كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

كأن الأيام قواف اندمجت في الليل، أو النجوم أقاح ولكن غطاها تراكم السحاب بالذيل، أو كأن الله جعل الزمان سرمداً، فما يتعاقب فيه شمس ولا قمر، ولا تصفو لجة الأفق بضوء ولا ترميها الدياجي بكدر؛ قد تزاحمت الغياهب على المواقيت بالمناكب وجهلت المدد فيا وحشتا لحاجب الشمس ومحيا القمر وعيون الكواكب، أكل هذا تشريع تشرين، وشره شره الذي نتجرع من أمره الأمرين، وشهرة شهره، فيا أيام كانون إذا جئت ماذا تبيعين وتشرين، أما المساكن فأهلها مساكين، وأفواههم من الحزن مطبقة فما تفتحها السكاكين، قد انتبذ كل منهم زاوية من داره، وتداخل بعض في بعض لتضمه بقعة على مقداره، هرباً من توقيع أكف الوكف، وخوفاً من ركوع الجدار وسجود السقف، وما يعتقد المملوك أن في كانون هذه الجمرات، ولا أن ساباط سباط وأذى آذار يرمي القلوب بهذه الحسرات، وتمام التعثير في الركوب إلى دار السعادة، والكتابة التي صارت في هذا الزمان زيادةً في نقص السيادة، واتساع هذه الأهوال، وضيق ذات اليد مضاف إلى ضيق النفوس، وبصاق هذا الثلج في وجه الضاحك منا والعبوس، وسكر هذه الميازيب التي لا تبوك إلا على الرؤوس، وأشغال الديوان التي تكاثر المطر، ولا تبلغ الغاية من الوطر، فنحن من الديوان في جامعة لا جامع، وباب البريد على عدد الساعات ودقه هامع وبرقه لامع، لا يفتر وروده، ولا يزال يصل حديده، وتصل وفوده، وكل كتاب يصل معه يتفرع منه إشغال عدد حروفه، وتطلب في الوقت الحاضر، فلو كانت بالطابع لانهارت جوانب حروفه، وصاحب الديوان في تنفيذ أسرع من هذه البروق، وأنفذ من السهم في القضاء الذي ليس فيه ما يصد ولا ما يعوق، فهو إذا دبر المهمات نجز، ودمر العداة، وجنز، وهذا العيد أقبل، وما لنا بتكاليفه قبل، وكل من يختص بشيء منها يلحظك بطرف متخازر كأنهما به قبل، والاستعانة بالله على هذه الشرور التي اتصلت نقط خطها، والفرار إليه من هذه الخطوب التي نعجز عن شيل سيلها وحد حطها، والله يرزق مولانا وإيانا حلاوة الصبر، ويجعل العدو بين جانحتي قبر، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وكتبت له توقيعاً لما دخل ديوان الإنشاء، لوحت فيه في غير موضع بلقب كان يلقب به، ونسخته في الجزء السادس والعشرين من التذكرة التي لي، وكتبت له أيضاً توقيعاً بنظر قمامة.
وبيني وبينه مكاتبات وبداءات ومراجعات نظماً ونثراً، وقد أوردتها في كتابي ألحان السواجع.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
ثغر من قد هويته يهدي ... في ظلام الدجنّة الحالك
بالثريّا شبّهته ظلماً ... والثريا أقلّ من ذلك
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أنا القليل العقل في صرف الذي ... أملكه في كلف المشارب
ما نلت من تضييع موجودي سوى ... تصفية الكاسات في شواربي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أعجب ما في مجلس اللّهو جرى ... من أدمع الرّاووق لمّا انسكبت
لم تزل البطّة في قهقهةٍ ... ما بيننا تضحك حتى انقلبت
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يا من يلوم في التصابي خلنّي ... فأذني عن الملام قد نبت
تصفية الكاسات في شواربي ... أضحكت البطّة حتى انقلبت
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وصفراء حال المرج يصبغ ضوءها ... أكفّ الندامى وهو في الحال ناصل
وتهفو بألباب الرجال لأنها ... دويهيةٌ تصفرّ منها الأنامل
وأنشدني من لفظه لنفسه:
شممت نسيم زهر الّلوز لمّا ... خرجنا بكرةً ننفي السجونا
فتحت الدوح شاهدنا بدوراً ... وفي أعلاه عاينّا غصونا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وأهيف كالغصن المرنّح شاقني ... فطار إليه القلب من فرط شوقه
رأى البدر يحكي وجهه وهو سافرٌ ... فحمّله من جوره فوق طوقه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
سرت من بعيد الدار لي نسمة الصّبا ... فقد أصبحت حسرى من السير ظالعه
ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ... ومن تعبٍ أنفاسها متتابعه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
غصنٌ رشيق القدّ لان معاطفاً ... نشوى وبالشّعر المرّجل أورقا

وبمثل بدر التّمّ أينع فانظروا ... هذا القوام أجلّ أم غصن النّقا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يا صاحباً ما زال من إنعامه ... لثياب راجيه المؤمل رافي
قد قطّعت فرجيّتني حتى لقد ... ظهر القطوع بها على أكتافي
وكان يوماً هو والشيخ محمد الغزي جالسين في الجامع الأموي، عند الشيخ جمال الدين محمد بن نباته، وكل يذكر مساوئ صاحبه، وينشد هجوه فيه. فقال بدر الدين الغزي: لا قلت أنا، ولا قلت أنت، في هذه الساعة ننظم بديهاً يكون هجواً، وأطرق قليلاً ثم أنشد:
يا بن أبي طرطور خلّ الهجا ... وخذ كلاماً راق في حسنه
أنا وأنت اثنان كلٌّ غدا ... منا يروم الفضل في فنّه
فواحد يكذب في قوله ... وآخر يكذب في ذقنه
وأنشدني من لفظه لنفسه موشحةً عارض بها موشحة ابن سناء الملك المشهورة، وأجاد:
أذكى الهوى وهاجه برد اللمى ... في ثغر ريم مايس القدّ
يحميه أن أرومه لحظٌ أرى ... فرط الفتور سيفه الهندي
ظبيٌ رمى فؤادي ... من لحظه بسهم
وقد حمى رقادي ... لمّا أباح سقمي
فالطرف للسّهاد ... وللسّقام جسمي
واعجب من انقيادي ... إليه وهو خصمي
لكنّها اللّجاجه ترمي بها ... عقل الحليم سورة الوجد
إياك أن تلومه فاللوم في ... هذي الأمور قلّما يجدي
أفديه ظبي أُنس ... ألمى الشفاه أحوى
حشاشتي ونفسي ... مرعى له ومثوى
كذّبت فيه حسّي ... إذ لم تلنه شكوى
وجسمه بلمسي ... عند العناق يطوى
يا حسن الاندماجه في خصره ... المضنى السقيم وهو في البرد
والقامة القويمه بالخّد ... كالغصن النضير ناضر الورد
للّه منه طرف ... يدمي القلوب لحظا
ووجنة تشفّ ... ولا تنيل حظّا
يرقّ إذ يرفّ ... قلبي لها ليحظى
تريك حين تصفو ... جسماً يخال فظّا
كالراح في الزجاجه تزهى بها ... كف النديم عندما تبدي
أشعةً عظيمه تندى إذا ... شيمت وتوري جذوةً تهدي
يا لوعة الغرام ... زيدي ويا جفوني
بأدمعي الهوامي ... جودي ولا تخوني
فهتف الحمام ... قد هيّجت شجوني
وكلّ مستهام ... مستأنف الحنين
لا تنكر انزعاجه للبرق في ... الليل البهيم مقلة تهدي
إلى الحشا السليمه خفقاً ... أباتته سميري ليلة الصّد
دع ذا وقل مديحا ... في أحمد بن يحيى
من لم يزل مزيحا ... أعذار كلّ عليا
منتسباً صريحا ... آخرة ودنيا
تخال من يوحى ... في الدست حسن رؤيا
إذا أرى ابتهاجه للجود ... والداعي المضيم ساعة الجهد
فالكف منه ديمه والوجه ... شمسٌ ذات نور في سما المجد
للسّر منه حصن ... على الورى مطلّ
ليست به تظنّ ... عوراء تستدلّ
غاراته تشنّ ... على العدى فتبلو
أخبارهم ويعنو ... منهم لها الأجلّ

