كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

ما مال عطف الغصن أو غردت ... لهُ قيان الورقِ زهواً ومات
إسماعيل بن الفرج بن إسماعيل

بن يوسف بن نصرالسلطان أبو الوليد الغالب بالله الأرجوني صاحب الأندلس.
استولى على الأندلس ثلاث عشرة سنة، فأبعد الملكَ أبا الجيوش خاله، وقرر له وادي آش.
وكان أبوه الفرج متوالياً لمالقة مدة، فشب إسماعيل، وعزم على الخروج، فلامه أبوه فقبض على أبيه مكرماً، وعاش الأب في سلطنة ولده عزيزاً إلى شهر ربيع الأول سن عشرين وسبع مئة، وقد شاخ. والذي نهض بتمليك إسماعيل أبو سعيد بن أبي العلاء المريني وابن أخيه أبو يحيى.
وكان الغالب للناس غالباً، شجاعاً محارباً، ناهضاً بأعباء ملكه، رافضاً لمن لا ينخرط في سلكه، عديم النظير، عظيم النكير، مؤيداً على عدو الدين، مشيداً لدين الغسلام بإهلاك الملحدين، هزم الله جيوشَ الكفر على يده، وأبادَ ملوك الصليب، وأحرقهم من توقده، وكانت وقعة عظيمة، فتح الله بها، وأذل الفرنج للمسلمين بسببها.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الغالب القدر مغلوباً، وراح ظفره مقلوباً، وصبغ شقيقُ دمه سوسنَ الحسام، وصالت على وحدته المنايا الجسام، لأن ابن عمه، وثبت عليه وقتله، ورده عن الحياة وفتله، ثم إن أعوانه وخدمه أخذوا بثأره في يومه، ونبهوا لذاك الدهرَ من نومه، وملكوا ولده محمداً، فكان شهماً مُمجداً، وذلك في ذي القعدة سنة عشرين وسبع مئة.
إسماعيل بن عمرو بن المسلم
بن الحسن بن نصرالشيخ الصدر الكبير العدل الراضي العابد ضياء الدين أبو
الفداء ابن الصدر عزّ الدين ابن الشيخ رضي الدين أبو الفضل الدمشقي المعروف بابن الحموي.
سمع من عثمان بن علي بن خطيب القرافة كتاب المصافحة للبرقاني، والمجالس السلماسيّة، وأخبار النحويين لابن أبي هاشم، وهو جزء لطيف، وتفرد برواية ذلك عنه. وسمع جزء ابن عرفة من شيخ الشيوخ الأنصاري، وسمع على جماعة من المتأخرين.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وخرجت له جزءاً عن ثلاثين شيخاً. وكان شيخاً مباركاً كثر التلاوة، يصوم الاثنين ويفطر هو وجماعة من الفقراء وغيرهم. وحج أربع مرات، وجاور بمكة سنة، واقام بالقدس مدة. وكانت له كتب جيدة يطالع فيها.
وقال: لم أرَ حماة لا أنا ولا والدي. وكان مستوفي الخزانة.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشر صفر سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة. ومتعه الله بجميع حواسه إلى أن مات رحمه الله، وقد جاوز التسعين.
إسماعيل بن محمد بن عبد الواحدابن إسماعيل بن علي بن صدقة، العدل الرئيس نفيس الدين الحرّاني ثم الدمشقي، ناظر الأيتام.
سمع الموطأ من مكرم. وحدث. وسمع بنفسه من ابن مسلمة وغيره.
كانت له دار مليحة بدمشق، فوقفها مدرسة، وجعل الوقف على أهل الحديث وحبسه، وهي بدمشق في الرصيف من سوق الكفت مشهورة، وحسنات واقفها في صُحُفه مسطورة، ولي مشيختها تاج الدين الجعبري، وقرأ بها الشيخ علم الدين البرزالي، ونزل بها الشيخ أبو الحسن الختني وجماعة.
ولم يزل نفيس الدين على حاله إلى أن فاضت نفسه، وضمه رمسُه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
إسماعيل بن محمد بن إسماعيلالشيخ الصالح مجد الدين الحرّاني الحنبلي.
قدم دمشق شاباً، واشتغل وبرع في المذهب. وأخذ عن ابن أبي عمر، وابن عبد الوهاب، والفخر البعلبكي، وابن المنجّا. وسمع من ابن الصرفي وغيره.
وكان في الفقه رأساً. تخرج به جماعة، وكان العلم به في إذاعة من غير إضاعة. وكان يهضم قدره، ولا يعرف الناس أمهر، فإنه كان في مدارس تلاميذه معيداً، وقد جعل الله بينهم وبينه بوناً بعيداً. وعنده إخلاص وورع، وما ترك هضبة من الخشوع حتى اعتلاها وفرع.
ولم يزل على حاله إلى أن فرغ الأجل، وجل به أمر الله عز وجل.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة، وشيعه خلق كثير، وجمعٌ غزير.
إسماعيل بن محمد بن عبد الله
القاضي الكبير الرئيس، أبو الفداء، ابن القاضي شرف الدين ابن الصاحب فتح
الدين بن القيسراني.

كان موقع الدست بالقاهرة، ثم إن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أخرجه إلى حلب كاتب سرّ في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا. وصل إليها في أوائل شوال سنة أربع عشرة وسبع مئة، فباشر الوظيفة على القالب الجائر، وأجرى الله بسعده فيها الفلك الدائر، وضاق بالنائب عطنُه، وصار فيها الغريب معه وهي وطنه، وكثر له الحسدة، وجاءه كيد أعاديه وحشده، وأوهموا الأكابر الذين في مصر منه، وبلعُوهم ما اختلقوه عنه، فساعدوا الحلبيين على عزله، ونقض غزله.
وحضر هو وأولاده إلى دمشق، ورُتب فيها موقع الدست كبيراً، وجُعل ولداه في كتاب الإنشاء سراجاً وقمراً مُنيراً، ومال إليه آخر الأمر تنكز وأحبه، وملكه خاطره ولبه.
وكان يدناً خيراً صيناً، يعصب لمن يقصده، ويراقب عونه ويرصده، يُؤثر الفقراء ويودّهم، ويقوم معهم إلى أن يُقبل حظهم وجدهم.
وكان حسن المحاضرة، متعَ المذاكرة، يستحضر من حكايات الصالحين جُمله، ويتولى من أمرها حمله، لو جلست معه ثلاثة أيام بلياليها لأورد عليك جملة من أماليها.
وكان وهو بالديار المصرية يحضر السماع، مع ما عنده من العزلة والانجماع، وعليه فيه أنس وحركة، ويرى الناس منه في ذلك خيراً وبركة.
وروى عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وغيره. وحدث بدمشق.
ولم يزل بدمشق إلى أن نزل الموت بابن القيسراني قسراً، وجعل العيون بالحزن عليه حسرى.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر ذي القعدة سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وكانت جنازته حفلة، ودفن بمقابر الصوفية.
اجتمعت به - رحمه الله تعالى - بدمشق غير مرّة، والتقطتُ من إنشاده غير درّة، وأولاني من خيره وجبره الإحسان والمبرة. ولما توفي - رحمه الله تعالى - كنت بالديار المصرية، فكتبت إلى ولده القاضي شهاب الدين يحيى - رحمه الله تعالى - أعزيه فيه، يأتي ذكر ذلك فيما بعد.
وكان قد كتب إلي وأنا بالقاهرة:
إليك صلاح الدين شوق امرئ غدا ... وقد صح دونَ الجسمِ فيكَ ودادُهُ
ترحلتَ عن مغنى دمشق فشوقُنا ... إليك طوالَا لدهرِ تجري جيادُهُ
إن كنتَ في أرضٍ يحل صلاحُها ... وإن كنتَ في مغنىً يزولُ فسادُهُ
فكتبت أنا الجواب إليه:
أتاني مثالٌ منك يُفدى سواده ... بعيني بل يعلو عليها مدادُهُ
أمنتُ به دهري وصُلتُ بوصلهِ ... على الخطب حتى خافَ مني عتادثهُ
وصرفتُ في صرفِ الزمانِ أناملي ... إلى أن غدا في حُكم أمري قيادُه
وأطفأ جمراً في الجوانحِ كلما ... تذكركم قلبي يزيدُ اتقادُهُ
ولو لم يرد هذا المثال لما بقي ... من الخاطر المشتاقِ إلا رمادُهُ
لقد أصبحَ المملوكُ عبداً مكاتباً ... وتم لهُ مما يرومُ مرادُهُ
فلا غرو أن يبنى على الأفق مجدُه ... لأنك من دُون الأنامِ عمادُهُ
وإن صلاحاً نالك عطفك في الورى ... عيه بعيد أن يراه فسادُه
أيا من له سبقُ المعالي إذا جرت ... لينلِ العلا يوم الفخارِ جيادُهُ
ومن يتحلى الدهرُ منهُ بماجدٍ ... تكمل فيه حلُمه وسدادُهُ
ومن لاق في غينِ الكمالِ انتقاؤهُ ... وصح على زيفِ الأنامِ انتقادُهُ
ومن فرعته دوحةٌ خالديةٌ ... فطارفُه مجدٌ علا وتلادُهُ
ليهني بني مخزومَ فخرٌ غدا إلى ... عمادُهم دون الأنام معادُهُ
وفاحت خُزامى مجدِ مخزومَ في الورى ... فطالت روابيهِ وطابت وهادُهُ
ولم لا وسيفُ الله خالدُ منهمُ ... على عاتقِ الملكِ الأغر نجادُهُ
فكم طالَ منهُ للعدى صدرُ أبترٍ ... وما قصرت في الدراعين صعادهُ
بقيتَ عماد الدين ذخر أمرىء صفت ... وما قصرت في الدارعين صعادُهُ
وأخلصَ فيكم حُبه وولاءه ... وصحَّ على طولِ البعادِ ودادُهُ
ونسخة الكتاب الذي كتبته إلى ولده القاضي شهاب الدين يحيى أعزيه في والده من القاهرة:

أي خطبٍ به تلظّى فؤادي ... وأسال الدموعَ مثل الغوادي
وأعادَ الحمامَ يندُبُ شجواً ... فوقَ فرعِ الأراكة الميّاد
وكسا الأنجم الزواهر طرأ ... في ظلامِ الدجى ثيابَ الحداد
وأباحَ الأسى حملَ كل صبرٍ ... من رُبا كل بلدةٍ أو وهادِ
قد أصمَّ الأسماعَ نعيُ عماد الدي ... ن فالناسُ بعده في جهادِ
آه كيفَ القرارُ فوقَ فراشٍ ... ملأتهُ الأحزانُ خرط القتادِ
كيف تلتذ بالمنامِ جفونٌ ... قد محاها البكا وطولُ السهاد
أين ذاكَ الجلالُ في الحفلِ لما ... يكتسيه من أنفس الأبرادِ
والوقارُ الذي يقر رسوخاً ... حين تهفو الرياحُ بالأطوادِ
كم حمى باليراعِ مُلكاً في يحت ... ج لبيض الظّبا وسمر الصعادِ
ولكم قد أتى بصدعةِ حقٍّ ... خيفَ من بأسها على الأكبادِ
هكذا من يكونُ عند ملو ... كِ العصر يهديهم سبيلَ الرشادِ
حملوهُ فوقَ الرقابِ ولكن ... بعدما أثقل الورى بالأيادي
من كرامٍ راقت معاني عُلاهم ... وتغنّي بمدحهم كل شادِ
نسبٌ باهرُ السنا خالدي ... قد تساوت غاياتُهُ والمبادي
يا دموعي باللهِ روي ثراهُ ... إن تخن قبرهُ عهودُ العهادِ
آه واوحشتا لذاك المحيّا ... افتقاري لنورهِ وافتقادي
لم يعب من نأى وأبقى شهاباً ... لم يزل دائم السنا وسؤددٍ وسدادِ
يتراءى في الدست بني جمال ... جلالٍ وسؤددٍ وسدادِ
فتواقيعُه تراها طرازاً ... رمي الروضُ عندها بالكسادِ
وبألقالمه يُسر الموالي ... أن براها كما يسوء الأعادي
قد تلقيتُ راغماً يا شهابَ ال ... دين خطباً يفض صم الصلادِ
لستُ في هذه المصيبة فرداً ... وهي قد أنكأت قلوبَ العبادِ
فاصطبر واحتسب على الله أجراً ... تلقهُ عدةً ليومِ المعادِ
لم يخفف وجدي به غيرُ ظني ... أنهُ في المعادِ خيرُ مُعاد
ملئت صُحفُه من البر والتق ... وى فولى منها بأفضل زادِ
فهو عندَ الإلهِ جل مقيمٌ ... في نعيمِ ما إن لهُ من نفادِ
فالبكا في الورى على مثل هذا ... غير مجدٍ في ملتي واعتقادي
يقبلُ الأرض، وينهي ما بلغه من النبأ الذي سق قلبه، وزاد كربه، وأذهل لبه، وأضعف جلده، وقوّى من الحزن حزبه، وأغارَ على الصبر فلم يدع عند حبة القلب حبه، وشن على الفؤاد حربه لما أغمد فيه حربة.
لم يبقَ من بدني جزءٌ علمت بهِ ... إلا وقد حله جزؤٌ من الحزن
كان اللحاقُ به أولى وأحسن لي ... من أعيش سقيم الروحِ والبدنِ
" فإنا لله وإنا إليه راجعونَ " قولهُ من وهى عمادُه، وفقد من كان على الله تعالى وعليه توكله واعتمادُه، وذهب من كان يفديه من القلب سويداؤه، ومن الطرف سوادُهُ، وعدم من أحزن الوجود فقده حتى نُشر من الليل حدادُه، وذر من الصباح رمادُه:
مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقى بقعةٌ ... غداةَ ثوي إلا اشتهت أنها قبرُ

فرحم الله تلك الروحَ الطاهرة وكاها، وشكر لها برها المتنوع وتقواها، ورفع أعمالها إلى درجات الأبرار ورقاها، وأجزل لها موادَ الغفران وأنماها، ونوّلها من الرضوان ما لا ينقطع أمده ولا يتناهى، وجعل دار المقامة مقامها، وفي جنة المأوى مأواها، فإنه كان زكاها وهذبها في طول مدته بالعلم والعلم، وما بقي لمولانا - أعظم الله أجره - غير الأخذ بسنة الصبر، والتأسي بكل فرعٍ تثنى على الأرض، وأصله قد ذوى على القبر، وهذا أمر لا بد لنا من شرب كأسه وبلوغ أنفاسه، ونفوذ سهم المنية في قرطاسه، وهو - أحسن الله عزاءه - أعلمُ بما يقال وأخبر وأجل من أن ينبه لمثل هذا وأكبر:
أنت يا فوق أن تُعزى عن الأحباب فوقَ الذي يعزيكَ عقلاً
ومن كان مولانا خلفه فما غاب شخصه عن غابه، ولا ظعن سؤدده عن جنان جنابه، فيا هنا دستٍ أنت صدرهُ، وأفق منصب أنت بدره، ويا انتصافات ظلامات أقلامك الحاكمة بفضلها، ويا بشارة دار عدلٍ تواقيعك أربابُ عقدها وحلّها، فإنا معشر الأولياء لنضع الجباهَ شكراً على الثرى:
إنا لنتلو الحمدَ فيكَ مكرّرا ... وإنّا لنرجو فوقَ ذلك مظهراً
والله يهب مولانا عمراً مديداً، وعزاً أكيداً، ويجعله كجده خالداً يرى كل يوم وليداً، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
إسماعيل بن محمد بن عبد الكريمابن عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل، الشيخ الجليل العدل الفقيه الأصيل، الصدر شرف الدين أبو الفداء الأنصاري الحرستاني الدمشقي.
روى عن السخاوي، والقرطبي، والعزّ بن عساكر، وعتيق حضوراً. وسمع من جده، وعبد الله بن الخشوعي، وإسماعيل العراقي، وعثمان خطيب القرافة، وجماعة.
وكان جيداً حسن الخلق يخدم في الدواوين، ويحضر درس الأمينية، وله ملك.
توفي رحمه الله تعالى يوم السبت رابع المحرم سنة تسع وسبع مئة.
ومولده في شهر رجب الفرد سنة تسع وثلاثين وست مئة بالجويرة بدمشق.
إسماعيل بن محمد بن ياقوت

الصدر الخواجة مجد الدين السلامي.
كان من تجار الخاصَ في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، يدخل إلى بلاد التتار، ويتجر ويتبضع، ويعود بالرقيق وغيره من أنواع المتاجر وغرائب البلاد. واجتهد في النوين جوبان - رحمه الله تعالى - إلى أن اتفق الصلح بني السلطان الملك الناصر وبني القان بوسعيد، فانتظم ذلك بسفارته وحسن سعيه، وازدادت وجاهته عند الملكين، وكان يسفره الملك الأنصار، ويقرر معه أموراً يريدها، فيتوجه ويقضيها على وفق مراده بزياداتس فأحبه وقربه، ورتب له الرواتب الوافرة في كل يوم من الدراهم واللحم والعليق والسكر والحلوى والكّماج والرقاق مما لعله يبلغ في اليوم مئة وخمسين درهماً، وأعطاه قرية أرّاق ببعلبك، وأعطى مماليكه إقطاعات في الحلقة، وكان يتوجه إلى الأرد ويقيم فيه الثلاث سنين والأربعة، والبريد لا ينقطع عنه، وتُجهز التحف والأقمشة وغيرها إليه لفرقها هو على من يراه من أعيان الأردو وخواص بوسعيد ثقة بمعرفته ودربته.
وكان النشو ناظر الخاص لا يفارقه ولا يصبر عنه، ومن أملاكه ببلاد الشرق السلامية والماحوزة والمراوزة والمناصف. ولما توفي الناصر تغير عليه الأمير سيف الدين قوصون وأخذ منه مبلغاً يسيراً.
وكان ذا عقل وافر، وفكر على الإصابة متضافر، خبيراً بأخلاق الملوك وما يليق بخواطرها، درباً بما يتحفه بها من ريقها وجواهرها، نطقه سعيد، وخلقه من الانحراف بعيد، حسن الكشالة، بهي الطلعة، تضيء كالذبالة.
ولم يزل بمصر في آخر الأمر إلى أن افترش الرغام، وتشعث صفوُ سمائه بالموت وغام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الأربعاء سابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وسبعين وست مئة.
ودفن بتربته بَرا باب النصر بالقاهرة.
إسماعيل بن محمد بن قلاوون
الملك الصالح بن الملك الناصر بن الملك المنصور عماد الدين، أبو الفداء.

اختلف الناس من أربابح العقد والحل عندما توجه الناصر أحمد أخوه إلى الكرك، وأقام به وأعرض عن مصر - على ما تقدم في ترجمته - وأرادوا إقامة ملكٍ غيره، فاجتمع المشايخ من مقدمة الألوف والأمراء الخاصكية وأصهار السلطان، فقال الأمير جنكلي بن البابا: يا أمراء! أنتم أصهار السلطان، وأنتم أخبر بأولاده، فمن علمتموه صالحاً ساكناً عاقلاً ديناً وله الملك. فقالوا: هذا سيدي إسماعيل. فأقامه الأمير بدر الدين وأجلسه على التخت، وبايعه، وحلف له، وحلف بعده الأمراء على مراتبهم العساكر. وجُهز الأمير سيف الدين طقتمُر الصلاحي إلى دمشق في البشارة، وكان ذلك يوم الخميس ثاني عشري شهر المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
وكان شكلاً حسناً، وله رونق وسنا، حلو الوجه أبيض بصفرة يسيرة، تعلوه هيبة الملك المنيرة، له في خده شامة، تزيده حُسناً في طلعته السافرة، كأنها في ذلك الخد نقطة من ند، أو يوم وصال جاءت فيه ساعة من صد.
وكانت أيامه بالسعادة آلهة، وبصلة الأرزاق كافلة، وكلنه لما تولى استولى النساء عليه، ومال إليهنّ، وتزوج ابنة الأمير شهاب الدين أحمد بن بكتمر الساقي التي من ابنة تنكز، ثم تزوج ابنة الأمير سيف الدين طقزتمر الناصري نائب الشام، وحضر الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي إلى دمشق خاطباً لها من أبيها، وكان يميل إلى السودان من النساء ويؤثرهن، والمدبر لدولته الأمير سيف الدين أرغون العلائي المقدم ذكره.
ولما تولى الملكَ أقر الأمير شمس الدين أقسنقر السلاري في النيابة بمصر، ثم أمسكه وولى النيابة الأمير سيف الدين الحاج آل ملك. وكانت أيامه سعيدة.
ولم يزل على حاله إلى أن ذوى غصن شبابه وقُصف، ونضد الجندل فوقه ورصف.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبع مئة.
وقتل أنا مضناً:
مضى الصالحُ المرجو للباسِ والندى ... ومن لم يزل يلقى المنى بالمنائح
فيما ملكَ مصرَ كيف حالك بعده ... إذا نحنُ أثنينا عليك بصالح

إسماعيل بن محمد بن إسماعيل
بن سعد الله، الحموي
الشيخ الفقيه المقرئ النحوي جمال الدين أبو الفداء الحنفي، المعروف بابن الفقاعي.
كان شيخاً فاضلاً، مناظراً مناضلاً، مفتياً مفّنناً، محرراً مقنناً، عارفاً بالقراءات والتجويد، وحسن الأداء والترتيل والترديد، مع المعرفة بالفقه والنحو والأدب، وإليه ينسلون من كل حدب.
ولم يزل بحماة إلى أن طرق الموت حماه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى سنة خمس وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
وكان مدرساً بمدرسة الطواشي بحماة، وليها بعده قاضي القضاة ناصر الدين بن العديم، ومن شعره:...
إسماعيل بن محّمد بن إسماعيل
بن علي الأمير عماد الدين بن الملك الأفضل بن الملك المؤيد.أحد أمراء الطبلخانات بحماة، تقدم ذكر جده الملك المؤيد صاحب حماة. وسيأتي ذكر والده الأفضل في المحمدّين في مكانه.
كان شكلاً حسناً، وذا صورة تخجل الأقمار منها سناء وسنا، أشقر يتلألأ وجهه كالبدر، ويحكي نبت عذاره زعفران الشعر، عليه خفر أولاد الملوك، وسلوكه في طريق التجمل والحشمة أحسن السلوك.
ولم يزل على إمرته بحماة حتى اعتبط، وانحل من نظام حياته ما كان قد ربط.
وتوفي - رحمه الله تعالى - شاباً، ولم يكمل الخمس والعشرين، والعشر الأواخر من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة.
وكان قد حج في سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
إسماعيل بن نصر اللهابن أحمد بن محمد بن الحسن بن عساكر الشيخ فخر الدين أبو محمد بن تاج الأمناء.
روى عن ابن اللتي، ومكرم، وعم والده عبد الرحيم بن عساكر، وإبراهيم الخشوعي، وإسماعيل بن ظفر، وسالم بن صصرى، وشيخ الشيوخ ابن حمويه، وعبد العزيز الصالحي، والمخلص بن هلال، والعز ابن عساكر النسابة وهو عمه، وعتيق السلماني، وابن المقير، والسخاوي، وعمر بن البراذعي، والقاضي أبي نصر بن الشيرازي، ومكي ابن علان، والقاضي شمس الدين بن سني الدولة، وكريمة القرشية.
وكانت له إجازة من الحسن بن الأمير السّيد، وإسماعيل بن باتكين، والشهر وردي وابن القطيعي، وابن روزبة، وزكريا العُلبي، ويا سيمن بنت البيطار، وأبي بكر بن كمال الحرب، وعلي بن الجوزي، وابن بهروز وجماعة.

قال شيخنا البرزالي: قرأت لابني محمد عليه الصحيحين، وسنن ابن ماجة، ومسند الدرامي، ومسند عبد بن حميد، وكتاب العوارف للسهر وردي، وأكثر من سبعين جزءاً.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين عاشر صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة بمنزله بباب الناطفيين، وحضر جنازته الأعيان والوزير والخطيب.
ومولده في صفر سنة تسع وعشرين وست مئة بدمشق.
إسماعيل بن هاروننفيس الدين العبسي الدشناوي الصوفي المعروف بابن خيطية.
كان صوفياً بالجامع الناصري بمصر، وكانت له بالقراءات معرفة، ومشاركة في النحو والأدب يعرف بها مقدمه ومصرفه.
لم يزل على حاله إلى أن نُزعت نفسُه، وكسفت بعدما بزغت شمسه.
وتوفي رحمه الله تعالى في حدود الثلاثين وسبع مئة.
ومن شعره:
قل لظباء الكثبِ ... رفقاً على المكتئب
رفقاً بمن بُلي بكم ... شيخاً وكهلاً وصبي
دموعُهُ جاريةٌ ... كالوابل المنسكبِ
على زمانٍ مر في ... لذةِ عيشٍ خصبِ
لذةُ أيام الصبا ... يا ليتها لم تغب
قضيت فيها وطراً ... ونلت منها أربي
بين حسان خُرد ... مُنعمات عُربِ
وشادن مبتسم ... عن دُرّ ثغرٍ شنبٍ
ألفاظهُ تفعلُ ما ... تفعلُ بنتُ العنبِ
قلت: شعرٌ مقبول غير مردود.
إسماعيل بن هبة الله بن علي بن الصنيعةالقاضي عز الدين الإسنائي، أخو نور الدين، وهو الأكبر.
سمع الحديث من قطب الدين بن القسطلاني، واشتغل ببلده على الشيخ بهاء الدين القفطي، ثم إنه جرى بينه وبين شمس الدين أحمد بن السديد ما فارق إسنا بسببه. ودخل القاهرة، وقرأ الأصول والخلاف والمنطق والجدل على الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصفهاني، ولازمه سنين.
وولي الحكم من جهة ابن نبت الأعز، ثم ولي من جهة ابن دقيق العيد، وعمل عليه، وحصل منه كلام، فجره ذلك إلى أن انتقل إلى حلب، ناظرَ الأوقاف، ودرس بها، وظن الشيعة بحلب أن يكون شيعياً كلونه من إسنا، فصنف كتاباً في فضل أبي بكر رضي الله عنه. وأقام بحلب مدة يستدل على فضل أبي بكر وصحة إمامته، والشيخ نجم الدين بن ملي إلى جانبه معيد لا يتكلم. وصنف كتاباً ضخماً في شرح تهذيب النكت. وكان في ذهنه وقفة، إلاّ أنه كان كثير الاشتغال.
وكان بحلب إلى أن وصل قازان إلى البلاد، فعاد إلى القاهرة، وأظنه جاء إلى صفد قاضي القضاة أيام نائبها الأمير سيف الدين كراي، فما مكنه من الإقامة بها.
وكان كريماً جواداً خيراً، كم بلغ آمليه مراداً، محسناً إلى أهل بلاده، ومن ورد من تلك الناحية، واستظل من أقلامه بصعاده. اشتهر بالكرم، وآوى من الفضل إلى حرم.
ولم يزل بالقاهرة مقيماً إلى أن نزل به الأمر المكتوب على الرقاب، وأفضى إلى محل الثواب والعقاب.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة.
إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن جهبلالقاضي محيي الدين الحلبي، ثم الدمشقي الشافعي.
ربي هو وأخوه الإمام شهاب الدين أحمد المقدم ذكره يتميين فقيرين، فاشتغلا وتفقها وتميزا.
وسمع محيي الدين من القاضي شمس الدين بن عطا، وجمال الدين بن الصيرفي، وجماعة. وخرج له عنهم علم الدين البرزالي، وتفقه بابن المقدسي، وبالشيخ صدر الدين بن الوكيل. ودرس وأفتى، وناب في القضاء بدمشق، وولي تدريس الأتابكية، وندب لقضاء طرابلس فباشرها.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: ولم يُحمد.
قلت: إلا أنه كانت له معرفة بالمكاتيب والأحكام، ودُربة بفصل القضايا المعضلة بين الأنام. نقي بياضِ الشيب، ممسكّ لما في يده والجيب، مليح البزة، مليح الشكل، عليه وقار، وله في النفوس عزة، حصل أملاكاً، وملك دنياً حاولها دراكاً.
ولم يزل على حاله إلى أن قرع الموت صفاته، وخانه أملُه وفاته.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وستين وست مئة.
إسماعيل بن يوسف بن نجمابن مكتوم بن أحمد بن محمد بن سليم، الشيخ المقرئ الفقيه المُسند المعّمر، صدر الدين أبو الفداء السويدي الدمشقي الشافعي.
سمع من ابن اللتي كثيراً، ومن مكرم، وأبي نصر بن الشيرازي، وإسماعيل بن ظفر، والسخاوي، وعدة. تفرد بأشياء.

تكاثر عليه الطلبة، وتلا على علم الدين السخاوي بحرف أبي عمرو، وابن كثير، وعاصم. ونزل في المدارس، وكان آخر من قرأ على السخاوي.
حج سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وحدث بالحرم الشريف.
وسمع منه إبنا شمس الدين الذهبي، والشيخ صلاح الدين العلائي، والعلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والوافي، وابن الفخر، وخلق كثير.
وكان حسن الأخلاق، مائلاً إلى الانقياد والاتفاق، وله عقار يرتزق منه، وملك إذاً عرض له الملك استغنى به عنه.
ولم يزل على حاله إلى أن اشتهرت وفاة ابن مكتوم، وصح أنه نزل به الأمر المحتوم.
وتوفي رحمه الله تعال ثالث عشري شوال سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
إسماعيل بن يوسف بن نجمابن مكتوم بن أحمد بن محمد بن سليم، الشيخ المقرئ الفقيه المسند المعمّر، صدر الدين أبو الفداء السويدي الدمشقي الشافعي.
سمع من ابن اللتي كثيراً، ومن مكرم، وأبي نصر بن الشيرازي، وإسماعيل بن ظفر، والسخاوي، وعدة. وتفرد بأشياء.
تكاثر عليه الطلبة، وتلا على علم الدين السخاوي بحرف أبي عمرو، وابن كثير، وعاصم. ونزل في المدارس، وكان آخر من قرأ على السخاوي.
حج سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وحدث بالحرم الشريف.
وسمع منه اثنا شمس الدين الذهبي، والشيخ صلاح الدين العلائي، والعلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والوافي، وابن الفخر، وخلق كثير.
وكان حسن الأخلاق، مائلاً إلى الانقياد والاتفاق، وله عقار يرتزق منه، وملكٌ إذا عرض له الملك استغنى به عنه.
ولم يزل على حاله إلى أن اشتهرت وفاة ابن مكتوم، وصح أنه نزل به الأمر المحتوم.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشري شوال سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه مسند الدرامي، والمنتخب من مسند عبد بن حُميد، وجزء أبي الجهم، والثاني من حديث المخلص، والمئة السريجيّة بسماعه لذلك من ابن اللتي، وطأ مالك رواية يحيى ابن بكير بسماعه له من مكرم بن أبي الصقر، وكان قد تفرد به بدمشق. وروى لنا أيضاً عن السخاوي.
أسنبغاالأمير سيف الدين المحمودي نائب طرابلس.
هو الذي جاء بجلوس الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد على تخت الملك بعد أن قُتل المظفر حاجي، ووصل إلى دمشق في رابع عشري شهر رمضان المعظم سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحلف الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب الشام والعساكر، ورسم له الناصر حسن بنيابة طرابلس عوضاً عن الأمير سيف الدين أقتمُر فيما أظن، وذلك في صفر سنة وسبع مئة. ولم يزل بها نائباً إلى أن عزل بالأمير زين الدين أغلبك الجاشنكير أمير حاجب حلب.
ثم إن الأمير سيف الدين أسنبغا أمسك وجُهز إلى الإسكندرية معتقلاً، ولما أفرج عنه بعد خلع الناصر حسن، ووصل الملك المنصور محمد إلى دمشق في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي إلى دمشق رسم للأمير سيف الدين أسنبغا بطلبلخاناه في حلب، فتوجه إليها في شوال سنة اثنتين وستني وسبع مئة، وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
أسندمرالأمير سيف الدين نائب طرابلس.
كان أولاً فيما أظن والي البر بدمشق، ولما جاء العادل كتبُغا إلى دمشق في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وست مئة عزله من ولاية البر بدمشق، وولى مكانه علاء الدين بن الجاكي، وكان قد وليها في سنة اثنتين وتسعين وست مئة عوضاً عن طوغان لما جُهز إلى قلعة الروم نائباً، وفي المحرّم سنة ست وتسعين أمسكه، وقيده واعتقله بقلعة دمشق، ونقل إلى طرابلس نائباً في أيام الأفرم عوضاً عن الأمير سيف الدين قطلوبك الكبير في سنة إحدى وسبع مئة، فمهد طرابلس، وأقام الحرمة، وسفك الدماء بأنواع من الإزهاق، ولما جاء السلطان من الكرك حضر إليه وتوجه معه إلى مصر فولاه نيابة حماة.

ولما توفي الأمير سيف الدين قبجق نائب حلب نقله السلطان إلى نيابة حلب، فأقام فيها مديدة، وجهز السلطان الأمير سيف الدين كراي المنصوري في عساكر الشام مجرداً، فأقام على حمص مدّة، ولما كان عصر نهار آخر شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة - فيما أظنّ - ساق كراي بالعسكر جريدة من حمص إلى حلب في ليلة واحدة، وما خرج أسندمر من داره لصلاة العيد إلا وقد أحاطت العساكر بدار النيابة، ووعروا الباب عليه بالأخشاب وغيرها، وأمسكه كراي بكرةً نهار عيد رمضان، وجهز إلى باب السلطان على البريد مقيداً، وكان ذلك آخر العهد به رحمه الله تعالى.
وقيل: إنه جهزه إلى الكرك هو والجوكندار وبتخاص وغيرهم. وجاء الخبر إلى دمشق بوفاة بتخاص وأسندمر في ذي القعدة سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
وكان جباراً يسفك الدماء جهاراً، ويُجري منها على الأرض أنهاراً، نوع الإزهاق، وعاجل تلاف النفوس بالإرهاق. سلخ وسلق، ووسط وشنق، وكحل وقطع الأطراف، وبالغ في هلاك الأجساد، وتعدى حد الإسراف.
وكان منهوماً في الأكل الذريع، وكأنّ ما يأكله نوع من الضريع. قيل: إنه كان يُعمل له بعد العشا خروف مطجن، سمين موجن، فيأكله جميعه، ولا يؤثر به ضجيعه، ثم إنه بعد ذلك يعمل له بيده من الحلاوة السكب صحناً، ويأكله سخناً.
وكان يحبّ الفضلاء، ويؤثر النبلاء، ويسأل عن غوامض، ويعترض ويناقض، حضرت من عنده مرةً فتيا إلى دمشق يسأل فيها: أيما أفضل الولي أو الشهيد، والملك أو النبي؟ فصنف له الشيخ صدر الدين بن الوكيل في ذلك مجلداً، وصنف له الشيخ برهان الدين الفزاري في ذلك جواباً فيما أظن، وصنف كمال الدين بن الزملكاني في ذلك مجلداً مصنفين. وصنف له الشيخ تقي الدين بن تيمية مجلداً.
ولما كان بحلب طلب الشيخ صدر الدين بن الوكيل - وكان ذلك قبل صلاة الجمعة - وسأله عن تفسير قوله تعالى: " والنجمِ إذا هوى " فقال: هذا الوقت يضيق عن الكلام على هذه المسألة.
ووهبه أسد الغاب لابن الأثير في نسخة مليحة، وقال له: لازمني. وكان بعد ذلك لا يفارقه إلى أن جرى ما ذكرت من إمساكه، وما قدره الله تعالى من هلاكه، ورحمه الله تعالى.
وكان قد عمر بطرابلس جماماً جعل الكواكب في سمائه جاماً، وأحكمه نظاماً حتى طار في البلاد ذكره، وضاع في الرياض شكره.
وفيه يقول الشيخ شمس الدين أحمد بن يوسف الطيبي:
زر منزلَ الأفراح واللذات ... دار النعيم ومرتعَ اللذات
دار النعيم وفي الجحيم أساسُها ... تجري بها الأنهارُ في الجناتِ
فلكٌ ومن بيض القبابِ بُروجه ... ونجومه من زاهر الجامات
معنى لهُ معنى يمازج ماؤه ... للنهار فهو مؤلف الأشتات
كالخلد مرتفع البناء فضاؤه ... رحبٌ يُسافر فيه باللحظات
يحيك بخور العود طيبُ بخارها ... والمسك والكافور ممتزجات
وتضيء في غسق الدجا أكنافها ... كإضاءةِ المصباحِ في المشكاة
فرشت بأنواع الفصوص ورصعت ... بجواهرٍ من فاخر الآلات
برك كأفوا الملاح رضابُها ... عذب شهي الرشف في الخلوات
ومنابع قد فجرت بحدائق ... ترخيمها يغني عن الزهرات
وجرت أنابيب الحياض بفضةٍ ... محلولة تنصبُ في مرآة
تلقى الربيعَ من اعتدالِ هوائها ... ومياهها في سائر الأوقات
ويشم منها من يمر ببابها ... ريا نسيمِ الروض في الغدوات
حمامنا يشفي السقام وماؤه ... عينُ الحياة تُزيل كل شكاة
بيت تُزان به البيوت كأنّه ... بيتُ القصيد لسائر الأبيات
وبرسمِ مولانا الأمير وأمره ... بنيت على اسم الله والبركات
المالك المخدوم سيف الدين وال ... دنيا أسندمر الكريم الذات
قد ساد بانيها فشاد بناءها ... بأوامرِ سيفيةِ العزمات
في دولة الملك الرحيم محمدٍ ... الناصرِ المنصورِ في الغزوات

تمت لخمسٍ قد غدت من هجرة الم ... ختار مع سبع كملن مئات
أسندمرالأمير سيف الدين العمري، نائب السلطنة بحماة والطرابلس.
كان شكلا كاملاً مهيباً هائلاً، حسن الوجه، يشبه البدر، ويملأ برؤياه العين والصدر.
باشر نيابة حماة مرات، ووجد فيها المسرات. وناب في طرابلس مرة، وكان في وجه الملك غرة.
ولم يزل إلى أن دخل إلى العدم بعد الوجود، وقُبض وهو بعد الإطلاق في القيود.
وكانت وفاته في أوائل سنة إحدى وستين وسبع مئة، بمحبسه في الإسكندرية.
كان من مماليك السلطان محمد بن قلاوون. وتزوج ابنة الأمير سيف الدين الحاج بهادُر المعزي.
ولما توجه الأمير الدين طقتمر الأحمدي إلى نيابة حلب خلت عنه حماة فجهز إليها أسندمر العمري، فكان بها نائباً إلى أن برز يلبغا بظاهر دمشق في دولة الكامل، فحضر العمري إليه دمشق، وأقام عنده، ولما ملك المظفر حاجي نُقل أسند مر من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس بوساطة يلبغا له، فتوجه إليها، وأقام بها إلى أن حضر إلى طرابلس الأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري، ومع ما سيأتي في ترجمته.
وتوجه أنسد مر إلى مصر في أواخر سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وأقام بها إلى ذبح أرغو شاه بدمشق، ورسم بنيابة دمشق للأمير سيف الدين الحاج أرقطاي، ورسم للأمير سيف الدين قطليجبا نائب حماة بنيابة حلب، فرسم لأسندمر العمري بالعود إلى حماة نائباً، فحضر إليها في العشر الأوسط من جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة.
وتوجه بالعساكر الإسلامية إلى سنجار في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وكان هو المقدم عليها، وأقام بحماة إلى أن عزل عنها بالأمير سيف الدين طان يرق في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
وعاد أسندمر إلى مصر على عادته مقيماً إلى أن خُلع السلطان الملك الصالح صالح في ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وأخرج الأمير سيف الدين طاز إلى حلب، وعزل طان يرق من حماة، ورُسم لأسندمر العمري بنيابة حماة، فعاد إليها ثلاث مرة نائباً، فحضر إليها في العشر الأولى من ذي الحجة سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وصحبه الأمير سيف الدين طيبغا المارجاري ليقرّه في النيابة بحماة، ولم يزل بها مقيماً إلى أن رسم بعزله، وتولى النيابة الأمير ركن الدين عمر شاه فوصل العمري إلى دمشق بكرة الأحد سابع عشري جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وسبع مئة، فوجد طلب الأمير ركن الدين عمر شاه خارجاً من دمشق أميراً إلى أن أمسك هو والإسماعيلي وابن صُبح، وجهز إلى الإسكندرية سنة ستين وسبع مئة، فأقام بالحبس إلى أن توفي به في التاريخ.
أسندمرالأمير سيف الدين العمري.
كان أمير خمسين فارساً بالقاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشر ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ورثه ابنته وبيت المال، وكان نصيب بيت المال من تركته خمسة وعشرين ألف دينار.
الألقاب والأنسابالإسنائي القاضي نور الدين إبراهيم بن هبة الله.
وضياء الدين أحمد عبد القوي.
وفخر الدين إسماعيل بن عبد القوي.
وعز الدين إسماعيل بن هبة الله.
وعبد الرحيم بن علي.
وتقي الدين عبد الملك بن الأعز.
نور الدين ابن الشهاب الإسنائي علي بن هبة الله.
الأصفوني: علاء الدين علي بن أحمد.
أصلم الأمير بهاء الدين لسلاح دار.
كان من جملة المشايخ مقدمي الألوف في أواخر الدولة الناصرية وإلى أواخر دولة الصالح إسماعيل.
كان قد جرد إلى اليمن، فلما توجه وعاد ونقل عنه كلامّ إلى السلطان، فاعتقله، وبقي في الحبس مدة تقارب الحسم سنين، ثم أخرجه وأعاده إلى منزلته.
ثم إنه في آخر أيام الناصر جهزه إلى صفد نائباً. وتوفي الملك الناصر وهو بها نائب. ثم إن الأمير قوصون جرده مع ألطنبغا نائب الشام إلى حلب لإمساك طشتمر، فلما كان في أثناء الطريق رد من قارا، وانضم إلى الفخري، واقام عنده على خان لاجين، ، وتوجه معه صحبة عسكر الشام إلى مصر، فرسم له الناصر أحمد بالإقامة في مصر على عادته أمير مئة مقدم ألف، وعمر في البرقية عند إصطبله مدرسة مليحة إلى الغاية، وتربة وربعاً وحوضاً للسبيل.
وكان من الأشكال الحسنة، قد ألقى إلى سلامة الصدر سنه، ذا شيبة تقية، وهمة فيها من الشبيبة بقية، بوجه مشرب الحمرة، كأنما أريق عليها كأس خمرة.

