
{ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } بالتَّكذيب والتَّصديق ، والإِيمان به والكفر كما فعل قومك { ولولا كلمة سبقت من ربك } بتأخير العذاب عن قومك { لقضي بينهم } لفرغ من هلاكهم { وإنهم لفي شك منه } من القرآن { مريب } .

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

{ إليه يردُّ علم الساعة } لأنَّه لا يعلمه غيره { وما تخرج من ثمرة من أكمامها } أوعيتها { ويوم يناديهم أين شركائي } الذين كنتم تزعمون { قالوا آذناك } أعلمناك { ما منا من شهيد } شاهدٍ أنَّ لك شريكاً ، لمَّا عاينوا القيامة تبرَّؤوا من معبوديهم .
{ وضلَّ عنهم } زال وبطل { ما كانوا يدعون من قبل } [ يثقون به ] ويعبدونه قبل يوم القيامة { وظنوا } علموا { ما لهم من محيص } من مهربٍ .
{ لا يسأم الإنسان من دعاء الخير } لا يَمَلُّ الكافر من الدُّعاء بالصحَّة والمال { وإن مسَّه الشرُّ } الفقر والضرُّ { فيؤوس } من روح الله { قنوط } من رحمته . وقوله :
{ ليقولنَّ هذا لي } أَيْ : هذا واجبٌ لي بعملي استحققته { وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إنَّ لي عند للحسنى } أَيْ : لستُ أوقن بالبعث وقيام السَّاعة ، فإن كان الأمر على ذلك إنَّ لي عنده لثواباً .
{ وإذا أنعمنا على الإنسان . . . } الآية . يقول : إذا كان الكافر في نعمةٍ تباعد عن ذكر الله ، وإذا مسَّته الحاجة أكثر الدُّعاء .
{ قل أرأيتم إن كان } القرآن { من عند الله ثم كفرتم به من أضلُّ } منكم ، لأنَّهم في { شقاق بعيد } أيْ : في خلافٍ بعيدٍ عن الحقّ بكفرهم بالقرآن .
{ سنريهم آياتنا في الآفاق } ما يفتح على محمَّد صلى الله عليه وسلم من القرى { وفي أنفسهم } فتح مكة { حتى يتبين لهم } أنَّ القرآن حقٌّ وصدقٌ منزلٌ من عند الله تعالى : { أَوَلَمْ يكف بربك أنَّه على كل شيء شهيد } وهو يشهد لمحمَّد عليه السَّلام ولكتابه بالصِّدق .
{ ألا إنهم في مرية } شكٍّ { من لقاء ربهم } من البعث والمصير إليه { ألا إنَّه بكلِّ شيء محيط } عالمٌ .

حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)

{ حم } ح : حكم الله ، م : مجده .
{ عسق } ع : علمه ، س : سناؤه ، ق : قدرته . أقسم الله تعالى بها .
{ كذلك يوحي إليك } ما من نبيٍّ صاحب كتابٍ إلاَّ وقد أوحى الله إليه : حم عسق ، فهو معنى قوله : { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك } .

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)

{ تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } تكاد كلُّ واحدة منها تتفطَّر فوق التي تليها من قول المشركين : اتَّخذ الله ولداً . { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } يُنزِّهون الله تعالى عن السُّوء { ويستغفرون } اللَّهَ { لمن في الأرض } من المؤمنين .
{ والذين اتخذوا من دونه أولياء } أَيْ : آلهةً . { الله حفيظ عليهم } يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها { وما أنت عليهم بوكيل } لم تُوكَّل عليهم ، وما عليك إلاَّ البلاغ .
{ وكذلك } وهكذا { أوحينا إليك قرآناً عربياً } بلفظ العرب { لتنذر أمَّ القرى } أهل مكَّة { ومَنْ حولها } سائر النَّاس { وتنذر يوم الجمع } تخوِّفهم بيوم القيامة الذي يجمع فيه الخلق { لا ريب فيه } كما يرتاب الكافرون { فريق في الجنة وفريق في السعير } إخبارٌ عن اختلاف حال النَّاس في ذلك اليوم .
{ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } لجعل الفريقين فريقاً واحداً { ولكن يدخل مَنْ يشاء في رحمته } بيَّن أنَّه إنَّما يُدخل الجنة مَنْ يشاء ، فهو فضلٌ منه { والظالمون } والكافرون { ما لهم من وليٍّ ولا نصير } ناصرٍ يمنعهم من العذاب .
{ أم اتخذوا } بل اتَّخذوا { من دونه أولياء فاللَّهُ هو الوليُّ } لا ما اتَّخذوه من دونه .
{ وما اختلفتم فيه من شيء } من أمر الدِّين { فحكمه إلى الله } لا إليكم ، وقد حكم أنَّ الدِّين هو الإِسلام لا غيره . وقوله :
{ جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } حلائل { ومن الأنعام أزواجاً } أَيْ : خلق الذَّكر والأنثى { يذرؤكم فيه } أيْ : يُكثِّركم يجعله لكم حلائل؛ لأنهنَّ سبب النَّسل ، و " فيه " بمعنى " به " { ليس كمثله شيء } الكافُ زائدةٌ ، أَيْ : ليس مثله شيء .

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

{ شرع لكم } بيَّن وأظهر لكم { من الدين ما وصَّى به } أمر { نوحاً } ثمَّ بيَّن ذلك فقال : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } والله يبعث الأنبياء كلَّهم بإقامة الدِّين وترك الفرقة . { كبر } عَظُمَ وشقَّ { على المشركين ما تدعوهم إليه } من التَّوحيد وترك الأوثان . { الله يجتبي إليه مَنْ يشاء } يصطفي مَنْ يشاء لدينه ، فيهديه إليه .
{ وما تفرَّقوا إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } ما تفرَّق أهل الكتاب إلاَّ عن علمٍ بأنَّ الفرقة ضلالةٌ ، ولكنَّهم فعلوا ذلك للبغي { ولولا كلمةٌ سبقت من ربك } في تأخيرهم إلى السَّاعة { لقضي بينهم } لجوزوا بأعمالهم { وإنَّ الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } يعني : هذه الأمَّة ، أعطوا الكتاب من بعد اليهود والنَّصارى { لفي شك منه مريب } يعني : كفَّار هذه الأمَّة ومشركيها .
{ فلذلك فادع } أَيْ : إلى ذلك . يعني : إلى إقامة الدِّين فادع النَّاس { واستقم كما أمرت } اثبت على الدِّين الذي أُمرتَ به { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أَيْ : بجميع كتب الله المنزلة { وأمرت لأعدل بينكم } لأسوِّي بينكم في الإيمان بكتبكم . وقيل : لأعدل بينكم في القضية . وقوله : { لا حجة } أَيْ : لا خصومة { بيننا وبينكم } وهذا منسوخٌ بآية القتال .

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)

{ والذين يحاجون في الله } يُخاصمون في دين الله نبيَّه عليه السَّلام { من بعد ما استجيب له } أُجِيبَ النبيُّ عليه السَّلام إلى الدِّين ، فأسلموا ودخلوا في دينه { حجتهم داحضةٌ عند ربهم } أَيْ : باطلةٌ زائلةٌ؛ لأنَّهم يخاصمون صادقاً في خبره قد ظهرت معجزته .
{ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } أَيْ : العدل ، والمعنى : إنَّ الله تعالى أمر أن يقتدي بكتابه في أوامره ونواهيه ، وأن يعامل بالنَّصفة والسَّويَّة ، وآلةُ ذلك الميزان ، ثمَّ قال : { وما يدريك لعلَّ الساعة قريب } أَيْ : فاعمل بالعدل والكتاب ، فلعلَّ السَّاعة قد قربت منك وأنت لا تدري .
{ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } ظنَّاً منهم أنَّها غير كائنة ، { والذين آمنوا مشفقون } خائفون منها ، لأنَّهم يعلمون أنَّهم مبعوثون ومحاسبون . { ألا إنَّ الذين يمارون } تدخلهم المِرية والشَّكُّ { في الساعة لفي ضلال بعيد } لأنَّهم لو فكَّروا لعلموا أنَّ الذي أنشأهم أوَّلاً قادرٌ على إعادتهم .
{ الله لطيف بعباده } حفيٌّ بارٌّ بهم ، بَرِّهم وفاجرِهم حيث لم يقتلهم جُوعاًَ بمعاصيهم .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

{ مَنْ كان يريد حرث الآخرة } من أراد بعمله الآخرة { نزد له في حرثه } أَيْ : كسبه بالتَّضعيف بالواحدة عشراً . { ومَنْ كان يريد حرث الدنيا } بعمله الدُّنيا { نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب } أَيْ : مَنْ آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الآخرة .
{ أم لهم } بل أَلهم { شركاء } آلهةٌ { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل } أَيْ : القَدَر السَّابق بأنَّ القضاء والجزاء يوم القيامة { لقضي بينهم } في الدُّنيا .
{ ترى الظالمين } المشركين يوم القيامة { مشفقين } خائفين { ممَّا كسبوا } أَيْ : من جزائه { وهو واقع بهم } لا محالة ، وقوله :
{ قل لا أسألكم عليه أجراً } أَيْ : على تبليغ الرِّسالة { أجراً إلاَّ المودَّة في القربى } أيْ : إلاَ أن تحفظوا قرابتي وتَوَدُّوني ، وتصلوا رحمي ، وذلك أنَّه لم يكن حيٌّ من قريشٍ إلاَّ وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابةٌ ، فكأنًّه يقول : إذا لم تؤمنوا بي فاحفظوا قرابتي ولا تُؤذوني . وقيل : معناه : إلاَّ أَنْ تتودَّدُوا إلى الله عزَّ وجلَّ بما يُقرِّبكم منه ، وقوله : { إلاَّ المودة } استثناءٌ ليس من الأوَّل . { ومن يقترف } يعمل { حسنة نزدْ له فيها حسناً } نضاعفها له .
{ أم يقولون } بل أيقولون ، يعني : أهل مكَّة { افترى على الله كذباً } تقوَّل القرآن من قبل نفسه { فإنْ يشأ اللَّهُ يختم على قلبك } يربط على قلبك بالصَّبر على أذاهم ، ثمَّ ابتدأ فقال { ويمحو الله الباطل } أَيْ : الشِّرك { ويحق الحق بكلماته } بما أنزله من كتابه على لسان نبيِّه عليه السَّلام [ وهو القرآن ] .
{ وهو الذين يقبل التوبة عن عباده } إذا رجع العبد عن معصية الله تعالى إلى طاعته قَبِلَ ذلك الرُّجوع ، وعفا عنه ما سلف ، وهو قوله : { ويعفو عن السيئات } .
{ ويستجيب الذين آمنوا } أَيْ : يُجيبهم إلى ما يسألون .
{ ولو بسط الله الرزق لعباده } أَيْ : وسَّع عليهم الرِّزق { لبغوا في الأرض } لطغوا وعصوا { ولكن ينزِّل بقدر ما يشاء } فيجعل واحداً فقيراً ، وآخر غنيَّاً { إنَّه بعباده خبيرٌ بصير } .
{ وهو الذي ينزل الغيث } المطر { من بعد ما قنطوا } من بعدِ يأسِ العباد من نزوله { وينشر رحمته } ويبسط مطره .

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)

{ ومن آياته } دلائل قدرته { خلق السموات والأرض وما بثَّ } فرَّق ونشر { فيهما من دابة وهو على جمعهم } للحشر { إذا يشاء قدير } .
{ وما أصابكم من مصيبة } بليَّةٍ وشدَّةٍ { فبما كسبت أيديكم } فهي جزاء ما اكتسبتم من الإِجرام { ويعفو عن كثير } فلا يُجازي عليه .
{ وما أنتم بمعجزين في الأرض } هرباَ ، اَيْ : إنِْ هربتم لم تعجزوا الله في أخذكم .
{ ومن آياته الجوار } السُّفن التي تجري { في البحر كالأعلام } كالجبال في العظم .
{ إن يشأ يسكن الريح فيظللن } فيصرن { رواكد } ثوابت على ظهر البحر لا تجري { إنَّ في ذلك لآيات لكلِّ صبار شكور } لكلِّ مؤمنٍ .
{ أو يوبقهن } يُهلكهنَّ ، يعني : أهلها { بما كسبوا } من الذُّنوب { ويعف عن كثير } فلا يعاقب عليها .
{ ويعلم الذين يجادلون في آياتنا } أَيْ : في دفعها وإبطالها { ما لهم من محيص } مهربٍ من عذاب الله .
{ فما أوتيتم من شيء } من أثاثِ الدُّنيا { فمتاع الحياة الدنيا } يتمتَّع به في هذه الدَّار { وما عند الله } من الثَّواب { خير وأبقى للذين آمنوا } نزلت في أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه حين أنفق جميع ماله وتصدَّق به ، فلامه النَّاس .

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)

{ والذين يجتنبون } عطفٌ على قوله : { للذين آمنوا } . { كبائر الإِثم والفواحش } الشِّرك وموجبات الحدود { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } يتجاوزون ويحلمون .
{ والذين استجابوا لربهم } أجابوه بالإِيمان والطَّاعة . { وأمرهم شورى بينهم } لا ينفردون برأيهم بل يتشاورون .
{ والذين إذا اصابهم البغي } الظُّلم { هم ينتصرون } ينتقمون ممَّن ظلمهم ، ثمَّ بيَّن حدَّ الانتصار فقال :
{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } أَيْ : إنما يُجازى السُّوء بمثله ، فيقتصُّ من الجاني بمقدار جنايته { فمن عفا } ترك الانتقام { وأصلح } بينه وبين الظَّالم عليه بالعفو { فأجره على الله } أَيْ : إنَّ الله يأجره على ذلك { إنَّه لا يحب الظالمين } الذين يبدؤون بالظُّلم .
{ ولمن انتصر بعد ظلمه } أَيْ : بعد أنْ ظُلم { فأولئك ما عليهم من سبيل } [ باللَّوم ولا القصاص ، لأنَّه آخذٌ حقَّه ] .

وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

{ ولمن صبر } على الأذى { وغفر } ولم يكافىء { إن ذلك } أَيْ : الصَّبر والغفران { لمن عزم الأمور } لأنَّه يوجب الثَّواب ، فهو أتمُّ عزمٍ .

وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)

{ وتراهم يعرضون عليها } على النَّار { خاشعين من الذل } مُتواضعين ساكنين . { ينظرون } إلى النَّار { من طرف خفي } مُسارقةً .

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)

{ استجيبوا لربكم } بالإيمان والطَّاعة { من قبل أن يأتي يومٌ لا مردَّ له من الله } أَيْ : إنَّ الله تعالى إذا أتى به لم يردَّه { مالكم من ملجأ يومئذٍ } مهربٍ من العذاب { وما لكم من نكير } إنكارٌ على ما ينزل بكم من العذاب ، لا تقدرون أن تنكروه فتغيِّروه .

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)

{ أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } أَيْ : يجعل ما يهب من الولد بعضه ذكوراً ، وبعضه إناثاً { ويجعل من يشاء عقيماً } لا يُولد له .
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً } بأن يوحي إليه في منامه { أو من وراء حجاب } كما كلَّم موسى عليه السَّلام { أو يرسل رسولاً } مَلَكاً { فيوحيَ بإذنه ما يشاء } فيكلِّمه عنه بما يشاء .
{ وكذلك } وكما أوحينا إلى سائر الرُّسل { أوحينا إليك روحاً } ما يحيا به الخلق ، أَيْ : يهتدون به ، وهو القرآن { من أمرنا } أَيْ : فِعْلِنا في الوحي إليك . { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } قبل الوحي . ويعني : بالإيمان شرائعه ومعالمه { ولكن جعلناه } جعلنا الكتاب { نوراً } وقوله : { وإنك لتهدي } بوحينا إليك { إلى صراط مستقيم } . [ يعني الإِسلام ] .

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)

{ حم } .
{ والكتاب المبين } الذي أبان الهدى وما تحتاج إليه الأُمَّة .
{ إنا جعلناه } بيَّناه { قرآناً عربياً } بلغة العرب { لعلكم تعقلون } تعرفون أحكامه ومعانيه .
{ وإنه } أَيْ : القرآن { في أمِّ الكتاب } أَيْ : اللَّوح المحفوظ { لدينا لعليٌّ حكيم } يريد : إنَّه مثبتٌ عند الله تعالى في اللَّوح المحفوظ بهذه الصِّفة .
{ أفنضرب عنكم الذكر صفحاً } أَفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنَّكم لا تؤمنون به ، وهو قوله : { أن كنتم قوماً مسرفين } أَيْ : لأن كنتم قوماً مُشركين مُجاوزين أمر الله . قال قتادة رضي الله عنه : واللَّهِ لو أنَّ هذا القرآنَ رُفع حين ردَّه أوئل هذه الأمَّة لهلكوا .

فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)

{ فأهلكنا أشد منهم } من قومك { بطشاً } قوَّة { ومضى مثل الأولين } سنَّتهم في العقوبة .

وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)

{ والذي نزل من السماء ماءً بقدر } بمقدارٍ معلومٍ عند الله { فأنشرنا } فأحيينا { به } بذلك الماء { بلدة ميتاً كذلك تخرجون } من قبوركم أحياء .
{ والذي خلق الأزواج } الأصناف { كلها } . وقوله :
{ وما كنَّا له مقرنين } أَيْ : مُطيقين .

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)

{ وجعلوا له من عباده جزءاً } أَيْ : الذين جعلوا الملائكة بنات الله .
{ أم اتخذ ممَّا يخلق بنات وأصفاكم } أخلصكم وخصَّكم { بالبنين } كقوله : { أفأصفاكم ربُّكم بالبنين . . . } الآية .
{ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاَ } بما وصفه به من اتِّخاذ البنات .
{ أَوَمَنْ يُنَشَّؤُ في الحلية } أَيْ : أَنسبوا إليه مَنْ يُنشَّأ في الحلية؟ يعني : البنات { وهو في الخصام غير مبين } وذلك أنَّ المرأة لا تكاد تقوم بحجَّةٍ في الخصومة .
{ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } أَيْ : حكموا بأنَّهم إناثٌ حين قالوا : إنَّهم بنات الله . { أشهدوا } أَحضروا { خلقهم } حين خُلقوا؟ { ستكتب شهادتهم } على الملائكة بأنَّهم بنات الله { ويسألون } عنها .
{ وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم } أَيْ : الملائكة ، وذلك أنَّهم قالوا : لو لم يرض منَّا بعبادتنا إيَّاها لعجَّل عقوبتنا . { ما لهم بذلك من علم } ما لهم بقولهم : الملائكة بناتُ الله من علمٍ . { إن هم إلاَّ يخرصون } يكذبون .
{ أم آتيناهم كتاباً من قبله } من قبل القرآن فيه عبادة غير الله { فهم به مستمسكون } بذلك الكتاب ، ثمَّ بيَّن أنَّهم اتَّبعوا ضلالة آبائهم ، فقال :
{ بل قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة } دينٍ .

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)

{ قال أو لو جئتكم بأهدى } بدينٍ أهدى { ممَّا وجدتم عليه آباءكم } أَتتبعونهم؟ { قالوا } أَيْ : الأمم للرُّسل : { إنا بما أرسلتم به كافرون } .
{ فاتنقمنا منهم } بالعقوبة .
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه : إنني براء } أَيْ : بريٌ .

وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)

{ وجعلها كلمة } أَيْ : كلمة التَّوحيد { باقية في عقبه } عقب إبراهيم عليه السَّلام ، لا يزال من ولده مَنْ يوحِّدُ الله عزَّ وجلَّ { لعلهم يرجعون } كي يرجعوا بها من الكفر إلى الإيمان .
{ بل متعتُ هؤلاء وآباءهم } في الدُّنيا ولم أهلكهم { حتى جاءهم الحق } القرآن .

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)

{ وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من } [ إحدى ] { القريتين } مكَّة والطَّائف { عظيم } أَيْ : الوليد بن المغيرة من أهل مكَّة ، وعروة بن مسعود الثقفيِّ من الطَّائف ، قال الله تعالى :
{ أهم يقسمون رحمة ربك } نبوَّته وكرامته ، فيجعلونها لمن يشاؤون؟ { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } فجعلنا بعضهم غنيَّاً وبعضهم فقيراً { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } بالمال { ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } ليُسخِّر الأغنياء بأموالهم الفقراء ويستخدموهم ، فيكون بعضهم لبعض سببَ المعاش في الدُّنيا ، هذا بماله ، وهذا بأعماله ، فكما قسمنا هذه القسمة كذلك اصطفينا للرِّسالة مَنْ نشاء ، ثمَّ بيَّن أنَّ الآخرة أفضل من الدُّنيا فقال : { ورحمة ربك } أَيْ : الجنَّة { خيرٌ ممَّا يجمعون } في الدُّنيا ، ثمَّ ذكر قلَّة خطر الدُّنيا عنده فقال :
{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } مجتمعين على الكفر . وقوله : { ومعارج } : مراقي { عليها يظهرون } يعلون ويصعدون .
{ ولبيوتهم أبواباً وسرراً } من فضَّةٍ { عليها يتكئون } .
{ وزخرفاً } أَيْ : ومن زخرفٍ ، وهو الذَّهب { وإن كلُّ ذلك لما متاع الحياة الدنيا } [ لمتاع الحياة الدُّنيا ] .
{ ومَنْ يعش } يُعرض { عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً } نسبِّب له شيطاناً { فهو له قرين } لا يُفارقه .
{ وإنهم } أَيْ : الشَّياطين { ليصدونهم } يمنعون الكافرين { ويحسبون } الكفَّار { أنهم مهتدون } .
{ حتى إذا جاءنا } يعني : الكافر { قال } لقرينه : { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } أَيْ : بُعد ما بين المشرق والمغرب { فبئس القرين } أنت؛ ثم لا يفارقه حتى يصيرا إلى النار ، وقال الله تعالى :
{ ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم } أشركتم في الدُّنيا { أنكم في العذاب مشتركون } اشتراككم في العذاب لأنَّ لكلِّ واحدٍ نصيبَه الأوفرَ منه .

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)

{ فإمَّا نذهبنَّ بك } نُميتك قبل أن نعذِّبهم { فإنا منهم منتقمون } بعد موتك .
{ أو نرينك } في حياتك { الذي وعدناهم } من العذاب .

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

{ وإنه } أَيْ : القرآن { لذكر } لَشرفٌ { لك ولقومك } إذ نزل بلغتهم ، ونزل عليك وأنت منهم { وسوف تسألون } عن شكر ما جعلنا لكم من الشَّرف .
{ واسأل من أرسلنا } أَيْ : أمم مَنْ أرسلنا { من قبلك } يعني : أهل الكتابين ، هل في كتاب أحدٍ الأمرُ بعبادة غير الله تعالى؟ ومعنى هذا السُّؤال التَّقرير لعبدة الأوثان أنَّهم على الباطل .

وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)

{ وما نريهم من آية إلاَّ هي أكبرُ من أختها } قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها { وأخذناهم بالعذاب } بالسِّنين والطُّوفان والجراد { لعلهم يرجعون } عن كفرهم .
{ وقالوا يا أيها الساحر } خاطبوه بما تقدَّم له عندهم من التَّسمية بالسَّاحر : { ادع لنا ربك بما عهد عندك } فيمن آمن به مِنْ كشف العذاب عنه { إننا لمهتدون } أَيْ : مؤمنون .
{ فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } ينقضون عهدهم . وقوله :
{ وهذه الأنهار تجري من تحتي } بأمري . وقيل : من تحت قصوري .
{ أم أنا } بل أنا { خير من هذا الذي هو مهين } حقيرٌ ضعيفٌ ، يعني : موسى . { ولا يكاد يبين } يُفصح بكلامه لِعِيِّه .
{ فلولا } فهلاًّ { ألقي عليه أسورة من ذهب } حليٌّ بأساور الذَّهب إن كان رئيساً مُطاعاً؟ والطَّوق والسِّوار من الذَّهب كان من علامة الرِّئاسة عندهم . { أو جاء معه الملائكة مقترنين } مُتتابعين يشهدون له .
{ فاستخف قومه } وجد قومه القبط جُهَّالاً .
{ فلما آسفونا } أغضبونا بكفرهم . { انتقمنا منهم } .
{ فجعلناهم سلفاً } مُتقدِّمين في الهلاك [ ليتَّعظ ] بهم مَنْ بعدهم { ومثلاً للآخرين } عبرةً لمَنْ يجيء بعدهم .
{ ولما ضرب ابن مريم مثلاً } نزلت هذه الآية حين خاصمه الكفَّار لما نزل قوله تعالى : { إنَّكم وما تعبدون من دُونِ الله . . . } الآية ، فقالوا : رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى ، فجعلوا عيسى عليه السَّلام مثلاً لآلهتهم ، فقال الله تعالى : { ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يَصِدًّون } أَيْ : يضجُّون ، وذلك أنَّ المسلمين ضجُّوا من هذا حتى نزل قوله تعالى : { إنَّ الذين سَبَقَتْ لهم منا الحُسنى أولئك عنها مُبعدون } وذكر الله تعالى في هذه السُّورة تلك القصَّة ، وهو قوله :
{ وقالوا أآلهتنا خيرٌ أم هو } يعني : عيسى عليه السَّلام . { ما ضربوه لك إلاَّ جدلاً } أَيْ : إلاَّ الإرادة للمجادلة؛ لأنَّهم علموا أنَّ المراد بحصب جهنم ما اتَّخذوه من الموات . { بل هم قوم خصمون } يجادلون بالباطل ، ثمَّ بيَّن حال عيسى عليه السَّلام فقال :
{ إن هو إلاَّ عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل } آيةً تدلُّ على قدرة الله .
{ ولو نشاء لجعلنا منكم } بدلكم { ملائكة في الأرض يخلفون } بأن نلهككم ونأتي بهم بدلاً منكم يكونون خلفاء منكم .
{ وإنه } أَي : وإنَّ عيسى { لعلم للساعة } بنزوله يُعلم قيام السَّاعة { فلا تمترنَّ بها } لا تشكُّوا فيها .

وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)

{ ولما جاء عيسى } إلى بني إسرائيل { بالبينات } بالآيات التي يعجز عنها المخلوقون { قال : قد جئتكم بالحكمة } أَيْ : الإنجيل { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } أَيْ : كلَّه .

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)

{ فاختلف الأحزاب . . . } الآية مفسَّرةٌ في سورة مريم .
{ هل ينظرون } أَيْ : يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك { إلاَّ } أن يَفْجَأَهُمْ قيام { السَّاعة } ، ثمَّ ذكر أنَّ مخالَّتهم في الدُّنيا تبطل في ذلك اليوم ، وتنقلب عداوة ، فقال :
{ الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلاَّ المتقين } وهم المؤمنون .

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)

{ تحبرون } تُكرمون وتسرُّون .
{ يطاف عليهم بصحاف } بقصاع وأكوابٍ ، وهي الأواني التي لا عُرى لها . { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } أَيْ : تستلذًّ ، وهذا وصفٌ لجميع ما في الجنَّة من الطَّيِّبات .

لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)

{ لا يفتر عنهم } أَيْ : لا يخفَّف عنهم العذاب { وهم فيه مبلسون } ساكتون سكوت يأس .

وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)

{ ونادوا يا مالك ليقضِ علينا ربك } ليمتنا فنستريح { قال : إنكم ماكثون } مُقيمون في العذاب .

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)

{ أم أبرموا أمراً } أحكموا الأمر في المكر بمحمَّد عليه السَّلام { فإنا مبرمون } مُحكمون أمراً في مجازاتهم .

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)

{ قل : إن كان للرحمن ولد . . . } الآية معناها : إنْ كنتم تزعمون أنَّ للرحمن ولداً فأنا أوَّل الموحِّدين؛ لأنَّ مَنْ عبد الله واعترف بأنَّه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد . وقيل : { فأنا أول العابدين } الآنفين من هذا القول .

وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)

{ وهو الذي في السماء إله } يُعبد { وفي الأرض إله } يُعبد ، أيْ : هو المعبود فيهما { وهو الحكيم } في تدبير خلقه { العليم } بصلاحهم .

وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)

{ ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } أَيْ : الأوثان لا يشفعون لعابديها . { إلاَّ مَنْ شهد بالحق } يعني : عيسى وعزيراً والملائكة ، [ فلهم الشَّفاعة في المؤمنين لا في الكفَّار ] ، وهم يشهدون بالحقِّ بالوحدانيَّة لله { وهم يعلمون } حقيقة ما شهدوا به .

وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

{ وقيله } أَيْ : ويسمع قول محمَّد عليه السَّلام شاكياًَ إلى ربِّه ، وهو راجعٌ إلى قوله : { أنا لا نسمع سرَّهم ونجواهم } .
{ فاصفح عنهم } أَيْ : أعرض عنهم ، وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم { وقل سلام } أيْ : سلامةٌ لنا منكم { فسوف تعلمون } تهديدٌ لهم .

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)

{ حم } .
{ والكتاب المبين } .
{ إنا أنزلناه } أَيْ : القرآن { في ليلة مباركة } قيل : هي ليلة القدر في رمضان ، أنزل الله القرآن فيها من أمِّ الكتاب إلى سماء الدُّنيا ، ثمَّ أنزله على نبيِّه عليه السَّلام نجوماَ . وقيل : ليلة النِّصف من شعبان { إنا كنا منذرين } مُحذِّرين عبادنا العقوبة بإنزال الكتاب .
{ فيها يفرق } يُفصل { كلُّ أمر حكيم } مُحكمٍ من أرزاق العباد وآجالهم ، وذلك أنَّه يُدبِّر في تلك الليلة أمر السَّنة .
{ أمراً من عندنا } معناه : يُفْرق كلُّ أمرٍ حكيمٍ فرقاً من عندنا ، فوضع الأمر موضع الفرق؛ لأنَّه أمرٌ . { إنا كنا مرسلين } محمَّداً إلى قومه .

رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)

{ رحمةً } أَيْ : للرًّحمة ، وقوله :
{ إن كنتم موقنين } أَيْ : إن أيقنتم بأنَّه ربُّ السَّموات والأرض ، فأيقنوا أنَّ محمداً رسوله؛ لأنَّه أرسله .

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)

{ بل هم في شك } من البعث والنَّشر { يلعبون } مُشتغلين بالدُّنيا .
{ فارتقب } فانتظر { يوم تأتي السماء بدخان مبين } وذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه بالقحط ، فمنع المطر ، وأجدبت الأرض ، وانجرَّت الآفاق ، وصار بين السَّماء والأرض كالدُّخان .
{ يغشى الناس } ذلك الدخان وهم يقولون { هذا عذاب أليم } .
{ ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } مُصدِّقون بنبيِّك . قال الله تعالى :
{ أنى لهم الذكرى } من أين لهم التَّذكُّر والاتِّعاظ ، { و } حالهم أنَّهم { قد جاءهم رسول مبين } يبيِّن لهم أحكام الدِّين . يعني : محمَّداً صلى الله عليه وسلم .
{ ثمَّ تولوا } أعرضوا { عنه وقالوا معلَّم } أَيْ : إنَّه معلَّم يُعلِّمه ما يأتي به بشر .
{ إنا كاشفو العذاب قليلاً } أَيْ : يكشف عنكم عذاب الجوع في الدُّنيا ، ثمَّ تعودون في العذاب ، وهو قوله : { إنكم عائدون } .
{ يوم نبطش البطشة الكبرى } أَيْ : يوم القيامة . وقيل : يوم بدرٍ .
{ ولقد فتنا } بلونا { قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم } على الله تعالى : يعني : موسى عليه السَّلام .
{ أن أدوا إليَّ عباد الله } أَيْ : سلِّموهم إليَّ ولا تُعذِّبوهم ، يعني : بني إسرائيل ، كما قال : { فأرسل معي بني إسرائيل } { إني لكم رسول أمين } على وحي الله عزَّ وجلَّ .
{ وأن لا تعلوا على الله } لا تعصوه ولا تخالفوا أمره { إني آتيكم بسلطان مبين } بحجَّةٍ واضحةٍ تدلُّ على أنَّني نبيٌّ .
{ وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } أَن تقتلون ، وذلك أنَّهم توعَّدوه بالقتل .
{ وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } أَيْ : لا تكونوا عليَّ [ ولا لي ] ، وخلُّوا عني .
{ فدعا ربَّه أنَّ } أَيْ : بأنَّ { هؤلاء } [ أَيْ : يا ربِّ هؤلاء ] { قوم مجرمون } مُشركون .

فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)

{ فأسرِ بعبادي } بني إسرائيل { ليلاً إنكم متبعون } يتَّبعكم فرعون وقومه .
{ واترك البحر رهواً } خلِّفه وراءك ساكناً غير مضطربٍ ، وذلك أنّ الماء وقف له كالطود العظيم حين جاوز البحر { إنهم جندٌ مغرقون } نغرقهم في ذلك البحر الذي تجاوزوه رهواً .
{ كم تركوا } بعد هلاكهم { من جنات وعُيُون . . . } الآية ، مُفسَّرةٌ في سورة الشُّعراء .

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)

{ كذلك } أَيْ : الأمر كما وصفنا { وأورثناها } أعطيناها { قوماً آخرين } يعني : بني إسرائيل .
{ فما بكت عليهم السماء والأرض } لأنَّهم ماتوا كفَّاراً ، والمؤمن يبكي عليه مصعد عمله ، ومُصلاَّه من الأرض . { وما كانوا منظرين } مؤخَّرين حين أخذناهم بالعذاب .
{ ولقد نجينا بني إسرائيل } بإهلاك فرعون وقومه { من العذاب المهين } يعني : قتل الأبناء واستخدام النِّساء .
{ من فرعون إنه كان عالياً } مستكبراً مُتعظِّماً { من المسرفين } الكافرين المُتجاوزين حدِّهم .
{ ولقد اخترناهم } بني إسرائيل { على علمٍ } منَّا بهم { على العالمين } عالمي زمانهم .
{ وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين } نعمةٌ ظاهرةٌ من فلق البحر ، وإنزال المنِّ والسَّلوى .
{ إنَّ هؤلاء } أَيْ : مشركي مكَّة { ليقولون : إن هي إلاَّ موتتنا الأولى } أَيْ : ليس إلاَّ الموت ولا نشر بعده ، وهو قوله : { وما نحن بمنشرين } .
{ فأتوا بآبائنا } الذين ماتوا { إن كنتم صادقين } أنَّا نُبعث بعد الموت .
{ أهم خير } أَيْ : أقوى وأشدُّ { أم قوم تبع } الحِميريِّ { والذين من قبلهم } من الكفَّار { أهلكناهم } .
{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } ونحن نلعب في خلقهما ، أَيْ : إنَّما خلقناهما لأمرٍ عظيم ، وهو قوله : { ما خلقناهما إلاَّ بالحق } أَيْ : لإقامة الحقِّ وإظهاره من توحيد الله وإلزام طاعته .
{ إنَّ يوم الفصل } وهو يوم القيامة ، يفصل الله تعالى فيه بين العباد { ميقاتهم } الذي وقَّتنا لعذابهم { أجمعين } .
{ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً } قريبٌ عن قريبٍ { ولا هم ينصرون } يُمنعون من عذاب الله .

إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)

{ إلاَّ من رحم } لكن مَنْ رحم الله فإنَّه يُنصر .
{ إنَّ شجرة الزَّقوم } .
{ طعام الأثيم } أَيْ : صاحب الإثم ، وهو أبو جهل .
{ كالمهل } أَيْ : كالذَّائب من الفضَّة والنُّحاس في الحرارة . { يَغلي في البطون } في بطون آكليه .
{ كغلي الحميم } وهو الماء الحارُّ .
{ خذوه } يعني : الأثيم { فاعتلوه } سوقوه [ سوقاً ] بالعنف { إلى سواء الجحيم } وسط الجحيم .
{ ثمَّ صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم } كما قال : { يصبُّ من فوقِ رؤوسهم الحميم } ويقال له :
{ ذق إنك أنت العزيز الكريم } بزعمك وعلى قولك ، وذلك أنَّه قال : ما بين جبليها أعزُّ ولا أكرم مني .
{ إنَّ هذا } الذي ترون من العذاب { ما كنتم به تمترون } فيه تشكُّون .
{ إنَّ المتقين في مقام أمين } أمنوا فيه من الغير .

يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)

{ يلبسون من سندس } وهو ما رقَّ من الثّياب { وإستبرق } وهو ما غلظ منه { متقابلين } مُتواجيهن .
{ كذلك } كما وصفنا { وزوجناهم بحور } وهنَّ النِّساء النَّقيات البياض { عين } واسعة الأعين .
{ يدعون فيها بكلِّ فاكهة آمنين } من الموت .
{ لا يذوقون فيها الموت إلاَّ } سوى { الموتة الأولى } الموتة التي ذاقوها في الدُّنيا .

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

{ فإنما يسرناه } سهَّلنا القرآن { بلسانك لعلهم يتذكرون } يتَّعظون .
{ فارتقب } فانتظر الفتح والنَّصر { إنهم مرتقبون } مُنتظرون قهرك وهلاكك .

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)

{ حم } .
{ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } .
{ إنَّ في السموات والأرض } أَيْ : إنَّ في خلقهما { لآيات } لدلالاتٍ على قدرة الله وتوحيده .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

{ فبأيِّ حديث بعد الله } أَيْ : بعد حديث الله وكتابه { يؤمنون } .
{ ويلٌ لكلِّ أفاك أثيم } كذَّاب صاحب إثمٍ .
{ يسمع آيات الله تتلى عليه ثمَّ يصرُّ } يُقيم على كفره { مستكبراً } مُتعظِّماً عن الإيمان به .
{ وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً } استهزأ بها .
{ ومن ورائهم } أمامهم { جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا } من الأموال { شيئاً } .
{ هذا هدى } أَيْ : هذا القرآن هدىً . { والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذابٌ من رجز أليم } مُؤلمٌ مُوجعٌ .

وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)

{ جميعاً منه } أيْ : كلُّ ذلك تفضُّلٌ منه وإحسانٌ .
{ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } نزلت قبل الأمر بالقتال يقول : قل لهم يصفحوا عن المشركين الذين لا يخافون عقوبته الله وعذابه { ليجزي قوماً } أَيْ : ليجزيهم { بما كانوا يكسبون } من سوء أعمالهم .

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)

{ ورزقناهم من الطيبات } أَيْ : المنِّ والسَّلوى .
{ وآتيناهم بينات من الأمر } يعني : أحكام التَّوراة ، وبيان أمر النبيِّ عليه السَّلام { فما اختلفوا } في نبوَّته { إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم } يعني : ما علموه من شأنه . { بغياً بينهم } حسداً منهم له .
{ ثم جعلناك على شريعة } مذهبٍ وملَّةٍ { من الأمر } من الدِّين { فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } مراد الكافرين .
{ إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً } لن يدفعوا عنك عذاب الله إن اتَّبعت أهواءهم .
{ هذا } إشارةٌ إلى القرآن { بصائر } معالم { للناس } في الحدود والأحكام يبصرون بها .
{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات } اكتسبوا الكفر والمعاصي { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم } مُستوياً حياتهم وموتهم ، أَيْ : المؤمنُ مؤمنٌ حياً وميتاً ، والكافر كافرٌ حياً وميتاً ، فلا يستويان { ساء ما يحكمون } بئس ما يقضون إذ حسبوا أنَّهم كالمؤمنين ، نزلت هذه الآية حين قال المشركون : لئن كان ما تقولون حقاً لنفضلنَّ عليكم في الآخرة ، كما فضلنا عليكم في الدُّنيا .

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)

{ أفرأيت من اتخذ إله هواه } أَيْ : الكافر اتَّخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئاً إلاَّ ركبه . { وأضله الله على علم } على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه [ أنَّه ضالٌّ ] . وباقي الآية مُفسَّر في أوَّل سورة البقرة .
{ وقالوا } يعني : منكري البعث : { ما هي إلاَّ حياتنا الدنيا } أَيْ : ما الحياة إلاَّ هذه الحياة في دار الدُّنيا { نموت } نحن { ونحيا } أولادنا { وما يهلكنا إلاَّ الدهر } أَيْ : ما يفنينا إلاَّ مرُّ الزَّمان . { وما لهم بذلك من علم } أَيْ : الذين يقولون . { إن هم إلاَّ يظنون } ما هم إلاَّ ظانِّين ما يقولون .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا } أَدلَّتنا في قدرتنا على البعث { بينات } واضحاتٍ { وما كان حجَّتهم إلاَّ أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين } أنَّا نُبعث بعد الموت . وقوله :
{ ثمَّ يجمعكم إلى يوم القيامة } أَيْ : مع ذلك اليوم .

وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

{ وترى كلَّ أمة } كلَّ أهلِ دينٍ { جاثية } مُجتمعةً للحساب . وقيل : جالسةً على الرُّكَب من هول ذلك اليوم .
{ هذا كتابنا ينطق } أَيْ : ديوان الحفظة { إنا كنا نَستنسِخُ } نأمر بنسخ { ما كنتم تعملون } .

وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)

{ وقيل اليوم ننساكم } نترككم في العذاب كما تركتم الإيمان والعمل ليومكم هذا وقوله :
{ ولا هم يستعتبون } أَيْ : لا يُلتمس منهم عمل ولا طاعة .

وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

{ وله الكبرياء } العظمة { في السموات والأرض } أَيْ : إنَّه يُعظَّم بالعبادة في السموات والأرض { وهو العزيز الحكيم } .