فمن رأى هياجه سوّاه ... بالليث الكليم وهو في السّرد
ونفسه الكريمه في السلم ... كالغيث المطير ساعة الرّفد
وغادةٍ ثنتني ... أعطافها الرشاق
لكنّها أرتني ... أن الدّما تراق
بالصدّ والتجني ... وبعدها الفراق
قالت فرغت عني ... والصحبة اتفاق
فقلت بانحراجه يا ست خليني ... بشوم وأنجزي وعدي
قالت أنا مقيمه فاعمل وهت لي ... قلت زودي فالذهب عندي
حسن بن عمر بن عيسى بن خليل الكرديالشيخ أبو علي مسند الديار المصرية في آخر عمره.
سمع حضوراً من ابن اللتي مسند الدارمي ومسند عبد بن حميد وجزء أبي الجهم والمئة السريجية، وغير ذلك. وسمع من مكرم بن أبي الصقر الموطأ، وسمع من السخاوي، وقرأ القرآن على السخاوي، ثم إنه انتقل إلى مصر وسكن الجيزة، وكان يؤذن ويبيع الورق على باب الجامع ولم يعرفه أحد، وكان بيده ثبت فظهر أمره في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وفرح به أناس، وأخذوا عنه، ثم إنه ثقل سمعه فشق السماع عليه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة عشرين وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة ثلاثين وست مئة.
حسن بن عمر الصاحب بدر الدينناظر الخاص بدمشق المعروف بابن النابلسي.
كان في وقت قد باشر نظر الخاص بالقاهرة في أواخر أيام الملك الناصر حسن دون الشهر، ولما طلب الإقالة الصاحب تاج الدين موسى بن علم الدين أبي شاكر من دمشق أجيب إلى سؤاله، ورسم للصاحب بدر الدين بن النابلسي فوصل إلى دمشق في ثاني عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وباشر دمشق. فما أحمد الناس مباشرته. وكان يدعي أنه فقيه على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وأقام بدمشق إلى أن عزل بالصاحب سعد الدين بن التاج إسحاق في أوائل شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبع مئة.
وأقام في بيته بطالاً بدمشق مدة تزيد على الشهرين، ثم طلب إلى مصر فتوجه إليها.
وتوفي هناك في طاعون مصر سنة أربع وستين.
وكان قد رسم له في وقت بكتابه الإصطبلات بمصر ناظراً. وكان الأمير سيف الدين بكتمر المومني يومئذ أمير آخور كبير، فقيل له: إن هذا أحمق كبير وما أنت قدره، فلما حضر إليه بالخلعة عراه إياها، ورسم بقتله بالمقارع وسأله عن قضايا - نزهت هذا الكتاب عن ذكرها لفحشها - فامتنع، ثم إنه أقر له بها، فألبسه الخلعة واستمر به.
وأنشدني من لا اسمي فيه:
قل لهذا الصاحب المولى الذي ... سار فينا سيرةً لم تحسن
أنت فينا كافر النّفس فقل ... أحسن اللّه خلاص المومني
الحسن بن محمد بن هبة اللهشرف الدين قطنبه، بضم القاف والطاء المهملة وسكون النون وبعدها باء ثانية الحروف وبعدها هاء: الأصفوني.
كان شاعراً كثير المجون، عذب الينبوع بري من الأجون، ربي بأصفون، ولم يكن بين الصفا والحجون، كثير التنديب، غزير التذريب، مقبول المحيا، من رآه خدمه وحيا، ظريف الحركات، يكون في الدرجات، وينحط منها إلى الدركات.
كان معاصره نبيه الدين عبد المنعم الشاعر، وهو أيضاً ماجن ظريف، قادر على التلعب بالكلام والتصريف، تدور بينهما محاورات ومفارقات ومحاورات أشهى من نقائض جرير والفرزدق، وأسح من الغمام الصيب وأغدق، وكانا يشبهان بالجزار والوراق، وللزمان بوجودها ضياء وإشراق.
ولم يزل قطنبة على حاله إلى أن جاءه ما لا له به قبل، وكسر فخارته الذي سوى طينها وجبل.
وتوفي رحمه الله تعالى... .
صلى قطنبة هذا صلاة عيد الأضحى، وإلى جانبه آخر فلما ذكر الخطيب قصة الذبيح بكى ذلك الشخص زماناً طويلاً، فالتفت إليه قطنبة، وقال له: ما هذا البكاء الطويل ؟ أما سمعته وهو يقول في العام الماضي إنه سلم وما أصابه بشيء.
واتفق مرة أن وقع بينه وبين أهل بلده، وحضر الأمير علاء الدين خزندار والي قوص وإخميم فقصد شكواهم، فدخلوا عليه فلم يرجع، وكان مع الوالي شمس الدين الآمدي الناظر. وكان شيعياً، فلما حضروا عند الأمير قفز قطنبة وقال: يا آل أبي بكر، واغتاظ الناظر، وأنشد قطنبة:

حديث جرى يا مالك الرقّ واشتهر ... بأصفون مأوى كلّ من ضلّ أو كفر
لهم منهم داعٍ كتيسٍ معمّمٍ ... وحسبك من تيسٍ تولّى على بقر
ومن نحسهم لا كثّر اللّه منهم ... يسبّ أبو بكر ولا يشتهى عمر
فخذ ما لهم لا تختشي من مآلهم ... فإن مآل الكافرين إلى سقر
فقال له الناظر: أنت تشاور، ما أنت منهم ؟ وصرفهم فما حصل له قصده، فقالوا له: ما قلنا لك نصطلح معك ما فعلت. فقال: أنا ما عرفت أن هذا المشؤوم منكم.
وكان قد تزوج بامرأة تحت الحجر، وكان لها منزل باعه أمين الحكم وخلى من اشتراه له، فقدم قطنبه إلى الأمير علاء الدين وأنشده:
سبت فؤادي المعنّى من تثنّيها ... فتانةٌ كلّ حسن مجمعٌ فيها
أنسيّة مثل شمس الأفق قد بزغت ... وحشيّةٌ في نفورٍ خوف واشيها
منها:
قهرت بالجانب البحري طائفةً ... فولّ وجهك يا مولاي قبليها
عندي يتيمة تركيٍّ ظفرت بها ... لها من اللّه جدرانٌ تواريها
تعاونوا مع أمين الحكم واعتصبوا ... أخفوا وثائق فحوى خطهم فيها
حتى أُبيعت عليها نصف حصتّها ... ما حيلتي وأمين الحكم شاريها
ما زلت أفحص عن تلك الوثائق يا ... مولاي حتى أبان اللّه خافيها
وها هي الآن عندي وهي ثابتةٌ ... فامض الولاية فيمن كان يؤذيها
ومات له صاحبان كانا خصيصين به. فقال الشهاب أحمد بن الحسين الأصفوني: ما لقطنبة تأخر عنهما، فبلغه ذلك، فقال:
ما تأخرت عنكما عن ملالٍ ... غير أني أرم صيد الشّهاب
فأنا مثل فارس البحر لا بدّ ... بظفري أصيده أو بنابي
وكان قد وقع بينه وبين نجم الدين بن يحيى الأرمنتي، فهجاه بقصيدة منها:
يا إلهي أرحتها منه في الح ... كم أرحها من ابنه في الخطابة
فقال له الخفراء: يا قطنبة، الباسرية جاؤوا من أرمنت يريدون قتلك، أرسلهم ابن يحيى وما نقدر على ردهم، انج بنفسك، فخرج منها وكان آخر العهد به.
حسن بن محمدالشيخ الإمام الفاضل البليغ المنشئ الكاتب نجم الدين أبو محمد بن الشيخ كمال الدين القرشي القرطبي الصفدي الشافعي الخطيب بصفد.
كان فارساً منبر، وإمام من برى قلما ومن بر، ناظماً ناثرا، يجري في ميدان البلاغة فما يرى جواد قلمه عاثرا. كتب الإنشا، وتصرف فيه كيف شا، مع أمانة لا يرى من التكلف في وجهها كلف، وديانة لا يلمح في رونقها تصنع من صلف، وكرم بموجوده الحاضر وود يخجل من حسنه خد الورد الناضر، وصدق لهجه، وقول حق ولو أن فيه تلاف المهجه.
وكان شعاره أشعريا، وعلمه عن التقليد عريا، فكم كان عنده من التقليد أدلة وبراهين إذا أوردها كأنها له طبيعة وجبله، ومسائل أصول إذا سردها قلت هذه سحائب مستهله، لم أر بعده من يقول: أيها الناس أفصح منه، ولا من خطب زان منبره ولم يشنه، يؤدي الألفاظ بتجويد حروفها، ويذكر القلوب القاسية بما نسيته من خطوب الدنيا وصروفها، كم جعل العبرات على الخدود وهي هوامي هوامع، وكم غادر العيون وهي دوامي دوامع، شدت الفصاحة لحييه، وسدت البلاغة نحييه، تزور في الموعظة حدقتاه، وتحمر لفرط الحرص على القبول وجنتاه، كأنه منذر جيش، أو منكر طيش.
وكانت له في البحث سلطه، وغلظة على خصمه لا تصحف بغلطه، وله قدرة على التعليم، وفراسة في وجه التلميذ إذا أخذ قوله بالتسليم، يعلم من الطالب إذا فهم، ولا يخفى عليه إذا بهم، فلا يزال يغير له الأمثلة، ويدير الأسئلة إلى أن تتكشف عنه الغيابه، ويظهر له أنه حصل على العنايه.
ولم يزل يذكر بوعظه ويحبر بلفظه إلى أن رمي تفيهقه بالصمات، ونزلت بذويه سمات الشمات.
وتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده بالكرك سنة ثمان وخمسين وست مئة.