ولم يزل على حاله إلى أن لبس أكفانه، وغمض الموت أجفانه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وأربعين وسبع مئة.
أصلم الأمير بهاء الدين بن دمرتاش كان من أمراء دمشق، يسكن العقيبة.
توفي رحمه الله تعالى في رابع ذي القعدة سنة سبع وسبع مئة. وحضر جنازته نائب الشام، ودفن بالصالحية.
أصيل الدين الصدر الكبير بان الشيخ ابن الشيخ الإمام نصر الدين محمد بن محمد الطوسي.
كان الكبير ابن الشيخ الإمام نصر الدين محمد بن محمد الطوسي.
كان ناظر الأوقاف، ومنجماً عند ملوك التتار، وله جامكية كبيرة. وحرمة وافرة.
توفي رحمه الله تعالى في صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة ببغداد، دفن عند والده بمشهد موسى الجواد رضي الله عنه.
آصوج الأمير سيف الدين الواقدي.
أحد أمراء الخميس بالقاهرة.
توفي رحمه الله تعالى فجاءة في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
الأنساب والألقابابن بنت الأعز: القاضي علاء الدين أحمد بن عبد الوهاب.
الأعسر: الأمير شمس الدين سُنقر.
أغرلو الأمير شجاع الدين ملك الأمراء.
عمل نيابة دمشق لأستاذه السلطان الملك العادل كتبغا، تولاها عوضاً عن الحموي في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وست مئة. ولما خُلع من الملك بقي أغرلو بدمشق أميراً كبيراً.
وكان فارساً بطلاً شجاعاً، أبلى في الحروب تقدماً ودفاعاً، له في الوقائع صولات، وحملات وجولات. وكانت الدول تعظمه لشجاعته المذكورة وفروسيته المشهورة.
ولم يزل على حاله إلى أن اختطفته عُقابُ الموت الكاسر، ونزل النساء يندبنه حواسر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودفن في تربته المليحمة شمالي الجامع المظفري بجبل الصالحية.
أغرلو الأمير شجاع الدين السيفي.
كان مملوكَ الأمير الدين بهادُر المعزي، والآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف الباء، ولما حبُس أستاذه أخذهُ الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، وجعله أمير آخور. ولم يزل عنده إلى أن توفي بكتمر رحمه الله تعالى، فانتقل إلى عند الأمير سيف الدين بشتاك على الوظيفة المذكورة. ثم إنه بعد بشتاك تولى ناحية أشموم، وسفك بها، ثم إنه جهز نائباً إلى قلعة الشوبك، ثم نقل منها، وعمل ولاية القاهرة مدةً في أيام الصالح إسماعيل، ثم إنه ولاه شد الدواوين، وتظاهر بعفةٍ زائدة، وأمانة عظمى.
ولما توفي الملك الصالح رحمه الله تعالى كان له في ولاية أخيه الكامل شعبان عنايةٌ تامّة، فقدمه، وحظي عنده، وفتح له باب الأخذ على الإقطاعات والوظائف، وعمل لذلك ديواناً قائم الذات وسمي ديوان البذل، ولما تولى الصاحب تقي الدين بن مراجل شاجحه في الجلوس والعلامة والتقدم، ودخلا إلى السلطان الملك الكامل، فترجح الصاحب تقي الدين، عُزل أغرلو.
ولما كان في واقعة الملك المظفر حاجي كان أغرلو ممن قام في أمره، وضرب الأمير سيف الدين أرغون العلائي في وجهه وسكن أمره بعد ذلك وخمد. ثم إنه حضر في أيام المظفر حاجي صحبة الأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري ليوصله إلى طرابلس نائباً، وعاد إلى مصر، وأمرُهُ ساكن إلى أن قام في واقعة الأمراء سيف الدين ملكتمر الحجازي، وشمس الدين أقسنقر، وسيف الدين قرابغا، وسيف الدين بزلار، وسيف الدين صمغار، وسيف الدين إتمش، فكان الذي تولى كبره، وأمسك جماعة من أولاد الأمراء، فعظم شأنه، وعلا مكانه، تفخم أمرُه، وأسمعَ زمره، وخافه أمراء مصر والشام، ونام في سكرةِ باطله وغروره وعينُ الدهر ما تنام. وأقام على ذلك مدة أربعين يوماً، وأمره يزداد في التعاظم والجبروت سوماً، إلى أن أتي من مأمنه، وثار إليه الحين من معدنه.
وقيل: إن الحرافيش أخرجوه من قبره، وأقاموه في زي عظمته وكبره، وجعلوا يشاورونه كما كان يفعل، ويترددون بينه وبين السلطان، وقد أضرم غيظه على الأمراء وأشعل، ويمسكون الأمراء كما كان يمسكهم ويقيدهم، ويميل لهم إلى مصارعهم ويحيدهم. ونوعوا به النكال والمثلة، ونصبوه بعد ذلك على أثلة، فغضب السلطان لذلك، وأمر الأوشاقية فنالوا من الحرافيش منالاً عظيماً، وأذاقوهم من القتل والقطع والضرب عذاباً أليماً، أخذاً بذلك ترات تراته، وكان مشؤوماً في حياته ومماته.

وقيل: إن السبب في قتله حضور رأس يلبغا إلى القاهرة، فإن الخواص من المماليك السلطانية دخلوا إلى السلطان وقالوا: لا بد من قتله، وجاء الخبر إلى الشام بقتله في مستهل شهر رجب سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحسب الناسُ من قتله من الأمراء في مدة أربعين يوماً، فكان ذلك أحداً وثلاثين أميراً، وكان في أيامه يخرج من القصر، ويقعد على باب خزانة الخاص، ويتحدث في الدولة وفي الخزانة والإطلاق والإنعام، ويجلس والموقعون عنده، ويكتبون عنه إلى الولاة، ولكنه مات هذه الميتة القبيحة، وفُعلت به هذه الأحدوثة الفضيحة.
فقلت أنا مستطرداً:
وعاذل قال: عمري ... أعسى لعلك تسلو
أموت منك بغبني ... فقلت مروت أغرلو
أغلبك الأمير سيف الدين بن رمتاش - بضم الراء وسكون الميم، وبعدها تاء ثالثة الحروف وألف بعدها شين معجمة - الرومي.
كان أولاً مقيماً بصفد على إمرة عشرة، فوقع منه كلام في حق نائب صفد الأمير شمس الدين سنقرشاه المنصوري، فضربه قدامه واعتقله، ثم أفرج عنه، ونقل إلى دمشق.
ولما توجه السلطان إلى مصر سنة تسع وسبع مئة بالعساكر الشامية، كان هو من جملة الأمراء السلاح دارية.
ولم يزل بدمشق على حاله في الأمرة إلى أن جاء أغلبك الأمر الذي لا يغالب، والغريم الذي لا يطالع ولا يطالب.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان لطيف النفس، شديد الأنس، تفعل الجفون المريضة فيه ما لا تفعله السيوف الماضية، وتسكره الريقة الرايقة بخلاف سُكر بنت العنقود الصافية، ويلعب بالقبق ويجيد ضربة وتره، ويتبع أرباب الملاهي، فما منهم إلا من يعود تابع أثره، إلا أنه كان بطلاً مقدماً، لا تزلزل له الحروب أقداماً، صياداً لا يخرج الصيد عن أوامر سهامه، ولا يفوته من يمينه أو شماله، أو من خلفه أو من أمامه، مع الرشاقة الحلوة، والخفة على ظهر مراكيبه التي هي من العيوب خلوة، وهو أخو صلاح الدين خليل بن رمتاش.
أغلبك الأمير زين الدين العادلي مملوك العادل كتبغا.
كان من جملة أمراء دمشق المشهورين، وأعيانهم المذكوري، وكان ينظر في أوقاف العادل، ويجالد عنها ويناظر ويجادل، فنقل إلى طرابلس أميراً، وفارق دمشق حسيراً، فمرض هناك، ووقع من العلة في شراك واشتراك، فحضر إلى دمشق ليتداوى، فما أقام بها ولا آوى.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر رمضان سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
وكان قد ولي البر بدمشق في المحرم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة عوضاً عن طرنطاي الحموي.
أفريدون بن محمد بن محمد بن علي التاجر الأصبهاني.
ورد إلى دمشق، وأعجبه المقام بها، وشرع في عمارة المدرسة المليحة الظريفة التي برّا باب الجابية بدمشق سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وأنفق على عمارتها إلى أن جاءه الأمر الذي لا يرد، والخطبُ الذي لا يصد، وما أغنى عنه ماله، ولا نفعه إلا أعماله.
وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
الألقاب والأنسابالأفرم: نائب دمشق، اسمه أقوش.
الأفضل: صاحب حماة محمد بن إسماعيل أقبغا الأمير سيف الدين الناصري المعروف بأقبغا عبد الواحد.
تنقلت به الأحوال من الجمدارية إلى أن صار أمير مئة مقدّم ألف، أستاذ دار السلطان، مشد العمائر، مقدّم المماليك، أمير منزل خمس وظائف. وتأمر ولداه ناصر الدين محمد وشهاب الدين أحمد، وكان أخا الخوندة طغاي، امرأة أستاذه الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى من حرف الطاء في مكانه.
كان في أيام أستاذه في غاية التمكن والقدرة والتسلط والبأس والجبروت، لو ذكر اسمه للماء جمد، أو مر ذكره على الجمر خمد، ليس لأحد عنده مكانة، ولا يجد له خضوعاً ولا استكانة.
ولما توفي الملك الناصر، وتولى ولده الملك المنصور أبو بكر صادره وسلمه إلى الأمير علاء الدين طيبغا المجدي، وأخذ منه كل ما يملكه، وأمر برد كل ما اغتصبه، وأخذه بالي العادية على الناس، ولم يبق له تصرف في ماله، إلى أن طلب مئة درهم فأعطاه إياها الأمير علاء الدين طبيغا المجدي.

ولما تولى الملك الأشرف كجك أخرجه الأمير سيف الدين قوصون إلى دمشق، فأقام بها قليلاً، وتوجه مع الفخري إلى مصر، فرسم له الناصر أحمد بنيابة حمص، فحضر إليها، وأقام بها إلى جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ورسم بإحضاره إلى دمشق، فأتى إليها، وأقام بها من جملة أمراء المقدمين، فلما كان في شوال من السنة المذكورة حضر مرسوم الملك الصالح إسماعيل بإمساكه فأمسك هو والأمراء الذين اتهموا بالميل مع الناصر أحمد وأودع معتقلاً بقلعة دمشق، ثم إنه طُلب بعد قليل إلى مصر، فتوجه به الأمير بدر الدين بكتاش المنكورسي، وكان ذلك آخر العهد به.
آقبغا الأمير سيف الدين الحسني الناصري.
كان رفيعَ المنزلة والمكانة، مؤثل المرتبة من خاطر أستاذه، ثابت الركانة، إلا أنه زاد في دلاله، وأفرط في اعتدائه، قوامه بالغ في اعتداله، فمال أفاده سحر أجفانه، ولا نفعه تبسم ثغره عن أقحوانه، وهون اللطان على قلبه أمُره، وأخرجه إلى دمشق، ولكن على إمرة، فأقام بها على غير استقامة، وأصر على غيه، ولم يقبل نصحاً، ولم يصغ إلى ملامه، ولازم الشراب وعاقره، ونسي أمر تنكز عواقبه وعواقره، فكتب إلى السلطان في معناه، وجعل القلعة مغناه، ولبث معتقلاً في قلعة دمشق زماناً، ولم يجد من حادث الدهر أماناً، ثم إنه فك صفدُه، وجهز إلى صفد، فأقام بها، وفداءُ سعده ما وفد، إلى أن أذوى الحمام زهرته، وأسكنه حفرته.
وتوفي بصفد رحمه الله تعالى.
وكان قد اعتقل بقلعة دمشق زماناً، إلى أن قدم السلطان من الحجاز في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فأفرج عنه في المحرم، وجهز إلى صفد.
أقجبا الأمير سيف الدين المنصوري.
كان أحد الأمراء بدمشق. ولي شد الدواوين بدمشق بعد الأمير جمال الدين أقوش الرستمي، وعين لتقدمة الركب الشريف في سنة تسع وسبع مئة، ودار بالمحمل في أول الثلاثة أشهر على العادة، ثم إنه بطل الركب وتوجهه بسبب ما بلغ الناس من تحرك السلطان الملك الناصر من الكرك، وكانت فيه ديانة، وعفّة في المباشرات وأمانة، وحفظ للأموال وصيانة، تنقل في النيابات، وخرج سالماً مما فيها من الغيابات، وعمل الشد وما حلّ ولم يتعرض إلى حرم ولا ما حل، وعمل النيابة بغزة، وشرف نفسه عن أموال الرعايا ونزه، ثم إنه أقام على إمرته، وما أخمد الله ضوء جمرته.
ولم يزل على حاله إلى أن نزلت به أم دفر، ورحل إلى الآخرة مع ذك السفر.
ووفاته رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبع مئة. ودفن بتربته خارج باب الجابية.
وكان قد باشر نيابة بعلبك، ومنها نقل إلى الشد بدمشق، وبقي مدة، ثم تولى نيابة غزة مدة عوضاً عن الأمير ركن الدين بيبرس الموفقي، ثم عزل وأقام على إمرته إلى أن توفي رحمه الله تعالى.
وكان قد ولي الشد أولاً في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
أقجبا الأمير فخر الدين الظاهري.
حج بالركب الشامي في سنة ثلاث وسبع مئة.
وكان من أمراء دمشق والأعيان، وممن قدمت هجرتهم في خدمة السلطان، وثابت العدالة على الحكام، وملازم الصلاة في الجامع على مرّ الليالي والأيام، شرب كؤوس الصبا، فحده الدهر ثمانين، وتشعب به سعدُ الإمرة في أفانين.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الظاهري في باطن الأرض، وأقام فيها إلى يوم العرض، وحضر جنازته ملك الأمراء وجماعة من الأمراء، ودفن بسفح قاسيون قبالة زاوية ابن قوام، ووفاته تاسع عشري ربيع الآخر سنة أربع عشرة وسبع مئة.
أقجبا الأمير فخر الدين الحموي.
نقل من حماة إلى القاهرة، وأعطي شد الشراب خاناه بالقاهرة في أيام الملك الصالح إسماعيل، وعلت عنده رتبتُه، وغلت من قلبه محبته، وسمت مكانته وتأثلت، ووقفت السعود في خدمته وتمثلت، ولم يكن في دولة الصالح له نظير غير الوزير، ولا ضاهاه أحدٌ في حسن السياسة والتدبير.
وكان يقضي غالب الليل عند السلطان، وإذا قرر عنده أمراً لا تسمعه آذان الحيطان، ويساهره ويسامره، ويأخذ بمجامع قلبه بود يخامره، ثم إنه أخرج من مصر بعد الصالح، وعاد إليها كراتٍ عودَ الطليح، بل الطالح.
ثم إنه ولي الحجبة آخراً في أيام الملك الناصر حسن، واختص بالأمير شيخو فانقاد له بالرسن.
ولم يزل على حاله إلى أن أدناه الجديدان إلى البلى، وولى سعدُه مدبراً بعد أن كان مقبلاً.

وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
وكان الأمير فخر الدين متصفاً بالمروءة في حق من يصحبه، كثير الود، نفع جماعة بصحبته.
ولما توفي الملك الصالح إسماعيل أخرجه الملك المظفر إلى حماة، وبقي فيها إلى أن أمسك يلبغا أبوه طابطا، وجهزا إلى مصر من حماة، فتوجه الأمير فخر الدين بهما، ولما وصلوا إلى قاقون أتاهم الأمير سيف الدين منجك، وجرى ما يأتي ذكره في ترجمة يلبغا، ثم إن فخر الدين توجه إلى مصر فرسم له المظفر بالإقامة في القاهرة، فأقام، وكان قد خدم يلبغا في الطريق، ولاطفه وصبره وسلاه وثبته، ولم يزل مقيماً بالقاهرة إلى أن تولى الملك الصالح صالح، فأخرجه إلى حماة، فأقام بها، ولما عاد الأمير شيخو وطاز من حلب في واقعة بيبغاروس عاد معهما، ودخل الديار المصرية، وأقام بها، واختص بالأمير سيف الدين شيخو، وولاه الحجبة بالقاهرة، ولما جرح شيخو انتصب الأمير فخر الدين لخدمته، وكان يباشر عمل المصلومة له بنفسه، وقل: إنه ربما أفطر في شهر رمضان لذلك.
أقسنطر الأمير شمس الدين السلاري.
سيرهُ السلطان الناصر محمد إلى صفد نائباً، فحضر إليها، ورأى أهلها منه من العفة والعدل ما لا رأوه من غيره، ثم نقله إلى نيابة غزة، فتوجه إليها.
ومات السلطان، وتولى الملك المنصور أبو بكر، وخلع، وتولى الأشرف كجك، وجاء الفخري لحصار الكرك، فقام الأمير شمس الدين بنصرة أحمد في الباطن كثيراً، وتوجه الفخري إلى دمشق لما توجه الطنبغا إلى حلب، ليطرد طشتمر نائب حلب، فاجتمع به، وتوقى عزمه، وقال له: توجه أنت إلى دمشق واملكها، وأنا أحفظ لك غزة. وقام في هذه الواقعة قياماً عظيماً، وأمسك الدروب، فما جاء أحد من دمشق ولا من مصر بريداً كان أو غير ذلك إلا وحمله إلى الكرك، وحلف النسا للناصر أحمد، وقام ببيعته باطناً وظاهراً، ثم جاء إلى الفخري وهو على خان لاجين، وقوّى عزمه وعضده. ولم يزل عنده بدمشق إلى أن جاء ألطنبغا من حلب، والتقوا، وهرب ألطنبغا، فاتبعه الأمير شمس الدين إلى غزة، وأقام بها، ودخلت العساكر الشامية إلى مصر.
ولما أمسك الناصر أحمد طشتمر النائب وتوجه به إلى الكرك أعطى نيابة مصر للأمير شمس الدين أقسنقر، وبقي نائباً وأحمد في الكرك إلى أن تملك الملك الصالح إسماعيل، فأقره عليها، فسار فيها سيرة مشكورة، وأقام فيها مدة أحاديثها إلى الآن مذكورة، لا يمنع أحداً شيئاً يطالبه كائناً من كان، ولا يرد سائلاً يسأله، ولو لم يكن ذلك في الإمكان، وارتزق الناس في أيامه، وغرق الضعفاء في بحر أنعامه، وتقدم من كان مؤخراً، وجرى رخاءُ الرخاء بأمره مسخراً، حتى كان الناس يطلبون منه مالا لهم به حاجة، ولا لهم به ضرورة، وهو يقضي ما قابله جده أو واجه.
ثم إن السلطان الملك الصالح إسماعيل أمسكه، وأمسك الأمير سيف الدين بيغرا أمير جاندار والأمير سيف الدين أولاجا الحاجب الآتي ذكرهما في موضعيه، والأمير زين الدين قراجا الحاجب، لأنهم نسبوا إلى الممالأة والمداجاة مع الناصر أحمد، وذلك في سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وكان ذلك آخر العهد بأمره، والله تعالى يتولى الباطن من سره، وأخرج فيما بعد عن بيغرا وأولاجا وقراجا في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
أقسنقر الأمير شمس الدين الناصري.
كان في حياة أستاذه أمير شكار وزوجه ابنته، وجعله أمير مئة مقدم ألف. ولما جاء الناصر أحمد من الكرك جعله أمير آخور، فلم يرضَ فأخرجه إلى غزة نائباً، وأقام بها إلى أن أمسك الفخري، وتسلطن الملك الصالح إسماعيل فطلبه من غزة، وجعله أمير آخور، وعظمت مكانته عنده، وجّهزه مقدّم العساكر المصرية والشامية لحاصرة الكرك، ثم أبطل ذلك، وخرج عوضه في التقدمة الأمير سيف الدين بيغرا.

ثم إنه جهز إلى الكرك فأبلى بلاءً حسناً، وأنكى في ذلك، وجُرح جراحة مؤلمة، وعاد إلى مصر، وأراد التوجه إلى الحجاز بأهله، فمنع من ذلك، ولأن والدة الملك الأشرف كجك عنده زوجة، فخيف منه، وأخرج إلى طرابلس نائباً، فورد إلى دمشق على البريد، وعمل النيابة بطرابلس جيداً، وظهرت عنه مهابة وبطش وقمع للمفسدين، وعف عن أموال الرعايا ، وأقدم نائباً من أوائل شوال سنة أربع وأربعين وسبع مئة إلى بعض شهر ربيع الآخر ، سنة وأربعين وسبع مئة إلى بعض شهر ربيع الآخر، سنة ست وأربعين وسبع مئة، وفي أول سلطنة الكامل شعبان، فطلبه إلى مصر، وتوجه إليها، وعظم أمره وأمر الحجازي إلى الغاية، فيقال: إنهما أحسّا في الباطن بالغدر من الكامل، فجهّزا في السر إلى الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، وقالا له: برّز أنت في ظاهر دمشق، فإننا قد عزمنا على أمر. وكان يلبغا إذ ذاك نائب دمشق، فبرز إلى ظاهر دمشق - على ما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى - وراحت الأخبار إلى الكامل بخروج يلبغا واتفاق نواب الشام معه، فلم يرَ الكامل بُدّاً من تجهيز عسكر إليه، فجرد جملة من عسكر مصر، وقدم عليها أحد الأميرين، وإمّا الحجازي أو أقسنقر، فخرجا من القاهرة، وعاد مصر، وقدم عليها أحد الأميرين، إمّا الحجازية أو أقسنقر، فخرجا من القاهرة، وعاد من بعض الطريق، واجتمع الناس عليهما في قبّة النصر، وخرج الكامل، فجُرح الأمير سيف الدين أرغون العلائي، وانهزم السلطان، ودخل القلعة، وطلع الأميران المذكوران إلى القلعة، وأخذ أمير حاج، وأجلساه على كرسي الملك وحلفا له وحلفا له العساكر، ولقباه المظفر، وزادت عظمة الحجازي وأقسنقر في أيام المظفر.
فلما كان في يوم الأحد تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة جاء إلى السلطان من كان معهما في الباطن، وقال: إنهم قد أجمعوا على الركوب غداً إلى قبة النصر، وأن يفعلوا بك ما فعلوه بأخيك، فأحضرهم العصر إلى القصر، وأمسكهم، وهم الأمير شمس الدين أقسنقر، والأمير سيف الدين ملكتمُر الحجازي، والأمير سيف الدين قرابغا الساقي صهر اليحيوي، والأمير سيف الدين إتمش، والأمير سيف الدين صمغار، والأمير سيف الدين بزلار، فأما الحجازي وآقسنقر فإنهما قتلا في الوقت الحاضر بالقصر، والبقية جهزوا إلى الإسكندرية، وقيل: إن السلطان ضرب قرابغا على كتفه بالنمجا، ثم إنه أمسك الأمير سيف الدين طقبغا الغمري، وأولاد الأمير علاء الدين أيدغمش وابن الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، وذلك كلّه بتدبير الأمير شجاع الدين أغرلو.
وكان الأمير شمس الدين المذكور رحمه الله تعالى شكلاً مليحاً، ووجهاً مع صباه صبيحاً. طويلاً فيه هيف، لو رآه الحمام لسجع عليه وغرد وهتف، يكرم من يودّه، ويُسلفه الإحسان ولا يستردُه، نفسه نفس الملوك في العطاء، وجوده لأصحابه بارز الشخص ما عليه غطاء.
وكان يكتب خطأ قوياً، متمكن الحروف سورياً، وكان إذا كتب لمن يكرمه ويصل حبل وداده ولا يصرمه، كتب: المملوك أقسنقر سلام عليك.
أقطاي الأمير سيف الدين الجمدار.
كان يسكن قبالة المدرسة التقوية داخل باب الفراديس، ثم إنه انتقل بعد ذلك إلى العقيبة، وكان أمير سبعين فارساً. وكان الأمير سيف الدين تنكز يعظمه. وهو والد الأمير سيف الدين سلامش.
وكانت بينه وبين الشيخ علاء الدين بن غانم صحبة ومودة.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون.
أقطاي الأمير سيف الدين العمري كان من جملة أمراء الطبلخانات بحلب.
توفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ست وخمسين وسبع مئة.
ورسم بإمرته للأمير شرف الدين موسى بن الأمير ناصر الدين محمد بن شهري.
أقطوان الأمير علاء الدين الكمالي الحاجب بصفد.
حضر إليها أول أمره مشدّ الدواوين، ووالي الولاة لما كان الجوكندار نائبها، ثم إنه أعطي طبلخاناه، واقام على ذلك مدة، ثم رسم له بالحجوبية، وبقي فيها مدة طويلة، ثم إنه نقل إلى نيابة القلعة بصفد، وأقام بها مدة، ثم أعيد إلى الحجوبية.

وكان أميراً ذا بركٍ وعدة، يركب وينزل من مماليكه في عدّة، زائد التجمل في السلاح وآلات الحرب والكفاح، وهو رجل طوال، لا يُرد عنده من أحد سؤال، ذو طلعة بهيّة، وشيبة سنية، عرف الناسَ وأحبوه، ولبوه إلى ما يريده وأجابوه. وهو والد الأمير سيف الدين قرمشي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف القاف مكانه.
ولم يزل بصفد على حاله إلى أن خرب الموت ربع حياته، وقرر عنده أمر نزله وبياته.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وكتبت أنا إلى ولده الأمير سيف الدين قرمشي أعزيه:
تعز يا مولاي في الذاهبِ ... وأرضَ بأمر الطالبِ الغالبِ
واصبر تنل أجركَ في فقده ... فليس من يصبرُ بالخائبِ
قدر ركبَ الأعناقَ لمّا مضى ... لرَبِّه أفديهِ من راكبِ
وباتَ مندوباً لأنَّ العلا ... أمست بقلبٍ بعده واجبِ
وفاز لما حازَ طيبَ الثنا ... والذكر في الحاضرِ والغائبِ
بكاهُ حتى مستهل الحيا ... بدمعهِ المنحدرِ الساكبِ
لم ترمَ دونَ الناسِ من فقدهِ ... فيهِ بسهمٍ للردى صائبِ
بل الورى عمهُم رزؤه ... وكم فؤادٍ بعدهُ ذائبِ
وما ترى في النّاس غير امرئ ... وعينهُ تبكي على الحاجبِ
أقطوان الأمير علاء الدين الظاهري الساقي.
كان صالحاً يقوم الليل، ويجاهد في المحراب وعلى ظهور الخيل، ويلازم صلاة الجماعة، وما لحقوق الله تعالى عنده إضاعة. وكان يحفظ أشياء في الزهد يوردها، ويأتي بها من حفظه ويسردها.
ناب السلطنة بقلعة الجبل في أيام السعيد بن الظاهر لما توجه إلى الشام، ثم إنه نقل إلى الشام، وأقام به إلى أن صُرع الساقي، وظفر من عمله بالكنز الباقي.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان المعظم سنة ثمان عشرة وسبع مئة. وكان من أبناء الثمانين أو تجاوزها، ودفن بالقبيبات.
أقوش الأمير جمال الدين الشريفي.
كان والي الولاة بالصفقة القبلية بالشام، تولاها وهي كثيرة الهرج، مباحة الدم والفرج، قد غلب فيها العشير على حكام الدولة، وكادت قراها تحكي أطلال خولة، فأطلق فيها سيفه الماضي، ورفض التغافل والتغاضي، إلى أن هذب تلك الناحية، وميز الفرقة الناجية.
ولم يزل على حاله إلى أن بغته حمامه، وانقصف رمحه، وصدى حسامه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة.
آقوش حسام الدين أبو الحمد الافتخاري الشبلي.
سمع بالقاهرة من ابن رواج، والساوي، وجماعة. وسمع بدمياط الناسخ والمنسوخ للحازمي من الجلال الدمياطي. وسمع بدمشق من ابن قُميرة، وابن مسلمة، وسمع منه الطلبة.
وكان متميزاً في الأجناد، موصوفاً بالسداد، وسمع بدمشق من ابن قميرة، وابن مسلمة، وسمع منه الطلبة.
وكان متميزاً في الأجناد، موصوفاً بالسداد، يكتب خطاً فائقاً، راقياً في درجة الحسن رائقاً، له عناية بالخطوط المنسوبة وتحصيلها، وعنده بذل للجمل في تفصيلها.
وحدث قديماً مع أستاذه شبل الدولة كافور خزندار قلعة دمشق.
ولم يزل على حاله إلى أن وقع الشبلي في شبكة الموت، وغرق في بحر الفوت.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
آقوش الأمير جمال الدين المطروحي الحاجب بدمشق.
أباعه الكسروانيون للفرنج في واقعة غازان، ثم شراه ابن سعيد الدولة منهم، وأعطي طبلخاناه بعد الوقعة.
وكان شيخاً مليح الشيبة، ظاهر الهيبة، حاجباً جليلاً، لا يراه أحد إلا اتخذه خليلاً، لا يراه أحد إلا اتخذه خيلاً، ناهضاً بالأعباء عاقلاً، لا تجده الدولة عن مصلحتها غافلاً.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن المطروحي على نعشه مطرحاً، وطحنته من المنية تلك الرحى.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. باشر الطبلخاناه قليلاً، ومات رحمه الله تعالى.
آقوش الأمير جمال الدين الأفرم، نائب دمشق.
كان من مماليك الملك المنصور قلاوون القدُم الجراكسة، وهو من أكابر البرجية السلاح دارية. وكان في البرج مُغرى بالنشاب والعلاج والصراع واللكام والثقاف وتأمّر وهو على هذا.

ولما كان في أيام أستاذه تحدث مع بعض الخاصكية أن يخرج إلى الشام، فعرضوا به للمنصور، فقال: آقوش الأفرام يريد الرواح إلى دمشق، لا بد له من نيابة دمشق إلا ما هو في أيامي.
أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: حدثني جلال الدين محمد بن سلميان بن البيع الموقع عن الشهاب الرومي أن الأفرم حدثه أنه قال: كان يتردد إلي وأنا بمصر فقير مغربي، كان في القرافة الكبرى، فقال لي يوماً: يا آقوش إذا صرت نائب الشام أيش تعطيني؟ فقلت له: يا سيدي ما أنا قدرُ هذا. فقال: لا بد لك من هذا. أيش تعطيني؟ فقلت: يا سيدي الذي تقول. فقال: تتصدق بألفي درهم عند السيدة نفيسة، وبألف درهم عند الشافعي. فقلت: يا سيدي بسم الله. فضحك، وقال: ما أظنك إلا تنساها، وما تعود تذكرها إلا إذا جئت هارباً إلى مصر. قال: فوالله لقد جعلتُ كلام المغربي ممثلاً بين عيني حتى وُليت النيابة، فأنسانيه الله، ثم ما ذكرته حتى دخلتُ نوبة غازان مصر هارباً، فبينما أنا أسير هارباً إذ مررت بمكان الفقير، فذكرت قوله، فأحضرت على الفور الدراهم، وتصدقت بها.
وكان قد نقل الأفرم إلى الشام قبل النيابة، وأقام بها مدة طويلة في مجالس أنس ولهو وطرب، يغشى الناس ويغشونه. ولما كانت أيام العادل كتبغا، وتقدم حسام الدين لاجين، وصار نائب مصر، اشتد عضد الأفرم به، لأنهما كانا ابني خالة، فلما تسلطن لاجين كان الأفرم بدمشق فطلبه، وجعله حاجباً، وبقي بمصر مدة على ذلك، يبيت ويصبح بقلعة الجبل. ولما كان يوم الخميس وهو اليوم الذي قُتل فيه لاجين عشيةً، نزل الأفرمُ تلك الليلة، وبات في القاهرة في داره، وهي دار الشريف ابن ثعلب، وبات بها هو والأمير شرف الدين حسين بن جندر بك.
أخبرني من لفظه الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك. قال: بينا نحن تلك الليلة وإذا بالباب يُطرق وقائل يقول: خلوا الأمير يكلم السلطان. وآخر في آخر في الحث في طلبه. فهم الأفرام بفتح الباب، فقلت له: تأنّ على نفسك، فخاطري قد حدثني بأمر، وأخشى على السلطان من أمرٍ حدث، فانتبه لنفسه، وقال: ما العمل؟ قلت: تحيل على من يخرج إلى السوق، ويكشف الخبر. فدلينا مملوكاً من السطح، فما لبث أن عاد إلينا بالخبر، فخرجنا على حمية، وركبنا وطلعنا إلى خيل الأفرم، وكانت خراج البلد، فأخذنا الخيل وانعزلنا إلى القلوبية، واجتمع عليه مماليكه وأصحابه واللآجينية، ونشر أعلامه، ودقً طلبلخاناته، وبقي يتنقل حول بركة الحجّاج إلى عكرشة إلى المرش إلى ما دون بلبيس وهو على غاية الحذر، إلى أن ترددت الرسل بينه وبن أمراء القلعة، وتأكدت الأيمان بينهم، فهم بالطلوع إلى القلعة، ثم إنه رد من الثغرة، وفل أكثر من كان معه، وكاد يؤخذ، فأتى الله بالأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، والأمراء المجردين بحلب، فانضم إليه الأفرم، وكان معه إلى أن قتل كرجي وطغجي، وتقرر الأمر على طلب السلطان الملك الناصر من الكرك بإجماع رأي سبعة من الأمراء، وكان الأفرام سادسهم، فتصدر الكتب بخطوط السبعة والأفرم السادس، ولما حضر السلطان واستقرت دولته بعثه إلى دمشق كالحافظ لها، فوصل إليها على البريد في ثاني عشري جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وست مئة، وحكم فها بغير تقليده مدة. انتهى، أو كما قال.
ثم إن الأفرم سعى لها سعيها، فجاء تقليده بنيابة دمشق، وكان هو والجاشنكير متظاهرين لما يجمعهما من البرجية.
أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال حدثني والدي، قال: دخلت يوماً على الأفرم وهو في بقية حديث يتشكى فيه من افتئات سلار والجاشنكير وما هما فيه، ثم التفت إلي وقال: يا فلان! والله هذا بيبرس، لما كنا في البرج كان يخدمني ويحكّ رجلي في الحمام، ويصبّ الماء علي، وإذا رآني والله ما يقعد إلاّ إذا قلت له: اقعد. وأمّا سلار فما هو منا ولا له قدر، أيش أعمل في دمشق؟ والله لولا هذا القصر الأبلق والميدان الأخضر، وهذا النهر المليح ما خلّيتهم يفرحون بملك بمصر.
وكان الأفرم يقول: لما توجه الناصر إلى الكرك: والله عملوا نحساً، كان ابن أستاذنا وهم حوله أصلح.
ولم يزل على هذا حتى تحتم الأمر، وخاف القتل، وانصرف إلى الجاشنكير.

ولما كانت كسرة المسلمين، وجرى من أهل كسروان ما جرى على العساكر أثر ذلك في قلبه، ولما عاد واستقرت الأمور توجه إليهم بنفسه، ونازلهم ولم يحصل على طائل، ووصلت الأراجيف بأحاديث التتار، فعاد عنهم، ولما قضى الله تعالى بالنصر في واقعة شقحب جعل كسروان دأبه، وكتب إلى نائب طرابلس ونائب صفد، وجمعوا الرجال وأحاطوا بالجبل من كل ناحية، فأظهره الله عليهم وظفره الله بهم، وكبتَ كتبَ البشائر بذلك، وأحسنُ ما وقع فيها الشيخ كمال الدين محمود بن الزملكاني لأنه افتتحه بقوله تعالى: " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً " .
ومدح الأفرم في هذه الواقعة بعدة مدائح جمعها شمس الدين الطيبي هي وكثيراً مما كتب في هذه الواقعة، وسماها واقعة كسروان، وزاد تمكن الأفرم في نيابة دمشق إلى أن كان يكتب تواقيع بوظائف كبيرة، ويبعثها إلى مصر، ليعلم السلطان عليها.
وكتبت في دمشق على السلطان بالإشارة العالية الأميرية الكافلية الجمالية كافل الشام أعزها الله تعالى. وشكا إليه ضوء بن صباح أحد قصاد الخدمة أن جاميكته نقصت فقال: من فعل ذلك؟ فقال: ابن سعيد الدولة. وكان بان سعيد الدولة إذ ذاك مشير الدولة وجليس السلطان، ومكان ثقته، ولا يعلم الملك المظفر على شيء حتى يكتبَ عليه ابن سعيد الدولة: يحتاج إلى الخط الشريف، فكتب الأفرم إلى ابن سعيد الدولة هكذا ابتداء: وَالك يا بن سعيد الدولة! ما أنت إلا ابنُ تعيس الدولة، وصلتَ أنك تقطع جوامك القصّاد الذين هم عينُ الإسلام، ومن هذا وشبهه، والله إن عدت تعرضت إلى أحد من الشام بعثت إلى من يقطع رأسك، ويجيء به في مخلاة، وجهز به مملوكاً من مماليك على البريد قصداً، وأمره أن يعطيه الكتاب في وسط المحفل، ويقول له من نسبة ما في الكتاب، ففعل ذلك، فدخل إلى السلطان، وأراه الكتاب فقرأه، ثم أطرق زماناً، وقال له: أرضِ الأفرم، وإلا أنا والله بالبراءة منك، والله إن عمل معك شيئاً ما نقدر ننفعك! ولم يزل على حاله إلى أن حضر السلطان الملك الناصر من الكرك، وقفز الأمراء إليه، وبقي الأفرم في دمشق وحده، فهرب هو والأمير علاء الدين بن صبح إلى شقيف بيروت، ثم إن السلطان آمنه فحضر إلى دمشق فأكرمه وأقره على نيابة الشام في الركوب والوقوف والخدمة، وقراءة القصص، وسافر معه إلى مصر على حاله، ولما استقر جلس السلطان على كرسي الملك أعطى الأفرم صرخد على عادة العادل كتبغا، وأخرج سلار إلى الشوبك.
ونقل إلى السلطان أن الأفرم وسلار يتراسلان فولى الأفرم نيابة طرابلس، وقال له: لا تدخل دمشق، خشية أن تنشب أظافره فيها، ويقول أهلها معه محبة فيه، فتوجه إلى طرابلس وهو على وجل، ويخرج كل ليلة بعد العشاء هو ومن يثق إليه من دار السلطنة إلى مكان ينامون فيه بالنوبة وخيلهم معهم، وربما هوموا على ظهور الخيل.
ثم إنه أتاه مملوك كان له في مصر، وقال له: السلطان رسم لك بنيابة حلب، ورسم لك أن تروح إلى مصر لتلبس تشريفك وتأخذ تقليدك وتعود، فطار خوفاً، وكان في مرج، فأتاه في الحال مملوك صهره أدمر الزردكاش يعرفه أنه مأخوذ، ويحرضه على الخروج، فخرج في الحال.
أخبرني القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله، وحكى لي عماد الدين إبراهيم بن الشيخ شهاب الدين الرومي أن الأفرم ما خرج إلى مرج لاجين، إلا بنية الهروب. قال: وكنت عنده قبل خروجه إلى المرج المذكور يوماً، فبينما نحن قعود نأكل إذ جاء إليه مملوك من مماليك قرا سنقر، فسلم عليه، ثم قعد يأكل معه حتى فرغنا، وخرجت المماليك، ولم يبق عنده أحد إلا جمدارية النوبة، وأنا لا غير، فقدم إليه المملوك، وقال له: أخوك يسلم عليك، وقد بعث لك معي هدية، فقال: وأين الكتاب؟ قال: ما معي كتاب، قال: فالمشافهة؟ قال: ما معي مشافهة، ولكن هدية لا غير.

فقال: هاتها، فأخرج خرقة وحلها، وناوله تفاحة، ثم ناوله بعدها مئزراً أسود، ثم ناوله بعدها نصفيّة هكذا على الترتيب، ثم خرج، فقال له: أقعد، فقال: ما معي دستور أن أقعد بعد إيصال الهدية، فوجم الأفرم، وساره في أذنه، وأعطاه نفقة، وسفرهُ لوقته. فلما خرج قال لي: أتعرف أيش هي الهدية؟ فقال له: لا والله يا خوند، لا يكثر الله له خيراً، قال: اسكت، وَالك، بعث يقول: إن كنت تريد تشم هواء الدنيا مثل ما تشم هذه التفاحة فأته في الليل الذي هو مثل هذا المئزر، وإلا فهذه النصفيّة مثل كفنك. قال: فعجبت لسرعة فطنة الأفرم لقصده وما رمز عليه.
وخرج الأفرم ولاقاه الزردكاش، وسارا معاً، وعبر الأفرام على مرج الأسل وبه العسكر المصري مجرداً لمنعه من اللحاق بقرا سنقر، فلما أشرف على المرج رأى العسكر قال: شدوا لي حماماً، وكان حصاناً له يعتمد عليه، فركبه وعليه كبرّ أطلس أحمر وكوفية ورمحه بيده، ثم قال للثقل يكاسرون ويعبرون، فلما عبروا لم يتعرض إليهم أحد، ثم أمر الطلب أن يدخل مفرقاً، وقال: لأن هؤلاء إذا دخلوا عليهم وما أنا فيهم ظنوا أنني في الصيد، وما القصد إلا أنا، فما يعارضونهم إليهم، ولما تعدوهم أقبل هو وحده، وشق العساكر، ولم يفطن له أحد، ولا عُرف أنه الأفرم. ولما خرجوا من المضيق اجتمعوا، ورفع العصابة فوق رأسه وسار ولم يتبعه أحد، ولما قرب من قراسنقر ما اجتمعا إلا بعد مُراسلات عديدة أيمان ومواثيق، لان الأفرم تخيل في نفسه أن قراسنقر عمل هذه الفعلة مكيدة عليه، وكان حزماً منه. ولما اجتمعا سارا في البرية وقصدا مهنا بن عيسى، وكان قرا سنقر قد ترامى إلى مهنا، وترامى الأفرم إلى أخيه محمد.
وحكى لي القاضي شهاب الدين، قال: حكى لي سنجر البيروتي، وكان أكبر مماليك الأفرم، قال: لما فارقنا البلاد التفتَ الأفرم إلى بلاد الشام، وأنشد:
سيذكرني قومي إذا وجد جدهم ... وفي الليلةِ الظلماءُ يُفتقدُ البدرُ
وبكى فقال هل قراسنقر: روح بلا فُشار، تبكي عليهم ولا يبكون علنيا. فقال والله ما بي إلا فراق مسوى ولدي، فقال له: أيّ بغاية بصقتَ في رحمها جاء منه موسى وعلي وخليل، وعدّة أمساء. وقال: ولم ندخل ميافارقين إلا وقد أملق ونفذ ما كان يقوم به إلا قرانقر، وألجأتنا الضرورة إلى أني كنت أحطب، والأفرم ينفخ النار، والمماليك تنام هنا وهنا، وما فيهم من يرحمه، ولا من ينفخ النار عنه فيقول لي: وَالك يا سنجر تبصر؟! فأقول له: أبصرت، فيتنهد وتتغرغر عيناه بالدموع، وفلما وصلنا إلى بيوت سوتاي أضافنا ضايفة عظيمة، ونصب لنا خيمة كبيرة كان كسبها من المسلمين أيام غازان وعيها ألقاب السلطان الملك الناصر. فلما قام الأفرم ليتوضأ قال لي: والك يا سنجدر، كيف نعاند القدرة، ونحن في هذا النكان، وقد خرجنا من بلاده، وهو فوق رؤوسنا، وإذا كان الله قد رفعه، وكيف نقدر نحن نضعه. قال سنجر: ومن حين دخلنا إلى بيوت سوتاي عاد إليه ناموس الإمرة، ومشت المماليك معه على العادة، وأجري علينا من الرواتب ما لم نحتج معه إلى شيء آخر، ولم يزل كذلك حتى وصلنا الأردو فازداد إكرامنا وتوالى الإنعام علينا.
وركب خربندا يوماً ودار حتى انتهى إلينا، فوقف، وخرج له الأفرم وضرب له جوكا وقدم له خيلاً بسروجها ولجمها وأشياء أخر، فقبلها، واستدعى بشراب فشرب منه، وأمسك له أياق، فضرب الأفرم له جوكا وشربه، فأمر له بخمسين ثوباً، فقبضناها من خواجا علي شاه، ثم أعطاه همذان، فتوجهنا إليها وأقام بها، وقصدته الفداوية مرات، ولم يظفروا به، وقفز عليه واحد منهم مرة، والأفرم قاعد وقدّامه بيطار ينعل له فرساً، فأمسكه بيده وضمه إلى إبطه، ولم يزل كذلك حتى أخذناه وقرره ثم قلته.
قال: وأحضر الأطباء فملؤوا فمي زيتاً وأعطوني محاجم، وبقيت أمص الجرح، ثم إنهم عالجوه وبرئ ولم يمت إلى حتف أنفه بهمذان.
وحصل له في سنة أربع عشرة وسبع مئة فالج وهو بهمذان.

