كتاب : معانى القرآن للفراء
المؤلف : أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء

كانوا يقعدون لمن آمن بالنبىّ على طرقهم يتوعّدونهم بالقتل. وهو الإيعاد والوعيد. إذا كان مبهما فهو بألِف، فإذا أوقعته فقلت: وعدتك خيرا أو شرا كان بغير ألف؛ كما قال تبارك وتعالى: {النارُ وعدها الله الذِين كفروا}.

{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ }

وقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا...}
يريد: اقض بيننا، وأهل عُمَان يسمون القاضى الفاتح والفتَاح.

{ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }

وقوله: {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ...}

ثم قال: {ونطبع} ولم يقل: وطبعنا، ونطبع منقطعة عن جواب لو؛ يدلّك على ذلك قوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}؛ ألا ترى أنه لا يجوز فى الكلام: لو سألتنى لأعطيتك فأنت غنىّ, حتى تقول: لو سألتنى لأعطيتك فاستغنيت. ولو استقام المعنى فى قوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أن يتصل بما قبله جاز أن تردّ يفعل على فعل فى جواب لو؛ كما قال الله عز وجل: {ولو يعجل الله لِلناسِ الشر استِعجالهم بِالخيرِ لقضِى إليهم أجلهم فنذر الذِين لا يرجون} فنذر مردودة على (لقضِى) وفيها النون. وسهَّل ذلك أنّ العرب لا تقول: وذرت، ولا ودعت؛ إنما يقال بالياء والألف والنون والتاء؛ فأوثرت على فعلت إذا جازت؛ قال الله تبارك وتعالى: {تبارك الذِى إن شاء جعل لك خيرا مِن ذلِك} ثم قال: {ويجعل لك قصورا} فإذا أتاك جواب لو آثرت فيه (فعل على يفعل) وإن قلته ينفعل جاز، وعطف فعل على يفعل ويفعل على فعل جائز، لأن التأويل كتأويل الجزاء.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ }

وقوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ...}
ويقرأ: (حقيقٌ علىّ أن لا أقول) وفى قراءة عبدالله: (حقيق بأن لا أقول على الله) فهذه حجة من قرأ (على) ولم يِضِف. والعرب تجعل الباء فى موضع على؛ رميت على القوس، وبالقوس، وجئت على حال حسنةٍ وبحال حسنةٍ.

{ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ }

وقوله: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ...}
هو الذكر؛ وهو أعظم الحيّات.

{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ }

وقوله: { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ...}

فقوله: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} من الملأ {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} من كلام فرعون. جاز ذلك على كلامهم إياه، كأنه لم يحك وهو حكاية. فلو صرّحت بالحكاية لقلت: يريد أن يخرجكم من أرضكم، فقال: فماذا تأمرون. ويحتمل القياس أن تقول على هذا المذهب: قلت لجاريتك قومى فإنى قائمة (تريد: فقالت: إنى قائمة) وقلَّما أتى مثله فى شعر أو غيره، قال عنترة:
الشاتَمِىْ عِرْضى ولم أشتِمْهُما * والناذرَيْنِ إِذا لقيتهما دمى
فهذا شبيه بذلك؛ لأنه حكاية وقد صار كالمتصل على غير حكاية؛ ألا ترى أنه أراد: الناذرَين إذا لقينا عنترةَ لنقتلنّه، فقال: إذا لقيتهما، فأخبر عن نفسه، وإنما ذكراه غائبا. ومعنى لقيتهما: لقيانى.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ }

وقوله: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ...}
جاء التفسير: احبسهما عندك ولا تقتلهما، والإرجاء تأخير الأمر. وقد جزم الهاءَ حمزةُ والأعمش. وهى لغة للعرب: يقفون على الهاء المكنىّ عنها فى الوصل إذا تحرك ما قبلها؛ أنشدنى بعضهم:
أنحى علىَّ الدهر رجلا ويدا * يُقسم لا يُصلح إلا أفسدا
* فيصلح اليوم ويفسدُهْ غدا *
وكذلك بهاء التأنيث؛ فيقولون: هذه طلحهْ قد أقبلت، جزم؛ أنشدنى بعضهم:
لما رأى أن لاّدعَهْ ولا شِبَعْ * مال إلى أرطاة حِقْف فاضطجع وأنشدنى القَنَانىّ:
لستُ إذاً لزَعْبَلَهْ إن لم أُغَـ * يِّرْ بِكْلَتِى إن لم أُساوَ بالطُوَل
بِكْلَتِى: طريقتى: كأنه قال: إن لم أغيِّرْ بكلتى حتى أساوَى. فهذه لامرأة: امرأة طُولى و[نساء] طُوَل.

{ قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ }

وقوله: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ...}

أدخل (أن) فى (إما) لأنها فى موضع أمر بالاختيار. فهى فى موضع نصب فى قول القائل: اختر ذا أو ذا؛ ألا ترى أن الأمر بالاختيار قد صلح فى موضع إمّا.
فإن قلت: إن (أو) فى المعنى بمنزلة (إمّا وإمّا) فهل يجوز أن يقول يا زيد أن تقوم أو تقعد؟ قلت: لا يجوز ذلك؛ لأن أول الاسمين فى (أو) يكو خبرا يجوز السكوت عليه، ثم تستدرِك الشكّ فى الاسم الآخِر، فتُمضى الكلام على الخبر؛ ألا ترى أنك تقول: قام أخوك، وتسكت، وإن بدا لك قلت: أو أبوك، فأدخلت الشكّ، والاسم الأول مكتفٍ يصلح السكوت عليه. وليس يجوز أن تقول: ضربت إمّا عبدالله وتسكت. فلمَّا آذنت (إمّا) بالتخيير من أول الكلام أحدثْتَ لها أن. ولو وقعت إمّا وإمّا مع فعلين قد وُصِلا باسم معرفة أو نكرة ولم يصلح الأمر بالتمييز فى موقع إمّا لم يحدث فيها أن؛ كقول الله تبارك وتعالى: {وآخَرُون مُرْجَون لأَمْرِ الله إمَّّّا يعذِّبُهم وإمَّا يَتُوب عَلَيْهِمْ} ألا ترى أن الأمر لا يصلح ها هنا، فلذلك لم يكُنْ فيه أن. ولو جعلت (أن) فى مذهب (كى) وصيَّرتها صلة لـ (مرجون) يريد أُرجئوا أن يعذبوا أو يتاب عليهم، صلح ذلك فى كل فعل تامّ، ولا يصلح فى كان وأخواتها ولا فى ظننت وأخواتها. من ذلك أن تقول آتيك إما أن تعطى وإما أن تمنع. وخطأ أن تقول: أظنك إما أن تعطى وإما أن تمنع، ولا أصبحت إما أن تعطى وإما أن تمنع. ولا تُدخلنَّ (أو) على (إما) ولا (إما) على (أو). وربما فعلت العرب ذلك لتآخيهما فى المعنى على التوهّم؛ فيقولون: عبدالله إما جالس أو ناهض، ويقولون: عبدالله يقوم وإما يقعد. وفى قراءة أبَىّ: (وإنا وإيَّاكم لإمَّا على هدى أو فى ضلال) فوضع أو فى موضع إما. وقال الشاعر:
فقلت لهن امشين إِمَّا نلاقِه * كما قال أو نشف النفوس فنعذرا
وقال آخر:
فكيف بنفس كلما قلت أشرفت * على البرء من دهماء هِيض اندمالها
تُهاض بدارٍ قد تقادم عهدُها * وإمّا بأمواتٍ ألمَّ خيالها

فوضع (وإمّا) فى موضع (أو). وهو على التوهم إذا طالت الكلمة بعض الطول أو فرقت بينهما بشىء هنالك يجوز التوهم؛ كما تقول: أنت ضاربُ زيدٍ ظالما وأخاه؛ حين فرقت بينهما بـ (ظالم) جاز نصب الأخ وما قبله مخفوض. ومثله {يا ذَا القَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهم حُسْناً} وكذلك قوله {إِمَّا أنْ تُلْقِىَ وإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}.

{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }

وقوله: {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ...}
و(تَلَقَّفُ). يقال لقِفت الشىء فأنا ألقفه لقفا، يجعلون مصدره لقفانا، وهى فى التفسير: تبتلع.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ...}
معناه: أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سِحرا لعادت حبالَنا وعِصينّا إلى حالها الأولى، ولكنها فُقِدت. فذلك قوله (فوقع الحق): فتبين الحق من السحر.

{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {آمَنتُمْ بِهِ...}
يقول: صدّقتموه. ومن قال: (آمنتم له) يقول: جعلتم له الذى أراد.

{ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ }

وقوله: {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ...}
مشدّدة، و(لأَصْلِبنَّكم) بالتخفيف قرأها بعض أهل مكة. وهو مثل قولك: قتلت القوم وقتَّلتهم؛ إذا فشا القتل جاز التشديد.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )

{ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }

وقوله: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ...}
لك فى (ويذرك) النصب على الصرف؛ لأنها فى قراءة أبىّ (أتذر موسى وقومه لِيفسِدوا فِى الأرض وقد تركوك أن يعبدوك) فهذا معنى الصرف. والرفع لمن أتبع آخر الكلام أوّله؛ كما قال الله عز وجل {من ذا الذِى يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفه} بالرفع. وقرأ بن عباس (وإلاهتك) وفسَّرها: ويذرك وعبادتك؛ وقال: كان فرعون يُعبد ولا يَعبد.

{ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }

وقوله: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا...}
قال: فأما الأذى الأوّل فقتله الأبناء واستحياؤه النساء. ثم لمَّا قالوا له: أنَذَرُ موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض قال: أُعِيد على أبنائِهم القتل وأَستحى النساء كما كان فعل. وهو أذى بعد مجىء موسى.

{ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }

وقوله {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ...}
أخذهم بالسنين: القحط والجدوبة عاما بعد عام.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ...}
والحسنة ها هنا الخفض.
وقوله: {لَنَا هَاذِهِ} يقولون: نستحقّها {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يعنى الجدوبة (يّطّيروا) يتشاءموا (بِموسى) كما تشاءمت اليهود بالنبىّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا: غلت أسعارنا وقلّت أمطارنا مذ أتانا.

{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ }

وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ...}

أرسل الله عليهم السماء سَبْتا فلم تقلِع ليلا ونهارا، فضاقت بهم الأرض من تهدّم بيوتهم وشُغُلهم عن ضِياعهم، فسألوه أن يرفع عنهم، فرفِع فلم يتوبوا، فأرسل الله عليهم (الجراد) فأكل ما أنبتت الأرض فى تلك السنة. وذاك أنهم رأوا من غِبّ ذلك المطر خصبا لم يروا مثله قطُّ، فقالوا: إنما كان هذا رحمة لنا ولم يكن عذابا. وضاقوا بالجراد فكان قدر ذراع فى الأرض، فسألوه أن يكشف عنهم ويؤمنوا، فكشف الله عنهم وبقى لهم ما يأكلون، فطغوا به وقالوا (لن نؤمِن لك) فأرسل الله عليهم (القمل) وهو الدّبَى الذى لا أجنحة له، فأكل كلّ ما كان أبقى الجراد، فلم يؤمنوا فأرسل الله (الضفادع) فكان أحدهم يصبح وهو على فِراشه متراكب، فضاقوا بذلك، فلمَّا كُشِف عنهم لم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم (الدم) فتحوّلت عيونهم وأنهارهم دما حتى موّتت الأبكارُ، فضاقوا بذلك وسألوه أن يكشفه عنهم فيؤمنوا، فلم يفعلوا، وكان العذاب يمكث عليهم سبتا، وبين العذاب إلى العذاب شهر، فذلك قوله {آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} ثم وعد الله موسى أن يغرق فرعون، فسار موسى من مصر ليلا. وبلغ ذلك فرعون فأتبعه - يقال فى ألف ألف ومائة ألف سوى كتيبته التى هو فيها، ومُجَنِّبَتيه - فأدركهم هو وأصحابه مع طلوع الشمس. فضرب موسى البحر بعصاه فانفرج له فيه اثنا عشر طريقا. فلمَّا خرجوا تبعه فرعون وأصحابه فى طريقه، فلما كان أوّلهم يَهُمّ بالخروج وآخرهم فى البحر أطبقه الله تبارك وتعالى عليهم فغرَّقهم. ثم سأل موسى أصحابُه أن يخرج فرعون ليعاينوه، فأخرِج هو وأصحابه، فأخذوا من الأمتعة والسلاح ما اتخذوا به العِجْل.

{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ }

وقوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا...}
فتنصب مشارق ومغارب تريد: فى مشارق الأرض وفى مغاربها، وتوقع (وأورثنا) على قوله { الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}. ولو جعلت (وأورثنا) واقعة على المشارق والمغارب لأنهم قد أُورثوها وتجعل (التى) من نعت المشارق والمغارب فيكون نصبا، وإن شئت جعلت (التى) نعتا للأرض فيكون خفضا.
وقوله: (وما ظلمونا) يقول: وما نقصونا شيئا بما فعلوا، ولكن نقصوا أنفسهم. والعرب تقول: ظلمت سِقاءك إذا سقيته قبل أن يُمخض ويخرج زُبْده. ويقال ظلم الوادى إذا بلغ الماء منه موضعا لم يكن ناله فيما خلا؛ أنشدنى بعضهم:
يكاد يطلع ظلما ثم يمنعه * عن الشواهِق فالوادِى به شِرق
ويقال: إنه لأظلم من حيَّة؛ لأنها تأتى الجُحْر ولم تحفِره فتسكنه. ويقولون: ما ظلمك أن تفعل، يريدون: ما منعك أن تفعل، والأرض المظلومة: التى لم ينلها المطر، وقال ابو الجراح: ما ظلمك أَن تفِىء، لرجل شكا كثرة الأكل. ويقال صَعِق الرجل وصُعِق إذا أخذته الصاعقة، وسَعِد وسُعِد ورَهِصت الدابة ورُهِصت.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ }

وقوله: {عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ...}
كان جسدا مجوّفا. وجاء فى التفسير أنه خار مرة واحدة.

{ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

وقوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ...}
من الندامة. ويقال: أسقِط لغة. و(سقِط فى أيديهم) أكثر وأجود. {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} نصب بالدعاء (لئِن لم ترحمنا ربنا) ويقرأ (لئِن لم يرحمنا ربُّنا) والنصب أحبّ إلىّ؛ لأنها فى مصحف عبدالله (قالوا ربَّنا لئِن لم ترحمنا).

{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ...}
تقول: عجِلت الشىء: سبقته، وأعجلته استحثثته.
وقوله: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} ذكر أنهما كانا لوحين. وجاز أن يقال الألواح للاثنين كما قال {فإنْ كان لَهُ إخْوَةٌ} وهما أخوان وكما قال {إن تَتُوبَا إلى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وهما قلبان.

وقوله تبارك وتعالى: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} يقرأ (ابن أمَّ، وأُمِّ) بالنصب والخفض، وذلك أنه كثر فى الكلام فحذفت العرب منه الياء. ولا يكادون يحذفون الياء إلا من الاسم المنادَى يضيف المنادِى إلى نفسه، إلاّ قولهم: يا بن عمّ يا بن أمِّ. وذلك أنه يكثرا استعمالهما فى كلامهم. فإذا جاء مالا يستعمل أثبتوا الياء فقالوا: يا بن أبى، ويا بن أخى، ويا بن خالتى، فأثبتوا الياء. ولذلك قالوا: يا بن أمَّ، ويا بن عمَّ فنصبوا كما تنصب المفرد فى بعض الحالات، فيقال: حسرتا، ويا ويلتا، فكأنهم قالوا: يا أمّاه، ويا عمَّاه. ولم يقولوا ذلك فى أخ، ولو قيل كان صوابا. وكان هارون أخاه لأبيه وأمّه. وإنما قال له (يا بن أم) ليستعطفه عليه.
وقوله: {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ} من أشمت، حدّثنا محمد قال حدّثنا الفراء قال حدّثنا سفيان بن عُيينة عن رجل - أظنه الأعرج - عن مجاهد أنه قرأ (فلا تَشْمِت بى) ولم يسمعها من العرب، فقال الكسائىّ: ما أدرى لعلهم أرادوا (فلا تَشْمَت بِى الأعداءُ) فإن تكن صحيحة فلها نظائر، العرب تقول فرغت: وفرِغت. فمن قال فرَغت قال: أنا أفرُغ، ومن قال فرِغت قال أنا أَفرَغ، ورَكَنت ورِكنت وشمِلهم شر، وشمَلهم، فى كثيرمن الكلام. و(الأعداء) رفع لأن الفعل لهم، لمن قال: تَشْمَت أو تَشْمِت.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }

وقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً...}

وجاء التفسير: اختار منهم سبعين رجلا. وإنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذ طرحت (مِن) لأنه مأخوذ من قولك: هؤلاء خير القوم، وخير من القوم. فلما جازت الإضافة مكان (مِن) ولم يتغير المعنى استجازوا أن يقولوا: اخترتكم رجلا، واخترت منكم رجلا.
وقد قال الشاعر:
فقلت له اخترها قَلُوصا سمِينة * وناباً علينا مثل نابك فى الحَيَا
فقام إليها حَبْتَر بِسلاحِهِ * فللّه عينا حَبْتَرٍ أَيَّما فتى
وقال الراجز:
* تحت الذى اختار له الله الشجو *
وقوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ} وذلك أن الله تبارك وتعالى أرسل على الذين معه - وهم سبعون - الرجفة، فاحترقوا، فظنّ موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل، فقال: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، وإنما أهلكوا بمسألتهم موسى (أرنا الله جهرة).
وقوله {ثم اتخذوا العِجل} ليس بمردود على قوله {فأخذتهم الصاعقة} ثم اتخذوا؛ هذا مردود على فعلهم الأوّل. وفيه وجه آخر: أن تجعل (ثم) خبرا مستأنفا. وقد تستأنِف العرب بثم والفعلُ الذى بعدها قد مضى قبل الفعل الأوّل؛ من ذلك أن تقول للرجل: قد أعطيتك ألفا ثم أعطيتك قبل ذلك مالا؛ فتكون (ثم) عطفا على خبر المخبر؛ كأنه قال: أخبرك أنى زرتك اليوم، ثم أخبِرك أنى زرتك أمس.

وأمّا قول الله عزَّ وجلّ {خلقكم مِن نفسٍ واحِدةٍ ثم جعل مِنها زوجها} فإن فيه هذا الوجه؛ لئلا يقول القائل: كيف قال: خلقكم ثم جعل منها زوجها والزوج مخلوق قبل الولد؟ فهذا الوجه المفسّر يدخل فيه هذا المعنى. وإن شئت جعلت (ثم) مردودة على الواحدة؛ أراد - والله أعلم - خلقكم من نفس وَحْدها ثم جعل منها زوجها، فيكون (ثم) بعد خلقه آدم وحده. فهذا ما فى ثم. وخِلْقةُ ثُمَّ أن يكون آخِر. وكذلك الفاء. فأمّا الواو فإنك إن شئت جعلت الآخِر هو الأوّل والأوّل الآخر. فإذا قلت: زرت عبدالله وزيدا، فإيَّهما شئت كان هو المبتدأ بالزيارة، وإذا قلت: زرت عبدالله ثم زيدا، أو زرت عبدالله فزيدا كان الأوّل قبل الآخِر، إلا أن تريد بالآخر أن يكون مردودا على خبر المخبر فتجعله أوّلا.

{ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

وقوله: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ...}
فقال: اثنتى عشرة والسِبط ذكر لأن بعده أمم، فذهب التأنيث إلى الأمم. ولو كان (اثنى عشر) لتذكير السبط كان جائزا.

{ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }

وقوله: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ...}
والعرب تقول: يُسْبِتون ويَسْبِتون وسَبَت وأَسبت. ومعنى اسبتوا: دخلوا فى السبت، ومعنى يَسبِتون: يفعلون سبتهم. ومثله فى الكلام: قد أجمعنا، أى مرَّت بنا جُمعة، وجَمَّعنا: شهدنا الجمعة. قال وقال لى بعض العرب: أترانا أشهرنا مذ لم نلتق؟ أراد: مرَّ بنا شهر.
{وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} منصوب بقوله: {لاَ تَأْتِيهِمْ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

وقوله: {قَالُواْ مَعْذِرَةً...}
إعذارا فعلنا ذلك. وأكثر كلام العرب أن ينصبوا المعذرة. وقد آثرت القراء رفعها. ونصبها جائز. فمن رفع قال: هى معذرة كما قال: {إِلا ساعة مِن نهارٍ بلاغ}.

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ...}
الجزيةَ إلى يوم القيامة.

{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

وقوله: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ...}

و{خَلْف أضاعوا الصلاة} أى قرن، بجزم اللام، والخلَف: ما استخلفته، تقول: أعطاك الله خَلَفا مما ذهب لك، وأنت خَلَف سَوْء، سمعته من العرب.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ }

وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ...}
ويقرأ (يُمْسِكون بالكتاب) ومعناه: يأخذون بما فيه.

{ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

وقوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ...}
رفع الجبل على عسكرهم فرسخا فى فرسخ. (نَتَقْنا): رفعنا. ويقال: امرأة مِنتاق إذا كانت كثيرة الولد.

{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }

وقوله: {وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ...}
ركن إليها وسكن. ولغة يقال: خلد إلى الأرض بغير ألف، وهى قليلة. ويقال للرجل إذا بقى سواد رأسه ولحيته: إنه مُخْلِد، وإذا لم تسقط أسنانه قيل: إنه لمخلد.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا...}
المرسى فى موضع رفع.
{ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ثقل على أهل الأرض والسماء أن يعلموه.
وقوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} كأنك حفىّ عنها مقدّم ومؤخر؛ ومعناه يسألونك عنها كأنك حفِىّ بها. ويقال فى التفسير كأنك حفِىّ أى كأنك عالم بها.

{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ...}
يقول: لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من السنة المخصبة، ولعرفت الغلاء فاستعددت له فى الرُخْص. هذا قول محمد صلى الله عليه وسلم.

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }

وقوله: {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً...}
الماء خفيف على المرأة إذا حملت.
{فَمَرَّتْ بِهِ} فاستمرّت به: قامت به وقعدت.

{فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ}: دنت ولادتها، أتاها إبليس فقال: ماذا فى بطنك؟ فقالت: لا أدرى. قال: فلعله بهيمة، فما تصنعين لى إن دعوت الله لكِ حتى يجعله إنسانا؟ قالت: قل، قال: تسمّينه باسمى. قالت: وما أسمك؟ قال: الحرث. فسَّمته عبد الحارث، ولم تعرفه أنه إبليس.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

وقوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ...}
إذ قالت: عبد الحارث، ولا ينبغى أن يكون عبدا إلا لله. ويقرأ: "شِرْكاً".

{ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ }

وقوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً...}
أراد الألهة بـ (ما)، ولم يقل: من، ثم جعل فعلهم كفعل الرجال. وقل: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ولا يملِكون.

{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ }

وقوله: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ...}
فجعل الفعل للرجال.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ }

وقوله: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى...}
يقول: إن يَدْعُ المشركون الآلهة إلى الهدى لا يتبعوهم.
وقوله: {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} ولم يقل: أم صممتُّم. وعلى هذا أكثر كلام العرب: أن يقولوا: سواء علىّ أقمت أم قعدت. ويجوز: سواء علىَّ أقمت أم أنت قاعد؛ قال الشاعر:
سواء إذا ما أصلح الله أمرهم * علينا أَدَثْرٌ ما لُهُم أم أَصارِم
وأنشدنى الكسائى:
سواء عليك النفْرُ أم بِتَّ ليلة * بِأهل القِباب مِن نُميرِ بنِ عامِرِ

وأنشده بعضهم (أو أنت بائت) وجاز فيها (أو) لقوله: النفر؛ لأنك تقول: سواء عليك الخير والشر، ويجوز مكان الواو (أو) لأن المعنى جزاء؛ كما تقول: اضربه قام أو قعد. فـ (أو) إلى معنى العموم كذهاب الواو.

{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }

وقوله: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ...}
يريد الآلهة: أنها صُوَر لا تبصر. ولم يقل: وتراها لأن لها أجساما وعيونا. والعرب تقول للرجل القريب من الشىء: هو ينظر، وهو لا يراه، والمنازل تتناظر إذا كان بعضها بحذاء بعض.

{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }

وقوله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ...}
وقرأ إبراهيم النخعى (طَيْف) وهو اللمم والذنب {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} أى منتهون إذا أبصروا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأعراف )
{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ }

وقوله {وَإِخْوَانُهُمْ...}
إخوان المشركين (يُمدُّونَهُم) فى الغىّ، فلا يتذكّرون ولا ينتهون، فذلك قوله: (ثم لا يُقْصِرُونَ) يعنى المشركين وشياطينَهم. والعرب تقول: قد قَصُر عن الشىء وأقصر عنه. فلو قرئت (يَقْصُرون) لكان صوابا.

{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَاذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا...}
يقول: هلا افتعلتها. وهو من كلام العرب؛ جائز أن يقال: اختار الشىء، وهذا اختياره.

{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

وقوله: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ...}
قال: كان الناس يتكلمون فى الصلاة المكتوبة، فيأتى الرجل القوم فيقول: كم صليتم؟ فيقول: كذا وكذا. فنهوا عن ذلك، فحرم الكلام فى الصلاة لما أنزلت هذه الآية.

المعاني الواردة في آيات

سورة ( الأنفال )
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ...}
نزلت فى أنفال أهل بدر. وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لمّا رأى قِلّة الناس وكراهيتهم للقتال قال: من قتل قتيلا فله كذا، ومن أسر أسيرا فله كذا. فلما فرغ من أهل بدر قام سعد بن مُعَاذ فقال: يا رسول الله إن نفَّلت هؤلاء ما سمَّيت لهم بقى كثير من المسلمين بغير شىء، فأنزل الله تبارك وتعالى: {قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ}: يصنع فيها ما يشاء، فسكتوا وفى انفسهم من ذلك كراهية.

{ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ }

وقوله: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ...}
على كره منهم، فامض لأمر الله فى الغنائم كما مضيت على مُخْرَجك وهم كارهون. ويقال فيها: يسألونك عن الأنفال كما جادلوك يوم بدر فقالوا: أخرجتنا للغنيمة ولم تعْلِمنا قتالا فنستعدَّ له. فذلك
قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}

{ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }

وقوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ...}
وقوله: {فاتَّقُوا الله وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أمر المسلمين أن يتآسوا فى الغنائم بعد ما أمضيت لهم، أمرا ليس بواجب.
وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ}، ثم قال {أَنَّهَا لَكُمْ} فنصب (إحدى الطائفتين) بـ "يعد" ثم كرّها على أن يعِدكم أن إحدى الطائفتين لكم كما قال: {فهل ينظرون إِلا الساعة} ثم قال:{أَن تَأْتِيهم بغتة} فأَن فى موضع نصب كما نصبت الساعة وقوله: {ولولا رِجال مؤمِنون ونِساء مؤمِنات} رفعهم بـ "لولا"، ثم قال: {أَن تطئوهم} فأن فى موضع رفع بـ "لولا".

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ }

وقوله: { بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ...}
ويقرأ (مُرْدَفين) فأما (مردِفين) فمتتابعين، و(مردَفين) فُعِل بهم.

{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ...}
هذه الهاء للإرداف: ما جعل الله الإرداف {إِلاَّ بُشْرَى}.

{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ }

وقوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ...}
بات المسلمون ليلة بدر على غير ماء، فأصبحوا مجنِبِين، فوسوس إليهم الشيطان فقال: تزعمون أنكم على دين الله وأنتم على غير الماء وعدوّكم على الماء تصلّون مجنِبِين، فأرسل الله عليهم السماء وشربوا واغتسلوا؛ وأذهب الله عنهم رِجْز الشيطان يعنى وسوسته، وكانوا فى رمل تغيب فيه الأقدام فشدّده المطر حتى اشتدّ عليه الرجال، فذلك قوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ }

وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ...}
كان المَلَك يأتى الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: سمعت هؤلاء القوم - يعنى أبا سفيان وأصحابه - يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشِفَنَّ، فيحدّث المسلمون بعضهم بعضا بذلك فتقوى أنفسهم. فذلك وحيه إلى الملائكة.
وقوله: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ} علَّمهم مواضع الضرب فقال: اضربوا الرءوس والأيدى والأرجل.
فذلك قوله: {وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.

{ ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ }

وقوله: {ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ...}
خاطب المشركين.

ثم قال: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} فنصب (أَنّ) من جهتين. أما إحداهما: وذلك بأن للكافرين عذاب النار، فألقيت الباء فنصبت. والنصب الآخر أن تضمر فعلا مثل قول الشاعر:
تسمع للأحشاء منه لغطا * ولليدين جُسْأَةً وبَدَدَا
أضمر (وترى لليدين) كذلك قال {ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ} واعلموا {َأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}. وإن شئت جعلت (أن) فى موضع رفع تريد: {ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ} وذلكم {أَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} ومثله فى كتاب الله تبارك وتعالى: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وعَلَى سَمْعِهِمْ وعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً} قرأها عاصم فيما حدّثنى المفضل، وزعم أن عاصما أخذها عليه مرتين بانصب. وكذلك قوله: {وحُورٌ عِينٌ}.

{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

وقوله: {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ...}
هو استثناء والمتحيِّز غير مَن. وإن شئت جعلته مِن صفة مَن، وهو على مذهب قولك: إلا أن يوليهم؛ يريد الكرّة، كما تقول فى الكلام: عبدالله يأتيك إلاّ ماشيا، ويأتيك إلا أن تمنعه الرحلة. ولا يكون (إلا) ها هنا على معنى قوله {إلى طعام غيرَ ناظرين إنَاهُ} لأن (غير) فى مذهب (لا) ليست فى مذهب (إلا).
المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى...}

دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بكفّ من تراب فحثاه فى وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه"، أى قبحت، فكان ذلك أيضا سبب هزمهم.

{ ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ }

وقوله: {ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ...}
و(موَهِّن). فإن شئت أضفت، وإن شئت نوّنت ونصبت، ومثله: (إنّ اللّهَ بَالِغُ أمْرِهِ، وبَالغٌ أمْرَهُ) و (كاشفاتُ ضُرِّه، وكاشِفَاتٌ ضُرَّه).

{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ...}
قال أبو جهل يومئذ: اللهم انصر أفضل الدينين وأحقَّه بالنصر، فقال الله تبارك وتعالى {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} يعنى النصر.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: كسر ألفها أحب إلىّ من فتحها؛ لأن فى قراءة عبدالله: (وإن الله لمع المؤمنين) فحسَّن هذا كسرها بالابتداء. ومن فتحها أراد {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ} يريد: لكثرتها ولأن الله مع المؤمنين، فيكون موضعها نصبا لأن الخفض يصلح فيها.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقوله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ...}
أمرهم ثم نهاهم، وفيه طَرََف من الجزاء وإن كان نهيا. ومثله قوله {يأيها النمل ادخلوا مساكِنكم لا يحطِمنَّكم} أمرهم ثم نهاهم، وفيه تأويل الجزاء.

{ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

وقوله: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ...}
نزلت فى المهاجرين خاصَّة.
وقوله: {فَآوَاكُمْ} يعنى إلى المدينة، {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} أى قوَّاكم.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ...}
إن شئت جعلتها جزما على النهى، وإن شئت جعلتها صرفا ونصبتها؛ قال:
لا تنه عن خُلُقٍ وتأتِىَ مِثلَه * عار عليك إِذا فعلت عظيم
وفى إحدىالقراءتين (ولا تخونوا أماناتِكم) فقد يكون أيضا هنا جزما ونصبا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

وقوله: {إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً...}
يقول: فتحا ونصرا. وكذلك قوله {يوم الفرقانِ يوم التقى الجمعانِ} يوم الفتح والنصر.

{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }

وقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ...}

اجتمع نفر من قريش فقالوا: ما ترون فى محمد (صى الله عليه وسلم) ويدخل إبليس عليهم فى صورة رجل من أهل نجد، فقال عمرو بن هشام: أرى أن تحبسوه فى بيت وتُطَيِّنوه عليه وتفتحوا له كُوّة وتضيِّقوا عليه حتى يموت. فأبى ذلك إبليس وقال: بئس الرأى رأيك، وقال أبو البَخْتَرِىّ بن هشام: أرى أن يحمل على بعير ثم يطرد به حتى يهلك أو يكفيكموه بعض العرب، فقال إبليس: بئس الرأى! أتخرجون عنكم رجلا قد أفسد عامّتكم فيقع إلى غيركم! فعلّه يغزوكم بهم. قال الفاسق أبو جهل: أرى أن نمشى إليه برجل من كل فخذ من قريش فنضربه بأسيافنا، فقال إبليس: الرأى ما رأى هذا الفتى، وأتى جبريل عليه السلام إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم بالخبر، فخرج من مكَّة هو وأبو بكر. فقوله (ليثبتوك): ليحبسوك فى البيت. (أو يخرِجوك) على البعير (أو يقتلوك).

{ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

وقوله: {قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ...}

فى (الحق) النصب والرفع؛ إن جعلت (هو) اسما رفعت الحق بهو. وإن جعلتها عمادا بمنزلة الصلة نصبت الحق. وكذلك فافعل فى أخوات كان، وأظنّ وأخواتها؛ كما قال الله تبارك وتعالى {ويرى الذِين أوتو العِلم الذى أنزِل إليك مِن ربك هو الحق} تنصب الحق لأن (رأيت) من أخوات ظننت. وكل موضع صلحت فيه يفعل أو فعل مكان الفعل المنصوب ففيه العماد ونصب الفعل. وفيه رفعه بهو على أن تجعلها اسما، ولا بدّ من الألف واللام إذا وجدت إليهما السبيل. فإذا قلت: وجدت عبدالله هو خيرا منك وشرا منك أو أفضل منك، ففيما أشبه هذا الفعل النصب والرفع. النصب على أن ينوى الألف واللام, وإن لم يكن إدخالهما. والرفع على أن تجعل (هو) اسما؛ فتقول: ظننت أخاك هو أصغُر منك وهو أصغرَ منك. وإذا جئت إلى الأسماء الموضوعة مثل عمرو، ومحمد، أو المضافة مثل أبيك، وأخيك رفعتها، فقلت: أظنّ زيدا هو أخوك، وأظنّ أخاك هو زيد، فرفعت؛ إذا لم تأت بعلامة المردود، وأتيت بهو التى هى علامة الاسم، وعلامة المردود أن يرجع كل فعل لم تكن فيه ألف ولام بألف ولام ويرجع على الاسم فيكون (هو) عمادا للاسم و(الألف واللام) عماد للفعل. فلمَّا لم يُقدَر على الألف واللام ولم يصلح أن تُنويا فى زيد لأنه فلان، ولا فى الأخ لأنه مضاف، آثروا الرفع؛ وصلح فى (أفضل منك) لأنك تلقى (من) فتقول: رأيتك أنت الأفضل، ولا يصلح ذلك فى (زيد) ولا فى (الأخ) أن تنوى فيهما ألفا ولاما. وكان الكسائىّ يجيز ذلك فيقول: رأيت أخاك هو زيدا، ورأيت زيدا هو أخاك. وهو جائز كما جاز فى (أفضل) للنية نية الألف واللام. وكذلك جاز فى زيد، وأخيك. وإذا أمكنتك الألف واللام ثم لم تأت بهما فارفع؛ فتقول: رأيت زيدا هو قائم ورأيت عمرا هو جالس. وقال الشاعر:
إجِدَّك لن تزال نجِىَّ هَمّ * تبيت الليل أنت له ضجيع
ويجوز النصب فى (ليت) بالعماد، والرفع لمن قال: ليتك قائما. أنشدنى الكسائىّ:

ليت الشباب هو الرجيع على الفتى * والشيب كان هو البدئُ الأوّل
ونصب فى (ليت) على العماد ورفع فى كان على الاسم. والمعرفة والنكرة فى هذا سواء.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ...}
دخلت (أَنَّ) فى أوّله وآخره لأنه جزاء بمنزلة قوله {كُتِبَ عليه أَنه مَنْ تَولاَّهُ فأَنَّهُ يُضِلُّه} وبمنزلة قوله {أَلم يَعْلَمُوا أَنه مَنْ يحادِدِ اللَّه ورسولَه فأَنَّ له نارَ جهنَّم} ويجوز فى (أنّ) الآخِرة أن تكسرَ ألفها لأن سقوطها يجوز؛ ألا ترى أنك لو قلت: (اعلموا أنّ ما غنمتم من شىء فللّه خمسه) تصلح، فإذا صلح سقوطها كسرها.
وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى}: قرابةِ رسول الله صلّى الله عليه وسلم {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}: يتامى الناس ومساكينهِم، ليس فيها يتامى بنى هاشم ولا مساكينُهم.

{ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا...}
والعدوة: شاطئ الوادى (الدينا) مما يلى المدينة، و(القصوى) مما يلى مكّة.

وقوله {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} يعنى أبا سفيان والعِيرَ، كانوا على شاطئ البحر. وقوله {أَسْفَلَ مِنكُمْ} نصبت؛ يريد: مكانا أسفلَ منكم. ولو وصفهم بالتسفل وأراد: والركب أشد تسفّلا لجاز ورفع.
وقوله: {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} كتابتها على الأدغام بياء واحدة, وهى أكثر قراءة القراء. وقد قرأ بعضهم (حَيىَِ عن بيّنة) بإظهارها. وإنما أدغموا الياء مع الياء وكان ينبغى لهم ألا يفعلوا؛ لأن الياء الآخِرة لزمها النصب فى فَعَلَ، فأدغموا لمّا التقى حرفان متحركان من جنس واحد. ويجوز الإدغام فى الاثنين للحركة اللازمة للياء الآخرة، فتقول للرجلين: قد حَيّا، وحَيِيا. وينبغى للجمع ألا يدغم لأنّ ياءه يصيبها الرفع وما قبلها مكسور، فينبغى لها أن تسكن فتسقط بواو الجمع. وربما أظهرت العرب الإدغام فى الجمع إرادة تأليف الأفعال وأنْ تكون كلها مشدّدة. فقالوا فى حَيِيت حَيُّوا، وفى عيِيت عَيُّوا؛ أنشدنى بعضهم:
يَحِدن بِنا عن كلّ حَىٍّ كأننا * أخاريس عَيُّوا بالسلام وبالنَّسْبِ
يريد النّسَبَ. وقال الآخر:
مِن الذين إذا قلنا: حَدِيثَكم * عَيُّوا، وإن نحن حَدَّثناهُمُ شَغِبَوا
وقد اجتمعت العرب على إدغام التحيّة والتحيّات بحركة الياء الأخيرة فيها؛ كما استحبّوا إدغام عىَّ وحَىَّ بالحركة اللازمة فيها. وقد يستقيم أن تدغم الياء والياء فى يَحْيا ويَعْيا؛ وهو أقل من الإدغام فى حىّ؛ لأن يحيا يسكن ياؤها إذا كانت فى موضع رفع، فالحركة فيها ليست لازمة. وجواز ذلك أنك إذا نصبتها كقول الله تبارك وتعالى {أَليس ذلِك بِقادِرٍ على أَن يُحْيِىَ المَوْتَى} استقام إدغامها ها هنا؛ ثم تؤلِّف الكلام، فيكون فى رفعه وجزمه بالإدغام؛ فتقول (هو يُحِىُّ ويُمِيت)؛ أنشدنى بعضهم:
وكأنها بين النساءِ سبِيكةٌ * تمشى بِسُدَّةِ بَيْتها فَتُعِىُّ
وكذلك يَحَيَّان ويَحَيُّون.

{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنَّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ...}
هذا إبليس تمثل فى صورة رجل من بنى كِنانة يقال له سُرَاقة بن جُعْشُم. قال الفرّاء: وقوله {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} من قومى بنى كنانة ألاَّ يعرضوا لكم، وأن يكونوا معكم على محمد (صلّى الله عليه وسلّم) فلمَّا عاين الملائكةَ عرفهم فـ "نَكَصَ على عَقِبَيْه"، فقال له الحرث بن هشام: يا سراقة أفرارا من غير قتال! فقال (إنى أَرَى ما لا تَرَوْن).

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }

وقوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ...}
يريد: ويقولون، مضمرة؛ كما قال: {ولَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهم عِنْدَ رَبِّهِم رَبَّنَا} يريد يقولون: (رَبَّنا). وفى قراءة عبد الله {وَإِذْ يرفع إِبراهِيمُ القواعِدَ من البيتِ وإِسماعيلُ} يقولان {رَبَّنا}.

{ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ...}

(أَنّ) فى موضع نصب إذا جعلت (ذلك) نصبا وأردت: فعلنا {ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} و بـ {أَنَّ اللَّهَ}. وإن شئت جعلت (ذلك) فى موضع رفع، فتجعل (أنْ) فى موضع رفع؛ كما تقول: هذا ذاك.

{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ...}
يريد: كذّب هؤلاء كما كذّب آلُ فرعون، فنزل بهم كما نزل بآل فرعون.

الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }

وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ...}
يريد: إن أسَرتهم يا محمد فنكّل بهم مَن خلفهم ممن تخاف نقضه للعهد {فَشرِّدْ بِهِمْ}. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فلا ينقضون العهد. وربما قرئت (مِن خَلْفِهِم) بكسر (مِن)، وليس لها معنى أستحبّه مع التفسير.

{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ }

وقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً...}

يقول: نقض عهد {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} بالنقض {عَلَى سَوَآءٍ} يقول: افعل كما يفعلون سواءً. ويقال فى قوله: {عَلَى سَوَآءٍ}: جهرا غير سرّ. وقوله: {تَخافَنّ} فى موضع جزم. ولا تكاد العرب تدخل النون الشديدة ولا الخفيفة فى الجزاء حتى يَصِلوها بـ (ما)، فإذا وصلوها آثروا التنوين. وذلك أنهم وجدوا لـ (إمّا) وهى جزاء شبيها بـ (إمّا) من التخيير، فأحدثوا النون ليعلم بها تفرقةُ بينهما؛ ثم جعلوا أكثر جوابها بالفاء؛ كذلك جاء التنزيل؛ قال: {فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحربِ فشَرِّد}، {فإمّا نُرِيَنَّك بعض الذِى نَعِدهم} ثم قال: {فإلينا يرجعون} فاختيرت الفاء لأنهم إذا نوَّنوا فى (إمّا) جعلوها صَدْرا للكلام ولا يكادون يؤخّرونها. ليس من كلامهم: اضربه إمّا يقومَنَّ؛ إنما كلامهم أن يقدّموها، فلمّا لزمت التقديم صارت كالخارج من الشرط، فاسحبوا الفاء فيها وآثروها، كما استحبّوها فى قولهم: أمّا أخوكم فقاعد، حين ضارعتها.

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ }

وقوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ...}
بالتاء لا اختلاف فيها. وقد قرأها حمزة بالياء. ونُرى أنه اعتبرها بقراءة عبدالله. وهى فى قراءة عبدالله (ولا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنهم سبقوا إنهم لا يُعْجِزون) فإذا لم تكن فيها (أنّهم) لم يستقم للظنّ ألا يقع على شىء. ولو أراد: ولا يحسب الذين كفروا أنهم لا يعجزون لاستقام، ويجعل لا (صِلة) كقوله: {وحَرامٌ على قَرْيةٍ أَهلكناها أَنّهم لا يَرْجِعون} يريد: أنهم يرجعون. ولو كان مع (سبقوا) (أنْ) استقام ذلك، فتقول (ولا يحسب الذين كفروا أن سبقوا).

فإن قال قائل: أليس من كلام العرب عسيت أذهب، وأريد أقوم معك، و(أنْ) فيهما مضمرة، فكيف لا يجوز أن تقول: أظن أقوم، وأظن قمت؟ قلت: لو فعِل ذلك فى ظننت إذا كان الفعل للمذكور أجزته وإن كان اسما؛ مثل قولهم: عسى الغُوَيْرُ أَبْؤُساً، والخلقْة لأنْ، فإذا قلت ذلك قلته فى أظن فقلت: أظن أقوم، وأظن قمت؛ لأن الفعل لك، ولا يجوز أظن يقوم زيد، ولا عسيت يقوم زيد؛ ولا أردت يقوم زيد؛ وجاز والفعل له لأنك إذا حوّلت يفعل إلى فاعِل اتصلت به وهى منصوبة بصاحبها، فيقول: أريد قائما؛ والقيامَ لك. ولا تقول أريد قائما زيد، ومن قال هذا القول قال مثله فى ظننت. وقد أنشدنى بعضهم لذى الرُّمَّة:
أَظَنَّ ابْنُ طُرْثوثِ عُتَيْبةُ ذاهبا * بعادِيَّتِى تَكْذابُه وَجعائِلُهْ
فهذا مذهب لقراءة حمزة؛ يجعل (سبقوا) فى موضع نصب: لا يحسبن الذين كفروا سابقين. وما أحبها لشذوذها.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }

وقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ...}
يريد إناث الخيل. حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنا ابن أبى يحيى رفعه إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القوة: الرمى".

وقوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ}. ولو جعلتها نصبا من قوله: وأَعِدّوا لهم ولآخرين من دونهم كان صوابا؛ كقوله: {والظالمين أَعَدَّ لهم عذابا أليما}. وقرأ أبو عبدالرحمن السُلَمِىّ: (ترهبون به عَدُوّاً لِلّهِ وعدوّكم)؛ كما قرأ بعضهم فى الصفّ (كونوا أَنْصاراً لِلّهِ).

{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

وقوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا...}
إن شئت جعلت (لها) كناية عن السِلم لأنها مؤنثة. وإن شئت جعلته للفَعْلة؛ كما قال {إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ولم يذكر قبله إلا فعلا، فالهاء للفعلة.

{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ...}
بين قلوب الأنصار من الأوس والخزرج؛ كانت بينهم حرب، فلمّا دخل المدينة رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصح الله به وبالإسلام ذات بينهم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ...}
جاء التفسير: يكفيك الله ويكفى من اتبعك؛ فموضع الكاف فى (حسبك) خفض. و(مَنْ) فى موضع نصب على التفسير؛ كما قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقّتِ العصا * فحسبُك والضَّحاكَ سيفٌ مُهَنّد

وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا: حسبك وأخاك، حتى يقولوا: حسبك وحسب أخيك، ولكنا أجرناه لأن فى (حسبك) معنى واقعٍ من الفعل، رددناه على تأويل الكاف لا على لفظها؛ كقوله {إنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} فردّ الأهل على تأويل الكاف. وإن شئت جعلت (مَنْ) فى موضع رفع، وهو أحبّ الوجهين إلىّ؛ لأن التلاوة تدلّ على معنى الرفع؛ ألا ترى أنه قال:
{إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ}.

{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }

وقوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ...}
فكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يُغْزِى أصحابه على أنّ العشرة للمائة، والواحد للعشرة، فكانوا كذلك، ثم شقّ عليهم أن يُقْرِن الواحد للعشرة فنزل:
{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ}.

{ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }

وقوله: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ...}
فبين الله قوَّتهم أوّلا وآخرا. وقد قال هذا القول الكسائىُّ ورفع (من).

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )

{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى...}
معناه: ما كان ينبغى له يوم بدر أن يقبل فداء الأسرى {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}: حتى يغلِب على كثير مَن فى الأرض. ثم نزل:
قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ}.

{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

وقوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ...}
فى فداء الأسرى والغنائم. وقد قرئت (أَُسارى)، وكلٌّ صواب. وقوله: (أَن يَّكُونَ) بالتذكير والتأنيث؛ كقوله (يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتهُم) و(تَشْهَدُ).

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَائِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ...}
ثم قال: {أُوْلَائِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فى المواريث، كانوا يتوارثون دون قراباتهم ممن لم يهاجر.

وذلك قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم} يريد: من مواريثهم. وكسر الواو فى الولاية أعجب إلىَّ من فتحها؛ لأنها إنما تفتح أكثر من ذلك إذا كانت فىمعنى النُصْرة، وكان الكسائىّ يفتحها ويذهب بها إلى النصرة، ولا أراه علم التفسير. ويختارون فى ولِيته وِلاية الكسر، وقد سمعناهما بالفتح والكسر فى معناهما جميعا، وقال الشاعر:
دعِيهمْ فَهُمْ أَلْبٌ عَلَىَّ وِلايةٌ * وحَفْرُهُمُ أَنْ يَعْلَموا ذاكَ دائب
ثم نزلت بعد:
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الأنفال )
{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }

وقوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ...}
إلا تتوارثوا علىالقرابات تكن فتنة. وذكر أنه فى النصر: إلا تتناصروا تكن فتنة.

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ...}
فتوارثوا، ونسخت هذه الآخِرة الآية التى قبلها. وذلك أَنَّ
قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.

المعاني الواردة في آيات

سورة ( التوبة )
{ بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ }

وقوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...}
مرفوعة، يضمر لها (هذه) ومثله قوله: {سُورةٌ أنْزَلْنَاهَا}. وهكذا كل ما عاينته من اسم معرفة أو نكرة جاز إضمار (هذا) و (هذه) فتقول إذا نظرت إلى رجل: جميلٌ والله، تريد: هذا جميل.
والمعنى فى قوله (براءة) أن العرب كانوا قد أخذوا ينقُضُون عهودا كانت بينهم وبين النبىّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه آيات من أوّل براءة، أُمر فيها بنَبْذ عهودهم إليهم، وأن يجعل الأجَلَ بينه وبينهم أربعةَ أشهر. فمن كانت مدّته أكثر من أربعة أشهر حطّه إلى أربعة. ومن كانت مدّته أقلّ من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة. وبعث فى ذلك أبا بكر وعليا رحمهما الله، فقرأها علىٌّ علىالناس.

{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ }

وقوله: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ...}
يقول: تفرقوا آمنين أربعة أشهر مدّتكم.

{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

وقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...}
تابع لقوله (براءة). وجعل لمن لم يكن له عهد خمسين يوما أجلا. وكل ذلك من يوم النحر.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }

وقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم...}

استثناء فى موضع نصب. وهم قوم من بنى كنانة كان قد بقى من أجلهم تسعة أشهر.
قال الله تبارك وتعالى: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}؛ يقول: لا تحطّوهم إلى الأربعة.

{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ...}
عن الذين أجلهم خمسون ليلة. {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ومعنى الأشهر الحرم: المحرّم وحده. وجاز أن يقول: الأشهر الحُرُم للمحرم وحده لأنه متّصل بذى الحجة وذى القعدة وهما حرام؛ كأنه قال: فإذا انسلخت الثلاثة.
وقوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ...}
فى الأشهر الحرم وغيرها فى الحلّ والحرم.
وقوله: {وَاحْصُرُوهُمْ} وحَصْرهم أَن يُمنعوا من البيت الحرام.
وقوله: {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} يقول: على طُرُقهم إلى البيت؛ فقام رجل من الناس حين قرئت (براءة) فقال: يابن أبى طالب، فمن أراد منا أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض الأمر بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟ قال علىّ: بلى, لأن الله تبارك وتعالى قد أنزل:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}.

{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ...}
يقول: ردّه إلى موضعه ومأمنه.
وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} فى موضع جزم وإن فُرِق بين الجازم والمجزوم بـ (أحد). وذلك سهل فى (إِنْ) خاصّة دون حروف الجزاء؛ لأنها شرط وليست باسم، ولها عودة إلى الفتح فتلقى الاسم والفعل وتدور فى الكلام فلا تعمل، فلم يحفِلوا أن يفرقوا بينها وبين المجزوم بالمرفوع والمنصوب. فأما المنصوب فمثل قولك: إنّ أخاك ضربتَ ظلمتَ. والمرفوع مثل قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَك لَيْسَ له وَلَدٌ} ولو حوّلت (هلك) إلى (إنْ يهلك) لجزمته، وقال الشاعر:
فان أَنْتَ تفْعَلْ فللفاعليـ * ن أَنْتَ المجيزين تلك الغِمارا
ومن فرق بين الجزاء وما جزم بمرفوع أو منصوب لم يفرق بين جواب الجزاء وبين ما ينصب بتقدمة المنصوب أو المرفوع؛ تقول: إنْ عبدُالله يَقُمْ يَقُمْ أبوه، ولا يجوز أبوه يقم، ولا أن تجعل مكان الأب منصوبا بجواب الجزاء. فخطأ أن تقول: إن تأتنى زيدا تَضْرِبْ. وكان الكسائىّ يجيز تقدمة النصب فى جواب الجزاء، ولا يجوّز تقدمة المرفوع، ويحتجّ بأن الفعل إذا كان للأول عاد فى الفعل راجعُ ذكرِ الأول، فلم يستقم إلغاء الأوّل. وأجازه فى النصب؛ لأن المنصوب لم يعد ذكره فيما نصبه، فقال: كأن المنصوب لم يكن فى الكلام. وليس ذلك كما قال؛ لأن الجزاء له جواب بالفاء. فإن لم يستقبل بالفاء استقبل بجزم مثله ولم يُلْقَ باسم، إلا أَنْ يضمر فى ذلك الاسم الفاء. فإذا أضمرت الفاء ارتفع الجواب فى منصوب الأسماء ومرفوعها لاغير. واحتجّ بقول الشاعر:
وللخيلِ أَيّامٌ فَمَنْ يَصْطَبِرْ لها * ويَعْرِفْ لهَا أيامَها الْخَيْرَ تُعْقِب

فجعل (الخير) منصوبا بـ (تعقب). (والخير) فى هذا الموضع نعت للأيام؛ كأنه قال: ويعرف لها أيامها الصالحة تعقب. ولو أراد ان يجعل (الخير) منصوبا بـ (تعقب) لرفع (تُعْقب) لأنه يريد: فالخير تعقبه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }

وقوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ...}
على التعجب؛ كما تقول: كيف يُستبقىَ مثلك؛ أى لا ينبغى أن يستبقى. وهو فى قراءة عبدالله (كيف يكون للمشركين عهد عند الله ولا ذمة) فجاز دخول (لا) مع الواو لأن معنى أوّل الكلمة جحد، وإذا استفهمت بشىء من حروف الاستفهام فلك أن تَدَعه استفهاما، ولك أن تنوى به الجحد. من ذلك قولك: هل أنت إلاّ كواحد منّا؟! ومعناه: ما أنت إلا واحد منا، وكذلك تقول: هل أنت بذاهب؟ فتدخل الباء كما تقول: ما أنت بذاهب. وقال الشاعر:
يقولُ إذا اقْلَوْلَى عليها وأَقْرَدَتْ * أَلاَ هَلْ أَخُو عيشٍ لَذِيذٍ بدائم
وقال الشاعر:
فاذهَبْ فَأىّ فتى فى الناس أَحرَزه * من يومه ظُلَمٌ دُعْجٌ ولا جَبَل
فقال: ولا جبل، للجحد وأوّله استفهام ونِيَّته الجحد؛ معناه ليس يحرزه من يومه شىء. وزعم الكسائى أنه سمع العرب تقول: أين كنت لتنجو منى، فهذه اللام إنما تدخل لـ (ما) التى يراد بها الجحد؛ كقوله: {ما كانُوا لِيؤمِنوا}، {وما كنا لِنَهْتَدىَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا الله}.

{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }

وقوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ...}

اكتفى بـ (كيف) ولا فعل معها؛ لأن المعنى فيها قد تقدّم فى قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} وإذا أعيد الحرف وقد مضى معناه استجازوا حذف الفعل؛ كما قال الشاعر:
وخبرتمانى أَنما الموتُ فى القُرَى * فكيف وهذى هَضْبَةٌ وكثيب
وقال الحطيئة:
فكيف ولم أَعْلَمْهُمُ خَذَلوكُمُ * فى مُعْظَِمٍ ولا أَدِيمَكُمُ قدُّوا
وقال آخر:
* فهل إلى عَيْش يا نصابُ وهل *
فأفرد الثانية لأنه يريد بها مثل معنى الأوّل.

{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ...}
ثم قال: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} معناه: فهم إخوانكم. يرتفع مثل هذا من الكلام بأن يضمر له اسمه مكنيّا عنه. ومثله {فإن لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُم فإخْوَانُكُم} أى فهم إخوانكم. وفى قراءة أُبَىّ (إِن تُعَذِّبْهُم فعِبَادُك) أى فهم عبادك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ }

وقوله: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...}
ذلك أن خُزَاعة كانوا حلفاء للنبىّ صلى الله عليه وسلم، وكانت الدِيل بن بكر حلفاء لبنى عبد شمس، فاقتتلت الدِيل وخزاعة، فأعانت قريش الديل على خزاعة، فذلك قوله: {بَدَءُوكُم} أى قاتلوا حلفاءكم.

{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }

وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ...}

ثم جزم ثلاثة أفاعيل بعده يجوز فى كلهن النصب والجزم والرفع.
ورفع قوله: {ويَتُوبُ اللهُ} لأن معناه ليس من شروط الجزاء؛ إنما هو استئناف؛ كقولك للرجل: ايتنى أُعطك، وأُحِبُّك بعد، وأُكْرِمُكَ، استئناف ليس بشرط للجزاء. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {فإن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبك} تَمَّ الجزاء ها هنا، ثُمّ استأنف فقال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الباطلَ ويُحِقُّ الحَقَّ بكلماته}.

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ...}
من الاستفهام الذى يتوسّط فى الكلام فيجعل بـ (أم) ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ الذى لم يتّصل بكلام. ولو أريد به الابتداء لكان إمّا بالألف وإما بـ (هل) كقوله: {هل أَتَى عَلى الإنْسانِ حِينٌ من الدهر} وأشباهه.
وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} والوليجة: البطانة من المشركين يتّخذونهم فيُفْشون إليهم أسرارهم، ويعلمونهم أمورهم. فنهوا عن ذلك.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ }

وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله...}

وهو يعنى المسجد الحرام وحده. وقرأها مجاهد وعطاء بن أبى رَبَاح: (مَسْجِد الله). وربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع، وبالجمع إلى الواحد؛ ألا ترى الرجل على البِرذَون فتقول: قد أخذتَ فى ركوب البراذين، وترى الرجل كثير الدراهم فتقول: إنه لكثير الدرهم. فأدّى الجماع عن الواحد، والواحد عن الجمع. وكذلك قول العرب: عليه أخلاقُ نعلين وأخلاق ثوب؛ وأنشدنى أبو الجرَّاح العُقَيلىّ:
جاء الشتاء وقمِيصِى أخلاقْ * شراذمٌ يضحكُ منه التوّاقْ

{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ...}
ولم يقل: سُقَاة الحاجّ وعامرى... كمن آمن، فهذا مثل قوله: {ولكِنّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله} يكون المصدر يكفى من الأسماء، والأسماءُ من المصدر إذا كان المعنى مستدَلاّ عليه بهما؛ أنشدنى الكسائىّ:
لعمرُك ما الفِتيان ان تنبُت اللِحَى * ولكنما الفِتيانُ كلُّ فتى ندِى
فجعل خبر الفتيان (أن). وهو كما تقول: إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زُهَير.
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }

وقوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ...}

ثم قال: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ} فموضع الذين رفع بقوله: "أعظم درجة". ولو لم يكن فيه (أعظم) جاز أن يكون مردودا بالخفض على قوله (كمن آمن). والعرب تردّ الاسم إذا كان معرفة على (من) يريدون التكرير. ولا يكون نعتا لأن (من) قد تكون معرفة، ونكرة، ومجهولة، ولا تكون نعتا؛ كما أن (الذى) قد يكون نعتا للأسماء؛ فتقول: مررت بأخيك الذى قام، ولا تقول: مررت بأخيك مَن قام. فلمَّا لم تكن نعتا لغيرها من المعرفة لم تكن المعرفة نعتا لها؛ كقول الشاعر:
لسنا كمن جعلَتْ إيادٍ دارها * تكرِيتَ تنظُر حَبَّها أَن تَحْصُدا
إنما أراد تكرير الكاف على إياد؛ كأنه قال: لسنا كإياد.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ }

وقوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ...}
نصبت المواطن لأن كلّ جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان فهو لا يُجْرَى؛ مثل صوامع، ومساجد، وقناديل، وتماثيل، ومحاريب. وهذه الياء بعد الألف لا يعتدّ بها؛ لأنها قد تدخل فيما ليست هى منه، وتخرج ممّا هى منه، فلم يعتدّوا بها؛ إذ لم تثبت كما ثبت غيرها. وإنما منعهم من إجرائه أنه مثال لم يأت عليه شىء من الأسماء المفردة، وأنه غاية للجِماع؛ إذا انتهى الجماع إليه فينبغى له ألاّ يجمع. فذلك أيضا منعه من الانصراف؛ ألا ترى أنك لا تقول: دراهمات، ولا دنانيرات، ولا مساجدات. وربّما اضطُرَّ إليه الشاعر فجمعه. وليس يوجد فى الكلام ما يجوز فى الشعر. قال الشاعر:
* فهنّ يجمعن حدائِداتِها *
فهذا من المرفوض إلا فى الشعر.
ونعت (المواطن) إذا لم يكن معتلاّ جرى. فلذلك قال: (كثيرةٍ).

وقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وحُنَين وادٍ بين مكة والطائف. وجرى (حنين) لأنه اسم لمذكَّر. وإذا سمَّيت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكّر لا علّة فيه أجريته. من ذلك حنين، وبَدْر، وأُحُد، وحِراء، وثَبِير، ودابِق، وواسط. وإنما سمّى واسطا بالقصر الذى بناه الحجّاج بين الكوفة والبصرة. ولو أراد البلدة أو اسما مؤنّثا لقال: واسطة. وربما جعلت العرب واسط وحُنين وبدر، اسما لبلدته التى هو بها فلا يجرونه؛ وأنشدنى بعضهم:
نصروا نبِيَّهمُ وشَدّوا أَزْرَه * بحُنَينَ يوم تواكُلِ الأَبطالِ
وقال الآخر:
ألسنا أكرم الثَّقَليْن رَجْلا * وأعظمَه ببطن حِراءَ نارا
فجعل حراء اسما للبلدة التى هو بها، فكان مذكرا يسمى به مؤنّث فلم يُجْرَ. وقال آخر:
لقد ضاع قوم قلّدوك أمورَهم * بدابِقَ إذ قيل العدوّ قريب
رأوا جسدا ضخما فقالوا مقاتل * ولم يعلموا أن الفؤاد نخيب
ولو أردت ببدر البلدة لجاز أن تقول مررت ببدْرَ يا هذا.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ...}
لا تكاد العرب تقول: نِجْس إلا وقبلها رِجْس. فإذا أفردوها قالوا: نَجَس لا غير؛ ولا يجمع ولا يؤنث. وهو مثل دَنَف. ولو أُنِّث هو ومثله كان صوابا؛ كما قالوا: هى ضيفته وضيفه، وهى أخته سَوْغه وسَوْغته، وزوجه وزوجته.
وقوله: {إِذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}. قال يومئذ رجل من المسلمين: والله لا نُغلب، وكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون يؤمئذ عشرة آلاف، وقال بعض الناس: اثنى عشر الفا, فهزِموا هزيمة شديدة.

وهو قوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} والباء هاهنا بمنزلة فى؛ كما تقول: ضاقت عليكم الأرض فى رُحْبها وبرُحْبها. حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرَّاء، قال: وحدّثنى المفضل عن أبى إسحاق قال قلت للبراء بن عازب: يا أبا عُمَارة أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ قال: نعم والله حتى ما بقى معه منا إلا رجلان: أبو سفيان بن الحرث آخذا بلجامه، والعباس بن عبد المطلب عند ركابه آخذا بثَفْره، قال فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم كما قال لهم يوم بدر: شاهت الوجوه،
أنا النبىُّ لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
قال: فمنحنا الله أكتافهم.
وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً...}
يعنى فقرا. وذلك لمّا نزلت: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا} خاف أهل مكة أن تنقطع عنهم المِيرة والتجارة. فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}. فذكروا أن تَبَالة وجُرَش أخصبتا، فأغناهم الله بهما وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }

وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ...}

قرأها الثقات بالتنوين وبطرح التنوين. والوجه أن ينوَّن لأن الكلام ناقص (وابن) فى موضع خبر لعزير. فوجه العمل فى ذلك أن تنوِّن ما رأيت الكلام محتاجا إلى ابن. فإن اكتفى دون بن، فوجه الكلام ألا ينون. وذلك مع ظهور اسم أبى الرجل أو كنيته. فإذا جاوزت ذلك فأضفت (ابن) إلى مكنّى عنه؛ مثل ابنك، وابنه، أو قلت: ابن الرجل، أو ابن الصالح، أدخلت النون فى التامّ منه والناقص. وذلك أن حذف النون إنما كان فى الموضع الذى يُجرى فى الكلام كثيرا، فيستخفّ طرحها فى الموضع الذى يستعمل. وقد ترى الرجل يذكر بالنسب إلى أبيه كثيرا فيقال: مِن فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، فلا يجرى كثيرا بغير ذلك. وربما حذفت النون وإن لم يتمم الكلام لسكون الباء من ابن، ويستثقل النون إذ كانت ساكنة لقيت ساكنا، فحذفت استثقالا لتحريكها. قال: من ذلك قراءة القرّاء:(عُزَيْرُ ابن الله). وأنشدنى بعضهم:
لتجِدَنّى بالأمير بَرّا * وبالقناة مِدْعَسا مِكَرَّا
* إذا غُطَيْفُ السُلَمِىُّ فَرّا *
وقد سمعت كثيرا من القراء الفصحاء يقرءون: {قُلْ هُوَ اللّهُ أَحدُ اللّهُ الصَّمَدُ}. فيحذفون النون من (أحد). وقال آخر:
كيف نومى على الفراش ولمَّا * تشمِل الشامَ غارةٌ شعواء
تُذْهل الشيخَ عن بنيه وتُبْدِى * عن خِدَامِ العَقِيلةُ العذراء
أراد: عن خدامٍ، فحذف النون للساكن إذا استقبلتها. وربما أدخلوا النون فى التمام مع ذكر الأب؛ أنشدنى بعضهم:
جارية من قيس ابن ثعلبة * كأنها حلْيَةُ سيف مُذْهَبه
وقال آخر:
وإلا يكن مال يثاب فإنه * سيأتى ثنائى زيدا ابنَ مُهَلهِل

وكان سبب قول اليهود: عُزَير ابن الله أن بُخْتَ نَصَّرَ قَتَل كلّ من كان يقرأ التوراة، فأُتِىَ بعُزَير فاستصغره فتركه. فلمّا أحياه الله أتته اليهود، فأملى عليهم التوراة عن ظهر لسانه. ثم إن رجلا من اليهود قال: إن أبى ذكر أن التوراة مدفونة فى بستان له، فاستخرِجت وقوبل بها ما أملَى عزير فلم يغادر منها حرفا. فقالت اليهود: ما جمع الله التوراة فى صدر عُزَير وهو غلام إلا وهو ابنه - تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا -.
وقوله: {وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}. وذُكِر أن رجلا دخل فى النصارى وكان خبيثا منكَرا فلبَّس عليهم، وقال: هو هو. وقال: هو ابنه، وقال: هو ثالث ثلاثة. فقال الله تبارك وتعالى فى قولهم ثالث ثلاثة: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فى قولهم: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الهاً وَاحِداً لاَّ اله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

وقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ...}
قال: لم يعبدوهم، ولكن أطاعوهم فكانت كالربوبية.