كان والده الشيخ كمال الدين خطيب قلعة صفد، وكان ينوب عن والده ويكتب الإنشاء، ويوقع عن النواب بصفد، فلما قدم الأمير سيف الدين بتخاص إلى صفد نائباً حضر معه القاضي شهاب الدين أحمد بن غانم، وكان زين الدين عمر بن حلاوات قد قدمه الشيخ نجم الدين وجعله يكتب عنده، فما زال يسعى إلى أن وقع الاتفاق بينهم وبين القاضي شرف الدين النهاوندي وغيره، وقرروا الأمر مع النائب إلى أن قطع الشيخ نجم الدين من التوقيع، وبقي بيده خطابة الجامع الأموي، ثم إنهم صادروه، حتى توجه خفية إلى دمشق، وكان الأمير سيف الدين بلبان بدمشق مشد الدواوين، وهو يعرفه من صفد، فاستخدمه موقعاً بدمشق، وكتب قدامه، وكان القاضي محيي الدين بن فضل الله يأمن إليه ويقدمه ويستكتبه في السر وغيره، وأضيف إليه خطابة جامع جراح بدمشق. ولما تولى الأمير سيف الدين كراي نيابة دمشق كان يعرفه من صفد ويركن إلى أمانته وعفته، فقلده الأمر وغدقه به، فتعب بذلك تعباً مفرطاً ونصح مخدومه، فكان لا يعلم لا من يده، فعادى الدماشقة ومقتوه، ولما أمسك كراي اختفى وسلمه الله منهم لما سلكه من الأمانة والعفة. أخبرني من لفظه قال: رددت ليلةً مئتي دينار، ورهنا تلك الليلة طاسةً على زيت القنديل.
ولما حضر الأمير جمال الدين نائب الكرك إلى دمشق أغروه به، وأرادوا منه الإيقاع به، فقال: أخذ لأحد شيئاً ؟ فقالوا: لا، قال: فما أصنع به إذا نصح لمخدومه. ثم إنه جهز إلى صفد خطيباً وموقعاً، وكان زين الدين بن حلاوات قد انفرد بالأمر وتمكن من نواب صفد، ودخل إلى النائب وقرر معه ما أراد، فلم يمكنه من مباشرة شيء، فبقي في صفد إلى أن حضر له توقيع ثان، وكلما حضر له توقيع عطله، إلى أن أشركوا بينهما في التوقيع والخطابة، فأقاما مدة، فوقع بينهما، فطلبا إلى دمشق، وقرر الأمير سيف الدين تنكز أن يخيرا وينفرد كل واحد بوظيفة، فاختار الشيخ نجم الدين خطابة القلعة والمدينة، واستقر زين الدين بن حلاوات في التوقيع، فأقام يخطب ويشغل الناس تبرعاً، وتخرج به جماعة فضلاء، وقل من قرأ عليه ولم ينبه، ولم أر مثل في مبادئ التعليم، كان يفتق أذن المشتغل، ويوضح له طرق الاشتغال، ولم أر مثله ف تنزيل قواعد النحو على قواع المنطق، وكان يحب إفساد الحدود والمؤاخذة فيها والرد عليها والجواب عنها.
وممن قرأ عليه أولاً العلامة القاضي فخر الدين المصري وغيره.
وكان لي منه - رحمه الله تعالى - نصيب وافر من المحبة، وكنت أجد منه حنواً كثيراً وبراً، ولم أقرأ على أحد قبله، وكان شديد المحبة لأصحابه، شغوفاً عليهم صادق اللهجة، مفرط الكرم، وكانت بينه وبين الشيخ صدر الدين قرابة، وكان هشاً بشاً بساماً، وعمته مليحة، ولم أر أعف يداً ولا فرجاً منه، وكان خطه مليحاً ونظمه سريعاً، ونظمه أرشق من نثره، ولم أره يخطب بغير الخطب النباتية. وكان جيد المشاركة أشعري العقيدة، شافعي المذهب، يحب الكتب ويبالغ في تحصيلها ويحرص على المنافسة فيها، ولكنه كان مقلاً من الدنيا ماله غير علومه. قال: ما أعرف أنه وجبت علي الزكاة في عمري. رأيته بعدما مات رحمه الله في المنام بمدة، فقمت إليه وقبضت على يده بعدما قمت إليه وصافحته، وقلت له: قل لي ما الخبر ؟ فقال لي: لا تعتقد إلا وحدانيته، فقلت له: هذا شيء قد جبل عليه اللحم والدم، فقال: ولا بأس مع الفاتحة سورة أخرى من القرآن، وقصيصات الناس، فعلمت بذلك أنه قد نصحني حياً وميتاً، لأنه كان في حياته رحمه الله تعالى يتوقف في توقيعه ويتحرى ويتحرز كثيراً فيما يكتبه، ولا يكتب إلا ما هو سائغ، فكان صاحب القصة يتعذر عليه مطلبه.
ولما توفي رحمه الله تعالى كنت في حلب فحصل لي بسببه ألم عظيم إلى الغاية، وكتبت إلى ولده كمال الدين محمد وإلى غيره من الأصحاب مراثي كثيرة نظماً ونثراً، ثم جمعت ذلك وسميته ساجعات الغصن الرطيب في مراثي نجم الدين الخطيب. ومما نظمته فيه قولي:
يا ذاهباً عظمت فيه مصيباتي ... بأسهمٍ رشقت قلبي مصيبات
قد كنت نجماً بأفق الفضل ثمّ هوى ... فاستوحشت منه آفاق السّموات
سبقت من بات يرجو قرب خالقه ... ولم تزل قبلها سبّاق غايات
بكى الغمام بدمع الودق مذ عقدت ... حمائم البان من شجوي مناحات

