كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

شرّفت ما قد نظرت فيه ... شرّفك الله في المعاد
وهو كتاب عنيت فيه ... ولم أنل منتهى مرادي
جمعت فيه غرّ المعاني ... من كتب جمّةٍ عداد
وعاند الدهر فيه حظي ... والدهر ما زال ذا عناد
فمهّد العذر فيه عنّي ... إن كنت قصّرت في اجتهادي
لا زلت للعرف ذا اصطناع ... ترأب ما كان ذا فساد
فأجابه الشيخ بهاء الدين عن ذلك:
يا فارساً في العلوم أضحى ... يزيد نظماً على زياد
وراويا للحديث أمسى ... يفوق فيه على المرادي
ومنسياً سيبويه نحواً ... بلفظه الفائق المفاد
من دونه الأصمعيّ فيما ... رواه قدماً عن البوادي
فمسند الفضل عنه يروى ... ونظمه جلّ عن سناد
شيّدت للشافعيّ ذكراً ... بمنطقٍ دونه الإيادي
فاسلم لتهدى بك البرايا ... فأنت للفضل خير هاد
إليك في معضلٍ مفرٌ ... وهل معادٌ سوى العماد
ومن يجاريك في قريضٍ ... يعارض البحر بالثّماد
قلت: رزق المرزوقي السعادة في شعره لما انتحس شعر ابن النحاس.
عبد الله بن الصنيعة المصريالصاحب شمس الدين غبريال، بكسر الغين المعجمة وسكون الباء الموحدة وبعدها راء وياء آخر الحروف وبعد الألف لام، المصري.
كان أولاً كاتب الخزانة في أيام المنصور حسام الدين لاجين، وكان يصحب الأمير شمس الدين قراسنقر، ثم إنه انتقل إلى الشام وولي نظر الجامع الأموي والأسرى والأوقاف في المحرم سنة عشر وسبع مئة عوضاً عن شرف الدين بن صصرى. ولما حضر الأمير سيف الدين كراي لنيابة دمشق عزله عن نظر الجامع والأوقاف، وولى عوضه القاضي شرف الدين محمد بن جلال الدين النهاوندي قاضي صفد، ولما أمسك كراي وحضر الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك عزل شرف الدين النهاوندي وولى القاضي تقي الدين عمر بن السلعوس.
ثم إن الصاحب شمس الدين تولى نظر الدواوين بدمشق في نصف المحرم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. عوضاً عن الشريف أمين الدين وبدر الدين بن أبي الفوارس لما حضر السلطان إلى دمشق، وتولى شد الدواوين معه الأمير فخر الدين أياس مملوك الأعسر عوضاً عن القرماني، وباشر نظر الدواوين على القالب الجائر، وأمسى كل أحد وهو في أمره حائر، دخل في ناصر الدين الدوادار، وتسلسل سعده وما دار، وخدم تنكز وبالغ في الخدمه، وثبت له على طول المدة، قدم القدمه، وخدمته الأيام والليالي، وجرت أنهار دمشق له ذهباً، وأصبح حصاها لآلي، ووجه الناس بمباشرته السعيدة أماناً من الحوادث، وبقيت المناصب في أيدي مباشريها أوقافاً عليهم، تنتقل من وارث إلى وارث، وسد باب المرافعات والمصادرات، واغتنم أفعال الخير مع الناس بالمعاجلة والمبادرات، فكأنما كانت أيامه مواسم، وهبات هباته نواسم، وثغور الأيام فرحاً به في رحابه بواسم، والأرزاق بأقلامه قد أثقلت الغوارب وأعيت المناسم، وسعادات تدبيره لأدواء اللأواء حواسم، وربوع الجور والعدوان في مدة مباشرته طوامس ويقال: طواسم، وكأن أبا الطيب أراده بقوله:
لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام
ورأى دمشق وتمتع بمحاسنها، وتنعم في ظلالها الوارفة من مساكنها، واقتنى بها الأملاك النفيسه، وحصل بها الأموال التي تكون البحار الزاخرة عليها مقيسه.
ولم يزل في سعادة بعد سعاده، وزيادة بعد زياده، إلى أن نقض حبله، ونفض ويله، فتغير له تنكز وتنكر، وأكمن له وتفكر، فاتفق مع السلطان على عزله، وأن يريه جده بعد هزله، فقبض عليه في حادي عشر شوال سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وبقي في الاعتقال إلى أن حضر السلطان من الحجاز فطلبه إلى مصر، فالتزم له بتكملة ألف ألف درهم.
ونزل إلى بيته وأقام بالقاهرة إلى أن أذنت شمسه بالغروب، وجرت الدموع عليه من الغروب.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة السبت ثامن عشر شوال سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.

وكان الصاحب شمس الدين سعيد الحركات خفيفاً ظريفاً، حلو النادرة مليح التنديب، كان في متعممي دمشق شخص يعرف بالقاق يندب الناس عليه، ويمزحون معه بذلك ويظهر هو التأذي بعض الأوقات، فاتفق أنه سرق مرة جملة من الخشب من شيء كان يباشره، وذكر أمره للصاحب شمس الدين، فبقيت، فلما كان في بعض الأيام جاءه فقال له: يا مشؤوم، الناس يقولون عنك قاق، طلعت أنت نقار الخشب.
وكان فيه ستر وحلم، لم يقع لأحد من أكابر دمشق واقعة إلا وسد خرقها وتدارك رمقها وتلافى عطبها على أحسن الوجوه ولم يكشف لأحد رأساً ولا ضرب أحداً بالمقارع، ولا صادر أحداً ولا عزل أحداً. وكان كلما انتشأ أحد من الأمراء خواص السلطان خدمه وباشر أموره بالشام وثمر له وأهدى، وكان أولئك يعضدونه ويقيمونه، وإذا جاء أحد من مماليكهم أو من جهتهم أنزله عنده وأزاح أعذاره وخدمه، وكان مرجع دواوينهم إليه وأموالهم تحت يده يتجر لهم فيها ويتكسب مثل بكتمر الساقي وقوصون وبشتاك وغيرهم، كل من له علاقة بالشام ولا يخرج الحديث عنه، وكان هو والقاضي كريم الدين الكبير متعاضدين جداً، ودامت أيامهما مدة.
وطلبه السلطان مرات إلى مصر، فراح على البريد وعاد بزيادة إكرام وإنعام وزيادة معلوم، ولما كان في سنة أربع وعشرين وسبع مئة طلبه السلطان إلى مصر وخلع عليه وباشر نظر الدولة مع الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير وذلك في شهر رمضان، فأقام بالديار المصرية على كره منه لأنه ألف دمشق واعتدال مزاجها، فسعى سعياً جيداً وعاد إلى دمشق على عادته وقاعدته في نظر الدواوين، ووصل إلى دمشق في يوم الاثنين ثامن عشري صفر سنة ست وعشرين وسبع مئة، وفرح الناس به واستبشروا، وعاد القاضي كريم الدين الصغير ناظر دمشق إلى مصر.
ولم يزل بدمشق على أكمل ما يكون من السعادة إلى أن قبض عليه تنكز بأمر السلطان في التاريخ المذكور، وجعل في المدرسة النجيبية ورسم عليه الأمير علاء الدين المرتيني، فكان يكون قدامه وإذا دخل إلى الطهارة وعاد منها يقوم الأمير يمسك له فرجيته ويلبسها له. ووزن في الشام أربع مئة ألف درهم ثم إن المرسوم ورد بطلبه إلى مصر فتوجه إليها ولما وصل نزل في الطبقة التي على دار الوزارة بقلعة الجبل وجاء إليه القاضي شرف الدين النشو، وقعد بين يديه، ولم يعرف من هو لبعد عهده بمصر، فقال: السلطان يسلم عليك، فلحظته أنا وغمزته، فعلم أنه كبير، فقام وقف له وأجلسه إلى جانبه فأسررت أنا إليه أن هذا هو النشو ناظر الخاص، فقام وقف وعامله بما يجب وحلف له أنه ما يعرفه، فقبل اعتذاره، ولما راح من عنده جاء إليه الأمير صلاح الدين الدوادار برسالة عن السلطان، وكان الأمير علاء الدين بن هلال الدولة مشد الدواوين يروح إليه في الرسائل عن السلطان هذا وهو قاعد على مقاعد سنجاب ومقاعد سرسينا، ولم أر أنا ولا غيري مصادراً مثله إلى أن قال له النشو: يا مولانا وزنت في الشام أربع مئة ألف فكمل لنا ألف ألف، فقال: السمع وألف طاعة، وكتب خطه بست مئة ألف درهم، ونزل إلى بيته، ولم يزل يحمل إلى أن بقي عليه مئتا ألف، فاستطلقها له الأمير سيف الدين قوصون من السلطان، ولو أن بكتمر الساقي يعيش له ما جرى عليه بعض ذلك، وكان أعاده لأنه شفع فيه عن طريق الحجاز وسير الإفراج عنه إلى الشام، ومات بكتمر بعد ذلك ثم إن أعداءه غيروا السلطان عليه، وقيل له: إن في دمشق ودائع فكتب السلطان إلى تنكز، فتتبع ودائعه وظهر له شيء كثير، فحمل ذلك إلى السلطان.
ولما مات رحمه الله تعالى وقع بين أولاده اختلاف في الميراث، فطلع ابنه صلاح الدين يوسف ولم يكن له ولد ذكر غيره ودخل إلى السلطان ونم على أخواته، فأخذ منهم شيء كثير من الجوهر، فيرى الناس أن الذي أخذ من ماله أولاً وآخراً ما يقارب الألفي ألف درهم، وما أظنه نكب ظاهراً غير هذه المرة، وسمعته ليلةً يقول: من حين باشرت الكتابة ما أعلم أنني اشتريت لي مركوباً ولا قماشاً ألبسه أنا ولا أهلي، وفي هذه المصادرة لم يشك أحد عليه ولا رفع فيه قصة لا في الشام ولا في مصر، ولما أفرج عنه خرج الناس له بالشمع وفرحوا به فرحاً عظيماً.

وعمل بعد موته في دمشق محضر بأنه خان في مال السلطان واشترى به أملاكاً، وشهد فيه كمال الدين مدرس الناصرية، وابن أخيه القاضي عماد الدين، وعلاء الدين بن القلانسي، وعز الدين بن المنجا، وغيرهم من الأكابر، وامتنع عز الدين بن القلانسي ناظر الخزانة من ذلك، ونفذ المحضر إلى مصر، وأراد السلطان بيع أملاكه فوقف له قوصون واستطلقها منه لأولاده.
وكان يسمع البخاري في ليالي رمضان، وليلة ختمه يحتفل بذلك، ويعمل في كل سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ويحضره الأكابر والأمراء والقضاة والعلماء ووجوه الكتاب، ويظهر تجملاً زائداً ويخلع على الذي يقرأ المولد، ويعمل بعد ذلك سماعاً للأمراء المحتشمين.
وعمر جامعاً حسناً، شرع فيه في شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة على باب شرقي عند دير القعاطلة، ووقف عليه وقوفاً، وعمر بالرحبة بيمارستاناً، وعمر بكرك نوح عليه السلام بالبقاع طهارة وأجرى إليها الماء في قناة هناك.
وكتبت أنا إليه من الرحبة:
يا سيّد الوزراء ذكرك قد علا ... وكأنّه حيث اغتدى كيوان
لك جامع بدمشق أضحى جامعاً ... للفضل فيه الحسن والإحسان
وأمرت أن يبنى برحبة مالك ... من جودك المبرور مارستان
أنشأت ذاك وذا فجئت بآيةٍ ... صحّت بها الأديان والأبدان
وكتبت إليه يوماً وأنا بدمشق ....
وكتبت إليه عن الأمير سيف الدين تنكز من الديار المصرية يعلمه بوصوله وتقبيله الأرض بين يدي السلطان وبحضور الإقبال الشريف عليه وإفاضة الإنعامات الشريفة عليه في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ونسخة الكتاب: أسبغ الله ظل المقر الكريم العالي المولوي الصاحبي الشمسي، وسر قلبه بأخبار أحبابه، وسرى همه الذي توهمه بسببهم لما تقمص من الدجا أسود جلبابه، وسير أنباءهم التي هي أطرب وأطرى من زهر الروض تحت وقع ربابه. المملوك يخدم بدعائه الذي يتمسك من القبول بأقوى أسبابه. وبثنائه الذي يجد الندمان منه نشوة لا يجدها في كأسه المرصع بدر حبابه، ويقبل اليد الكريمة التي تخجل البحر إذا طمى في عبابه، وينهي إلى العلم الكريم أنه سطرها من الأبواب الشريفه، خلد الله سلطانها، ونصر أعوانها، بعدما وصل إليها في يوم كذا وقبل الأرض بالمواقف الشريفه، وود لو استعار فم الثريا للثم تلك المواطئ التي هي على الكواكب منيفه، وفاز برؤية وجه مولانا السلطان الذي أخجل البدر في سعوده، وترقى على أوجه وهو في معارج صعوده، وود لو أن أعضاءه جميعها عيون، وكل جارحة فيها تطالب أشواقها بمالها في ذمة النوى من ديون، وشملت المملوك الصدقات الشريفة بتشريف أثقل كاهله، وجعل ربوع آماله بالمسرات آهله، وتوالى الإنعام الشريف في كل يوم على الأنعام، وأغرقته المواهب العميمة بأياديها إلى أن عام، وتزايد الجبر الشريف في كل ساعة يكون فيها بالمواقف الشريفة ماثلا، وفتح على المملوك بصالح أدعية ما ترك منها سهماً في كنانة ضميره إلا إذا كان له ناثلا، هذا إلى ما يتحف به في كل يوم من جمل التفاصيل التي يحار العقل في نقوشها، وتتأصل في المحاسن مباني عروشها، ومن الخيل التي ترى الشهب عند شهبها مستقله، ويود الأفق لو كانت تجعل مسيرها في مجرته لأنها تملأ الطرق بالأهله، ولم يصف المملوك أنواع هذه الصدقات الشريفة التي عمت، وكملت بدور بدرها وتمت، إلا إشعاراً لمولانا، بسط الله ظله، بأن نصيبه منها يحضر صحبة المملوك، ويناله منها ما يخجل القمر في التمام والشمس في الدلوك، وقد جهزها لمملوك على يد فلان ليطمئن خاطره الكريم، ويتحقق ما المملوك عليه من الأخبار التي تسره وتحل من قلبه في الصميم، وبعد قليل يأخذ دستورا بالعود، ويعلم أنها ساعة يشب لها الفؤاد ناراً ويشيب الفود، وإذا استخرج المراسيم الشريفة شرفها الله تعالى وعظمها بالرجوع، ورسم بذلك، وهو أمر يمنع الجفون من الهجوع، عجل المملوك إعلام مولانا بذلك على العاده، والله تعالى يجمع المملوك ومولانا دنيا وأخرى في دار السعاده بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
عبد الله بن أبي الطاهرابن محمد الشيخ الصالح أبو عبد الرحيم المقدسي المرداوي.

أول سماعه بمردا من خطيبها سنة ست وثلاثين، وسمع من الحافظ الضياء، واليلداني، وتلقن بمدرسة أبي عمر، ثم رجع وحدث في أيام ابن عبد الدائم.
روى عنه ابن الخباز.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وسمع منه الأصحاب، وكان معمراً من أبناء التسعين، وهو آخر أصحاب الضياء بالسماع.
وتوفي رحمه الله تعالى بمردا سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
عبد الله بن عبد الأحدابن عبد الله بن سلامة بن خليفة، الشيخ الصدر الكبير أمين الدين بن شقير الحراني.
كان محموداً مشكوراً، كل أحد يثني عليه ويعظمه، وهو على قدم الصدق والعدالة محترم معظم من أرباب الأموال، وله حقوق على الناس ووجاهة عند الدولة.
حدث عن يوسف بن خليل، وعيسى بن الخياط.
توفي رحمه الله بغزة ثالث عشري شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة.
ومولده بحران في نصف شعبان سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
كان قد توجه من دمشق في جماعة من أولاده وأقاربه يقصد القاهرة فأدركه الأجل بغزة.
عبد الله بن عبد الحقابن عبد الأحد المخزومي المصري الدلاصي.
تلا لنافع على أبي محمد بن لب سنة خمس وثلاثين وست مئة، ثم تلا بعده كتب علي بن فارس، وسمع القصيدة من قارئ مصحف الذهب.
وأقرأ دهراً بمكة، وتلا عليه بالروايات عبد الله بن خليل، والمجير مقرئ الثغر، وأحمد بن الرضي الطبري، والوادي آشي، وخلق.
وكان من أصحاب الحال والسقم والانتحال، له في ظلمات الليل أوراد، وركعات تكون في صحف حسناته كالأطواد، وفيه زيادة تأله، وفيه خشية من الله العظيم تحله، وقد أحيا الليل سنوات، وقطع ظلامه في ذكر وصلوات، وتفقه لمالك ثم للشافعي، فشرب من جلاب الحلات، ونصب راية الرافعي.
ولم يزل على حاله إلى أن ما حمت الدلاصي من الموت سابغة دلاص، ولكم يكن له من قدومه عليه مناص.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة.
عبد الله بن عبد الحليمابن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن تيمية الحراني، الشيخ الإمام الفقيه المفتي القدوة العابد شرف الدين أبو محمد الدمشقي أخو الشيخ العلامة تقي الدين.
سمع حضوراً من ابن أبي اليسر، وسمع من الجمال البغدادي، وابن أبي الخير، وابن الصيرفي، وابن أبي عمر وابن علان، وابن الدرجي، وخلق كثير، وطلب الحديث في وقته، وسمع المسند والمعجم الكبير والدواوين، وسمع منه الطلبة.
قال شيخنا الذهبي: وما علمته صنف شيئاً.
كان لسناً فصيحا، جزل العبارة مديد الباع فسيحا، غزير مادة العلم كثير الإغضاء والحياء والعلم، بصيراً بالقواعد، حاوياً لكثير من غرائب المسائل الأباعد، كثير الإنصاف إذا بحث، إذا سكت خصمه حضه على الكلام وحث، زائد التعفف قادراً على التقشف مع الدين المتين، والإخلاص المبين، واسع قميص الزهد، مغتبطاً بما عنده من الجهد، منقبضاً عن الناس، منجمعاً عن مخالطة الأدناس، يتنقل في المساجد المهجوره، ويقيم فيها كثيراً لا لضروره، يختفي فيها أياما، ويهجر بها ما عساه أن يهجر دواما، مع ما أحكمه من الفقه والعربيه، والنكت الأدبيه، وبرع فيه من معرفة السيرة وكثير من التاريخ وأسماء الرجال، وما يتسع في ذلك من المجال، ورأيت كثيراً من الفضلاء يقول: هو أقرب من أخيه إلى طريق العلماء، وأقعد بمباحث الفضلاء، وكان أخوه العلامة تقي الدين يحترمه ويتأدب معه، ويحذر أن يخدعه.
ولم يزل على حاله المرضية إلى أن نزل به ما لا بد من نزوله، وظفر من الله تعالى بمرامه وسوله.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، قبل أخيه العلامة تقي الدين بسنة، وكانت جنازته حافلة مشهودة، حمله الناس على الرؤوس.
عبد الله بن عبد الكافينور الدين بن ضياء بن الخطيب الكبير جمال الدين عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي الدمشقي الشروطي الأديب.
كان حسن الكتابه، جيد المعرفة بالإصابه، وكان فيه لعب وانطباع وعثرة وانخلاع.
ولم يزل على حاله إلى أن راح ليكون رميما، ويجد من فضل محبيه براً عميما.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وستين وست مئة.
عبد الله بن عبد الكافيابن عبد الرحمن بن محمد الحميري الصنهاجي المصري المالكي، زكي الدين أبو محمد المعروف بالمأمون.

سمع من الدواداري، وقيل: إنه سمع من النجيب.
وكان حسن الشكل والهيئة، لطيف الذات، تولى نظر الكرك والشوبك، وأقام هناك مدة وكان يعرف عروضاً وفقهاً ويشغل الناس وله نظم.
توفي رحمه الله تعالى في سابع عشري جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب النصر ظاهر القاهرة.
عبد الله بن عبد اللهأمين الدين الرهاوي الدمشقي تربية ابن الكريدي.
سمع وقتاً من ابن القواس، وابن عساكر، وطلب بنفسه وقتاً بعد السبع مئة، ونسخ الأجزاء وارتزق بالكتابة في زرع وغيرها.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة بين العيدين.
ومولده سنة أربع وثمانين وست مئة.
عبد الله بن عبد الوليابن جبارة بن عبد المولى الإمام تقي الدين الحنبلي ابن الفقيه المقدسي الصالحي.
كان إماماً مفتياً مدرسا، مدلجا في الفضائل معرسا، صالحاً ديناً خيراً صيناً عارفاً بالفرائض والجبر والمقابلة، فارساً في بحثه، كم جدل من جادله، تبحر في الفرائض، وغرق فيها ألف رائض، وكان قد طعن في سنه، وقارب المئة على ما في ظنه.
ولم يزل على حاله إلى أن كسر ابن جباره، وسكنت منه تلك العباره.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر.
وكان من أهل الفتوى والتدريس.
عبد الله بن عبد الوهابابن حمزة بن محمد بن الحسين بن حمزة، الشيخ العدل ناصر الدين أبو محمد بن العدل كمال الدين النهراني الحموي.
وكان يجلس بين الشهود بحماة، وله مسجد وقراءة، حضر جزء لطيفاً وهو في أول سنة من عمره على والدة جدته صفية بنت عبد الوهاب القرشية، وحدث بالجزء مرات بحماة ودمشق.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمعت منه بهما، وهو من حديث أبي بكر بن زياد النيسابوري، وكان قد قدم دمشق سنة سبع وسبع مئة، وسمع منه جماعة من الطلبة، وكان جده قاضياً بحماة، وهو من بيت مشهور.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشر صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
عبد الله بن عبد الوهابابن فضل الله صلاح الدين ابن القاضي شرف الدين العمري.
كان شاباً عاقلاً له فهم ومعرفة، وهو جندي، وهو والد الأمير ناصر الدين محمد بن فضل الله.
وتوفي رحمه الله تعالى سابع عشر شهر رجب سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودفن بتربة له جوار المدرسة العزية التي عند الوراقة ظاهر دمشق.
عبد الله بن عليابن محمد بن سلمان القاضي الرئيس الكاتب المنشئ جمال الدين بن الشيخ علاء الدين بن غانم.
كان شاباً ظريفا، مليح الوجه نظيفا، عليه رونق الشباب ولطف السلافة إذا شف عليها الحباب، شكله أنيق، وصدغه في خده سحالة لازورد في زنجفر سحيق، يكتب خطا من أين للوشي رقومه، أو للأفق الصاحي نجومه، كأنه طرة ريحان، أو روض فيه الطل حيران، خصوصاً إذا كتب الدرج وعلق، وتأنى في تنميقه وتأنق، يأتيك بالعجب، ويريك كما يقال سلاسل الذهب، مع سرعة لا يلحقه فيها البرق إذا خفق، ولا النور إذا سطع وولد الشفق، يكتب الإنشاء من رأس قلمه، ويؤلف الدر الثمين من كلمه، وله غوص في نظم ونثر، وتلعب بالعقول إذا نفث قلمه بسحره.
إلا أنه قصف غصنه، ووقفت في أوائل حلبة العمر حصنه، فأذواه الموت ريحانه، وأراق منه بنت حانه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر شوال سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
وكان قد مرض في عمره مرضا حاداً مرات، ونجاه الله منها وسلمه إلى أن حم أجله فمات عبطه، وكان به لديوان الإنشاء أي غبطه.
كتب هو إلي في بعض علته هذه ولم أعده، من أبيات:
مولاي كيف كسرتني فهجرتني ... علماً بأني كيف كنتم راض
أو قلت إني لأعود ممرّضاً ... ظنّاً بأني لا محالة ماض
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
أرسلتها مثل السهام مواضي ... نفذت من الأغراض في أغراض
فأتت وعتبك قد تخلّل لفظها ... مثل الأفاعي بين زهر رياض
دعني من الجبروت أو من أهله ... لا تجعلنّ سوادهم كبياضي
حاشاك أن تمضي وسعدك قد غدا ... مستقبلا فينا وأمرك ماض
وقلت أنا أرثيه رحمه الله تعالى:

تبكي الطروس عليك والأقلام ... وتنوح فيك على الغصون حمام
يا من حواه اللّحد غضّاً يانعاً ... وكذا كسوف البدر وهو تمام
يا وحشة الديوان منك إذا غدت ... فيه مهمّات البريد ترام
من ذا يوفّيها مقاصدها على ... ما يقتضيه النّقض والإبرام
هيهات كنت به جمالاً باهراً ... فعليه بعدك وحشةٌ وظلام
أسفي على الإنشاء وهو بجلّقٍ ... نثّاره قد مات والنظّام
كم من كتابٍ سار عنك كأنّه ... برد أجاد طرازه الرقّام
إن كان في شرّ فقد رد الرّدى ... وبه ترفّه ذابل وحسام
لم لا يردّ البأس ما ألفاته ... مثل القنا واللام منه لام
أو كان في خير فكلّ كلامه ... درّ يؤلّف بينهنّ نظام
وكأنما تلك السطور إذا بدت ... كأس ترشّف راحها الأقلام
يهتزّ عطف أُولي النّهى لبيانه ... فكأنّ هاتيك الحروف مدام
كم فيه وجهٍ سافر مثل الضحى ... وعليه من ليل السطور لثام
ولكم كتبت مطالعاتٍ خدّها ... قانٍ وثغر فصولها بسّام
وكأنما ألفاتها قضب اللّوى ... وكأنما همزاتهنّ حمام
ما كنت إلا فارس الكتّاب في ... يوم تفرّج ضيقه الأقلام
صلّى وراءك كلّ من عاصرته ... علماً بأنك في البيان إمام
وكأنّ قبرك للعيون إذا بدا ... قصرٌ عليه تحية وسلام
يا محنةً نزلت بعترة غانم ... هانوا وهم في العالمين كرام
لما تغيّب في التّراب جمالهم ... وقعدوا لهولٍ عاينوه وقاموا
يا قبره لا تنتظر سقيا الحيا ... حزني ودمعي بارقٌ وغمام
لي فيك خلّ كم قطعت بقربه ... أيام أُنسٍ والخطوب نيام
لذّت فلذت بظلّها فكأنها ... لقياد لذّات الزمان زمام
أسفي على صحب مضى عمري بهم ... وصفت بقربهم لي الأيّام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
بالرغم منّي أُفارق صاحباً ... لي بعده ضرٌّ ثوى وضرام
يا من تقدّمني وسار لغايةٍ ... لا بدّ لي منها وذاك لزام
قد كنت أحسبه يرثّيني فقد ... عكست قضيّته معي الأحكام
أنا ما أراك على الصراط لأنّه ... بيني وبينك في المعاد زحام
إذ قد سبقت خفيف ظهرٍ لا كمن ... قد قيّدت خطواته الآثام
فإذا المخفّ وقد تقدّم سابقاً ... وشفيعه لإلهه الإسلام
فاذهب فأنت وديعة الرحمن لي ... يلقاك منه البرّ والإكرام
ويجود قبرك منه غيث سماحةٍ ... بالعفو صيّب ودقها سجّام
ولقد قضيتك حقّ ودّك بالرثا ... والحرّ من يرعى لديه ذمام
خلّفتني رهن التندّم والأسى ... تعتادني الأحزان والآلام
لكنّ لي بأخيك نجم الدين في ... الديوان أُنساً ما عداه مرام
مهما توجّس أو توحش خاطري ... فيه تزول وتنقضي الأوهام
وكتب إلي من دمشق وأنا بالقاهرة:
ذكّرت قلبي حين شطّ مزارهم ... بهم فناب عن الجوى تذكارهم
وبكى فؤادي وهو منزلٌ حبّهم ... وأحقّ من يبكي الحبة دارهم
وتخلّق الجفن الهمول كأنما ... لمحته عند غروبهم أنوارهم
وذكرت عيني عند عين فراقهم ... لما أثارت لوعتي آثارهم
نذري الدموع عليهم وكأنهم ... زهر الرّبا وكأنها أمطارهم
ويئنّ منة حالي العواذل رحمةً ... لمّا بكيت وما الأنين شعارهم
ويح المحبيّن الذين بودّهم ... قرب المزار ولو نأت أعمارهم

فقدوا خليلهم الحبيب فأُذكيت ... بالشوق في حطب الأضالع نارهم
مولىً تقلّص ظلّ أُنسٍ منه عن ... أصحابه فاستوحشت أفكارهم
كم راقهم يوماً برّؤية وجهه ... ما لا يروقهم به دينارهم
ولكم بدت أسماعهم في حلية ... من لفظه وكذا غدت أبصارهم
كانوا بصحبته اللذيذة رتّعاً ... بمسّرةٍ ملئت بها أعشارهم
يتنافسون على دنوّ مزاره ... فكأنما بلقاه كان فخارهم
لا غيّب الرحمن رؤية وجهه ... عن عاشقيه فإنها أوطارهم
وجلا ظلام بلادهم من بعده ... فلقد تساوى ليلهم ونهارهم
يا سيّداً لي لم تزل ثقتي به ... إن خادعتني في الولا أشرارهم
أصرمت حبل مودتي ولصحبتي ... عرف الطريقة في الوداد كبارهم
أم تلك عادات القلى أجريتها ... فكذا الأحبّة هجرهم ونفارهم
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
أفدي الذين إذا تناءت دارهم ... أدناهم من صبّهم تذكارهم
في جلّق الفيحاء منزلهم وفي ... مصع بقلب الصبّ تضرم نارهم
قوم بذكرهم الندامى أعرضوا ... عن كأسهم وكفتهم أخبارهم
وإذا الثناء على محاسنهم أتى ... طربوا له وتعطّلت أوتارهم
وإذا هم نظروا لحسن وجوههم ... لم تبق أنجمهم ولا أقمارهم
فهم البدور إذا ادلهمّ ظلامهم ... وهم الشموس إذا استبان نهارهم
دنت النجوم تواضعاً لمحلّهم ... وترفّعت من فوقها أقدارهم
وبكفّهم وبوجههم كم قد همت ... ألواؤهم وتوقّدت أنوارهم
أهدى جمالهم إليّ تحيّة ... منها تدار على الأنام عقارهم
أفقٌ وروضٌ في البلاغة فهي إمّ ... ا زهرهم في الليل أو أزهارهم
لك يا جمال الدين سبقٌ في الوفا ... لو رامه الأصحاب طال عثارهم
وتودّدٌ ما زال يصفو ورده ... حتى تقرّ لصفوه أكدارهم
يا بن الكرام الكاتبين فشأنهم ... صدق المودّة والوفاء شعارهم
قوم إذا جاؤوا إلى شأو العلى ... سبقوا إليه ولم يشقّ غبارهم
صانوا وزانوا باليراع ملوكهم ... أسوارهم من كتبهم وسوارهم
ما مثلهم في جودهم فلذاك قد ... عزّت نظائرهم وهان نضارهم
ما في الزمان حلىً على أعطافه ... إلاّ مآثرهم به وفخارهم
تتعلم النّسمات من أخلاقهم ... وينوب عن زهر الرّبا أشعارهم
ولفضلهم ما ابن الفرات يعدّ في ... ه قطرةً لمّا تمدّ بحارهم
وحماهم يحمي النّزيل بربعه ... من جور ما يخشى ويرعى جارهم
بالرغم مني أن بعدت ولم أجد ... ظلاٍّ تفيّؤه عليّ ديارهم
لو كان يمكنني وما أحلى المنى ... ما غاب عنّي شخصهم ومزارهم
ويح النوى شمل الأحبة فرقت ... فمتى يفكّ من البعاد إسارهم
وكتب رحمه الله تعالى وقد دخلت الديوان بدمشق
يقول جماعة الديوان فيه ... فسادٌ لا يزال ولا يزاح
فقلت فساده سيزول عمّا ... قليل إذ بدا فيه الصّلاح
فكتبت أنا الجواب إليه:
هويت جماعة الديوان دهراً ... فلمّا ضمّنا بدمشق مغنى
نظرت إليهم نظر انتقادٍ ... فكنت جمالهم لفظاً ومعنى
وكتب إلي من دمشق، وأنا بصفد ضعيف:
كتابك قد أتى عيني وفيها ... فساد نوىً لشوقي وارتياحي
فجدّده فليس يزول إلاّ ... إذا عاد الصّلاح إلى الصّلاح
فكتبت أنا الجواب إليه:
كتابك جاءني فنفى همومي ... وآذن سقم جسمي بالزوال
وأذكر ناظري زمناً حميداً ... تمتّع بالجمال من الجمال
وكتب هو يوماً إلي:
قد أصبح المملوك يا سيّدي ... يختار أن يفترع الرّبوه

وقد أتى صحبتكم خاطباً ... فأسعفوا واغتموا الخلوه
فكتبت أنا الجواب إليه ارتجالاً:
ما لي على الربوة من قدره ... لأنني أعجز عن خطوه
وليس مركوبي هنا حاضراً ... فمرّ نحو الخلوة الحلوه
وكتب هو إلي وأنا بالقاهرة:
سار دمعي مني إليك رسولا ... حين أخليت ربعك المأهولا
وفؤادي استقرّ إذ أنت فيه ... يتراآك بكرةً وأصيلا
ونسيم الصّبا تحمّل من وص ... ف اشتياقي فيه حديثاً طويلا
ترك القلب في الأضالع يظما ... فيسقّيه الاشتياق غليلا
فاستمع ما يملّي النسيم بعلمٍ ... عن غرامي إذ كان مثلي عليلا
وقميص الكرى مزقٌ فإن زا ... ر خيالٌ وصّلته توصيلا
حبّذا قربك الذي كان أندى ... في فؤادي من النّسيم بليلا
وليالٍ كم غازل الطرف من أُن ... سك في جنحهنّ وجهاً جميلا
ومدام كأنّها لون دمعي ... عندما أزمع الحبيب رحيلا
كأسها في الدّجا تبدّى شهاباً ... وكسا المزج رأسها إكليلا
فتهدّيت للسرور برؤيا ... ه وإن كان للهدى تضليلا
كم ركبنا لها سوابق لهوٍ ... كان جرس الغناء فيها صهيلا
قرّب اللّه عهدنا من ليالٍ ... لم أكن لاقترابهنّ ملولا
أتلظّى جوىً وفرط حنين ... إن تذكرت ظلهنّ الظليلا
وإذا ما احترقت شوقاً فقولي: ... ليت لم أتخذ فلاناً خليلا
يا صلاح الدين الذي فسد العي ... ش لنا مذ نأى وساء مقيلا
قد أتتني أبياتك الغرّ تحكي ... نسمات الصّبا تجرّ ذيولا
أو نبات الربا يصافحه القط ... ر فيغدوا رطب الحيا مصقولا
فتذكرت منك جودا عميما ... ومحيا طلقاً وفضلاً فضيلا
ورأيت السطور تحكي ليالي ال ... قرب حسناً ورقّةً لا طلولا
حبذا عهدهن والعيش فيه ... إذ أنا مالك إليه وصولا
كنت أجني ثمار أنسك فيه ... نّ فبدلت بالنوى تبديلا
وكتبت أنا إليه من دمشق، وهو بغزة في الصيد جواباً عن كتاب فيه عتب:
حيث الخيام برمل غزّه ... لي سادةٌ عندي أعزّه
وأنا كثيّر حبّهم ... وهم كما أختار عزّه
سيما جمالهم الذي ... في فضله طرفي تنزّه
مولىً بعطف يراعه ... طربٌ يرنّحه وهزّه
أضحى يوشّي طرسه ... ويحوك بالأسجاع طرزه
يملي عليه بدائعاً ... يكسو المهارق خير بزّه
لو فاخر الروض البسي ... م بكتبه لأبان عجزه
ألفٌ حكت غصن النقا ... صدحت عليه حمام همزه
من ميم ميلي عنه لا ... أدخلت قلبي تحت رزّه
وظفرت منه بمعقلٍ ... لا تطرق الأحداث حرزه
وبه تبيّن لي الهدى ... وحللت من معناه رمزه
وبه ملأت يدي غنىً ... من فضله وفتحت كنزه
فالله يحرس مجده ... ويديم للآداب عزّه
يقبل الأرض، ويصف شوقه الذي شق الجوانح، وجرح الجوارح، وملأ الفؤاد فوادح، ويذكر حنينه الذي شغله عن ذاته، وأذهله حتى عن تمني اللقاء ولذاته، ونغص صفو عيشه بالبعد، وهذه أحسن حالاته. وينهي ورود المثال العالي فتلقى منه أكرم وارد، وحوى من ألفاظه الغر مصائد الشوارد، وشافهه منها ألسن عتب لها في القلب وقع السيوف، وإن كانت فصاحتها مثل المبارد، وأضرمت في الحشا نيراناً لها الزفرات دخان، والضلوع المحنية مواقد، فقابلها بأعذاره الملفقة، فقالت حرارة تلك السطور: دعنا من عذرك البارد، ونظر من تلك الحروف المنظمة إلى نونات كأنها براثن الأسود، وإلى ميمات كأنها عيون الأساود:
وكأن ذاك الطرس أصبح سلّة ال ... حاوي وهاتيك السطور أفاعيا

ثم إن المملوك كابر نفسه، وقال: ربما تصحف عليه ما تصفح، وترجى أن يكون هذا القدر هو الذي ترجح، وجانس بين آساته وعطفه، فذاك ترنم، وهذا ترنح:
ويدلّ هجركم على ... أنّي خطرت ببالكم
وعلل نفسه بقول الآخر:
.............................. ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب
وقال: هذا هو العتب المحمود العواقب، وهذا التأديب الذي يعقب الرضى ولا يعاقب. وقد عاد المملوك إلى صوب الصواب، وتضرع من تلك السطور على عتبات العتاب، وظن أنما فتن، فاستغفر ربه، وخر راكعاً وأناب:
وهذا الذنب أوّل كلّ ذنب ... وآخره إلى يوم الحساب
فليغفر مولانا هذه الهفوه، وليقله عثرة هذه الخطوه، التي لم يلق فيها حظوه، والله يمتع العيون والنفوس بجماله وجلاله، ويزين الوجود بمحاسنه التي يخجل منها البدر في كمال بمنه وكرمه، إن شاء الله.
وحكى لي رحمه الله تعالى، قال: رأيت البارحة في المنام، كأن في بيتي نهراً عظيماً صافياً، وأنت من ذلك الجانب، وأنا من هذا الجانب، وكأني أنشدك:
يا خليلي أبا الصّفا لا تكدّر ... منهلاً من نمير ودّك أروى
فجميع الذي جرى كان بسطاً ... ولعمري بسط المجالس يطوى
فقلت لي: لا بل انظم في زهر اللوز شيئاً، فأنشدتك:
أيا قادم الزهر أهلاً وسهلاً ... ملأت البرايا هدايا أرج
فوقتك فضّ ختام السرو ... ر وعهدك فرجة باب الفرج
فكتبت أنا إليه عندما قص علي هذه الرؤيا:
حاشى للّه أن أكدّر عهداً ... لم يزل من وفائك المحض صفوا
وإذا ما حديث فضلك عندي ... ضاع مني في نشره كيف يطوى
وكنت وعدته بعارية رسالة لابن رشيق سماها ساجور الكلب، فتأخرت، فكتب هو إلي:
يا جواداً عنانه في يد الجو ... د تباخلت لي بساجور كلب
لا تضع رتبة التفضّل والإيث ... ار فالأمر دون بذل العتب
وإذا لم يكن من العتب بدّ ... فمرادي إن شئت غير الكتب
فجهزتها إليه، وكتبت الجواب:
أيها الأروع الي فاق مجدا ... لا تؤنّب من لا أتاك بذنب
أنت تدري أن الوفاء الموفّى ... لي طباعٌ في الودّ من غير كسب
أنا أخبا لو كان طوق عروس ... عنك حتى أصون ساجور كلب
وبيني وبينه مكاتبات كثيرة نظم ونثر، وقد أوردتها في كتابي ألحان السواجع.
عبد الله بن علي بن عمرابن شبل بن رافع بن محمود، الشيخ الصالح المحدث نجم الدين أبو بكر الصنهاجي الحميري الشافعي الصوفي.
اعتنى به والده، وأسمعه صحيح البخاري من الشيوخ الثلاثة: ابن عزون، وابن القاضي رزين، وابن رشيق، وسنن أبي داود من النجيب عبد اللطيف، ومسند الإمام أحمد من النجيب أيضاً، ورحل به إلى دمشق ومعهما فخر الدين بن النويري، فسمع بها صحيح مسلم من ابن عبد الدائم، ومن أصحاب الخشوعي وابن طبرزد، وسمع بالإسكندرية أيضاً من أصحاب ابن موقا.
وكان مكثراً صبوراً على التسميع، ذاكراً لمسموعاته، وحدث بالكثير، ومن جملة ما حدث به الكتب الستة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري شعبان سنة أربع وعشرين وسبع مئة بقرافة مصر الصغرى، ودفن بها.
ومولده في سادس عشر شهر رجب سنة ثمان وخمسين وست مئة.
عبد الله بن علي بن سليمانالشيخ الإمام العالم كمال الدين أبو محمد الغرناطي المالكي.
كان رجلاً صالحاً عارفاً بالنحو والقراءات، وله مشاركة في الفقه، وأقرأ الناس بحلب نحو عشر سنين، وعاد إلى الغرب، وجدد عهده بأهله، وبعض شيوخه. ثم إنه رجع، وأقام بالقدس شيخ الإقراء، ومدرساً وإماماً للمالكية.
قال شيخنا البرزالي، سمع بقراءتي سنن أبي داود على ابن البخاري، وغير ذلك، وحدث بالقدس.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
عبد الله بن عليابن محمد بن عمر بن أبي عمر المسند الأصيل شهاب الدين أبو القاسم الأزدي الدمشقي.
حدث عن ابن أبي اليسر وغيره حضوراً، وسمع من ابن علان وطائفة.
وتوفي بدمشق رحمه الله تعالى في سنة أربع وأربعين وسبع مئة عن ثلاث وسبعين سنة.
عبد الله بن أبي عمر

ابن أبي الرضا الفارسي الفاروثي الشيخ الإمام العالم العلامة سيف النظر نصير الدين أبو بكر الشافعي، مدرس المستنصرية ببغداد.
كان من كبار المذهب، ورافعي لوائه المذهب، لو ناظر السيف الآمدي قطعه، أو الرازي ألقاه في هوة رزية ودفعه.
قدم دمشق، وتكلم، وجرح جماعة في بحثه وكلم، وبانت فضائله، وحكت الرياض الأريضه شمائله، وعاد إلى مدرج عشه، وأقام بها إلى أن حمل على نعشه.
وتوفي ببغداد رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة.
عبد الله بن محمدابن الصفي بن أبي المعالي أحمد المقدسي المعروف بابن الواعظ.
أخبرني العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: لقيته بدمياط سنة ثمان وثمانين وست مئة، وأنشدني لنفسه:
سرت نسمةٌ مسكية العرف معطار ... لها أرج في طيّ مسراه أسرار
فملنا بها حتى الغصون كأنّما ... شذاها سلاف الراح والنشر خمّار
ألا هات عن نجد أحاديث غربةٍ ... فيا طيب ما خبرٌ أفدت وأخبار
أُهيل ودادي هل على أيمن الحمى ... أراكم وتقضى بالتواصل أوطار
وهل تسعف الأيام تسمح بالمنى ... بقرب مزار أو يوافق مقدار
خليليّ إن القلب والنفس والهوى ... لعينيه أعوانٌ عليّ وأنصار
قلت: شعر يقارب الجودة، ولو كان لي فيه حكم لقلت:
........................... ... فيا حبذا خبرٌ أفدت وأخبار
وكان يستريح من اللحن، ومن قلق هذا التركيب؛ لأن ما ههنا زائدة، وتقديره: فيا طيب خبر وأخبار أفدت، والمعنى عليه، وإن كانت نكرة موصوفة وتقديره: فيا طيب ما أفدته خبراً وأخباراً، فيتعين النصب حينئذ على التمييز.
عبد الله بن محمد بن هارونابن عبد العزيز بن إسماعيل الطائي الأندلسي القرطبي المالكي، نزيل تونس.
قرأ القراءات على جده لأمه محمد بن قادم المعافري، ولازم خال أمه إمام جامع قرطبة العلامة أبا محمد عصام بن أبي جعفر أحمد بن محمد بن خلصة، واستفاد عليه، وأخذ عن قرابته الحافظ أبي زكريا بن أبي عبد الله بن يحيى الحميري، وقرأ عليه الفصيح والأشعار الستة، وسمع منه الروض الأنف، وسمع قاضي الجماعة أبا القاسم بن بقي، وأخذ عنه الموطأ سماعاً، وقرأ عليه كامل المبرد، وسمع صحيح مسلم من عبد الله بن أحمد بن عطية، وسمع من أبي بكر محمد بن سيد الناس الخطيب صحيح البخاري، ولازمه وسمع الشمائل من الحافظ محمد بن سعيد الطرار، وسمع التيسير من النحوي أحمد بن علي الفحام المالقي، وأخذ كتاب سيبويه تفهماً عن أبي علي الشلوبين وأبي الحسن الدباج، وقرأ مقامات الحريري تفهماً على العلامة عامر بن هشام الأزدي، وانتهى إليه علو الإسناد.
وروى عنه شيخنا أبو حيان وأبو عبد الله الوادي آشي، وأبو مروان التونسي خازن المصحف وآخرون.
قال شيخنا الذهبي: وكتب إلينا بمروياته عام سبع مئة، كان قد جمع بين الرواية والدرايه، وتحقق عند الناس ماله بالعلم من العنايه، وأخذ عنه الكبار، وأعاد جدة ما قد خمل من هذا الفن وبار، إلا أنه كان يتشيع ظاهرا، ويطعن في معاوية وابنه ناظماً وناثرا.
ثم إنه في آخر وقته اختلط وانحطم، وسكن منه ذلك البحر الذي تموج والتطم، وبان هرمه، وخمد ضرمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وست مئة.
أخبرني العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، قال: رأيت بخط ناصر الدين بن سلمة الغرناطي: شيخنا ابن هارون فيه تشيع وانحراف عن معاوية، وابنه يطعن فيهما نظماً ونثراً، اختلط بعد انفصالي عنه، وبان اختلاطه.
عبد الله بن محمد بن عبد الرزاق العراقيالإمام البارع عماد الدين الحربوي الطبيب الأديب الحيسوب المتفلسف، أحد الأعيان ببغداد.
نبغ في فنون من العلوم العقلية والنقليه، وقرأ عليه جماعة في أنواع من المعارف الجدية والهزليه، وجالس الملوك، وحصل أموالاً تضيق بدررها السلوك، ودرس مذهب الشافعي بدار الذهب، وأغار على ما في كتب المذهب من الجواهر ونهب، ومنح الطلبة ما عنده من ذلك ووهب، وولي رئاسة الطب، ومشيخة الرباط، وعمل أشياء بالاحتيال والاحتياط.
ولم يزل على حاله إلى أن زال سلطانه، وفارقته مع الحياة أوطانه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.

ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة.
وهو الذي علم شرف الدين هارون بن الوزير وأولاد عمه علاء الدين صاحب الديوان فن الحساب، وكثرت أمواله، وكان قد أخذ فن المعقول عن النصير الطوسي وأنشأ داراً وقفها على إمام ومؤدب وعشرة أيتام، وله تصانيف وإنشاءات.
وأخذ عنه العز الإربلي، وله من التصانيف: القواعد البهائية في الحساب، ومقدمة في الطب، وغير ذلك.
قال في تفسير رشيد الدولة: هو إنسان رباني، بل رب إنساني، تكاد تجل عبارته بعد الله. فشهدوا عليه بعد موت الرشيد، فدخل على قاضي القضاة قطب الدين، فحقن دمه، ومات، ودفن في داره ببغداد.
عبد الله بن محمد بن عليابن حماد بن ثابت الواسطي الإمام المفتي بالعراق، جمال الدين بن العاقولي البغدادي، مدرس المستنصرية.
كان يقول: إنه سمع من محيي الدين بن الجوزي، وسمع من الكمال الكبير، وروى عن ابن الساعاتي شيئاً في تأليفه.
وكان إماماً عالما، سالباً غرة الكمال سالما، له مهابة وعنده شهامه، وإذا رمى أمراً أنفذ فيه سهامه، حميد الطريقه، مفتي العراق على الحقيقه، أفتى نحواً من سبعين سنه، وأعاد عينه في العلم رمداء، وغيره بالجهل عينه وسنه.
ولم يزل على حاله إلى أن زاد في هجر موضعه، وسار راكباً على شرجعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة، وعدل سنة سبع وخمسين وست مئة.
ورزق الحظ في فتاويه، ودفن بداره التي وقفها على ملقن وعشرة أيتام، وكانت جنازة عظيمة إلى الغاية، ما رؤي مثلها.
وخلف ولداً ذكياً، اشتغل بالحكمة والنظر، ودرس وعظم أيضاً بعد والده.
عبد الله بن محمد بن أبي بكرالإمام العلامة تقي الدين الزريراني، بزاي مفتوح، وراء بعدها، ياء آخر الحروف، وراء ثانية، وألف بعدها نون، العراقي الحنبلي مدرس المستنصرية.
برع في مذهبه، وسار منه في موكبه، واشتغل واشتعل، وحفي في طلب العلم وانتعل، وصنف وناظر، وذاكر بالعلوم وحاضر، وناب في الحكم فحمدت سيرته، وطهرت في القضاء سريرته، وقرأ الناس عليه، وحملوا المسائل والفتاوى إليه.
ولم يزل على حاله إلى أن التقى الموت بالتقي، وفني جسده، وذكره بقي وهو نقي.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
وكان قد قدم دمشق في حدود سنة تسعين، وتفقه بها على المجد وغيره، وعاد إلى بغداد، وهو والد شرف الدين عبد الرحيم.
عبد الله بن محمد بن أبي بكرالفقيه شرف الدين أبو محمد بن الشيخ العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية الحنبلي، يأتي ذكره والده في مكانه.
كان شرف الدين هذا آيةً في الذكاء والحفظ. قرأ القرآن صغيراً وعمره تسع سنين، وختمه، وصلى به سنة إحدى وثلاثين بالجوزية، كان يتلقن في أكثر الأيام نصف جزء، وحفظ العراف في تلقينين، وحفظ الجرجانية والكافية الشافية لابن مالك، وحفظ المحرر للشيخ مجد الدين بن تيمية، وقرأ مختصر الروضة للشيخ مجد الدين الطوخي في أصول الفقه، وحفظ المحرر في الحديث لشمس الدين بن عبد الهادي، وسمع الحديث، وأكثر منه في الشام ومصر على أصحاب ابن عبد الدائم وأصحاب ابن النجيب الحراني وطبقتهم، وسمع على الحجار أكثر صحيح البخاري، وسمع الكتب الستة والمسانيد المشهورة، وشيئاً كثيراً من الأجزاء.
وأفتى ودرس، وأعاد، وحج مع والده مرتين، وأقام بينهما سنةً بمكة، ثم إنه حج بعد ذلك سبع حجات متواليات، وتزوج اثنتين.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شعبان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
ومولده في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
عبد الله بن محمد بن عبد القادر بن ناصرقاضي القضاة زين الدين المعروف بابن قاضي الخليل الشافعي.
كان قاضي قضاة الشافعية بحلب، وكان حسن الشكاله، قادراً على نصب الحباله، وقوراً، له مهابة فاخر البزة، قد أوقد التعاظم فيها شهابه، عنده مشاركه، وله منابذة ومتاركه، عقله المعيشي جيد، وذكره بالقبول متأيد، محاضرته حلوه، ومذاكرته من الإملال خلوه، وله نظم قد صفا، ورف عليه ظل القبول وضفى.
ولم يزل على حاله بحلب إلى أن كمل شوطه وانقلب.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمسين وست مئة.

ولي بدمشق قضاء بعلبك في أول المحرم سنة سبع وتسعين وست مئة، وقضاء حمص، ثم إنه نقل إلى قضاء حلب، فأقام به نيفاً وعشرين سنة، وناب في الحكم بدمشق، وحج مرات، وتزوج بابنة الأمير علم الدين الزراق، وجرت له أمور مضحكة بسببها، لأن سمعه لحقه صمم، وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني كثير الحط عليه، حكى لي عنه حكايات عجيبة، نسأل الله العفو والسلامة منها. وتوجه الشيخ كمال الدين بعده لقضاء حلب.
ومن شعره:
أحبّك حبّاً يمنع العين نومها ... ويمنعني عند الظّما بارد العذب
وما أنا راضٍ عن غرامي وإنني ... لأعتب في هذا الغرام على قلبي
قلت: هو مأخوذ من قول الأول ..
ومن شعره في سنة حجه:
ولما أتى سيلٌ عظيم عرمرمٌ ... بوادي القرى يعلو على السهل والوعر
علونا ظهور اليعملات تحصّنا ... وكانت لنا في البرّ سفناً وفي البحر
ومن شعره قصيدة يمدح بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد بدت طيبةٌ ولاحت رباها ... فابتدر قربه بلثم ثراها
واحمد الله ذا المواهب والفض ... ل على النعمة التي أولاها
وافرش الخدّ والدموع على الأر ... ض وهذا شأن الذي يغشاها
ثم لاحت لنا القباب العوالي ... فاستنارت رحالنا من سناها
وأتينا مدينة العلم والو ... حي ومن تنف خبثها وأذاها
فرأينا جلالةً وبهاءً ... ما رأيناه في مكانٍ سواها
وأتينا سعياً إلى الحرم الأ ... شرف والحجرة التي نهواها
حبذّا ساعةٌ أتيناه فيها ... وصباحٌ وليلةٌ سرناها
ثم قلنا عليك يا أشرف الخلق ... صلاة ورحمة لا تضاهى
وعلى صاحبيك صهريك جاري ... ك سلامٌ يعطر الأفواها
يا رسول الإله يا أشرف الخل ... ق ويا أعظم النبيين جاها
يا مغيث الأنام في موقف الحش ... ر إذا أوثق النفوس رداها
حيث كلٌ يقول: نفسي نفسي ... ليس يرجو نجاة شيءٌ سواها
فتنادي أنا لها زادك الّله ... ارتقاءً ورفعةً ترضاها
فهناك الرسول يسجد لله ... لدى العرش مخبتاً أوّاها
ملهماً أشرف المحامد لله ... وما كان قبل ذاك دراها
فينادى ارفع واشفع تشفّع ... ثم سل كلّ حاجة تعطاها
ثم يؤتى بأمّة نظر الله ... إليها بأحمدٍ فهداها
ثم يمضي بهم سريعاً إلى الجنة ... يا فوزها ويا بشراها
قلت: نظم، مقبول، إلا أن فيه لحناً خفياً، ولحناً ظاهراً، فالظاهر في قوله: ومن تنف، فجزم بمن، توهمها شرطية، وليس كذلك، والخفي قوله: وسل كل حاجة تعطاها، جواب الأمر في: سل تعطها، ولكنه يجوز، وهو أهون من الأول.
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون
الشيخ تقي الدين الهرغي، بضم الهاء وسكون الراء، وبعدها غين معجمة، الزكندري، بالزاء والكاف والنون والدال المهملة، والراء المراكشي، قاضي الركب المغربي.
اجتمعت به بجسر اللبادين بدمشق في حادي عشر صفر، سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وسألته عن مولده فقال: في تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وسبع مئة.
وأنشدني من لفظه لنفسه ملغزاً في البربر:
وما أمّة سكناهم نصف وصفهم ... وعيش أعاليهم إذا ضمّ أوّله
ومقلوبه بالضم مشروب جلّهم ... وبالفتح من كلٌّ عليه معوّله
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
اسم الذي قد سبى قلبي تجنيّه ... وعزّ ملك جميع الحسن يطغيه
ما كل آخره عشرٌ لأوّله ... وعشر ثالثه شطرٌ لثانيه
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
قسماً بورد الوجنتين ونضرته ... وبقدرك السامي الرفيع وعزّته
لو لاح وجهك في الكرى لكثيّر ... ما اعتاده برح الخيال بعزته
أو لو رأى الضّليل بعض جمالكم ... ما ضلّ عن سبل الهدى بعنيزته
عبد الله بن محمد

أبو محمد المرجاني القرشي التونسي الشيخ الإمام العالم المفتي.
كان مشهوراً في الآفاق ذكره، مشهوداً في البواطن علمه وخبره، وكان إماماً مفتياً في مذهب مالك، عالماً بما فيه من المآخذ والمسالك، حلو العبارة مذكرا، خبيراً بعلوم القرآن مفسرا، ما كان أحد يقدر على إعادة ما يسرده، ولا حفظ ما يقوله ويورده، لأنه كان ربما يتكلم على الآية الواحدة ثلاثة أشهر، وتخيل الناس أن هذه المادة من بحر زاخر، فإنها تستكثر على الأنهر، وله يد طولى في الحديث ومعرفه، وقدم راسخ في العبادة والتصوف البديع الصفه، ولم يصنف شيئا، ولا ترك لشخصه فيئا، وترك مجلدات كثيرة إلى الغايه، وعلى الجملة فكان آيه.
توفي بتونس رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. وعاش اثنتين وستين سنة، وصلى عليه المستنصر أبو عبد الله محمد بن الواثق صاحب تونس.
قدم الإسكندرية والقاهرة، وذكر بهما، وتعجب الناس منه رحمه الله تعالى.
عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن خليلبهاء الدين العسقلاني ثم المكي المقرئ الشافعي المحدث.
عني بالحديث، وارتحل له، وأخذ عن بيبرس العديمي بحلب، وعن ست الوزراء، والدشتي بدمشق، وعن التوزي، ورضي الدين بمكة، وعن طائفة بمصر، وقرأ المنطق، وقرأ بالروايات وأتقن المذهب.
وكان حسن القراءه، بديع المراجعة والبداءه، جيد المعرفة بعلومه، يضاهي الأفق في عداد نجومه، مليح المذاكرة إذا انشرح، بديع المحاضرة كأنه نسيم في السحر سرح، متين الديانه، مبين الصيانه، شديد الورع، عديم التسرع، يؤثر الانقطاع والخمول ويود أن لا يكون له بالخلق شمول. حصل المدارس والمعاليم، ثم ترك ذلك جميعه وانقطع، وآثر الحق الذي لاح له وسطع، ورابط بظاهر الإسكندرية في زاوية هناك، وخلص من الاشتراط والاشتراك.
وما زال على حاله إلى أن راح خفيف الحاد، وترك الفاني وأخذ ما ليس له من نفاد، وتوفي رحمه الله تعالى ... .
ومولده سنة أربع وتسعين وست مئة بمكة.
عبد الله بن محمد بن عسكرابن مظفر بن نجم بن شاذي بن هلال، شرف الدين أبو محمد القيراطي الشافعي.
سمع من الدمياطي، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وسمع بالإسكندرية من الأشياخ الموجودين في سنة سبع مئة، وقرأ الأصول على الباجي، والخطيب الجزري، والعربية على شيخنا أبي حيان.
كان فقيهاً أديبا، عارفاً لبيبا، محفوظه كثير، ومدده في التفسير غزير، ولي القضاء بنواحي عديده، ووجد فيها أموراً مفيتة ومفيده، ثم استعفى، وطلب لقضاء حلب، فاستخفى.
وحكى عنه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي أشياء دارت بينهما حسنة، دلت على أنه كان مطبوعاً.
ولم يزل على حاله إلى أن خلت منه القاهرة، وأوحش بفضله النجوم الزاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في بلبيس سنة اثنتين وسبعين وست مئة.
ولي القضاء بالمنوفية وبدمياط وبسيوط، ودرس بالسنجارية المجاورة لقبة الشافعي، وبالمشهد النفيسي، وأعاد بالقطبية وبقبة الشافعي، وترك القضاء، وطلب لقضاء حلب، فبكى بين يدي السلطان واستعفى، وسئل عن قضاء الغربية فلم يجب.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي، قال لي: ما بقيت أدخل في القضاء، فإني ما وجدت فيه خيراً، ومن شعره:
يا دارهم باللوى حيّيت من دار ... ولا تعدّاك صوب العارض الساري
ترى تعود ليالينا بقربهم ... قبل الممات وتقضى فيك أوطاري
ودّعت طيب حياتي يوم فرقتهم ... فالطرف في لجّة والقلب في النار
لله عيش مضت أيامه هدراً ... لم يبق فيها سوى أوهام تذكار
عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمدالشيخ الإمام الفقيه المحدث الفاضل شرف الدين أبو عبد الله الواني الدمشقي حفيد الشيخ برهان الدين المؤذن المقدم ذكره.
سمعه والده الشيخ أمين الدين من أبي بكر بن عبد الدائم، والمطعم حضوراً، ومن ابن سعد والبهاء بن عساكر، وبالقدس من بنت شكر، وبمصر وقوص والحرمين وحماة وحلب، وطلب هو بنفسه، وقرأ، وكان قارئاً مطيقا، فصيح اللفظ منطيقا، حاد الذهن، سريع الإدراك، بديع الاشتراك، لو عاش لكان عجبا، وأبقى له في الغابرين نبا، ولكنه مات عبطه، وأضاع الموت جمعه وتحصيله وضبطه.

وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان قد قرأ على شيخنا الذهبي وغيره، وكان فيه ورع، وعمل أربعين بلدية وغير ذلك.
وكتبت ورقة شهادة له باستحقاقه لما يتولاه من وظائف العلم، ونسختها ... .
عبد الله بن محمد بن محمد بن عليالإمام القدوة شيخ المحرم، نجم الدين الأصبهاني المجاور، صحب أبا العباس المرسي تلميذ الشاذلي.
كان شيخاً مهيبا، وقوراً عجيبا، منقبضاً عن الأنام منجمعاً عن الناس في ذاته بالحطيم، زاهداً في الحطام.
تفقه في مذهب الشافعي فأتقنه، وبرع في علم الأصول وأثار معدنه، ودخل في طريق الحب، ونزل منه في جب، وصحبه الشيخ عماد الدين الحزامي.
ولم يزل على حاله إلى أن عدم الحرم أنسه، وأتاه العدم الذي يعم نوعه وجنسه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده في ثلاث وأربعين وست مئة.
جاور بضعاً وعشرين، حج من مصر، ولم يزر النبي صلى الله عليه وسلم، فعيب ذلك عليه مع جلالة قدره، وكان لجماعة كثيرة فيه اعتقاد عظيم.
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمنالصدر الفاضل جمال الدين بن قاضي القضاة جلال الدين القزويني، وسوف يأتي ذكر جماعة من إخوته، وذكر والده وعمه كل منهم في مكانه.
كان قبل ما يتعلج، ويدخل في السمن ويتولج، ذا صورة في الحسن بديعه، وطلعة تترك قلوب من رآها صديعه، تتيم فيه جماعة وهاموا، وغرقوا في دموعهم وعاموا، ولما طلب السلطان والده ليوليه قضاء الشام كتب فيه تنكز أن هذا ولده يتعب الناس بسببه، فقال السلطان: أنا أترك ولده عندي بالقاهرة، فجهز والده، وأقام عبد الله المذكور بالديار المصرية، فخدمه الناس، وتقربوا إليه بمجالس اللهو والإيناس، وصحب الناس وعرفهم، ورافقهم وألفهم.
ولما حضر والده قاضي قضاة الديار المصرية زاد وجاهه، وارتفع عظمةً ونباهه، وحصل أموالاً جمه، وأملاكاً لا تذم لها ذمه، واقتنى من الخيل ما كثار بعدته وعدته نجوم الليل، وكانت له خبرة في معرفة جيادها، ودربة تامة في اقتنائها واقتيادها، وذهنه في غاية الحسن، وذكاؤه تعرفه القالة اللسن.
وحفظ التنبيه في الفقه وغيره من كتب العلم، ودرب الأحكام الشرعية كما يراه أولو الحلم.
ولما توجه والده مع السلطان إلى الحجاز ناب عنه في إلقاء الدروس، وعجب الناس منه، وحركوا له الرؤوس، ثم إنه خرج مع والده إلى الشام، وترك وراءه ملكاً كم لمح بارقه، وكم شام.
ولما كان الفخري على خان لاجين بدمشق قرره في ديوان الإنشاء كاتبا، وأجرى له معلوماً على ذلك وراتبا.
ولم يزل على ذلك إلى أن برك جمله فما قام، وثوى بعد تنعمه في ذل التراب وأقام.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ومولده .. .
وكان قد حصل له فالج ووالده بدمشق خطيب، فتعب عليه وعالجه أمين الدين سليمان إلا بقايا منه.
وكان شكلاً ضخماً، كبير البطن، ثقيل الحركة، يتعذر عليه المشي إلا بكلفة.
وحضر إلى دمشق بخيول عظيمة، وجوار كثيرة مبدعات الحسن، وكان يحتاج لجماعته ومن حوله في كل يوم خمسة أرطال لحم بالدمشقي، وكان يبالغ في اقتناء الخيل المسومة، ويسابق عليها أولاد الأمراء والأمراء ومماليك السلطان، وأخرجه السلطان لذلك من مصر، وأقام بدمشق مدة، ثم سأل والده فيه السلطان، وضمنه، فأذن له في العود، ثم أخرجه، ثم أعاده مرتين، وأنا شاك في الثالثة، وعمر بمصر على النيل بالقرب من جزيرة الفيل عمارةً عظمى أنفق عليها ما يزيد على ألف ألف درهم، ولما خرجوا من مصر اشتراها الأمير سيف بشتاك بأربعين ألف درهم، وأباع له النشو منها شبابيكها النحاس بأربعين ألف درهم، وكانت له دار أخرى داخل القاهرة عند دكة المحتسب أباعها بدون العشرين ألف درهم، أقل ما أنفق عليها ستون ألف درهم.
وأما الجواري فذكر لي من لفظه بالقاهرة: هن ما يبرحن عشرة، أربع منهن أمهات أولاد، وست أبيعهن وأشتري بدلهن دائماً.
وأما عدد خيله ومراكيبه وما يحتاج ذلك من السروج المرصعة واللجم والفكوك باليشم واليصم والأقواس والبرذنبات والكنافيش عمل الدار والمقصبه والعبي، وغير ذلك فشيء كثير جداً، لكل فرس بذلتان وثلاث، وقال لي في وقت: عندي تسع عشره حجراً غير البغال والأكاديش والفحول الثمينة.

وأما الكتب المجلدة من الأدبيات والدواوين وغيرها من كل فن فكان عنده وحده خارجاً عن أبيه وإخوته فوق الثلاثة آلاف مجلدة، ولكن كل نسخة ما يقع مثلها في عمر مديد.
وأما الصيني من القطع النفيسة الجليلة الغريبة فشيء عظيم، إلى غير ذلك من سائر الأصناف النفيسة البديعة الثمينة.
وبالجملة فما كان إلا في عداد الملوك، وكان يحفظ ديوان ابن الفارض بكماله، ومن شعر الأرجاني وابن النبيه والحاجري والبهاء زهير وابن عربي والسراج الوراق وأبي الحسين وابن دانيال وابن النقيب، وفحول المتأخرين ما يقارب عشرين ألف بيت.
ولما مات كان قد ذهبت نعمته، ولم يبق منها إلا بقايا، وزالت بأجمعها، ولم يطرح الله فيها بركة، ووصل بعده أولاده إلى أن كانوا يستعطون من أصحاب أبيهم، ومن أكابر الناس، فسبحان العظيم.
عبد الله بن محمد بن عبد العظيم بن السقطيالشيخ الإمام العالم فخر الدين أبو محمد الشافعي.
كان فقيهاً، وصنف منسكاً كبيراً، وناب في الحكم على باب النصر بالقاهرة، وأقام بمكة شاهداً على العمارة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وكان شاهداً بالخزانة في قلعة الجبل، وسمع من ابن خطيب المزة، وحدث، وقيل: إنه شرح التنبيه.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
وهو ابن أخي القاضي جمال الدين ابن السقطي.
عبد الله بن محمدالمراكشيبن عبد الله فخر الدين أبو محمد المراكشي كان فقيهاً مباركاً مشكوراً، اشتغل كثيراً بالعلم، ونسخ بخطه، وكان إمام المدرسة الرواحية، وفقيهاً بالمدارس. وقرأ بالروايات على الزواوي، وروى الحديث عن الرشيد بن مسلمة، وسمع من جماعة منهم شمس الدين محمد بن سعد المقدسي، وعبد الله بن الخشوعي، وابن طلحة، وإسماعيل العراقي، والعماد بن عبد الهادي، واليلداني، والكفرطابي، والسديد بن علان، والباذرائي، وعثمان بن خطيب القرافة، والنجم بن النور البلخي، وابن عبد الدائم.
وتوفي رحمه الله في مستهل شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وقد قارب الثمانين رحمه الله تعالى، دخل حمام السلاري فوقع ومات هناك، وغسل بالرواحية.
عبد الله بن محمد بن فضل اللهالقاضي شمس الدين بن القاضي فخر الدين ناظر الجيوش.
نشأ في حياة والده، وتأهل للمناصب.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وفقده والده، وكتب الأمير سيف الدين تنكز إلى والده وعزاه فيه.
عبد الله بن محمد بن أحمدابن خالد بن محمد بن نصر بن صغير، الصاحب الأثير الوزير فتح الدين القرشي المخزومي الخالدي الحلبي بن القيسراني.
سمع أبا القاسم بن رواحة، وابن الجميزي، ويوسف الساوي، وابن خليل، وأحمد بن الحباب، وجماعة.
كان من أعيان الوزراء، وأفاضل الكبراء، شارك في الفضائل والآداب، ودخل في عداد المحدثين والشعراء والكتاب، روى وروى الناس عنه، وأخذوا الفوائد منه.
كان ممن يزهى الزمان بوجوده، ويفخر بعلوه في علومه، ورقيه في جو جوده.
وكتب الإنشاء في الديار المصرية، وأطلع بدور المعاني في ليالي سطوره الحبرية، وكان كما قال ابن الساعاتي:
أشمّ عفيف العين واليد والمنى ... وغيب الحشا والسر والجهر والحلم
له قلمٌ يرجى ويخشى شراته ... فكم شدّ من أزرٍ وكم سدّ من ثلم
وفاق يد الغيث الصناع جلالةً ... بما بثّ من وشي بديع ومن رقم
ولم يزل بين صناعة البلاغة والتدبير، وتصريف الدول والتحبير، إلى أن فتح القبر له فاه، وقال كل من يعرفه: والهفاه ! وتوفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة بالقاهرة.
ومولده سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
كان له اشتغال بالحديث وتحصيله، وصنف في أسماء الصحابة المذكورين في الصحيحين، وترجم لهم، وروى شيئاً من أحاديثهم بأسانيده في مجلديه، وهما وقف المدرسة الناصرية بدمشق.
وكان يذاكر بأشياء حسنة مفيدة اللفظ والمعنى، وكتب الناس عنه قديماً، وممن روى عنه في معجمه الشيخ شرف الدين الدمياطي من نظمه، وأخذ عنه أشياخنا: فتح الدين بن سيد الناس، وعلم الدين البرزالي، والذهبي.
أنشدني من لفظه، قال: أنشدني من لفظه لنفسه الصاحب فتح الدين بن القيسراني:

بوجه معذبي آيات حسن ... فقل ما شئت فيه ولا تحاشي
ونسخة حسنه قرئت فصحّت ... وها خطّ الكمال على الحواشي
وكان قد ولي الوزارة في دولة الملك السعيد بن الظاهر في ذي الحجة سنة سبع وسبعين وست مئة بدمشق، وقبض عليه في تاسع عشر شهر رجب سنة ثمان وسبعين وست مئة، ووليها أيضاً في دولة الكامل كتبغا فما أظن، وعمه عز الدين أبو حامد محمد كان وزيراً بدمشق للملك الناصر، وجده موفق الدين خالد وزير دمشق أيضاً للعادل نور الدين الشهيد، وكان عنده مكيناً، وقد ذكرت ترجمة موفق الدين مستوفاة في التاريخ الكبير.
وكان القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى قد نظم مرثية في الملك الظاهر، ومدح الملك السعيد، وضمن البيتين المشهورين، وهما:
خلف السعيد به الشهيد فأدمعٌ ... منهلةٌ في أوجه تتهلّل
ملكان ذلك راحلٌ وثناؤه ... باقٍ وذا باق ثناه يرحل
فكتب الصاحب فتح الدين إلى ابن عبد الظاهر لما وقف على المرثية:
يا ذا الذي أخذ الكتاب بقوّةٍ ... فأتى به وهو الأخير الأوّل
قد حاز فيه بدائع الحسن التي ... ما مثلها فهو الرئيس الأمثل
لا فاضلٌ ساواه فيه ولا مشى ... في مثل منطقه البليغ الأفضل
مستشهدٌ فيه بأحسن شاهد ... إذ قال بيتاً مثله لا ينقل
خلف السعيد به الشهيد فأدمعٌ ... منهلّةٌ في أدمع تتهلّل
وكذاك أنت خلفت فيه الفاضل ... الندب الجليل وأنت منه أفضل
أرهبت فيه فقد أتيت بمعجزٍ ... في كل سطر منه يبدو جحفل
قلت: ادعى بعضهم أن هذا البيت لابن قلاقس الإسكندري، يهنئ الأميرين محمداً وأبا السعود ولدي الداعي عمران بن سبأ صاحب عدن.
قلت: الصحيح أن ابن قلاقس ضمنه، فإني وقفت على مجموع لابن خلكان قاضي القضاة رحمه الله تعالى بخطه وقد أثبته لابن خفاجة الأندلسي، ومما وقفت عليه في هذه المادة وهي التعزية والتهنئة في بيت قول ابن شرف القيرواني:
بكينا عليه ضاحكين كأننا ... نهار عليه شمسه وهو ممطر
غراءً ممن زار القبور وغبطة ... بأبلج لبّاه سريرٌ ومنبر
وقد سبق الناس كلهم إلى هذا أبو دلامة زند بن الجون يعزي بالمنصور ويهنئ بالمهدي في كل بيت فقال:
عينان واحدةٌ ترى مسرورةً ... بأمامها جذلاً وأخرى تذرف
تبكي وتضحك مرة فيسوءها ... ما أنكرت ويسرّها ما تعرف
ويسوءها موت الخليفة محرماً ... ويسرّها أن قام هذا الأرأف
هلك الخليفة يال أمّة أحمدٍ ... وأتاكم من بعده من يخلف
أهدى لهذا الله فضل خلافةٍ ... ولذاك جنات النعيم تزخرف
وكتبت أنا إلى القاضي ناصر الدين صاحب ديوان الإنشاء بدمشق أهنئه بولد ذكر جاءه، وأعزيه في ولد ذكر مات، كل بيت عزاء وهناء:
عزاؤك فيمن غدا راحلا ... هناءٌ بهذا الذي قد حضر
فأوحشنا ذاك لمّا مضى ... وآنسنا اليوم هذا وسر
وهذا به عيشنا قد صفا ... وجرّعنا ذاك كأس الكدر
إذا الشمس في جوّها أشرقت ... فما ضرّنا حين غاب القمر
عبد الله بن محمد بن بهادر آصجمال الدين بن الأمير سيف الدين.
كان شاباً حسناً ومليحاً، يخجل البدر سناء وسنا، ذا وجه ناسب الأقمار، وجرى حديثه في الأسمار، يخطه بقد من أين للرمح هزته، أو للغصن بزته، يكاد ينعطف بالنسيم إذا سرى، وينقصف من لطف حركاته إذا انبرى:
رأى قصر الأغصان ثم رأى القنا ... طوالاً فأضحى بين ذاك قواما
وكان رحمه الله تعالى يعمل بيده أشياء مليحة من آلات الجندية، قل من يعملها من حذاق الصناع، وعمل أشياء من أعمال الخرد فوشيه متقنة، ودخل بها إلى السلطان الملك الناصر حسن، وقدمها فاستحسنها منه.
وكان سعيد الحركات، له حظ وافر في المتجر، توجه مع والده الأمير ناصر الدين إلى الديار المصرية، وله إقطاع بالشام، فأقام بمصر عند والده، ومرض ثلاثة أيام، وكسف بدره.

وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري الحجة سنة إحدى وستين وسبع مئة، وترك شيئاً له صورة.
عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فيروالشيخ الإمام المحدث المفتي شيخ الإسلام زين الدين الفارقي، خطيب دمشق ومفتيها، أبو محمد الشافعي.
سمع من كريمة القرشية، وابن الصلاح، والسخاوي، وابن خليل، وطبقتهم، ثم إنه تحول إلى مصر، وقرأ على الشيخ عز الدين بن عبد السلام وغيره.
وروى الكثير، وأبان عن فضل غزير، وفاز بذكر شهير.
وكانت فيه زعارة وحده، وهيبة عظيمة وشده، وكانت فيه قوة للحق، وجلادة على مخاصمة الخلق، وتسرع في الافتاء وقع معه في هوة الإثم إلى الحلق، أراق دماءً كثيره، وقطع أطرافاً أمورها في ذلك الزمان شهيره.
وكان فصيحاً في لفظه، بديعاً في خطه، متحرياً في ديانته، متجرياً إلى أمد صيانته.
ولم يزل على حاله إلى أن فارقت الفارقي حياته، وورد عليه بما أبكى الناس عليه مماته.
وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري صفر سنة ثلاث وسبع مئة.
ومولده في سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
وكان شيخ دار الحديث الأشرفية، قدم من مصر بالمشيخة بعد الشيخ محيي الدين النووي رحمهما الله تعالى، ودرس بالشامية البرانية، والناصرية، وتصدى للإشغال. وكان قد باشر الإمامة والخطابة بالجامع الأموي في العشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة، وحضر الأفرم لسماع خطبته، وصلى بالمقصورة، وفي هذا اليوم قرئ تقليد قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بالمقصورة، قرأه الشيخ شرف الدين الفزاري.
وتولى مشيخة الحديث بالأشرفية سبعاً وعشرين سنة، وهو الذي اهتم بعمارتها بعدما احترقت أيام التتار، وعمرت أحسن مما كانت أولاً، وكان مقصوداً بالفتوى.
عبد الله بن موسى بن أحمدالشيخ الصالح الجزري.
كان شيخاً مباركاً، كثير الخير والعبادة، وله مطالعة وفهم ومعرفة، وعليه هيبة ووقار، وأقام بجامع دمشق سنين بمشهد أبي بكر مجاوراً متعبداً منقطعاً. وسمع الحديث من ابن البخاري، وحدث عنه، وكان يلازم الحضور عند الشيخ تقي الدين بن تيمية، ويسأله ويضبط عنه أشياء من العلم. وحج غير مرة، وجاور بمكة وتعبد.
وتوفي في يوم الاثنين السادس والعشرين من صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن بمقبرة الباب الصغير عند أولاد شيخه الشيخ عمر الجزري شيخ أرض نبات.
عبد الله بن موسى بن عمرابن يومن الزواوي، الشيخ المقرئ المحدث الصالح الزاهد العفيف.
قدم الحجاز قبل التسعين وست مئة، وأقام بمكة أكثر من المدينة، وجاور إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وصحب الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد بالقاهرة، وسمع عليه وعلى التقي عبيد، ومن مؤنسة بنت الملك العادل السباعيات التي خرجها لها ابن الظاهري، وحدث بها عنها. وسمع منه جماعة، وكان يحفظ الموطأ، وكان كثير الأمراض.
عبد الله بن يوسف بن أبي بكرالشيخ جمال الدين الإسعردي الإصطرلابي.
رأيته بدمشق في الحائط الشمالي بالجامع الأموي، وجالسته غير مرة، فوجدت إنساناً منحرف المزاج، محتاجاً إلى العلاج، قد ساءت أخلاقه من ضيق رزقه، وأدته إلى نوكه وحمقه، إلا أنه إذا ثاب عقله، وأناب فضله وجد الطالب منه في قواعد هذا العلم غرائب، وجعل للبه عنده رغائب، ولو جاءه بطليموس كتبه الجمل الكبير والصغير، وضيع زمانه في ما يعرفه الإنسان في الكتاب، حتى يستطيل أو يستطير، وما أظنه انتفع به أحد، ولا كان عنده لطالب ملتحد.
ولم يزل في جنونه، ودوران من جنونه إلى أن سقط من قيسارية محسي فدخل تحت الشعاع، ولم يكن له عن الطريقة المحترقة من دفاع.
وكانت وفاته عشية السبت عاشر شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وكان يعرف الإسطرلاب معرفةً جيدة، وله أوضاع جيدة، إلا أنه كان منحرفاً يسب الناس ويغتابهم، ولا يذكر أحداً بخير لفقره، وضيق رزقه، وضعف بصره قبل موته.
/الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم

بقية حرف العين
عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام
الشيخ الإمام العالم العلامة حجة العرب، أفضل المتأخرين، جمال الدين أبو محمد الأنصاري الحنبلي المصري.