{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }

وقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ...}
دخلت (إِلاّ) لأن فى أَبيت طَرَفا من الجحد؛ ألا ترى أن (أبيت) كقولك: لم أفعل، ولا أفعل، فكأنه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد. ولولا الجحد إذا ظهر أو أتى الفعل محتمِلا لضميره لم تُجِزْ دخول إلاّ؛ كما أنك لا تقول: ضربت إلا أخاك، ولا ذهب إلا أخوك. وكذلك قال الشاعر:

وهل لِىَ أُمّ غيرها إِن تركتها * أَبى اللّهُ إِلا أن أكون لها ابنما
وقل الآخر:
إيَاداً وأنمارها الغالبين * إلاَّ صدودا وإلا ازوِرارا
أراد: غلبوا إلا صدودا وإلا ازورارا، وقال الآخر:
واعتلّ إلا كل فرع معرق * مثلك لا يعرف بالتلهوق
فأدخل (إلا) لأن الاعتلال فى المنع كالإباء. ولو أراد عِلّة صحيحة لم تدخل إلا؛ لأنها ليس فيها معنى جحد. والعرب تقول: أعوذ بالله إلا منك ومن مثلك؛ لأن الاستعاذة كقولك: اللهم لا تفعل ذا بى.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...}
ولم يقل: ينفقونهما. فإن شئت وجَّهت الذهب والفضة إلى الكنوز فكان توحيدها من ذلك. وإن شئت اكتفيت بذكر أحدهما من صاحبه؛ كما قال: {وإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} فجعله للتجارة، وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِه بَرِيئاً} فجعله - والله أعلم - للإثم، وقال الشاعر فى مثل ذلك:
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ * دك راضٍ والرأى مختلِف
ولم يقل: راضون، وقال الآخر:
إنى ضمنت لمن أتانى ما جنى * وأبى وكان وكنت غير غدور

ولم يقل: غَدورين، وذلك لاتفاق المعنى يُكتفى بذكر الواحد. وقوله: {والله ورَسُولُهُ أحَقُ أن يُرْضُوهُ} إن شئت جعلته من ذلك: مما اكتفى ببعضه من بعض، وإن شئت جعلت الله تبارك وتعالى فى هذا الموضع ذُكِر لتعظيمه، والمعنى للرسول صلى الله عيه وسلم؛ كما قال: {وإِذْ تَقُولُ لِلّذِى أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} ألا ترى أنك قد تقول لعبدك: قد أعتقك الله وأعتقتك، فبدأتَ بالله تبارك وتعالى تفويضا إليه وتعظيما له، وإنما يقصد قَصْد نفسه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }

وقوله: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ...}
جاء التفسير: فى الاثنى عشر. وجاء (فيهن): فى الأشهرالحرم؛ وهو أشبه بالصواب - والله أعلم - ليتبين بالنهى فيها عِظَمُ حُرْمتها؛ كما قال: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} ثم قال: {والصَّلاَةِ الوُسْطَى} فعظِّمت، ولم يرخص فى غيرها بترك المحافظة. ويدلّك على أنه للأربعة - والله أعلم - قوله: (فيهن) ولم يقل (فيها). وكذلك كلام العرب لِما بين الثلاثة إلى العشرة تقول: لثلاث ليال خلون، وثلاثة أيام خلون إلى العشرة, فإذا جُزْت العشرة قالوا: خلت, ومضت. ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة (هنّ) و (هؤلاء) فإذا جزت العشرة قالوا (هى، وهذه) إرادة أن تعرف سِمة القليل من الكثير. ويجوز فى كل واحد ما جاز فى صاحبه؛ أنشدنى أبو القمقام الفقعسىّ:

أصبحن فى قَرْحٍ وفى داراتها * سبع ليال غير معلوفاتها
ولم يقل: معلوفاتهن وهى سبع، وكل ذلك صواب، إلا أن المُؤْثَر ما فسَّرت لك. ومثله: {وقال نِسْوَةٌ فى الْمَدِينَة} فذكَّر الفعل لقلَّة النسوة ووقوع (هؤلاء) عليهن كما يقع على الرجال. ومنه قوله: {فإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} ولم يقل: انسلخت، وكلٌّ صواب. وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ السّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ} لقلّتهن ولم يقل (تلك) ولو قيلت كان صوابا.
وقوله: {الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً...}
يقول: جميعا. والكافّة لا تكون مذكّرة ولا مجموعة على عدد الرجال فتقولَ: كافّين، أو كافّات للنسوة، ولكنها (كافّة) بالهاء والتوحيد فى كل جهة؛ لأنها وإن كانت على لفظ (فاعلة) فإنها فى مذهب مصدر؛ مثل الخاصَّة، والعاقبة، والعافية. ولذلك لم تُدخل فيها العرب الألف واللام لأنها آخر الكلام مع معنى المصدر. وهى فى مذهب قولك: قاموا معا وقاموا جميعا؛ ألا ترى أن الألف واللام قد رُفِضت فى قولك: قاموا معا، وقاموا جميعا، كما رفضوها فى أجمعين وأكتعين وكلهم إذ كانت فى ذلك المعنى. فإن قلت: فإن العرب قد تدخل الألف واللام فى الجميع، فينبغى لها ان تدخل فى كافة وما أشبهها، قلت: لأن الجميع على مذهبين، أحدهما مصدر، والآخر اسم، فهو الذى شبّه عليك. فإذا أردت الجميع الذى فى معنى الاسم جمعته وأدخلت فيه الألف واللام؛ مثل قوله: {وإِنا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}، وقوله: {سَيُهزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّون الدُّبُرَ} وأما الذى فى معنى معا وكافّة فقولك للرجلين: قاما جميعا، وللقوم: قاموا جميعا، وللنسوة: قمن جميعا، فهذا فى معنى كلّ وأجمعين، فلا تدخِلْه ألفا ولاما كما لم تدخل فى أجمعين.

{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }

وقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...}
كانت العرب فى الجاهلية إذا أرادوا الصَدَر عن مِنىً قام رجل من بنى كنانة يقال له (نُعَيم بن ثعلبة) وكان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذى لا أعاب ولا أجاب ولا يردّ لى قضاء. فيقولون: صدقت، أنسئنا شهرا، يريدون: أخِّرْ عنّا حرمة المحرم واجعلها فى صفر، وأحِلّ المحرم، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذاك توالى ثلاثةِ أشهر حُرُم لا يُغيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة، فيفعل ذلك عاما، ثم يرجع إلى المحرم فيحرِّمه ويحلّ صَفَرا، فذلك الإنساء. تقول إذا أخرت الرجل بدَينه: أنسأته، فإذا زدت فى الأجل زيادة يقع عليها تأخير قلت: قد نسأت فى أيامك وفى أَجَلك، وكذلك تقول للرجل: نسأ الله فى أجلك؛ لأن الأجل مزيد فيه. ولذلك قيل للَّبن (نسأته) لزيادة الماء فيه، ونُسئت المرأة إذا حبِلت أى جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء فى اللبن، وللناقة: نسأتها، أى زجرتها ليزداد سيرها. والنسىء المصدر، ويكون المنسوءَ مثل القتيل والمقتول.
وقوله: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} قرأها ابن مسعود (يُضَلّ به الذين كفروا) وقرأها زيد بن ثابت (يَضِلُّ) يجعل الفعل لهم، وقرأ الحسن البصرى (يُضِلّ به الذين كفروا)، كأنه جعل الفعل لهم يُضِلّون به الناس وينسئونه لهم.
وقوله: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ} يقول: لا يخرجون من تحريم أربعة.

{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ }

وقوله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ...}
معناه والله أعلم: (تثاقلتم) فإذا وصلتها العرب بكلام أدغموا التاء فى الثاء؛ لأنها مناسبة لها، ويحدثون ألِفا لم يكن؛ ليبنوا الحرف على الإدغام فى الابتداء والوصل. وكأن إحداثهم الألف ليقع بها الابتداء، ولو حذفت لأظهروا التاء لأنها مبتدأة، والمبتدأ لا يكون إلا متحركا. وكذلك قوله: {حتى إِذا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً}، وقوله: {وَازّيّنَتْ} المعنى - والله أعلم -: تزينت، و{قَالُوا اطَّيّرْنَا} معناه: تطيرنا. والعرب تقول: (حتى إِذا اداركوا) تجمع بين ساكنين: بين التاء من تداركوا وبين الألف من إذا. وبذلك كان يأخذ أبو عمرو بن العلاء ويردّ الوجه الأوّل، وأنشدنى الكسائى:
تُولِى الضجيع إذا ما استافها خَصِرا * عَذْبَ المذاق إذا ما اتّابع القْبَل

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى...}

فأوقع (جعل) على الكلمة، ثم قال: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} على الاستئناف، ولم تُرَد بالفعل. وكلمة الذين كفروا الشرك بالله، وكلمة الله قول (لا إله إلا الله). ويجوز (وكلمةَ الله هى العليا) ولست أستحبّ ذلك لظهور الله تبارك وتعالى؛ لأنه لو نصبها - والفعل فعله - كان أجود الكلام أن يقال: "وكلمته هى العليا"؛ ألا ترى أنك تقول: قد أعتق أبوك غلامه، ولا يكادون يقولون: أعتق أبوك غلام أبيك. وقال الشاعر فى إجازة ذلك:
متى تأتِ زيدا قاعدا عِند حوضه * لِتهدِم ظلما حوض زيد تقارع
فذكر زيدا مرَّتين ولم يَكْنِ عنه فى الثانية، والكناية وجه الكلام.

{ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

وقوله: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً...}
يقول: لينفر منكم ذو العيال والميسرة، فهؤلاء الثقال. والخفاف: ذوو العسرة وقلّة العيال. ويقال: {انْفِرُواْ خِفَافاً}: نِشاطا (وثِقالا) وإن ثقل عليكم الخروج.

{ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ }

وقوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ...}
أى {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ} بعد غزو تبوك فى جهادٍ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} به.
ثم قال: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} بعدها {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }

وقوله: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ...}

الإيضاع: السير بين القوم. وكتبت بلام ألف وألف بعد ذلك، ولم يكتب فى القرآن لها نظير. وذلك أنهم لا يكادون يستمرون فى الكتاب على جهة واحدة؛ ألا ترى أنهم كتبوا {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} بغير ياء، {وما تُغْنِى الآيَاتُ والنُّذُرُ} بالياء، وهو من سوء هجاء الأوّلين. {ولأَوْضَعُواْ} مجتمع عليه فى المصاحف. وأما قوله {أَوْ لاَ أَذْبَحَنَّهُ} فقد كتبت بالألف وبغير الألف. وقد كان ينبغى للألف أن تحذف من كله؛ لأنها لام زيدت على ألف؛ كقوله: لأخوك خير من أبيك؛ ألا ترى أنه لا ينبغى ان تكتب بألف بعد لام ألف. وأما قوله {لا انْفِصَامَ لَهَا} فتكتب بالألف؛ لأن (لا) فى (انفصام) تبرئة، والألف من (انفصام) خفيفة. والعرب تقول: أوضع الراكب؛ ووضعت الناقة فى سيرها. وربما قالوا للراكب وضع؛ قال الشاعر:
إنى إذا ما كان يوم ذو فزَعْ * ألفيتنى محتملا بِذى أضع
وقوله: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} المعنى: يبغونها لكم. ولو أعانوهم على بُغائها لقلت: أبغيتك الفتنة. وهو مثل قولك: أَحلِبنى واحلُبنى.

{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }

وقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي...}
وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجدَ بن قيس: هل لك فى جِلاد بنى الأصفر؟ - يعنى الروم - وهى غزوة تبوك، فقال جدّ: لا، بل تأذن لى، فأتخلفُ؛ فإنى رجل كلِف بالنساء أخاف فتنة بنات الأصفر. وإنما سمى الأصفر لأن حبشيا غلب على ناحية الروم وكان له بنات قد أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرا لُعسا. فقال الله تبارك وتعالى {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} فى التخلف عنك. وقد عُذِل المسلمون فى غزوة تبوك وثقل عليهم الخروج لبعد الشقة، وكان أيضا زمان عسرة وأدرك الثمار وطاب الظل، فأحبّوا الإقامة، فوبَّخهم الله.

فقال عز وجل: (يأيّها الّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ اْنفِرُوا فِى سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلتُمْ).
ووصف المنافقين فقال: (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتَّبعوك).

{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ }

وقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ...}
الظفرَ أو الشهادة، فهما الحسنيان. والعرب تدغم اللام من (هل) و (بل) عند التاء خاصة. وهو فى كلامهم عالٍ كثير؛ هَلْ تدرى، وهتَّدْرِى. فقرأها القراء على ذلك، وإنما أستحبُّ فى القراءة خاصَّة تبيان ذلك، لأنهما منفصلان ليسا من حرف واحد، وإنما بنى القرآن على الترسّل والترتيل وإشباع الكلام؛ فتبيانه أحب إلىّ من إدغامه، وقد أدغم القرّاء الكبار، وكلٌّ صواب.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ }

وقوله: {أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً...}
وهو أمر فى اللفظ وليس بأمر فى المعنى؛ لأنه أخبرهم أنه لن يتقبّل منهم. وهو فى الكلام بمنزلة إنْ فى الجزاء؛ كأنك قلت: إنْ أنفقت طوعا أو كرها فليس بمقبول منك. ومثله {استغفِر لهم أو لا تستغفِر لهم} ليس بأمر، إنما هو على تأويل الجزاء. ومثله قول الشاعر:
أسِيئ بنا أو أحسنى لا ملومةٌ * لدينا ولا مَقْلِيّةٌ إن تقلّتِ

{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ }

وقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ...}
(أنهم) فى موضع رفع لأنه اسم للمنع؛ كأنك قلت: ما منعهم أن تقبل منهم إلا ذاك. و(أن) الأولى فى موضع نصب. وليست بمنزلة قوله: {وَما أرسلنا قَبْلَكَ مِن الْمُرْسَلِينَ إلاّ إنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ} هذه فيها واو مضمرة، وهى مستأنفة ليس لها موضع. ولو لم يكن فى جوابها اللام لكانت أيضا مكسورة؛ كما تقول: ما رأيت منهم رجلا إلا إنه لَيُحْسِن، وإلاّ إنه يحسن. يعرِّف أنها مستأنفة أن تضع (هو) فى موضعها فتصلح؛ وذلك قولك: ما رأيت منهم رجلا إلا هو يفعل ذلك. فدلّت (هو) على استئناف إنّ.

{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }

وقوله: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...}
معناه: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فى الحياة الدنيا. هذا معناه، ولكنه أخِّر ومعناه التقديم - والله أعلم - لأنه إنما أراد: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فىالحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها فى الآخرة. وقوله {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أى تخرج أنفسهم وهم كفّار. ولو جعلت الحياة الدنيا مؤخّرة وأردت: إنما يريد الله ليعذبهم بالإنفاق كرها ليعذبهم بذلك فى الدنيا، لكان وجها حسنا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }

وقوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} - أى حرزا - {أَوْ مَغَارَاتٍ}...}
وهى الغِيران؛ واحدها غار فى الجبال {أَوْ مُدَّخَلاً} يريد: سَرَبا فى الأرض.

{لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} مسرعين؛ الجمح ها هنا: الإسراع.

{ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ }

وقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ...}
يقول: بعيبك، ويقولون: لا يقسم بالسَّوِيَّة.
{فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ} فلم يعيبوا.
ثم إن الله تبارك وتعالى بيَّن لهم لمن الصدقات.

{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ...}
وهم أهل صُفَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا لا عشائر لهم، كانوا يلتمسون الفضل بالنهار، ثم يأوون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الفقراء.
{وَالْمَسَاكِينِ}: الطوَّافين على الأبواب {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وهم السعاة.
{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم أشراف العرب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم ليجترَّ به إسلام قومهم.
{وَفِي الرِّقَابِ} يعنى المكاتَبين {وَالْغَارِمِينَ}: أصحاب الدَّيْن الذين ركِبهم فى غير إفساد.
{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}: الجهاد {وَابْنِ السَّبِيلِ}: المنقطَع به، أو الضيف.
{فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} نصب على القطع. والرفع فى (فريضة) جائز لو قرئ به. وهو فى الكلام بمنزلة قولك: هو لك هبةً وهبةٌ، وهو عليك صدقةً وصدقةٌ، والمال بينكما نصفين ونصفان، والمال بينكما شِقَّ الشَعرَة وشقٌّ... .

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )

{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ...}
اجتمع قوم على عَيب النبى صلى الله عليه وسلم؛ فيقول رجل منهم: إن هذا يبلِّغ محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيقع بنا، فـ {وَيِقُولُونَ}: إنما {هُوَ أُذُنٌ} سامعة إذا أتياناه صدّقَنا، فقولوا ما شئتم. فأنزل الله عز وجل {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} أى كما تقولون، ولكنه لا يصدّقكم، إنما يصدِّق المؤمنين.
وهو قوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}: يصدق بالله. {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}: يصدّق المؤمنين. وهو كقوله: {لِلّذينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أى يرهبون ربهم.
وأما قوله:{والّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فمتصل بما قبله. وقوله {ورَحْمةٌ للّذِينَ آمَنُوا} إن شئت خفضتها تتبعها لخير, وإن شئت رفعتها أتبعتها الأذن. وقد يقرأ: (قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ) كقوله: قل أذن أفضل لكم؛ و(خَيْر) إذا خفض فليس على معنى أفضل؛ إذا خفضت (خير) فكأنك قلت: أذن صلاح لكم، وإذا قلت: (أذنٌ خير لكم)، فإنك قلت: أذن أصلح لكم. ولا تكون الرحمة إذا رفعت (خير) إلا رفعا. ولو نصبت الرحمة على غير هذا الوجه كان صوابا: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمةً) يفعل ذلك. وهو كقوله: {إِنا زَيّنّا السَّمَاءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظاً}.

{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ...}

وحّدَ (يرضوه) ولم يقل: يرضوهما؛ لأن المعنى - والله أعلم - بمنزلة قولك: ما شاء الله وشئتُ؛ إنما يقصد بالمشيئة قصدُ الثانى، وقوله: "ماشاء الله" تعظيم لله مقدّم قبل الأفاعيل؛ كما تقول لعبدك: قد أعتقك الله وأعتقتُك, وإن شئت أردت: يرضوهما فاكتفيت بواحد: كقوله:

نحن بما عندنا وأنت بما عنـ * دك راض والرأى مختلف
ولم يقل: راضون.

{ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }

وقوله: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً...}
والطائفة واحد واثنان، وإنما نزل فى ثلاثة نفر استهزأ رجلان برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، وضحك إليهما آخر، فنزل {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ} يعنى الواحد الضحاك {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} يعنى المستهزئَينِ. وقد جاء {ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} يعنى واحدا. ويقرأ: "إن يُعْفَ عن طائفة منكم تُعَذّب طائفةٌ". و"إن يُعْفَ... يُعَذّب طائفَة".

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }

وقوله: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ...}
يمسكون عن النفقة على النبى صلى الله عليه وسلم.

{ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }

وقوله: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ...}
أى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم.
وقوله: {فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ}. يقول: رضوا بنصيبهم فى الدنيا من أنصبائهم فى الآخرة.
وقوله: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ} أى أردتم ما أراد الذين من قبلكم.
وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} يريد: كخوضهم الذى خاضوا.

{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

وقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ...}
يقال: إنها قَرَيات قوم لوط وهود وصالح. ويقال: إنهم أصحاب لوط خاصَّة. جُمعوا بالتاء على قوله: {والْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}. وكأنّ جمعهم إذ قيل {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ} على الشِيَع والطوائف؛ كما قيل: قتلت الفُدَيكات، نسبوا إلى رئيسهم أبى فديك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

وقوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ...}

رفع بالأكبر، وعُدِل عن أن يُنْسَق على ما قبله وهو مما قد وعدهم الله تبارك وتعالى، ولكنه أوثر بالرفع لتفضيله؛ كما تقول فى الكلام: قد وصلتك بالدراهم والثياب، وحُسْنُ رأيى خير لك من ذلك.

{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }

وقوله: {وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ...}
هذا تعيير لهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِم على أهل المدينة وهم محتاجون، فأَثْرَوا من الغنائم، فقال: وما نقموا إلا الغِنى فـ (أنْ) فى موضع نصب.

{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ...}
يراد به: المتطوعين فأدغم التاء عند الطاء فصارت طاء مشددة. وكذلك (ومن يَطَّوَّعْ خَيْرا)، (والْمُطَّهِّرِينَ).

ولمزهم إياهم: تنقُّصُهم؛ وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم حثّ الناس على الصدقة، فجاء عمر بصدقة؛ وعثمان بن عفّان بصدقة عظيمة، وبعض أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم؛ ثم جاء رجل يقال له أبو عُقَيل بصاع من تمر، فقال المنافقون: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رِياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليُذْكر بنفسه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} يعنى المهاجرين {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}. يعنى أبا عُقَيل. والجُهْد لغة أهل الحجاز والوُجْد، ولغة غيرهم الجَهْد والوَجْد.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ }

وقوله: {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ...}
من الرجال، خلوف وخالفون، والنساء خوالف: اللاتى يخلُفن فى البيت فلا يبرحن. ويقال: عبد خالف، وصاحب خالف: إذا كان مخالفا.

{ وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ...}

وهم الذين لهم عُذْر. وهو فى المعنى المعتذرون، ولكن التاء أدغمت عند الذال فصارتا جميعا (ذالا) مشدّدة، كما قيل يذّكَّرون ويذَّكَّر. وهو مثل (يخَصِّمونَ) لمن فتح الخاء، كذلك فتحت العين لأن إعراب التاء صار فى العين؛ كانت - والله أعلم - المعتذرون. وأما المعذِّر على جهة المُفَعِّل فهو الذى يعتذر بغير عذر؛ حدّثنا محمد قال حدّثنا الفراء قال: وحدّثنى أبو بكر بن عَيَّاش عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس, وأبو حفص الخرَّاز عن جُوَيبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قرأ: (المُعْذِرون)، وقال: لعن الله المعذِّرين؛ ذهب إلى من يعتذر بغير عذر، والمُعْذِر: الذى قد بلغ أقصى العذر. والمعتذر قد يكون فى معنى المُعْذِر، وقد يكون لا عذر له. قال الله تبارك وتعالى فى الذى لا عذر له:
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ}.

{ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ }

وقوله: {حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ...}
(يَجِدُوا) فى موضع نصب بأن، ولو كانت رفعا على ان يجعل (لا) فى مذهب (ليس) كأنك قلت: حزنا أن ليس يجدون ما ينفقون، ومثله. قوله: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنْ لاَ يَرْجِعُ إلَيْهمْ قَوْلاً}. وقوله: {وحَسِبُوا أَنْ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}.
وكلّ موضع صلحت (ليس) فيه فى موضع (لا) فلك أن ترفع الفعل الذى بعد (لا) وتنصبه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )

{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

وقوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ...}
ثم قال: (لاَ تَعْتَذِرُوا) لا عذر لكم. وقال لَبِيد فى معنى الاعتذار بالأعذار إذا جعلهما واحدا:
وقُوما فقولا بالذى قد علمتما * ولا تخمِشا وجها ولا تحلقا الشعر
إلى الحول ثم اسمُ السلام عليكما * ومَنْ يبكِ حولا كاملا فقد اعتذر
يريد: فقد أعذر.

{ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً...}
نزلت فى طائفة من أعراب أَسَد وغَطَفان وحاضرى المدينة. و(أجدر) كقولك: أحرى، وأخلق.
{وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ} موضع (أن) نصب. وكل موضع دخلت فيه (أن) والكلام الذى قبلها مكتفٍ بما خَفَضه أو رفعه أو نصبه فـ (أن) فى موضع نصب؛ كقولك: أتيتك أنّك محسن، وقمت أنك مسىء، وثَبَتُّ عنك أنك صديق وصاحب. وقد تبين لك أن (أن) فى موضع نصب؛ لأنك تضع فى موضع (أن) المصدر فيكون نصبا؛ ألا ترى أنك تقول: أتيتك إحسانَك، فدلّ الإحسان بنصبه على نصب أن. وكذلك والآخران.

وأما قوله: {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ} فإن وضعك المصدر فى موضع (أن) قبيح؛ لأن أخلق وأجدر يطلبن الاستقبال من الأفاعيل فكانت بـ (أن) تبين المستقبل، وإذا وضعت مكان (أن) مصدرا لم يتبّين استقباله، فذلك قبح. و(أن) فى موضع نصب على كل حال؛ ألا ترى أنك تقول: أظن أنك قائم فتقضى على (أن) بالنصب، ولا يصلح أن تقول: أظن قيامك، فأظن نظير لخليق ولعسى (وجدير) وأجدر وما يتصرف منهن فى (أن).

{ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ...}
يعنى: الموت والقتل.
يقول الله تبارك وتعالى: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ} وفتح السين من (السوء) هو وجه الكلام، وقراءة أكثر القرَّاء. وقد رفع مجاهد السين فى موضعين: ها هنا وفى سورة الفتح، فمن قال: "دائرة السَّوء" فإنه أراد المصدر من سؤته سوءا ومساءة ومَسَائية وسوائية، فهذه مصادر. وَمن رفع السين جعله اسما؛ كقولك: عليه دائرة البلاء والعذاب. ولا يجوز ضم العين فى قوله: {ما كان أبوكِ امرَأَ سَوْء} ولا فى قوله: {وظننتُمْ ظَنَّ السَّوْء} لأنه ضدّ لقولك: هذا رجلُ صِدق، وثوبُ صدق. فليس للسوء ها هنا معنى فى عذاب ولا بلاء، فيضم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ...}

إن شئت خفضت الأنصار تريد: من المهاجرين ومن الأنصار. وإن شئت رفعت (الأنصار) يَتبعهم قوله: (والسابقون)، وقد قرأها الحسن البصرىّ: (والذين أتبعوهم بإحسان): من أحسن من بعدهم إلى يوم القيامة. ورفعت (السابقون والذين اتبعوهم) بما عاد من ذكرهم فى قوله رضى الله عنهم.

{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }

وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ...}
ومَرَنوا عليهِ مَرُووا عليه؛ كقولك: تمردوا.
وقوله: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ}. فقال بالقتل وعذاب القبر.

{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً...}
يقول: خرجوا إلى بدر فشهدوها. ويقال: العمل الصالح توبتهم من تخلَفهم عن غزوة تَبُوكَ.
{وَآخَرَ سَيِّئاً}: تخلّفهم يوم تبوك {عَسَى اللَّهُ} عسى من الله واجب إن شاء الله. وكان هؤلاء قد أوثقوا أنفسهم بسَوَارِى المسجد، وحلفوا ألا يفارقوا ذلك حتى تنزل توبتهم، فلمّا نزلت قالوا: يا رسول الله خذ أموالنا شكرا لتوبتنا، فقال: لا أفعل حتى ينزل بذلك علىَّ قرآن. فأنزل الله عز وجل:
قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً...}
فأخذ بعضا.

ثم قال: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}: استغفر فهم، فإن استغفارك لهم تسكن إليه قلوبهم، وتطمئن بأن قد تاب الله عليهم. وقد قرئت (صلواتك). والصلاة أكثر.

{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ...}
هم ثلاثة نَفَرٍ مسمَّون، تخلَّفوا عن النبى صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك، فلما رجع قال: "ما عذركم"؟ قالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة، فكانوا موقوفين حتى نزلت توبتهم فى.

{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً...}
هم بنو عمرو بن عوف من الأنصار، بنَوا مسجدهم ضرارا لمسجد قُبَاءَ. ومسجد قباء أول مسجد بنى على التقوى. فلمَّا قدِم النبى صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر بإحراق مسجد الشقاق وهدمه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }

وقوله: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً...}
يعنى مسجد بنى عمرو. ثم انقطع الكلام فقال: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}. ثم قال: (فيه رجال) الأولى صلة لقوله: (تقوم) والثانية رَفَعت الرجال.
وقوله: {أُسِّسَ...}

و(أُسِّسَ) ويجوز أساس، وآساس. ويخيَّل إلىّ أنى قد سمعتها فى القراءة.

{ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ...}
يعنى مسجد النفاق (رِيبَةً) يقال: شكّا (إلا أن تَقَطَّع) و (تُقَطَّع) معناه: إلا أن يموتوا. وقرأ الحسن (إلى أن تَقَطَّع) بمنزلة حتَّى، أى حتى تَقَطَّع. وهى فى قراءة عبدالله (ولو قُطِّعت قلوبُهم) حجة لمن قال (إلا أن تقطع) بضم التاء.

{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

وقوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ...}
قراءة أصحاب عبدالله يقدّمون المفعول به قبل الفاعل. وقراءة العوام: (فَيَقْتُلون ويُقْتَلون).
وقوله: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} خاج من قوله: {بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ} وهو كقولك: علىَّ ألف درهم عِدّةً صحيحةً، ويجوز الرفع لو قيل.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ...}

استؤنفت بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام، فحسن الاستئناف. وهى فى قراءة عبدالله "التائبين العابدين" فى موضع خفض؛ لأنه نعت للمؤمنين: اشترى من المؤمنين التائبين. ويجوز أن يكون (التائبين) فى موضع نصب على المدح؛ كما قال:
لا يَبْعَدَنْ قومى الذين هُم * سُمّ العُدَاة وآفَةُ الجُزْرِ
النازلين بكل معتَرك * والطيّبينَ معاقِدَ الأزْر

{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ...}
سأل المسلمون النبىّ صلى الله عليه وسلم عمّن مات من المسلمين وهو يصلّى إلى القبله الأولى، ويستحلّ الخمر قبل تحريمها، فقالوا: يا رسول الله أمات إخواننا ضُلاَّلا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} يقول: ليسوا بضلال ولم يصرفوا عن القبلة الأولى، ولم ينزل عليهم تحريم الخمر.

{ لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ...}
وقوله: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ...}

و(كاد تزيغ). [من] قال: (كاد يزيغ) جعل فى (كاد يزيِغ) اسما مثل الذى فى قوله: {عسى أن يكونوا خيرا منهم} وجعل (يزيغ) به ارتفعت القلوب مذكّرا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {لن ينالَ اللهَ لحومُهَا} و {لا يحل لك النساء من بعد} ومن قال (تزيغ) جعل فعل القلوب مؤنّثا؛ كما قال: {نريد أن نأكل مِنها وتطمئن قلوبنا} وهو وجه الكلام، ولم يقل (يطمئن) وكل فعل كان لجماع مذكر أو مؤنث فإن شئت أنّثت فعله إذا قدمته، وإن شئت ذكَّرته.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }

وقوله: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ...}
وهم كعب بن مالك، وبلال بن أُمَيَّة، ومُرَارة.

{ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }

وقوله: {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً...}
يريد بالموطئ الأرض {ولا يقطعون واديا} فى ذهابهم ومجيئهم إلا كتب لهم.

{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }

وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً...}
لمّا عُيَّر المسلمون بتخلفهم عن غزوة تَبوكَ جعل النبى صلى الله عليه وسلم يبعث السريَّة فينفرون جميعا، ليبقى النبى صلى الله عليه وسلم وحده، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} يعنى: جميعا ويتركوك وحدك.
ثم قال: {فَلَوْلاَ نَفَرَ} معناه: فهلاَّ نفر {مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} ليتفقّه الباقون الذين تخلَّفوا ويحفظوا، قومهم ما نزل على النبى صلى الله عليه وسلم من القرآن.
{وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} يقول: ليفقهوهم. وقد قيل فيها: إن أعراب أَسَد قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فغلت الأسعار وملئوا الطرق بالعَذِرات، فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ} يقول: فهلاّ نفر منهم طائفة ثم رجعوا إلى قومهم فاخبروهم بما تعلّموا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }

وقوله: {يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ...}
يريد: الأقرب فالأقرب.

{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }

وقوله: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ...}

يعنى: المنافقين يقول بعضهم لبعض: هل زادتكم هذه إيمانا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا...وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رِجْساً إلى رِجسهم} والمرض ها هنا النفاق.

{ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ }

وقوله: {أَوَلاَ يَرَوْنَ...}
(ويّروا) بالتاء. فى قراءة عبدالله "أو لا ترى أَنهم" العرب تقول: أَلا ترى للقوم وللواحد كالتعجب، وكما قيل "ذلك أزكى لهم، وذلكم" وكذلك (أَلا ترى) و(الا ترون).

المعاني الواردة في آيات سورة ( التوبة )
{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }

وقوله: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ...}
فيها ذكرههم وعَيْبهم قال بعضهم لبعض {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} أن قمتم، فإن لهم القيام قاموا.
فذلك قوله: {ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} دعاء عليهم.

{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ...}
يقول: لم يبق بطن من العرب إلاّ وقد ولدوه. فذلك قوله {مِّنْ أَنفُسِكُمْ}.
وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (ما) فى موضع رفع؛ معناه: عزيزعليه عَنَتُكم. ولو كان نصبا: عزيزا عليه ما عنتم حريصا رءوفا رحيما، كان صوابا، على قوله لقد جاءكم كذلك. والحرص الشحيح أن يدخلوا النار.

المعاني الواردة في آيات

سورة ( يونس )

{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ }

وقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ...}
نصبت (عجبا) بـ (كان)، ومرفوعها {أَنْ أَوْحَيْنَآ} وكذلك أكثر ما جاء فى القرآن إذا كانت (أن) ومعها فعل: أن يجعلوا الرفع فى (أن)، ولو جعلوا (أن) منصوبة ورفعوا الفعل كان صوابا.