قلت: وكان الأفرام ذا قوة ونجدة، يقاوم في الحروب بعدة، وما تمتع أحد بالقصر الأبلق كما تمتع، ولا ثبت له للهو كما ثبت له وما تتعتع، وكان مغرى بحب الصيد لا يكاد يمله، يطلع الهلال فيه ويبدر ويستهله، وكانت له خيول تشد للكر، وخيول تشد للقنص، وهو من هذا السرج إلى هذا السرج يعد ذلك من الفرص، وكانت أيامه ممتزقة في الصيود، والقنص بالجوارح والكلاب والفهود، ومع هذا لا يخل بالجلوس للأحكام، والتصدي لمصالح الإسلام، وقضاء حوائج الناس، وإغاثة ذوي اللفهافت والعدم والياس، وتحصين الحصون، وملء كل ثغر بما يحتاج إليه من الحاصل المصون، وترتيب رجاله، وتفقد أحواله، وإدرار النفقات عليهم، ووصول الإنعامات إليهم، وادخار السلاح، وما يحتاج إليه من زرديات وقسي وجروخ ورماح. ولا يزال يتفقد هذا بنفسه، ويتوكل بأمره في يومه كما كان في أمسه. وقصّاده لا تزلا في بلاد العدو، فرقة داخلين وفرقة خارجين، وبريد يخفق إلى باب السلطان بحركات العدوّ إن كانوا متحركين أو ساكنين. إلا أنه كان يسمع كلام كل قائل، ويميل إلى من لم يكن بطائل، ويبقى أثر ذلك في قلبه كامناً، إلا أنه كان يسمع كلام كل قائل، ويميل إلى من لم يكن بطائل، ويبقى أثر ذلك في قلبه كامناً إلا أنه لا يرتب تحريك أذى يكون ساكناً.
وكان واسع السماط، كثير الانشراح علي والانبساط، ويتخرق ريحه كرماً، ويضيء جوده للسائرين ضرماً، ولكنه قليل العطاء، ليس لبخل عنده، ولا لإمساك يوري زنده، ولكن لضيق ذات يدهِ، وعدمِ حاصل يضطرب جوده في إنفاق مدده. قال لي من اطلع على أمره: إنه أكثر ما ملك سبعة آلاف دينار، وكان خيراً عديم الشر والأذى، لا يحب أن يرى في عين أحد قذى، لا يؤثر الظلم، ولا يفارق حمى الأناة والحلم، ما سفك دماً إلى بالشرع، ولا غلّب أصل مأثمة على فرع.
ونادم في دمشق الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وبدر الدين بن العطار، والملك الكامل، وغيرهم من المطابيع الأفاضل والرؤساء الأماثل، وأحبه أهل دمشق، ونقشوا ركنه على أطرزتهم وآلاتهم، واستعملوه في جميع حالاتهم.
ونظم فيه الشعراء، ومن أحسن ما جاء فيه قول الشيخ نجم الدين هاشم البعلبكي الشافعي:
سيوفٌ سقاها من دماءٍ عُداته ... وأقمس عن ورد الردى لا يردها
وأبرزها في أبيضٍ مثل كفه ... على أخضرٍ مثل المسن يحدها
وكان زنكه غاية في الظرف، وهو دائرة بيضاء، يشقها شطب أخضر، عليه سيف أحمر، يمر من البياض الذي فوق إلى البياض الذي تحت على الشطب الأخضر. وقيل: إن النساء الخواطي وغيرهن كن ينقشنه حتى على معاصمهنّ وفروجهنّ.
ولم يزل على حاله في همذان داخل البلاد إلى أن جاءه الأمر الذي لا يرد قدومه، والخطب الذي لا يصد عن القطع قدومه.
وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - بهمدان بعد العشرين وسبع مئة، ودفن بها.
وعمر الجامع الذي بالصالحية قبالة الناصرية، والتربة التي إلى جانبه. وجدد جامع التوبة الذي بالعقيبة.
ولما كان بصرخد، وكتب إليه الشيخ صدر الدين بن الوكيل قرين فاكهة جهزها وحلوى:
أيا جيرةً بالقصر كان لهم مغنى ... رحلتم فعادَ القصرُ لفظاً بلا معنى
وأظلم لما غابَ نورُ جماله ... وقد كانَ من شمس الضحى نورهُ أسنى
فلا تحسبوا أن الديار وحُسنها ... زمانكم لا والذي أذهب الحسنى
لقد كانت الدنيا بكم في غضارةٍ ... ونعمى فأعمى الله عيناً أصابتنا
ولا رقت الأصالُ إلا صبابةً ... ولا حركت ريحُ الصبا طرباً غُصنا
يعز عليهم بعد داري عنهم ... وقد كنتُ منها قاب قوسين أو أدنى
وأني ألاقي ما لقيتُ من الذي ... لقلبي قد أصمى وجسمي قد أضنى
لقد كنتُم يا جيرةَ الحي رحمةً ... أياديكُم تمحو الإساءة بالحسنى
فجاءته الأبيات والهدية صحبة قاصدة، وقد خرج إلى الصيد، فقال للخزندار: كم معك؟ قال: ألف درهم، فقال: هذا القدر ما يكفي الشيخ صدر الدين، يا صبيان أقرضوني حوائصكم، فأخذ من مماليكه عشرين حياصة وجهّزها قرينَ الدراهم، وقال لقاصده: سلِّم على الشيخ وقُل له:
على قدرِ الكسا مديتُ رجلي ... وإن طالَ الكسا مديت زاده

ولم ينتفع بعده أحدٌ بالقصر الأبلق، لأنه وسكنه مدة نيابته وهي تقارب الأربع عشرة سنة، وبعد سكنه قراسنقر أربعة أشهر، وخرج منه أقبح خروج، وسكنه كراي مدّة يسيرة وأمسك منه، وسكنه نائب الكرك دون السنة وعُزل. وأمّا تنكز - رحمه الله تعالى - فما سكنه ولا بات فيه. وأمّا الفخري فنزل فيه، فجرى له ما جرى. وأمّا طقزتمر فخرج منه في ليلة خرج إلى قبته في المرّة الثانية، ومنها هرب، وجرى له ما جرى، وأمّا أرغون شاه فمنه أخرج وذبح.
آقوش الأمير جمال الدين المنصوري، المعروف بقتال السبع.
بقي إلى أن عاد السلطان الملك الناصر من الكرك، وهو أمير كبير، وعظيم بالبأس والنجدة شهير، أملاكه موفورة، ومماليكه تضاهي شموس الأفق وبدوره، وله الحّمام التي عند حوض ابن هنّس في الشارع، وانتقلت إلى ملك الأمير سيف الدين قوصون أخيراً.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه الحمام فما أطاق رده قتال السبع، وبطش به غرب المنيّة وهو نبع.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة، في تاسع عشري رجب الفرد، وكان أمير علم.
أقوش جمال الدين البيسري، أحد الأجناد بطرابلس، كان له شعر ومُلح، ونوادر وفق المقترح، رأى الأكابر وقاسى أهوال الزمان وهو صابر وقارب المئة وهو برمح واحد، وصحب الدهر فما خانه في المدة إلى أن لحدهُ اللاحد.
وتوفي رحمه الله تعالى.. وسبعمئة.
قال رأيت في النوم من أنشدني:
لما بدا كقضيبِ البانِ مُنعطفاً ... وكان يشتم ريحُ المسك من فيهِ
فقلتُ يا لائماتي انظرنَ واحدةً ... فذلكن الذي لمتني فيه
قال فحفظتهما، ونظمت:
لامت نساءُ زرودٍ في هو قمر ... كل الملاحة جزءٌ من معانيه
وقلنَ لما تبدى ليس ذا بشراً ... فقلتُ: هذا الذي لمتنني فيه
وقال ما كتبَ على قبقاب:
كنت غُصناً بين الرياض رطيباً ... مائسَ العطفِ من غناء الحمام
صرتُ أحكي رؤوسَ أعداك في ال ... ذل أبرغمي أداسُ بالأقدامِ
وقال:
خودٌ من التّرك ذاتُ وجهٍ ... كالبدِ في هالة الكمال
جاءت بكيسٍ بغيرِ ياء ... تطلبُ زبداً بغير دالِ
آقوش الأمير جمال الدين الرسمتي.
كان خبيراً كافياً، عارفاً بالسياسات وافياً، له بأس ونجدة، وفي أخلاقه زعارةٌ وحدة، وولي شد الدواووين بدمشق، فضاق منه عطن الكتاب، وبطل منهم جماعة وانفصل غير واحد منهم وتاب، وحصل أموالاً واستفاد أحوالاً، ثم إنه عُزل وولي والي الولاة بالصفقة القبلية، فمهد البلاد، وأخذ بثأر الطارف والتلاد، وقمع أهل العدوان والفساد، وأصلح الرعايا فساد.
وكانت ولايته بعد الشريفي، فخمل به ذكره، وبطل بذلك حمدُه وشكره.
ولم يزل إلى أن قش الفناء آقوش، وطفئ نور وجهه بعدما كان كالدينار المنقوش.
ووفاته رحمه الله تعالى في يوم الأحد ثامن عشري جمادى الأولى سنة تسع وسبع مئة، ودفن بتربة الشيخ رسلان.
آقوش الأمير جمال الدين نائب البيرة، نُقل إليها بعد موت الأمير شرف الدين موسى أمير حاجب.
وكان الأمير جمال الدين أمير حاجب بحلب، فلما توفي موسى المذكور في نيابة البيرة جُهز الأمير جمال الدين إليها، وجُعل الأمير ناصر الدين محمد بن شهري أمير حاجب مكانه، أظنه توجه إلى البيرة في جمادى الأولى سنة ست وخمسين وسبع مئة، فأقام بها قليلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة ست وخمسين وسبع مئة.
وكان المذكور من مماليك الأمير سيف الدين سودي نائب حلب.
آقوش الأمير جمال الدين الرحبي - بالراء والحاء المهملة والباء الموحدة - المنصوري.
تولى مدينة دمشق أكثر من إحدى عشرة سنة، كان مشكور السيرة، خير السريرة، سهل الانقياد، لا يزال من الخير في ازدياد، طالت مدته في ولاية دمشق وكل يحبّه، وإذا رأى عليه سوءاً يدفعه بجهده ويجبه، قل أن هتك ستراً، أو رأى شدة تطول إلا جعلها بسياسته بتراً.
ولم يزل على حاله إلى أن نُقل الرحبي إلى رحبة القبور، ودعا أهله بالويل والثبور.
وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة.

وكان قد عزله السلطان الملك الناصر لما توجه من دمشق إلى مصر سنة تسع وسبع مئة، لأنه خرج هو والأمير سيف الدين أقجبا المُشد اليودعا السلطان، فغابا ليلة، ولما عاد الرحبي أدركه شرف الدين قيران بن الرستمي متولياً دمشق مكانه فعاد الرحبي، ولحق السلطان، وغاب أياماً، وعاد إلى مكانه واليَ المدينة وذلك دون العشرة أيام، وفرح به أهل دمشق، وتلقوه بالشموع.
وأمسكه تنكز في ذي الحجة سنة أربع عشر وسبع مئة. وصادر ولم يعزله.
ثم إنه في صفر سنة تسع عشرة، رتّبه تنكز في شد الدواوين عوضاً عن فخر الدين أياس الشمسي، فأقام إلى الحادي من جمادى الآخرة من السنة المذكورة.
وتوفي في التاريخ، وكان عمره خمساً وخمسين سنة.
وهو من قرية من قرى إربل، وسبي منها وبيع، فأقام بالرحبة مدة، وانتقل إلى بيت المنصور.
أقوش الأمير جمال الدين الكنْجي، بالكاف والنون الساكنة وبعدها جيم.
كان من الأمراء أولي الدربة، والعارفين بما يجلّي الكربة، قد ألف سياسة الباطنية، ويعلم ما لهم في أمورهم من ظاهر ونيّة، يعيّن لكل مهمّ رجلاً يعرفه، ويُنفذه في ذلك الشغل ويصرفه، وحصّل من الأموال ما يكاثر الأمواه، وأذهل العقول حتى سدّ الأفواه.
ولم يزل على حاله حتى قفز الفداويّ الذي يُخْطِه، وخرج إليه كما يقال من تحت إبطه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
وكان في هذه النيابة بمصياف من الأيام الظاهرية، وعزل منها مرات، ويعود إليها، ولعله بلغ من العمر تسعين سنة.
آقوش بن عبد الله جمال الدين الشبلي الشافعي.
سمع من ابن عبد الدايم، وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
آقوش الأمير جمال الدين الأشرفي نائب الكرك.
ولاّه الملك الناصر بعد مجيئه من الكرك نيابة دمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين كراي المنصوري في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، فأقام قليلاً دون السنة، وعزله بالأمير سيف الدين تنكز، وتوجّه إلى مصر، وأمسكه الملك الناصر، وبقي في الاعتقال إلى أن أفرج عنه في شهر رجب سنة خمس عشرة وسبع مئة.
كان معظماً إلى الغاية، يجلس رأس الميمنة، ويقوم له السلطان ميزة له عن غيره. وكان لا يلبس مفَرَّكاً، ولا مصقولاً، ويتوجه إلى الحمّام بنفسه وهو حامل الطاسة والمئزر، ويقلب عليه الماء، ويخرج وحده من غير بابا ولا مملوك. فاتفق أن رآه بعضُ من يعرفه، فأخذ الحجر، وحكّ رجليه وغسَّله بالسِّدر، ولم يكلّمه كلمة واحدة، ولما خرج وتوجّه إلى داره طلبه وقتله، وقال: أنا ما لي مملوك، وما عندي غلام، ما لي بابيّة، حتى تتجرّأ أنت عليّ.
وعمّر جامعاً ظاهر الحسينية، وكان إذا توجّه إليه عرف الناس خُلُقه، فلا يدخل معه أحد من مماليكه، ويخرج قَوَمةُ الجامع، ولم يبق معه أحد، ويدوّر هو الجامع وحده، ويتفقده، ويبصر إن كان تحت الحُصُر تراب، أو في القناديل تراب، فأيّ خلل رآه أحضر القيّم وضربه. فلما كان في بعض الأيام وهو بمفرده في الجامع المذكور، لم يشعر إلا وجندي من أكراد الحُسينية قد بسط سُفْرة وقصعة لبن ورقاق في وسطها، وقال: " بسم الله " . فالتفت إليه وقال: من أعلمك بمكاني أو دلّك علي؟ فقال: والله لا أحد. فطلب مماليكه، وأكل ذلك وأمر له بمبلغ ست مئة درهم.
فاتفق أن أتاه كرديّ آخر في الجامع بعد ذلك الوقت بمثل ذلك، فرماه، وضربه ست مئة عصاً، وكان قد اتخذ له صورة معبدٍ في الجبل الأحمر يتوجّه إليه وينفرد فيه وحده يومين وأكثر، وأقل، ورُبّما واعَدَ الغلام أن يأتي إليه بالمركوب في وقت، ثم إنه يبدو له فيأخذ ذيله على كتفه، ويدخل القاهرة إلى بيته ماشياً.
وولاّه السلطان الملك الناصر نظر البيمارستان المنصوري، فكان يدخل بعض الأوقات إلى المجانين، ويُدخلهم الحمّام، ويكسوهم قماشاً جديداً، وأحضر لهم يوماً جماعة من الجوالقية، فغنوا لهم بالكف، ورقص المجانين.
وكان يبرّ المباشرين الذين هم به بالذهب من عنده، ويطلع في الليل قبل التسبيح المأذنة، ويتفقد المؤذنين، وكان للبيمارستان به صورة عظيمة، وأملاكه محترمة لا يُرمى على سكانها شيء من جهة الدولة ولا يتعرض لهم أحد بأذيّة.

أخرجه السلطان في أول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة في شهر ربيع الآخر وصل إلى دمشق متوجّهاً إلى نيابة طرابلس، فحضر إليها، وأقام بها مدة، وبالغ في طلب الإقالة، وأن يكون مقيماً بالقدس، فرُسم له بالحضور إلى دمشق، وخرج الأمير سيف الدين تنكز، وتلقاه، وعمل له سماطاً في دار السعادة، ودخل ليأكل، وحضر الأمراء فأمسكه على السماط، وأودع في قلعة دمشق معتقلاً، فأقام بها يسيراً. ثم إنه جهز إلى صفد، وحبس بها في برج، فدخل إليه بعض أهلها، وقال: يا خوند! ما تلبث إلا يسيراً، وتخرُج منه، لأنك دخلت في برج منقلب، فلما كان بعد أيام أخرجوه منه إلى غزة، فقال: لأي شيء؟ فقالوا: يا خوند! البرج قد انشق، ونخاف أن يقع عليك، فقال: صدق القائل، كان البرج ينقلب عليّ.
وكانت له أشياء غريبة، فيما يوقّع على القصص بقلمه؛ كتب إليه إنسان وهو بدمشق: المملوك يسأل الحضور بين يدي مولانا ملك الأمراء لينهي ضرورته، فوقّع على جانبها: الاجتماع مقدَّر.
وكتب إليه بعض من كان بها مليحاً يطلب إقطاعاً، فكتب له عليها: مَنْ كان يومه بخمسين وليلته بمائة ما له حاجة بالجندية.
وكتب إليه إنسان وهو بالكرك: إن هؤلاء الصبيان قد كثرت أذيتهم للمملوك؟ فوقّع له: إن لم تصبر على أذى أولادهم، وإلا فاخرج من بلاهم.
ووقّع لآخر، وكان قد جرت له كائنة في الليل: قد أحصيناك، وإن عدت إلى مثلها أخصيناك.
وقال للأمير سيف الدين تنكز لمّا أمسكه: أما أنا فقد أُمسكت، ولكن خذ أنت حذرك منه.
وأقام في قلعة صفد يسيراً، ثم إنه رُسم بتجهيزه إلى الإسكندرية، فأقام بها قليلاً.
وكان في رأسه سِلعة، فطالب قطعها، وشاوروا السلطان على قطعها، فرسم له بذلك، فقطعوها، فمات رحمه الله تعالى في الاعتقال بالإسكندرية سنة ست وثلاثين وسبع مئة فيما أظن.
وكان يضرب الألْفَ عصا وأكثر، مات، ضَربِه جماعة منهم باردار من باردارية السلطان رآه وهو يسير برّاً باب اللوق، وقد شتم كان عنده وشتم أستاذه، فأمسكه وأحضره إلى البيت وضرب أكثر من ألف عصا، وقال: والك أنت والسقاء تخاصمتما، أنا أيش كنت في الوسط؟! وكانت هذه الواقعة إحدى الذنوب التي عدّها السلطان عليه.
ومنها أنه قتل جارية السلطان امرأة بكتمر الحاجب بسبب الميراث، لأن ابنته كانت زوجة بكتمر أيضاً، فضربها ست مئة عصا. وأشياء غير ذلك.
إلا أنه كان زائد الكرم والسماح، تُقصر عن مباراته في ذلك هُوج الرياح.
كان السماط الذي يمده في بيته في العيد نظيرَ سماط السلطان، وربما يكون أصلف وألذ وأطيب وأظرف. وإذا جُرد في مهمّ من الريدانية لا يعرف جنديه يشتري طعاماً ولا عَليقاً، ولا يدري كل يوم إلاّ وقد صُرف له ما يكفيه من ذلك إلى أن يعود إلى الريدانية تعليقاً، وإذا كان لجنديه فرس حمل كفله إلى مطبخه، فيصرف له من ديوانه ست مئة درهم، وقد صار عادة لا يشاور عليها، ولا يشار إليها، حتى إن بعضهم تكون فرسه بمئتي درهم، فيذبحه، ويأخذ ذلك المبلغ، وكان في نيابة الكرك من سنة تسعين وست مئة إلى سنة تسع وسبع مئة وله بها آثار حسنة.
أكرم القاضي كريم الدين الصغير ناظِر الدولة بالديار المصرية.
كان في الجيش أولاً، ولما بقي خاله القاضي كريم الدين الكبير ناظر الخاص تولّى هو نظر الدولة، وكان يحبّ الكاتب الأمين، ويزيد معلومه وينقله إلى وظيفة أكبر من التي يباشرها، وكان يحضر مجلس خاله كريم الدين الكبير فيكون واقفاً يرفع رجلاً ويضع أخرى، وقد يكون في ذلك المجلس جالساً من لا يمكنه الجلوس في دسته، وإذا كان في مجلسه هابه الناس وعظّموه.
وحكى لي غير واحد أن أمراء العشرات وغيرهم من الأمراء يزدحمون في المشي قدّامه، ويقعون زحاماً، ويقال: إن الملك الناصر لمّا كان في الكرك قال: أنا أعود إلى مكان يكون فيه أكرم الصغير يضرب الجند بالعصي وأشفع فيهم ما يقبل شفاعتي؟! وكان يضرب الناش ضرباً سمّوه المقترح، وهو أن تؤخذ يد الإنسان ويضرب من ورائه على أكتافه، فإذا قعص ضربه آخر من قدّامه على صدره.
ولكنّ عفّته عن مال السلطان مفرطة إلى الغاية، وتشدّد على من يخون عن خارج الحد.

حكى لي أنه جاء إليه الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، وهو في الوجاهة والعظمة عند السلطان ما هو، فقام لتلقّيه، وجلس بين يديه، وقال: ارسم يا خوند! قال: هذا الكاتب صاحبي، فشفّعني فيه، واستخدِمْه في الوظيفة الفلانية، فقال: السمع والطاعة، كم في هذه الوظيفة في كل شهر؟ قال ذلك الكاتب: مئة وخمسون درهماً، وثلاثة أرداب قمحاً، فقال لصيرفي عنده: اصرف لهذا في كل شهر مئة وخمسين درهماً، ويجيء إلى الشونة في كل شهر، ويأخذ هذه الأرداب. فقال الكاتب: ما أريد إلا هذه الوظيفة، فقال كريم الدين: حتى تعلم يا خوند أنه لصّ، وما يريد المعلوم ما يريد إلاّ السرقة، فاستحيا الأمير ومضى.
ولمّا أُمسك كريم الدين أُمسك كريم الدين الصغير، وكاد العوام والناس يقتلونه، وأثبت القضاة فيه محاضر، منها ما هو بالكفر، ومنها ما هو بقتل النفوس، فرأى السلطان أنه ذاهب لا محالة، فقال: إذا قتل هذا ممن آخذ أنا مالي؟ اصبروا إلى أن نأخذ مالنا منه، وتسلّموه انتم. ثم إن السلطان سلّمه إلى الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي، وبقي عنده مُدَيده، ثم إنه أخرجه إلى صفد ناظراً، فجاء إليها في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وضبطها، وحصّل أموالها، ثم إنه ورد المرسوم بإمساكه فأُمسك، وضُربت الحوطة على موجوده، ثم طلب إلى مصر وذلك في سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ثم إنه جُهز إلى دمشق ناظراً عوضاً عن الصاحب شمس الدين، فوصل إليها في ثالث عشري شوال من السنة، فكرهه الأمير سيف الدين تنكز أول حضوره لِمَا كان يبلغه عنه، ولما باشر عنده، ورأى عفّته وتنفيذه وحُسن مباشرته أحبّه ومال إليه ميلاً كلّياً. ثم إنه طُلب فخافه أعداؤه، وعملوا عليه، وبطّلوا ما كان تقرّر في أمره، ورموه بكل داهية، فأقام في بيته بطّالاً.
وخرج عليه ليلة وهو خارج من الحمام جماعةٌ بسيوف ليقتلوه، فداسهم بفرسه، وضرب بدبّوسه إلى أن خلص منهم بكتفه وهو بمفرده، ثم عملوا عليه، فرُسم له بالتوجّه إلى أُسوان، وجُهز في البحر، فأغرق فِرْعَونه في اليم، وخسف عُمْرُ بدره في التم، وكان ذلك في أواخر سنة ست وعشرين وسبع مئة.
وكان مدبّراً مصرّفاً مجمّلاً للمناصب مشرفاً، كاتباً ضابطاً، مقسطاً لا قاسطاً، ذا مهابة وسطوة، ورفعة عند الملوك وحظوة، شديد الانتقام، تصحّ بمباشرته الأسقام، وتتوفر السهام والأقسام، ويريح قلب السلطان بمرض الأقلام والأجسام، لا يحابي أحداً ولا يحاشيه، ولا يراعي مَنْ هو من ألزامه أو حواشيه، يود الكاتب الخائن أن يرى ملك الموت ولا يراه، ويود أن يموت جوعاً ولا يُعمل إليه سَيْرُه ولا سُراه، إذا هزّ عاملاً قلت: هذا كمّي هزّ عاملاً، وإذا طلب ناظراً أنكرتْه علائمه، أو مستوفياً لم تحمله من الحساب قوائمه.
وفيه قلت من قصيدة:
فأكرِم بديوانٍ بهِ قد تثمّرَت ... بأوراقه غلاّته ودراهمه
وأكرِم به يوماً إذا هزّ عاملاً ... تخور لهُ عند الحساب قوائمه
وكان طعامه نظيفاً فاخراً شهياً، ومرأى أوانيه في كل أوان بهياً، إلا أنه لم يكن في بذخ خاله، ولا تمييز حاله، فإن ذلك في عداد الملوك، ولبس كل ما يلبس من الوشي المحوك.
وكنت قد كتبت إليه وهو بصفد:
عساكَ ترقُّ يا ظبيَ الصَّريم ... على صبٍّ من البَلوة سقيم
وجدتُ هدى على نارٍ تبدّت ... بطور حشايَ من قلبي الكَليم
فإنْ أشكُ الغرامَ نفرتَ عُجباً ... فكيف تميلُ معَ مَرِّ النسيم
وخطَّ عذارك المسكيُّ لاماً ... بكهف الخدِّ يبدو كالرَّقيم
فذاك اخضرَّ لما احمرَّ هذا ... فأبصرنا نعيماً في جحيم
وأعجبُ كيف يبسُم فيك ثغرٌ ... ثَناياه منَ الدُّرِّ اليتيم
وهَبْ أنّ القضيب حكاك قدّاً ... فهل للغُصن مثلك جيدُ ريمِ
ولكن مثل ما حَكتِ الغوادي ... كريمَ الدين في الفضل العميم
فتى فاق الوَرى قَدْراً وفَضلاً ... وأين الليث من ظبي الصريم
ودبّر مُلْك مصرٍ فازدهارها ... وأسفرَها عن الوجه الوسيم
وحاطَ يراعُه شاماً ومِصراً ... فكان على صراطٍ مستقيم

تُصرِّف كفُّه رِزقَ البرايا ... بأمر الخالق الرَّبِّ الرحيم
إذا رسمتْ أناملُه سُطوراً ... تحارُ لذلك الدُّرّ النَّظيم
فأين ابنُ العميد إذا رآه ... يخطّ بنانه وابن العديم
وأين كفاءة الوزراء منهُ ... إذا ما قام في الأمر العظيم
له بأسٌ تخافُ الأُسْدُ منه ... ولُطفٌ ليسَ يُعهَدُ من حليم
أيا مَن سادَ أهلَ الأرض طُرّاً ... وأحيا ميّتَ الجود الرَّميم
لقد وحشْتَ مصر وساكنيها ... فما تفترُّ عن ثغرٍ بسيم
ستدخلها وأنتَ قرير عينٍ ... فتلفيها على العهْد القديم
أتيتُكَ إذْ سَبَرتُ الناسَ طُرّاً ... فلمْ أرَ غيرَ ذي نظرٍ سَقيمِ
وليس لما أروم سواك كُفوٌ ... لأنّ الدهر قد أضحى غريمي
وقلتُ لمقصدي أبشِر بنُحجٍ ... إذا كان القُدومُ على كريم
وحَسبي المَدح فيكَ عُلوَّ شانٍ ... وفخراً بين غادٍ أو مُقيمِ
فلا بَرِحَتْ بك الأيام تُزهى ... ونحن ببرد ظلِّك في نعيم
ابن الأكفاني: شمس الدين الطبيب، محمد بن إبراهيم.
الأكُز بضم الكاف وإشباعها لتُنشئ واواً، ثم زاي، الأمير سيف الدين الناصري.
كان أولاً جَمْداراً، وأمَّره أستاذه، وكان يتحقق أمانته، فجعله مُشدّ الدواوين، فعملُ الشَّد أعظمُ من الوزارة، وتنوّع في عذاب المصادَرين وغيرهم، وضربهم بالمقارع، وأحمى لهم الطاسات وألبسهم إياها، وأحمى الدسوت، وأجلسهم عليها، وضرب الأوتاد في آذانهم، ودقّ القصب تحت أظافرهم، وبالغ وشدّد.
وجاء لولو فَنْدش الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في حرف اللام، وأقامه السلطان معه مُشدّ الجهات، واتفقا على عقاب الناس، وجمع الله منهما بين الحجّاج والطاعون، واستخرجا الأموال، وأزهقا النفوس، وتضاعف البلاء، وعمَّ الأذى، وزاد الشقاء في أيامهما، وسكنت روعة الأكُز في القلوب، وكان الكاتب يدخل إليه ميتاً، ويخرج ميتاً.
ولم يزل كذلك إلى أن لطف الله بالناس، وقدّر أنه غضب على لولو المذكور، فأخذ العصا بيده، وضربه إلى أن هرب قدّامه، وهو خلفه إلى أن وصل إلى باب القلعة، ونزل شاشُه في رقبته، فراح لولو إلى القاضي شرف الدين النشّو ناظر الخاص، ودخل عليه وعلى قوصون، وبذل المال، واتفق أن كان الغلاء في سنة ست وثلاثين وسبع مئة، فقال السلطان: يا الأكُز لا تدع أحداً يبيع الأردبّ بأكثر من ثلاثين درهماً، وانزل إلى شُوَن الأمراء وألزمهم بذلك.
فأول ما نزل إلى شونة الأمير سيف الدين قوصون، وأمسك السمسار الذي له، وضربه بالمقارع، وأخرق بالأستادار، فطلع إلى قوصون، وشكا حاله إليه، فطلبه، وأنكر عليه ذلك، فأساء علي الردّ، فدخل إلى السلطان، فأخرق السلطان بقوصون، فأكمنها قوصون للأكُز، وعمل عليه باتفاق النشّو، ولم يَزالا عليه إلى أن غضب عليه السلطان ورماه قدّامه، وضربه بالعِصيّ، ورسم عليه أياماً، ثم إنه أخرجه إلى دمشق في شوال سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
حكى لي القاضي ضياء الدين يوسف بن الخطيب محتسب القاهرة قبل إمساك الأكُز بأربعة أشهر أو ما يقاربها أنّ بعض المشايخ حدّثه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو جالس في صدر الإيوان والسلطان واقفاً أمامه على رأس الدرج وهو ينكر عليه، ويقول له: ما هؤلاء الظَّلَمة الذين أقمتهم، فقال: يا رسول الله من هم؟ ثم توجّه وغاب قليلاً، وأتى بالأكُز، فقال: اذبحه، فاتكاه وذبحه، فقال له: خلِّه الآن. فما كان بعد أربعة أشهر حتى جرى له ما جرى.
وكانت أيامه أيام سَخَط ومحنة ما أسعد من أبعد منزله عن مصر وشحط، قد تنوع في الظلم والجور، وتطوّر في القساوة والجبروت طوراً بعد طور، وبسط العذاب على الكتّاب، وأخذ الصالح بالطالح والبريء بالمرتاب.
وقطع جماعةٌ أشجار غيطانهم، وخربوا ما عُمِّر من حيطانهم هرباً من الخراج الذي قُرِّر في تلك الأيام على الثمار، وجباه الظَّلَمة من باعة الأزهار، ولكن الله لطف، وما جرى الظلم شوطاً حتى قَطَف، ولا لوى العدل جيده، وأعرض حتى عطف.

ولما وصل الأكُز إلى دمشق أقام بها دون السنة، وكَزَ الموت الأكُز ولكز، ونكره العيش لمّا ساوره أفعوان الحَيْن ونكز، وكان ذلك في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة فيما أظنّ. وكانت مدة مباشرته في القاهرة أكثر من سنتين.
أَلْبكّي الأمير فارس، أحد مقدّمي الألوف بالديار المصرية، أظنه ابن أخي الأمير الكبير سيف الدين المِلك الآتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى.
أظنه ورد إلى غزة نائباً بعد الأمير سيف الدين دِلَنْجي في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. وتوجّه بعسكر غزّة إلى صفد لما كانت العساكر الشامية بصفد في حصار نائبها أحمد الساقي.
ولما أُمسك المذكور عاد هو إلى غزة، وأقام بها إلى أن عُزل بالأمير سيف الدين أرغون الإسماعيلي في العشر الأوسط سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وتوجّه إلى مصر، وأقام بها أمير مئة مقدّم ألف، وحضر صحبة الأمير سيف الدين طاز إلى حلب في واقعة بيبغاروس، وهو الذي حضر معه ألطنبغا برناق نائب صفد، والأمير علاء الدين ألطنبغا مشدّ الشرابخاتاه، والأمير سيف الدين شادي أخو أحمد الساقي والأمير سيف الدين أسنبغا الرسولي، وسيف الدين أسن بك بن خليل الطرقي ومهدي مشد حلب، لأنهم جُهّزوا معه من حلب إلى دمشق، واعتقلوا في القلعة إلى أن وُسِّطوا بسوق الخيل في دمشق.
وعاد الأمير سيف الدين ألبكي صحبة السلطان الملك الصالح إلى الديار المصرية، وأقام بها على الإمرة والتقدمة إلى أن وصل الخبر بوفاته في مصر إلى دمشق في أواخر شوال سنة ست وخمسين وسبع مئة.
أَلْبكي بفتح الهمزة وسكون اللام وفتح الباء الموحدة وبعدها كاف وياء أخر الحروف.
الأمير فارس الدين الظاهري، من كبار الأمراء وشجعانهم.
كان في السجن، ويطلبه الملك المنصور، ويتحدث معه، ويعيده إلى السجن، ثم أخرجه وولاّه نيابة صفد، فأقام نحواً من عشرة أعوام.
وكان كلّما ركب ونزل الجمدار شاشه، وفتحه وتركه، فإذا أراد الركوب لفَّ هو شاشه بيده مرة واحدة.
وكان مليحَ الشكل، ليس في وجهه شعر، وكان الأمير سيف الدين يلبان الساقي من أمراء صفد يهيم فيه عشقاً، ويكوت صبابة ووجداً، وكان كثير الآداب.
حكى لي عنه شيخنا الإمام الخطيب نجم الدين حسن بن الكمال الصفدي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الحاء رئاسة كثيرة وحشمة زائدة. وكان يحادثه ويسامره إلى نصف الليل. قال: ولم أره بلا خفّ قطّ، ولم يُبد رجله ولا مدّها ولا كشفها.
ولمّا غضب الأشرف بن قلاوون على حسام الدين لاجين وهو على عكا جهزه إلى صفد ليُعتقَل بالقلعة، فأخذ المقرعة الأمير فارس الدين وضربه عل كتفه وقال له: ما تمشي إلاّ خواتيني، وأخذ خوجة كانت معه وطرطوراً ضمن بقجة، وضرب الدهر ضرباته، وجلس حسام الدين لاجين على كرسي المُلك، ولما ثمّ له الأمر سيّر إلى الأمير فارس الدين يقول له: احتفظ بالبقجة والجوخة والطرطور، ففرّ من حمص وهرب مع الأمير سيف الدين قَبْجَق - على ما يأتي في ترجمته هناك - ومعهما بَكْتَمُر السلاح دار، وتوجهوا إلى قازان لنا بلغهم إسلامه فتلقاهم بالإكرام، وبالغ في الإحسان إليهم وزوج الأمير فاس بأخته، وكان يحكي عنهما لما حضر إلى الشام: هي مثل هذه الشمس، ولما عاد قازان تأخروا عنه، وأعطي الأمير فارس الدين نيابة حمص.
وكان وَجْهُه من الشَّعر خالياً، وبالمحاسن حالياً، كأنه طلعة القمر إذا سفر الظلام، ولبس حلة الكمال والتمام، خيِّراً وادِعاً، ساكناً بالحق رادعاً، لطيف الحركات يتجنب مواقع الهلكات، قريباً من الناس للخير رقيباً نجيباً في أفعاله الغريبة، ينقاد إليها مع الإخلاص جنيباً، معروفاً بالشجاعة والثبات، موصوفاً بالفروسية في الكرّ والفرّ والالتفات، أعظمه القان قازان، وبهره عقله الذي زان، وقيامه بآداب المغول، وسياستهم التي يغتال العقول منها غول، فقرّبه لمّا جرّبه، وردّ به الخطب حين درّبه، وزوّجه بالخاتون أخته، وزاد فيما خصّه به من محاسن رخته، وأفرط في دنّوه حتى كاد يجلسه على تخته.
ولم يزل بحمص عل نيابته حتى نزل به ما لا يُسمع معه مُشتكى، وقرّح الجفون على ألبكي بالبُكا.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة اثنتين وسبع مئة.
ألجاي الأمير سيف الدين الأبو بكري.
كان أحد الأمراء بدمشق، يسكن بدار الأعسر.

فيه خير وصلاح، وجهاد في رضى الله تعالى: إلا أنه لا يحتاج فيه إلى سلاح، يتردد إلى الجامع ماشياً بفَرْد مملوك، ويلازم الصلاة فيه بكرة وعشيّاً ووقت الدلوك، هذا مع تواضع يزينه، ويحسّنه ولا يشينه.
ولم يزل على هذه الطريقة، والسبيل التي هي مجاز إلى الحقيقة إلى أن ألجي ألجاي إلى الدخول في مَنْ غبر، فأصبح وقد طاب مبتدا ذكره والخبر.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتوفي قبله ولده بقليل.
وكان شاباً حسناً، فذاق فقده، ورأى الموت بعينه بعده.
ألجاي الأمير سيف الدين الدوادار الناصري.
كان دواقاراً صغيراً مع أرسلان المقدم ذكره. ولما توفي استقلّ ألجاي بالدوادارية.
وكان شاباً طويلاً، ظريف الحركة هزيلاً تعلوه شقرة، ولونه يضرب إلى حُمرة، وكان طويل الروح لا يغضب، وإن غضب فعلى نفسه، ولا يواجه إلاّ بما أحبّ، مع عفّة وديانة، وخبرة تامة وصيانة، وكان عارفاً بأخلاق أستاذه الناصر، تُعْقَد على دُربَته وآدابه الخناصر.
وثق إليه السلطان كثيراً، وأحلّه من قلبه مكاناً أثيراً، ويكتب خطّاً من أين للروض طلاوته، أو للوشي رقمه وإجادته، وله فضائل، وعنده من العلم مسائل. لازمه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي كثيراً، وكان يُلزمه بالمبيت عنده في القلعة؛ ليكون له سميراً.
وبقي زماناً لا يؤثر الطبلخاناه مدة تزيد على العشرة أعوام خوفاً من إخراجه من بيت السلطان. ولما كان قبل موته بسنتين أو ثلاث أعطي طبلخاناه، واقتنى كتباً نفيسة إلى الغاية، عمَّر له داراً في الشارع، تأنق في بوّابتها ولم يكمل عمارة الدار. ولما مرض بالقلعة طلب النزول إلى داره ليُمرَّض فيها، فلامه أصحابه وأخصّاؤه، فقال: أنا أعْرَفُ بخُلُق أستاذي قد يريد أن يولي الدوادارية غيري، فنزل إليها، وأقام بها مدة يسيرة، وفرغ عمره، ونم نهيه في الدولة وأمره.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر رجب الفرد سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكانت جنازته حافلة. ووقع خلاف في وفاته بين الأمير صلاح الدين الدوادار والقاضي شرف الدين بن الشهاب محمود كاتب السر، فقلت أنا: تُقرأ نصيبة قبره، فقال القاضي شرف الدين: هذا نقش في حجر، فنظمت أنا ذلك وقلت:
أخالف قوماً جادَلوني بباطلٍ ... متى مات أُلجاي الدّوادار أو غَبَرْ
وصَدَّقني فيه نصيبةُ قبره ... وكان الذي قد قُلتُه النَّقشُ في الحجرِ
ألتَمُر الأمير سيف الدين الأبو بكري. أحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
كان شكله تامّاً وخَيْرُه عاماً، فيه سكون كثير، وركون إلى الدعة مثير.
وكان له ولدان، كأنهما فرقدان، ففرّق الموت منهم الشَّمل، وفاضت الجفون عليهم بالهَمْل.
وتوفي رحمه الله تعالى في أربع وأربعين وسبع مئة. ومات هو وولده الأكبر في دون الشهر.
ألْدَمِر بالهمزة واللام الساكنة والدال المهملة المفتوحة والميم المكسورة وبعدها راء.
الأمير سيف الدين أحد أمراء القاهرة. أظنه كان مُقدَّماً.
توجّه إلى الحجاز، فجرت تلك الفتنة في مكة، وقتل هو وولده وغيره. وحصل للسلطان لما بلغه الخبر أذى عظيم، وقام له وقعد، وبطل السماط، وجرد من مصر ألفي فارس كل واحد بخوذة وجوشن ومئة فردة نشاب وفأس برأسين أحدهما للقطع، والآخر للهَدّ، ومع كل فارس جملان وفرسان وهجين، ورسم لمقدم الجيش متى وصل إلى الينبع وعدّاه لا يرفع رأسه إلى السماء بل إلى الأرض، ويسفك الدماء من كل مَنْ يلقاه من العربان، إلا مَنْ عَلِم أنه أمير عرب، يقيده ويسجنه معه.
وجرّد من دمشق ست مئة فارس على هذا الحكم. ومن أعجب ما مرَّ بي أن الناس تحدّثوا وهم في صلاة العيد بالقاهرة بقتلة هذا ألدمر، ولم يقتل هو ومن معه إلاّ بَعْد صلاة العصر يوم العيد سنة ثلاثين وسبع مئة.
وكان أمير جاندار، وأظنه زوّج ابنه بابنة قاضي القضاة جلال الدين القزويي، وسيأتي ذكر ولده أمير علي في مكانه من حرف العين.
ألْدَمِر الأمير سيف الدين المعروف بألدمر عبد الله أحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
وكان قد توجّه أمير الركب في سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، وتسخَّط بذلك كثيراً. ولم أعاد أقام بدمشق.

وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وسبع مئة، وأعطي خبزه للأمير ناصر الدين محمد بن الخطير.
أُلْجِيبُغا الأمير سيف الدين المظفَّري الخاصكيّ.
تقدّم في أيام الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد. لم يكن عنده أحد في رتبته، ولم يزل أثيلاً عنده أثيراً، إلى أن جرى للمظفر ما جرى، على ما سيأتي في ترجمته. وتولى السلطان الملك الناصر حسن، فاستمر معظّماً.
وكان أحد أمراء المشْوَر الذين تصدر عنهم الأوامر والنواهي إلى أن وقه الاختلاف بين هؤلاء الأمراء، فأُخرج إلى دمشق على إقطاع الأمير حسام الدين لاجين أمير أخور، وطُلب أمير آخور إلى مصر، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
يقال: إنهم اختلفوا بعد إخراج أحمد الساقي إلى صفد، فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: تخرجُ نائباً إلى طرابلس. فقال: إذا كان لا بد من خروجي فأكون في حماة. فقالوا له: نعم. وألبسوه تشريفاً، وخرج. ولمّا كان في أثناء الطريق ألحقوه بمن قال له: تَروح إلى دمشق أميراً. فجاء إليها. ولم يزل بها على إمرته إلى أن حضر الأمير سيف الدين قُجا السلاح دار في أثناء شعبان سنة تسع وأربعين فأخذه وتوجّه به إلى طرابلس نائباً عوضاً عن الأمير بدر الدين أمير مسعود بن الخطير، فأقام بها نائباً إلى أوائل شهر ربيع الأول سنة خمسين وسبع مئة، وورد كتابه على أرغون شاه نائب الشام، ويقول فيه: أشتهي أن أتوجّه إلى الناعم أتصيّد به، وما يمكنني ذلك إلاّ بمرسومك. فقال له: " بسم الله " . المكان مكانك.
فحضر إلى الناعم، وأقام على بحرة حمص أياماً يتظاهر بالصيد، ثم إنه ركب ذات ليلة بمن معه من العساكر، وساق إلى خان لاجين، ونزل به، وأقام من الثانية في النهار إلى أن اصفرَّت الشمس، وركب بمن معه وجاء إلى أرغون شاه وهو مقيم في القصر الأبلق، وجرى له ما جرى على ما تقدّم في ترجمة أرغون شاه.
ويقال: إنه ما وصل إلى سوق الخيل حتى قضى له الشغل الأمير فخر الدين أياز السلاح دار. ثم إنه لما انفجر الصبح نزل بالميدان الأخضر، وطلب أمراء الشام، وأخرج لهم كتاب السلطان، وقال: هذا مرسوم السلطان بإمساك أرغون شاه، فما شك أحد في ذلك، واحتاط على أموال أرغون شاه وجواهره وجميع موجوده، وذلك في يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الأول.
ولما كان في يوم الجمعة بكرةً ظهر الخبر أن أرغون شاه ذَبح روحه.
وكان قد جهز بريداً إلى باب السلطان بإمساكه، ومعه سيفه، وأقام والأمراء في خدمته إلى يوم الثلاثاء، فتحدث الأمراء فيما بينهم؛ لأنه أراد أن ينفق فيهم ويحلفهم، فأنكروا ذلك، ولبسوا السلاح، ووقفوا بسوق الخيل، ولبس هو وجماعة من الجراكسة وفخر الدين أياز ومماليكه، وخرجوا إلى العسكر، وكانت النصرة لألجيبغا، وقتل جماعة من أمراء الشاميين، ورموا الأمير بدر الدين أمير مسعود والأمير سيف الدين طَيْدمر أمير حاجب عن الفرس إلى الأرض، وقطعت يد الأمير سيف الدين ألجيبغا العادليّ، على ما سيأتي، وأخذ ألجيبغا الأموال والجواهر، وخرج العصر من دمشق على المِزّة، وتوجّه على البقاع إلى طرابلس، وأقام بها، فما كان بعد أيام إلا وقد جاءت الملطّفات إلى أمراء الشام من باب السلطان بإنكار هذه القضية، وأن هذا أمر لم نرسم به ولا لنا به علم فتجتهدوا في إمساك ألجيبغا وأستاذ داره تَمِربغا وتجهيزهما والكتاب الذي ادّعى أنه منا، وكتب بذلك إلى سائر نواب الشام، فجردت العساكر إليه، وربطوا الطرقات عليه، وسدّوا عليه المنافس. فبلغه الخبر، فخرج من طرابلس، وخرج عسكر طرابلس خلفه إلى أن جاء إلى نهر الكلب عند بيروت، فوجده موعّراً، والعساكر عنده، فوقف من الثانية في النهار إلى العصر، وكرّ راجعاً، فوجد العسكر الطرابلسي خلفه، فواقفوه. ولم يزل إلى أن كلَّ وملَّ وسلّم نفسه، فجاؤوا به إلى عسكر الشام.
وكان أياز قد تركه وانفرد عنه، وقدم العسكر الشامي بالجيبغا ومعه أياز مقيدين، واعتقلا بقلعة دمشق، ثم إنهم جهزوا ألجيبغا مقيداً إلى باب السلطان صحبة الأمير سيف الدين باينجار الحاجب، فوصل من مصر يوم الأربعاء سيف الدين قُجا السلاح دار، وعلى يده مرسوم السلطان بأن يُوسَّط ألجيبغا وأياز في سوق الخيل بحضور العساكر، ويُعلّقا على الخشب حتى يقعا من نتنهما.