شيخ النحو، ومن قام في أمره بالإثبات والمحو، أظهر فيه الإبداع وصنف، وقرط الأسماع وشنف، ونظر ودقق، وتعمد لأن تعمق وحقق، ورجح الأضعف، لذهنه المتوقد وأوهى الأقوى من الأقوال، وسهل المتعقد، وكد وكدح، وصد عن الباطل، وأطرب لما صدح، وناقض شيخنا أثير الدين وحجه، وعدل بمذاهبه عن المحجة، وكاد يميت ذكر أبي حيان، ويردي كل من جاء من جيان، فلو عاصره سيبويه لحاكم الكسائي إليه، وفصل أمر المسألة الزنبورية بين يديه، وفصل فصول كتابه وخلعها عليه، أو الفارسي لأجلب عليه بخيله ورجله، أو ابن جني لما كتم سر الصناعة من أجله، أو ابن مالك لكان له مملوكاً، وجعل به طريق التسهيل للناس مسلوكاً:
وأطلعه الفهم بعد النهي ... على مشكلات كلام العرب
ولم يزل بالقاهرة يصنف ويفيد، ويجود للطلبة بفوائده ويجيد، إلى أن نزلت به أم اللهيم الأربي، وفجعت به النحاة والأدباء.
وتوفي رحمه الله تعالى عشية الخميس خامس ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبع مئة.
مولده تقريباً بعد العشرة وسبع مئة.
وكان في أول عمره قد تفقه للشافعي، ثم انتقل أخيراً إلى مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، وحضر مدارس الحنابلة، وحفظ مختصر أبي القاسم الخرقي في دون الأربعة أشهر، مع ملازمة المطالعة والاشتغال، وروى الشاطبية عن قاضي القضاة ابن جماعة، وغيرها.
وصنف وأفاد وتخرج به جماعة من أهل الديار المصرية، ومن أهل مكة لما جاور بها، وأقرأ كتاب سيبويه مرات، وصنف كتباً في العربية منها: تعليقه على مشكل ألفية ابن مالك، ومنها: مقدمة في النحو سماها الإعراب عن قواعد الإعراب، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وهو كتاب مفيد قد جود وبيضه فسوده، واشتهر في حياته في الشام ومصر، واشتغل به أهل العصر.
عبد الله بن أبي الوليد محمدابن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد محمد التجيبي بن الحاج القرطبي المالكي.
إمام محراب المالكية بجامع دمشق، حدث عن ابن الثمانين، وكان مشهوراً بالصلاح.
توفي رحمه الله تعالى في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة بظاهر دمشق.
وسيأتي ذكر والده في المحمدين.
عبد الله الفاتولةبالفاء والألف والتاء ثالثة الحروف والواو واللام والهاء، الحلبي الدمشقي.
شيخ قد أسن، وبلي من الكبر فأشبه الشن، فقير حرفوش، مكشوف الرأس منفوش، عليه دلق رقيق، بالي الخرقة دقيق، قد تمكن منه الوسخ، وثبت فيه ورسخ، قد جمعه من عدة رقاع، والتقطه من متباعد البقاع، يعبث به الأطفال فيزط، وينهض لمناوشتهم وينط، له مجمرة يستدفئ بنارها، ويرتضي بعابها وعارها.
وكان عاقلاً، إلا أنه عن الصلاة لا يزال غافلاً، والناس مع ذلك يذكرون له كرامات، ويشهدون أنه يشهد في الملكوت مقامات.
ولم يزل على حاله إلى أن انحل فتل الحبل من الفاتوله، وأكلته أم دفر القاتوله.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة.
وكان يجلس عند عقبة الكتان بدمشق.
أخبرني شيخنا الذهبي، قال: كان الفاتولة جيد العقل، لا يقرب الصلاة، ولا يسأل الناس شيئاً، فقلت أنا في ذلك:
يا معشر المسلمين هذا إبراهيم في غاية الضلال
ومن عجيب الزمان يبدو ... فاتولة العصر في انحلال
عبد الله الحاجبالأمير جمال الدين الدمرتاشي.
كان رأس الميسرة في الحجبة بدمشق، ركابياً بخدمة دمرتاش بن جوبان المقدم ذكره، وحبس بعده في قلعة دمشق مدة مديدة، ثم أطلق، وتولى شد المسابك بدمشق، ثم تولى شد المواريث الحشرية بدمشق في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، فيما أظن، ثم إنه تولى مدينة دمشق في أيام الأمير يلبغا، وخدم الناس وأحسن إليهم، ثم تولى ولاية البر، وجمع له بين ولاية المدينة والبر زماناً، ولم يهتك مستوراً، ثم إنه تولى القبلية وهو على حاله في خدمة الناس ثم إنه ولي إمرة الحجوبية في الميسرة إلى آخر وقت وهو على حاله في خدمة الناس ومسايستهم إلى سنة تسع وخمسين وسبع مئة، فعزل عن الحجبة، وأخرج إلى طرابلس بطالاً، فأقام بها قليلاً، ورسم له بعوده إلى دمشق، فأقام بها بطالاً إلى أن توفي في ثاني القعدة يوم الجمعة سنة اثنتين وستين وسبع مئة.

وكان قد حج في سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وكان يزعم أنه في ولاية المدينة دخل إليه في الليل شيخ من الجن واعترف عنده أنه شرب الخمر وسأله أن يحده، وأنه فعل به ذلك، وطلبه فلم يجده، سمعت ذلك من لفظه غير مرة.
عبد الأحد بن أبي القاسمابن عبد الغني بن خطيب حران الشيخ العدل بقية الأخيار، شرف الدين أبو البركات بن تيمية التاجر.
سمع من ابن اللتي في الخامسة، ومن ابن رواحة ومرجى بن شقيرة، وعلوان بن جميع.
وكان له حانوت في البز، ثم انقطع، وحدث زماناً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة في رابع شعبان.
ومولده بحران سنة ثلاثين وست مئة.
عبد الأحد بن سعد اللهابن عبد الأحد بن سعد الله بن عبد القاهر بن عبد الأحد بن عمر الفقيه شمس الدين أبو محمد الحراني الشافعي.
كان فقيهاً فاضلاً، كثير التنفل، يستحضر الكثير من المذهب، وسمع الكثير ببغداد وبدمشق، وحدث، ومن شيوخه: ابن البخاري، وابن شيبان، ورقية بنت مكي، وابن الواسطي، والعماد بن العماد، والنفيس بن الكمال، والشمس بن الزين بدمشق. ومن شيوخه ببغداد: الكمال الفويرة، والرشيد بن أبي القاسم، ويوسف بن كرم، وابن الطبال، وعبد الرحيم بن الزجاج، وابن الدباب، وابن المريخ، وعبد المنعم بن عرندا. وسمع أيضاً بحماة وحلب والإسكندرية.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وخرجت له جزءاً عن البغداديين وجزءاً عن الشاميين، وحدث بهما فيهما عن أكثر من مئة شيخ.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد عاشر جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
مولده بحران سنة ثمان وستين وست مئة، وكان يعرف بابن نجيح.
عبد الأحد بن يوسف بن الرزيزتصغير رز.
خطيب جامع القاضي كريم الدين الكبير الذي بالقبيبات ظاهر دمشق، خطب فيه أول يوم فرغ من عمارته في شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وضره جماعة من القضاة والعلماء وأرباب الدولة، وقصد الناس الصلاة خلفه لبركته وحسن خطابته.
عبد الباري بن أبي علي الحسينابن عبد الرحمن كمال الدين بن الأسعد الأَرْمَنْتي، بهمزة مفتوحة، وراء ساكنة، وميم مفتوحة، ونون ساكنة، وتاء ثالثة الحروف، القرشي البكري.
سمع من ابن النعمان وغيره.
كان متورعاً زاهداً، يقطع الليل هاجداً، عنده وسواس في النجاسات، وتخيل زائد في توهم القاذورات، بحيث إنه زاد أمره، وتغير مزاجه، وكاد يخيب فيه طبه وعلاجه، وغلبت عليه السوداء، وما يتبعها من فساد التخيل والأدواء، فطلع المنبر بقوص بعد صلاة الجمعة، وادعى الخلافة له في كل بقعة، ثم إنه صلح حاله بعد ذلك قليلاً، وبقي في عقابيل ذلك نزيلاً.
وكان فقيهاً مالكياً، ثم تحول شافعياً، وحفظ كتاب ابن الحاجب في الفروع، والتعجيز أكمله حفظاً بعد الشروع.
ولم يزل على حاله إلى أن لسعه ثعبان فمات من سمه، وعدم روح الحياة ولذة شمه، وذلك بقوص سنة ست أو سبع وسبع مئة.
قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: ذكر لي جماعة من قوص أن قاضي القضاة أبا الفتح القشيري قال له: اكتب على باب بلدك أنه ما خرج منها أفقه منك.
وكان عنده قمح قد انتقاه وغسله بالماء فيزرعه في أرض يختارها بنفسه يتولى زرعه وحصاده وطحنه، وعنده طين طاهر يعمل منه آنية ليأكل فيها ويشرب.
عبد الباقي بن عبد الحميدابن عبد الله بن أبي المعالي متى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن يوسف، الشيخ تاج الدين اليمني المخزومي.
كان أسمر اللون، ظريف الكون، شيخاً طوالاً، حسن العمة، بعيد الهمة، يدعي في الإنشاء أشياء لو صحت كانت معجزه، أو لو أتى ببعضها كانت من الغرائب الموجزة، لا يحقق شيئاً من العلوم، ولا مما يتصف به ذوو الألباب والحلوم، نعم كانت له قدرة على النظم والنثر، وهو فيهما كثير التردي في الردي والعثر.
وكان يقرئ في المقامات والعروض، ويحسن ما يدعيه بالتقادير والفروض، ونظمه أقرب إلى الجودة، ونثره يقال فيه كما قيل: قد عرفناك يا سوده، ويكتب خطاً نقشاً، ويجيد منه سطراً رقشاً، وعلى كل حال فكان من أشياخ الأدب، وجراثمه التي تقصد بالطلب.
وكان كثير الحط على القاضي الفاضل، وهذا دليلي على أنه لم يكن ممن يناظر أو يناضل، وكفته هذه الحطة، وحبسه بها سيئة أكفأته في هذه الورطة.

وكان يرجح كلام ابن الأثير، وهذا كلام من هو بين أهل الكلام عثير، وبينهما عند أرباب هذا الفن من الفرق، ما بين القدم والفرق، وبينهما من البعد والبون ما بين الفساد والكون، أو الأبيض اليقق والأسود الجون، علم ذلك من علمه، أو جهله من جهله.
ولم يزل على حاله إلى أن فني عبد الباقي، ورقد في البرزخ إلى يوم التلاقي.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة ثلاث وأربعين، أو أوائل سنة أربع وأربعين وسبع مائة.
ومولده بمكة ثاني عشر شهر رجب سنة ثمانين وست مئة.
وكان قد ورد في أيام الأفرم إلى دمشق، وعمل رسالة سماها: قلائد الحور في المفاخرة بين المنظوم والمنثور، وحكم فيها القاضي محيي الدين بن فضل الله، فتوسط له عند الأفرم، فرتب له على الجامع الأموي بدمشق في الشهر مئة ردهم، وقرأ عليه الطلبة في المقامات والعروض. ثم إنه توجه إلى اليمن، وكتب الدرج باليمن، وربما وزر، ثم إنه لما توفي المؤيد صاحب اليمن صادره ولده المجاهد، وأخذ منه ما حصله، فورد إلى مصر سنة ثلاثين، وقدم إلى دمشق، ورأيته بها في سنة إحدى وثلاثين، ثم عاد إلى مصر، وبها اجتمعت به سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وفوض إليه تدريس المشهد النفيسي، وشهادة البيمارستان المنصوري.
ثم إنه ورد إلى دمشق، ورتب مصدراً بالحرم في القدس، فأقام به مدة وتردد إلى دمشق وحلب وطرابلس، وعمل له راتب بطرابلس، ثم توجه إلى القاهرة وأباع وظائفه، وبها توفي رحمه الله تعالى.
وكانت له قدرة على النظم والنثر، إلا أنه لم يكن له فيهما غوص على المعاني.
وكان ظنيناً بنفسه، يدعي أنه يملي على أربع كتاب، أو قال: خمسة في مقاصد مختلفة نظماً ونثراً، ويظن مع ذلك أن كلامه خير من كلام القاضي الفاضل، وعارض الرسائل المختارة للفاضل، مثل الرسالة الذهبية، وفتح القدس، وغيرهما، فكان كمن عارض الزواهر بالذبالة، والجواهر بالزبالة وكان كلامه متوسطاً، وعمل تاريخاً لليمن، وتاريخاً للنحاة، وليسا بشيء، وذيل على تاريخ ابن خلكان بذيل قصير جداً رأيته لم يبلغ به ثلاثين رجلاً.
وكان يعظم نفسه، ويطريها، بل يطغيها، ولكن لكلامه وقع في النفوس، وديباجة إذا أطنب في وصف نفسه، وتعيش بذلك زماناً، وقمر عقولاً أغماراً.
وأنشدني من كلامه المنظوم والمنثور كثيراً، وكتب على أشياء وقف عليها من تصانيفي تقريظاً بالنظم والنثر، فمن ذلك ما كتبه على كتابي جنان الجناس:
جنان جناس فاق جنس جنان ... يعين المعاني فيه جل معان
لقد نوع الأجناس فيه مؤلف ... طرائق وشي أو سموط جمان
غدا ناهجاً فيه مناهج لم يكن ... قدامة قدماً جاءها ببيان
مقاصد ما نجل الأثير مثيرها ... بدائع فضل من بديع زمان
محررة الألفاظ لكن حسنها ... رقيق ينسينا جليل حسان
إذا ابن فتى نجل الحديد أرداها ... تقول له أقصر فلست بدان
وما أنت فمن يسبك التبر ناقدً ... ومالك في سبك الفضا ريدان
لقد أطربت أبياته كل سامع ... فرائد ما جاءت لهن ثوان
تفوح بأرواح الصبا نفحاتها ... حظيرة بان عند حضرة بان
لقد صير الحساد تذرف دمعها ... مدامع شأن في محاجر شان
أقول لنظمي حين حاول شأوها ... رفيقك قيسي وأنت يمان
بقيت صلاح الدين للفضل صالحاً ... لحسن بيان من يراع بنان
فكتبت أنا إليه ارتجالاً:
لآ لي غوالٍ من حلي غوان ... وترجيع بم عند خفق مثان
أم الشيخ تاج الدين نظم شعره ... فما زهر روض من حلاه بدان
إمام زمام الفضل أضحى بكفه ... يصرفه يومي ندى وبيان
وزير بتدبير الممالك عارف ... غدا الناس في أيامه بأمان
إذا هو جارى الغيث يوم سماحه ... فذاك أوان ليس فيه بوان
يشيد مباني المجد في حومة العلى ... بهز يراع أو بسل يمان
فأقسم ما أثنى على ما وضعته ... بشعر ولكن بالجنان حباني
جناس بديع لو تقدم عصره ... أبان لنا في ذاك عجز أبان

فشكري ما وفى حقوق صنيعه ... وكيف بشام شام برق يمان
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تجنب أن تذم بك الليالي ... وحاول أن يذم لك الزمان
ولا تحفل إذا كملت ذاتاً ... أصبت العز أم حصل الهوان
قلت: أخذ الأول من قول الأول، وهو أحسن:
جهل الفتى عار عليه لذاته ... وخموله عار على الأيام
وأنشدني من لفظه لنفسه:
بخلت لواحظ من رأينا مقبلاً ... برموزها ورموزهن سلام
فعذرت نرجس مقلتيه لأنه ... يخشى العذار لأنه نمام
قلت: أخذه من قول الأول، وهو أحسن، وأكمل:
لافتضاحي في عوارضه ... سبب والناس لوام
كيف يخفى ما أكابده ... والذي أهواه نمام
وأنشدني من لفظه لنفسه في حمار وحش:
حمار وحش نقشه معجب ... فلا يضاهي حسنه في الملاح
فمذ غدا في حسنه أوحداً ... تشاركا فيه المسا والصباح
قلت: فيه إضمار قبل الذكر، ولا يجوز في الأفصح، ولغة أكلوني البراغيث مرذولة وأحسن من هذا قول القائل في فهد:
تنافس الليل فيه والنهار معاً ... فقمصاه بجلباب من المقل
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لا أعرف النوم في ليلى جفا ووفا ... كأن جفني مطبوع من السهد
فليلة الوصل تمضي كلها سمراً ... وليلة الهجر لا أغفى من الكمد
وأنشدني من لفظه لنفسه وقد زاد جمال الدين بن نباته الشاعر بدمشق، فرأى في بيته نملاً كثيراً:
مالي أرى منزل المولى الأديب به ... نمل تجمع في أرجائه زمرا
فقال لا تعجبا من نمل منزلنا ... فالنمل من شأنها أن تتبع الشعرا
عبد الحافظ بن عبد المنعمابن غازي بن عمر بن علي المقدسي، الشيخ المحدث أبو محمد.
سمع الكثير على الحافظ ضياء الدين ومن بعده من الشيوخ، ونسخ الكثير لنفسه وللناس، ثم إنه بعد ذلك كتب الشروط، وارتزق بذلك في أيام الشيخ شمس الدين ومن بعده من قضاة الحنابلة، وكان يكتب خطاً حسناً. ومن شيوخه: المرسي، ومكي ابن علان، وابن مسلمة، وخطيب مردا، والصدر البكري، واليلداني، وإسماعيل العراقي، وإبراهيم بن خليل، والعماد بن النحاس. وسمع بحلب والقدس، وكان يضبط أسماء السامعين، ويكتب الطباق.
وتوفي رحمه الله تعالى عاشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبع مئة.
عبد الحافظ بن بدرانابن شبل بن طرخان الزاهد القدوة، المسند الرحلة عماد الدين أبو محمد النابلسي المقدسي، شيخ نابلس.
قدم دمشق في صباه، وسمع الكثير من الشيخ موفق الدين، وموسى بن عبد القادر، وابن راجح، وأحمد بن طاوس، وزين الأمناء، والبهاء عبد الرحمن، وابن الزبيدي، وجماعة.
وأجاز له أبو القاسم بن الحرستاني، وأبو البركات بن ملاعب.
تفرد بأشياء أسمعها، وأختص بمحاسن أجرى مياهها وأنبعها، قصد من البلاد للسماع والتبرك، وطلب لتسكين القلق والتحرك.
كان كثير الأوراد والتلاوة، والاجتهاد في الانجماع على ذلك علاوة، ملازماً بيته إلى جانب مسجده، مقبلاً على شأنه في تعبده، بنى بنابلس مدرسة، وجدد طهارتها، وتحيل كثيراً إلى أن أتقن عمارتها، إلا أن الكيمياء استحوذت على عقله، ورمت فؤاده منها بنبله، فعالج لواعجها، ونافح أكوارها، ولا أقول: نوافجها، ولم يصح له فيها كغيره تدبير، ولا علم فيها قبيلاً من دبير، ثم إنه ترك هذا الهوس، وقال له التوفيق: قد قصرت لما طولت فيها النفس.
ولم يزل على حاله إلى أن ضاع عبد الحافظ، وألقاه في حفرته اللافظ.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة، وقد شارف التسعين.
وأول سماعه سنة خمس عشرة وست مئة، رحل إليه ابن العطار وعلم الدين البرزالي، وسمع منه شمس الدين بن مسلم، وابن نعمة، وجماعة، وقرأ عليه الشيخ شمس الدين الذهبي عشرة أجزاء.
عبد الحق بن محمدالشيخ الإمام المحدث مجد الدين أبو محمد.
سمع الكثير كأخيه من أصحاب ابن كليب، والبوصيري، وحدث، وهو أخو تاج الدين عبد الغفار السعدي.
أجاز لي بخطه بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وقد نيف على الثمانين.
عبد الحق بن أبي علي

ابن عمرو بن محمد بن عمرون الصدر أمين الدين المعروف بالفارغ الحموي.
كان فاضلاً عاقلاً كثير الأدب، جيد النظم والنثر، حسن الترسل والإنشاء متفرداً بحل المترجم.
توفي بالقاهرة في رابع عشري المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
وبعضهم قال فيه: عبد الخالق، وسيأتي في مكانه.
عبد الحميد بن منصورابن علي بن عبد الجبار الأنصاري.
سمع من علي بن عبد الواحد، وإسماعيل بن أبي اليسر، وغيرهما.
وأجاز لي بخطه في السنة التي توفي بها رحمه الله تعالى، وهي سنة تسع وعشرين وسبع مئة في ذي القعدة.
ومولده في سنة ست وخمسين وست مئة.
عبد الحميد بن عبد الرحيمابن أحمد بن حسان، الشيخ المعمر الكبير تاج الدين أبو عبد الله الحريري الدمشقي.
أصله من وادي التيم، ذكر أنه يعرف الملك الأشرف والملك الكامل.
أقعد في أواخر عمره سنين، وكان مقبولاً عند القضاة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: ظهر سماعه لجزء ابن عرفة على ابن عبد الدائم، وحدث به غير مرة. قال: قرأته عليه قبل موته بقليل.
عبد الخالق بن عبد السلامابن سعيد بن علوان القاضي الإمام تاج الدين أبو محمد المعري، الأصل، البعلبكي، الشافعي، الأديب.
حدث عن الشيخ الموفق، والبهاء عبد الرحمن، والمجد القزويني، والكاشغري، والعز بن رواحة، والتقي أبي أحمد علي بن واصل البصري، وأحمد بن هشام اللبلي، والزكي أبي عبد الله البرزالي، وجماعة.
وأجاز له الكندي، وروى الكثير، وتفرد في وقته بالرحلة إليه والمسير، وحدث بدمشق بسنن ابن ماجة، وكان الطلبة إليه في جد حاجة. وكان صاحب أوراد وقيام في الدياجي وبكاء من خشية الله وخطاب وتناجي.
ودرس بالأمينية بدمشق، وولي قضاء بعلبك، وحمدت أحكامه، وشكرت سيرته وأيامه.
ولم يزل على حاله إلى أن راح عبد الخالق إلى من خلقه، وأوضح له من صبح الهدى فلقه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ثلاث وست مئة. فأناف على التسعين.
وسمع شيخنا الذهبي منه سنن ابن ماجة وأكثر عنه، وهو من أكبر شيوخه، وحدث عنه أبو الحسين اليونيني والمزي.
ومن شعره... .
عبد الخالق بن أبي عليابن عمر بن محمد بن عمر الصدر الفاضل الكبير عفيف الدين أبو الفضائل بن الصدر علاء الدين بن زين الدين بن الفارغ الحموي الشافعي.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز جزء ابن عرفة، قرأه عليه في سنة خمس وخمسين وست مئة، وعن ابن عبد الدائم والنجيب عبد اللطيف، وسمع من الباذرائي وجماعة.
وكان موصوفاً بالمروءة والمكارم، وقضاء الحقوق، وهو ابن أخت قاضي القضاة تقي الدين بن رزين.
وكان تقدم له اشتغال، وحفظ التنبيه، وقرأ الحديث، ثم إنه خدم بعض الأمراء بالقاهرة، وولي نظر الصدقات بدمشق مدة، وسكن درب العجم.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده سلخ رجب سنة ثمان وثلاثين وست مئة.
وقد تقدم ذكر أخيه عبد الحميد في مكانه.
وبعضهم سماه عبد الحق، وقد تقدم في مكانه.
عبد الرحمن بن إبراهيمابن عبد الله بن أبي عمر المقدسي، الشيخ الإمام الفاضل الزاهد عز الدين أبو الفرج بن الشيخ الإمام عز الدين بن الخطيب شرف الدين بن الشيخ الإمام القدوة أبي عمر محمد بن قدامة. سمع من ابن عبد الدائم، وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
وسمع من والده، ومن عم والده الشيخ شمس الدين، وعمر الكرماني، وعبد الولي ابن جبارة، وأحمد بن جميل، وأبي بكر الهروي وجماعة.
وكان رجلاً صالحاً كثير الخير مواظباً على أفعال البر فقيهاً فاضلاً، درباً مناضلاً، يعرف الفرائض، ويغوص في بحرها على الغوامض، ويده فيها طولى، ويورد فيها مذاهب عجيبة ونقولاً.
واشتغل عليه خلق كثير، وانتفع به جم غفير، وخرج له شمس الدين بن سعد مشيخة قرأها عليه شيخنا علم الدين البرزالي.
ولم يزل على خير إلى أن لقي الله ربه، ووجد عنده ما أحبه.
وتوفي رحمه تعالى في ثامن شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده تاسع جمادى الأولى سنة ست وخمسين وست مئة.
وحج مرة مع الشيخ شمس الدين، وكمل عليه كتاب المقنع بالمدينة، وحج بعد ذلك مرات.
عبد الرحمن بن أحمد

ابن محمد بن محمد بن نصر الله الحموي، الشيخ الفقيه الإمام الزاهد ناصر الدين بن المغيزل الحموي.
كان مدرس العصرونية، وكان فقيهاً صالحاً، متواضعاً ديناً متعبداً.
توفي رحمه الله تعالى في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة سبع وسبع مئة بحماة.
عبد الرحمن بن أيوبتاج الدين مغسل الموتى.
أقام يغسل الموتى نحواً من ثمانين سنة. وكان رحمه الله تعالى تعافه النفوس، وتنفر منه لملازمة التغسيل والنزول في الرموس، لأنه اتصف بالقساوة، وعدم المبالاة بأمر بينه وبين الحياة اتضاد وعداوة.
رسم في وقت الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى بقتله بالمقارع فشفعوا فيه، فنقل حانوته من طريقه، وكان يمر عليه إذا توجه إلى دار الذهب، وكانت دكانهم في الكفتين، فنقلوا منها. وسئل قبل موته: كم غسلت من الأموات؟ فقال: ستين ألف ميت، وكان ذلك قبل موته بمدة.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الغاسل غسيلاً، وصبحته نائبات المنايا وكان لها رسيلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وكان من أبناء الثمانين.
عبد الرحمن بن أبي بكر بن أحمدابن عمر بن أبي بكر بن عبد الله بن الشيخ الفقيه الفاضل تقي الدين أبو محمد المقدسي الحنبلي.
كان فاضلاً في الفقه والحساب والفرائض والمساحة. وكان يوصف بالشجاعة والأمانة والهمة.
روى عن ابن عبد الدائم جزء ابن الفرات. قال شيخنا البرزالي: قرأته عليه بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتوفي في يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
عبد الرحمن بن أبي بكرابن محمد بن محمود القاضي كمال الدين البسطامي الحلبي الحنفي.
ناب في الحكم بالقاهرة، وكان إماماً بالقبة المنصورية، ومدرساً بالمدرسة الفارقانية.
كان قد عجز عن الحركة ولزم بيته. وكان قد سمع من النجيب عبد اللطيف من الموافقات المخرجة له، وحدث عنه بأكثر سنن أبي داود. وكان يحفظ كتاب الهداية في الفقه.
ونزل عن الفارقانية، والتربة الأشرفية لولده الفقيه سراج الدين عمر.
عبد الرحمن بن الحسنالفقيه الإمام القدوة الرباني البركة نجم الدين اللخمي المصري القبابي، بالقاف والباء الموحدة وبعدها ألف وباء ثانية الحروف. والقباب قرية بناحية دمياط.
تفقه للإمام أحمد، وبرئ به طرف الزهد وكان أرمد، نزح من مصر بأهله، ونزل في حمص برحله، فانزوى بها، وخيم بين قبابها، وفتح حانوت فاخوري لأجل البلاغ، وتحصيل ما للعيال فيه مساغ، وكان ينبه المشتري على عيوب الآنية، ويجتهد في إعلامه خوفاً من أن يسقى من عين آنية. ثم إنه تحول إلى حماة، فعرف به صاحبها، فآواه وحماه، وأقبل عليه وكان يزوره، ويعد أن ذلك حبوره، فاشتهر أمره، وقصد بالزيارة مقره.
ولم يزل على حاله إلى أن لقي باب قبره القبابي مفتوحاً، وقال روحه الطيب لملكيه: روحا.
وتوفي رحمه الله تعالى بحماة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
وحمل على الرؤوس، وقبره الآن بحماة يزار.
حدث بشيء يسير عن عيسى المطعم، كان قد سمع منه مسند الدارمي، وترك المدارس بمصر، وتوجه إلى حمص. وكانت له جنازة عظيمة إلى الغاية.
عبد الرحمن بن رواحةابن علي بن الحسين بن مظفر بن نصر بن رواحة، الشيخ الجليل المسند زين الدين بن أبي صالح الأنصاري الحموي الشافعي نزيل مدينة سيوط.
سمع من جده لأمه أبي القاسم بن رواحة عدة أجزاء منها: القناعة لابن مسروق، وسمع من صفية بنت الحبقبق جزءاً من معرفة الصحابة لابن مندة وهو الثامن، وللبغوي، وله إجازة من ابن روزبة والشيخ شهاب الدين السهروردي، وطائفة.
وتفرد في زمانه، وتأخر عن أقرانه، واختفى ذكره مده، ثم إنه تنبه له من الطلبة عده، وحدث في آخره عمره وخاتمة أمره.
ولم يزل على حاله إلى أن خرج روح ابن رواحة، ولقي من الله جودة وسماحة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
وكان كاتباً في سيوط.
عبد الرحمن بن عبد الرحيمابن عبد الرحمن بن إسماعيل بن رافع العثماني القوصي الكيزاني سديد الدين.

سمع من مجد الدين القشيري، ومن ابنه الشيخ تقي الدين، ومن عبد العظيم، ومن ابن برطلة، ومن ابن عبد السلام، وغيرهم وحدث بقوص.
سمع منه شرف الدين النصيبي وغيره. وحدث بالقاهرة، وقرأ الفقه على الشيخ مجد الدين.
وكان خفيف الروح مطبوعاً، سليم الصدر متبوعاً، إذا انشرح أضحك الثكلى، وتحقق السامع أنه لا يرى له شكلاً، وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ينبسط معه، ويهش له إذا سمعه، وينشده، ويبره ويرفده.
ولم يزل على حاله إلى أن وقع السديد في الكرب الشديد، وراح إلى المبدي المعيد.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده بقوص سنة أربع وعشرين وست مئة.
وكان ابن دقيق العيد إذا رآه وخلا به أنشده:
بين السديد والسداد سد ... كسد ذي القرنين أو أشد
عبد الرحمن بن عبد اللطيفابن محمد بن عبد الله بن وريد المكبر البزاز، المعروف بالفويرة، الحنبلي المقرئ المحدث.
كانت له إجازة من ابن طبرزد، وابن سكينة، وأحمد بن الحسن العاقولي، والحسين بن شنيف، وعبد الملك بن مبارك قاضي الحريم، ومحمد بن هبة الله بن كامل الوكيل، وابن الأخضر، وأبي البقاء العكبري، وسليمان بن الموصلي، وعبد الله بن المبارك بن أحمد بن سكينة وغيرهم. وسمع من ابن صرما ومحمود بن مندة وعمر بن كرم، ويعيش بن مالك بن ريحان، وأبي القاسم بن علي بن يوسف بن أبي الكرم الحمامي، ومحمد بن الحسن بن أسلم الفرغاني، ومحمد بن أحمد بن صالح الجيلي، وزيد بن يحيى بن هبة، وأبي الحسن محمد بن محمد بن حرب النرسي.
وقرأ القراءات على الفخر الموصلي صاحب يحيى بن سعدون القرطبي.
وتوفي رحمه الله تعالى ببغداد في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وست مئة.
وكان شيخ المستنصرية في عصره لعلو إسناده، قارب المئة سنة.
قال شيخنا البرزالي: أجاز لي ولولدي محمد غير مرة، وهو آخر من روى بالإجازة عن ابن طبرزد، وابن سكينة.
عبد الرحمن بن عبد المحسنابن حسن بن ضرغام بن صمصام، العدل الفقيه المعمر، كمال الدين الكناني المصري المنشاوي الحنبلي.
سمع من سبط السلفي، والصدر البكري، وطائفة.
وسمع منه شيخنا الذهبي.
كان يخطب بالمنشأة التي لقناطر الأهرام، وصار عدلاً بالقاهرة دهراً، واختبل قبل موته بنحو من أربعة أشهر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشرين وسبع مئة.
ومولده بالمنشأة سنة سبع وعشرين وست مئة.
عبد الرحمن بن عبد المحسن بن عمرابن شهاب، الإمام المفتي الشيخ تقي الدين أبو الفرج الواسطي الشافعي، محدث واسط.
قدم دمشق، وحج مرات، وسمع هو وشيخنا الذهبي، وأخذ عن المخزمي، وبنت جوهر، والموجودين.
وكان ذا مروءة، ومحاسن مخبوءه، متواضعاً لمن يلقاه، إذا رأى شراً بصاحبه توقاه، كيساً خيراً، ذا باطن بالإخلاص نيراً.
قال شيخنا شمس الدين: حصل كثيراً من مروياته، وحدثنا عنه ابن ثردة الواعظ، وصحب الشيخ عز الدين الفاروثي.
وتوفي رحمه الله تعالى ببغداد سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وسبعين وست مئة.
عبد الرحمن بن عبد المولى بن إبراهيمالشيخ المسند أبو محمد اليلداني الصحراوي.
سمع الكثير من جده تقي الدين، والرشيد العراقي، وابن خطيب القرافة، وشيخ الشيوخ الأنصاري، وأجاز له العلم السخاوي، والحافظ ضياء الدين، وآخرون.
وتفرد بأشياء، وسمع منه الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام رحمه الله تعالى كتاب الآثار للطحاوي، ووصله ورتب له مرتباً. وكان فقيراً، ثم عمي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة خامس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة أربعين وست مئة، وهو سبط اليلداني.
عبد الرحمن بن عبد العزيزابن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الرحمن بن عبد الواحد ابن هلال، فخر الدين أبو محمد الأزدي الدمشقي.
كان عدلاً ابن عدل ابن عدل، كان منقطعاً عن الناس ملازماً لبيته وعياله، ليس له تعلق بغير ذلك.
توفي رحمه الله تعالى في بستانه بالنيرب ظاهر دمشق، في صفر سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وكان قد روى شيئاً من الحديث عن ابن أبي اليسر، وسمع من جماعة. وحج وحدث بطريق الحجاز.
ومولده في المحرم سنة ثلاث وستين وست مئة بدمشق.
عبد الرحمن بن عبد الوهاب

ابن علي بن أحمد بن عقيل، الإمام الخطيب ضياء الدين بن الخطيب السلمي البعلبكي.
سمع من أبي المجد القزويني كتاب شرح السنة، وكان خاتمة أصحابه، وسمع من ابن اللتي، وابن الصلاح.
وكان خيراً متواضعاً، يخضب بالحمرة، وبقي في الخطابة بضعاً وخمسين سنة، وسمع منه شيخنا الذهبي.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث صفر سنة ثلاث وسبع مئة.
ومولده سنة أربع عشرة وست مئة.
عبد الرحمن بن عليابن إسماعيل بن يحيى بن البارزي، الصدر الكبير زين الدين بن علاء الدين المعروف بابن الولي الحموي.
كان متعيناً في بلده، وله مكانة عند الملك المؤيد، وعند ولده الأفضل، وكان وكيل بيت المال بحماة، وبنى بها جامعاً، وصلى فيه.
وتوفي رحمه الله تعالى خمس شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
عبد الرحمن بن عمرالصدر الرئيس شرف الدين بن الصاحب فخر الدين بن الخليلي.
كان قد ورد إلى دمشق متولياً نظر ديوان سلار عوضاً عن القاضي عماد الدين بن ريان.
وكان شاباً عاقلاً، عنده سكون ومعرفة، وفيه رياسة وحشمة.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع صفر سنة تسع وسبع مئة.
وكان قد حضر بعده على نظر الدواوين المذكورة عز الدين محمد بن كمال الدين عبد القادر بن منهال، وسيأتي ذكره.
عبد الرحمن بن عمر بن عليالهاشمي الجعفري الشنشتري، الطبيب نور الدين، الحكيم الطبيب.
كان فاضلاً في علوم، وكتب المنسوب الذي أخجل الدر المنظوم، وبرع في الإنشاء والأدب وأيام الناس من العجم والعرب، واتصل بعلاء الدين صاحب الديوان، فأجله مع أصحابه في الإيوان، وحصل بالطب أموالاً، وتقدم في الدولة فما يدري أعادى الناس أم والى، ثم إنه أقبل على التصوف، ودخل في التصون ورحل عن التشوف والتسوف، وخاض تلك الغمرات، وترنم بذكر البان وليالي السمرات، وعمر خانقاه، جعل نفسه شيخها المشار إليه، وكبيرها الذي يفد الناس عليه ، وعظم شأنه عند خربندا، وبقي دخله في العام سبعين ألفاً.
ولم يزل على حاله إلى أن دخل النور من الأرض في ظلماتها، وذكر الناس به أيام الفضل وطيب أوقاتها.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وقد أسن.
وكان قد قدم بغداد، ونزل بالنظامية، وتفقه ومهر في الطب، وتخرج بابن الصباغ، وابن القسيس، ونوه عز الدين الجعفري متولي البصرة بذكره، وهو والد الشيخ نظام الدين يحيى الذي كان شيخ الربوة بدمشق، وعاد إلى بغداد.
عبد الرحمن بن عمر بن صومع الدير قانونيالشيخ الصالح أبو محمد سبط الشيخ زين الدين بن عبد الدائم.
سمع من ابن اللتي، والهمذاني، والحافظ ضياء الدين المقدسي وغيرهم.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمعت عليه مسند أبي بكر رضي الله عنه من أول مسند ابن حميد وغير ذلك.
ضرب التتار رقبته بالصالحية، ولم يتفق دفنه في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة. وكان صائماً عدة أيام.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
عبد الرحمن بن عمر بن الحسنابن علي كمال الدين التيمي الأرمنتي، يعرف بالمشارف.
كان جواداً كريماً، رئيساً حليماً، كثير المروه، غزير الفتوة، شاعراً أديباً ماهراً في فن الكتابة أريباً، تقلب في الخدم الديوانية، وتسلب ما في الجهات السلطانية.
ولم يزل على حاله إلى أن فارق الدنيا، ونزح عن السفلى إلى العليا.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وسبع مئة.
ومن شعره:
حبست جفني على الأرق ... نغمات الورق في الورق
وانعطاف الغصن صيرني ... واختلاف النور في نسق
هائماً لم أدر ما فعلت ... يد هذا البين بالأفق
ومنه:
ألحظك فيه سحر أم حسام ... وخدك فيه ورد أم ضرام
وثغرك فيه در أم أقاح ... دماً في فيك شهد أم مدام
خطرت فكاد في فرط التثني ... يغرد فوق عطفيك الحمام
أياً من خص بالتعذيب قلبي ... أما في الوصل بعدك لي مرام
قلت: شعر مقبول له ديباجة إلا أن في الأول فصلاً بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله: صيرني وصيرني متعلق ب؟ هائم، ومثل هذا لا يجوز، وقوله في الثاني: خطرت. أحسن منه قول أبي طاهر حيدر البغدادي:
خطرت وكاد الورق يسجع فوقها ... إن الحمام لمغرم بالبان

عبد الرحمن بن محمد
بن محمد بن عمر
الشيخ الفقيه المسند الأصيل مجد الدين ابن الشيخ المحدث مجد الدين بن الصفار الإسفرايني.
سمع على كريمة، وابن الصلاح، والقرطبي، وإسماعيل بن ظفر، وعتيق السلماني، وشيخ الشيوخ ابن حموية، وعمر بن البراذعي، والصريفيني، وجماعة، وحدث بدمشق والقاهرة.
وكان رجلاً جيداً، قرأ كتاب التعجيز في الفقه وجود حفظه، وقرأ غيره.
وكان ملازماً للاشتغال، طاهر اللسان، حسن الأخلاق قنوعاً. وكان فقيهاً في المدارس، وتولى مشيخة الخانقاه الشهابية.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة.
عبد الرحمن بن محمدالإمام القدوة العابد المتبع المذكر تاج الدين ابن الإمام أفضل الدين أبي حامد التبريزي الشافعي الواعظ، أحد من قام بالإنكار على رشيد الدولة وزير التتار، وطعن في نحلته وفلسفته، فما أقدم الرشيد عليه، وأعرض عنه لرفعة قدره في نفوس الناس من أهل بلد تبريز.
كان قوالاً بالحق، قواماً بالصدق، سلفي الاعتقاد، ذا سكينة وإخلاص واجتهاد، وعظ ذكر، وعظ بناجذ الصدق وفكر، وكانت له في النفوس مهابة، وعنده خشوع وإنابة. وقدم دمشق بنية الحج بأبيه وبنيه وجماعته وذويه، وسار وحج وعاد مع الركب العراقي، وأعمل اليعملات طمعاً في التلاقي، فأدركه أجله في بغداد، فانقطع بذلك السير والإغذاذ.
وكانت وفاته سنة تسع عشرة وسبع مئة، وله ثمان وخمسون سنة.
عبد الرحمن بن محمد بن عسكرالبغدادي المالكي، الشيخ شهاب الدين مدرس المستنصرية ببغداد، شيخ المالكية.
روى عن ذي الفقار محمد بن شرف العلوي مسند الشافعي بسماعه من ابن الخازن، وسمع من علي بن محمد الأسد آبادي، وعز الدين الفاروثي، والعماد بن الطبال، وسمع في الحجاز من زين الدين ابن المنير قصيدة.
وأخذ عنه الشرف بن الكازروني، وأبو الخير الدهلي، وولده الفقيه شرف الدين أحمد الذي درس بعده، تخرج به الأصحاب. وتلقي لعظمته بالترحاب. وبعد صيته وسمعته. وأوقدت في المحافل شمعته.
وكان صاحب أخلاق، ومواهب في الحال وإطلاق. وعنده تصور وتصديق وتصوف، وتطلع إلى الواردات وتشوف. يشهد السماع، ويكشف القناع، ويتواجد لطفاً، ويتعاهد ذلك ظرفاً، ولا يرعى ناموساً ولا يراعي ملبوساً. دخل اليمن، وفاز هناك بغلاء الثمن. وله مصنفات في المذهب وفي الدعوات، وله: عمدة السالك والناسك. وله غير ذلك.
ولم يزل على حاله إلى أن هزم جيش ابن عسكر، وأصبح فريداً في قبره كأن لم يذكر.
وتوفي رحمه الله تعالى اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمنابن يوسف البعلبكي، ثم الدمشقي الحنبلي، الفقيه، المحدث، المفيد، فخر الدين أبو محمد.
سمع من الفخر في الخامسة، ومن ابن الواسطي، وابن القواس، ثم طلب بنفسه سنة خمس وسبع مئة، رحل وكتب، وتعب ودأب. وكان عين الطلبة، ومعين السامعين على بلوغ المأربة. وكان يقرأ على الكراسي، ويجلس في تلك المراسي، وفيه للعوام نفع، وبه في صدر الشيطان ضرب ودفع. وتميز ودرس الفقه على مذهبه، وتعب على تحصيل منصبه.
ولم يزل على حاله إلى أن حلت به الداهية، وأصبحت عينه شاخصة ساهية.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثمانين وست مئة.
عبد الرحمن بن محمد بن عليأبو زيد الأنصاري الأسدي القيرواني، المعمر، صاحب تاريخ القيروان.
أخذ عن عبد الرحمن بن طلحة، وعبد السلام بن عبد الغالب الصوفي، وطائفة، وأجاز له ابن رواج، وابن الجميزي، وسبط السلفي، وجماعة. وخرج له أربعين تساعيات بالإجازة.
سمع منه محمد بن جابر الوادي آشي.
وكن مؤرخ بلده ومحدثها، ومانح فوائدها ومورثها. عمل هذا التاريخ المختص ببلده، وما رئي مثل صبره على ذلك ولا جلده.
ولم يزل على حاله إلى أن أدركه مكتوبه، وفرغ من عمره محسوبه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وست مئة.
عبد الرحمن بن محمد بن عليالفقيه النبيه، تاج الدين ابن الإمام العلامة فخر الدين المصري الشافعي، وسوف يأتي ذكره والده في مكانه من حرف الميم.