{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }

وقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً...}
رفعت المرجع بـ (إليه)، ونصبت قوله {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} بخروجه منهما. ولو كان رفعا كما تقول: الحقُّ عليك واجب وواجباً كان صوابا. ولو استؤنف (وعد الله حق) كان صوابا.
(إنه يَبْدَأ الخَلْقَ) مكسورة لأنها مستأنفة. وقد فتحها بعض القرّاء. ونُرى أنه جعلها اسما للحق وجعل (وعد الله) متصلا بقوله (إليه مرجعكم) ثم قال: "حقّا أَنه يبدأ الخلق"؛ فـ (أنه) فى موضع رفع؛ كما قال الشاعر:
أحقّا عباد الله أن لست لاقيا * بُثَيْنَة أو يلقى الثريا رقِيبُها
وقال الآخر:
أحقا عباد الله جُرْأَةُ محلق * علىَّ وقد أعييت عادا وتبّعا

{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ...}
ولم يقل: وقدّرهما. فإن شئت جعلت تقدير المنازل القمر خاصّة لأنّ به نعلم الشهور. وإن شئت جعلت التقدير لهما جميعا، فاكتفى بذكر أحدهما من صاحبه كما قال الشاعر:
رمانى بأمرٍ كنتُ منه ووالدى * بريئا ومن جُولِ الطَوىّ رمانى
وهو مثل قوله {والله ورسولُه أَحَقُّ أَن يُرْضُوه} ولم يقل: أن يرضوهما.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

وقوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ...}
يقول: لو أجيب الناس فى دعاء أحدهم على ابنه وشبهه بقولهم. أماتك الله، ولعنك الله، وأخزاك الله لهلكوا. و(استعجالهم) منصوب بوقوع الفعل: (يعجل)؛ كما تقول: قد ضربت اليوم ضربتك، والمعنى: ضربت كضربتك وليس المعنى ها هنا كقولك: ضربت ضربا؛ لأن ضربا لا تضمر الكاف فيه؛ لأنك لم تشبهه بشىء، وإنما شبهت ضربك بضرب غيرك فحسنت فيه الكاف.
وقوله: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} ويقرأ: (لقَضَى إليهم أجلهم). ومثله {فيمسك التى قَضَى عليها الموتَ} و(قُضِى عليها الموتُ).

{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

وقوله: {مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ...}
يقول: استمرّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه البلاء.

{ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

وقوله: {قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ...}
وقد ذكِر عن الحسن أنه قال: "ولا أَدْرَأْتكم به" فإن يكن فيها لغة سوى دريت وأدريت فلعلّ الحسَن ذهب إليها. وأما أن تصلح مِن دريت أو أدريت فلا؛ لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحَّتا ولم تنقلبا إلى ألف؛ مثل قضيت ودعوت. ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها؛ لأنها تضارع درأت الحدّ وشبهه. وربما غلِطت العرب فى الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز فيهمزون غير المهموز؛ سمعت امرأة من طىء تقول: رنأْت زوجى بأبياتٍ. ويقولون لبَّأت بالحج وحلأْت السَوِيق فيغلَطون؛ لأن حَلأْت قد يقال فى دفع العِطاش من الإبل، ولبَّأت ذهب إلى الِلبأ الذى يؤكل، ورَثَأت زوجى ذهبَتْ إلى رَثِيئة اللبن؛ وذلك إذا حلبت الحليب على الرائب.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ }

وقوله: {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ...}
العرب تجعل (إذا) تكفى من فعلت وفعلوا. وهذا الموضع من ذلك: اكتُفى بـ (إذا) من (فعلوا) ولو قيل (مِن بعدِ ضراء مستهم مكروا) كان صوابا. وهو فى الكلام والقرآنِ كثير. ونقول: خرجت فإذا أنا بزيد. كذلك يفعلون بـ (إذْ)؛ كقول الشاعر:
بينما هنَّ الأراك معا * إذا أتى راكب على جملِه
وأكثر الكلام فى هذا الموضع أن تطرح (إذ) فيقال:
بينا تَبَغِيِّهِ العَشَاء وطَوْفِه * وقع العَشاءُ به على سِرْحانِ
ومعناهما واحد بـ (إذ) وبطرحها.

{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }

وقوله: {يُسَيِّرُكُمْ...}
قراءة العامّة. وقد ذكر عن زيد بن ثابت (ينشركم) قرأها أبو جعفر المدنىّ كذلك. وكلّ صواب إن شاء الله.
وقوله: {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} يعنى الفُلْك؛ فقال: جاءتها، وقد قال فى أوّل الكلام {وجرين بِهِم} ولم يقل: وجَرَت، وكلّ صواب؛ تقول: النساء قد ذهبت، وذهبن. والفلك تؤنث وتذكر، وتكون واحدة وتكون جمعا. وقال فى يس {فى الفلك المشحون} فذكَّر الفلك، وقال ها هنا: جاءتها، فأنث. فإن شئت جعلتها ها هنا واحدة، وإن شئت: جِماعا. وإن شئت جعلت الهاء فى (جاءتها) للريح؛ كأنك قلت: جاءت الريحَ الطيّبةَ ريح عاصف. والله أعلم بصوابه. والعرب تقول: عاصف وعاصفة، وقد أعصفت الريح، وعَصَفت. وبالألف لغة لبنى أَسَد؛ أنشدنى بعض بنى دَبِير:
حتى إذا أعصفت ريح مزعزِعة * فيها قِطار ورعد صوته زجِل

{ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

وقوله: {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ...}

إن شئت جعلت خبر (البغى) فى قوله (على أنفسكم) ثم تنصب (متاعَ الحياةِ الدينا) كقولك: مُتْعَةً فى الحياة الدنيا. ويصلح الرفع ها هنا على الاستئناف؛كما قال {لم يلبثوا إِلا ساعة من نهارٍ بلاغ} أى ذلك (بلاغ) وذلك (متاع الحياةِ الدنيا) وإن شئت جعلت الخبر فى المتاع. وهو وجه الكلام.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

وقوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى...}
فى موضع رفع. يقال إن الحسنى الحَسَنة.(وزيادة) حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء قال حدثنى أبو الأحوص سلاّم بن سُلَيم عن أَبى إسحاق السَبِيعىّ عن رجل عن أبى بكر الصدِّيق رحمه الله قال: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة: النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى. ويقال (للذين أحسنوا الحسنى) يريد حَسَنة مثل حسناتهم (وزيادة) زيادة التضعيف كقوله {فله عَشْرُ أَمثالها}.

{ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

وقوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا...}
رفعت الجزاء بإضمار (لهم) كأنك قلت: فلهم جزاء السيئة بمثلها؛ كما قال {ففِدية مِن صِيامٍ} و {فصيام ثلاثةِ أيام فى الحج} والمعنى: فعليه صيام ثلاثة أيام، وعليه فدية. وإن شئت رفعت الجزاء بالباء فى قوله: {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} والأوّل أعجب إلىَّ.

وقوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً} و (قطْعا). والقِطَع قراءة العامَّة. وهى فى مصحف أبى (كأنما يَغْشَى وجوهَهم قِطْع من الليل مظلم) فهذه حجة لمن قرأ بالتخفيف. وإن شئت جعلت المظلم وأنت تقول قِطْع قطعا من الليل، وإن شئت جعلت المظلم نعتا للقطع, فإذا قلت قطعا كان قطعا من الليل خاصة. والقطع ظلمة آخر الليل {فأَسِر بأهلك بقطع من الليل}.

{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ }

وقوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ...}
ليست من زُلْت؛ إنما هى من زِلْتُ ذا من ذا: إذا فرَّقت أنت ذا من ذا. وقال (فزيَّلنا) لكثرة الفعل. ولو قَلَّ لقلت: زِلْ ذا من ذا؛ كقولك: مِزْ ذا من ذا. وقرأ بعضهم (فزايلنا بينهم) وهو مثل قوله: (يراءون ويرءُّون) (ولا تصعِّر، ولا تصاعر) والعرب تكاد توفّق بين فاعلت وفعَّلت فى كثير من الكلام، ما لم تُرد فَعَلَتَ بى وفعلتُ بك، فإذا أرادوا هذا لم تكن إلا فاعلت. فإذا أردت: عاهدتك وراءيتك وما يكون الفعل فيه مفردا فهو الذى يَحتمل فعلت وفاعلت. كذلك يقولون: كالمت فلانا وكلَّمته، وكانا متصارمين فصارا يتكالمان ويتكلمَّان.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }

وقوله: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ...}

قرأها عبدالله بن مسعود: (تتلو) بالتاء. معناها - والله أعلم -: تتلو أى يقرأ كلُّ نفس عملها فى كتاب؛ كقوله: {ونخرِج له يوم القِيامةِ كِتابا يلقاه منشورا} وقوله {فأما من أُوتِى كِتابه بِيمينِه}. وقوله {اقرأ كِتابك} قوّة لقراءة عبدالله. قرأها مجاهد (تبلو كل نفسٍ ما أسلفت) أى تَخْبره وتراه. وكل حَسَن. حدّثنا محمد قال حدّثنى الفرّاء قال حدثنا محمد بن عبد العزيز التيمى عن مُغيرةَ عن مجاهد أنه قرأ (تبلو) بالباء. وقال الفرّاء: حدّثنى بعض المشيخة عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس: (تبلو) تَخْبر، وكذلك قرأها ابن عباس.
وقوله {وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} (الحقِّ) تجعله من صفات الله تبارك وتعالى. وإن شئت جعلته نصبا تريد: ردّ إلى الله حقا. وإن شئت: مولاهم حقا.

{ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }

وكذلك وقوله: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ...}
فيه ما فى الأولى.

{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ...}
وقد يقرأ (كلمة ربِك) و (كلمات ربك). قراءة أهل المدينة على الراجح.
وقوله: {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}: حَقَّت عليهم لأنهم لا يؤمنون، أو بأنهم لا يؤمنون، فيكون موضعها نصبا إذا ألقيت الخافض. ولو كسرت فقلت: "إنهم" كان صوابا على الابتداء. وكذلك قوله {آمنت أنه لا إِله إِلا الذِىِ آمنتْ بِه بنو إِسرائِيل} وكسرها أصحاب عبدالله على الابتداء.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )

{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }

وقوله: {أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى...}
يقول: تعبدون مالا يقدر على النُقْلة من مكانه، إلا أن يحوّل وتنقلوه.

{ وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }

وقوله: {وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى...}
المعنى - والله أعلم -: ما كان ينبغى لمثل هذا القرآن أن يفترى. وهو فى معنى: ما كان هذا القرآن لِيفترى. ومثله {وما كان المؤمِنون لِينفِروا كافة} أى ما كان ينبغى لهم أن ينفِروا؛ لأنهم قد كانوا نَفَروا كافَّة، فدلَّ المعنى على أنه لا ينبغى لهم أن يفعلوا مرَّة أخرى. ومثله {وما كان لِنبىّ أن يَغُلّ} أى ما ينبغى لنبىّ أن يَغُلّ، ولا يُغَل. فجاءت (أَنْ) على معنى ينبغى؛ كما قال {مالك أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجِدين} والمعنى: منعك، فأدخلت (أن) فى (مالك) إذا كان معناها: ما منعك. ويدلّ على أن معناهما واحد أنه قال له فى موضع: (ما منعك)، وفى موضع (مالك) وقصَّة إبليس واحدة.

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَاكِنَّ النَّاسَ...}

للعرب فى (لكن) لغتان: تشديد النون وإسكانها. فمن شدّدها نصب بها الأسماء، ولم يلها فَعَلَ ولا يَفْعَل. ومَن خفَّف نُونها وأسكنها لم يُعمِلها فى شىء اسمٍ ولا فعل، وكان الذى يعمل فى الاسم الذى بعدها ما معه، ينصبه أو يرفعه أو يخفضه؛ من ذلك قوله {ولكِنِ الناسُ أَنفسهم يظلِمون} {ولكِنِ اللّهُ رَمَى} {ولكِنِ الشياطينُ كفروا} رُفعت هذه الأحرف بالأفافيل التى بعدها. وأمَّا قوله {ما كان محمد أَبا أَحدٍ مِن رِجالِكم ولكِن رسولَ اللّهِ} فإنك أضمرت (كان) بعد (لكن) فنصبت بها، ولو رفعته على أن تضمر (هو): ولكن هو رسول الله كان صوابا. ومثله {وما كان هذا القرآن أن يفترى مِن دونِ اللّهِ ولكِن تصدِيقَ الذى بين يديه} و (تصدِيقُ). ومثله {ما كان حدِيثا يفترى ولكِن تصدِيقَ الذى بين يديه} (وتصديقُ).
فإذا ألقيت من (لكن) الواو التى فى أوّلها آثرت العربُ تخفيف نونها. وإذا أدخلوا الواو وآثروا تشديدها. وإنما فعلوا ذلك لأنها رجوع عمَّا أصاب أوّل الكلام، فشبِّهت ببل إذْ كان رجوعا مثلها؛ ألا ترى أنك تقول: لم يقم أخوك بل أبوك ثم تقول: لم يقم أخوك لكن أبوك، فتراهما بمعنى واحد، والواو لا تصلح فى بل، فإذا قالوا (ولكن) فأدخلوا الواو تباعدت من (بل) إذ لم تصلح الواو فى (بل)، فآثروا فيها تشديد النون، وجعلوا الواو كأنها واو ودخلت لعطفٍ لا لمعنى بل.
وإنما نصبت العربُ بها إذا شُدّدت نونها لأن أصلها: إنّ عبدالله قائم، فزيدت على (إن) لام وكاف فصارتا جميعا حرفا واحدا؛ ألا ترى أن الشاعر قال:
* ولكننِى مِن حُبّها لكَميد *
فلم تدخل اللام إلا لأن معناها إنّ.
وهى فيما وصلت به من أوّلها بمنزلة قول الشاعر:
لهِنَّكِ من عَبْسِيّةٍ لوِسيمةٌ * على هُنُواتٍ كاذبٍ من يقولها

وصل (إنّ) ها هنا بلام وهاء؛ كما وصلها ثَمَّ بلام وكاف. والحرف قد يوصل من أوّله وآخره. فما وصل من أوله (هذا)، (ها ذاك)، وصل بـ (ها) من أوّله. ومما وصل من آخره. قوله: {إمَّا تُرِيَنِّى ما يُوعدون}، وقوله: لتذهبن ولتجلسن. وصل من آخره بنون وبـ (ما). ونرى أن قول العرب: كم مالك, أنها (ما) وصلت من أولها بكاف، ثم إن الكلام كثر بـ (كم) حتى حذفت الألف من آخرها فسكنت ميمها؛ كما قالوا: لِمْ قلت ذاك؟ ومعناه: لِمَ قلت ذاك، ولمَا قلت ذاك؟ قال الشاعر:
يا أبا الأسود لِمْ أسلمتنى * لهموم طارقات وذِكر
وقال بعض العرب فى كلامه وقيل له: منذ كم قعد فلان؟ فقال: كَمُذْ أخذتَ فى حديثك، فردُّه الكاف فى (مذ) يدلّ على أن الكاف فى (كم) زائدة. وإنهم ليقولون: كيف أصبحت، فيقول: كالخير، وكخير. وقيل لبعضهم: كيف تصنعون الأَقِط؟ فقال: كهيّن.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ }

وقوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ...}
(ثم) ها هنا عطف. ولو قيل: ثَمَّ اللّهُ شهيد على ما يفعلون. يريد: هنالك الله شهيد على ما يفعلون.

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ }

وقوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ...}
إن شئت جعلت (ماذا) استفهاما محضا على جهة التعجّب؛ كقوله: ويلَهم ماذا أرادوا باستعجال العذاب؟! وإن شئت عظَّمت أمر العذاب فقلت: بماذا استعجلوا! وموضعه رفع إذا جعلت الهاء راجعة عليه، وإن جعلت الهاء فى (منه) للعذاب وجعلته فى موضع نصب أوقعت عليه الاستعجال.

{ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }

وقوله: {الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ...}
(الآن) حرف بنى على الألف واللام لم تخلع منه، وترك على مذهب الصفة؛ لأنه صفة فى المعنى واللفظ؛ كما رأيتهم فعلوا فى (الذى) و (الذين) فتركوهما على مذهب الأداة، والألف واللام لهما غير مفارقتين. ومثله قال الشاعر:
فإن الألاءِ يعلمونك منهم * كعلمى مظَّنُّوك ما دمت أشعرا
فأدخل الألف واللام على (ألاء) ثم تركها مخفوضة فى موضع النصب؛ كما كانت قبل أن تدخلها الألف واللام. ومثله قوله:
وأنى حُبست اليوم والأمسِ قبله * ببابك حتى كادت الشمس تغرب
فأدخل الألف واللام على (أمس) ثم تركه مخفوضا على (جهته الأولى). ومثله قول الآخر:
تفقَّأُ فوقه القَلَع السوارى * وجُنَّ الخازبَازَ به جنونا
فمثل (الآن) بأنها كانت منصوبة قبل أن تدخل عليها الألف واللام، ثم أدخلتهما فلم يغيراها. وأصل الآن إنْما كان (أوان) حذفت منها الألف وغيَّرت واوها إلى الألف؛ كما قالوا فى الراح: الرَيَاح؛ أنشدنى أبو القمقام الفقعسى:
كأن مَكَاكِىَّ الجِواء غُدَيَّةً * نشاوَى تساقَوا بالرَيَاح المفَلْفَل
فجعل الرياح والأوان على جهة فَعَل ومرة على جهة فعال؛ كما قالوا: زمن وزمان. وإن شئت جعلت (الآن) أصلها من قولك: آن لك أن تفعل، أدخلت عليها الألف واللام، ثم تركتها على مذهب فَعَلَ فأتاها النصبُ من نصب فعلَ. وهو وجه جيِّد؛ كما قالوا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيلَ وقالَ وكثرة السؤال، فكانتا كالاسمين فهما منصوبتان. ولو خفضتا على أنهما أخرجتا من نيَّة الفعل كان صوابا؛ سمعت العرب تقول: من شُبَّ إلى دُبَّ بالفتح، ومن شُبٍّ إلى دُبٍّ؛ يقول: مذ كان صغيرا إلى أن دَبّ، وهو فَعَلَ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )

{ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

وقوله: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ...}
يعنى الرؤساء من المشركين، أسَرُّوها من سفلتهم الذين أضلّوهم، فأسرُّوها أى أخفَوها.

{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }

وقوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ...}
هذه قراءة العامة. وقد ذكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ (فبذلك فلتفرحوا) أى يا أصحاب محمد، بالتاء.
وقوله: {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}: يَجْمع الكفار. وقَوّى قولَ زيد أنها فى قراءة أبىّ (فبذلك فافرحوا) وهو البناء الذى خُلِق للأمر إذا واجهْتَ به أو لم تواجِه؛ إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه لكثرة الأمر خاصَّة فى كلامهم؛ فحذفوا؛ اللام كما حذفوا التاء من الفعل. وأنت تعلم أن الجازم أو الناصب لا يقعان إلا على الفعل الذى أوّله الياء والتاء والنون والألف. فلما حُذِفت التاء ذهبت باللام وأحدثت الألف فى قولك: اضرب وافرح؛ لأن الضاد ساكنة فلم يستقم أن يُستأنف بحرف ساكن، فأدخلوا ألفا خفيفة يقع بها الابتداء؛ كما قال: (ادّارَكوا). (واثّاقَلْتُم). وكان الكسائىّ يعيب قولهم (فلتفرحوا) لأنه وجده قليلا فجعله عيبا، وهو الأصل. ولقد سمعت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال فى بعض المشاهد (لتأخذوا مصافّكم) يريد به خذوا مصافّكم.

{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً...}
يقول: الله تبارك وتعالى شاهد على كل شىء. (وما) ها هنا جحد لا موضع لها. وهى كقوله {ما يكون مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلا هُوَ رابِعهم} يقول: إلا هو شاهدهم.
{وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ} و(أصغرُ وأكبرُ). فمن نصبهما فإنما يريد الخفض: يُتْبعهما المثقال أو الذرّة. ومن رفعهما أتبعهما معنى المثقال؛ لأنك لو ألقيت من المثقال (مِن) كان رفعا. وهوكقولك: ما أتانى من أحد عاقلٍ وعاقلٌ. وكذلك قوله {ما لكم مِن إِلهٍ غيرِه}.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }

وقوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ...الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ...}
(الذين) فى موضع رفع؛ لأنه نعت جاء بعد خبر إنْ؛ كما قال {إِن ذلِكَ لَحَقٌّ تخاصُمُ أَهْلِ النارِ} وكما قال {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلاَّمُ الغُيُوبِ} والنصب فى كل ذلك جائِز على الإتباع للاسم الأوّل وعلى تكرير (إنّ).

وإنما رفعت العرب النعوت إذا جاءت بعد الأفاعيل فى (إنّ) لأنهم رأوا الفعل مرفوعا، فتوهّموا أن صاحبه مرفوع فى المعنى - لأنهم لم يجدوا فى تصريف المنصوب اسما منصوبا وفعله مرفوع - فرفعوا النعت. وكان الكسائىّ يقول: جعلته - يعنى النعت - تابعا للاسم المضمر فى الفعل؛ وهو خطأ وليس بجائز؛ لأن (الظريف) وما أشبهه أسماء ظاهرة، ولا يكون الظاهر نعتا لمكنىّ إلا ما كان مثل نفسه وأنفسهم، وأجمعين، وكلهم؛ لأن هذه إنما تكون أطرافا لأواخر الكلام؛ لا يقال مررت بأجمعين، كما يقال مررت بالظريف. وإن شئت جعلت قوله {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} رفعا.
بقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا}.

{ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

وقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا...}
وذكر أن البشرى فى الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له, وفى الآخرة الجنة. وقد يكون قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى} ما بشّرهم به فى كتابه من موعوده، فقال {ويبشِر المؤمِنِين الذِين يعملون الصالِحاتِ} فى كثير من القرآن.
ثم قال لَهُمُ {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أى لا خُلْف لوعد الله.

{ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

وقوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ...}

المعنى الاستئناف. ولم يقولوا هم ذاك، فيكونَ حكاية. فأمّا قوله: {وقولهم إِنا قتلنا المسِيح} فإنها كسرت لأنها جاءت بعد القول، وما كان بعد القول من (إن) فهو مكسور على الحكاية فى قال ويقولون وما صُرِّف من القول. وأمّا قوله {ما قلت لهم إلاَّ ما أَمرْتَنِى بِهِ أَن اعبُدُوا اللّهَ ربِّى} فإنك فتحت (أن) لأنها مفسِّرة لـ (ما)، (وما) قد وقع عليها القول فنصبها وموضعها نصب. ومثله فى الكلام: قد قلت لك كلاما حسنا: أن أباك شريف وأَنك عاقل، فتحت (أَنّ) لأنها فسّرت الكلام، والكلام منصوب. ولو أردت تكرير القول عليها كسرتها. وقد تكون (أنّ) مفتوحة بعد القول إذا كان القول رافعا لها أو رافعة له؛ من ذلك أن تقول: قولُك مذ اليوم أَن الناس خارجون؛ كما تقول: قولك مذ اليوم كلام لا يفهم. وقوله {ولا تقولن لِشىءٍ إنى فاعِل ذلِك غدا إلا أَن يشاء الله} المعنى: لا تقولنَّ لشىءٍ: إنى فاعل ذلك غدا إلا بالاستثناء: إلا أن تقول: إن شاء الله. ولوأردت: لا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك: لا تقل إلا أن يشاء الله كان كأنه أُمر أن يقول إن شاء الله وحدها، فلا بدّ من أن مفتوحة بالاستثناء خاصة؛ ألا ترى أنك قد تأمره إذا خلف فتقول: قل إن شاء الله، فلمَّا أريدت الكلمة وحدها لم تكن إلا مكسورة.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }

وقوله: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ...}
وقوله: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا...}
أى ذلك متاع فى الدنيا. والتى فى النحل مثله، وهو كقوله {لم يلبثوا إلا ساعة مِن نهارٍ بلاغ} كله مرفوع بشىء مضمر قبله إمّا (هو) وإما (ذاك).

{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ }

وقوله: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ...}
والإجماع: الإعداد والعزيمة على الأمر. ونصبتَ الشركاء بفعل مضمر؛ كأنك قلت: فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. وكذلك هى فى قراءة عبدالله. والضمير ها هنا يصلح إلقاؤه؛ لأن معناه يشاكل ما أظهرت؛ كما قال الشاعر:
ورأيت زوجك فى الوغى * متقلِّدا سيفا ورمحا
فنصبت الرمح بضمير الحمل؛ غير أن الضمير صلح حذفه لأنهما سلاح يعرف ذا بذا، وفعل هذا مع فعل هذا.
وقد قرأها الحسن (وشركاؤكم) بالرفع، وإنما الشركاء ها هنا آلهتهم؛ كأنه أراد: أَجمِعوا أمركم أنتم وشركاؤكم. ولست أشتهيه لخلافه للكتاب، ولأن المعنى فيه ضعيف؛ لأن الآلهة لا تعمل ولا تُجْمع . وقال الشاعر:
يا ليت شِعرِى والمنى لا تنفع * هل أَغدُوَنْ يوما وأمرِى مُجْمَع
فإذا أردت جمع الشىء المتفرّق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون؛ كما قال الله تبارك وتعالى {ذلِك يوم مجموع له الناس وذلِك يوم مشهود} وإذا أردت كسب المال قلت: جَمَّعت المال؛ كقول الله تبارك وتعالى {الذِى جَمَّع مالا وعدَّده} وقد يجوز جَمَع مالا وعدَّده. وهذا من نحو قَتَلوا وقَتَّلوا.
وقوله {ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ} وقد قرأها بعضهم: (ثم أَفْضُوا إلىّ) بالفاء. فأما قوله {اقْضُواْ إِلَيَّ} فمعناه: امضوا إلىّ، كما يقال قد قضى فلان، يراد: قد مات ومضى. وأما الإفضاء فكأنه قال: ثم توجَّهوا إلىّ حتى تصلوا، كما تقول: قد أفضت إلىّ الخلافةُ والوجع، وما أشبهه.

{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ }

وقوله: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ...}
يقول: لم يكونوا ليؤمنوا لك يا محمد بما كذَّبوا به فى الكتاب الأوّل، يعنى اللوح المحفوظ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ }

وقوله: {قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا...}
يقول القائل: كيف أدخل ألف الاستفهام فى قوله (أسحِر هذا) وهم قد قالوا (هذا سحر) بغير استفهام؟
قلت: قد يكون هذا من قولهم على أنه سحر عندهم وإن استفهموا؛ كما ترى الرجل تأتيه الجائِزة فيقول: أحقّ هذا؟ وهو يعلم أنه حقّ لا شكّ فيه. فهذا وجه. ويكون أن تزيد الألف فى قولهم وإن كانوا لم يقولوها، فيخرج الكلام على لفظه وإن كانوا لم يتكلّموا به؛ كما يقول الرجل: فلان أعلم منك، فيقول المتكلم: أقلتَ أحدٌ أعلم بذا منّى؟ فكأنه هو القائل: أأحد أعلم بهذا منى. ويكون على أن تجعل القول بمنزلة الصلة لأنه فضل فى الكلام؛ ألا ترى أنك تقول الرجل: أتقول عندك مال؟ فيكفيك من قوله أن تقول: ألك مال؟ فالمعنى قائم ظهرَ القولُ أوْ لم يظهر.

{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا...}
اللفت: الصرف؛ تقول: ما لفتك عن فلان؟ أى ما صرفك عنه.

ويقول القائل: كيف قالوا (وتكون لكما الكِبرياء فى الأرض) فإنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا صُدِّق صارب مقاليدُ أُمّته ومُلْكُهم إليه، فقالوه على مُلْك ملوكهم من التكبر.

{ فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ }

وقوله: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ...}
(ما) فى موضع الذى؛ كما تقول: ما جئت به باطل. وهى فى قراءة عبدالله (ما جِئتم به سِحر) وإنما قال (السحر) بالألف واللام لأنه جواب لكلام قد سبق؛ ألا ترى أنهم قالوا لِما جاءهم به موسى: أهذا سحر؟ فقال: بل ما جئتم به السحر. وكل حرف ذكره متكلم نكرة فرددْتَ عليها لفظها فى جواب المتكلم زدت فيها ألفا ولاما؛ كقول الرجل: قد وجدت درهما، فتقول أنت: فأين الدرهم؟ أو: فأرِنى الدرهم. ولو قلت: فأرِنى درهما، كنت كأنك سألته أن يريك غير ما وجده.
وكان مجاهد وأصحابه يقرءون: ما جِئتم به آلسحرُ: فيستفهم ويرفع السحر من نِيَّة الاستفهام، وتكون (ما) فى مذهب أىّ كأنه قال: أى شىء جئتم به؟ آلسحر هو؟ وفى حرف أُبىّ (ما أتيتم به سحر) قال الفراء: وأشكّ فيه.

وقد يكون (ما جئتم به السحرَ) تجعل السحر منصوبا؛ كما تقول: ما جِئت به الباطل والزور. ثم تجعل (ما) فى معنى جزاء و(جِئتم) فى موضع جزم إذا نصبت، وتضمر الفاء فى قوله {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} فيكون جوابا للجزاء. والجزاء لا بدّ له أن يجاب بجزم مثله أو بالفاء. فإن كا ما بعد الفاء حرفا من حروف الاستئناف وكان يرفع أو ينصب أو يجزم صلح فيه إضمار الفاء. وإن كان فعلا أوّله الياء أو التاء أو كان على جهة فَعَل أو فعلوا لم يصلح فيه إضمار الفاء؛ لأنه يُجزم إذا لم تكن الفاء، ويرفع إذا أدخلت الفاء. وصلح فيما قد جُزِم قبُل أن تكون الفاءُ لأنها إن دخلت أو لم تدخل فما بعدها جزم؛ كقولك للرجل: إن شئت فقم؛ ألا ترى أنّ (قم) مجزومة ولو لم يكن فيها الفاء, لأنك إذا قلت إن شئت قم جزمتها بالأمر، فكذلك قول الشاعر:
من يفعلِ الحسناتِ اللّهُ يشكرها * والشرُّ بالشرِّ عِند اللّهِ مِثلانِ
ألا ترى أن قولك: (الله يشكرها) مرفوع كانت فيه الفاء أو لم تكن، فلذلك صلح ضميرها.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ }

وقوله: {فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ...}
ففسَّر المفسرون الذرِّيَّة: القليل. وكانوا - فيما بلغنا - سبعين أهل بيت. وإنما سموا الذرّية لأن آباءهم كانوا من القِبط وأمهاتهم كنّ من بنى إسرائيل، فسموا الذرّية؛ كما قيل لأولاد أهل فارس الذين سقطوا إلى اليمن فسمَّوا ذراريَّهم الأبناء؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم.

وقوله: {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}، وإنما قال (وملئهم) وفرعون واحد لان الملِك إذا ذُكر بخوف او بسفر او قدوم من سفر ذهب الوَهْم إليه وإلى من معه؛ ألا ترى أنك تقول: قدم الخليفة فكثر الناس، تريد: بمن معه، وقدم فغلت الأسعار؛ لأنك تنوى بقدومه قدوم من معه. وقد يكون أن تريد بفرعون آل فرعون وتحذف الآل فيجوز؛ كما قال {واسأل القرية} تريد أهل القرية والله أعلم. ومن ذلك قوله: {يأيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}.

{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً...}
كان فرعون قد أمرَ بتهديم المساجد، فأُمِر موسى وأخوه أن يُتَّخذ المساجد فى جوف الدور لتخفى من فرعون. وقوله: {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} إلى الكعبة.

{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ }

وقوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...}
ثم قال موسى (ربنا) فعلت ذلك بهم (ليُضِلُّوا) الناس (عن سبيلك) وتقرأ (لَيضِلُّوا) هم (عن سبيلك) وهذه لام كى.
ثم استأنف موسى بالدعاء عليهم فقال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}. يقول: غَيِّرها. فذُكر أنها صارت حجارة. وهو كقوله {من قبل أن نطمس وجوها}. يقول: نمسخها.
قوله: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}. يقول: واختم عليها.

قوله: {فَلاَ يُؤْمِنُواْ}. كلّ ذلك دعاء، كأنه قال اللهم {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} وإن شئت جعلت (فلا يؤمنوا) جوابا لمسئلة موسى عليه السلام إياه؛ لأن المسئلة خرجت على لفظ الأمر، فتجعل (فلا يؤمنوا) فى موضع نصب على الجواب، فيكون كقول الشاعر:
يا ناقَ سِيرِى عَنَقاً فسِيحا * إلى سليمان فنستريحا
وليس الجواب يسهل فى الدعاء لانه ليس بشرط.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا...}
نُسبت الدعوة إليهما وموسى كان الداعى وهارون المؤمِّن، فالتأمين كالدعاء. ويقرأ (دعواتكما).
وقوله: {فَاسْتَقِيمَا} أُمِرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة. ويقال: إنه كان بينهما أربعون سنة.
(قال آمنت أَنه) قرأها أصحاب عبدالله بالكسر على الاستئناف. وتقرأ (أنه) على وقوع الإيمان عليها. زعموا أن فرعون قالها حين ألجمه الماء.

{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }

وقوله: {فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ...}
يعنى بنى إسرائيل أنهم كانوا مجتمعين على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبْعث، فلمَّا بُعث كذَّبه بعض وآمن به بعض. فذلك اختلافهم. و(العلم) يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم وصفته.