فلما كان يوم الخميس ركب العسكر الشامي جميعه والأمير شهاب الدين أحمد الساقي نائب صفد، وأنزلوا ألجيبغا وأياز، وعُلِّقت أشلاؤهما على الخشب بالحبال والبَكَر على وادي بردى بسوق الخيل، وذلك في حادي عشري شهر ربيع الأخر سنة خمسين وسبع مئة، وتألم بعض الناس على ألْجَيْبُغا وتحقّقوا أن أياز غَرّه وحسّن له ذلك الفعل، والله يعلم حقيقة الحال.
وكان ألْجَيْبغا شاباً عضّاً، طريّاً في شبيبته بَضّاً، يميس قدّه قضيباً، ويميل من الصَّبا غصناً رطيباً، ممشوق القوام، مرموق الحسن على الدوام، لَمّا بقل عذاره، وطرّ شاربه، بدا في سماء الحسن كالبدر إذا حفَّت به كواكبه.
وكان عمره يوم وُسّط تسع عشرة سنة. فيا أسفاً له كيف ما تورّع عما فيه تورُّط، ويا عجباً له في أول شبابه كيف توسّط، قدّ السيف أضلاعه قدّاً، وألبس كافور جسمه برداً من عقيق دمه به تردّى، وعُفّر جسده في الثرى، وغسَّل بدموع جماعة من الورى، وظهر له ثبات عند الممات، وقوة جنان أصمت قلوب عداه بالصُّمات بخلاف أياز فإنه أظهر جزعاً شديداً، وأعلن بالبكاء صوتاً مديداً.
وقلت أنا في ألجيبغا:
لما بغى ألجيبغا واعتلى ... إلى السهى في ذبح أرغون شاه
قبل انسلاخ الشهر في جلّق ... عُلّق من عُرقوبه مثل شاه
ألجيبغا الأمير سيف الدين العادلي مملوك العادل كتبغا، من جملة مقدَّمي الألوف والكبار بدمشق.
كان الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - قد أحبّه في آخر الأمر، ومال إليه، واختص به، فلما أُمسك وحضر بُشتاك إلى دمشق أمسك ألجيبغا العادلي وطيبغا حاجي، واعتقلهما بقلعة دمشق، وأقاما في الاعتقال إلى أن مرض السلطان المرضة التي مات فيها فأفرج عنهما، وأعيدت إليه الإمرة والتقدمة، وبقي على حاله كبيراً مشيراً.
ولما كانت واقعة أرغون شاه وركوب العسكر لألجيبغا وقع الأمير سيف الدين ألجيبغا العادلي إلى الأرض عن فرسه، وتعلّق بالسرج ليركب، فضربه بعض مماليك ألجيبغا بالطبر أطار يده من نصف زنده.
ولما توجّه العسكر إلى سنجار كان هو المقدم عليه. ولمّا توجهت العساكر إلى صفد لمحاصرة أحمد كان هو المقدم عليها. ولمّا توجه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى جهة مصر في واقعة بيبغاروس جعله في دمشق نائب الغيبة، وأقام على حاله والملك الصالح في دمشق.
ولم يزل على حاله إلى أن مرض مرضة طوّل فيها، وزاره الضيف الذي لا يُرد، والقادم الذي إذا نزل بالملوك لا يُصدّ.
وكانت وفاته في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
وكان كبير الوجه ألحى، يرى الناظر في محيّاه حُسناً وملحاً، طويل القامة، عظيم الهامة، له رغبة في اقتناء الخيول الثمينة، والمغالاة في أثمانها التي هي في الكثرة مكينة.
وله أرب في المتاجر، ودأب في تحصيل المكاسب التي تبلغ فيها القلوب الحناجر.
يقال: إنه لمّا توفي رحمه الله تعالى خلّف من جملة متاجره سُكراً قيمته ثمان مئة ألف درهم، إلى غير ذلك من الأصناف.
أُلطُقُصْبا الناصري الأمير علم الدين من قدماء أمراء دمشق. أظنه من مماليك الناصر صاحب الشام.
روى عن سبط السِّلفيّ.
كان شيخاً عاقلاً، لا يُرى في القيام إلى الخير متثاقلاً، ساكناً مهيباً، عارفاً لبيباً، أصابه زيار في ركبته، وهو في حصار قلاع الأرمن سكّن حركاته، وأزاره هلكاته، فحمل إلى حلب، ففارق فيها الحياة، وبكاه حتى الغمام بدموع المياه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
ألطنبغا الأمير علاء الدين الحاجب الناصري.
ولاّه أستاذه الملك الناصر محمد نيابة حلب بعد سَوْدي، وصل إليها في أوائل شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة، فعمل بها النيابة على أتمّ ما يكون من الدُّرْبة، وأحسن ما يكون من المعرفة التي يغنى بها عن الصمصامة والحَرْبة، وعَمَّر بها جامعاً حَسَناً، متفرداً بالطلاوة والسَّنا.

ولم يزل بها إلى أن أتى إليه الأمير سيف الدين أُلجاي الدوادار الناصري في المحرَّم سنة سبع وعشرين، وتوجّه به إلى مصر، وورد إلى حلب الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، على ما مرَّ في ترجمته، وأقام بمصر في جملة الأمراء الكبار إلى أن مات أرغون، فأعاده السلطان إلى حلب ثانياً نائباً، وفرح به أهل حلب، وصل إليها في أوائل جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ولم يزل بها إلى أن وقع بينه وبين الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، فطلبه السلطان إلى مصر، فتوجّه إليها، وما أقبل السلطان عليه، وبقي على باب الإصطبل والسلطان يُطعِم الجوارح بالميدان، ولم يستحضره حتى فرغ، وبقي بعد ذلك مقيماً بالقلعة إلى أن حضر تنكز، وخرج السلطان وتلقاه إلى سرياقوس وبير البيضاء، على ما يأتي ذكره في ترجمة تنكز، إن شاء الله تعالى. ولما استقرّ تنكز بباب السلطان أُخرج الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى غزة نائباً.
وبعد شهر ونصف خرج تنكز من مصر إلى الشام عائداً، فلما قارب غزة تلقاه ألطنبغا، وضرب له خاماً كبيراً، وأنزله عنده، وعمل له طعاماً، فأكل منه، وأحضر بناته له فتوجع له، وأقبل عليه بذلك، وخلع عليه، وتوجّه إلى دمشق.
ولم يزل بغزة نائباً إلى أن أمسك السلطان تنكز، فرسم لألطنبغا بنيابة الشام، فحضر إليها يوم الاثنين سادس المحرم سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ودخلها والأمير سيف الدين بُشتاك والحاج أرقطاي وبَرْسْبُغا وبقية الأمراء الذين كانوا قد حضروا عقيب إمساك تنكز.
ولم يزل بدمشق نائباً إلى أن أُمسك السلطان المنصور أبو بكر، وتولّى المُلْك الأشرف كجك، وتنفس الأمير سيف الدين طشتمر بسبب خلع المنصور ومحاصرة الناصر أحمد في الكرك، فخافه قوصون، وكان هو القائم بتلك الدولة، فاستوحى الأمير ألطنبغا عليه، وكان في نفس ألطنبغا من طشتمر، فجرت بينهما مكاتبات ومراجعات، وحمل ألطنبغا حظ نفسه عليه زائداً، فتجهّز إليه بالعساكر، وخرج بعد صلاة الجمعة من الجامع في مطر عظيم إلى الغاية، والناس يدعون عليه بعدم السلامة؛ لأن عوام دمشق كرهوه كراهة زائدة، وكانوا يسبونه في وجهه، ويَدْعُون عليه، ونشب سنان شَطْفَتِه من خلفه في بعض السقائف، فانكسر، فتفاءل له الناس بالشؤم. ولم يزل سائراً إلى سلميّة، فورد عليه الخبر بأن طشتمر هرب من حلب، فساق وراءه إلى حلب، ونهب أمواله وحواصله وذخائره، وفرقها على الأمراء والجند نفقةً، وعند خروجه من دمشق حضر إليها الأمير سيف الدين قُطلوبغا الفخري، وملكها، وبرز إلى خان لاجين، وقعد هناك بمن معه من العسكر المصري، وتردّدت الرُّسل بينه وبين ألطنبغا مال الفخري على قوصون، ومال ألطنبغا إليه.
ولم يزل إلى أن حضر ألطنبغا بعسكر الشام وحلب وطرابلس في عُدّة تزيد على خمسة عشر ألف فارس. وتردّد القضاة الأربع بينهما، ووقف الصفان، وطال الأمر، وكره العسكر الذين معه مُنابذة الفخري، وهلكوا جوعاً، وألحّ ألطنبغا، وأصرّ على عدم الخروج عن قوصون، وأقاموا كذلك يومين. ولما كان بكرة النهار الثالث خامر جميعُ العساكر على ألطنبغا، وتحيزوا إلى الفخري، وبقي ألطنبغا والحاج أرقطاي والأمير عز الدين المرقبي والأمير علاء الدين طَيْبغا القاسمي والأمير سيف الدين أسَنْبُغا بن الأبو بكري، فعند ذلك أدار ألطنبغا رأس فرسه إلى مصر، وتوجّه هو والمذكورون على حميّة إلى مصر.
ولما قاربوها جهّز دواداره قراتمر إلى قوصون يخبره بوصولهم، فجهّز إليهم تشاريف وخيولاً، وبات على أنه يصبح فيركب لملتقاهم، فأمسكه أمراء مصر، وقيّدوه، وجهّزوه إلى إسكندرية، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته، وسيّروا تلقُّوا ألطنبغا ومن معه، وأطلعوهم القلعة وأخذوا سيوفهم وحبسوهم. ثم بعد يومين أو أكثر جهزوهم إلى إسكندرية، ولم يزالوا هناك إلى مجيء الناصر أحمد من الكرك.
وجاءت عساكر الشام، واستقرّ أمر الناصر أحمد، فجهّز الأمير شهاب الدين أحمد بن صبح إلى إسكندرية، فتولّى خنق قوصون وبَرْسْبُغا وألطنبغا وغيرهم في الحبس في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، أو في شهر شوال.

ويُحكى أنه ما جزع عند الموت بل توضّأ، وصلّة ركعتين، وقعد ولفَّ ذقنه بيده، ووضعها في فيه، واستسلم لوضع الوَتر في حلقه، وصبر لأمر الله تعالى وقضائه في خلقه، وبشَّ للذي أتاه، وخَنَق، وتلقاه بالرضى من غير حَنَق.
وكان رحمه الله تعالى خبيراً بالأحكام، طويل الروح على المنازعات والخصام، قد دَرِب الأمور وجرّبها، عمّر الوقائع وخرّبها، وباشر الحصارات، ودخل إلى بلاد سيس في الإغارات، ورتّب الجيوش وصفّها، وقدّمها وقت الفرصة وعند الخطر كفَّها، ودخلها مرات يجتلب ما تحويه ويحتلب، ويجعل علِيَها سافلها، والناس قالوا: سيس ما تنقلب.
وكان ألطنبغا رمّاحاً طُبْجيّاً، يرمي النشاب، ويلعب بالرمح، ويضرب الكرة، وتقاد له الفروسية في بُرَة، ولم يرمِ أحد في بيت السلطان جَنْبَه إلى الأرض، ولا جعل طوله إذا صرعه وهو عَرْض.
وكان لا يدَّخر شيئاً، ولا يستظل من الجمع فَيئاً، ولا يعمر له ملكاً، ولا يُجرى له في المتاجر حيواناً ولا فلكاً، وانفصلت في أيامه بدور العدل قضايا مرت السنون عليها لظلام أمرها، وغموض سرّها، وخفاء الحقّ فيها لدقته، وغلبة الباطل وعموم مشقته، وموت الخصوم في تمادي الحال وعدم الناصر، ورؤية المالك ثمار منافعها وباعه عنها قاصر.
وعلى الجملة كان فريداً في أثناء جنسه، مالكاً بالصبر أمر نفسه؛ إلاّ أن سفك الدماء عنده أمر هيِّن، وإزهاق الروح لا يعبأ به بأمر بيِّن أو غير بيِّن، فلذلك ما رزق سعادة في نيابة دمشق ومنها تعكس، وتنكد عيشه وتنكَّس، ولو قدر الله تعالى له أن يوافق الفخري ويدخل معه، وينزله القصر ويجلس هو موضعه لكان الفخري عنده ضيفاً. وما سلَّ أحد في وجهه سيفاً، ولا وجد له من أحد جَنفاً ولا حَيْفاً، ولكن هكذا قدَّر، وهذه العقبى جزاء ما صُدّر، فلا قوة إلاّ بالله.
ألطُنْبُغا الأمير علاء الدين المارِدانيّ الساقي الناصري.
أمَّره السلطان مئةً، وقدّمه على ألف، وزوّجه إحدى بناته، وهو الذي عمّر الجامع الذي برّا باب زُويلة عند المرحّليين، وأنفق على ذلك أموالاً كثيرة؛ لأنه مرض مرضة شديدة، طوَّل فيها، وأعيا الأطباء شفاؤه، وأنزله السلطان من القلعة إلى الميدان على البحر، ومُرّّض هناك قريباً من أربعين يوماً.
وكان ابن المرواني متولّي القاهرة يقف في خدمته، ويُحضر له كل ما في برّا باب اللوق من المساخر وأرباب الملاهي وأصحاب الحَلَق، وهو يُنعم عليهم بالدراهم والخلع والقماش.
ونزل السلطان إليه مرات، وكان الخاصكية ينتابونه جماعة بعد جماعة، وبيبتون عنده، وتصدّق في تلك الأيام بمائة ألف درهم، وشرع في عمارة الجامع المذكور. وهو أحد الخاصكية المقرَّبين.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي السلطان، وتولّى الملك المنصور أبو بكر. فيقال: إنه الذي وشى بأمره إلى قوصون، وقال له: قد عزم على إمساكك، وجرى ما جرى على ما يذكر في موضعه في ترجمة المنصور أبي بكر.
وكان الأمير علاء الدين ألطنبغا المذكور عند المنصور أعظمَ مما كان عند والده؛ لأنه جعله مُوْدَع سرِّه.
ولما تولّى الأشرف، وماج الناس، وحضر الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري من الشام، وجرى ما جرى على ما تقدم في ترجمة ألطنبغا نائب الشام، وشغَّب المصريين على قوصون، فيقال: إن ألطنبغا المارداني كان أصل ذلك كله، ونزل إلى الأمير علاء الدين أيْدُعْمِص أمير آخور، واتفق معه على القبض على قوصون، وطلع إلى قوصون، وجعل يشاغله، ويكسّر مجاذيفه عن الحركة إلى بكرة الغد، وأحضر الأمراء الكبار المشايخ عنده، وساهره إلى أن نام، وهو الذي حطَّ يده في سيف ألطنبغا نائب الشام لما دخل القاهرة قبل الناس كلّهم. ولم يجسر أحد أن يمدَّ يده إليه.

وكان الأمير سيف الدين بهادُر التمرُتاشيَ، الآتي بذكره إن شاء الله تعالى في حرف الباء في الأول، هو آغا ألطنبغا المذكور وهو الذي خرَّجه وربّاه، ولما بَدَت منه هذه الحركات والإقدامات قويت نفسه عليه، فوقف فوق التمرتاشي فما حملها منه، وبقيت في نفسه. ولما ملك الملك الصالح إسماعيل صار الدست كلّه للتمرتاشي، فعمل على ألطنبغا المذكور، ولم يدر بنفسه إلا وقد أخرج على خمسة أرؤس من خيل البريد إلى حماة نائباً في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة فتوجّه إليها، وبقي بها نائباً مدة شهرين وأكثر إلى أن توفي أيدغمش نائب الشام، ونقل الأمير سيف الدين طُقُزْتمر من نيابة حلب إلى نيابة الشام، ورُسم للأمير علاء الدين ألطنبغا بنيابة حلب، فتوجّه إليها في أول شهر رجب من السنة المذكورة.
وجاء إلى حماة نائباً الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، فأقام ألطنبغا في نيابة حلب مدة يسيرة، وتمرّض وقاسى شدة، وحضر له طبيب من القاهرة.
ولم يزل إلى أن كان القبر لجوهرته صدفاً، وراح شخصه لسهام المنايا هدفاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل صفر سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
وكان شاباً طويلاً رقيقاً، يُدير من أجفانه رحيقاً، بوجه قد حلا، ومن العيب قد خلا، وللبدر قد جلا، ألطف من مرّ النسيم، وألذّ ذوقاً من التسنيم، معشَّق الخطرة إذا خطا، متأنق الفترة إذا سطا، كريم الكفّ، حكيم الشروع واللف، حَدْسُه صائب، ونفسه بالصبر تردّ ناب النوائب، عقله أكبر من سنّه، وأمره يأتي إليه على ما يغلب في ظنه.
وكان أستاذ له يتذلل، وهو يجفو عليه ويتدلل، وبجناحه طار طاجار، وأصبح وهو دوادار، ولكن خانه الزمان، ولم يؤخذ له من الحوادث أمان: وقلت أنا لما بلغتني وفاته:
خُذ من العيش ما أتاك بتقوى ... واغتنمُه من قَبل صَرف الزمان
وتأمّل بعين فِكركَ لمّا ... مارَ داني الفنا إلى المارداني
ألطنبغا الأمير علاء الدين بُرناق - بالباء الموحدة والراء والنون والألف والقاف - الجاشنكير نائب صفد.
لما خرج أحمد الساقي وهو بصفد على الملك الناصر حسن وعصي بقلعتها رُسم لهذا الأمير علاء الدين بنيابة صفد، فوصل إليها وهو نائب عزّة - على ما تقدم في ترجمة أحمد - واستقل بالنيابة من أوائل المحرم سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها إلى أن ورد عليه المرسوم بأن يحضر إلى دمشق، ويكون مع نائبها الأمير سيف الدين أرغون الكاملي في واقعة بيبغاروس، فوصل إلى سعسع بالعسكر الصفدي، وكان نائب دمشق قد خرج منها ونزل على الكسوة، وجهز إليه طلبه، فوعده بالوصول إليه، لكنه استحوذ عليه جماعة ثنوا عزمه عن ذلك، سوَّلوا له التوجّه إلى بيبغاروس، فدخل دمشق، وشقَّها، وتوجّه إليه، واجتمع على خان لاجين، وجاء معه، ونزلوا على قبة يلبغا، وأقاموا هناك مدة أربعة وعشرين يوماً، ولما هرب بييُغا هرب ألطنبغا المذكور معه في جملة من هرب، ووصلوا إلى حلب، وحاصروا أهلها، فأسر الحلبيون منهم جماعة وفيهم ألطنبغا بُرناق وعلاء الدين ألطنبغا مُشدّ الشراب خاناه والأمير سيف الدين حاجي أخو أحمد الساقي والأمير سيف الدين أسنبغا الرسولي نائب جعبر وعز الدين مهدي مشدّ حلب، وأسن بك بن خليل الطُّرقي وبهادر الجاموس فيما أظن، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وتسلّمهم الأمير فارس الدين ألبكي أحد مقدَّمي الألوف المصريين، وأحضرهم إلى دمشق، واعتقلوا بقلعتها.
ولما كان ثالث شوال طلع السلطان الملك الصالح من القصر إلى قلعة دمشق وجلس في الطارمة، واستقبل سوق الخيل، وأحضر ألطنبغا بُرناق، وعُصر، وقرر على أمور، ثم إن الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين طاز وسائر أمراء مصر والشام ونزلوا ووقفوا على باب خان الملك الظاهر، واستقبلوا السلطان، وقُدِّم هؤلاء السبعة المذكورون وفيهم برناق، ووسَّط الجميع، وعلّقوا على نهر بردى في ثالث شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وكان ذلك في يوم الاثنين، فسبحان الدائم الباقي بلا زوال، مقدّر الآجال.
وكان الأمير علاء الدين برناق رجلاً عاقلاً، ساكناً لا يرى قدمه إلى الشرّ ناقلاً، بعيداً من الظلم، مفيداً للأناة والحلم، لم يشكُ منه أحد من رعايا صفد.

وكان يتخوَّل بعضهم بالعطاء والصفد، وعمّر بصفد عمارة، تطل على بحر طبرية كان يستروح فيها ويصعد بمن يؤثره، ويحبُّ قُرْبَه إلى أعاليها.
وكانت له ابنة يحبها حباً زاد حَدّه، ويودّ أن يفرش لها إذا خطت دون الأرض خدّه، لا يزال قلبه بها معلَّقاً، وخدّه إذا غاب عنها بالدموع مخلّقاً، يجلس وهي في صدره، ويُعيذها من الزمان وغدره، ويجمع لها الذين يعملون الحلق تحت القلعة، ويصرف لهم لأجلها الخلعة بعد الخلعة.
ولما خرج من صفد ضمّها إلى صدره وودّعها، وكاد من الرِّقة عليها أن يخرج كبده ويقطّعها، وأذرى الدموع دماء وأجراها من الحرقة عندما فارقها عَنْدَما، وكان ذلك أخر عهدها به، ولم تشاهده والسيف قد جدَّ في تمزيق إهابه.
وقلت أنا فيه:
لا تقرَبِ الشَّرَّ إذا ما بَدا ... فهُوَ لنارِ الموتِ حَرّاقُ
فالسيف قد فرَّق ألطنبغا ... ولد يفِدْ بُرناق تِرياقُ
ألطُنْبُغا علاء الدين الجاوُلي.
هو مملوك ابن باخِل. كان عند الأمير علم الدين سَنْجَر الجاوْلي دواداراً لما كان في غزة أولاً نائباً، وكان يحبّه ويدنيه ويقرِّبه، ويبالغ في الإنعام عليه، والإحسان إليه.
وكان إقطاعه عنده يعمل عشرين ألف درهم خارجاً عمّا يبرّه، ويعطيه ويأخذه هو من منفوع الدوادارية.
قال لي: امتدحت الأمين الأمير مرة بقصيدة كانت ستين بيتاً، فأمر لي لكل بيت بدينار. وقال لي: لو كانت مئة ألف كانت مئة.
أخبرني من أثق بقوله: أنه كان في إصطبله تسعة سَرْجاً زرجونيّاً.
ولما شُنِّع على الجاولي أن إقطاعات مماليكه ثلاثون ألفاً وعشرون ألفاً راكَ الأخباز، وأعطى ألطنبغا المذكور إقطاعاً دون ما كان بيده أولاً، فتركه ومضى إلى مصر بغير رضى الأمير علم الدين، فراعى الناس خاطر مخدومه ولم يجسر أحد على أن يستخدمه، فأقام في مصر مدة زمانية ينفق من حاصله، ثم حضر إلى صفد، فأقبل عليه الحاج أرقطاي نائبها إقبالاً كثيراً، وكتب له مُرَبَّعة بإقطاع، وتوجّه بها إلى مصر، فخرج عنه، فعاد وجاء إلى دمشق وامتدح الأمير سيف الدين تنكز، ومدح ناصر الدين الدوادار وناصر الدين الخزندار بقصيدة أولها:
قد أيّد الرحمنُ ملَّةَ أحمد ... بالناصريْن محمدٍ ومحمدِ
فتوسَّطا له عند مخدومهما فأعطاه إقطاعاً في حلقة دمشق، وكان أمره أحد الأسباب التي أوقعت بين تنكز والجاوليّ، وبقي ألطنبغا بدمشق مقيماً، وأُمسك الجاوْليّ، وأقام في الاعتقال مدة، ولمّا أُفرِج عنه توجّه إليه ألطنبغا وخدمه مدة، ثم إنه أخرجه إلى دمشق في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وجعله من جهته مشداً على الوقف المنصوري.
واجتمعتُ به كثيراً والقاهرة ودمشق، وبيني وبينه مكاتبات ومجاراة ومطارحات ومباراة؛ لأنه كان ينظم الدُّرّ شعراً، ويُباهي به النَّثْرة والشعْرى، قد جوَّد المقاطيع، وأبرزها كأزهار الربيع، ولكن قصائده دوَّنها في الطبقة، وبروقها ليست في سماء الإجادة مؤتلقة.
وكان يتمذهب للشافعي، وله اجتماع بالشيخ صدر الدين محمد بن الوكيل وغيره من فضلاء العصر، ويبحث جيّداً، ولم يكن عن طرائق الفضل متحيداً. وعقيدته للأشعري منسوبة وفي عداد أصحابه محسوبة.
ولما توجه معي إلى الشيخ تقي الدين بن تيميه سال ذهنه إليه، وأقبل بجملته عليه، ومال إلى قوله، ودار من حوله . ثم إنه بعد فراقه تراجع عنه إلا بقايا، وادكر غدوات قربه والعشايا.
وكان وجهاً في حسنه بديعاً، ومحيا يذر قلب ناظره صريعاً، مديد القامة، يرهي على بدر وجهه من شعره ظلامة.
وكان بالكيمياء مغرى، قد أنفق فيها مالاً ودهراً. وخرج من الدنيا رحمة الله تعالى وهو يرى كفه صفراً.
وكان صحيحاً وده، منحك إخلاصه لا يرده، قل من صحبته فأنصفني مثله في الحضور والغيبة، لا أسمع منه كلمة جفاء، ولا يبلغني عنه غيبة. ولم يزل شملي به مجموعاً، وقولي عنده، كنا أمره عندي مسموعاً. إلى أن استقى على غير ظما. وصافحه في قبره الحور وملائكة السَّما.
وتوفي رحمه الله تعالى بعلة الاستسقاء في شهر ربيع الأول، ثامنه، سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
كتب إلي وقد وردت القاهرة سنة ست وثلاثين وسبع مئة:
إليكَ صلاح الدين أُهدي تحيّةً ... كنشرِ عبيرٍ في الجُيوب إذا فُضَّا

ومِن عَجَبي أنّ الديارَ قريبةٌ ... وما فُزتُ منكمْ بالوِداد الذي أرضى
فمِنْ بعدكم قلبي تألَّف بالأسى ... ومِنْ بَعْدكم لم أدْرِ نوماً ولا غَمْضا
وإني على العهد الذي تعهدونه ... مقيماً أرى حفظ الوِداد لكَم فَرْضا
وأقسمَ قلبي لا يقرُّ قرارهُ ... ولا يرعوي حتى يرى بعضنّا بعضا
فكتبتُ أنا الجواب إليه ارتجالاً:
أيا جيرةً قد عُوّدوا والإغْضَا ... وحبُّهُمُ قدْ مازَجَ الروحَ والأعْضَا
وحقّكم ما أهملَ العبدُ خِدمةً ... لكُمْ وَجَبتْ لكنّها بَعْد ذا تُقْضى
أأنسى جَميلاً منكُم قَدْ ألِفتَهُ ... وحُسْنَ وِدادٍ يُشبّه الزَّهرَ الغَضّا
ولُطفاً يحاكي نَسْمَةَ الروضِ سُحْرةً ... فإنّ لها في العاشقِ البَسْطَ والقَبْضا
وأيام لهوٍ قَدْ تقضَّتْ بقُربكم ... نُداوي بها من دَهْرنا أنفُساً مَرْضى
ألا خفّفوا مِنْ عتبكم عن محبِّكم ... فذاكَ ضعيفٌ لا يُطيق به نَهْضا
فلا بُدَّ أنْ يأتي ويذكُرَ عُذْرَهُ ... فإنْ تقبلوه رحمةً قبَّل الأرضا
وأنشدني يوماً لنفسه:
انهلّ أدمعها دُرّاً وفي فمها ... دُرٌّ وبينهما فَرْقٌ وتمثالُ
لأنّ ذا جامدٌ في الثغر منتظَم ... وذاك منتثِرٌ في الخدّ سيّالُ
فأنشدته أنا لنفسي:
غانيةً في فمها جَوهرٌ ... بمثله تبكي هوىً هائلا
فراح ذا في نظمه واقفاً ... ولاحَ ذا مع نثره سائلا
وأنشدني لنفسه أيضاً:
وسُودٍ صَيَّرتْها السودُ بيضاً ... فلا تطلُبْ من الأيام بيْضا
فبعد السود ترجو البيضَ ظلماً ... وقد سلّتْ عليها السود بيْضَا
وأنشدته أنا لنفسي:
عجبتُ لدهرٍ سرّني زمنَ الصِّبا ... وكدَّرَ عَيْشي بالمشيب انتفاضُهُ
فبيَّض عُمْري من شبابي سواده ... وسَوَّد دهري من مشيبي بياضُهُ
وكتبتُ أنا إليه من صفد وهو بدمشق أتشوّق إليه في سنة ثماني عشرة وسبع مئة من جُملة قصيدة:
بالله يا بارقاً من قاسيون بَدَت ... أعلامُه خافقاتٍ في دَياجيه
قِفْ لي بتلك الربا إن شئت تُسعفني ... وأنْشُد فؤادَ شَجٍ قَدْ عَزَّ فاديه
ونبّه الوُرْقَ والظلماءُ عاكِفةٌ ... ليلاً لتحكي نُواحي في نواحيه
وخُذ أحاديث ما ترويه من خبرٍ ... وحالُ جسمي ضنىً إن كنت تحكيه
وقُلْ قضى نحبَه العاني أسىً وجوىً ... وما قضى ما ترجّى من أمانيه
كأنما مرَّ عَيشٌ كان غانية ... تُجلى بكم ولآليها لياليه
أحبابَنا إن تمادى البُعد واتّصلت ... أيّامه واستقلّت في تراخيه
فلا تضُّنوا على المُضْنى بطيفكم ... ففيه للوَالِه المشتاقِ ما فيه
يكفيه أنْ زارهُ طيفُ الخيال ولا ... يكفيه منكم بلى والله يكفيه
فالصَّبُّ إن عاقت الأيام مطلَبهُ ... يَرضى بدون المنى أو ما يدانيه
ألطنبغا الأمير علاء الدين الخازن الشريفي، أحد الأمراء الأقدمين بالقاهرة.
لمّا كان الأمير سيف الدين أرغون الكاملي على لُدّ في واقعة بيبغاروس ورسم السُّلطان الملك الصالح صالح للأمير شهاب الدين بن صبح، نائب غزّة بنيابة صفد رسم للأمير علاء الدين ألطنبغا هذا بنيابة غزة، فحضر إليها في شعبان سنة ثلاث وخمسين وسبه مئة، وأقام بها نائباً إلى أن تُوُفِّيَ يومَ الأربعاء رابع شهر رجب الفرد سنة ست وخمسين وسبع مئة.
وكان ساكناً عاقلاً وادِعاً، لا شرَّ فيه، طلب لبناته راتباً في السنَة على ميناء يافا بخمسة آلاف درهم تميزت في ضَمانها، فأُنعِم عليهنّ بذلك وما لحق التوقيع يجيء إلى دمشق ويُعلِّم عليه نائب الشام ويجهّزه إلى أن مات رحمه الله تعالى.
ألطنقش الأمير سيف الدين الجَمالي أستاذ الدار.

كان من مماليك الأفرم، ولما توجّه أستاذه إلى بلاد التتار وحضر هو إلى مصر حبسَه السُّلطان الملك الناصر، ثم إنه أخرجه وأمَّره فيما بعد طبلخاناه، ثم جعله أستاذ دار صغيراً وأضاف إليه فيما بعد أستاذ داريّة ابنه آنوك، وأقاك كذلك إلى أن توفي آنوك وتوفي السلطان.
ثم توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في سادس عشري شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
وكان جيداً مشكوراً، وهو خال الأمير صلاح الدين أيدُغْدِي الحاجب بالشام وأخَويه.
أَلِلْمِش بفتح الهمزة، وكسر اللام الأولى، وسكون اللام الثانية، وكسر الميم وبعدها شين معجمة.
الأمير سيف الدين الحاجب، كان الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - قد جهّزه إلى جَعْبَر نائباً، ثم إنه كتب فيه وجعله أمير حاجب، فكان حاجباً كبيراً في آخر أيام تنكز، وأمسِك وهو أمير حاجب.
كان حسن الشكل ذا مَهابة، سديد الرأي كثير الإصابة، مُدَوَّر الوجه حُلْواً، مملوءاً من العقل، ومن الكِبْر خِلْواً، فيه سُكون ووقار، وحشمة يشكو الناس منها الافتقار.
ولم يزل على حاله في وظيفته إلى أن حَصَلَ له استسقاء أظمأه إلى الحياه، وأماته بحسرة نظر المياه. وقد كان توجّه إلى حولة بانياس فمات رحمه الله تعالى هناك وحُمِل إلى دمشق وصُلّي عليه في يوم الأربعاء عُشْري ذي القعدة سنة ست وأربعين وسبع مئة.
أَلْماس بفتح الهمزة، وسكون اللام، وبَعْدَ الميم ألف وسين مهملة، الأمير سيف الدين أمير حاجب الناصري.
كان من أكبر مماليك أستاذه، ولمّا أُخرج الأمير سيف الدين أرغون الدوادار إلى نيابة حلب - على ما تقدم في ترجمته - وبقي منصب النيابة فارغاً منه عظمت منزلة ألماس، وصار هو في منزلة النيابة، خلا أنه ما يسمّى نائباً، يركب الأمراء كبار والصغار، وينزلون في خدمته، ويجلس في باب القلّة في منزلة النائب، والحُجّابُ وقوفٌ بين يديه. ولم يزل مقدّماً معظماً إلى أن توجه السلطان إلى الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، فتركه في القَلْعة هو والأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، والأمير سيف الدين أقْبُغا عبد الواحد والأمير سيف الدين طَشْتُمُر حِمّص آخْضَر، هؤلاء الأربعة لا غير، وبقية الأمراء إما معه في الحجاز وإما أنهم في إقطاعاتهم، وأمرَهم أن لا يدخلوا القاهرة حتى يحضر من الحجاز.
ولمّا حضر من الحجاز نقم عليه أمَراً ما صبر عليه، فأمسَكه إمّا في أوائل سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وإما في أواخر سنة ثلاث وثلاثين، الصحيح أنه في عشر ذي الحجة سنة ثلاث وسبع مئة وأودعه في الاعتقال في بيت أقبغا عبد الواحد، وبقي ثلاثة أيام، ودخل في العَدم، وتخضّب السيفُ منه بدَم.
وأما أخوه الأمير سيف الدين قَرا فإنه قُتل بالسيف لوقته صَبْرَا، فأُخذت أموالُ ألْماس وجميع مَوجوده وموجود أقاربه، وأُخرج أقاربه إلى الشام وفُرِّقوا.
يقال إن السلطان لما مات بَكْتُمر في طريق الحجاز - على ما يأتي ذِكرُهُ إن شاء الله تعالى - احتاط على موجوده، وكان في جُمله ذلك حَرَمْدان، فأخذه السلطان وأوْدَعَه لبعض الجمدارية، ثم لمّا وصل قلعة الجبل واطمأنّ ذكره السلطان فأحضره فوجد مما فيه جَواب الأمير سيف الدين ألماس إلى الأمير سيف الدين بَكْتُمُر الساقي، وفيه: إنني حافظ القلعة إلى أن يَرِدَ عليَّ مِنك ما أعتمده، فكان ذلك سَببَ قَتله، والله أعلم.
وكان ألماس آسْمَرَ طُوالاً من الرجال، فيه ثبات الشيوخ وخِفّة الشباب العِجال غُتْميّاً لا يفهم شيئاً بالعربي، ساذَجاً يجلس في بيته فوق لُبّاد على ما اعتاد ورَبي. وكان أوّلاً يباري السحاب بكرمه، ويؤوي الناس إلى حَرَمه، ولكنه فهم عن السلطان أن ذلك ما يعجبه ولا يراه، فيقول به ويوجبه، فتظاهر بعد ذلك بالخِسّة، وكابَرَ فيه حِسَّه، إلى أن شاع ذاك وذاع، وملأ به المُدُن والبقاع. إلا أنه كان يَعْمِر المِلْك بخمسة عشر ألف درهم وأكثر، ويهبْه لبعض مماليكه، وهو الذي عمّر الجامع المليح الذي بظاهر القاهرة في الشارع عند حَدَرة البقر، وفيه رخام مليح فائق، وعمّر إلى جانبه هناك قاعة تأنّق فيها، وكان الرخام يُحمل إليه من جزائر البحر وبلاد الروم ومن الشام، ومن كل مكان، ولمّا أُمسِك وجدوا له أموالاً تُكاثر النجوم في الليلة الداجنة البهيمة.
أَلْمِلِك

بفتح الهمزة، وسكون اللام، وفتح الميم، وكَسْر اللام الثانية وبعدها كاف.
الأمير سيف الدين الحاج من كبار الأمراء المشايخ رُؤوس مشايخ المشور في أيام السلطان الملك الناصر، تردّد في الرُّسْلِيّة بين الملك المظفر وبين الملك الناصر وهو في الكرك، فأعجبه عقله وتأتّيه، وسيّر إليهم يقول: لا يعود يجيء إليّ رسولاً غَيْرُ هذا، فلما قدم مصر عظَّمه.
ولم يزل مُوقراً مُبجَّلاً، عمّر بالحُسينية جامعاً مليحاً إلى الغاية، وله دار عظمى مليحة عند مشهد الحُسين - رضي الله عنه - داخل القاهرة، ومسجدٌ حَسَنٌ إلى جانبها.
خرّج له شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي مَشْيَخة، وقرئت عليه مرّاتٍ وهو جالس في شبّاك النيابة بقلعة الجبل.
ولما تولى الملك الناصر أحمد أخْرَجه إلى نيابة حماة، فحضر إليها وأقام بها إلى أن تولّى الملك الصالح إسماعيل، فأقدمه إلى مصر وأقام بها على حاله الأولى.
ولما أُمسك آقسُنقر السَّلاّري - نائب مصر المقدَّم ذِكره - ولاّه النيابة مكانه، فشدّدَ في الخمر إلى الغاية، وحدّ الناس عليها وجنّاهم، وهَدَم خزانة البُنود، وأراق خُمورها وبناها مَسْجِداً وحَكرها للناس فعمّروها دوراً، وأَمْسَك الزمام زَماناً، وكان يجلسُ للحكم في الشبّاك طولَ نهاره لا يَمَلّ من ذلك ولا يسأم، ويَروح أصحابُ الوظائف ولا يبقى عنده إلا النقباء البطّالة.
وكان له في قلوب الناس مهابةٌ وحُرْمَةٌ، إلى أن تولّى السلطان الملك الكامل شعبان فأخرجه أوّل سلطنته إلى دمشق نائباً عِوَضاً عن الأمير سيف الدين طُقُزْتُمر، فلما كان في أول الطريق حَضَر إليه مَنْ قال له: الشام بلا نائب، فسُق لتلحقه. فخفَّف من جماعته وساق في جماعة قليلة، فحضر إليه مَنْ أخذه وتوجّه به إلى صفد نائباً، فدخلها في أواخر شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبع مئة. ثم إنه باطن الأمير سيف الدين تماري نائب طرابلس على الهروب أو الخروج على السلطان أُرْجَف الناسُ على السلطان، فحضر مِنْ مصر مَنْ كَشَف الأمر، وسأل هو التوجُّه إلى مصر فرُسِم له بذلك، فتوجّه. فلما وصل غزة أمسكه نائبها الأمير سيف الدين أراق، وجُهّز إلى الإسكندرية في أواخر سنة ست وأربعين وسبع مئة، وكان ذلك آخر العهد به.
وكان خيّراً فيه دينٌ، وعبادة نورها على الجبين، يميل إلى أهل الخير والصلاح، ويتخذ من أدعيتهم السلاح، وكان بَرْكُه مَنْ أحسن ما يكون، وخَيْله تكاد إذا جَرَت ترمي الرياح بالسُّكون، وكان يقول: كل أميرٍ لا يقيمُ رُمحه ويسكب الذهب إلى أن يُساوي السّنان ما هو أمير.
وقلت أنا فيه:
ألَمْلكُ الحاجُّ غدا سعدُهُ ... يملأ ظَهْرَ الأرض مهما سَلكْ
فالأُمرا مِن دونه سوقة ... والملك الظاهر لي اَلْمَلكُ
ألْناق الأمير سيف الدين الناصري، كان أميراً من جملة أمراء دمشق يسكن بقرب مسجد الصفيّ بالعُقيْبة.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد منتصف صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
أميران الأمير الشيخ عزّ الدين، مِنْ بيت الشيخ عَدِيّ بن مُسافر.

ورد إلى بلاد الشام فأكْرمت الدولة الناصريّة نُزُلَهُ وعظَّمَتْ مثواه، وأُعطى بدمشق، إمْرةً، فأقام بها مُدّة، ثم أقام بصفد مدة، ثم عاد إلى دمشق وتَرَك الإمرة وآثر الانقطاع، وأقام بالمِزّة، وكانت الأكراد، تأتيه من كل قُطْر، وتَفِدُ عليه مِنْ كلّ فَجٍّ بصفايا أموالها ونفائس ما عِندها تقرُّباً إليه. ثم إن الأكراد المشارقة أرادوا الخروجَ على السلطان، وباعوا أموالهم بالهوان، واشتَرَوا بها أسلحة وخَيْلاً، ووعدوا رجالاً ممن تَبِعَهُم بالنيابات الكبار، وكان هو قد نول بأرض اللَّجُون مِنْ مَرْج بني عامر بصفد، وبلغ السلطان الملك الناصر أنهم لو يُؤْذوا أحداً في نفسٍ ولا مالٍ، فكتب إلى الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - بكشف أحوالهم، وأَمسَك السلطان مَنْ كان بالزاوية العَدويّة بالقَرافة منهم، ودَرَّك على أمير طبر، واختلفت الأخبار عنهم، فقيل: إنهم يُريدون سَلطنة مصر، وقيل: بل يريدون مُلْك اليمن. وقلق السلطان من أمرهم وأهمّه ذلك، فتقدم الأمير سيف الدين تنكز بإحضار الأمير عز الدين أميرَان المذكور، فأُمسِك وأُحضر إليه، فقال له: أيْش هذا الذي يفعله هؤلاء الأكراد؟ فقال: يا خوند هذا شيء تخيّلوه في نفوسهم، فقال له: لأي شيء ما تمْنَعُهم من هذا؟ فقال: يا خوند، هؤلاء يسجدون لي ولغيري من أهل بيتنا، لو قلتُ لهم ما عسى أن أقوله ما يسمعونه، ولكن يا خوند حُطني في هذه القلعة وقد تفلَّل جَمعهم، فعلم تنكز أن الذي يقوله حق، فطلع بع إلى القلعة، وطالع السلطان بأمره فانفلّ أمرهم وتفرقوا شَذَر مذَر، وتمزّقوا أيدي سَبَأ، وكان الأكراد يجيؤون بعد ذلك إلى البُرج الذي فيه الأمير عز الدين ويسجدون له.
ولم يكن لهم بلاغٌ ولا معاش، إلا أنهم يَجلبون المُحمّضات من الأُتُرجّ والليمون والكَبّاد، وغير ذلك من بانياس والأغوار، وأقصاب السكر على ظهورهم، ويَبيعون ذلك بدمشق، فرخُصَ هذا كلّه بدمشق في تلك المدة.
وكان طلبه وحبسُه في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
وكان الأمير عز الدين المذكور من أحسن الأشكال وأتمِّها، وأصبحِ الوجوه وأحلاها.
أمير كاتب ابن أمير عُمَر العميد بن العميد أمير غازي، الشيخ الإمام العلاّمة قوام الدين أبو حنيفة الفارابي الأتْقاني - بهمزة مفتوحة وتاءٍ ثالثة الحروف ساكنة وقافٍ بعدها ألفٌ ونون - الحنفي.
كان قيّماً بمذهب أبي حنيفة شديد التعصّب على الشافعية، متظاهراً بالغَضّ منهم وبالطعن عليهم، يوَدُّ لو حكم فيهم أو حُكّم في تَلافِهم دون تلافيهم، لا تأخذه فيهم لومة لائم، ويتمنى لو ناحت على مدارسهم الحمائم، واجتهد في ذلك بالشام وما أفاد ودخل مِصْر وهو مصرٌّ على ما عنده من العناد، وعمل على قَذْفهم وقَلْعهم بالقَلْع والمِقذاف وطاف عليهم بكؤوس خمرٍ خَمَرها بالسُّم وداف، فكفاهم الله محذوره، وجهل الله واقعتهم معه على مرّ الأيام مأثوره، وبدّل بغيظه فيهم سُروره، وعكس ما دبّره فيهم، " والله متمٌّ نورَه " .
وكان شديد الإعجاب بنفسه، يجيء بالتعظيم من حَسّه وبَسّه، يظن أن إمامه رضي الله عنه لو رآه لجعله أمامه، وأنّ أبا يوسف كان يتأسف إذا سمع كلامه، وأنّ زفر له زفرات على لُقِيّه وأن محمد بن الحسن ما يُحسن الوصول إلى رُقيِّه، إلا أنه شرح الأخْسِيكَثي وعُمْرُه دون الثلاثين شرحاً جيداً يُثني عليه فقهاء مذهبه ويُعظّمونه، وكان عارفاً بالعربية واللغة، قال في آخر شرح الأخسِيكثي إنه فرغ منه بتُسْتَر سنة ست عشرة وسبع مئة، وقال قبل هذا: فلو كان الأسلاف في حياةٍ لقال أبو حنيفة: اجتهدتَ، ولقال أبو يوسف: نارَ البيان أوقدت، ولقال محمد: أحسنت، ولقال زفر: أتقنّت، ولقال الحسن: أمعَنْت، ولقال أبو حفص: أنعمت فيما نظرت، ولقال أبو منصور: حققت، ولقال الطحاوي: صدقت، ولقال الكرخيّ: بورك فيما نطقت، ولقال الجصّاص: أحكمت. ولقال القاضي أبو زيد: أصبت. ولقال شمس الأئمة: وجَدت ما طَلَبْت، ولقال فخر الإسلام: مهرت، ولقال نجم الدين النَّسفيّ: بهرت. ولقال صاحب الهداية: يا غوّاصُّ، البحر عَبَرتْ، ولقال صاحبُ المحيط: فقت فيما أعلنت وأسررت: إلى غير ذلك من كبرائنا الذين لا يحصى عددهم. ولقال المتنبي: أنتَ من فصحاء عبارتهم:
مسكيّة النفحات إلاّ أنها ... وحشيّة بسواهم لا تَعبَقُ
ثم ما قاله.