حفظ المنهاج للنووي، ومنهاج البيضاوي في الأصول، وناب عن والده في تدريس العادلية الصغيرة وفي الرواحية. ونزل أبوه له عن تدريس الدولعية. وحج مع والده سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وجاور والده، وقدم هو صحبة الركب إلى دمشق.
وكانت فيه هشاشة، وله بمن يلتقيه بشاشة. وفيه تعصب مع الناس، ومروة توجب له الإيناس. وعنده كرم وجود، واعتراف بالجميل من غير جحود. وفي كل قليل يعمل للفقهاء ولأصحابه دعوه، ويرزق بالثناء عليه فيها حظوه.
ولم يزل على حاله إلى أن ذوى ينعه، وغاض من الحياة نبعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
ومولده في عشرين شهر ربيع الآخر سنة ست وعشرين وسبع مئة.
كان في الحمام، فبصق دماً، فخرج من الحمام، وقد أيقن بالهلاك، ودار على أصحابه وودعهم، ويقول لكل واحد منهم: لا أوحش الله منكم، قد بصقت، وأنا ميت. وتأسف الناس على فقده.
ومما قلت أنا في ذلك الوقت:
يا رحمتا لدمشق من طاعونها ... فالكل مغتبق به أو مصطبح
كم هالك نفث الدما من حلقه ... أوما تراه بغير سكين ذبح
عبد الرحمن بن محمد بن عليابن عبد الواحد الصدر الفقيه، القاضي تقي الدين ابن الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام كمال الدين بن الزملكاني الشافعي.
كان في حل المترجم آية، وفي حل الألغاز غاية. وما عدا ذلك فهو منه عري، ومما كان يعرفه والده بري. وخطه لا يرضى به تعيس أن يكون حظه، وذهنه في غير ما ذكرته لا يفهم به لفظه. على أنه كان ينظم ولكن خرزا، ويدع الطرس بذلك من خطه صعيداً جرزاً. ولكن كان سليم الطباع، جيد الصحبة لطيف الاجتماع. ينفعل لأصحابه، ويوافق كلاً منهم على آرائه. وجوده متدفق، وبذله لما في يده غير مترفه ولا مترفق.
ولم يزل على حاله إلى أن فارق الأوطان، ونزح من الأعطان.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بدمشق.
وطلبت أنا من الديار المصرية في أيام الأمير سيف الدين تنكز بوساطة القاضي شهاب الدين بن القيسراني في المرة الثانية، ولما جئت رتبت مكانه في ديوان الإنشاء. وكان هو رحمه الله قد توجه صحبة والده إلى الديار المصرية، ولما توفي والده في بلبيس، دخل هو القاهرة ودفن والده عند قبر الشافعي رضي الله عنه.
وكان والده قد عمل سيرة مليحة للسلطان الملك الناصر محمد، فدخل وقدمها، وساعده الناس إكراماً لأبيه، وعضده الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار، فرسم له بتدريس المسرورية وبأن يكون في جملة كتاب الإنشاء بدمشق، فدخل إليها وأهل دمشق إما أقاربه، أو تلاميذ والده، وإما أصحابه، فرعوه لذلك.
وكان قاصراً في كل ما يعرفه والده، إلا في حل المترجم، كان يحله بلا فاصلة في أسرع ما يكون، وكذلك الألغاز حتى إنني كنت أتعجب له في ذلك من جود ذهنه في غير هذين، وتوقد ذهنه فيهما. فسبحان الله العظيم والده شيخ الإسلام وكل ما يعرفه كان فيه آية، وهذا ولده هكذا، مع ما تعب عليه والده واجتهد.
عبد الرحمن بن أبي محمدابن محمد بن سلطان القرامزي، الشيخ الصالح، بقية السلف، أبو محمد الحنبلي.
كان شيخاً مشهوراً، يلازم الجامع أعواماً وشهوراً، كثير الصلوات، غزير الخلوات، له مريدون وأصحاب وخدام وأحباب. اشتغل بالعلم أولاً، وانقطع للعبادة والتلاوة، جعل ذلك معولاً، وللناس فيه عقيدة، ومحبة عتيدة.
ولم يزل على حاله إلى أن لحق بالباري تعالى، وتواتر البكا عليه وتوالى.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة ببستانه بأرض المصيصة ظاهر دمشق.
وصلى عليه بجامع جراح، ودفن بمقبرة الباب الصغير في تربة له جوار القلندرية.
سمع من ابن أبي اليسر، والنجم بن النشبي، والشيخ حسن الصقلي، والجمال البغدادي الحنبلي، والمجد بن عساكر، وابن هامل، والكنجي، وجماعة. وسمع بالقدس من الخطيب قطب الدين، وبالخليل من الشيخ عبد الدائم بن الزين بن عبد الدائم.
وحدث بدمشق والقاهرة، وكان تلا بالروايات على الشيخ حسن الصقلي.
عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيلابن محمد بن أحمد بن أبي الفتح، الخطيب عفيف الدين أبو محمد ابن الشيخ الخطيب المرداوي المقدسي خطيب مردا.

ورد دمشق مع والده، وقرأ الحديث بنفسه سنة ثلاث وخمسين، وسمع الكثير على والده وابن عبد الدايم. وخطب مدة طويلة بالقرية المذكروة، وحدث قديماً.
سمع منه ابن الخباز سنة خمس وستين وست مئة.
قال شيخنا البرزالي: قرأ عليه بدمشق وبمردا.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشر وسبع مئة.
ومولده تقريباً بمردا سنة ثلاثين وست مئة.
عبد الرحمن بن محمودمجد الدين بن قرطاس القوصي الأديب.
سمع الحديث بالقاهرة على أشياخ عصره، وقرأ النحو على العلامة أثير الدين، وتأدب على الطوفي الحنبلي والشيخ صدر الدين بن الوكيل والأمير مجير الدين عمر بن اللمطي. وتولى الخطابة بجامع الصارم بقوص.
وكان يتصوف، ويجمع الدواوين وينتقي منها ويتصرف. وعلق تعاليق، وعمل منها مبتدآت وتغاليق. ووقف كتبه على المدرسة السابقية بقوص، وعلم الناس بذلك أنه صحيح غير منقوص.
ولم يزل على حاله إلى أن خرق سهم المنية قرطاسه، وأخمد الموت أنفاسه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ورثى مجير الدين بن اللمطي بقصيدة أولها:
كأس الحمام على الأنام يدور ... يسقى بها ذو الصحو والمخمور
منها:
يزهى به النعش الذي هو فوقه ... وكذاك يزهى بالأمير سرير
عبد الرحمن بن مخلوفابن عبد الرحمن بن مخلوق بن جماعة بن رجاء الربعي الإسكندري المالكي، الشيخ الإمام العالم العدل الخير المعمر المسند محيي الدين أبو القاسم.
سمع من جعفر الهمذاني، وعلي بن زيد التسارسي، سمع عليه الثالث من الثقفيات وسمع الدعاء للمحاملي على جعيفر، وسمع من ابن رواج.
وسمع منه الواني، وشيخنا أبو الفتح بن سيد الناس، وابن ربيع المصغوني، وسمع منه شيخنا الذهبي خمس مجالس تعرف بالسلماسية.
وكان له بصر بالشروط، وأمره في العدالة مضبوط، وله فيها تقدم وشهرة، وخبرة فيها قد جمل به دهره. وتفرد بأجزاء عالية سلفية رواها، وملك زمام أمرها وحواها، وشفى بروايتها من النفوس جواها.
ولم يزل على حاله إلى أن فرغ من حياته وعاؤها، وأجيب في منيته دعاؤها.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
عبد الرحمن بن مسعود بن أحمدالعلامة شيخ الحنابلة، شمس الدين ابن قاضي القضاة، سعد الدين الحارثي المصري الحنبلي.
سمع من العز الحراني، وغازي، وبدمشق من الفخر علي وجماعة. وأخذ النحو عن الشيخ بهاء الدين بن النحاس، والأصول عن ابن دقيق العيد. وحج غير مرة.
وكان يدرس بمدارس كبار، وإذا جرى في حلبة المناظرة لا يعلق الريح له بغبار. مع الوقار الجميل، والسمت الذي لبس له فيه عديل. وصدق اللهجة، وعفاف المهجة، والديانة التي رأس بها وتصدر، والصيانة التي تصبب بها نوه وتحدر. و لم يزل على حاله إلى أن نبش من الحارثي قبره، وعدم من صاحبه عليه صبره.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة سادس عشري ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وسبعين وست مئة.
عبد الرحمن بن موسىهو الملك أبو تاشفين، ابن الملك أبي حمو، بالحاء المهملة والميم المشددة والواو، ابن الملك أبي عمرو عثمان ابن السلطان يغمراسن بن عبد الواد الزناتي المغربي البربري صاحب تلمسان.
كان شجاعاً حازماً، موقناً بالشر جازماً، جبروته زاد عن الحد حتى كذبه العقل وأباه، وناهيك بمن تجرأ وما اتجرى وقتل أباه.
وكان قد نظر في فنون العلم مدة، وأنفق فيها من عمره عدة، وتفقه على ابني الإمام، وفدت سيرته ونسي ورد الحمام.
ويحكى عنه في دولته قبائح، أما الراوي لها فكاتم وأما التاريخ لها فبائح.
قصده سلطان المغرب أبو الحسن المريني وحاصره مدة طويلة وأنشأ في المنزلة مدينة كبيرة، وطال الأمر إلى شهر رمضان، فبرز أبو تاشفين في أبطاله لكبسه ومكيدة يعملها فانعكست عليه، وركب جيش أبي الحسن وحملوا حتى دخلوا من باب تلمسان وقتلوه على ظهر جواده في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. وكان الحصار نحو سنتين وأكثر. وطيف برأسه في المغرب، ثم دفن مع جسده عند آبائه بتلمسان.
وكان جد السلطان أبي الحسن قد نازل تلمسان أيضاً سنوات ومات وهو يحاصرها سنة بضع وسبع مئة.
عبد الرحمن بن موسى بن عمر

تاج الدين الناسخ، عرف بابن المناديلي، ووالده بدر الدين بن أبي الفضل.
كان ينادي يوم الجمعة على الكتب، ويأخذ رزقه فيها من بني الخطية السلب، ونسخ كثيراً من الدواوين الصغيرة الرائقة، والأشعار التي بالغزل والنسيب لائقة. وقطعت في غير جناية يمينه، وبقي رحمة لا يجد من يعينه. وكتب بعد قليل بشماله، وقاتل على ذلك لأن الخط كان رأس ماله. وكان يعتذر في آخر الكتاب أنه بيده اليسرى، ليعذره من كان بذكره مغرى. وكان خطه أبهج من خميلة، وأرهج من الطلعة الجميلة.
ولم يزل على حاله إلى أن غص بالشجى، ولم يجد من يد الموت مخرجاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة. ووصل إلى السبعين.
وكان قد وصل إليه القباري واليعفوري، وكتب لهما كتاباً، وكان ذلك مرافعة في حق الأفرم، فأمسكوا، وأفتى الشيخ زين الدين الفارقي بقطع يديه، وتوسيط الآخرين، فقطعت يده. وقد تقدم ذكر هذه الواقعة في ترجمة الشيخ أحمد القباري في آخر الأحمدين فتكشف من هناك. ولما قطعت يده قال للأفرم: يا خوند قطعت يدي لأجل درهمين، هذان دفعا إلي درهمين وقالا: اكتب هذا الكتاب، فرق له الأفرم، وأعطاه جملة دراهم، وأظنه رتب له شيئاً، وكان التاج المذكور مغرى بكتابة ديوان ابن الفارض والحاجري وغيره من هذه الدواوين الصغار، ويكتب كثيراً بكتاب الدرة المضية في اللغة التركية، وهذه الكتب موجودة بين ظهراني الناس، وخطه معروف. وكان يقول: عمري ما وقع في أذني ألذ من قول الأفرم: وهذا اقطعوا يده، لأنه رسم قبل ذلك بتوسيط القباري واليعفوري المذكورين.
وكان قد أسن، ووقعت أسنانه، وكان يمشي وفي جنبه جرن خشب، ويدق، حتى يدق الخيارة والقيثاءة والتفاحة والسفرجلة والكمثري وغير ذلك. ووجد بعد موته سماعه مشيخة العفيف محمد بن زكريا بن رحمة.
عبد الرحمن بن نصرابن عبيد المفتي الإمام زين الدين الفدمي السوادي الصالحي الحنفي.
سمع المرسي، وسبط بن الجوزي، وخطيب مردا، وإبراهيم البطائحي، والرشيد العراقي، واليلداني، وعدة.
كان له في الفقه بصر حديد، وفي الشروط نظر ما لخصمه عنه محيد. شهد تحت الساعات، وأنفق عمره في الطاعات، إلى أن عجز وانقطع، ولمع برق ضعفه وسطع. وكان يعبر الرؤيا، ويأتي في كلامه بما هو الغاية العليا.
ولم يزل إلى أن جف عوده، وزمجرت بالنزاع رعوده.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وله ست وثمانون سنة.
وانقطع بمدرسة الأسدية لما عجز عن التوجه إلى مكان الشهود.
عبد الرحمن بن يوسفابن محمد الشريف الخطيب الإمام العالم، الزاهد الفاضل جمال الدين أبو البقاء الحراني، خطيب المسجد الأقصى.
كان صاحب فضائل وفنون، ولي الخطابة بالأقصى بعد قاضي القضاة، بدر الدين بن جماعة.
توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبع مئة.
عبد الرحيم بن إبراهيمابن إسماعيل بن أبي اليسر التنوخي، تاج الدين أبو الفضل.
سمع من جده أبي محمد كثيراً، وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بدمشق.
عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة اللهقاضي القضاة نجم الدين الجهني البارزي الشافعي الحنفي، حفيد قاضي القضاة شيخ الإسلام شرف الدين، الحاكم بحماة، وسيأتي ذكر جده هبة الله في حرف الهاء في مكانه.
توفى القضاء نجم الدين هذا بحماة لما ترك قاضي القضاة جده المنصب وقد أضر. وقد كان إبراهيم والده توفي في حياة والده شرف الدين. ولم يكن في عصر نجم الدين هذا أحد من قضاة القضاة أقدم منه في هذا المنصب شاماً ومصراً مدة تزيد على الثلاثين سنة. وكان ساكناً خيراً قائماً بوظيفته على مات يجب. ورأيته بحماة غير مرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الخميس ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة.
عبد الرحيم بن أبي بكرمجد الدين الجزري الفقيه النحوي الصوفي.
كان قائماً بمعرفة النحو، هائماً في محبة أدته سكرتها إلى عدم الصحو.

وكانت له حلقة اشتغال، يجالس إليه فيها من هو في محبته متغال. وفيه مع ذلك عشرة وانطباع زائد، وكيس لا يحتاج معه في المحبة إلى رائد. ولكنه ابتلي بحب شاب شيب فوده، وحسن إلى الهلاك قوده، فكان إذا رآه ترعد فرائضه عشقاً وصبابة، ويود لو نال من عظيم وصاله صبابة. فقويت عليه سوداؤه، وتحكم منها فيه داؤه. فأغلق الخانقاه الشهابية عليه، وطلع إلى سطحها وألقى بنفسه إلى الطريق فمات، وأنزل بنفسه من أعاديه الشمات. وكان يوم جمعة، وقت الصلاة، ثاني عشر شهر رمضان سنة ثمان وتسعين وست مئة.
عبد الرحيم بن عبد الرحمنابن نصر الموصلي، الشيخ الإمام نجم الدين بن الشحام الشافعي.
أكثر الأسفار، ومطالعة الأسفار. واشتغل ببغداد وتميز، وانزوى إلى سراي وتحيز. وأقام بها مدة، وأنفق فيها من العمر جده.
وقدم دمشق سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وولي مشيخة القصر. ودرس بالجاروخية والظاهرية البرانية.
ولم يزل إلى أن ذاب بالأسقام شحمه، وسبك في القبر لحمه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة. وله ثمان وسبعون سنة.
وكان فقيهاً طبيباً. وكان قد ولي تدريس الظاهرية البرانية، ثم أضيف إليه تدريس الجاروخية ومشيخة خانقاه القصر.
عبد الرحيم بن عبد العليمالدندري، بدال مهملة أولى ودال ثانية بينهما نون وبعد الدال الثانية راء، المعروف بالفصيح.
مدح الأكابر، واستجدى بشعره، وسامحهم فيه بترخيص سعره.
وكان خفيف الروح، قانعاً بما تيسر من الفتوح.
ولم يزل على حاله إلى أن خرس الفصيح، وبكاه صاحبه بجفنه القريح.
قال الفاضل كما الدين الأدفوي: توفي سنة أربع وسبع مئة ظناً. وأورد له في تاريخ الصعيد قصيدة مدح بها الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، منها:
أيا سيداً فاق كل البشر ... ومن علمه في الوجود انتشر
ويا بحر علم غدا فيضه ... لوارده من نفيس الدرر
أيادي ندى عمنا جودها ... كما عم في الأرض جود المطر
وفي روض أيامك المونقات ... أنزه طرف المنى بالنظر
عبد الرحيم بن عبد المنعمابن عمر بن عثمان، الإمام المفتي الزاهد، جمال الدين، أبو محمد الباجربقي، بباء موحدة وبعد الألف جيم وراء وباء أخرى وقاف، الموصلي الشافعي.
شيخ فقيه محقق، نبيه مدقق، نقال، عارف بالوجود والطرق والأقوال. له حلقة اشتغال تحت قبة النسر إلى جانب البرادة، كل فاضل قد جعل إليها ترداده.
اشتغل بالموصل وأفاد، وبدأ بالفضل في دمشق وأعاد.
وكان طويلاً، عليه مهابة، ساكناً كثير الرجوع والإنابة، كثير الصلاة والذكر، والخشوع والفكر.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغ عمره حده، وجعل اللاحد على الأرض خده.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة في شوال.
وكان قد خطب الجامع الأموي نيابة، ودرس بالغزالية نيابة. وولي تدريس الفتحية، وحدث ب؟ جامع الأصول لابن الأثير عن واحد عن المصنف. وله نظم ونثر ووعظ. وقد نظم كتاب التعجيز فعمله برموز. وهو والد الشيخ محمد الآتي ذكره في مكانه، إن شاء الله تعالى، صاحب تلك العجائب.
ومن شعره: ....
عبد الرحيم بن عليابن هبة الله الأسنائي الصوفي.
كان من أصحاب الحسن بن الشيخ عبد الرحيم القنائي.
وكان نحوياً شاعراً، لغوياً ماهراً. جمع في النحو كتاباً سماها المفيد، وقال: " هذا ما لدي عتيد " .
ولم يزل إلى أن نحاه البلى، وجر ذيله إليه مسبلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة.
ومن شعره:
أهاجك برق بالمدينة يلمع ... وبيض يعاليل سوار وطلع
تراهن يهمين الحيا فكأنه ... على وجنات الأرض در مرصع
كأن عراها عندما مسها الحيا ... سحيقة مسك نشره يتضوع
على جنبات الغدر زهر تفتقت ... لها في شعاع الشمس لون منوع
عبد الرحيم بن علي بن الحسنابن الفرات عز الدين الحنفي.
اجتهد في مذهبه واشتغل، ودخل في مضائقه ووغل، وبرع في الفقه وأفتى، وسلك طريقاً " لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا " وانتهت إليه رياسة الإفتاء والإشغال، ودرس وأعاد وأتى بكل نفيس غال.

وكان قد سمع من قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وأبي عبد الله بن القماح، وعبد الله الصنهاجي. وتفقه على محيي الدين الدمشقي، وقاضي القضاة شمس الدين الحريري، والشيخ علاء الدين القونوي.
ودرس بالحسامية بالقاهرة وبتربة الحريري بالقرافة، وأعاد بالمدرسة المنصورية وغيرها، وناب في الحكم بمصر.
وبطل ذاك إلى أن أصبح ابن الفرات رفاتاً، وأمسى شخصه تحت الأرض كفاتاً.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في المدرسة الصالحية بين القصرين سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبع مئة.
عبد الرحيم بن محمدابن يوسف السمهودي، الخطيب بسمهود.
كان فقيهاً شافعياً، أديباً نحوياً.
رحل إلى دمشق، واجتمع بمحيي الدين النووي وحفظ منهاجه، وجعل إلى هذا الكتاب معاده ومعاجه. وكان لضيق رزقه. وما هو عليه من حذقه يتحيل على ما يتقوت به بأنواع من الحيل، ويقول إذا جاءه طوفان الحرمان: " سآوي إلى جبل " وكان يقرئ النحو والعروض والأدب بسمهود، ويأتي على ذلك بما هو من الشواهد مشهور ومشهود.
ولم يزل على حاله إلى أن رقا الخطيب منبر نعشه، وفسد ولم يعط جناية أرشه.
وتوفي رحمه الله تعالى بسمهود سنة عشرين وسبع مئة.
وكان قد قرأ الفقه على الزكي عبد الله السيرناوي. وأقام بالقاهرة مدة.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: حكى لي رحمه الله أن كان بالقاهرة تحصل له ضائقه، وتلجئه الحاجة والفاقة، فيأخذ ورقاً ويكتب فيه قلفطيريات ويعتقه ويبيعه بشيء له صورة. قال: وحكي لي ذلك أيضاً شيخنا أثير الدين وكان صاحبه. وكان ظريفاً لطيفاً جارياً على مذهب أهل الأدب في حب الشراب والشباب والطربق، وكان ضيق الخلق، قليل الرزق، اجتمعت به كثيراً.
وله خطب ورسائل، ومن شعره:
يا مالكي ذلي لحسنك شافعي ... فاشفع هديت الحسن بالإحسان
من قبل أن يأتي ابن حنبل آخذاً ... من وجنتيك شقائق النعمان
ومنه:
وافي نظامك فيه كل بديعة ... أخذت من الحسن البديع نصيباً
فلقد ملكت من البلاغة سرها ... وحويت من فن البديع غريبا
ونصبت من بيض الطروس منابراً ... أضحى يراعك فوقهن خطيبا
تبدي ضروب محاسن لسنا نرى ... بين الورى يوماً لهن ضريبا
ومنه:
وروض حللنا من حماه خمائلاً ... ينبه منه النشر غير نبيه
تغنت لنا الأطيار من كل جانب ... بمرتجل نختاره وبديه
وأضحى لسان الزهر فوق غصونها ... يخبر بالسر الذي هو فيه
ومنه:
كأنما البحر إذ مر النسيم به ... والموج يصعد فيه وهو منحدر
بيضاء في أزرق تمشي على عجل ... وطي أعكانها يبدو ويستتر
ومنه:
قال لي من هويت شبه قوامي ... وقد اهتز بالجمال دلالا
قلت: غصن على كثيب مهيل ... صافحته النسيم فمالا
ومنه قصيدة يمدح بها المظفر صاحب اليمن:
هم القصد إن حلوا بنعمان أو ساروا ... وإن عدلوا في مهجة الصب أو جاروا
تعشقتهم لا الوصل أرجو ولا الجفا ... أخاف وأهل الحب في الحب أطوار
وآثرتهم بالروح وهي حبيبة ... إلي، وفي أهل المحبة إيثار
وهل سحر ولى بنعمان عائد ... فكل ليالينا بنعمان أسحار
عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيمابن علي تقي الدين البمباني - بالباء الموحدة. وبعدها ميم وباء أخرى، وألف بعدها، ونون - وبمبان قرية بأسوان.
قرأ النحو والأدب على الشمس الرومي.
وكان فاضلاً أديباً، نحوياً أريباً، خفيفاً ظريفاً، متعاً لطيفا، ينظم البلاليق، ويجيد الاختيارات والتعاليق.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغ غايته، ونكس الموت رايته.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس أو ست وسبع مئة.
ومن نظمه يمدح طقصبا والي قوص:
لعلا جنابك كل أمر يدفع ... وإليك حقاً كل خطب يرفع
ومنها:
ما كان يفعله الشجاعي سالفاً ... في مصر في أسوان جهراً يصنع
وضاعت له سكين فوجدها مع ابن المصوص الأسنائي، فقال فيه:

إنك قذارى في اللصوص ... يا بن المصوص
خنيجري كان في الطبق
ومنتصر في القول صدق
وأنت خذته بالسبق ... لعب الفصوص
عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحمنابن عمر بن أحمد القزويني الأصل، الدمشقي الدار، تاج الدين، خطيب الجامع الأموي، ابن قاضي القضاة جلال الدين تقدم ذكر أخيه جمال الدين عبد الله، وسيأتي ذكر أخيه الخطيب بدر الدين محمد وذكر والده وذكر عمه وجماعة من بيتهم إن شاء الله تعالى.
كان أعلم، وهو بمخارج الحروف من إخوته أعلم. فكنت أعجب من ألفاظه الفصيحة، وخطابته المليحة. وكان يخطب بلحن، ويورد خطبته بلا لحن. ويقرأ طيباً في محرابه، ويأتي من نعمة النغمة بما هو أحرى به. وكان يتعاجم في كلامه تشبهاً بأبيه، دون إخوته وذويه. وكان العوام يحبونه، ويؤثرونه على من سواه ويختارونه. وعزل من الخطابة، ثم أعيد إليها رحمة له وإطابة.
ولم يزل على حاله إلى أن صلي عليه، وامتدت يد البلى إليه. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء، ثامن ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق، بصق دماً على العادة. وخرج جنازته ومعها خمس جنائز من بيته فيما أظن أو أكثر، لأنه مات منهم في جمعة جماعة.
لما مات أخوه الخطيب بدر الدين محمد، ولي الأمير علاء الدين ألطنبغا الخطابة للعلامة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى، وباشر الخطابة إلى أن ملك الفخري دمشق، فولي الخطابة لتاج الدين هذا.
وكتبت له توقيعاً من رأس القلم ارتجالاً، جاء أوله: " الحمد لله الذي رفع تاج الدين على رأس المنابر، وأنطق بأوصافه ألسنة الأقلام في أفواه المحابر.. " .
ولما طلب قاضي القضاة إلى مصر في أيام الصالح إسماعيل تولى الخطابة من هناك، وكان يطلع على المنبر ويجلس قبل الخطبة ويبكي ويقول: هذا السبكي قد أخذ الخطابة وقطع رزقنا، فكان يرق العوام له، ويبكون معه.
ولما جاء قاضي القضاة إلى دمشق نزل له عنها، فاستمر تاج الدين يخطب بالجامع الأموي من سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة إلى أن توفي في سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان خطيب جامع بشتاك الذي على بركة الفيل، وهو أول من خطب به، وكان معه بدمشق تدريس المدرسة الشامية الجوانية وتصدير بالجامع الأموي.
وقرأ كثيراً من العربية على الشيخ الإمام بهاء الدين بن عقيل وكثيراً من الأصول على العلامة الشيخ شمس الدين الأصبهاني.
ولم يكن له يد في شيء من العلوم، وتأسف الناس لموته، وكانت جنازته حافلة، ولم يبلغ الأربعين.
عبد الرحيم بن عليابن حسين بن مناع المعمر الصالح زين الدين التكريتي الدمشقي التاجر.
حدث بالصحيح غير مرة عن ابن عبد الدائم.
وكان مهيباً نبيلاً، منور الشيبة، كريم الأخلاق أقعد في أواخر عمره.
وتوفي رحمه الله تعالى بالصالحية في سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ومولده في شهر رمضان سنة اثنتين وستين وست مئة.
عبد الرحيم بن يحيىابن عبد الرحيم بن المفرح بن المسلمة، الأموي، الشيخ الفقير أبو محمد بن المحدث الدمشقي الكوافي.
حضر السخاوي، وعتيقاً السلماني، وعمر بن البراذعي، وسمع كثيراً من عم أبيه الرشيد بن مسلمة، والسديد بن علان، وعدة.
وحدث وكتب في الإجازات في أيام ابن أبي اليسر، وحفظ القرآن. وكان يعمل الكوافي، ويقرأ على الترب.
وخرج له شيخنا علم الدين البرزالي مشيخة سمعها منه شيخنا الذهبي والجماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
عبد الرزاق بن أحمدابن محمد بن أحمد بن الصابوني، الشيخ الإمام المحدث المؤرخ الإخباري النسابة الفيلسوف الأديب، كمال الدين الشيباني بن الفوطي البغدادي، صاحب التصانيف.
أفرد له شيخنا الذهبي ترجمة تخصه في جزء، ذكر أنه من ولد معن بن زائدة الأمير.

اشتغل في علوم الأوائل، وحظي منها بكل طائل. وعبث بالنظم وبالنثر وتأدب، وأتقن ذاك وتهذب. ثم إنه صنف التواريخ المفيدة، وكانت له يد في ترصيع التراجم مجيدة، وذهنه في جميع ذلك سيال، وإلى كل فن ميال. وأما خطه فلم أر أقوى منه ولا أبرع، ولا أسرى ولا أسرع، خط فائق، رائع رائق، بديع إلى الغاية في تعليقه، لو أنه ريح لسابق الرياح في يومه إلى تخليقه، وكان يكتب في كل يوم أربع كراريس، ويأتي بها أنقش وأنفس من ذنب الطواويس. أخبرني من رآه قال: ينام ويضع ظهره على الأرض ويكتب ويداه إلى جهة السقف. ولم أر له بعد هذا خطاً إلا وهو عجب، وقد أجاز لشيخنا الذهبي مروياته.
ولم يزل على حاله إلى أن فرط أمر الفوطي، وديس خده تحت الأرض ووطي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث المحرم سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
كان قد أسر في كائنة بغداد، ثم إنه صار إلى النصير الطوسي سنة ستين، واشتغل عليه بعلوم الأوائل، وباشر كتب خزانة الرصد بمراغة أزيد من عشرة أعوام، وهي على ما قيل أربع مئة ألف مصنف، والأصح أن تكون أربع مئة ألف مجلد. ولهج بالتاريخ، واطلع على كتب نفيسة. ثم إنه تحول إلى بغداد وصار خازن كتب المستنصرية، فأكب على التصنيف، وسود تاريخاً كبيراً جداً، وآخر دونه، سماه: مجمع الآداب في معجم الأسماء على الألقاب، في خمسين مجلداً، المجلد عشرون كراساً. وألف كتاب: درر الأصداف في غرر الأوصاف مرتب على وضع الوجود من المبدأ إلى المعاد، يكون عشرين مجلداً، وكتاب: تلقيح الأفهام في المختلف والمؤتلف مجدولاً، والتاريخ على الحوادث إلى خراب بغداد. والدرر الناصعة في شعر المئة السابعة. قال: ومشايخي الذي أروي عنهم ينيفون على الخمس مئة شيخ، منهم: الصاحب محيي الدين بن الجوزي، والأمير مبارك بن المستعصم بالله حدثنا عن أبيه بمراغة، وحلف ولدين. وله شعر كثير بالعربي وبالعجمي.
عبد الرزاق بن أحمد بن عبد اللهابن الزبير، الخطيب، تقي الدين ابن الشيخ العلامة شمس الدين أحمد الخابوري، خطيب حلب وابن خطيبها.
توفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وسبع مئة، في أوائلها.
وولي الخطابة بعد قاضي القضاة شمس الدين محمد بن محمد بن بهرام الشافعي المعروف بالدمشقي.
عبد الرزاق بن عليابن سلمي بن ربيعة الفقيه، المحصل جمال الدين بن القاضي ضياء الدين الشافعي.
كان اشتغل وتعب، وحفظ الوجيز وحفظ كتابين في الطب، وأقام مدة بالباذرائية.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
عبد السلام بن محمدابن مزروع بن أحمد، الإمام المحدث القدوة، عفيف الدين أبو محمد البصري الحنبلي.
حدث عن المؤتمن ابن قميرة، وفضل الله الجيلي، وجاور بالمدينة أكثر عمره، خمسين سنة، وحج أربعين حجة منها متوالية. وكان من خيار الشيوخ.
سمع منه شيخنا علم الدين البرزالي، وله نظم.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة.
وكانت وفاته بالمدينة الشريفة.
وقرأ عليه علم الدين البرزالي مشيخة ابن شاذان الكبرى بدمشق ثم قرأها عليه بالحجاز في رابغ وخليص، وقرأ عليه بالمدينة ثلاثة أجزاء، وهي: الخامس من حديث الحمامي، والثاني والثالث من حديث أبي الأحوص.
الألقاب والنسبابن عبد السلام: خطيب العقيبة ناصر الدين أحمد بن يحيى.
ومحيي الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز.
عبد السيد بن إسحاق بن يحيىالحكيم الفاضل بهاء الدين ابن المهذب، الطبيب الكحال.
كان من قبل ديان اليهود، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، وتعلم القرآن وجالس العلماء. وكان طبيباً فاضلاً.
توفي رحمه الله تعالى في سادس جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون.
عبد الصمد بن عبد اللطيفابن محمد بن محمد بن نصر الله، الصدر، الرئيس، الأصيل، بهاء الدين أبو القاسم بن الشيخ الخطيب بدر الدين بن المغيزل الحموي.
كان رجلاً جيداً، له ثروة وتجارة، وقد سمع على جماعة، وحدث ببلده وبطريق الحجاز وولي الوزارة بحماة، ثم تركها.
ولما مات أخوه الخطيب معين الدين ولي الخطابة بحماة مكانه، فبقي سنة ومات في ثاني عشر ذي الحجة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
الألقاب والنسب

ابن عبد الظاهر: كمال الدين علي بن أحمد والقاضي علاء الدين علي بن محمد.
عبد العزيز بن أحمدابن عثمان، الإمام البارع، الرئيس عماد الدين، أبو العز الهكاري المصري الشافعي قاضي المحلة، ويعرف بابن خطيب الأشمونين.
كان من الرؤساء النبلاء، والفقهاء والعلماء، له معرفة وفهم، وحكم ينفذ نفوذ السهم، مع رياسة وسؤدد، وتؤدة وقعدد. له اعتناء بالحديث واهتمام، وله تصانيف مليحة الترتيب والنظام. وكان يتواضع مع رفعته، ويتدانى على سعة رقعته.
حج مرات، وفاز بما شاء من مبرات. وذكر لقضاء دمشق بعد ابن صصرى، ولم يرض بها لسكنه قصراً.
ولم يزل على حاله إلى أن ولي قاضي المحلة محلة الأموات، وأصبح وقد خلت بأهله المثلات.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وكان قد سمع من عبد الصمد بن عساكر، وغيره.
وله تصانيف وأدب وشعر، ومن تصانيفه الكلام على حديث الأعرابي الذي واقع أهله في شهر رمضان، واستنبط منه ألف حكمة.
عبد العزيز بن أحمد بن شيخ السلاميةالقاضي الرئيس فخر الدين.
باشر الحسبة بدمشق في يوم الخميس سادس عشر جمادى الأولى تسع عشرة وسبع مئة عوضاً عن القاضي بدر الدين بن الحداد، وولي ابن الحداد نظر الجامع الأموي، ولبسا تشريفيهما.
عبد العزيز بن إدريسابن محمد بن أبي الفرج المفرح بن إدريس، الشيخ عز الدين أبو محمد، وأبو بكر أيضاً ابن الشيخ الإمام المحدث تقي الدين بن مزيز التنوخي الحموي، أخو الشيخ تاج الدين أحمد، وقد تقدم ذكره في الأحمدين.
روى جزء ابن عرفة عن شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز، وسمع بالقاهرة من إسماعيل بن عزون عدة أجزاء تفرد ببعضها في الشام.
وتوفي رحمه الله تعالى سلخ المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة بحماة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة.
ولما توفي صلى عليه أخوه الشيخ تاج الدين، ودفن بمقبرة الباب القبلي ظاهر حماة.
عبد العزيز بن عبد الحقابن شعبان بن علي بن الشياح عز الدين أبو محمد الأنصاري الدمشقي.
روى عن ابن عبد الدائم، وسمع من عبد الله الخشوعي.
توفي بقرية يبرود، وحمل على الأعناق إلى تربة والده، وتوفي رحمه الله تعالى سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
عبد العزيز بن سراياابن علي بن أبي القاسم بن أحمد بن نصر بن أبي العز بن سرايا بن باقي بن عبد الله بن العريض، الإمام العلامة، البليغ، المفوه، الفاضل، الناظم، الناثر، شاعر عصرنا على الإطلاق، صفي الدين الطائي السنبسي الحلي.
شاعر أصبح به راجح الحلي ناقصاً، وكان سابقاً فأصبح على عقبه ناكصاً. أجاد القصائد المطولة والمقاطيع، وأتى بما أخجل زهر النجوم في السماء، فما قدر زهر الأرض في الربيع؟ تطربك ألفاظه المصقولة ومعانيه المعلولة، ومقاصده التي كأنها سهام راشقة أو سيوف مسلولة. يغوص على المعاني ويستخرج جواهرها، ويصعد بمخيلته الصحيحة إلى السماء ويلتقط زواهرها. كلامه السحر إلا أنه خلال، ولفظه على القلب الظمآن ألذ من الماء الزلال. تلعب بالمعاني كما يتلعب النسيم بالأغصان اللدان، وولد بعضها من بعض كما يتولد الضرج من الخجل في خدود الولدان، مع بديع ما سمع بمثله البديع، وترصيع ما ألم به الصريع.
وشعره مع حلاوة الديباجة، وطلاوة التركيب التي ما فرحت بها طلاء الدن ولا سلافة الزجاجة، لا يخلو من نكت أدبية ترقص المناكب، وفوائد علمية من كل فن ينقص الكواكب. عالماً بكل ما يقول، عارفاً بغرائب النقول.
أجاد فنون النظم غير القريض، وأتى في الجميع بما هو شفاء القلب المريض، لأنه نظم القريض فبلغ فيه الغاية، وحمل قدامة جماعة من فحول الأقدمين الراية.
وكذلك هو في الموشحات والأزجال والمكفرات والبلاليق والقرقيات، والدوبيت والمواليا، والكان وكان والقوما، ليس له في كل ذلك نظير يجاريه، ولا يعارضه ولا يباريه.
وأما الشعر فجود فنونه، وصاد من بره ضبه ومن بحره نونه، لأنه أبدع في مديحه وهجوه، ورثائه وأغزاله، وأوصافه وتشبيهاته، وطردياته وحماسته، وحكمه وأمثاله، لم ينحط في شيء منها عن الذروة، ولم يخرج في مشاعرها عن الصفا والمروة.
وأما نثره فهو طبقة وسطى، وترسله يحتاج في ترويجه إلى أن يعلق في أذنه قرطاً. وعلى الجملة فإنه:

تملل الشعر حتى ما لذي أدب ... في الناس شين ولا غين ولا راء
وكان يسافر ويتجر، ويعف في بعض الأحيان عن الاجتداء ويزدجر. وكان منقطعاً إلى الملوك الأرتقية أصحاب ماردين، وشهر مدائحهم في الصادرين والواردين. وكانت فيه شجاعة وإقدام، وقوة جنان وثبوت أقدام.
ورد إلى مصر وامتدح السلطان الملك الناصر، وبز بمديحه كل متقدم ومعاصر. وعاد إلى البلاد الشرقية، إلا أنه كان شيعياً، وليس هذا الأمر في الحلة بدعياً.
وكان يتردد إلى حلب وحماة ودمشق، ويعد إلى ماردين، ويعرج على بغداد.
ولم يزل على حاله إلى أن كدر الموت على الصفي عيشه، وأنساه خرقه وطيشه.
وتوفي رحمه الله تعالى تخميناً سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
ومولده يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وست مئة.
وقلت أنا فيه:
إن فن الشعر نادى ... في جميع الأدباء
أحسن الله تعالى ... في الصفي الحلي عزائي
وأنشدني من لفظه الشيخ جمال الدين محمد بن نباته:
يا سائلي عن رتبة الحلي في ... نظم القريض وراضياً بي أحكم
للشعر حليان ذلك راجح ... ذهب الزمان به وهذا قيم
وكان قد دخل إلى مصر في سنة ست وعشرين وسبع مئة تقريباً، وأظنه وردها مرتين، ومدح القاضي علاء الدين بن الأثير بعدة مدائح، وأقبل عليه كثيراً، ودخل به إلى السلطان الملك الناصر، وقدم مديحه، واجتمع بالشيخ فتح الدين، وبأثير الدين، وبمشايخ ذلك العصر، ولما دخلت بعده، وجدتهم يثنون عليه.
وأما الصدر المعظم شمس الدين عبد اللطيف الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، فكان يظن بل يعتقد أنه ما نظم الشعر أحد مثله لا في المتقدمين ولا في المتأخرين مطلقاً.
واجتمعت أنا به في الباب وبزاعة من بلاد حلب في مستهل ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، كنا في الصيد مع الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، وأجاز لي بخطه جميع ماله من نظم ونثر وتأليف مما سمعته منه، وما لم أسمعه، وما لعله يتفق له بعد ذلك التاريخ على أحد الرائين، وما يجوز له أن يرويه سماعاً وأجازة ومناولة ووجاده بشرطه.
وأنشدني من لفظه لنفسه في التاريخ والمكان:
للترك مالي ترك ... مادين حبي شرك
حواجب وعيون ... لها بقلبي فتك
كالقوس يصمي وهذي ... تشكي المحب ويشكو
وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه:
وإذا العداة أرتك فر ... ط مذلة فإليك عنها
وإذا الذئاب استنعجت ... لك مرة فحذار منها
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لا غرو أن يصلى الفؤاد بذكركم ... ناراً تؤججها يد التذكار
قلبي إذا غبتم، يصور شخصكم ... فيه، وكل مصور في النار
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يقبل الأرض عبد تحت ظلكم ... عليكم، بعد فضل الله، يعتمد
ما دار مية من أسنى مطالبه ... يوماً وأنتم له العلياء والسند
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وأغر تبري الإهاب مورد ... سبط الأديم محجل ببياض
أخشى عليه بأن يصاب بأسهمي ... مما يسابقني إلى الأغراض
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وأدهم يقق التحجيل ذي مرح ... يميس من عجبه كالشارب الثمل
مضمر مشرف الأذنين تحسبه ... موكلاً باستراق السمع من زحل
ركبت منه مطاليل تسير به ... كواكب تلحق المحمول بالحمل
إذا رميت سهامي فوق صهوته ... مرت بهاديه وانحطت عن الكفل
قلت: ولم يطل اجتماعنا به، لأنه كان قد قصد الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام رحمه الله، لأنه كان قد سرقت له عملة بماردين، وبلغه أن اللص من أهل صيدنايا، وسأل كتابه إلى متولي البريد بدمشق بأمساك غريمه.
وقوله: " كالقوس... " الأبيات، إشارة إلى قول ابن الرومي:
تشكي المحب وتشكو وهي ظالمة ... كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان
وقوله: " وإذا الذئاب استنعجت ... " البيت، يريد بذلك قول القائل:
وإذا الذئاب استنعجت لك مرة ... فحذار منها أن تعود ذئاب