{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }

وقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ...}
قاله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه غير شاكّ، ولم يشكك عليه السلام فلم يسأل. ومثله فى العربية أنك تقول لغلامك الذى لا يشكّ فى مُلكك إياه: إن كنت عبدى فاسمع وأطع. وقال الله تبارك وتعالى لنبيه عيسى صلى الله عليه وسلم {أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله} وهو يعلم أنه لم يقله، فقال الموفَّق معتذرا بأحسن العذر: (إن كنت قلتُه فقد علمته تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك).
المعاني الواردة في آيات سورة ( يونس )
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }

وقوله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا...}
وهى فى قراءة أُبَىّ (فهلاَّ) ومعناها: أنهم لم يؤمنوا، ثم استثنى قوم يونس بالنصب على الانقطاع مما قبله: ألا ترى أن ما بعد (إلاَّ) فى الجحد يتبع ما قبلها، فتقول: ما قام أحد إلا أبوك، وهل قام أحد إلا أبوك؛ لأن الأب من الأحد؛ فإذا قلت: ما فيها أحد إلا كلبا وحمارا، نصبت؛ لأنها منقطعة ممّا قبلَ إلا؛ إذْ لم تكن من جنسه، كذلك كان قوم يونس منقطعين من قوم غيره من الأنبياء. ولو كان الاستثناء ها هنا وقع على طائفة منهم لكان رفعا. وقد يجوز الرفع فيها، كما أن المختلِف فى الجنس قد يتبع فيه ما بعد إلا ما قبل إلا؛ كما قال الشاعر:
وبلدٍ ليس به أنيسُ * إلا اليعافير وإلا العيسُ

وهذا قوة للرفع، والنصب فى قوله: {ما لهم به من علم إلا اتِّباعَ الظنِّ}. لأن اتباع الظن لا ينسب إلى العلم. وأنشدونا بيت النابغة:
*... ... وما بالربع من أحد *
* إلا أَوارىَّ ما إن لا أُبَيِّنها *
قال الفراء: جمع فى هذا البيت بين ثلاثة أحرف من حروف الجحد: لا، وإنْ، وما. والنصب فى هذا النوع المختلف من كلام أهل الحجاز، والإتباع من كلام تميم.

{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }

وقوله: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ...}
العذاب والغضب. وهو مضارع لقوله الرجز، ولعلهما لغتان بدّلت السين زايا كما قيل الأَسْد والأزد.

المعاني الواردة في آيات

سورة ( هود )
{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ }

قوله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ...}.
رَفَعتَ الكتاب بالهجاء الذى قبله، كأنك قلت: حروف الهجاء هذا القرآن. وإن شئت أضمرت له ما يرفعه؛ كأنك قلت: الر هذا الكتاب.
وقوله {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالحلال والحرام. والأمر والنهى. لذلك جاء قوله {ألاّ تعبدوا...}.
ثم قال {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ...}
أى فُصِّلت آياته ألاَّ تعبدوا وأن استغفرا. فأنْ فى موضع نصب بإلقائك الخافضَ.

{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

وقوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ...}
نزلت فى بعض مَن كان يَلْقَى النبىَّ صلى الله عليه وسلم بما يُحبُّ، وينطوى له على العداوة والبغض. فذلك الثَنْى هو الإخفاء. وقال الله تبارك وتعالى {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ الله} ما يُخْفُون من عداوة محمَّد صَلَّي الله عليه وسلم.
(حدّثنا محمد قال) حدّثنا الفرّاء قال: وحدَّثنى الثقة عبدالله بن المبارك عن ابن جُرَيج رجل أظنّه عطاء عن ابن عبَّاس أَنه قرأ (تَثْنَونى صُدُورُهُمْ) وهو فى العربيَّة بمنزلة تَنْثَنى كما قال عنترة:
وقولكَ للشىء الذى لا تناله * إذا ما هو احلولى أَلا ليت ذاليا
وهو من الفعل: افعوعلت.
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

وقوله: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا...}
فمستقرُّها: حيث تأوى ليلا أو نهاراً. ومستودَعها: موضعها الذى تموت فيه أو تُدفن.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }

وقوله: {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ...}

(وسِحْر مبين). فمن قال: (سَاحِرٌ مُبِينٌ) ذهب إلا النبىّ صلى الله عليه وسلم من قولهم. ومَنْ قال: (سِحْرٌ) ذهب إلى الكلام.
(حدَّثنا محمد قال) حدّثنا الفرَّاء قال: وحدَّثنى أبو اسرائيل عن الأعمش عن أبى رَزِين عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ فى ثلاثة مواضع ساحر: فى آخر المائدة وفى يونس وفى الصفّ.
قال الفراء: ولم يذكر الذى فى هود. وكان يحيى بن وثّاب يقرأ فى أربعة مواضع ويجعل هذا رابعاً يعنى فى هود.
{ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }

وقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ...}
فى موضع نصب بالاستثناء من قوله: {ولَئِنْ أَذَقنَاهُ} يعنى الإنسان ثم استثنى من الإنسان لأنه فى معنى الناس، كما قال تبارك وتعالى: {وَالعَصْرِ إنَّ الإنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} فاستثنى كثيراً من لفظِ واحدٍ؛ لأنه تأويل جِمَاع.
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }

وقوله - عزَّ وجلَّ -: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ...}.
يقول: يضيق صدرك بما نوحيه إليك فلا تُلقيه إليهم مخافة أن يقولوا: لولا أنزل عليك كنز. فأَن فى قوله: {أَنْ يَقُولوا} دليل على ذلك. وهى بمنزلة قوله: {يُبَيَّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} و(مِن) تَحسنَ فيها ثم تُلقَى، فتكون فى موضع نصب؛ كما قال - عز وجل: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فىِ آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الَموْتِ} أَلا ترى أن (مِنْ) تحسن فى الحَذَر، فإذا أُلقِيت انتصب بالفعل لا بإلقاء (من) كقول الشاعر:

وأَغفرُ عوراء الكريم اصطناعَه * وأُعرِض عن ذات الّلئيم تَكَرُّماً

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ اله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ }

وقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ...} ثم قال جلَّ ذكره: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ...}
ولم يقل: لك وقد قال فى أوَّل الكلام (قُلْ) ولم يقل: قولوا وهو بمنزلة قوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}.

{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ }

وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا...}
ثم قال: (نُوَفِّ) لأن المعنى فيها بعد كانَ. وكان قد يبطل فى المعنى؛ لأن القائِل يقول: إن كنت تعطينى سألتك، فيكون كقولك: إن أعطيتنى سألتك. وأكثر ما يأتى الجزاء على أن يتَّفق هو وجوابه. فإن قلت: إن تفعل أْفعل فهذا حَسَن. وإن قلت: إن فعلتَ أفعلْ كان مستجازاً. والكلام إن فعلتَ فعلتُ. وقد قال فى إجازته زُهَير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلْنَه * ولو نال أسباب السمّاء بسُلّم
وقوله: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} يقول: من أراد بعمله من أهل القِبلة ثواب الدنيا عُجِّل له ثوابُه ولم يُبْخَس أى لم يُنْقَص فى الدنيا.

{ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ...}
(فالذى على البيّنة من ربّه محمد صلى الله عليه وسلم. ويتلوه شاهد منه) يعنى جِبرِيل عليه السلام يتلو القرآن، الهاء للقرآن. وتَبيَان ذلك: ويتلو القرآن شاهد من الله {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} رفعتَ الكتاب بِمِن. ولو نصبت على: ويتلو من قبله كتابَ موسى (إمَاماً) منصوب على القطع من (كتاب موسى) فى الوجهين. وقد قيل فى قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}: يعنى الإنجيل يتلو القرآن، وإن كان قد أُنزل قبله. يذهب إلى أنه يتلوه بالتصديق. ثم قال: ومن قَبْلِ الإنجيل كتاب موسى.
ولم يأت لقوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} جوابٌ بيّن؛ كقوله فى سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} وربما تركت العرب جواب الشىء المعروف معناه وإن تُرِك الجواب؛ قال الشاعر:
فأُقسم لو شَىْ أتانا رَسولُه * سِوَاك ولكن لم نجد لكَ مَدْفَعا

وقال الله - تبارك وتعالى وهو أصدق من قول الشاعر -: {وَلَوْ أَنُّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطَّعَتْ بِهِ الأرْضُ} فلم يؤت له بجواب والله أعلم. وقد يفسّره بعض النحويّين يعنى أن جوابه: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ وَلَوْ أَنَّ قرآناً) والأوَّل أشبه بالصواب. ومثله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ} {وَلَوْ تَرَى الذِينَ ظَلَمُوا} وقولُه فى الزمر: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجداً وقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ولم يؤت له بجواب. وكفى قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} من ذلك. فهذا مِمَّا تُرك جوابه، وكَفَى منه ما بعده، كذلك قال فى هود: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} ولم يقل: هل يستوون. وذلك أَن الأَعمى والأصمَّ من صفةِ واحدٍ والبصير والسَّميع من صفة واحدٍ كقول القائل: مررت بالعاقل واللبيب وهو يعنى واحداً. وقال الشاعر:
وما أدرى إذا يمَّمت وجهاً * أريد الخير أيُّهما يلينى
أألخير الذى أنا أَبتغيه * أم الشر الذى لا يأتلينى
قال: أيّهما وإنما ذكر الخير وحده؛ لأن المعنى يُعْرف: أن المبتغى للخير مُتّق للشرّ وكذلك قول الله جل ذكره: {سَرَابِيلَ تَقِيكُم الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [أى] وتقى البرد. وهو كذلك وإن لم يُذكر.
وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} فيقال: مِن أصناف الكفّار. ويقال: إن كلَّ كافر حِزْب.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ أُولَائِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ }

وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ...}
ثم رءوس الكَفَرة الذين يُضلّون. وقوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} على وجهين. فسَّره بعض المفسّرين: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السَّمع ولا يفعلون. فالباء حينئذ كان ينبغى لها أن تدخل، لأنه قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} فى غير موضع من التنزيل أدخلت فيه الباء، وسقوطها جائز كقولك فى الكلام: بأَحسن ما كانوا يعملون وأحسنَ ما كانوا يعملون. وتقول فى الكلام: لأجزينَّك بما عملت، وما عملت. ويقال: ما كانوا يستطيعون السَّمع وما كانوا يبصرون: أَى أضلَّهم الله عن ذلك فى اللوح المحفوظ.

{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ }

وقوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ...}
كلمة كانت فى الأصل بمنزلة لا بُدَّ أنّك قائم ولا محالة أَنّك ذاهب، فجرت على ذلك، وكثراستعمالهم إيَّاها، حتَّى صَارت بمنزلة حقّا؛ ألا ترى أَن العرب تقول: لا جَرَم لآتينك، لا جرم قد أحسنتَ. وكذلك فسّرها المفسّرون بمعنى الحقِّ. وأصلها من جَرَمت أى كسبت الذنب وجَرَّمته. وليس قول من قال إنّ جَرَمت كقولك: حَقُقت أو حُقِقت بشىء وإنما لَبَّسَ على قائله قول الشاعر:
ولقد طَعْنتُ أَبا عُيَيْنة طعنةً * جَرَمت فزارةُ بعدها أن تغضبا
فرفعوا (فَزارة) قالوا: نجعل الفعل لفزارة كأنه بمنزلة حُقَّ لها أو حقَّ لها أن تغضب وفَزارة منصوبة فى قول الفراء أى جَرَمَتهم الطعنةُ أن يغضبوا.
ولكثرتها فى الكلام حُذفت منها الميم فبنو فزارة يقولون: لا جَرَ أَنك قائم. وتوصل من أوّلها بذا، أنشدنى بعض بنى كلاب:
إن كلاباً والدِى لاذا جَرَمْ * لأَهْدِرَنَّ اليوم هدراً صادقا
* هدر المعنَّى ذى الشقاشيق اللهِم *
وموضع أَنْ مرفوع كقوله:

أحقّا عبادَ الله جُرْأةُ مُحْلِقٍ * عَلَىَّ وقد أَعييتُ عادَ وتُبَّعا

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

وقوله: {وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ...}
معناه: تَخشَّعوا لربّهم وإلى ربّهم. وربَّما جعلت العرب (إلى) فى موضع اللام. وقد قال الله عزّ وجلّ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} وقال: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا} وقال: {يَهْدِيهِمْ إِلَيْه صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} وقال: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} وقد يجوز فى العربيّة أن تقول: فلان يُخبِت إلى الله تريد: يفعل ذلك بوجهه إلىالله؛ لأن معنى الإخبات الخشوع، فيقول: يفعله بوجهه إلى الله ولله. وجاء التفسير: وأَخبتوا فَرَقا من الله فمِن يشاكل معنى اللام ومعنى إلَى إذا أردت به لمكان هذا ومِن أجل هذا.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }

وقوله: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا...}

رفعَتَ الأراذل بالاتِّباع وقد وقع الفعل فى أوَّل الكلام على اسمه. ولا تكاد العرب تجعل المردود بإلاَّ إلا عَلَى المبتدأ لا على راجِع ذكره. وهو جائز. فمن البيّن الذى لا نظر فيه أن تقول: ما قام أحد إلاّ زيد. وإن قلت: ما أحد قام إلا زيد فرفعت زيداً بما عاد فى فعل أحد فهو قليل وهو جائز. وإنما بَعُد على المبتدأ لأنه كناية، والكناية لا يُفرق فيها بين أحدٍ وبين عبدالله، فلمَّا قبح أن تقول: ما قام هو إلاّ زيد، وحسن: ما قام أحد إلا زيد تبيَّن ذلك لأن أحداً كأنّه ليسَ فى الكلام فحسُن الردّ على الفعل. ولا يقال للمعرفة أو الكناية أَحد إذْ شاكل المعرفة كأنه ليس فى الكلام؛ ألا ترى أنك تقول ما مررت بأحد إلا بزيد (فكأنك قلت: ما مررت إلا بزيد) لأن أحداً لا يُتَصوّر فى الوهم أنه مَعْمود له. وقبيح أن تقول: ليس أحد مررت به إلاّ بزيد لأن الهاء لها صورة كصورة المعرفة، وأنت لا تقول: ما قمت إلا زيد فهذا وجه قبحه. كذلك قال: (ما نراك) ثم كأنه حذف (نراك) وقال: (ما اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا) فأبْن على هذا ما ورد عليك إن شاء الله.
{بَادِيَ الرَّأْيِ} لا تهمز (بادى) لأن المعنى فيما يظهر لنا [و] يبدوا. ولو قرأت (بادئ الرأى) فهمزت تريد أوّل الرأى لكان صوابا. انشدنى بعضهم:
أضحى لخالى شبهى بادى بدى * وصار للفحل لسانى ويدى
فلم يهمز ومثله مما تقوله العرب فى معنى ابدأ بهذا أوّل، ثم يقولون. ابدأ بهذا آثراً مّا وآثِر ذى أثِير (وأثير ذى أثير) وإثْرَ ذى أثير، وابدأ بهذا أوَّل ذاتِ يدين وأدْنَى دَنِىّ. وأنشدونا:
فقالوا ما تريد فقلت ألهو * إلى الإصباح آثِر ذى أَثِير

وقوله: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ...} مثل قوله {يأيّها النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّساَء} لأنهم كذّبوا نوحاً وحده، وخرج على جهة الجمع، وقولِه {فَإنْ لَمْ يَسْتَجيبُوا لَكُمْ} فلكم أريد بها النبىّ صلى الله عليه وسلم. وقوله: {فاعْلَمُوا} ليست للنبى صلى الله عليه وسلم. إنما هى لكفّار مكّة ألا ترى أَنه قال {فَهَلْ أَنْتُم مُسْلِمونَ}.

{ قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }

وقوله: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ...}.

يعنى الرسالة. وهى نعمة ورحمة. وقوله: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} قرأها يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة. وهى فى قراءة أبَىّ (فعمَّاهَا عَلَيْكُمْ) وسمعت العرب تقول: قد عُمِّىَ علىَّ الخَبَر وعَمِىَ علىَّ بمعنى واحد. وهذا ممّا حوّلت العرب الفعل إليه وليس له، وهو فى الأصل لغيره؛ ألا ترى أن الرجل الذى يَعْمَى عن الخبر أو يُعَمَّى عنه، ولكنّه فى جوازه مثل قول العرب: دخل الخاتمُ فى يدى والخُفّ فى رِجْلى، وأنت تعلم أن الرِجل التى تُدخل فى الخفّ والأصبع فى الخاتم. قاستخفّوا بذلك إِذا كان المعنى معروفاً لا يكُون لذا فى حال، ولذا فى حال؛ إنما هو لواحد. فاستجازوا ذلك لهذا. وقرأه العامَّة (فعَمِيَتْ) وقوله {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} العرب تسكّن الميم التى من اللزوم فيقولون: أَنُلْزِمْكُمُوهَا. وذلك أن الحركات قد توالت فسَكنت الميم لحركتها وحركتين بعدها وأنها مرفوعة، فلو كانت منصولة لم يُسْتَثْقَل فتخفَّفَ. إِنما يستثقلون كسرة بعدها ضمةٌ أو ضمةً بعدها كسرة أو كَسْرَتينِ متواليتين أو يُسْتَثْقَل أو ضمَّتينِ متواليتين. فأمّا الضَّمتان فقوله: {لاَ يَحْزُنْهُمْ} جزموا النون لأن قبلها ضمة فخّففت كما قال (رُسْل) فأمَّا الكسرتان فمثل قوله الإبلْ إِذا خُفّفت. وأمّا الضََّمة والكسرة فمثل قول الشاعر:
وناعٍ يُخَبِّرنا بمُهْلَك سَيّدٍ * تَقَطَّع من وجد عليه الأناملُ
وإن شئت تُقطَّع. وقوله فى الكسرتين:
* إِذا اعوجَجْن قلت صَاحِبْ قوِّمِ *
يريد صَاحبى فإنما يُستثقل الضمّ والكسر لأن لمُخرجيهما مؤونة على اللسان والشفتين تنضمّ الرَفعة بهما فيثقل الضمَّة ويمال أحد الشِّدْقين إلى الكسرة فترى ذلك ثقيلاً. والفتحة تَخرج من خَرْق الفم بلا كُلْفة.

{ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

وقوله: {وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ...}.

يقول: من يمنعنى من الله. وكذلك كلّ ما كان فى القرآن منه فالنصر على جهة المنع.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ }

وقوله: {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي...}.
يقول: فعلَىَّ إثمى. وجاء فى التفسير فعلَيَّ آثامى، فلو قرئت: أجرامى على التفسير كان صواباً. وأنشدنى أبو الجراح:
لا تجعلونى كذوى الأجرام * الدَّهْمَسِيَّيْنِ ذوِى ضِرغام
فجمع الجُرْم أجراماً. ومثل ذلك {واللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} و (أَسْراَرهم) وقد قرئ بهما. ومنه {وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبِّحْهُ وإِدْبَارَ السُّجُودِ} و (أَدْبَارَ السُّجُودِ) فمن قال: (إِدْبَارَ) أراد المصدر. ومن قال (أسرار) أراد جمع السِّر.

{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }

وقوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ...}
يقول: (لا تستَكِنْ ولا تحزن).

{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ }

وقوله: {بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا...}
كقوله {ارْجِعُونِ} يخرج على الجمع ومعناه واحد على ما فسَّرت لك من قوله {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ} لنوح وحده، و {عَلَي خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }

وقوله: {وَفَارَ التَّنُّورُ...}

هو تنُّور الخابز: إِذا فار الماء من أحَرّ مكان فى دارك فهى آيْة العذاب فأسر بأهلك. وقوله {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} والذكر والأنثى من كل نوع زوجان. وقوله {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} حَمَلَ معه امرأة له سوى التى هلكت، وثلاثةَ بنينَ ونسوتهم، وثمانين إِنسانا سوى ذلك. فذلك قوله {وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} و (الثمانون) هو القليل.

{ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ...}
{إن شئت جَعلت مَجْرها ومَرْساها} فى موضع رَفع بالياءِ؛ كما تقول: إِجراؤهَا وإرساؤهَا بسم الله وبأمر الله. وإن شئت جعلت (بسم الله) ابتداء مكتفِياً بنفسه، كقول القائِل عند الذبيحة أو عند ابتداء المأكل وشبهه: بسم الله ويكون (مجريها ومرسيها) فى موضع نصب يريد بسم الله فى مجراها وفى مرساها. وسَمعت العرب تقول: الحمد لله سِرَارَك وإِهلالك، وسُمع منهم الحمد لله ما إِهلالَك إِلى سرارك يريدون ما بين إهلالك إِلى سرارك.

والمجرى والمرسى ترفع ميميهما قرأ بذلك إِبراهيم النَخَعىّ والحسن وأهل المدينة. حدَّثنا محمد قال: حدَّثنا الفراء قال: حَدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صُبَيح عن مسروق أنه قرأها (مَجْراها) بفتح الميم و(مُرسها) بضم الميم. قال: وحدّثنا الفراء قال حدثنا أبو معاوية وغيره عن الأعمش عن رجل قد سمّاه عن عَرْفَجَة أَنه سمع عبدالله بن مسعود قرأها (مجراها) بفتح الميم ورفع الميم من مرسيها. وقرأ مجاهد (مُجْرِيها ومُرسِيها) يجعله من صفات الله عزّ وجلّ، فيكون فى مَوْضع خِفض فى الإعراب لأنه معرفة. ويكون نصباً لأن مثله قد يكون نكرة لحسن الألف واللام فيهمَا؛ ألا ترى أنك تقول فى الكلام: بسم الله المجريها والمرسِيها. فإذا نزعت منه الألف واللام نصبته. ويدلّك عَلى نكرته قوله: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} وقوله: {فَلَمّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} فأضافوهُ إِلى مَعرفة، وجعلوه نعتاً لنكرة. وقال الشاعر:
يا رُبَّ عابِطنا لو كان يأْمُلكم * لا قى مباعدةً منكم وحرمانا
وقول الاخر:
وَيا رب هاجى مِنْقَرٍ يبتغى به * ليَكْرُم لمّا أعوزته المكارمُ
وسمع الكسائىّ أعرابيّا يقول بعد الفطر: رُبّ صائمه لن يصومه وقائمه لن يقومه.
{ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ }

وقوله: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ...}
(قَالَ) نوح عليه السلام {لاَعَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمرِ الله إلاَّ مَنْ رَحِمَ} فمَنْ فى موضع نصب؛ لأن المعصوم خلاف للعاصم والمرحوم معصوم. فكأنه نصبه بمنزلة قوله {مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتّباع الظَّنِّ} ومَن اسْتجاز رفع الاتباع أو الرفعَ فى قوله:

وبلدٍ ليس به أنيسُ * إلاَّ اليَعَافِيرُ وَإِلاَّ العِيسُ
لم يَجُزله الرفع فى (مَن) لأن الذى قال: (إلاّ اليعافيرُ) جعل أنيس البَرّ اليعافِير والوحوش، وكذلك قوله {إلاَّ اتِّبَاع الظَّنِّ} يقول: علِمهم ظنّ وأنت لا يجوز لك فى وجه أن تقول: المعصوم عاصم. ولكن لو جَعلت العاصم فى تأويل معصوم كأنك قلت: لا معصوم اليوم من أمر الله لجاز رفع (مَن) ولا تنكرنّ أن يخرج المفعول على فاعل؛ ألا ترى قوله {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} فمعناه والله أعلم: مدفوق وقوله {فىِ عِيِشَةٍ رَاضِيَةٍ} معناها مرضيَّة، وقال الشاعر:
دعِ المكارمَ لا ترحل لِبُغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
معناه المكسوّ. تستدلّ على ذلك أنك تقول: رضيتُ هذه المعيشةَ ولا تقول: رَضِيَتْ ودُفِق الماء ولا تقول: دَفَق، وتقول كُسِى العريان ولا تقول: كسا. ويقرأ (إلاّ من رُحِم) أيضاً. ولو قيل لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رُحِم كأنَّك قلت: لا يعصم اللهُ اليوم إلاّ من رُحِم ولم نسمع أحداً قرأ به.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ...}
وهو جبل بحضَنَين من أرض الموْصِل ياؤْه مشدّدة وقد حدِّثت أنَّ بعض القراء قرأ (عَلَى الجُودِى) بإرسال الياء. فإن تكن صحيحة فهى مما كثر به الكلام عند أهله فخفّف، أو يكون قد سمّى بفعلِ أنثى مثل حُطىِّ وأصِرّى وصَرِّى، ثم أُدخلت الألف واللام. أنشدنى بعضهم - وهو المفضّل -:
وكفرتَ قوماً هُمْ هَدَوكَ لأقدِمى * إِذا زَجْر أبيكَ سَأْسَاْ واربُق
وأنشدنى بعض بنى أَسَد:
لمّا رأيت أنها فى حُطّى * وفَتكتْ فى كذبى ولَطِّى

والعرب إذا جعلت مثل حُطّى وأشباهه اسماً فأرادوا أن يغيِّروه عن مذهب الفعل حوّلوا الياء ألِفا فقالوا: حُطَّا، أصِرَّا، وصِرَّا. وكذلك ما كان من أسْماء العجم آخره ياء؛ مثل ماهى وشاهى وشُنىِّ حوَّلوه إلى ألف فقالوا: ماها وشاها وشنَّا. وأنشدنا بعضهم:
أتانا حِمَاسٌ بابن ماها يسوقه * لِتُبْغِيه خيراً وليْسَ بفاعل
{وَحَال بَيْنَهُمَا المَوْجُ} أى حال بين ابن نوح وبين الجَبل الماءُ.
وقوله: {ياأَرْضُ ابْلَعِي} يقال بَلِعَتْ وبَلَعَتْ.

{ قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }

وقوله: {يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ...}
الذى و-- أنجيهم ثم قال عزّ وجلّ: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (وعامّةَ القراء عليه) حدَّثنا محمد قال حدثنا الفراء قال: وحدّثنى حِبَّان عن الكلمىّ عن أبى صَالح عن ابن عباس بذلك يقول: سؤالك إيّاى ما ليس لك به علم عمل غير صَالح. وعامَّةُ القراء عليه. (حدثنا الفرّاء) قال: وحدثنى أبو اسحق الشيبانىّ قال حدثنى أبو رَوق عن محمد بن حُجَادة عن أبيه عن عائشة قالت سَمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ (إنه عَمِلَ غَيْرَ صالحٍ) (حدثنا الفراء) قال وحدثنى ابن أبى يحيى عن رجل قد سمَّاه قال، لا أراه إلا ثابتاً البنانىّ عن شَهْر بن حَوْشب عن أمّ سَلَمة قالت: قلت يا رسول الله: كيف أقرؤها؟ قال (إنه عملَ غَيْرَ صَالحٍ)

وقوله: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ويقرأ: تسأَلَنىِّ بإثبات اليَاء وتشديد النون ويجوز أن تُقرأ (فَلاَ تَسْأَلَنَّ مَا لَيْسَ) بنصب النون، ولا توقعها إلاَّ على (ما) وليس فيها ياء فى الكتاب والقراء قد اختلفوا فيما يكون فى آخره الياء وتُحذف فى الكتاب: فبعضهم يُثبتها، وبعضهم يُلقيها من ذلك (أَكْرَمَنِ) و (أهانَنِ) (فَمَا آتانِ اللّهُ) وهو كثير فى القرآن.

{ قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ...}
يعنى ذُرَيَّةَ من معه من أهل السعادة. ثم قال: (وَأُمَمٌ) من أهل الشقاء (سَنُمَتِّعُهُمْ) ولو كانت (وَأُمَمًاً سَنُمَتِّعْهُمْ) نصباً لجاز توقع عليهم (سَنُمتِّعهم) كما قال {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَ عَلَيْهمُ الضَّلاَلةُ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }

وقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ...}
يصلح مكانها (ذَلِكَ) مثل قوله {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} والعرب تفعل هذا فى مصادر الفعل إذا لم يذكر مثل قولك: قد قَدِم فلان، فيقول الآخر: قد فرحت بها وبه. فمَن أنَّث ذَهب بها إلى القَدْمة، ومن ذكّر ذهب إلى القدوم. وهو مثل قوله { ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وآمَنُوا}.
وقوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ} يقول: لم يكن عِلْمُ نوح والأمَمِ بعده من علمك ولا عِلم قَومك {مِنْ قبْلِ هَذَا} يعنى القرآن.

{ وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ }

وقوله: {يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً...}
يقول: يجعلها تَدِرُّ عليكم عند الحاجة إلى المطر، لا أن تَدِرّ ليلا ونهاراً. وقوله {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ذكروا أنه كان انقطع عنهم الولدُ ثلاث سنين. وقال (قُوَّةً) لأن الولد والمال قوة.

{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }

وقوله: {إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ...}
كذَّبوه ثم جعلوه مختلِطا وادَّعَوْا أنّ آلهتهم هى التى خبلته لعيبه آلهتهم. فهنالك قال: إنى أُشهد الله وأُشهدكم أنى برىء منها.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }

وقوله:{وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً...}
رُفِع: لأنه جاء بعد الفاء. ولو جْزم كان كما قال {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَيَذرْهُمْ} كان صواباً. وفى قراءة عبدالله (وَلاَ تَنْقُضُوهُ) جزما. ومعنى لا تضرّوه يقول: هلاككم إذا أهلككم لا ينقصه شيئاً.
و (عادٌ) مُجْرًى فى كل القرآن لم يُختلَف فيه. وقد يترك إجراؤه، يُجعل اسماً للأُمَّة التى هو منها، كما قال الشاعر:
أحقّا عبادَ الله جُرْأة مُحْلِقٍ * علىَّ وقد أعييتُ عَادَ وتُبَّعا
وسمع الكسائىُّ بعض العرب يقول: إن عادَ وتَبَّعَ أَمَّتان.

{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }

وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً...}
نصبْت صالحاً وهوداً وما كان على هذا اللفظ بإضمار (أرسلنا).
وقد اختلف القراء فى (ثَمُود) فمنهم من أجْراه فى كلّ حال. ومنهم من لم يُجْرِه فى حال. حدَّثنا محمد قال: حدثنا الفراء قال: حدّثنى قيس عن أبى إسحق عن عبدالرحمن بن الأسود بن يزيد النَخَمِىّ عن أبيه أنه كان لا يُجرى (ثمود) فى شىء من القرآن (فقرأ بذلك حمزة) ومنهم من أجرى (ثمود) فى النصب لأنها مكتوبة بالألف فى كل القرآن إلا فى موضع واحد {وآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} فأخذ بذلك الكسائىّ فأجراها فى النصب ولم يُجرها فى الخفض ولا فى الرفع إلاَّ فى حرف واحد: قولِه {أَلا إن ثَمُوداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لثمودٍ} فسألوه عن ذلك فقال: قرئت فى الخفض من الْمُجْرَى وقبيح أن يجتمع الحرف مرتين فى موضعين ثم يَختلف، فأجريته لقربه منه.

{ قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ }

وقوله: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ...}
يقول: فما تزيدوننى غير تخسير لكم وتضليل لكم، أى كُلَّما اعتذرتم بشىء هو يزيدكم تخسيراً. وليس غير تخسير لى أنا. وهو كقولك للرجل ما تزيدنى إلاَّ غضباً أى غضباً عليك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ }

وقوله: {كَفرُواْ رَبَّهُمْ...}

جاء فى التفسير: كفروا نعمة ربهم. والعرب تقول: كفرتك. وكفرت بك، وشكرتك وشكرت بك وشكرت لك. وقال الكسائىّ: سمعت العرب تقول: شكرت بالله كقولهم: كفرت بالله.

{ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }

وقوله: {سَلاَماً قَالَ سِلْمُ...}
قرأها يحيى ابن وَثَّاب وإبراهيم النَخَعِىَّ. وذُكر عن النبى صلى الله عليْه وسلم أنه قرأ بهَا. وهو فى المعنى سلام كما قالوا حِلّ وحَلاَل، وحِرْم وحَرَام لأن التفسير جاء: سَلَّمُوا علْيه فردَّ عليهم. فترى أن معنى سِلْم وسلام واحد والله أعلم. وأنشدنى بعض العرب:
مررنا فقلنا إيه سِلْم فسلَّمت * كما اكتلَّ بالبرق الغمامُ اللوائح
فهذا دليل على أنهم سَلَّموا فرَدَّت عليهم. وقرأه العامَّة (قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ) نصَب الأول ورَفَع الثانى. ولو كانا جميعاً رفعاً ونصباً كان صواباً. فمن رَفع أضمر (عليكم) وإن لم يظهرها كما قال الشاعر:
فقلنا السلامُ فاتَّقت من أميرها * فما كان إلاَّ وَمْؤها بالحواجب
والعرب تقول: التقينا فقلنَا: سَلامٌ سلام. وحُجَّة أخرى فى رفعه الآخر أن القوم سَلَّموا، فقال حين أنكرهم: هو سلام إن شاء الله فمن أنتم لإنكاره إيَّاهم. وهو وجه حسن. ويقال فى هذا المعنى: نحن سِلْم لأن التسليم لا يكون من قومٍ عَدُوًّ. وقوله: {فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أن فى موضع نصب توقع (لبِث) عليها، كأنّك قلت: فما أبطأ عن مجيئه بعجل: فلمَّا ألقيت الصفة وقع الفعل عَليها. وقد تكون رفعاً تجعل لبِث فعلا لأنْ كأنك قلت فما أبطأ مجيئُه بعجلٍ حنِيذ: والحنيذ: ما حَفَرْت له فى الأرض ثم غممته. وهو من فعل أهل البادية معروف. وهو محنوذ فى الأصل فقيل: حَنِيذ، كما قيل: طَبيخ للمطبوخ، وقتيل للمقتول.