ولم يزل القوام إلى أنْ مال عليه الحَيْن بكَلكِله، وأصبح الأتقاني وقد تهدّم من الحفر منزله.
وتوفي بالقاهرة رحمه الله تعالى يوم السبت حادي عُشري شوّال سنة ثمان وخمسين وسبع مئة.
وكان لمّا قَدِم دمشق اجتمع بنائبها الأمير سيف الدين يَلبُغا - رحمه الله تعالى - وداخَله واختصَّ به وذكر له مَسْألة رفع اليدين في الصلاة، وادّعى بظلام الصلاة، فقام في دفاعه قاضي القضاة تقي الدين السبكي - رحمه الله تعالى - وهّى ما قاله وأفسده، واستدل على بطلان دعواه، فرجع الأمير سيف الدين يلبُغا بعد ما كان قد شُرِّبت أعضاؤه ذلك، ثم إنه طُلب إلى مصر وراح، فراج عند الأمير سيف الدين صرغتمش وعظّمه، وبنى له مدرسته بالقاهرة، وولاّه تدريسها، وكان قد قام في أيام الملك الصالح على الشافعية، وسعى في إبطال المذهب من رأس، وكاد ذلك يتم، إلا أن الله تعالى أعان بلطفه، ومَنّ بإخماد ناره.
وأخبرني من أثق أنه كان يأكل في كل يوم أوقيّة فُوم، وكان يأكل من الزنجبيل شيئاً كثيراً إلى الغاية.
ونقلتُ من خطّه ما صورتُه: تاريخ قدومنا دمشق في الكرّة الثانية في العاشر من شهر رجب سبع وأربعين وسبع مئة، ثم لبثنا ثمّة إلى أن خرجنا منها في ثامن صفر يوم السبت من سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وقدمنا مصر يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، قال العبد الفقير إلى الله تعالى أمير كاتب بن أمير عمر المدعوّ بقوام الفارابي الأتقاني: كان تاريخ ولادتي بَأَتْقان ليلة السبت التاسع عشر من شوال سنة خمس وثمانين وستّ مئة، وفاراب مدينة عظيمة من مدائن الترك تسمى بلسان العوام: أوتراد، وأتقان اسمٌ لقصبة من قصَباتها، هذا ما أنشأ في أيام دولة السلطان مالك رقاب الأمم مولى مُلوك العرب والعجم قاهر الكفرة والمشركين، ناصر الإسلام والمسلمين، سلطان ابن السلطان ابن السلطان الملك الناصر بن الناصر ابن الملك المنصور حسن بن محمد بن قلاوون، خلّد الله ملكه ونوّر مرقد آبائه السلاطين في مدح المقَرّ العالي المجاهد المؤيّد المظفّر ذي اليُمن والبركات، والخير والمبرّات، فريد الدهر وحيد العصر سيف الدين سُيرغتمش أدامه الله في عافيةٍ وافية حين تمّ بناء مدرسته المخصوصة بالحنفية بالقاهرة المعزيّة في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وسبع مئة، وكان ابتداء العِمارة في خامس رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة، الضعيف أبو حنيفة قوام الدين أمير كاتب بن أمير عمر العميد بن العميد أمير غازي الفارابي الأَتقاني يوم أُجلِسَ فيها مدرِّساً بحضور القضاة الأربعة وجميع أمراء الدولة مثل المقرّ العالي شيخو، وحاجب الحجاب طشتمر القاسِمي. وتوقاي الدوادار وغيرهم في الساعة الثالثة من يوم الثلاثاء التاسع من جمادى الأولى من السنة المذكورة، والقمر في السُّنبلة، والزهرة في الأوج، وكان تثليث المشتري والقمر:
أرأيتم مَنْ دَرَأ النُّوَبَا ... وأتى قُرَباً ونفى رِيَبا
فبدا عَلَماً وسَما كَرَماً ... ونَما قدَماً ولقد غَلَبا
بتُقى وهُدى ونَدى وَجَدا ... فغدا وشَدا وجَبى وحَبا
أبدى سَنَناً أحيا سُنناً ... حلّى زمناً عند الأُرَبَا
هذاك سُيرغتْمشْ سَكَبت ... أيامُ أماراته السُّحُبا
وأزال الجَدْبَ إلى خَصْبٍ ... والضَّنْكَ إلى رَغَدٍ قَلَبا
بإعانةِ جبّارٍ بَرٍّ ... ذي العرش وقد بذل النَّشَبا
ملك فَطنٌ ركن لسنٌ ... حَسَن بَسَنٌ ربّى الأدبا
ملكُ الكبرا ملكُ الأمرا ... ملكُ العُلما ملكُ الأُدبا
بحرٌ طامٍ طَوْدٌ سامٍ ... غَيثٌ هامٍ حامي الغُرَبا
بسياسته وحَماستِهِ ... وسَماحته جَلّى الكُرَبَا
وصيانته وديانته ... وأمانته حاز الرُّتبا
أبهى أصلاً أسنى نَسْلاً ... أحظى خَصْلاً بذّ العربا
نِعمَ المأوى مصرٌ لمّا ... شَملت قَوْماً قيلاً نُجُبا
فنَمت نَوْراً وسَمت نُوراً ... وعَلَت دوراً وأرت طَرَبا

نسقَت دوراً زسقت درراً ... ووعَت غُرَراً وحَوت أرَبا
وخْطَاء به افتخرت ونَمَت ... وسَمَت وزَرَت وحوت أدبا
خّذْ دُرّ ثنا ثم اجْنِ جنى ... منها ومُنىً فتعي طلبا
من كان عَنَى نَسبي علناً ... فارابُ لنا نِعْمتَ نَسَبا
كنوُّنِ أباً لحنيفة ثُمْ ... مَ قوام الدين بَدا لَقَبا
عِش في رجبٍ تَرَ مِنْ عجبٍ ... من منتجب عجباً عَجَبا
وأعطاني المقرّ العالي سُيرغتمش أيّده الله جائزة هذه القصيدة يوم أنشدتها عشرة آلاف درهم، ومَلأ يوم الدرس بِرْكة المدرسة بالسُّكّر وماءٍ وماء الليمون فسقى بذلك الناسَ أجمعين، وخلَع عليّ بعد الدرس خلعتين إحداهما فروُ السنجاب، ظَهارته صًوف أبيض وكفْتُه قندز، والأخرى فرجيّ من صُوف زيتي، وخلع على ابني هُمَام الدين أيضاً، ثم لمّا خرجتُ من المدرسة حملني على بغلةٍ شهباء مشتراها ثلاثة آلاف درهم من السَّرج المُفَصَّص واللجام، كان اليوم يوماً يؤرخ، فيا لها قصّةً في شرجها طُول.
تمّ ما نقلتُه من خطه رحمه الله تعالى، وتوفي في التاريخ المذكور، وما أفاده الطالع الذي تخيَّره لجلوس الدرس شيئاً، بل كانت المدّة ستة عشر شهراً.
الألقاب والأنسابأمين الملك الصاحب أمين الدين: عبد الله ابن تاج الرئاسة.
الصاحب تاج الدين بن أمين الدين، المقدم ذكره: أحمد بن عبد الله.
أمين الدين ناظر الجيش كاتب طشتمر: إبراهيم بن يوسف.
إما المقام: إبراهيم بن محمد بن إمام المشهد المحتسب محمد بن علي.
الأمِلي عبد الكريم.
ابن الأميوطي قاضي الكرك: محمد بن أحمد أمير سلاح بكتاش.
الأمشاطي الأديب: أحمد بن عثمان.
أنَّاق الأمير سيف الدين الناصري، أحد الأمراء بالديار المصرية، تزوج ابنة الأمير سيف الدين أرغون النائب.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشري شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وكانت زوجته قد توفيت قَبلهُ بشهر واحد.
الألقاب والأنسابابن الأنباري شيخ المُستنصرية ببغداد: عبد الله بن أبي السعادات.
الأنْدَرَشي أبو العباس: أحمد بن سَعدٍ النحوي.
أنَسُ بن كتبغا الملك المجاهد ابن السلطان الملك العادل كتبغا المنصوري.
كان مليح الشكْل شجاعاً، بطلاً في الحروب نَفّاعاً، عليه مهابة ووقار، وله جلالة الملك مع بعض افتقار. كان السلطان الملك الناصر يحبّه ويعظّمه ويُجلّه ويُقدّمه، وإذا حضر إليه قام له ورحّب به، والبِشْر قابله وآخذ بيده وأجلسه إلى جانبه، وربما قدّم له بعض مراكبه، إلا أنه كان قد عَمِيَ، وبرد حظه بعدما حَمي.
ولم يزل على حاله إلى أن ابتلعه الجَدَث، وأخذه ما قَدُمَ وما حَدَث.
ونوفي رحمه الله تعالى في شهر المحرّم سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وقد تجاوز الخمسين، وكانت جنازته مشهودة، ودفن بالقرافة في تربتهم.
أَنَص بفتح الهمزة والنون وبعدها صاد مهملة. الأمير سيف الدين النائب بثغر بَهَسْنى.
لمّا توجّه الأمير بدر الدين أمير مسعود بن الخطير إلى نيابة طرابلس في نوبة الأمير سيف الدين يلبُغا اليَحيَوي رُسم للأمير سيف الدين أنَص بنيابة غزة مكانه، وحضر إليه مَنْ أخَذَه من بَهَسنى وتوجّه به إلى غزة، ثم إنه طُلب عُقيب ذلك إلى مصر في جمادى الأولى والآخرة وشهر رجب سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فأقام قليلاً وجلس في جُملة أمراء المَشْوَر، ثم عاد إلى غزة مَقُدَّم عسكر، على عادة نوّابها.
ثم إنه رُسم له بالتوجّه إلى قلعة الروم نائباً في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين، فتوجّه إليها وأقام بها إلى أن سكنت حركته وذهبت من عمره بركتُه.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء ثاني ذي الحجة سنة خمسين وسبع مئة.
وكان شيخاً طُوّالاً، وجْهه بحُمرته وبياض شيبه يتلالا، عظيم الحرمة، كأنه هِمٌّ وهو شهاب الهِمّة، فسبحان من خَرّب جِسمه وأذْهب رَسْمَه.
آنُوْك بألف ممدودة مفتوحة، ونون مضمومة، وواو ساكنة، وكاف: ابن محمد بن قلاوون هو سيف الدين ابن السلطان الملك الناصر ابن الملك المنصور من الخوندة طُغَاي الآتي ذكرها في مكانه إن شاء الله تعالى.

لم يكن عند أبيه أعزُّ منه على كَثرة أولاده، وهو أحسنُ الإخوة، كان أخوه الناصر أحمد والمنصور أبو بكر وإبراهيم أكبر سناً منه، وهو وحده أمير مئة مقدَّم ألف، والباقون أمراء أربعين، وكان يحمل رَنْك جَدِّه المنصور.
وزوّجه السلطان وهو ابن عَشر سنين أو دونها بنت الأمير سيف الدين بَكْتُمر الساقي، وكان له عُرس عظيمٌ ليلة الجمعة حادي عشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة حَضَرَهُ الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، والأمير سيف الدين طَيْنال نائب طرابلس فيما أظن، ونصبَ الأمير سيف الدين قوصون صاريَيْن في الرحَبة قدّام الإيوان، عليهما أنواعٌ من الصور والبارود والنفط غَرِمَ عليهما ثلاثين ألف درهم، واجتمع الشمع بالنهار في الإيوان من قبل الظهر، وعُرض على السلطان وهو جالسٌ على باب القصر على المصطبة الواحدة، وآنوك على المصطبة الأخرى، وإذا عَرَض الأمير الشمع المختصّ به باس الأرض وباس يدَ السلطان ثم يبوس يد آنوك فُعِل ذلك أربع خَمْسَ مِرار، ثم مَنَعَ السلطان من بوس يد آنوك، ولم يزل الشمع يُعرَض إلى بعد المغرب، ولم يكمل عَرضُه، وكان مهمّاً عظيماً.
ورأيتُ أنا أبا العَروس وهو الأمير سيف الدين بَكْتُمر الساقي وقد شدَّ وسْطَه وفي يده عصا، لا لأنه أبو العروس، بل لأنه عرسُ ابن أستاذه، ورأيت الجَهاز لمّا حُمل من دار أبي العُروس التي على بِرْكة الفيل ممدوداً على رُؤوس الحمّالين، وكان ثماني مئة حَمّال وستة وثلاثين قطاراً، غير الحُليّ والمصاغ والجواهر، وسيأتي ذكر ذلك في ترجمة بَكْتُمر في حرف الباء. ولمّا صمدوا الشُّوار المذكور دخل السلطان ورآه فما أعجبه، وقال: أنا رأيت شُوار بنت سُلاّر وهو أكثر من هذا وأحسَنُ، على أن هذا يا أمير ما يقابل بن آنوك، والتفت إلى الأمير سيف الدين طُقُزْتُمر والأمير سيف الدين أقْبُغا وقال: جهّزا بنتيكما، ولا تتخاسّا مثل الأمير.
قلت: أخبرني المهذّب كاتب بكتمر أن الذهب الذي دخل في الزَّركش والمصاغ ثمانون قنطاراً، يعني بالمصري، وكان القاضي شرف الدين ناظر الخاص كاتب آنوك، والأمير سيف الدولة ألطُنْقُش أُستادار السلطان أستاذ داره.
وأخبرني من لفظه شرف الدين النشّو ناظر الخاص قال: الذي تحت يدي لسيدي آنوك، ويد خزنداره ست مئة ألف دينار غير ماله تحت يدي من المتاجر في جميع الأصناف.
وكان إخوته الكبار يركبون وينزلون في خدمته ويخلع عليهم ويعطيهم.
وُصِفَ له ابن قيران الأعمى وهو من أهل القاهرة يلعب الشطرنج عاليَة، فعجب منه وأحضره ولعب قدامه فأعجبه وأثنى عليه، فقال له يا خوند: لأي شيء ما تلعب الشطرنج؟ فقال: الملوك ما يصلح لهم الشطرنج حسام الدين لاجين ما قُتل إلاّ وهو يلعب الشطرنج.
وكان كثير الميل إلى اقتناء الأبقار والأغنام والإوز والبط، وما أشبه ذلك. سمعته وهو يقول لمجد الدين رزق الله أخي النشّو: والله يا رزق الله أنا أحبّ البقر أكثر من الخيل.
وكان كثيرَ الحركة سريعَ التنقُّل ما له قرارٌ على الأرض ولا لبْثٌ، وجُدّر فتغيّرت محاسنُه.
وتوفي قبل والده بما يقارب نصف سنة، ووَجِد عليه وَجْداً كثيراً وذلك في سنة أربعين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى ذا صورة تروي الأقمارُ المحاسن عنها، ويستمد النهارُ ضياءَه منها، لم ترَ عيني مثلَ حلاوة عينه المجذّبة ولا مثلَ امتداد حواجبه المقوسة - واحتجت لأجل السجع أن أقول: المحدَّبة - ولا وقع ناظري على مثله في أولاد الأتراك، ولا دارت في عصره على مثله الأفلاك، كأنّ محاجره أثَرُ ظُفر في تفاحة، ونَكْهَتَه شَذا زهرات نفّاحة، يَبْسم عن دُرٍّ صَدفُه مَرْجان، ويسيل سالفه مسكاً ضمّه من كافور خديه مَرْجان. إذا خطا قلت: هذا غصنُ بان، يميس من أردافه على كثبان، تعلوه مهابة الملك وبهاؤه، وتلوحُ عليه عظمته - على صغر سنه - وسناؤه، هذا إلى شكل قد أتم الله خَلْقَه، وزيّنه لمّا لطّف خَلقهْ.

كان جسمه من الزَّبد مجمَّد، وكمال جماله مَنْ رآه صلى على محمد، رأيته ليلةً وقد أمر السلطان للنشّو أن يَعمَل له مولداً للنبي صلى الله عليه وسلم ويجمعَ له الفقراء بعد الختم في جامع القلعة فصنع له ذلك وجاءت مشايخ الصوفية، وعملوا سماعاً على باب دور السلطان، والنشّو واقف، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، ووقف أقبغا عبد الواحد وألطنقش الأُستاذ دار في خدمته طول تلك الليلة، ودخل هو ورقَص، وحكاه البدرُ فزاد والبَدر نَقَص، ما خطر إلا وبانت خَجْلَةُ الأغصان، ولا تَثَنّى إلاّ وقُلتُ: هذا قضيب النقا وأوراقه القُمصان، ورقص إخوته جُملةً معه. ونظرهم الناس فقالوا: هذه كواكب السماء مجتمعة، ولم يَنَم تلك الليلة فرحاً بما رآه، ولا استقر على الأرض لِمَا فارقه من الحجر علي ونآه.
وخلَع في تلك الليلة على جماعة المغاني والذين قرؤوا القرآن والسبع المثاني، ونقّط بجمل من الذهب، وفاق الريح لما جاء ووَهَبْ، وكانت ليلة ما عهد الناس مثلها في عصرهم ولا رأوه لك الوقت في مصرهم. ولكنه تجدّر قبل موته بقليل، وتحدّر ذاك الحبّ اللؤلؤي على خدّه الأسيل. فأطلع الله النجوم على صفحة البدر، وضمّ ذاك الجوهر على وجهه وكأنه حليّ نثر في صدر، فغَيَّرتْ من محاسنه شيئاً، ونسخت من ظلها فيئاً، ولكن معالم جماله كما هِيْ، وتخاطيط وجهه للشموس والأقمار تضاهي. ولمّا توفي رحمه الله تعالى وَجد أبوه عليه وَجْداً عظيماً، وكتم حزنه وأسفه عليه حتى راح كظيماً، ونثر عليه عِقدَ دموعٍ كان في عينيه نظيماً.
وقلت أنا فيه:
مضيتَ وكنتَ للدنيا جَمالاً ... وجَرّعْتَ الكواكبَ فيك فَقْدَكْ
ومنْ عَجَب الليالي فيك أن لا ... يموت أبوك يا آنوك بَعْدَكْ
وكان ذلك منّي كِهانة في حقه، ولم يكمل من السنة نصفها حتى لحقَه، وصَرَفه صَرف الزمان فيما احتاج إليه من النفقة.
أوتامِش الأمير سيف الدين الأشرفي.
كان مملوك الأشرف خليل، ولاّه الملك الناصر نيابة الكرك، وكان يَرْكَن إلى عقله ويسمّيه الحاج، وأرسله غير مرّة إلى القان بوسعيد، وتوجّه مرّة بطُلبِه وطبلخانية إلى تلك البلاد، وكان أولئك القوم يعظّمونه أيضاً ويَرْكَنون إلى عقله لأنه كان يعرف بالمغلي لساناً وكتابة، ويدْرِب آداب المُغْل ويحكم في بيت السلطان بين الخاصكية بالياسة واليسق الذي قرره جنكزخان ويعرف سترة جنكزخان ويطالعها ويراجعها، ويعرف بيوت المغل وأنسابهم وأصولهم، ويستحضر تواريخهم ووقائعهم، وكان إذا جاء من تلك البلاد كتابٌ إلى السلطان بالمغلي يكتب هو الجوابَ عنه، وإذا لم يكن حاضراً كتبه الأمير سيف الدين طاير بُغا خال السلطان.
أخبرني من أثق إليه عن الأمير سيف الدين الحاج أرقطاي - وكان يدّعي أنه أخوه - قال: كنت ليلة أنا وهو نائمين في الفراش وإذا به قال: أرقطاي لا تتحرك، معنا عَقْرب، ولم يزل يُهِمهم بشفتيه، وقال: فقُمْنا فوجدنا العقرب قد ماتت، وكان يعرف رُقىً كثيرة منها ما يقوله على العقرب وهي سارحة فتموت، ومنها رُقيّة لوجع الرأس. وكان مُغرىً بلعب النَّرد.
أخرجه السلطان إلى صفد نائباً عن الحاج أرقطاي في سنة ست وثلاثين وسبع مئة، فتوجّه إليها وأحسن إلى أهلها، ووقع بينه وبين الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام.
ولم يزل فيها على حاله إلى أن عُطلت حواسُّه، وبَطلت أنفاسُه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة سبع وثلاثين وسبع مئة - فيما أظن - ودفن في تربة الحاج أرقطاي، جوار الجامع الظاهري بصفد.
وكان مشهوراً بالخير، والسكون الذي لا يرتاع معه الطير، صاحباً لصاحبه في السرّاء والضرّاء، مالكاً قلْب مَنْ يعرفه بخلائقه الزَّهراء، ولكنه كان يُنكَّد عيشُه ويثارُ طيشُه بوَجَعٍ المفاصل الذي يعتريه، وتَطول مدته حتى يقول:
آلا موتٌ يباع فأشتريه ... .................
وهو الذي توجّه إلى دمرتاش وأحضره من البلاد الروميّة، على ما سيأتي في ترجمته.
الأوحَد بن الزاهر: شادي، وولده الأمير صلاح الدين يوسف، وولده علي بن يوسف.
أَوْران بفتح الهمزة، وسكون الواو، وبعدها راء وألفٌ ونون، سيف الدين الحاجب بدمشق.

أنشَأه الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، ثم إن الأمير سيف الدين تَنْكز أحبّه وقَرَّبه وأعطاه وإمرَةَ طبلخاناه، وجعله حاجباً بدمشق. ولم يزل عنده مكيناً إلى أن جَرى له مع قَطْلُوبغا الفخري - على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمة الفخري - فانحرف عنه وأبغضه وأبعده.
ولم يزل على ذلك إلى أن أطفأ الله مصباحه، ولم يطلع للحياة صباحه.
وتوفي رحمه الله تعالى - فيما أظنّ - سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
وكان قد لبس للإمرة في سنة ست وعشرين وسبع مئة، وتوجّه إلى ولاية الولاة بالقبليّة.
أَوْران الأمير سيف الدين السلاح دار، أحد مقدّمي الأُلوف بدمشق.
ولم يزل على حاله إلى أن ضمّت أورمُ الأرض أَوْران، ولم يعد لمائه في الحياة فَوَران.
وتوفي رحمه الله تعالى في طاعون دمشق، في شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
أُوْلاجا بضمّ الهمزة، وسكون الواو، وبعدها لام ألف وجيم وبعدها ألف: الأمير سيف الدين.
كان هو وأخوه الأمير زين الدين قَراجا في أيام الملك الصالح إسماعيل حاجبَيْن بمصر، والنائب شمس الدين آقْسُنقر السَّلاّري المقدم ذكره، والأمير سيف الدين بَيْغَرا الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف الباء، فوُشي بهم إلى السلطان، ونُسبوا إلى أنهم في الباطن مع الناصر أحمد، وربما أنهم يكاتبونه، فأُمْسِكوا جميعاً في أول سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وقضى الله أمره في النائب، وبقي البقيّة، فشفع فيهم الأمير طُقُزتمر نائب الشام، فأُفرِج عنهم في شهر رجب الفرد سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وتُرك الأمير سيف الدين، وجُهّز أُوْلاجا وأخوه إلى دمشق، فأقاما بها بطّالين إلى أن توفي الملك الصالح رحمه الله تعالى، وتولى المُلك الكامل شعبان، فأُعطي أولاجا طبلخاناه، وجُهّز إلى حمص نائباً، فأقام بها مدة، ثم نُقِل إلى نيابة غَزّة، وفي تلك الأيام بَرَّز يَلْبُغا اليحيوي نائبُ الشام إلى الجسُورة، وخرج على الكامل وحضر إليه نائبُ حمص ونائب حماه، ونائب طرابلس ونائب صفد، والأمير سيف الدين أولاجا طَلَبَهُ فلم يحضر إليه، وأقام في غزة إلى أن خُلع الكامل ووُلّي المظفر حاجّي فرُسم لأولاجا بالعَوْد إلى حمص نائباً، فأقام بها.
ولمّا خرج يلبغا ثانياً على المظفر سيّر إليه فدافعه وماطله، ولم يحضر إلى أن انفصلت القضيّة وأُمسك الأمير سيف الدين يلبغا، ورُسم للأمير سيف الدين أرغون شاه بنيابة الشام، ورسم لأولاجا بنيابة صفد، فتوجّه إليها في أوائل شهر رجب الفرد سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكان قد تعلق به وَخَم عظيم من حمص فزاد ضَعفُه بصفد، وطلب طبيباً من دمشق، فجُهّز إليه وعالجه وتماثل من الضعف، ثم إنه نقض عليه الوَخَم الحمصي، فتعلّل، ولم يزل إلى أن أُوِلج أُوْلاجا في الأرض، وسكنها إلى يوم العَرْض.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
وأوصى إلى ثلاثة: دوا داره، وأستاذ داره، وآخر من مماليكه، وجعل الناظرَ عليهم الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب الشام، وباشر هذه النيابات الثلاث مباشرة حَسُنَ فيها الثناءُ عليه، وأُهديت أنواع الشكر من الأنام إليه، عفافٌ وأمانة وخِبْرة تامة وديانة، وعَدْلٌ في قضاياه وصِيانة، لم يتعرض إلى أموال الرَّعايا ولم يَتَعرَّض أحداً فيُصْميه في الرمايا، وتأسف عليه أهل البلاد وودوا لو دام لهم بقاؤه ولو كانوا معه في جدالٍ وجلاد. وقَدِم على ربّه وترك أوِدَّاءه، وعَدِم شخصُه وأبقى ثناءه.
أولاق الأمير سيف الدين، كان من جملة أمراء دمشق يسكن فوق المدرسة الشامية البرانية، وكان قد تزوج ابنة الأمير سيف الدين كوكنجار ولم يدخل بها.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون.
أَيَاز بفتح الهمزة، وبعدها ياء آخر الحروف، وبعد الألف الثانية زاي: الأمير فخر الدين السلاح دار.

أظنه كان في مصر قبل خروجه إلى الشام من بعض مُشِدَّي العمائر السلطانية، ثم إنه خرج في حياة السلطان إلى طرابلس أميرَ عشرة، ثم نُقل إلى دمشق على عشرة في أواخر أيام الأمير سيف الدين تَنكز، فأقام بها إلى أن توجّه صُحبة العساكر إلى مصر مع الفخري، فرُسم له هناك بإمرة طبلخاناه، وحضر عليها إلى دمشق. ثم إنه وَلي شدّ الدواوين بالشام عوضاً عن الأمير سيف الدين ينجي السلاح دار، وباشره جيداً بحُرمَةٍ ومهابة.
ثم إنه عُزل في أيام الأمير سيف الدين طُقُزتمر وصار حاجباً، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي الأمير سيف الدين ألِلْمِش أمير حاجب المقدّم ذكره في أيام الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، فولي الحجوبيّة الكبرى وأحبّه يلبغا، وصار حظيّاً عنده لا يفارقه سَفَراً وحضراً.
ولم يزل على ذلك إلى أن طلبه الملك المظفر حاجّي إلى مصر، فتوجه إليها، ونزل عند الأمير سيف الدين أُلجيبغا الخاصكيّ المقدم ذكره، ورُسم له بنيابة صفد، فوصل إليها وأقام بها، وبعد حضوره إليها بقليل خرج يَلْبُغا على المظفر، وجرى له ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمته، وهرب، فرُسم للأمير فخر الدين بأن يركب خلفه، بعسكر صفد إلى دمشق وتوجّه بهم وبعسكر دمشق إلى حمص، وأقام عليها. ولمّا أُمسك في حماة عاد بالعسكر وتوجّه إلى صفد، ورُسم له بنيابة حلب في شهر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة توجه إليها وأقام بها.
ولمّا كانت أول دولة الملك الناصر حسن حضر إليه الأمير ركن الدين عمر شاه يطلبه إلى مصر على البريد مُخِفّاً، فقابل ذلك بالطاعة، فلما كان في الليل بلغ عمر شاه أنه ربما قد عَزَم على العصيان، فأركَبَ الأمراء والعسكر الحلبي وأحاطوا بدار النيابة، فلمّا أحسّ بهم خَرَجَ إليهم وسلّم سيفه بيده إلى عمر شاه وقال: أنا مملوك السلطان وتحت طاعته الشريفة، فأمسكوه وقيّدوه واعتقلوه بقلعة حلب، وطولع السلطان بأمره، وكان ذلك في العشر الأوسط من شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وأحضره الأمير سيف الدين بِلْجِك إلى قلعة دمشق مكبّلاً بالحديد، فأقام بها معتقلاً في القلعة أياماً يسيرة، ثم إنه طُلب إلى مصر ولمّا وصلها جُهز إلى الإسكندرية.
وحكى لي من أثق به انه لمّا وصل إلى دمشق أدخله الأمير سيف الدين أرغون شاه إليه في الليل فقال له: والله يا خوند رأيت في الطريق فلاحاً يسوق حماراً أعرجَ معقوراً وهو في أنحس حاله فتمنّيت لو كنت مثله فَرقَّ له.
ولم يزل معتقلاً بالإسكندرية إلى أن أُفرِج عنه وجُهّز إلى دمشق ليتوجّه إلى طرابلس ويقيم بها بطّالاً، فوصل في خامس عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وفي أوائل جمادى الأولى أعطي طَبْلَخاناه سُنقر الجمّالي بها، ثم إنه نُقل إلى دمشق فأقام بها، وأخذت المراسلات تدور بينه وبين الأمير سيف الدين أُلجيبغا نائب طرابلس إلى أن جرى ما جرى منه ومن أُلجيبغا، على ما تقدم في ترجمة الجيبغا. وهرب من دمشق مع الجيبغا، ولمّا امسك الجيبغا فارقه أياز وانفرد عنه في ثلاثة أنفار من مماليكه، فأمسكه ناصر الدين ابن المعين وبعضَ أجناد بعلبك في قرية العاقورة وقد لبس لبسَ الرهبان، وأحضره إلى بعلبكّ فقيّدوه ودخلوا به القلعة، ولمّا بلغ الخبر العسكر الشامي أخذوه من بعلبك وجاؤوا به إلى دمشق هو الجيبغا مكبّلين في الحديد وجرى لهما ما جرى، ووسّطوه في سوق الخيل بدمشق هو وألجيبغا على ما تقدّم في ترجمة ألجيبغا، وجزع جزعاً عظيماً وهلع وذل وخضع، وأخذ سكيناً من واحدٍ كان واقفاً إلى جانبه وأراد يذبحُ بها نفسه أو يجرح غيره فأعجلوه وضربوه بالسيف، ووسّط فخاض السيف في أحشائه واستقى نفسه من قليب قلبه برشائه، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمسين وسبع مئة.
وقلت فيه:
لما أنار أيَازُ في أفْق العُلاَ ... خَمَدت سريعاً لامعات علوّه
بالأمس أصبح نعمة لصديقه ... واليوم أمسى رحمة لعدوّه

وكان رحمه الله تعالى جيداً في حق أصحابه، مثابراً على تقدمهم فَرِحاً بهم في رحابه يبذل مهجته دونهم قبل ماله، ويجتهد في حق كل منهم حتى يصل إلى بلوغ آماله. وأحبّه أهل حلب كثيراً ووجدوا به فرشَ أيامه وثيراً، لأنه عاملهم بلطفٍ زائد ولين جانب وخضوع قرنه بجودٍ لم يُردّ أحد منهم وهو خائب، إلا أنه تحامل على أرغون شاه وزاد، وغدر به وكاد، وبعض من اطّلع على باطن أمره بَسَط عُذره، والله تعالى يتولّى ظاهر أمره وسرّه.
أياس الأمير فخر الدين الشمسي مملوك الأمير شمس الدين سُنفر الأعسر الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه.
كانت له معرفة ودُرْبَه، وقوة نفسٍ يعدّ بها أن الناس من رجُلٍ والأرضَ من تربه، وحزم يؤدّيه إلى أن الإنسان كيفما كان فهو في دار غربه، فلهذا عمل شدّ الدواوين وما حَل، وفعل فيه ما حَرُم وما حَلّ. ثم إنه عُزل وتوجه إلى طرابلس، وكان فيها مَصرعه، وترك من دمشق مَرْبعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
وكان نائباً بقلعة الروم، ثم نقل منها إلى حَماة، ثم إنه رُسم له بشدّ الدواوين بدمشق، فوصل إليها وباشر ذلك عوضاً عن الأمير زين الدين كَتْبغا في شهر رمضان سنة عشر وسبع مئة، وصلى الجمعة بالخلعة مع نائب دمشق في المقصورة، ولم يزل به إلى أن عُزل الأمير سيف الدين طوغان.
جاء من القاهرة في ثالث عشر صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وفي ذي الحجة توجه الأمير فخر الدين أياس المذكور من دمشق إلى طرابلس ليكون مقيماً في جملة الأمراء، وعزل من شدّ الدواوين بدمشق.
أَيان بفتح الهمزة، والياء آخر الحرف، وبعد الألف نون: الأمير سيف الدين الساقي الناصري.
كان أميراً بمصر يَسكن حِكْرَ جَوْهَر النوبي، اشترى دار الأمير شرف الدين حسين بن جُنْدُربك، ولمّا عاد أمير حسين إلى القاهرة أراد ارتجاعها، فدخل أيان على الأمير سيف الدين بَكْتُمر الساقي فمنعه منها، وكان السلطان قد رسم بإعادتها، ثم إنه أُخرج إلى دمشق أميراً، فمكث بها مدة. ثم إن قوصون طلبه إلى مصر بعد خلع المنصور، فتوجه إليها، ولمّا جرى لقوصون ما جرى عاد إلى دمشق حاجباً صغيراً، وعَظُم إلى أن توجّه إلى حمص نائباً، وأقام بها قريباً من تسعة أشهر، ثم عُزل بالأمير سيف الدين قُطْلُقْتُمر الخليلي، وتوجّه أيان الساقي إلى غزة نائباً، فتوجه إليها مكرهاً، وأقام بها مدة شهر أو أكثر، ومرض مدة اثني عشر يوماً فكان بها أيّانُ وفاة أيَان، وأصبح بعد خبراً العَيان، وحُمل إلى القدس ودفن به.
وكانت وفاته في ثالث شهر رجب سنة ست وأربعين وسبع مئة.
وكان شديد الوطأة والعَبْسة، طويل النفس في الجَلْسة، لا يراعي خليلاً، ولا يحترم مَنْ كان جليلاً.
أيبك الأمير عز الدين التركي الحمويّ نائب السلطنة بدمشق، تولاّها بعد الأمير علم الدين الشجاعي في شوال سنة إحدى وتسعين وست مئة، ثم إنه عُزل عنها في سنة خمس وتسعين وست مئة، وولّى العادلُ مكانه مملوكه أغرْلو، وأُمسك بالقاهرة في ذي الحجة سنة سبع وتسعين وست مئة وجُهّز إلى قلعة صرخد.
ثم إنه وُلي نيابة حمص، فوصل إليها وأقام بها شهراً واحداً إلى أن حُمّ أمر الحموي، فقضى نحبه ولحق من الأموات صَحبه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وسبع مئة في عشري شهر ربيع الآخر.
وكان معروفاً بالشهامة، موصوفاً بالحزم في الظعن والإقامة، عنده اتضاع، وسكونٌ يألفه من الرضاع، ولما توفي في حمص نقل إلى تربته التي هي شرقي عَقَبة دُمّر.
أًيْبَك الأمير عز الدين الموصلي المنصوري نائب طرابلس.
كان مهيباً ذا وقار، كأنّ مَشيبه خليط ثلج وَقار، مجاهداً في الفرنج والتتار، مباعداً ما يُكسِب الآثام والأوزار. سيرته جميلة، وثناؤه يحكي نفسُه زهْر خميلة. من خير أمراء دهره وأشرف أبناء عصره، ولم يزل إلى أن أُبعد الموصلي عن أحبابه، وانفرد عن لِدَاته وأترابه.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس سنة ثمان وتسعين وست مئة.
أًيْبَك الأمير عز الدين الطويل المنصوري الخزندار.

كان أميراً ديِّناً، مؤهّلاً للصلاح معيِّناً، يواظب على التبكير إلى الجمعة، ويواصل التكبير بالتهليل مع إرسال الدمعة، تأمّر على الحج غَير مرّة، ولم يظلم أحداً بعصمة الله مِثقال ذرّة، طعَنَ في سنّه، وكم طَعَن في قِرنه، ولم يزل على حاله بدمشق إلى أن مضى لربّه حميداً، وترك " مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً " .
ووفاته رحمه الله تعالى يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الأول سنة ست وسبع مئة.
أيبك الأشكري الأمير عز الدين، أحد الحجاب بدمشق.
كان من جملة أمراء الطبلخانات بها.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة أربع عشرة وسبع مئة.
أيبك الأمير عز الدين الزويزاني الحاجب.
تجاوز السبعين، وتوفي بقرية من قُرى الساحل في مستهل شعبان سنة تسع وتسعين أو سنة سبع مئة.
أيبك الأمير عز الدين الرحّالي، بالحاء المهملة المشددة.
كان بنابلس أظنه والياً.
توفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة أربع وسبع مئة، وكان له أولاد ملاح فضلاء.
أيْبك النجيبي.
الأمير عز الدين الدوادار.
كان أحد الأمراء، وفرداً في الكبراء، ولي البَرَّ فصدق في أقواله وبَرّ، فشكِرَتْ سيرته ما سَكِرَت بل صَحَتْ، وصحّت سَريرته، ولم تطل مدة الولاية، ولا امتدت به إلى غاية، إلى أن خَمَدت جمرته، وانجلت من خمار الحياة غمرته.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبع مئة.
أيبك الأمير عز الدين الجمالي.
تولّى نيابة قلعة دمشق عوضاً عن الأمير سيف الدين بلبان البدري في ثامن عشر جُمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ثم ورد المرسوم بأن يكون الأمير سيف الدين بُهادر الشمسي أحدَ الأمراء بدمشق نائباً بقلعة دمشق، ويكون الأمير عز الدين أيبك نائباً بالقلعة، وذلك في شهر رمضان من السنة المذكورة. ثم إنه ورد المرسوم بأن يتوجه إلى نيابة الكرك في جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وسبع مئة، فتوجه إليها وعُوّض عنه في نيابة دمشق بالأمير سيف الدين بهادر الشمسي.
أيبك الأمير عز الدين المعروف بكرحبي من كبار الأمراء دمشق ومقدّميهم، كان شجاعاً فارساً مقدّماً مجاهداً يحفظ أحاديث الجهاد.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة.
أيْبَك الأمير عز الدين المعروف بالبُدَيوي الظاهري، الجَمْدار المُشد على الأملاك الظاهرية.
كان له فهمٌ ومعرفة.
توفي بدار الحديث الظاهرية في ثاني عُشري المحرم سنة تسع وسبع مئة.
أَيْتَمُش الأمير سيف الدين المحمدي.
كان أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق، وكان سكنه بظاهر دمشق بناحية مسجد القصب، وهو والد خليل الذي يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
كان الأمير سيف الدين تنكز يكرُمه وله عنده منزلة يرعاها.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم السبت سابع عشر رجب الفرد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
أَيْتمش الأمير سيف الدين الأبو بكري الناصري.
كان أحد الأمراء العشرات بدمشق.
توفي رحمه الله تعالى في ثاني ذي الحجة سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
أيتمش بفتح الهمزة، وسكون الياء آخر الحروف، وتاء ثالثة الحروف، وميم بعدها شين معجمة: الأمير سيف الدين الجَمْدار الناصري.
كان من مماليك الملك الناصر، أمّره طبلخاناه وهو وستة أمراء في يوم واحد، وكان هو الأمير ناصر الدين محمد بن أرغون النائب وبَيْدمر البدري، وذلك فيما يقارب سنة أربع عشرة وسبع مئة.
كان كثير السكون والأَناة، بعيداً من الشر والرداة، وافر الحشمة والأدب، حازم الرأي لا يقع في أمر يسوؤه فيه من عَتَبْ، ليس فيه شرٌّ ألبتّه، إذا رأى دنَسَ عيبٍ قرصه وحتّه، يجود في موضع الجود، ويحفظ ما هو في يده موجود.

