كتاب : معانى القرآن للفراء
المؤلف : أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء

{وَمَنِ اتَّبَعَنِ} للعرب فى الياءات التى فى أواخر الحروف - مثل اتبعن، وأكرمن، وأهانن، ومثل قوله "دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ - وَقَدْ هَدَانِ" - أن يحذفوا الياء مرة ويثبتوها مرة. فمن حذفها اكتفى بالكسرة التى قبلها دليلا عليها. وذلك أنها كالصلة؛ إذ سكنت وهى فى آخر الحروف واستثقلت فحذفت. ومن أتمهّا فهو البناء والأصل. ويفعلون ذلك فى الياء وإن لم يكن قبلها نون؛ فيقولون هذا غلامى قد جاء، وغلامِ قد جاء؛ قال الله تبارك وتعالى {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ} فى غير نداء بحذف الياء. وأكثر ما تحذف بالإضافة فى النداء؛ لأن النداء مستعمل كثير فى الكلام فحذف فى غير نداء. وقال إبراهيم {رَبَّنَا وتَقَبَّل دُعَاءِ} بغير ياء، وقال فى سورة الملك {كَيْفَ كَانَ نَكِير} و "نذِير" وذلك أنهن رءوس الآيات، لم يكن فى الآيات قبلهن ياء ثانية فأُجرين على ما قبلهن؛ إذ كان ذلك من كلام العرب.
ويفعلون ذلك فى الياء الأصلية؛ فيقولون: هذا قاض ورام وداع بغير ياء، لا يثبتون الياء فى شىء من فاعِل. فإذا أدخلوا فيه الألف واللام قالوا بالوجهين؛ فأثبتوا الياء وحذفوها. وقال الله {من يهدِ الله فهو المهتدِ} فى كل القرآن بغير ياء. وقال فى الأعراف "فهو المهتدى" وكذلك قال {يَوْمَ يُنَادِى المُنَادِ} و {أُجيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ}. وأحبّ ذلك إلىّ أن أثبت الياء فى الألف واللام؛ لأن طرحها فى قاض ومفترٍ وما أشبهه بما أتاها من مقارنة نون الإعراب وهى ساكنة والياء ساكنة، فلم يستقم جمع بين ساكنين، فحذفت الياء لسكونها. فإذا أدخلت الألف واللام لم يجز إدخال النون، فلذلك أحببت إثبات الياء. ومن حذفها فهو يرى هذه العلّة: قال: وجدت الحرف بغير ياء قبل أن تكون فيه الألف واللام، فكرهت إذ دخلت أن أزيد فيه ما لم يكن. وكلّ صواب.

وقوله {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} وهو استفهام ومعناه أمر. ومثله قول الله {فهل أَنْتُم مُنتهون} استفهام وتأويله: انتهوا. وكذلك قوله {هل يَسْتَطِيع ربُّك} وهل تستطيع رَبَّك إنما [هو] مسألة. أوَ لا ترى أنك تقول للرجل: هل أنت كافّ عنا؟ معناه: اكفف، تقول للرجل: أين أين؟: أقِم ولا تبرح. فلذلك جوزى فى الاستفهام كما جوزى فى الأمر. وفى قراءة عبدالله "هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. آمِنوا" ففسّر (هل أدلكم) بالأمر. وفى قراءتنا على الخبر. فالمجازاة فى قراءتنا على قوله (هل أدلكم) والمجازاة فى قراءة عبدالله على الأمر؛ لأنه هو التفسير.

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ...}
تقرأ: ويقتلون، وهى فى قراءة عبدالله "وقاتلوا" فلذلك قرأها من قرأها (يقاتلون), وقد قرأ بها الكسائىّ دَهْراً (يقاتلون) ثم رجع، وأحسبه رآها فى بعض مصاحف عبدالله {وقَتَلوا} بغير الألف فتركها ورجع إلى قراءة العامّة؛ إذ وافق الكتاب فى معنى قراءة العامّة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ...}

قيلت باللام. و (فى) قد تصلح فى موضعها؛ تقول فى الكلام: جُمِعوا لِيوم الخميس. وكأنّ اللام لفعل مضمر فى الخميس؛ كأنهم جُمِعوا لِمَا يكون يوم الخميس. وإذا قلت: جمعوا فى يوم الخميس لم تضمِر فعلا. وفى قوله: {جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} أى للحساب والجزاء.

{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ...}
{اللهم} كلمة تنصبها العرب. وقد قال بعض النحويين: إنما نصبت إذ زيدت فيها الميمان لأنها لا تنادى بيا؛ كما تقول: يا زيد، ويا عبدالله، فجعلت الميم فيها خَلَفا من يا. وقد أنشدنى بعضهم:
وما عليكِ أن تقولى كُلَّما * صلَّيتِ أو سبَّحتِ يا اللهمَّ ما
* اُردُدْ علينا شيخنا مسلما *
ولم نجد العرب زادت مثل هذه الميم فى نواقص الأسماء إلا مخفَّفة؛ مثل الفم وابنم وهم، ونرى أنها كانت كلمة ضمّ إليها؛ اُمّ، تريد: يا ألله اُمّنا بخير، فكثرت فى الكلام فاختلطت. فالرفعة التى فى الهاء من همزة أُمّ لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. ونرى أن قول العرب: (هَلُمَّ إلينا) مثلها، إنما كانت (هل) فضمّ إليها أُمّ فتركت على نصبها. ومن العرب من يقول إذا طرح الميم: يا ألله اغفر لى، ويا الله اغفر لى، فيهمزون ألفها ويحذفونها. فمن حذفها فهو على السبيل؛ لأنها ألف ولام مثل الحارث من الأسماء. ومن همزها توهّم أنها من الحرف إذ كانت لا تسقط منه؛ أنشدنى بعضهم:
مباركٌ هُوّ ومَن سمَّاه * على اسمك اللهمَّ يا ألله
وقد كثرت (اللهم) فى الكلام حتى خُفِّفت ميمها فى بعض اللغات؛ أنشدنى بعضهم:
كَحَلْفَةٍ من أبى رياح * يسمعها اللهمَ الكُبار
وإنشاد العامّة: لاهه الكبار. وأنشدنى الكسائىّ:
* يسمعها الله والله كبار *

وقوله تبارك وتعالى: {تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}. (إذا رأيت من تشاء مع من تريد من تشاء أن تنزِعه منه). والعرب تكتفى بما ظهر فى أوّل الكلام ممّا ينبغى أن يظهر بعد شئت. فيقولون: خذ ما شئت، وكن فيما شئت. ومعناه فيما شئت أن تكون فيه. فيحذف الفعل بعدها؛ قال تعالى: "اعملوا ما شِئتم" وقال تبارك وتعالى {فى أىّ صورةٍ مّا شاء ركّبك} والمعنى -والله أعلم -: فى أىّ صورة شاء أن يركّبك ركّبك. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلاَ إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شَاءَ الله} وكذلك الجزاء كله؛ إن شئت فقم، وإن شئت فلا تقم؛ المعنى: إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت ألاَّ تقوم فلا تقم. وقال الله {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فهذا بيّن أنّ المشيئة واقعة على الإيمان والكفر، وهما متروكان. ولذلك قالت العرب: (أَيُّها شئت فلك) فرفعوا أيّا لأنهم أرادوا أيُّها شئت أن يكون لك فهو لك. وقالوا (بِأيِّهم شئت فمرّ) وهم يريدون: بأيّهم شئت أن تمرّ فمرّ.

{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

وقوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ...}
جاء التفسير أنه نقصان الليل يولَج النهار، وكذلك النهار يولَج فى الليل، حتى يتناهى طولُ هذا وقِصَر هذا.
وقوله {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} ذُكر عن ابن عباس أنها البيضة: ميتة يخرج منها الفرخ حيّا، والنُطْفة: ميتة يخرج منها الولد.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }

وقوله: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ...}
نهى، ويُجزم فى ذلك. ولو رُفع على الخبر كما قرأ من قرأ: {لاَ تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِها} . وقوله {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} هى أكثر كلام العرب، وقرأه القرّاء. وذكِر عن الحسن ومجاهد أنهما قرءا "تَقِيَّة" وكلّ صواب.

{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {يَعْلَمْهُ اللَّهُ...}
جزم على الجزاء. {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} رفع على الاستئناف؛ كما قال الله فى سورة براءة {قاتِلوهم يعذِّبْهم الله} فجزم الأفاعيل، ثم قال {ويتوبُ الله على من يشاء} رفعا على الائتناف. وكذلك قوله {فإن يشأ الله يختِمْ على قلبِك} ثم قال {ويمح الله الباطِل} ويَمْحُ فى نِيَّة رفع مستأنفة وإن لم تكن فيها واو؛ حذفت منها الواو كما حذفت فى قوله {سندعُ الزّبانية}. وإذا عطفت على جواب الجزاء جاز الرفع والنصب والجزم. وأمّا قوله {وإن تبدوا ما فِى أنفسِكم أو تخفوه يحاسِبْكم بِهِ الله فيغفِرُ} وتقرأ جزما على العطف ومسكَّنة تشبه الجزم وهى فى نية رفع تدغم الراء من يغفر عند اللام، والباء من يعذب عند الميم؛ كما يقال {أرَأَيْتَ الذِى يُكذِّب بِالدّين} وكما قرأ الحسن {شهر رمضان}.

{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }

وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً...}
ما فى مذهب الذى. ولا يكون جزاء لأن (تجد) قد وقعت على ما.
وقوله {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ} فإنك تردّه أيضا على (ما) فتجعل (عملت) صلة لها فى مذهب رفع لقوله {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا} ولو استأنفتها فلم توقع عليها (تجد) جاز الجزاء؛ تجعل (عملت) مجزومة. ويقول فى تودّ: تودَّ بالنصب وتودِّ. ولو كان التضعيف ظاهر لجاز تَوْدَدْ. وهى فى قراءة عبدالله "وما عملت من سوء ودَّت" فهذا دليل على الجزم، ولم أسمع أحدا من القراء قرأها جزما.
المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ...}
يقال اصطفى دينهم على جميع الأديان؛ لأنهم كانوا مسلمين، ومثله مما أضمر فيه شىء فأُلقِى قوله {واسألِ القرية التِى كنا فيها}. ثم قال {ذرية بعضها مِن بعضٍ} فنصب الذرّية على جهتين؛ إحداهما أن تجعل الذرّية قطعا من الأسماء قبلها لأنهن معرفة. وإن شئت نصبت على التكرير، اصطفى ذرّية بعضها من بعض، ولو استأنفت فرفعت كان صوابا.

{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

وقوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً...}
لبيت المقدس: لأ أشغله بغيره.

{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ...}
قد يكون من إخبار مريم فيكون "والله أعلم بِما وضعْتُ" يسكن العين، وقرأ بها بعض القراء، ويكون من قول الله تبارك وتعالى، فتجزم التاء؛ لانه خبرعن أنثى غائبة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

وقوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا...}
من شدّد جعل زكريا في موضع نصب؛ كقولك: ضمَّنها زكريا, ومن خفف الفاء جعل زكرياء فى موضع رفع. وفى زكريا ثلاث لغات: القصر فى ألِفه, فلايستبِين فيها رفع ولا نصب ولا خفض, وتمدّ ألفه فتنصب وترفع بلا نون؛ لأنه لا يُجْرَى, وكثير من كلام العرب أن تحذف المدّة والياء الساكنة فيقال: هذا زكرىّ قد حاء فيُجْرَى؛ لأنه يشبه المنسوب من أسماء العرب.

{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ }

وقوله: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً...}
الذرّية جمع، وقد تكون فى معنى واحد. فهذا من ذلك؛ لأنه قد قال: {فهب لِى مِن لدنك ولِيا} ولم يقل أولياء. وإنما قيل "طيبة" ولم يقل طيبا لأن الطيبة أُخرِجت على لفظ الذرّية فأنثت لتأنيثها، ولو قيل ذرّية طيبا كان صوابا. ومثله من كلام العرب قول الشاعر:

أبوك خليفةٌ وَلَدتْه أخرى * وأنت خليفة ذاك الكمال
فقال (أخرى) لتأنيث اسم الخليفة، والوجه أن تقول: وَلَدَه آخر. وقال آخر.
فما تزْدَرِى من حَيَّة جَبَليّةٍ * سُكَاتٍ إذا ماعَضّ ليس بأدْرَدَا
فقال: جَبَليّة، فأنّث لتأنيث اسم الحيّة، ثم ذكّر إذ قال: إذا ما عضَّ ولم يقل: عضّت. فذهب إلى تذكير المعنى. وقال الآخر:
تَجوبُ بنا الفلاةَ إِلى سعِيدٍ * إذا ما الشّاةُ فى الأَرطَاة قالا
ولا يجوز هذا النحو إلا فى الاسم الذى لا يقع عليه فلان؛ مثل الدابّة والذرّية والخليفة؛ فإذا سميت رجلا بشىء من ذلك فكان فى معنى فلان لم يجز تأنيث فعله ولا نعتِه. فتقول فى ذلك: حدّثنا المغيرة الضّبىّ، ولا يجوز الضّبيّة. ولا يجوز أن تقول: حدّثَتْنا؛ لأنه فى معنى فلان وليس فى معنى فلانة. وأمّا قوله:
وعنترةُ الفلحاء جاء مُلأَّماً * كأنَّهُ فِنْدٌ من عَمَاية أَسود
فإنه قال: الفلحاء فنعته بشَفَته. قال: وسمعت أبا ثرْوان يقول لرجل من ضبَّة وكان عظيم العينين: هذا عينان قد جاء، جعله كالنعت له. وقال بعض الأعراب لرجل أقصم الثنِيَّة: قد جاءتكم القَصْماء، ذهب إلى سِنّه.

{ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ }

وقوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ...}

يقرأ بالتذكير والتأنيث. وكذلك فِعْل الملائكة وما أشبههم من الجمع: يؤنّث ويذكّر. وقرأت القراء "يعرج الملائكة، وتعرج" و "تتوفاهم - و - يتوفاهم الملائكة" وكل صواب. فمن ذكّر ذهب إلى معنى التذكير، ومن أنَّث فلِتأنيث الاسم، وأن الجماعة من الرجال والنساء وغيرهم يقع عليه التأنيث. والملائِكة فى هذا الموضع جبريل صلّى الله عليه وسلم وحده. وذلك جائِز فى العربيّة: أن يخبر عن الواحد بمذهب الجمع؛ كما تقول فى الكلام: خرج فلان فى السُفُن, وإنما خرج فى سفينة واحدة، وخرج على البغال، وإنما ركب بغلا واحدا. وتقول: مِمَّن سمعت هذا الخبر؟ فيقول: من الناس, وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قال الله تبارك وتعالى: {وإذا مَسَّ النّاسَ ضُرّ} ، {وإذا مسَّ الإنسان ضر} ومعناهما والله أعلم واحد: وذلك جائِز فيما لم يُقصَد فيه قصدُ واحدٍ بعينه.

وقوله {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ} تقرأ بالكسر. والنصب فيها أجود فى العربيّة فمن فتح (أنّ) أوقع النداء عليها؛ كأنه قال: نادَوه بذلك أن الله يبشرك. ومن كسر قال: النداء فى مذهب القول، والقولُ حكاية. فاكسر إنّ بمعنى الحكاية. وفى قراءة عبدالله "فناداه الملائكة وهو قائم يصلِّى فى المحراب يا زكريا إن الله يبشرك" فإذا أُوقع النداء على منادىً ظاهر مثل (يا زكريا) وأشباهه كسرت (إن) لأن الحكاية تخلص، إذا كان ما فيه (يا) ينادَى بها، لا يخلص إليها رفع ولا نصب؛ ألا ترى أنك تقول: يا زيد إنك قائم، ولا يجوز يا زيد أنك قائم. وإذا قلت: ناديت زيدا أنه قائم فنصبت (زيدا) بالنداء جاز أن توقع النداء على (أنّ) كما أوقعته على زيد. ولم يجز أن تجعل إنّ مفتوحة إذا قلت يا زيد؛ لأن زيدا لم يقع عليه نصب معروف. وقال فى طه: {فلّما أتاها نودِى يا موسى إِنى أنا ربك} فكُسِرت (إِنى). ولو فُتحت كان صوابا من الوجهين؛ أحدهما أن تجعل النداء واقعا على (إنّ) خاصّة لا إضمار فيها، فتكون (أنّ) فى موضع رفع. وإن شئت جعلت فى (نودى) اسم موسى مضمرا، وكانت (أنّ) فى موضع نصب تريد: بأنى أنا ربك. فإذا خلعت الباء نصبته. فلو قيل فى الكلام: نودى أنْ يا زيد فجعلت (أن يا زيد) [هو المرفوع بالنداء] كان صوابا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدّقت الرؤيا}.
فهذا ما فى النداء إذا أوقعت (إن) قيل يا زيد، كأنك قلت: نودى بهذا النداء إذا أوقعته على اسم بالفعل فتحت أن وكسرتها. وإذا ضممت إلى النداء الذى قد أصابه الفعل اسما منادىً فلك أن تُحدِث (أن) معه فتقول ناديت أن يا زيد، فلك أن تحذفها من (يا زيد) فتجعلها فى الفعل بعده ثم تنصبها. ويجوز الكسر على الحكاية.

ومما يقوّى مذهب من أجاز "إن الله يبشرك" بالكسر على الحكاية قوله: {ونادَوا يا مالك ليقض علينا ربك} ولم يقل: أن ليقض علينا ربك. فهذا مذهب الحكاية. وقال فى موضع آخر {ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة أن أفيضوا} ولم يقل: أفيضوا، وهذا أمر وذلك أمر؛ لتعلم أن الوجهين صواب.
و "يبشرك" قرأها [بالتخفيف] أصحابُ عبدالله فى خمسة مواضع من القرآن: فى آل عمران حرفان، وفى بنى إسرائيل، وفى الكهف، وفى مريم. والتخفيف والتشديد صواب. وكأنّ المشدّد على بِشارات البُشَراء، وكأن التخفيف من وجهة الإفراح والسرور. وهذا شىء كان المشيخة يقولونه. وأنشدنى بعض العرب:
بَشَرتُ عِيالى إذْ رأيت صحيفةً * أتتك من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها
وقد قال بعضهم: أبشرت، ولعلّها لغة حجازيّة. وسمعت سفيان بن عُيَيْنة يذكرها يُبْشِر. وبشرت لغة سمعتها من عُكل، ورواها الكسائىّ عن غيرهم. وقال أبو ثَروان: بَشرَنى بوجه حسن. وأنشدنى الكسائىّ:
وإذا رأيت الباهشين إلى العلى * غُبْرا أكفُّهم بِقاع ممحِل
فأَعِنْهُمُ وابْشَرْ بما بَشِرُوا به * وإذا همُ نزلوا بضَنْك فانزِل
وسائر القرآن يشدَّد فى قول أصحاب عبدالله وغيرهم.
وقوله: {يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً} نصبت (مصدّقا) لأنه نكرة، ويحيى معرفة. وقوله: {بكلمة} يعنى مصدِّقا بعيسى.
وقوله: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً} مردودات على قوله: مصدّقا. ويقال: إن الحَصُور: الذى لا يأتى النساء.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ }

وقوله: {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ...}

إذا أردت الاستقبال المحض نصبت (تكلِّم) وجعلت (لا) على غير معنى ليس. وإذا أردت: آيتك أنك على هذه الحال ثلاثةَ أيام رفعت، فقلت: أن لا تكلِّمُ الناس؛ ألا ترى أنه يحسن أن تقول: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا. والرمز يكون بالشفتين والحاجبين والعينين. وأكثره فى الشفتين. كلّ ذلك رَمْز.

{ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }

وقوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ...}
مما ذكرت لك فى قوله {ذُرّيَّةً طَيِّبَةً} قيل فيها (اسمه) بالتذكير للمعنى، ولو أنَّث كما قال {ذُرّيَّةً طَيِّبَةً} كان صوابا.
وقوله: (وَجِيهاً) قطعا من عيسى، ولو خفضت على أن تكون نعتا للكلمة لأنها هى عيسى كان صوابا.

{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ }

قوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً...}
والكهل مردود على الوجيه. {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} ولو كان فى موضع (ويكلّم) ومكلما كان نصبا، والعرب تجعل يفعل وفاعِلٌ إذا كانا فى عطوف مجتمعين فى الكلام، قال الشاعر:
بِتّ أعَشِّيها بغَضْبٍ باتِرِ * يقصِد فى أَسْوُقِها وجائِر
وقال آخر:
من الذَّرِيحيَّات جَعْدا آرِكا * يقصُر يمشى ويطول باركا
كأنه قال: يقصر ماشيا فيطول باركا. فكذلك (فَعَلَ) إذا كانت فى موضع صلة لنكرة أتبِعها (فاعِل) وأُتبعته. تقول فى الكلام: مررت بفتىً ابنِ عشرين أو قد قارب ذلك, ومررت بغلام قد احتلم أو محتلمٍ؛ قال الشاعر:
يا ليتنى عَلِقْتُ غير خارج * قبل الصباح ذاتَ خَلْقٍ بارِج
* أُمّ الصبىّ قد حبا أو دارج *

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ...}
يذهب إلى الطين، وفى المائدة {فتنفخ فيها} ذهب إلى الهيئة، فأنث لتأنيثها، وفى إحدى القراءتين (فأنفخها) وفى قراءة عبدالله (فأنفخها) بغير فى، وهو مما تقوله العرب: ربّ ليلة قد بِتّ فيها وبِتُّها.
ويقال فى الفعل أيضا:
* ولقد أَبيت على الطَوَى وأظلهُّ *
تُلْقَى الصفات وإن اختلفت فى الأسماء والأفاعيل. وقال الشاعر:
إذا قالت حذامِ فأنصِتوها * فإن القول ما قالت حذام
وقال الله تبارك وتعالى وهو أصدق قِيلا: {وإِذا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرون} يريد: كالوا لهم، وقال الشاعر:
ما شُقّ جَيْب ولا قامتك نائحة * ولا بكتك جِياد عند أسلابِ
وقوله: (وما تدَّخِرون) هى تفتعلون من ذخرت، وتقرأ (وما تدْخَرون) خفيفة على تَفْعَلون، وبعض العرب يقول: تدَّخِرون فيجعل الدال والذال يعتقبان فى تفتعلون من ذخرت، وظلمت تقول: مظّلِم ومطَّلِم، ومُذَّكِر ومدَّكِر، وسمعت بعض بنى أَسَد يقول: قد اتَّغر، وهذه اللغة كثيرة فيهم خاصَّة. وغيرهم: قد اثَّغر.
فأمّا الذين يقولون: يدّخر ويدّكِر ومدّكِر فإنهم وجدوا التاء إذا سكنت واستقبلتها ذال دخلت التاء فى الذال فصارت ذالا، فكرِهوا أن تصير التاء ذالا فلا يعَرفُ الافتعال من ذلك، فنظروا إلى حرف يكون عَدْلا بينهما فى المقارَبة، فجعلوه مكان التاء ومكان الذال.

وأمّا الذين غلَّبوا الذال فأمضوُا القياس، ولم يلتفتوا إلى أنه حرف واحد، فأدغموا تاء الافتعال عند الذال والتاء والطاء.
ولا تنكرنّ اختيارهم الحرف بين الحرفين؛ فقد قالوا: ازدجر ومعناها: ازتجر، فجعلوا الدال عدلا بين التاء والزاى. ولقد قال بعضهم: مُزجَّر،فغلَّب الزاى كما غلَّب التاء. وسمعت بعض بنى عُقَيل يقول: عليك بأبوال الظِباء فاصَّعِطْها فإنها شِفاء للطَحَل، فغلب الصاد على التاء، وتاءُ الافتعال تصير مع الصاد والضاد طاء، كذلك الفصيح من الكلام كما قال الله عز وجل: {فَمَن اضْطُرّ فى مَخْمَصَةٍ} ومعناها افتعل من الضرر. وقال الله تبارك وتعالى {وأْمُرْ أهْْلَكَ بالصَّلاَةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها} فجعلوا التاء طاء فى الافتعال.

{ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }

وقوله: {وَمُصَدِّقاً...}
نصبت (مصدّقا) على فِعل (جئت)، كأنه قال: وجِئتكم مصدّقا لِما بين يدىّ من التوراة، وليس نصبُه بتابع لقوله (وَجِيهاً) لأنه لو كان كذلك لكان (ومصدّقا لما بين يديه).
وقوله: {وَلأُحِلَّ لَكُم} الواو فيها بمنزلة قوله {وكذَلِكَ نُرِى إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين}.

{ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }

وقوله: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ...}

يقول: وجد عيسى. والإحساس: الوجود، تقول فى الكلام: هل أحسست أحدا. وكذلك قوله {هل تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}. فإذا قلت: حَسَسْت، بغير ألف فهى فى معنى الإفناء والقتل. من ذلك قول الله عز وجل {إذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإذْنِهِ} والحَسّ أيضا: العطف والرِقّة؛ كقول الكُمَيت:
هل مَنْ بكى الدار راجٍ أن تحِسّ له * أو يُبْكِىَ الدارَ ماءُ العَبْرةِ الخَضِل
وسمعت بعض العرب يقول: ما رأيت عُقَيليّا إلا حَسَست له، وحسِست لغة. والعرب تقول: من أين حَسَيت هذا الخبر؟ يريدون: من أين تخبَّرته؟ [وربما قالوا حسِيت بالخبر وأحسيت به، يبدلون من السين ياء] كقول أبى زُبيد.
* حسِينَ بِه فَهُنّ إليه شُوس *
وقد تقول العرب ما أحَستْ بهم أحدا، فيحذفون السين الأولى، وكذلك فى وددت، ومسِست وهَمَمْت، قال: أنشدنى بعضهم:
هل ينفَعَنْك اليوم إِن هَمْت بِهَمّْ * كثرةُ ما تأتى وتَعْقاد الرَتَمْ
وقوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} المفسِّرون يقولون: من أنصارى مع الله، وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل (إلى) موضع (مع) إذا ضممت الشىء إلى الشىء مما لم يكن معه؛ كقول العرب: إن الذود إلى الذود إبل؛ أى إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلا. فإذا كان الشىء مع الشىء لم تصلح مكان مع إلى، ألا ترى أنك تقول: قدم فلان ومعه مال كثير، ولا تقول فى هذا الموضع: قدِم فلان وإليه مال كثير. وكذلك تقول: قدم فلان إلى أهله، ولا تقول: مع أهله، ومنه قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ} معناه: ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم.
والحواريُّون كانوا خاصَّة عيسى. وكذلك خاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع عليهم الحواريّون. وكان الزبير يقال له حوارىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وربما جاء فى الحديث لأبى بكر وعمر وأشباههما حوارىّ. وجاء فى التفسير أنهم سُمُّوا حواريين لبياض ثيابهم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }

ومعنى قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ...}
نزل هذا فى شأن عيسى إذ أرادوا قتله، فدخل بيتا فيه كوّة وقد أيَّده الله تبارك وتعالى بجبريل صلى الله عليه وسلم، فرفعه إلى السماء من الكوّة، ودخل عليه رجل منهم ليقتله، فألقى الله على ذلك الرجل شَبَه عيسى بن مريم. فلمّا دخل البيت فلم يجد فيه عيسى خرج إليهم وهو يقول: ما فى البيت أحد، فقتلوه وهم يَرُون أنه عيسى. فذلك قوله {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} والمكر من الله استدراج، لا على مكر المخلوقين.

{ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ...}
يقال: إن هذا مقدّم ومؤخَّر. والمعنى فيه: إنى رافعك إلىَّ ومطهِّرك من الذين كفروا ومتوفِّيك بعد إنزالى إيّاك فى الدنيا. فهذا وجه.
وقد يكون الكلام غير مقدّم ولا مؤخَّر؛ فيكون معنى متوفّيك: قابضك؛ كما تقول: توفيت مالى من فلان: قبضته من فلان. فيكون التوفّى على أخذه ورفعه إليه من غير موت.

{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }

وقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ...}

هذا لقول النصارى إنه ابنه، إذ لم يكن أب، فأنزل الله تبارك وتعالى عُلُوّا كبيرا {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} لا أب له ولا أم، فهو أعجب أمرا من عيسى، ثم قال: {خَلَقَهُ} لا أن قوله "خلقه" صلة لآدم؛ إنما تكون الصلات للنكرات؛ كقولك: رجل خلقه من تراب، وإنما فسَّر أمر آدم حين ضرب به المثل فقال "خلقه" على الانقطاع والتفسير، ومثله قوله {مَثَلُ الذين حُمِّلوا التّوْرَاة ثم لم يَحْمِلُوهَا كَمَثَل الْحِمَارِ} ثم قال {يَحْملُ أَسْفَاراً} والأسفار: كتب العلم يحملها ولا يَدْرى ما فيها. وإن شئت جعلت "يحمل" صلة للحمار، كأنك قلت: كمثل حمار يحمل أسفارا؛ لأن ما فيه الألف واللام قد يوصل فيقال: لا أمرَّ إلا بالرجل يقول ذلك، كقولك بالذى يقول ذلك. ولا يجوز فى زيد ولا عمرو أن يوصل كما يوصل الحرف فيه الألف واللام.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ }

وقوله: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ...}
رفعته بإضمار (هو) ومثله فى البقرة {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أى هو الحق، أو ذلك الحق فلا تَمْتَرِ.

{ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }

وقوله: {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...}
وهى فى قراءة عبدالله "إلى كلمة عدل بيننا وبينكم" وقد يقال فى معنى عدل سِوىً وسُوىً، قال الله تبارك وتعالى فى سورة طه {فاجْعَلْ بَيْنَنَا وبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ مَكَاناً سِوىً} وسُوىً؛ يراد به عَدْل ونصف بيننا وبينك.

ثم قال {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} فأن فى موضع خفض على معنى: تعالوا إلى ألاّ نعبد إلا الله. ولو أنك رفعت (ما نعبد) مع العطوف عليها على نية تعالوا نتعاقد لا نعبد إلا الله؛ لأن معنى الكلمة القول، كأنك حكيت تعالوا نقول لا نعبدُ إلا الله. ولو جزمت العُطُوف لصَلَح على التوهّم؛ لأن الكلام مجزوم لو لم تكن فيه أن؛ كما تقول: تعالوا لا نقل إلا خيرا.
ومثله مما يرِد على التأويل {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ولا تَكُونَنّ} فصيَّر (ولا تكونن) نهيا فى موضع جزم، والأول منصوب، ومثله {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ} فردَّ أن على لام كى لأن (أن) تصلح فى موقع اللام. فردَّ أن على أن مثلها يصلح فى موقع اللام؛ ألا ترى أنه قال فى موضع {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} وفى موضع {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا}.

{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

وقوله: {لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ...}
فإن أهل نَجْران قالوا: كان إبراهيم نصرانيّا على ديننا، وقالت اليهود: كان يهوديا على ديننا، فأكذبهم الله فقال {وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} أى بعد إبراهيم بدهر طويل، ثم عيَّرهم أيضا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ هاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

فقال: {هاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ...}
إلى آخر الآية. ثم بيَّن ذلك.

فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً...}
إلى آخر الآية.

{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }

وقوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ...}
يقول: تشهدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بصفاته فى كتابكم. فذلك قوله: (تشهدون).

{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ...}
لو أنك قلت فى الكلام: لِمَ تقومُ وتقعدَ يا رجل؟ على الصرف لجاز، فلو نصبت (وتكتموا) كان صوابا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }

وقوله: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ...}
يعنى صلاة الصبح {وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ} يعنى صلاة الظهر. هذا قالته اليهود لمّا صُرِفت القِبلة عن بيت المَقْدِس إلى الكعبة؛ فقالت اليهود: صَلُّوا مع محمد - صلى الله عليه وعلى أصحابه وسلم - الصبحَ، فإذا كانت الظهرُ فصلّوا إلى قبلتكم لتشكّكوا أصحاب محمد فى قبلتهم؛ لأنكم عندهم أعلم منهم فيرجعوا إلى قبلتكم.