{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ }

وقوله: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ... }
أى إلى الطعام. وذلك أَنها كانت سُنَّة فى زمانهم إذا ورد عليهم القوم فأُتُوا بالطعام فلم يمَسّوه ظنّوا أَنهم عَدُوٌّ أو لصوص. فهناك أوجس فى نفسه خِيفة فرأَوْا ذلك فى وجهه، فقالوا: لا تخف، فضحِكت عند ذلك امرأتُه وكانت قائمة وهو قاعد (وكذلك هى فى قراءة عبدالله: وامرأته قائِمة وهو قاعد) مثبتة فضحكت فبشرت بعد الضحك. وإنما ضحكت سروراً بالأمن فأتبعوها البشرى بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب. وقد يقول بعض المفسِّرين: هذا مقدّم ومؤخَّر. والمعنى فيه: فبشَّرْناها بإسحاق فضحكت بعد البشارة وهو ممَّا قد يَحتمله الكلام والله أعلم بصوابه. وأما قوله (فضحِكتْ): حاضت فلم نسمعه من ثقة وقوله (يَعقُوب) يرفع وينصب وكان حمزة ينوى به الخفض يريد: (ومن وراء إسحاق بيعقوب). ولا يجوز الخفض إلاّ بإظهار الباء. ويعقوب ها هنا ولد الولد والنصب فى يعقوب بمنزلة قول الشاعر:
جئنى بمثل بنى بدر لقومهم * أو مثلَ أُسرة منظور بن سَيَّار
أو عامرَ بن طُفَيل فى مُرَكَّبِه * أو حارثا يوم نادى القومُ يا حارِ
وأنشدنى بعض بنى باهلة:
لو جيتَ بالخُبز له مُيَسِّرا * والبيضَ مطبوخاً معاً والسُّكَّرا
* لم يُرضه ذلك حتى يسكرا *
فنصب على قولك: وجِئتَ بالسكَّر، فلمَّا لم يُظهر الفعل مع الواو نصب كما تأمر الرجل بالمرور عَلى أخيه فتقول: أخاك أخاك تريد: امْرُرْ به.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَاذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ }

وقوله: {يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِي شَيْخاً...}

وفى قراءة عبدالله (شَيْخٌ) فذكروا أَنها كانت بنت ثمان وتسعين سنة، وكان عليه السَّلام أكبر منها بسنة. ويقال فى قوله {رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} البركات: السعادة.

{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ }

وَقوله: { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ...}
ولم يقل: جادلنا. ومثله فى الكلام لا يأتى إلاَّ بفعل ماض كقولك. فلمّا أتانى أتيته. وقد يجوز فلمَّا أتانى أَثِبُ عليه كأنه قال: أقبلت أَثِب عَلَيْهِ. وجداله إيَّاهم أنه حين ذهبَ عنه الخوف قال: ما خَطْبُكم أيُّها المرسلون، فلمَّا أخبروه أَنهم يريدون قوم لوط قال: أتُهلكونَ قوماً فيهم لوط قالوا: نحنُ أعلم بمن فيها.

{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ }

وقوله: {أَوَّاهٌ...}
دعَّاء ويقال: هو الذى يتأوَّه من الذنوب. فإذا كانت مِنْ يتأوَّه من الذنوب فهى من أوِّهْ له وهى لغة فى بنى عامر أنشدنى أبو الجراح:
فأوِّهْ من الذكرى إذا ما ذكرتها * ومن بُعد أرض بيننا وسَمَاءِ
أوِّهْ على فَعِّل يقول فى يَفْعَل: يتأَوَّه. ويجوز فى الكلام لمن قال: أوَّهْ مقصوراً أن يقول فى يتفعَّل يتأَوَّى ولا يقولها بالهاء.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ ياقَوْمِ هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ }

وقوله: {هؤلاء بَنَاتِي...}

قال بعضهم: بَنات نفسه. ويقال: بنات قومه. وذلك جائز فى العربيّة؛ لأن الله عَزَّ وجل قال {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وهو فى بعض القراءة (وهو أب لهم) فهذا من ذلك.

{ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }

وقوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ...}
يقول: إلى عشيرة.
وقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ...}
قراءتنا من أسريت بنصب الألف وهمزِهَا. وقراءةُ أهل المدينة (فاسْرِ بأَهْلِكَ) من سَريت. وقوله: (بِقِطْعٍ) يقول: بظلمة من آخر الليل. وقوله: {إِلاَّ امْرَأَتَكَ} منصوبة بالاستثناء: فأسر بأهلك إلا امرأتَك. وقد كان الحسن يَرْفعها يعطفها على (أحد أى) لا يلتفتْ منكم أحد إلاّ امرأتك وليسَ فى قراءة عبدالله (ولا يلتفت منكم أحد) وقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
لمَّا أتَوا لوطاً أخبروه أَن قومهم هالكون من غَدٍ فى الصبح، فقال لهم لوط: الآن الآن. فقالت الملائِكة: أليس الصبح بقريب.

{ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ }

وقوله: {مِّن سِجِّيلٍ...}
يقال: من طين قد طُبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء (مَنْضُودٍ) يقول: يتلو بعضُه بعضاً عَليهم. فذلك نَضْدُه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ }

وقوله: {مُّسَوَّمَةً...}
زعموا أنها كانت مخطَّطة محمرة وسواد فى بَياض، فذلك تسويمها أى عَلامتها. ثم قال {مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} يقول: من ظالمى أمَّتك يا محمد. ويقال: ما هى من الظالمين يعنى قولم لوط أَلذى يكن تخطِئهم.

{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ }

وقوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ...}
يقول: كثيرةً أموالُكم فلا تنقصوا المكيال وأموالكم كثيرة يقال رخيصةً أسعارُكم (ويقال): مدَّهِنين حَسنةً سَحْنتكم.

{ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }

وقوله: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ...}
يقول: ما أبقى لكم من الحلال خير لكم. ويقال بقيَّة الله خير لكم أى مراقبة الله خير لكم.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ }

وقوله: {أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ...}
ويقرأ {أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤَنَا أَوْ أَنْ نفْعَلَ} معناه: أَوْ تأمرك أن نَترك أَن تَفعل {فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} فأَنْ مردودة على (نَتْرك).

وفيها وجه آخر تجعل الأمر كالنهى كأنه قال: أصلواتك تأمرك بذا وتنهانا عن ذا. وهى حينئذ مردودة عَلى (أَن) الأولى لا إضمار فيه كأنك قلت: تنهانا أن نَفعل فى أموالنا ما نشاء؛ كما تقول: أضرِبُك أَن تُسِيىء كأنه قال: أنهاك بالضرب عن الإساءة. وتقرأ (أَوْ أَنْ نَفْعلَ فىِ أمْوالِنَا ما تَشاء) و (نَشَاءُ) جميعاً.
وقوله: {إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} استهزاء منهم به.

{ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ }

وقوله: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي...}
يقول: لا تحملنكم عداوتى أَن يُصيبكم. وقد يكون: لا يكسبنكم. وقوله {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} يقول: إنما هلكُوا بالأمس قريباً. ويقال: إن دراهم منكم قريبة وقريب.

{ قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }

وقوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً...}:
رميتم بأمر الله وراء ظهوركم؛ كما تقول: تعظّمون أمر رهطى وتتركون أن تعظّموا الله وتخافوه.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ }

وقوله: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ...}

(مَن) فى موضع رفع إذا جعلتها استفهاماً. ترفعها بعائِد ذكرها. وكذلك قوله (وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ) وإنما أدخلت العرب (هو) فى قوله (وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ) لأنهم لا يقولونَ: مَن قائِمٌ ولا مَن قاعد، إنما كلامهم: من يقوم ومن قامَ أو من القائِم، فلمَّا لم يقولوهُ لمعرفة أو لِفَعَل أو يفعل أَدخلوا هو مع قائِم ليكونا جَميعاً فى مقام فَعَل ويفعل؛ لأنهما يقومان مقام اثينين. وقد يجوز فى الشعر وأشباهه مَنْ قائِم قال الشاعر:
مَنْ شارب مُرْبِح بالكَأس نادمَنى * لا بالحَصُورِ ولا فيها بسوَّار
وربما تهَيبت العرب أن يستقبلوا مَنْ بنكرة فيخفضونها فيقولون: مِنْ رجلٍ يتصدَّق فيخفضونه على تأويل: هَل مِن رجل يتصدّق. وقد أنشدونا هذا البيت خَفْضاً ورفعاً:
مَِن رسولٌٍ إلى الثريّا تأنى * ضِقت ذرعاً بهجرهَا والكتابِ
وإن جعلتهما مَن ومِن فى موضع (الذى) نصبت كقوله {يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ} وكقوله {وَلَمَّا يَعْلمِ اللّهُ الذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.

{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ }

وقوله: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ...}
فالحَصيدُ كالزرع المحصُود. ويقال: حَصَدهم بالسَّيف كما يُحصد الزرع.

{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }

وقوله: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ...}
كتب بغير الياء وهو فى موضع رفع، فإن أثبتَّ فيه اليَاء إذا وصلت القراءة كان صَواباً. وإن حذفتها فى القطع والوصل كان صَوَابا. قد قرأ بذلك القرّاء فمَر حَذفها. إذا وصل قال: اليَاء ساكنة، وكلّ ياء أو واو تسكُنان وما قبل الواو مضموم وما قبل الياء مكسور فإن العرب تحذفهما وتجتزئ بالضمة من الواو، وبالكسرة من الياء وأنشد فى بعضُهم:

كفّاك كفّ ما تُليق دِرهماً * جُوداً وأخرى تُعطِ بالسيف الدَمَا
ومَن وصل باليَاء وسكتَ بحذفها قال: هِىَ إذا وَصلتُ فى موضع رفع فأُثبتها وهى إذا سَكتُّ عليها تسكن فحذفتُها. كما قيل: لم يَرْم ولم يَقْض. ومثله قوله: {ما كُنَّا نَبْغِ} كُتبت بحذف الياء فالوجه فيهَا أن تثبت الياء إذا وصَلْت وتحذفَها إذا وقفْتَ. والوجه الآخر أن تحذفها فى القطع والوصل، قرأَ بذلك حمزة. وهو جائز.
المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ }

وقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ...}
فالزفير أوَّل نهِيق الحمار وشبهِه، والشهِيق من آخره.

{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }

وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ...، }

يقول القائل: ما هَذا الاسْتثناء وقد وعد الله أَهْل النار الخلود وأهلَ الجنّة الخلود؟ ففى ذلك مضيان أحدهما أن تجعله استثناء يَسْتثنيه وَلاَ يفعله؛ كقولك: والله لأضربنّكَ إلاّ أن أرى غير ذلك، وعزيمتُك على ضَربه، فكذلك قال {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} ولا يشاؤه والله أعلم، والقول الآخر أن العرب إذا استثنت شيئاً كبيراً مع مثله أو مع ما هو أكبر منه كان مَعْنى إلاَّ ومعنى الواو سواء، فمن ذلك قوله {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ} سِوَى ما يشاء من زيادة الخلود فيجعل (إلاَّ) مكان (سِوَى) فيصلح. وكأنّه قال: خالدين فيها مقدار ما كانت السَّموات وكانت الأرض سوى ما زادهم من الخلود (و) الأبد. ومثله فى الكلام أن تقول: لى عَليكَ ألف إلاَّ الألفين اللذين من قِبَل فلان؛ أفلا ترى أَنه فى المعنى: لى عَليكَ سوى الألفين. وهذا أحَبّ الوجهين إليَّ، لأنَّ الله عزّ وجل لا خُلْف لوعده، فقد وصل الاستثناء بقوله {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} فاسْتدل عَلى أَن الاستثناء لهم بالخلود غير منقطِع عنهم.

{ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

وقوله: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ...}

قرأت القراء بتشديد (لَمَّا) وتخفيفِها وتشديد إن وتخفيفها، فمنْ قال {وَإنَّ كُلاَّ لَمَا} جعل (ما) اسماً للناس كما قال {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ثم جَعَل اللام التى فيها جَواباً لإنّ، وجَعَل اللام الَّتى فى (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لا ما دخلت عَلى نيّة يمين فيهَا: فيما بين ما وصلتها؛ كما تقول هذا مَن لَيذهبنَّ، وعندى ما لَغَيْرُهُ خير منه. ومثله {وإنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ ليُبَطِّئَن} وأَمّا مَنِ شدّد (لمّا) فإنه - والله أعلم - أَراد: لِمن ما لَيُوَفِّينَّهم، فلمّا اجتمعت ثلاث ميمَات حذَف واحدة فبقيت اثنتان فأدغمت فى صَاحبتها؛ كما قال الشاعر:
وإنى لَمِمَّا أُصدر الأمرَ وَجْهَهُ * إذا هو اْعيا بالسبيل مصادرُه
ثم يخفّف كما قرأ بعض القراء (وَالبَغْىِ يَعِظُكْمْ) بحذف الياء (عند الياء) أنشدنى الكسائىّ:
وأَشمتَّ العُداة بنا فأضحَوا * لدَىَّ تَبَاشَرُونَ بما لِقينَا
معناه (لدىَّ) يتباشرون فحذف لاجتماع الياءات ومثله:
كأنّ مِن آخرهَا إلقادِمِ * مَخْرِمَ نجدٍ فارعَ المخارم
أراد: إلى القادم فحذف اللام عند اللام. وأَمَّا مَن جعل (لَمَّا) بمنزلة إلاَّ فإنه وجه لا نعرفه وقد قالت العرب: بالله لَمَّا قمت عنا، وإلاَّ قمت عنا، فأمَّا فى الاستثناء فلم يقولوه فى شعر ولا غيره؛ أَلا ترى أنَّ ذلك لو جَاز لسمعتَ فى الكلام: ذهب الناسَ لَمّا زيدا.
وأَمَّا الذين خفّفوا (إن) فإنهم نصبوا كلا بِ (لَيُوفَّينَّهم). وقالوا: كأنّا قلنا: وإنْ لَيوَفِّينَّهم كُلاَّ. وهو وجه لا أشتهيه. لأن اللام إنما يقع الفعل الذى بعدها عَلَى شىء قبله فلو رفعت كلّ لصلح ذلك كما يصلح أَن تقول: إنْ زيد لقائم ولا يصلح أن تقول: إنْ زيداً لأَضربُ لأن تأويلها كقولك: ما زيداً إلاّ أضرب فهذا خطأ فى إلاّ وفى اللام.

وقرأ الزُهرىّ (وإنَّ كُلاًّ لَمًّا ليُوَفِّيَنَّهم) ينوّنها فجعل اللمّ شديداً كما قال {وَتَأْكُلُون التُرَاثَ أَكْلاُ لَمّاً} فيكون فى الكلام بمنزلة قولك: وانّ كلا حقّا ليوفينّهم، وإن كلا شديدا ليوفينّهم. وإذا عَجَّلت العرب باللام فى غير موضعها أعادوها إليه كقولك: إنَّ زيدا لإليك لمحسن، كان موقع اللام فى المحسن، فلمّا أدخلت فى إليك أُعيدت فى المحسن ومثله قول الشاعر:
ولو أنَّ قومى لم يكونوا أعِزّة * لَبَعْدُ لقد لاقيتُ لا بدّ مَصْرعَا
أَدخلها فى (بَعد) وليسَ بموضعها ومثله قول أبى الجرّاح: إنى لبحمد الله لصالح.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الْلَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }

وقوله: {زُلَفاً مِّنَ الْلَّيْلِ...}
بضمّ اللام تجعله واحداً مثل الحُلُم. والزُلَف جمع زُلْفة وزُلَف وهى قراءة العامّة وهى ساعة من الليل ومعناه: طرفى النهار وصلاة الليل المفروضة: المغَربَ والعشاء وصلاة الفجر، وطرفىِ النهار: والعصر.
{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ }

وقوله: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ...}

يقول لم يكن منهم أحد كذلك إلاَّ قليلا أى هؤلاء كانو ينهونَ فنجَوا. وهو استثناء على الانقطاع ممّا قبله كما قال عَزَّ وجل {إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} ولو كانَ رفعاً كان صَواباً. وقوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} بقول: اتّبعوا فى دنياهم ما عُوِّدوا من النعيم وإيثار اللذّات على أمر الآخرة. ويقال: اتّبعوا ذنوبهم وأعمالهم السَّيّئة إلى النار.

{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }

وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ...}.
يقول: لم يكن ليهلكهم وهم مصلحونَ فيكونَ ذلك ظلماً. ويقال: لم يكن ليهلكهم وهم يتعاطَون الحقّ فيما بينهَم وإن كانوا مشركين والظلم الشرك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( هود )
{ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }

وقوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ...}
يقول: (لا يَزَالونَ) يعنى أهل الباطل {إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} أهلَ الحقّ (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) يقول: للشقاء وللسعادة. ويقال: {ولا يزالونَ مختلفينَ إلاّ من رحم ربُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: للاختلاف والرحمة.

{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }

وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ...}

صار قوله عزّوجلّ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} يمينا كما تقول: حَلِفى لأضربنَّك، وبدا لى لأضربنّك. وكلّ فعل كان تأويله كتأويل بلغنى، وقيل لى، وانتهىَ إلىّ، فإن اللام وأَن تصلحان فيه. فتقول: قد بدا لى لأضربنّك، وبدا لى أن أضربك. فلو كان: وتَمَّت كلمة ربك أن يملأ جهنم كانَ صواباً وكذلك {ثُمَّ بَدَالَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} ولو كان أن يسجنوه كان صواباً.
وقال: {وَجَآءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ...}
فى هذه السورة.

المعاني الواردة في آيات

سورة ( يوسف )
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }

قول الله عزَّ وجَلّ: {بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ...}
(هَذَا الْقُرْآنَ) منصوب بوقوع الفعل عليه. كأنك قلت: بوحينا إليك هذا القرآنَ. ولوخفضت (هذا) و (القرآنَ) كان صواباً: تجعل (هذا) مكروراً على (ما) تقول: مررت بما عندك متاعِك تجعل المتاع مردوداً عَلى (مَا) ومثله فى النحل: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتِكُمْ الكَذِبَ} و (الكَذِبِ) على ذلك.

{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

وقوله: {يا أبَتِ} لا تقفْ عليها بالهاء وأنت خافض لها فى الوصل؛ لأن تلك الخَفْضة تدلّ على الإضافة إلى المتكلّم. ولو قرأ قارئ (يا أَبَتُ) لجاز (وكان الوقف عَلى الهاء جائِزاً). ولم يقرأ به أحد نعلمه. ولو قيل: (يا أبَتَ) لجاز الوقوف عليها (بالهاء) من جهة، ولم يجز مِن أخرى. فأمّا جواز الوقوف على الهاء فأن تجعل الفتحة فيها من النداء ولا تنوى أن تصلها بألف الندبة فكأنه كقول الشاعر:
* كِلِينِى لِهَمٍّ يا أُميمةَ ناصبِ *
وأمّا الوجه الذى لا يجوز الوقف على الهاء فأن تنوى: يا أبتاه ثم تحذف الهاء والألف؛ لأنها فى النِّيَّة متّصلة بالألف كاتّصالها فى الخفض بالياء من المتكلّم.
وأَمّا وقوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً...}
فإن العرب تجعل العدد بين أحد عشر إلى تسعة عشر منصوباً فى خفضه ورفعه. وذلك أنهم جَعلوا اسمين معروفين واحداً، فلم يُضيفوا الأوَّل إلى الثانى فيخرجَ من معنى العدد. ولم يرفعوا آخره فيكونَ بمنزلة بعلبكّ إذا رفعوا آخرَها. واستجازوا أن يضيفوا (بعل) إلى (بَكّ) لأن هذا لا يُعرف فيه الانفصال من ذا، والخمسة تنفرد من العشرة والعشرة من الخمسة، فجعلوها بإعراب واحد؛ لأن معناهما في الأصل هذه عشرة وخمسة، فلمّا عُدِلا عن جهتهما أُعطيا إعراباً واحداً فى الصرف كما كان إعرابهما واحداً قبل أن يُصرفا.

فأمَّا نصب كوكب فإنه خرج مفسِّراً للنوع من كل عدد ليعرف ما أخبرْتَ عنه. وهو فى الكلام بمنزلة قولك: عندى كذا وكذا درهماً. خرج الدرهم مفسراً لكذا وكذا؛ لأنها واقعة على كلّ شىء. فإذا أدخلت فى أحد عشر الألف واللام أدخلتهما فى أوَّلها فقلت: ما فعلت الخمسةَ عَشَرَ. ويجوز ما فعلت الخمسةَ العشرَ، فأدخلت عليهما الألف واللام مرّتين لتوهّمهم انفصَال ذا من ذا فى حال. فإن قلت: الخمسة العشرِ لم يجز لأن الأوّل غير الثانى؛ ألا ترى أن قولهم: ما فعلت الخمسةُ الأثوابِ لمن أجازه تجد الخمسة هى الأثواب ولا تجد العشر الخمسة. فلذلك لم تصلح إضافته بألف ولام. وإن شئت أدخلت الألف واللام أيضاً فى الدرهم الذى يخرج مفسراً فتقول: ما فعلت الخمسة العشر الدرهم؟. وإذا أضفت الخمسة العشر إلى نفسك رفعت الخمسة. فتقول: ما فعلت الخمسةُ عشرِى؟: ورأيت خمسةَ عَشْرِى، (ومررت بخمسة عشرى) وإنما عُرِّبت الخمسة لإضافتك العشر، فلمّا أضيف العشر إلى الياء منك لم يسقم للخمسة أن تضاف إليها وبينهما عشر فأضيفت إلى عشر لتصير اسماً، كما صَار ما بعدها بالإضافة اسماً. سمعتها من أَبى فَقْعَسْ الأَسَدىّ وأبى الهيثم العُقَيْلىّ: ما فعلت خمسةُ عشرِك؟ ولذلك لا يصلح للمفسر أن يصحبهما؛ لأن إعرابيهما قد اختلفا. ب: اختلف، وإنما يخرج الدرهم والكوكب مفسراً لهما جميعاً كما يخرج الدرهم من عشرين مفسراً لكلّها. فإذا أضفت العشرين دخلَتْ فى الأسماء وبطل عنها التفسير. فخطأ أن تقول: ما فعلت عِشروك درهماً، أو خمسةُ عشرِك درهماً. ومثله أنك تقول: مررت بضارب زيداً. فإذا أضفت الضارب إلى غير زيد لم يصلح أن يقع عَلى زيد أبداً.
ولو نويت بخمسة عشر أن تضيف الخمسة إلى عشر فى شعر لجاز، فقلت: ما رأيت خمسةَ عشرٍ قطُّ خيراً منها، لأنك نويت الأسماء ولم تنوِ العدد. ولا يجوز للمفسِّر أن يدخل ها هنا كما لم يجز فى الإضافة؛ أنشدنى العُكْلىّ أبو ثرْوان:

كُلِّف من عَنَائه وشِقْوتهْ * بنت ثمانى عَشرةٍ من حِجتَّهْ
ومن القُرَّاء من يسكّن العين من عَشرَ فى هذا النوع كلّه، إلاّ اثنا عشر. وذلك أنهم استثقلوا كثرة الحركات، ووجدوا الألف فى (اثنا) والياء فى (اثنى) سَاكنة فكرهوا تسكين العين وإلى جنبها ساكن (ولا يجوز تسكين العين فى مؤنّث العدد لأن الشين من عشرة يسكن فلا يستقيم تسكين العين والشين معاً).
وأمّا قوله {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فإن هذه النون والواو إنما تكونان فى جمع ذُكران الجنّ والإنس وما أشبههم. فيقال: الناس ساجدون، والملائِكة والجِنّ ساجدون: فإذا عدَوت هذا صار المؤنّث المذكّر إلى التأنيث. فيقال: الكِباش قد ذُبَّحن وذُبِّحت ومذبَّحات. ولا يجوز مذبّحون. وإنما جاز فى الشمس والقمر والكواكب بالنون والياء لأنهم وُصفوا بأفاعيل الآدميين (ألا ترى أن السجود والركوع لا يكون إلاّ من الآدميين فأُخرِج فعلهم على فعال الآدميَّين) ومثله {وَقَالُوا لِجُلودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُم عَلَيْنَا} فكأنهم خاطبوا رجالا إذا كلّمتهم وكلّموها. وكذلك {يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} فما أتاك مواقعاً لفعل الآدميين من غيرهم أجريتَه على هذا.
[قوله] (يَا بُنىَّ) و (يا بُنىِّ) لغتان، كقولك: يا أَبَتَ ويا أَبَتِ لأن مَن نصب أراد النُّدبةَ: يا أبتاه فحذفها.
وإذا تركت الهمزة من (الرُؤْيا) قالوا: الرُّويَا طلبا للهمزة. وإذا كان من شأنهم تحويل الهمزة: قالوا: لا تقصص رُيّاك فى الكلام، فأمّا فى القرآن فلا يجوز لمخالفة الكتاب. أنشدنى أبو الجرَّاح:
لعِرض من الأعراض يُمسى حَمَامُه * ويُضحى على أفنانِهِ العين يَهتِفُ
أحبّ إلى قلبى من الديك رُيَّة * وبابٍ إذا ما مال للغلق يَصرِف

أراد: رُؤْية، فلمّا ترك الهمز وجاءت واو ساكنة بعدها ياء تحولتا ياء مشدّدة، كما يقال: لويته ليَّا وكويته كيّا والأصل كَوْيا ولَوْيا. وإن أشرت إلى الضمّة قلت: ريّا فرفعت الراء فجائز.
وتكون هذه الضمّة مثل قوله (وحِيلَ) (وسيق) وزَعَمَ الكسائىّ أنه سمع أعرابيّاً يقول (إِن كُنْتُم للرِّيَّا تَعْبُرُون).

{ وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

وقوله: {وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ...}
جواب لقوله {إنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} فقيل له: وهكذا يجتبيك ربّك. كذلك وهكذا سواء فى المعنى. ومثله فى الكلام أن يقول الرجل قد فعلت اليوم كذا وكذا من الخير فرأيتُ عاقبته محمودة، فيقول له القائل: هكذا السعادة، هكذا التوفيق و(كذلك) يَصلح فيه. و(يَجْتَبِيكَ) يِصطفيك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ }

وقوله: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ...}
والعُصْبَة: عَشرة فما زاد.
وقوله: {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ...}
جواب للأمر ولا يصلح الرفع فى (يَخْلُ) لأنه لا ضمير فيه. ولو قلت: أعِرْنى ثوباً ألبس لجاز الرفع والجزم لأنك تريد: أَلْبَسُه فتكون رفعاً من صلة النكرة. والجزم على أن تجعله شرطاً.

{ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }

قوله: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ...}
واحدة. وقد قرأ أهل الحجاز (غَياَبَاتِ) عَلى الجمع {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} قرأه العامّة بالياء لأن (بعض) ذكر وإن أُضيف إلى تأنيث. وقد قرأ الحسن - فيما ذُكِر عنه - ب: ذكروا (تَلْتَقِطْهُ) بالتاء وذلك أنه ذهب إلى السَّيارة والعرب إذا أضافت المذكّر إلى المؤنّث وهو فعل له أو هو بعض له قالوا فيه بالتأنيث والتذكير. وأنشدونا:
على قبضة موجوءة ظهر كفّه * فلا المرء مُسْتحىٍ ولا هو طاعم
ذهب إلى الكفّ وألغى الظهر لأن الكف يُجزىء من الظهر فكأنه قال: موجوءة كفُّه وأنشدنى العُكْلِىّ أبو ثَرْوان:
أرى مَرَّ السنين أخذن منى * كما أخَذ السِّرار من الهلال
وقال ابن مقبِل:
قد صرَّح السير عن كُتْمان وابتُذلتْ * وَقْعُ المحاجن بالمَهْرِيَّة الذُقُنِ
أراد: وابتذلت المحاجن وألغى الوقع. وأنشدنى الكسائىّ:
إذا ماتَ منهم سَيّد قام سَيّد * فَدانَتْ له أهل القُرَى والكنائِسِ
ومنه قول الأعشى:
وتَشرَقُ بالقول الذى قد أذعْتَه * كما شرِقت صدرُ القناة منَ الدَّم
وأنشدنى يونس البصرىّ:
لمّا أتى خبرُ الزُبَير تهدّمت * سورُ المدينة والجبالُ الخُشّعُ
وإنما جاز هذا كلّه لأن الثانى يكفى مِن الأوَّل؛ ألا ترى أنه لو قال: تلتقطه السيَّارة لجاز وكفى من (بعض) ولا يجوز أن يقول: قد ضربْتنى غلامُ جاريتك؛ لأنك لو ألقيت الغلام لم تدلّ الجارية على معناه.

{ قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }

وقوله: {لاَ تَأْمَنَّا...}
تشير إلى الرَفْعة، وإن تركْتَ فصواب، كلٌّ قد قُرئ به؛ وقد قرأ يحيى بن وثَّاب: (تيمَنَّا).
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )

{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }

وقوله: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ...}
مَنْ سَكّن العين أخذه من القيد والرَّتْعَة وهو يفعل حينئذ ومن قال (يَرْتَعِ ويَلْعَبْ) فهو يفتعل من رعَيت، فأسقط الياء للجزم.

{ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }

وقوله: {وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ...}
معناه: مكذوب: والعرب تقول للكذب. مكذوب وللضعف: مضعوف، وليس له عَقْد رأْى ومعقودُ رأْىٍ؛ فيجعلون المصدر فى كثير من الكلام مفعولاً. ويقولون: هذا أمر ليس له مَعْنِىّ يريدون مَعْنىً، ويقولون للجَلَد: مجلود؛ قال الشاعر:
* إن أخا المجلود من صَبَرَا *
وقال الآخر:
حتّى إذا لم يتركوا لعظامه * لحماً ولا لفؤادهِ معقولاَ
وقال أبو ثَرْوان: إنّ بنى نُمَير ليس لحدّهم مكذوبة ومعنى قوله (بِدَمٍ كذِبٍ) أنهم قالوا ليعقوب: أكله الذئب. وقد غمسوا قميصه فى دم جَدْى. فقال: لقد كان هذا الذئب رفيقاً بابْنىِ، مزَّق جلده ولم يمزق ثيابه. قال: وقالوا: اللصوص قتلوه، قال: فلم تركوا قميصه! وإنما يريدونَ الثياب. فلذلك قيل (بِدَمٍ كَذِبٍ) ويجوز فى العربيَّة أن تقول: جاءوا على قميصه بدم كذباً؛ كما تقول: جَاءوا بأمرٍ باطل وباطلا، وحق وحقاً.
وقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} مثل قوله: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} {فإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} ولو كان: فَصَبَرا جميلاً يكون كالآمر لنفسه بالصبر لجاز. وهى فى قراءة أُبَىّ (فَصَبْرا جَمِيلاً) كذلك على النصب بالألف.

{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

وقوله: {يابُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ...}
(وَيَا بشراىَ) بنصب الياء، وهى لغة فى بعض قيس. وهُذَيلٌ: يا بُشْرَىَّ. كل ألف أضافها المتكلم إلى نفسه جعلتها ياء مشدَّدة. أنشدنى القاسم بن مَعْن:
تركوا هوَىّ وأعْنَقوا لهواهم * ففقدتهم ولكل جَنْب مَصْرع
وقال لى بعض بنى سُلَيم: آتيك بمولَيَّ فإنه أروى منّى. قال:
أنشدنى المفضّل:
يطوِّف بى عِكَبّ فى مَعَدّ * ويطعُن بالصُمُلَّة فى قَفَيَّا
فإن لم تَثْأَروا لى من عِكَبّ * فلا أرويتما أبداً صَدَيَّا
ومن قرأ (يا بُشْرَىْ) بالسكون فهو كقولك: يا بُنْى لا تفعل، يكون مفرداً فى معنى الإضافة. والعرب تقول: يا نفسُ اصبرى ويا نفسِ اصبرى وهو يعنى نفسه فى الوجهين و(يا بُشْرَاىَ) فى موضع نصب. ومن قال: يا بشرَىَّ فأضاف وغيّر الألِف إلى الياء فإنه طلبَ الكسرة التى تلزم ما قبل الياء من المتكلّم فى كل حال؛ ألا أنك تقول: هذا غلامِى فتحفض الميم فى كل جهات الإعراب فحطُّوها إذا أضيفت إلى المتكلّم ولم يحطُّوها عند غير الياء فى قولك: هذا غلامك وغلامه؛ لأن (يا بُشْرَى) من البشارة والإعراب يتبيّن عند كل مكنّى إلاّ عند الياء.
وقوله: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} ذلك أن الساقى الذى التقطه قال للذين كانوا معه: إن سَألكم أصْحابُكم عن هذا الغلام فقولوا: أَبضعَناه أهلُ الماء لنبيعه بمصر.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ }

وقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ...}
قيل: عشرين. وإنما قيل معدودة ليُستدل به على القلَّة؛ لأنهم كانوا لا يزِنون الدراهم حتى تبلغ أُوقِيّة كانت وزن أربعين درهماً.
وقوله: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} يقول: لم يعلموا منزلته من الله عَزَّ وجلّ.