ولي الوزارة في أيام الصالح إسماعيل، ثم عُزل منها، ووليَ الحجوبيّة بالديار المصرية، وتزوّج ابنته الأمير علاء الدين مُغُلْطاي أمير آخور - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الميم موضعه - ولمّا قُتل أرغون شاه نائب الشام - على ما تقدم في ترجمته ألزَمَه الأمراء أرباب الحلّ والعقد بالديار المصرية أن يتوجّه إلى دمشق نائباً، فامتنع، فما فارقوه حتى وافق، ودخل إلى دمشق على خَيْله في نفرٍ قليل من جماعته في حادي عشر جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة، وأقام بها لا يَرُدُّ مرسوماً، ولا يَعزل ولا يُوَلّي طَلَباً للسلامة، ولم يزل بها إلى أن خُلع السلطان الملك الناصر حسن، وتولى الملك الصالح صالح، فحضر إليه الأمير سيف الدين بُزْلار، وحلّفه وحلّف جميع العسكر، ثم إنه طُلب إلى مصر، فخرج من دمشق يوم الخميس ثالث عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وخرج العسكر معه إلى الجَسورة، وودّعوه.
ولما وصل مصر دخل إلى السلطان وسلّم وقبّل الأرض، وسلم على الأمراء، وتوجّه إلى الأمير سيف الدين قُبْلاي - الآتي ذكره - نائب مصر، فأمسكه وجُهّز إلى الإسكندرية، ولم يزل بها إلى أن ورَدَ المرسوم على نوّاب الشام ومضمونه أنّ الأمراء ببابنا الشريف، وقفوا لنا وشَفعوا في الأمير أيتمش، وسألوا الإفراج عنه لأن ذنبه كان خفيفاً، فتُعَّرِفونا مال عندكم في هذا الأمر، فأجاب الجميع بأن هذا مصلحة، فأُفرج عنه وجُهّز إلى صفد ليكون بها مقيماً بطّالاً إن اشتهى يركب وينزل، وإن اشتهى يحضر الخدمة، ووصل إليها في أوائل العشر الأواخر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، فأقام بها إلى أن طَلَبه بِيْبْغَاروس لمّا ورد دمشقَ خارجاً على السلطان، فاعتذر بأنه ضعيف، فأخذوه في محفّه وأقام عنده على قبّة يلبغا، ونفع أهل دمشق وشفع فيهم مرات.
ولمّا هرب بيبغا توجّه هو إلى السلطان الملك الصالح وحضر معه إلى دمشق، وأقام إلى أن توجّه السلطان إلى مصر في سابع شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة بعد أن خَلَعَ عليه، وولاّه نيابة طرابلس فتوجّه إليها.
ولم يزل بها مقيماً في نيابتها إلى أن جاء إلى دمشق من ينعاه، وتألّم له من كان يودّه ويرعاه.
وتُوفي رحمه الله تعالى في سلخ شهر رمضان بطرابلس، وذلك في سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
ولد بدمشق داران: دار الأمير سيف الدين ينجي التي بَرّا باب السلامة ودار طيبغا حاجي التي في الشرف الأعلى الشمالي. وكانت ابنتاه إحداهما مع الأمير علاء الدين مُغُلْطاي القائم في تلك الدولة بإمساك النائب بيبغاروس والوزير منجك وغيرهما، والأخرى مع الأمير سيف الدين طشُبغا الدودار، وهو نائب الشام، فكان هو وصهراه عبارة عن تلك الدولة.
أَيْدغْدي الأمير علاء الدين شُقَير.
لمّا كان أميراً بدمشق كان عند الأفرم حَظيّاً، مُلازَمه بُكرة وعشيّاً، وكان ينادمه ويخلو معه على شرابه، ويَشْركهُ في لذّاته ونَيْل آدابه، ولمّا حضر الملك الناصر محمد من الكرك استحال على الأفرم، واختص بالناصر، وكان يحرق عليه الأُرَّم، وربما أنه الذي أوقد جَمْرَ الغضب عليه وأضرم، وصار عند الناصر من الخواصّ المقربين وأمراء اَلْمَشْوَر المدرّبين، وربما أفضى إليه بأسرار وتسلط به على إطفاء شَرار جماعة من الأشرار، ولكنه بعد قليل مجّه، وجادله فجدّله لما حجّه، قبض عليه وعلى غيره وقصّ جناحَ النجاح من طَيْره، وذلك في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان آيدُغدي شقير وبكتمر الحاجب وشرف الدين أمير حسين بن جندر هؤلاء الثلاثة أمراء عند الناصر محمد ثلاثة الأثافي والأصحاب الذين لا يخفى من السلطان عنهم خافي، وهم مَوْضع سرّه، وجعل الثلاثة أمراءَ مئين ومقَدَّمي ألوف، وكان أكبرهم رُتبةً أيدغدي.
حكى لي الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر قال: قال لي السلطان مرة: يا أمير شرف الدين قطّ ما أستشيرك في أمر أحد وإمساكه فتقول لي: أمسكه، بخلاف الأمير علاء الدين أيدغدي. قال: قلت له: يا خوند أيش هو أنا وأيش هو أيدغدي حتى تُشاورنا أنت، ما تقلق في الليل؟ فقال: بلى والله، قلت: ذاك الوقت أطلبْ من الله، ومهما حسّنه الله تعالى في عقلك افعل به واعمل عليه، قال: ولم يكن إلا بعد أيام قلائل حتى أمسكه، وما أثنى عليه بخير.

وداره بدمشق معروفة تحت مئذنة فيروز، وهي دار حَجّاج بن مَسلَمة بن عبد الملك بن مروان، وكثيرٌ من الناس يظنها دار الحجّاج بن يوسف الثقفي، وإنما هي كانت أولاً للحَجّاج، ولما ولد حجاج بن عبد الملك سماه والده حجاجاً باسمه وقال:
سمّيته الحَجّاج بالحَجّاج ... بالناصح المُعاون الدمّاجِ
نُصحاً لعمري غير ذي مداجي
فوهب الحجاج بن يوسف داره هذه التي بدمشق له، وهذا الدار كانت للأمير علاء الدين أيدغدي شقير، ثم إنها اتصلت للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، ثم للأمير سيف الدين بَلْبان طُرْنا، ثم للأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، ثم للأمير نور الدين بن الأفضل.
أيُدُغدي الأمير علاء الدين الظَّهري.
كان أمير عشرة، وكان نقيب النقباء بدمشق، كان شيخاً قد أسنّ، وسلك كلًّ طريق عَنّ، قد مخض التجارب، وعرض للتصالُح والتحارُب ثَوّر نعمة طائلة وسَوّر أملاكاً هائلة. وكان يحفظ كفاية المتحفّظ ويسردها، ويعرف حُلَى الأنبياء عليهم السلام ويوردها. ولما أُمسك تنكز أُخرج من نقابة النقباء وجُهّز إلى نيابة قلعة صَرْخد، فأقام فيها مُدة، وحضر إلى دمشق.
ولم يزل على حاله إلى أن لم يجد له الظهيري ظهيراً، وخَمل ذكره بعد أن كان شهيراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
أَيْدُغدي الأمير الكبير علاء الدين الخوارزمي، أمير حاجب بدمشق.
توفي رحمه الله تعالى ليلة الأحد ثاني عشر شعبان سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وكان توجه رسولاً إلى الغرب، وكان شيخاً طُوالاً تامّ الهيئة، عنده فهمٌ ومعرفة، وله كتبٌ يطالع فيها، وعلى ذهنه أشياء حسنة من تاريخ وغيره.
أَيْدُغْمش بفتح الهمزة، وسكون الياء آخر الحروف، وضمّ الدال المهملة، وسكون الغين المعجمة، وبعد الميم شين معجمة: الأمير علاء الدين أمير أخور الناصري.
كان أولاً من مماليك الأمير سيف الدين بلبان الطبّاخي الآتي ذكره، ولما جاء الناصري من الكرك ولاّه أمير آخور عوضاً عن الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، وأقام على ذلك إلى أن توفي الملك الناصر.
وكان ممّن قام مع قوصون في أمر المنصور أبي بكر، ثم إنه وافَقَه على خَلْعه، ولولا اتفاقه معه لم يتم لقوصون أمرٌ. ثم إنه لمّا هرب من الفخري - على ما تقدّم في ترجمة ألطنبُغا - وقارب بُلْبِيس اتفق الأمراء مع أَيْدُغْمش على قوصون وحِزبه، فوافقهم على ذلك، وقبض على قوصون وجماعته، وجهّزهم إلى الإسكندرية، وجهّز من تلقّى ألطنبغا ومَنْ معه وأمسكهم، وجهّزهم إلى الإسكندرية أيضاً، وكان أيدغمش في هذه المرّة هو المشار إليه، وجهّز ولده ومعه جماعة من الأمراء المشايخ إلى الناصر أحمد إلى الكرك، ولمّا استقرّ أمرُ الناصر أحمد في مصر أُخرج أيدغمش إلى حلب نائباً، فلما وصل إلى عين جالوت لحق به الفخريّ مستجيراً به، فأكرم نُزُله وأضافه ونوَّمه في خيمة عنده، واطمأن الفخري وخلع آلة سلاحه ومماليكه، ولمّا كان بكرة أمسكه وجهّزه إلى الناصر. ثم إن أيدغمش توجّه إلى حلب ولم يزل بها مقيماً إلى أن تولى الصالح فرُسم له بنيابة الشام، وحضر إليه الأمير سيف الدين ملكتمر السرجَواني وأخذه من حلب وأتى به إلى دمشق، فدخلها بُكْرةَ الخميس عشرين صفر سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وأقام بها نائباً إلى يوم الثلاثاء بُكرة ثالث جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وعاد بعد ما أطعم طيوره، ونزل وجلس في دار السعادة وقرئت عليه قصصٌ يسيرة، وأكل الطعام وعلّم فوطة العلائم، وعرض طُلْبَه ومُضَا فيه، وقدّم جماعةَ وأخّر جماعة، ودخل ديوانه وقرؤوا عليه مخازيم، فقال لهم: هؤلاء الذين تزوّجوا من جماعتي، اقطعوا مرتبهم، وأكل بعد ذلك الطاري، وجلس هو والأمير رملة بن جمّاز يتحادثان، فسمع حسَّ جماعةٍ من جَواريه يتخاصَمْنَ، فأخذ العصا ودخل إليهن وضرب واحدة منهنّ ضربتين وأراد أن يضربها الثالثة فسقط ميّتاً، فَجَأة الموت فَجْأة وما سُمع له نَبْأه. فأمهلوه إلى يوم الأربعاء بكرة، وغُسِّل ودفن خارج ميدان الحَصا في تربةٍ عُمِّرت له هناك.

وكان زائد الجود بالغ الإكرام للوفود، قلّ من سَلّم عليه إلاّ وساق وفد الخلعة إليه. وكان الملك الناصر محمد قد أمرّ أولاده الثلاثة: أمير علي، وأمير حاج، وأمير أحمد لعلوّ مكانته عنده وما يراه منه إذا أورى زنده، وكان قد بلغ الملك الصالح أنه ربما يباطن الناصر أحمد، ويلاحظ دولتك بطَرْف أرْمَد، فأمر من يحضرُ للقبض عليه، فتلقاه الأمير أيان الساقي قي قَطْيَا، وقد توجه للقبض عليه فأعلمه بموته وردّه.
ولم أعهد أنا في عمري إلى حين تسطيرها في سنة ست وخمسين وسبع مئة أحداً من نُوّاب الشام توفي بدمشق غير هذا الأمير علاء الدين أيدغمش.
أيدكين الأمير علاء الدين الأركشي.
كان أوّلاً برُمح يسوق في البريد من جملة بريدية مصر، وكان محَذلقاً، توجه إلى البلاد الشرقية وعاد في مهم، فراج عند السلطان الملك الناصر محمد، وحكى له أنه مرت به أهوالٌ عظيمة في سفرته وتحيّل بحيل كثيرة حتى نجا، وذكر للسلطان شيئاً يُسْتَحْيا من ذكره، فضحك السلطان من ذلك وأمّره وولاّه القاهرة، فظلم وجار وأشبهت أيامه الظلم، وتاه في الولاية وزاد، ولم يعبأ بأحد من الخاصكية، فاتفقوا عليه وشَكِوه إلى السلطان، فعزله.
وما أظنّه أقام أكثر من سنة، وعاد إلى دمشق وكان السلطان قد ولاّه بعدما عزل الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني في شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وكانت من غرائب السلطان عزل مثل هذا وولاية هذا، وكان قد عُزل من ولاية القاهرة في حادي عُشري جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، وتولاها بعده سيف الدين بلبان الحُسامي البَريدي.
أَيْدَمُر الجناحي، الأمير عز الدين.
كان نائباً بغزّة، له أموالٌ كثيرة، وفُرش سعادته وثيرة، وفِكرتُه في تحصيل المال للاكتساب مثيرة، حصّل من الذهب ما لو فرّقه على العفاة لمَا ذهب، وملك من العَين جُمله، تعجز المطايا عن النهوض به وما تطيق حَمله، إلا أنّه درب السياسة، واتّصف بالرياسة.
ولم يزل بغزة إلى أن قصّ الموت من الجناحيّ جَناحه، وأراه في قَبْره إمّا خيبتُه وإما نجاحه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مئة، وخلّف تركة هائلة من جملتها ما لا ورد به في وصية، ولا علم به أحد، بل تبرّع بإحضاره فخر الدين العزازي وكانت هذه الجملة، ذهباً وغيره، ما قُوّم بستين ألف دينار.
أَيْدُمُر الزرْدَكاش الأمير عز الدين.
قَفَّز مع الأفرم لأنه كان صِهره ولاقَيَا قرا سُنقر، ودخلا بلاد التتار إلى خَربندا، كما تقدم في ترجمة الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، وطلب ابنه وابن الأفرم إلى الديار المصرية فتوجها.
أيدمُر الأمير عز الدين الظاهري.
كان نائب الشام في الأيام الظاهرية.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء ثاني عشر ربيع الأول سنة سبع مئة برباطِهِ بالجبل، ودُفن هناك بالتربة على نهر ثُورا قبالةَ المدرسة الماردانية الحنفيّة.
وكان السلطان قد ولاّه نيابة الكرك، فأقام هناك إلى أن حضر السلطان الملك الظاهر إلى الكرك في المحرم سنة سبعين وست مئة وعاد منها وأخذ الأمير عز الدين معه إلى دمشق فولاّه نيابتها عوضاً عن الأمير جمال الدين النجيبي فأقام بها.
أيدمُر الأمير عز الدين دُقْماق نقيب العساكر المصرية.
كان محبوباً إلى الناس، فيه خيرٌ ورحمة.
توفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
أيدمُر الأمير عز الدين المَرْقبي.
كان من خواصّ الأشرف، وأقام أميراً بدمشق مدة، ثم إنه نُقل إلى طرابلس على إقطاع إمرة، فأقام بها إلى أن توفي هناك في سنة أربع وأربعين وسبع مئة رحمه الله تعالى.
وكان شكلاً مليحاً.
أيدمُر ابن عبد الله عز الدين السَّنَائي.
كان جندياً، كم اعتقل للغزاة رمحاً وتقلّد هندياً، وله معرفة بالتعبير، وكلامه في ذلك ألطفُ من نسمة عبير، وله معارف أدبية، وصَوارف إلى النكت العربية، ولم يزل يصوغ شعره إلى أن أظلم الوجود في عين السَّنائي، وقَرّب إليه من الحتف ما هو نائي.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في أول جمادى الأولى سنة سبع مئة، على ما ذكره الأُدْفُوي في تاريخه البدر السافر.
وكان عتيقَ أَقْطُوان الحاجبي والي قَلْيوب، ووَرِثه ابنه إبراهيم بالولاء.

ومن شعره:
تَخِذَ النسيمَ إلى الحبيبِ رسولاً ... دنفٌ حَكاه رقّةً ونُحولا
يُجري العيون من العيون صبابة ... فَتَسيل في أثر الغريق سُيولا
ويقول من حَسد له: يا ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا
ومنه:
بعلبكُ دارٌ ولكنها ... دارٌ بلا أهل وجيران
كأنها ليلةُ وَصْلٍ مضت ... وأهلها ليلة هجران
وأنشدني من لفظه العلامة أبو حيان قال: أنشدنا المذكور لنفسه:
سَفَرت فخلتُ الصبحَ حين تَبَلَّجا ... في جنح فَوْدٍ كالظلام إذا سجا
فتانةٌ فتّاكة من طرفها ... كم حاول القلبُ النجاة فما نجا
نَحَلتْ نضيرَ قامَةَ قدِّها ... وحَبَتْ مهاة الجزع طرفاً أدُعَجا
تفترُّ عن بَرَدٍ تقيٍّ بَرْدُه ... بالرَّشف حَرَّ حُشاشتي قد أثْلَجا
ما إن دخلتُ رياض جنّةِ وجهها ... فرأيت عنها الدهر يوماً مَخْرَجا
ولَمَا رشفت رحيق فيها ظامياً ... فازددت إلا حُرقَة وتوهجا
تعطو برخص طَرَّفته بعَنْدم ... وتُريك ثغراً كالأقاح مُفَلّجا
أنّى نظرتَ إلى رياض جمالها ... عاينت ثَمَّ مُفَوَّفاً ومُدَبَّجا
زارت وعُمر الليل في غُلَوائه ... فغدا من الشمس البهيّة أبهجا
وسرى نسيم الروض ينكر إثرها ... فتعرَّفَت آثاره وتأرَّجا
وأنشدني أيضاً قال: أنشدني المذكور لنفسه:
وَرَدَ الوَرْدُ فأوْرِدْنا المداما ... وأرِحْ بالراح أرواحاً هُيامى
واجْلُها بِكْراً على خُطّابها ... بنت كَرْم قد أبَت ألاّ كراما
ذات ثغرٍ لؤلؤي وَصْفُه ... في رحيقٍ رَشْفُه يَشْفي الأُواما
بُرقِعت باللؤلؤ الرطب على ... وَجْنَةٍ كالنار لا تألو ضِراما
أقبلت تسعى بها شمس الضحى ... تُخجل البدرَ إذا يبدو تَماما
بجفون بابليّ سِحرُها ... سُقمُها أبدى إلى جسمي السَّقاما
ونضيرُ الورد في وجنتها ... نَبْتُه أنْبَت في قلبي الغراما
ودّت الأغصانُ لمّا خَطَرت ... لو حكت منها التثني والقَواما
قال لي خالٌ على وجنتها ... حين نادَيْتُ: أمَا تخشى الضِّراما
منذ ألقيتُ بنفسي في لَظى ... خدِّها ألفيتُ بَرْداً وسَلاما
قلت: شعر متوسط.
أيْدمُر الأمير عز الدين الخطيري.
حَبَسه السلطان بعد مجيئه من الكرك، فسعى له مملوكه بدر الدين بيلبك أستاذ داره مع الأمير سيف الدين طغاي الكبير - الآتي ذكره في حرف الطاء مكانه - ولما خرج طلب حسابه من مملوكه المذكور، فقال له: سعيتُ لم به إلى أن خُلِّصْت. ثم إنه عظم شأنه عند السلطان، وكان يجلس رأس الميسرة، وأعطاه إقطاع مئة وعشرين فارساً، وكان لا يمكنه السلطان من المبيت في داره بالقاهرة، ولد دار مليحة في رُحَيبة العيد فينزل أيها بكرة، ويطلع إلى القلعة بعد العصر، كذا أبدا، وكانوا يرون ذلك تعظيماً له.
وكان في الأصل مملوك شرف الدين أوحد بن الخطير والد الأمير بدر الدين مسعود الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - مكانه، وكان لا يلبس قِباءً مطرّزاً، ولا يدع أحداً عنده يلبس ذلك. وكان يُخرج الزكاة.
وكنت يوماً عند أستاذ داره هذا بدر الدين بيلبك وقد زوّج السلطان ابنته بالأمير سيف الدين قوصون وقد ضربوا لدور الأمير عز الدين الخطيري دينارين وزْنُهما أربع مئة دينار وعشرة آلاف درهم برسم النقوط خارجاً عن عشرة تفاصيل قماش حرير ملونة، وقالوا له: يا خوند هذا السكّر الذي يعمل في الطعام ما يضر أن نعمله غير مكرر؟ فقال: لا، فإنه يبقى في نفسي أنه غير مكرر.
وعمّر الجامع المشهور في رَمْلَة بولاق على البحر وإلى جانبه الربع المشهور، يُقال إنه غرم عليهما نحواً من أربع مئة ألف درهم، وأكله البحر في حياته، ثم إنه رمَّه وأصْلحه بجملة من المال.

ولم يزل على حاله إلى أن وقع الخطيري من الموت في خَطَر، وراح كأنه لم يفز بأمنية ولا وطر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فيما أظن.
وخلّف ولدين أميرين: علياً ومحمداً.
وكان ذا شيبة مبيّضة، كأنها في النقاء تجسّدت من دموع مرفضّة، أو تكوّنت من أزاهر روضةٍ غضّة، بوجه يُقطَفُ الورد من وَجَناته، والجلّنار من خمائله وجَنّاته، كريم الكف إذا نوّل، كبير النفس إذا أعطى أحداً أو خَوَّل، فيه تجمّل وحِشمة، وله همة وعزمة.
أَيْدمُر الأمير عز الدين أحد الأمراء بالديار المصرية.
ولاّه الملك الصالح نيابة غَزّة، فتوجّه إليها وأقام بها مُدّة، ثم إنه استعفى بعد موت الصالح وعاد إلى القاهرة.
ولمّا كانت الكائنة على يلبُغا اليحيوي في الأيام المظفريّة رُسم له أن يتوجّه إلى دمشق للحَوْطة على موجود يلبغا والأمراء الذين كانوا معه من إخوته وغيرهم، فحضر إليها ومعه الأمير نجم الدين بن الزيبق في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وأقام بدمشق مدة تزيد على الثلاثة أشهر إلى أن أباع موجودهم، وتوجّه بالأموال جميعها إلى مصر هو والأمير شمس الدين آقسنقر أمير جاندار الذي أحضر أرغون شاه إلى نيابة دمشق، ولمّا وصلا بالمال إلى المظفر لم يلبثا إلا قليلاً، قريباً من الشهر، وخرجوا على المظفر، ولم يكن معه أحد من الأمراء إلا الأمير عز الدين الزرّاق وآقسنقر وأيدمر الشمسي، فنقم الخاصكية عليهم ذلك، وأخرجوهم إلى الشام، فوصلوا إلى دمشق نهار العيد أول شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. ورُسم للزرّاق بالمقام في دمشق، ثم ورد مرسوم الملك الناصر حَسَن بتوجهه إلى حلب، فتوجّه إليها في العشر الأوسط من شوال وَرَدَ منشوره إليه فيما بعد بإقطاع الأمير سيف الدين أَسَنْدَمُر الحسني.
وكان ديّناً، وطيء الجانب ليّناً، فيه خير وبرّ، وحِفظٌ لما عنده وسِرّ. ولم يزل على حاله إلى أن فرغ أجل الزَّرَّاق ورِزقه، واتّسع عليه من الموت خَرْقُهُ، وتوفي رحمه الله تعالى.
وكنت أنا بالقاهرة - في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وكتبتُ تقليده بنيابة غزة ارتجالاً من رأس القلم وهو: الحمد لله الذي زاد أولياء دولتنا القاهرة عزّاً، وجعل أصفياء أيامنا الزاهرة كُفاة تعود الممالك بهم حِرزاً، وجرّد مِنْ أنصارنا كلّ نَصْل راعَ حَداً وراق هزّاً، ووفّق آراءنا الشريفة لأن يكون مَنْ نعتمد عليه يُسنَد إليه العز ويُعزى. نحمده على نَعَمه التي عَمَّت، ومِننه التي طَلَعت أقمارها وتمّت، وأياديه التي قادت الألطاف إلى حَرَمنا وزَمَّت.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مهدّ الإيمان قَصْدها، وجدّد الإيقان عَهْدَها، وشيّد الإدمان مَجْدَها، وأيّد البرهانُ رُشدها.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي هدى به الأمة، وبدا به الأمور المهمّة، وجلا بأنوار بعْثَته من الكفر الدياجي المُدْلهمّة، ونفى بإبلاغ رسالاته ثبوت كلّ ثبور، وألَم كلّ ملمّه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تلألأت أنوارهم، وتوضحت في آفاق المعالي أقمارهم وتوشّحت بلآلي السيادة أزهارهم، وتفتحت للسعادة بصائرهم وأبصارهم، صلاةً ظلالُ رُضوانها مديدة، وخِلالُ غفرانها عَديدة، ما افترّ ثغْرُ صْبح في لَعَس ظلام، واهتز في الحرب قَدُّ رمحٍ، وتورد بالدم خَدّ حسام، وسلم، وبعد:

فإن ممالكنا الشريفة منها ما هو عالي المكانة، داني المكان مُوَفّر الاستكانة، موفَّى النعمة بالسكان، مُوَطَّأ الأكناف، مُوَطَّد الأركان، موسَّع الأفنية، موشَّع الأفنان، وقد جاوز الأرض المقدّسة، وبَرَزَ رافلاً من خمائله في حلله المقدسة، ونوّه الذكر مَحاسنه لما نوّع الاعتدال خيره وجنّسه. كم فيه من كثيب رمل أوعَسْ، وحديقة إذا بكى الغمام عليها تبسم ثغر زهرها الألعس، وروضٍ حكى القدّ الأملدَ قضيبه الأملس، قد اكْتنفه البَرّ والبحر، وأحاطت به المحاسن إحاطة القلائد بالنحر، وبرز بين مصر والشام برزخاً، وكثرت خيراته فهو لا يزال مَهَبّ رُخاء الرَّخا، وإلى غزة ترجع هذه الضمائر، وعلى سرها تدل هذه الأمائر، كاد النجم ينزل إلى أرضها ليتنزه، وقصّر وصف الواصف عنها ولو أنه كُثَيّر وهي عَزّه، وكانت غُرّة في وجه الشام فنقّطها سواد العين بإنسانه فصارت غَزّه، وكفاها فخراً بما يُروى عنها أن الإمام الشافعي رضي الله عنه منها.
ولما كان المجلس العالي الأميري وألقابه ونُعوته من أعيان هذه الدولة، وأعوان هذه الأيام التي زانها الصَّون والصّولة، قد اتصف بالحلم والباس، والأناة والإيناس، والمهابة التي طَوْدُها راسخ راس، والشجاعة التي مرامها صَعْبُ المِراس، طالما جُرّد منه حسام حُمِدت مضاربه، وجُهّز في جيشٍ نَصَره الله على مَنْ يحاربه، وأطلع في أفق مهمٍّ شريف أحدقت به كواكبه اقتضت آراؤنا الشريفة إعلاء رتبته وإدامة بهجته وسرور مهجته وتوفير حركته، وأنْ نُفَوّض إليه تقدمة العسكر المنصور بغزّة المحروسة، فلذلك رُسم بالأمر العالي. المولوي السلطاني الملكي الصالحي العمادي أن يستقر فيما أشرنا إليه من ذلك، اعتماداً على ما قلناه من همّته، واستناداً إلى ما جرّبناه من شيمته، واجتهاداً في وقوع اختيارنا الشريف لِمَا أحمدَنا في الإخلاص من ثبوت قدمه، واعتقاداً في نهوضه بهذا الأمر الذي ألبسناه حُلَلَ نِعَمه، وارتياداً لاحتفاله بهذا المهم الذي لا يزال طائعاً طائفاً بحَرَمه، فليستقر فيما فوّضناه إليه مجتهداً في رضى الله تعالى، فإن ذلك أَوْلى ما نطق به اللسان، ورضى خواطرنا الشريفة، وهو مغدوق برضى الله الذي أمر بالعدل والإحسان، معتمداً على طلب الحق الجلي، والإقبال على المُستغيث به بوجه وَضِيّ، خُلُق رضيّ وعزم مَلِيّ، حتى يُنصف المظلوم من ظالمه ويُرشد الضالّ عن الصواب إلى معالمه، ويَبْسُطُ العدل في رعايانا، ويُجريهم على ما ألِفوه من الأمن والمَنّ من سجايانا؛ لأن العدل يُعمِّر البلاد، والجَوْر يُدمِّر العباد، والحاكم العادل من المطر الوابل، والأسَد إذا حَطَم خير من الوالي إذا ظَلَم، وهو يعلم أمر هذه الدنيا وما إليه تَؤول، ويتحقق أنه راعٍ وكل راع مسؤول. والشرع الشريف فليتقدم برفع مَناره، وتعظيم شِعاره، فإنه المحجّة السَّويّة والحجة القَويّة، فما شددنا السيف إلاّ لنُصرة الشرع، ولا نعتقد إلاّ أنه الأصل وبقية السياسات فَرْع. والعَسكر المنصور، فهم منا بمرأى ومسمع، وعنايتُنا بهم تامّة تمنحهم الخير وللشرّ تدفع، فليُراع حالهم ويَرْعَها، ويتّبعْ أصول أمورهم وفَرْعَها: إقطاع من مات منهم إلى رحمة الله تعالى لولده أو لقريبه، وكبيرهم وصغيرهم معامل بتوقيره وتوفير نصيبه وليُلزمُهُم بعمل الأيزاك المهمّة، والركوب في كل موكبٍ، والنزول في كل خدمة، حتى يكونوا على أهُبّة لورود المهمّات الشريفة والحركات التي هي بهم في كل وقت مُطيفة، والوصايا كثيرة، وتقوى الله تعالى ملاك الأمور، وفِكاك الأعناق من الأوزار وشِباك الأجور، فلا يبرح مِنْ حَرَمها المنيع ولا يسرح في سوى روضها المَريع، فإنّ مَن لازمها سَعِدَ دنيا وأخرى، وحاز في الدارين مَنْقَبة وفخراً، والله يزيده ممّا أولاه، ويُفيده الإعانة على ما ولاّه. والخطّ الشريف - أعلاه الله تعالى - أعلاه حجةً في ثبوت العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى.
إيْرَنْجي بكسر الهمزة وسكون الياء آخر الحروف، وراء بعدها نون ساكنة وجيمٌ وياء آخر الحروف: النُّوَيْن التتري خال القان بوسعيد.

لمّا تبرّم من نائبة جوبان واستيلائه على الأمور واحتجاره عليه، تنفس إلى مقدمين يكرهون جوبان منهم أيْرنجي هذا وقُرْمُشي ودقماق، فقالوا له: إن أردت قتلناه. واتفقوا على أن يبيّتوه، وذلك في جمادى سنة تسع عشرة وسبع مئة، ووافقهم على ذلك أخو دقماق ومحمد هريرة ويوسف ويعقوب المسخر، فهيّأ قُرمشي دَعوةً، ودعا جوبان إليها فأجاب ونفّذ له تَقْدمة سنيّة فقبلها، فنصحه تتريّ، فتحفّظ في الهروب، وترك خيامه، وأقبل قُرمشي في عشرة آلاف، وسأل عن جوبان، فقيل: في مخيّمه، فهجم عليه، وثار أجناد جوبان في السلاح، والتحم القتال، فقُتل نحو ثلاث مئة، ونَهبَ قُرمشي حَواصل جوبان، وساق في طلبه، وهرب إلى مَرَنْد معه ولدُه حسن وابنان، فأكرمه صاحب مَرَنْد، وأمَدّه بخيل ورجال، وأتى تبريز، فتلقاه علي شاه وزيّن البلد له، وجاء في خدمته إلى بوسعيد، وأثنى على جوبان وعلى شفقته وأنه والد، ثم دخل جوبان وبيجه كَفَنٌ وهو باكٍ وقال: يا خوند قُتلَتْ رجالي ونُهبَت أموالي، فإن كنت تريد قتلي فها أنا قد حضرت، وقد صرت في تصرفك، فتنصّل القان وتبرّى مما جرى، وقال له: حاربهم فهؤلاء أعداؤنا قال: فيساعدني القان، فجهز له جيشاً مع طاز بن النوين كتبغا ومع قراسنقر، وركب القان مع خواصه مع العسكر، وأما إيرنجي فإنه قصد تبريز في طلب جوبان، فأُغلق البلد في وجهه، وخرج الوالي إليهم، فأهانوه وعلقوه منكوساً حتى وزن أربع مئة ألف درهم، ثم ساروا إلى رَنكان، فالتقى الجمعان، فلما رأى إيرنجي القان وراياته سُقط في يده وقال لأصحابه: السلطان علينا فما الحيلة؟ فقال قرمشي: لا بد من الحرب، فالسلطان معنا، وسيّر قُرمشي إلى جوبان وقال: أنا معك، والتحم القتال وانكسر أيرنجي، وتحوّلت غالب عسكره إلى تحت رايات السلطان، ثم أُسِرَ أيرنجي وقرمشي ودُقماق، وعقد لهم مجلس بالسلطانية فقالوا: ما تحركنا إلاّ بأمر القان، فأنكر وكذّبهم وأمر بقتلهم، فقال إيرنجي: هذا خَطُّكَ معي أنا، فأنكر وجحد، فضرب إيرنجي بسيخ في فمه فهلك، وطيف برأسه في خراسان والعراق، وذلك في سنة تسع عشرة وسبع مئة، وقُتل قُرمشي ودُقماق مسلماً يُحبّ العرب ويكثر الصدقة، فحلقوا ذَقْنه وطِيف به، ثم رموه بالنُّشَّاب، وباد من المُغْل خَلْقٌ كثير في تلك الواقعة.
وكان إيرنجي هذا في حشمته فريداً، وفي عَظَمته وحيداً، وفي أصله مجيداً، وفي إحسانه مُجيداً، وله مهابة في السياسة، وقُدْرَه على اتّباع الياسه، ولكن البغي على جوبان صَرَعَه، وضَرَب بابَ هلاكِه وقَرعَه، ودخل السيخ فَمَه قال له البغي: قد زدتَ فَمه.
الأيكي: الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر.
أيمن بن محمد البُزولي بالباء الموحدة والزاي والواو واللام: الأندلسي الأصل، التونسي أبو البركات.
أخبرني العلامة أثير الدين قال: هو جندي، أنشدنا له بعضُ أصحابنا يهجو أبا سلامة ناجي بن الطوّاح التونسي أحد الطلبة الأدباء بتونس، وكان طويلاً رقيقاً، فيه انحناء:
ناجٍ من النَّجْو مُشْتَقّ وما العَذِرَهْ ... يوماً بأنْجَسَ مِنْ أرهاطه القَذِرَهْ
جِنْس الخراء طويلٌ رقّ منحنياً ... كبائلٍ قائمٍ والأرض منحَدرَهْ
غَذَتْهُ ألبان فِسق أمُّه وأبى ... أبوه إلاّ الخنا والفَرْعُ للشجرهْ
قلت: أظن أيمن هذا أبا البركات المعروف بعاشق النبي، وهو أيمن بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد، أربعة عشرة محمداً، أتى إلى المدينة الشريفة، وأقام بها.
وأخبرني غير واحد أنه كان أوّلاً كثير الهجو والوقيعة في الناس، لكنه تاب إلى الله تعالى بعد ذلك وأقلعَ وأناب، وألزم نفسه أنه ينظم كل يوم قصيدةً يمدح بها سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قي وقتِ عَزَم على العود لزيارة أهله بالمغرب؛ فرآه النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وقال له: يا أبا البركات كيف ترضى بفراقنا؟ أو ما هذا معناه، فعاد وبطّل المُضِيّ إلى أهله، وسمى نفسه عاشق النبي.
أنشدني من لفظه الشيخ الإمام الفاضل بهاء الدين محمد بن علي المعروف بابن إمام المشهد، قال: أنشدني أبو البركات أيمن لنفسه:

فَرَرْتُ من الدنيا إلى ساكنِ الحمى ... فرارَ محبٍّ عائذٍ بحبيب
لجأتُ إلى هذا الجنَاب وإنما ... لجأت إلى سامي العمادِ رَحيب
وناديتُ مولايَ الذي عنده الشِّفا ... لداءٍ عَليلٍ في الديار غريب
أمولاي دائي في الذُّنوب وليس لي ... سواك طبيبٌ يا أجلّ طبيب
تناومتُ في إظلام ليلِ شبيبتي ... فأيقظني إشراق صبحِ مشيبي
وجئتك لمّا ضاق ذَرْعي بزلّتي ... وأشفقت من جُرْمي مَجيء سليب
وما أرتجي إلا شفاعتك التي ... بها يبلُغ الراجي ثواب مُثيب
فقال: لك البشرى ظفرت من المنى ... بأسعد حظّ وافرٍ ونصيب
فدامت مسرّاتي وزادَت بشائري ... وطاب حُضوري عنده ومَغيبي
أنا اليوم جارٌ للنبيّ بطيبةٍ ... فلا طِيبَ في الدنيا يقاس بطيبي
ومن شعره أيضاً:
حللتُ بدارٍ حلّها أشرفُ الخلقِ ... محمدٌ المحمودُ بالخَلْق والخُلْق
وخلّفتُ خلفي كل شيء يعوقُني ... عن القصد إلا ما لديّ مَنْ العشق
وما بيْ نُهوضٌ غيرَ أنيَ طائر ... بشوقي وحسنُ العَوْن من واهب الرزق
محمد يا أوفى النبيين ذمّةً ... ظمئتُ وقدْ وافيتُ بابك أستسقي
تعاظَمَ إجرامي وجلّت خطيئتي ... وأشفقتُ من فِعلي القبيح من نُطقي
وأنت شفيعٌ في الذنوب مشفَّعٌ ... فخذ لي أماناً في القيامة بالعتق
صلاةٌ وتسليمٌ عليك ورحمةٌ ... على الآل والصَّحْب الكرام أولي الصدق
وجدت ما هو منسوب إليه من تثمين الأبيات المشهورة:
للعاشقين انكسارُ ... وذلّة وافتقارُ
وللمِلاح افتخارُ ... وعزّةٌ واقتدارُ
وأهل بَدري أشاروا ... وودّعوني وساروا
يا بدرُ أهلُك جاروا ... وعَلّموك التجرّي
كتبت والوجدُ يُملي ... جدَّ الهوى بعد هَزْلي
وحار ذهني وعقلي ... ما بين بدر وأهل
يا بدرُ فاحْكُمْ بعَدْل ... إذا أتَوك بعَذْلي
وحرّموا لك وَصْلي ... وحَلّلوا لك هَجري
لولا هواك المرادُ ... ما كنتُ ممّنْ يُصاد
ولا شَجاني البِعادُ ... يا بدر أهلك جاروا
غلطتُ جاروا وزادوا ... لكنهم بك سادوا
دع يفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهل بدر
وقد سبقه إلى مثل ذلك أبو عبد الله محمد بن جابر، فقال:
لم يبقَ فيّ اصطبارُ ... مذ خلّفوني وساروا
وللحبيب أشاروا ... جارَ الكرامُ فجاروا
لله ذاك الأُوارُ ... بانوا فما الدارُ دارُ
يا بدرُ أهلك جاروا ... وعلموك التجرّي
كانوا من الودّ أهلي ... ما عاملوني بعذلي
أَصْموا فؤادي بنبل ... يا بين بيّنت نكلي
يا روح قلبيَ قل لي ... أهُمْ دعوك لقتلي
وحرّموا لك وصلي ... وحللوا لك هجري
حسبي وماذا عناد ... هُمُ المنى والمراد
وإن عن الحق حادوا ... أو جاملوني وجادوا
يا من به الكلُّ سادوا ... والكلُّ عندي سداد
فليفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهلُ بدر
قلت: الأول أحسن وأكثر مناسبة بالأصل.
قلت: وأقام في المدينة الشريفة ينظم كل يوم قصيدة، ويؤم الضريح الشريف ووصيده، فيفوز بالصلات العتيدة، والهبات التي رياح هباتها مديدة، فواصل لله له الرضى من عاشق، وجعل تربته رَوْضاً لناظر ومِسكاً لناشق.
ولم يزل على حاله إلى أن دنا من قبره فتدلّى، وأعرض عن الحياة وولّى.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
إيوان

الأمير سيف الدين الناصري، أخو الأمير الدين بُشتاك.
لمّا أُمسكَ أخوه وقُتل أُخرج هو إلى حلب فأقام بها أميراً إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر صفر في طاعون حلب سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
أيوب ابن أبي بكر بن إبراهيم بن هبة الله بن إبراهيم بن طارق بن سالم، الإمام بهاء الدين أبو صابر بن النحاس الأسدي الحلبي الحنفي، مدرس القليجيّة، وشيخ الحديث بها.
قد سمع من مُكَرَّم، والموفّق يعيش، وابن رواحة، وابن خليل، وجماعة بحلب، وقال إنه سمع الصحيح من ابن رُوْزبة، وسمع ببغداد من الكاشْغَري.
لم يزل بمدرسته في الإفادة، وألِف هو هذه العادة، ورآها كما يرى المحبُّ محبوبته الغادَه، إلى أن نَحا النحاس حَيْنَه وتولع به بينه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة سبع عشرة وست مئة.
أيوب بن سليمان بن مظفر الشيخ المقرئُ المعمّر نجم الدين، مؤذن النجيبي.
كبير المؤذنين، كان يخرج بالسَّواد أمام خطباء الجامع الأموي بدمشق، كان صوتُه عالياً، إلاّ أنه في الطرب غالياً، وله أخلاق مرتاضة وحركاتٌ تُداوي من الصاحب أمراضَه، وله عدة أولاد يَجمع شَملهم ويلتزم حَملَهم.
ولم يزل على حاله إلا أن تعيّن النجيب على النجيبي ووجَبْ، وقضى الناس من أمره العَجَبْ.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة، وعاش تسعاً وثمانين سنة.
أيّوب: بن أحمد بن النجم، المعروف بنجم الحطّيني، يأتي ذكره في حرف النون مكانه.
أيوب بن نعمة ابن محمد بن نعمة بن أحمد بن جعفر، المُعمَّر المسند زين الدين النابلسي المَقْدِسي الكحّال.
اشتغل على طاهر الكَحّال، وبَرَع في الصنعة وتميّز وتكسب بها.
سمع من المُرْسي، والرشيد العراقي، وعثمان بن خطيب القرافة، وعبد الله بن الخُشوعي، وجماعة، وروى الكثير.
وسمع منه الكبير والصغير. وتفرّد في مصر والشام بما رواه، وساد بما عنده مما ضمّه من الرواية وحواه، وانجفل إلى مصر وأقام بها اثنتين وعشرين سنة يعالج الناس بالكحل ويخصّب أنوار العيون بعد المحل، ثم إنه رجع إلى دمشق وعجز وشاخ، وطفئ جَمْر شبابه وباخ.
ولم يزل على حاله إلى أن أغمض الكَحّال عَينَه فما فُتحت، وقيّد العُدْمُ حواسّه فما سَرحت.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة أربعين وست مئة. وخُرّجت له مشيخة، وأجاز لي بخطّه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
أيوب الملك الصالح ابن الكامل بن الموحَّد بن المعظَّم توران شاه بن الصالح بن الكامل بن العادل صاحب حصن كيفا.
وصل إلى دمشق في شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة قاصداً الحج، وتوجّه إلى خدمة السلطان الملك الناصر، وحجّ وعاد مسرعاً خوفاً على بلده، وجاء الخبر في ذي القعدة أنه حالَ وصوله إلى الحصن تلقّاه أخوه وهيّأ له مَنْ قتله وقَتَل ولده، واستقل أخوه بمُلك حصن كيفا.
أيّوب السعُودي الشيخ المبارك بزاوية الشيخ أبي السعود بباب القنطرة بالقاهرة.
كان يذكر أنه رأى الشيخ أبا السعود، وأنه سَلك ورآه في طريق الصعود. وضَعُف في آخر عمره، وذاق من العجز والكبر وبالَ أمرِه، فكان يُحمَلُ لحضور الجماعة، ويجد لذلك ألَماً أودعه صُحُفَه وما أضاعه.
ولم يزل على حاله إلى أن استوفى أجلَه، وظن أن الموت جاء على عَجَلة.
وتوفي رحمه الله تعالى في أول صفر سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ودفن بالقرافة في زاوية الشيخ أبي السعود. وقال جماعة: إنهم ما رأوا مِثلَ جنازته، وكان قد قارب المئة.
حرف الباءاللقبُ والنسبُ
باشقَرْد بباء موحّدة، وبعد الألف شين معجمة وقاف مفتوحة وراءٌ ساكنة ودال مهملة: الأمير ناصر الدين بن عبد الله الناصري.
سُجِن بالديار المصرية عقيب كسرة حمص، وبقي في الاعتقال إلى أن أُفرج عنه، وحضر إلى دمشق فبقي بها نحواً من عشرة أيام.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد ثالث عشر صفر سنة اثنتين وسبع مئة.
قرأ عليه الشيخ علم الدين البْرزَالي مجلس البطاقة بسماعه من عبد الله بن علاّق، عن البوصيري.