والذئب أخبث ما يكون إذا اكتسى ... من جلد أولاد النعاج ثيابا
وديوانه يدخل في مجلدين كبار أو ثلاثة صغار، وكله منتخب.
وله قصيدة ميمية في مديح النبي صلى الله عليه وسلم عارض بها البردة، أتى فيها بما يزيد على المئة والأربعين نوعاً من البديع، وشرحها وسماها: نتائج الألمعية في شرح الكافية البديعية. وجود في هذه القصيدة ما شاء.
وله مدائح ببني أرتق على حروف المعجم، مجلد. وله كتاب: العاطل الحالي والمرخص الغالي. وقال لي إنه وضع شيئاً في الجناس، ولم أره إلى الآن. وقيل: إنه عمل مقامات يسيرة.
والذي أقوله: إن الرجل كان أديباً كبيراً عالماً فاضلاً قادراً على النظم والإنشاء، مهما أراد فعل.
وأنشدني له إجازة:
سوابقنا والنقع والسمر والظبي ... وأحسابنا والحلم والبأس والبر
هبوب الصبا والليل والبرق والقضا ... وشمس الضحى والطود والنار والبحر
وأنشدني إجازة، وفيه استخدامان:
لئن لم أبرقع بالحيا وجة عفتي ... فلا أشبهته راحتي في التكرم
ولا كنت ممن يكسر الجفن في الوغى ... إذا أنا لم أغضضه عن رأي محرم
قلت: استخدام الحيا في مفهومية، وهو: الحيا، نقيض الوقاحة، والحيا: المطر. واستخدم الجفن في مفهوميه، أحدهما: جفن السيف وهو قرابة، والجفن: غطاء العين، وهو من غريب النظم.
وأنشدني له إجازة في مثله:
لا يسمع العود منا غير حاضنه ... من لبة الشوس يوم الروع بالعلق
ولا يعاطي كميتاً غير مصدره ... يوم الصدام بليل العطف بالعرق
وأنشدني له إجازة في سبع تشبيهات:
وظبي بقفر فوق طرف مفوق ... بقوس رمى في النقع وحشاً بأسهم
كشمس بأفق فوق برق بكفه ... هلال رمى في الليل جناً بأنجم
ونقلت من خطه وهو مما يقرأ مقلوباً: " كد ضدك. كن كما أمكنك. كرم علمك يكمل عمرك " .
ونقلت من خطه رسالة طويلة نظماً ونثراً، كل كلمة منها تصحيف ما بعدها، تكون أربع مئة كلمة، وهي: " قبل قبل يداك ثراك عبد عند رخاك رجاك، أبي أبي سؤال سواك. آمل أمك رجاء رخاء. فألغى فألقى جدة خده بأعتابك باغياً بك شرفاً سرفا. لاذبك لأدبك مقدماً مقدماً أمل آمل يزجيه يبشره بيسره وجودك وجودك. فاشتاق فاستاف. عَرف عرُف منك مثل عبير عنبر، وقَدم وقُدم، صَدقه صِدقه متجملاً متحملاً بصاعه بضاعة تبر نثر.
سند سيد حليم حكيم ... فاضل فاضل مجيد مجيد
حازم جازم بصير نصير ... زانه رأيه الشديد السديد
أمه أمة رجاء رخاء ... أدركت إذ زكت نقود تقود
مكرمات مكرمات بنت بي؟ ... ت علاء علا بجود يجود
وهي طويلة، ربما تزيد على الأربع مئة. وقد أوردتها بمجوعها في كتاب: حرم المرح في تهذيب لمح الملح.
وأنشدني له إجازة مضمناً.
تزوج جاري وهو شيخ صبية ... فلم يستطع غشيانها حين جاءها
ولو أنني بادرتها لتركتها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
وأنشدني له إجازة:
ليهنك أن لي ولداً وعبداً ... سواء في المقال وفي المقام
فهذا سابق من غير سين ... وهذا عاقل من غير لام
وأنشدني لنفسه إجازة:
وذات حر جادت به فصددتها ... وقلت لها: مقصودي العجز لا الفرج
فدارت ودارت سوء خلقي بالرضا ... وفي قلبها مما تكابده وهج
إذا ما دفعت الأير فيها تجشأت ... وذاك ضراط لم يتم له نضج
وأنشدني له إجازة:
خلياني أجر فضل برودي ... راتعاً في رياض عين البرود
كم بها من بديع زهر أنيق ... كفصوص منظومة وعقود
زنبق بين قضب آس وبان ... وأقاح ونرجس وورود
كجبين وعارض وقوام ... وثغور وأعين وخدود
وأنشدني له إجازة:
ولي غلام كالنجم طلعته ... أخدمه وهو بعض خدامي
تراه خلفي طول النهار فإن ... دجا لنا الليل صار قدامي
جعلته في الحضور مع سفري ... كفروة الحرث بن همام

قلت: يريد قول الحريري: فعمدت لفروة هي في النهار رياشي وفي الليل فراشي.
وأنشدني لنفسه إجازة:
لما رأت علياك أني كالذي ... أبدو فينقصني السقام الزائد
وافيتني ووفيت لي بمكارم ... فنداك لي صلة وأنت العائد
قلت: أخذ هذا من واقعة شرف الدين بن عنين مع الملك المعظم لما كتب إليه وهو ضعيف:
انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي
أنا كالذي أحتاج ما أحتاجه ... فاغنم ثنائي بالجيمل الوافي
فحضر المعظم إليه وقال له: أنت الذي وأنا العائد وهذه الصلة، وأعطاه صرة فيها ثلاثة مئة دينار. ولكن صفي الدين زاد هنا النقص، لأن الذي عند النحاة اسم ناقص يحتاج إلى صلة وعائد.
وأنشدني له إجازة:
وعود به عاد السرور لأنه ... حوى اللهو قدماً وهو ريان ناعم
يغرب في تغريده فكأنه ... يعيد لنا ما لقنته الحمائم
وأنشدني له إجازة يطلب مشمشاً:
يا جواداً أكفه في مجال الحر ... ب حتف وفي النوال غمامه
جد بتضعيف عكس مشطور تصحيف مثنى ترخيم مثل علامه
قلت: مثل علامة: سمة، فإذا رخمتها كانت: سم، فإذا ثنيتها كانت: سمسم، فإذا صحفتها كانت: شمشم، فإذا أخذت شطرها كان: شم، فإذا عكستها كانت: مش، فإذا ضعفتها كانت: مشمش.
ومثل هذا قول القائل يطلب حبراً:
تصدق علي بمعكوس ضد ... مصحف قولي خبت ناره
فتصحيف: خبت ناره: خسارة، وضدها: ربح، ومعكوسها: حبر. ولكن الشيخ صفي الدين زاده عملاً كثيراً.
وأنشدني إجازة لنفسه يستهدي راحاً:
جاد لنا الدهر بعد ما بخلا ... ومجلس الأنس قد صفا وحلا
ونحن في مجلس يزينه ... رشف طلى بيننا ولثم طلى
فاهد لنا لا برحت ذا نعم ... ما ضد تصحيف عكسه عدلا
قلت: ضد عدل: جار، وتصحيفه: حار، وعكسه: راح. والله أعلم.
وأنشدني له إجازة يطلب فلفلاً:
أعوزتنا إحدى العقاقير في الدر ... ياق فأتحف بها تكن خير تحفه
ضعف تصحيف ضد مشطور مثل ... لمثنى معكوس ترخيم دفه
قتل: ترخيم دفه: دف، ومعكوسه: فد، ومثتاه: فدفد، ومثله: مهمه، ومشطوره: مه، وضده: قل وتصحيفه: فل، وتضعيفه: فلفل.
وأنشدني لنفسه إجازة:
بأبي قذار منك وابن زرارة ... أدنيت حتف المستهام العاني
فلو أن كاسم أبي معاذ قلبه ... ما كان في البلوى أبا حسان
قلت: المعنى: بسالف منك وحاجب أدنيت حتفي، فلو أن قلبه جبل ما كان في البلوى ثابتاً، لأن سالفاً أبوه قذار، وحاجباً أبوه زرارة، ومعاذاً أبوه جبل، وحسان أبوه ثابت.
وأنشدني لنفسه أيضاً:
ما كان ودك إذ عتبتك في الجفا ... كابن الطفيل ولا أبي حسان
وجهي أبو المقداد منك من الحيا ... والقلب منك حكى أبا سفيان
قلت: المعنى: ما كان ودك عامراً ولا ثابتاً، وجهي منك أسود وقلبك صخر. لأن الطفيل ابنه عامر، وحسان أبوه ثابت، والمقداد أبوه الأسود، وأبا سفيان كنيته صخر.
وأنشدني لنفسه أيضاً رحمه الله تعالى موالياً:
تقول بسك مني يا شقيق البدر ... لقول ضدك عني بالخنا والغدر
وكان ظنك أني يا جليل القدر ... يكون ذلك فني عند ضيق الصدر
قلت: وهذان البيتان يقرأ شطر كل قفل منها فيصير بيتي قريض قائمة الوزن بذاتها، وهما:
تقول بسك مني ... لقول ضدك عني
وكان ظنك أني ... يكون ذلك فني
وإذا قرأت هذين البيتين بالهجاء حرفاً فحرفاً، خرج منهما بيتاً موالياً قائماً الوزن، وذلك:
تاء قاف واو لام باء سين كاف ميم نون يا ... لام قاف واو لام ضاد دال كاف عين نون يا
واو كاف ألف نون ظاء نون كاف ألف نون يا ... ياء كاف واو نون ذال لام كاف فاء نون يا
وهذا عمل صعب إلى الغاية، ولا يتأتى إلا لذي القدرة والتسلط على النظم. وقد أردت أن أعمل مثل ذلك، فأعان الله تعالى، وفتح علي، فقلت:
علمت أنك حبي يا رشيق القد ... وقلت: ودك طبي يا شريق الخد

فراع صدك لبي يا سعيد الجد ... عسى يردك ربي يا مديد الصد
فشطر كل نصف أول يقرأ فيكون قريضاً وهو:
علمت أنك حبي ... وقلت: ودك طبي
فراع صدك لبي ... عسى يردك ربي
وإذا قرأت هذين البيتين بالهجاء حرفاً فحرفاً، كانا بيتي موالياً وهما:
عين لام ميم تاء ألف نون كاف حاء باء يا ... واو قاف لام تاء واو دال كاف طاء باء يا
فاء راء ألف عين صاد دال كاف لام باء يا ... عين سين ألف ياء راء دال كاف راء باء يا
وأنشدني له إجازة:
وعدت في الخميس وصلاً ولكن ... شاهدت حولنا العدا كالخميس
أخلفت في الخميس وعدي وجاءت ... بعدما قبل بعد يوم الخميس
قلت: المعنى: أنها أوعدته الزيارة في يوم الخميس فرأت العدا كالجيش، فأخلفت الوعد في ذلك النهار، وجاءت في يوم الجمعة، وذلك لأن البعد والقبل متكافئان فسقطا، وفضل معه بعد والخميس بعده الجمعة. وهذا أخذه من قول القائل:
ما يقول الفقيه أيده الله ... ولا زال عنده الإحسان
في فتى علق الطلاق بشهر ... بعدما قبل بعده رمضان
وقد أوردت هذين البيتين في شرح اللامية وتكلمت عليه وعلى تقديم القبلات والبعدات، وهناك يظهر هذا أوضح من هنا.
وأنشدني لنفسه ما يقرأ مقلوباً:
أنث ثناء ناضراً لك إنه ... هنا كل أرض إن أنث ثناء
أمر كلاماً ألفته مظنه ... له نظم هتف لأم الكرماء
أهب لوصف لا لما هب آمل ... ملماً بها ملء الفصول بهاء
أروح أطيل الدأب أبرم همة ... مربى بإدلال يطاح وراء
أرق فلا حزن ينم بمهمل ... مهم بمن ينزح الفقراء
أخر لأني نائب لقضية ... تهيض قلبي أن ينال رخاء
أفوه أراعي قوته بتكلف ... لكتبة توقيع أراه وفاء
وأنشدني له إجازة مما يقرأ مقلوباً:
يلذ ذلي بنضو ... لو ضن بي لذ ذلي
يلم شملي لحسن ... إن سح لي لم شملي
وأنشدني لنفسه إجازة في الجناس:
كم قد أفضنا من دموع ودماً ... على رسوم للديار والدمن
وكم قضينا للبكاء منسكاً ... لما تذكرنا بهن من سكن
معاهد تحدث للصبر فناً ... إن هاجت الورق بها على فنن
تذكارها أحدث في القلب شجاً ... وفي الحشا قرحاً وفي القلب شجن
لله أيام لنا على منى ... فكم لها عندي أياد ومنن
شربت فيها لذة العيش حساً ... وما رأيت بعدها مرأى حسن
؟كم كان فيها من فتاة وفتى ... كل لقلب المستهام قد فنى
فما ارتكبنا بالوصال مأثماً ... بل بعتهم روحي بغير ما ثمن
وعاذل أضمر مكراً ودها ... فنمق العيش بنصح ودهن
لاح غدا يعرف للقلب لحاً ... إن أعرب القول بعذلي أو لحن
يزيدني بالزجر وجداً وأسى ... وكان ماء الود منه قد أسن
سئمت منه اللوم إذ طال مدى ... ولم أجبه بل بدوت إذا مدن
بجسرة تشد في السير قرى ... إذا لم تذلل بزمام وقرن
لا تتشكي نصباً ولا وجى ... إذا دجا الليل على الركب وجن
حنت وأعطت في السرى خير عطاً ... إن حن يوماً غيرها إلى عطن
وأصبحت من بعد أين وعناً ... للملك الناصر ضيفاً وعنن
ملك غدا لسائر الناس أباً ... إن سار في كسب الثناء أو أبن
الناصر الملك الذي فاض جداً ... فخلته ذا يزين وذا جدن
ملك علا قدراً وجداً وسناً ... فجاء في طرق العلا على سنن
لا جور في بلاده ولا عدى ... إن عد في العدل زبيد وعدن
كم بدر أعطى الوفود ولهى ... وكان يرضيهم كفاف ولهن
حنيت من إنعامه خير جنى ... وكنت من قبل كميت في جنن

فما شكوت في حماه لغباً ... ولو أطاق الدهر غبني لغبن
دعوته بالمدح عن صدق ولا ... فلم يجب يوماً بلم ولا ولن
أنظم في كل صباح ومساً ... كأنه لصارم الفكر مسن
يا مالكاً فاق الملوك ورعاً ... إن شان أهل الملك طيش ورعن
أكسبني بالمجد مجداً وعلاً ... فصغت فيك المدح سراً وعلن
إن أولك المدح الجزيل فحرى ... وإن كبا فكر سواي وحرن
لا زلت في ملكك خلواً من عناً ... وليس للهم لديك من عنن
ونلت فيه ما تروم من منى ... وعشت في أمن وعز ومنن
وأنشدني إجازة لنفسه:
سل سلسل الريق إن لم تروحر ظلما ... بل بلبل القلب لما زاده ألما
قد قدَّ قدُّ حبيبي حبل مصطبري ... إن آن أن أجتني جرماً فلا جرما
مذ مل ململ قلبي في تغنته ... لو كف كفكف دمعاً صار فيه دما
بل رب ربرب سرب ثغره شنب ... لو لؤلؤ رام تشبيهاً به ظلما
لو قابل الشمس لألأ لاؤها كسفت ... فإن يقل للدجازح زحزح الظلما
كم هَد هُدهد واشينا بناء وفاً ... غداة عنعن عن أعدائنا الكلما
مذ نم نمنم أقوالاً شقيت بها ... إذ زل زلزل طود الصبر فانهدما
لم لملم الوجد عندي بعد مصرفه ... عني وجمجم جم الغيث فالتأما
مدلج لجلج نطقي عن إجابته ... لو رق رقرق دمعاً ظل منسجماً
إن كان دعدع دع كأس العتاب وقل ... من مهمه العشق لا يطويه من سئما
إن قيل ضعضع ضع خديك معتذراً ... أو قيل قلقل قل أرضى بما حكما
أو قيل طحطح طح بالحب ملتجئاً ... أو قيل دمدم دم بالود ملتزما
سب سبسب الحب واشكر من احبتنا ... لكل منْ منَّ منْ أهل الوفا كرما
هم همهم حفظهم للخل حق وفا ... من حيث حصحص حص الهم منتقماً
إن قيل أح أحاح الغدر فارض بهم ... أولا فنفسك لمُ لمَ لمْ تفض ندما
وأنشدني لنفسه إجازة:
إنهض فهذا النجم في الغرب سقط ... والشيب في فود الظلام قد وخط
والصبح قد مد إلى نهر الدجى ... يداً بها در النجوم يلتقط
وألهب الإصباح أذيال الدجى ... بشمعة من الشعاع لم تقط
وضجت الأطيار في أوراقها ... لما رأت سيف الصباح مخترط
وقام من فوق الجدار هاتف ... متوج القامة ذو فرغ قطط
يخبر الراقد أن نومه ... عند انتباه جده من الغلط
والبدر قد صار هلالاً ناحلاً ... في آخر الشهر وبالصبح اختلط
كأنه قوس لجين موتر ... والليل زنجي عليه قد ضبط
وفي يديه للثريا ندب ... يزيد فرداً واحداً عن النمط
فأي عذر للرماة والدجى ... قد عد في سلك الرماة وانخرط
أما ترى الغيم الجديد مقبلاً ... قد مد في الأفق رداه وانبسط
كأن أيدي الريح في تلفيقه ... قد لبدت قطناً على ثوب شمط
يلمع ضوء البرق في حافاته ... كأن في الجو صفاحاً تخترط
وأظهر الخريف من أزهاره ... أضعاف ما يخفي الربيع إذا شحط
ولان عطف الريح في هبوبها ... والظل من بعد الهجير قد سقط
والشمس في الميزان موزون بها ... قسط النهار بعدما كان قسط
وأرسلت جبال دربند لها ... رسلاً صبا القلب إليها وانبسط
من الكراكي الخزريات التي ... تقدم والبعض بعض مرتبط
كأنها إذ تابعت صفوفها ... ركائب عنها الرحال لم تحط

إذا قفاها سمع ذي صبابة ... مثلي تقاضاه الغرام ونشط
فقم بنا نرفل في ثوب الصبا ... إن الرضا بتركه عين السخط
والتقط اللذة حيث أمكنت ... فإنما اللذات في الدهر لقط
إن الشباب زائر مودع ... لا يستطاع رده إذا فرط
أما ترى الكركي في الجو وقد ... نعم في أفق السماء ولغط
أنساه حب دجلة وطيبها ... مواطناً قد زق فيها وقمط
فجاء يهدي نفسه وما درى ... أن الجياد للحروب ترتبط
من كل سبط من هدايا واسط ... جعد التلاع منه في الكعب نقط
أصلحه صالح باجتهاده ... وكل ذي لب له فيه غبط
وما أضاع الحزم عند حزمها ... بل جاوز القيظ وللفصل ضبط
حتى إذا حر حزيران خبا ... وتم تموز وآب وشحط
وجاء أيلول بحر فاتر ... في نضج تعديل الثمار ما فرط
أبرز ما أحرز من آلاته ... وحل من ذاك المتاع ما ربط
ومد للصنعة كف أوحد ... مننره عن الفساد والغلط
وظل يستقري بلاغ عودها ... فنبر الأطراف واختار الوسط
وجود التدقيق في لحامها ... فأسقط الكرشات منه والسقط
ولم يزل ينقلها مراتباً ... تلزم في صنعته وتشترط
فعندما أفضت إلى تطهيرها ... صحح دارات البيوت والنقط
حتى إذا قمصها بدهنها ... جاءت من الصحة في أحلى نمط
كأنها النونات في تعريقها ... يعوج منها بندق مثل النقط
مثل السيور في يد الرامي فلو ... شاء طواها وحواها في سفط
لو يقذف أليم بها مالكها ... ما انتقض العود ولا الزور انكشط
كأنما يندقها نيازك ... أو من بد الرامي إلى الطير خطط
من كل محني الضلوع مدمج ... ما وهم الباري بها ولا فرط
كأنما لام عليها ألف ... وقال قوم إنها اللام فقط
فأجل قذى عيوننا ببرزة ... تنفي عن القلب الهموم والقنط
فما رأت من بعد هور بابل ... ومائه التيار عيشاً يغتب
ونحن من مروجه في نشوة ... عند التحري في الوقوف للخطط
من كل مقبول المقال صادق ... قد قبض القوس وللنفس بسط
يقدمنا فيها قديم حاذق ... لا كسل يشينه ولا قنط
يحكم فينا حكم داود فلا ... تنظر منا خارجاً لما شرط
لا يسبك الأسباق من جفته ... ولم يكن مثل القرلى في النمط
إذا رأى الشر تعلى وإذا ... لاح له الخير تدلى وانخبط
ما نعم المزهر والدف إذا ... فصل أدوار الضروب وضبط
أطيب من تدفدف التم إذا ... دق اكتسى الريش وهذا قد شمط
وذاك يرعى في شواطيه وذا ... على الروابي قد تحصى ولقط
فمن جليل واجب تعداده ... ومن مراع عدها لا يشترط
تعرج منا نحوه بنادق ... لم ينج منها من تعلى واختبط
فمن كسير في العباب عائم ... ومن ذبيح بالدماء يعتبط
وأنشدني له إجازة، ومن خطه نقلت:
كيف الضلال وصبح وجهك مشرق ... وشذاك في الأكوان مسك يعبق
يا من إذا سفرت محاسن وجهه ... ظلت بها حدق الخلائق تحدق
أوضحت عذري في هواك بواضح ... ماء الحيا بأديمه يترقرق
فإذا العذول رأى جمالك قال لي ... عجباً لقلبك كيف لا يتمزق

يا آسراً قلب المحب فد معه ... والنوم منه مطلَق ومطلَّق
أغنيتني بالفكر فيك عن الكرى ... يا آسري فأنا الغني المملق
؟وصحبت قوماً لست من نظرائهم ... فكأنني في الطرس سطر محلق
قولاً لمن حمل السلاح وخصره ... من قد ذابله أرق وأرشق
لا توه جسمك بالسلاح وحمله ... إني عليك من الغلالة أشفق
ظبي من الأتراك فوق خدوده ... نار يخر لها الكليم ويصعق
تلقاه وهو مزرد ومدرع ... وتراه وهو مقرط ومقرطق
لم تترك الأتراك بعد جمالها ... حسناً لمخلوق سواها يخلق
إن نوزلوا كانوا أسود عريكة ... أو غوزلوا كانوا بدوراً تشرق
قوم إذا ركبوا الجياد رأيتهم ... أسداً بألحاظ الجآذر ترمق
قد خلقت بدم القلوب خدودهم ... ودروعهم بدم الكماة تخلق
جذبوا القسي إلى قسي حواجب ... من تحتها نبل اللواحظ ترشق
نشروا الشعور فكل قد منهم ... لدن عليه من الذؤابة صنجق
لي منهم رشأ إذا قابلته ... كادت لواحظه بسحر تنطق
إن شاء يلقاني بخلق واسع ... عند السلام نهاه طرف ضيق
لم أنس ليلة زارني ورقيبه ... يبدي الرضا وهو المغيظ المحنق
حتى إذا عبث الكرى بجفونه ... كان الوسادة ساعدي والمرفق
عانقته وضممته فكأنه ... من ساعدي ممنطق ومطوق
؟حتى بدا فلق الصباح فراعه إن الصباح هو العدو الأزرق وأنشدني له إجازة يمدح الملك الناصر محمد بن قلاوون:
أسبلن من فوق النحور ذوائبا ... فتركن حبات القلوب ذوائبا
وجلون من صبح الوجوه أشعة ... غادرون فود الليل منها شائبا
بيض دعاهن الغبي كواعباً ... ولو استبان الرشد قال كواكبا
وربائب فإذا رأيت نفارها ... من بسط أنسك خلتهن رباربا
سفهن رأي المانوية عندما ... أسبلن من ظلم الشعور غياهبا
وسفرن لي فرأين شخصاً حاضراً ... شدهت بصيرته وقلباً غائبا
أشرقن في حلل كأن أديمها ... شفق تدرعه الشموس جلابيا
وغربن في كلل فقلت لصاحبي ... بأبي الشموس الجانحات غواربا
حلو التعتب والدلال يروعه ... عتبي، ولست أراه إلا غاتبا
عاتبته فتضرجت وجناته ... وازور ألحاظاً وقطب حاجبا
فأراني الخد الكليم وطرفه ... ذو النون إذ ذهب الغداة مغاضبا
ذو منظر تغدو القلوب بخسنه ... نهباً وإن منح العيون مواهبا
لا غرو أن وهب اللواحظ حظوة ... من نوره ودعاه قلبي ناهبا
كمواهب السلطان قد كست الورى ... نعماً وتدعوه القساور سالبا
ملك يرى تعب المكارم راحة ... ويعد راحات الفراغ متاعبا
؟لم تخل أرض من ثناه وإن خلت من ذكره ملئت قناً وقواضبا
بمكارم تذر السباسب أبحراً ... وعزائم تذر البحار سباسبا
ترجى مواهبه ويخشى بطشه ... مثل الزمان مسالماً ومحارباً
فإذا سطا ملأ القلوب مهابة ... وإذا سخا ملأ العيون مواهبا
كالغيث يسفح من عطائه نائلاً ... سبطا ويرسل من سطاه حاصبا
كالليث يحمي غابه بزئيره ... طوراً وينشب في القنيص مخالبا
كالسيف يبدي للنواظر منظراً ... طلقاً ويمضي في الهياج مضاربا
كالسيل يحمد منه عذباً واصلاً ... ويعده قوم عذاباً واصبا
كالبحر يهدي للنفوس نفائساً ... منه ويبدي للعيون عجائبا
فإذا نظرت ندى يديه ورأيه ... لم تلف إلا صيباً أو صائبا

أبقى قلاوون الفخار لولده ... إرثاً ففازوا بالثناء مكاسبا
قوم إذا سئموا الصوافن صيروا ... للمجد أخطار الأمور مراكبا
عشقوا الحروب تيمناً بلقا العدا ... فكأنهم حسبوا العداة حبائبا
وكأنما ظنوا السيوف سوالفاً ... واللدن قداً والقسي حواجبا
يا أيها الملك العزيز ومن له ... شرف يجر على النجوم ذوائبا
أصلحت بين المسلمين بهمة ... تذر الأجانب بالوفود أقاربا
ووهبتهم زمن الأمان فمن رأى ... ملكاً يكون له الزمان مواهبا
فرأوا خطاباً كان خطباً فادحاً ... لهم وكتباً كن قبل كتائبا
وحرست ملكك من رجيم مارد ... بعزائم إن صلت كن قواضبا
حتى إذا خطف المنافق خطفة ... أتبعته منها شهاباً ثاقبا
لا ينفع التجريب خصمك بعدما ... أفنيت من أفنى الزمان تجاربا
؟صرمت شمل المارقين بصارم ... تبديه مسلوباً فيرجع سالبا
صافي الفرند حكى صباحاً جامداً ... أبدى النجيع به شعاعاً ذائباً
وكتيبة تدع الصهيل رواعداً ... والبيض برقاً والعجاج سحائبا
حتى إذا ريح الجلاد حدت لها ... مطرت وكان الوبل نبلاً صائبا
بذوابل ملد يخلن أراقماً ... وشوائل جرد يخلن عقاربا
تطأ الصدور من الصدور كأنما ... تعتاض عن وطء التراب ترائبا
فأقمت تقسم للوحوش وظائفا ... فيها وتصنع للنسور مآدبا
وجعلت هامات الكماة منابراً ... وأقمت حد السيف فيها خاطبا
يا راكب الخطر الجليل وقوله ... فخراً بمجدك لا عدمت الراكبا
صبرت أسحار السماح بواكراً ... وجعلت أيام الكفاح غياهبا
وبذلت للمداح صفو خلائق ... لو أنها للبحر طاب مشاربا
فرأوك في جنب النضار مفرطاً ... وعلى صلاتك والصلاة مواظبا
إن يحرس الناس النضار بحاجب ... كان السماح لعين مالك حاجبا
لم يملؤوا فيك البيوت رغائبا ... إلا وقد ملؤوا البيوت غرائبا
أوليتني قبل المديح عناية ... وملأت عيني هيبة ومواهبا
ورفعت قدري في الأنام وقد رأوا ... مثلي لمثلك خاطباً ومخاطبا
في مجلس ساوى الخلائق في الندى ... وترتبت فيه الملوك مراتبا
وافيته في الفلك أسعى جالساً ... فخراً على من قال أمشي راكبا
فأقمت أنفذ في الأنام أوامراً ... مني وأنشب في الخطوب مخالبا
وسقتني الدنيا غداة وردته ... ريا وما مطرت علي مصائبا
فطفقت أملأ من ثناك وشكره ... حقباً وأملأ من نداك حقائبا
أثني فتثنيني صفاتك مظهرا ... عياً وكم أعيت صفاتك خاطبا
لو أن أعضانا جميعاً ألسن ... تثني عليك لما قضينا الواجبا
وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت، يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كفى البدر حسناً أن يقال نظيرها ... فيزهى ولكنا بذاك نضيرها
وحسب غصون البان أن قوامها ... يقاس به ميادها ونضيرها
أسيرة حجل مطلقات لحاظها ... قضى حسنها أن لا يفك أسيرها
تهيم بها العشاق خلف حجابها ... فكيف إذا ما آن منها سفورها
وليس عجيباً أن غررت بنظرة ... إليها فمن شأن البدور غرورها
فكم نظرة قادت إلى القلب حسرة ... يقطع أنفاس الحياة زفيرها
فواعجباً كم نسلب الأسد في الوغى ... ويسلبنا من أعين الحور حورها
فتور الظبى عند القراع يشينها ... وما يرهف الأجفان إلا فتورها

وجذوة حسن في الخدود لهيبها ... يشب ولكن في القلوب سعيرها
إذا آنستها مقلتي خر صاعقاً ... فؤادي وقال القلب لادك طورها
وسرب ظباء مشرقات شموسه ... على حلة عند النجوم بدورها
تمانع عما في الكناس أسودها ... وتحرس ما تحوي القصور صقورها
تغار من الطيف الملم حماتها ... ويغضب من مر النسيم غيورها
إذا ما رأى في النوم طيفاً يرودها ... توهمه في اليوم ضيفاً يزورها
نظرنا فأعدتنا السقام جفونها ... ولذنا فأولتنا النحول خصورها
وزرنا وأسد الحي تذكي لحاظها ... ويسمع في غاب الرماح زئيرها
فيا ساعد الله المحب فإنه ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
ولما ألمت للزيارة خلسة ... وسجف الدياجي مسبلات سورها
سعت بيننا الواشون حتى حجولها ... ونمت بنا الأعداء حتى عبيرها
وهمت بنا لولا حبائل شعرها ... خطا الصبح لكن قيدته ظفورها
ليالي يعديني زماني على العدا ... وإن ملئت حقداً علي صدورها
ويسعدني شرخ الشبيبة والغنى ... إذا شانها أفتارها وقتيرها
ومذ قلب الدهر المجن أصابني ... صبوراً على حال قليل صبورها
فلو تحمل الأيام ما أنا حامل ... لما كاد يمحو صبغة الليل نورها
سأصبر إما أن تدور صروفها ... علي وإما تستقيم أمورها
فإن تكن الخنساء إني صخرها ... وإن تكن الزباء إني قصيرها
وقد أرتدي ثوب الظلام بجسرة ... عليها من الشوس الحماة جسورها
كأني بأحشاء السباسب خاطر ... فما وجدت إلا وشخصي ضميرها
وصادية الأحشاء غصى بآلها ... يعز على الشعرى العبور عبورها
ينوح بها الخريت ندباً لنفسه ... إذا اختلفت حصباؤها وصخورها
إذا وطئتها الشمس سال لعابها ... وإن سلكتها الريح طال هريرها
؟وإن قامت الحرباء ترصد شمسها ... أصيلاً أذاب الحظ منها هجيرها
تجنب عنها للحذار جنوبها ... وتدبر عنها في الهبوب دبورها
خبرت مرامي أرضها فقتلتها ... وما يقتل الأرضين إلا خبيرها
بخطوة مر قال أمون عثارها ... كثير على وفق الصواب عثورها
ألذ من الأنغام رجع بغامها ... وأطرب من سجع الهديل هديرها
نساهم شطر العيش عيساً سواهما ... لطول السرى لم يبق إلا شطورها
حروفاً كنونات الصحائف أصبحت ... تخط على طرس الفيافي سطورها
إذا نظمت نظم القلائد في البرى ... تقلدها خصر الربا ونحورها
طواها طواها فاغتدت وبطونها ... تجول عليها كالوشاح ظفورها
يعبر عن فرط الحنين أنينها ... ويعرب عما في الضمير ضمورها
نسير بها نحو الحجاز وقصدها ... ملاعب شعبي بابل وقصورها
فلما ترامت عن زرود ورملها ... ولاحت لها أعلام نجد وقورها
وصدت يميناً عن شميط وحاذرت ... ربا قطن والشهب قد شف نورها
وعاج بها عن رمل عاج دليلها ... فقامت لعرفان المراد صدروها
غدت تتقاضانا المسير لأنها ... الى نحو خير المرسلين مسيرها
ترض الحصى شوقاً لمن سبح الحصى ... لديه وحياً بالسلام بعيرها
إلى خير مبعوث إلى خير أمة ... إلى خير معبود دعاها بشيرها
ومن بشر الله الأنام بأنه ... مبشرها عن إذنه ونذيرها
ومن أخمدت مع وضعه نار فارس ... وزلزل منها عرشها وسريرها

ومن نطقت توراة موسى بفضله ... وجاء به إنجيلها وزبورها
محمد خير المرسلين بأسرهم ... وأولها في المجد وهو أخيرها
فيا آية الله التي مذ تبجلت ... على خلقه أخفى الظلال ظهروها
عليك سلام الله يا خير مرسل ... إلى أمة لولاه دام غرورها
عليك سلام الله يا خير متشافع ... إذا النار ضم الكافرين حصيرها
عليك سلام الله يا من تعبدت ... له الجن وانقادت إليه أمورها
تشرفت الأقدام لما تتابعت ... إليك خطاها واستمر مريرها
وفاخرت الأفواه نور عيوننا ... بتربك لما قبلته ثغورها
ولو وفت الوفاد قدرك حقه ... لكان على الأحداق منها مسيرها
لأنك سر الله والآية التي ... تجلت فجلى ظلمة الشرك نورها
مدينة علم وابن عمك بابها ... فمن غير ذاك الباب لم يؤت سورها
شموس لكم في الغرب مدت شموسها ... بدور لكم في الشرق حفت بدورها
جبال إذا ما الهضب دكت جبالها ... بحور إذا ما الأرض غارت بحورها
فيا آل خير الآل والعترة التي ... محبتها نعمى قليل شكورها
إذا جولست للبذل ذل نضارها ... وإن سوجلت في الفضل عز نظيرها
وصحبك خير الصحب والغرر التي ... بهم أمنت من كل أرض ثغورها
كماة حماة في القراع وفي القرى ... إذا شط قاريها وطاش وقورها
أيا صادق الوعد الأمين وعدتني ... ببشرى فلا أخشى وأنت بشيرها
بعثت الأماني عاطلات لتبتغي ... نداك فجاءت حاليات نحورها
وأرسلت آمالاً خماصاً بطونها ... إليك فعادت مثقلات ظهورها
إليك رسول الله أشكو جرائماً ... يوازي الجبال الراسيات صغيرها
كبائر لو تبلى الجبال بحملها ... لدكت ونادى بالثبور ثبيرها
وغالب ظني بل يقيني أنها ... ستمحى وإن جلت وأنت سفيرها
لأني رأيت العرب تخفر بالعصا ... وتحمي إذا ما أمها مستجيرها
فكيف بمن في كفه أورق العصا ... يضام بنو الآمال وهو خفيرها
وبين يدي نجواي قدمت مدحة ... قضى خاطري أن لا يضيع خطيرها
يروي غليل السامعين قطارها ... ويجلو عيون الناظرين قطورها
وأحسن شيء أنني قد جلوتها ... عليك وأملاك السماء حضورها
تروم بها نفسي الجزاء فكن لها ... مجيزاً بأن تمسي وأنت مجيرها
فلا بن زهير قد أجزت ببردة ... عليك فأثرى من ذويه فقيرها
أجرني أجزني واجزني أجر مدحتي ... ببرد إذا ما النار شب سعيرها
وقابل ثناها بالقبول فإنها ... عرائس فكر والقبول مهورها
فإن زانها تطويلها واطرادها ... فقد شانها تقصيرها وقصورها
إذا ما القوافي لم تحط بصفاتكم ... فسيان منها جمها ويسيرها
بمدحك تمت حجتي وهي حجتي ... على عصبة يطغى علي فجورها
أقص بشعري إثر فضلك واصفاً ... علاك إذا ما الناس قصت شعورها
وأسهر في نظم القوافي ولم أقل ... خليلي هل من رقدة أستعيرها
عبد العزيز بن عبد الجليلالشيخ الإمام الفقيه عز الدين النمراوي الشافعي.
كان من فقهاء القاهرة المشهورين. أفتى ودرس وصحب الأمير سيف الدين سلار مدة، وترقى بسببه.
توفي رحمه الله تعالى في تاسع ذي القعدة سنة عشر وسبع مئة.
عبد العزيز بن عبد الغني

ابن أبي الأفراح سرور بن أبي الرجاء، سلامة بن أبي بن اليمن بركات بن أبي الحمد داود، ويتصل بالحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الينبعي المحتد، الإسكندراني المولد.
أخبرني العلامة أبو حيان قال: أنشدنا لنفسه بجامع عمرو بن العاص، ثاني عشر شهر رجب، ثمانين وست مئة:
وجدت بقائي عند فقد وجودي ... فلم يبق حد جامع لحدودي
وألفيت سري عن ضميري ملوحاً ... برمز إشاراتي وفك قيودي
فأصبحت مني دانياً بمعارف ... وقد كنت عني نائباً لجمودي
ومن عين ذاك الأمر حكم مبين ... لتحقيق ميراثي وحفظ عهودي
فمن مبتدا فرقي قنوتي ووجهتي ... إلى منتهى جمعي يكون سجودي
وعاكف ذاتي مطلق غير مطرق ... وبادي صفاتي قد وفا بعقودي
وإن أمرتني نشأتي غير نسبتي ... فصالح آبائي نذير ثمودي
سألقي عصاي في رحاب تجردي ... لتأتي من نحو القبول وفودي
وأخلد بلعامي إلى أرض طبعه ... لترفعني الآيات حال صعودي
إذا وردت من ماء مدين نشوتي ... لطيفة أسراري بطيب ورودي
فأنزل مني منزلاً بعد منزل ... وتنزل شمسي في بروج سعودي
فلا منهج إلا ولي فيه مسلك ... ولا موطن إلا وفيه شعودي
قال العلامة أبو حيان: قال شيخنا الرضي الشاطبي: هذا يعرف بالشيخ عبد العزيز المنوفي، وهو من أتباع ابن العربي، صاحب عنقاء مغرب.
قال الشيخ أثير الدين: وهو شيخ عبد الغفار بن نوح القوصي.
قلت: توفي هذا الشيخ، أبو فارس المنوفي، رحمه الله تعالى، سنة ثلاث وسبع مئة.
وولده سنة سبع وست مئة.
عبد العزيز بن عبد القادرابن أبي الكرم بن أبي الذر الربعي البغدادي، الشيخ نجم الدين، أحد أشياخي الذين سمعت عليهم بالقاهرة.
أجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وسمعت عليه المقامات الجزرية التي لابن الصيقل، كان يرويها عن المصنف، قرأها عليه الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن العسجدي بالمدرسة القراسنقرية بالقاهرة في السنة المذكورة ونحن نسمع. وله رسالة في الرد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في إنكاره صحة الكيمياء، وله مصنفات منها كتاب نتائج الشيب من مدح وعيب وهو كبير، ملكته بخطه.
وكان شيخاً قد أتقى واستمسك من الزهد بالعروة الوثقى، صوفياً قد تجرد، وانفرد عن الوظائف ومن فيها تمرد، طيلاً مهيباً، دانياً من القلوب قريباً.
لم يزل على حاله إلى أن ذر على ابن أبي الذر ترابه، وفارقه لداته وأترابه.
وتوفي رحمه الله تعالى...
ومولده ببغداد سنة اثنتين وستين وست مئة.
عبد العزيز بن أبي القاسمابن عثمان، الشيخ عز الدين أبو محمد البابصري البغدادي الحنبلي الصوفي الأديب من أعيان الشميساطية.
سمع مشيخة الباقرحي على ابن الأجل، وسمع بدمشق من أصحاب ابن طبرزد.
وكان بالفقه بصيراً، وعلى الأدب لمن عاناه نصيراً، وله حظ من معرفة أيام الناس، وتراجم الأطهار والأدناس، وعلى ذهنه من الشعر جملة، وعلى ظهر قلبه من روايته حمله.
ولم يزل على حاله إلى أن شخص بصر البابصري وبرق، وغص بها الحلقوم وشرق، وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وثلاثين وخمس مئة.
وسمع منه ابن البرزالي، وابن الصيرفي، وضعف بصره أخيراً. وله شعر منه قوله: ...
عبد العزيز بن محمدابن عبد الله بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر بن صغير، الصدر عز الدين بن القيسراني، كاتب الإنشاء بالقاهرة.
سمع من الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ومن الشريف موسى وغيرهما.
ودرس بالفخرية وغيرها على مذهب الشافعي.
وكان من بيت رياسة، وجماعة وصدارة ونفاسة، بزته جميلة، ومنظره آنق من خميلة، وكفه يسح بالنوال ولا يشح عن السؤال، ولطفه كالنسيم، وظرفه كطلعة الصبح البسيم.
ولم يزل على حاله إلى أن ذوى رطيباً، وركب أعواد النعش ولم يك خطيباً.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة تسع وسبع مئة، ودفن بالقرافة ولم يكمل الأربعين.