{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }

وقوله: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ...}
قرأها عبدلله بن مسعود وأصحابه حدثنا الفرّاء قال: حدثنى بن أبى يحيى عَنْ أبى حبيب عن الشَّعبىّ عن عبدالله ابن مسعود أنه قال: أقرأنى رسول الله صلى عليه وسلم (هَيْتَ) ويقال: إنها لغة لأهل حَوْران سقطت إلى مكّة فتكلّموا بها. وأهل المدينة يقرءون هِيتَ لك بكسر الهاء ولا يهمزون وذُكر عن عَلى بن أبى طالب وابن عبّاس أنهما قرءا (هِئتُ لك) يراد بها: تهيّأت لك وقد قال الشاعر:
أنّ العِراق وَأَهْلَه * سَلْمٌ عَلَيْكَ فَهَيتَ هَيْتَا
أى هَلُمَّ.
وقوله: {إِنَّهُ رَبِّي} يعنى مولاه الذى اشتراه. يقول: قد أحسن إلىَّ فلا أخونُه.

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }

وقوله: {أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ...}
ذكروا أنه رأى صورة يعقوب عليه السلام.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ...}

يعنى يوسف وامرأة العزيز وجدا العزيز وابن عمّ لامرأته على الباب، فقالت: {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} فقال: {هى راودتنى عن [نفسى]} فذكروا أن ابن عمّها قال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فلمّا رأَوا القميص مقدوداً من دُبر قال ابن العمّ: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ثم إن ابن العمّ طلب إلى يوسف فقال: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أى اكتمه، وقال للأخرى: (استَغْفِرِى) زوجك (لِذَنْبِكِ).

{ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ }

قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ...}
قال: حدّثنا الفرَّاء قال: وحدّثنى قيس بن الربيع عن أبى حَصِين عن سَعِيد ابن جُبَير فى قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} قال: صبىّ. قال: وحدّثنى قيس عن رجل عن مجاهد أنه رجل. قال: وحدّثنى مُعَلَّي بن هلال عن أبى يحيى عن مجاهد فى قوله {وَشهد شاهد من أهلها} قال: حكم حاكم من أهلها.
ولو كان فى الكلام: (أَنْ إِنْ كان قميصُه) لصلح؛ لأن الشهادة تُستقبل ب (أن) ولا يكتفى بالجزاء فإذا اكتفت فإنما ذهب بالشهادة إلى معنى القول كأنه قال: وقال قائل من أهلها، كما قال: {يُوصِيكُمُ اللهُ فىِ أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} فذهب بالوصية إلى القول، وأنشدنى الكسائىّ:
وخَبَّرتُما أَنْ إِنَّمَا بَينِ بِيشَةٍ * ونَجْران أَحْوَى والمحَلّ قَرٍيبُ
(والجناب خصيب) فأَدخل (أن) عَلَى (إنما) وهى بمنزلتها قال: وسمعت الفرّاء قال: زعم القاسم بن مَعْن أَن بِئشة وزِئنة أرضان مهموزتان.

{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَراً إِنْ هَاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }

وقوله: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً...}
أى خرق شَغَاف قلبها وتقرأ (قَدْ شَعَفَهَا) بالعين وهو من قولك: شُعِف بها. كأنه ذَهَب بها كلّ مَذهب. والشَعَف: رءوس الجبال.
وقوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} يقال: اتخذت لهنّ مجلساً. ويقال: إنّ مُتْكاً غير مهموز، فسمعت أنه الأُتْرُجُّ. وحدّثنى شيخ من ثقات أهل البصرة أنه قال: الزُّمَاوَرْدُ.
وقوله: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} يقول: وخَدَشنها ولم يُبِنَّ أيديهن، مِنْ إعظامه، وذلك قوله: {حَاشَ للَّهِ} أَعظمته أن يكون بشراً، وقلن: هذا مَلَكٌ. وفى قراءة عبدالله (حَاشَا لِلّه) بالألف، وهو فى معنى مَعَاذ الله.
وقوله: {مَا هَاذَا بَشَراً} نصبت (بَشراً) لأن الباء قد استُعملت فيه فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء، فلمّا حذفوها أحبّوا أن يكون لها أثر فيما خَرَجت منه فنصبوا عَلَى ذلك؛ أَلاَ ترى أن كلّ ما فى القرآن أتى بالباء إلاَّ هذا، وقولَه: {مَا هُنَّ أُمّهَاتِهِمْ} وأما أهل نجد فيتكلّمون بالباء وغير الباء فإذا أسقطوها رفعوا. وهو أقوى الوجهين فى العربية. أنشدنى بعضهم:
لَشتَّان ما أنوِى وينوِى بنو أبى * جَميعاً فما هذان مستويان
تَمنَّوا لىَ الموتَ الذى يَشْعَب الفتى * وكلُّ فتىً والموتُ يلتقيانِ
وأنشدونى:
ركابُ حُسَيل أَشهرَ الصيف بُدْن * وناقةُ عَمْرو ما يُحَلُّ لها رَحلُ

ويزعم حِسْلٌ أَنه فَرْع قومِهِ * وما أَنت فرع يا حُسيل ولا أصْلُ
وقال الفرزدق:
أَمَا نحن راءُو دارِها بعد هذه * يدَ الدهر إلا أنَّ يمرّ بها سَفْرُ
وإذا قدّمت الفعل قبل الاسم رفعت الفعل واسمه فقلت: ما سامعٌ هذا وما قائم أخوك. وذلك أن الباء لم تستعمل ها هنا ولم تدخل؛ أَلا ترى أنه قبيح أن تقول: ما بقائم أخوك؛ لأنها إنما تقع فى المنفىِّ إذا سَبَق الاسم، فلمَّا لم يمكن فى (ما) ضمير الاسم قبح دخول الباء. وحسُن ذلك فى (ليس): أن تقول: ليس بقائم أخوك؛ لأنَّ (ليس) فعل يقبل المضمر، كقولك: لست ولسنا؛ ولم يمكن ذلك فى (ما).
فإن قلت: فإنى أراه لا يمكن فى (لا) وقد أَدخلتِ العرب الباء فى الفعل التى تليها فقالوا:
* لا بالْحَصُور ولا فِيها بسوَّارِ *
قلت: إن (لا) أشبه بليس من (ما) ألا ترى أنك تقول: عبدالله لا قائم ولا قاعد، كما تقول: عبدالله ليس قاعداً ولا قائماً، ولا يجوز عبدالله ما قائم ولا قاعد فافترقتا ها هنا.
ولو حملت الباء عَلَى (ما) إذا وليها الفعل تتوَهّم فيها مَا توهّمت فى (لا) لكان وجهاً، أنشدتنى امرأة من غَنِىّ:
أَما واللهِ أن لو كنتَ حُرّاً * وما بالْحُرّ أنتَ ولا العَتِيقِ
فأدخلتِ الباء فيما يلى (مَا) فإن ألقيتَها رفعت ولم يَقْوَ النصب لقلّة هذا. قال: وحدّثنا الفرّاء قال: وحدّثنى دِعامة بن رجاء التَّيْمىّ - وكان غرّا - عن أبى الْحُوَيرث الحنفىّ أنه قال: (ما هذا بِشِرًى) أى ما هذا بمشترىً.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ }

وقوله: {رَبِّ السِّجْنُ...}

السِّجن: المَحْبِسُ. وهو كالفعل. وكل موضع مشتقّ من فعلٍ فهو يقوم مقام الفعل؛ كما قالت العرب: طلعت الشمسُ مَطْلِعاً وغَرَبت الشمس مغرِباً، فجعلوها خلَفاً من المصدر وهما اسمان، كذلك السِّجن. ولو فتحت السين لكان مصدراً بيناً. وقد قُرئ: (رَبِّ السَّجْنُ).

{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ...}
ولم تكن منه مسألة إنما قال: {إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} فجعَله الله دعاء لأن فيه معنى الدعاء، فلذلك قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} ومثله فى الكلام أن تقول لعبدك: إلاّ تطِع تعاقَب، فيقول: إذاً أطيعَك كأنك قلت له: أطع فأجابك.

{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ }

وقوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ...}
آيات البراءة قَدّ القميص من دبر {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} فهذه اللام فى اليمين وفى كل ما ضارع القول. وقد ذكرناه. أَلا ترى قوله: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمن اشْتَرَاهُ} دخلت هذه اللام و (ما) مع الظنّ (والعلم) لأنهما فى معنى القول واليمين.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }

وقوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ...}

يقول: من العالمِينَ قد أحسنْتَ العِلْم. حدّثنا الفراء قال: حدّثنا ابن الغَسيل الأنصارىّ عن عِكرمة قال: الْحِين حينان: حين لا يدرك وهو قوله عزّ وجلّ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (قال الفرّاء فهذا يقلّ ويكثر) ليست له غاية. قال عكرمة: وحينٌ يدرَك وهو قوله: {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} يعنى ستّة أشهر.

{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }

وقوله: {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ...}
يقول: بسببه وألوانه. وقوله: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} العرب لا تجمع اسْمين قد كُنِى عنهما ليسَ بينهما شىء إلاَّ أن ينووُا التكرير وإفهام المكلَّم؛ فإذا أرادوا ذلك قالوا: أنت أنت فعلت، وهو هو أخذها. ولا يجوز أن نجعل الآخرة توكيداً للأولى، لأن لفظهما واحد. ولكنهم إذا وصلوا الاوّل بناصب أو خافض أو رافع أَدخلوا له اسمه فكان توكيداً. أَمّا المنصوب فقولك: ضربتك أنت، والمخفوض: مررت بك أَنت، والمرفوع: قمتَ أَنت. وإنما فعلوا ذلك لأن الأوّل قلّ واختلف لفظه، فأدخلوا اسمه المبتدأ. فإذا قالوا: أَنت فينا أنت رَاغب ففرقوا بينهما بصفة قالوا ذلك، وكأنه فى مذهبه بمنزلة قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} كأنّ الأوّل مُلْغىً والاتّكاءُ والْخَبَر عن الثانى. وكذلك قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذَا مِتُّمْ} ثم قال: {أَنَّكُمْ مخْرَجُون} وهما جميعاً فى معنى واحد، إلا أن ذلك جاز حينَ فُرق بينهما بإذا. ومثله: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.

{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }

وقوله: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي...}
تهمِز وتُثبت فيهَا الياء. وأصْحَابنا يروون عن الأعمش {مِلَّةَ آبَاىَ إبراهيمَ} و {دُعَاىَ إِلاَّ فِرَاراً} بنصب الياء لأنه يترك الهمز ويقصرُ الممدود فيَصير بمنزلة مَحْياىَ وهداىَ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ ياصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }

وقوله: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ...}
ذكروا أنه لما عَبَّر لهما الرؤيا فقال للآخر: تصلب رجعا عن الرُؤْيا، فقالا: لم نر شيئاً فقال يوسف: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}.

{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }

وقوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ...}.
يقول: أنسى الشيطان يوسفَ أن يجعل ذكره ومستغاثه إلى الله. ويقال: أنسى الشيطان الساقى أن يذكر أمر يوسف.
وقوله: {ذِكْرَ رَبِّهِ} يقول: ذكر يوسف لمولاه.
وقوله: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} ذكروا أنه لبث سبعاً بعد خمس والبِضع ما دون العشرة.

{ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }

وقوله: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ...}
هو من كلام العرب: أن يقول الرجل: إنى أخرج إلى مكّة وغير ذلك، فعُلم أَنه للنوم ولو أراد الخبر لقال: إنى أفعل إنى أَقوم فيُستدلّ على أنها رُؤيا لقوله: أَرى، وإن لم يذكر نوماً. وقد بيَّنها إبراهيم عليه السلام فقال: {إنّى أَرَى فىِ المَنَام أَنِّى أَذْبَحُكَ}

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ }

وقوله: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ...}
رَفْع، لأنهم أرادوا: ليس هذه بشى إنما فى أضغاث أحلام. وهو كقوله: {مَاذَا أَنْزلَ رَبَّكُمْ قالوا أَسَا طِيرُ الأَوَّلِينَ} كفروا فقالوا: لم يُنزل شيئاً، إنما هى أساطير الأولين. ولو كان (أَضغاثَ أَحلاَمٍ) أى أنك رأيت أضغاث أحلام كان صواباً.

{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ }

وقوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ...}
الأمة: الحين من الدهر. وقد ذُكر عن بعضهم (بَعْدَ أَمَهٍ) وهو النسيان. يقال رجل مأموه كأنه الذى ليس معه عقله وقد أمِهَ الرجُل.

{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ...}
لو كان الخضر منصوبة تُجعل نعتاً للسّبْع حسن ذلك. وهى إذا خُفضت نعْت للسنبلات. وقال الله عَزَّ وَجَل: {ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} ولو كانت (طباقٍ) كان صوابا
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )

{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ }

وقوله: {دَأَباً...}
وقرأ بعض قرّائنا (سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً): فَعَلاً. وكذلك كل حرف فُتح أوَّله وسُكّن ثانيه فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة أو عيناً أو غيناً أو حاء أو خاء أو هاء.

{ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ }

وقوله: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ...}
يقول ما تقدَّمتم فيه لهنَّ من الزرع.

{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ }

وقوله: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ...}
لمَّا دَعَا النسوة فبرّأته قالت: لم يبق إلا أَن يُقبِل علىَّ بالتقرير فأقرَّت، فذلك قوله: {حَصْحَصَ الْحَقُّ} يقول: ضاق الكذب وتَبيَّن الحقّ.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ }

وقوله: {ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ...}:

قال ذلك يوسف لما رجع إليه الساقى فأَخبره ببراءة النسوة إيّاه. فقال يوسف {ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} وهو متّصل بقول امرأته {اْلآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ} وربّما وُصل الكلامُ بالكلام، حتى كأنه قولُ واحدٍ وهو كلام اثنين، فهذا من ذلك. وقوله {مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ} اتّصل قول فرعون بقول الملأ: وكذلك قوله {إنَّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} إلى قوله {وكَذَلكَ يَفْعَلُونَ} انقطع كلامها عند قوله {أَذِلَّةً} ثم قال عزّ وجَلّ {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ويقال إنه من قول سليمان عليه السَّلام.

{ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي...}
(ما) فى موضع نصب. وهو استثناء منقطع ممَّا قبله: ومثله {إلاَّ حَاجَةً فىِ نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} ومثله فى سورة يس {فلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا} إنما هو - والله أعلم - إلا أن يُرحموا. و (أن) تضارع (ما) إذا كانتا فى معنى مصدر.

{ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ }

وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُونِ...}
فى موضع جزم، والنون فى موضع نصب حذفت ياؤها. ولو جَعلتها رفعاً فنصبت النون كان صواباًَ على معنى قوله ولستم تقربونَ بعد هذه كقوله {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} و {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )

{ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }

وقوله: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ...}
و (لِفِتْيَتِهِ) قراءتان مستفيضتان.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ} قيل فيها قولان: أحدهما أن يوسف خاف ألاَّ يكون عند أبيه دراهم، فجعل البضاعة فى رحالهم ليرجعوا. وقيل إنهم إن عرفوا أنَّها بضاعتهم وقد اكتالوا ردُّوهَا على يوسف ولم يستحلّوا إمساكها.

{ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }

وقوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ...}
قرأ أصْحَاب عبدالله (يَكْتَلْ) وسائر الناس (نَكْتَلْ) كلاهما صواب من قال (نَكْتَلْ) جعله معهم فى الكيل. ومن قال (يكْتَلْ) يصيبه كيل لنفسه فجعل الفعل له خاصّة لأنهم يُزادونَ به كيلَ بعير.

{ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً...}
وحِفْظاً وهى فى قراءة عبدالله (والله خير الحافظين) وهذا شاهد للوجهين جميعاً. وذلك أنك إذا أضفت أفضل إلى شىء فهو بعضه، وحذف المخفوض يجوز وأنت تنويه. فإن شئت جَعله خيرهم حفظاً فحذفْت الهاء والميم وهى تُنوى فى المعنى وإن شئت جعلت (حافظا) تفسيراً لأفضل. وهوكقولك: لك أفضلهم رجلاً ثم تلغِى الهاء والميم فتقول لك أفضل رَجُلاً وخير رجُلاً. والعرب: تقول لك أفضلها كَبْشا، وإنما هو تفسير الأفضل.

حدَّثنا الفراء قال حدّثنا أبو ليلى السجستانىّ عن أبى حريز قاضى سِجِستان أن ابن مسعود قرأ (فالله خير حافظا) وقد أعلمتك أنها مكتوبة فى مصحف عبدالله (خَيْرُ الحَافِظِينَ) وكان هذا - يعنى أبا ليلى - معروفا بالخير. وَحدَّثنا بهذا الإسناد عن عبدالله أنه قرأ {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوْقعِ النُّجُومِ} {وإنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} يقولون: مُؤْدُونَ فى السلاح آدى يُؤدِى.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَبْغِي هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ }

وقوله: {ياأَبَانَا مَا نَبْغِي...}
كقولك فى الكلام ماذا تَبغى؟ ثم قال {هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا} كأنهم طيَّبوا بنفسه. وَ (مَا) استفهام فى موضع نصب. ويكون معناها جحداً كأنهم قالوا: لسنَا نريد منك دراهم. والله أعلم بصواب ذلك.

{ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }

وقوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ...}
يقول: ألاّ أن يأتيكم من الله مَا يَعذركم.

{ وَقَالَ يابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }

وقوله: {يابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ...}
يقول: لا تدخلوا مِصر من طريق واحد. كانوا صِبَاحا تأخذهم العين.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )

{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

وقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ...}
يقول: إنه لذو علم لتعليمنا إيَّاه ويقال: إنه لذو حفظ لما علمناه.

{ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

وقوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ...}
معناه: لا تستكن من الحزن والبُؤْس. يَقول: لا تحزن.

{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ }

وقوله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ...}
جواب وربّما أدخلت العرب فى مثلها الواو وهى جَواب على حَالها؛ كقوله فى أول السورة {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعْوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فىِ غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِ} والمعنى - والله أعلم -: أوحينا إليه. وهى فى قراءة عبدالله (فَلَمَا جَهَّزهُمْ بِجَهَازِهِمْ وَجَعَلَ السِّقَايَةَ) ومثله فى الكلام: لمَّا أتانى وأثِبَ عليه كأنه قال: وثبت عليه. وربما أَدخلت العرب فى جواب لَمَّا لكن. فيقول الرجل: لَمَّا شتَمنى لكن أَثِبُ عَليه، فكأنه استأنف الكلام استئنافا، وتوهَّم أنّ ما قبله فيه جوابه. وقد جاء (الشعر فى كل ذلك) قال امرؤ القَيْس:
فلمَّا أَجَزْنا ساحة الحَىّ وانتحى * بنا بطنُ خَبْت ذى قِفافٍ عَقَنْقَلِ
وقال الآخر:
حتَّي إِذا قمِلت بطونُكم * ورأيتُم أبْناءكم شَبُّوا
وقلبتم ظهر المِجَنِّ لنَا * إنّ اللّئيم العاجزُ الْخَبُّ
قمِلت: سمِنت وكبِرَت.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ }

وقوله: {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ...}
وقوله: الصُّواع ذكر. وهو الإناء الذى كان الملك يشرب فيه. والصاع يؤنَّث ويذكّر. فمن أنَّثه قال: ثلاث أصْوُع مثل ثلاث أَدْؤُر. ومن ذكّره قال: ثلاثة أصواع مثل أبواب. وقوله {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} يقول: كفيل. وزعيم القوم سيّدهم.

{ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ }

وقوله: {تَاللَّهِ...}
العرب لا تقول تالرحمنِ ولا يجعلونَ مكانَ الواو تَاء إلاّ فى الله عزّ وجلّ. وذلك أنها أكثر الأيمان مُجْرى فى الكلام؛ فتوهّموا أنّ الواو منها لكثرتها فى الكلام، وأبدلوها تاء كما قالوا: التُّرَاث، وهو من ورث، وكما قال: {رُسُلَنَا تَتْرَى} وهى من المواترة، وكما قالوا: التُخَمة وهى مِن الوَخَامة، والتُّجاه وهى مِن واجهك. وقوله {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ} يقول القائل: وكيف علموا أنهم لم يأتوا للفساد ولا للسرقة؟ فذُكر أنهم كانوا فى طريقهم لا يُنزلون بأَحد ظلما، ولا ينزلون فى بساتين الناس فيُفسدوها فذلك قوله {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يقول: لو كنّا سارقين ما رددنا عليكم البضاعة التى وجدناها فى رحالنا.

{ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

وقوله: {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ...}

(من) فى معنى جزاء وموضعها رفع بالهاء التى عادت. وجواب الجزاء الفاء فى قوله: (فَهُوَ جَزَاؤهُ) ويكون قوله (جزاؤه) الثانية مرتفعة بالمعنى المحمَّل فى الجزاء وجوابِه. ومثله فى الكلام أن تقول: ماذالى عندك؟ فيقول: لك عندى إن بشّرتنى فلك أَلف درهم، كأنه قال: لك عندى هذا. وإن شئت جَعلت (مَن) فى مذهب (الذى) وتدخل الفاء فى خبرِ (مَن) إِذا كانت على معنى (الذى) كما تقول: الذى يقوم فإنَّا نَقوم معه. وإِن شئتَ جعلت الجزاء مرفوعاً بمَنْ خاصّة وصلتِها، كأنك قلت: جزاؤه الموجودُ فى رَحْله. كأنك قلت: ثوابه أن يُسْتَرقّ، ثم تستأنِف أيضاً فتقول: هو جزاؤه. وكانت سنَّتهم أَن يترقّوا مَن سَرق.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }

ثم قال: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا...}
ذهب إلى تأنيث السَّرقة. وإن يكن الصُّوَاع فى معنى الصَّاع فلعلّ هذا التأنيث من ذلك. وأن شئت جعلته لتأنيث السِّقاية.
وقوله {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} (مَنْ) فى موضع نصب، أى نرفع مَنْ نَشَاء درجاتٍ. يقول: نفضِّل من نشاء بالدرجات. ومن قال (نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نشَاءُ) فيكون (منَ) فى موضع خفض.
وقوله {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} يقول: ليس مِن عالِم إِلاّ وفوقه أعلم منه.

{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ }

وقوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ...}

أَسَرَّ الكلمة. ولو قال: (فأسرَّه) ذهب إلى تذكير الكلام كان صَواباً؛ كقوله {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ} و {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ} {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}: أضمرها في نفسه ولم يظهرهَا.

{ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ }

وقوله: {مَعَاذَ اللَّهِ...}
نَصْب لأنه مصدر، وكل مصدر تكلّمت العرب في معناه بفَعَل أو يفعل فالنصب فيه جائز. ومن ذلك الحمدَ لله لأنك قد تقول فى موضعه يحمد الله. وكذلك أعوذ بالله تصلح فى معنى معاذَ الله.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }

وقوله: {خَلَصُواْ نَجِيّاً...}
و [نَجوَى] قال الله عزّ جلّ {مَا يَكُون مِن نَجْوَى ثَلاَثَةٍ} وقوله: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ} (ما) التى مع (فَرَّطْتُمْ) فى موضع رفع كأنه قال: ومن قبلِ هذا تفريطكم فى يوسف.
فإن شئت جعلتها نصباً، أى ألم تعلموا هذا وتعلموا من قبلُ تفريطكم فى يوسف. وإِن شئت جعلت (ما) صلة كأنه قال: {ومن قبلُ فرَّطتم فى يوسف}.

{ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ }

وقوله: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ...}

ويقرأ (سُر‍ِّق) ولا أشتهيها؛ لأنها شاذّة. وكأنه ذهب إلى أنه لا يستحلّ أن يسرَّقَ ولم يَسرِق: وذُكر أن ميمون بن مِهْران لقى رجاء بن حَيْوَة بمكَّة، وكان رجاء يقول: لا يصلح الكذب فى جد ولا هزل. وكان ميمون يقول: ربّ كَذْبة هى خير من صدق كثير. قال فقال ميمون لرجاء: من كان زميلَك؟ قال: رجل من قيس. قال: فلو أنك إذ مررت بالبِشْر قالت لك تغلِب: أنت الغاية فى الصدق فمن زميلك هذا؟ فأن كان مِنْ قيس قتلناة، فقد علمتَ ما قتلتْ قيسٌ منَّا، أكنت تقول: مِن قيس أم من غير قيس؟ قال: بل من غير قيس. قال: فهى كانت أفضل أم الصدق؟ قال الفراء: قد جعل الله عزّ وجلّ للأنبياء من المكايد ما هو أكثر من هذا. والله أعلم بتأويل ذلك.
وقوله: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} يقول: لم نكن نحفظ غيب ابنك ولا ندرى ما يصنع إذا غاب عنا. ويقال: لو علمنا أن هذا يكون لم نخرجه معنا.

{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }

وقوله: {أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ...}
الصبر الجميل مرفوع لأنه عَزَّى نفسَه وقال: ما هو إلا الصبر، ولو أمرهم بالصبر لكان النصب أسهل، كما قال الشاعر:
يَشْكو إِلىَّ جملى طول السُّرى * صَبراً جميلاً فكلانا مُبْتَلَى
وقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يقول: لا شكوى فيه إِلاّ إلى الله جلّ وعزّ.
المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ }

قالوا: {تَالله تَفْتَؤُاْ...}

معناه لا تزال تذكر يوسف و (لا) قد تضمر مع الأَيمان؛ لأنها إذا كانت خبرا لا يضمر فيها (لا) لم تكن إلا بِلاَم؛ ألا ترى أنك تقول: والله لآتينَّكَ، ولا يجوز أن تقول: والله آتيك إلاَّ أن تكون تريد (لا) فلمَّا تبيَّن موضعُها وقد فارقت الخبر أُضمرت، قال امرؤ القيس:
فقلت يَمينَ الله أبرح قاعداً * ولو قطعوا رأسى لديكِ وأوصَالى
وأنشدنى بعضهم:
فلا وأبى دَهْمَاء زالت عزيزةً * عَلَى قَوْمها ما فَتَّل الزَّنْدَ قادح
يريد: لا زالت. وقوله: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} يقال: رجل حَرَض وامرأة حَرَض وقوم حَرَض، يكون موحَّداً عَلَى كلّ حَالٍ: الذكر والأنثى، والجميع فيه سَوَاء، ومن العرب من يقول للذكر: حارِض، وللأنثى حارضة، فيثنّى ها هنا وَيجمع؛ لأنه قد خرج على صورة فاعل وفاعل يُجمع. والحارض: الفاسد فى جسمه أو عقله. ويقال للرجل: إنه لحارض أى أحمق. والفاسد فى عقله أيضاً. وأمّا حَرَض فتُرك جمعه لأنه مصدر بمنزلة دَنَف وضَنىً. والعرب تقول: قوم دنَف، وضَنىً وَعدْل، ورِضا، وزَوْر، وعَوْد، وضَيْف. ولو ثُنّى وجمع لكان صَواباً؛ كما قالوا: ضيف وأضياف. وقال عزّ وجلّ {أنُؤْمِنُ لِبَشَرَينِ مِثْلِنَا} وقال فى موضع آخر: {مَا أَنْتُمْ إلاَّ بَشَرٌ} والعرب إلى التثنية أسرع منهم إلى جمعه؛ لأن الواحد قد يكون فى معنى الجمع ولا يكون فى معنى اثنين؛ ألا ترى أَنك تقول: كم عندك من درهم ومن دراهم، ولا يجوز: كم عندك من درهمين. فلذلك كثرت التثنية ولم يجمع.

{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }

وقوله: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ...}

ذكروا أنهم قدِموا مصر ببضاعة، فباعوها بدراهم لا تَنْفُق فى الطعام إلاَّ بغير سعر الجياد، فسألوا يوسف أن يأخذها منهم ولا ينقصهم. فذلك قوله: { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} بفضل ما بين السِّعرين.

{ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ }

وقوله: {يَأْتِ بَصِيراً...}
أى يرجع بَصيراً.
وقوله: {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ...}
يقول: تكذّبون وتُعَجِّزون وتضعِّفون.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }

وقوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي...}
قال: حدَّثنا الفراء (عن) شريك عن السُّدِّىّ فى هذه الآية أخّرهم إلى السّحر (قال أبو زكريا وزادنا حِبّاًن عن الكلبىَّ عن أبى صالح عن ابن عبّاس قال: أخّرهم إلى السحر) ليلة الجمعة.

{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }

وقوله: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...}
فآيات السَّموات الشمس والقمر والنجوم. وآيات الأرض الجبال والأنهار وأشباه ذلك.

{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }

وقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ...}
يقول: إذا سألتهم مَن خلقكم؟ قالوا: الله، أو من رزقكم؟ قالوا: اللهُ، وهم يشركون به فيعبِدون الأصنام. فذلك قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )

{ قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

وقوله: {أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي...}
يقول: أنا ومن اتّبعنى، فهو يدعو على بصيرة كما أَدعوا.

{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

وقوله: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ...}
أُضِيفت الدار إلى الآخرة وهى الآخرة وقد تُضيف العرب الشىء إلى نفسه إذا اختلف لفظُه كقوله {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ} والحقّ هو اليقين. ومثله أتيتك بارحة الأولى، وعام الأوَّل وليلة الأولى ويوم الخميس. وجميع الأيّام تضاف إلى أنفسها لاختلاف لفظها. وكذلك شهر ربيع. والعرب تقول فى كلامها - أنشدنى بعضهم -:
أَتمدح فَقْعَساً وتذمّ عَبْساً * أَلا للهِ أُمُّك من هَجِين
ولو أقوت عَليك ديار عَبْس * عرفتَ الذُلَّ عِرفان اليقين
وإنما معناه عرفاناً ويقيناً.

{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }

وقوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ...}

خفيف. وقرأها أهل المدينة بالتثقيل، وقرأها ابن عباس بالتخفيف، وفسَّرها: حتى إذا استيأس الرُسُل من قومهم أن يؤمنوا، وظن قومُهم أَن الرسل قد كُذِبوا جاءهم نصرنا. وحُكِيَتْ عن عبدالله (كُذِّبُوا) مشدًّدة وقوله: {فَنَجى مَنْ نَشَاء} القراءة بنونين والكِتَاب أَتى بنون واحدة. وقد قرأ عاصم (فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ) فجعلها نْوناً، كأنه كره زيادة نون ف (مَنْ) حينئذ فى موضع رفع. وأما الذين قرءوا بنونين فإن النون الثانية، تخفى ولا تخرج من موضع الأولى، فلمّاً خفيت حذفت، ألا ترى أنك لا تقول فننجى بالبيان. فلمَّا خفيت الثانية حذفت واكتفى بالنون الأولى منها، كما يكتفى بالحرف من الحرفين فيدغم ويكون كتابُهما واحداً.

المعاني الواردة في آيات سورة ( يوسف )
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

وقوله: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ...}
منصوب، يراد به: ولكن كان تصديقَ ما بين يديه من الكتب: التوراة والإنجيل. ولو رفعت التصديق كان صواباً كما تقول: ما كان هذا قائماً ولكن قاعداً وقاعد. وكذلك قوله: {مَا كانَ مُحمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ} و {رَسُولُ اللهِ} فمن رفع لم يضمر كان أراد: ولكن هو رسول الله.

المعاني الواردة في آيات

سورة ( الرعد )
{ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }

وقوله قبل هذه الآية: {وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ...}
فموضع (الذى) رفع تستأنفه على الحقّ، وترفع كلّ واحدٍ بصَاحبه. وإن شئت جعلت (الذى) فى موضع خفض تريد: تلك آيات الكتاب وآياتِ الذى أنزل إليك من ربك فيكون خفضاً، ثم ترفع (الحقّ) أى ذلك الحق، كقوله فى البقرة {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فنرفع على إضمار ذلك الحقّ أو هو الحق. وإن شئت جَعَلت (الذى) خفضا فخفضت (الْحَقّ) فجعلته من صفة الذى ويكون (الذى) نعتاً للكتاب مردوداً عليه وإن كانت فيه الواو؛ كما قال الشاعر:
إلى الملِك القَرْمِ وابن الهمام * وليث الكَتِيبَة فى المُزْدَحَمِ
فعطف بالواو وهو يريد واحداً. ومثله فى الكلام: أَتانا هذا الحديث عن أبى حفص والفاروق وأنت تريد عمر بن الخطّاب رحمه الله.

{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }

قول الله عزّ وجلّ: {الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا...}.
جاء فيه قولان. يقول: خلقها مرفوعة بلا عمدٍ، ترونها: لا تحتاجون مع الرؤية إلى خبر. ويقال: خلقها بعَمَد لا ترونها، لا ترَون تلك العَمَد. والعرب قد تقدم الحجة من آخر الكلمة إلى أوّلها: يكون ذلك جائزاً. أنشدنى بعضهم:
إذا أعجبتك الدهرَ حالٌ من امرى * فدَعهْ وواكِل حالَه واللياليا
يجئن على ما كان من صالحٍ به * وإن كان فيما لا يرى الناس آليا

معناه وإن كان (فيما يرى) الناس لا يألو. وقال الآخر:
ولا أراها تزال ظالمةً * تُحدث لى نكبَةً وتنكؤها
ومعناها: أراها لا تزال.

{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ...}
أى بسط الأرض عَرْضاً وطولا.
وقوله: {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} الزوجان اثنان الذكر والأنثى والضربان. يبيّن ذلك قوله {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثَى} فتبيّن أنهما اثنان بتفسير الذكر والأنثى لهما.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ...}
يقول: فيها اختلاف وهى متجاورات: هذه طيّبة تُنبت وهذه سَبَخَة لا تُخرج شيئاً.
ثم قال: {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ} فلك فى الزرع وما بعده الرفع. ولو خفضت كان صَوابا. فمن رفع جعله مردوداً على الجنّات ومن خفض جعله مردوداً على الأعناب أى منْ أعناب ومن كذا وكذا.
وقوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} الرفع فيه سَهل؛ لأنه تفسير لحال النخل. والقراءة بالخفض ولوكان رفعاً كان صواباً. تريد: منه صنوان ومنه غير صنوان. والصِّنْوان النّخلات يَكونُ أصْلهنَّ واحداً. وجاء فى الحديث عن النبى صَلى الله عَليه وسلم: إن عَمّ الرجل صِنْو أبيه

ثم قال: {تُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} و (يُسْقَى) فمن قال بالتاء ذهب إلى تأنيث الزروع والْجَنّات والنخل. ومن ذكَّر ذهب إلىالنبت: ذلك كلّه يسقى بماء واحدٍ، كلّه مختلف: حامض وحلو. ففى هذه آية.