وكان من أكابر الأمراء وأفاضل النبلاء، عقله غزير، وفَضْله مُثْلُ أدبه كبير، له حُرمَة زائده، ووجاهة لم تكن عن القبول حائلة ولا حائده، وله نظم يَرُوق، وقريض يعلو إلى الأثير إن لم يصل إلى العَيُّوق.
أخبرني شيخنا نجم الدين الصفدي عمن أخبره عنه أنه قال: بقيت عشرين سنة لا أتلفظ باللغة التركية حرصاً مني على إتقان العربية.
البابي محمد بن عمر البابري سيف الدين أبو بكر البابصيري عبد العزيز بن أبي القاسم ابن باتكين مُحيي الدين أحمد بن نصر الله.
البانياسي الكاتب تقي الدين أبو بكر بن محمد.
الباردي صدر الدين سليمان بن عبد الحليم.
الباجريقي جمال الدين عبد الرحيم بن عبد المولى، وولده الشيخ محمد.
البارنباري تاج الدين محمد بن محمد، وجمال الدين عبد المحسن بن حسن.
البارشاه الحنفيّ ركن الدين عبيد الله. ابن البارزي فخر الدين عثمان بن محمد. والبارزي محمد بن عبد الرحيم، وقاضي القُضاة شرف الدين هبة الله بن عبد لرحيم، وقاضي القضاة نجم الدين عبد الرحيم.
الباجي الشيخ علاء الدين الأصولي علي بن محمد.
البالي علي بن محمد. البالسي محمد بن عثيل، ومحمد بن علي.
الباذراي محمد بن محمد بن حيدرة.
بُتْخاص بضم الباء الموحّدة، وسكون التاء ثالثة الحروف، وبعدها خاء معجمة وألف وصاد مهملة: الأمير سيف الدين.
كان بدمشق من جملة أمرائها، ثم حضر إلى صفد نائباً بعد الأمير سيف الدين كراي المنصور، وأقام بها ست سنين، وعزل وتوجّه إلى مصر، وهو من جُملة الأمراء البُرجية.
ولما كان بصفد أظهر المهابة، ومزّق من المؤذي إهابه، وتنوّع في إتلاف النفوس، وفَصْل الأجساد عن الرؤوس، ومهّد جبلَ عامِلَه، وروّى سيفه منهم وعامِله، أمسك سابق شَيْحَيْن وأذاقه الحَيْن في الحِيْن، وسمّر أولاده تحت القلعة على الخشب، وأراهم أباهم وقد طار من المنجنيق في الهواء وانقلب، ووسَّط جماعةً كثيرة وشَنَق، وخنق آخرين من غيظه والحَنَق، وسمّر جماعة إلى الجِمال وطاف بهم البلد، وأنزل بهم أنواعاً من النكال والنكد، قد تقمّص القساوة والتجبُّر، وزاد في التعاظم والتكبّر.
ولم يزل بمصر مقيماً من جملة الأمراء إلى أن حضر الملك الناصر من الكرك فعَزم على إمساكه، وكان في القلعة ساكناً في برجٍ من أبراجها، فلما أحسّ بذلك عَصى في داره، وأغلق الأبواب، ورمى الناس بالنشّاب من أعلى داره من شبّاك، وكان ذلك بعد مغيب الشمس، فرسم السلطان بإحراق داره، وأن يُرمى فيها قوارير النفط.
أخبرني من لفظه الأمير شرف الدين أمير حسن بن جندر قال: جئت إليه ووقفتُ تحت الشباك وناديته: يا بُتْخَاص، أنا فلان، والك، أيش هذا الذي تعمل؟ تعال بلا فُشار، وانزل كلّم أستاذك، فإنه يطلبك ليتحدّث معك في أمرٍ يريده، ترمي بالنشاب! تعال انزل، ونفرتُ في مماليكه، ونفرت في الذين جاؤوا إليه من عند السلطان. قال: فانفعل لِما قلته، ونزل، فأخذناه وأتينا به السلطان، فأمر باعتقاله، وكان ذلك آخر العهد به، وذلك سنة عشر أو سنة إحدى عشرة وسبع مئة - فيما أظن - فباد وما أغنى عنه تجبُّره، ولا دافع عنه تكبُّره.
وجاءت الأخبار أنه توفي في حَبْس الكرك وهو وأسندَمر نائب طرابلس في القعدة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ولم يَبْلغنا عن أحد من غيره من المراء الذين أمسكهم السلطان الملك الناصر من بعد الكرك وإلى أن مات أنه مانَعَ عن نفسه أو دافع.
بُتْخاص الأمير سيف الدين العادلي مملوك السلطان الملك العادل كتبغا، قتله حسام الدين لاجين، وقتل خوشداشه الأمير بدر الدين بكتوت الأزرق في يوم الاثنين ثامن عُشري المحرّم سنة ست وتسعين وست مئة، على ما سيأتي في ترجمة بكتوت.
البجدي: محمد بن أحمد.
ابن بحيح الحنبلي: زين الدين عمر بن سعد الله.
ابن البخاري: محمد بن علي، وشمس الدين محمود بن أبي بكر الحنفي.
ابن التخاص: ناصر الدين محمد بن عمر.
بدر الأمير بدر الدين أبو المحاسن الطَّواشي الحبشي الصوابي، وهو منسوب إلى الطواشي صواب العادلي.

كان إقطاعه مئة فارس، حج بالناس غير مرة، وأقام أميراً مقدّماً أكثر من عشرين سنة، وقرأ عليه الشيخ شمس الدين الذهبي جزءاً سمعه من ابن عبد الدايم، وكان بالشجاعة موصوفاً، وبالفروسية معروفاً، قد مارس الحروب، وعرف الفَرَّ والكَرَّ على الكروب، يطرق ويتعقل، ويدور على مَظانّ الصواب بفكره ويتنقّل، مع التثبت والرزانة، وملازمة الخير والديانة، ومواصلة البِرّ، وإسداء المعروف في الجَهْر والسر، يَعِمّ غلمانه وأصحابه بنواله، ويغنيهم بجوده عن سؤاله.
ولم يزل على حاله إلى أن انمحق بدره وانطبق عليه قبره.
وكانت وفاته فجأة بقرية الخيارة ظاهر دمشق، ونقل ودفن بتربته التي بناها بلحف الجبل شمالي الناصرية، وذلك سنة ثمان وتسعين وست مئة في جمادى الأولى، وقد نيّف على الثمانين.
اللقب والنسَبُ
البَدري نائب صفد وحمص وغيرهما، الأمير سيف الدين بلبان، وأولاده: الأمير سيف الدين محمد الحاجب، والأمير علاء الدين عليّ.
البدري نائب حلب، الأمير سيف الدين بيدَمُر. بُرَاق الشيخ الفقيه كبير الطائفة المنسوبين إليه. وَرَدَ إلى دمشق سنة خمس وسبع مئة، وقيل: سنة ست في جمادى الأولى في زمن الأفْرَم، ومعه جماعة كبيرة من أتباعه بعُدّة وافرة، كانوا مئة، وكان من جملة مريدي شيخٍ كان في بلاد الروم، ولما ورَد خرج القاضي قطب الدين ناظر الجيش إلى القابون وعَرضهم واستمساهم وحَلاّهم وعَدّهم، وجُهّزت بذلك ورَقة طيّ المطالعة إلى أبواب السلطان، وكان شعاره حَلْق الذقن كلها، وتَرْكُ الشارب فقط، وحَمْل الجوكان على الكتف، ولكل منعم قَرناً لُبّادٍ يُشبهان قَرنَي الجاموس، وهو مقلَّد بحبل كعاب بقر قد صبغت بالحنّاء، وعليهم الأجراس، وكلّ منهم مكسور التثنيّة العليا، إلا أنه كان يلازم العبادة والصلاة، وكان معه محتسبٌ يؤدّب أصحابه، كل من ترك منهم سُنةً من السنن ضربه عشرين عَصا تحت رجليه، ومعه طبلخاناه، وقيل له: يا شيخ لأي شيء ظهرت بهذا الشعار؟ قال: أردت أن أكون مسخَرةً للفقراء.
وأول ما ظهر بتلك البلاد ذُكر للقان غازان، فأحضره وسلّط عليه سَبُعاً ضارياً، فركب على ظهره، ولم ينل منه شيئاً، فأعظَمَ ذلك غازان، ونَثَر عليه عشرة آلاف دينار رائج، فلم يتعرض لشيء منها.
ولما أراد الدخول على الأفرم إلى الميدان أرسلوا عليه نعامة كان قد عَظُمَ أمرُها وتفاقم شرُّها، فلا يكاد أحدٌ يقاومها، فلمّا عرضوه لها قصدته، فتوجه إليها وركب عليها فطارت به في الميدان تقدير خمسين ذراعاً، إلى أن قرُبَ من الأفرم، فقال له: أطير لها إلى فوق شيء آخر؟ فقال: لا. ثم إن الأفرم أحسن تلقّيه وأكرمَ نُزُله، وطلب التوجُه إلى القدس، فرتّب له رواتب في الطرقات، فما قبلها، وأعطاه الأفرم من خزانته ألفي درهم، فما قبضها، وأخذها جماعته، وزار القدس، وأظنّه طلب الدخول إلى مصر فما مُكِّن، وعاد ودخل البلاد وتوجّه صحبة قطليجا نائب غازان إلى جبال كيلان لمّا حاربهم غازان بسبب ما طلبه منهم من فتح الطريق إلى بلاده وقالوا له: لا سبيل إليه لأنه يضرّنا، فأمسكوه وقالوا: أنت تقول إنك مسلمٌ وشيخ من الفقراء، وتحضر مع هؤلاء أعداء الدين، وسَلَقوه في دَسْت، وألقوه بعد ذلك في طَسْت، وذلك في سنة سبع وسبعُ مئة.
وكانوا أشكالاً غريبة، ولهم أحوال عجيبة. تفِرّ العقولُ إذا أقبلوا، وتتعجب منهم إذا نقَّروا وطبّلوا. تتحرك عليهم تلك الكعاب، ويهول مرآهُمُ العجوز والكَعَاب، قرونٌ من اللبّاد معقّفَه، وشوارب فوق شفاههم موقّفه، وعلى أكتافهم تلك الجواكين، وهيأتهم كما يقال: ما تنقطع بالسكاكين، إذا خطروا صوّتت تلك الأجراس وجعلوا ربوع العقول في عداد الأدراس، قصَّهمُ الناس في الخيال ورقّصوهم، وبخسوهم ما قصدوا به ونقصوهم، واشتغل الناس بهم زماناً بعد ذهابهم، ونظموا فيهم أشعاراً لم تكن داخلة في حسابهم.
أنشدني من لفظه الشيخ يحيى الخبّاز الحموي قال: أنشدني من لفظه لنفسه سراج الدين المحّار:
جَتْنَا عجم من جُوّا الروم ... صُوَر تحير فيها الأفكار
لهم قرون مثل الثيران ... إبليس يصيح منهم زنهار
كل واحد لُو شارب ... طويل ودقنو محلوقهْ

كِنُّو على فمه غرّه ... بلا خياطة ملزوقهْ
أقوام خوارج غيريّه ... مثل البهائم مَرْزوقهْ
شيء ما نظرناه في الدنيا ... ولا سمعناه في الأخبار
ما أنزل الله بو من سلطان ... ولا رضي عنُّو المختار
الشيخ براقَ الّي اغواهم ... واختار لهم هذا الحُلاّس
أكسى المريد منهم قرنين ... وأعطاه قلاده من أجراس
وأمّا الكعاب المصبوغة ... قال هي سُبَح هذي الأجناس
وأيا مكان حَلّوا فيه ... يسبّحوا تسبيح الغار
وإن زَفَروا تَسْمع أصوات ... مقارع أهل النار في النار
أعزّ من تبصر فيهم ... قبض الدكاكين في الأسواق
خَذْ من صغرهم عوّدهم ... لحس الزبادي والأمراق
ما يعرفوا آداب الناس ... ولا إيش يكون حُسن الأخلاق
ومحتسبهم قال لي إنسان ... كان يربّيه واحد خمّار
تعِبْ عليه حتى انُّوجا ... مثلو محارف قُودِ بشْلار
جازوا القرم وراموا فيها ... غارة في سوق الجزارينْ
على اللوايا المعلوفه ... وأكثرها مع ذا السلاّخينْ
وراح يجردهم ماعُو ... دائم في سوق الطباخين
ويطلب البنجك منهم ... المخبوز الخاص والخُشكار
وهو يدور بين البلدان ... دائم ويعمل ذا البيكار
يا شيخ براق والله إنك ... قد جيت في الدنيا بدعهْ
وما رأيناك في جامع ... صَلّيت سوا إن كان جمعهْ
وكان مرادك أن تُشهر ... لك في بلاد الشام سُمْعَهْ
وجئت إليهم في حاله ... ظهر عليك فيها إنكار
وما رأينا من قبلك ... فقير بسبعين جوكندار
يا من لا يتحقّق شكلو ... أقِف تقل لك كيف وصفُو
إنسان قرونو فوق راسو ... وجوكانو من فوق كتفُو
وسيف خشب مغمود ماعو ... والطبلخانه من خلفو
يُصَنّجُو بالصّينيّة ... والطبل مُكَّه والمزمار
شيء تضحك الناس من فعلو ... وقط ما يُرضي الحُضّار
يا شيخ براق إن كان تعمل ... شغل الفقيري من حَقّا
تقوّ من زاد التقوى ... واركب طريق أهل الخرقا
ولا تغرّك ذي الدنيا ... والآخرة خير لك وأبقى
ونْ كان في عزمك تبقى ... حليق وما تخشى من عار
الواجب إنك تتبّع ... طريق حميد المَحّار
إِنت الغريب جيت في فنك ... وَنَا الوحيد جيت في فني
نظمت أحسن ما يُنقَل ... عنك وما يُرْوى عني
قطعة ما يسمعها إنسان ... إلا ويطلبها منّي
تبقى على مرّ الأزمان ... تدور على روس الأدوار
وكنيتي ما احلا ماجت ... مخفيّة بين هذي الأسطار
قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان من قرية من قرى دوقات، وكان أبوه صاحب إمرة وولاية، وكان عمّه كاتباً مجيداً معروفاً، وسافر هو - يعني بُرَاق - وخدم الشيخ شريق القرمي وتتلمذ له، وهو الذي سمّاه بهذا الاسم فإنه أكل من قَيْئه فقال له: أنت برقي، وهي بالقبجاقية: " كَلْبٌ " . قال: وممّا يثنى به عليه أنه هو وجماعته يلازمون الصلاة، ومَنْ فاتته صلاة في وقتها ضُرب أربعين سوطاً، ولهم ذكر بين العِشائَيْن، وكَرَمُهُ زائد.
بُراق الأمير سيف الدين أمير آخور الإسطبل بدمشق المحروسة.
أصله من مماليك الأفْرَم - فيما أظن - وولي هذه الوظيفة بعد شهاب الدين الصوابي لمّا مات في سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وأقام فيها إلى أن مرض بعلة الاستسقاء.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة ثامن عشري شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين.

وكان جيّداً خيّراً يتغالى في محبّة الشيخ تقي الدين بن تيميّة وأصحابه، ويحفظ كثيراً من الأحاديث. وكان كثيرَ الشفقة على خيل البريد إلى الغاية، لا يسمح بخروج الفرس من عنده إلاّ بَعْد شدة شديدة ومدة مديدة. ولمّا وَرَد السلطان الملك الصالح صّالح إلى دمشق في سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة رسم له بعشرة، وكان من جملة أمراء العشرات بدمشق، وهو الذي وقف المحيّا في جامع الأمير سيف الدين تنكز بدمشق، ووقف عليه حوانيت بحمص.
البِرزالي: الشيخ علم الدين القاسم بن محمد بن يوسف، وبهاء الدين محمد بن يوسف بن محمد.
بَرَسْبُغا الأمير سيف الدين الحاجب الناصري.
ولاّه أستاذه الملك الناصر الحجوبيّة، فكان دون الأمير بدر الدين أمير مسعود، بن الخطير، ثم إنه بعد قليل عظم عند السلطان، وكان يجهّزه كاشفاً. ثم إنه لمّا أُمسك النشّو ناظر الخاص وأقاربُه وجماعته سلّمهم إليه، فعاقبهم وصادَرَهم، ولم يكن له غرض في إتلافهم، ولكن أمسكه يوماً الأمير سيف الدين بُشْتاك وتوعّده على عدم إتلافهم، فهلكوا عنده في العُقوبة. ثم إنه حضر مع الأمير بُشتاك إلى دمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين تنكز، وسُلّم إليه أهلُ البلد المصادرون وجماعة تنكز، فعاقبهم واستخرج الأموال منهم، وكان مقيماً بالنجيبيّة على الميدان، وكان يعاقب الناس في النهار والليل، ولم يكن في نفسه ظالماً ولا شريراً، لأنني أنا كتبتُ عنه إلى الأمير سيف الدين قوصون عدة مطالعات وهو يقول فيها: يا خوند أدركْ أهل دمشق، وادخُل فيهم الجنة، فإنني بَسَطتُ عليهم العقاب، وأخذت جميع ما يملكونه، ولم يبق معهم شيء، وهؤلاء ما هم مثل أهل مصر بل هم أناس محتشمون ما يحملون إهانة، ويكتب إلى السلطان أيضاً ببعض ذلك.
ولمّا حضر أولاً من مصر حضر معه مقدّم يَضرب بالمقارع، فلما رآه بعد يومين وهو نَحس في حق المصادرين نفاه، وقال: متى بِتَّ في دمشق قتلتك.
ولم يَزَل يتلطَّف إلى أن رُسم بالعَود إلى مصر، وكان قد أقام بعد بشتاك مُدَيْدة، فتوجّه، ولم يزل على ذلك والسلطان يسلّم إليه المصادَرين. وهو الذي ضرب الصاحب أمين الدين إلى أن مات.
ومات السلطان وتولّى ولده الملك المنصور أبو بكر، فانتحس عنده وعند قوصون، وأريد إخراجه إلى الشام، ثم إنه تدارك أمرَه عند قوصون فرضي عليه. ولما ملك الأشرف كجك بعد المنصور وجاء الفخري إلى دمشق أُخرج بَرَسْبُغا في جماعة من العسكر المصري إلى غزة فَوَصل إليها، وأقام بغزة مدة إلى أن وصل إليه الأمير علاء الدين ألطنبغا مهزوماً، فتوجه معه، فلمّا قاربوا مصر أُمسك الأمير سيف الدين قوصون وجُهّز إليهم من أمسكهم، فهرب بَرسْبُغا إلى جهة الصعيد فجُهز وراءه من أمسكه، وأحضره ولمّا وصل إلى القاهرة جُهّز إلى الإسكندرية واعتُقل بها، وبقي هناك إلى أن حضر الناصر أحمد من الكرك، وجاء الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، والأمير سيف الدين طشتمر حمّص آخضر، فجُهز الأمير شهاب الدين أحمد بن صبح إلى الإسكندرية، فتولى قَتْلَ ألطنبغا وقوصون وبُرُسبغا، وذلك في شوال سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
وكان بَرسبغا - كما تقدم - ليّنَ الجانب سليم الباطن، يُرى وهو للظلم مجانب، تغلبه الرقة والرحمة، وتستولي عليه الشفقة على من تنزل به النقمة، إلاّ أنه كان يلجأ إلى التظاهر بالشر،. والوثوب على أهل الأموال بالكر دون الفَرّ، وما أفاده خَيْر الباطن شيئاً مع شر الظاهر، ولا أعاده الدخول في الظلم لا إلى نجاسة الهلاك دون ما للنجاة من الطاهر. وقابل شخص المنيّة واعتنق، وخانه الزمان فأودعه السجن إلى أن اختنق.
بُرْناق الأمير سيف الدين المحمدي.
كان قد ورد إلى دمشق، ولمّا أُمسك الأمير سيف الدين جَرَكتمر المارداني في دمشق عند قدومه من الحجاز في سنة اثنتين وستين وسبع مئة جَهّز الأمير سيف الدين بُرناق معه إلى مصر، ولما عاد من ذلك رُسم له بنيابة قلعة دمشق، فلبس تشريفه بدار السعادة وتوجه إلى القلعة، وذلك في يوم الاثنين سادس عشري صفر سنة اثنتين وستين وسبع مئة، فأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في عشية الأربعاء حادي عشر شعبان سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
الألقاب والأنسابابن برق: والي دمشق شهاب الدين أحمد بن أبي بكر، والده أبو بكر بن أحمد.

ابن البُرْطاسي: شرف الدين عيسى بن عمر.
البرلّسي: برهان الدين إبراهيم بن أحمد ناظر بيت المال.
ابن البرهان: الطبيب محمد بن إبراهيم.
البَرَواني: الأمير علم الدين سنجر، وابنه بهاء الدين محمد بن القاسم.
البزاغي: التاجر الشاعر أحمد بن خليل.
بُزْلار بضم الميم الموحّدة وبعدها زاي ساكنة ولام وألف وراء: الأمير سيف الدين أمير سلاح الناصري أحد أمراء المئات ومُقَدّمي الألوف بالقاهرة.
كان قد وَرَدَ إلى دمشق في البريد نهار الجمعة عاشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة ليُحلِّف الأمير سيف الدين أيْتِمش نائب دمشق والعساكر بها للسلطان الملك الصالح صالح ابن السلطان الملك الناصر محمد، ونول بالقصر الأبلق، وحلّف الناس، واحتفلوا بأمره، وقدّموا له أشياء مليحة، كل أحدٍ من المراء والمتعممين، وعاد ومعه شيء كثير من الخيل والقِماش وغير ذلك.
ولم يزل بمصر على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وورد خبره إلى دمشق في أوائل ذي القعدة سنة ستّ وخمسين وسبع مئة.
وهو الذي ساعد الأمير سيف الدين طاز على إمساك بيبغاروس في سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة لمّا كانوا في طريق الحجاز، وكان يُحدّث نَفْسَه بنيابة دمشق، فسبقه الأجل وأخذه على عَجَل.
بَزُوجبي بالباء الموحدة والزاي المفتوحة والواو الساكنة والجيم والياء: الأمير سيف الدين أحد أمراء العشرات بدمشق.
كان قد تقدّم في أيام قوصون وأعطاه طبلخاناه، فلمّا زالت دولة قوصون أُخرج إلى دمشق بطّالاً، ورُتّب له على سوق الغنم، في كل عشرون درهماً، وأقام إلى أن حَضَر الملك الصالح صالح إلى دمشق فأعطي عشرة، فأقام عليها إلى أن توفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان سنة ست وخمسين وسبع مئة بدمشق، وتوفي ابنه بعده بجمعة واحدة.
بَشْتَاك بفتح الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وتاء ثالثة الحروف وبعدها ألف وكاف: الأمير سيف الدين الناصري.
قرّبه السلطان وأدناه وأعلى محلّه، وكان يسمّيه بعد موت بكتمر الساقي بالأمير في غيبته، وكان زائد التيه والصلف، لا يُكلّم أستاذ داره وكاتبه إلا بترجمان. وكانَ يَعرف بالعربي ولا يتكلّم به، وكان إقطاعه سبع عشرة طبلخاناه، اكبر من إقطاع قوصون، وما يعلم قوصون بذلك.
ولما مات الأمير سيف الدين بكتمر الساقي ورثه في جميع أحواله، في داره وإصطبله الذي على بركة الفيل، وفي امرأته أم أمير أحمد، واشترى جاريته خُوبي بستة آلاف دينار، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى، واخذ ابن بكتمر عنده. وكانت الشرقية تُحمى له بعد بكتمر الساقي.
وزاد أمرُه وعظُمَ وثقل على السلطان، وأراد الفتك به فما تمكّن، توجّه إلى الحجاز، وأنفق في الأمراء وأهل الركب والفقراء والمجاورين بمكة والمدينة شيئاً كثيراً إلى الغابة، وأعطى من الألف دينار إلى الدينار على مراتب الناس وطبقاتهم. ولمّا عاد من الحجاز لم يَدْرِ به السلطان إلا وقد حضر إليه في نفر قليل من مماليكه، وقال: إنْ أردت إمساكي فها أنا قد جئت إليك برقبتي. فكَابَره السلطان وطيّب خاطرَهُ، ورُمي بأوابد ودواهي من أولاد الزنا، وكان السبب في تقدّمه أن قال السلطان يوماً لمجد الدين السلامي: يا مجد الدين، أريد أن تُحضر من البلاد مملوكاً يشبه بوسعيد - يعني ملك التتار - . فقال: هذا مملوكك بشتاك يشبهه، وكان ذلك سبباً لتقدمه.
وجرّده السلطان لإمساك الأمير سيف الدين تَنْكز، فحضر إلى دمشق بعد إمساكه هو وعشرة أمراء، ونزلوا القصر الأبلق، وفي خدمته الأمير سيف الدين أرقطاي وبَرسْبُغا وطاجار الدوادار وغيره. وحال نَزوله حلّف الأمراء كلهم للسلطان ولذريته، واستخرج ودائع تنكز وعرض حواصله ومماليكه وجواريه وخيله وكل ما يتعلق به، ووسّط طَغاي وجُنْغاي ملوكَيْ تنكز في سوق الخيل، ووسّط أوران أيضاً بحضوره يوم المواكب، وأقام بدمشق خمسة عشر يوماً أو حولها، وعاد إلى مصر، وبقي في نفسه من دمشق وما يجسر يفاتح في ذلك السلطان، فلمّا مرض السلطان وأشرف على الموت ألبس الأمير سيف الدين قوصون مماليكه، فدخل بشتاك وعرّف السلطان ذلك، فقال له: افعل أنت مثله، ثم إنه جمع بينهما وتصالحا قُدّامه، ونصّ السلطان على أنّ المُلك بعده لولده المنصور أبي بكر، فلم يوافق بشتاك، وقال: ما أريد إلاّ سيدي أحمد.

ولمّا مات السلطان وسُجّي، قام قوصون إلى الشُّبّاك، وطلب بشتاك، وقال: يا أمير تعالَ، أنا ما يجيء مني سلطان، لأني كنتُ أبيعُ الطسما والبُرغالي والكشاتوين. وأنت اشتريت مني، وأهل بلاد يعرفون ذلك مني، وأنتَ ما يجيء منك سُلطان لأنك كنت تبيع البوزا وأنا اشتريت منك، وأهل البلاد يعرفون ذلك منّا، ولا يكون سلطاناً من بيع الطسما والبُرغالي ولا مَن عُرف ببيع البوزا، وهذا أستاذنا هو الذي أوصى لمن هو أخبرُ به من أولاده، وهذا هو في ذمته وما يسعنا إلاّ امتثال أمره حيّاً وميتاً، وأنا فما أخالفك إن أردت أحمد أو غيره، ولو أردت تعمل كل يوم سلطاناً ما خالفتك. فقال بشتاك: كل هذا صحيح والأمر أمرك. وأحضر المصحف وحلفا عليه بعضاً لبعض، وتعانقا وتباوسا، ثم قاما إلى رِجلَيّ السلطان فقبلاهما ووضعا أبا بكر ابن السلطان على الكرسي، وباسا له الأرض، وحلفا له وسمّياه المنصور.
ثم إن بشتاك طلب من السلطان الملك المنصور نيابة دمشق، فرسم له بذلك وكتب تقليده، وبرّز إلى ظاهر القاهرة، وبقي هناك يومين ثلاثة، ثم إنه طلع إلى السلطان ليودّعه، فوثب عليه الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، وأمسك سيفه، وتكاثروا عليه فأمسكوه وجهّزوه إلى الإسكندرية واعتقلوه بها، ثم إنه قُتل في الحبس في أول سلطنة الأشرف كُجُك في شهر ربيع الآخر تقريباً سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى شاباً أبيض اللون ظريفاً، مديد القامة نحيفاً، خفيف اللحية كأنها عِذار، أوليقة عنبر دار بها البركار، على حركاته رشاقة، وفي سكناته لباقة، حَسَنَ العمّة يتعمّم الناسُ أنموذجها، وكأنهم يتناولون منها حلوى فالوذجها، إلا أنه - رحمه الله كان غيرَ عفيف الفرج، زائد الهرج والمرج، لم يعفّ عن مليحة ولا قبيحة، ولم يدعْ أحداً يفوته ولو كانت بفرد عينٍ صحيحة، يمسك حتى نساء الفلاّحين، ومن هي من زوجات الملاّحين، واشتهر بذلك ورُمي فيه بأوابد، وأثار الناس عليه من ذلك لبؤاتٍ لوابد.
وكان زائد البذخ، منهمكاً على ما يقتضيه عنفوان الشبيبة والشرخ، كثير الصلف والتيه، لا يُظهر الرحمة ولا الرأفة في تأتّيه.
ولمّا توجه بأولاد السلطان ليفرجهم في دمياط رأيته في كل يوم يذبح لسَماطه خمسين رأس غنم، وفرساً لا بد منه، خارجاً عن الإوز والدجاج. وأخبرني سيف الدين طغاي مملوك الأمير شرف الدين حسين بن جندر، وكان أمير مجلس عنده قال: لنا راتبٌ في كل يوم من الفحم برسم المشوي مبلغ عشرين درهماً خارجاً عن الطوارئ، وأطلق له السلطان في كل بقجة قماش من اللفافة إلى الخف إلى القميص واللباس والملوطة والبغلَطاق والقباء، والقباء الفوقاني بوجه إسكندري على سنجاب طري بطرز زركش رقيق وكلوتة وشاش، ولم يزل يأخذها إلى أن مات السلطان، وأطلق له في يوم واحد ثمن قرية " يبنى " بساحل الرملة مبلغ ألف درهم، وهو أول أمير أمسك بعد وفاة الملك الناصر، وما أغنى المسكين عنه مالُه، وأوبقته في السجن أعماله. وقلتُ أنا فيه:
قالَ الزمانُ وما سمِعنا قولَه ... والناسُ فيه رهائنُ الأشراك
من ينصر المنصور من كيدي وقد ... صاد الردى بشتاك لي بشباكِ
اللقبُ والنسب
البَطَرني المقرئ أحمد بن موسى. البَصْروي الأمير نجم الدين الوزير محمد بن عثمان، وأخوه فخر الدين المحتسب سليمان بن عثمان.
ابن البصّال محمد بن محمود. ابن البُصَيص موسى بن علي. ابن بُصاقة جمال الدين الحَيسوب عبد الكافي بن عثمان.
ابن بُصحان محمد بن أحمد. ابن البعلبكي فخر الدين عبد الرحمن بن محمد. ابن البُشْطَاري: عثمان بن محمد، ومحمد بن عثمان.
بُغَا الدوادار الناصري.

كان مع الأمير سيف الدين أُلْجاي دواداراً صغيراً، ولما مات أُلْجاي ظنّ بُغا أن السلطان ما يَعدِل عنه، لأنّ بُغا كان أقدم من ألجاي وأكبر في بيت السلطان، فولّى السلطان الدُّوادريّة صلاح الدين يوسُف بن أسعد الآتي ذكره إنْ شاء الله تعالى في حرف الياء مكانه، فيَئس بعد ذلك بُغا من هذه الوظيفة. ولما عَزَل السلطان صلاح الدين المذكور من الدواداريّة وأخرجه إلى صفد، استقل بُغا بالدوادارية، واتفق له في دواداريته قدّم قصّة إلى السلطان على لسان ابن الدجيجاتي التاجر، وكان النشو ناظر الخاص قد رَمَى عليه شيئاً من متجر الخاص، فلمّا علم النشو بذلك عمل له عند السلطان، وساعده غيره على ذلك ممن يكرهه، وكان على ذهن السلطان منه أنه فيه لعبٌ، فعزله السلطان وأخرجه إلى صفد، فأقام بها مدة يسيرة.
وتوفي بُغا، ولم ينل من الدنيا ما بَغى، وذلك في سنة سبع مئة فيما أظن.
وكان رحمه الله تعالى يغلب عليه الخير والرأفة، وعنده من الرحمة التي لا يميل معها على ضعيف ولا يستأصل شأفه، ساكناً قليل الكلام، لا يسمع في أحد ما يؤلمه من الملام، إلا أنه كان يميل إلى الشباب، ويروقه الثنايا العِذاب. وكانت به قرحة تلازمه، وتُشَدّ لها من الألم حيازمه، فربما انقطع لأجلها عن الخدمة، ووجَدَ الطاعنُ عليه مكان الصدمة، ويظهر أن الانقطاع لضعفه المعلوم من القرحة، ويخلو بأولئك الشباب على الشراب لاقتطاف ثمرات المسرّة والفرحة، فما أثّر ذلك خيراً عليه، وذاق ثمرة ما جناه وجلبه إليه، فسُلّ من تلك الوظيفة كالشعرة من العجين، وتمكن منه من كانوا بإخراجه لَهِجِين، ولم يكن له إمرة طبلخاناه، إنما كان أمير عشرة إلى أخر وقت.
بَغداد بنت النُّوين جوبان زوج بوسعيد.
كان بوسعيد يحبها ويميل إليها ميلاً عظيماً، وكان أبوها يفهم ذلك فلا يدعها تقرب الأردو، ولكن تكون غائبة مع زوجها الشيخ حسن هُنا وهنا، فما كان إلا أن قتل بوسعيد أخاها خواجا، وهرب أبوها جوبان، ثم قُتل، ودخَل أخوها تمرتاش إلى مصر وحصل لبوسعيد الذي كان يرومه من قربها، فأخذها من زوجها، وأخذها عنده، وصارت عنده في مكانة عليا، وأثرها على مملكة الدنيا، وكان لا يصبر عنها، ولا يَرى أن الشمس تدنو منها، لِما حازته من الحسن البارع، والجمال الذي لم يقرع السمعَ بمثله قارع، تثنّى ولا غصن بانةٍ وَريق، وتبسَّم ولا قلادة جوهر في سَفَط عقيق، وترنو بعين ما نُفثَ السحرُ إلا من جفونها المكحّلة، ولا فتكت القواضب إلاّ من فَترتها المفحّلة، وجهها يشبه البدر لولا كَلَفه، ورائيها يحيا بنظرها إلا أنه يؤدّيه إلى ما فيه تَلفَه.
أخبرنا الخواجا مجد الدين السَّلاّمي قال: لم يكن في الأردو لها نظير، وإذا خطت قلتَ: هذا غُضنٌ والقلوب عليه تطير، وكان لها في الممالك القانيّة الأحكام النافذة، والمراسيم التي إذا برزت كانت على الأرواح آتية، وبالأنفاس أخذة، ولها هي من النساء وزيرة أيضاً تحكم حكم الوزير، وتتحدث فيما تشاء من الجليل والحقير، وتركب بغداد في مَوكب حفل من الخواتين، وتشدّ في وسطها السيف، ولكل نُوَين إليها رحلة الشتاء والصيف. ونفذت أحكامها وجالت، ومضت أوامرها وصالت، وهرب منها علي باشا خال بوسعيد، ولم يقرب الأردو خوفاً منها، فهو بقرابته لذلك بعيد، ولم تزل على ما هي فيه من الحكم وخَدّ الأردو بها مورِّد قانٍ، والناس تحت أوامرها وكيف لا وهي تحكم على نفس القان، لا يأخذه فيها لومة لائم، ولا يَسمع فيها عَذْلاً ولو كان من أسجاع الحمائم، إلى أن مات القان بوسعيد، وتولى القان أربكوون المقدّم ذكره، فأغصّها بريق حُسامه، وجعل فمها بالدم وَردةً بعد ما كان كالأقحوان في ابتسامه، وذلك في سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
وكانت كثيرة التنقيب على أخبار أخيها تمرتاش.

أخبرني من لفظه الخواجا مجد الدين السَّلاّمي، قال: لما كنت بالأردو وعزمت على الحضور إلى خدمة السلطان، دخلت عليها أخدمها وأودّعها، فقالت: يا خواجا، سلّم على السلطان وقل له أنا ابنته وجاريته، وأشتهي لا يخباني عن حاجة، فأنت تصرّفي وأمري في الأردو والممالك، فلا يكن يطلب حاجةً من غيري، قال: فضربت لها جوكاً ودعوت لها، فقالت: يا خواجا؛ أريدك تطلب أخي من السلطان حتى أراه. قال: فضربت لها جوكا، وبهتُّ حَيْرةً لا أدري ما أقوله، ثم ألهمني الله أن قلت: والله يا خوندَكار ما أنا قدر هذا الكلام، هذا ما يتحدث فيه إلاّ قان كبير مثله، فقالت: صدقت إلا يا خواجا ما يجيء أحد من عندكم وأسأله عن أخي فيقول إنه رآه، فقلت: يا خوندكار، لما خرج أخوك إلى المسلمين قال له السلطان: أي البلاد تريد حتى أعطيك، فخاف أن يطلب دمشق أو حلب أو غيرهما من هذه البلاد التي هي قريبة إلى هذه البلاد فيتهمه أنه يريد العود، فطلب منه إسكندرية، وهي خلف مصر من ذلك جانب فالذي يروح من عندكم إلى مصر ما يعبر إلى إسكندرية ولا يصل إليها، فلهذا ما يراه، فهزّت رأسها، وقالت: يكون..
اللقب والنسبابن البَقَقي فتح الدين أحمد بن محمد. البِقْراطُ محمد بن عبد الرحمن. بُكَا الأمير سيف الدين الناصري المعروف ببُكا الخضري كان من جملة الأمراء بالديار المصرية، وكان ممّن حضر مع بشتاك إلى دمشق بعد إمساك تنكز وعاد معه، ولم يزل بالديار المصرية على حاله إلى أن خاض السيف في أحشائه وجعله دَلْوين، إلاّ أن كلاً منهما غَنِّي عن رشائه، لأنه نُسب إلى الميل مع الناصر أحمد والخروج مع رمضان على الملك الصالح إسماعيل، فوُسّط في سوق الخيل هو وثلاثة من مماليك السلطان، وعُلّقوا على باب زُوَيله ثلاثة أيام، ولك في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
بكّار ابن الشيخ عبد الرحمن بن أبي بكر بن الواني، سيف الدين البَريدي أخو الأمير علاء الدين بن الفَرّا، وسيأتي ذكر أخيه في حرف العين إن شاء الله تعالى.
توفي في رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة وعمره نحو الستين.
بكتاش الأمير بدر الدين نقيب النقباء بالديار المصريّة، أظنه تولاّها بعد الأمير صارم الدين صاروجا.
ولم يزل بدر الدين رجلاً جيداً محسناً إلى الناس.
توفي رحمه الله تعالى في آخر جمادى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
بكتاش الأمير يدر الدين المنكورسي أحد المنصورية.
كان من قدماء الأمراء، ولي نيابة بعلبك مرات، وفي آخر مرّة طلب الإقالة منها في سنة أربع وخمسين، ورسم لابنه بالتوجه في مقدمة الركب، فاحتاج أن يكون هو معه، فتوجه أمير الركب وعمل الأمرة على ما يجب من الرحمة وعلوّ الهمة.
ومتعه الله بحواسّه وعقله إلى أن توفي رحمه الله تعالى، في أوائل شعبان سنة سبع وخمسين وسبع مئة، عن مئة وسبع سنين، أخبرني بذلك ولده الأمير زين الدين عبد الرحمن.
وكان قد باشر شدّ الأوقاف بدمشق في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وعملها على القالب الجائز بجاه الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، وفي آخر أمَرْه اتّحد بالأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، ولما أمسك كان المنكورسي أيضاً في جُملة من أُمسك بسببه، وصودر، وأخذ منه مئتا ألف درهم، في غالب ظني، وكان يبالغ في اقتناء المصاحف العالية الغالية الأثمان وغيرها من الكتب، ونَزَل وهو في نيابة بعلبك أخيراً عن إقطاع الإمرة لولده.
بكتاش الأمير بدر الدين أمير سلاح الفَخْري.
كان من مماليك الأمير فخر الدين ابن الشيخ، وعاد من أكابر الأمراء الصالحية، يتردّد في الغزوات، ويجوب إليها الفلوات. وكان بالخير مشهوراً، وبالصدقات وهو أمير مأموراً، وافر الحُرمة في كل دولة، فارسَ الجوّ في كل جَوْلَه. لا يعارض مَنْ يُقدّمُهُ سعده، ولا يقارب من أخّره حظّه وبُعده. أقام أميراً دهراً طويلاً، ورأى من الإقبال حظاً جزيلاً.

ولما كان في سنة ست وسبع مئة طلب النزول عن الإمرة، ولزم داره إلى أن نزل به الأمر المحتوم، وأصبح وطينُ الأرض عليه مختوم، وذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة المذكورة. وكان رحمه الله تعالى لمّا قُتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين في سنة ثمان وتسعين وست مئة قد جُرّد إلى سيس هو وجماعة من أمراء مصر، ولمّا عادوا منها وقَربُوا من مصر أُخبر بما جرى من طُغْجي وكُرْجي في حقّ لاجين، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة لاجين في مكانه من حرف اللام. ولما عزم على الدخول إلى القاهرة طلب الأمراء الذين معه، ومَشَوا في خدمته، وركب طُغْجي لتلقيه، فلمّا رآه قال: كان لنا عادة من السلطان أنّا إذا قدمنا يتلقّانا، وما أعلمُ ما أوجب تأخيره، فقال طُغْجي: ما علم الأمير بما جرى، وأنّ السلطان قُتل؟ فقال: ومن قتله، فقال كرد الحاجب: قتله طغجي وكرجي، فأنكر عليهما، وقال: كلما قام للمسلمين سلطان تقتلونه؟ تقدّم عني لا تلتصق إليّ، وساق أمير سلاح، وتركه، فتيقّن طُغْجي أنه مقتول، فأراد الهروب، فانقضّ عليه بعض الأمراء وأمسكه بدبّوقته وضربه بالسيف، وتكاثروا عليه فقتلوه ومعه ثلاثة أخر، وركب كرجي في جماعة لنصرته فركب الجيش معه في خدمة أمير سلاح، وقتلوا كرجي والكَرموني، ودخل أمير سلاح وقعد والأمراء معه، ورتّبوا حضور السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك، وإعادته إلى السلطنة، وهذه المرة الثانية من حضُوره من الكرك.
بكتَمُر الأمير سيف الدين الأبو بَكري المنصوري.
كان من كبار الأمراء مقدَّمي الألوف، وممّن هو للشجاعة حليف، وللفروسية ألوف، له الوجاهة الكاملة، والنباهة التي لم تكن في ذكرها خامله، يُعظّمه وجوه الدولة والسلطان، وَصَيتُه قد ملأ الأوطان.
لم يزل في معارج سُعوده، ومراقي عُلُوّه وصعوده، إلى أن أصابته عين الكمال فهبط، وجَرّد الخطب له سيفُه واخترط، وذاك أن السلطان الملك الناصر محمد رسم بأن يتوجّه إلى صفد هو وأولاده وجماعته وحاشته، فقال: أريد أن أعرف ذنبي ما هو. فتأذّى السلطان منه، وأمسكه وحَبَسه في القلعة، وذلك في ثالث شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ولم يزل في الاعتقال إلى أن توفي بقلعة الجبل في الاعتقال في نصف شعبان سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وأُخرج ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.
بكتَمُر الأمير سيف الدين السلاح دار الظاهري المنصوري.
كان من أمراء المشاهير، وممّن تتشرف بألقابه التقاليد وتتجمّل المناشير، أحد مقَدّمي الألوف، ومن هو بالإقدام موصوف، وبالشجاعة معروف، خاف من السلطان حسام الدين لاجين، فنجا برأس طِمِرَّة ولجام، وسكر غَمّاً ولم يطفْ عليه للموت جام، وفرّ هو والأمير سيف الدين قَبْجق والأمير فارس الدين ألبكي ودخلوا إلى عند القان غازان، وجرى ما يأتي ذكره في ترجمة قبجق، وكان قد وصل من الديار المصرية إلى دمشق مجرداً في ثلاثة آلاف فارس هو مقدّمها في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وست مئة، وتوجه بالعسكر وأقام على حمص، وحضر إليه الأمير سيف الدين لاجين قبجق وبلغهم ما اعتمده الأمير سيف الدين منكوتمر نائب السلطان حسام الدين لاجين، فتحققوا أنه ما يبقي عليهم، فتوجّهوا إلى بلاد التتار في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة، وتألم الناس لذلك، ووصل الخبر إلى الشام بعد رحيلهم بقتل السلطان ومنكوتمر، وفي جمادى الأولى وصل الأمير سيف الدين بَلْغَاق وذكر أن قبجق وبكتمر وألبكي وصلوا إلى رأس العين، واحتاط عليهم جمع من التتار، وأنه قد يُئس من رجوعهم إلى بلاد الإسلام.
بكتَمُر الأمير سيف الدين الحاجب.
كان أولاً أمير آخور، ثم قَدِم دمشق وتولّى بها شد الدواوين في أيّام الأفرم، ولم يكن لأحد معه كلام في صَرف ولا في عزل. ثم وُلّي الحجوبيّة، وتوجّه إلى صفد كاشفاً على الأمير ناهض الدين عمر بن أبي الخير والي الولاة. ومُشد الدواوين بصفد، ونزل بالميدان، وكان معه القاضي معين الدين بن حشيش وحَرّر الكشف ودقّقه، حتى قال فيه القاضي زين الدين عُمَر بن حلاوات موقّع صفد:
يا قاصداً صَفَداً فًعُد عن بلدةٍ ... مِنْ جَوْر بكْتُمر الأمير خرابُ
لا شافعٌ تُغني شفاعته ولا ... جانٍ له ممّا جناه متابُ

حَشْرٌ ومِيْزان ونَشْرُ صحائفٍ ... وجرائدٌ معروضةٌ وحسابُ
وبها زبانية تحثّ على الوَرى ... وسلاسلٌ ومقامعٌ وعقاب
ما فاتهم من كل ما وعدوا به ... في الحشر إلا راحمٌ وهّابُ
قلتُ: وهذه أبيات لسبط التعاويذي معرفة في ديوانه وأولها:
يا قاصداً بغداد جز عن بلدةٍ ... للجور فيها زخرةٌ وعباب
وهي سبعة عشر بيتاً قالها في الوزير ابن البلدي، فأتى ابن حلاوات بالبيت الأول وليس للفاء في فعد محل.
وكان الأمير سيف الدين خبيراً بالأمور، بصيراً بحوادث الدهور، طويل الروح في الأحكام لا يمل من تطويلها، ولا يهابُ ما يأتي به الخصوم في تهويلها، لو قعد في الحكم الواحد بين اليهودي والأمير ثلاثة أيام، لم يلحقه سأمّ ولا يصدّه احتشام، مع معرفة تامة، وخبرة بالسياسة عامة، لم ير مثله في حقّ أصحابه، ولا أذكر منه لهم في حالتي بعده واقترابه، يفكر في مصالحهم وهم غُيب، ويتفقدهم أبداً، ومن جفاه عتب عليه وعيب، نفع بجاهه جماعةً كثيره، ووفّر عليهم أموالاً أثيره، إلا أنه كان مبخلاً، ساقط الهمة في ذلك وإن كان مبجلاً، له متاجر وأملاك، وسعادة لا تدور على مثلها الأفلاك، وله أموال كالبحر العجاج، أو التراب الذي تثير الريح منه العجاج، ومع ذلك فله قدور تكرى للحمص والفول، وغير ذلك من العدد والآلات التي يعتري الشمس منها أفول.
ولم يزل على حالهِ إلى أن ملأ التراب عينه، واقتضى الأجل منه دينه، وذلك في سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ولما قدم السلطان من الكرك إلى دمشق ولاه الحجوبية ودخل مصر وهو حاجبٌ، ثم أخرجه نائباً إلى غزة، فأقام بها قليلاً في سنة عشر وسبع مئة، ثم إنه طلبه إلى القاهرة وولاّه الوزارة بالديار المصرية عوضاً عن الصّاحب فخر الدين بن الخليلي في شهر رمضان سنة عشر وسبع مئة، ثم إنه قبض عليه في سنة خمس عشرة وسبع مئة مستهل شهر ربيع الأول لما قبض على أيدغدي شقير، وبقي في الاعتقال مدة سنة ونصف، وأخذ لهُ من ماله شيئاً كثيراً، ثم إنه أفرج عنه وجهزه نائباً إلى صفد في سنة ست عشرة وسبع مئة وأنعم عليه بمئة ألف درهم، فأقام بها عشرة أشهر، ثم طلبه إلى مصر وكان من جملة أمراء المشور، وإذا تكلم السلطان في المشور لا يرثد عليه غيره لما عنده من المعرفة والخبرة.
أخبرني الأمير شرف الدين حُسين قال: إذا جلسنا للمشور ما فينا أحد يعترض على السلطان ويرد عليه ويقول: جيد، أو ما هو جيدّ إلا بكتمر الحاجب. قلتُ له: فأنتم ما تقولون؟ قال: مهما قاله قلنا: هذا هو الرأي المبارك.
وكان قد تزوج ابنة الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، وعمرَ له بمصر داراً ظاهر باب النصر على القاهرة، وعمّر هناك مدرسة إلى جانبها، وفي آخر أمره سُرق له مال كثير من خزانته ادّعى في الظاهر أنه مبلغ مئتي ألف درهم، وكان في الباطن على ما قيل سبعُ مئة ألف أو أكثر، فما جسر يتفوّه خوفاً من السلطان، وكان الأمير سيف الدين قدودار والي القاهرة، فرسم السلطان له بتتبع هذه العملة، فيقال إن بكتمر الساقي والوزير مغلطاي الجمالي والقاضي فخر الدين ناظر الجيش عاملوا في الباطن عليه، فشرعوا يُحجفون عن المتهمين، فإذا قال السلطان للوالي: أيش عملت في عملة الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب؟ يقول القاضي فخر الدين: يا خوند لعن الله ساعة هذه العملة، كل يوم يموت الناس تحت المقارع، وإلى متى يُقتل المتهم الذي لا ذنب لهُ، ثم إنه في آخر الحال وقف الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب في دار العدل وشكا وتضور، فأحضر السلطان الوالي وسبهُ، وأظهر غضباً عظيماً، فقال: يا خوند، اللصوص الذين أمسكتهم وعاقبتهم أقرّوا أن سيف الدين بخشي خزنداره اتفق معهم على أخذ المال وجماعة من ألزمه الذين في بابه، فقال السلطان للجمالي الوزير: أحضر هؤلاء المذكورين، عاقبهم. فأحضرهم وعاقبهم وعصر هذا بخشي: وكان عزيزاًعنده قد زوجه ابنته وهو واثق بعقله ودينه وأمانته فقال بخشي: يا خوند أنا والله الذي تحت يدي لأستاذي ما يدري ما هو فما أخلي غيري يأخذ معي ما أردت أن أسرقه.
ولما بلغ الأمير سيف الدين بكتمر عصر بخشي وجماعته علم أن ماله قد راح، فحصل له غيظٌ وغم وغبن، فمات فجأة من الظهر إلى العصر.