{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

فأما قوله: {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ...}
فأنه يقال: إنها من قول اليهود. يقول: ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم. واللام بمنزلة قوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} المعنى: ردِفكم.
وقوله: {أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ...}
يقول: لا تصدّقوا أن يؤتَى أحد مثل ما أوتيتم. أوقعت {تؤمنوا} على {أن يؤتى} كأنه قال: ولا تؤمنوا أن يعطى أحد مثل ما أُعطِيتم، فهذا وجه.
ويقال: قد انقطع كلام اليهود عند قوله {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ}, ثم صار الكلام من قوله قل يا محمد إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتى أهل الإسلام، وجاءت (أن) لأنّ فى قوله {قُلْ إِنَّ الْهُدَى} مثلَ قوله: إن البيان بيان الله، فقد بيّن أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتى أهلُ الإسلام. وصلحت (أحد) لأن معنى أن معنى لا كما قال تبارك وتعالى {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أنْ تَضِلُّوا} معناه: لا تضلّون. وقال تبارك وتعالى {كَذَلِكَ سَلَكْناهُ فِى قُلُوبِ المُجْرِمينَ. لاَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أن تصلح فى موضع لا.
وقوله {أوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْد رَبِّكُمْ} فى معنى حَتَّى وفى معنى إلاّ؛ كما تقول فى الكلام: تعلَّقْ به أبدا أو يعطيَك حقّك، فتصلح حتَّى وإلاَّ فى موضع أو.

{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ...}

كان الأعمش وعاصم يجزمان الهاء فى يؤدِّه، و "نُولِّهْ ما تَوَلّى"، و "أرجِهْ وأخاه"، و "خيرا يرهْ"، و "شرا يرهْ". وفيه لهما مذهبان؛ أمّا أحدهما فإن القوم ظنّوا أن الجزم فى الهاء، وإنما هو فيما قبل الهاء. فهذا وإن كان توهُّما؛ خطأٌ. وأمَّا الآخر فإن من العرب من يجزم الهاء إذا تحرّك ما قبلها؛ فيقول ضربتهْ ضربا شديدا، أو يترك الهاء إذ سكَّنها وأصلها الرفع بمنزلة رأيتهم وأنتم؛ ألا ترى أن الميم سكنت وأصلها الرفع. ومن العرب من يحرّك الهاء حركة بلا واو، فيقول ضربتهُ (بلا واو) ضربا شديدا. والوجه الأكثر أن توصَل بواو؛ فيقال كلمتهو كلاما، على هذا البناء، وقد قال الشاعر فى حذف الواو:
أنا ابن كِلاب وابن أوْس فمن يكنْ * قِناعهُ مَغْطِيّا فإنّى لمُجْتَلَى
وأمّا إذا سكن ما قبل الهاء فإنهم يختارون حذف الواو من الهاء؛ فيقولون: دَعْهُ يذهب، ومنْه، وعنْه. ولا يكادون يقولون: منهو ولا عنهو، فيصلون بواو إذا سكن ما قبلها؛ وذلك أنهم لا يقدِرون على تسكين الهاء وقبلها حرف ساكن، فلمَّا صارت متحرّكة لا يجوز تسكينها اكتفَوا بحركتها من الواو.
وقوله {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} يقول: ما دمت له متقاضيا. والتفسير فى ذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا بايعهم أهل الإسلام أدّى بعضهم الأمانه، وقال بعضهم: ليس للأمِّيِّين - وهم العرب - حُرْمة كحرمة أهل ديننا، فأخبر الله - تبارك وتعالى - أنّ فيهم أمانة وخيانة؛ فقال تبارك وتعالى {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فى استحلالهم الذهاب بحقوق المسلمين.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ...}
تقرأ: تُعلِّمون وتَعْلَمون، وجاء فى التفسير: بقراءتكم الكتب وعِلمكم بها. فكان الوجه (تَعْلَمون) وقرأ الكسائىّ وحمزة (تُعَلِّمون) لأن العالِم يقع عليه يُعَلِّم ويَعلَم.

{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }

وقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ...}
أكثر القراء على نصبها؛ يردونها على {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ}: ولا أن يأمركم. وهى فى قراءة عبدالله (ولن يأمركم) فهذا دليل على انقطاعها من النَسَق وانها مستأنفة، فلمَّا وقعت (لا) فى موقع (لن) رفعت كما قال تبارك وتعالى {إِنّا أرْسَلْناكَ بالْحَقِّ بَشِيراً ونَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيم} وهى فى قراءة عبدالله (ولن تسأل) وفى قراءة أبىّ (وما تُسأل عن أصحاب الجحيم).

{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ }

وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ...}

ولِما آتيتكم، قرأها يحيى بن وَثّاب بكسر اللام؛ يريد أخذ الميثاق للذين آتاهم، ثم جعل قوله {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} من الأخذ؛ كما تقول: أخذتُ ميثاقك لتعمَلَنّ؛ لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. ومن نصب اللام فى (لما) جعل اللام لاما زائدة؛ إذْ أُوقعت على جزاء صيّر على جهة فعل وصيّر جواب الجزاء باللام وبإن وبلا ويما، فكأنّ اللام يمين؛ إذ صارت تُلْقَى يجواب اليمين. وهو وجه الكلام.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }

وقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً...}
أسلم أهل السموات طَوعا. وأما أهل الأرض فإنهم لمّا كانت السُّنَّة فيهم أن يقاتَلوا إن لم يُسلموا أسلموا طوعا وكرها.

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }

وقوله: {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً...}

نصبت الذهب لأنه مفسِّر لايأتى مثله إلا نكرة، فخرج نصبه كنصب قولك: عندى عشرون درهما، ولك خيرهما كبشا. ومثله قوله {أوْ عَدْلُ ذلك صِيَاماً} وإنما ينصب على خروجه من المقدار الذى تراه قد ذكر قبله، مثل ملء الأرض، أو عَدْل ذلك، فالعَدْل مقدار معروف، وملء الأرض مقدار معروف، فانصب ما أتاك على هذا المثال ما أضيف إلى شىء له قدر؛ كقولك: عندى قدر قَفِيز دقيقا، وقدر حَمْلةٍ تبْنا، وقدر رطلين عسلا, فهذه مقادير معروفة يخرج الذى بعدها مفسِّرا؛ لأنك ترى التفسير خارجا من الوصف يدلّ على جنس المقدارمن أىّ شىء هو؛ كما أنك إذا قلت: عندى عشرون فقد أخبرت عن عدد مجهول قد تمّ خبره، وجهُل جنسُه وبقى تفسيره، فصار هذا مفسِّرا عنه، فلذلك نُصِب. ولو رفعته على الائتناف لجاز؛ كما تقول: عندى عشرون، ثم تقول بعد: رجالٌ، كذلك لو قلت: مِلْء الأرض، ثم قلت: ذَهَبٌ، تخبر على غير اتّصال.
وقوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} الواو ها هنا قد يُستغنَى عنها، فلو قيل مِلْء الأرض ذهبا لو افتدى به كان صوابا. وهو بمنزلة قوله: {ولِيكون مِن الموقِنِين} فالواو ها هنا كأن لها فعلا مضمرا بعدها.

{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ...}
يُذكَر فى التفسير أنه أصابه عِرْق النَسَا فجعل على نفسه إن برأ أن يحرِّم أحبّ الطعام والشراب إليه، فلمَّا برأ حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانهَا، وكان أحبّ الطعام والشراب إليه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }

وقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ...}
يقول: إنّ أوّل مسجد وُضع للناس {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} وإنما سمّيت بَكّة لازدحام الناس بها؛ يقال: بَكَّ الناسُ بعضُهم بعضا: إذا ازدحموا.
وقوله: {هُدىً} موضع نصب متبعة للمبارك. ويقال إنْما قيل: مباركا لأنه مغفِرة للذنوب.

{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

وقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ...}
يقال: الآيات المقامُ والْحِجر والحَطِيم، وقرأ ابن عباس "فيه آية بيِّنة" جعل المقام هو الآية لا غير.
وقوله: {وَمَن كَفَرَ} يقول: من قال ليس علىّ حجّ فإنما يجحد بالكفر فرضه لا يتركه.

{ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

وقوله: {مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا...}
يريد السبيل فأنَّثها، والمعنى تبغون لها. وكذلك {يبغونكم الفِتنة}: يبغون لكم الفتنة. والعرب يقولون: ابغنى خادما فارِها، يريدون: ابتغِهِ لى، فإذا أرادوا: ابتغِ معِى وأعِنِّى على طلبه قالوا أَبْغنى (ففتحوا الألِف الأولى من بغيت، والثانية من أبغيت) وكذلك يقولون: المِسنى نارا وألمِسنى، واحلبنى وأَحلبنى، واحْمِلنى وأحملنى، واعكمنى وأعكمنى؛ فقوله: احلِبنى يريد: احلب لى؛ أى اكفنى الحَلَب، وأحلبنى: أعِنِّى عليه، وبقِيته على مثل هذا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

وقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً...}
الكلام العربىّ هكذا بالباء، وربما طرحت العربُ الباءَ فقالوا: اعتصمت بك واعتصمتك؛ قال بعضهم:
إذا أنت جازيت الإخاءَ بمثله * وآسيتنى ثم اعتصمتَ حباليا
فألقى الباء. وهو كقولك: تعلَّقت زيدا، وتعلقت بزيد. وأنشد بعضهم:
تعلَّقت هندا ناشئا ذات مِئزَرٍ * وأنت وقد قارَفْتَ لم تَدْر ما الحلُمْ

{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }

وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ...}
لم يذكِّر الفعلَ أحد من القرّاء كما قيل {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} وقوله {لا يحِلّ لك النِساء مِن بعد} وإنما سهل التذكير فى هذين لأن معهما جحدا، والمعنى فيه: لا يحلّ لك أحد من النساء، ولن ينال الله شىء من لحومها، فذهب بالتذكير إلى المعنى، والوجوه ليس ذلك فيها، ولو ذكِّر فعل الوجوه كما تقول: قام القوم لجاز ذلك.

وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ} يقال: (أمّا) لا بدّ لها من الفاء جوابا فأين هى؟ فيقال: إنها كانت مع قولٍ مضمر، فلمَّا سقط القول سقطت الفاء معه، والمعنى - والله أعلم - فأمّا الذين اسودّت وجوههم فيقال: أكفرتم، فسقطت الفاء مع (فيقال). والقول قد يضمر. ومنه فى كتاب الله شىء كثير؛ من ذلك قوله {ولو ترى إِذِ المجرِمون ناكِسوا رءوسِهِم عِند ربهم ربنا أبصرنا وسمِعنا} وقوله {وإِذ يرفع إِبراهِيم القواعِد من البيت وإِسماعيل ربنا تقبل منا} وفى قراءة عبدالله "ويقولان ربَّنا".

{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ }

وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ...}
يريد: هذه آيات الله. وقد فسّر شأنها فى أوّل البقرة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }

وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ...}
فى التأويل: فى اللوح المحفوظ. ومعناه أنتم خير أمّة؛ كقوله {واذكروا إِذ كنتم قلِيلا فكثركم}، و {إِذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض} فإضمار كان فى مثل هذا وإظهارها سواء.

{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }

وقوله: {يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ...}
مجزوم؛ لأنه جواب للجزاء {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} مرفوع على الائتناف، ولأن رءوس الآيات بالنون، فذلك مما يقوّى الرفع ؛ كما قال {ولا يؤذن لهم فيعتذِرون} فرفع، وقال تبارك وتعالى {لا يقضى عليهِم فيموتوا}.

{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }

وقوله: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ...}
يقول: إلا أن يعتصموا بحبل من الله؛ فأضمر ذلك، وقال الشاعر:
رأتنى بحبليها فصَدَّت مخافةً * وفى الحبل روعاء الفؤادِ فروق
أراد: أقبلْتُ بحبليها، وقال الآخر:
حنتنِى حانياتُ الدهِر حتى * كأنى خاتِل أَدنو لِصَيدِ
قريبُ الخَطْوِ يحسب من رآنى * ولست مقيَّدا أنى بِقَيْدِ
يريد: مقيَّدا بقيد.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }

وقوله: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ...}
ذَكَر أمّه ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبنىّ علىأخرى يراد؛ لأن سواء لا بدّ لها من اثنين فما زاد.
ورفع الأمة على وجهين؛ أحدهما أنك تَكُرُّه على سواء كأنك قلت: لا تستوى أمة صالحة وأخرى كافرة منها أمّة كذا وأمّة كذا، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان فى الكلام دليل عليه، قال الشاعر:
عصيت إليها القلب إنى لأمرها * سميع فما أَدرى أَرُشْد طِلابُها
ولم يقل: أم غىّ، ولا: أم لا؛ لأن الكلام معروف والمعنى. وقال الآخر:
أراك فلا أدرى أهمّ هممته * وذو الهمّ قِدماً خاشع متضائِل
وقال الآخر:
وما أدرى إذا يمَّمت وجها * أريد الخير أيُّهما يلِينى
أألخير الذى أنا أبتغيه * أم الشرُّ الذى لا يأتلينى

ومنه قول الله تبارك وتعالى:{أمَّن هو قانِت آناء الليلِ ساجِدا وقائِما} ولم يذكر الذى هو ضدّه؛ لأنّ قوله: {قل هل يستوِى الذِين يعلمون والذِين لا يعلمون} دليل على ما أضمِرمن ذلك.
وقوله: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} السجود فى هذا الموضع اسم للصلاة لا للسجود؛ لأن التلاوة لا تكون فى السجود ولا فى الركوع.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }

وقوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ...}
وفى قراءة عبدالله "وقد بدا البغضاء من أفواههم" ذكَّر لأنّ البغضاء مصدر, والمصدر إذا كان مؤنّثا جاز تذكير فِعله إذا تقدّم؛ مثل {وأَخذ الذِين ظلموا الصيحةُ} و {قد جاءكم بينة مِن ربكم} وأشباه ذلك.

{ هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

وقوله: {هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ...}

العرب إذا جاءت إلى اسم مكنىّ قد وُصِف بهذا وهاذان وهؤلاء فرّقوا بين (ها) وبين (ذا) جعلوا المكنَّى بينهما، وذلك فى جهة التقريب لا فى غيرها، فيقولون: أين أنت؟ فيقول القائِل: هأنذا، ولا يكادون يقولون: هذا أنا، وكذلك التثنية والجمع، ومنه {هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ} وربما أعادوا (ها) فوصلوها بذا وهذان وهؤلاء؛ فيقولون: ها أنت هذا، وها أنتم هؤلاء، وقال الله تبارك وتعالى فى النساء: {ها أنتم هؤلاءِ جادلتم عنهم}.
فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر جعلوا (ها) موصولة بذا، فيقولون: هذا هو، وهذان هما، إذا كان على خبر يكتفِى كلُّ واحد بصاحبه بلا فِعل، والتقريب لا بدّ فيه من فعل لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }

وقوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً...}
إن شئت جُعِلت جزما وإن كانت مرفوعة، تكون كقولك للرجل: مُدُّ يا هذا، ولو نصبتها أو خفضتها كان صوابا؛ لأن من العرب من يقول مُدِّ يا هذا، والنصب فى العربية أهيؤها، وإن شئت جعلته رفعا وجعلت (لا) على مذهب ليس فرفعت وأنت مضمِر للفاء؛ كما قال الشاعر:
فإن كان لا يُرضِيك حتى تردَّنى * إلى قَطَرِىّ لا إخالك راضِيا
وقد قرأ بعض القراء "لا يَضِرْكُمْ" تجعله من الضَيْر، وزعم الكسائى أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعنى ذلك وما يضورنى، فلو قرئت "لا يضُرْكم" على هذه اللغة كان صوابا.

{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ...}
وفى قراءة عبدالله "تبوّى للمؤمنين مقاعد للقتال" والعرب تفعل ذلك، فيقولون: رَدِفك ورَدف لك. قال الفرّاء قال الكسائىّ: سمعت بعض العرب يقول: نقدت لها مائة، يريدون نقدتها مائة، لامرأة تزوّجها. وأنشدنى الكسائىّ:
أستغفر الله ذنبا لست مُحصِيَه * ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعمل
والكلام باللام؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {واستغفِرِى لِذنبِك} و {فاستغفروا لِذنوبِهِم} وأنشدنى:
أستغفر الله من جِدّى ومن لعبى * وِزرِى وكلُّ امرِئٍ لا بدّ مُتَّزِرُ
يريد لوزرى. ووزرى حين ألقيت اللام فى موضع نصب، وأنشدنى الكسائىّ:
إن أَجْزِ علقمةَ بن سعدٍ سعيه * لا تلقنِى أَجزِى بسعى واحدِ
لأحبنى حُبَّ الصبِىِّ وضمَّنِى * ضمَّ الهدِىّ إِلى الكرِيم الماجِدِ
وإنما قال (لأحبنى) لأنه جعل جواب إِن إذ كانت جزاء كجواب لو.

{ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا...}
وفى قراءة عبدالله "والله ولِيُّهم" رجع بهما إلى الجمع؛ كما قال الله عز وجل: {هذانِ خصمانِ اختصموا فِى ربهِم} وكما قال: {وإِن طائِفتانِ مِن المؤمِنِين اقتتلوا}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }

وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ...}

فى نصبه وجهان؛ إن شئت جعلته معطوفا على قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الذِينَ كَفَرُوا أوْ يَكْبِتَهُمْ} أى {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} وإن شئت جعلت نصبه على مذهب حتَّى؛ كما تقول: لا أزال ملازِمك أو تعطِيَنِى، أو إلا أن تعطِينى حقىّ.

{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ...}
يقال [ما قبل إلا] معرفة، وإنما يرفع ما بعد إلا بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جَحد؛ كقولك: ما عندى أحد إلا أبوك، فإن معنى قوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} ما يغفر الذنوب أحد إلا الله، فجعل على المعنى. وهو فى القرآن فى غير موضع.

{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ...}
وقُرْح. وأكثر القرّاء على فتح القاف. وقد قرأ أصحاب عبدالله: قُرْح، وكأنّ القُرْح ألم الجراحات، وكأنّ القَرْح الجراح بأعيانها. وهو فى ذاته مثل قوله : {أَسْكِنُوهنَّ مِن حَيْثُ سَكَنْتُم مِن وُجْدِكُم} ووَجْدكُم {والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاَّ جُهْدَهُمْ} وجَهْدهم، و {لاَ يُكَلّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} [ووَسْعها].

وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} يعلم المؤمن من غيره، والصابر من غيره. وهذا فى مذهب أىّ ومَنْ؛ كما قال: {لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} فإذا جعلت مكان أىّ أو مَن الذى أو ألفا ولاما نصبت بما يقع عليه؛ كما قال الله تبارك: {فَلَيَعْلَمَنّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الكّاذِبِين} وجاز ذلك لأن فى "الذى" وفى الألف واللام تأويل مَنْ وأىّ؛ إذ كانا فى معنى انفصال من الفعل.
فإذا وضعت مكانهما اسما لا فعل فيه لم يحتمل هذا المعنى. فلا يجوز أن تقول: قد سألت فعلمت عبدالله، إلا أن تريد علمت ما هو. ولو جعلت مع عبدالله اسما فيه دلالة على أىٍّ جاز ذلك؛ كقولك: إنما سألت لأعلم عبدالله مِن زيد، أى لأعرِف ذا مِن ذا. وقول الله تبارك وتعالى: {لم تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ} يكون: لم تعلموا مكانهم، ويكون لم تعلموا ما هم أكفار أم مسلمون. والله أعلم بتأويله.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }

وقوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ...}
يريد: يمحّص الله الذنوب عن الذين آمنوا، {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}: ينقصهم ويفنيهم.

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }

وقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ...}

خفض الحسن "ويعلمِ الصابِرين" يريد الجزم. والقرّاءُ بعدُ تنصبه. وتهو الذى يسمّيه النحويّون الصرف؛ كقولك: "لم آته وأُكرِمَهُ إلا استخفّ بى" والصرف أن يجتمع الفعلان بالواو أو ثم أو الفاء أو أو، وفى أوّله جحد أو استفهام، ثم ترى ذلك الجحد أو الاستفهام ممتنعا أن يُكَرَّ فى العطف، فذلك الصرف. ويجوز فيه الإتباع؛ لأنه نسق فى اللفظ؛ وينصب؛ إذ كان ممتنعا أن يحدث فيهما ما أحدث فى أوّله؛ ألا ترى أنك تقول: لست لأبى إن لم أقتلك أو إن لم تسبقنى فى الأرض. وكذلك يقولون: لا يسعُنى شىء ويضيقَ عنك، ولا تكرّ (لا) فى يضيق. فهذا تفسير الصرف.

{ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }

وقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ...}
معناه: رأيتم أسباب الموت. وهذا يومَ أُحُد؛ يعنى السيف وأشباهه من السلاح.
المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }

وقوله: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ...}
كلُّ استفهام دخل على جزاء فمعناه أن يكون فى جوابه خبر يقوم بنفسه، والجزاء شرط لذلك الخبر، فهو على هذا، وإنما جزمته ومعناه الرفع لمجيئه بعد الجزاء؛ كقول الشاعر:
حلفت له إنْ تُدْلجِ اللَّيْلَ لاَ يَزَلْ * أَمَامكَ بَيْتٌ من بيُوتِىَ سائِرُ

فـ (لا يزل) فى موضع رفع؛ إلا أنه جُزِم لمجيئه بعد الجزاء وصار كالجواب. فلو كان "أفإن مات أو قتل تنقلبون" جاز فيه الجزم والرفع. ومثله {أفإن مِتَّ فَهُمُ الخالدون} المعنى: أنهم الخالدون إن مت. وقوله: {فكَيْفَ تَتَّقُون إِنْ كَفَرْتم يوما يَجْعَلُ الوِلدانَ شِيبا} لو تأخرت فقلت فى الكلام: (فكيف إن كفرتم تتقون) جاز الرفع والجزم فى تتقون.

{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }

وقوله: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...}
والربّيون الأُلوف.
تقرأ: قُتِل وقاتل. فمن أراد قُتل جعل قوله: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ} للباقين، ومن قال: قاتل جعل الوهن للمقاتِلين. وإنما ذكر هذا لأنهم قالوا يوم أُحُد: قُتِل محمد صلى الله عليه وسلم، ففشِلوا، ونافق بعضهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وما محمد إِلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، وأنزل: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}.
ومعنى وكأين: وكم.
وقد قال بعض المفسرين: "وكأين من نبى قُتِل" يريد: و "معه ربيون" والفعل واقع على النبّى صلّى الله عليه وسلم، يقول: فلم يرجعوا عن دينهم ولَم ينهوا بعد قتله. وهو وجه حسن.

{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }

وقوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ...}
نصبت القول بكان، وجعلت أنْ فى موضع رفع. ومثله فى القرآن كثير. والوجه أن تجعل (أن) فى موضع الرفع؛ ولو رفع القول وأشباهه وجعل النصب فى "أن" كان صوبا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ }

وقوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ...}
رفع على الخبر، ولو نصبته: (بل أطيعوا الله مولاكم) كان وجها حسنا.

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ...}
يقال: إنه مقدّم ومؤخر؛ معناه: "حتى إذا تنازعتم فى الأمر فشِلتم". فهذه الواو معناها السقوط: كما يقال: {فلمَّا أسلما وتَلَّه للْجَبِين. وناديْناه} معناه: ناديناه. وهو فى "حتى إذا" و "فلمَّا أن" مقول، لم يأت فى غير هذين. قال الله تبارك وتعالى: {حتى إذا فُتِحتْ يأجوجُ ومأجوجُ وهُمْ مِن كل حَدَبٍ يَنْسِلون} ثم قال: {واقتربَ الوعدُ الحقُّ} معناه: اقترب، وقال تبارك وتعالى: {حتى إِذا جاءوها وفُتِحت أبوابها} وفى موضع آخر: {فتِحت} وقال الشاعر:
حتى إذا قَمِلت بطونُكُم * ورأيتُم أبناءكُمْ شَبُّوا
وقلبتُم ظهرَ المِجَنِّ لنا * إن اللئِيم العاجِزُ الخَبّ

الخَبّ: الغدّار، والخِبّ: الغَدْر. وأمَّا قوله: {إذا السماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لرَبِّها وحُقّت} وقوله: {وإِذا الأَرْضُ مُدَّتْ. وألْقَتْ ما فِيها وتَخَلّتْ} فإنه كلام واحد جوابه فيما بعده، كأنه يقول: "فيومئذ يلاقى حسابه". وقد قال بعض من رَوى عن قَتادة من البصريّين "إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ. أذنت لربها وحُقَّت" ولست أشتهى ذلك؛ لأنها فى مذهب {إذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ} و {إذا السَّماءُ انْفَطَرتْ} فجواب هذا بعده {عَلمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ} و {وعلِمت نفس ما قدَّمت وأخَّرت}.

{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

وقوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ...}
الإصعاد فى ابتداء الأسفار والمخارج. تقول: أصعدنا من مكة ومن بغداد إلى خراسان، وشبيهَ ذلك. فإذا صعدت على السلم أو الدّرجة ونحوهما قلت: صعِدت، ولم تقل أصعدت. وقرأ الحسن البصرىّ: "إِذ تَصْعَدون ولا تلوون" جعل الصعود فى الجبل كالصعود فى السلم.
وقوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} ومن العرب من يقول: أُخراتِكم، ولا يجوز فى القرآن؛ لزيادة التاء فيه على كِتَاب المصاحف؛ وقال الشاعر:
ويتّقى السيف بأُخْراتِه * من دون كفّ الجارِ والمِعصمِ
وقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} الإثابة ها هنا [فى] معنى عقاب، ولكنه كما قال الشاعر:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه * أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا

وقد يقول الرجل الذى قد اجترم إليك: لئن أتيتنى لأثِيبنّك ثوابك، معناه لأعاقبنَّك، وربما أنكره من لا يعرف مذاهب العربية. وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بعذَابٍ أليم} والبشارة إنما تكون فى الخير، فقد قيل ذاك فى الشرّ.
ومعنى قوله {غَمّاًً بِغَمٍّ} ما أصابهم يوم أُحُد من الهزيمة والقتل، ثم أشرف عليهم خالد بن الوليد بخيله فخافوه، وغَمَّهم ذلك.
وقوله: {وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ} (ما) فى موضع خفض على "ما فاتكم" أى ولا على ما أصابكم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

وقوله: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ...}
تقرأ بالتاء فتكون للأمنة؛ وبالياء فيكون للنعاس، مثل قوله {يَغْلِى فى البُطون} وتغلى، إذا كانت (تغلى) فهى الشجرة، وإذا كانت (يغلِى) فهو للمُهْل.

وقوله: {يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ترفع الطائِفة بقوله (أهمتهم) بما رجع من ذكرها، وإن شئت رفعتها بقوله {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} ولو كانت نصبا لكان صوابا؛ مثل قوله فى الأعراف: {فَرِيقاً هَدَى وفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِم الضَّلاَلَةُ}.
وإذا رأيت اسما فى أوّله كلام وفى آخره فعل قد وقع على راجع ذِكره جاز فى الاسم الرفع والنصب. فمن ذلك قوله: {والسماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ} وقوله: {والأرضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُون} يكون نصبا ورفعا. فمن نصب جعل الواو كأنها ظرف للفعل متصلة بالفعل، ومن رفع جعل الواو للاسم، ورفعه بعائِد ذكرِه؛ كما قال الشاعر:
إن لَمَ اشفِ النفوسَ من حىِّ بَكْرٍ * وعدِىٌّ تطَاهُ جُرْبُ الجمِال
فلا تكاد العرب تنصب مثل (عدىّ) فى معناه؛ لأن الواو لا يصلح نقلها إلى الفعل؛ ألا ترى أنك لا تقول: وتطأ عدِيّا جُرْبُ الجِمال. فإذا رأيت الواو تحسن فى الاسم جعلت الرفع وجه الكلام. وإذا رأيت الواو يحسن فى الفعل جعلت النصب وجه الكلام. وإذا رأيت ما قبل الفعل يحسن للفعل والاسم جعلت الرفع والنصب سواء، ولم يغلَّب واحد على صاحبه؛ مثل قول الشاعر:
إذا ابنَ أبِى موسى بِلالاً أتيته * فقام بفأسٍ بين وُِصْلَيْكَ جازِر
فالرفع والنصب فى هذا سواء. وأمّا قول الله عز وجل: {وأمّا ثمودُ فَهَدَيْناهم} فوجه الكلام فيه الرفع؛ لأن أمّا تحسن فى الاسم ولا تكون مع الفعل.
وأمّا قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهما}فوجه الكلام فيه الرفع؛ لأنه غير موَقَّت فرفع كما يرفع الجزاء، كقولك: من سرق فاقطعوا يده. وكذلك قوله {والشعراءُ يَتَّبِعُهُم الغاوون} معناه والله أعلم من (قال الشعر) اتبعه الغاوون. ولو نصبت قوله (والسارقَ والسارقَة) بالفعل كان صوابا.

وقوله {وكلَّ إنسانٍ ألزمناه طائِرَهُ فى عُنُقه} العرب فى (كل) تختار الرفع، وقع الفعل على راجع الذكرِ أو لم يقع. وسمعت العرب تقول (وكُلُّ شَىْءٍ أحْصَيْنَاهُ فى إمَامٍ مُبِينٍ) بالرفع وقد رجع ذكره. وأنشدونى فيما لم يقع الفعلُ على راجع ذكرِه:
فقالوا تَعَرّفْها المنازِلَ مِن مِنىً * وما كلُّ من يَغْشَى مِنىً أنا عارِفُ
ألِفْنا دِيارا لم تكن مِن ديارِنا * ومن يُتَأَلّفْ بالكرامَةِ يَأْلَفُ
فلم يقع (عارف) على كلّ؛ وذلك أن فى (كل) تأويل: وما من أحد يغشى مِنىً أنا عارف، ولو نصبت لكان صوابا، وما سمعته إلا رفعا.وقال الآخر:
قد عَلِقَت أمُّ الخِيارِتدّعِى * علىّ ذنبا كلُّه لم أَصنعِ
رفعا، وأنشدنيه بعض بنى أسَد نصبا.
وقوله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ} فمن رفع جعل (كل) اسما فرفعه باللام فى لِلّه كقوله {ويومَ القيامة تَرَى الذِين كَذَبُوا على اللهِ وجوههم مسودّة} ومن نصب (كله) جعله من نعت الأمر.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

وقوله: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ...}

كان ينبغى فى العربية أن يقال: وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا فى الأرض، لأنه ماض؛ كما تقول: ضربتك إذ قمت، ولا تقول ضربتك إذا قمت. وذلك جائز، والذى فى كتاب الله عربىّ حسن؛ لأن القول وإن كان ماضيا فى اللفظ فهو فى معنى الاستقبال؛ لأن (الذين) يُذهب بها إلى معنى الجزاء مِن مَنْ وما. فأنت تقول للرجل: أحبِب من أحبَّك، وأحبب كلّ رجل أحبَّك، فيكون الفعل ماضيا وهو يصلح للمستقبل؛ إذ كان أصحابه غير موَقَّتين، فلو وَقَّته لم يجز. من ذلك أن تقول: لأضربن هذا الذى ضربك إذ سلَّمت عليك، لأنك قد وقَّته فسقط عنه مذهب الجزاء. وتقول: لا تضرب إلا الذى ضربك إذا سلمت عليه، فتقول (إذا) لأنك لم توقته. وكذلك قوله: {إِنّ الذِين كَفَرُوا ويَصُدُّون عَنْ سَبيل الله} فقال {ويَصُدُّون} فردّها على (كفروا) لأنها غير موقَّتة، وكذلك قوله {إِلاَّ الذِين تابوا من قَبلِ أن تَقْدِروا عليهِم} المعنى: إلا الذِين يتوبون من قبلِ أن تقدِروا عليهم. والله أعلم. وكذلك قوله {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وعَمِلَ صَالِحا} معناه: إِلا من يتوب ويعمل صالحا. وقال الشاعر:
فإنى لآتيكم تشَكُّرَ ما مضى * مِن الأَمرِ واستِيجابَ ما كان فى غدِ
يريد به المستقبل: لذلك قال (كان فى غد) ولو كان ماضيا لقال: ما كان فى أمس، ولم يجز ما كان فى غد. وأمّا قول الكميت:
ماذاقَ بُؤسَ معِيشةٍ ونعيمها * فيما مَضَى أَحدٌ إذا لم يَعْشقِ
فمن ذلك؛ إنما أراد: لم يذقها فيما مضى ولن يذوقها فيما يستقبل إذا كان لم يعشق. وتقول: ماهلك امرؤ عرف قدره، فلو أدخلت فى هذا (إذا) كانت أجود من (إذ)؛ لأنك لم تخبر بذلك عن واحد فيكونَ بإذا، وإنما جعلته كالدأب فجرى الماضى والمستقبل. ومن ذلك أن يقول الرجل للرجل: كنتَ صابرا إذا ضربتك؛ لأن المعنى: كنت كلَّما ضُرِبت تصبر. فإذا قلت: كنت صابرا إذ ضُرِبت، فإنما أخبرت عن صبره فى ضربٍ واحد.