ولطّم الرّعد خدّ السّحب وانتشرت ... ذوائب البرق حمراً في الدّجنّات
أصمّ نعيك سمعي من تحقّقه ... وهان ما للّيالي من ملمّات
جنحت فيه إلى تكذيب قائله ... تعلّلاً بالأماني المستحيلات
وكدت أقضي ويا ليت الحمام قضى ... حسبي بأن الأماني في المنيّات
وراح دمعي يجاري فيك نطق فمي ... فالشان في عبراتي والعبارات
إن أبدت الورق في أفنانها خطباً ... فكم لوجدي وحزني من مقامات
جرحت قلبي فأجريت الدموع دماً ... ففيض دمعي من تلك الجراحات
لو كنت تفدى رددنا عنك كلّ أذىً ... بأنفسٍ قد بذلناها نفيسات
فآه من أكؤسٍ جرّعتها غصصاً ... وقد تركت لنا فيها فضالات
نسيت إلاّ مساعيك التي بهرت ... عين المعالي بأنوارٍ سنيّات
ومكرماتٍ متى تتلى مدائحها ... تعطّر الكون من ريّا الرّوايات
وفضل حلم تخف الراسيات له ... وعز علم علا السبع المنيرات
وكم مناقب في علمٍ وفي عملٍ ... أضحت أسانيدها فينا صحيحات
ومنها:
فأين لطفك بي إن هفوةٌ عرضت ... كأنّما حسناتي في إساءاتي
وأين فضلك إن وافى أخو طلبٍ ... فتخجل الغيث من تلك العطيّات
نبكي عليك وقد عوّضت من كفنٍ ... أُلبسته بثيابٍ سندسيّات
وما تلبّثت في مثوى الضريح إلى ... أن صرت ما بين أنهار وجنّات
تصافح الحور والولدان منك يداً ... كم أظهرت في النّدى والفضل آيات
من ذا يعيد دروس النحو إن درست ... ربوعها بالعبارات الجليّات
ومن لعلم المعاني والبيان ومن ... يبدي بعلميهما سرّ البلاغات
ومن يزفّ عروس النظم سافرةً ... قد حلّيت بعقودٍ جوهريّات
إذا أُديرت على أسماعنا خلبت ... ألبابنا بكؤوسٍ بابليّات
ويرقم الطّرس أسطاراً فنحسبها ... سوالفاً عطفت من فوق وجنات
ومن إذا بدعةٌ عنّت يمزّقها ... سطا براهينه بالمشرفيّات
وإن أتت مشكلات بعدما اتضحت ... وأقبلت كالدياجي المدلهمات
نضى نصول أصول الدين لامعة ... فيقطع الشّبهات الفلسفيّات
ومن يفيد الورى في علمه حكماً ... تجلى ويبدي رياضاً في الرياضات
ومن يذيب دموع العين من أسفٍ ... إذا ارتقى منبراً بين الجماعات
ويوقظ الأنفس اللائي غدت سفها ... من لهوها والتّصابي في منامات
وتقتفيه إلى العرفان تاركةً ... قبيح ما ارتكبته من غوايات
ليهن قبرك ما قد حاز منك فما ... ضمّت حشا كلّ قبرٍ طاهر الذات
وجاد تربتك الغرّاء ساريةٌ ... تحلّ فيها العقود اللولويات
وكلّ يومٍ تحيّاتي تباكرها ... فتفضح النّسمات العنبريات
وكتب هو يوماً إلي وقد فارقته متأذياً:
باللّه لا تغضب لما قد بدا ... فأنت عندي مثل عيني اليمين
ما أتعب النفس سوى من غدا ... يجحد ما أوليته أو يمين
وأنت عندي جوهرٌ قد صفا ... من دنس الذّمّ نفيسٌ ثمين
ووالذي يعلم ما قلته ... إخبار من أخلص في ذي اليمين
ما حلت عن حسن الوفا في الهوى ... وأنت في هذا المكين الأمين
نسأل الله أن يحرس تلك الروحانية الطاهرة من الكدر إن شاء الله تعالى، فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
بررت فيما قلت يا سيّدي ... ولست تحتاج إلى ذي اليمين
واللّه لم أغضب وحاشى لمن ... أراه عندي مثل عيني اليمين
ولم يكن غيضي إلاّ لمن ... يمين عن طرق الوفا أو يمين

ويفتري الباطل في قوله ... عني وليس الناس عنه عمين
ويظهر الودّ الذي إن بدا ... ظاهرة فالغشّ فيه كمين
فغثّه غثّى نفوس الورى ... ممّن ترى والسمّ منه سمين
وكتب إلي من صفد وأنا بدمشق كتاباً نظماً ونثراً عدمته، وكتبت الجواب في سنة ثمان عشرة وسبع مئة:
تذكّرت عيشاً مرّ قدماً وقد حلا ... وربعاً عمرناه بلهوٍ وقد خلا
فهاجت لي الذّكرى غراماً ألفته ... وشنّت على الأحشاء حرباً مقسطلا
وللّه صبري في الرّزايا فإنّه ... جميلٌ ولكن خان فيكم وبدّلا
وقيل أتبكي في دمشق من الأسى ... وإن حلّ جيش الهمّ فيه ترحّلا
زماناً تقضّى أو ربوعاً تطاولت ... عهودك منها وانمحت بيد البلى
ففاضت جفوني بالدموع لقولهم ... وقلبٌ له أبكى حبيباً ومنزلا
وهل نافعي أنّ الرياض تدبّجت ... بساحتها أو صوت قمريّها علا
وللورق من زهر الرياض مجامرٌ ... إذا حركت عوداً تحرّق مندلا
وقد راح منها الدوح لابس حلّة ... وصاغ من الأزهار تاجاً مكلّلا
وغنّى حمام الأيك ثمّ تراقصت ... غصونٌ سقتها الريح كاساتها ملا
فمالت سكارى ثمّ صفّق جدولٌ ... فألقت عليها من معاطفها الحلى
فمن جدولٍ أضى حساماً مجرّدا ... ومن هيف أغصانٍ تحرّك ذبّلا
وللبين في الأحشاء ما لو أقلّه ... يثير قليلاً ملّ ثمّ تململا
كأنّ اجتماع الشّمل عقدٌ تعلّقت ... بأسلاكه كفّ النّوى فتفصّلا
ففارقت مخدوماً حمى اللّه ربعه ... من الدهر يوماً ما أبرّ وأجملا
سقاني طفلاً قهوة العلم والنهى ... وزاد إلى أن طال قدري واعتلى
وألبسني لمّا اتّصفت برقّة ... من الفخر والعلياء مجداً مؤثّلا
وكم نعمٍ لو رمت تعدادها أبت ... وكانت من الإحصاء للذرّ أسهلا
إذا غبت عن أبوابه فهباته ... إليّ كأنفاس النّسيم توصّلا
وإن قذفتني غربةٌ كان جوده ... سحاباً يوافيني فأعطى ونوّلا
ووافى في كتاب منه من بعد جفوة ... فأضحى به دمعي على الخدّ مرسلا
لقد أنشأته راحةٌ كفّ كفها ... من الخطب ما أعيى الأنام وأعضلا
تمنى ملثّ الغيث لو كان بطنها ... وودّت بها الأنهار لو كن أنملا
على أن كتبي لا تزال كتائباً ... أُلاقي بها في ساحة الوجد جحفلا
أقبّل فيها الأرض أعني مؤدّيا ... بذلك فرضاً ما أراه تنفّلا
وإن كان في الأحشاء ما يمنع الفتى ... من الوجد والتّبريح أن يترسّلا
فلا زال محروس الجناب مظفّرا ... بأعدائه ما هيّج الشوق مبتلى
فكتب الجواب عن ذلك رحمه الله تعالى: يقبل الباسطة ألهمها الله الوفاء لمن وفى بعهوده، وأطلع نجمها المتقد في مطالع سعوده، وأعاد غصنها إلى منبت سما منه رافلاً في خلع بروده، مثمراً بدوحة منشئه الذي ما يفتح ورده إلا لما سقي ماء ورده عند وروده، وينهي بعد وصف شوقه الذي تطاول عليه ليله فادلهما، ولمع في دجنته بارق اللواعج فأضرم بين الجوانح نيران الخليل لما، وأجرى من جفنه القريح طوفان نوح فلأجل ذلك هجره الوسن ومن بعد الهجران به ما ألما، وكابد فؤاده هما، ووالذي يعلم خائنة الأعين بالسلو ما هما، وعاهده على الأخذ بسنة الصبر الجميل فلم يف بعهد " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً " ، وأراد القلم أن يصف ما وجد بعد البعد من الأسف نثراً، فأبت البلاغة إلا أن يكون نظما، وهو:
نأيتم فأمسى الدمّع منّي مورّدا ... على صحن خدّ صار بالسّقم عسجدا
إذا ما بدا في وجنتي منه صيّبٌ ... رأيت من الياقوت نثراً مبدّدا
وإن نظمته فوق نحري صبابةٌ ... تبيّنت عقداً بالشذور منضّدا