وكتب عنه شيخنا البرزالي وجماعة من المصريين. وله نظم ونثر، ومن نظمه ما قاله في قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وقد خطب بمصر:
تضوع نشر المسك من لفظك العذب ... وأظهرت من نهج البلاغة ما يصبي
وشنفت أسماع الأنام بخطبة ... نفخت بها الأرواح في ميت القلب
وقد عجب الراؤون من عود منبر ... تلامسه إذا لم يكن منبت العشب
ولكنه من حين لامست عوده ... تعرف حتى صار من مندل رطب
ومنه:
من طلب الأرزاق من عند من ... يطعمه الله ويسقيه
يكون قد ضل سبيل الهدى ... وحاد عن نيل أمانيه
لأن من يعجز عن نفسه ... يعجز عن إرزاق راجيه
عبد العزيز بن محمد بن عبد الحقابن شعبان بن علي، عز الدين أبو محمد الشياح بالشين - المعجمة والياء آخر الحروف وألف بعدها حاء مهملة - الأنصاري الدمشقي.
روى عن ابن عبد الدائم، وسمع من عبد الله الخشوعي.
كان رجلاً حسناً، لوذعاً فطناً. تعانى الخدم والتجارة، وكتب في الديوان طلباً للمعيشة وحسن الشارة. وتولى على عمارة الجامع السيفي بظاهر دمشق، ولما فرغ ولي إشرافه، واجتنى قطوفه وحاذر غيبته عنه وانصرافه. ثم إنه توجه للقدس وعاد فباشر مشارفة يبرود، وأقام بها إلى أن نشرت له من الموت مطويات البرود.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وحمل على الأعناق إلى تربة والده بسفح قاسيون.
عبد العزيز بن محمد بن أحمدابن هبة الله بن جرادة، قاضي القضاة، عز الدين أبو البركات بن الصدر محيي الدين الحنفي، ابن العديم قاضي القضاة بحماة.
كان شيخاً فاضلاً في عدة فنون. ولي قضاء حماة مدة تقارب الأربعين سنة. وكان مدرساً بعدة مدارس، وروى الحديث عن يوسف بن خليل الحافظ، وسمع من أخويه: يونس وإبراهيم، ومن الضياء صقر، وهدية بنت المغربي، وغيرهم.
وكان له اعتناء ب؟ الكشاف ومفتاح السكاكي وغير ذلك.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ودفن بتربتهم بعقبة نقيرين.
ومولده في شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
عبد العزيز بن محمد بن علي الطوسيضياء الدين، مدرس النجيبية ومعيد الباذرائية والناصرية.
كان بصيراً بالفقه وأصوله، خبيراً بمنتخبه ومحصوله. أفاد وأفتى، وتميز بمحاسن شتى، وصيف في العلم وطلبه وشتى، وصنف التصانيف البديعة حتى، ووضع شرحاً للحاوي وأعان به الطلبة على الفتاوي. وشرح المختصر لابن الحاجب، وأتى فيه بكل مهم واجب.
ولم يزل على حاله إلى أن خرج من الحمام، فدخل في الحمام، ورثاه حتى ساجعات الحمام.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر جمادى الأولى سنة ست وسبع مئة، خرج من الحمام ومات، رحمه الله تعالى.
عبد العزيز بن محمد بن عبد الحقابن خلف بن عبد الحق، الفقيه الإمام العدل عز الدين الدمشقي الشافعي.
كان فاضلاً، عنده فقه وحديث، وله معرفة بالشروط وكان من أعيان الشهود، ودرس بالمدرسة الأسدية ظاهر دمشق.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن ابن الزبيدي، وابن صباح، والفخر الإربلي، وجعفر الهمداني، وغيرهم. وله إجازة من ابن القطيعي، وابن روزبة، وجماعة من بغداد.
وتوفي رحمه الله تعالى في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده في تاسع عشر شعبان سنة خمس وعشرين وست مئة.
عبد العزيز بن منصورالصدر عز الدين الكولمي التاجر.
كان له أموال كالأمواه، أو الكلمات التي تخرج أفواجها من الأفواه، لا يضبطها حساب، ولا يحصل نظيرها اكتساب، فاتت العد، وتعدت الحد.
عبد العزيز بن يحيى بن محمدالقاضي الرئيس عماد الدين أبو محمد ابن قاضي القضاة محيي الدين بن الزكي القرشي الدمشقي الشافعي مدرس العزية والتقوية.
وكان أحد من ولي نظر الجامع الأموي غير مرة، ونول أهله ومن له به علاقة كل مسره، وكان شكله مليحاً، ونطقه في المقاصد السعيدة فصيحاً، فيه حشمة، وله همة، وعنده صدارة، وللرياسة عليه إحاطة وإدارة. وكان قد عين للقضاء، وقابله الناس بالارتضاء.
ولم يزل على حاله إلى أن حانت وفاته، ولانت للموت صفاته.

وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة.
وقرأ عليه شيخنا البرزالي مشيخة أبي مسهر بروايته حضوراً عن إبراهيم بن خليل.
عبد العزيزالمغني المعروف بالفصيح.
كان مشهوراً بالإجادة في صناعت، وأظن دخل اليمن رحمه الله.
وتوفي بالقاهرة في جمادة الأولى سنة عشر وسبع مئة.
وفيه يقول علاء الدين الوادعي - ومن خطه نقلت - :
قل للذي عشق الفصيح وعنده ... أن العيون إليه لم تتيقظ
يا من تحفظ في هواه عن الورى ... ليس الفصيح كفاية المتحفظ
ونقلت منه له:
عذلي في هوى الفصيح دعوني ... واسمعوا العذر واضحاً مشروحا
خفت لحناً في شرح مجمل حبي ... فلهذا قد حفظت الفصيحا
ونقلت منه له:
لحن هذا الفصيح أحسن من إع؟ ... راب ذاك الفصيح في كل حال
بين هذين في الفصاحة بون ... ذاك من ثعلب وذا من غزال
ونقلت منه له:
وليلة ما لها نظير ... في الطيب لو ساعفت بطول
كم نوبة للفصيح فيها ... أطرب من نوبة الخليل
؟

عبد العظيم بن عبد المؤمن
الشيخ زكي الدين بن الشيخ شرف الدين الدمياطي.
مات كهلاً سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وكان شيخ الظاهرية بالقاهرة.
عبد الغالب بن محمدابن عبد القاهر بن محمد بن ثابت بن عبد الغالب الماكسني.
سمع من إسماعيل بن أبي اليسر، وأبي بكر محمد بن علي النشبي، وإبراهيم بن إسماعيل بن الدرجي، وغيرهم.
أجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
عبد الغفار بن محمدابن عبد الكافي بن عوض السعدي المصري القاضي المفتي المتقن المجيد تاج الدين الشافعي.
روى عن إسماعيل بن عزون، والنجيب، وابن علاق، وعدة، وجع وصنف وقطع ورصف، ونسخ الكثير وجود، وأفاد الطلبة وعود، وعمل المعجم والتساعيات، وخرج المسلسلات، وكان موصوفاً بالفقه والإتقان والدين والإيقان.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح عبد الغفار عند الحفار، وتحدث بأخباره السفار.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمسين وست مئة.
وكان شيخ الحديث بالمدرسة الصاحبية بمصر، وأخذ عنه تقي الدين بن رافع، وشهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي، والواني، وابنه، والسروجي. وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ذكر في شعبان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة أنه كتب بخطه ما يزيد على خمس مئة مجلد ما بين فقه وحديث وغير ذلك.
وقرأ العربية على أمين الدين المحلي، وسمع منه، ومن ابن عزون، وابن علاق، والنجيب عبد اللطيف، وأخيه، والمعين بن القاضي الدمشقي، ومحمد بن مهلهل الجنبي وعبد الهادي القيسي والشيخ شمس الدين بن العماد الحنبلي، وأبي حامد بن الصابوني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، ومحمد بن إبراهيم الكلي الطبيب، وابن الخيمي الشاعر، والحافظ اليغموري، والفضل بن رواحة، وسمع بالإسكندرية من عثمان بن عوف آخر أصحاب ابن موقا وابن الدهان وابن الفرات وجماعة من أصحاب ابن البنا وابن عماد، وخرج لنفسه معجماً في ثلاث مجلدات، وأجازه من دمشق ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وجماعة من أصحاب الخشوعي وغيرهم.
وحدث بالكثير، واعتنى بهذا الشأن، وكان ذاكراً لشيوخه وسماعه، حسن الخط، جيد الضبط، عارفاً بهذا الشأن وناب في الحكم بمصر عن القاضي تقي الدين الحنبلي.
عبد الغفار بن أحمدابن عبد المجيد بن عبد الحميد، الذروي المحتد، الأقصري المولد، القوصي الدار، المعروف بابن نوح.
صحب الشيخ أبا العباس أحمد الملثم، والشيخ عبد العزيز المنوفي، وقد تقدم ذكره آنفاً، وتجرد زماناً، وتفرد بالمشيخة عياناً.
وكانت له قدرة على الكلام، وفصاحة يشهد بها الأئمة الأعلام، وله في السماع حال، وعنده قال من جعل له القال، وبه نزل من رقق شعره في المحبة والغزل، وكان ينكر من المنكرات كثيراً، ويأمر بالمعروف فيوقد به سراجاً منيراً، وله قوة جنان، وتصرف عنان في البيان.
ولم يزل على حاله بالقاهرة، بعدما جاء إليها من قوص إلى أن قامت النوائح على ابن نوح، وفارق جسده ما كان قد تعلق به من الروح.
وتوفي بمصر سنة ثمان وسبع مئة ومولده ...

وكان قد تعبد سنين، وسمع من الدمياطي بالقاهرة، وحدث عنه بقوص، وسمع بمكة من المحب الطبري، وصنف كتاباً سماه الوحيد، وله بظاهر قوص، رباط حسن، وله بقوص أحوال معروفة، ومقالات موصوفة، وينسب أصحابه إليه كرامات.
كان النصارى قد أحضروا مرسوماً بفتح الكنائس، فقام شخص في السحر بجامع قوص، وقرأ " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " ، وقال: يا أصحابنا الصلاة في هدم الكنائس، فلم يأت الظهر إلا وقد هدمت ثلاث عشرة كنيسة، ونسب ذلك إلى أنه من جهة الشيخ ابن نوح، ثم إن عز الدين الرشيدي أستاذ دار سلار حضر إلى قوص، فتوجه إليه نصراني يدعى النشو، كان يخدم عندهم، وتكلم في القضية، واجتمع العوام، ورجموا إلى أن وصل الرجم إلى حراقة الرشيدي، فأتهم الشيخ بذلك، ثم إنه بعد أيام حضر أمير إلى قوص وأمسك جماعة من الفقراء، وضربهم، واخذ الشيخ معه إلى القاهرة، ورسم له أن يقيم بمصر، ولا يخرج منها، فحصل بعد مدة لطيفة للرشيدي مرض، وتهوس وتلاشت حاله، واستمر في أنحس حال إلى أن توفي، وتوفي الشيخ بعده بمدة في تاريخ وفاته.
ومن شعره:
أنا أفتي أن ترك الحب ذنب ... آثم في مذهبي من لا يحب
ذق على أمري مرارات الهوى ... فهو عذب وعذاب الحب عذب
كل قلب ليس فيه ساكن ... صبوة عذرية ما ذاك قلب
عبد الغفارقيل: عبد القاهر، الشيخ العالم الفقيه نجم الدين المعروف بابن أبي السفاح الحلبي، قاضي القضاة الشافعي بحلب.
توفي بحلب رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة خمسين وسبع مئة.
وقيل: اسمه عبد القاهر، وهو الصحيح.
عبد الغني بن يحيىابن محمد بن عبد الله الحراني القاضي شرف الدين أبو محمد الحنبلي.
ولي نظر الخزانة بالديار المصرية مدة طويلة، ثم أضيف إليه قضاء الحنابلة.
كان رئيساً جواداً، نفيساً لا يدخل العل له فؤاداً، فيه لمن يقصده تعصب، وقيام على من يعانده وتوثب، اشتهرت رئاسته، وظهرت للناس نفاسته، وشكرت في القضاء أيامه، وحمدت فيه أحكامه.
ودرس بالصالحية إلى أن فارق دنياه، وترك عليا.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة تسع وسبع مئة.
ومولده بحران في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وست مئة. وروى جزء ابن عرفة عن شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري، وسمع منه الطلبة، وتولى قضاء الحنابلة بمصر يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة عوضاً عن القاضي بدر الدين بن عوض.
عبد الغني بن محمد بن عبد الواحدالقاضي الفقيه تقي الدين بن الشيخ شمس الدين المقدسي.
كان مدرساً بالمنصورية بالقاهرة، وعنده فضيلة، وهو متعين في مذهبه.
توفي رحمه الله تعالى خامس جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالقرافة عند والده.
عبد الغني بن منصورابن منصور بن إبراهيم، جمال الدين أبو عبادة الحراني المؤذن.
روى عن عيسى بن الخياط الحراني، وسمع من مجد الدين بن تيمية، وغيرهما.
وكان من أعيان المؤذنين، طيب الصوت، فقيهاً فاضلاً مناظراً مشاركاً في العلوم، وله نظم.
توفي رحمه الله تعالى بقرن الحارة، وحمل إلى دمشق، وكانت جنازته حافلة في ثالث ربيع الآخر سنة خمس وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين بحران.
وحدث بعرفة ومنى.
عبد الغني بن عروةابن عبد الصمد بن عثمان، جمال الدين أبو محمد بن الشيخ الصالح الرأس عيني.
سمع بحلب سنة أربع وأربعين وست مئة على الشيخ عز الدين عبد الرزاق الرأس عيني المعروف بالمحدث.
وكان جمال الدين هذا حسن الخلق خفيف الروح، يتردد إلى الأعيان وغيرهم من الأفرم ومن دونه من جميع الطوائف، ويحاضرهم ويلاطفهم ويستجديهم، وكان يخرج من بيته من بكرة، ويدور على الناس دورة، وما تجيء الثانية أو الثالثة حتى يحصل له العشرون درهماً فما دونها.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت رابع عشر جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وقد تجاوز الثمانين، ودفن بمقابر الشيخ أرسلان.

وكان كثيراً ما يحكي ويتعيش بوقائعه مع الأمير علم الدين أرجواش نائب قلعة دمشق، لأنه كان به خصيصاً، لا يكاد يصبر عنه. حضر إلى صفد في وقت، وكان الأمير علم الدين سنجر الساقي مشد الديوان بصفد ووالي الولاة، وهو متزوج بابنة أرجواش فتركها في مخدع بحيث تسمع، وأحضر الشيخ عبد الغني واستحكاه، فأخذ يحكي عن أرجواش، ومما حكاه أنه لما توفي الملك المنصور، قال: يا عبد الغني، أحضر لي مقرئين يقرؤون ختمة للسلطان، قال: فأحضرت له جماعة، وجلس أمامهم وإلى جانبه دبوس، وأخذ أولئك يقرؤون على العادة، فقال: دعهم يقرؤون عالياً، ليسمع السلطان في قبره، فقلت لهم: ارفعوا أصواتكم بالقراءة، فقفزوا وما فرغوا منها إلى ربع الليل، فقلت: يا خوند فرغوا، فقال: دعهم ليقرؤوا ختمة أخرى فقال، فقلت لهم: ابدؤوا في أخرى فشرعوا في الثانية، وما فرغوا منها إلى نصف الليل، فقلت: يا خوند فرغوا بسعادتك، فقال: لا، السموات ثلاث، والأرض ثلاثة، والبحار ثلاثة، والمعادن ثلاثة، كل شيء في الدنيا ثلاثة ثلاثة، يقرؤون الأخرة تتمة ثلاثة، فقلت لهم: يا مساكين اقرؤوا أخرى، واحمدوا الله واشكروه كونه ما عرف أن السموات سبع والأرض سبع، فما فرغوا حتى أشرفوا على الهلاك، لأنهم من المغرب إلى بكرة في عياط، فقلت: يا خوند فرغوا، فقال: رسم عليهم إلى بكرة، فإذا تعالى النهار، اكتب عليهم حجة تحت الساعات بالله وبالقيامة الشريفة أن ثواب هذه الختمة لأستاذنا السلطان الملك المنصور، وهات الحجة إلي واعطهم مئة درهم. فما ملكت ابنة أرجواش نفسها، بل فتحت الباب، وخرجت إلى الشيخ عبد الغني ونتفت ذقنه، وخربت عمامته، فخرج منها، وهي تشيخه وتسبه، وأما زوجها؛ فقاسى منها شدة.
وقال: جئت يوماً إلى باب القصر الأبلق، فوجدت الملك الكامل، والصاحب عز الدين بن القلانسي جالسين فدروزتهما، فلم يعطياني شيئاً، فلطفت القول، وزدت فما رشحالي بشيء، فقلت: والله لأغرمنكما جملة كثيرة على هذه العشرة دراهم، وتركتهما، ومضيت، وشددت طبق فاكهة، وحملته حمالاً، وغطيته بفوطة مليحة، وجئت إلى باب الصاحب، ودققت الباب، فخرجت الجارية، فدفعت إليها الطبق، وقلت لها: قولي لمولانا الصاحب، الله يجعلها ساعة مباركة، وتركتها حتى مشت خطوتين، وقلت لها: يا ستي تعالي، هذا بيته الجديد وإلا العتيق؟ فقالت: ولي! إيش يكن بيته الجديد؟ فقلت: يا ستي هاتي الطبق، أنا أحسبه الذي دخل فيه عروساً، وأخذت الطبق ومضيت، فدخلت إلى ستها، وحكت لها الواقعة، فما شكت أن الصاحب تزوج بغيرها، فقعدت في حزن شديد، ولما حضر الصاحب؛ لم تقم إليه، ولم تأخذ شاشه، ولا فرجيته على العادة، فقال: خير ما لكم؟! قالت: روح إلى عروسك الجديدة، فضحك، فصممت، وصار كلما ضحك؛ تصمم، فحلف لها بالطلاق، أن هذا ما جرى منه شيء، فزادت في التصميم، فاغتاظ منها، وحلف بطلاقها، وباتت منه وبقيت مدة إلى أن ترضاها وسألها عن الموجب لذلك، فحكت له الصورة ، فعلم من أين أتي؟، وحكى لها الصورة، فصدقته، فجدد لها صداقاً، وزاده، وبذل لها شيئاً بجملة، وغرم في هذه الواقعة قريباً من خمسة آلاف درهم.
وأما الملك الكامل؛ فإنه كان يوماً عند الأفرم يحكي له، ويتلطف، فحضر الملك الكامل، فشكر الأفرم منه، فقال عبد الغني: والله يا خوند، ما في دمشق من يحب مولانا ملك الأمراء مثله، ولقد بلغ الملوك أنه من أيام اشترى خمس مئة غرارة شعير، ليحملها إلى اصطبل مولانا ملك الأمراء، فالتفت إليه الأفرم، وقال: يا ملك ليش تفعل هذا؟، أنا أعرف بحالك، والله ما تعود تفعل مثل هذا وأمثاله وأعود أقبل منك، فقال: يا خوند الكل من صدقاتك، وخرج فما أمكنه إلا حمل خمس مئة غرارة شعير إلى اصطبل الأفرم، وكان الصاحب عز الدين بعد ذلك والملك الكامل إذا رأيا عبد الغني بادراً بالمكارمة، وقالا له: اكفنا شرك، وله من هذا الضرب ألوان، وأنواع يضيق عنها هذا المكان، وهذا القدر كافي.
عبد القادر بن عبد العزيزابن السلطان الملك المعظم عيسى بن أبي بكر محمد العادل بن أيوب هو الملك أسد الدين أبو محمد.
سمع من خطيب مردا السيرة النبوية وحدث بها في مصر، وروى عنه عدة أجزاء، وله إجازة من محمد بن عبد الهادي والصدر البكري.

وله همة وجلادة، وقدوم على دمشق ووفاده، مليح الشكل لمن يراه، صبيح الوجه، يشهد بالقدرة لمن يراه، حسن الأخلاق من الرياضة، كثير البشر لمن قصد اعتراضه، شديد البنية والتركيب، عتيد القوى في الترغيب والترهيب، قيل: إنه ما تزوج ولا تسرى، ولا تبرم من ذلك ولا تبرى.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح أسد الدين مفترساً، ورسب شخصه في القبر ورسا.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وسبع مائة.
ومولده بالكرك سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وكانت وفاته بالرملة، ونقل إلى القدس، وأجاز لي بالقاهرة بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. واجتمعت به غير مرة.
عبد القادر بن محمدابن أبي الكرم عبد الرحمن بن علوي بن المعلى بن علوي بن جعفر القاضي تاج الدين بن القاضي عز الدين العقيلي البخاري الحنفي.
سمع الصحيح من ابن الزبيدي، وسمع من الإمامين جمال الدين الحصيري، وتقي الدين بن الصلاح، وولي قضاء الحنفية بحلب، ونظر الأوقاف والمدرسة العصرونية. وعاد إلى دمشق، وحدث بها بالمئة البخارية، وعاد إلى حلب.
ولم يزل بها إلى أن حلت به في حلب الداهية، وأصبح ذا قوة واهية.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده بدمشق سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
عبد القادر بن محمد بن تميمالفقيه المحدث محيي الدين المقريزي، بالميم المفتوحة والقاف الساكنة والراء المكسورة وبعدها زاي، البعلبكي الحنبلي.
سمع ببلده من زينب بنت كندي، وبدمشق من ابن عساكر، وابن القواس، وبمصر من البهاء بن القيم وسبط زيادة، وبحلب والحرمين. ونسخ وحصل، وجمع وأصل، وميز وفصل، وتفقه ودأب، وجد واجتهد في الطلب، وصار شيخ دار الحديث للبهاء بن عساكر، وكان بها يحاضر ويذاكر.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل في الجدث، وأنس أصحابه ما قدم بما حدث.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، عن خمس وخمسين سنة أو نحوها.
عبد القادر بن أبي القاسمابن علي الأسنائي، القاضي ناصر الدين الشافعي.
كان كاتب الحكم العزيز الشافعي بالقاهرة.
كان فاضلاً ديناً، عاقلاً صيناً، عفيفاً ورعاً، خبيراً حفظ عهد القضاء ورعاه، عمر المدرسة الشهابية بميدان القمح ظاهر القاهرة، وعمر وقوفاً من ماله، ثم إنه استعاد ذلك من ربع الوقف قليلاً قليلاً، وكان معيد الشافعية بالمدرسة المنصورية، وشاهد الحواصل بها وبالبيمارستان، ومعيد المدرسة القطبية، وناب في الحكم خارج باب الفتوح عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وناب عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في بعض الأعمال، وكان يحج كل سنة ويترك سنة، وجاور بمكة مدة، وكان يعيد بالسيفية.
وسمع من شهاب بن علي المحسني وغيره.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر شهر رجب الفرد سنة ثلاثين وسبع مئة وقد جاوز السبعين، وخلف مالاً وثروة، وتصدق في مرضه بنحو من خمسة عشر ألف درهم، ودفن بالقرافة الصغرى.
عبد القادر بن بركاتابن أبي الفضل: الشيخ محيي الدين الصوفي المعروف بابن قريش أحد الأخوة، تقدم ذكر أخيه الشيخ إبراهيم، وسيأتي ذكر أخيه الشيخ تقي الدين في حرف الميم.
أسن هذا محيي الدين وكبر وعجز عن المشي، وكان يركب حماراً، وكانت له خصوصية بقاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، وكان من ذلك الطراز الأول، فبقي في آخر عمره غريباً. إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
عبد القادر بن يوسفابن مظفر، الصدر الجليل العدل المأمون أبو محمد شمس الدين بن الخطيري الدمشقي الكاتب.
سمع من عبد الوهاب بن رواج، وأجاز له أبو القاسم بن الصفراوي: وعلي بن مختار: وجماعة.
وسمع منه جماعة: الواني، والبرزالي، وابن شيخنا الذهبي، وولي نظر الجامع الأموي ونظر الخزانة.
وكان من الكتاب العقلاء، والرؤساء النبلاء، تنقل في المباشرات، وقابل بالمكاسرات المكاشرات. وساس دهره إلى أن زار قبره.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشري جمادى الأولى سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة.
عبد القادر بن أحمدالفقيه الجدلي المناظر محيي الدين حينئذ، كان يكثر في بحوثه من قول حينئذ.
كان أصله من بغداد، ومن سمعه تحقق أنه أستاذ، مليح السمت عديم الصمت، له فضائل، وعنده شبه ودلائل.

لم يزل إلى أن سقط عن سلم فما تنفس وكان من الحياة في طريق مستقيم حتى تنكس.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في سن الكهولة.
عبد القادر بن مهذبابن جعفر الأدفوي قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: هو ابن عمي، كان ذكياً جواداً متواضعاً، وصل إلى قوص للاشتعال بالفقه، وحفظ أكثر التنبيه ولم ينتج فيه، وكان إسماعيل المذهب، مشتغلاً بكتاب الدعائم تصنيف النعمان بن أحمد، متفقهاً، وكان فيلسوفاً، يقرئ الفلسفة، ويحفظ من كتاب زجر النفس، وكتاب أثولوجيا، وكتاب التفاحة المنسوب لأرسطو كثيراً.
قال: وذكر لي بعض أصحابنا، ممن لا أتهمه بكذب، أنه تعسر عليه قفل باب، فذكر أسماء وفتحه، وأنهم قصدوا حضور امرأة، فهمهم بشفتيه لحظة فحضرت فسألوها عن ذلك، فقالت: إنها حصل عندها قلق عظيم، فلم تقدر على الإقامة. وكان مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وسلم، منزلاً له منزلته، ويعتقد وجوب أركان الإسلام، غير أنه يرى أنها تسقط عمن حصل له معرفة بربه بالأدلة التي يعتقدها، ومع ذلك، فكان مواظباً على العبادة في الخلوة والجلوة، والصيام، إلا أنه يصوم بما يقتضيه الحساب، ويرى أن القيام بالتكاليف الشرعية يقتضي زيادة الخير، وإن حصلت المعرفة، وكان يفكر طويلاً، ويقوم ويرقص ويقول:
يا قطوع من أفنى عمرو في المحلول ... فاتوا العاجل والآجل ذا البهلول
قال: فمرض فلم أصل إليه، ومات فلم أصل عليه، وسار إلى ساحة القبور، وصار إلى من " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " .
وأظن وفاته ي سنة خمس أو ست وعشرين وسبع مئة، قال لي: جماعة سنة خمس لا غير.
عبد القاهر بن محمدابن عبد الواحد بن موسى القاضي الأديب الخطيب الشافعي جمال الدين أبو بكر البخاري ثم التبريزي.
كان ذا شكالة وعمه، وحركات وهمه، أبيض اللحية نقيها، أحمر الوجنة ورديها، عليه قبول: وللنفس إليه تشوق وبه ذهول، مغرى بالأدب، موفر الهمة في تحصيله والطلب، يشعر مثل الصبا إذا هبت، والقطر إذا نبت، وينثر الدر من فيه نثراً، ويكتب الرقعة كأن صغرى وكبرى، لم تخرج تبريز مثل كلمة الإبريز.
تولى القضاء بسلمية وعجلون، وقضاء القضاة بصفد، وختم ذلك بقضاء دمياط، وأقام بها إلى أن جاءه الأمر الذي لا يدفع بالأعلاط.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة أربعين وسبع مئة.
ومولده بحران سنة ثمان وأربعين وست مئة.
واشتغل ونشأ بدمشق، وتفقه للشافعي، وجاءنا قاضي القضاة إلى صفد في أيام قاضي القضاة جمال الدين الزرعي لما كان بدمشق، ولم يزل تلك المدة، إلى أن عزل وتولى القضاء جلال الدين القزويني، فعزله من صفد، ثم إنني رأيه بالقاهرة مرات، وولي قضاء دمياط مرات، وآخر عهدي به في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.

قال شيخنا الذهبي: قال فيما ذاكرني به، يعني القاضي جمال الدين التبريزي، قال: ماتت أمي بنت عشرين سنة، وكان أبي تاجراً ذا مال، فقدم بي إلى دمشق، وأنا ابن ست سنين فمات، وكفلني عمي عبد الخالق، ورجع إلى حران، وباع أملاكنا بثمانين ألفاً ورد بي، ثم قال لي يوماً: امض بنا، فمضى بنا نحو ميدان الحصا، وعرج بي فوثب علي وخنقني، فغشيت، فرماني في حفرة، وطم علي المدر والحجارة، فأبقى كذلك إلى أربعة أيام، فمر رجل صالح كان برباط الإسكاف عرفته بعد ثلاثين سنة، فبكر يتلو، ومر بجسرا بن شواش ثم إلى القطائع، فجلس يبول، وكنت أحرك رجلي فرأى المدر يتحرك، فظنه حية، فقلب حجراً، فبدت رجلي في خف بلغاري، فاستخرجني، فقمت أعدو إلى الماء فشربت من شدة عطشي، ووجدت في خاصرتي فزاراً من الحجارة، وفي رأسي فتحاً قال الشيخ شمس الدين: ثم أراني القاضي أثر ذلك في كشحه، ووضع أصابعي على جورة في رأسه تسع باقلاة ودخلت البلد إلى إنسان أعرفه، فمضى بي إلى ابن عم لنا، وهو الصدر الخجندي، وكان مختفياً بالصالحية، وله غلامان ينسجان ويطعمانه، اختفى لأمور بدت منه أيام هولاكو، وكتب معي ورقة إلى نسائه بالبلد، وكانت بنته ست البهاء التي تزوج بها الشيخ زين الدين بن المنجا، وماتت معه، هي أختي من الرضاعة، فأقمت عندهن مدة لا أخرج، حتى بلغت، وحفظت القرآن بمسجد الزلاقة، فمررت يوماً بالديماس، فإذا بعمي، فقال: ها جمال الدين، امش بنا إلى البيت، فما كلمته، وتغيرت ومعي رفيقان، فقالا لي: ما بك، فسكت وأسرعت، ثم رايته مرة أخرى بالجامع، فأخذ أموالي، وذهب إلى اليمن، وتقدم عند ملكها، ووزر، ومات عن أولاد.
وجودت الختمة على الزواوي، وتفقهت على النجم الموغاني، وترددت إلى الشيخ تاج الدين، وتفقهت بابن جماعة، وقرأت عليه مقدمة ابن الحاجب وعلى الفزاري، ثم وليت القضاء من جهة ابن الصائغ وغيره، ونبت يوماً بجامع دمشق عن ابن جماعة، فقيل له: إن داوم هذا راحت الخطابة منك، يعني لحسن أدائه وهيئته.
وجالسته مرات، وكان يروي عن الشيخ مجد الدين بن الظهير قصيدته التي أولها:
كل حي إلى الممات مآبه
انتهى ما ذكر الذهبي.
قلت: ولما كان بصفد، قرأت عليه ديوان خطبه سماه تحفة الألباء وأجازني جميع ما يجوز له أن يرويه، وفي هذه الخطب مواضع خارجة عن الصواب من اللحن الخفي، فكتبت عليها طبقة، وهي: قرأت هذه الخطب المسرودة على حروف المعجم من أولها إلى آخرها على مصنفها وكاتبها العبد الفقير إلى الله تعالى القاضي جمال الدين عبد القاهر بن محمد التبريزي الحاكم بصفد المحروسة، لا زالت الطروس توشي وتوشع بكلامه وأقلامه، وترصف وترصع بحكمه وأحكامه، ومحاسن أيامه ولياليه تنشا وتنشد، ودرر نظمه ونثره تنظم وتنضد، قراءة من غاص اللجة من بحر حبرها، وعلم قيمة المنتقى والمنتقد من دراريها ودرها، واستشف معانيها المجلوة في حبر حبرها، وصدق معجز آياتها، وما شك في خبر خبرها، واستجلى وجوه عربها وتوجيه إعرابها، وتحقق أن القرائح ما لها من طاقة على مثلها في بابها، وتنزه في حدائقها التي ضربت عليها أوراق الأوراق، واجتلى أبكارها الغر، فكانت حقيقة فتنة العشاق، فسرحت سوام الطرف فيما أرضاه من روضاتها، ورشفت قطر البلاغة مما زهي من زهراتها:
وتشنفت أذني بلؤلؤ لفظها ... وتنزهت عيناي في جناتها
وتأملت أفهامنا فتمايلت ... بترشف الصهباء من كاساتها
وكأن همز سطورها بطروسها ... ورق على الأغصان من ألفاتها
وكأنها وجنات غيد نقطها ... خال على الأصداغ من جيماتها
لله ما أطرى وأطرب ما أتى ... في هذه الأوراق من سجعاتها
لا غرو أن عقدت لسان أولي النهى ... عن مثلها بالسحر من كلماتها
فكتب هو إلي:
شرفت غرس الدين حين قرأت ما ... أمليت من خطب أجدت شياتها
فصاحة لو أن قساً حاضر ... لرآك تسبقه إلى غاياتها
يا فخر دهر أنت من بلغائه ... وعلا ليال أنت من ساداتها
خطبي التي أنشأتها ما أنت من ... خطابها فتجاف عن علاتها

عظمتها وبررتها وجبرتها ... وغفرت ما قد كان من زلاتها
فلأنت أكرم فاضل لما بدت ... لعيانه غطى على عوراتها
فاسلم ودم ما رنحت ريح الصبا ... أعطاف غصن الروض في هباتها
وأنشدني لنفسه في شبابة، وقد وجدتها فيما بعد في ديوان جوبان القواس بخطه:
وناطقة بأفواه ثمان ... تميل بعقل ذي اللب العفيف
لكل فم لسان مستعار ... يخالف بين تقطيع الحروف
تخاطبنا بلفظ لا يعيه ... سوى من كان ذا طبع لطيف
فضيحة عاشق ونديم راع ... وعزة موكب ومدام صوفي
فأنشدته أنا لنفسي ملغزاً في الكمنجا:
ما اسم إذا خفت هماً ... رأيت لي فيه منجا
يشدو بلحن عجيب ... حروفه ما تهجى
كم قد شجاك بصوت ... من الحمائم أشجى
إن لم يجئ لك طوعاً ... في الحل فهو كمن جا
فأعجبه ذلك وزهزه وطرب.
وأنشدني من لفظه لنفسه، قال: حضرت صحبة الملك الظاهر بيبرس حصار قلعة صفد، فصنعت هذه الأبيات:
إذا القلعة الشماء باتت حصينة ... وبات على أقطارها القوم رصدا
ترى منجنيقاً يذهب العقل جسه ... يغدرهم بين الأسرة همدا
إذا ما أراها السهم منه ركوعه ... تخر له أعلى الشراريف سجدا
وأنشدني لنفسه من لفظه كثيراً من شعره فمن ذلك قصيدة طويلة أولها:
أنت الممنع والمحجب ... إلا على من ليس يحجب
ومع البعاد فأنت من ... حبل الوريد إلي أقرب
سر بسيط ظاهر ... يختال في شبح مركب
عبد القوي بن عبد الكريمالقرافي الحنبلي الطوفي، نجم الدين الرافضي.
له مصنف في أصول الفقه ونظم كثير، وعزر بالقاهرة على الرفض لأنه قال:
كم بين من شك في خلافته ... وبين من قيل إنه الله
وهو الذي يقول في نفسه:
حنبلي رافضي ظاهري ... أشعري هذه إحدى الكبر
توفي ببلد الخليل عليه السلام سنة ست عشرة وسبع مئة.
ويقال إنه تاب أخيراً من الهجاء والرفض.
عبد القوي بن محمدابن جعفر الأسناي، نجم الدين المعروف بابن مغني وبابن أبي جعفر.
قرأ على الشيخ النجيب بن مفلح، والشيخ بهاء الدين بن هبة الله القفطي، وناب في الحكم، ودرس بالمدرسة العزية بقوص.
وكان طيب الخلق، ضحوك السن لو نظر إلى الأفق، كثير الرياضة. لا يدخل من الغيظ في مخافة ولا مخاضه، خفيف الروح إذا جالس، ظريف الإشارة إذا خالس، وكان محباً للسماع، لا يؤثر عليه شيئاً في الانتفاع، يكاد إذا سمع شبابة يطير طرباً، ولا يبلغ من اللذة أربا، وكان التزم أنه لا يبحث مع قاض، ولا يجيبه عن تقريرات ولا إنقاض.
ولم يزل على حاله إلى أن عقر سمعه وطفي من نور الحياة شمعه.
وتوفي رحمه الله تعالى بأسنا سنة ثمان وتسعين وست مئة.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: بلغني أنه وصى أن تخرج جنازته بالدفوف والشبابة، وتمنع النائحات والباكيات عليه.
عبد الكافي بن عثمانالشيخ جمال الدين المعروف بابن بصاقة الحيسوب كان كاتباً متصرفاً، يعرف صناعة الكتابة الديوانية، وهو من قدماء الكتاب، وعمر وضعف.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية، وصلي عليه في جامع الأمير سيف الدين تنكز.
وكان حسن الأخلاق.
عبد الكافي بن عليابن تمام بن يوسف، الشيخ الإمام القاضي زين الدين، أبو محمد السبكي الشافعي، والد قاضي القضاة شيخ الإمام تقي الدين السبكي.
توفي رحمه الله تعالى تاسع شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في حدود سنة تسع وخمسين وست مئة.
هو من أهل سبك العبيد من الديار المصرية. تفقه بالقاهرة على السديد، والظهير، وقرأ أصول الفقه على الشيخ شهاب الدين القرافي، وناب في القضاء ببعض أعمال القاهرة عن قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق اليد، وتولى أخيراً قضاء المحلة الغربية، وأقام بها إلى حين وفاته.
وسمع من ابن خطيب المزة وغيره، وحدث.
وسمع منه ولده قاضي القضاة تقي الدين.