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)

{ حم }
{ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } .
{ ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق } أَيْ : للحقِّ ، ولإِقامة الحقِّ { وأجل مسمَّى } تفنى عند انقضاء ذلك الأجل { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } أعرضوا بعدما قامت عليهم الحجَّة بخلق الله السَّموات والأرض ، ثمَّ طالبهم بالدَّليل على عبادة الأوثان ، فقال :
{ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات } أَيْ : مشاركةٌ مع الله في خلقهما لذلك أشركتموهم في عبادته { ائتوني بكتاب من قبل هذا } [ أَيْ : من قَبْلِ ] القرآن فيه بيان ما تقولون { أو أثارة من علم } روايةٍ عن الأنبياء أنَّهم أَمروا بعبادة غير الله ، فلمَّا قامت عليهم الحجَّة جعلهم أضلَّ الخلق ، فقال :
{ ومَنْ أضلُّ ممن يدعو من دون الله مَنْ لا يستجيب له إلى يوم القيامة . . . } أَيْ : أبداً . الآية .
{ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً } عادوا معبوديهم؛ لأنَّهم بسببهم وقعوا في الهلكة ، وجحد المعبودون عبادتهم ، وهو قوله : { وكانوا بعبادتهم كافرين } كقوله : { تبرَّأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون . }

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)

{ قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً } أَيْ : عذَّبني على افترائي لم تملكوا دفعه ، وإذا كنتم كذلك لم أفتر على الله من أجلكم { هو أعلم بما تفيضون فيه } تخوضون فيه من الإفك . { وهو الغفور } لمَنْ تاب { الرحيم } به .
{ قل ما كنت بدعاً } بديعاً { من الرسل } أَيْ : لستُ بأوَّل مرسل فتنكروا نبوَّتي ، { وما أدري ما يفعل بي } إلى إيش يصير أمري معكم ، أتقتلونني أم تخرجونني { ولا بكم } أَتُعذِّبون بالخسف أم الحجارة ، والمعنى : ما أدري إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدُّنيا .
{ قل أرأيتم إن كان } القرآن { من عند الله وكفرتم به وشهد شاهدٌ من بني إسرائيل } يعني : عبد الله بن سلام { على مثله } على مثل ما شهد عليه القرآن من تصديق محمَّد عليه السَّلام { فآمن } ذلك الرَّجل { واستكبرتم } عن الإيمان .
{ وقال الذين كفروا } من اليهود : { لو كان } دين محمَّدٍ { خيراً ما سبقونا إليه } يعنون : عبد الله بن سلام وأصحابه { وإذ لم يهتدوا به } بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان { فسيقولون هذا إفكٌ قديم } كما قالوا : أساطير الأوَّلين .
{ ومن قبله } ومن قبل القرآن { كتاب موسى } التَّوراة { إماماً ورحمة وهذا كتاب } أَيْ : القرآن { مصدق } أَيْ : مصدِّقٌ لما بين يديه لما تقدَّم من الكتب { لساناً عربياً } نصب على الحال .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)

{ حملته أمه كرهاً } على مشقَّةٍ { ووضعته كرهاً } أَيْ : على مشقَّةٍ { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } أقلُّ الحمل ستة أشهر ، والفِصال : الفِطام ، ويكون ذلك بعد حولين { حتى إذا بلغ أشده } غاية شبابه ، وهي ثلاثٌ وثلاثون سنةً { وبلغ أربعين سنةً قال : ربِّ أوزعني . . . } الآية . نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك أنَّه لمَّا بلغ أربعين سنةً آمن بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وآمن أبواه ، فذلك قوله : { أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدي } أَيْ : بالإِيمان { وأصلح لي في ذريتي } بأن تجعلهم مؤمنين ، فاستجاب الله له في أولاده فأسلموا ، ولم يكن أحدٌ من الصَّحابة أسلم هو وأبواه وبنوه وبناته إلاَّ أبو بكر رضي الله عنه .

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)

{ والذي قال لوالديه } نزلت في كافرٍ عاقٍّ قال لوالديه : { أَتَعِدانِني أن أخرج } من قبري حيَّاً { وقد خلت القرون من قبلي } فلم يُبعث منهم أحدٌ { وهما يستغيثان الله } يعني : والديه يستغيثان بالله على إيمان ولدهما ، ويقولان له : { ويلك آمن إنَّ وعد الله حق فيقول : ما هذا } الذي تدعونني إليه { إلاَّ أساطير الأولين } .
{ أولئك الذين } أَيْ : مَنْ كان بهذه الصِّفة فهم الذين { حق عليهم القول } وجب عليهم العذاب { في أمم } كافرةٍ . { من الجن والإِنس } .
{ ولكلٍّ } من المؤمنين والكافرين { درجات } منازل ومراتب من الثَّواب والعقاب { ممَّا عملوا } .
{ ويوم يعرض الذين كفروا على النار } فيقال لهم : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } وذلك أنَّهم يفعلون ما يشتهون ، لا يَتَوَقَّوْن حراماً ، ولا يجتنبون مأثماً { فاليوم تجزون عذاب الهون } الهوان . الآية .
{ واذكر أخا عاد } يعني : هوداً { إذ أنذر قومه بالأحقاف } أَيْ : منازلهم { وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه } أَيْ : قد أُنذروا بالعذاب أنْ عَبَدوا غيرَ الله قبل إنذار هود وبعده .
{ قالوا أجئتنا لتأفكنا } لتصرفنا { عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا } من العذاب { إن كنت من الصادقين } .
{ قال : إنما العلم عند الله } هو يعلم متى يأتيكم العذاب ، { و } إنما أنا مُبلِّغٌ { أبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوماً تجهلون } مراشدكم حين أدلُّكم على الرَّشاد وأنتم تُعرضون .
{ فلما رأوه } أَيْ : السَّحاب { عارضاً } قد عرض في السماء { مستقبل أوديتهم } يأتي من قبلها . { قالوا هذا عارض ممطرنا } سحابٌ يمطر علينا . قال الله تعالى : { بل هو ما أستعجلتم به } من العذاب .
{ تدمّر } تُهلك { كلَّ شيء } مرَّت به من الرِّجال والدَّوابِّ . { فأصبحوا لا يُرى } أشخاصهم { إلاَّ مساكنهم } لأنَّ الرِّيح أهلكتهم وفرَّقتهم ، وبقيت مساكنهم خاليةً .
{ ولقد مكَّناهم } من القوَّة والعمر والمال { فيما إن مكَّناكم فيه } في الذي ما مكَّنَّاكم فيه .

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)

{ ولقد أهلكنا ما حولكم } يا أهل مكَّة { من القرى } كحجر ثمود وقرى قوم لوط { وصرَّفنا الآيات } بيَّنا الدَّلالات { لعلهم يرجعون } عن كفرهم . يعني : الأمم المهلكة .
{ فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة } يعني : أوثانهم الذين اتَّخذوها آلهةَ يتقرَّبون بها إلى الله . { بل ضلوا عنهم } بطلوا عند نزول العذاب { وذلك إفكهم } أَيْ : كذبهم وكفرهم . يعني : قولهم : إنَّها تُقرِّبنا إلى الله .
{ وإذْ صرفنا إليك نفراً من الجن } كانوا تسعة نفرٍ من الجنِّ من نينوى من أرض الموصل ، وذلك أنَّه عليه السَّلام أُمر أن يُنذر الجنَّ ، فصرف إليه نفرٌ منهم ليتسمعوا ويبلِّغوا قومهم . { فلما حضروه } قال بعضهم لبعض : { أنصتوا } أَيْ : اسكتوا { فلما قضي } أَيْ : فرغ من تلاوة القرآن رجعوا { إلى قومهم منذرين } ؛ وقالوا لهم ما قصَّ الله في كتابه .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)

{ ولم يعي بخلقهن } أَيْ : لم يضعف عن إبداعهنَّ .

فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } أَيْ : ذوو الرَّأي والجدِّ ، وكلّهم أولو العزم إلاَّ يونس . وقيل : هم أصحاب الشَّرائع نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد منهم صلى الله عليهم أجمعين . { ولا تستعجل لهم } العذاب { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } من العذاب في الآخرة { لم يلبثوا } في الدُّنيا { إلاَّ ساعة من نهار } لهولِ ما عاينوا ، ونسوا قدر مكثهم في الدُّنيا . { بلاغ } أَيْ : هذا القرآن بلاغٌ ، أَيْ : تبْليغٌ من الله تعالى إليكم على لسان محمَّد عليه السَّلام { فهل يهلك إلاَّ القوم الفاسقون } أَيْ : لا يُهلك مع رحمة الله وتفضُّله إلاَّ الكافرون .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)

{ الذين كفروا } أهل مكَّة { وصدوا عن سبيل الله } ومنعوا النَّاس عن الإيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { أضلَّ أعمالهم } أحبطها ، فلا يرون في ألآخرة لها جزاءً . وقوله :
{ كفَّر عنهم سيئاتهم } أَيْ : سترها وغفرها لهم { وأصلح بالهم } أمرهم وحالهم .
{ ذلك } الإِضلال والتَّكفير لاتِّباع الكافرين الباطل ، وهو الشَّيطان ، واتِّباع المؤمنين الحقَّ ، وهو القرآن . { كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } أَيْ : كالبيان الذي ذُكر يُبيِّن الله للنَّاس أمثال سيئات الكافرين وحسنات المؤمنين .
{ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } فاضربوا رقابهم ، أَيْ : فاقتلوهم { حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم فيهم القتل { فشدوا } وثاق الأسارى حتى لا يفلتوا منكم { فإمَّا منَّاً بعد } أَيْ : بعد أن تأسروهم؛ إمَّا مننتم عليهم فأطلقتموهم؛ وإمَّا أن تُفادوهم بمالٍ { حتى تَضَعَ الحرب أوزارها } أَيْ : اقتلوهم وأسروهم حتى لا يبقى كافرٌ يقاتلكم ، فتسكن الحرب وتنقطع ، وهو معنى قوله : { تضع الحرب أوزارها } أَيْ : يضع أهلها آلة الحرب من السِّلاح وغيره ، ويدخلوا في الإِسلام أو الذِّمَّة . { ذلك } أَيْ : افعلوا ذلك الذي ذكرت { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أهلكهم بغير قتالٍ { ولكن ليبلو بعضكم ببعض } يمحِّص المؤمنين بالجهاد ، ويمحق الكافرين { والذين قتلوا في سبيل الله } وهم أهل الجهاد .
{ سيهديهم } في الدُّنيا إلى الطَّاعات ، وفي الآخرة إلى الدَّرجات { ويصلح بالهم } أمر معاشهم .
{ ويدخلهم الجنة عرَّفها لهم } بيَّن لهم مساكنهم فيها ، وعرَّفهم منازلهم .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله } أَيْ : رسوله ودينه { ينصركم ويثبت أقدامكم } في مواطن القتال .
{ والذين كفروا فتعساً لهم } أَيْ : سقوطاً وهلاكاً { وأضلَّ أعمالهم } أبطلها؛ لأنَّها كانت للشَّيطان .

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)

ثمَّ توعَّدهم فقال : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمَّر الله عليهم وللكافرين أمثالها } أَيْ : أمثال تلك العاقبة التي كانت لمَنْ قبلهم .
{ ذلك } أَيْ : ذلك النَّصر للمؤمنين والهلاك للكافرين { بأنَّ الله مولى الذين آمنوا } وليُّهم وناصرهم { وأن الكافرين لا مولى لهم } لا وليَّ لهم ينصرهم من الله .
{ والذين كفروا يتمتعون } في الدُّنيا { ويأكلون كما تأكل الأنعام } ليس لهم همَّةٌ إلاَّ بطونهم وفروجهم ، ثمَّ يصيرون إلى النَّار .
{ وكأين من قرية هي أشدُّ قوة من قريتك التي أخرجتك } يعني : مكَّة ، أخرجك أهلها { أهلكناهم } بتكذيبهم الرُّسل { فلا ناصر لهم } .
{ أفمن كان على بينة من ربه } وهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون { كمَنْ زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم } وهم أبو جهل والكفَّار .
{ مثل } صفة { الجنَّة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسن } غير متغيِّرِ الرَّائحة { وأنهار من خمر لذة للشاربين } لذيذة .
{ ومنهم مَنْ يستمع إليك } يعني : المنافقين { حتى إذا خرجوا من عندك } كانوا يستمعون خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا خرجوا سألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً وإعلاماً أنَّهم لم يلتفتوا إلى ما قال ، يقولون : { ماذا قال آنفاً } أَيْ : الآن . وقوله :
{ وآتاهم تقواهم } أَيْ : ثواب تقواهم ، ويجوز أن يكون المعنى : وألهمهم تقواهم ووفَّقهم لها .

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)

{ فهل ينظرون } ينتظرون { إلاَّ الساعة } القيامة { أن تأتيهم بغتة } أَيْ : هم في الحقيقة كذلك؛ لأنَّه ليس الأمر إلاَّ أن تقوم عليهم السَّاعة بغتةً { فقد جاء أشراطها } علاماتها من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وغيره { فأنى لهم إذا جاءتهم } السَّاعة { ذكراهم } أَيْ : فمن أين لهم أن يتذكَّروا أو يتوبوا بعد مجيء السَّاعة .
{ فأعلم أنه لا إله إلاَّ الله } أَيْ : فاثبت على ذلك من علمك . { والله يعلم متقلبكم } مُتصرِّفكم في أعمالكم وأشغالكم . وقيل : مُتقلَّبكم من الأصلاب إلى الأرحام . { ومثواكم } مرجعكم في الدُّنيا والآخرة .
{ ويقول الذين آمنوا } حرصاً منهم على الوحي إذا استبطؤوه : { لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة } غير منسوخةٍ { وذكر فيها } فُرِضَ { القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض } أَيْ : المناققين { ينظرون إليك } شزراً { نظر المغشي عليه من الموت } كنظر مَنْ وقع في سكرات الموت ، كراهة منهم للقتال . { فأولى لهم } .
{ طاعة وقول معروف } أَيْ : لو أطاعوا وقالوا لك قولاً حسناً كان ذلك أولى . { فإذا عزم الأمر } أَيْ : جدَّ الأمرُ ولزم فرض القتال { فلو صدقوا الله } في الإِيمان والطَّاعة { لكان خيراً لهم } .
{ فهل عسيتم إن توليتم } أَيْ : لعلَّكم إن أعرضتم عمَّا جاء به محمد عليه السَّلام أن تعودوا إلى أمر الجاهليَّة ، فيقتل بعضكم بعضاً ، وهو قوله : { أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } أَيْ : بالبغي والظُّلم والقتل .