وما حثّه إلا بريقٌ تتابعت ... لوامعه يبدين نصلاً مجرّدا
وكم أذهب التذهيب منه حشاشةً ... وأودع حزناً في الفؤاد مجدّدا
بدا من سفيرٍ مستطيرٍ ضياؤه ... فآنست ناراً في الدجنّة مذ بدا
وأمى فؤادي كالكليم ولم يجد ... على النار لما أن تحقّقها هدى
وكيف اهتداء الصبّ والقلب والهٌ ... وإدراكه مذ غبت عنه مشرّدا
يهيم إذا هبّت نسيمة جلّق ... ويصبوا إذا ناح الحمام وغرّدا
ويذكر أياما تقضّت بسفحها ... فيبدئ نوحا في الظلام مردّدا
ليالي تحكي الروض في حلل الحيا ... وغضن النقا يبدي عليه تأوّدا
تبسّم ثغر الزهر لمّا بكى أسىً ... ولاح كصبحٍ بالظلام قد ارتدى
أأحبابنا غبتم فكم لي وقفةٌ ... على صفدٍ والقلب مني تصفّدا
وكم لي بهاتيك الطلول مواقفٌ ... وقفت عليها الدمع إذ رحت منشدا
تناءى خليلٌ يا خليليّ فاسعدا ... بدمعٍ يضاهي المزن إن كنت مسعدا
وأبدى صدوداً والصدود ملامةً ... وأنجز هجراناً وأخلف موعدا
كذا شيمة الدهر الخؤون ودأبه ... يخون وفيّاً أو يكدّر موردا
وأنشدني لنفسه على طريق ابن رشيق في الأبيات المشهورة:
ولقد ذكرتك بين مشتجر القنا ... والموت يختطف النفوس بمخلب
وأسنّه المرّان مثل كواكبٍ ... تبدو أشعتها بظلمة غيهب
ولوامع البيض الرقاق كأنّها ... برقٌ تألّق مذهباً في مذهب
والحتف قد لعبت كؤوس مدامه ... بعقولنا والذّكر غاية مطلبي
وأمرني أن أنظم على هذا الأسلوب فقلت:
ولقد ذكرتكم بحربٍ ينثني ... عن بأسها الليث الهزبر الأغلب
والصّافنات بركضها قد أنشأت ... ليلاً وكلّ سنا سنانٍ كوكب
والبيض تنثر كلّما نظم القنا ... والنّبل يشكل والعجاج يترّب
وحشاشة الأبطال قد تلفت ظماً ... ودم الفوارس مستهلٌّ صيّب
والنفس تنهب بالصّوارم والقنا ... وأنا بذكركم أميل وأطرب
وكتب يوماً في الاعتذار من وداع الحبيب:
يوم الوداع بدت شواهد لوعتي ... نار الخليل تشبّ في الطوفان
وأردت أعتنق الحبيب فخفت أن ... يغشاه يمٌّ أو لظى نيران
وطلب مني أن أنظم شيئاً في هذه المادة فقلت:
لم أطّرح يوم الوداع عناقه ... مللاً ودمع المقلتين سكوب
إلا مخافة أن يفترّ عن ... بردٍ وتبدو حرقتي فيذوب
ومن نظمه وقد أهدي إليه قراصيا:
يا سيّداً أصبحت كفّاه بحر ندىً ... تولي سحائبه الأنعام والقوتا
كنّا عهدنا اللآلي من مواهبه ... واليوم ننظرها فينا يواقيتا
ومنه وقد أهدي إليه بطيخ أصفر:
أهديت شيئاً يروق منظره ... ماءً تبدّى في جامد اللهب
أو شمس أفقٍ قد كوّرت فبدا ... شعاعها مثل ذائب الذهب
لما تبدّت لها بروق مدىً ... أبدت حشاها أهلّة الشّهب
وكم أرتنا القسيّ من قزحٍ ... مبشّراتٍ بواكفٍ سرب
أخضرها قد زها بأحمرها ... كورد خدّ بالآس منتقب
وأرشقت من عقيق مبسمها ... خمرة ريقٍ أحلى من الضّرب
فبتّ من نشوةٍ بها ثملاً ... أهزّ عطف السّرور من طرب
ومذ ترشّفت برد ريّقها ... خلت فؤادي العزيز في حلب
ومنه، وقرأته عليه، ونقلته من خطه:
سرى برق نعمان فأذكره السّقطا ... وأبدى عقيق الدمع في خده سمطا
فلاح كسيفٍ مذهبٍ سلّ نصله ... وروّع وسميّ السّحائب فانحطا
وأدّى رسالاتٍ عن البان والنّقا ... وأقرأه معنى الغرام وما خطّا
وأهدى إليه نسمةً سحريّةً ... أعادت فؤاداً طالما عنه قد شطّا

تمرّ على روض الحمى نفحاتها ... فتهدي إلى الأزهار من نشرها قسطا
وتنثر عقد الطلّ في وجناتها ... فتظهر في لألاء أوجهنا بسطا
وتطلع منه في الدجا أيّ ألجم ... وتلبس عطف الغصن من سندسٍ مرطا
وتوقظ فوق الدوح ورق حمائمٍ ... جعلنا قلوب العاشقين لها لقطا
هم نسبوا حزناً إليها وما دروا ... وما أرسلت من جفنها أبداً نقطا
وكم تيّمت صبّاً بلحن غريبه ... رواه الهوى عنها وما عرفت ضبطا
فيا ليت شعري هل بها ما بمهجتي ... من الوجد أم لم ترع عهداً ولا شرطا
هل هي في دوحات كلّ خميلةٍ ... تغرّد أو ناحت على فقدها السّبطا
ولو أنّها قد تيّمتها صبابةٌ ... لما طوّقت جيداً ولا جاورت شطّا
ولا عانقت غصناً بكفّ مخضّب ... ولا اتّخذت من زهر أعطافه قرطا
ولا لبست ثوباً يروق مدبجاً ... ولا نسيت عهد الهديل ولا الأرطى
ولو ذكرت أيامنا بطويلعٍ ... لأجرت كدمعي مذ بدت لمّتي شمطا
وقد نفّرت عني غرابيب صبوتي ... غرابيب دهرٍ جار في الحكم واشتطّا
وخطّ على فوديّ سطراً حروفه ... رقمن بقلبي عارض الحتف مذ خطّا
ولكنّه قد أودع الفكر حكمةً ... أفادته عرفانا فيا نعم ما أعطى
تجارب أيامٍ لها الغدر شيمةٌ ... فكم سترت فضلاً وكم أظهرت غمطا
وألبسه ثوباً من العلم معلماً ... بدا لذوي جهلٍ فأورثهم سخطا
إذا ما روت عنه البلاغة منطقاً ... يرى النجم في عليائه عنه منحطّا
وإن غاص في لجّ البيان يراعه ... أرى جنّةً لا أثل فيها ولا خمطا
بها حور عينٍ لو رآها زهيرها ... لصيّر خدّيه لأقدامه بسطا
إذا ما تجلّى للأفاضل حسنها ... أدارت عليهم من لواحظها اسفنطا
وتحجب عمّن قد تردّى لجهله ... وأصبح جلباب الحيا عنه منعطّا
ولا غرو ألاّ يدرك الشمس ذو عمىً ... على قلبه من الجهالة قد غطّى
صفاتٌ عزتها نسبةٌ قرشيّةٌ ... إلى من سما مجداً وأكرم بهم رهطا
الحسن بن محمد بن جعفر