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ...}
يقول: يستعجلونك بالعذاب وهم آمنون له، وهم يرون العقوبات المَثُلاَت فى غيرهم ممَّن قد مضى هى المَثُلاَت وتميم تقول: المُثْلات، وكذلك قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} حجازية. وتميم: صُدْقات، واحدها صُدْقة. قال الفراء: وأهل الحجاز يقولون: أعطها صَدُقتها، وتميم تقول: أعطها صُدْقتها فى لغة تميم.

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }

وقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ...}
قال بعضهم: نبىّ. وقال بعضهم : لكل قوم هادٍ يتَّبِعُونه، إمَّا بحق أو بباطل.
المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ }

وقوله: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ...}
(تَغِيضُ) يقول: فما تنقص من التسعة الأشهر التى هى وقت الحمل (وَمَا تَزْدَادُ) أى تزيد عَلَى التسعة أَوَلا ترى أن العرب تقول: غاضت المياه أى نقصت. وفى الحديث: إذا كان الشتاء قيظاً، والولد غيظاً، وغاضت الكرامُ غَيْضاً وفاضت اللئام فيضاً. فقد تبيّن النقصان فى الغيض.

{ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ }

وقوله: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ...}.
(مَنْ) و (من) فى موضع رفع، الذى رفعهما جميعاً سواء، ومعناهما: أن من أسرَّ القول أو جهر به فهو يعلمه، وكذلك قوله: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أى ظاهر بالنهار. يقول: هو يعلم الظاهر والسرّ وكلٌّ عنده سواء.

{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }

وقوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ...}.
المعقِّبَات: الملائكة، ملائكة الليل تُعَقِّب ملائكة النهار يحفظونه. والمعقِّبات: ذُكران إلاَّ أنه جميع جَمع ملائكة معقِّبة، ثم جُمِعت معقِّبة، كما قال: أبنْاوات سَعْدٍ، ورجالات جمع رجال.
ثم قال عزَّ وجلَّ {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} فرجع إلى التذكير الذى أخبرتك وهو المعنَى. ويكون (ويحفظونه) ذلك الحفظ من أمر الله وبأمره وبإذنه عز وجلَّ؛ كما تقول للرجل: أجيئِك مِنْ دعائِك إِيَّاى وبدعائِك إيَّاى والله أعلم بصواب ذلك.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ }

وقوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً... }:
خوفاً على المسافر وطمعاً للحاضر.

وقوله: {وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} السحاب وإن كان لفظه واحداً فإنه جمع، واحدته سَحابة. جُعل نعته عَلَى الجمع كقوله {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ} ولم يقل: أخضر، ولا حسن، ولا الثقيل، للسحاب. ولو أتى بشىء من ذلك كان صواباً؛ كقوله: {جَعَلَ لَكُم مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإذَا أَنتُم مِنْهُ تُوقِدُون} فإذا كان نعت شئ من ذا يرجع إلى صغر أو كبر لم تقله إلاَّ عَلَى تأويل الجمع. فمن ذلك أن تقول: هَذَا تمر طيّب، ولا تقول تمر صَغير ولا كبير من قِبَلِ أن الطّيب عَامٌّ فيه، فوُحِّد، وأن الصغر والكبر والطول والقِصَر فى كل تمرة على حِدَتِها.

{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ }

قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ...}
لا إله إلا الله {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} يعنى الأصنام لا تجيب داعيهَا بشىء إلا كما ينال الظمآن المشرف على ماء ليسَ معه ما يستقى به. وذلك قوله عزّ وجلّ: {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ} ثم بيَّن الله عزّ وجلّ ذلكَ: {لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ}.

{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ }

وقوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً...}

فيقال: مَنِ الساجد طوعاً وكرهاً من أهل السموات والأرض؟ فالملائكة تسجد طوعاً، ومن دخل فى الإسلام رغبة فيه أو وُلد عليه من أهل الأرض فهو أيضاً طائع. ومَن أُكره على الإسلام فهو يسجد كَرْهاً (وَظِلاَلُهُمْ) يقول: كل شخصٍ فظِلّه بالغداة والعَشِىِّ يسجد معه. لأن الظلّ يَفِىء بالعَشىّ فيصير فَيْئاً يسجد. وهو كقوله: {عَنِ اليمينِ وَالشَّمَائِلِ} فى المعنى والله أعلم. فمعنى الجمع والواحد سواء.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }

قوله: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ...}
ويقرأ (أَمْ هَلْ يَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) وتقرأ (تَسْتَوِى) بالتاء. وهو قوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} وفى موضع آخر: (وَأَخَذَتْ).

{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ }

وقوله: {أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا...}

ضربه مثلا للقرآن إذا نَزَل عليهم لقوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} يقول قبلته القلوب بأقدارها وأهوائِها.
وقوله: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً} يذهب لا منفعة له، كذلك ما سكن فى قلب مَن لم يؤمن وعبد آلهته وصَار لا شىء فى يده {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} فهذا مَثَلُ المؤمن.
ثم قال عزّ وجلّ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} من الذهب والفضة والنُّحاس زَبَد كزَبَد السيل يعنى خَبثه الذى تُحصّله النار فتخرجه من الذهب والفضّة بمنزلة الزَبَدِ فى السيل.
وأمَّا قوله: {ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} يقول: يوقدون عليه فى النار يبتغون به الحُلِىّ والمتاع ما يكون من النحاس والحديد هو زَبدَ مثله.
وقوله: {فَيَذْهَبُ جُفَآءً} ممدود أصله الهمز يقول: جفأ الوادى غُثَاءه جَفْثا. وقيل: الجُفَاء: كما قيل: الغُثَاء: وكل مصدر اجتمع بعضه إلى بعض مثل القُماش والدُّقاق والغُثَاء والحُطَام فهو مصدر. ويكون فى مذهب اسم على هذا المعنى؛ كما كان العطاء اسماً على الإعطاء، فكذلك الجُفاءُ والقماش لو أردت مصدره قلت: قمشته قمشاً. والجُفَاء أى يذهَب سريعاً كما جاء.

{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }

وقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ...}
{سَلاَمٌ عَلَيْكُم...}
يقولون: سَلام عليكم. القول مضمر؛ كقوله: {وَلَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا} أى يقولون: ربنا ثم تركت.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )

{ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ }

وقولَه: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ...}
أى يوسّع ويَقْدِر (أى يَقْدِر ويقَتّر) ويقال يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له فى ذلك أى يَخِير له. قال ابن عباس: إنّ الله عزَّ وجلّ خلق الخلق وهو بهم عالم، فجعل الغنى لبعضهم صلاحاً والفقر لبعضهم صلاحاً، فذلك الخيار للفريقين.

{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ }

وقوله: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ...}
رفع. وعليه القراءة. ولو نصب طُوبَى والحُسْن كان صَوَاباً ما تقول العَرب: الحمدُ لله والحمدَ لله. وطوبى وإن كانت اسماً فالنصب يأخذها؛ كما يقال فى السبّ: الترابُ له والترابَ له. والرفع فى الأسماء الموضوعة أجود من النصب.

{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }

وقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ...}
لم يأت بعده جواب لِلَوْ فإن شئتَ جَعَلت جوابها متقدّماً: وهم يكفرون - ب ولو أنزلنا عليهم الذى سأَلوا. وإن شئتَ كان جوابه متروكا لأن أمره معلوم: والعرب تحذف جواب الشىء إذا كان معلوماً إرادةَ الإيجاز، كما قال الشاعر:
وأقسم لو شىء أتانا رَسولُه * سواك ولكن لم نجد لك مَدْفعا

وقوله: {بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ} قال المفسّرون: ييأس: يعلم. وهو فى المعنى على تفسيرهم لأن الله قد أوقع إلى المؤمنين أنه لو يشاء اللهُ لهدى الناسَ جميعاً فقال: أفلم ييأسوا عِلماً. يقول: يؤيِسهم العلم، فكان فيهم العلِم مضمرا كما تقول فى الكلام: قد يئِست منك أَلاّ تفلح عِلماً كأنك قلت: علِمته علماً.
وقال الكلبىّ عن أبى صَالح عن ابن عباس قال: ييأس فى معنى يعلم لغة للنَخَع. قال الفراء: ولم نجدها فى العربية إلاّ على ما فسّرت. وقول الشاعر:
حتى إذا يئِس الرماة وأرْسلُوا * غُضْفاً دواجِن قافلاَ أعصَامُهَا
معناه حتى إذا يئِسوا من كل شىء ممّا يمكن إلا الذى ظهر لهم أرسلوا. فهو معنى حتى إذا علمُوا أَن ليس وجه إلا الذى رأوْا أرسلوا. كان ما وراءه يأساً.
وقوله: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} القارعة: السريَّة من السرايا (أَوْ تَحُلُّ) أنت يا محمد بعسكرك {قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ...}
تُرك جوابه ولم يقل: ككذا وكذا لأن المعنى مَعلوم. وقد بيَّنه ما بعده إذ قال: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} كأنه فى المعنى قال: كشركائهم الذين اتَّخذوهم، ومثله قول الشاعر:
تَخَيَّرِى خُيِّرت أُمَّ عالِ * بين قصير شَبْرُه تِنبَالِ
أذاكِ أم منخرق السربال * ولا يزال آخر الليالى
* مُتلِفَ مال ومفيدَ مال *

تخيّرى بين كذا وبين منخَرِق السربال. فلمَّا أن أتى به فى الذكر كفى من إعادة الإعراب عليه.
وقوله: {فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} باطل المعنى، أىْ أنه ظاهر فى القول باطل المعنى.
ويقرأ: {وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ} وبعضهم (وصَدُّوا) يجعلهم فاعلين.

{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ }

وقوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ...}
يقول: صفات الجنة. قال الفراء: وحدَّثنى بعض المشيخة عن الكلبىّ عن أبى عبد الرحمن السُّلَمِىّ أَن عليّاً قرأهَا: (أَمثالُ الجنّة) قال الفراء أظن دون أبى عبد الرحمن رجلا قال: وجاء عن أبى عبد الرحمن ذلك والجماعة على كِتَاب المصحف.
وقوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} هو الرافع. وإن شئتَ للمَثَل الأمثال في المعنى كقولك: حِلْية فلان أسمر وكذا وكذا. فليس الأسمر بمرفوع بالحِلية، إنما هو ابتداء أى هو أحمر أسمر، هو كذا.
ولو دخل في مِثْل هذا أنّ كان صواباً. ومثله في الكلام مَثَلك أنك كذا وأنك كذا. وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَي طَعَامِهِ إنَّا} من وَجْهِ {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ومن قال {أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ} بالفتح أظهر الاسم؛ لأنه مردود على الطعام بالخفض أو مستأنف أى طعامُه أنا صَببنا ثم فعلنا.

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ }

وقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ...}

جاء التفسير: لكل كتاب أجل. ومثله {وَجَاءَتْ سَكْرَة المَوْتِ بالْحَقِّ} وذلك عن أبى بكر الصّديق رحمه الله: {وجاءتْ سَكرةُ المَوْتِ بالحقِّ} لأن الحقّ ا أتى بها وتأتّى به. فكذلك تقول: لكل أجلٍ مؤجَّل ولكل مؤجَّل أجل والمعنى واحد والله أعلم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }

قوله: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ...}
(ويُثَبِّتُ) مشدّد قراءة أصحاب عبدالله وتقرأ و (يُثْبِتُ) خفيف. ومعنى تفسيرها أنه - عزَّ وجلَّ - تُرفع إليه أعمال العبد صغيرُها وكبيرها، فيثبت مَا كان فيه عقاب أو ثواب ويمحو ما سوى ذلك.

{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ }

وقوله: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ...}
وأنت حَىّ.
{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} يكون بعد موتك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}.

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا...}
جاء: أولم ير أهل مكّة أنا نفتح لكَ ما حَولها. فذلكَ قوله (نَنقُصُهَا) أى أفلا يخافون أن تنالهم. وقيل {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بموت العلماء.
وقوله: {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} يقول: لا رادّ لحُكْمه إذا حَكَم شيئَا والمعقّب الذى يَكُرّ عَلَى الشىء. وقول لَبِيد:
حتّى تُهجَّر فى الرَّوَاح وهَاجه * طلبُ المعقِّب حَقَّه المظلومُ

من ذلك لأن (المعقِّب صَاحب الدَيْن يرجع على صَاحبه فيأخذه منه، أو من أُخِذَ منه شىء فهو راجع ليأخذه).
المعاني الواردة في آيات سورة ( الرعد )
{ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ }

وقوله: { وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ...}
على الجمع وأهل المدينة (الكَافِر).

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }

وقوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ...}
يقال عَبدالله بن سَلاَم. و (مِنْ عِنْدِه) خفض مردود على الله عزَّ وَجل. حدثنا الفراء قال: وحدثنى شيخ عن الزُّهْرِىّ رفعه إلى عمر بن الخطاب أنه لما جاء يُسلم سمع النبى صَلى الله عليه وسلم وهو يتلو {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} حدثنا الفراء قال وحدَّثنى شيخ عن رجل عن الحَكَم بن عُتَيْبَة {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ويقرأ (وَمِنْ عِنْدِهِ عِلْمُ الكِتَابِ) بكسر الميم مِنْ (من).

المعاني الواردة في آيات

سورة ( إبراهيم
)
{ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }

قول الله عزّ وجل: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ...}
{اللَّهِ الَّذِي...}
يُخفض فى الإعراب ويُرْفع. الخفضُ على أن تُتبعه (الحَمِيدِ) والرّفع عَلَى الاستئناف لانفاصاله من الآية؛ كقوله عَزَّ وجَلَّ {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}

إِلى آخر الآية، ثم قال {التَّائِبُونَ} وفى قراءة عبدالله (التائِبين) كل ذلك صواب.

{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...}
يقول: ليفهمهم وتلزمَهم الحجّةُ. ثم قال عز وجَل {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ} فرفع لأنّ النيّة فيه الاستئنَاف لا العطف عَلَى مَا قبله. ومثله {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فىِ الأَرْحَامِ مَا نشَاءُ} ومثله فى براءة {قَاتِلُوهُمْ يَعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِكُمْ} ثم قال {وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فإذا رأيتَ الفعل منصوباً وبعده فعل قد نُسَقِ عليه بواو أو فاء أو ثُمّ أو أوْ فإن كان يشاكل معنى الفعل الذى قبله نَسقْته عليه. وإن رأيته غير مشاكِل لمعْناه استأنفته فرفعته.
فمن المنقطع مَا أخبرتكَ به. ومنه قول الله عز وجل {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُون الشَّهَوَاتِ} رفعت (ويريد الذين) لأنها لا تشاكل (أَنْ يَتُوبَ) ألا ترى أن ضمّك إيَّاهُمَا لا يجوز، فاستأنفت أو رددته على قوله {وَاللهُ يُرِيدُ} ومثله {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} فيأبَى فى موضع رفع لا يجوز إلا ذلك.
ومثله قوله:
والشعر لا يَسْطيعُه من يظلمه * يريد أن يعربه فيُعجِمُه
وكذلك تقول: آتيك أن تأتينى وأكرمُك فتردّ (أكرمكَ) على الفعل الأول لأنه مشاكِل له وتقول آتيك أن تأتِيَنى وتحسنَ إلىَّ فتجعل (وتحسن) مردوداً على ما شاكلها ويقاس على هذا.

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

وقوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ...}
يقول: خوّفهم بأيَّام عاد وثََمُود وأشباههم بالعذاب وبالعفو عن آخَرِين. وهو فى المعنى كقولك: خذهم بالشدّة واللين.

المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ }

وقوله ها هنا: {وَيُذَبِّحُونَ...}
وفى موضع آخر {يُذَبِّحُونَ} بغير واو وفى موضع آخر {يُقَتِّلُونَ} بغير واو. فمعنى الواو أنهم يمسُّهم العذابُ غير التذبيح كأنه قال: يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح. ومعنى طرح الواو كأنه تفسير لصفات العذاب. وإذا كان الخَبَر من العذاب أو الثواب مجمَلاً فى كلمة ثم فسرته فاجعله بغير الواو. وإذا كان أوّله غير آخره فبالواو. فمن المجمل قول الله عز وجل {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} فالأثام فيه نيَّة العذاب قليلهِ وكثيره. ثم فسَّره بغير الواو فقال {يُضاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ} ولو كان غير مجمل لم يكن ما ليس به تفسيراً له، أَلا ترى أَنك تقول عندى دابَّتان بغل وبِرْذَوْن ولا يجوز عندى دابَّتان وبغل وبِرذَوْنٌ وأنت تريد تفسير الدَّابتين بالبغل والبِردون، ففى هذا كفاية عَمَّا نترك من ذلك فقس عَليه.

وقوله {وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} يقول: فيما كان يَصنع بكم فرعونُ من أصناف العذاب بلاء عظيم من البلِيَّة. ويقال: فى ذلكم نِعَم من ربّكم عظيمة إذ أنجاكم منها. والبَلاء قد يكون نعماً، وعذاباً. ألا ترى أنك تقول: إن فلاناً لحسن البلاء عندك تريد الإنعام عليك.

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }

وقوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ...}
معناه: أعلم ربّكم وربما قالت العرب فى معنى أفْعلت تفعَّلت فهذا من ذلك والله أعلم. أوعدنى وتوعَّدنى وهو كثير.

{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ }

وقوله {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ...}

جاء فيها أقاويل. حدثنا محمَّد قال حدّثنا الفراء قال: حَدّثنى حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس قال: كانوا إذا جاءهم الرسول قالوا له: اسكت وأشاروا بأصَابعهم إلى أفواه أنفسهم؛ كما تُسَكِّت أنت - قال: وأشار لنا الفراء بأصبعه السبَّابة على فيه - ردّا عليهم وتكذيبا. وقال بعضهم: كانوا يكذِّبونهم ويردّون القول بأيديهم إلى أفواه الرسل وأشار لنا الفراء هكذا بظهر كفه إلى من يخاطبه. قال وأرانا ابن عبدالله الإشارة فى الوجهين (وأرانا الشيخ ابْن العباس بالإشارة بالوجهين) وقال بعضهم: فردُّوا أيديهم فى أفواههم يقول رَدُّوا ما لو قبلوه لكان نِعَماً وأيادى من الله فى أفواههم، يقول بأفواههم أى بألسنتهم. وقد وجدنا من العرب مِن يجعل (فى) موضع الباء فيقول: أدخلك الله بالجنَّة يريد: فى الجنة. قال: وأنشدنى بعضهم:
وأرغب فيها عن لَقِيطٍ ورهطه * ولكنّنى عن سِنْبِس لست أرغب
فقال: أرغب فيهَا يعنى بنتاً له. أى إنى أرغب بهَا عن لقيط.

المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ }

وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا...}
قال {أَوْ لَتَعُودُنَّ} فجعل فيها لاماً كجواب اليمين وهى فى معنى شرط، مثلُه من الكلام أن تقول: والله لأضربنّك أو تُقِرَّ لى: فيكون معناه معنى حَتَّى أَو إلاّ، إلا أنها جاءت بحرف نَسَق. فمن العرب من يجعل الشرط مُتْبعاً للذى قبله، إن كانت فى الأول لام كان فى الثانى لام، وإن كان الأول منصوبا أو مجزوماً نَسَقوا عليه كقوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ} ومن العرب من ينصب ما بعد أوْ ليُؤذن نصبُه بالانقطاع عمّا قبله. وقال الشاعر:

لَتقعُدِنَّ مقعدَ القَصِىِّ * منِّىَ ذى القاذُورة المَقْلِىّ
أَو تحلفى بربّك العلىِّ * أنيِّ أبو ذيَّالِكِ الصبىّ
فنصب (تحلفى) لأنه أراد: أن تحلفى. ولو قال أو لتحلفِنّ كان صوابا ومثله قول امرئ القيس:
بكى صاحبى لَمَّا رأى الدرب دونه * وأيقن أنّا لاحقان بقَيْصَرا
فقلت له لا تبك عَيْنُك إنّما * نحاولُ مُلْكا أَو نموتَ فنُعذرا
فنصب آخره ورفع (نحاول) على معنى إلاّ أو حتى. وفى إحدى القراءتين: {تَقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُوا} والمعنى - والله أعلم - تقاتلونهم حتى يُسلموا. وقال الشاعر:
لا أستطيع نُزوعاً عن مودّتها * أوْ يصنعَ الحبُّ بى غير الذى صَنَعَا
وأنت قائل فى الكلام: لست لأبى إن لم أقتلك أو تسبقْنَى فى الأرض فتنصب (تسبقنى) وتجزمها. كأنّ الجزم فى جوازه: لستُ لأبى إن لم يَكن أحدُ هذين، والنصب عَلَى أَنّ آخره منقطِع عن أوَّله؛ كما قالوا: لا يسعُنى شىء وَيضيقَ عنك، فلم يَصْلح أن تردّ (لا) على (ويضيق) فعُلم أَنها منقطِعة من معناها. كذلك قول العرب: لو تُرِكْتَ وَالأَسَدَ لأكلك لمَّا جاءت الواو ترُدُّ اسماً على اسم قبله، وقبح أن تردّ الفعل الذى رَفَع الأوّل على الثانى نصب؛ أَلا ترى أنك لا تقول لو تُركت وتُرك الأسدُ لأكلك. فمِن هَا هنا أتاه النصب. وجَاز الرفع لأن الواو حرف نَسَق معروف فجاز فيه الوجهان للعِلَّتين.

{ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ }

وقوله: {ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي...}
معناه: ذلك لمن خاف مقامه بين يَدَىّ ومثله قوله: {وَتَجْعَلُون رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} معناه: رزقى إِيَّكم أنكم تكذِّبون والعرب تضيف أفعالها إلى أنفسها وإلى ما أُوقعت عليه، فيقولون: قد ندمت عَلَى ضربى إيَّاك وندمت عَلَى ضربك فهذا من ذلك والله أعلم.

{ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }

وقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ...}
فهو يُسيغه. والعرب قد تجعل (لا يكاد) فيما قد فُعل وفيما لم يُفعل. فأمَّا ما قد فُعِل فهو بَيّن هنا منْ ذلك لأن الله عزَّ وَجلّ يقول لَمِا جعله لهم طعاماً {إِنَّ شَجَرّةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثيمِ كالمُهْلِ يَغْلِى فى البُطُونِ} فهذا أيضاً عذاب فى بطونهم يُسيغونه.وأمَّا ما دخلت فيه (كاد) ولم يُفعل فقولك فى الكلام: ما أتيته ولا كِدت، وقول الله عزّ وجلّ فى النور {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا} فهذا عندنا - والله أعلم - أنه لا يراها. وقد قال ذلك بعض الفقهاء لأنها لا تُرى فيما هو دون هذا من الظلمات، وكيف بظلمات قد وُصفت بأشدّ الوصف.
وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ}: حدَّثنا الفراء: قال: حدثنى حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس قال: (يأتِيِه المَوْتُ) يعنى: يأتيه العذاب من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله. حدثنى هُشَيم عن العوَّام بن حَوْشَب عن إبراهيم التَّيْمِىّ قال: من كل شَعَرة.
وقوله: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} العرب إذا كان الشىء قد مات قالوا: ميْت وميِّت. فإن قالوا: هو ميت إن ضربته قالوا: مائت وميّت. وقد قرأ بعض القراء {إِنَّك مَائِتٌ وَإِنَّهُمْ مَائِتُون} وقراءة العوامّ عَلَى (ميّت). وكذلك يقولون هذا سيّد قومه وما هو بسائدهم عن قليل، فيقولون: بسائدهم وسيّدهم، وكذلك يفعلون فى كل نعْت مثل طمع، يقال: طَمِعٌ إذا وُصف بالطمع، ويقال هو طامع أن يُصيب منك خيراً، ويقولون: هُو سكران إذا كان فى سكره، وما هو ساكر عن كثرة الشراب، وهو كريم إذا كان موصُوفاً بالكرم، فإن نويت كَرَماً يكون منه فيما يُستقبَلِ قلت: كارم.

المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )

{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ }

وقوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ...}
أضاف المَثَل إليهم ثم قال {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} والمَثَل للأعمال والعرب تفعل ذلك: قال الله عزّ وجلّ {وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُسْوَدَّةٌ} والمعنى تَرى وجوهَهم مسودّة. وذلك عربىّ لأنهم يجدون المعنى فى آخِر الكلمة فلا يبالونَ ما وقع على الاسم المبتدأ. وفيه أن تكُرَّ ما وقع على الاسم المبتدأ عَلى الثانى كقوله {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً} فأعِيدت اللام فى البيوت لأنها التى تراد بالسقف ولو خفضت ولم تظهر اللام كان صَواباً كما قال الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فيه}.
فلو خَفَض قارئ الأعمال فقال (أعمالِهمْ كَرَمَادٍ) كان جائزاً ولم أسمعه فى القراءة. وقد أنشدنى بعضهم:
ما للجِمَالِ مَشْيِها وئيداً * أجندلاً يحملن أَم حديدَا
أراد ما للجمال ما لمشيها وئيداً. وقال الآخر:
ذرِينى إن أمركِ لن يطاعَا * وما ألفيتنِى حِلِمى مُضَاعَا
فالحلم منصوب بالإلقاء على التكرير ولو رفعته كان صَوابا.
وقال {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} فجعل العصوف تابعاً لليوم فى إعرابه، وإنما العصُوف للريح. وذلك جائز على جهتين، إحداهما أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم يوصف به؛ لأن الريح فيه تكون، فجاز أن تقول يوم عَاصف كما تقول: يوم بارد ويوم حارّ. وقد أنشدنى بعضهم:
* يومين غيمين ويوماً شمساً *
فوصف اليومين بالغيمين وإنما يكون الغيم فيهما. والوجه الآخر أن يريد فى يوم عَاصِفِ الريح فتحذف الريح لأنها قد ذكرت فى أوّل الكلمة كما قال الشاعر:

فيضحكُ عرفانَ الدروع جلودُنا * إذا جاء يوم مظلمُ الشمس كاسفُ
يريد كاسف الشمس فهذان وجهان. وإن نويت أن تجعل (عاصف) من نعت الريح خاصّةً فلمّا جاء بعد اليوم أتبعته إعراب اليوم وذلك من كلام العرب أن يُتبعوا الخفض الخفض إذا أشبهه.
قال الشاعر:
كأَنَّما ضربت قدّام أعينِها * قُطْنا بمستحصِد الأوتار محلوج
وقال الآخر:
تريك سُنَّة وجه غيرِ مُقرفَةٍ * مَلْسَاء ليس بها خال وَلاَ نَدَبُ
قال: سمعت الفراء قال: قلت لأبى ثَرْوان وقد أنشدنى هذا البيت بخفضٍ: كَيف تقول: تُريك سُنَّة وجه غيرَ مقرفة؟ قال: تريك سنّة وجه غَيْرَ مقرفة. قلت له: فأنشِد فخفض (غير) فَأعدت القول عَليه فقال: الذى تقول أنت أجود ممّا أقول أنا وكانَ إنشاده على الخفض. وقال آخر:
وإيَّاكم وحَيَّة بطنِ وادٍ * هَمُوزِ الناب ليسَ لكم بِسِىّ
ومِمّا يرويه نحويُّونا الأوَّلون أن العرب تقول: هذا جُحْرُ ضَبّ خَرِبٍ. والوجه أن يقول: سُنَّةَ وجه غيْرَ مقرقة، وحَيَّةَ بطنِ واد هموزَ الناب، وهذا جُحْرٍ ضبّ خرِبٌ. وقد ذُكر عن يحيى بن وثَّاب أنه قرأ {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّة المَتِينِ} فخفض المتين وبه أخَذ الأعمش. والوجه أن يرفع (المتين) أنشدنى أبو الجَرّاح العُقَيلىّ:
يا صاحِ بَلِّغ ذَوِى الزوجَات كُلِّهم * أن ليس وصلٌ إذا انحلّت عُرَا الذَنْب
فأتبع (كلّ) خفض (الزوجات) وهو منصوب لأنه نعت لذوى.

{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وقوله: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ...}
أى الياءُ منصوبة؛ لأن الياء من المتكلّم تسكن إذا تحرك مَا قبلها وتُنصب إرادة الهاء كما قرئ {لكم دينكم ولىَ دين} (ولِى دين) فنصبت وجُزمت. فإذا سَكن ما قبلها رُدّت إلى الفتح الذى كان لها. والياء من (مُصْرِخِىّ) سَاكنة والياء بعدها من المتكلم سَاكنة فحرِّكت إلى حَركة قد كانت لها. فهذا مطَّرِد فى الكلام.
ومثله {يَا بَنِىَّ إِنَّ اللّهْ} ومثله {فَمَنْ تَبِعَ هُدَاىَ} ومثله {مَحْيَاىَ وممَاتى}.
وقد خفض الياء من قوله {بِمُصْرِخِيَّ} الأعمش ويحيى بن وثَّاب جميعاً. حَدَّثنى القاسم بن مَعْن عن الأعمش عن يحيى أنه خفض الياء. قال الفراء: ولعلها من وَهْم القُرَّاء طبقة يحيى فإنه قل من سَلم منهم من الوَهْم. ولعله ظَن أن الباء فى (بمصرخىّ) خافضة للحرف كله، والياء من المتكلّم خارجة من ذلك. ومما نرى أنهم أوهمُوا فيه قوله {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ} ظنُّوا - والله أعلم - أن الجزم فى الهَاء؛ والهاءُ فى موضع نصب، وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه.
وممّا أوهموا فيه قوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشيَاطِينُ} وحدَّث مندل بن علىّ العَنَزِىّ عن الأعمش قالَ: كنت عند إبراهيم النَخَعىّ وطَلْحةُ بن مُصَرِّف [يقرأ] {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعْونَ} بنصب اللام من (حوله) فقال إبراهيم: ما تزال تأتينا بحرف أشنع، إنما هى {لِمَنْ حَوْلِه} قال قلت: لاَ، إِنما هى (حَولَه) قال: فقال إِبراهيم ياطلحة كيف تقول؟ قال: كما قلتَ (لمن حَوْلِهِ) قال الأعمش. قلت: لحنتما لا أجالسكما اليوم. وقد سمعت بعض العرب يُنشد:
قال لها هل لك يا تافِيِّ * قالت له مَا أنتَ بالمرضِىّ

فخفض الياء من (فىّ) فإن يك ذلك صَحيحاً فهو مما يلتقى من الساكنين فيُخفض الآخِر منهما، وإن كان له أصْل فى الفتح: ألا ترى أنهم يقولون: لم أره مُذُ اليوم ومُذِ اليوم والرفع فى الذالِ هو الوجه؛ لأنه أصل حركة مُذ والخفض جائز، فكذلك الياء من مصرخىّ خُفضت ولها أصل فى النصب.
وقوله {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ} هذا قول إبليس. قال لهم: إنى كنت كفرت بما أشركتمون يعنى بالله عز وجَل (مِنْ قَبْل) فجعل (مَا) فى مذهب مَا يؤدّى عن الاسم ب.

{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ }

وقوله: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ...}
رفعَت المَثَل بالكاف التى فى شجرة. ولو نصبت المثل. تُريد: وضرب الله مثلَ كلمةٍ خبيثة. وهى فى قراءة أُبَيّ (وضرب مثلاً كلمة خبيثة) كشجرة خبيثة وكل صواب.

المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ }

وقوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ...}
يقال: بلا إله إلا الله فهذا فى الدنيا. وإذا سئل عنها فى القبر بعد موته قالهَا إذا كان من أهل السَّعادة، وإذا كان منْ أهل الشقاوة لم يقلها. فذلك قوله - عزَّ وجلّ - {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} عنها أى عن قول لا إله إلا الله {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} أى لا تنكروا له قدرةً ولا يُسأل عما يَفعل.

{ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ }

وقوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا...}

منصوبة عَلَى تَفسير (دَارَ البَوَارِ) فردّ عَليهَا ولو رفعت على الائتناف إذا انفصلَتْ من الآية كانَ صوابا. فيكون الرفع عَلى وجهين: أحدهما الابتداء. والآخر أن ترفعها بعائِد ذِكْرها؛ كما قال {بِشرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.

{ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ }

وقوله: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ...}
جُزِمت (يُقِيمُوا) بتأويل الجزاء. ومعناه - والله أعلم - معنى أمر؛ كقولك: قل لعبدالله يذهبْ عنا، تريد: اذهب عنا فجُزِمَ بِنيّة الجواب للجزم، وَتأويله الأمر ولم يُجزم على الحكاية. ولو كان جَزمُه على مَحْض الحكاية لجاز أن تقول: قلت لكَ تذهبْ يا هذا وإنما جُزِم كما جُزِم كما جُزِمَ قوله: دَعْه يَنَمْ، {فَذ‍َرُوهَا تَأْكُلْ} والتأويل - والله أعلم - ذ‍َروهَا فَلْتَأْكُل. ومثله {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ} ومثله {وَقُلْ لعِبَادِى يَقُولُوا الَّتىِ هِىَ أَحْسَنُ}.

المعاني الواردة في آيات سورة ( إبراهيم )
{ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }

وقوله - تبارك وتعالى -: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ...}

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8