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)

{ أفلا يتدبرون القرآن } فيتَّعظوا بمواعظه { أم على قلوبٍ أقفالها } فليس تفهمها .
{ إنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى } يعني : كفَّار أهل الكتاب كفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه { الشيطان سؤَّل لهم } زيَّن لهم { وأملى لهم } أطال لهم الأمل .
{ ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله } يعني : المشركين { سنطيعكم في بعض الأمر } في التَّظاهر على عداوة محمَّد صلى الله عليه وسلم .
{ فكيف } أَيْ : فيكف يكون حالهم { إذا توفتهم الملائكة } .

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)

{ أم حسب الذين في قلوبهم مرض } وهم المنافقون { أن لن يخرج الله أضغانهم } لن يظهر الله أحقادهم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
{ ولو نشاء لأريناكهم } لعرَّفناكهم { فلعرفتهم بسيماهم } بعلامتهم { ولتعرفنهم في لحن القول } في معنى كلامهم إذا تكلَّموا معك .
{ ولنبلونكم } بالجهاد { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } العلم الذي يقع به الجزاء { ونبلوا أخباركم } أَيْ : ونكشف ما تُسرُّون .
{ إنَّ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله . . . } الآية . يعني : المُطعمين من أصحاب بدرٍ . وقوله :
{ ولا تبطلوا أعمالكم } أَيْ : بالمنِّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامكم .

فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

{ وتدعوا إلى السلم } أَيْ : لا توادعوهم ولا تتركوا قتالهم حتى يُسلموا؛ لأنَّكم الأعلون ، ولا ضعف بكم فتدعوا إلى الصُّلح { والله معكم } بالنُّصرة { ولن يتركم أعمالكم } لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم . وقوله :
{ ولا يسألكم أموالكم } أَيْ : لا يسألكم محمَّد عليه السَّلام أموالكم أجراً على تبليغ الرِّسالة .
{ إن يسألكموها فيحفكم } يجهدكم بالمسألة { تبخلوا ويخرج أضغانكم } ويظهر عداوتكم؛ لأنَّ في مسألة المال ظهور العداوة والحقد .
{ ها أنتم هؤلاء } يا هؤلاء { تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم مَنْ يبخل } بالصَّدقة { ومَنْ يبخل فإنما يبخل عن نفسه } لأنَّ له ثواب ما أعطي ، فإذا لم يعط لم يستحقَّ الثَّواب { والله الغنيُّ } عن صدقاتكم { وأنتم الفقراء } إليها في الآخرة { وإن تتولوا } عن الرَّسول { يستبدل قوماً غيركم } أطوع منكم ، وهم فارس { ثم لا يكونوا } في الطَّاعة { أمثالكم } بل يكونوا أطوع منكم ، وهذا الخطاب للعرب .

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)

{ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } حكمنا لك بإظهار دينك والنُّصرة على عدوِّك ، وفتحنا لك أمر الدِّين .
{ ليغفر لك الله ما تقدَّم من ذنبك } ما عملت في الجاهليَّة { وما تأخَّر } ممَّا لم تعمله وقيل : ما تقدَّم من ذنبك ، يعني : ذنب أبويك آدم وحوَّاء ببركتك ، وما تأخَّر من ذنوب أُمَّتك بدعوتك . { ويتم نعمته عليك } بالنُّبوَّة والحكمة { ويهديك صراطاً مستقيماً } أَيْ : يُثبِّتك عليه .
{ وينصرك الله نصراً عزيزاً } ذا عزٍّ لا يقع معه ذلٌّ .
{ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } اليقين والطُّمأنينة { ليزدادوا إيماناً } بشرائع الدِّين { مع إيمانهم } تصديقهم بالله وبرسوله .

وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)

{ الظانين بالله ظنَّ السوء } يظنُّون أن لن ينصر الله محمَّداً والمؤمنين { عليهم دائرة السوء } بالذُّلَّ والعذاب ، أَيْ : عليهم يدور الهلاك والخزي .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)

{ إنَّا أرسلناك شاهداً } على أُمَّتك يوم القيامة { ومبشراً } بالجنَّة مَنْ عمل خيراً { ونذيراً } منذراً بالنَّار مَنْ عمل سوءً .
{ وتعزروه } أَيْ : تنصروه { وتوقروه } وتعظِّموه .
{ إنَّ الذين يبايعونك } بالحديبية { إنما يبايعون الله } أَيْ : أخذك عليهم البيعة عقدُ الله عليهم . { يد الله فوق أيديهم } نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة . { فمن نكث } نقض البيعة { فإنما ينكث على نفسه } فإنما يضرُّ نفسه بذلك النَّكث .
{ سيقول لك المخلفون من الأعراب . . . } الآية . لمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكَّة عام الحديبية استنفر مَنْ حول المدينة من الأعراب حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب ، فتثاقلوا عنه وخافوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنفسهم ، فأنزل الله تعالى : { سيقول لك المخلفون } الذين خلَّفهم الله عن صحبتك إذا انصرفت إليهم فعاتبتهم عن التَّخلُّف : { شغلتنا } عن الخروج معك { أموالنا وأهلونا } أَيْ : ليس لنا مَنْ يقوم فيها إذا خرجنا { فاستغفر لنا } تركنا الخروج معك ، ثمَّ كذَّبهم الله تعالى في ذلك العذر ، فقال : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم . . . } الآية .
{ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً } وذلك أنَّهم قالوا : إنَّ محمداً وأصحابه أكلة رأس [ أًيْ : قليلو العدد ] وأنَّهم لا يرجعون من هذا الوجه أبداً ، فقال الله تعالى : { وظننتم ظنَّ السوء وكنتم قوماً بُوْراً } هالكين عند الله تعالى بهذا الظَّنِّ .

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)

{ سيقول المخلفون } يعني : هؤلاء : { إذا انطلقتم إلى مغانم } يعني : غنائم خيبر { ذرونا نتبعكم } إلى خيبر فنشهد معكم . { يريدون أن يبدلوا كلام الله } يغيّروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية ، وذلك أنَّ الله تعالى حكم لهم بغنائم خيبر دون غيرهم . { قل لن تتبعونا } إلى خيبر { كذلكم قال الله من قبل } [ أَيْ : من قبل ] مرجعنا إليكم ، إنَّ غنيمة خيبر لمّنْ شهد الحديبية دون غيرهم { فسيقولون بل تحسدوننا } أن نصيب معكم من الغنائم .
{ قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم } إلى قتال قوم { أولي بأس شديد } وهم فارس والرُّوم . وقيل : بنو حنيفة أصحاب اليمامة . { تقاتلونهم أو يسلمون } يعني : أو هم يسلمون [ أصحاب مسيلمة الكذاب ] فيترك قتالهم { فإن تطيعوا } مَنْ دعاكم إلى قتالهم { يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل } عام الحديبية ، يعني : نافقتم وتركتم الجهاد { يعذِّبكم عذاباً أليماً } . ثم ذكر أهل العُذر في التَّخلُّف عن الجهاد فقال :
{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج . . . } الآية . ثمَّ ذكر خبر مَنْ أخلص نيَّته فقال :
{ لقد رضي الله عن المؤمنين } وكانوا ألفاً وأربعمائة { إذ يبايعونك } بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً ولا يفرُّوا { تحت الشجرة } يعني : سمرة كانت هنالك ، وهذه البيعة تسمَّى بيعة الرِّضوان { فعلم ما في قلوبهم } من الإِخلاص والوفاء { فأنزل } الله { السكينة عليهم } وهي الطُّمأنينة وثلج الصدر بالنُّصرة من الله تعالى : لرسوله { وأثابهم فتحاً قريباً } أَيْ : فتح خيبر .

وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

{ ومغانم كثيرة يأخذونها } يعني : عقار خيبر وأموالها .
{ وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة ، { فعجَّل لكم هذه } يعني : خيبر { وكفَّ أيدي الناس عنكم } لما خرجوا وخلفوا عيالهم بالمدينة حفظ الله عليهم عيالهم ، وقد همَّت اليهود بهم ، فقذف الله في قلوبهم الرُّعب ، فانصرفوا { ولتكون } هزيمتهم وسلامتكم { آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً } يعني : طريق التَّوكُّل وتفويض الأمر إلى الله سبحانه في كلِّ شيء .
{ وأخرى } أَيْ : ومغانم أخرى { لم تقدروا عليها } يعني : فارس والرُّوم { قد أحاط الله بها } علم أنَّه يفتحها لكم .
{ ولو قاتلكم الذين كفروا } أَيْ : أهل مكَّة لو قاتلوكم عام الحديبية { لولوا الأدبار } لانهزموا عنك ، ولنصرت عليهم .
{ سنة الله } كسنَّة الله في النُّصرة لأوليائه .
{ وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة } مَنَّ الله سبحانه على المؤمنين بما أوقع من صلح الحديبية ، فكفَّهم عن القتال بمكَّة ، وذكر حُسن عاقبة ذلك في الآية الثَّانية . وقوله : { من بعد أن أظفركم عليهم } وذلك أنَّ رجالاً من قريش طافوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك العام ليصيبوا منهم ، فأُخذوا وأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم ، وكان ذلك سبب الصُّلح بينهم .

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

{ هم الذين كفروا } يعني : أهل مكَّة { وصدوكم عن المسجد الحرام } منعوكم من زيارة البيت { والهدي } ومنعوا الهدي { معكوفاً } محبوساً { أن يبلغ محله } منحره ، وكانت سبعين بدنةً . { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } بمكَّة { لم تعلموهم أن تطؤوهم } أَيْ : لولا أن تطؤوهم في القتال؛ لأنَّكم لم تعلموهم مؤمنين ، وهو وقوله : { بغير علم } { فتصيبكم منهم معرَّة } [ كفَّارةٌ و ] عارٌ وعيبٌ من الكافرين . يقولون : قتلوا أهل دينهم { ليدخل الله في رحمته } دينه الإِسلام { مَنْ يشاء } من أهل مكَّة قبل أن يدخلوها { لو تزيلوا } تميَّز عنهم هؤلاء المؤمنون { لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً } لأنزلنا بهم ما يكون عذاباً لهم أليماً بأيديكم .
{ إذْ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية } حين صدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } أَيْ : الوقار حين صالحوهم ، ولم تأخذهم من الحمية ما أخذهم فيلجُّوا ويقاتلوا . { وألزمهم كلمة التقوى } توحيد الله والإيمان به وبرسوله : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وقيل : يعني : بسم الله الرحمن الرحيم ، أبى المشركون أن يقبلوا هذا لمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاب الصُّلح بينهم ، وقالوا : اكتب باسمك اللَّهم ، فقال الله تعالى : { وكانوا أحقَّ بها وأهلها } أَيْ : المؤمنون؛ لأنَّ الله اختارهم للإيمان ، وكانوا أحقَّ بكلمة التَّقوى من غيرهم .
{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق . . . } الآية . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قبل خروجه عام الحديبية كأنَّه وأصحابه يدخلون مكَّة مُحلِّقين ومُقصِّرين غير خائفين ، فلمَّا خرج عام الحديبية كانوا قد وطنوا أنفسهم على دخول مكَّة لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا صدُّوا عن البيت راب بعضهم ذلك ، فأخبر الله تعالى أنَّ تلك الرُّؤيا صادقةٌ ، وأنَّهم يدخلونها إٍن شاء الله آمنين . وقوله : { فعلم ما لم تعلموا } علم الله تعالى أنًّ الصَّلاح كان في ذاك الصُّلح ، ولم تعلموا ذلك . { فجعل من دون ذلك } أَيْ : من دون دخولكم المسجد { فتحاً قريباً } وهو صلح الحديبية ، ولم يكن فتحٌ في الإسلام كان أعظم من ذلك؛ لأنَّه دخل في الإسلام في تلك السِّنين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر ، وقيل : يعني : فتح خيبر .
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } ليجعل دين الحقِّ ظاهراً على سائر الأديان عالياً عليها { وكفى بالله شهيداً } أنَّك مرسلٌ بالحقِّ ، ثمَّ حقَّق الله تلك الشَّهادة وبيَّنها .