بن عبد الكريم بن أبي سعد الصاحب قوام الدين بن الطراح.
كان من بيت علم ورئاسه، وحديث ونفاسه، وكان أخوه فخر الدين أبو محمد المظفر بن محمد له تقدم عند التتار، وحرمة لا يحجبها استتار. وقدم هذا قوام الدين القاهره، وكان حسن الصحبة والمحاوره، ظريف المنادمه، كريم المجاوره، وله معرفة بنحو ولغة ونجو وحساب، وأدب لم يكن لغيره فيه احتساب.
أخبرني من لفظة العلامة أثير الدين أبو حيان قال: قدم علينا القاهرة. وقال لي: إني أول من تشيع من بيتنا، قال أثير الدين: وكان فيه تشيع يسير، ثم إنه سافر إلى الشام وكر منها راجعاً إلى العراق مع غازان، وكنت سألته أن يوجه إلينا شيئاً من أخباره وعمن أخذ من أهل العلم، وشيئاً من شعره فوجه لي بذلك وكتب لي من شعره بخطه:
غدير دمعي في الخدّ يطّرد ... ونار وجدي في القلب تتّقد
ومهجتي في هواك أتلفها الش ... وق وقلبٌ أودى به الكمد
وعدك لا ينقضي له أمدٌ ... ولا الليل المطال منك غد
ومنه:
لقد جمعت في وجهه لمحبّه ... بدائع لم يجمعن في الشمس والبدر
حبابٌ وخمرٌ في عقيقٍ ونرجسٍ ... وآسٌ وريحانٌ وليلٌ على فجر
وقال: كتب إلي أخي أبو محمد المظفر يعاتبني على انقطاعي عنه، وهو الذي رباني وكفلني بعد أبي:
لو كنت يا ابن أبي حفظت إخائي ... ما طبت نفساً ساعةٌ بجفائي
وحفظتني حفظ الخليل خليله ... ورعيت لي عهدي وصدق وفائي
خلّفتني قلق المضاجع ساهراً ... أرعى الدّجى وكواكب الجوزاء

ما كان ظنّي أن تحاول هجرتي ... أو أن يكون البعد منك جزائي
قال: فكتبت إليه:
إن غبت عنك فإنّ ودّي حاضرٌ ... رهنٌ بمحض مودّتي وولائي
ما غبت عنك بهجرةٍ تعتدّها ... ذنبا عليّ ولا لضعف ولائي
لكنّني لما رأيت يد النّوى ... ترمي الجميع بفرقةٍ وتنائي
أشفقت من نظر الحسود لوصلنا ... فحجبته عن أعين الرقباء
انتهى كلام الشيخ أثير الدين.
قلت: وتوفي المذكور رحمه الله تعالى في أوائل المحرم سنة عشرين وسبع مئة ببغداد، ودفن بمشهد موسى الجواد.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة خمسين وست مئة.
وكان الملك الأشرف خليل بن قلاوون قد جهز لأخيه فخر الدين توقيعاً وعلماً وخاتماً، وتقرر بينهما إذا دخل السلطان أرض الحجاز يقدم عليه بجيشه، فإنه كان نائب سلطنة هناك، ولما ورد أخوه قوام الدين في أيار سلار والجاشنكير حضر معه الخاتم والتوقيع والعلم، فلذلك قرر له على المصالح بدمشق ثلاث مئة درهم في كل شهر.
حسن بن محمد بن عليالشريف نور الدين بن الشريف محيي الدين بن فخر الدين بن زهرة، الحسيني الحلبي، ابن عم الشريف بدر الدين نقيب الأشراف بحلب.
كان فيه نهضة، وله همة ومعرفة، ولي نظر البيمارستان وغيره بحلب، فعزل من ذلك وحوقق، وأخذ منه مال على سبيل المصالحة، وحصل له إخراق وإهانة، وكأنه قد خيف من عائلته، فترك إلى أن خرج إلى قرية من قرى سرمين ليقسم مغلها، ونزل عليه الرجال وقتلوه، ومعه ثلاثة أنفس، وقطعت يد آخر من رفاقه من مرفقه، ولم يتعرضوا إلى ما معهم من المال ولا القماش، وذلك في ليلة الثلاثاء خامس شهر الله المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
حسن بن محمد بن قلاوونالسلطان الملك الناصر ناصر الدين ابن السلطان الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور.
ملك قهر الجبارين أخيرا، وصبحهم في مأمنهم مغيرا، وجعلهم في السجون وحدانا وكانوا أكثر نفيرا، وملأ القلوب سطوه، ولم يدع أحداً ينقل في غير الطاعة خطوه، واحتجن الأموال، وأرى الناس الغير والأهوال، وبنى المدرسة العظمى، وأنفق البلغاء فيها حواصل أفكارهم نثراً ونظما، ووقف عليها الوقوف التي تجري سيولها، وتسري في البر خيولها. إلا أن الدهر ما أمهله لتتكمل بدورها وتتأمل العيون ما تتطاول إليه قصورها، ولو تمت لخذلت مستنصرية ببغداد عندها، واعترفت لها بالتعظيم عن نية طاهرة لا عن دها:
تعنو الكواكب إجلالاً لعزتها ... وتستكين لها الأفلاك من عظم
كأنّها إرمٌ ذات العماد وإن ... زادت بمالكها فخراً على إرم
ولم يزل في عز سلطانه وجبروته، ومروره في بيد طيشه ومروته إلى أن خلع من الملك، وأنزل من درجات النعيم إلى درجات الهلك، حالة ألفها الناس من أم ذفر، وغاية لا بد منها لكل سفر، وذلك في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
وكان قد جلس على تخت الملك أولا بعد خلع أخيه الملك المظفر حاجي في بكرة الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحضر إلى دمشق الأمير سيف الدين أسنبعا المحمودي السلاح دار وحلف له العساكر بدمشق، فاستقر بيبغاروس في نيابة مصر، والأمير منجك في الوزارة والاستاذدارية والأمير سيف الدين شيخو يقرأ القصص عليه بحضور السلطان، ولم يزل الحال على ذلك إلى أن كان يوم السبت رابع عشري شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فقال السلطان يوماً بحضور القضاة، وأمراء الدولة حضور: أنا ما أنا رشيد ؟ قالوا: الله الله، فقال: أنا ما أنا أهل للسلطنة ؟ فقالوا: الله الله. فقال: إن كان الأمر هكذا فأمسكوا إلي هذا. وأشار إلى الوزير منجك، وكان النائب أخوه قد توجه إلى الحجاز هو والأمير سيف الدين طاز، ودبر هذا الأمر له الأمير علاء الدين مغلطاي أمير آخور، فأمسك الوزير، وكتب إلى الأمير طاز فأمسك بيبغاروس في طريق الحجاز على ما تقدم في ترجمة بيبغاروس، وزاد مغلطاي في إمساك الأمراء والنواب، على ما تقدم، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن خلع الناصر حسن في ثامن عشري شهر جمادى الآخر نهار الاثنين سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة وأجلسوا أخاه الملك الصالح صلاح الدين صالح، على ما سيأتي في ترجمته.