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }

وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ...}
العرب تجعل (ما) صلة فى المعرفة والنكرة واحدا.
قال الله {فبِما نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ} والمعنى فبنقضِهِم، و {عَمَّا قَليلٍ لَيُصْبِحُنّ نادِمِينَ} والمعنى: عن قليل. والله أعلم. وربما جعلوه اسما وهى فى مذهب الصلة؛ فيجوز فيما بعدها الرفع على أنه صلة، والخفض على إتباع الصلة لما قبلها؛ كقول الشاعر:
فكفى بنا فضلا على من غيرِنا * حبُّ النبِىّ محمدٍ إيانا
وترفع (غير) إذا جعلت صلة بإضمار (هو), وتخفض على الاتباع لمَنْ, وقال الفرزدق:
إنى وإياك إن بلَّغن أرحُلَنا * كمن بِواديه بعد المَحْل ممطورِ
فهذا مع النكرات، فإذا كانت الصلة معرفة آثروا الرفع، من ذلك (فَبِما نَقْضِهِمْ) لم يقرأه أحد برفع ولم نسمعه. ولو قيل جاز. وأنشدونا بيت عدىّ:
لم أَرَ مثل الفتيان فى غِيَرِ الـ * أيامِ يَنْسَوْنَ ما عواقبُها
والمعنى: ينسون عواقبها صلة لما. وهو مما أكرهه؛ لأن قائِله يلزمه أن يقول: {أيّما الأجلان قضيت} فأكرهه لذلك ولا أردّه. وقد جاء، وقد وجَّهه بعض النحويين إلى: ينسون أىُّ شىء عواقبُها، وهو جائز، والوجه الأوّل أحبّ إلىّ. والقرّاء لا تقرأ بكل ما يجوز فى العربية، فلا يقبحنّ عندك تشنِيع مشنِّع مما لم يقرأه القرّاء مما يجوز.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ...}

يقرأ بعض أهل المدينة أن يُغَلَّ؛ يريدون أن يخان. وقرأه أصحاب عبدالله كذلك: أن يُغَلَّ؛ يريدون أن يُسرَّق أو يخوّن. وذلك جائز وإن لم يقل: يُغَلَّل فيكون مثل قوله: {فإنهم لا يكذِّبونك - ويُكْذِبونك} وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن السُلَمِىّ "أن يَغُلَّ"، وذلك أنهم ظنُّوا يوم أحد أن لن تُقسم لهم الغنائم كما فعِل يوم بدر. ومعناه: أن يتَّهم ويقالَ قد غَلّ.

{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

وقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ...}
يقول: هم فى الفضل مختلفون: بعضهم أرفع من بعض.

{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }

وقوله: {وَيُزَكِّيهِمْ...}
يأخذ منهم الزكاة؛ كما قال تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أموالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكّيهِم بها}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ...}
يقول: تركتم ما أمِرتم به وطلبتم الغنيمة، وتركتم مراكزكم، فمِن قِبَلكم جاءكم الشرّ.

{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }

وقوله: {قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ...}
يقول: كثّروا، فإنكم إذا كثّرتم دفعتم القوم بكثرتكم.

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

وقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ...}
وقوله: {فَرِحِينَ...}
[لو كانت رفعا على "بل أحياء فرحون" لجاز. ونصبها على الانقطاع من الهاء فى "ربهم". وإن شئت يرزقون فرحين] {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} من إخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة للذى رأوا من ثواب الله فهم يستبشرون بهم.
وقوله: {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم "ولا حزن".

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ...}
تقرأ بالفتح والكسر. من فتحها جعلها خفضا متبعة للنعمة. ومن كسرها استأنف. وهى قراءة عبدالله "والله لا يضيع" فهذه حجَّة لمن كسر.

{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }

وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ...}

و(الناس) فى هذا الموضع واحد، وهو نُعَيم بن مسعود الأشجعىّ. بعثه أبو سفيان وأصحابه فقالوا: ثَبِّط محمدا - صلى الله عليه وسلم - أو خوّفه حتى لا يلقانا ببدر الصغرى، وكانت ميعادا بينهم يوم أحُد. فأتاهم نُعَيم فقال: قد أتوكم فى بلدتكم فصنعوا بكم ما صنعوا، فكيف بكم إذا وردتم عليهم فى بلدتهم وهم أكثر وأنتم أقلّ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}.

{ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

أما قوله: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ...}
يقول: يخوّفكم بأوليائه "فلا تخافوهم" ومثل ذلك قوله: {لِينذِر يوم التلاقِ} معناه: لينذركم يوم التلاق. وقوله: {لِينذِر بأسا شدِيدا} المعنى: لينذركم بأسا شديدا؛ البأس لا ينذر، وإنما ينذَر به.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }

وقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ...}
ومن قرأ "ولا تحسبن" قال "إنما" وقد قرأها بعضهم "ولا تحسبن الذِين كفرا أنما" بالتاء والفتح على التكرير: لا تحسبنهم لا تحسبن أنما نملى لهم، وهو كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُم} على التكرير: هل ينظرون إلا أن تأتيهم.

{ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

وقوله: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ...}
قال المشركون للنبىّ صلى الله عليه وسلم: مالك تزعم أن الرجل منا فى النار، فإذا صبأ إليك وأسلم قلت: هو فى الجنة، فأعلمنا من ذا يأتيك مِنَّا قبل أن يأتيك حتّى نعرفهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} على ما تقولون أيها المشركون "حتّى يَميزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ" ثم قال: لم يكن الله ليعلمكم ذلك فيطلعكم على غيبه.

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

وقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ...}
[يقال: إنما "هو" ههنا عماد، فأين اسم هذا العماد؟ قيل: هو مضمر، معناه: فلا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم] فاكتفى بذكر يبخلون من البخل؛ كما تقول فى الكلام: قدم فلان فسُرِرت به، وأنت تريد: سررت بقدومه، وقال الشاعر:
إِذا نُهى السفِيهُ جَرَى إليه * وخالف، والسفِيهُ إلى خِلافِ
يريد: إلى السفه. وهو كثير فى الكلام.

وقوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} يقال: هى الزكاة، يأتى الذى مَنَعها يوم القيامة قد طُوِّق شجاعا أقرع بفيه زبيبتان يلدغ خدّيه، يقول: أنا الزكاة التى منعتنى.
وقوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. المعنى: يميت الله أهل السموات وأهل الأرض ويبقى وحده، فذلك ميراثه تبارك وتعالى: أنه يبقى ويفنى كل شىء.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }

وقوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ...}
وقرئ "سيُكتب ما قالوا" قرأها حمزة اعتبارا؛ لانها فى مصحف عبدالله.
{ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ...}
كان هذا. والقربان نار لها حفيف وصوت شديد كانت تنزل على بعض الأنبياء.
فلمَّا قالوا ذلك للنبىّ صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى "قل" يا محمد {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} وبالقربان الذى قلتم {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

{ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ...}

يقول: بما فعلوا؛ كما قال: {لقد جئتِ شيئا فرِيا} كقوله: {واللذان يَأْتِيانِها مِنكم} وفى قراءة عبدالله "فمن أتى فاحشة فعله". وقوله: {ويُحِبُّون أَن يُحْمَدُوا بِما لم يفعلوا} قالوا: نحن أهل العلم الأوّل والصلاة الأولى، فيقولون ذلك ولا يقرّون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله: {ويُحِبُّون أن يُحْمدوا بِما لم يَفْعَلُوا}.
وقوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ}. يقول: ببعيد من العذاب. (قال قال الفراء: من زعم أن أوفى هذه الآية على غير معنى بل فقد افترى على الله؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يَشُكّ، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وأرسلناه إلى مِائةِ ألفٍ أَو يزِيدون}.)

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }

وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ...}
يقول القائل: كيف عطف بعلى على الأسماء؟ فيقال: إنها فى معنى الأسماء ألا ترى أن قوله: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}: ونياما، وكذلك عطف الأسماء على مثلها فى موضع آخر، فقال: "دعانا لِجنْبِه"، يقول: مضطجعا "أو قاعدا أو قائما" فلجنبه، وعلى جنبه سواء.

{ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ }

وقوله: {يُنَادِي لِلإِيمَانِ...}
كما قال: "الذى هدانا لهذا" و "أوْحَى لهَا" يريد إليها، وهدانا إلى هذا.

{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ }

وقوله: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ...}
كانت اليهود تضرب فى الأرض فتصيب الأموال، فقال الله عزّ وجلّ: لا يغرَّنك ذلك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }

وقوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ...}
فى الدنيا.

{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ }

وقوله: {نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ...}
و(ثوابا) خارجان من المعنى: لهم ذلك نزلا وثوابا، مفسِّرا؛ كما تقول: هو لك هبةً وبيعا وصدقة.

{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلـائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

وقوله: {خَاشِعِينَ للَّهِ...}
معناه: يؤمنون به خاشعين.

المعاني الواردة في آيات سورة ( آل عمران )

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ...}
مع نبيكم على الجهاد (وصابِروا) عدوّكم فلا يكوننّ أصبر منكم.

المعاني الواردة في آيات

سورة ( النساء )

{ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }

وقوله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ...}
قال (واحدة) لأن النفس مؤنثة، فقال: واحدة لتأنيث النفس، وهو [يعنى] آدم. ولو كانت (من نفس واحد) لكان صوابا، يذهب إلى تذكير الرجل.
وقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} العرب تقول: بثَّ الله الخلق: أى نشرهم. وقال فى موضع آخر: {كالفَراشِ المَبْثوث} ومن العرب من يقول: أَبثّ الله الخلق. ويقولون: بثثتك ما فى نفسى، وأبثثتك.
وقوله: {الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} فنصب الأرحام؛ يريد واتقوا الأرحام أن تقطعوها. قال: حدّثنا الفرّاء قال: حدّثنى شريك بن عبدالله عن الأعمش عن إبراهيم أنه خفض الأرحام، قال: هو كقولهم: بالله والرحم؛ وفيه قبح؛ لأن العرب لا تردّ مخفوضا على مخفوض وقد كُنِى عنه، وقد قال الشاعر فى جوازه:
نُعَلّق فى مثلِ السَّوارِى سيوفَنا * وما بينها والْكَعبِ غَوْط نَفَانِف
وإنما يجوز هذا فى الشعر لضيقه.
وقرأ بعضهم "تَسَّاءلون به" يريد: تتساءلون به، فأدْغم التاء عند السين.

{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً }

وقوله: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ...}
يقول: لا تأكلوا أموال اليتامى بدل أموالكم، وأموالهم عليكم حرام، وأموالكم حلال.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} الحوب: الإثم العظم. ورأيت بنى أَسَد يقولون الحائب: القاتل، وقد حاب يحوب. وقرأ الحسن (إنه كان حَوْبا كبيرا)

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ }

وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ...}
واليتامى فى هذا الموضع أصحاب الأموال، فيقول القائل: ما عَدَل الكلامَ من أموال اليتامى إلى النكاح؟ فيقال: إنهم تركوا مخالطة اليتامى تحرّجا، فأنزل الله تبارك وتعالى: فإن كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فاحْرَجوا من جمعكم بين النساء ثم لا تعدلون بينهن، {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ} يعنى الواحدة إلى الأربع. فقال تبارك وتعالى: {مَا طَابَ لَكُمْ} ولم يقل: من طاب. وذلك أنه ذهب إلى الفعل كما قال {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يريد: أو ملك أيمانكم. ولو قيل فى هذين (من) كان صوابا، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب. وأنت تقول فى الكلام: خذ من عبيدى ما شئت، إذا أراد مشيئتك، فإن قلت: من شئت، فمعناه: خذ الذى تشاء.
وأما قوله: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} فإنها حروف لا تُجْرَى. وذلك أنهن مصروفات عن جهاتهنّ؛ ألا ترى أنهنّ للثلاث والثلاثة، وأنهن لا يضفن إلى ما يضاف إليه الثلاثة والثلاث. فكان لا متناعه من الاضافة كأنّ فيه الألف واللام. وامتنع من الألف واللام لأن فيه تأويل الإضافة؛ كما كان بناء الثلاثة أن تضاف إلى جنسها، فيقال: ثلاث نسوة، وثلاثة رجال. وربما جعلوا مكان ثُلاَث ورُبَاع مَثْلَث ومَرْبَع، فلا يُجْرى أيضا؛ كما لم يُجْرَ ثُلاث ورُباع لأنه مصروف، فيه من العلّة ما فى ثُلاث ورُباع. ومن جعلها نكرة وذهب بها إلى الأسماء أجراها. والعرب تقول: ادخلوا ثُلاثَ ثُلاثَ، وثُلاثا ثلاثا. وقال الشاعر:
[وإنَّ الغلام المستهام بذكره] * قتَلْنا به مِن بَين مَثْنىً ومَوْحدِ
بأربعةٍ منكم وآخر خامسٍ * وسادٍ مع الإظلام فى رمح معبدِ
فوجه الكلام ألاّ تُجرى وأن تجعل معرفة؛ لأنها مصروفة، والمصروف خِلْقته أن يُترك على هيئته، مثل: لُكَع ولَكاع. وكذلك قوله: {أُولِى أَجنِحةٍ مَثْنَى وثُلاثَ ورُباع}.

والواحد يقال فيه مَوْحَدُ وأُحاد ووُحاد، ومثنى وثُنَاء؛ وأنشد بعضهم:
تَرى النُّعَراتِ الزُّرْقَ تحتَ لَبانه * أُحادَ ومَثْنَى أَصْعَقَتْها صَواهله
وقوله: {فَوَاحِدَةً} تنصب على: فإن خفتم ألاّ تعدلوا على الأربع فى الحبّ والجماع فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم لا وقت عليكم فيه. ولو قال: فواحدةٌ، بالرفع كان كما قال {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} كان صوابا على قولك: فواحدة (مقنع، فواحدة) رِضا.
وقوله: {ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ}: ألاّ تميلوا. وهو أيضا فى كلام العرب: قد عال يعول. وفى قراءة عبدالله: (ولا يَعُلْ أن يأتِينِى بهم جميعا) كأنه فى المعنى: ولا يشقْ عليه أن يأتينى بهم جميعا. والفقر يقال منه عال يعيل عَيْلة؛ وقال الشاعر:
ولا يدرى الفقير متى غناه * ولا يردى الغنِىُّ متى يَعِيل

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }

وقوله: {وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً...}
يعنى أولياء النساء لا الأزواج: وذلك أنهم كانوا فى الجاهلية لا يعطون النساء من مهورهن شيئا، فأنزل الله تعالى: أعطوهن صدقاتهن نحلة، يقول: هبة وعطية.
وقوله: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً}. ولم يقل طبن. وذلك أن المعنى - والله أعلم -: فإن طابت أنفسهن لكم عن شىء. فنقِل الفعل من الأنفس إليهن فخرجت النفس مفسّرة؛ كما قالوا: أنت حسن وجها، والفعل فى الأصل للوجه، فلمّا حوّل إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسِّرا لموقِع الفعل. ولذلك وحّد النفس. ولو جمعت لكان صوابا؛ ومثله ضاق به ذراعى، ثم تحول الفعل من الذراع إليك: فتقول قَرِرت به عينا. قال الله تبارك وتعالى: {فكلِى واشربى وقرّى عينا}. وقال: {سِىء بِهِم وضاق بهم ذرعا}؛ وقال الشاعر:

إذا التّيَّازُ ذو العَضلات قلنا * إليك إليك ضاق بها ذراعا
وإنما قيل: ذرعا وذراعا لأن المصدر والاسم فى هذا الموضع يدلاّن على معنى واحد، فلذلك كَفَى المصدر من الاسم.

{وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }

وقوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ...}
السفهاء: النساء والصبيان {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} يقول التى بها تقومون قواما وقياما. وقرأ نافع المدنى (قِيَما) والمعنى - والله أعلم - واحد.
والعرب تقول فى جمع النساء (اللاتى) أكثر مما يقولون (التى)، ويقولون فى جمع الأموال وسائر الأشياء سوى النساء (التى) أكثر مما يقولون فيه (اللاتى).

{وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً }

وقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً...}
يريد: فإن وجدتم. وفى قراءة عبدالله "فإن أحَسْتم منهم رشدا".
{فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} يعنى الأوصياء واليتامى.
وقوله: {وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} (أن) فى موضع نصب. يقول: لا تبادروا كبرهم.
وقوله: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} هذا الوصىّ. يقول: يأكل قرضا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }

وقوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ...}
ثم قال الله تبارك وتعالى: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً}. وإنما نصب النصيب المفروض وهو نعت للنكرة لأنه أخرجه مخرج المصدر. ولو كان اسما صحيحا لم ينصب. ولكنه بمنزلة قولك: لك علىّ حقّ حقّا، ولا تقول: لك على حقّ درهما. ومثله عندى درهمان هبةً مقبوضة. فالمفروض فى هذا الموضع بمنزلة قولك: فريضة وفرضا.

{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }

وقوله: {يُورَثُ كَلاَلَةً...}
الكلالة: ما خلا الولد والوالد.

وقوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} ولم يقل: ولهما؛ وهذا جائز؛ إذا جاء حرفان فى معنى واحد بأو أسندتَ التفسير إلى أيّهما شئت. وإن شئت ذكرتهما فيه جميعا؛ تقول فى الكلام: من كان له أخ أو أخت فليصِلْه، تذهب إلى الأخ (و) فليصِلها، تذهب إلى الأخت. وإن قلت (فليصلهما) فذلك جائز. وفى قراءتنا (إن يكن غنِيا أو فقِيرا فالله أولى بِهِما) وفى إحدىالقراءتين (فالله أولى بهم) ذهب إلى الجِمَاع لأنهما اثنان غير موَقَّتين. وفى قراءة عبدالله (والذين يفعلون مِنكم فآذوهما) فذهب إلى الجمع لأنهما اثنان غير موقتين، وكذلك فى قراءته: (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما).
وقوله: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} يقول: يوصى بذلك غير مضارّ.
ونصب قوله وصية من قوله: {لِكلّ واحِدٍ منهما السُّدسُ - وصِيةً مِن الله} مثل قولك: لك درهمان نفقةً إلى أهلك، وهو مثل قوله {نصيبا مفروضا}.

{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ...}}
معناه: هذه حدود الله .

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً }

وقوله: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ...}

وفى قراءة عبدالله (واللاتى يأتِين بالفاحشة) والعرب تقول: أتيت أمرا عظيما، وأتيت بأمر عظيم، وتكلمت كلاما قبيحا، وبكلام قبيح. وقال فى مريم {لقد جِئتِ شيئا فرِيّا} و {جِئتم شيئا إِدّا} ولو كانت فيه الباء لكان صوابا.
وقوله: {فأمسِكوهن فِى البيوتِ} كن يُحبَسن فى بيوت لهن إذا أتين الفاحشة حتى أنزل الله تبارك وتعالى: قولَه: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا...}
فنسحَتْ هذه الأولى.

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

وقوله: { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ...}
يقول: قبل الموت. فمن تاب فى صحَّته أو فى مرضه قبل أن ينزل به الموت فتوبته مقبوله.
وقوله: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} لا يجهلون أنه ذنب، ولكن لا يعلمون كُنْه ما فيه كعلم العالِم.

{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَائِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }

وقوله: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ...}
(الذين) فى موضع خفض. يقول: إن أسلم الكافر فى مرضه قبل أن ينزل به الموت كان مقبولا، فإذا نزل به الموت فلا توبة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }

وقوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً...}
كان الرجل إذا مات عن امرأته وله ولد من غيرها وثب الولد فألقى ثوبه عليها، فتزوّجها بغير مهر إلا مهر الأول، ثم أضرَّ بِها ليرثها ما ورثت من أبيه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} (تعضلوهن) فى موضع نصب بأن. وهى فى قراءة عبدالله (ولا أن تعضلوهنّ) ولو كانت جزما على النهى كان صوابا.

{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً }

وقوله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ...}
الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها.
وقوله {مِّيثَاقاً غَلِيظاً} الغليظ الذى أخذنه قوله تبارك وتعالى {فإمساك بِمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان}.

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }

وقوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ...}
أن فى موضع رفع؛ كقولك: والجمع بين الأختين.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }

وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ...}
المحصنات: العفائف. والمحصنات: ذوات الأزواج التى أحصنهنّ أزواجهن. والنصب فى المحصنات أكثر. وقد روى علقمة: "المحصنات" بالكسر فى القرآن كله إلا قوله {والمحصَنات من النّساء} هذا الحرف الواحد؛ لأنها ذات الزوج من سبايا المشركين. يقول: إذا كان لها زوج فى أرضها استبرأْتَها بحيضة وحلَّت لك.
وقوله {كِتابَ اللَّه عليكم} كقولك: كتابا من الله عليكم. وقد قال بعض أهل النحو: معناه: عليكم كتاب الله. والأوّل أشبه بالصواب. وقلّما تقول العرب: زيدا عليك، أو زيدا دونك. وهو جائز كأنه منصوب بشىء مضمر قبله، وقال الشاعر:
يأيُّها المائحُ دَلْوى دونكا * إنى رأيت الناس يَحْمَدُونكا
الدلو رفع، كقولك: زيد فاضربوه. والعرب تقول: الليلُ فبادروا، والليلَ فبادروا. وتنصب الدلو بمضمر فى الخلفة كأنك قلت: دونك دلوى دونك.
وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} يقول: ما سوى ذلكم.
وقوله: {وَيَكْفُرون بما وَراءَه} يريد: سواه.
وقوله: {أن تَبْتَغُوا} يكون موضعها رفعا؛ يكون تفسيرا لـ (ما)، وإن شئت كانت خفضا، يريد: أحل الله لكم ما وراء ذلكم لأن تبتغوا. وإذا فقدت الخافض كانت نصبا.
وقوله: {مُّحْصِنِينَ} يقول: أن تبتغوا الحلال غير الزنا. والمسافحة الزنا.

{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ...}
يقول: إنما يرخص لكم فى تزويج الإماء إذا خاف أحدكم أن يفجر. ثم قال: وأن تتركوا تزويجهن أفضل.

{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ...}
وقال فى موضع آخر {والله يُرِيدُ أن يتوبَ عليكم} والعرب تجعل اللام التى على معنى كى فى موضع أن فى أردت وأمرت. فتقول: أردت أن تذهب، وأردت لتذهب, وأمرتك أن تقوم, وأمرتك لتقوم؛ قال الله تبارك وتعالى {وأُمِرنا لِنُسْلِم لِربِّ العَالمِين} وقال فى موضع آخر {قل إِنى أُمِرت أن أكون أوّل من أسلم} وقال {يرِيدون لِيطفِئوا} و {أن يطفِئوا} وإنما صلحت اللام فى موضع أن فى (أمرتك) وأردت لأنهما يطلبان المستقبل ولا يصلحان مع الماضى؛ ألا ترى أنك تقول: أمرتك أن تقوم، ولا يصلح أمرتك أن قمت. فلما رأوا (أن) فى غير هذين تكون للماضى والمستقبل استوثقوا لمعنى الاستقبال بكى وباللام التى فى معنى كى. وربما جمعوا بين ثلاثهن؛ أنشدنى أبو ثروان:
أردت لكيما لا ترى لىَ عَثْرَةً * ومَنْ ذا الذى يُعْطَى الكمالَ فيَكْملُ

فجمع (بين اللام وبين كى) وقال الله تبارك وتعالى: {لِكيلا تَأْسَوْا على ما فاتكم} وقال الآخر فى الجمع بينهن:
أردتَ لكيما أن تَطَير بِقرْبتى * فتتركهَا شَنّا ببيداءَ بلقع
وإنما جمعوا بينهنّ لاتفاقهنّ فى المعنى واختلاف لفظهن؛ كما قال رؤبة:
* بِغيرِ لا عَصْفٍ ولا اصْطِرافِ *
وربما جمعوا بين ما ولا وإن التى على معنى الجحد؛ أنشدنى الكسائى فى بعض البيوت: (لا ما إن رأيت مثلك) فجمع بين ثلاثة أحرف.
وربما جعلت العرب اللام مكان (أن) فيما أشبه (أردت وأمرت) مما يطلب المستقبل؛ أنشدنى الأنفىّ من بنى أنف الناقة من بنى سعد:
ألم تسأَلِ الأنفىَّ يومَ يَسُوقنى * ويَزْعم أنى مُبْطِلُ القولِ كاذِبُهْ
أحاولَ إعناتى بما قال أم رجا * ليضحك منى أو ليضْحك صاحبُهْ
والكلام: رجا أن يضحك منى. ولا يجوز: ظننت لتقوم. وذلك أنّ (أَن) التى تدخل مع الظنّ تكون مع الماضى من الفعل. فتقول: أظنّ (أن قد) قام زيد، ومع المستقبل، فتقول: أظنّ أن سيقوم زيد، ومع الأسماء فتقول: أظنّ أنك قائم. فلم تجعل اللام فى موضعها ولا كى فى موضعها إذ لم تطلب المستقبل وحده. وكلما رأيت (أن) تصلح مع المستقبل والماضى فلا تُدخلنَّ عليها كى ولا اللام.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }

وقوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً...}
وتقرأ: نَصْلِيه، وهما لغتان، وقد قرئتا، من صَلَيْتُ وأَصليت. وكأنّ صَلَيْت: تَصليه على النار، وكأنّ أصليت: جعلته يصلاها.

{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً }

وقوله: {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً...}

ومَدخلا، وكذلك: {أَدْخلنى مَُدْخَل صدق وأخرجنى مَُخْرَج صدق} وإدخال صدق. ومن قال: مَدخلا ومَخرجا ومَنزلا فكأنه بناه على: أدخلنى دخول صدق وأخرجنى خروج صدق. وقد يكون إذا كان مفتوحا أن يراد به المنزل بعينه؛ كما قال: {ربّ أنزلنى مَنزِلا مباركا} ولو فتحت الميم كانت كالدار والبيت. وربما فتحت العرب الميم منه، ولا يقال فى الفعل منه إلأ أفعلت. من ذلك قوله:
* بمَصْبح الحمد وحيث يُمسى *
وقال الآخر:
الحمد لله ممسانا ومَُصْبَحنا * بالخير صبّحنا ربى ومسَّانا
وأنشدنى المفضَّل.
واعددت للحرب وثّابة * جواد المحثّة والمَرْود
فهذا مما لا يبنى على فعلت، وإنما يبنى على أرودت. فلمّا ظهرت الواو فى المُرود ظهرت فى المَرود كما قالوا: مَصْبح وبناؤه أصبحت لا غير.

{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }

وقوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ...}
ليس هذا بنهى محرّم؛ إنما هو من الله أدب. وإنما قالت أم سَلَمة وغيرها: ليتنا كنا رجالا فجاهدنا وغزونا وكان لنا مثل أجر الرجال، فأنزل الله تبارك وتعالى {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ} وقد جاء: لا يتمنين أحدكم مال أخيه، ولكن ليقل: اللهمّ ارزقنى، اللهمّ أعطنى.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }

وقوله: {فَالصَّالِحَاتُ...}
وفى قراءة عبدالله (فالصوالح قوانت) تصلح فواعل وفاعلات فى جمع فاعلة. وقوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} القراءة بالرفع. ومعناه: حافظات لغيب أزواجهن بما حفظهن اللّهُ حين أوصى بهن الأزواج. وبعضهم يقرأ (بما حَفظ اللَّه) فنصبه عل أن يجعل الفعل واقعا؛ كأنك قلت: حافظات للغيب بالذى يحفظ اللَّه؛ كما تقول: بما أرضى اللَّه، فتجعل الفعل لما، فيكون فى مذهب مصدر. ولست أشتهيه؛ لأنه ليس بفعل لفاعل معروف، وإنما هو كالمصدر.
وقوله: {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} يقول: لا تبغوا عليهن عِلَلا.
وقوله: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} جاء التفسير أن معنى تخافون: تعلمون. وهى كالظن؛ لأن الظانّ كالشاكّ والخائف قد يرجو. فلذلك ضارع الخوف الظنّ والعلم؛ ألا ترى أنك تقول للخبر يبلغك: أما والله لقد خفت ذاك، وتقول: ظننت ذلك، فيكون معناهما واحدا. ولذلك قال الشاعر:
ولا تدفِنَنِّى بالفَلاة فإننى * أخاف إذا ما مُِتُّ أنْ لا أذوقها
وقال الآخر:
أتانى كلام عن نُصَيْب يقوله * وما خفت يا سلاّم أنك عائبى
كأنه قال: وماظننت أنك عائبى. ونقلنا فى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت بالسواك حتى خفتُ لأَدْرَدَن. كقولك: حتى ظننت لأدردن.

{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }

وقوله: {فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ...}
يقول: حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة ليعلما من أيهما جاء النشوز. فينبغى للحكم أن يأتى الرجل فينتظر ما عنده هل يهوى المرأة، فإن قال: لا والله مالى فيها حاجة، علم أن النشوز جاء من قبله. ويقول حكم المرأة لها مثل ذلك، ثم يعلماهما جميعا على قدر ذلك، فيأتيا الزوج فيقولا: أنت ظالم أنت ظالم اتق الله، إن كان ظالما. فذلك قوله {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ} إذا فعلا هذا الفعل.

{ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }

وقوله: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً...}
أمرهم بالإحسان إلى الوالدين. ومثله {وقضى ربُّك ألاّ تَعْبُدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحسانا} ولو رفع الإحسان بالباء إذ لم يظهر الفعل كان صوابا؛ كما تقول فى الكلام: أحسِنْ إلى أخيك، وإلى المسىء الإساءة.
{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} بالخفض. وفى بعض (مصاحف أهل الكوفة وعُتُق المصاحف) (ذا القربى) مكتوبة بالألف. فينبغى لمن قرأها على الألف أن ينصب (والجارَ ذا القربى) فيكون مثل قوله {حافظوا على الصلواتِ والصلاَة الوسطى} يضمر فعلا يكون النصب به.

{وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: الجار الذى ليس بينك وبينه قرابة {وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ}: الرفيق {وَابْنِ السَّبِيلِ}: الضيف.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً }

وقوله: { فَسَآءَ قِرِيناً...}
بمنزلة قولك: نعم رجلا، وبئس رجلا. وكذلك {وساءت مصيرا} و {كَبُر مقتا} وبناء نعم وبئس ونحوهما أن ينصبا ما وليهما من النكرات، وأن يرفعا ما يليهما من معرفة غير موَقّتة وما أضيف إلى تلك المعرفة. وما أضيف إلى نكرة كان فيه الرفع والنصب.
فإذا مضى الكلام بمذكر قد جعل خبره مؤنثا مثل: الدار منزل صِدق، قلت: نِعمت منزلا، كما قال {وساءت مصيرا} وقال {حسنت مرتفقا} ولو قيل: وساء مصيرا، وحسن مرتفقا، لكان صوابا؛ كما تقول: بِئس المنزل النار، ونعم المنزل الجنة. فالتذكير والتأنيث على هذا؛ ويجوز: نعمت المنزل دارك، وتؤنث فعل المنزل لما كان وصفا للدار. وكذلك تقول: نعم الدار منزلك، فتذكّر فعل الدار إذ كانت وصفا للمنزل. وقال ذو الرمَّة:
أو حُرَّةٌ عَيْطَل ثبْجاءُ مُجْفِرةٌ * دعائمَ الزَّورِ نِعمت زورقُ البلد
ويجوز أن تذكر الرجلين فتقول بِئسا رجلين، وبِئس رجلين، وللقوم: نِعم قوما ونعموا قوما. وكذلك الجمع من المؤنث. وإنما وحَّدوا الفعل وقد جاء بعد الأسماء لأن بئس ونعم دلالة على مدح أو ذمّ لم يرد منهما مذهب الفعل, مثل قاما وقعدا. فهذا فى بئس ونعم مطرد كثير. وربما قيل فى غيرها مما هو فى معنى بئس ونعم. وقال بعض العرب: قلت أبياتا جاد أبياتا، فوحّد فعل البيوت. وكان الكسائىّ يقول: أضمِر حاد بهن أبياتا، وليس ها هنا مضمر إنما هو الفعل وما فيه.

وقوله: {وحَسُنَ أولئك رفيقا} إنما وحد الرفيق وهو صفة لجمع لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب به العرب إلى الواحد وإلى الجمع. فلذلك قال {وحَسُن أولئِك رفيقا} ولا يجوز فى مثله من الكلام أن تقول: حسن أولئك رجلا، ولا قبح أولئِك رجلا، إنما يجوز أن توحد صفة الجمع إذا كان اسما مأخوذا من فعل ولم يكن اسما مصرحا؛ مثل رجل وامرأة، ألا ترى أن الشاعر قال:
وإذا هُمُ طعِموا فألأم طاعم * وإذا هم جاعوا فشرّ جِياع
وقوله: {كَبُرَتْ كَلمةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِم} كذلك، وقد رفعها بعضهم ولم يجعل قبلها ضميرا تكون الكلمة خارجة من ذلك المضمر. فإذا نصبت فهى خارجة من قوله: {ويُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} أى كبرت هذه كلمة.

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }

وقوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا...}
ينصب الحسنة ويضمر فى (تك) اسم مرفوع. وإن شئت رفعت الحسنة ولم تضمر شيئا. وهو مثل قوله {وإن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظرَة إلى مَيْسرة}

{ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً }

وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ...}

(وتسوى) ومعناه: لو يسوون بالتراب. وإنما تمنّوا ذلك لأن الوحوش وسائر الدواب يوم القيامة يقال لها: كونى ترابا، ثم يحيا أهل الجنة، فإذا رأى ذلك الكافرون قال بعضهم لبعض: تعالوا فلنقل إذا سئلنا: والله ما كنا مشركين، فإذا سئِلوا فقالوها ختِم على أفواههم وأذِن لجوارحهم فشهدت عليهم. فهنالك يودّون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا. فكتمان الحديث ههنا فى التمنى. ويقال: إنما المعنى: يومئذ لا يكتمون الله حديثا ويودون لو تسوى بهم الأرض.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }

وقوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى... }
نزلت فى نفر من أصحاب محممد صلى الله عليه وسلم شربوا وحضروا الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تحريم الخمر. فأنزل الله تبارك وتعالى {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ} مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن صلّوها فى رحالكم.
ثم قال {وَلاَ جُنُباًً} أى لا تقربوها جُنُباً {حَتَّى تَغْتَسِلُواْ}
ثم استثنى فقال {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} يقول: إلا أن تكونوا مسافرين لا تقدرون على الماء
ثم قال {فَتَيَمَّمُواْ} والتيمم: أن تقصد الصعد الطيّب حيث كان. وليس التيمم إلا ضربة للوجه وضربة لليدين للجنب وغير الجنب.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ }

وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ...}
{أَلَمْ تَرَ} فى عامة القرآن: ألم تخبر. وقد يكون فى العربية: أما ترى، أما تعلم.

{ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

وقوله: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ...}
أن شئت جعلتها متصلة بقوله {ألم تر إلى الذين أوتوا نصِيبا من الكتاب}، {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} وإن شئت كانت منقطعة منها مستأنفة، ويكون المعنى: من الذين هادوا من يحرفون الكلم. وذلك من كلام العرب: أن يضمروا (من) فى مبتدأ الكلام. فيقولون: منَّا يقول ذلك، ومنا لا يقوله. وذلك أن (مِن) بعض لما هى منه، فلذلك أدَّت عن المعنى المتروك؛ قال الله تبارك وتعالى: {وما مِنّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم} وقال {وإِنْ مِنْكُمْ إِلا وارِدها} وقال ذو الرمَّة:
فظلّوا ومنهم دمعه سابِقٌ له * وآخرُ يثْنِى دَمْعَة العين بالْهَمْلِ
يريد: منهم من دمعه سابِق. ولا يجوز إضمار (من) فى شىء من الصفات إلا على المعنى الذى نبأتك به، وقد قالها الشاعر فى (فى) ولست أشتهيها، قال:
لو قلت ما فى قومها لم تأْثم * يَفْضُلها فى حسب ومِيسم

ويروى أيضا (تيثم) لغة. وإنما جاز ذلك فى (فى) لأنك تجد معنى (من) أنه بعض ما أضيفت إليه؛ ألا ترى أنك تقول؛ فينا صالحون وفينا دون ذلك، فكأنك قلت: منا، ولا يجوز أن تقول: فى الدار يقول ذلك؛ وأنت تريد فى الدار من يقول ذلك، إنما يجوز إذا أضفت (فى) إلى جنس المتروك.
وقوله: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} يعنِى: ويقولون (وراعِنا) يوجهونها إلى شتم محمد صلى الله عليه وسلم. فذلك اللىّ.
وقوله: {وَأَقْوَمَ} أى أعدل.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً }

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ...}
فإن شئت جعلتها فى مذهب خفض ثم تلقى الخافض فتنصبها؛ يكون فى مذهب جزاء؛ كأنك قلت: إن الله لا يغفر ذنبا مع شرك ولا عن شرك.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }

وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ...}
جاءت اليهود بأولادها إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل لهؤلاء ذنوب؟ قال: لا، قالوا: فإنا مثلهم ما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل. فذلك تزكيتهم أنفسهم.
وقوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الفتيل هو ما فتلت بين إصبعيك من الوسخ، ويقال: وهو الذى فى بطن النواة.

{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً }

وقوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً...}

النقير: النقطة فى ظهر النواة. و(إذاً) إذا استؤنف بها الكلام نصبت الفعل الذى فى أوله الياء أو التاء أو النون أو الألف؛ فيقال: إذا أضربك، إذاً أَجْزيَك. فإذا كان فيها فاء أو واو أو ثمّ أو (أو) حرف من حروف النسق، فإن شئت كان معناهما معنى الاستئناف فنصبت بها أيضاً. وإن شئت جعلت الفاء أو الواو إذا كانتا منها منقولتين عنها إلى غيرها. والمعنى فى قوله {فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ} على: فلا يؤتون الناس نقيرا إِذاً. ويدلك على ذلك أنه فى المعنى - والله أعلم - جواب لجزاء مضمر، كأنك قلت: ولئن كان لهم، أو ولو كان لهم نصيب لا يؤتون الناس إذا نقيرا. وهى فى قراءة عبدالله منصوبة (فإذا لا يؤتوا الناس نقيرا) وإذا رأيت الكلام تامّا مثل قولك: هل أنت قائم؟ ثم قلت: فإذا أضربك، نصبت بإذاً ونصبت بجواب الفاء ونويت النقل. وكذلك الأمر والنهى يصلح فى إذاً وجهان: النصب بها ونقلها. ولو شئت رفعت بالفعل إذا نويت النقل فقلت: إيته فإذاً يكْرِمُك، تريد فهو يكرمك إذاً، ولا تجعلها جوابها. وإذا كان قبلها جزاء وهى له جواب قلت: إن تأتنى إذا أُكْرِمُك. وإن شئت: إذا أُكْرِمَك وأُكْرِمْك؛ فمن جزم أراد أكرِمك إِذاً. ومن نصب نوى فى إذاً فاء تكون جوابا فنصب الفعل بإذاً. ومن رفع جعل إذاً منقولة إلى آخر الكلام؛ كأنه قال: فأُكرِمك إِذاً. وإذا رأيت فى جواب إِذاً اللام فقد أضمرت لها (لئن) أو يمينا أو (لو). من ذلك قوله عزّ وجل {ما اتّخذ اللَّهُ من ولدٍ وما كان مَعَه مِن إِلهٍ إِذاً لذهب كُلُّ إِلهٍ بِما خلق}. والمعنى - والله أعلم -: لو كان [معه] فيهما إله لذهب كل إله بما خلق. ومثله {وإِن كادوا لَيَفْتنونك عنِ الذِى أَوحينا إِليك لِتفترِىَ علينا غيرَه، وإذا لاتّخَذوك خلِيلا} ومعناه: لو فعلت لاتخذوك. وكذلك قوله {كِدْتَ تركن} ثم قال: {إِذاً لأذقناك}، معناه لو ركنت لأذقناك إِذاً. وإذا أوقعت (إذاً) على يفعل وقبله اسم بطلت فلم تنصب؛

فقلت: أنا إذا أَضربُك. وإذا كانت فى أوّل الكلام (إِنّ) نصبت يفعل ورفعت؛ فقلت: إنى إذاً أوذِيَك. والرفع جائز؛ أنشدنى بعض العرب:
لا تتركنِّى فِيهُم شَطيرا * إِنى إِذاً أهلِكَ أو أَطيرا

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً }

وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...}
هذه اليهود حسدت النبى صلى الله عليه وسلم كثرة النساء, فقالوا: هذا يزعم أنه نبىّ وليس له همّ إلا النساء.
فأنزل الله تبارك وتعالى {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وفى آل إبراهيم سليمان بن داود، وكان له تسعمائة امرأة، ولداود مائة امرأة.
فلما تليت عليهم هذه الآية كذَّب بعضهم وصدَّق بعضهم.
وهو قوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ...}
بالنبأ عن سليمان وداود {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} بالتكذيب والإعراض.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً }

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً...}
يقول: عُصَباً. إذا دعيتم إِلى السرايا، أو دعيتم لتنفروا جميعا.
{ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً }

وقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ...}

اللام التى فى (من) دخلت لمكان (إنّ) كما تقول: إنّ فيها لأخاك. ودخلت اللام فى (لَيُبَطِّئَنَّ) وهى صلة لمن على إِضمارِ شبيه باليمين؛ كما تقول فى الكلام: هذا الذى ليقومنَّ؛ وأرى رجلا ليفعلنَّ ما يريد. واللام فى النكرات إذا وصِلت أسهل دخولا منها فى من وما والذى؛ لأن الوقوف عليهن لا يمكن. والمذهب فى الرجل والذى واحِد إذا احتاجا إلى صلة. وقوله: {وإنّ كُلاّ لما لَيُوَفِّينّهم} من ذلك، دخلت اللام فى (ما) لمكان إنّ، ودخلت فى الصلة كما دخلت فى ليبطئن. ولا يجوز ذلك فى عبدالله، وزيد أن تقول: إن أخاك ليقومنّ؛ لأن الأخ وزيدا لا يحتاجان إلى صلة، ولا تصلح اللام أن تدخل فى خبرهما وهو متأخر؛ لأن اليمين إذا وقعت بين الاسم والخبر بطل جوابها؛ كما نقول: زيد والله يكرمك، ولا تقول زيد والله ليكرمك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً }

وقوله: {يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً...}
العرب تنصب ما أجابت بالفاء فى ليت؛ لأنها تمنّ، وفى التمنى معنى يسّرنى أن تفعل فأفعلَ. فهذا نصب كأنه منسوق؛ كقولك فى الكلام: ودِدت أن أقوم فيتبعَنى الناس. وجواب صحيح يكون لجحد ينوى فى التمنّى؛ لأنّ ما تمنّى مما قد مضى فكأنه مجحود؛ ألا ترى أن قوله {يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ} فالمعنى: أكن معهم فأفوز. وقوله فى الأنعام {يا ليتنا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ} هى فى قراءة عبدالله بالفاء {نردّ فلا نكذبَ بآياتِ ربّنا} فمن قرأها كذلك جاز النصب على الجواب، والرفع على الاستئناف، أى فلسنا نكذب. وفى قراءتنا بالواو. فالرفع فى قراءتنا أجود من النصب، والنصب جائز على الصرف؛ كقولك: لا يسعنى شىء ويضيقَ عنك.

{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً }

وقوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ...}
و(المستضعفين) فى موضع خفض.
وقوله: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} خفض (الظالم) لأنه نعت للأهل، فلما أعاد الأهل على القربة كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها؛ كما تقول: مررت بالرجلِ الواسعةِ دارُه، وكما تقول: مررت برجلٍ حَسَنةٍ عينُه. وفى قراءة عبدالله: "أخرجنا من القرية التي كانت ظالمة". ومثله مما نسب الظلم إلى القرية وإنما الظلم لأهلها فى غير موضع من التنزيل. من ذلك {وكَمْ مِن قَرْيةٍ أهلكناها} ومنه قوله: {واسألِ القرية التِى كنا فِيها} معناه: سل أهل القرية.

{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هؤلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً }

وقوله: {فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ...}

يشدّد ما كان من جمع؛ مثل قولك: مررت بثياب مُصَبَّغةٍ وأكبشٍ مذبّحةٍ. فجاز التشديد لأن الفعل متفرق فى جمع. فإذا أفردت الواحد من ذلك فإن كان الفعل يتردّد فى الواحد ويكثر جاز فيه التشديد والتخفيف؛ مثل قولك: مررت برجل مشجّج، وبثوب ممزّق؛ جاز التشديد؛ لأن الفعل قد تردد فيه وكثر. وتقول: مررت بكبشٍ مذبوح، ولا تقل مذبح لأن الذبح لا يتردّد كتردّد التخرق، وقوله: {وبِئرٍ مُعَطَّلةٍ وقصرٍ مَشِيد} يجوز فيه التشديد؛ لأن التشييد بناء فهو يتطاول ويتردّد. يقاس على هذا ما ورد.
وقوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ...}
وذلك أن اليهود لمّا أتاهم النبىّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة قالوا: ما رأينا رجلا أعظم شؤما من هذا؛ نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا. فقال الله تبارك وتعالى: إن أمطروا وأخصبوا قالوا: هذه من عند الله، وإن غلت أسعارهم قالوا: هذا من قِبل محمد (صلى الله عليه وسلم).
وقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}.
وقوله: {فَمَالِ هؤلاء الْقَوْمِ} (فمال) كثرت فى الكلام، حتى توهَّموا أن اللام متصلة بـ (ما) وأنها حرف فى بعضه. ولا تصالِ القراءة لا يجوز الوقف على اللام؛ لأنها لام خافضة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }

وقوله: {طَاعَةٌ...}

الرفع على قولك: مِنّا طاعة، أو أمرُك طاعة. وكذلك {قُل لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} معناه - والله أعلم -: قولوا: سمع وطاعةٌ. وكذلك التى فى سورة محمد صلى الله عليه وسلم {فأَولى لهم طاعةٌ وقولٌ معروف} ليست بمرتفعة بـ (لهم). هى مرتفعة على الوجه الذى ذكرت لك. وذلك أنهم أنزل عليهم الأمر بالقتال فقالوا: سمع وطاعة، فإذا فارقوا محمدّا صلى الله عليه وسلم غيّروا قولهم. فقال الله تبارك وتعالى {فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم} وقد يقول بعض النحويين: وذكِر فيها القتال، وذكِرت (طاعة) وليست فيها واو فيجوزَ هذا الوجه. ولو رددت الطاعة وجعلت كأنها تفسير للقتال جاز رفعها ونصبها؛ أمّا النصب فعلى: ذكر فيها القتال بالطاعة أو على الطاعة. والرفع على: ذكر فيها القتال ذكِر فيها طاعة.
وقوله: {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ} القراءة أن تنصب التاء، لأنها على جهة فَعَل. وفى قراءة عبدالله: "بيّتَ مُبيّت منهم" غير الذى تقول. معناه: غَيّروا ما قالوا وخالفوا. وقد جزمها حمزة وقرأها بيَّتْ طائفة. جزمها لكثرة الحركات، فلما سكنت التاء اندغمت فى الطاء.

{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }

وقوله: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ...}

هذا نزل فى سرايا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها، فإذا غَلَبوا أو غُلِبوا بادر المنافقون إلى الاستخبار عن حال السرايا، ثم أفشوه قبل أن يفشيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يحدّثه، فقال {أَذَاعُواْ بِهِ} يقول أفشوه. ولو لم يفعلوا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى يخبر به لكان خيرا لهم، أو ردّوه إلى أمراء السرايا. فذلك قوله {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
وقوله: {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} قال المفسرون معناه: لعلمه الذين يستنبطونه إِلا قليلا. ويقال: أذاعوا به إلا قليلا. وهو أجود الوجهين؛ لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكن فى بعضهم دون بعض. فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة.

{ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً }

وقوله: { يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا...}
الكِفل: الحظّ. ومنه قوله: {يؤتِكم كِفْلَيْنِ مِن رحمتِهِ} معناه: نصيبين.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} المقِيْت: المقدّر والمقتدر، كالذى يعطى كل رجل قُوته. وجاء فى الحديث: كفى بالمرء (إثما) أن يضيع من يُقِيت، ويقوت.
المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }

وقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ}...}

أى زيدوا عليها؛ كقول القائِل: السلام عليكم، فيقول: وعليكم ورحمة الله. فهذه الزيادة {أَوْ رُدُّوهَآ} قيل هذا للمسلمين. وأمّا أهل الكتاب فلا يزادون على: وعليكم.

{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }

وقوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ...}
إنما كانوا تكلّموا فى قوم هاجروا إلى المدينة من مكة، ثم ضجِروا منها واستوخموها فرجعوا سرّا إلى مكة. فقال بعض المسلمين: إن لقيناهم قتلناهم وسلبناهم، وقال بعض المسلمين: أتقتلون قوما على دينكم أن استوخموا المدينة؛ فجعلهم الله منافقين، فقال الله فما لكم مختلفين فى المنافقين. فذلك قوله (فئتين).
ثم قال تصديقا لنفاقهم {وَدُّوا لو تَكْفُرون كما كَفَروا} فنصب (فئتين) بالفعل، تقول: مالك قائما، كما قال الله تبارك وتعالى {فَمَا لِلّذِينَ كَفَروا قِبلك مُهْطِعِين} فلا تبالِ أكان المنصوب معرفة أو نكرة؛ يجوز فى الكلام أن تقول: مالك الناظرَ فى أمرنا، لأنه كالفعل الذى ينصب بكان وأظنّ وما أشبههما. وكل موضع صلحت فيه فَعَل ويفعل من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة؛ كما تنصب كان وأظنّ؛ لأنهن نواقص فى المعنى وإن ظننت أنهن تامّات. ومثل مالِ، ما بالُك، وما شأنك. والعمل فى هذه الأحرف بما ذكرت لك سهل كثير. ولا تقل: ما أمرُك القائمَ، ولا ما خطبُك القائمَ، قياسا عليهن؛ لأنهن قد كثرن، فلا يقاس الذى لم يستعمل على ما قد استعمل؛ ألا ترى أنهم قالوا: أيش عندك؟ ولا يجوز القياس على هذه فى شىء من الكلام.
وقوله: {والله أَرْكَسَهُمْ بما كَسبوا} يقول: ردّهم إلى الكفر. وهى فى قراءة عبدالله وأبىّ {واللَّه رَكَسَهم}.
.

{ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }

وقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ...}
يقول: إذا واثق القوم النبىّ صلى الله عليه وسلم ألاّ يقاتلوه ولا يعينوا عليه، فكتبوا صلحا لم يحلّ قتالهم ولا من اتَّصل بهم، فكان رأيه فى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهم فلا يحلّ قتاله. فذلك قوله (يصلون) معناه: يتصلون بهم.
وقوله: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}، يقول: ضاقت صدورهم عن قتالكم أو قتال قومهم. فذلك معنى قوله {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أى ضاقت صدورهم. وقد قرأ الحسن "حصِرةً صدورهم"، والعرب تقول: أتانى ذهب عقلُه، يريدون قد ذهب عقله. وسَمع الكسائىُّ بعضهم يقول: فأصبحتُ نظرت إلى ذات التنانِيرِ. فإذا رأيت فَعَل بعد كان ففيها قد مضمرة، إلا أن يكون مع كان جحد فلا تضمر فيها (قد مع جحد) لأنها توكيد والجحد لا يؤكَّد؛ ألا ترى أنك تقول: ما ذهبت، ولا يجوز ما قد ذهبت.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }

وقوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ...}

معناه: أن يأمنوا فيكم ويأمنوا فى قومهم. فهؤلاء بمنزلة الذين ذكرناهم فى أن قتالهم حلال إذا لم يرجعوا.

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ...}
مرفوع على قولك: فعليه تحرير رقبة. والمؤمنة: المصلِّية المدرِكة. فإن لم يقل: رقبة مؤمنة، أجزأت الصغيرة التى لم تصلِّ ولم تبلغ.
وقوله: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} كان الرجل يسلم فى قومه وهم كفّار فيكتم إسلامه. فمن قُتِل وهو غير معلوم إسلامه من هؤلاء أعتق قاتله رقبة ولم تدفع دِيته إلى الكفار فيقْوَوْا بها على أهل الإسلام. وذلك إذا لم يكن بين قومه وبين النبىّ صلى الله عليه وسلم عهد. فإن كان عهد جرى مجرى المسلم.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذالِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ...}

(فَتَثَبَّتُوا - قراءة عبدالله بن مسعود وأصحابه. وكذلك التى فى الحجُرات. ويَقْرأ ان: فَتَثَبَّتُوا) وهما متقاربتان فى المعنى. تقول للرجل: لا تعجل بإقامة حتى تتبين وتتثبت.
وقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} ذكروا أنه رجل سلّم على بعض سرايا المسلمين، فظنّوا أنه عائذ بالإسلام وليس بمسلم فقُتِل. وقرأه العامة: السَلَم. والسلم: الاستسلام والإعطاء بيده.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }

وقوله: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ...}
يرفع (غير) لتكون كالنعت للقاعدين؛ كما قال: {صِراطَ الذين أنعمت عليهم غيرِ المغضوب} وكما قال {أوِ التابِعِين غيرِ أولِى الإرْبةِ مِن الرجالِ} وقد ذكِر أن (غير) نزلت بعد أن ذكر فضل المجاهد على القاعد، فكان الوجه فيه الاستثناء والنصب. إلا أنّ اقتران (غير) بالقاعدين يكاد يوجب الرفع؛ لأن الاستثناء ينبغى أن يكون بعد التمام. فتقول فى الكلام: لا يستوى المحسنون والمسيئون إلا فلانا وفلانا. وقد يكون نصبا على أنه حال كما قال: {أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعامِ إلا ما يُتْلَى عليكم غيرَ مُحِلِّى الصيدِ} ولو قرئت خفضا لكان وجها: تجعل من صفة المؤمنين.

{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ...}
إن شئت جعلت {تَوَفَّاهُمُ} فى موضع نصب. ولم تضمر تاء مع التاء, فيكون مثل قوله {إن البقر تشابه علينا} وإن شئت جعلتها رفعا؛ تريد: إن الذين تتوفاهم الملائكة. وكل موضع اجتمع فيه تاءان جاز فيه إِضمار إحداهما؛ مثل قوله {لعلكم تذكرون} ومثل قوله {فإن تَوَلَّوْا فقد أبلغتكم}.

{ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً }

وقوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ...}
فى موضع نصب على الاستثناء من {مأواهم جهنم}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

وقوله: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً...}
ومراغَمة مصدران. فالمراغَم: المضطَرب والمذهب فى الأرض.

{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }

وقوله: {فَلْتَقُمْ...}
وكلّ لام أمر إذا استؤنفت ولم يكن قبلها واو ولا فاء ولا ثُمَّ كُسرت. فإذا كان معها شىء من هذه الحروف سُكّنت. وقد تكسر مع الواو على الأصل. وإنما تخفيفها مع الواو كتخفيفهم (وهْوَ) قال ذاك، (وهْىَ) قالت ذاك. وبنو سُلَيم يفتحون اللام إذا استؤنفت فيقولون: لَيَقم زيد، ويجعلون اللام منصوبة فى كل جهة؛ كما نصَبت تميم لام كى إذا قالوا: جئت لآَخذ حقّى.

وقوله: {طَآئِفَةٌ أُخْرَى} ولم يقل: آخرون؛ ثم قال {لَمْ يُصَلُّواْ} ولم يقل: فلتصل. ولو قيل: "فلتُصل" كما قيل "أخرى" لجاز ذلك. وقال فى موضع آخر: {وإنْ طائفتانِ مِن المؤمِنِين اقتتلوا} ولو قيل: اقتتلتا فى الكلام كان صوابا. وكذلك قوله {هذانِ خَصْمانِ اختصموا فى ربِّهم} ولم يقل: اختصما. وقال {فِرقا هدى وفرِيقا حَقَّ عليهم الضّلالة} وفى قراءة أبىّ "عليه الضلالة". فإذا ذكرت اسما مذكّرا لجمع جاز جمع فعله وتوحيده؛ كقول الله تعالى {وإنا لجميع حاذرون}. وقوله: {أم يقولون نَحْن جَميعٌ مُنْتَصر} وكذلك إذا كان الاسم مؤنّثا وهو لجمع جعلت فعله كفعل الواحدة الأنثى الطائفة والعصبة والرفقة. وإن شئت جمعته فذكَّرته على المعنى. كلّ ذلك قد أتى فى القرآن.

{ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

وقوله: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ...}
قال بعض المفّسرين: معنى ترجون: تخافون. ولم نجد معنى الخوف يكون رجاء إلا ومعه جحد. فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف، وكان الرجاء كذلك؛ كقوله تعالى {قل لِلذِين آمنوا يغفِروا لِلذِين لا يرجون أَيّامَ اللهِ} هذه: للذين لا يخافون أيام الله، وكذلك قوله: {ما لكم لا تَرْجون لِلّهِ وقارا}: لا تخافون لله عظمة. وهى لغة حجازية. وقال الراجز:
لا ترتجِى حِين تلاقى الذائدا * أسبعة لاقت معا أم واحدا
وقال الهدلىّ:
إذا لسعته النحلُ لم يرجَ لَسْعها * وخالفها فى بيتِ نُوب عوامِلِ
ولا يجوز: رجوتك وأنت تريد: خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }

وقوله: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً...}
يقال: كيف قال "به" وقد ذَكَر الخطيئة والإثم؟. وذلك جائز أن يُكْنَى عن الفعلين وأحدهما مؤنّث بالتذكير والتوحيد، ولو كثر لجاز الكناية عنه بالتوحيد؛ لأن الأفاعيل يقع عليها فعل واحد، فلذلك جاز. فإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلته كالواحد. وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصّة؛ كما قال {وإذا رَأَوْا تجارةً أو لَهْواً انفَضُّوا إِليها} فجعله للتجارة. وفى قراءة عبدالله (وإذا رأوا لهوا أو تجارة انفَضُّوا إليها) فجعله للتجارة فى تقديمها وتأخيرها. ولو أتى بالتذكير فجعِلا كالفعل الواحد لجاز. ولو ذكّر على نِيّة اللهو لجاز. وقال {إِن يكن غَنِيّاً أو فَقِيرا فاللَّهُ أَوْلَى بهما} فثنّى. فلو أتى فى الخطيئة واللهو والإثم والتجارة مثنى لجاز. وفى قراءة أبىّ (إن يكن غنِىّ أو فقير فالله أولى بهم) وفى قراءة عبدالله (إِن يكن غنىّ أو فقير فالله أولى بهما) فأمَّا قول أبىّ (بهم) فإنه كقوله {وكم مِن مَلَكٍ فى السمواتِ لا تُغْنِى شفاعَتُهمْ} ذهب إلى الجمع، كذلك جاء فى قراءة أبىّ، لأنه قد ذكرهم جميعا ثم وحّد الغنىّ والفقير وهما فى مذهب الجمع؛ كما تقول: أصبح الناس صائما ومفطرا، فأدّى اثنان عن معنى الجمع.

{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }

وقوله: {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ...}
يريد: لقد همت طائفة فأضمرت.
وقوله: {أَن يُضِلُّوكَ}: يُخطِّئوك فى حكمك.

{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }

وقوله: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ...}
(من) فى موضع خفض ونصب؛ الخفض: إلا فيمن أمر بصدقة. والنجوى هنا رجال؛ كما قال {وإذْ هُمْ نَجوى} ومن جعل النجوى فعلا كما قال {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ} فـ (من) حينئذ فى موضع رفع. وأمّا النصب فأن تجعل النجوى فعلا. فإذا استثنيت الشىء من خلافه كان الوجه النصب، كما قال الشاعر:
وقفت فيها أُصَيلاناً أُسائلها * عَيَّت جوابا وما بالربْعِ مِن أحدِ
إِلا الأوارِىَّ لأْياً ما أُبيِّنها * والنُؤْىُ كالحوض بالمظلومةِ الجَلَدِ
وقد يكون فى موضع رفع وإن ردّت على خلافها؛ كما قال الشاعر:
وبلد ليس بِهِ أنيسُ * إلا اليعافِيرُ وإلاَّ العِيسُ

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً }

وقوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً...}
يقول: اللات والعُزَّى وأشباههما من الآلهة المؤنثة. وقد قرأ ابن عباس {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} جمع الوثن فضم الواو فهمزها، كما قال {وإذا الرُّسُلُ أُقِّتَت} وقد قرئت (إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِه إلا أُنُثا) جمع الإناث، فيكون مثل جمع الثمار والثمر {كُلُوا مِنْ ثُمُرِه}.
{ لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }

وقوله: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً...}
جعل الله له عليه السبيل؛ فهو كالمفروض.

{ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً }

وقوله: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ...}
وفى قراءة أُبىّ "وأُضلهم وأُمَنِّيهم".

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }

وقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً...}
يقول القائل: ما هذه الخُلَّة؟ فذُكِر أنّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يضيف الضيفان ويطعم الطعام، فأصاب الناس سنةُ جدب فعزَّ الطعام. فبعث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلى خليل له بمصر كانت المِيرة من عنده، فبعث غلمانه معهم الغرائر والإبل ليميره، فردّهم وقال: إبراهيم لا يريد هذا لنفسه، إنما يريده لغيره. قال: فرجع غلمانه، فمرّوا ببطحاء لينة. فاحتملوا من رملها فملئوا الغرائر؛ استحياء من أن يردّوها فارغة، فرُدّوا على إبراهيم صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر وامرأه نائمة، فوقع عليه النوم هَمّا، وانتبهت والناس على الباب يلتمسون الطعام. فقالت للخبّازين: افتحوا هذه الغرائر واعتجنوا، ففتحوها فإذا أطيب طعام، فعجنوا واختبزوا. وانتبه إبراهيم صلى الله عليه وسلم فوجد ريح الطعام، فقال: مِن أين هذا؟ فقالت امرأة إبراهيم صلى الله عليه وسلم: هذا من عند خليلك المصرىّ. قال فقال إبراهيم: هذا من عند خليلى الله لا من عند خليلى المصرىّ. قال: فذلك خُلّته.

{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً }

وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى...}
(معناه: قل الله يفتيكم فيهنّ وما يتلى). فموضع (ما) رفع كأنه قال: يفتيكم فيهنّ ما يتلى عليكم. وإن شئت جعلت ما فى موضع خفض: يفتيكم الله فيهنّ وما يتلى عليكم غيرهنّ.
وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} فى موضع خفض، على قوله: يفتيكم فيهنّ وفى المستضعفين. وقوله: {وَأَن تَقُومُواْ} (أن) موضع خفض على قوله: ويفتيكم فى أن تقوموا لليتامى بالقسط.