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

{ محمد رسول الله والذين معه } من المؤمنين { أشداء } غلاظٌ { على الكفار رحماء بينهم } متوادُّون متعاطفون { تراهم ركعاً سجداً } في صلواتهم { يبتغون فضلاً من الله } أني يدخلهم الجنَّة { ورضواناً } أن يرضى عنهم { سيماهم } علامتهم { في وجهوههم من أثر السجود } يعني : نوراً وبياضاً في وجوههم يوم القيامة ، يُعرفون بذلك النُّور أنَّهم سجدوا في دار الدُّنيا لله تعالى . { ذلك مثلهم } صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه { في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } فراخه ونباته { فآزره } قوَّاه وأعانه ، أيْ : قوَّى الشَّطأ الزَّرع ، كما قوَّى أمر محمَّد وأصحابه ، والمعنى : أنَّهم يكونون قليلاً ثمَّ يكثرون ، وهذا مثل ضربه الله تعالى لنبيِّه عليه السَّلام إذ خرج وحده ، فأيَّده بأصحابه كما قوَّى الطَّاقة من الزرع بما ينبت حوله { فاستغلظ } فَغَلُظَ وقوِيَ . { فاستوى } ثمَّ تلاحق نباته وقام على { سوقه } جمع ساق { يعجب الزراع } بحسن نباته واستوائه { ليغيظ بهم الكفار } فعل الله تعالى ذلك بمحمَّد وأصحابه ليغيظ بهم أهل الكفر . { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } أَيْ : من أصحاب عليه السَّلام { مغفرة وأجراً عظيماً } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } أَيْ : لا تُقدِّموا خلاف الكتاب والسُّنَّة . وقيل : لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيُّ عليه السَّلام في الأضحى وقيل : لا تصوموا قبل صومه . نزلت في النَّهي عن صوم يوم الشَّكِّ ، والمعنى : لا تسبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ حتى يكون هو الذي يأمركم به { واتقوا الله } في مخالفة أمره { إنَّ الله سميع } لأقوالكم { عليم } بأحوالكم .
{ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ } نزلت في ثابت ابن قيس بن شماس ، وكان جهوريَّ الصَّوت ، وربَّما كان يُكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته ، فأُمروا بغضِّ الصَّوت عند مخاطبته { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } لا تُنزِّلوه منزلة بعضكم من بعضٍ ، فتقولوا : يا محمد ، ولكن خاطبوه بالنبوَّة والسَّكينة والإِعظام { أن تحبط أعمالكم } كي لا تبطل حسناتكم { وأنتم لا تشعرون } أنَّ خطابه بالجهر ورفع الصَّوت فوق صوته يُحبط العمل ، فلمَّا نزلت هذه الآية خفض أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صوتهما ، فما كلَّما النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ كأخي السِّرار ، فأنزل الله تعالى :
{ إنَّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } أَيْ : اختبرها وأخلصها للتَّقوى .
{ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } نزلت في وفد تميمٍ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفاخروه ، فنادوا على الباب : يا محمَّد ، اخرج إلينا؛ فإنَّ مدحنا زينٌ وإنَّ ذمنا شينٌ ، فقال الله تعالى : { أكثرهم لا يعقلون } أَيْ : إنَّهم جهَّال ، ولو عقلوا لما فاخروا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ ولو أنَّهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم } من إيذائهم إيَّاك بالنِّداء على بابك { والله غفورٌ رحيم } لمَنْ تاب منهم .
{ يا أيُّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصَّدِّقاً إلى قومٍ كانت بينه وبينهم تِرةٌ في الجاهليَّة ، فخاف أن يأتيهم ، وانصرف من الطَّريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنَّهم منعوا الصَّدقة وقصدوا قتلي ، فذلك قوله : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } أَيْ : فاعلموا صدقه من كذبه { أن تصيبوا } لئلا تصيبوا { قوماً بجهالة } وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم همَّ أن يغزوهم حتى تبيَّن له طاعتهم .

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

{ واعلموا أنَّ فيكم رسول الله } فلا تقولوا الباطل؛ فإنَّ الله يخبره { لو يطيعكم في كثير من الأمر } لو أطاع مثل هذا المخبر الذي أخبره بما لا أصل له { لعنتم } لأثمتم ولهلكتم { ولكنَّ الله حبب إليكم الإيمان } فأنتم تطيعون الله ورسوله ، فلا تقعون في العنت ، يعني بهذا : المؤمنين المخلصين ، ثمَّ أثنى عليهم فقال : { أولئك هم الراشدون } .
{ فضلاً من الله } أَيْ : الفضل من الله عليهم .
{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } نزلت في جمعين من الأنصار كان بينهما قتالٌ بالأيدي والنِّعال { فأصلحوا بينهما } بالدُّعاءِ إلى حكم كتاب الله . فإن بغت إحداهما على الأخرى [ أَيْ : تعدَّت إحداهما على الأخرى ] وعدلت عن الحقِّ { فقاتلوا } الباغية حتى ترجع إلى أمر الله في كتابه . { فإن فاءت } رجعت إلى الحقِّ { فأصلحوا بينهما } بحملهما على الإِنصاف { وأقسطوا } وأعدلوا { إنَّ الله يحب المقسطين } .
{ إنما المؤمنون أخوة } في الدين والولاية { فأصلحوا بين أخويكم } إذا اختلفا واقتتلا { واتقوا الله } في إصلاح ذات البين { لعلكم ترحمون } كي ترحموا به .
{ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم . . . } الآية . نهى الله تعالى المؤمنين والمؤمنات أن يسخر بعضهم من بعض { عسى أن يكونوا } أَيْ : المسخور منه { خيراً منهم } من السَّاخر ، ومعنى السُّخرية ها هنا الازدراء والاحتقار . { ولا تلمزوا أنفسكم } لا يعب بعضكم بعضاً { ولا تنابزوا بالألقاب } وهو أن يُدعى الرَّجل بلقبٍ يكرهه ، نهى الله تعالى عن ذلك . { بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان } يعني : إنَّ السُّخرية واللَّمز والتَّنابز فسوقٌ بالمؤمنين ، وبئس ذلك بعد الإِيمان .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنَّ بعض الظن إثم } وهو أنْ يظنَّ السُّوء بأهل الخير ، وبمن لا يُعلم منه فسقٌ . { ولا تجسسوا } لا تطلبوا عورات المسلمين ، ولا تبحثوا عن معايبهم { ولا يغتب بعضكم بعضاً } لا تذكروا أحدكم بشيءٍ يكرهه وإن كان فيه ذلك الشَّيء . { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } يعني : إنَّ ذكرك أخاك على غيبةٍ بسوءٍ كأكل لحمه وهو ميِّت ، لا يحسُّ بذلك . { فكرهتموه } إنْ كرهتم أكل لحمه ميتاً فاكرهوا ذكره بسوءٍ .
{ يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى } أَيْ : كلُّكم بنو أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدةٍ ، فلا تفاضل بينكم في النَّسب { وجعلناكم شعوباً } وهي رؤوس القبائل ، كربيعة ومضر { وقبائل } وهي دون الشُّعوب كبكر من ربيعة ، وتميم من مضر { لتعارفوا } ليعرف بعضكم بعضاً في قرب النَّسب وبعده لا لتتفاخروا بها ، ثمَّ أعلم أنَّ أرفعهم عنده منزلةً أتقاهم ، فقال : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم . . . } الآية .
{ قالت الأعراب آمنا } نزلت في نفرٍ من بني أسدٍ قدموا المدينة في سنةٍ جدبةٍ بذراريَّهم ، وأظهروا كلمة الشَّهادة ، ولم يكونوا مؤمنين في السِّرِّ ، فقال الله تعالى : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } أَيْ : لم تُصدِّقوا الله ورسوله بقلوبكم ولكن أظهرتم الطَّاعة مخافة القتل والسَّبي { ولما يدخل الإِيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله } ظاهراً وباطناً { لا يلتكم } لا ينقصكم { من } ثواب { أعمالكم شيئاً . . . } الآية . ثمَّ بيَّن حقيقة الإيمان والمؤمن .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)

{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } . أَيْ : هؤلاء هم الذين صدقوا في إيمانهم ، لا مَنْ أسلم خوف السَّيف ، ورجاء المنفعة ، فلمَّا نزلت الآيتان جاءت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحلفوا بالله أنَّهم مؤمنون ، وعلم الله غير ذلك منهم ، فأنزل الله تعالى :
{ قل أتعلمون الله بدينكم . . . } الآية . أيْ : أَتُعَلِّمونه بما أنتم عليه وهو يعلم ذلك .
{ يمنون عليك أن أسلموا } وذلك أنَّهم كانوا يقولون لنبيِّ الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالعيال والأثقال طوعاً ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلانٍ فأعطنا ، فقال الله تعالى : { قل لا تمنوا عليَّ } وقوله : { إن كنتم صادقين } أنَّكم مؤمنون ، أَيْ : لله المنَّةُ إن صدقتم في إيمانكم لا لكم .

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)

{ ق } قُضي ما هو كائنٌ [ إلى يوم القيامة ] { والقرآن المجيد } [ الكبير القدر و ] الكثير الخير .
{ بل عجبوا } يعني : كفَّار مكَّة { أن جاءهم منذر منهم } محمدٌ عليه السَّلام ، وهم يعرفون نسبه وأمانته { فقال الكافرون هذا شيء عجيب } يعني : هذا الإنذار الذي ينذرنا .
{ أإذا متنا وكنا تراباً } نُبعث؟ وهذا استفهامُ إنكارٍ ، وجوابه محذوفٌ ، ثمَّ انكروا ذلك أصلاً ، فقالوا : { ذلك } أَيْ : البعث { رجع بعيد } ردٌّ لا يكون . قال الله تعالى :
{ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } ما تأكل من لحومهم { وعندنا كتاب حفيظ } أَي : ْ اللَّوح المحفوظ من أن يدرس ويتغيَّر ، وفيه جميع الأشياء المقدَّرة .

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)

{ بل كذَّبوا بالحق } أَيْ : بالقرآن { لما جاءهم فهم في أمرٍ مريج } مُلتبسٍ عليهم ، مرَّةً يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : ساحرٌ ، ومرَّةً : شاعرٌ ومرَّةً : مُعلَّمٌ ، ثمَّ دلَّهم على قدرته فقال :
{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج } شقوق . وقوله :
{ من كلِّ زوج بهيج } أَيْ : من كلِّ لونٍ حسنٍ .
{ تبصرة } فعلنا ذلك تبصيراً وتذكيراً ودلالةً على قدرتنا { لكلِّ عبد منيب } يرجع إلى الله تعالى ، فيتفكَّر في قدرته . وقوله :
{ وحبَّ الحصيد } أَيْ : ما يُقتات من الحبوب .
{ والنخل باسقات } طوالاً { لها طلع نضيد } ثمرٌ متراكبٌ .
{ رزقاً للعباد } أَيْ : آتينا هذه الأشياء للرِّزق { وأحيينا به } بذلك الماء { بلدة ميتاً كذلك الخروج } من القبور .

وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)

{ وقوم تبع } وهو ملكٌ كان باليمن أسلم ، ودعا قومه إلى الإِسلام فكذَّبوه وقوله : { فحقَّ وعيد } وجب عليهم العذاب .
{ أفعيينا بالخلق الأول } أَيْ : أَعجزنا عنه حتى نعيى بالإعادة { بل هم في لبس } شكٍّ { من خلق جديد } أَيْ : البعث .
{ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } يحدثه قلبه { ونحن أقرب إليه } بالعلم { من حبل الوريد } وهو عرقٌ في العنق .
{ إذ يتلقى المتلقيان } أَيْ : المَلكان الحافظان يتلقَّيان ويأخذان ما يعمله الإنسان ، فيثبتانه . { عن اليمين وعن الشمال قعيد } قاعدان على جانبيه .
{ ما يلفظ } يتكلَّم { من قول إلاَّ لديه رقيب } حافظٌ { عتيد } حاضر .
{ وجاءت سكرة الموت } أَيْ : غمرته وشدَّته { بالحق } أَيْ : من أمر الآخرة حتى يراه الإنسان عياناً . { ذلك ما كنت منه تحيد } أَي : ْ تهرب وتروغ : يعني : الموت .
{ ونفخ في الصور } أَيْ : نفخة البعث . { وذلك يوم الوعيد } الذي يُوعد الله به الكفَّار .
{ وجاءت كلُّ نفس } إلى المحشر { معها سائق } من الملائكة يسوقها { وشهيد } شاهدٌ عليها بعملها ، وهو الأيدي والأرجل ، فيقول الله تعالى :
{ لقد كنت في غفلة هذا } اليوم { فكشفنا عنك غطاءك } فخلينا عنك سترك حتى عاينته { فبصرك اليوم حديد } فعلمك بما أنت فيه نافذٌ .
{ وقال قرينه } أَيْ : المَلك الموَّكل به : { هذا ما لديَّ عتيد } هذا الذي وكَّلتني به قد أحضرته ، فأحضرت ديوان أعماله ، فيقول الله للملَكين الموكَّلين بالإِنسان :
{ ألقيا في جهنم كلَّ كفار عنيد } عاصٍ مُعرضٍ عن الحقِّ .
{ مناع للخير } للزَّكاة المفروضة وكلِّ حقٍّ في ماله { معتد } ظالمٍ { مريب } شاكٍّ .

قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)

{ قال قرينه } من الشَّياطين : { ربنا ما أطغيته } ما أضللته { ولكن كان في ضلال بعيد } أَيْ : إنَّما طغى هو بضلاله ، وإنَّما دعوته فاستجاب لي ، كما قال في الإخبار عن الشَّيطان : { إلاَّ أنْ دعوتُكم فاستجبتُمْ لي } فحينئذٍ يقول الله :
{ لا تختصموا لدي وقد قدَّمت إليكم بالوعيد } حذَّرتكم العقوبة في الدُّنيا على لسان الرُّسل .
{ ما يبدل القول لدي } لا تبديل لقولي ولا خلف لوعدي { وما أنا بظلام للعبيد } فأعاقب بغير جرم .
{ يوم نقول لجهنم هل امتلأت } وهذا استفهامُ تحقيقٍ ، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ وعدها أن يملأها ، فلمَّا ملأها قال لها : { هل امتلأت وتقول هل من مزيد } أَيْ : هل بقي فيَّ موضعٌ لم يمتلىء ، أيْ : قد امتلأت .
{ وأزلفت الجنة } أُدنيت الجنَّة { للمتقين } حتى يروها { غير بعيد } منهم ، ويقال لهم :
{ هذا ما توعدون لكلِّ أوَّاب } رجَّاع إلى الله بالطًّاعة { حفيظ } حافظ لأمر الله .
{ من خشي الرحمن بالغيب } خاف الله ولم يره { وجاء بقلب منيب } مقبلٍ إلى طاعة الله . يقال لهم :
{ ادخلوها بسلام } بسلامةٍ من العذاب { ذلك يوم الخلود } لأهل الجنَّة فيها .
{ لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد } زيادةٌ ممَّا لم يخطر ببالهم . وقيل هو الرُّؤية .
{ وكم أهلكنا قبلهم } قبل أهل مكَّة { من قرنٍ } جماعةٍ من النَّاس { هم أشدُّ منهم بطشاً فَنَقَّبوا } طوَّفوا البلاد وفتَّشوا ، فلم يروا محيصاً من الموت .
{ إن في ذلك } الذي ذكرت { لذكرى } لعظةً وتذكيراً { لمن كان له قلب } أَيْ : عقلٌ { أو ألقى السمع } أَيْ : استمع القرآن { وهو شهيد } حاضر القلب . وقوله :
{ وما مسنا من لغوب } أَيْ : وما أصابنا تعبٌ وإعياءٌ ، وهذا ردٌّ على اليهود في قولهم : إنَّ الله تعالى استراح يوم السَّبت .
{ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك } صلِّ لله { قبل طلوع الشمس } أَيْ : صلاة الفجر { وقبل الغروب } صلاة الظهر والعصر .
{ ومن الليل فسبحه } أَيْ : صلاتي العشاء { وأدبار السجود } أَيْ : الرَّكعتين بعد المغرب .
{ واستمع } يا محمد { يوم ينادي المنادي } وهو إسرافيل عليه السَّلام يقول : أيَّتها العظام البالية ، واللُّحوم المُتمزِّقة ، إنَّ الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء { من مكان قريب } من السِّماء ، وهو صخرة بيت المقدس أقرب موضعٍ من الأرض إلى السَّماء .
{ يوم يسمعون الصيحة بالحق } أَيْ : نفخة البعث { ذلك يوم الخروج } من القبور .

يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

{ يوم تشقق الأرض عنهم } فيخرجون { سراعاً } .
{ وما أنت عليهم بجبار } بمسلِّطٍ يجبرهم على الإسلام ، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال { فذكِّر } فعظ { بالقرآن مَنْ يخاف وعيد } .

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)

{ والذاريات ذرواً } أي : الرِّياح التي تذرو التُّراب .
{ فالحاملات وقراً } وهي السَّحاب تحمل الماء .
{ فالجاريات يسراً } السُّفن تجري في البحر بيسرٍ { فالمقسمات أمراً } الملائكة تأتي بأمرٍ مختلفٍ من الخصب والجدب ، والمطر والموت ، والحوادث .
{ إن ما توعدون } من الخير والشَّرِّ ، والثَّواب والعقاب { لصادق } . أقسم الله بهذه الأشياء على صدق وعده .
{ وإنَّ الدين } الجزاء على الأعمال { لواقع } لكائنٌ .
{ والسماء ذات الحبك } الخَلْق الحسن .
{ إنكم } يا أهل مكَّة { لفي قول مختلف } في أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم .

يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)

{ يؤفك عنه } يُصرف عن الإيمان به { مَنْ أفك } صُرف عن الخير .
{ قتل الخراصون } لُعن الكذَّابون ، يعني : المُقتسمين .
{ الذين هم في غمرة } غفلةٍ { ساهون } لاهون .
{ يسألون أيان يوم الدين } متى يوم الجزاء؟ استهزاءً منهم . قال الله تعالى :
{ يوم هم على النار يفتنون } أي : يقع الجزاء يوم هم على النَّار يُفتنون يُحرَّقون ويُعذَّبون ، وتقول لهم الخزنة :
{ ذوقوا فتنتكم } عذابكم { هذا الذي كنتم به تستعجلون } في الدُّنيا .
{ إنَّ المتقين في جنات وعيون } .
{ آخذين ما آتاهم ربهم } من الثَّواب والكرامة { إنهم كانوا قبل ذلك } قبل دخولهم الجنَّة { محسنين } .
{ كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } كانوا ينامون قليلاً من اللَّيل .

وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)

{ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } وهو الذي لا يسأل النَّاس ولا يكتسب .
{ وفي الأرض آيات } دلالاتٌ على قدرة الله تعالى ووحدانيته { للموقنين } .
{ وفي أنفسكم } أيضاً آياتٌ من تركيب الخلق ، وعجائب ما في الآدمي من خلقه { أفلا تبصرون } ذلك .
{ وفي السماء رزقكم } أَي : الثَّلج والمطر الذي هو سبب الرِّزق والنَّبات من الأرض { وما توعدون } " ما " ابتداءٌ ، وخبره محذوفٌ على تقدير : وما توعدون من البعث والثَّواب والعقاب حقٌّ ، ودلَّ على هذا المحذوف قوله :
{ فوربِّ السماء والأرض إنَّه لحقٌّ مثل ما أنكم تنطقون } أَيْ : كما أنَّكم تتكلَّمون ، أي : إنَّه معلومٌ بالدَّليل كما إِنَّ كلامكم إذا تكلّمتم معلومٌ لكم ضرورةً أنَّكم تتكلَّمون ، و " مثلُ " رفع لأنَّه صفةٌ لقوله : " لحق " ، ومَنْ نصب أراد : إنَّه لحقّ حقاً مثلَ ما أنّكم تنطقون .
{ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } بأن خدمهم بنفسه .
{ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً } سلَّموا سلاماً { قال سلامٌ } عليكم { قوم منكرون } أي : أنتم قوم لا نعرفكم .
{ فراغ } فعدل ومال { إلى أهله } .

فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)

{ فأوجس منهم خيفة } أَيْ : وقع في نفسه الخوف منهم ، وقوله :
{ فأقبلت امرأته في صرَّة } أَيْ : أخذت تصيح بشدَّةٍ { فَصَكَّتْ } لطمت { وجهها وقالت } : أنا { عجوز عقيم } فكيف ألد؟
{ قالوا كذلك } كما اخبرناك { قال ربك } أي : نخبرك عن الله لا عن أنفسنا { إنَّه هو الحكيم العليم } يقدر أن يجعل العقيم ولوداً ، فلمَّا قالوا ذلك علم إبراهيم أنَّهم رسلٌ ، وأنَّهم ملائكة [ صلوات الله عليهم ] .
{ قال : فما خطبكم } أي : ما شأنكم وفيمَ أُرسلتم؟
{ قالوا إنا أُرسلنا إلى قومٍ مجرمين } يعنون قوم لوط .
{ لنرسل عليهم حجارة من طين } يعني : السِّجيل .
{ مسوَّمة عند ربك للمسرفين } مًعلَّمة على كلِّ حجرٍ منها اسم مَنْ يهلك به .
{ فأخرجنا مَنْ كان فيها } يعني : من قرى قوم لوطٍ { من المؤمنين } .
{ فلما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } يعني : بيت لوطٍ عليه السَّلام .
{ وتركنا فيها } بأهلاكهم { آية } علامة للخائفين تدلُّ على أنَّ الله أهلكهم .
{ وفي موسى } عطفٌ على قوله : " وفي الأرض " . { إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين } بحجَّةٍ واضحةٍ .
{ فتولى } فأعرض عن الإيمان { بركنه } مع جنوده وما كان يتقوَّى به . وقوله :
{ وهو مليم } أَيْ : أتى ما يُلام عليه .
{ وفي عاد } أيضاً آيةٌ { إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } وهي التي لا بركة فيها ، ولا تأتي بخيرٍ .
{ ما تذر من شيء أتت عليه إلاَّ جعلته كالرميم } كالنَّبت الذي قد تحطَّم .

وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

{ وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } إلى فناء آجالكم .
{ فعتوا عن أمر ربهم } عصوه { فأخذتهم الصاعقة } العذاب المهلك .
{ فما استطاعوا من قيام } أي : أن يقوموا بعذاب الله { وما كانوا منتصرين } أي : لم ينصرهم أحدٌ علينا .
{ وقوم نوح } وأهلكنا قوم نوحٍ قبل هؤلاء .
{ والسماء بنيناها بأيدٍ } بقوَّةٍ { وإنا لموسعون } لقادرون . وقيل : جاعلون بين السَّماء والأرض سعةً .
{ والأرض فرشناها } مهَّدناها لكم { فنعم الماهدون } نحن .
{ ومن كل شيء خلقنا زوجين } صنفين كالذَّكر والأنثى ، والحلو والحامض ، والنُّور والظُّلمة { لعلكم تذكرون } فتعلموا أنَّ خالق الأزواج فردٌ .
{ ففروا } من عذاب الله إلى طاعته .

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

{ كذلك } كما أخبرناك { ما أتى الذين من قبلهم } من قبل أهل مكَّة { من رسول إلاَّ قالوا ساحرٌ أو مجنون } .
{ أتواصوا به } أوصى بعضهم بعضاً بالتَّكذيب ، والألف للتَّوبيخ . { بل هم قوم طاغون } عاصون .
{ فتولًّ عنهم فما أنت بملوم } لأنَّك بلغت الرِّسالة .
{ وذكر } ذكِّرهم بأيَّام الله { فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين } .
{ وما خلقت الجن والإِنس إلاَّ ليعبدون } أي : إلاَّ لآمرهم بعبادتي وأدعم إليها . وقيل : أراد المؤمنين منهم ، وكذا هو في قراءة ابن عباس : " وما خلقت الجن والإِنس من المؤمنين إلاَّ ليعبدون " . { ما أريد منهم من رزق } أن يرزقوا أنفسهم أو أحداً من عبادي { وما أريد أن يطعمون } لأنِّي أنا الرَّزَّاق والمُطعم . وقوله :
{ المتين } أي : المُبالغ في القُوَّة .
{ فإنَّ للذين ظلموا } أَيْ : أهل مكَّة { ذنوباً } نصيباً من العذاب { مثل ذنوب } نصيب { أصحابهم } الذين أُهلكوا { فلا يستعجلون } إنْ أخَّرتهم إلى يوم القيامة .
{ فويلٌ للذين كفروا من يومهم الذين يوعدون } من يوم القيامة .

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)

{ والطور } أقسم الله تعالى بالجبل الذي كلَّم عليه موسى ، وهو جبلٌ بمدين اسمه زبير .
{ وكتاب مسطور } مكتوبٍ .
{ في رقّ } وهو الجلد الذي يكتب فيه { منشور } مبسوطٍ . أَيْ : دواوين الحفظة التي أثبتت فيها أعمال بني آدم .
{ والبيت المعمور } وهو بيتٌ في السَّماء بإزاء الكعبة تزوره الملائكة .
{ والسقف المرفوع } أي : السَّماء .

وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)

{ والبحر المسجور } المملوء .
{ إنَّ عذاب ربك لواقع } لنازلٌ كائنٌ .

يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)

{ يوم تمور السماء موراً } تتحرَّك وتضطرب وتدور . يعني : يوم القيامة .

الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)

{ الذين هم في خوض } باطلٍ { يلعبون } أي : تشاغلهم بكفرهم .
{ يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً } يُدفعون إليها دفعاً عنيفاً ، ويقال لهم :
{ هذه النار التي كنتم بها تكذبون } .
{ أفسحر هذا } الذي ترون { أم أنتم لا تبصرون } ؟ وهذا توبيخٌ لهم ، والمعنى : أتصدِّقون الآن عذاب الله .

فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)

{ فاكهين بما آتاهم ربهم } أَيْ : مُعجبين به .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)

{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } يريد : إنَّه يلحق الأولاد بدرجة الآباء في الجنَّة إذا كانوا على مراتب ، وكذلك الآباء بدرجة الأبناء لتقرَّ بذلك أعينهم ، فيلحق بعضهم بعضاً إذا اجتمعوا في الإيمان ، من غير أن ينقص من أجر مَنْ هو أحسن عملاً شيئاً بزيادته في درجة الأنقص عملاً ، وهو قوله : { وما ألتناهم } أَيْ : وما نقصناهم { من عملهم من شيء كلُّ امرىء بما كسب } بما عمل من خيرٍ أو شرٍّ { رهين } مرهونٌ يُؤخذ به .
{ وأمددناهم بفاكهة ولحم } أَيْ : زدناهم .
{ يتنازعون } يتناولون ويأخذ بعضهم من بعض { فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيم } لا يجري بينهم فيها باطلٌ ولا إثمٌ كما يجري بين شَرَبة الخمر في الدُّنيا .
{ ويطوف عليهم } بالخدمة { غلمان لهم كأنهم } في بياضهم وصفائهم { لؤلؤ مكنون } مخزونٌ مصونٌ .
{ وأقبل بعضهم على بعض } في الجنَّة { يتساءلون } عن أحوالهم التي كانت في الدُّنيا .
{ قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } خائفين من عذاب الله .
{ فمنَّ الله علينا } بالجنَّة { ووقانا عذاب السموم } عذاب سموم جهنم ، وهو نارها وحرارتها .

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)

{ فذكر } فذكِّرهم يا محمَّد الجنَّة والنَّار { فما أنت بنعمة ربك } برحمة ربّك وإكرامه إيَّاك بالنُّبوَّة { بكاهنٍ } تخبر بما في غدٍ من غير وحيٍ { ولا مجنون } كما تقولون .
{ أم يقولون } بل أيقولون : هو { شاعرٌ نتربَّص به ريب المنون } ننتظر به الموت فيهلك .
{ قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } حتى يأتي أمر الله فيكم .
{ أم تأمرهم أحلامهم } عقولهم { بهذا } أَيْ : بترك قبول الحقِّ من صاحب المعجزة { أم هم قوم طاغون } أَيْ : أم يكفرون طغياناً بعد ظهور الحقِّ .
{ أم يقولون تقوَّله } أَي : القرآن من قبل نفسه ، ليس كما يقولون { بل لا يؤمنون استكباراً } .
{ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } أنَّ محمداً يقوله من قبل نفسه .
{ أم خلقوا من غير شيء } أَيْ : لغير شيءٍ . يعني : أَخُلقوا عبثاً وسُدىً { أم هم الخالقون } أنفسهم .