وكان حريصاً على اقتناء الأملاك وإنشاء العمائر في كل مدينةٍ بالقاهرة والشام بحيث إنه له في كل مدينة ديوان له مباشرون. وقلتُ أنا أشير إلى كثرة أمواله:
وصاحب أشأم من قاشر ... من شؤمه يفتقر الصاحبُ
يذهب ما قد حازَ من عينه ... لو أنه بكتمُر الحاجبُ
بكتمر الأمير سيف الدين المنصوري أمير جاندار.
وكان أولاً جوكنداراً، ويدعوه السلطان الملك الناصر يا عمي، وكان من أولاده أكبرهم يُدعى ناصر الدين محمد، لم يكن في مصر من يلعب الكرة مثله، ويدعوه السلطان: أخي، وكان لا يفارقه.
وكان بكتمر في أيّام سلاّر والجاشنكير أحد أرباب الحلّ والعقد، ثم إنهما عملا عليه وأخرجاه إلى الصُبيبة نائباً، فوصل إليها في شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبع مئة، فأقامَ بها مُدةً.
ولما توفي سُنقر شاه نائب صفد رسم له بنيابة صفد في شعبان سنة سبع وسبع مئة، فحضر إليها ومعه ثماني مئة مملوك، فإذا ركبَ فيهم كانوا قريباً من عسكر صفد، فأقام بها قريباً من سنتين، ولما خرج السلطان من الكرك لاقاه الأمير سيف الدين بكتمر إلى دمشق، وتوجه معه إلى مصر، وأقرّه في النيابة بمصر. ولم يزل في النيابة إلى أن أمسكه واعتقله، فأخذه إلى الأموات ونقله.
وكان بكتمر الجوكندار خيراً ساكناً، مائلاً إلى المسالمة راكنا، لا يرى سفك الدم، ولا يعتني بالقصاص ولا النقم، وإذا جاؤوه بقاتل ضربه ضرباً مبرحاً. وقال مصرحاً لا ملوحا: الحي خيرٌ من الميت، فليقم هذا من السجن في بيت، إلا أنه يضر به ما يقارب السبع مئة عصا، إلى أن يلوك من الألم الحصى، فكثر بذلك العبث والفساد في بلاد صفد، وزاد المتحرَّم وحشد.
وحجّ حجة وأنفق فيها أموالاً عظيمة، وأعطى الفقراء والمجاورين بالحرمين ما جلّى به لياليهم البهيمة، وحمل إلى مكتة القمح، وفرقه فيها بكفه السمح، وأنشأ بصفد مكاناً يعرف بالمغارة والصهريج، وعمره بنفسه وبمماليكه من غير ترويج، ودفن به إحدى زوجاته أم بنيه، ورتب له على الديوان ما يكفيه.
ولما كان بمصر وهو نائب نزلَ السلطان إلى المطعم، خرج من السرج ومال إليه وقال: يا عم ما بقي في قلبي من أحد من هؤلاء الأمراء أن أمسكه إلا فلان وفلان، وذكر له أميرين، فقال له: ما تطلع من المطعم إلا وتجدني قد أمسكتهما، وكان لك يوم الثلاثاء، فقال السلطان: لا يا عم ألاَ دَعْهُما إلى يوم الخميس أو يوم الجمعة نمسكهما بعد الصلاة، فقال: السمعُ والطاعة.
ثم إنه جهز له تشريفاً كاملاً ومركوباً هائلاً وإنعاماً من الذهب. فلما كان يوم الخميس قال له: غداً نمسكهما، فلما كان يوم الجمعة، قال له في الصلاة: أين هما؟ قال: حاضران، فقال بعد الصلاة تقدم بما قلتُ لك. فلّما انقضت الصلاة، قال: والله يا عم ما لي وجه أراهما وأستحيي منهما، ولكن إذا دخلتُ أنا في الدور أمسكهما أنت وتوجه بهما إلى المكان الفلاني، تجد منكلي، وقَجْليس سلمهما إليها وروح. فلما أمسكهما أنت وتوجه بهما إلى المكان الفلاني، تجد منكلي، وقجليس سلمهُما إليهما وروح. فلما أمسكهُما وتوجه بهما إلى ذلك المكان وجد الأميرين منكلي بغا وقجليس هناك. فقاما إليه وقالا له: عليك سمع وطاعة لمولانا السلطان، وأخذ سيفه، فقال يا خوش داش، ما هو هكذا الساعة كما فارقته، وقال: أمسك هذين وتوجه بهما إلى فلان وفلان فأطلقاهما وأمسكاه. وكان ذلك آخر العهد به، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة فيما أظن.
ولما كان في صفد كانت كتبُ السلطان ترد من الكرك إلى ابنه الأمير ناصر الدين مّحمد يقول له: يا أخي تقول لعمي كذا وكذا وطل روحك إلى أن يقدّر الله الخير.
بكتمُر الأمير سيف الدين الساقي الناصري.

كان أولاً من مماليك المظفر بيبرس الجاشنكير، ولّما استقر السلطان بعد مجيئه من الكرك أخذه ودخل في مماليكه، ولهذا كان غريباً في بيت مالهُ خوش داش، جميعُ الخاصكيّة مع أرغون الدوادار، ولما أمسك السلطان الأمير سيف الدين طغاي الكبير، وكان تنكز في دمشق يترامى إليه ويتعلق عليه، جهز السلطان يقول له: هذا بكتمر الساقي يكون لك بدلاً من طغاي، واكتب إليه بما تريد من حوائجك، وعظُم بكتمر وعلا محله وطار ذكرهُ، وكان السلطان لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً إلا أن كان في الدور، وهو إمّا أن يكون في بيت بكتمر أو بكتمر عنده، وزوجهُ أم أحمد ابنه وهي جارية السلطان وحظيّته، ولا يأكل السلطان إلاّ في بيت بكتمر مما تطبخه له أم أحمد في قدر فضّة وينام عندهم ويقوم، وكان الناس ما يعتقدون إلا أن أحمد ولد السلطان مما يطيل حمله وتقبيله، وقد تقدم ذكر أحمد المذكور في الأحمدين.
ولما شاع ذكر بكتمر وقُربه من السلطان، وتسامعَ الناس به قدّموا له غرائب كل شيء، وأهدوا إليه كل شيء نفيس، ومهما حُمل إلى السلطان من نوّاب الشام وغيرهم كان له مثله أو قريباً منه، والذي يجيءُ للسلطان غالبُه يصل إليه، إلى أن عظمت أمواله وظهرت أعماله.
وكان من أحسن الأشكال وأظرف الأشخاص التي تزول برؤيتها الأنكاد والأنكال، طلق المحيا بساما، حلو الكلام كأن ألفاظه الدر نظاماً، كأنما جسمه بُلاّر، وخداهُ ذوبُ عقيق أو جلّنار، أشقر بحواجب سود وعيون مثلها، وجفون قلما يرى في الناس مثلها، مستعذباً لطيفاً بمن يقصده، رؤوفاً بمن يلتجئ إليه ويرصده، لا تُرد له إشارة، ولا يعطّل السعدُ عشاره، فهو عبارة عن الدولة وسلطانها، وهو المتمتع بنيل أوطارها في أوطانها، وإذا ركب كان بين يديه ظمئتا عصا نقيبٍ، وإذا نزل إلى إصطبله فهي زورة حبيب غفل عنها الرقيب، عمر لهُ السلطانُ إصطبلاً على بِرْكةِ الفيل على الجسر الأعظم، وفيه دار قل أن رأت مثلها العيون، أو اقتضتها من الأماني ديون.
أخبرني نور الدين الفيومي، وكان شاهداً على هذه العمارة وهو صاحبي، أن نفقة هذه العمارة في كل يوم مبلغ ألف وخمس مئة درهم مع جاه العمل. لا، العجل من عند السلطان، والحجارين والفعول من المحابيس، فقلت له: فكم مقدار ذلك لو لم يكن جاه، فقال لي: على القليل في كل يوم ثلاثة آلاف درهم، وأقاموا يعمّرون فيها مدة أشهر. وخرجت أنا من القاهرة وهم يعملون في الجل ولم يصلوا إلى الرخام والمنجور وعرق اللؤلؤ والسقوف المدهونة بالازورد والذهب.
ولما توفي في طريق الحجاز عائداً في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، خلّف من الأموال والقماش والأمتعة والأصناف والزرد خاناه ما يزيد على الحد ويستحي العاقل من ذكره.
أخبرني المهذب كاتُبه قال: أخذ السلطان من خيله أربعين فرساً، قال هذه لي ما وهبته إياها، وأبعنا الباقي من الخيل، على ما نهبه الخاصكّية وأخذوه بثمن بخس بما مبلغه ألف ألف درهم ومئتا ألف وثمانون ألف درهم، خارجاً عما في الجشارات، وأنعم السلطانُ بالزرد خاناه والسلاح خاناه التي له على قوصون بعد ما أخذ منها سرجاً وسيفاً.
قال لي المهذب كاتبه: القيمةُ عن ذلك ست مئة ألف دينار، وأخذ له السلطان ثلاثة صناديق جوهراً مثمناً لا يُعلم قيمة ذلك، وأبيع له من الصيني والكتب والختم والربعات والحمايليه ونُسخ البخاري المختلفة ومن الأدوية الفولاذ والمطعمة البصم بسفط الذهب وغير ذلك، ومن الوبر والأطلس وأنواع القماش السكندري والبغدادي وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية المفرطة، ودامَ البيعُ لذلك مُدة شهور، امتنع القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص من حضور بيع موجود بكتمر واستعفى، قلت له: لأي شيء فعلتَ ذلك؟ قالَ: ما أقدر أصبر على غبن ذلك لأنه المئة درهم تباع بدرهم.
ولما خرج السلطان خرج بتجمل زائد وحشمة عظيمة، كتب في سريا قوس فرأيت ما هالني وخرج ساقه للناس كلهم، وكان ثقله. وحاله نظير ما للسلطان، ولكن يزيد على ذلك بالزركش وآلات الذهب.
ووجدوا في خزانته في طريق الحجاز بعد موته خمسَ مئة تشريف منها ما هو أطلس بطرز زركش وحوايص ذهب وكلوتات زركش، وما دون ذلك من خلع أرباب السيوف وأرباب الأقلام، ووجدوا على ما قيل قُيوداً وزناجير، والله أعلم بحقيقة الباطن في ذلك.

وتنكر السلطانُ له في طريق الحجاز واستوحش كل منهما من صاحبه، فاتفق أنهم في العود مرض ولده أحمد، ومرض بكتمر والده بعده، ومات ابنه قبله بثلاثة أيام. وعمل السلطان لأحمد تابوتاً وغشاهُ بجلدِ جمل وحمله معه. ولما مات بكتمر أمرَ السلطان للأمير سيف الدين بهادُر المعزي أن يدفنهما في الطريق عند نخل، وحث السير بعد ذلك.
وكان السلطان بعد ذلك في تلك السفرة كلها لا ينام إلا في برج خشب وبكتمر عنده، وقوصون على الباب، والأمراء والمشايخ كلهم حولّ البرج ينامون بسيوفهم، فلما مات بكتمر ترك السلطان ذلك، فعلم الناسُ أن ذلك الاحتراز كان خوفاً من بكتمر، وقيل: إنه دخل إليه السلطان وهو مريض في الحجاز فقال: بيني وبينك الله، فقال: كل من عمل شيئاً يلتقيه.
ولما مات صرخت أم أحمد وبكت وأعولت إلى أن سمعها الناس تتكلم بكلام قبيح في حق السلطان من جملته: أنت تقتل مملوكك أنا ابني إيش كان؟ فقال لها: بس تفشرين، هاتي مفاتيح صناديقه أنا كل شيء أعطيته من الجوهر أعرفه واحداً واحداً، فرمت بالمفاتيح إليه فأخذها. ولما حضر السلطان أظهر الندمَ عليه والخزن والكآبة، وأعطى أخاه قُماري إمرة مئة وتقدمة ألف، وكان يقول: ما بقي يجينا مثل بكتمر، ثم إنه أمر بحمل رمّته ورمةِ ولده من طريق الحجاز ودفنهما في تربته بالقرافة.
وكان للزمان به جمال وعلى الملك به رونق.
جاء أحمد بن مهنّا بعد قدوم السلطان من الحجاز ودخل يوماً إلى قاعدة الإنشاد وقال لنا سراً: بيت السلطان الآن يعوز شيئاً، وذلك الشيء كان بكتمر الساقي.
وقيل: إن السلطان كان يسير في طريق الحجاز وراء محفّة بكتمر وهو فيها مريض قدر رمية نشّاب، فإذا وقفوا به وقف وإذا مشوا به مشى، ويُجهز إليه بُغا الدوادار لكشف خبره، فلما جاء إليه وقال: يا خوند، مات ساق في مماليكه الخواص، وقال للحاج بهادر المعزي: يا أمير قف وغسله وادفنه، خلاه وسار يحثث السير، فعند ذلك نزل الأمير سيف الدين قوصون عن هجينه بعد ما عرّج عن الطريق، يُظهر أنه بُريق الماء واستند إلى الهجين وجعل يبكي والمنديل على عينيه، فقال له المملوك الذي معه: يا خوند ليش تبكي، ما كان بكتمر عدوّك؟ فقال: والك أنا أنا ما أبكي إلى على نفسي هكذا يُفعل ببكتمر؟! ومن فينا مثل بكتمر؟! ومن بقي بعد بكتمر؟! ما بقي إلا أنا.
وكان قصر بكتمر في سريا قوس بخلاف قصور بقية الأمراء لأنه قبالة قصر السلطان بحيث إنهما يتحادثان من داخل القصر، وعمر له بالقرافة خانقاه وتربةً مليحتين، وكان في إصطبله على البركة مائة سطل نحاس لمئة سائس، كل سائس على ستة أرؤس غير ماله في الجشارات والقرايا، ومع هذه العظمة والتقدم التمكن لم يكن له حماية ولا رعاية ولا لغلمانه ذكر، ومن المغرب يغلق باب إصطبله وما لأحدٍ به حس، وكان يتلطف بالناس ويقضي حوائجهم ويسوسهم أحسن سياسة، وما يخالفه السلطان في شيء، وكان يحجر على السلطان ويمنعه من مظالم كثيرة ظهرت من السلطان بعد موت بكتمر رحمه الله تعالى.
ولما تزوج آنوك ابنُ السلطان - على ما تقدّم في ترجمته - كنت أنا بالقاهرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ورأيت الشوار الذي حُمل من داره التي على بكرة الفيل إلى القلعة. وكان عدة الحًمالين ثمان مئة حّمال، المساند الزركش عشرة على أربعين حّمالاً، المدورات ستة عشر حمالاً، الكراسي اثني عشر حمالاً. كراسي لطاف أربعة حّمالين، فضّيات تسعة وعشرين حّمالاً سُلم الدكك أربعة حمالين، الدكك والتخوت الأبنوس المفضضة والموشقة مئة واثنين وستين حمالاً، النحاس الكُفت ثلاثة وأربعين حّمالاً، الصيني ثلاث وثلاثين حمالاً، الزجاج المذهب اثني عشر حّمالاً، النحاس الشامي اثنين وعشرين حّمالاً، البعلبكي المدهون اثني عشر حّمالاً، الخونجات والمخافي والزبادي النحاسي تسعة وعشرين حمالاً، صناديق الحوائج خاناه ستة حّمالين، وغير ذلك تتمة العدّ، والبغال المحمّلة الفرش واللحف والبسط والصناديق التي فيها المُصاغ تسعة وتسعين بغلاً.
وقال لي المهذب الكاتب: الزركش والمُصاغ ثمانون قنطار ذهب بالمصري.

وكان مما لبكتمر على السلطان من المرتّب في كل يوم مخفيتان يأخذ عنهما من بيت المال في كل يوم سبع مئة درهم، كل مخفية ثلاثة مئة وخمسون درهماً. وكان السلطان إذا أنعم على أحد بشيء أو ولاه وظيفة حتى يبوس الأرض ويبوس يده، يقول له: روح إلى الأمير وبوس يده.
وعلى الجملة فكان أمره غريباً، ولقد كان رحمه الله تعالى أهلاً لتلك النعم الجمةِ لأنه كان جيّد الطباع حسنّ الأخلاق ليّن الجانب سهلّ الانقياد، رحمه الله تعالى.
وكنت قد قلتُ:
بذلتُ موجودي إذ زارني ... حبي وأدنت على الباقي
فقال لي دُم هكذا قلتُ هل ... تحسبني بكتمُر الساقي
بكتمر الأمير سيف الدين الحسامي.
كان بدمشق حاجباً، ثم إنه ولي الشد، ثم ولي مكانه في الشد الأمير جمال الدين آقوش الرستمي، وأعيد سيف الدين بكتمر إلى الحجوبيّة بدمشق، وفرح بإقالته من الشد، وكان عزله من الشد في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة.
ثم إنّه توجّه لولاي الولاية بالقبليّة ورُسمَ بطلبه إلى مصر، فتوجّه في شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ولما وصل إلى القاهرة ولاّه السلطان ثغر الإسكندرية، فأقام بها إلى ورد البريد إلى دمشق وأخبرَ بوفاته في ثالث عشر شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وقال: وفاته في خامس شهر رمضان، وتولّى عوضه صلاح الدين دوادار قبجق.
بكتوت بدر الدين بن عبد الله المحمّدي.
أخبرني من لفظه العلاّمة أثير الدين قال: اشتغل علي بيسير من النحو، وأنشدني لنفسه:
بجلقٍ لي حبيبٌ ... بوصله لا يجُودُ
فقلبُه قاسيونٌ ... ودمع عيني يزيدُ
وأنشدني لنفسه أيضاً:
من لي بظبي غريرٍ ... باللحظِ يسبي الممالك
إذا تبدى بليل ... جلا سناهُ الحوالك
من حُور رضوانَ أنهى ... لكنه نجل مالك
قلتُ: شعر متوسط فارغ.
بكتوت الأمير سيف الدين شكار، نائب السلطنة بثغر الإسكندرية.
كان قد عُزل من النيابة، وبقي مدةً إلى أن توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في أواخر شهر رجب سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
بكتوت الأمير بدر الدين الأزرق مملوك السلطان الملك العادل كتبغا.
أمسكه حسام الدين لاجين وقتله، وقتل خواشداشه بُتخاص.
وكان الخلفُ قد وقع على اللجون في مرج بني عامر، ولّما بلغ ذلك الملكَ العادل خرج من الدهليز ولم يفطن به، وتوجه إلى جهة دمشق وساق حسام الدين لاجين للخزانة، والعساكر بين يديه، وذلك يوم الاثنين، ثامن عشري المحرم، سنة ست وتسعين وست مئة.
بكتوت الأمير بدر الدين القرماني.
كان عنده معرفة، والتفاتة إلى حُب الدنيا مسرفه، وتهور يقدم به على الخطر قبل أن يعرف مصرفه.
عالج صناعة الكيمياء حتى في الاعتقال، وكان الأولى به الفكر في الخلاص من تلك الضائقة والانتقال، وتنفس على تنكز فما نفسّ له خناقا، وضرب عليه في القلعةِ من البرجِ رواقا.
وكان قد باشر شد الدواوين بدمشق سنة إحدى عشرة وسبع مئة في شهر رمضان عوضاً عن الأمير سيف الدين طوغان، ثم إنه عُزل بفخر الدين أيّاس الشمسي، وجُهّز إلى الرحبة ثانياً في أول سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وتوجّه إلى نيابة حمص عوضاً عن الحاج أرقطاي في جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وأقام بها إلى أن حضر الأمير سيف الدين البدري عوضاً عنه في صفر سنة تسع عشرة وسبع مئة.
وحضر إلى دمشق ثم جرد إلى سيس صحبة العسكر في سنة عشرين وسبع مئة، وعاد، ولم يزل بدمشق إلى أن وقع له ما وقع مع الأمير سيف الدين تنكز، فأمرَ باعتقاله في قلعة دمشق في آخر يوم من جمادى الأولى سنة ست وعشرين وسبع مئة، ولم يزل في الاعتقال إلى أن ورد المرسوم بتجهيزه إلى مصر مقيداً في حادي عشر شوال سنة سبع وعشين وسبع مئة، وفي مستهل المحرّم سنة أربع وثلاثين أفرجَ عنه وعن الأمير بهاء الدين أصلم وأخيه قرمشي.
بكتوت الأمير سيف الدين الغرزي العزيزي الناصري.
كان حاجباً بالشام مشكور السيرة، له همة مع كبر سنّه، مواظباً على المشي إلى الجامع في أوقات الصلوات وحده ويحمل نعله بيده، وسمع من النجيب عبد اللطيف الحراني هو وأولاده، وما روى شيئاً، وكان من أعيان الأمراء.

توفي رحمه الله تعالى خامس شهر بيع الأول تسع وتسعين وست مئة، دفن بسفح قاسيون.
الكنىأبو بكر بن إسماعيل ابن عبد العزيز، الشيخ الإمام العالم الفقيه البارع المفتي مجد الدين السنكلوني: بالسين المهملة وبالنون الساكنة والكاف وبعدها لام وواو وميم، وسنكلونة قرية من أعمال بُلبيس، والناس يقولون: الزنكلوني.
تفقه على جماعة، وسمع من الأبرقوهي، ومحمد بن عبد المنعم، علي بن الصواف، ويحيى بن أحمد الصوّاف، وعدّة. لازم الحافظ سعد الدين وسمع منه في المسند، وصنف التصانيف منها: شرح التنبيه في خمس مجلدات، وشرح التعجيز في ثمانية، وشرح المنهاج ولم يطوله، واختصر الكفاية لابن الرفعة.
وخرّج له الشيخ تقي الدين بن رافع مشيخة، وحدّث بها، وأخذ عنه شمس الدين السروجي وابن القطب وأبو الخير الدهلي. ومم تفقّه عليه أقضى القضاة بهاء الدين أبو البقاء السبكي الشافعي وغيره.
ودرس بجامع الحاكم وبالبيبرسيه، وأعاد بأماكن، وعرض عليه قضاء قوص فامتنع.
وكان قد برع في المذهب وحمل علمه المُذهب، وشارك في العربيّةِ والأصول، وجادل لا بل جالدَ بالنُصُول، مع تصون ووقار، وعبادةِ ورفض للدنيا واحتقار.
ولم يزل على حاله إلى أن هُدم من المجد ركُنه المشيد، وأصبح بعد ما كان فوق الأرض وهو تحت الصّعيد.
ووفاته في سابع شهر ربيع الأول سنة أربعين وسبع مئة.
ومولده سنة بضع وسبعين وست مئة.
أبو بكر بن عبد الله ابن أحمد بن منصور بن أحمد بن شهاب، الصاحب ضياء الدين النشائي بالنون والشين المعجمة وألف ممدودة بعدها ياء النسبة.
وزر أيام الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وكان قد وليها في سنة ست وسبع مئة بعد عزل الصاحب سعد الدين محمد بن محمد بن عطايا في شهر المحرّم، وولي أيضاً تدريس قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه ومشيخة الميعاد بجامع ابن طولون.
ونظر الأحباس في ربيع الأول سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وكان بان سعيد الدولة معه مشيراً، وكان الأمر كله لابن سعيد الدول والاسم لضياء الدين. وولي نظر النظار بالقاهرة، ثم تولى نظر الخزانة قبل موته.
وكان الصاحب ضياء الدين مشكور السيرة، طاهر السريرة، فقيهاً فاضلاً، حبراً مناظراً مناضلاً، يعرف الفرائض جيداً، وغالبُ أقرانه يكون فيها عنه متحيّدا، وهو معروف بصحبة الشيخ شرف الدين الدمياطي، وله أخذ في الحديث وتعاطي.
ولم يزل على نظر الخزانة إلى أن فُك من النشائي ختمُ عمره، ومُحي من الوجود رسمُ سطره.
ووفاته رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ست عشرة وسبع مئة.
وفيه قال:
إن بكى الناسُ بالمدامع حُمراً ... فهو شيءٌ يُقال من حناءِ
فاختم الدست بالنشائي فإني ... لأرى الختم دائماً النشاءِ
أبو بكر بن محمد بن قلاوون السلطان الملك المنصور سيف الدين ابن السلطان الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور.
وصى أبوه الناصُر له بالملك بعده، وقام في صفّه قوصون، وقام بشتاك في صفّ أخيه أحمد، وجرى ما ذكرته في ترجمة بشتاك. وجلس على كرسي الملك في يوم الخميس عشري ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، ثاني يوم وفاة والده، واشتمل المنصور على طاجار الدوادار، فيُقال إنَّه حَسّن له القبض على قوصون، وقال له: ما يتم لك أمرّ وقوصون هكذا، فتحدّثوا في إمساكه وعنده جماعة من خواصّ والده، فنقلوا ذلك لقوصون، فاتفق قوصون مع أيد غمش أمير آخور وغيره من الأمراء وخَلّعوه، وأراد الركوب فخذله أيدغمش، ولو قدر الله بالركوب لنجا. ولم يمضِ لقوصون أمر، لأن الناس إذا ركبوا طلبوا السلطان وانضّموا عليه.
ثم إن قوصون أجل الملك الأشرف كجك على كرسي المُلك وحلفوا له العساكر، وكان صغيراً تقدير عمره ست سنين وما حولها، وجلس قوصون في النيابة، وجهّز المنصور إلى قوص ومعه الأمير سيف الدين بهادر بن جركتمر مثل الترسيم عليه، ومعه أخويه يوسُف ورمضان وغَرّقُوا طاجار الدوادار، وقتلوا بشتاك في السجن، واعتقلوا جماعة من الأمراء الذين حوله.

ثم إن قوصون كتب إلى عبد المؤمن متولي قوص، فقتله وحمل رأسه إلى قوصون سراً في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، وكتموا ذلك، فلّما أمسك قوصون تحققَ الناسُ ذلك، وجاء من حاقق بهادر، وطلبوا عبد المؤمن واعترف بذلك، وسمره الملك الناصر أحمد بالقاهرة، وكان لّما استقر أمرُ المنصور ألبس الأمير سيف الدين طقزتمر تشريف النيابة بمصر وهو حموه، وألبس الأمير نجم الدين محمود بن شروين تشريف الوزارة، ومشت الأحوال على أحسن ما يكون، وانتظمت الأمور، وحُلف نُواب الشام وعساكره، ولم ينتطح فيها عنزان، ولا جرى خلاف ولا سُل سيف، ولا سُفك دم، ولو ترك القطا ليلاً لنام ولكن لّما أرادوا خلعه رموه بأوابد ودواهي، وادعوا أنه يركب في الليل في المراكب على ظهر النيل، وقالوا أشياء الله أعلم بأمرها.
وكان رحمه الله تعالى شابّاً حُلو الصورةِ أسمر اللون مليح الكون، في قوامه هيف ولين، وحركةٌ داخلة تنتهي إلى تسكين، وهو أفحلُ إخوته أشجعهم، وأقربهم إلى دواء الملك وأنجعه، وكرمه زائد التخرّق في العطاء، والتوسع في كشف الغطاء، حُمل إليه مال بشتاك ومال آقبغا عبد الواحد ومال برسبغا، مّما يقارب أربعة آلاف ألف درهم، ففرقهُ على خواصّ أبيه مثل الحجازي ويلبغا وألطنبغا المارداني وطاجار الدوادار.
وكان والده رحمه الله قد زوّجه ابنة الأمير سيف الدين طقزتمر، ولّما جاء أخوه الناصر أحمد عمل الناس عزاءه ودار في الليل جواريه بالدرادك في شوارع القاهرة، وأبكين الناس ورحمه وتأسفوا على شبابه لأنه خذل وأخذ بغتة وقُتل غضاً طريّاً، ولو تُرك لكان ملكاً سَؤوساً.
كان في عزمه أن يُحيي رسوم جدّه الملك المنصور قلاوون، ويجري الأمور في سياسة الملك على قواعده ويُبطل ما أحدثه أبوه من إقطاعات العربان وإنعاماتهم.
وكانت مُدة ملكه شهرين وأياماً.
وقلت أنا في عزائه مُضمناً:
أقول وقد دارت جواري الدرادك ... لقبر ثوى بين اللوى فالدّكادك
أبتكين عجزاً كونها ما تهللت ... نواجذُ أفواه المنايا الضواحك
لقد خُذلك المنصور ظالماً ومادجا ... نهارُ وغاهُ من غبار السنابك
فصبراً على ريبِ الزمان وغدرهِ ... فما الناسُ إلاّ هالك وابن هالك
أبو بكر بن محمد ابن الرضي عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار المقدسي الجَمَّاعيلي الصالحي القطّان.
الشيخ الصالح المقرئ، مسند وقته، أجاز له عيسى الخياط، وسبط السلفي، سبط الجوزي، ومجد الدين بن تيميّة، وخلق، وحضر خطيب مردا، والعماد عبد الحميد بن عبد الهادي، ثم سمع منه في سنة سبع، ومن إبراهيم بن خليل، وبعد الله بن الخشوعي، ومن ابن عبد الدايم والرضية بن البُرهان صحيح مسلم، سوى فوت مجهول يسير. وحضر أيضاً محمد بن عبد الهادي، وتفرد بأجزاء وعوَال، وروى الكثير.
وكان فيه غزير النوال. وكان شيخاً مباركاً، مكباً على التسميع لا تاركاً، حسن الصحبة، صادق المحبة، حميد الطريقه، يُجملُ بمحاسنة فريقه.
حدث بأماكن، أكثر عنه ابن المُحبّ، وأولاده، وأخوه، والسّروجي، والدهلي، ابنا السفاقسي، وخلق.
ولم يزل على حاله إلى أن انطبقت عليه الغبرا، وحُجبت عنه الخضرا.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
أجاز لي بخطه في دمشق سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
أبو بكر بن يوسف ابن أبي بكر بن محمود بن عثمان بن عبدة، الإمام المدرس بقية المشايخ، زين الدين المزي الدمشقي الشافعي، يُعرف بالحريري، لأنّ أمه تزوجت بالشمس الحريري نقيب ابن خلكان، فربّاه.
تلا بالسبع على الزواوي وغيره، وسمع من الصدر البكري، وخطيب مردا، وجماعة، ودرس التنبيه وغيره، ودرس بالقليجية الصغرى وغيرها، وولى مشيخة القراءات والنحو بالعادلية مدة، وسمع ابنه وابن ابنه شرف الدين.
وسَمَع منه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة وابنه والطلَبة.
وكان ودُّه صحيحاً، وانحرافه عن أصحابه شَحيحاً، يصحب الناس، ويجانب الأدناس، بادي الخير لمن يعرفه، يَقْدر على الشر فيصرفه.
ولم يزل على حاله إلى أن نعي لمعارفه، وأنفقه الموتُ في مَصارفه.
ووفاته، رحمه الله تعالى، في نصف شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وأربعين وست مئة.

أبو بكر بن أحمد ابن محمد بن أحمد بن أبي بكر، الشيخ صالح العالم العامل الزاهد العابد، صفيّ الدين السّلامي.
كان رجلاً صالحاً سعيداً، سافر إلى البلاد في التجارة، وكان موصوفاً بالأمانة والديانة، ثم إنه ترك ذلك وانقطع بالقدس مدّة، ثم انتقل إلى المدينة النبوية في سنة عشر وسبع مئة واستوطنها، ويحج في كل سنة ويعود إلى المدينة، وربّما أقام بعض السنين في مكة، وحدّث بالحجاز بجزء الأنصاري بسَماعه من ابن البخاري.
وتوفي في سادس عشري ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
أبو بكر بن أيبك الأمير حسام الدين بن النجيبي.
كان آخر أمْره أمير عشرين فارساً بدمشق، كان من بقايا الناس وممن تأخر فيه رَمَق الإكرام والإيناس، يصحب أهل العلم ويودّهم ويكرمهم ولا يصدّهم، ويأنس بالفقراء والصلحاء، ويحنو على المساكين والضعفاء، وكان يعمل المولد النبوي في كل سنة ويدعو لمأدبته لجَفَلَى، ويحشر إليها الناس من أهل الحضارة والفلا، ويتنوّع في الأطعمة والمشروب والفواكه، ويحتفل بذلك فما يُرى له فيه مُشارِك ولا مشاكِه. وولي عدّة ولا يأت وباشر في عدة جهات، إلى أن سرى الفساد إلى كونه. وطُرِد الحِفاظ عن صونه.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشري ذي القعدة سنة ست وخمسين وسبع مئة.
وكان الأمير سيف الدين تنكر رحمه الله تعالى بحبه ويكرمه، وولاّه شدّ الأوقاف بدمشق في يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، عوضاً عن ناصر الدين بن بكتاش.
أبو بكر بن أحمد بن عبد الدايم ابن نِعمة المقدسي الصالحي، الشيخ الصالح المُعَمّر اليقظ، مسند الوقت يعرف بالمحتال.
سمع سنة ثلاثين وست مئة على الفخر الإربلي، وسمع الصحيح كلّه على ابن الزَّبيدي، وسمع من الناصح بن الحنبلي، وسالم بن صَصْرى، وجعفر الهمداني، والشيخ الضياء وجماعة، وأجاز له ابن روزبة وأقرانه من بغداد.
وحجّ ثلاث مرات، وأضرّ قبل موته بأعوام، وثقل سمعه، ولكن كان ذا همةٍ وجلادة وفهم.
وحدّث في زمان والده، وروى عنه ابن الخبّاز، وابن نفيس، والقدماء، وعاش كأبيه ثلاثاً وتسعين سنة.
انتهى إليه عُلُوّ الأسناد، وأصبحت الرواية به وارية الزناد، وراج كوالده في الإسناد، كالرمح أنبوباً على أنبوب، وكل مُحدّث إليه يقرع الظنبوب، وله أذكار وعبادة، وفيه رغبة عن الدنيا وزهَاده، وحدّث ب الصحيح غير مرة، وصار ذلك له عادةً مُستمَرّه.
ولم يزل على حاله إلى أن أتى الفناء إلى ابن عبد الدائم، واتصل بمن هو على كل نفس قائم.
ووفاته تاسع عشر شهر رمضان سنة ثمان عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس أو ست وعشرين وست مئة.
أبو بكر بن عمر ابن أبي بكر الشقراوي، بالشين المعجمة والقاف والراء، نسبة إلى وادي الشقراء بدمشق.
سمع من ابن عبد الدائم، وغيره.
وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
أبو بكر بن شرف. ابن مُحسِن بن معن بن عمّار، الشيخ الإمام تقي الدين الصالحي الحنبلي.
أخبرني الشيخ شمس الدين محمد بن قيّم الجوزيّة رحمه الله تعالى، قال: هو رفيق الشيخ تقي الدين بن تيميّة في الاشتغال، وله تصانيف.
توفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده في شوال سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
وسَمِع من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وعبد الوهاب بن الناصح، وجمال الدين بن الصيرفي، والنجم عبد الرحمن بن الشيرازي، والشيخ شمس الدين الحنبلي، وابن البخاري وغيرهم. وله إجازات من جماعة، وسمع بالقاهرة وحلب، وكان فقيراً، وله أولاد، وكان فاضلاً، وله كلامٌ وعبارة فصيحة، ومعرفة بأنواع من الفضائل، وكان يجلس بجامع حمص ويتكلم وله قدرة على التفهيم وينفع السامعين.
أبو بكر بن أحمد بن برق السنبسي الدمشقي الأمير سيف الدين.
كان أمير عشرة، سمع من أبي اليسر ولم يُحدّث بشيء، ووقف سُبْغا بجامع الأموي، وكان من أبناء الثمانين.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة، وهو والد شهاب الدين بن أحمد بن برق متولي دمشق، وقد تقدّم ذكره.
أبو بكر بن عمر بن الجزري الشيخ الإمام الزاهد الورع تقيّ الدين المعروف بالمقصَّاتي.

كان رجلاً صالحاً، لا يزال ميزان حَسَناته راجحاً، عارفاً بالقراءات السبع، يرمي فيها عن قوس هي من النبع، واظب على إقراء القرآن بالعراق والشام أكثر من خمسين سنة، وجاهد على القراءة بها بمقلة وَسِنَه.
وكان عنده وَرَعٌ واجتهاد، وصَبرٌ على الطلبة ومتابعة الأوراد، وكان ينقل من الشواذ كثيراً، ويروي منها محاسن، وجوهها في العربية ناضرة ولم تجد لها نظيراً.
ولم يزل على حاله إلى أن قُصّ جناح المقصّاتي بجَلَم الموت، ودخل مع من دخل في نسخة الوجود بالفوت.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة السبت حادي عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده بالجزيرة، وتجاوز الثمانين، ونشأ بالموصل وأقام ببغداد ودمشق ولازمها إلى أن مات.
وكان يعرف القراءات العشرة وغيرها، وعندها طرف من العربية، وروى القراءة والتيسير من الشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش البغدادي، ووليَ إمامة الرباط الناصري والمدرسة الظاهرية ودار الحديث الأشرفية. وناب في الإمامة والخطابة بالجامع الأموي أكثر من عشر سنين، وبه انتفع جماعة كثيرة. وتوفي بمنزله في باب البريد رحمه الله تعالى.
أبو بكر بن عبد العظيم القاضي الصدر أمين الدين بن وجيه الدين المعروف بابن الرقاقي - براءٍ وقافين بينهما ألف - المصري الكاتب.
كانت له مباشرات، وخلطة بالأكابر ومعاشرات، وعند رئاسة، ولديه في الإحسان نفاسه، باشر عدة وظائف بمصر والشام، وشكره في ذلك جميع الأنام، وتولّى بمصر نظر بيت المال ونظر البيوت ونظر الدواوين، وباشر نظر الدواوين بالشام مدة، ثم إنه انتقل إلى القاهرة.
ولم يول إلى أن خانت أمين الدين حياته، وأتاه بالرَّغْم مماتُه.
ووفاتُه رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة بالقاهرة.
وعزل من نظر الدواوين بدمشق في شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة. وكان قد وصل إلى دمشق على وظيفة النظر في مستهل جمادى الأولى سنة خمس وسبع مئة.
أبو بكر بن محمد القاضي الزاهد الوَرع العابد قطب الدين بن المكرَّم.
أحد كُتّاب الإنشاء بالديار المصرية، رافقته مُدّة بديوان الإنشاء بقلعة الجَبَل، وكان يَسْرد الصوم، ويتعبّد في الليلة واليوم، ويَكثر المجاورة بمكة والمدينة والقدس، ويخلو بنفسه في هذه الأماكن الشريفة فيجد البركة والأُنس. وكان ذا شَيْبة بيّضتها الليالي، ونوّرتها المعالي. وتَنَجَّز توقيعاً من السلطان الملك الناصر بأن يقيم حيث شاء من المساجد الثلاثة ويكون معلومه راتباً من بعده لأولاده ولأولاد أولاده أبداً، ولم أره يكتب شيئاً؛ لأنّ صاحب الديوان كان يُجلّه لتجلّيه، وجاور بمكة وأقام بها أخيراً، ثم إنه أتى إلى القدس الشريف وأقام به مُدّة إلى أن كَرّم الله لقاء ابن المكرّم، وخلّصه ممن تَجَرّأ أو تجرّم.
ووفاته بالقدس في أواخر شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، عن اثنتين وثمانين سنة وأشهر، رحمه الله وعفى عنه.
أبو بكر بن عمر بن السلاّر بتشديد اللام بعد السين المهملة، وبعد الألف راء، الفاضل ناصر الدين.
رَوَى عن ابن عبد الدائم. وكتب عنه الشيخ علم الدين البِرزالي وغيره.
وكان ذا جَلَدٍ على الجِدال، وقُدرةٍ على المناظرة والاستدلال، جيّد العبارة، بديع الكناية والاستعارة، تفنّن في الفضائل، وتوسّع في إيراد الدلائل، ونَظم شعراً كثيراً، وعلا به مَحَلاًّ أثيراً، وهو من بيت حشمة وإمارة، وللرياسة عليه دليلٌ وأَمَاره، مع عِزّة في نفسه، وإعراضٍ عمّا في أبناء جنسه، وهِمّةٍ تبلغ الثريّا، وعَزْمةٍ يتضوّع بها المجدرَيّا.
ولم يزل على حاله إلى أن استجنّه الضريح، وعَدَل الفناء إليه دون الكناية بالصريح.
ووفاته رحمه الله تعالى في شهر الله المحرّم سنة ست عشرة وسبع مئة.
أخبرني شيخنا نجم الدين بن الكمال قال: جرت بيني وبينه مباحث كثيرة في أصول الدين. وأثنى عليه شيئاً كثيراً.
ومن شعره ما كتبه إلى الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم مع زنبيل أهداه وفيه تين:
يا سيِّدي وأجلَّ الناس منزلةً ... عندي وأرعاهم للعهد والذّممِ
لا تستقلّنّ شيئاً قد أتاك وقد ... علمْتَ أن الهدايا نبلغُ الهمم
وقد بعثْتَ بشيء فيه واحدةٌ ... تكفي الخلائق من عرب ومن عجم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16