وخرج له أقضى القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن عبد اللطيف السبكي مشيخة.
وحدث بالقاهرة والمحلة ومكة والمدينة، وسمع منه حفيده قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب جزء الغطريف وقطعة من سنن أبي داود وشيئاً من نظمه، وتوفي بالمحلة، ونقلت من خطه له:
قطعنا الأخوة عن معشر ... بهم مرض من كتاب الشفا
فماتوا على دين رسطالس ... ومتنا على ملة المصطفى
الألقاب والنسبجمال الدين بن عبد الكافي: اسمه سليمان.
عبد الكريم بن حسنالشيخ المسلك العارف كريم الدين الآملي، بميم بعد الألف الممدودة، ينتمي إلى سعد الدين بن حموية شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة.
كان إلى الأعيان محبباً، ولم يكن حظه منهم مخيباً، له في النفوس صورة كبيرة، وله أبهة في الصدور، كأنما ألبس منها حبيره، وعنده شيء يغطي جراجات باطنه بجبيره، وفيه أمور لا يدريها ولا يدريها إلا العقول الخبيرة، وهو من كبار القوم الذين خاضوا تلك الغمرات، وعظموا تلك المشاعر ورموا بها تلك الجمرات، وقالوا في خلواتهم:
إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات
وكانت له رياضات عديدة، ومفاوضات للصوفية مديدة.
وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية كثير الحط عليه، غزير النط - على رأي العوام - إليه.
حكى لي الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأكفاني، قال: دخل الشيخ كريم الدين مرة إلى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وتكلم زماناً طويلاً والشيخ ساكت، فلما خرج من عنده؛ قال للحاضرين: هل فيكم من فهم عنه تراكيب كلامه، لأني أنا ما فهمت غير مفرداته.
وقال شيخنا الذهبي: أثبت الصوفية فسقه من ستة عشرة وجهاً، وأخرج من الخانقاه، ثم أعيد، وتولى مكانه بعد موته قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة.
ولم يزل على حاله إلى أن خاب من الآملي أمله، ووافاه بالوفاة أجله.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة عشر وسبع مئة، وتولى عوضه الشيخ علاء الدين القونوي.
عبد الكريم بن يحيىابن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز، الشيخ الإمام القاضي تقي الدين أبو محمد بن قاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل بن قاضي القضاة محيي الدين أبي المعالي بن قاضي القضاة زكي الدين أبي الحسن بن قاضي القضاة منتخب الدين أبي المعالي القرشي الأموي العثماني المصري، ثم الدمشقي الشافعي.
ولد بمصر ليلة عرفة سنة أربع وستين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
وقدم من مصر إلى دمشق، وتفقه بها، وسمع من ابن البخاري وغيره، وولي مشيخة الشيوخ، ودرس بأماكن، وكان من رجال الدهر عزماً وحزماً وسكوتاً ودهاء وغوراً ومكارم وإفضال.
عبد الكريم بن عبد الرحمنابن عبد الواحد، نجم الدين بن صدقة الكاتب، ابن عم النفيس واقف النفيسية.
قال شيخنا الذهبي: خدم في جهات الظلم، وكان سمع من الرشيد بن مسلمة وابن عبد الدائم وطبقته، وحفظ التنبيه.
قتل: وتوفي رحمه الله تعالى بصافيتا سنة ست وتسعين وست مئة.
عبد الكريم بن عبد النورابن منير، الشيخ الإمام الحافظ مفيد الديار المصرية، قطب الدين أبو علي الحلبي، ثم المصري الشافعي المعروف بابن أخت الشيخ نصر.
حفظ القرآن وتلا بالسبع على أبي الطاهر إسماعيل المليجي صاحب أبي الجود، وتلاه بالسبع على خاله الزاهد الشيخ نصر المنبجي، وانتفع بصحبته، وسمع من العز الحراني، وغازي، وابن خطيب المزة، والقاضي شمس الدين بن العماد، وطبقتهم بدمشق والحرمين من طائفة.
وكتب العالي والنازل، وسمع من السامي والسافل، وخرج وجمع، ونفع وانتفع، وشرح من البخاري شطره، وأثبت في طرسه سطره، وعمل بمصر بالرجال، ومجال بالفقه بعض مجال، وحج غير مرة، وأحرز من الأجر كل ذرة، وروى الكثير، وهو في حجنب ما سمعه قليل، وجالد وحد عمره فليل.
ولم يزل على حاله إلى أن دارت رحا الموت على قطبه، ونزلت بأهله مصيبة خطبه.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد سلخ شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وستين وست مئة.
علق في تاريخه عن شيخنا الذهبي، وما عنده عنه إلا الإجازة، وكان يحبه في الله.

وكان فيه تواضع زائد، وحسن سيرة، ولعل أشياخه تبلغ الألف، وخرج لنفسه أربعين تساعيات.
وأخذ عنه المحدثون تقي الدين بن رافع، وابن أيبك الدمياطي، وعمر بن العجمي، وعلاء الدين مغلطاي، والسروجي، وعدد كثير.
وأنا في شك هل سمعت منه أو لا؟ ولكنه أجاز لي، وأجزت له ولأولاده، واجتمعت به عند الشيخ فتح الدين بن سيد الناس غير مرة.
عبد الكريم بن علي الشهرزوريزين الدين.
كان مقيماً بقوص، وحظه من الدنيا منقوص، وكان يتطور أطواراً، ويتدور مع الدقر أدواراً، تارة يلبس زي الفقراء، وتارة يكون في شعار الرؤساء. بينا هو في الربط والزوايا إذا هو يخدم في الجهات التي فيها المكوس والطوايا.
ولم يزل على حاله إلى أن دعاه الله وأخذه، واجتذبه من الحياة وفلذه.
وتوفي رحمه الله تعالى بعد سنة خمس وسبع مئة بقوص.
عمل بعض الرؤساء من جيرانه عرساً، وفرق أطعمة كثيرة، وغفل عنه فلم يرسل إليه شيئاً، فكتب إليه:
يا جيرة جرتم على جاركم ... وعادة الجيران ألا تجور
ما كان في أمراقكم كلها ... رطل خرا يشربها الشهرزور
وقال يهجو شهاب الدين بن القاضي النجيب القوصي:
وكرشة مملوءة ... من الخرا مطنبه
شبهتها مرمية ... بدمها مختضبه
قليطة القاضي الشها ... ب بن النجيب بن هبه
وكان ينظم الأزجال والبلاليق، وطلب من بعض التجار جوزة هندية، فلم يبعث بها قال:
طلبت منك جوزة ... منعت مني قربها
وكم طلبت زوجة ... منك فلم تبخل بها
قلت: الباء الأولى في قوله قربها مفتوحة، والثانية مكسورة، وهي عيب في القافية، وكان ضامن الزكاة بقوص.
عبد الكريم بن علي بن عمرالأنصاري الشيخ الإمام الفاضل علم الدين، ابن بنت العراقي.
كان من علماء مصر في عدادهم، وفضائله التي قضت بسدادهم، وكانت له مشاركة في عدة فنون، ومضت عليه في الإقراء سنون، وله صبر على التعليم والإشغال وقدرة على الإكباب على نفع الطلبة وإيغال، حتى إن معظم من في الديار المصرية قرأ عليه، وأخذ عنه العلوم، ومثل بين يديه.
وكان حسن المفاكهة، مليح الملقى بالملق والمواجهة، لا يسأم المذاكرة، ولا يمل طول المحاضرة، كثير الحكايات والنوادر، والإصابات في البوادر، نفسه منبسطة، وسيوف فوائده مخترطة، إلا أنه أضر آخر عمره، وعدم من الطروس والأقلام رؤية بيضه وسمره.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغت التراقي، وذهب ابن بنت العراقي.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع صفر سنة أربع وسبع مئة.
ومولده بمصر سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
أخبرني شيخنا العلامة أبو حيان قال: أصله من وادي آش من الأندلس، وجده أبو أمه ليس من العراق، وإنما رحل إلى العراق، ثم عاد إلى مصر وهي بلده، فسمي العراقي.
وكانت له مشاركة في الفقه وأصوله والأدب والتفسير، وله اختصاص بتفسير الزمخشري، وصنف مختصراً في أصول الفقه، ورداً على القاضي ابن المنير المالكي في رده على الزمخشري. وكانت له معرفة بالحساب والكتابة، وحظ من النظم والنثر، ودرس بالشريفية وبالمشهد الفقه، وأملى كتاباً على تفسير القرآن مختصراً احتوى على فوائد، وأنشدنا قال: نظمت في النوم في قاضي القضاة ابن رزين وكان معزولاً:
يا سالكاً سبل السعادة منهجاً ... يا موضح الخطب البهيم إذا دجا
يا ابن الذين رست قواعد مجدهم ... وسرى ثناهم عاطراً فتأرجا
لا تيأسن من عود ما فارقته ... بعد السرار ترى الهلال تبلجا
وابشر وسرح ناظراً فلقد ترى ... عما قليل في العدى متفرجاً
وترى وليك ضاحكاً مستبشراً ... قد نال من تدميرهم ما يرتجى
وكتب الشيخ علم الدين المذكور بخطه كتاب الحاوي الكبير للماوردي مرتين. وكان يؤم بمسجد الدرفل.

قال شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله: سمعت عمي - يعني أبا البقاء يحيى بن علي - يقول: كنا حاضرين في الدرس عند قاضي القضاة صدر الدين ابن بنت الأعز، وهو يلقي في حديث " أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر " فحضر الشيخ علم الدين العراقي، فما استقر جالساً حتى قال على وجه السؤال: لا يخلو إما أن تحصل الحياة بتلك الأرواح أم لا؟ والأول عين ما تقوله التناسخية، والثاني مجرد حبس للأرواح وسجن. انتهى.
قلت: لا نسلم أنها إذا كانت كذلك تكون في سجن وحبس، لأنه أقل أقسامها أن تكون في حواصل الطير، كما كانت في أجسادها في هذه الدار، وما قال أحد إن هذا عذاب لها ولا سجن، ولا يورد أن الدنيا سجن المؤمن، لأن هذا أمر نسبي، وقد يجعل الله لها في الحواصل من السرور والابتهاج ما يحصل لبعض النفوس في هذه الدار من السرور الزائد والبهجة التامة.
عبد الكريم بن أبي الفرجابن الحكم الشيخ الزاهد القدوة الصدر شرف الدين بن الشيخ السيد القدوة الزاهد نجم الدين الحموي الشافعي.
باشر حسبة حماة مدة، وكان يعرف بالمحتسب في حياة والده وبعدها، وتركها، وكان له زاوية حسنة يقصدها الفقراء والزوار ويجدون عنده الراحة والفضل المكارم والأوقات الطيبة والمكارم والسماعات والسماطات.
ودرس بالمدرسة الحيرية بحماة، ولم يزل بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في ثامن شوال سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ودفن بتربته بعقبة نقيرين، وصلي عليه غائباً وعلى الوزير فخر الدين بن الخليلي بالجامع الأموي بدمشق في وقت واحد.
عبد الكريم بن محمدابن محمد بن نصر الله الحموي الشيخ الفاضل الصدر الكبير أبو السماح، ابن المغيزل، وكيل بيت المال بحماة.
حدث بمصر والشام، وكان قد سمع من الكاشغري، وابن الخازن وابن قميرة، وسمع بحماة من العز بن رواحة.
وكان شيخاً حسن الخلق، يلقى الناس بوجه طلق، يجتهد على قضاء الحوائج، ويسلك في التلطف لهم أقرب المسالك وأنجح المناهج، حسن التوصل إلى مقاصده، لطيف التوصل في مصادره وموارده، لا يخبأ عمن يقصده نفسه ولا ماله، ولا يزال يسعى إلى أن يبلغه آماله.
ولم يزل على حاله إلى أن نحلت حركاته، وغاضت عمن يقصده بركاته.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشر المحرم سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ست عشرة وست مئة.
عبد الكريم بن هبة اللهابن السديد المصري القاضي الجليل الكبير النبيل المدبر المشير الأثير الأثيل، كريم الدين أبو الفضائل، وكيل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وناظر خاصته ومدبر دولته.
أحيا الكروم والجود، وسهر في طيب الثناء عليه والمدابير هجود، صدق أخبار البرامكة بل أخملهم، وزاد في اقتراح المكارم فحملهم الخجل بل جملهم، ابتدع في الإحسان طرقاً خفيت على الأوائل، وابتده جوداً لا يحسن الثناء عليه سحبان وائل، فكان كما قال أبو الطيب:
تمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
عمر ربوع الندى، وغمر الناس بالجدى، وعم بجوده وما خص، وبل جناح الشكر وما حص، فدرجت حوله طيور الثناء وما طارت، وعرجت في مراقي حمدة ودارت، أجمع أهل عصره من غير مصره على سماحه، ولم يخالف واحد على مبالغة الجود في بطن راحه، إذا أنه كرم، كرمه عرش على الفقراء والأمراء، وتعدى الغاية فتأدى إلى الملوك والوزراء حتى أخجل بنيله النيل، وفرت مياه الفرات، وقالت: هذا من المستحيل، وعلى الجملة فكان خبره أكبر من خبره، وهو أبو دلف زمانه الذي ولت الدنيا على أثره، وقد تمكن من سلطانه تمكن الصبابة من بني عذرة، والشجاعة من آل أبي صفرة، وحل منه محل الإنسان من العين. وأطاعه طاعة امفلس لرب الدين، فهو له في القوبل مثل المحب للواشين، والغر للغاشين لا يكاد يخالفه، ولا يرى هواه في شيء إلا يميل إيه ويحالفه، وكان به لذلك الملك نضارة، ولذلك العصر غضارة:
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير

ولم يزل نجمه في سعود، وعزمه في صعود، إلى أن غدر به زمانه، وخانه محبوه وإخوانه، وتبرأ منه من كان يجمعهم خوانه فقبض عليه ونظر بعد الرضا بعين السخط إليه وجهزه إلى الشوبك، ثم إلى القدس، ثم إلى أسوان، ومن هناك انتقل إلى رضوان، وادعي أنه شنق روحه، واختار أن سكن ضريحه، وذلك في ثالث عشر شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وكان قد أسلم كهلاً أيام الجاشنكير، وكان كاتبه، وكان لا يصرف على السلطان شيء إلا بقلمه، ويقال: إنه طلب يوماً إوزة، ولم يكن كريم الدين حاضراً، فتعذر صرفها إليه، ولما هرب المظفر رحمه الله تعالى ووصل السلطان إلى مصر، لم يكن له دأب في غير تطلب كريم الدين والتوقع عليه والسؤال عنه في كل وقت.
أخبرني الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس، قال: جاء كريم الدين إلى الأمير علم الدين الجاولي، وقال له: قد جئت إليك، فقال: ما في يدي لك فرج، ولكن اليوم للسلطان خاصكي، يقال له: الأمير سيف الدين طغاي الكبير وهو لا يخالفه فأريد أجتمع لك به، وأعرفك ما يكون، ثم إنه اجتمع به فقال له أحضره، ودخل طغاي إلى السلطان، وهو يضحك، فقال له: إن حضر كريم الدين أيش تعطيني؟ ففرح، وقال له: أعندك هو؟ أحضره، فخرج، وقال للجاولي: أحضره، فأحضره، وقال طغاي لكريم الدين: مهما قال لك السلطان؛ قل له: نعم، ولا تخاله، ودعني أنا أدبر أمرك، فدخل به عليه، فلما رآه استشاط غضباً، وقال له: اخرج الساعة، احمل ألف ألف دينار، فقال: نعم، وخرج، فقال: لا كثير، أحمل خمس مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة. فقال: لا، كثير، احمل ثلاثة مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة، فقال: لا، كثير، احمل الساعة مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة، فخرج، فقال له الأمير: سيف الدين طغاي: لا تسقع ذقنك وتحضر الجيمع الآن، ولكن هات الآن منها عشرة آلاف دينار، ودخل بها إلى السلطان، فسكن غيظه، وبقي كل يومين وثلاثة يحمل خمسة آلاف دينار، ومرة ثلاثة آلاف دينار، ومرة ألفين. ولم يزل هو والقاضي فخر الدين ناظر الجيش؛ يصلحان أمره عند السلطان إلى أن رضي عنه وسامحه بما بقي عنده، واستخدمه ناظر الخاص فهو أول من باشر هذه الوظيفة، ولم تكن تعرف أولاً، ثم تقدم عنده، وأحبه محبة زائدة عن الحد، وكان يخلع عليه أطلس أبيض والفوقاني بطرز، والتحتاني بطرز، والقبع زركش على ما استفاض.
وكانت الخزائن عنده جميعها في بيته، وإذا أراد السلطان شيئاً نزل مملوك إليه في بيته، واستدعى منه ما يريده، فيجهزه إليه من بيته، وكان يخلع على أمراء الطبلخانات الكبار من عنده، وقيل: إن السلطان نزل يوماً من الصيد، فقال له: يا قاضي! عرض أنت صيود الأمراء، يحضرون صيودهم على طبقاتهم بين يديه، وهو يخلع عليهم على طبقاتهم واحداً بعد واحد.
وحج هو والخوندة الكبرى طغاي، واحتفل بأمرها، وقد مضى ذكر حجها في ترجمتها، وكان يخدم كل واحد من الأمراء الكبار والمشايخ والخاصكية الكبار، وأرباب الوظائف والجمدارية الصغار، وكل أحد حتى الأوشاقية في الإصطبل وأرباب الوظائف، وكان في أول أمره ما يخرج القاضي فخر الدين لصلاة الصبح إلا ويجد كريم الدين راكباً وهو ينتظره، ويطلع في خدمته إلى القلعة، ودام الأمر هكذا ستة أشهر أو ما حولها، ثم إن فخر الدين كان يركب ويحضر إلى بابه، وينتظره ليطلع معه إلى القلعة، وكان في كل يوم ثلاثاء، يحضر إلى دار فخر الدين، ويتغذى عنده، ويحضر محفيتين لا يعود اله شيء من ماعونهما الصيني أبداً، وكان يركب في عدة مماليك أتراك - يقال سبعين مملوكاً أو أقل - بكنابيش عمل الدار وطرز ذهب، والأمراء تركب في خدمته. وبالجملة ما رأى أحد من المتعممين ما رآه القاضي كريم الدين.
ولما ورد في صفر سنة ثماني عشرة وسبع مئة أمر ببناء جامع في آخر القبيبات بدمشق، فعمره الصاحب شمس الدين غبريال، وأخذ في العمل فيه بعد سفره.

قيل: إنه طلبه السلطان يوماً إلى الدور فدخل، وعادت الخزندارة تروح وتجيء مرات فيما تطلبه الخوندة طغاي، فقال له السلطان: يا قاضي! أيش حاجة لهذا التطويل بنتك، ما تختبئ منك، ادخل إليها، وأبصر الذي تريده أفعله، فقام، ودخل إليها وسير قال لها: أبوك هنا، أبصري له ما يأكل، فأخرجت له طعاماً، وقام السلطان إلى كرمة في الدور، وقطع منها عنباً، وأحضره في يده، وهو ينفخه من الغبار، وغسله بماء بيده، وقال: يا قاضي، كل من عنب دورنا، هذا أمر ما فرح به متعمم.
وكان إذا أراد أن يعمل سوءاً، ويراه قد أقبل يقول: جاء القاضي وما يدعنا نعمل شيئاً مما نريده، فيحدثه في إبطال ما كان قد هم به من الشر، وفي مدة حياة القاضي كريم الدين لم يقع من السلطان إلا خير.
وأما مكارمه فحكى لي غير واحد بالقاهرة جماعة لا يمكن تواطؤهم على نقل باطل: أنه حضرت إليه امرأة رفعت له قصة تطلب فيها إزاراً، فوقع في ظاهرها إلى الصيرفي بصرف مبلغ ثماني مئة درهم، فلما رأى الصيرفي ذلك؛ أنكره، وأوقفها، وتوجه إليه، وقال: يا سيدي، هذه سألت إزاراً والإزار ما ثمنه هذا المبلغ، فقال له: صدقت، وأخذ القصة، وقال: الأولى متاع الله تعالى، وزادها مبلغ ثمانين، وقال: الأولى متاع الله تعالى، وزادها مبلغ ثمانين، وقال: هذه متعالي وقال: أنا ما أردت إلا ثمانين، ولكن الله أرادها ثماني مئة، فوزن الصيرفي للمرأة ثماني مئة درهم وثمانين درهماً.
وقيل: إنه كان له صيرفي يستدعي منه ما يريد صرفه لمن يسأله شيئاً، وإن الصيرفي أحضر إليه مرة وصولات ليست بخطه فأنكرها، فقال الصيرفي: هذا في كل وقت يحضر إلي مثل هذه الوصولات، فقال: إذا جاء أمسكه وأحضره، فلما جاء على العادة أمسكه وأحضره إلى بابه فقيل: إن الصيرفي وقع بالمزور، فقال: سيبوه، مالي وجه أراه، ثم قال: أحضروه، فلما مثل بين يديه قال: ما حملك على هذا؟ قال: الحاجة، فقال له: كلما احتجت إلى شيء اكتب به خطك على عادتك لهذا الصيرفي، ولكن ارفق، فإن علينا كلفاً كثيرة، وقال للصيرفي: كلما جاءك شيء من خط هذا فاصرفه، ولا تشاور عليه.
وحكي لي أنه قبل إمساكه ضيع بعض بأبية مماليك بكتمر اللاساقي حياصة ذهب، فقال صاحبها للأمير، فقال الأمير: إن لم يحضر الحياصة، وإلا روحوا به للوالي ليقطع يده، فنزلوا بذلك البابا، فوجد القاضي كرم الدين آخر النهار طالعاً إلى القلعة، فوقف وشكا حاله، فقال: أخروا أمره إلى غد، فلما نزل إلى داره؛ قال لبعض عبيده: خذ معك غداً حياصة ذهب، لنعطيها لذلك البابا المسكين، فلما أصبح وطلع إلى القلعة أمسك، واشتغل الناس بأمره، ونسي أمر البابا، ولما فرغ الناس طلب البابا، وجهز إلى الوالي، فقال له رفاقه: ما كان القاضي كريم الدين وعدك، روح إليه، فقال: يا قوم، إنسان قد أمسك وصودر، أروح إليه! فراح إليه، وكان قد أمر بالمقام في القرافة، فلما دخل إليه؛ شكا حاله، فقال: يا بني، جئت إلي وأنا في هذه الحالة، ثم إنه رفع المقعد، وقال له: خذ هذه الحالة، ثم إنه رفع المقعد، وقال له: خذ هذه الدراهم، استعن بها، كانت قريب الألفين، فلما أخذها وخرج؛ قال لذلك العبد: ما كنت قد أعطيتك حياصة ذهب لهذا البابا؟ فقال: نعم، وهي معي، فقال: هاتها، فأخذها، وطلب البابا، ودفعها إليه، وقال: هذه الحياصة أعطهم إياها والدراهم أنفقها، فطلع بالحياصة، وأعطا للمملوك، فدخل بها المملوك للأمير سيف الدين بكتمر الساقي، فطلب البابا، وقال له: قل لي أمر هذه الحياصة كيف هو؟ فحكى له ما جرى له مع كريم الدين، فقيل لي: إن بكتمر الساقي لطم وجهه، وقال: يا مسلمين! مثل هذا يمسك أو يؤذى؟! وما إمساك كريم الدين برضى بكتمر.

وحكى لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله أنه بلغه أن القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر والقاضي نجم الدين بن الأثير قعدا يوماً على باب القلة وأجري ذكر كريم الدين ومكارمه، فقال علاء الدين بن عبد الظاهر: ما مكارمه إلا لمن يخالفه، فهو يصانع بذلك عن نفسه، فما كان بعد يومين أو ثلاث إلا حتى احتاج نجم الدين بن الأثير إلى رصاص يستعمله في قدور حمام، فكتب ورقة إلى كريم الدين يسأل فيها بيع جملة من الرصاص بديوان الخاص، فحمل إليه جملة كبيرة، فضل له منها عما احتاج إليه ثلاثون قنطاراً، ولم يأخذ عن ذلك ثمناً، وأما علاء الدين بن بعد الظاهر؛ فإنه تركه يوماً في بستانه، وانحدر إليه في البحر، فلم يدر به إلا وقد أرست حراقته على زربية علاء الدين، فنزل إليه، وتلقاه، ودهش لقدومه، فحلف أنه ما يأكل ما يحضره إليه من خارج البستان، ومهما كان طعام ذلك النهار يحضره، فأحضر له ما اتفق حضوره، وقال له: يا مولانا أنا ما أعلمتك بمجيئي، ولكن أنا مثل اليوم ضيفك، ولكن لا ألتقي هذه العمارة على هذه الصورة، وشرع رتبها على ما أراد ، وخرج من عنده، فلم يشعر علاء الدين ذلك اليوم إلا بالمراكب قد أرست على زربيته بأنواع الأخشاب والطوب وأفلاق النخل والجبس والمهندسين والصناع والفعول، وكل ما يحتاج إليه، وأخذوا في هدم ذلك المكان، وشرعوا في بنائه، على ما قال لهم، فلم يأت على ذلك خمسة أيام أو ستة إلا وقد تكامل ورخم وزخرف بالذهب واللازورد، وفرغ منه، فلما كان قبل الميعاد بيوم جاء إليه مركب موسوق بأنواع الغنم والإوز والدجاج الفائق وغيره، والسكر والأرز، وجميع ما يطبخ حتى المخافي والماعون الصيني والجبن ومن يقليه، وعمل الطعام الفائق المختلف ومد السماط العظيم، ونزل القاضي كريم الدين ومعه من يختاره وجاء إليه، وجد الدار قد عمرت على ما أراد، والطعام قد مد سماطه، فأكل هو ومن معه، وأحضر أنواع الفواكه والحلوى والمشروب، ولما فرغ من ذلك أحضر بقجة كبيرة، أخرج إليه منها ما يصلح للنساء من القماش الإسكندري وغيره، وما يصلح لملبوس علاء الدين، وقال: هذه خمسة آلاف درهم يكسو بها مولانا عبيده وجواريه على ما يحبه ويراه، وهذا توقيع تصدق به مولانا السلطان على مولانا فيه زيادة معلوم دراهم وغلة وكسوة لحم وجراية، ونزل يركب، ونزل معه علاء الدين، فلما ركب وفارقه، قال: يا مولانا علاء الدين! والله هذه الأشياء أنا أفعلها طباعاً، وأنا لا أرجوك ولا أخافك.
وقيل: إنه مرة شرب دواء، فجمع له كل ما دخل القاهرة ومصر من الورد، وحمل إلى داره وبسط ذلك الورد إلى كراسي الطهارة، وداس الناس ما داسوه، وأخذ ما فضل أباعه الغلمان للبيمارستان بمبلغ ثلاثة آلاف درهم.
وكان السلطان قد فوض إليه نظر البيمارستان المنصوري، فنمت أجور أوقافه، وعمرت وعمر البيمارستان، وكان كلما دخل فيه تصدق بعشرة آلاف درهم، ومات مرة من الزحمة ثلاثة أنفس.
وبالجملة، فما سمعت عنه بالديار المصرية إلا كل مكرمة غير الأخرى يبتدع فعلها ولم نسمعها عن غيره. وهو الذي صدق أخبار البرامكة، ومن رئاسته الكاملة أنه كان إذا قال: نعم؛ كانت نعم، وإذا قال: لا؛ فهي لا، وهذه الخلة تمام الرئاسة.
وكان في كل أول ثلاثة الشهور رجب وما بعده من كل سنة يخرج كل من كان في الحبوس من الولاية، ومن حبس الشرع، وما يدع في الحبوس أحداً، إن كان عليه دين أوفاه، أو على قضية معضلة أحضر الغريم، وتوصل إلى رضاه بكل طريق، وعمر بالزربية جامعاً وميضأه، وعمر في طرق الرمل البيارات، وأصلح الطرق، وعمر في دمشق جامع القبيبات وجامع القابون، ووقف عليهما الوقوف الجيدة.
وكان عاقلاً وقوراً داهية، جزل الرأي بعيد الغور، بحب العلماء والفضلاء، ويبرهم ويحسن إليهم أخبرني الشيخ شهاب الدين العسجدي، قال: كنت ليلة عيد مع الشيخ صدر الدين ونحن متوجهان إلى القرافة، فعرض لنا فقير، وقال للشيخ: يا سيدي، شيء لله، فقال لي: كم معك؟ قلت: لا عليك، توجه إلى القاضي كريم الدين، وقل له: الشيخ يسلم عليك، ويهنئك بالعيد، فتوجهت إليه، وقلت له ذلك، فقال: كأن الشيخ مفلس في هذا العيد، يا ططاج - مملوكه - ادفع إلى رسول الشيخ ألفي درهم، قال: فأخذتها، وجئت بها إليه، فقال الشيخ: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسنة بعشرة.

قدم من ثغر من الإسكندرية مرة في نوبة الحريق الذي وقع بالقاهرة، فغوت به الغوغاء، ورجموه، فغضب السلطان، وقطع أيدي أربعة، ثم إنه مرض في ذلك العام قبل الواقعة، ولما عوفي زينت القاهرة، وتزاحم الخلق، واختنق واحد.
ولما انحرف عنه السلطان أمر للأمير سيف الدين أرغون النائب بالقبض عليه، فلما أراد بكرة النهار الدخول إلى السلطان على العادة طلبه إلى بيته وأمسكه، وأوقعت الحوطة على دوره وموجوده، وأمسك ولده علم الدين عبد الله، وكان يوماً عظيماً، وذلك يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، وبقي في بيته أياماً، ثم إنه رسم له بالنزول إلى تربته بالقرافة، فتوجه إليها، وأقام بها.
وفي جمادى الآخرة رسم بتسفيره إلى الشوبك، فأقام به إلى أن رسم له بالحضور إلى القدس، فوصل إليه تاسع عشر شوال من السنة المذكورة، فأقام به يحسن إلى الفقراء والمجاورين والزوار، إلى أن رسم له بالعودة إلى مصر، فتوجه من القدس في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ولما وصل إليها أخذ ما كان من ذخائره وحواصله وموجوده، ورسم له بالتوجه إلى أسوان، فأقام بها إلى أن توجه إليه الأمير ركن الدين بيبرس الفارقاني، وأصبح على ما قيل مشنوقاً بعمامته، و قيل: إنه لما أحس بقتله توضأ، وصلى ركعتين، وقال: هاتوا، عشنا سعداء، ومتنا شهداء. وكان الناس يقولن: ما عمل أحد مع أحد ما عمله السلطان مع كريم الدين أعطاه الدنيا والآخرة.
وكان قد طلب الحجار وست الوزراء، وسمع عليهما صحيح البخاري بقراءة شيخنا ابن سيد الناس ووصلهما، ووصل الشيخ بجملة، وكتب له بها نسخ وذهبت وجلدت.
وكتب إليه شرف الدين القدسي:
إذا ما بار فضلك عند قوم ... قصدتهم ولم تظفر بطائل
فخلهم خلالك الذم واقصد ... كريم الدين فهو أبو الفضائل
وأنشدني إجازة شيخنا أبو الثناء شهاب الدين محمود، ما كتب به إلى القاضي كريم الدين يتقاضاه سكراً له في الديوان:
أيها السيد الذي لو تجارى ... جوده والحيا لقصر وبله
والكريم الذي تفرد في الجو ... د فلم يلف في المكارم مثله
والذي كل ما تفرق بين الن؟ ... اس من فرغ نائل فهو أصله
والذي كل ما يقال من الأو ... صاف والمدح والثنا فهو أهله
عم معروفة وتمت أيادي؟ ... ه، وزادت علياه وامتد فضله
؟وسما نيله على النيل إذ في ... كل يوم إن تأته فاض فضله
وهمى جوده فلو لم يسل سأ ... ل ومن لم يقصده وافاه بذله
لي رسم على نداك من السك؟ ... ر هذا أوانه ومحله
وخصوصاً والعبد من إثر ضعف ... آده ثقله وأعياه حمله
لي مني تصحيفه في نظام ... يتقاضاه عقده أو حله
مثل مولاي من يرى الشكر أولى ... فهو آل الندى ويصبيه فعله
فابق واسلم يعزى إليك الندى وال؟ ... جود والفضل والتطول كله
ما تغنت ورقاء في الورق النض؟ ... ر وحلى معاطف الدوح ظله
ومما رثى به الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم للقاضي كريم الدين رحمه الله تعالى:
كريم الدين عشت بكل خير ... ومت ممات كل فتى كريم
شهيداً قد درجت بغير ذنب ... ولا إثم يؤثم للأثيم
بلغت جميع ما تختار حتى ... بلوغك رحمة الله الرحيم
إلى جنات عدن صرت يا من ... له تشتاق جنات النعم
وجدت بما حوت كفاك فينا ... لأرملة وشيخ أو يتيم
وللأمراء والفقراء حتى ... لأثرى كل محتاج عديم
ففي دنياك فزت بكل حظ ... وفي أخراك بالأجر العظيم
وقد خلفت ما يبقى إلى أن ... تقوم قيامة العظم الرميم
من الذكر الجميل لكل صنع ... حديث منك أو بر قديم
مناقب خصها الرحمن منه ... بما قدم عم من فضل عميم

وبالمدح المضمن كل حمد ... وشكر ظاعن لثنا مقيم
وما أبقيت في قلبي جواه ال؟ ... مجدد للهموم وللغموم
لقد جرعت حين جرعت كأس ال؟ ... حمام فتاك كاسات الحميم
ففي الجنات أنت بغير شك ... ومن خلفت في نار الجحيم
ويحسب من تصبره سليماً ... وكيف وليله ليل السليم
يقضي ليله بتعلات ... ويخلو في دجاه بالهموم
فلا تبعد فإن الموت آت ... على المخدوم منا والخديم
عبد اللطيف بن بلبانابن عبد الله السعودي، الشيخ الصالح الفاضل سيف الدين أبو محمد.
كان خليفة الشيخ عمر السعودي مدة، ثم ولي المشيخة ولد الشيخ عمر.
سمع من ابن عزون، والمعين ابن القاضي الدمشقي، وخرج له شهاب الدين الدمياطي جزءاً. وكان فيه خير وديانه، وله شعر وكلام على طريقة القوم.
توفي رحمه الله تعالى في سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وكتب في الإجازات.
عبد اللطيف بن خليفةالصدر المعظم الفضل شمس الدين العجمي أخو النجيب كحال غازان وغيره.
كان النجيب المذكور له صورة كبيرة، ومحل زائد عند ملوك المغل، وكان أخوه هذا شمس الدين عبد اللطيف قد تسمى في تلك البلاد بالملك الصالح، وورد إلى الديار المصرية، فأكرم كثيراً إلى الغاية.
وكان أديباً فاضلاً، لبيباً عاقلاً، على ذهنه غوامض من العربية، وعنده نكت ظريفة أدبية، يترسل بغير سجع، وينبت في طروسه أزاهر بغير رجع، لكن بعبارة فاضل، بحاث مناضل، يستشهد على مقصوده بالآيات الكريمة، والأحاديث القويمة والحكمة القديمة، والأشعار الرائقة، والفقر الفائقة، وخطه قوي إلى الغاية من عادة تعليق العجم، وشبه الزهر الذي أينع لما نجم، وله مداخلات مع السلطان وغيره من أرباب الدولة، وممن له في الدهر جولة، يتحدث بالتركي والعجمي فصيحاً، ويذر من يجادله في الوقت طريحاً.
وكان له إقدام على الأكابر، وجرأة على أرباب السيوف والمحابر، ويحضر عند السلطان في بعض الأحيان، وينفع من يريد، ويضر بكل لسان.
ولم يزل على حاله إلى أن مرض بفالج، فكابد منه ألماً يعالج من برحه ما يعالج، ثم إنه بطلت حركات جوارحه، وقيدت مطلقات سوارحه.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين سلخ المحرم سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وجدوه غريقاً في البركة، ودفن في مقابر باب النصر.
وكان له من الرواتب في تلك الأيام ما يقارب الألفي درهم، واجتهد بدهائه، إلى أن جعل ذلك في جملة رواتب المماليك السلطانية حتى إن المستوفين لا يتعرضون له إذا عملوا استيماراً، وكان الأمير سيف الدين أرغون النائب إذا رآه في القلعة يقول: ما أحسد إلا هذا الشيخ الذي له في كل شهر ألفا درهم، وهو دائر بطال بلا شغل.
وكان يحضر عند السلطان في سرياقوس، يتكلم بين يديه بالنفع والضر لمن يريد، لأنه كان خبيراً بأخلاق الملوك، ومخاطباتهم وسياساتهم. قال لي من لفظه: أنا أتعيش بين الناس، وأتجوه عندهم بكل جلسة أجلسها بسرياقوس عند السلطان عدة شهور.
وكانت له خصوصية بالقاضي فخر الدين ناظر الجيش، وبالقاضي علاء الدين بن الأثير كاتب السر، ونفع جماعة، وهو كان أحد من ساعد الخطيب جلال الدين القزويني على توليه قضاء القضاة بالشام وعلى الحضور إلى قضاء الديار المصرية.
ودخل يوماً إلى القاضي مجد الدين بن لفيتة، وهو ناظر الدولة، يطالبه بمرتبه وألح عليه، وزاد في الإبرام، فقال له: يا مولانا كل شهر ألفا درهم، ما تمهل علينا بشهر واحد؟، فقال: يا مولانا هذه الألفان التي لي ما تكفي هذا عبدك الذي يحمل دواتك أن يشرب بها نبيذاً، فلم يجبه بكلمة، وصرف له ما أراد.
وكان إذا حضر عند فخر الدين ناظر الجيوش أخذ الورقة من يده، ونتشها بعنف، ورمى بها، وقال: خلنا من هذا، وتحدث بنا في شأننا.
وكان شيخاً تام القامة، أعشى البصر قليلاً، ذا عمة صغيرة كأنها تخفيفة، وكان لا يخاطب إلا بمولانا، وكان يدعي أنه قرأ المنطق على الأثير الأبهري.

وكانت له دار مليحة على بركة الفيل، وله أموال وجواهر نفيسة، ورأيته يوماً وقد دخل إلى الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك، وقد انقطع الأمير من وجع مفاصل كان يعتريه في رجليه، وكان قد غاب عنه مدة، فلما رآه مقبلاً؛ قال له: يا مولانا! أين كنت في هذه الغيبة؟ وا ويلاه من رجلك.
وكان أصله بتلك البلاد يهودياً ثم أسلم، ولما انفلج جاء إلي الشيخ شمس الدين محمد ابن الأكفاني، وقال لي: يا مولانا الآن. كما أسلم شمس الدين العجمي، فقلت له: كيف ذلك، وهو قديم الإسلام؟! فقال: لأن المسلمين سلموا من يده ولسانه، يعني بالفالج الذي حصل له.
أخبرني من لفظه العلامة شيخ الإسلام، قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى قال: اجتمع يوماً شمس الدين، والأمير ناصر الدين بن البابا، وشجاع الدين الترجمان، ونجم الدين بن قاسم بن مرداد، فقال ناصر الدين: أخبرني هذا، وأشار إلى أحد الاثنين، فقال شمس الدين: من هو هذا؟ " إن البقر تشابه علينا " فقال شجاع الدين: مولانا، من قال هذا الكلام. فقال شمس الدين: الذين قال الله في حقهم: " يا بني إسرائيل اذكر نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين " ، فقال شجاع الدين: مولانا، حاشاك تقول مثل هذا! وإنما قال الله في حقهم: " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " الآية، أو كما قال.
ولما دخلت القاهرة اجتمعت به في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فرأيت منه رجلاً داهية، خبيراً بما يتكلم به، يغلب عليه العقليات، ويستحضر من كلام الحكماء جملة وافرة، وينقل كثيراً مما يذاكر به من فنون الأدب ووقائع الناس، خصوصاً وقائع ملوك المغل، وله ذوق جيد في الشعر، وتفضل في حقي كثيراً رحمه الله ونوه بذكري عند الأكابر وأثنى علي ثناء كثيراً انتفعت به، شكوت إليه يوماً من بعض الكتاب، فقال لي: مولانا القواهر العلوية دائمة الفيض ممنوعة الحجب تقتص من الظالم للمظلوم، ومن الحاكم للمحكوم.
وكتبت أنا إليه في أول شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة:
يا من بحبل ولائه أتمسك ... وبذكره بين الورى أتمسك
أوليتني نعماً غدت تترى فما ... تدرى وغاية شكرها لا تدرك
وأفدتني فضلاً بكل نفيسة ... تشرى فجودك في الورى لا يشرك
أنت المبوأ ذروة المجد التي ... عزت فما لسواك فيها مسلك
حزت السيادة في الأنام وأنت في ... أهل العلوم على الجميع مملك
كل ينام عن المحامد والعلا ... وإذا دعي لفضيلة يستدرك
إذا عزائمك العلية كم لها ... في كسب ذلك باعث ومحرك
وتجود مبتدئاً ومالك مقصد ... إلا طباع فتى غدا يتبرمك
شيم من النفس الأبية أشرقت ... أبداً تقاد إلى الجميل وتملك
وغدت مرنحة بما تولي الورى ... صنعاً جميلاً شأوه لا يدرك
هذبتها بمعارف قدسية ... فتبيت تصقل بالعلوم وتسبك
حتى لقد خلصت ونور ذاتها ... عرفان من بجنابه تتمسك
إن لم يكن هذا فكيف بررتني ... وجعلت ثغر الدهر نحوي يضحك
يا شمس فضل ظله المبسوط لي ... أنا من سناه في الورى أتبرك
سطرت ما أوليتني ذهباً على ... وجه الزمان وذا المديح يزمك
فتهن شهراً قد أتاك مبشراً ... يا خير من بصيامه يتنسك
واسلم ودم في كل خير وافر ... من حيث يأتي لا يمل ويترك
ما بات ضوء الشمس يصقل جدولاً ... ويروح من نفس الصبا يتفرك
عبد اللطيف بن ممد بن سندسراج الدين التاجر الكارمي الإسكندراني.
كان من أعيان الكارم، وذوي الجود والمكارم، رئيساً وجيهاً، فاضلاً نبيهاً، وقف وقوفاً جيده، وبنى مدرسة بالثغر للمحاسن متصيده، وسمع وروى، وأطنب في ذلك وما غوى، وله ديوان كله أمداح نبوية، ومحامد على خير البرية.
ولم يزل على حاله إلى أن طفئ سراجه، وكمل نقد عمره وخراجه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وكان قد سمع من النجيب، وابن فارس، وغيرهما، وحدث وسمع منه الأعيان.
ومن شعره:

لي بالأجيرع دون وادي المنحنى ... قلب تقلبه الصبابة والضنا
غاروا عليه بالغوير ويمموا ... نجداً سحيراً واستقلوا أيمنا
ملكوه مني بالمكارم والعلا ... وحموه عني بالصوارم والقنا
أتبعتهم يوم استقلت عيسهم ... بحشاشة ألفت معاناة الغنا
ونثرت من جفني عقيق مدامعي ... حين التفرق فاستحالت أعينا
وسرت بي الهوج البوازل ترتمي ... ليلاً ولذ لها الفناء على الفنا
حتى إذا أهدت لنا ريح الصبا ... عرف الخزامى زال عنها ما عنى
فأنخت نضوي ثم قلت لها: قفي ... مهلاً رويدك فالمعرس ههنا
وأنشدني من لفظه العلامة أبو حيان قال: ومن شعر سراج الدين المذكور:
ما للنياق عن العراق تميل ... تهوى الحجاز وما إليه سبيل
ذكرت لياليها المواضي بالحمى ... والوجد منها سائق ودليل
واستنشقت عرف الخزام وشاقها ... ظل بأكناف الغوير ظليل
عجباً لها تهوى النسيم تعللاً ... بنسيم رامة والنسيم عليل
ترد النقيب وما تبل به صدى ... وتود لو أن العذيب بديل
لله ليلتها وقد لاحت لها ... أعلام يثرب واستبان نخيل
وبدا لها شعب الثنية فانثنت ... تهتز من طرب به وتميل
يحدو لها حادي السري مترنماً ... ما بعد طيبة لركاب مقيل
يا سائق الوجناء عرج بالغضا ... فهناك عرب بالأراك نزول
دار لعزة ما أعز جوارها ... وظلالها للوافدين نزول
للنوق مراعاها البهيج وللعدى ... نقم تهيج وللجياد صهيل
فإذا حللت فللظباء مراتع ... وإذا رحلت فللحمام هديل
عبد اللطيف بن أحمدابن محمود بن الإمام الفاضل التاجر، سراج الدين بن الكويك، بكاف أولى مضمومة، وبعدها واو مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وبعدها كاف أخرى.
كان فاضلاً جيد العربية، والمقاصد الدقيقة الأدبية، حسن الشاكلة والمحيا، لو حاول القمر حسنه ما تم له وما تهيأ، حسن النظم البارع، جيد الذهن فيما يفهمه وإليه يسارع.
سمع بقراءتي على شيخنا أثير الدين كثيراً، وكان يحلني من قبله محلاً أثيراً.
توجه إلى التكرور بتجارة فلم يكر، وحل به من الموت هناك الأمر النكر.
وتوفي هناك رحمه الله سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
اجتمعت به غير مرة ونحن نحضر حلقة شيخنا أثير الدين، وسمع بقراءتي جملة، وكان شافعي المذهب، قدم دمشق سنة عشر وسبع مئة، وسمع بنت البطائحي وإسحاق الأسدي وابن مكتوم.
وقفت على ثلاثة أبيات بخطه كتبها على مصنف لشيخنا العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي سماه كل وما علي تدل وهي:
لله ذر مسائل هذبتها ... ونفيت خلفاً عد خلفاً نقله
وحللت إذ قيدت بالشرطين ما ... أعيا على العلماء قبلك خله
فعلا على الشرطين قدرك صاعداً ... أوج العلوم وفوق ذاك محله
عبد اللطيف بن عبد العزيزابن عبد السلام، الفقيه محيي الدين بن الشيخ عز الدين السلمي الدمشقي الشافعي.
روى عن ابن اللتي، وطلب الحديث بنفسه بالقاهرة وقرأ على الشيوخ، فكان أفضل الإخوة، وهو من بينهم صاحب القريحة والهمة والنخوة، قرأ الفقه وتميز، وانزوى إلى زاوية العلماء وتحيز، وكان يعرف تصانيف والده جيداً، ولم يكن عن معرفة غيرها متحيداً.
ولم يزل على حاله إلى أن لقي عبد السلام من ربه سلاماً، ولم يسمع محادثه منه كلاماً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة، وقيل: سنة خمس.
عبد اللطيف بن عبد العزيزالشيخ مجد الدين بن تيمية الحراني الحنبلي.
روى عن جده، وعن عيسى بن سلامة، وابن عبد الدائم. وخطب بحران سنوات، وكان عدلاً خيراً.
توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
عبد اللطيف بن محمدابن الحسين العلامة أبو البركات بدر الدين بن شيخ الشافعية القاضي تقي الدين بن رزين الحموي المصري الشافعي.