ولم يزل الملك الناصر حسن بالقلعة داخل الدور السلطانية في مكان يلازمه لا يجتمع بأحد إلى أن أحس الأمير سيف الدين شيخو بأن الأمير سيف الدين جردمر أخا الأمير طاز قد قصد فتنة يثيرها، فحينئذ خلع الملك الصالح وأعاد الناصر حسن إلى الملك وأجلسه على تخت السلطنة بكرة الاثنين ثاني العيد من شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
وحضر الأمير عز الدين أيدمر الشمسي إلى دمشق وحلف له العساكر، وأخرج الأمير سيف الدين طاز إلى حلب نائباً، ونقل أرغون الكاملي من نيابة حلب إلى مصر، فأقام قليلاً واعتقله بالإسكندرية، واستقل بالتدبير الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين صرغتمس، وكان الأمير سيف الدين طشتمر القاسمي أمير حاجب، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن جرح الأمير شيخو على ما سيأتي في ترجمته، وأقام قليلاً ومات رحمه الله تعالى.
وأمسك الأمير طاز وأخوته، وانفرد صرغتمش بالتدبير بعد موت شيخو إلى أن أمسكه الملك الناصر حسن على ما سيأتي في ترجمته وأمسك معه جماعة، وذلك في عشري شهر رمضان سنة تسع وخمسين وسبع مئة، فصفت له الدولة ولم يشاركه أحد في التدبير، وشرع في عمارة المدرسة العظمى التي ظاهر القاهرة، ولو كملت لكانت غاية في العظم وعلو البناء واتساعه، ويقال إنه كان قد أرصد لعمارتها في كل يوم عشرين ألف درهم، وأقامت على ذلك، والعمارة لا تعطل منها يوماً واحداً ثلاث سنين وأكثر، وخلع وما نجزت عمارتها، وعلى الجملة فهي أمر عجيب.
وزاد في احتجان الأموال مصادرة الأمراء والكتاب وأصحاب الأموال، وزاد أيضاً في أخذ القرى الكبار الأمهات الأعيان من سائر المملكة الإسلامية بالشام جميعها ومصر واصطفائها لنفسه، ولم يمت أمير إلا وأخذ من إقطاعه خياره، ووفر بعض التقادم التي هي في العساكر لأمراء المئين، ولم يدع أحداً آمناً على نفسه من النواب ومن دونهم فلا يقيم النائب إلا دون السنة، وكذلك الأمراء لا يقيمون إلا أقل من سنة حتى ينقلوا من إقطاعهم ومن مكانهم، ولم يزل الحال على ذلك إلى أن خلعه الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبع مئة كما تقدم، وأجلس السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المظفر حاجي، وورد إلى دمشق الأمير سيف الدين بزدار السلاح دار وحلف العساكر الشامية.
وكان بعض الأصحاب قد قصد مني نظم قصيدة أذكر فيها أمر السلطان وقهره وعمارته المدرسة المذكورة، وأن تكون واضحة بحيث يفهمها، فقلت:
إنّي بنظم مدائح السّلطان ... فتق البيان من البديع لساني
النّاصر ابن الناصر الملك الذي ... ملك القلوب بطاعة الرحمن
من بيت أملاك أبوه وجدّه ... مع إخوةٍ صالوا على الحدثان
وأبو المحاسن بينهم حسن كما ... سمّي حليف الحسن والإحسان
فتراه ما بين الملوك كأنّه ... دين النّبيّ علا على الأديان
وتراه مثل البدر والأمراء مث ... ل الزّهر في فلك من الإيوان
لا بل هو الشمس المنيرة في الضّحى ... في رونقٍ وسناً ورفعة شان
أمست ملوك الأرض خاضعة له ... في سائر الأقطار والبلدان
من عدله المشهور قد ملأ الملا ... وكأنّه كسرى أنوشروان
لوعاينته ملوك عصرٍ قد مضى ... لتقمّصوا بالذّلّ والإذعان
تتلو الحمائم في مناقب فضله ... خطباً تهزّ منابر الأغصان
فترقّص الأعطاف من فرحس به ... وتميل من طربٍ غصون البان
أيامه من يمنها وأمانها ... مشكورةٌ فينا بكلّ لسان
قهر الأعادي بأسه فأذلّهم ... ورماهم بالخزي والخسران
من خانه في ملكه فقد اغتدى ... متبرّياً من ربقة الإيمان
واللّه سلّطه على أعدائه ... ورمى الجميع بذلّة وهوان
اللّه أيّده ومكّن سيفه ... من عنق كلّ منافق خوّان
وترى دما أعدائه بسيوفه ... كشقائق نثرت على ريحان

لكنّه من رحمةٍ حقن الدّما ... لم يمض فيها حدّ كلّ يمان
شكراً لخالقه الذي من لطفه ... قد بات منصوراً على الأقران
وبنى بقاهرة المعزّ مدارساً ... للفقه والتحديث والقرآن
أرسى قواعدها وشيّد صرحها ... فعلت على العيّوق والدّبران
تتحيّر الأفهام في تكوينها ... فنباؤها من أعظم البنيان
ليست على وجه البسيطة مثلها ... من أرض توريز إلى أسوان
لو عاين المنصور رونقها غدا ... من دهشةٍ لحقته كالحيران
هاتيك مدرسةٌ وأمّا هذه ... فمدينةٌ في غاية الإتقان
للشافعيّ ومالكٍ وأبي حني ... فةٍ الإمام وأحمد الشيباني
هو فارس الخيل الذي تجري به ... كالبرق يوم السّبق في الميدان
فتطير أُكرته كرأس عدوّه ... لما طغى من ضربة الجوكان
وكذاك يوم الحرب إن هزّت به ... أيدي الكماة عوالي المرّان
يلقى الكفاح بوجهه وبنحره ... ويكون ليث وغىً على الفرسان
نصر الضعيف على القويّ بباسه ... فالظّلم في خزي وفي خذلان
والشّرع قد أعلى الإله مناره ... فتراه وهو مشيّد الأركان
فلأجل ذا تمتدّ مدّة ملكه ... محروسةً في السّرّ والإعلان
الحسن بن مظفر

بن عبد المطلب بن عبد الوهاب بن مناقب بن أحمد
الشريف العدل شمس الدين أبو محمد الحسيني المنقذي الدمشقي.
روى عن الفخر الإربلي وأبي نصر بن الشيرازي وعبد العزيز بن الدجاجية، وإبراهيم الخشوعي، وناب في الحبسة مديدة، وكان في جملة الشهود.
وسمع منه الشيخ شمس الدين الذهبي، وكان قد ابتلي ببلغم، فكان إذا مشى تعدو بغير اختياره، ثم يسقط ويستريح ويقوم.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
الحسن بن منصور بن محمد بن المباركجلال الدين بن شواق، بالشين المعجمة والواو المشددة وبعد الألف قاف، الإسنائي.
كان جواداً كريما، عاقلاً حليما، فاضلاً أديبا، كاملاً لبيبا، نبيه القدر، واسع الصدر، يشعر فيأتي بالرياض اليانعه، ويهز بالطرب سامعه، أبي النفس لا يرى الضيم، ولا تدخل غادة شمسه تحت ستر غيم.
لم يزل في نفاسته ومعارج رياسته إلى أن هبط من أوج قدره إلى حضيض قبره.
ووفاته رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
كان بنو السديد بإسنا يحسدونه ويعملون عليه، فعلموا عليه بعض العوام، فرماه بالتشيع. ولما حضر بعض الكاشفين إلى إسنا حضر إليه شخص يسمى عيسى بن إسحاق وأظهر التوبة من الرفض، وأتى بالشهادتين، وقال: إن شيخنا ومدرسنا حضر إليه في هذا جلال الدين بن شواق، فصادره الكاشف؛ أخذ ماله، فجاء إلى القاهرة، وعرض عليه أن يكون في ديوان الإنشاء فلم يفعل، وقال: لا، تركت أولادي يقال لهم من بعدي: أبوكم خدم وعرض عليه أن يكون شاهد ديوان حسام الدين لاجين قبل السلطنة فلم يفعل.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: أخبرني الفقيه العدل حاتم بن النفيس الإسنائي أنه تحدث معه في شيء من مذهب الشيعة فحلف أن يحب الصحابة ويعظمهم ويعترف بفضلهم، قال: إلا أني أقدم عليهم علياً.
ومن شعره:
رأيت كرماً ذاوياً ذابلاً ... وربعه من بعد خصب محيل
فقلت إذ عاينته ميّتاً ... لا غرو أن شقّت عليه النّخيل
ومن شعره يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هوا طيبة أهواه من حيث أرّجا ... فعوجا بنا نحو العقيق وعرّجا
وسيروا بنا سيراً حثيثاً ملازماً ... ولا تنيا فالعيس لم تعرف الوجى
ومن شعره:
كيف لا يحلو غرامي وافتضاحي ... وأنا بين غبوقٍ واصطباح
مع رشيقٍ القدّ معسول اللمى ... أسمرٍ فاق على سمر الرّماح
جوهريّ الثّغر ينحو عجباً ... رفّع المرضى لتعليل الصّحاح
نصب الهجر على تمييزه ... وابتدا بالصّدّ جدّاً في مزاح