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)

{ أم عندهم خزائن ربك } ما في خزائن ربِّك من العلم بما يكون في غدٍ { أم هم المسيطرون } المُسلَّطون الجبَّارون .
{ أم لهم سلَّم } مرقىً إلى السَّماء { يستمعون فيه } أنَّ الذي هم عليه حقٌّ { فليأت مستمعهم } إن ادَّعوا ذلك { بسلطانٍ مبين } بحجَّةٍ واضحةٍ ، ثمَّ سفَّه أحلامهم في جعلهم البنات لله ، فقال :
{ أم له البنات ولكم البنون } .
{ أم تسألهم أجراً } على ما جئتهم به { فهم من مغرم } غُرمٍ { مثقلون } مجهودون ، والمعنى : إنَّ الحجَّة واجبةٌ عليهم من كلِّ جهةٍ .
{ أم عندهم الغيب } علم ما يؤول إليه أمر محمد صلى الله عليه وسلم { فهم يكتبون } يحكمون بأنَّه يموت فتستريح منه .
{ أم يريدون كيداً } مكراً بك في دار النَّدوة { فالذين كفروا هم المكيدون } المجزيون بكيدهم؛ لأنَّ الله تعالى حفظ نبيَّه عليه السَلام من مكرهم ، وقُتلوا هم ببدر .

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)

{ وإن يروا كسفاً } قطعاً { من السماء ساقطاً يقولون } لعنادهم وفرط شقاوتهم : { سحاب مركوم } بعضه على بعض . وهذا جوابٌ لقولهم : { فأسقط علينا كسفاً من السماء } أخبر الله تعالى أنَّه لو فعل ذلك لم يؤمنوا .
{ فذرهم حتى يلاقو يومهم الذي فيه يصعقون } يموتون ، ثمَّ أخبر أنَّه يعجِّل لهم العذاب في الدُّنيا .

وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

{ وإنَّ للذين ظلموا } كفروا { عذاباً دون ذلك } قبل موتهم ، وهو الجوع والقحط سبع سنين ، ثمَّ أمره بالصَّبر فقال :
{ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } بحيث نراك ونحفظك ونرعاك { وسبح بحمد ربك حين تقوم } من مجلسك قل : سبحانك اللهم وبحمدك .
{ ومن الليل } فسبحه ، أَيْ : صلِّ له صلاتي العشاء { وإدبار النجوم } أَيْ : ركعتي الفجر

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)

{ والنجم إذا هوى } أي : والثُّريا إذا سقطت . وقيل : القرآن إذا نزل مُتفرِّقاً نجوماً .
{ ما ضلَّ صاحبكم } محمد عليه السَّلام { وما غوى } .
{ وما ينطق عن الهوى } ما الذي يتكلَّم به ممَّا قاله بهواه .
{ إن هو } ما هو { إلاَّ وحيٌ يوحى } إليه .
{ علمه شديد القوى } أَيْ : جبريل عليه السَّلام .
{ ذو مرَّة } قوَّةٍ شديدةٍ { فاستوى } جبريل عليه السَّلام في صورته التي خلقه الله عزَّ وجلَّ عليها .
{ وهو بالأفق الأعلى } وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يريه نفسه على صورته ، فواعده ذلك بحراء ، فطلع له جبريل عليه السَّلام من المشرق ، فسدَّ الأفق إلى المغرب .
{ ثم دنا فتدلى } هذا من المقلوب ، أَيْ : ثمَّ تدلى أَيْ : نزل من السَّماء ، فدنا من محمَّد عليه السَّلام .

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)

{ فكان } منه في القرب على قدر { قوسين أو أدنى } والمعنى : أنَّه بعد ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظمه ، وهاله ذلك ردَّه الله تعالى إلى صورة آدميٍّ حتى قرب من النبيِّ صلى الله عليه وسلم للوحي ، وذلك قوله :
{ فأوحى إلى عبده } محمد صلى الله عليه وسلم { ما أوحى } الله عزَّ وجلَّ إلى جبريل عليه السَّلام .
{ ما كذب الفؤاد ما رأى } أَيْ : لم يكذب قلب محمَّد عليه السَّلام فيما رأى ليلة المعراج ، وذلك أنَّ الله جعل بصره لفي فؤاده حتى رآه ، وحقَّق الله تعالى تلك الرُّؤية وقال : إنها كانت رؤية حقيقية ولم تكن كذباً .
{ أفتمارونه على ما يرى } أفتجادلونه في أنه رأى الله عزَّ وجلَّ .
{ ولقد رآه } ربَّه . وقيل : رأى جبريل على صورته التي خلق عليها { نزلة أخرة } مرَّة أخرى .
{ عند سدرة المنتهى } وهي شجرةٌ إليها ينتهي علم الخلق ، وما وراءها غيبٌ لا يعلمه إلاَّ الله عزَّ وجلَّ .
{ عندها جنة المأوى } وهي جنَّةٌ تصير إليها أرواح الشُّهداء .
{ إذ يغشى السدرة ما يغشى } قيل : يغشاها فراش من ذهب . وقيل : الملائكة أمثال الغربان .
{ ما زاغ البصر وما طغى } هذا وصفٌ أدبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، أَيْ : لم يمل بصره عمَّا قصد له ، ولا جاوز إلى ما أُمر به .

لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)

{ لقد رأى من آيات ربه الكبرى } أَيْ : ما رأى من الآيات العظام تلك اللَّيلة .
{ أفرأيتم اللات والعُزَّى } .
{ ومناة الثالثة الأخرى } هذه أصنامٌ من حجارةٍ كانت في جوف الكعبة . والمعنى أخبرونا عن هذه الإناث التي تعبدونها ، وتزعمون أنَّها بنات الله ، أللَّهِ هي ، وأنتم تختارون الذُّكران ، وذلك قوله :
{ ألكم الذكر وله الأنثى } .
{ تلك إذاً قسمة ضيزى } جائرةٌ ناقصةٌ .
{ إن هي } ما هذه الأوثان { إلاَّ أسماء } لا حقيقة لها { سميتموهم أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها } بعبادتها { من سلطان } حجَّةٍ وبرهانٍ . { إن يتبعون } ما يتَّبعون في عبادتها وأنَّها شفعاء لهم { إلاَّ الظن وما تهوى الأنفس } يعني : إنَّ ذلك شيء ظنُّوه ، وأمرٌ سوَّلت لهم أنفسهم { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } البيان على لسان محمَّد صلى الله عليه وسلم .
{ أم للإِنسان ما تمنى } أَيظنُّون أنَّ لهم ما تمنَّوا من شفاعة الأصنام؟ ليس كما تمنَّوا . بل

فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)

{ فللَّه الآخرة والأولى } فلا يجري في الدَّارين إلاَّ ما يريد .
{ وكم من ملك في السموات } هو أكرم على الله من هذه الأصنام { لا تغني شفاعتهم } عن أحدٍ { شيئاً إلاَّ من بعد أن يأذن الله } لهم في ذلك { لمن يشاء ويرضى } كقوله : { ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى } { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } يقولون : إنَّهم بنات الله .
{ وما لهم به من علم إن يتبعون إلاَّ الظن وإنَّ الظن لا يغني من الحق شيئاً } إنَّ ظنَّهم لا يدفع عنهم من العذاب شيئاً .
{ فأعرض } يا محمَّد { عن من تولَّى عن ذكرنا } أعرضَ عن القرآن { ولم يرد إلاَّ الحياة الدنيا } .
{ ذلك مبلغهم من العلم } يقول : ذلك نهاية علمهم أَنْ آثروا الدُّنيا على الآخرة .

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)

{ إلاَّ اللمم } يعني : صغار الذُّنوب ، كالنَّظرة والقُبلة ، وقوله : { إذ أنشأكم من الأرض } يعني : خلق أباكم من التُّراب { وإذ أنتم أجنَّة } جمع جنين . { فلا تزكوا أنفسكم } لا تمدحوها { هو أعلم بمن اتقى } عمل حسنةً .
{ أفرأيت الذي تولى } أعرض عن الإيمان ، يعني : الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعض المشركين على ذلك فقال : إنّي أخشى عذاب الله ، فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه أنْ يتحمَّل عنه عذاب الله ، فرجع في الشِّرك وأعطى صاحبه الضَّامن من بعض ما كان ضمن له ، ومنعه الباقي ، وذلك قوله :
{ وأعطى قليلاً وأكدى } أَيْ : قطع ذلك ومنعه .
{ أعنده علم الغيب فهو يرى } ما غاب عنه من أمر الآخرة ، حتى علم أنَّ غيره يحمل عنه العذاب .
{ أم لم ينبأ بما في صحف موسى } أسفار التَّوراة .
{ و } صحف . { إبراهيم الذي وفَّى } أكمل ما أُمر به وأتمَّه ، ثمَّ بيَّن ذلك فقال :
{ ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى } أَيْ : لا تؤخذ نفسٌ بمأثم غيرها .
{ وإن ليس للإِنسان إلاَّ ما سعى } عمل لآخرته .
{ وإنَّ سعيه } عمله { سوف يرى } في ميزانه من خيرٍ وشرٍّ .
{ ثم يجزاه } يجزى عليه { الجزاء الأوفى } الأتمَّ .
{ وأنَّ إلى ربك المنتهى } المصير والمرجع .
{ وأنه هو أضحك } مَنْ شاء من خلقه { وأبكى } مَنْ شاء منهم .
{ وأنه هو أمات } في الدُّنيا { وأحيا } للبعث .

مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)

{ إذا تمنى } أَيْ : تصبُّ في الرَّحم .
{ وأنَّ عليه النشأة الأخرى } الخلق الآخر بعد الموت .
{ وأنه هو أغنى } بالمال { وأقنى } أرضى بما أعطى . وقيل : أقنى : أعطى أصول الأموال وما يتَّخذ فيه قنيةً .
{ وأنَّه هو رب الشعرى } وهي كوكبٌ خلف الجوازاء كانت تُعبد في الجاهليَّة .
{ وأنه أهلك عاداً الأولى } قوم هود .

وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

{ والمؤتفكة } قرى قوم لوط { أهوى } أسقطها إلى الأرض بعد رفعها .
{ فغشَّاها ما غشَّى } ألبسها العذاب والحجارة .
{ فبأي آلاء ربك تتمارى } بأيِّ نِعَم ربِّك التي تدلُّ على توحيده وقدرته تتشكَّكُ أيُّها الإنسان؟
{ هذا } محمَّدٌ { نذير من النذر الأولى } أَيْ : هو رسولٌ أُرسل إليكم كما أُرسل مَنْ قبله من الرُّسل .
{ أزفت الآزفة } قربت القيامة .
{ ليس لها من دون الله كاشفة } لا يكشف عنها إلاَّ الله تعالى ، كقوله : { لا يجلِّيها لوقتها إلا هو } { أفمن هذا الحديث } أي : القرآن { تعجبون } .
{ وتضحكون ولا تبكون } .
{ وأنتم سامدون } لاهون غافلون .
{ فاسجدوا لله واعبدوا } معناه : فاسجدوا لله واعبدوا الذي خلق السَّموات والأرض ، ولا تسجدوا للأصنام التي ذكرت في هذه السُّورة .

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)

{ اقتربت الساعة } دنت القيامة { وانشقَّ القمر } انفلق بنصفين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنَّ أهل مكَّة سألوه آيةً ، فأراهم القمر فلقتين حتى رأوا حراءً بينهما ، فأخبر الله تعالى أنَّ ذلك من علامات قرب السَّاعة .
{ وإن يروا } يعني : أهل مكَّة { آية } تدلُّ على صدق محمد صلى الله عليه وسلم { يعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمر } ذاهب باطلٌ يذهب . وقيل : محكمٌ شديدٌ . وقوله :
{ وكلُّ أمر مستقر } أَيْ : يستقرُّ قرار تكذيبهم وقرار تصديق المؤمنين . يعني : عند ظهور الثَّواب والعقاب .
{ ولقد جاءهم } جاء أهل مكَّة { من الأنباء } أخبار إهلاك الأمم المُكذِّبة { ما فيه مزدجر } متناهى ومنتهى .
{ حكمة بالغة } أَيْ : ما أتاهم من أخبار مَنْ قبلهم حكمةٌ بالغةٌ تامَّةٌ ، ليس فيها نقصانٌ ، أي : القرآن ، وذلك أنَّ تلك الأخبار قُصَّت عليهم في القرآن { فما تغني النذر } جمع نذير ، أَيْ : فليست تغني عن التَّكذيب .
{ فتولَّ عنهم } ، وتمَّ الكلام ، ثمَّ قال : { يوم يدع الداعي إلى شيء نكر } مُنكرٍ ، وهو النَّار .
{ خشعاً } ذليلةً { أبصارهم يخرجون من الأجداث } القبور { كأنهم جراد منتشر } كقوله : { كالفراش المبثوث } { مهطعين } مُقبلين ناظرين { إلى الداعي } إلى مَنْ يدعوهم إلى المحشر { يقول الكافرون هذا يوم عسر } شديدٌ .
{ كذبت قبلهم } قبل أهل مكَّة { قوم نوح فكذَّبوا عبدنا } نوحاً { وقالوا : مجنون وازدجر } زُجر [ ونُهِرَ ] ونُهي عن دعوته ومقالته .
{ فدعا ربَّه أني مغلوب } مقهورٌ { فانتصر } فانتقم لي منهم .
{ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } سائلٍ .

وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

{ وفجرنا الأرض عيوناً } فتحناها بعيون الماء { فالتقى الماء } ماءُ السَّماء وماءُ الأرض { على أمر قد قدر } قُضي عليهم في أمِّ الكتاب .
{ وحملناه } أَيْ : نوحاً { على ذات ألواح } وهي السَّفينة { ودسر } يعني : ما تُشدَّ به السَّفينة من المسامير والشُّرُط .
{ نجري بأعيننا } بمرأىً منا وحفظٍ { جزاءً لمن كان كفر } يعني : نوحاً ، أَيْ : فعلنا ذلك ثواباً له إذ كُفر به وكُذِّب .
{ ولقد تركناها آية } تركنا تلك القِصَّة آيةً : علامةً؛ ليُغتبر بها { فهل من مدَّكر } مُتَّعظٍ بها .
{ فكيف كان عذابي } استفهام معناه التَّقرير { ونذر } أي : إنذاري .
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } سهَّلناه للحفظ ، فليس يحفظ كتابٌ من كتب الله ظاهراً إلاَّ القرآن { فهل من مدكر } مُتَّعظ بمواعظه .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7