كان إماماً تفنن، وعرف المذهب وتعين، ودرس وأفتى، وحسن وصفاً ونعتاً، أعاد لأبيه، وولي قضاء العسكر، فلم يكن له فيه شبيه، ودرس بالظاهرية، وخطب الجامع الأزهر.
ولم يزل على حاله إلى أن خف ابن رزين على نعشه، وبله وبل الردى بطشه.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشري جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة.
ومولده بدمشق سنة تسع وأربعين وست مئة.
وحدث عن عثمان خطيب القرافة، وعبد الله ابن الخشوعي، وغيره، وكان قد حفظ المحرر في الفقه.
وكان فقيهاً كبيراً قد تولى الإعادة لوالده، وهو ابن عشرين سنة، وأفتى، وناب في الحكم بالقاهرة وقليوب، وولي قضاء العسكر في حياة والده، واستمر على ذلك إلى أن مات، أكثر من ثلاثين سنة.
ودرس بالمدرسة الظاهرية، والسيفية والأشرفية، وخطب بالجامع الأزهر، وكان يذكر الدروس من الفقه والحديث والتفسير والأصول، وكان له اعتناء بالحديث والرواية.
وولي قضاء العسكر عوضه جمال الدين الأذرعي مضافاً إلى قضاء القضاة بمصر.
عبد اللطيف بن عبد العزيزالشيخ الإمام النحوي المقرئ شهاب الدين بن المرحل الحراني.
كان في النحو علامة، له فيه أمارات بينة وعلامة، لو عاصره الأستاذ ابن عصفور لكان غلامه، متثبتاً فيما يقوله، سالمة من الشك نقوله، يكتب خطاً حسناً قوياً، ويأتي به في المنسوب سوياً. وكان يتردد من مصر إلى حلب، ويتجر بالكتب فيها إذا جلب.
ولم يزل على حاله إلى أن رحل رحلة لم يعد منها إلى هذه الدار، ورثاه حتى الحمام الهدار.
وتوفي رحمه الله تعالى سنى أربع وأربعين وسبع مئة بالقاهرة.
سمعت صحيح البخاري بقراءته في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بالظاهرية بين القصرين على شيخنا أبي الفتح.
وكان فيه جمود يسير، وما اعتقد ذاك الجمود عن بلادة، ولكنه كان ذا تثبت في النقل.
أخبرني الشيخ شمس الدين محمد بن الخباز، قال: سألته بحلب، فقلت: يا سيدي، كِشاجم بكسر الكاف أو فتحها أو ضمها؟ فأخذ يفكر زماناً، ويقول: كُشاجم بضم الكاف مثل علابط، هذا وزن صحيح، ثم التفت إلي، وقال: يا سيدنا، لا تنقل عني في هذا شيئاً ما يحل لك.
قلت أنا: المعروف بين أهل الأدب أنه كشاجم بفتح الكاف لأنه كما قيل في سبب تسميته بذلك أنه كان كاتباً شاعراً أميراً جليساً منجماً، فأخذوا له من كل وصف حرفاً وركبوا له هذا الاسم.
وكان الشيخ شهاب الدين رحمه الله تعالى يعرف ألفية ابن مالك، أقرأها جماعة بالقاهرة وحلب، وممن قرأها عليه بالقاهرة أخي إبراهيم.
وقد اجتمعت به رحمه الله تعالى غير مرة، وأخذت من فوائده، وكان يلازم سوق الكتب كثيراً لأنه كان يتجر فيها، وينقلها إلى حلب.
عبد اللطيف بن نصرابن سعيد بن سعد بن محمد بن ناصر بن الشيخ أبي سعيد الميهني الشيخي نجم الدين شيخ الشيوخ بالبلاد الحلبية بن الشيخ بهاء الدين أبو محمد.
سمع من جده لأمه حامد بن أميري، وعبد الحميد بن بليمان، ويحيى بن الدامغاني، وابن روزبه، وغيرهم.
أقام بحلب وحدث بها.
وغص بلقمة، فمات رحمه الله تعالى في سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده بحمص سنة تسع وست مئة، وكتب لشيخنا الذهبي بإجازة مروياته.
عبد اللطيفالشيخ سيف الدين شيخ زاوية السعودية بالقاهرة، كان يعرف قبل ذلك ببلبان الكرجي.
سمع من المعين أحمد بن علي بن يوسف الدمشقي، وأبي إسحاق إبراهيم ابن عمر بن مضر، غيرهما. وخرجت له مشيخة لطيفة، وكتب خطاً حسناً متوسطاً.
أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وكتب بخطه:
أجزت لهم رواية كل مالي ... روايته سماعاً أو إجازه
ومالي من مقول مؤلفات ... حوت نظماً ونثراً لي مجازه
أجزتهم وأرجو الله ربي ... ينيلهم الكرامة والعزازه
عبد المحسن بن حسنابن سليمان البارنباري جمال الدين.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين قال: رايته مراراً بالقاهرة ودمياط، وبمصر، وله نظم، منه ما أنشدني لنفسه بدمياط وهو:
متى يا أهيل الحي أحظى بقربكم ... ويبلغ قلبي من لقائكم القصدا
وترجع أيام تقضت على الحمى ... وتنجز ليلى من تواصلها الوعدا
قال: وله أيضاً:
منهج فخر الدين في حكمه ... وشرعه أقوم منهاج

قد وسع الناس بأخلاقه ... فما له في الخلق من هاج
عبد المحسن بن أحمدابن محمد بن علي، الشيخ المسند أمين الدين أبو الفضائل بن شهاب الدين بن الحافظ جمال الدين أبي حامد بن الصابوني.
أجاز لي بخطه المرتعش المعوج بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت سادس جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في سابع عشر ذي الحجة سنة سبع وخمسين وست مئة.
وسمع من أصحاب البوصيري، وكان مكثراً. وحدث وهو من رواة جزء ابن عرفة. وسمع ابن عزون، وابن القاضي الدمشقي، وابن علاق، والنجيب الحراني بالقاهرة، وبدمشق من ابن أبي اليسر، وابن عبد، وشيوخ جمة.
وكان شاهداً بمصر ثم ضعف بصره.
عبد المحسن بن عبد اللطيفابن محمد بن الحسين بن رزين، القاضي الإمام علاء الدين بن القاضي بدر الدين ابن قاضي القضاة تقي الدين بن رزين.
سمع من العز الحراني، وغازي.
سمعت خطابته ودرسه بالظاهرية غير مرة، وكان فصيحاً بليغاً، ودرسه بسكون، لا يتكلم فيه أحد غيره.
أجاز لي بخطه في رابع المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين عاشر شعبان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
وسمع من ابن خطيب المزة سنن أبي داوود بقراءة أبي حيان.
وكان خطيباً بالجامع الأزهر
عبد المحمود بن عبد الرحمنابن محمد بن عمر بن محمد بن عبد الله الشيخ الإمام القدوة والصدر الكبير شهاب الدين أبو القاسم بن أبي المكارم بن الشيخ عماد الدين أبي جعفر بن الشيخ الإمام القدوة شهاب الدين أبي حفص السهروردي البغدادي.
كان شيخاً قدره كبير، له وقار يخف عنده ثبير، صدر العراق وقلبه، وعينه التي يطبق الدهر عليها هدبه، أمواله جزيلة، وحشمته نبيلة، وكلمته كالسهام النافدة، وعظمته في النفوس ترى وهي إلى الثريا آخذة. وكان يجلس للوعظ أحياناً، ويموت سامعوه وجداً، وهم يقولون: أحياناً.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح عبد المحمود على الأعناق محمولاً، وقطع من كل من كان يؤمه مأمولاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر شهر رجب سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وكان قد لبس الخرقة من جده أبي جعفر محمد، وروى عنه سداسيات القاسم بن عساكر. ولشيخنا علم الدين البرزالي منه إجازة.
عبد المحمود بن عبد السلامابن حاتم بن أبي محمد بن علي البعلبكي الدمشقي الشافعي الشيخ الإمام العالم مجد الدين أبو المحامد.
اشتغل وحفظ التنبيه وعرضه على المشايخ، وقرأ على الشيخ محيي الدين النووي، ولازم الشيخ برهان الدين الإسكندري وقرأ عليه القرآن والتنبيه. وسمع الحديث من القاضي شمس الدين بن عطاء الحنفي وحدث عنه.
وقال: كتبت الأسماء في مجالس الحديث، وقرأت بنفسي على الكرجي والقاضي ابن الخويي، وأجلسني مع الشهود القاضي بهاء الدين بن الزكي.
وكان يدعي أنه من ذرية أبي فراس بن حمدان.
توفي رحمه الله تعالى في يوم الاثنين عرفة تاسع ذي الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وقال: كنت رضيعاً عندما دخل هولاكو البلاد.
عبد الملك بن أحمدابن عبد الملك الأنصاري، تقي الدين الأرمنتي الشافعي.
سمع الحديث على شيخه مجد الدين القشيري، وابنه الشيخ تقي الدين، وعلى عبد المحسن ابن إبراهيم المكتب وغيرهم.
وحدث، وكان فقيهاً مفتياً، معيداً في فضله مبدياً وكان يحسن إلى الفقهاء، ويجود على الأدباء ويساعدهم على المناصب، ويكف عنهم بفضله كل شر واصل واصب.
ولم يزل على حاله إلى أن أنشبت فيه المنية أظفارها، وحكمت فيه شفارها.
وتوفي رحمه الله تعالى بقوص سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده بأرمنت سنة اثنتين وثلاثين وست مئة.
وكان قد أجازه الشيخ مجد الدين بالإفتاء، وله أرجوزة في الحلى، ورجز تاريخ مكة للأزرقي. وكان يكتب خطاً رديئاً لا يحسن أحد يستخرجه إلا الشاذ.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: كان بعض قضاة قوص إذا جاءت إليه ورقة بخطه، يقول لصاحبها: أحاضره ليقرأها.
ومن شعره:
قالت لي النفس وقد شاهدت ... حالي لا تصلح أو تستقيم
بأي وجه نلتقي ربنا ... والحاكم العدل هناك الغريم
فقلت: حسبي حسن ظني به ... ينيلني منه النعيم المقيم

قالت وقد جاهرت حتى لقد ... حق له يصليك نار الجحيم
قلت معاذ الله أن يبتلي ... بناره وهو بحالي عليم
ولم أفه قط بكفر وقد ... كان بتكفير ذنوبي زعيم
وقال في لزوم سوق الوراقة:
أيا سائلاً حالي بسوق لزمته ... يسمونه سوق الوراقة ما يجدي
خذ الوصف مني ثم لا تلو بعده ... على أحد من سائر الخلق من بعدي
يكسب سوء الظن بالخلق كلهم ... وخسة طبع في التقاضي مع الحقد
وينقص مقدار الفتى بين قومه ... ويدعى على رغم من القرب والبعد
وإن خالف الحكام في بعض أمرهم ... يرى منهم الله كل الذي يردى
ولا سيما في الدهر إذ رسموا لنا ... بأربعة في كل أمر بلا بد
ويكفيه تمعير النقيب وكونه ... يشنطط بين الرسل في حاجة الجندي
وإن قال إني قانع بتفردي ... فهذا معاش ليس يحصل للفرد
فبالله إلا ما قبلت نصيحتي ... وعانيت ما يغنيك عنه وما يجدي
وإن كنت مقهوراً عليه لحاجة ... فصابر عليه لا تعيد ولا تبدي
عبد الملك بن الأعزابن عمران الثقفي، تقي الدين الأسنائي.
كان بالتشيع متهماً، وعلى التوالي ملتئماً. وكان في عداد الأدباء، ومن جملة الشعراء. وكان قد قرأ النحو والأدب على الشمس الرومي. ورد عليهم أسنا. وله ديوان شعر.
ولم يزل على حاله إلى أن جف من حياته الورق، ورق خيط عمره ودق.
وتوفي رحمه الله تعالى بأسنا سنة سبع وسبع مئة.
ومن شعره:
لا تلم من تحب عند سراه ... فغرام الحبيب قد أسراه
جذبته يد الغرام لمن يه؟ ... واه فاعذره في الذي قد عراه
راح يطوي نشر الليالي من الشو ... ق إليه ووجده قد براه
ومنه:
جفوني ما تنام إلا ... لعلي أن أراك
فزرني قد براني الشو ... ق يا غصن الأراك
وطرفي ما رأى مثلك ... وقلبي قد حواك
فهو لك لم يزل مسكنفسبحان الذي أسكنوحسنك كم به أفتن
وما قصدي سواكحبيبي آه ما أحلىهواني في هواك
فخل الصد والهجران ... ولا تسمع ملام
وصلني يا قضيب البان ... ففي قلبي ضرام
وجد للهائم الولهان ... يا بدر التمام
وزر يا طلعة البدرودع يا قاتلي هجريوارفق قد فني عمري
وعد أيام وفاكواسمح أن أقبل يامليح بالله فاك
إذا ما زاد بي وجدي ... ولا ألقى معين
وصار معي على خدي ... كالماء المعين
أفكر األتقيك عندي ... يطيب قلبي الحزين
لأنك نزهة الناظروشخصك في الفؤاد حاضروحبي فيك بلا آخر
وقولي قد كفاكفجد واعدل وعد واصلوصل من رضاك
جبينك يشبه الإصباح ... بنور وقد هدى
وريقك من رحيق الراح ... به يروى الصدى
وخدك يبهر التفاح ... مكلل بالندى
سباني لونه القانيفخلاني كئيب عانيتجافي النوم أجفاني
فهل عيني تراكفذاك اليوم فيه خديأعفر في ثراك
عذولي لا تطل واقصر ... ودع صباً كئيب
تأمل من هويت وابصر ... إلى وجه الحبيب
وكن يا صاح مستبصر ... ترى شيئاً عجيب
ترى من حسنه مبدعكبدر التم إذ يطلعتحير لم تدر ما تصنع
ولا تعرف هداكوتبقى مفتكر حيرانإلا إن هداك
عبد الملك بن عبد الرحمنابن عبد الأحد بن عبد العزيز بن أبي نصر حماد بن صدقة الحراني العطار، الشيخ جمال الدين العطار، عرف بابن العنيقة.

قال شيخنا البرزالي: سمعت عليه الفوائد الملتقطة المخرجة من مسموعات أبي الفتح عبد الله بن أحمد بن أبي الفتح الخرقي الأصبهاني انتقاء محمد بن مكي الحنبلي بسماعه من الشيخ العدل أبي الفضل معالي، بسماعه من الخرقي المذكرو بأصبهان في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وست مئة، بقراءة الشيخ تقي الدين بن تيمية، قال: ثم قرأت عليه عدة أجزاء.
توفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة سبع مئة في المحارة بعد الرحيل من الصالحية إلى العباسة بدرب مصر في الجفل.
عبد المؤمن بن خلفابن أبي الحسن بن شرف، الشيخ الإمام العالم العلامة، الحافظ البارع النسابة، المجود الحجة، علم المحدثين عمدة النقاد، شرف الدين أبو محمد وأبو أحمد الدمياطي الشافعي.
قرأ القرآن وطلب الحديث بعدما تميز في الفقه، وقد صار له ثلاث وعشرون سنة، فسمع بالإسكندرية في سنة ست وثلاثين من أصحاب السلفي، ثم قدم القاهرة وعني بهذا الشأن رواية ودراية، ولازم الحافظ زكي الدين حتى صار معيده.
وحج سنة ثلاث وأربعين وست مئة، وسمع بالحرمين، وارتحل إلى الشام سنة خمس وأربعين وست مئة.
وارتحل إلى الجزيرة والعراق مرتين، وكتب العالي والنازل، وبالغ، وصنف إذ ذاك وحدث، وأملى في حياة كبار مشايخه.
وسمع من ابن المقير، وعلي بن مختار العامرين ويوسف ابن عبد المعطي بن المخيلي، والعلم بن الصابوني، وإبراهيم بن الخير البغدادي، وابن العليق، وأحمد ويحيى ابنى قميرة، وموهوب بن الجواليقي، وعد بالعزيز بن الزبيدي، وهبة الله محمد بن مفرج ابن الواعظ، وعلي بن زيد التساري، وظافر بن شحم المطرز، وشعيب بن الزعفراني المجاور، وصفية بنت عبد الوهاب، وحمزة بن أوس الغزالي، ومحمد بن محمد بن محارب القيسي، ومحمد بن الجباب، وابن عمه أبي الفضل بن الجباب، وابن رواج، وابن رواحة عبد الله، وأبي الحسن محمد بن ياقوت، وابن الجميزي، وحسين ابن يوسف الشاطبي، وعبد العزيز بن النقار الكاتب، ومظفر بن عبد الملك الغوي، وأبي علي منصور بن سند بن الدماغ، ويوسف بن محمود الساوي، وعبد الرحمن بن مكي السبط، ومحمد بن الحسن السفاقسي، خاتمة من سمع حضوراً من السلفي.
وسمع بدمشق من عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة، ومكي بن علان، وطبقتهم.
وبدمياط من خطيبها الجلال عبد الله.
وبحران من عيسى بن سلامة الخياط.
وبماردين من عبد الخالق بن أنجب النشتبري.
وبحلب من ابن خليل فأكثر، لغله سمع منه مئتي ألف حديث.
وبالموصل من أبي الخير إياس الشهرزوري صاحب خطيب الموصل.
وبمصر من عبد الكريم بن عبد الرحمن الترابي، حدثه عن خطيب الموصل، وعنده عدة من أصحاب السلفين وشهدة، وابن عساكر، وخلق من أحاب ابن شاتيل، والقزاز، وابن بري النحوي، وإسماعيل بن عوف، ويحيى الثقفي، وابن كليب، وأصحاب ابن طبرزد، وحنبل، والبوصيري، والخشوعي. ونزل إلى أصحاب الكندي، وابن ملاعب، والافتخار الهاشمي.
وكتب عنه طائفة من رفائه ومن هو أصغر منه، وعدد معجمه ألف ومئتان وخمسون نفساً.
وأجاز له أبو المنجا بن اللتي، وأبو نصر بن الشيرازي. ويروي بالإجازة العامة عن المؤيد الطوسي وجماعة.
وحدث عنه الصاحب كمال الدين بن العديم، والإمام أبو الحسين اليونيني، والقاضي علم الدين الأخنائي، والشيخ علاء الدين القونوي، والشيخ أثير الدين أبو حيان، والشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس، والحافظ المزي، والعلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وفخر الدين النويري، وخلق كثير من الرحالين، وطال عمره، وتفرد بأشياء.
قال المزي: ما رأيت أحفظ منه. وسمع جزء ابن عرفة من بضع وثمانين نفساً بالشام ومصر والعراق والجزيرة وجزء ابن الأنصاري من أكثر من مئة شيخ.

وكان قد أربى على من تقدمه في علم النسب، لأنه طفا على من سواه، وغيره رسا ورسب. وكان قد برع في علوم، وآسى بعرفانه ما أعيا من الكلوم، وتفنن في فضائل، وتفرد بأدلة ومسائل، وصنف التصانيف المحررة، والتواليف المحبرة، ونحوه فيه غوامض، ولغته فيها الروافع والخوافض، إلى فصاحته المنتهى، وقراءته هي رصد السمع والمشتهى، سريع القراءة لا يعرف التثبت ولا الإناءة، كأنه السيل إذا تحدر، والبحر إذا اندفع بعدما تصدر. مليح الهيئة، قريب العودة والفيئة، حسن الأخلاق، غنياً بعلمه لا يلتفت في الإملاء إلى الإملاق، جيد العبارة، ظريف الإشارة، صحيح الكتب كثيرها، غزير المادة لمن يثيرها، باسم الثغر في ملقاه، طالب الزيادة والعلو في مرقاه، حلو المذاكرة، زائد الإمتاع والتفنن في المحاضرة، حسن العقيدة، كافاً عن الدخول في الكلام، لا يفتح وصيده، ينظم القريض، ويأتي به كالإغريض.
وكان موسعاً عليه في رزقه، ولم يك كما جرت العادة مثل من خمل مع حذقه، له عند الناس حرمة وجلاله، وأبهة في النفوس تزين خلاله.
ولم يزل يسمع الحديث إلى أن مات فجاءه، وكأنما كان ينتظر قدوم الموت فجاءه.
وتوفي رحمه الله تعالى في نصف صفر سنة خمس وسبع مئة.
وقال شيخنا علم الدين البرزالي: في خامس عشر ذي القعدة من السنة المذكورة.
ومولده بتونة، قرية من أعمال تنيس في آخر عام سنة ثلاث عشرة وست مئة.
وكان منشؤه بدمياط، وسكن دمشق مدة، وأفاد أهلها، ثم تحول إلى الديار المصرية ونشر بها أعلام علومه، وتولى مشيخة الظاهرية بين القصرين.
وتصانيفه كلها جيدة منقحة مهذبة، تشهد له بالفهم وسعة العلم، منها: كتاب الصلاة الوسطى مجلد لطيف. كتاب الخيل مجلد وقد جوده قبائل الخزرج مجلد، العقد المثمن فيمن اسمه عبد المؤمن مجلد، الأربعون المتبانية الإسناد في حديث أهل بغداد مجلد، مشيخة البغاددة مجلد، السيرة النبيوية مجلد، مشيخة، وله غير ذلك.
قال الذهبي: سمعته يقول: سمعت ابن رواج يقول: قرأ علي السراج بن شحانة نتف الإبط فحركه بالكسر، فقلت: لا تحركه يفح صنانه.
وأخبرني شيخنا ابن سيد الناس، قال: دخل الشيخ على جماعة يقرؤون الحديث فسمعهم يقولون: عبد الله بن سلام بتشديد اللام، فقال: سلام عليكم سلام.
وحمل عن الصاغاني عشرين مجلداً من تصانيفه في اللغة والحديث.
ومن شعره....
عبد المؤمن بن عبد الحقابن عبد الله بن علي، الإمام العالم صفي الدين البغدادي الحنبلي، من علماء العراق.
كانت له بالحديث عناية، وله تواليف بلغ فيها النهاية، وعنده فنون، مضى من عمره في جمعها سنون، وكان فيه خير وفتوة، وديانة ومروة.
ولم يزل إلى أن تكدر عيش الصفي، وظهر أجله الذي كان في غضون الأيام وهو خفي.
وتوفي رحمه الله تعالى في صفر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وخرج لنفسه، وسمع من شيخنا الذهبي، ومن الفرضي.
عبد المؤمن بن عبد الرحمنالشيخ الإمام الكاتب المجود عز الدين بن العجمي.
كانت له فضائل، وعنده فوائد ومسائل، وهو شيخ كتابه، ورب ذكاء ومهابه.
كان قد رحل إلى القاهرة، وأهلها في ذك العصر يفاخرون بالمكارم النجوم الزاهرة، فانقطع في بيت بحارة أرجوان، وأرخى على بابه ستارة أرجوان، وتردد الناس إليه، وأقبلو بخواطرهم عليه، فنفقت سوقه، ومشت وما وقفت سوقه، وراج وأذكى السراج، وجبى ما وجب له من الإتاوة والخراج. وكان يجلس في كل سوق حيث تباع المجلدات والدفاتر التي فيها دواوين العلوم مخلدات، فيشتري منها القشات وما يمتري، ويقع له فيها مخاريم من صحاح الجوهري، فيكملها بخطه ويناسب، ويأخذ فيها مع ما يترجمه عليها ما شاء من المكاسب. وكان يشد الكتب أحمالاً أجمالاً، ويسير بها إلى حلب أجمالاً أحمالاً، وحصل من ذلك جملاً، وأوفر من فوائدها جملاً.
ولم يزل على حاله إلى أن أخذه الموت في قشه، وجعل التراب فرشه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وكان هو وأخوه الشيخ شمس الدين خطيب حلب الآتي ذكره، إن شاء الله تعالى في مكانه شيخي كتابة.
اجتمعت بالشيخ شمس الدين هذا بالقاهرة غير مرة في بيته وفي سوق الكتب، وكان من رجال الدنيا في بابه وإذا ذكر الرجال ما يكونون قطرة في حساب سحابه.

وكتب له شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود، رحمه الله تعالى، إجازة وهي: أما بعد حمد الله جاعل علم البيان علماً على الإعجاز، وسلماً إلى ارتقاء ذروة الفصاحة المستقرة على ركني الحقيقة والمجاز، ووسيلة إلى الإحاطة بأسرار البلاغة المستكنة في طرفي الإطناب والإيجاز، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أوتي جوامع الكلم، ولوامع الحكم، التي يتضاءل لديها كل منثور، من كلام البشر ومنتظم، وعلى آلة وصحبه الذين من زل عن سننهم ذل وهوى، ومن تمسك بسننهم فاز وسلم.
فإني لما خلت في غمار طلبة الأدب رغبة في اقتباسه، وطعماً في تحصيل بعضه بإدامة التماسه، وحصلت كثيراً من كبته رواية ودراي، وعرفت ما أجتنب من نقائص المعاني والألفاظ التي لا تؤمن نكايتها في الأذهان السليمة بالسراية، لم أزل أستضيء بنور أئمته، وأهتدي بمنار من بلغ الغاية فيه من علماء أمته، وأقنع من لحاق من برز في مضماره برؤية غباره، وأرضى من مآثر من صرفه على إيثاره بمشاهدة آثاره، فنمت علي نفحات آدابهم، ورفلت في فواضل ما تشبثت به من أهابهم، وكاتبوني فأجبت بعدم الرغبة في العتق في رقهم، و جاروني فوافقتهم في المضمار الأدبي، مع الاعتراف بتقدمهم وسبقهم، فقبلوا من كلامي ما لولا حسن إغضائهم لم يقبل، واسبلوا علي ما اضطرتني إليه المباشرة ستر تجاوزهم ولولا جميل اعتنائهم لم يسبل.
ولما فزت بالاجتماع بالجناب العالي الشيخي العزي، نفع الله به طارحته في فنون الأدب غير مرة، فرأيت من مواده بحراً لا يرى العبر عائمة، وشاهدت من بدائهه برقاً لا يفقد الري شائمة، وفاوضت منه إماماً تقطر الفصاحة من أعطاف قلمه، وتخطر البلاغة في أفواف كلمه، وتنزل المعاني المتمنعة من معاقل القرائح على حكمه، وتقف جياد البدائة حسرى دون الوسط في حلبة علمه، إن وشي الطرس فرياض، وإن أجرى النقس فحياض، أو نظم فقلائد، أو نثر ففرائد، لا يتجاسر المعنى المطروق أن يلم بفكره، ولا يقدم التخيل المسبوق على المرور بذكره، ولا يجوز زيف الكلام على ذهنه المنتقد، ولا يثبت عناء النظام لدى خاطره المتقد، فسمعت منه مقامات في العرفان قد وشى الأدب حبرها، وحقق الطلب خبرها، وزان الصدق لهجتها، وزاد الحق بهجتها، وحلتها البلاغة برقومها، وكللتها الفصاحة بشهبها ونجومها، تشرق القلوب بأضوائها، وترتوي النفوس بأنوائها، وتستضيء البصائر بأقمارها، وتغتذي السرائر بما تجتني في رياض اليقين من يانع ثمارها، ووقفت له على طرائق في التوحيد، أوضحها علمه لسالكها، وهدى فكره الطائف بكعتبها إلى لطائف مشاعرها ومناسكها، فمن أراد الصفا في سلوكه سعى من مروة الإخلاص إليها، ومن تعرض لنفحات الفتح الذي اقتصر في طرق تعبده عليها، مع بروزها في ألفاظ أرق مساغاً من الماء القراح، وأدق مسلكاً في الجسوم من الأرواح، وأجلى لليل الشك البهيم من صباحة محيا الصباح، إلى غير ذلك من أحاديث تكلم على بلاغتها وبلاغها، وأبان ما جهلته الأفهام الظامئة من أسباب مساغها، مما لم يبلغ بذلك إلا إرشاد الطالب، وتنبيه المفتقر إليها على ما أودع في أثنائها من الكنوز، وادخر في أرجائها من المطالب.
ولما وقفت على تلك البدائع، وفهمت ما تضمنته من النكت الروائع، وعلم مني أني ممن يعرف الدر وإن لم يملكه، وينتقد التبر وإن لم يسبكه، ولذلك أتعوض فيما أعانيه من الكتابة عن الدر بالخرز، وأكتفي عن أبكار المعاني الجليلة من العون المسنة بما هو سداد من عوز، سامني مع ارتفاع شأنه في هذه الصناعة، وإثرائه دوني من نفائس هذه البضاعة، أن أجيزه رواية نظمي الذي قدمت العذر في انتهاج طريقه، ونثري الذي أوضحت السبب في مصاحبة فريقه، ومكاتباتي التي أنشأتها بسبب الوقائع التي دعت إليها، وتواقيعي التي ارتجلت غالبها لحفز الدواعي الباعثة عليها، ولمالي في قواعد ذلك من تأليف وتصنيف، وانتخاب غني بشهرته عن التصريف، فسألته الإعفاء من هذه الدرجة التي قدره أرفع منها، ورغبت إليه في قبول القول بالموجب في إجازتي من فوائده التي هي أحق بأن يروي غريبها ويحدث عنها، فلم يعف من تلك الإشارة التي قصده بها الإحسان، ومراده أن ينظم سبح نظمي في سلك ما يؤخذ عنه من درر بدائعه الحسان.

فامتثلت أمره أعزه الله تعالى ونفع به وأجزته رواية ما يجوز لي وأتيه من مسموعاتي ومقروءاتي واختياراتي ومناولاتي، وما لي من نظم مختلف الأوضاع، مستحق، لولا ما يضوع فيه من المدائح النبوية، أن يضاع ولا يذاع، وإنشاء نوعته كثرة المباشرة، وكثرته المحافظة على الوظيفة والمثابرة، ونفحته فوائد المطارحة والمذاكرة، إلى ما يندرج في سك ذلك من تأليف حمل عليه التنقيب عن أسرار هاتين الصناعتين واختيار واختصار وانتقاء وانتقاد، وانتخاب تكلمت على ما فيه من معنى مستملح وأدب مستفاد، ورغبت إليه في أن يصلح من ذلك ما أغفله القلم، وزل فيه الفكر الذي عثرته أبلغ من عثرة القدم، إذ هو الملي بالإحسان في ذلك، الجدير بتوطئة ما تعذر سلوكه على السالك.
ومولدي بحلب في شعبان سنة أربع وأربعين وست مئة، وهي إذ ذاك للعلوم معالم، ولوفود الفوائد مواسم، وسمعت بها الكثير ولكن أين أصوله؟ وفقد لي في الوقعة ثبت كبير، ولكن كيف حصوله؟ فإن وجد في ذلك شيء في الأصول فهو أصل في هذه الإجازة، وإن تعذر وجوده فكم سلبت بضاعة فضل في أثناء مفازه.
وكتب: محمود بن سلمان في المحرم، سنة ست عشرة وسبع مئة.
عبد المؤمنكان مقداماً جريئاً، شجاعاً من الخير بريئاً، لا يهاب سيول السيوف إذا تحدرت، ولا يخاف من ورد الحتوف إذا تكدرت، بلا عقل بلا دين يردانه عن الردى بلا لب بلا ثبات يصدانه عما يوجب الصدى. قد ركب هو نفسه، وذهل عن وجود حسه. لا يخشى عاقبة، ولا له من الله تعالى مراقبة، يقدم على الليث في غابة، ويرد على المطلوب ولو أن فيه تمزيق إهابة.
ولم يزل في سكر جنونه وسوء ما يتوهم في ظنونه، إلى أن ركب الجمل مصلوباً، وانعكس حسابه عليه فأصبح مقلوباً.
كان هذا المذكور قد ورد القاهرة في أيام القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص، وأخذ يتعلق على خدمة الأميرين سيف الدين قوصون وسيف الدين بشتاك بواسطة طاجار الدوادار، ولم يكن في ذهن الناس منه شيء إلى أن دخل مع الأمير قوصون وبشتاك على السلطان في معنى النشو، على ما سيأتي في ترجمة النشو، وخاف السلطان شره، فأراد إبعاده، وولاه قوص، وتوفي السلطان الملك الناصر وهو في قوص. ولما خلع الأمير قوصون الملك المنصور أبا بكر بعث به إلى قوص، وكأنه سير إليه في السر بقتله، فقتله، وأخذ ما معه من الجواهر، ولما جاء السلطان أحمد بن الكرك وطشتمر والفخري طلبوه من قوص، وسمروه على جمل، وطافوا به شوارع القاهرة، وشمت به الناس وسبوه ولعنه، واعترف وهو على الجمل مسمر أنه هو الذي جرح القاضي شرف الدين النشو، فقال: يا أهل مصر، أنا ما أبالي بتسميري وقد قتلت ملك الكتاب وملك الترك في بلادكم، فأنا الذي جرحت النشو، وأنا الذي عمل عليه حتى أمسك وقتل، وأنا قتلت المنصور أبا بكر سلطانكم وابن سلطانكم، أو كما قال.
وكان تسميره في أواخر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
وكان المذكور رافضياً، والله أعلم بحاله وبما صار إليه في ماله.
عبد الواحد بن منصورابن محمد بن المنير، العلامة عز القضاة فخر الدين الجذامي الإسكندري صاحب التفسير.
سمع من السراج ابن فارس، وتفقه بعمه ناصر الدين، وله نظم ونثر، وعمل أرجوزة في السبع.
وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة في يوم السبت رابع جمادى الأولى.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
عبد الواحد بن عبد الحميدابن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن محمد ابن المسلم بن الحسن بن هلال بن الحسن بن عبد الله بن محمد، الشيخ الفقيه الفاضل الأصيل، مخلص الدين أبو المكارم، ابن الشيخ عز الدين بن فخر الدين.
سمع من جده فخر الدين في سنة ست وخمسين وست مئة، وسمع من ابن أبي اليسر، والنجم ابن النشبي. وأجاز له إبراهيم بن خليل، وعبد الله بن الخشوعي، وعبد الحميد بن عبد الهادي وجماعة. حفظ التنبيه. وكان يكرر عليه إلى آخر وقت، واشتغل على الشيخ تاج الدين.
وكان له شعر وخدم في الجهات الدينية.
وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
وكان عنده تعفف وانقطاع.
عبد الواحد بن عليابن أحمد بن محمد بن عبد الواحد، شمس الدين القرشي الحنبلي.

أخبرني من لفظه شيخنا أبو حيان، قال: كان المذكور موصوفاً بالصلاح، ويذكر عنه أنه اجتمع بالخضر عليه السلام لما سافر عن جبل لبنان واشتاق إليه، وأنشد لنفسه:
لعلك يا نسيم صبا زرود ... تعود، فقد ذوى للبين عودي
ويا نفحات أنفاس اللخزامى ... على المشتاق من لبنان عودي
قال: وأسمع الحديث وسمعنا عليه بالحكر، وكان فيه مقيماً.
عبد الواحد القيروانيأخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين قال: كان عندنا بالقاهرة، وله نظم حسن، ورحل إلى الحجاز، واستوطن بمكة، وصحب ملكها أبا نمي الحسيني. وله فيه أشعار حسنة، أجاد فهيا غاية، ونظم بها نظماً كثراً، وتعرض في نظمه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بها أشنع قتل.
ومن شعره بالقاهرة مما أنشدنا بعض أصحابنا:
غليل أسى لا يهتدى لمكانه ... عزيز أسى لا يرتجى من سقامه
خذوا إن قضى في الحب عمداً بثأره ... أخا البدر يبدو في غمام لثامه
ورفقاً به لا ناله ما يشينه ... وإن كان أسقى الصب كأس حمامه
غزال تضاهيه الغزالة في الضحى ... وتشبهه في البعد عن مستهامه
يموت جني الورد غماً بخده ... ألم تنظروه مدرجاً في كمامه
عبد الوهاب بن عمرالإمام الزاهد النحوي ظهير الدين بن عمر بن عبد المنعم بن هبة الله ابن أمين الدولة الحلبي الحنفي الصوفي.
سمع من حيية الحرانية، وأجاز له شعيب الحراني، وابن الجميزي.
وحدث، وأخذ عنه محمد بن محمد بن طغريل وجماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة أربعين وست مئة.
عبد الوهاب بن عمرأخو الشيخ صدر الدين بن الوكيل.
كان أسود الجلدة، لأن أمه كانت حبشية، تفقه وحضر المدارس، ثم إنه انسلخ من ذلك، وتمفقر وتجرد تجرد العالم.
وتوفي رحمه الله تعالى شاباً، سنة تسع وتسعين وست مئة.
عبد الوهاب بن فضل اللهالقاضي الكبير الخبير، الكاتب المدبر شرف الدين أبو محمد، كاتب السر، وصاحب ديوان الإنشاء بمصر والشام.
كان كاتباً مترسلاً، حسن المقاصد متوصلاً، ما كتب بين يدي الأتراك مثله، ولا عرف مقاصدهم وأتاهم كما في نفوسهم مثل بنانه الذي فاض وبله، يتحيل في عبارته، ويتجنب مستثقل الألفاظ، ويتحيد عن الألفاظ الغربية التي تهجر من الأعراب، فلا يخرج الكتاب من يده إلا عذباً فصيح الألفاظ، ظاهر المعاني، لا يحتاج إلى التنبيه والإيقاظ. يكتب خطاً لو كان للحدائق يوماً ما احتاجت للأزاهر، أو للغواني ما تحلت بالجواهر، متعه الله بحواسه الخمس، وكان يسمع البعيد ويسمع الهمس. وكان مخاديمه يحترمونه ويعظمونه، ويتوخون كبار الدر لأجل الثناء عليه وينظمونه. وكان كاملاً في فنه، حاملاً أعباء ديوانه، إذا انفرد لا تثنه.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه بريد حينه، و حل عليه من الأجل وفاء دينه.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الثلاثاء ثاني شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولده في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
وكان في أول أمره يلبس القماش الفاخر، ويأكل الأطعمة المنوعة الشهية، ويعمل السماعات الطيبة، ويعاشر الفضلاء مثل الشيخ بدر الدين بن مالك وغيره. ثم إنه انسلخ من ذك كله لما داخل الدولة وقتر على نفسه واختصر في ملبوسه، وانجمع عن الناس انجماعاً كلياً.
وكان قد سمع في الكهولة من ابن عبد الدائم، وأجاز له ابن مسلمة وغيره.
وتنقل إلى أن صار صاحب ديوان الإنشاء بمصر مدة طويلة، وما كتب قدام أحد إلا وعظمة واحترامه، مثل حسام الدين لاجين، والملك الأشرف، والملك الناصر محمد بن قلاوون. والأمير سيف الدين تنكز كان يذكره كل قليل، ويجعل أفعاله قواعد يمشي الناس عليها.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16