{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

وقوله: {خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً...}
والنشوز يكون من قِبل المرأة والرجل. والنشوز هاهنا من الرجل لا من المرأة. ونشوزه أن تكون تحته المرأة الكبيرة فيريد أن يتزوج عليها شابّة فيؤثرها فى القسمة والجماع. فينبغى له أن يقول للكبيرة: إنى أريد أن أتزوّج عليك شابَّة وأوثرها عليك، فإن هى رضيت صلح ذلك له، وإن لم ترض فلها من القسمة ما للشابّة.
وقوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ} إنما عنى به الرجل وامرأته الكبيرة. ضنّ الرجل بنصيبه من الشابة، وضنّت الكبيرة بنصيبها منه. ثم قال: وإن رضيت بالإمرة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }

وقوله: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ...}
إلى الشابة، فتهجروا الكبيرة كل الهجر {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} وهى فى قراءة أُبَىّ (كالمسجونة).

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

وقوله: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ...}
هذا فى إقامة الشهادة على انفسهم وعلى الوالدين والأقربين. ولا تنظروا فى غِنى الغنِىّ ولا فقر الفقير؛ فإن الله أولى بذلك.
(فلا تَتَّبِعُوا الهوى [أن تعدِلوا]) فرارا من إقامة الشهادة. وقد يقال: لا تتبعوا الهوى لتعدلوا؛ كما تَقول: لا تتبِعنّ هواك لتُرضِى ربك، أى إنى أنهاك عن هذا كيما ترضِى ربك. وقوله {وَإِن تَلْوُواْ} وتَلُوا، قد قرئتا جميعا. ونرى الذين قالوا (تلوا) أرادوا (تَلْؤُوا) فيهمزون الواو لانضمامها، ثم يتركون الهمز فيتحوّل إعراب الهمز إلى اللام فتسقط الهمزة. إلا أن يكون المعنى فيها: وإن تلوا ذلك، يريد: تتولَّوه {أَوْ تُعْرِضُواْ} عنه: أوتتركوه، فهو وجه.

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ...}
وهم الذين آمنوا بموسى ثم كفرا من بعده بعُزَيْر، ثم آمنوا بعُزَيْر وكفروا بعيسى. وآمنت اليهود بموسى وكفرت بعيسى.
ثم قال: {[ثُمَّ] ازْدَادُواْ كُفْراً} يعنى اليهود: ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً }

وقوله: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ...}
جَزْم. ولو نصبت على تأويل الصرف؛ كقولك فى الكلام: ألم نستحوذ عليكم وقد منعناكم، فيكون مثل قوله {ولمّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِين جاهَدوا مِنْكم ويَعْلَمَ الصابرين} وهى فى قراءة أُبىّ (ومنعناكم من المؤمنين) فإن شئت جعلت "ومنعناكم" فى تأويل "وقد كنا منعناكم" وإن شئت جعلته مردودا على تأويل {أَلَمْ} كأنه قال: أما استحوذنا عليكم ومنعناكم. وفى قراءة أُبىّ (أَلَمْ تُنْهيَا عن تِلْكُما الشّجَرَةِ وقِيلَ لكما).

{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً }

وقوله: {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ...}
يقال الدرْك، والدرَك، أى أسفل دَرَج فى النار.

{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً }

وقوله: {فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ...}
جاء فى التفسير: (من المؤمنين).

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً }

وقوله: {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ...}
وظَلَمَ. وقد يكون (مَنْ) فى الوجهين نصبا على الاستثناء على الانقطاع من الأوّل. وإن شئت جعت (من) رفعا إذا قلت (ظُلم) فيكون المعنى: لا يحبُّ الله أن يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم. وهو الضيف إذا أراد النزول على رجل فمنعه فقد ظلمه، ورخّص له أن يذكره بما فعل؛ لأنه منعه حقَّه. ويكون {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} كلاما تاما، ثم يقول: إلا الظالم فدعوه، فيكون مثل قول الله تبارك وتعالى {لئلاّ يكونَ لِلناسِ عليكم حُجّة إِلا الِذين ظَلَموا} فإن الظالم لا حجَّة له، وكأنه قال إلا مَنْ ظلم فَخلُّوه. وهو مثل قوله {فذكِّر إنما أنت مُذَكِّر} ثم استثنى فقال {إِلا مَنْ تَوَلَّى وكفر} فالاستثناء من قوله {إنما أنت مُذَكّر} وليست فيه أسماء. وليس الاستثناء من قوله {لَسْتَ عَلَيْهم بمصيطر} ومثله مّما يجوز أن يستثنى (الأسماء ليس قبلها) شىء ظاهر قولك: إنى لأكره الخصومة والمِرَاء، اللهم إلاَّ رجلا يريد بذلك الله. فجاز استثناء الرجل ولم يذكر قبله شىء من الأسماء؛ لأن الخصومة والمِرَاء لا يكونان إلا بين الآدمييّن.

{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

وقوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ...}

أى أوعية للعلم تعلمه وتعقله، فما لنا لا نفهم ما يأتى به (محمد صلى الله عليه وسلم) فقال الله تبارك وتعالى {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}.

{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }

وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ...}
الهاء ها هنا لعيسى صلى الله عليه وسلم.
وقوله {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} الهاء ها هنا للعلم, كما تقول قتلته علما، وقتلته يقينا، للرأى والحديث والظنّ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً }

وقوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ...}
معناه: من ليؤمنَّن به قبل موته. فجاء التفسير بوجهين؛ أحدهما أن تكون الهاء فى موته لعيسى، يقول: يؤمنون إذا أنزل قبل موته، وتكون المِلَّة والدين واحدا. ويقال: يؤمن كل يهودىّ بعيسى عند موته. وتحقيق ذلك فى قراءة أبىّ (إلا ليؤمنُنَّ به قبل موتهم).
{ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }

وقوله: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ...}
كما أوحينا إلى كلهم.

{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً }

وقوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ...}
نصبه من جهتين. يكون من قولك: كما أوحينا إلى رسل من قبلك، فإذا ألقيت (إلى) والإرسال اتصلت بالفعل فكانت نصبا؛ كقوله {يُدْخِل من يشاء فِى رحمتِهِ والظالِمين أَعدّ لهم عذابا أَليما} ويكون نصبا من (قصصناهم). ولو كان رفعا كان صوابا بما عاد من ذكرهم. وفى قراءة أُبىّ بالرفع (ورُسُلٌ قَدْ قَصَصْناهم عليك من قَبْل ورسلٌ لم نَقْصُصْهُمْ عليك).

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

وقوله: {فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ...}
(خير) منصوب باتصاله بالأمر؛ لأنه من صفة الأمر؛ وقد يستدلّ على ذلك؛ ألم تر الكناية عن الأمر تصلح قبل الخير، فتقول للرجل: اتق الله هو خير لك؛ أى الاتقاء خير لك، فإذا سقطت (هو) اتصل بما قبله وهو معرفة فنصب، وليس نصبه على إضمار (يكن)؛ لأن ذلك يأتى بقياس يبطل هذا؛ ألا ترى أنك تقول: اتق الله تكن محسنا، ولا يجوز أن تقول: اتق الله محسنا وأنت تضمر (تكن) ولا يصلح أن تقول: انصرنا أخانا (وأنت تريد تكن أخانا).

{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ اله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }

وقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ...}
أى تقولوا: هم ثلاثة؛ كقوله تعالى {سيقولون ثلاثَةٌ رابعهم} فكل ما رأيته بعد القول مرفوعا ولا رافع معه ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم.
وقوله: {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} يصلح فى (أن) مِن وعن، فإذا أُلقيتا كانت (أن) فى موضع نصب. وكان الكسائىّ يقول: هى فى موضع خفض، فى كثير من أشباهها.

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }

وقوله: {وَلاَ يَجِدُونَ...}
ردّت على ما بعد الفاء فرفعت، ولو جزمت على أن تردّ على موضع الفاء كان صوابا، كما قال {من يضلِلِ الله فلا هادِى له ويذرهم}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( النساء )

{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وقوله: {إِن امْرُؤٌ هَلَكَ...}
(هلك) فى موضع جزم. وكذلك قوله {وإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} لو كان مكانهما يفعل كانتا جزما؛ كما قال الكُمَيت:
فإن أنت تفعل فللفاعلين * أنت المجيزين تلك الغمارا
وأنشد بعضهم:
صعدة نابتة فى حائِرٍ * أَينما الريح تُمَيِّلْها تمِل
إلا أن العرب تختار إذا أتى الفعل بعد الاسم فى الجزاء أن يجعلوه (فَعَل) لأن الجزم لا يتبين فى فَعَل، ويكرهون أن يعترض شىء بين الجازم وما جزم. وقوله {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} معناه: ألاَّ تضلوا. ولذلك صلحت لا فى موضع أن. هذه محنة لـ (أن) إذا صلحت فى موضعها لئلا وكيلا صلحت لا.

المعاني الواردة في آيات

سورة ( المائدة )

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }

ومن قوله تبارك وتعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُود...}
يعنى: بالعهود. [والعقود] والعهود واحد.
وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} وهى بقر الوحش والظباء والحُمُر الوحشيَّة.

وقوله: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} فى موضع نصب بالاستثناء، ويجوز الرفع، كما يجوز: قام القوم إلا زيدا وإلاّ زيد. والمعنى فيه: إلا ما نبينه لكم من تحريم ما يَحْرُم وأنتم مُحرمون، أو فى الحَرَم. فذلك قوله {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} يقول: أحلّت لكم هذه غير مستحِلّين للصيد {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. ومثله {إلَى طَعَامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إنَاهُ} وهو بمنزلة قولك (فى قولك) أحلَّ لك هذا الشىء لا مفرطا فيه ولا متعدّيا. فإذا جعلت (غير) مكان (لا) صار النصب الذى بعد لا فى غير. ولو كان (محلِّين الصيد) نصبت؛ كما قال الله جل وعز {ولا آمِّين الْبَيْتَ الحَرَامَ} وفى قراءة عبدالله (ولا آمِّى البيتِ الحرامِ).
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}: يقضى ما يشاء.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ...}
كانت عامّة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بينهما، فأنزل الله تبارك وتعالى: لا تستحلّوا ترك ذلك.
وقوله: {وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ}: ولا القتالَ فى الشهر الحرام.

{وَلاَ الْهَدْيَ} وهو هَدْى المشركين: أن تعرضوا له ولا أن تخيفوا من قلّد بعيره. وكانت العرب إذا أرادت أن تسافر فى غير أشهر الحُرُم قلّد أحدُهم بعيِره، فيأمن بذلك، فقال: لا تخيفوا من قلّد. وكان أهل مكَّة يقلِّدون بِلحاء الشجر، وسائر العرب يقلِّدون بالوَبَر والشعَر.
وقوله: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ} يقول: ولا تمنعوا مَن أمّ البيت الحرام أو أراده من المشركين. ثم نَسَختْ هذه الآيةُ التى فى التوبة {فاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} إلى آخر الآية.
وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} قرأها يحيى بن وثَّاب والأعمش: ولا يُجْرِمنَّكم، من أجرمت، وكلام العرب وقراءة القرّاء {يَجرِمنكم} بفتح الياء. جاء التفسير: ولا يحملنَّكم بغض قوم. قال الفرّاء: وسمعت العرب تقول: فُلان جَريِمة أهله، يريدون: كاسب لأهله، وخرج يجرِمهم: يكسب لهم. والمعنى فيها متقارب: لا يكسبنَّكم بغضُ قوم أن تفعلوا شَرّا. فـ (أن) فى وضع تصب. فإذا جعلت فى (أن) (على) ذهبتَ إلى معنى: لا يحملنَّكم بغضهم على كذا وكذا، على أن لا تعدلوا، فيصلح طرح (على)؛ كما تقول: حملتنى أن أسال وعلى أن أسأل. {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} وقد ثقّل الشنآن بعضهم، وأكثر القُرّاء على تخفيفه. وقد رُوى تخفيفه وتثقيله عن الأعمش؛ وهو: لا يحمِلنكم بغض قوم، فالوجه إذا كان مصدرا أن يثقَّل، وإذا أردت به بَغيض قوم قلت: شَنْآن.

و{أَن صَدُّوكُمْ} فى موضع نصب لصلاح الخافض فيها. ولو كسرت على معنى الجزاء لكان صوابا. وفى حرف عبدالله (إِن يَصدُّوكم) فإن كسرت جعلت الفعل مستقبلا، وإن فتحت جعلته ماضيا. وإن جعلته جزاء بالكسر صلح ذلك كقوله {أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً إِنْ كُنْتُمْ} وأن، تفتح وتكسر. وكذلك {أَوْلِيَاءَ إِن اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ} تكسر. ولو فتحت لكان صوابا، وقوله {باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [فيه] الفتح والكسر. وأمّا قوله {بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُم أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمانِ} فـ (أَنْ) مفتوحة؛ لأنّ معناها ماضٍ؛ كأنك قلت: منّ عليكم أن هداكم. فلو نويت الاستقبال جاز الكسر فيها. والفتح الوجه لمضىّ أوّل الفعلين. فإذا قلت: أكرمتك أن أتيتنى، لم يجز كسر أن؛ لأنّ الفعل ماضٍ.
وقوله: {وَتَعَاوَنُواْ} هو فى موضع جزم. لأنها أمر، وليست بمعطوفة على {تَعْتَدُواْ}.

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ...}
{وَمَآ}: فى موضع رفع بما لم يسمّ فاعله.
{وَالْمُنْخَنِقَةُ}: ما اختنقت فماتت ولم تُدرَك.
{وَالْمَوْقُوذَةُ}: المضروبة حتى تموت ولم تُذَكَّ.

{وَالْمُتَرَدِّيَةُ}: ما تردّى من فوق جبل أو بئر، فلم تدرَكْ ذكاتُه.
{وَالنَّطِيحَةُ}: مانُطِحت حتى الموت. كل ذلك محرّم إذا لم تُدرك ذكاته.
وقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} نصب ورفع.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}: ذبح للأوثان. و(ما ذبح) فى موضع رفع لا غير.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ} رَفْع بما لم يسمَّ فاعله. والاستقسام: أنّ سهاما كانت تكون فى الكعبة، فى بعضها: أمرنى ربى، (وفى موضعها: نهانى ربى) فكان أحدهم إذا أراد سفرا أخرج سهمين فأجالهما، فإن خرج الذى فيه (أمرنى ربى) خرج. وإن خرج الذى فيه (نهانى ربى) قعد وأمسك عن الخروج.
قال الله تبارك وتعالى: {ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ} والكلام منقطع عند الفسق، و {الْيَوْمَ} منصوب بـ (يئِس) لا بالفسق.
{اليومَ أُحِلَّ لَكُمُ الطّيِّباتُ} نصب (اليوم) بـ (أُحِلّ).
وقوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } مثل قوله {غير محلّى الصيد} يقول: غير معتمد لإثم. نصبت (غير) لأنها حال لـ (مَنْ)، وهى خارجة من الاسم الذى فى (اضطرّ).
المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ...}
يعنى الكلاَب. و {مُكَلِّبِينَ} نصب على الحال خارجة من (لكم)، يعنى بمكلِّبين: الرجال أصحاب الكِلاب، يقال للواحد: مكلِّب وكلاَّب. وموضع (ما) رفع.
وقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ}: تؤدّبونهن ألاَّ يأكلن صيدهنّ.
ثم قال تبارك وتعالى {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ممَّا لم يأكلن منه، فإن أكل فليس بحلال؛ لأنه إنما أمسَكَ على نفسه.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ...}
مردودة على الوجوه. قال الفراء: وحدَّثنى قيس بن الربيع عن عاصم عن زِرّ عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ (وأرجلكم) مقدّم ومؤخر. قال الفراء: وحدّثنى محمد بن أبان القريشى عن أبى إسحاق الهَمْدانىّ عن رجل عن علىّ أنه قال: نزل الكتاب بالمسح، والسُنَّة الغَسْل. قال الفراء: وحدّثنى أبو شهاب عن رجل عن الشعبىّ قال: نزل جبريل صلى الله عليه وسلم بالمسح على محمد صلى الله عليهما وعلى جميع الأنبياء. قال الفراء: السنة الغسل.
وقوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ} كناية عن خلوة الرجل إذا أراد الحاجة.

{ يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

وقوله: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى...}

لو لم تكن (هو) فى الكلام كانت (أقرب) نصبا. يكنى عن الفعل فى هذا الموضع بهو وبذلك؛ تصلحان جميعا. قال فى موضع آخر {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْواكُم صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} وفى الصفّ {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} فلو لم تكن (هو) ولا (ذلك) فى الكلام كانت نصبا؛ كقوله {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ...}
معناه: كى لا تقولوا: {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ} مثل ما قال {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلّوا}.

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ }

وقوله: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ...}
يعنى السبعين الذين اختارهم موسى ليذهبوا معه إلى الجبل، سمَّاهم أنبياء لهذا.
{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} يقول: أحدكم فى بيته ملِك، لا يُدخَل عليه إلا بإذن.
{وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} ظَلَّلَكُم بالغمام الأبيض، وأنزل عليكم المنّ والسَّلوى.

{ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }

وقوله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ...}
ذُكر أن الأرض المقدّسة دِمَشْق وفِلسطون وبعض الأُرْدُنّ (مشدّدة النون).

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }

وقوله: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا...}
فقال (أنت) ولو ألقيت (أنت) فقيل: اذهب وربك فقاتِلا كان صوابا؛ لأنه فى إحدى القراءتين (إِنه يراكم وقبِيلُه) بغير (هو) وهى بهو و(اذهب أنت وربك) أكثر فى كلام العرب. وذلك أنّ المردود على الاسم المرفوع إذا أضمر يكره؛ لأن المرفوع خفىّ فى الفعل، وليس كالمنصوب؛ لأنّ المنصوب يظهر؛ فتقول ضربته وضربتك، وتقول فى المرفوع: قام وقاما، فلا ترى اسما منفصلا فى الأصل من الفعل، فلذلك أُوثِر إظهاره، وقد قال الله تبارك وتعالى {أَئِذَا كُنّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} ولم يقل(نحن) وكلّ صواب.
وإذا فرقت بين الاسم المعطوف بشىء قد وقع عليه الفعل حسن بعضَ الحسن. من ذلك قولك: ضربت زيدا وأنت. ولو لم يكن زيد لقلت: قمت أنا وأنت، وقمت وأنت قليل. ولو كانت (إِنا ها هنا قاعدين) كان صوابا.

{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }

وقوله: {أَرْبَعِينَ سَنَةً...}
منصوبة بالتحريم. ولو قطعت الكلام فنصبتها بقوله (يَتِيهُونَ) كان صوابا. ومثله فى الكلام أن تقول: لأعطينَّك ثوبا ترضى، تنصب الثوب بالإعطاء، ولو نصبته بالرضا تقطعه من الكلام من (لأعطينك) كان صوبا.

{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }

وقوله: {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ...}

ولم يقل: قال الذى لم يتقبل منه (لأقتلنَّك) لأن المعنى يدلّ على أن الذى لم يتقبل منه هو القائِل لحسده لأخيه: لأقتلنك. ومثله فى الكلام أن تقول: إذا اجتمع السفيه والحليم حُمِد، تنوى بالحمد الحليم، وإذا رأيت الظالم والمظلوم أعَنْتَ، وأنت تنوى: أعنت المظلوم، للمعنى الذى لا يُشْكِل. ولو قلت: مرّ بى رجل وامرأة فأعنْتُ، وأنت تريد أحدهما لم يجز حتى يبيّن؛ لأنهما ليس فيهما علامة تستدلّ بها على موضع المعونة، إلا أن تريد: فأعنتهما جميعا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

وقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ...}
يريد: فتابعته.

{ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }

وقوله: {مِنْ أَجْلِ ذالِكَ...}
جواب لقتل ابن آدم صاحبه.
وقوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} يقول: عفا عنها، والإحياء ها هنا العفو.

{ إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

وقوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ...}
(أن) فى موضع رفع.

فإذا أصاب الرجل الدم والمال وأخاف السبيل صِلب، وإذا أصاب القتل ولم يصب المال قتِل، وإذا أصاب المال ولم يصب القتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى "من خلاف" ويصلح مكان (مِن) على، والباء، واللام.
ونفيه أن يقال: من قتله فدمه هدر. فهذا النفى.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا...}
مرفوعان بما عاد من ذكرهما. والنصب فيهما جائز؛ كما يجوز أزيد ضربته، وأزيدا ضربته. وإنما تختار العرب الرفع فى "السارق والسارِقة" لأنهما [غير] موَقَّتين، فوجِّها توجيه الجزاء؛ كقولك: مَنْ سرق فاقطعوا يده، فـ (من) لا يكون إلا رفعا، ولو أردت سارقا بعينه أو سارقة بعينها كان النصب وجه الكلام. ومثله {واللذانِ يأتيانها مِنكم فآذوهما} وفى قرءة عبدالله "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما".
وإنما قال (أيدِيهما) لأنّ كل شىء موحَّد من خَلْق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع. فقيل: قد هشمت رءوسهما، وملأت ظهورهما وبطونهما ضربا. ومثله {إِن تَتُوبَا إِلى الله فقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما}.
وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين فى الإنسان: اليدين والرجلين والعينين. فلما جرى أكثره على هذا ذهِب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب التثنية. وقد يجوز تثنيتهما؛ قال أبو ذُؤيب:
فتخالسا نَفْسَيهِما بنوافذ * كنوافِذِ العُبُط التى لا ترقَع
وقد يجوز هذا فيما ليس من خَلْق الإنسان. وذلك أن تقول للرجلين: خلَّيتما نساءكما، وأنت تريد امرأتين، وخرقتما قُمُصكما.

وإنما ذكرت ذلك لأن من النحويين من كان لا يجيزه إلاّ فى خَلْق الإنسان، وكلٌّ سواء. وقد يجوز أن تقول فى الكلام: السارق والسارِقة فاقطعوا يمِينهما؛ لأن المعنى: اليمين من كل واحد منهما؛ كما قال الشاعر:
كُلُوا فى نصف بطنِكم تعِيشوا * فإنَّ زمانكم زمن خمِيص
وقال الآخر:
الواردون وتَيْم فى ذرى سبأٍ * قد عضَّ أعناقهم جِلدُ الجوامِيس
من قال: (ذَرَى) جعل سبأ جِيلا، ومن قال: (ذُرَى) أراد موضعا.
ويجوز فى الكلام أن تقول: أْتِنِى برأس شاتين، ورأس شاة. فإذا قلت: برأس شاة فإنما أردت رأسَىْ هذا الجنس، وإذا قلت برأس شاتين فإنك تريد به الرأس من كل شاة؛ قال الشاعر فى غير ذلك:
كأنه وَجْه تركِيَّينِ قد غضِبا * مستهدف لِطعانٍ غيرِ تذبيب

{ ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ...}

إن شئت رفعت قوله "سمَّاعون للكذب" بِمِن ولم تجعل (مِن) فى المعنى متصلة بما قبلها، كما قال الله: {فمِنهم ظالِم لِنفسِهِ ومِنهم مقتصِد} وإن شئت كان المعنى: لا يحزنك الذِين يسارِعون فِى الكفرِ من هؤلاء ولا {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ} فترفع حينئِذ (سمَّاعون) على الاستئناف، فيكون مثل قوله {لِيستأذِنكم الذِين ملكت أيمانُكُمْ والذِين لم يبلغوا الحُلُم مِنكم} ثم قال تبارك وتعالى: {طوَّافون عليكم} ولو قيل: سماعين، وطوّافين لكان صوابا؛ كما قال: {ملعونِين أينما ثُقِفوا} وكما قال: {إن المتَّقِين في جَنَّاتٍ وعُيونٍ} ثم قال: {آخِذين، وفاكِهِين، ومتكئِين} والنصب أكثر. وقد قال أيضا فى الرفع: { كلاَّ إِنها لظى نزَّاعة لِلشوى} فرفع (نزَّاعة) على الاستئناف، وهى نكرة من صفة معرفة. وكذلك قوله: {لا تبقِى ولا تذر لَوَّاحَة} وفى قراءة أبىّ "إِنها لإِحدا الكُبَر نِذير لِلبشرِ" بغير ألف. فما أتاك من مثل هذا فى الكلام نصبته ورفعته. ونصبه على القطع وعلى الحال. وإذا حسن فيه المدح أو الذمّ فهو وجه ثالث. ويصلح إذا نصبته على الشتم أو المدح أن تنصب معرفته كما نصبت نكرته. وكذلك قوله {سمَّاعون لِلكذبِ أكَّالون لِلسُّحتِ} على ما ذكرت لك.

{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ...}

تنصب (النفس) بوقوع (أَنّ) عليها. وأنت فى قوله {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} إلى قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} بالخيار. إن شئت رفعت، وإن شئت نصبت. وقد نصب حمزة ورفع الكسائىّ. قال الفراء: وحدّثنى إبراهيم بن محمد ابن أبى يحيى عن أبان بن أبى عياش عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: (والعين بِالعين) رفعا. قال الفرّاء: فإذا رفعت العين أتبع الكلام العين، وإن نصبنه فجائز. وقد كان بعضهم ينصب كله، فإذا انتهى إلى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} رفع. وكل صواب، إِلا أن الرفع والنصب فى عطوف إِنّ وأنّ إنما يسهلان إذا كان مع الأسماء أفاعيل؛ مثل قوله {وإذا قيل إن وعد اللّهِ حق والساعة لا ريب فِيها} كان النصب سهلا؛ لأنّ بعد الساعة خبرها. ومثله {إن الأرض لِلّهِ يورِثها من يشاء مِن عبادِهِ والعاقِبة لِلمتقِين} ومثله {وإِن الظالِمِين بعضُهم أولياءُ بعضٍ والله وَلِىُّ المتقِين} فإذا لم يكن بعد الاسم الثانى خبر رفعته، كقوله عزَّ وجلّ {أنَّ الله برئ مِن المشرِكِين ورسوله} وكقوله {فإن الله هو مولاه وجِبرِيل وصالِح المؤمِنين} وكذلك تقول: إِنّ أخاك قائِم وزيد، رفعت (زيد) بإتباعه الاسم المضمر فى قائم. فابنِ على هذا.
وقوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ...}
كنى (عن [الفعل] بهو) وهى فى الفعل الذى يجرى منه فعل ويفعل، كما تقول: قد قدِمت ِ القافلة ففرحت به، تريد: بقدومها.
وقوله {كَفَّارَةٌ لَّهُ} يعنى: للجارح والجانى، وأجر للمجروح.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }

وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى...}

ثم قال {وَمُصَدِّقاً} فإن شئت جعل {مُصَدِّقاً} من صفة عيسى، وإن شئت من صفة الإنجيل.
وقوله {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} متبع للمصدّق فى نصبه، ولو رفعته على أن تتبعهما قوله {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} كان صوابا.

{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }

وقوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ...}
قرأها حمزة وغيره نصبا، وجعلت اللام فى جهة كى. وقرئت {وَلْيَحْكُمْ} جزما على أنها لام أمر.

{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }

وقوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ...}
دليل على أنّ قوله (وليحكم) جزم. لأنه كلام معطوف بعضه على بعض.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ }

وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ...}
مستأنفة فى رفع. ولونصبت على الردّ على قوله {فعسى الله أَن يأْتِى بِالفتحِ أَو أَمرٍ مِن عِندِهِ} كان صوابا. وهى فى مصاحف أهل المدينة (يقول الذين آمنوا) بغير واو.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ...}
خفض، تجعلها نعتا (لقوم) ولو نصبت على القطع من أسمائِهم فى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} كان وجها. وفى قراءة عبدالله (أَذلَّة على المؤمنين غلظاء على الكافرين) أذله: أى رحماء بهم.

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ...}
وفى فى قراءة أبىّ (ومن الكفار)، ومن نصبها ردّها على {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ }

وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ...}
(أنّ) فى موضع نصب على قوله {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ} إلا إيماننا وفسقكم. (أن) فى موضع مصدر، ولو استأنفت (وإن اكثركم فاسقون) فكسرت لكان صوابا.

{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ }

وقوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً...}
نصبت (مثوبة) لأنها مفسّرة كقوله {أَنا أَكثر مِنك مالا وأَعزُّ نَفَرا}.
وقوله: {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ } (من) فى موضع خفضٍ تردّها على (بِشرّ) وإن شئت استأنفتها فرفعتها؛ كما قال: {قل أَفَأُنبئكم بِشر مِن ذلِكم النار وعدها الله الذِين كفروا} ولو نصبت (من) على قولك: أُنبئكم (من) كما تقول: أنبأتك خيرا، وأنبأتك زيدا قائما، والوجه الخفض.وقوله {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} على قوله: "وجعل مِنهم القِردة [والخنازير] ومن عبد الطاغوتَ" وهى فى قراءة أُبىّ وعَبْدالله (وعبدوا) على الجمع، وكان أصحاب عبدالله يقرأون "وعَبَد الطاغوتِ" على فَعَل، ويضيفونها إلى الطاغوتِ، ويفسّرونها: خَدَمة الطاغوتِ. فأراد قوم هذا المعنى، فرفعوا العين فقالوا: عُبُد الطاغوتِ؛ مثل ثِمار وثُمُر، يكون جمع جمع. ولو قرأ قارئ (وعَبَد الطاغوتِ) كان صوابا جيّدا. يريد عبدة الطاغوت فيحذف الهاء لمكان الإضافة؛ كما قال الشاعر:
* قام وُلاَها فسقَوها صَرْخدا *
يريد: ولاتها. وأَما قوله (وعَبُد الطاغوت) فإن تكن فيه لغة مثل حَذِر وحَذُر وعَجُل فهو وجه، وإلا فإنه أراد - والله أعلم - قول الشاعر:
أَبَنِى لُبَيْنَى إِنّ أمَّكُمُ * أَمَةٌ وإِن أباكم عَبُد
وهذا فى الشعر يجوز لضرورة القوافى، فأمّا فى القراءة فلا.

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }

وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ...}
أرادوا: ممسكة عن الإنفاق والإسباغ علينا. وهو كقوله {ولا تجعلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقك ولا تَبْسُطْها كلَّ البَسْطِ} فى الإنفاق.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وفى حرف عبدالله (بل يداه بُِسْطَانِ) والعرب تقول: الق أخاك بوجه مبسوط، وبوجه بُِسْط.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ }

وقوله: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم...}
يقول: من قَطْر السماء ونبات الأرض من ثمارها وغيرها. وقد يقال: إن هذا على وجه التوسعة؛ كما تقول: هو فى خير قَرْنه إلى قَدَمه.

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى...}
فإن رفع (الصابِئين) على أنه عطف على (الذين)، و(الذين) حرف على جهة واحدة فى رفعه ونصبه وخفضه، فلمَّا كان إعرابه واحدا وكان نصب (إنّ) نصبا ضعيفا - وضعفه أنه يقع على (الاسم ولا يقع على) خبره - جاز رفع الصابئين. ولا أستحبُّ أن أقول: إنّ عبداللهِ وزيد قائِمان لتبيّن الإعراب فى عبدالله. وقد كان الكسائى يجيزه لضعف إنّ. وقد أنشدونا هذا البيت رفعا ونصبا:
فمن يك أمسى بالمدينةِ رحلُهُ * فإنِى وقَيَّارا بها لغرِيب

وقَيَّارٌ. ليس هذا بحجَّة للكسائىّ فى إجازته (إنّ عمرا وزيد قائِمان) لأن قيّارا قد عطف على اسم مكنىّ عنه، والمكنى لا إعراب له فسهل ذلك (فيه كما سهل) فى (الذين) إذا عطفت عليه (الصابئون) وهذا أقوى فى الجواز من (الصابئون) لأنّ المكنىّ لا يتبين فيه الرفع فى حال، و (الذين) قد يقال: اللذون فيرفع فى حال. وأنشدنى بعضهم:
وإلاَّ فاعلموا أَنَّا وأَنتم * بُغَاة ما حيِينا فى شِقاقِ
وقال الآخَر:
يا ليتنى وأَنتِ يا لَمِيسُ * ببلدٍ ليس به أنِيس
وأنشدنى بعضهم:
يا ليتنى وهما نخلو بمنزِلةٍ * حتى يرى بعضُنا بعضا ونأتلِف
قال الكسائىّ: أرفع (الصابِئون) على إتباعه الاسم الذى فى هادوا، ويجعله من قوله (إنا هدنا إليك) لا من اليهودية. وجاء التفسير بغير ذلك؛ لأنه وَصَف الذين آمنوا يأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ثم ذكر اليهود والنصارى فقال: من آمن منهم فله كذا، فجعلهم يهودا ونصارى.

{ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

وقوله: {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ...}
فقد يكون رفع الكثير من جهتين؛ إحداهما أن تكرّ الفعل عليها؛ تريد: عمِى وصَمَّ كثير منهم، وإن شئت جعلت {عَمُوا وصَمُّوا} فعلا للكثير؛ كما قال الشاعر:
يلوموننى فى اشترائى النخيـ * لَ أَهلِى فكلُّهم أَلْوَمُ
وهذا لمن قال: قاموا قومك. وإن شئت جعلت الكثير مصدرا فقلت أى ذلك كثير منهم، وهذا وجه ثالث. ولو نصبت على هذا المعنى كان صوابا. ومثله قول الشاعر.
وسوَّد ماءُ المَرْدِ فاها فلونه * كَلَون النَؤُور وهى أدماء سارُها

ومثله قول الله تبارك وتعالى: {وأَسَرّوا النَّجْوَى الذِين ظلموا} إن شئت جعلت (وأسَرّوا) فعلا لقوله {لاهِيةً قلوبُهم وأسَرّوا النجوى} ثم تستأنف (الذين) بالرفع. وإن شئت جعلتها خفضا (إن شئت) على نعت الناس فى قوله "اقترب لِلناسِ حِسابهم" وإن شئت كانت رفعا كما يجوز (ذهبوا قومك).

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ اله إِلاَّ اله وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ...}
يكون مضافا. ولا يجوز التنوين فى (ثالث) فتنصب الثلاثة. وكذلك قلت: واحد من اثنين، وواحد من ثلاثة؛ ألا ترى أنه لا يكون ثانيا لنفسه ولا ثالثا لنفسه. فلو قلت: أنت ثالث اثنين لجاز أن تقول: أنت ثالث اثنين، بالإضافة، وبالتنوين ونصب الاثنين؛ وكذلك لو قلت: أنت رابع ثلاثة جاز ذلك؛ لأنه فعل واقع.
وقوله: {وَمَا مِنْ اله إِلاَّ اله وَاحِدٌ} لا يكون قوله (إِله واحِد) إلا رفعا؛ لأن المعنى: ليس إِله إِلا إِله واحد، فرددت ما بعد (إلا) إلى المعنى؛ ألا ترى أن (مِن) إذا فُقِدت من أوّل الكلام رفعت. وقد قال بعض الشعراء:
ما من حوِىّ بين بدرٍ وصاحةٍ * ولا شُعْبةٍ إلا شِبَاعٌ نسورها
فرأيت الكسائى قد أجاز خفضه وهو بعد إلا، وأنزل (إلا) مع الجحود بمنزلة غير، وليس ذلك بشىء؛ لأنه أنزله بمنزلة قول الشاعر:
أبنِى لبينى لستُم بِيدٍ * إِلا يدٍ ليست لها عُضد
وهذا جائز؛ لأن الباء قد تكون واقعة فى الجحد كالمعرفة والنكرة، فيقول: ما أنت بقائِم، والقائِم نكرة، وما أنت بأخينا، والأخ معرفة، ولا يجوز أن تقول: ما قام من أخيك، كما تقول ما قام من رجل.

{ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }

وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ...}
وقع عليها التصديق كما وقع على الأنبياء. وذلك لقول الله تبارك وتعالى: {فأَرسلنا إِليها رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لها} فلما كلَّمها جبريل صلى الله عليه وسلم وصدّقته وقع عليها اسم الرسالة، فكانت كالنبىّ.

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }

وقوله: {ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ...}
نزلت فيمن أسلم من االنصارى. ويقال: هو النَّجَاشى وأصحابه. قال الفرّاء ويقال: النِجَاشِى.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }

وقوله: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ...}
هم نفر من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يرفضوا الدنيا، ويُحبُّوا أنفسهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ} أى لا تجبُّوا أنفسكم.

{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

وقوله: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ...}
فى حرف عبدالله "ثلاثة أيام متتابعات" ولو نوّنت فى الصيام نصبت الثلاثة؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {أو إِطعامٌ فِى يومٍ ذِى مَسْغَبةٍ. يتيما} نصبت (يتيما) بإيقاع الإطعام عليه. ومثله قوله: {أَلَمْ نجعلِ الأرض كِفَاتاً أحياءً وأمواتا}: تكْفِتُهم أحياء وأمواتا. وكذلك قوله {فجزاءٌ مِثلُ ما قتل من النعم} ولو نصبت (مثل) كانت صوابا. وهى فى قراءة عبدالله "فجزاؤه مثل ما قتل" وقرأها بعض أهل المدينة "فجزاءُ مِثلِ ما قَتَل" وكلُّ ذلك صواب.
وأما قوله {ولا نَكْتُم شهادةَ اللّهِ} لو نوّنت فى الشهادة جاز النصب فى إعراب (اللّه) على: ولا نكتم اللّهَ شهادةً. وأمّا من استفهم بالله فقال (اللّهِ) فإنما يخفض (اللّهِ) فى الإعراب كما يخفض القسم، لا على إضافة الشهادة إليه.

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

وقوله: {;لْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...}
الميسر: القمار كلّه، والأنصاب: الأوثان، والأزلام: سهام كانت فى الكعبة يقتسمون بها فى أمورهم، وواحدها زَلَم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

وقوله: {إِذَا مَا اتَّقَواْ...}
أى اتقَوا شرب الخمر، وآمنوا بتحريمها.

{ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ...}
فما نالته الأيدى فهو بَيْض النعام وفِراخها، وما نالت الرماحُ فهو سائر الوحش.

{ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }

قوله: {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ...}

يقول: من أصاب صيدا ناسيا لإحرامه معتمِدا للصيد حكم عليه حاكِمان عدلان فقيهان يسألانه: أقتلت قبل هذا صيدا؟ فإن قال: نعم، لم يحكما عليه، وقالا: ينتقم الله منك. وإن قال: لا، حكما عليه، فإن بلغ قيمةُ حكمها ثمن بَدَنة أو شاة حكما بذلك عليه {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وإن لم يبلغ ثمن شاة حكما عليه بقيمة ما أصاب: دراهم، ثمّ قوّماه طعاما، وأطعمه المساكين لكل مسكين نصفُ صاع. فإن لم يجد حَكَما عليه أن يصوم يوما مكان كل نصف صاع.
وقوله: {أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً} والعَدْل: ما عادل الشىء من غير جنسه، والعِدل الْمِثل. وذلك أن تقول: عندى عِدل غلامك وعِدل شاتك إذا كان غلاما يعدل غلاما أو شاة تعدل شاة. فإذا أردت قيمته من غير جنسه نضبت العين. وربما قال بعض العرب: عِدله. وكأنه منهم غلط لتقارب معنى العَدْل من العِدل. وقد اجتمعوا على واحد الأعدال أنه عِدل. ونصبك الصيام على التفسير؛ كما تقول: عندى رطلان عسلا، ومِلء بيت قَتّا، وهو مما يفسّر للمبتدئ: أن ينظر إلى (مِن) فإذا حسنت فيه ثم أُلقيت نصبت؛ ألا ترى أنك تقول: عليه عَدْل ذلك من الصيام. وكذلك قول الله تبارك وتعالى {فلَنْ يُقْبَل مِن أحَدِهِم مِلءُ الأرْضِ ذهبا}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ...}
الصيد: ما صِدته، وطعامه ما نضب عنه الماء فبقى على وجه الأرض.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

وقوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ...}
خطب النبىّ صلى الله عليه وسلم الناس، وأخبرهم أن الله تبارك وتعالى قد فرض عليهم الحّج، فقام رجل فقال: يا رسول الله (أَوَفى) كلّ عام فأعرض عنه. ثم عاد (فقال: أفى كل عام فأعرض عنه، ثم عاد) فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: "ما يؤمنك أن أقول (نعم) فيجب عليكم ثم لا تفعلوا فتكفروا اتركونى ما تركتكم".
و(أشياء) فى موضع خفض لا تُجْرَى. وقد قال فيها بعض النحويين: إنما كثرت فى الكلام وهى (أفعال) فأشبهت فَعْلاء فلم تُصرف؛ كما لم تصرف حمراء، وجمعها أشاوَى - كما جمعوا عذراء عذارَى، وصحراء صحارى - وأشياوات؛ كما قيل: حمراوات. ولوكانت على التوهّم لكان أملك الوجهين بها أن تُجْرَى؛ لأن الحرف إذا كثر به الكلام خَفّ؛ كما كثرت التسمية بيزيد فأجَروه وفيه ياء زائِدة تمنع من الإجراء. ولكنا نرى أن أشياء جُمعت على أفعِلاء، كما جمع لَيِّن وأَلْيِناء، فحذف من وسط أشياء همزة، كان ينبغى لها أن تكون (أَشْيِئاء) فحذفت الهمزة لكثرتها. وقد قالت العرب: هذا من أبناوات سعد، وأُعيذك بأسماوات الله، وواحدها أسماء وأبناء تجرى، فلو مَنعتُ أشياء الجَرْى لجمعهم إياها أشياوات لم أُجر أسماء ولا أبناء؛ لأنهما جُمِعتا أسماوات وأبناوات.

{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

وقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ...}

قد اختُلِف فى السائِبة. فقيل: كان الرجل يسيِّب من ماله ما شاء، يذهب به إلى الذين يقومون على خدمة آلهتهم. قال بعضهم: السائبة إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهنّ إناث سيِّبت فلم تركَب ولم يُجَزَّ لها وَبَر، ولم يَشرب لبنهَا إلا ولدها أو ضيف حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء وبُحِرت أذن ابن ابنتها - يريد: خُرِقت - فالبَحِيرة ابنة السائِبة، وهى بمنزلة أمّها. وأمَّا الوصيلة فمن الشاء. إذا ولدت الشاة سبعة أبطن عَنَاقين عَناقين فولدت فى سابعها عَناقا وَجْديا قيل: وصلت أخاها، فلا يشرب لبنها النساء وكان للرجال، وجرت مجرى السائِبة. وأما الحامى فالفحل من الإبل؛ كان إذا لَقِح ولدُ ولده حَمَى ظهره، فلا يُركب ولا يجزّ له وَبَر، ولا يُمنع من مرعىً، وأىّ إبل ضَرب فيها لم يُمنع.
فقال الله تبارك وتعالى {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ} هذا أنتم جعلتموه كذلك. قال الله تبارك وتعالى {وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

وقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ...}

هذا أمر من الله عزّ وجلّ؛ كقولك: عليكم أنفسكم. والعرب تأمر من الصفات بغليك، وعندك، ودونك، وإليك. يقولون: إليك إليك، يريدون: تأخّر؛ كما تقول: وراءك وراءك. فهذه الحروف كثيرة. وزعم الكسائىّ أنه سمع: بينكما البعير فخَذاه. فأجاز ذلك فى كلّ الصفات التى قد تُفرد، ولم يُجِزه فى اللام ولا فى الباء ولا فى الكاف. وسمع بعض العرب تقول: كما أنت زيدا، ومكانَك زيدا. قال الفراء: وسمعت [بعض] بنى سُلَيم يقول فى كلامه: كما أَنتَنِى، ومكانَكَنِى، يريد انتظرنى فى مكانك.
ولا تقدّمنّ ما نصبته هذه الحروفُ قبلها؛ لأنها أسماء، والاسم لا يَنصب شيئا قبله؛ تقول: ضرباً زيدا، ولا تقول: زيدا ضربا. فإن قلته نصبت زيدا بفعل مضمر قبله كذلك؛ قال الشاعر:
* يأيها المائِح دلوى دونكا *
إن شئت نصبت (الدلو) بمضمر قبله، وإن شئت جعلتها رفعا، تريد: هذه دلوى فدونكا.
{لاَ يَضُرُّكُمْ} رفع، ولو جزمت كان صوابا؛ كما قال (فاضرِبْ لهم طَرِيقا فِى البحر يَبَسا لا تخَفْ، ولا تخافُ) جائزان.

{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ }

وقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ...}
يقول: شاهدان أو وصيّان، وقد اختلِف فيه. ورفع الاثنين بالشهادة، أى ليشهدكم اثنان من المسلمين.

{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير دينكم. هذا فى السَّفَر، وله حديث طويل. إلا أنّ المعنى فى قوله {مِن الذِين استَحَقَّ عليهِم الأَوْلَيانِ} فمن قال: الأَوليان أراد ولَّي الموروث؛ يقومان مَقَام النصرانيَّين إذا اتُّهِما أنهما اختانا، فيحلفان بعد ما حلف النصرانيَّان وظُهِر على خيانتهما، فهذا وجه قد قرأ به علىّ، وذُكر عن أبىّ بن كعب. حدّثنا الفراء قال حدّثنى قيس بن الربيع عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس أنه قال (الأَوَّلِين) يجعله نعتا للذين. وقال أرأيت إن كان الأوليان صغيرين كيف يقومان مَقامهما. وقوله (استحقَّ عليهِم) معناه: فيهم؛ كما قال {واتَّبعوا ماتَتْلُو الشياطِينُ على مُلْكِ سُلَيمان} أى فى مُلْك، وكقوله {ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوع النخل} جاء التفسير: على جذوع النخل. وقرأ الحسن (الأوّلان) يريد: استحقَّا بما حقَّ عليهما من ظهور خيانتهما. وقرأ عبدالله بن مسعود (الأَوّلِين) كقول ابن عباس. وقد يكون (الأَوليان) ها هنا النصرانيَّين - والله أعلم - فيرفعهما بـ (استَحَقَّ)، ويجعلهما الأوْلَيَيْن باليمين؛ لأن اليمين كانت عليهما، وكانت البيِّنة على الطالب؛ فقيل الأوليان بموضع اليمين. وهو على معنى قول الحسن.
وقوله أَن{تُرَدَّ أَيْمَان} غيرِهم على ايمانِهِم فتبطلها.
{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }

وقوله: {قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ...}
قالوا: فيما ذكر من هول يوم القيامة. ثم قالوا: إلا ما علمتنا، فإن كانت على ما ذكر فـ (ما) التى بعد (إلا) فى موضع نصب؛ لحسن السكوت على قوله: (لا علم لنا)، والرفع جائز.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }

وقوله: {إِذْ أَيَّدتُّكَ...}
على فعَّلتك؛ كما تقول: قويتك. وقرأ مجاهد (آيدتك) على أفعلتك. وقال الكسائىّ: فاعلتك، وهى تجوز. وفى مثل عاونتك.
وقوله: {فِي الْمَهْدِ} يقول: صبِيّا {وَكَهْلاً} فردّ الكهل على الصفة؛ كقوله {دعانا لجنبِهِ أَو قاعِدا أَو قائِما}.
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }

وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي...}
يقول: ألهمتهم؛ كما قال {وأَوحى ربُّك إِلى النحلِ أَنِ اتخِذِى مِن الجبال بيوتا} أى ألهمَها.

{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ...}

بالتاء والياء. قرأها أهل المدينة وعاصم بن أبى النَجُود والأعمشُ بالياء: (يستطيع ربُّك) وقد يكون ذلك على قولك: هل يستطيع فلان القيام معنا؟ وأنت تعلم أنه يستطيعه، فهذا وجه. وذُكِر عن علىّ وعائشة رحمهما الله أنهما قرآ (هل تستطيعُ ربَّك) بالتاء، وذكر عن مُعَاذ أنه قال: أقرأنى رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل تستطيع ربَّكَ) بالتاء، وهو وجه حسن. أى هل تقدر على أن تسأل ربك {أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( المائدة )

{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }

وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيداً...}
(وتَكُن لَنا). وهى فى قراءة عبدالله (تكْن لنا عِيدا) بغير واو. وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز فىالفعل بعده الجزم والرفع. وأمّا المائدة فذُكر أنها نزلت، وكانت خبزا وسمكا. نزلت - فيما ذكر - يوم الأحد مرَّتين، فلذلك اتخذوه عيدا. وقال بعض المفسّرين: لم تنزل؛ لأنه اشترط عليهم أنه إن أنزلها فلم يؤمنوا عذَّبهم، فقالوا: لا حاجة لنا فيها.

{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ الهيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }

وقوله: {ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ...}

(عيسى) فى موضع رفع، وإن شئت نصبت. وأمّا (ابن) فلا يجوز فيه إلا النصب. وكذلك تفعل فى كل اسم دعوته باسمه ونسبته إلى أبيه؛ كقولك: يا زيدُ بنَ عبدِالله، ويا زيدَ بنَ عبدالله. والنصب فى (زيد) فى كلام العرب أكثر. فإذا رفعت فالكلام على دعوتين، وإذا نصبت فهو دعوة. فإذا قلت: يا زيد أخا تميم، أو قلت: يا زيد ابن الرجلِ الصالح رفعت الأوّل، ونصبت الثانى؛ كقول الشاعر:
يا زِبْرِقانُ أخا بنى خَلَفٍ * ما أنتَ ويلَ أبيك والفَخْرُ

{ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

وقوله: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ...}
ترفع (اليوم) بـ (هذا)، ويجوز أن تنصبه؛ لأنه مضاف إلى غير اسم؛ كما قالت العرب: مضى يومَئذٍ بما فيه. ويفعلون ذلك به فى موضع الخفض؛ قال الشاعر:
رددنا لشعثاءَ الرسولَ ولا أرى * كيوْمَئِذٍ شيئا تُردّ رسائِله
وكذلك وجه القراءة فى قوله: {مِن عذابِ يومَئِذٍ}؛ {ومن خزىِ يومَئذ} ويجوز خفضه فى موضع الخفض؛ كما جاز رفعه فى موضع الرفع. وما أُضيف إلى كلام ليس فيه مخفوض فافعل به ما فعلت فى هذا؛ كقول الشاعر:
على حينَِ عاتبتُ المشيب على الصِبا * وقلتُ أَلَمَّا تَصْحُ والشيب وازِع
وتفعل ذلك فى يوم، وليلة، وحين، وغَدَاة، وعشيَّة، وزمن، وأزمان وأيام، وليال. وقد يكون قوله: {هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ} كذلك. وقوله: {هذا يوم لا ينطِقون} فيه ما فى قوله: (يوم ينفع) وإن قلت "هذا يومٌ ينفع الصادقين" كما قال الله: {واتقوا يوما لا تَجْزِى نَفْسٌ} تذهب إلى النكرة كان صوابا. والنصب فى مثل هذا مكروه فى الصفة؛ وهو على ذلك جائِز، ولا يصلح فى القراءة.

المعاني الواردة في آيات

سورة ( الأنعام )
{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }

قوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ...}
القرن ثمانون سنة. وقد قال بعضهم: سبعون.

{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ }

وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً...}
فى صورة رجل؛ لأنهم لا يقدرون علىالنظر إلى صُورة المَلَك.

{ قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ...}
إن شِئت جعلت (الرحمة) غاية كلام، ثم استأنفت بعدها (ليَجْمَعَنَّكم) وإن شِئت جعلته فى موضع نصب؛ كما قال: {كَتَب ربكم على نفسِهِ الرحمة أَنه من عمل مِنكم} والعرب تقول فى الحروف التى يَصْلح معها جواب الأَيْمان بأن المفتوحة وباللام. فيقولون: أرسلت إليه أن يقوم، وأرسلت إليه ليقومنّ. وكذلك قوله: {ثم بدا لهم مِن بعدِ ما رأَوُا الآياتِ ليسجُنُنَّهُ} وهو فى القرآن كثير؛ ألا ترى أنك لو قلت: بدا لهم أن يسجنوه كان صوابا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )

{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ }

وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ...}
مخفوض فى الإعراب؛ تجعله صفة من صفات الله تبارك وتعالى. ولو نصبته على المدح كان صوابا، وهو معرفة. ولونويت الفاطرَ الخالِق نصبته على القطع؛ إذ لم يكن فيه ألف ولام. ولو استأنفته فرفعته كان صوابا؛ كما قال: (ربُّ السمواتِ والأَرضِ وما بينهما الرحمن).

{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }

وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ...}
كلُّ شىء قهر شيئا فهو مُسْتعلٍ عليه.

{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَاذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }

وقوله: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ...}
يريد: ومن بلغه القرآن من بعدكم، و(بلغ) صِلة لـ (من). ونصبت (من) بالإنذار. وقوله: {آلِهَةً أُخْرَى} ولم يقل: أُخَر؛ لأن الآلهة جمع، (والجمع) يقع عليه التأنيث؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {ولِلّهِ الأَسماءُ الحسنى} وقال الله تبارك وتعالى: {فما بال القُرونِ الأُولى} ولم يقل: الأُوَل والأوّلين. وكلّ ذلك صواب.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ...}
ذُكر أنّ عمر بن الخطاب قال لعبدالله بن سَلاَم: ما هذه المعرفة التى تعرفون بها محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: والله لأَنابِهِ إذا رأيته أعرفُ مِنى بابنى وهو يلعب مع الصبيان؛ لأنى لا أشكُّ فيه أنه محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولست أدرى ما صنع النساء فى الابن. فهذه المعرفة لصفته فى كتابهم.
وجاء التفسير فى قوله: {خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ} يقال: ليس من مؤمن ولا كافر إلا له منزل فى الجنة وأهل وأزواج، فمن أسلم وسعد صار إلى منزله وأزواجه (ومن كفر صار منزله وأزواجه) إلى من أسلم وسعد. فذلك قوله {الذِين يَرِثُون الفِردوسَ} يقول: يرثون منازل الكفار، وهو قوله: {الذِين خسِروا أنفسهم وأهليهم}.

{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }

وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ...}
تقرأ: ربِّنَا وربَّنا خفضا ونصبا. قال الفرّاء: وحدّثنى الحسن بن عيَّاش أخو أبى بكر بن عياش عن الأعمش عن الشعبىّ عن علقمة أنه قرأ (واللّهِ ربَّنا) قال: معناه: والله يا ربَّنا. فمن قال (ربِّنا) جعله محلوفا به.

{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

وقوله: {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ...}

جعلت الدار ها هنا اسما، وجُعِلت الآخِرة من صفتها، وأضيفت فى غير هذا الموضع. ومثله ممَّا يضاف إلى مثله فى المعنى قوله {إِنّ هذا لهو حَقُّ اليَقِين} والحق هو اليقين؛ كما أَنّ الدار هى الآخرة. وكذلك أتيتك بارحة الأولى، والبارحة الأولى. ومنه: يوم الخميس، وليلة الخميس. يضاف الشىء إلى نفسه إذا اختلف لفظه؛ كما اختلف الحق واليقين، والدار [و] والاخرة، واليوم الخميس. فإذا اتفقا لم تقل العرب: هذا حقُّ الحقّ، ولا يقين اليقين؛ لأنهم يتوهمون إذا اختلفا فى اللفظ أنهما مختلفان فى المعنى. ومثله فى قراءة عبدالله (وذلك الدِين القَيِّمة) وفى قراءتنا (دِين القَيِّمة) والقَيِّمُ والقَيِّمة بمنزلة قولك: رجل راوية وَهَّابة للأموال؛ ووهَّاب وراو، وشبهه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }

وقوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ...}
قرأها العامَّة بالتشديد. قال: حدّثنا الفراء قال حدّثنى قيس بن الربيع الاْسَدىّ عن أبى إسحاق السَبِيعىّ عن ناجية بن كعب عن علىّ أنه قرأ (يُكْذِبونك) مخفّفة. ومعنى التخفيف - والله أعلم -: لا يجعلونك كذَّابا، وإنما يريدون أن ما جئت به باطل؛ لأنهم لم يجرّبوا عليه صلى الله عليه وسلم كذبا فيكذِّبوه وإنما أكذبوه؛ أى ما جئت به كذب لا نعرفه. والتكذيب: أن يقال: كَذَبت. والله أعلم.

{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }

وقوله: {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ...}
فافعل، مضمَرة، بذلك جاء التفسير، وذلك معناه. وإنما تفعله العرب فى كل موضع يُعرف فيه معنى الجواب؛ ألا ترى أنك تقول للرجل: إن استطعت أن تتصدق، إن رأيت أن تقوم مَعَنا، بترك الجواب؛ لمعرفتك بمعرفته به. فإذا جاء ما لا يُعرف جوابه إلا بظهوره أظهرته؛ كقولك للرجل: إن تقم تُصِب خيرا، لا بدّ فى هذا من جواب؛ لأن معناه لا يُعرف إذا طُرح.

{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }

وقوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ...}
(الطائر) مخفوض. ورفعه جائز (كما تقول: ماعندى من) رجل ولا امرأةٍ، وامرأةٌ؛ من رفع قال: ما عندى من رجلٍ ولا عندى امرأة. وكذلك قوله: {وما يعزُبُ عن ربِّك مِن مِثقالِ ذرةٍ} ثم قال (ولا أصغرَ مِن ذلك، ولا أَصغرُ ولا أَكبرَ، ولا أَكبرُ) إذا نصبت (أصغر) فهو فى نيَّة خفض، ومَن رفع ردّه على المعنى.
وأَمّا قوله {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} فإنّ الطائر لا يطير إلا بجناحيه. وهو فى الكلام بمنزلة قوله (له تِسع وتسعون نعجة [ولى نعجة] أنثى)، وكقولك للرجل: كلَّمته بفِىّ، ومشيت إليه على رِجْلَىَّ، إبلاغا فىالكلام.
يقال: إنّ كل صنف من البهائم أمّة، والعرب تقول صِنْف [وصَنْف].
{ثم إِلى ربِّهِم يحشرون} حَشْرها: موتها، ثم تحشر مع الناس فيقال لها: كونى ترابا. وعند ذلك يتمنّى الكافر أنه كان ترابا مِثلها.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )

{ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم...}
العرب لها فى (أرأيت) لغتان، ومعنيان. أحدهما أن يسأَل الرجلُ الرجل: أرأيت زيدا بعينك؟ فهذه مهموزة. فإذا أوقعتها على الرجُل منه قلت: أرأيتَك على غير هذه الحال؟ تريد: هل رأيتَ نفسك على غير هذه الحال. ثم تثنّى وتجمع، فتقول للرجلين: أرايتماكما، وللقوم: أَرَأَيتموكم، وللنسوة: أَرَأَيْتُنَّكُنَّ، وللمرأة: أَرَأَيْتِكِ، تخفض التاء والكاف، لا يجوز إلا ذلك.
والمعنى الآخر أن تقول: أرأيتَكَ، وأنت تريد: أَخبِرْنى (وتهمزها ) وتنصب التاء منها؛ وتترك الهمز إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء موحَّدة مفتوحة للواحد والواحدة [والجميع فى] مؤنّثه ومذكّره. فتقول للمرأة: أرايتَكِ زيدا هل خرج، وللنسوة: أرايتَكُنَّ زيدا ما فعل. وإنما تركت العرب التاء واحدة لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل منها واقعا على نفسها، فاكتفَوْا بذكرها فى الكاف، ووجَّهوا التاء إلى المذكَّر والتوحيد؛ إذ لم يكن الفعل واقعا. وموضع الكاف نصب وتأويله رفع؛ كما أنك إذا قلت للرجل: دونك زيدا وجدت الكاف فى اللفظ خفضا وفى المعنى رفعا؛ لأنها مأمورة.

والعرب إذا أوقعَتْ فِعْل شىء على نفسه قد كُنِى فيه عن الاسم قالوا فى الأفعال التامَّة غير ما يقولون فى الناقصة. فيقال للرجل: قتلتَ نفسك، وأحسنت إلى نفسِك، ولا يقولون: قتلتَكَ ولا أحسنتَ إليك. كذلك قال الله تبارك وتعالى {فاقتلوا أنفسكم} فى كثير من القرآن؛ كقوله {وماظلمناهم ولكِن ظلموا أنفسهم} فإذا كان العفل ناقصا - مثل حسبت وظننت - قالوا: أَظُنُّنى خارجا، وأَحسِبنى خارجا، ومتى تراك خارجا. ولم يقولوا: متى ترى نفسك، ولا متى تظنّ نفسك. وذلك أنهم أرادوا أن يفرُقوا بين الفعل الذى قد يُلْغى، وبين الفعل الذى لا يجوز إلغاؤه؛ ألا ترى أنك تقول: أنا - أظن ّ- خارج، فتبطل (أظنّ) ويعمل فى الاسم فعله. وقد قال الله تبارك وتعالى {إِن الإِنسان ليطغى. أَن رآه استغنى} ولم يقل: رأى نفسه. وربما جاء فى الشعر: ضربتَكَ أو شبههُ من التامّ. من ذلك قول الشاعر:
خُذَا حَذراً يا جارتىَّ فإننى * رأيتُ جِرَان العَوْدِ قد كاد يُصْلح
لقد كان لى فى ضَرّتين عدِمتُنى * وما كنت أَلقَى من رزينة أَبرحُ
والعربِ يقولون: عدِمتُنِى، ووجدتُنى، وفقدتُنى، وليس بوجه الكلام.

{ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ }

وقوله: {فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ...}
معنى (فلولا) فهلاَّ. ويكون معناها على معنى لولا؛ كأنك قلت: لولا عبدالله لضربتك. فإذا رأيت بعدها اسما واحدا مرفوعا فهو بمعنى لولا التى جوابها اللام؛ وإذا لم تر بعدها اسما فهى استفهام؛ كقوله: {لولا أَخَّرْتَنِى إلى أَجلٍ قريب [فأصدّق وأَكُن مِنَ الصالِحِين]} وكقوله: {فلولا إِن كنتم غير مدِينين [ترجِعونها إن كنتّم صادِقِين]} وكذلك (لوما) فيها ما فى لولا: الاستفهام والخبر.

{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }

وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ...}
يعنى أبواب الرزق والمطر وهو الخير فى الدنيا لنفتنهم فيه. وهو مثل قوله: {حتى إذا أخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفها وازَّيَّنَتْ وظنّ أَهْلُها أنهم قادِرون عليها أتاها أَمْرُنا ليلا أَوْ نهارا} ومثله {وأن لوِ استقاموا على الطرِيقةِ لأسقيناهم ماءً غدَقا لِنفتِنهم فيه} والطريقة طريقة الشِرْك؛ أى لو استمرّوا عليها فعلنا ذلك بهم.
وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} المبلِس: اليائس المنقطع رجاؤه. ولذلك قيل للذى يسكت عند انقطاع حجته ولا يكون عنده جواب: قد أبلس؛ وقد قال الراجز:
يا صاحِ هل تعرف رَسْما مُكْرَسَا * قال نعم أعرِفه، وأبلسا
أى لم يُحِرْ إلىّ جوابا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ اله غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ }

وقوله: {يَأْتِيكُمْ بِهِ...}
كناية عن ذهاب السمع والبصر والختم على الأفئدة. وإذا كنيت عن الأفاعيل وإن كثرت وحَّدت الكناية؛ كقولك للرجل: إقبالك وإدبارك يؤذينى. وقد يقال: إن الهاء التى فى (به) كناية عن الهدى، وهو كالوجه الأوّل.

{ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

وقوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ...}
يقول: يخافون أن يحشروا إلى ربهم عِلْما بأنه سيكون. ولذلك فسّر المفسرون (يخافون): يعلمون.

{ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...}
يقول القائل: وكيف يَطْرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يدعوا ربه حتى يُنْهَى عن ذلك؟ فإنه بلغنا أن عُيَيْنة بن حِصْن الفَزَارىّ دخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وعنده سَلْمان وبِلال وصُهَيب وأشباههم، فقال عُيَينة: يا رسول الله لو نحَّيتَ هؤلاء عنك لأتاك أشراف قومك فأسلموا. فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ...}

تكسر الألف من (أنّ) والتى بعدها فى جوابها على الائتناف، وهى فى قراءة القرّاء. وإن شئت فتحت الألف من (أنّ) تريد: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل. ولك فى (أنّ) التى بعد الفاء الكسر والفتح. فأمّا من فتح فإنه يقول: إنما يحتاج الكتاب إلى (أنّ) مرة واحد؛ ولكن الخبر هو موضعها، فلما دخلت فى ابتداء الكلام أعيدت إلى موضعها؛ كما قال: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} فلمَّا كان موقع أنّ: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم دخلت فى أوّل الكلام وآخره. ومثله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} بالفتح. ومثله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} ولك أن تكسر (إن) التى بعد الفاء فى هؤلاء الحروف على الاستئناف؛ ألا ترى أنك قد تراه حسنا أن تقول: "كتب أنه من تولاه فهو يضله" بالفتح. وكذلك "وأصلح فهو غفور رحيم" لو كان لكان صوابا. فإذا حسُن دخول (هو) حسن الكسر.

{ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }

وقوله: {وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ...}
ترفع (السبيل) بقوله: (وليستبين) لأنّ الفعل له. من أنَّث السبيل قال: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}. وقد يجعل الفعل للنبىّ صلى الله عليه وسلم فتنصب السبيل، يراد به: ولتستبين يا محمد سبيلّ المجرمين.

{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }

وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ...}

كتبت بطرح الياء لاستقبالها الألف واللام؛ كما كتب {سَنَدْعُ الزَّبَانيَةَ} بغير واو، وكما كتب {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} بغير ياء على اللفظ. فهذه قراءة أصحاب عبدالله. وذُكِر عن علىّ أنه قال: (يَقُصُّ الْحَقَّ) بالصاد. قال حدّثنا الفرّاء قال: وحدّثنى سفيان بن عُيَينة عن عمرِو بنِ دينارٍ عن رجلٍ عن ابنِ عباسٍ أنه قرأ (يقضِى بالحق) قال الفرّاء: وكذلك هى فى قراءة عبدالله.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

وقوله: {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ...}
يجوز رفعها.

{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }

وقوله: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً...}
يقال: خُفيَة وخِفية. وفيها لغة بالواو، - ولا تصلح فى القراءة -: خُفوة وخِفوة؛ كما قيل: قد حَلّ حُبْوته وحِبوته وحِبْيته.
وقوله: {لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ...}
قراءة أهل الكوفة، - وكذلك هى فى مصاحفهم - "أن جِ ى ن ألف" وبعضهم بالألف (أنجانا) وقراءة الناس (أنجيتنا) بالتاء.

{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ }

وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً...}
كما فعل بقوم نوح: المطر والحجارة والطوفان {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: الخَسْف {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}: يخلطكم شِيَعا ذوى أهواء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَاكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

وقوله: {وَلَاكِن ذِكْرَى...}
فى موضع نصب أو رفع؛ بفعل مضمر؛ (ولكِن) نذكرهم (ذِكرى) والرفع على قوله (ولكن) هو (ذكرى).

{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }

وقوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً...}
يقال: ليس من قوم إلاَّ ولهم عيد فهم يَلهُون فى أَعيادهم، إلا أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن أعيادهم بِرّ وصلاة وتكبير وخير.
وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ} أى ترتهن (والعرب تقول: هذا عليك بَسْل أى حرام. ولذلك قيل: أسَد باسل أى لا يُقْرَب) والعرب تقول: أعْطِ الراقِىَ بُسْلته، وهو أجر الرقية.

{ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }

قوله: {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا...}
كان أبو بكر الصدّيق وامرأته يدعوان عبد الرحمن ابنهما إلى الإسلام. فهو قوله: {إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} أى أطِعْنا، ولو كانت "إِلى الهدى أن ائتنا" لكان صوابا؛ كما قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} فى كثير من أشباهه، يجىء بأَنْ، ويطرحُها.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

وقوله: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ...}
مردودة على اللام التى فى قوله: {وأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} والعرب تقول: أمرتك لتذهب (وأن تذهب) فأَن فى موضع نصب بالردّ على الأمر. ومثله فى القرآن كثير.

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }

وقوله: {كُن فَيَكُونُ...}
يقال إنّ قوله: (فيكون) للصُّور خاصَّة، أى يقول للصُّور: (كُنْ فَيَكُونُ). ويقال إن قوله: (كن فيكون) لقوله هو الحقّ من نعت القول، ثم تجعل فعله {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} يريد: يكون قوله الحقّ يومئذ. وقد يكون أن تقول: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} لكل شىء فتكون كلمة مكتفِية وترفع القول بالحقّ، وتنصب (اليوم) لأنه محل لقوله الحقّ.

والعرب تقول: نِفخ فى الصورِ ونُفِخَ، وفى قراءة عبدالله: (كهيئة الطير فأنفخها فتكون طيرا بإذنى) وقال الشاعر:
لولا ابنُ جَعْدة لم يُفتَح قُهُنْدُزكم * ولا خُراسانُ حتى يُنْفَخَ الصورُ
ويقال: إن الصُّور قَرن، ويقال: هو جمع للصور ينفخ فى الصور فى الموتى. والله أعلم بصواب ذلك.

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ...}
يقال: آزر فى موضع خفض ولا يُجْرى لأنه أعجمىّ. وقد أجمع أهل النسب على أنه ابن تارَحَ، فكأن آزر لقب له. وقد بلغنى أن معنى (آزر) فى كلامهم معوجّ، كأنه عابه بزيغه وبِعِوجه عن الحقّ. وقد قرأ بعضهم (لأبيه ازرُ) بالرفع على النداء (يا) وهو وجه حسن. وقوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} نصبت الأصنام بإيقاع الفعل عليها.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ }

وقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ...}
يقال: جنّ عليه الليل، وأَجَنَّ، وأَجنَّه الليل وجَنّه الليل؛ وبالألف أجود إذا ألقيت (على) وهى أكثر من جنَّه الليل.
يقال فى قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبِّي} قولان: إنما قال: هذا ربّى استدراجا للحجَّة على قومه ليعيب آلهتهم أَنها ليست بشىء، وأن الكوكب والقمر والشمس أكبر منها ولسن بآلهة؛ ويقال: إنه قاله على الوجه الآخر؛ كما قال الله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاّ فَهَدَى} واحتجوا ها هنا بقول إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنى رَبِّى لأَكُونَنّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}.

{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ...}
وذلك أنهم قالوا له: أما تخاف أن تخبِلك آلهتنا لسبِّك إياها؟ فقال لهم: أَفلا تخافون أنتم ذلك منها إذ سوّيتم بين الصغير والكبير والذَكَر والأنثى أن يغضب الكبير إذ سوّيتم به الصغير. ثم قال لهم: أمن يعبد إلها واحدا أحقّ أن يأمن أم من يعبد آلهة شَتَّى؟ قالوا: من يعبد إلها واحدا، فغضبوا على أنفسهم. فذلك قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}.

{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }

وقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ...}
هذه الهاء لنوح: و(هدينا) من ذرِّيتِه داود وسليمان. ولو رفع داود وسليمان على هذا المعنى إذ لم يظهر الفعل كان صوابا؛ كما تقول: أخذت صدقاتِهِم لكل مائة (شاةٍ شاةً) وشاةٌ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ }

وقوله: {وَالْيَسَعَ...}
يشدّد أصحاب عبدالله اللام، وهى أشبه بأسماء العجم من الذين يقولون (والْيَسَعَ) لا تكاد العرب تدخل الألف واللام فيما لا يُجْرى؛ مثل يزيد ويعمر إلا فى شعر؛ أنشد بعضهم:
وَجَدْنا الوليد بن اليزيد مباركا * شديدا بأَحْنَاء الخِلافةِ كاهِله
وإنما أَدخل فى يزيد الألف واللام لمَّا أدخلها فى الوليد. والعرب إذا فعلت ذلك فقد أمسَّت الحرف مدحا.

{ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ }

وقوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء...}
يعنى أهل مكَّة {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً} يعنى أهل المدينة {لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} بالآية.

{ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }

وقوله: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...}
ما عظَّموه حقّ تعظيمه. وقوله {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} يقول: كيف قلتم: لم يُنزل الله على بشر من شىء وقد أنزلت التوراة على موسى {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} والقِرطاس فى هذا الموضع صحيفة. وكذلك قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فى قِرْطَاسٍ} يعنى: فى صحيفة.
{تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} يقول: تبدون ما تحبون، وتكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أُمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول {قُلِ اللَّهُ} أى: أنزله الله عليكم. وإن شئت قلت: قل (هو) الله. وقد يكون قوله {قُلِ اللَّهُ} جوابا لقوله: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى}, {قُلِ اللَّهُ} أنزله. وإنما اخترت رفع {اللَّهُ} بغير الجواب لأن الله تبارك وتعالى الذى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يسألهم: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ} وليست بمسألة منهم فيجابوا، ولكنه جاز لانه استفهام، والاستفهام يكون له جواب.

وقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} لو كانت جزما لكان صوابا؛ كما قال {ذَرْهُمْ يأكُلُوا وَيَتَمتّعُوا}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ }

وقوله: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى...}
يقال فى التفسير: إنّ أمّ القرى مَكَّة.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} الهاء تكون لمحمد صلى الله عليه وسلم وللتنزيل.

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }

وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً...}
يقال: إنها نزلت فى مسيلمة الكذَّاب، وذلك أنه ادّعى النبوّة.

{وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ} ومن فى موضع خفض. يريد: ومن أظلم من هذا ومن هذا الذى قال: سأنزل مثل ما أنزل الله. نزلت فى عبدالله بن سعد بن أبى سَرْح. وذلك أنه كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: {وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمُ} كتب (سميع عليم) أو (عزيزحكيم) فيقول له النبى صلى الله عليه وسلم: سواء؛ حتى أملَّ عليه قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} فقال ابن أبى سَرْح {فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} تعجُّبا من تفصيل خَلْق الإنسان, قال فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزِلتْ علىّ، فشكَّ وارتدّ. وقال: لئن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا لقد أوحى إلىّ (كما أوحى إليه) ولئن كان كاذبا لقد قلتُ مثل ما قال، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ}.
وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} ويقال: باسطو أيديهم بإخراج أنفس الكفار. وهو مثل قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ولو كانت (باسطون) كانت (أيدِيَهُمْ) ولو كانت "باسطو أيديهم أن أخرِجوا" كان صوابا. مثله مما تركت فيه أن قوله: {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهدَى ائْتِنَا} وإذا طرحت من مثل هذا الكلام (أن) ففيه القول مُضمَرٌ كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يقولون: {رَبَّنا}.
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }

وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى...}

وهو جمع. والعرب تقول: [قوم] فرادى وفرادُ يا هذا فلا يجُرونها، شبهت بثُلاَث ورُبَاع. وفرادى واحدها فَرْد, وفرِد، وفريد، وفراد للجمع، ولا يجوز فرد فى هذا المعنى. وأنشدنى بعضهم:
ترى النُعَراتِ الزُرْق تحت لَبَانه * فُرَادَ ومثنى أصعقتها صواهِله
وقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ...}
قرأ حمزة ومجاهد (بينُكُمْ) يريد وصلكم. وفى قراءة عبدالله (لقد تقطع ما بينَكم) وهو وجه الكلام. إذا جعل الفعل لبين ترك نصبا؛ كما قالوا: أتانى دونك من الرجال فترك نصبا وهو فى موضع رفع؛ لأنه صفة. وإذا قالوا: هذا دون من الرجال رفعوه فى موضع الرفع. وكذلك تقول: بين الرجلين بين بعيد، وبون بعيد؛ إذا أفردته أجريته فى العربية وأعطيته الإعراب.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }

وقوله: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ...}
والإصباح مصدر أصبحنا إصباحا، والأصباح صُبْح كل يوم بمجموع.
وقوله: {وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} الليل فى موضع نصب فى المعنى. فردّ الشمس والقمر على معناه لما فرق بينهما بقوله: (سكنا) فإذا لم تفرق بينهما بشىء آثروا الخفض. وقد يجوز أن ينصب وإن لم يحل بينهما بشىء؛ أنشد بعضهم:
وبينا نحن ننظره أتانا * معلِّقَ شَكْوةٍ وزِنادَ راع
وتقول: أنت آخذٌ حقَّك وحَقِّ غيرك فتضيف فى الثانى وقد نوَّنت فى الأوّل؛ لأن المعنى فى قولك: أنت ضارب زيدا وضاربُ زيدٍ سواء. وأحسن ذلك أن تحول بينهما بشىء؛ كما قال امرؤ القيس:
فظلّ طُهاة اللحم من بينِ مُنْضِج * صفيفَ شِواءٍ أو قَدِيرٍ معجَّلِ
فنصب الصفيف وخفض القَدِير على ما قلت لك.

{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ...}
يعنى فى الرحم {وَمُسْتَوْدَعٌ} فى صُلْب الرجُل. ويقرأ (فمستقِرّ) يعنى الولد فى الرحم (ومستودع) فى صلب الرجل. ورفعها على إضمار الصفة؛ كقولك: رأيت الرجلين عاقل وأحمق، يريد منهما كذا وكذا.

{ وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ...}
يقول: رزق كل شىء، يريد ما ينبت ويصلح غذاء لكل شىء. وكذا جاء التفسير، وهو وجه الكلام. وقد يجوز فى العربية أن تضِيف النبات إلى كل شىء وأنت تريد بكل شىء النبات أيضا، فيكون مثل قوله: {إنّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} واليقين هو الحقّ. وقوله: {مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} الوجه الرفع فى القنوان؛ لأن المعنى: ومن النخل قِنوانه دانية. ولو نصب: وأخرج من النخل من طلعها قنوانا دانية لجاز فىالكلام، ولا يقرأ بها لمكان الكتاب.
وقوله: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} نصب, إلا أن جمع المؤنث بالتاء يخفض فى موضع النصب، ولو رفعت الجنات تتبع القنوان كان صوابا.
وقوله: {وَفِى الأَرضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ} الوجه فيه الرفع، تجعلها تابعة للقطع. ولو نصبتها وجعلتها تابعة للرواسى والأنهار كان صوابا.

وقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} يريد شجرة الزيتون وشجر الرمان، كما قال: {وَاسْأَلَ الْقَرْيَةَ} يريد أهل القرية.
وقوله: {انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} يقول: انظروا إليه أول ما يَعْقِد (وَيَنْعِهِ): بلوغه وقد قرئت (ويُنْعِهِ، ويانِعِهِ). فأما قوله: {ويُنْعِهِ} فمثل نضجه، ويانعه مثل ناضجه وبالغه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ...}
المقسمون الكفار. سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالآية التى نزلت فى الشعراء {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها وحلفوا ليؤمنن, فقال المؤمنون: يارسول الله سل ربك ينزلها عليهم حتى يؤمنوا, فأنزل الله تبارك وتعالى: قل لِلذِين آمنوا: وما يشعِركم أنهم يؤمِنون. فهذا وجه النصب فى أنّ؛ وما يشعركم أنهم يؤمنون (وَ) نحن {نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا}، وقرأ بعضهم: (إنها) مكسور الألف (إذَا جَاءَتْ) مستأنفة، ويجعل قوله (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) كلاما مكتفِيا. وهى فى قراءة عبدالله: (وما يشعِركم إذا جاءتهم أنهم لا يؤمنون).
و (لا) فى هذا الموضع صِلة؛ كقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}: المعنى: حرام عليهم أن يرجعوا. ومثله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ} معناه: أن تسجد.

وهى فى قراءة أُبَىّ: (لعلها إِذا جاءتهم لا يؤمِنون) وللعرب فى (لعلّ) لغة بأن يقولوا: ما أدرى أنك صاحبها، يريدون: لعلك صاحبها، ويقولون: ما أدرى لو أنك صاحبها، وهو وجه جيد أن تجعل (أنّ) فى موضع لعل.

{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }

وقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ...}
هذا أمر قد كانو سألوه، فقال الله تبارك وتعالى: لو فعلنا بهم ذلك لم يؤمنوا {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ}.
وقوله: (قُبُلاً) جمع قبيل. والقبيل: الكفيل. وإنما اخترت ها هنا أن يكون القُبُل فى معنى الكفالة لقولهم: {أَوْ تَأتِى بِاللّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً} يَضْمَنون ذلك. وقد يكون (قُبُلا): من قبل وجوههم؛ كما تقول: أتيتك قُبُلا ولم آتك دُبُرا. وقد يكون القبيل جميعا للقبيلة كأنك قلت: أو تأتينا بالله والملائكة قبيلة قبيلة وجماعة جماعة. ولو قرئت قَبَلا على معنى: معاينةً كان صوابا, كما تقول: أنا لقيته قبلا.

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ...}
نصبت العدوّ والشياطين بقوله: جعلنا.

وقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} فإن إبليس - فيما ذكر - جعل فرقة من شياطينه مع الإنس، وفرقة مع الجنّ، فإذا التقى شيطان الإنسىّ وشيطان الجنىّ قال: أضللتُ صاحبى بكذا وكذا، فأضلِل به صاحبك، ويقوله له (شيطان الجنىّ) مثل ذلك. فهذا وحى بعضهم إلى بعض. قال الفرّاء: حدّثنى بذلك حيان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ }

وقوله: {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ...}
الاقتراف: الكسب؛ تقول العرب: خرج فلان يقترف أهله.

{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }

وقوله: {مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ...}
من الشاكّين أنهم يعلمون أنه منزل من ربك.

{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }

وقوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ...}
فى أكل الميتة {يُضِلُّوكَ} لأن أكثرهم كانوا ضُلاّلا. وذلك أنهم قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قَتَلتم ولا تأكلون ما قَتَل ربّكم! فأنزلت هذه الآية {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }

وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ...}

(من) فى موضع رفع كقوله: {لِنَعْلَمَ أىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} إذا كانت (من) بعد العلم والنظر والدراية - مثل نظرت وعلمت ودريت - كانت فى مذهب أىّ. فإن كان بعدها فعل لها رفعتها به، وإن كان بعدها فعل يقع عليها نصبتها؛ كقولك: ما أدرى من قام، ترفع (من) بقام، وما أدرى من ضربت، تنصبها بضربت.

{ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ }

وقوله: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ...}
فأما ظاهره فالفجور والزنى، وأما باطنه فالمخالّة: أن تتخذ المرأة الخليل وأن يتخذها.

{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }

وقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ...}
يقول: أكلكم ما لم يذكر اسم الله عليه فسق أى كفر. وكنى عن الأكل، كما قال: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} يريد: فزادهم قول الناس إيمانا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

وقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ...}
أى كان ضالاّ فهديناه.
وقوله: {نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يعنى إيمانه.

{ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ }

وقوله: {الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ...}
أى من عند الله، كذلك قال المفسرون. وهو فى العربية؛ كما تقول: سيأتينى رزق عندك، كقولك: سيأتينى الذى عند الله. سيصيبهم الصغار الذى عنده، ولمحمد صلى الله عليه وسلم أن ينزله بهم. ولا يجوز فى العربية أن تقول: جئت عند زيد، وأنت تريد: من عند زيد.
وقد يكون قوله: {صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ} أنهم اختاروا الكفر تعَزُّزا وأنَفَة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل الله ذلك صَغَارا عنده.

{ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ...}
[من] ومن فى موضع رفع بالهاء التى عادت عليهما من ذكرهما.
وقوله: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرِجاً) قرأها ابن عبّاس وعمر (حرِجا). وقرأها الناس: حَرَجا. والحرج - فيما فسر ابن عباس - الموضع الكثير الشجر الذى لا تصل إليه الراعية. قال: فكذلك صَدْر الكافر لا تصل إليه الحكمة. وهو فى كسره وفتحه بمنزلة الوحَد والوحِد، والفَرَد والفرِد، والدنَف والدنِف: تقوله العرب فى معنى واحد.
وقوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ} يقول: ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد فى السماء وليس يقدر. وتقرأ (كأنما يصَّاعَد) يريد يتصاعد، (ويَصْعد) مخففة.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )

{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }

وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ...}
يقول: قد أضللتم كثيرا.
وقوله: {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} فالاستمتاع من الإنس بالجنّ أن الرجل كان إذا فارق فاستوحش أو قتل صيدا من صيدهم فخاف قال: أعوذ بسيّد هذا الوادى، فيبيت آمنا فى نفسه. وأما استمتاع الجنّ بالإنس فما نالوا بهم من تعظيم الإنس إيّاهم، فكان الجِنّ يقولون: سُدْنا الجنّ والإنس.

{ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }

وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ...}
فيقول القائل: إنما الرسل من الإنس خاصّة، فكيف قال للجنّ والإنس (منكم)؟ قيل: هذا كقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}. ثم قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المِلْح دون العَذْب. فكأنك قلت: يخرج من بعضهما، ومن أحدهما.

{ ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ }

وقوله: {ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ...}

إن شئت جعلت (ذلك) فى موضع نصب، وجعلت (أن) مما يصلح فيه الخافض فإذا حذفته كانت نصبا. يريد: فعل ذلك أن لم يكن مهلك القرى. وإن شئت جعلت (ذلك) رفعا على الاستئناف إن لم يظهر الفعل. ومثله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} و {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}. ومثله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}،و {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهُ مُوهِنُ كَيْد الْكَافِرِينَ} الرفع والنصب فيه كله جائز.
وقوله: {مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} يقول: لم يكن ليهلكهم بظلمهم وهم غافلون لَمَّا يأتهم رسول ولا حُجَّة. وقوله فى هود: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} يقول: لم يكن ليهلكهم بظلمهم، يقول: بشركهم (وأهلها مصلحون) يتعاطَون الحقَّ فيما بينهم. هكذا جاء التفسير. وفيها وجه - وهو أحبّ إلىّ من ذا؛ لأن الشرك أعظم الذنوب - والمعنى والله أعلم: لم يكن ليهلكهم بظلم منه وهم مصلحون.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }

وقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ...}
(مَنْ تَكُونُ لَهُ) فى موضع رفع، ولو نصبتها كان صوابا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}.

وقوله: {مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} إذا كان الفعل فى مذهب مصدر مؤنثا مثل العاقبة، والموعظة، والعافية، فإنك إذا قدّمت فعله قبله أنَّثته وذكّرته؛ كما قال الله عزّ وجلّ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} بالتذكير، وقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} بالتأنيث. وكذلك {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} {وَأَخَذَتِ} فلا تهابنّ من هذا تذكيرا ولا تأنيثا.

{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَاذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }

وقوله: {هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ...}
وبرُعْمِهم، وزِعمِهم, ثلاث لغات. ولم يقرأ بكسر الزاى أحد نعلمه. والعرب قد تجعل الحرف فى مثل هذا؛ فيقولون: الفَتْك والفُتْك والفِتك، والوُدّو الوِدّو الوَدّ، فى أشباه لها. وأجود ذلك ما اختارته القرّاء الذين يؤثر عنهم القراءة. وفى قراءة عبدالله "وهذا لشركائِهم" وهو كما تقول فى الكلام: قال عبدالله: إنّ له مالا، وإنّ لى مالا، وهو يريد نفسه. وقد قال الشاعر:
رَجْلانِ من ضَبّة أَخبرانا * إنا رأينا رجلا عريانا
ولو قال: أخبرانا أنهما رأيا كان صوابا.

{ وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

وقوله: {وكذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ...}

وهم قوم كانو يخدمون آلهتهم، فزيَّنوا لهم دفن البنات وهنّ أحياء. وكان أيضا أحدهم يقول: لئن وُلد لى كذا وكذا من الذكور لأنحرنّ واحداً. فذلك قتل أولادهم. والشركاء رفع؛ لأنهم الذين زيَّنوا.
وكان بعضهم يقرأ: "وكذلك زُيِّن لِكثِيرٍ مِن المشركين قتلُ أولادِهم" فيرفع القتل أذا لم يسمّ فاعله، ويرفع (الشركاء) بفعل ينوِيه؛ كأنه قال: زيَّنه لهم شركاؤهم. ومثله قوله: (يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) ثم قال: {رجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ}. وفى بعض مصاحف أهل الشام (شركايهم) بالياء، فإن تكن مثبتة عن الأوّلين فينبغى أن يقرأ (زُيِّنَ) وتكون الشركاء هم الأولاد؛ لأنهم منهم فى النسب والميراث. فإن كانوا يقرءون (زَيَّنَ) فلست أعرف جهتها؛ إلا أن يكونوا فيها آخذين بلغة قوم يقولون: أتيتها عِشايا ثم يقولون فى تثنية (الحمراء: حمرايان) فهذا وجه أن يكونوا قالوا: "زَيَّنَ لكثيرٍ من المشركين قتل أولادِهم شركايُهُمْ" وإن شئت جعلت (زَيَّنَ) إذا فتحته فعلا لإبليس ثم تخفض الشركاء بإتباع الأولاد. وليس قول من قال: إنما أرادوا مثل قول الشاعر:
فزججتها متمكّنا * زجَّ القَلوصَ أبِى مزاد
بشىء. وهذا مِما كان يقوله نَحْويُّو أهلِ الحجاز، ولم نجد مثله فى العربية.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا...}

وفى قراءة عبدالله "خالص لذكورنا" وتأنيثه لتأنيث الأنعام؛ لأن ما فى بطونها مثلها فأنث لتأنيثها. ومن ذكّره فلتذكير (ما) وقد قرأ بعضهم "خالصُهُ لذكورِنا" يضيفه إلى الهاء وتكون الهاء لما. ولو نصبت الخالص والخالصة على القطع وجعلت خبر ما فى اللام التى فى قوله (لِذُكُورِنَا) كأنك قلت: ما فى بطون هذه الأنعام لذكورنا خالصا وخالصةً كما قال: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} والنصب فى هذا الموضع قليل؛ لا يكادون يقولون: عبدالله قائما فيها، ولكنه قياس.
وقوله: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ} إن شئت رفعت الميتة، وإن شئت نصبتها فقلت (ميتةً) ولك أن تقول تكن ويكن بالتاء والياء.
وقد تكون الخالصة مصدرا لتأنيثها كما تقول: العاقبة والعافية. وهو مثل قوله: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.

{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ...}
هذه الكروم، ثم قال: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً} فى لونه و {غَيْرَ مُتَشَابِهٍ} فى طعمه، منه حلو ومنه حامض.
وقوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} هذا لمن حضره من اليتامى والمساكين.
وقوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} فى أن تعطوا كله. وذلك أن ثابت بن قيس خلَّى بين الناس وبين نخله، فذُهِب به كله ولم يبق لأهله منه شىء، فقال الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

{ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

وقوله: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً...}
يقول: وأنشأ لكم من الأنعام حمولة، يريد ما أطاق الحمل والعمل: والفرش: الصغار.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

وقوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ...}
فإن شئت جعلت الثمانية مردودة على الحمولة. وإن شئت أضمرت لها فعلا. وقوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الذكر زوج، والأنثى زوج، ولورفعت اثنين واثنين لدخول (مِن) كان صوابا كما تقول: رأيت القوم منهم قاعد ومنهم قائم، وقاعد وقائما.
والمعنى قى قوله: {قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} يقول: أجاءكم التحريم فيما حرمتم من السائبة والبَحِيرة والوَصِيلة والحام من الذكرين أم من الأنثيين؟ فلو قالوا: من قِبل الذكر حرم عليهم كل ذكر، ولو قالوا: من قبل الأنثى حرمت عليهم كل أنثى.
ثم قال: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ} يقول أم حرّم عليكم اشتمال الرحم؟ فلو قالوا ذلك لحرّم عليهم الذكر والأنثى؛ لأن الرحم يشتمل على الذكر والأنثى. و (ما) فى قوله: "أمّا اشْتَمَلَتْ" فى موضع نصب، نصبته بإتباعه الذكرين والأنثيين.

{ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ...}
يقول: أوَصَّاكم الله بهذا معاينة؟

{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً...}
ثم قال جلَّ وجهه: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} وإن شئت (تَكُونَ) وفى (الميتة) وجهان الرفع والنصب. ولا يصلح الرفع فى القراءة؛ لأنّ الدم منصوب بالردّ على الميتة وفيه ألف تمنع من جواز الرفع. ويجوز (أن تكون) لتأنيث الميتة، ثم تردّ ما بعدها عليها.

ومن رفع (الميتة) جعل (يكون) فعلا لها، اكتفى بيكون بلا فعل. وكذلك (يكون) فى كل الاستثناء لا تحتاج إلى فعل؛ ألا ترى أنك تقول: ذهب الناس إلا أن يكون أخاك، وأخوك. وإنما استغنت كان ويكون عن الفعل كما استغنى ما بعد إلا عن فعل يكون للاسم. فلما قيل: قام الناس إلا زيدا وإلا زيد فنصب بلا فعل ورفع بلا فعل صلحت كان تامة. ومن نصب: قال كان من عادة كان عند العرب مرفوع ومنصوب، فأضمروا فى كان اسما مجهولا، وصيّروا الذى بعده فعلا لذلك المجهول. وذلك جائز فى كان، وليس، ولم يزل، وفى أظنّ وأخواتها: أن تقول (أظنه زيد أخوك و) أظنّه فيها زيد. ويجوز فى إنّ وأخواتها؛ كقول الله تبارك وتعالى: {يَا بُنَىّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} وكقوله: {إِنَّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فتذكّر الهاء وتوحّدها، ولا يجوز تثنيتها ولا جمعها مع جمع ولا غيره. وتأنيثها مع المؤنث وتذكيرها مع المؤنث جائز؛ فتقول: إنها ذاهبة جاريتك، وإنه ذاهبة جاريتك.
فإن قلت: كيف جاز التأنيث مع الأنثى، ولم تجز التثنية مع الاثنين؟
قلت: لأن العرب إنما ذهبت إلى تأنيث الفعل وتذكيره، فلما جاز {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} {وَأَخَذَتِ} جازالتأنيث، والتذكير. ولما لم يجز: قاما أخواك ولا قاموا قومك، لم يجز تثنيتها ولا جمعها.
فإن قلت: أتجيز تثنيتها فى قول من قال: ذهبا أخواك؟ قلت: لا، من قِبل أنّ الفعل واحد، والألف التى فيها كأنها تدلّ على صاحِبى الفعل، والواو فى الجمع تدل على أصحاب الفعل، فلم يستقم أن يكنى عن فعل واسم فى عقدة، فالفعل واحد أبدا؛ لأن الذى فيه من الزيادات أسماء.

وتقول فى مسألتين منه يستدلّ بهما على غيرهما: إنها أسَد جاريتك، فأنثت لأن الأسد فعل للجارية، ولو جعلت الجارية فعلا للأسد ولمثله من المذكر لم يجز إلا تذكير الهاء. وكذلك كل اسم مذكّر شبهته بمؤنث فذكِّر فيه الهاء، وكل مؤنث شبهته بمذكر ففيه تذكير الهاء وتأنيثها؛ فهذه واحد. ومتى ما ذكَّرت فعل مؤنث فقلت: قام جاريتك، أو طال صلاتك، (ثم أدخلت عليه إنه) لم يجز إلا تذكيرها، فتقول: إنه طال صلاتك؛ فذكَّرتها لتذكير الفعل، لا يجوز أن تؤنث وقد ذكّر الفعل.
وإذا رأيت الاسم مرفوعا بالمحالّ - مثل عندك، وفوقك، وفيها - فأنِّثْ وذكّر فى المؤنث ولا تؤنث فى المذكر. وذلك أن الصفة لا يُقَدر فيها على التأنيث كما يقدر (فى قام) جاريتك على أن تقول: قامت جاريتك. فلذلك كان فى الصفات الإجراء على الأصل.
وإذا أخليت كان باسم واحد جاز أن ترفعه وتجعل له الفعل. وإن شئت أضمرت فيه مجهولا ونصبت ما بعده فقلت: إذا كان غدا فأتنا. وتقول: اذهب فليس إلا أباك، وأبوك. فمن رفع أضمر أحدا؛ كأنه قال: ليس أحد إلا أبوك، ومن نصب أضمر الاسم المجهول فنصب؛ لأن المجهول معرفة فلذلك نصبت. ومن قال: إذا كان غُدْوةً فأتنا لم يجز له أن يقول: إذا غدوةً كان فأتنا، كذلك الاسم المجهول لا يتقدمه منصوبه. وإذا قرنت بالنكرة فى كان صفة فقلت: إن كان بينهم شرّ فلا تقربهم، رفعت. وإن بدأت بالشر وأخرت الصفة كان الوجه الرفع فقلت: إن شر بينهم فلا تقربهم، ويجوز النصب. قال وأنشدنى بعضهم:
فعينَىَّ هلاَّ تبكيان عِفَاقا * إذا كان طعنا بينهم وعِناقا
فإذا أفردت النكرة بكان اعتدل النصب والرفع. وإذا أفردت المعرفة بكان كان الوجه النصب؛ يقولون: لو كان إلا ظله لخاب ظله. فهذه على ما وصفت لك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )

{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ }

وقوله: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ...}
حرّم عليهم الثَّرْب، وشحوم الكُلَى.
ثم قال: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} و (ما) فى موضع نصب بالفعل بالاستثناء. و (الحَوَايَا) فى موضع رفع، تردّها على الظهور: إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا,وهى المباعر وبنات اللبن. والنصب على أن تريد (أو شحوم الحوايا) فتحذف الشحوم وتكتفى بالحوايا؛ كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} يريد: واسأل أهل القرية.
وقوله: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} وهى الأَلْية. و (ما) فى موضع نصب.

{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

وقوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً...}

إن شئت جعلت (لاَ تُشْرِكُوا) نهيا أدخلت عليه (أن). وإن شئت جعلته خبرا و(تشِركوا) فى موضع نصب؛ كقولك: أمرتك ألاَّ تذهبَ (نَصْب) إلى زيد، وأن لا تذهبْ (جَزْم)، وإن شئت جعلت ما نسقته على (أَلاَّ تُشْرِكُوا بِه) بعضه جزما ونصبا بعضه؛ كما قال: {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ}، فنصب أوله ونهى عن آخره؛ كما قال الشاعر:
حجَّ وأوصى بسليمى الأعبدا * ألاّ ترى ولا تكلمْ أحدا
* ولا تُمَشِّ بفَضاء بعدَا *
فنوى الخبر فى أوّله ونهى فى آخره. قال: والجزم فى هذه الآية أحبّ إلىّ لقوله: (وَأَوفُوا الْكَيْلَ). فجعلت أوّله نهيا لقوله: (وَأَوفُوا الْكَيْلَ).

{ وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

وقوله: {وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً...}
تكسر إنَّ إذا نويت الاستئناف، وتفتحها من وقوع (أتل) عليها. وإن شئت جعلتها خفصا، تريد {ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} و { وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ}.
وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} يعنى اليهودية والنصرانية. يقول: لا تتبعوها فتضلوا.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ...}

تماما على المحسن. ويكون المحسن فى مذهب جمع؛ كما قال: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ}. وفى قراءة عبدالله (تَمَاماً عَلَى الذِين أحسنوا) تصديقا لذلك. وإن شئت جعلت (الذى) على معنى (ما) تريد: تماما على ما أحسن موسى، فيكون المعنى: تماما على إحسانه. ويكون (أحسن) مرفوعا؛ تريد على الذى هو أحسن، وتنصب (أحسن) ها هنا تنوى بها الخفض؛ لأن العرب تقول: مررت بالذى هوخير منك، وشر منك, ولا يقولون: مررت بالذى قائم؛ لأن (خيرا منك) كالمعرفة؛ إذ لم تدخل فيه الألف واللام. وكذلك يقولون: مررت بالذى أخيك، وبالذى مثلِك، إذا جعلوا صلة الذى معرفة أو نكرة لا تدخلها الألف واللام جعلوها تابعة للذى؛ أنشدنى الكسائىّ:
إن الزُّبيرىَّ الذى مِثْلَ الحَلَمْ * مَشَّى بأسلابك فى أهل العَلَم

{ وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

وقوله: {وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ...}
جعلت مباركا نعت الكتاب فرفعته. ولونصبته على الخروج من الهاء فى (أَنْزَلْنَاهُ) كان صوابا.

{ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ }

وقوله: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ...}
(أن) فى موضع نصب من مكانين. أحدهما: أنزلناه لئلا تقولوا إنما أنزل. والآخر من قوله: واتقوا أن تقولوا، (لا) يصلح فى موضع (أن) ها هنا كقوله: {يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} يصلح فيه (لا تضلون) كم قال: {سَلَكْنَاهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )

{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ }

وقوله: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ...}
لقبض أرواحهم: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}: القيامة {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}: طلوع الشمس من مغربها.

{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ...}
قرأها عَلِىّ (فارقوا)، وقال: والله ما فرَّقوه ولكن فارقوه. وهم اليهود والنصارى. وقرأها الناس (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) وكلّ وجه.
وقوله: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} يقول من قتالهم فى شىء، ثم نسختها: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} .

{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

وقوله: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا...}
من خفض يريد: فله عشر حسناتٍ أمثالها. ولو قال هاهنا: فله عشر مِثْلِها؛ يريد عشر حسنات مثلها كان صوابا. ومن قال: عشْرٌ أَمثالها جعلهنّ من نعت العشر. و(مثل) يجوز توحيده: أن تقول فى مثله من الكلام: هم مثلكم، وأمثالكم؛ قال الله تبارك وتعالى: {إِنكم إِذاً مثلهم} فوحَّد، وقال: {ثم لا يكونوا أَمثالكم} فجمع. ولو قلت: عَشْرٌ أمثالها كما تقول: عندى خمسةٌ أثوابٌ لجاز.
وقوله: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ}: بلا إله إلا الله، والسيئة: الشِّرك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنعام )
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

وقوله: {دِيناً قِيَماً...}
و"قَيِّما". حدّثنا محمد قال حدّثنا الفراء قال حدّثنى عمرو بن أبى المقدام عن رجل عن عمران بن حذيفة قال: رآنى أبى حذيفة راكعا قد صوّبت رأسى، قال ارفع رأسك، دينا قيما. (دينا قيما) منصوب على المصدر. و(مِلةَ إِبراهِيم) كذلك.

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ...}
جعلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خلائف كل الأمم {ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ} فى الرزق (لِيبلوكم) بذلك (فِيما آتاكم).

المعاني الواردة في آيات

سورة ( الأعراف )
{ المص }

قلت: أرأيت ما يأتى بعد حروف الهِجاء مرفوعا؛ مثل قوله: {المص كتابٌ أنزل إِليك} ومثل قوله: {الم تنزِيلُ الكتابِ}، وقوله: {الر كِتابٌ أحكمت آياتهُ} وأشباه ذلك بم رفعت الكتاب فى هؤلاء الأحرف؟

قلت: رفعته بحروف الهجاء الى قبله؛ كأنك قلت: الألف واللام والميم والصاد من حروف المقطّع كتابٌ أنزل إليك مجموعا. فإن قلت: كأنك قد جعلت الألف واللام والميم والصاد يؤدّين عن جميع حروف المعجم، وهو ثلاثة أحرف أو أربعة؟ قلت: نعم، كما أنك تقول: اب ت ث ثمانية وعشرون حرفا، فتكتفى بأربعة أحرف من ثمانية وعشرين. فإن قلت: إن ألف ب ت ث قد صارت كالاسم لحروف الهجاء؛ كما تقول: قرأت الحمد، فصارت اسما لفاتحة الكتاب. قلت: إن الذى تقول ليقع فى الوَهْم، ولكنك قد تقول: ابنى فى ا ب ت ث، ولو قلت فى حاط لجاز ولعلمت بأنه يريد: ابنى فى الحروف المقطَّعة. فلما اكتفى بغير أوّلها علمنا أن أوّلها ليس لها باسم وإن كن أوّلها آثر فى الذكر من سائرها. فإن قلت: فكيف جاءت حروف (المص) (كهيعص) مختلفة ثم أنزلا منزل باتاثا وهنّ متواليات؟ قلت: إذا ذكرن متواليات دللن على أ ب ت ث بعينها مقطَّعة، وإذا لم يأتين متواليات دللن على الكلام المتصل لا على المقطّع. أنشدنى الحارثىّ:
تعلمت باجاد وآل مُرامِرٍ * وسوّدتُ أثوابى ولست
بكاتب وأنشدنى بعض بنى أَسَد:
لّما رأيت أمرها فى حُطِّى * وفَنَكت فى كذب ولط
أخذتُ منها بقرونٍ شُمطِ * ولم يزل ضربى لها ومَعْطِى
* حتى على الرأسِ دم يغطِى *
فاكتفى بحطى من أبى جاد، ولو قال قائل: الصبى فى هوّز أو كلمن، لكفى ذلك من أبى جاد.
وقد قال الكسائى: رفعت {كتابٌ أنزل إليك} وأشباهه من المرفوع بعد الهجاء بإضمار (هذا) أو (ذلك) وهو وجه. وكأنه إذا أضمر (هذا) أو (ذلك) أضمر لحروف الهجاء ما يرفعها قبلها؛ لأنها لا تكون إلا ولها موضع.

قال: أفرأيت ما جاء منها ليس بعده ما يرافعه؛ مثل قوله: حم. عسق، ويس، وق, وص، مما يقلّ أو يكثر، ما موضعه إذ لم يكن بعده مرافع؟ قلت: قبله ضمير يرفعه، بمنزلة قول الله تبارك وتعالى: {براءة مِن اللّهِ ورسولِهِ} المعنى والله أعلم: هذه براءة من الله. وكذلك {سورة أَنزلناها} وكذلك كل حرف مرفوع مع القول ما ترى معه ما ريفعه فقبله اسم مضمر يرفعه؛ مثل قوله: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا} المعنى والله أعلم: لا تقولوا هم ثلاثة، يعنى الآلهة. وكذلك قوله: {سيقولون ثلاثة رابِعهم} المعنى والله أعلم: سيقولون هم ثلاثة.
وقد قيل فى (كهيعص): إنه مفسّر لأسماء الله. فقيل: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والعين والياء من عليم، والصاد من صدوق. فإن يك كذلك (فالذكر) مرفوع بضمير لا بـ (كهيعص). وقد قيل فى (طه) إنه: يا رجل، فإن يك كذلك فليس يحتاج إلى مرافع؛ لأن المنادى يرفع بالنداء؛ وكذلك (يس) جاء فيها يا إنسان، وبعضهم: يا رجل, والتفسير فيها كالتفسير فى طه.

{ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ...}
يقول: لا يضيق صدرك بالقرآن بأن يكذبوك، وكما قال الله تبارك وتعالى: {فلعلك باخِع نفسك على آثارِهِم إِن لم يؤمِنوا}. وقد قيل: {فلا يكن فى صدرك حرج}: شك.
{لِتُنذِرَ بِهِ} مؤخر، ومعناه: المص كتاب أنزِل إِليك لِتنذِر بِهِ فلا يكن فِى صدرِك حرج مِنه.
{وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فى موضع نصب ورفع. إن شئت رفعتها على الردّ على الكتاب؛ كأنك قلت: كتاب حقّ وذكرى للمؤمنين؛ والنصب يراد به: لتنذر وتذّكر به المؤمنين.

{ اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }

وقوله: {اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ...}
وإنما خاطب النبىّ صلى الله عليه وسلم وحده لأن ما أنذر به فقد أنذرت به أمته؛ كما قال: {يأيها النبِىّ إِذا طلقتم النِساء} فخاطبه، ثم جعل الفعل للجميع، وأنت قد تقول للرجل: ويحك أما تتقون الله، تذهب إليه وإلى أهل بيته أو عشيرته. وقد يكون قوله: (اتبِعوا) محكيا من قوله (لتنذر به) لأن الإنذار قول، فكأنه قيل له: لتقول لهم اتبعوا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {يوصِيكم الله فِى أولادِكم للذكرِ مِثل حظِّ الأنثيينِ} لأن الوصية قول.
ومثله: {يأيها النبِىُّ لِم تحرِّم ما أحلَّ الله لك}. ثم قال: {قد فرض الله لكم} فجمع.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }

وقوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا...}
يقال: إنما أتاها البأس من قَبْل الإهلاك، فكيف تقدم الهلاك؟ قلت: لأن الهلاك والبأس يقعان معا؛ كما تقول: أعطيتنى فأحسنت، فلم يكن الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله: إنما وقعا معا، فاستجيز ذلك. وإن شئت كان المعنى: وكم من قرية أهلكناها فكان مجىء البأس قبل الإهلاك، فأضمرت كان. وإنما جاز ذلك على شبيه بهذا المعنى، ولا يكون فى الشروط التى خَلَفتْها بمقدّم معروف أن يقدم المؤخر أو يؤخر المقدم؛ مثل قولك: ضربته فبكى، وأعطيته فاستغنى، إلا أن تدع الحروف فى مواضعها. وقوله: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا} قد يكونان خبرا بالواو: أهلكناها وجاءها البأس بياتا.
وقوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ...}
ردّ الفعل إلى أهل القرية وقد قال فى أولها (أهلكناها) ولم يقل: أهلكناهم فجاءهم، ولو قيل، كان صوابا. ولم يقل: قائلة، ولو قيل لكان صوابا.

وقوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} واو مضمرة. المعنى أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقا على نسق، ولو قيل لكان جائزا؛ كما تقول فى الكلام: أتيتنى واليا، أو وأنا معزول، وإن قلت: أو أنا معزول، فأنت مضمر للواو.

{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }

وقوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ...}
الدعوى فى موضع نصب لكان. ومرفوع كان قوله: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} فأن فى موضع رفع. وهو الوجه فى أكثر القرآن: أن تكون أن إذا كان معها فعل، أن تجعل مرفوعة والفعل منصوبا؛ مثل قوله: {فكان عاقِبتَهما أنهما فِى النار} و{ما كان حجتهم إِلا أن قالوا}. ولو جعلت الدعوى مرفوعة (وأن) فى موضع نصب كان صوابا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {ليس البرُّ أن تُولوا} وهى فى إحدى القراءتين: ليس البر بأن تولوا.

{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

وقوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ...}
وإن شئت رفعت الوزن بالحقّ، وهو وجه الكلام. وإن شئت رفعت الوزن بيومئذ، كأنك قلت: الوزن فى يوم القيامة حقّاً، فتنصب الحقّ وإن كانت فيه ألف ولام؛ كما قال: {فالحقَّ والحقَّ أقول}الأولى منصوبة بغير أقول. والثانية بأقول.
وقوله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ} ولم يقل (فذلك) فيوحِّدَ لتوحيد من، ولو وحّد لكان صوابا. و(مَن) تذهب بها إلى الواحد وإلى الجمع. وهو كثير.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }

وقوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ...}

لا تهمز؛ لأنها - يعنى الواحدة - مفعِلة، الياء من الفعل، فلذلك لم تهمز، إنما يهمز مِن هذا ما كانت الياء فيه زائدة؛ مثل مدينة ومدائن، وقبيلة وقبائِل لما كانت الياء لا يعرف لها أصل ثم قارفتها ألف مجهولة أيضا همزت، ومثل معايش من الواو مما لا يهمز لو جمعت، معونة قلت: (معاون) أو منارة قلت مناور. وذلك أن الواو ترجع إلى أصلها؛ لسكون الألف قبلها. وربما همزت العرب هذا وشبهه، يتوهمون أنها فعلية لشبهها بوزنها فى اللفظ وعدّة الحروف؛ كما جمعوا مسِيل الماء أمسلة، شُبِّه بفعيل وهو مفعِل. وقد همزت العرب المصائب وواحدتها مصيبة؛ شبهت بفعيلة لكثرتها فى الكلام.

{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }

وقوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ...}
المعنى - والله أعلم - ما منعك أن تسجد. و(أن) فى هذا الموضع تصحبها لا، وتكون (لا) صلة. كذلك تفعل بما كان فى أوّله جحد. وربما أعادوا على خبره جحدا للاستيثاق من الجحد والتوكيد له؛ كما قالوا:
ما إن رأينا مثلهن لمعشر * سود الرءوس فوالج وفيول

و(ما) جحد و(إن) جحد فجمعتا للتوكيد. ومثله: {وما يشعِركم أنها إذا جاءت لا يؤمِنون}. ومثله: {وحرام على قريةٍ أهلكناها أنهم لا يرجِعون}. ومثله: {لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون} إلا أن معنى الجحد الساقط فى لئلا من أوّلها لا من آخرها؛ المعنى: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون. وقوله: {مَا مَنَعَكَ} (ما) فى موضع رفع. ولو وضع لمثلها من الكلام جواب مصحح كان رفعا، وقلت: منعنى منك أنك بخيل. وهو مما ذكر جوابه على غير بناء أوله، فقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} ولم يقل: منعنى من السجود أنى خير منه؛ كما تقول فى الكلام: كيف بتّ البارحة؟ فيقول: صالح، فيرفع؛ أو تقول: أنا بخير، فتستدلّ به على معنى الجواب، ولوصحح الجواب لقال صالحا، أى بتُّ صالحا.

{ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }

وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ...}
المعنى - والله أعلم -: لأقعدن لهم على طريقهم أو فى طريقهم. وإلقاء الصفة من هذا جائز؛ كما قال: قعدت لك وجه الطريق، وعلى وجه الطريق؛ لأن الطريق صفة فى المعنى، فاحتمل ما يحتمله اليوم والليلة والعام إذا قيل: آتيك غدا أو آتيك فى غد.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ يَابَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }

وقوله: {يَابَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً...}
"ورياشا". فإن شئت جعلت رياش جميعا واحده الريش، وإن شئت جعلت الرياش مصدرا فى معنى الريش كما يقال لِبْس ولباس؛ قال الشاعر:
فلما كشفن اللِّبْسَ عنه مَسَحْنَه * بأطراف طَفْلٍ زان غَيْلا مُوَشَّما

وقوله: {ورِيشاً ولِباسُ التقوى} و"لباسَ التقوى" يرفع بقوله: ولباس التقوى خير، ويجعل (ذلك) من نعته. وهى فى قراءة أبىّ وعبدالله جميعا: ولباس التقوى خير. وفى قراءتنا (ذلك خير) فنصب اللباس أحب إلىّ؛ لأنه تابع الريش، (ذلك خير) فرفع خير بذلك.

{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }

وقوله: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ...}
يقول: بدأكم فى الخلق شقيا وسعيدا، فكذلك تعودون على الشقاء والسعادة.
وقوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ...}
يقول: إذا أدركتك الصلاة وأنت عند مسجد فصلّ فيه، ولا تقولن: آتى مسجد قومى. فإن كان فى غير وقت الصلاة صليت حيث شئت.

{ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }

وقوله: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ...}
ونصب الفريق بتعذون، وهى فى قراءة أُبَىّ: تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حقَّ عليهم الضلالة. ولو كانا رفعا كان صوابا؛ كما قال تبارك وتعالى: {كان لكم آيةٌ فى فِئَتْينِ التقتا فِئةٌ تقاتِلُ فى سبِيل اللّهِ وأُخرى كافِرةٌ} و "فِئَةً" ومثله: {وتُنذِرَ يوم الجمعِ لا ريب فِيهِ فرِيقٌ فى الجنةِ وفرِيقٌ فى السَّعِير}. وقد يكون الفريق منصوبا بوقوع "هَدَى" عليه؛ ويكون الثانى منصوبا بما وقع على عائِد ذكره من الفعل؛ كقوله: {يدخِل من يشاء فى رحمتِهِ والظالِمين أَعدَّ لهم عذاباً أَلِيماً}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )

{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...}
نصبت خالصة على القطع وجعلت الخبر فى اللام التى فى الذين، والخالصة ليست بقطع من اللام، ولكنها قطع من لام أخرى مضمرة. والمعنى - والله أعلم -: قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا؛ يقول: مشتركة، وهى لهم فى الآخرة خالصة. ولو رفعتها كان صوابا، تردّها على موضع الصفة التى رفعت لأن تلك فى موضع رفع. ومثله فى الكلام قوله: إنا بخير كثير صيدنا. ومثله قول الله عز وجل {إِن الإنسان خُلِق هَلوعا. إِذا مسّه الشرّ جَزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا}. المعنى: خلق هلوعا، ثم فسر حال الهلوع بلا نصب؛ لأنه نصب فى أوّل الكلام. ولو رفع لجاز؛ إلا أن رفعه على الاستئناف لأنه ليس معه صفة ترفعه. وإنما نزلت هذه الآية أن قبائل من العرب فى الجاهلية كانوا لا يأكلون أيام حجهم إلا القوت، ولا يأكلون اللحم والدسم، فكانوا يطوفون بالبيت عراةً، الرجالُ نهارا والنساء ليلا، وكانت المرأة تلبس شيئا شبيها بالحَوْف ليواريها بعض المواراة؛ ولذلك قالت العامرية:
اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أُحله
قال المسلمون: يا رسول الله، نحن أحق بالاجتهاد لربنا، فأرادوا أن يفعلوا كفعل أهل الجاهلية، فأنزل الله تبارك وتعالى: {خذوا زِينتكم عِند كل مسجِدٍ} يعنى اللباس. {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} حتى يبلغ بكم ذلكم تحريم ما أحللت لكم، والأسراف ها هنا الغلوّ فى الدين.

{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ...}
(والإثم) ما دون الحدّ (والبغى) الاستطالة على الناس.

{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }

وقوله: {أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ...}
يقال: ينالهم ما قضى الله عليهم فى الكتاب من سواد الوجوه وزرقة الأعين. وهو قوله: {ويوم القِيامةِ ترى الذِين كذبوا على الله وجوههم مسودة} ويقال هو ما ينالهم فى الدنيا من العذاب دون عذاب الآخرة، فيكون من قوله: {ولنذِيقنهم مِن العذابِ الأدنى دون العذابِ الأكبر}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا...}

يقول: التى سبقتها، وهى أختها فى دينها لا فى النسب. وما كان من قوله: {وإلى مدين أخاهم شعيبا} فليس بأخيهم فى دينهم ولكنه منهم.

{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }

وقوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ...}
ولا يَفتَّح وتُفَتَّح. وإنما يجوز التذكير والتأنيث فى الجمع لأنه يقع عليه التأنيث فيجوز فيه الوجهان؛ كما قال: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} و"يشهد" فمن ذكَّر قال: واحد الألسنة ذكر فأبنى على الواحد إذ كان الفعل يتوحد إذا تقدّم الأسماء المجموعة، كما تقول ذهب القوم.
وربما آثرت القراء أحد الوجهين، أو يأتى ذلك فى الكتاب بوجه فيرى من لا يعلم أنه لا يجوز غيره وهو جائز. ومما آثروا من التأنيث قوله: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} فآثروا التأنيث. ومما آثروا فيه التذكير قوله: {لن ينال الله لحومها ولا دِماؤها} والذى أتى فى الكتاب بأحد الوجهين قوله: {فتِحت أبوابها} ولو أتى بالتذكير كان صوابا.
ومعنى قوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ}: لا تصعد أعمالهم. ويقال: إن أعمال الفجار لا تصعد ولكنها مكتوبة فى صخرة تحت الأرض، وهى التى قال الله تبارك وتعالى: {كلا إِن كِتاب الفجارِ لفِى سجين}.
وقوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} الجمل هو زوج الناقة. وقد ذكر عن ابن عباس الجُمَّل يعنى الحبال المجموعة. ويقال الخياط والمِخْيَط ويراد الإبرة. وفى قراءة عبدالله (المِخْيَط) ومثله يأتى على هذين المثالين يقال: إزار ومِئزر، ولِحاف ومِلحف، وقِناع ومِقنع، وقِرام ومِقرم.

{ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ }

وقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ...}
وذلك أنهم على سُور بين الجنة والنار يقال له الأعراف، يرون أهل الجنة فيعرفونهم ببياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم، فذلك قوله: {يعرِفون كلا بسيماهم}. وأصحاب الأعراف أقوام اعتدلت حسناتهم وسيئاتهم فقصَّرت بهم الحسنات عن الجنَّة، ولم تبلغ بهم سيئاتهم النار، كانوا موقوفين ثم أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً...}
تنصب الهدى والرحمة على القطع من الهاء فى فصّلناه. وقد تنصبهما على الفعل. ولو خفضته على الإتباع للكتاب كان صوابا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {وهذا كِتاب أنزلناه مبارك} فجعله رفعا بإتباعه للكتاب.

{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }

وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ...}
الهاء فى تأويله للكتاب. يريد عاقبته وما وعد الله فيه.

وقوله: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ} ليس بمعطوف على (فيشفعوا)، إنما المعنى - والله أعلم -: أو هل نردّ فنعمل غير الذى كنا نعمل. ولو نصبت (نردّ) على أن تجعل (أو) بمنزلة حتّى، كأنه قال: فيشفعوا لنا أبدا حتى نرد فنعمل، ولا نعلم قارئا قرأ به.

{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }

وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ...}
ذكرت قريبا لأنه ليس بقرابة فى النسب. قال: ورأيت العرب تؤنث القريبة فى النسب لا يختلفون فيها، فإذا قالوا: دارك منّا قريب، أو فلانة منك قريب فى القرب والبعد ذكَّروا وأنَّثوا. وذلك أن القريب فى المعنى وإن كان مرفوعا فكأنه فى تأويل: هى من مكان قريب. فجعل القريب خَلَفا من المكان؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {وما هِى مِن الظالِمِين ببعِيد} وقال: {وما يدرِيك لعل الساعة تكون قريبا} ولو أنَّث ذلك فبنى على بعدَتْ منك فهى بعيدة وقَرُبت فهى قريبة كان صوابا حسنا. وقال عروة:
عشِيَّةَ لاعفراءُ مِنك قرِيبة * فتدنو ولا عفراء مِنك بعِيد
ومن قال بالرفع وذكَّر لم يجمع قريبا [ولم] يثنّه. ومن قال: إنّ عفراء منك قريبة أو بعيدة ثنَّى وجمع.

الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَشْراً...}

والنَشْر من الرياح: الطيبة اللينة التى تنشىء السحاب. فقرأ بذلك أصحاب عبدالله. وقرأ غيرهم (بُشْرا) حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء قال حدثنى قيس بن الربيع الأسَدىّ عن ابى إسحاق الهَمْدانى عن أبى عبد الرحمن السُلَمىّ عن علىّ أنه قرأ (بُشْرا) يريد بشيرة، و(بَشْرا) كقول الله تبارك وتعالى: (يرسل الرياح مبشِّرات).
وقوله: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى} جواب لأنزلنا فأخرجنا به. يقال: إن الناس يموتون وجميع الخلق فى النفخة الأولى. وبينها وبين الآخرة أربعون سنة. ويبعث الله المطر فيمطر أربعين يوما كمنىّ الرجال، فينبتون فى قبورهم؛ كما ينبتون فى بطون أمّهاتهم. فذلك قوله: {كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى} كما أخرجنا الثمار من الأرض الميتة.

{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }

وقوله: {وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً...}
قراءة العامة؛ وقرأ بعض أهل المدينة: نَكَدا؛ يريد: لا يخرج إلا فى نَكَدٍ. والنكِد والنكَد مثل الدنِف والدنَف. قال: وما أُبعد أن يكون فيها نكُد، ولم أسمعها، ولكنى سمعت حذِر وحذُر وأشِر وأشُر وعجِل وعجُل.

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }

وقوله: {مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ...}
تجعل (غير) نعتا للإله. وقد يرفع: يجعل تابعا للتأويل فى إله؛ ألا ترى أن الإله لو نزعت منه (مِن) كان رفعا. وقد قرئ بالوجهين جميعا.

وبعض بنى أَسَد وقُضَاعة إذا كانت (غير) فى معنى (إلا) نصبوها، تمّ الكلامُ قبلها أو لم يتم. فيقولون: ما جاءنى غيرَك، وما أتانى أحد غيرَك. قال: وأنشدنى المفضَّل:
لم يمنع الشربَ منها غير ان هتفت * حمامةٌ من سَحُوقٍ ذاتِ أوقال
فهذا نصب وله الفعل والكلام ناقص. وقال الآخر:
لاعيب فيها غيرَ شُهْلةِ عينِها * كذاك عِتاق الطير شُهْلاً عيونُها
فهذا نصب والكلام تامّ قبله.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

وقوله: {أَوَ عَجِبْتُمْ...}
هذه واو نَسَق أدخلت عليه ألف الاستفهام؛ كما تدخِلها على الفاء، فتقول: أفعجبتم، وليست بأو، ولو أريد بها أو لسكِّنت الواو.
وقوله: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} يقال فى التفسير: مع رجل. وهو فى الكلام كقولك: جاءنا الخير على وجهك، وهُدِينا الخير على لسانك، ومع وجهك، يجوزان جميعا.

{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }

وقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً...}

{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }

وقوله: {قَالَ الْمَلأُ...}
هم الرجال لا يكون فيهم امرأة. وكذلك القوم، والنَفَر والرّهْط.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ }

وقوله: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ...}
يقول: قد كنت فيكم أمينا قبل أن أُبعث. ويقال: أمين على الرسالة.

{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً...}
منصوب بضمير أرسلنا. ولو رفع إذ فقد الفعل كان صوابا؛ كما قال: {فبشرناها بإسحاق ومِن وراءِ إسحاق يعقوبُ} وقال أيضا: {فأخرجنا بِهِ ثمراتٍ مختلِفا ألوانها} ثم قال: {ومِن الجِبالِ جُدَدٌ بِيض} فالوجه ها هنا الرفع؛ لأن الجبال لا تتبع النبات ولا الثمار. ولو نصبتها على إضمار: جعلنا لكم (من الجِبال جددا بيضا) كما قال الله تبارك وتعالى: {ختم الله على قلوبِهِم وعلى سمعِهِم وعلى أبصارِهم غشاوةً} أضمر لها جَعَل إذا نصبت؛ كما قال: {وختم على سمعِهِ وقلبِهِ وجعل على بصرِهِ غِشاوة} والرفع فى غشاوة الوجه. وقوله: {ومِن الناسِ والدوابِّ والأَنعامِ مختلِف ألوانه} ولم يقل: ألوانهم، ولا ألوانها. وذلك لمكان (مِن) والعرب تضمر مَن فتكتفى بمن مِن مَنْ، فيقولون: مِنا مَنْ يقول ذلك ومِنا لا يقوله. ولو جمع على التأويل كان صوابا مثل قول ذى الرمّة:
فظلُّوا ومنهم دمعه سابق له * وآخر يثنِى دَمْعَة العينِ بالمَهلِ
وقوله: {وزادكم فىالخلقِ بسطة} كان أطوالهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا.

{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }

وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ...}
والرجفة هى الزلزلة. والصاعقة هى النار. يقال: أحرقتهم.
وقوله: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} يقول: رمادا جاثما.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )

{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }

وقوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ...}
يقال: إنه لم يعذب أمّة ونبيّها فيها حتى يخرج عنها.

{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }

وقوله: {أَخْرِجُوهُمْ...}
يعنى لوطا أخرجوه وابنتيهِ.
وَقوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يقولون: يرغبون عن أعمال قوم لوط ويتنزهون عنها.

{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا...}
وإصلاحها بَعثة النبىّ صلى الله عليه وسلم يأمر بالحلال وينهى عن الحرام. فذلك صلاحها. وفسادها العمل - قبل أن يبعث النبىّ - بالمعاصى.
وقوله شعيب: {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} لم يكن له آية إلا النبوّة. وكان لثمود الناقة، ولعيسى إحياء الموتى وشبهه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }

وقوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ...}

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8