فلهذا صار أمري خبراً ... شاع في الآفاق بالقول الصّراح
يا أُهيل الحيّ من نجدٍ عسى ... تجبروا قلب أسيرٍ من جراح
لو خفضتم حال صبٍّ جازم ... ماله نحو حماكم من براح
ليس يصغي قول واشٍ سمعه ... فعلى ماذا سمعتم قول لاح
ومحوتم اسمه من وصلكم ... وهو في رسم هواكم غير ماح
وصحا كلّ محبٍّ ثملٍ ... وهو من خمر هواكم غير صاح
ولئن أفرطتم في هجره ... ورأيتم بعده عين الصلاح
فهو لاج لأُولي آل العبا ... معدن الإحسان طرّا والسّماح
قلّدوا أمراً عظيماً شانه ... فهو في أعناقهم مثل الوشاح
أمناء اللّه في السّرّ الذي ... عجزت عن حلمه أهل الصّلاح
هم مصابيح الدّجى عند السّرى ... وهم أُسد الشّرى عند الكفاح
قلت: شعر ابن شواق يشوق، ويحلي الأجياد ويطوق.
حسن بن نصرالصدر نبيه الدين الإسعدي.
كان محتسب القاهرة، ولما تولى الصاحب ضياء الدين النشائي الوزارة تولى هو نظر الدواوين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الآخرة سنة تسع وسبع مئة، ودفن برا باب النصر بالقاهرة، وصلى عليه الشيخ نصر المنبجي.
الحسن بن هارون بن حسنالفقيه الصالح نجم الدين الهذباني الشافعي أحد أصحاب الشيخ محيي الدين النووي.
كان ديناً خيراً ورعاً.
سمع من ابن عبد الدائم.
ولم يحدث لأنه توفي - رحمه الله تعالى - كهلاً سنة تسع وتسعين وست مئة في تاسع شعبان.
الحسن بن هبة الله بن عبد السيدشمس الدين الأدفوي حفظ المنهاج للنووي، وسمع من ابن أبي الفتح محمد بن أحمد الدشناوي، أقام بإسنا سنين، ثم أقام بقوص إلى أخر عمره. وكان دخل مصر وحضر الدروس.
وكان خفيف الروح، يكتم سره ولا يبوح، لطيفاً في حركاته وكلامه، متحبباً إلى من واجهه بتحيته وسلامه، قليل الغيبه، إذا نقل عن أحد شيئاً حمله على أحسن محامله ونفى الريبه. وكان يعرف شيئاً من الموسيقى، وينزل النغم على الوزن تطبيقا، إلا أنه عمره انخلع من الخلاعه، وادكر الموقف واطلاعه، والتزم بالإشغال، واشترى بالرخيص الغال، وانتصب للعلم، وجنح بعد حرب التصابي إلى السلم، ورمى السلاح، ودخل في زمرة الصلاح.
ولم يزل على حالته هذه إلى أن توجه إلى أخراه، وحمده الصبح بعد مسراه.
ووفاته - رحمه الله تعالى - بعد العشرين وسبع مئة.
ومن شعره:
إن المليحة والمليح كلاهما ... حضرا ومزمارٌ هناك وعود
والرّوض فتّحت الصّبا أكمامه ... فكأنّه مسكٌ يفوح وعود
ومدامةٌ تجلو الهموم فبادروا ... واستغنموا فرص الزّمان وعودوا
ومن شعره فيمن وقعت على نصفيته قنينة حبر:
جاء البهاء إلى العلوم مبادراً مع ما حوى من أجره وثوابه
ملئت صحائفه بياضاً ساطعاً ... غار السّواد فشنّ في أثوابه
حسن بن هندوالحاكم بمدينة سنجار، وبالموصل أخيراً.
كان في آخر عمره يكاتب المسلمين ويترامى عليهم، ويظهر المودة والنصح والإخلاص في المحبة، وكل ذلك زور وبهتان، لأنه كان نجمة التركماني المفسد يأوي إليه، وجرى منه، وتوجهت العساكر إلى سنجار، وقاسوا شدة، وطلب الأمان وقال: أنا غلام مولانا السلطان ونائبه، وهذا أخي يكون عندكم رهينة، فرسم للعساكر بالعود، وحضر أخوه إلى قريب من دمشق، وهرب ولم يظهر له خبر.
ثم إنه ما رجع عن مكره ولا فساده ولا أذاه إلى أن قتله صاحب ماردين في سنة أربع وخمسين وسبع مئة، في أواخرها وأراح الله المسلمين منه.
حسن الكرديشيخ صالح زاهد، راق في معارج صاعد، له حال وكشف، وكوكب هدى قد تنزه عن الكشف، يقصده الناس بالزياره، وتومي الأصابع إليه بالإشارة.
كان مقيماً بالشاغور بظاهر دمشق منجمعاً عن الأنام، قد ألف الخلوة وتعبد والناس نيام، له حاكورة يزرع فيها الخضر، ويرتفق به ويطعم منه من حضر، أقام على هذه الحال سنين، واستراح من هموم المال والزوجة والبنين.

ولم يزل على هذه الحال إلى أن أخذ من شعره واغتسل، واستقبل القبلة وركع ركعات وراح إلى ربه وانتقل.
وكانت وفاته سنة سبع مئة.
حسن الجوالقيكان له في الدولة صوره، والمحاسن من الأخلاق عليه مقصوره، نفع الناس بجاهه، وعوده في السفارة واتجاهه، وكان مقبول القول لا يرده أحد، ولا يرى في قلعة الجبل بالقاهرة من لفضله جحد، وعنده مكارم للوارد والصادر، والغزال الكانس والليث الخادر، أقام بمصر مدة على هذا القدم، وما احتد فيها يوماً ولا احتدم.
ولم يزل كذلك إلى أن خطر له الحضور إلى دمشق للاسترواح، وتجديد العهد بالأصحاب وذكرى أوقات الأفراح، وكان به مرض واستشفى، وأكرمه الناس ساعة الملقى، فأقام أقل من شهر وقضى، وعد فيمن درج ومضى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في نف جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، وتأسف الناس والفقراء لفقده.
حسين بن أسد بن مبارك بن الأثيرسمع من الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، وشمس الدين الواعظ الجزري، وهو آخر من حدث عنه بالسماع، ومن النجيب عبد اللطيف، وأبي الفضل محمد بن محمد البكري، وزين الدين عبد المحسن بن عبد العزيز بن علي بن الصيرفي المخزومي، ومن إسماعيل بن سليمان، ومن بدر، ومن جماعة.
وكان صالحاً حسن الشكل مليح المحاضرة، وكان حنلبياً، وينتسب إلى صاحب جامع الأصول.
وتوفي بداره بحارة الديلم في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
الحسين بن أبي بكر بن جندربكالأمير شرف الدين أمير حسين الرومي.
كان من فرسان الخيل، وممن يسامي بسؤدده نجوم الليل، يجيد اللعب بالطير الجارح، ويصيد به ما هو في الجو طائر وفي البر سارح، هذا إلى ما هو فيه، مبرز في رمي النشاب، وصيد الوحش الذي يشهد له به البازي والكلاب، لا يكاد الوحش ينجو من يديه، ولا يفوته في ظهيرته أو أبرديه.
باشر الحروب مصافاً وحصارا، وكانت النصرة له غاية وقصارى. وكان في لسانه عجمه، لا تمنعه من اختبار سهم من عربي ولا عجمه، لأنه كان يؤثر قرب الفضلاء، ويود محادثة النبلاء، ويسأل عن غوامض بالنسبة إليه من القرآن، ويفحص عن مشكلات من معاني شعراء الأوائل وأهل الزمان، وله التنديب الحلو، والتندير الذي لا يرى وهو من التعجب خلو.
ونادم الأفرم في القصر، وفاز بنضارة ذلك العصر، ووقع بينه وبين الأمير سيف الدين تنكز ونجا، وجعل الله له من أمره مخرجا، لنيته السليمه، وطويته القويمه. وطلبه السلطان فيما بعد ذلك، وسلكه من التقريب بحضرته أقرب المسالك.
ولم يزل على حاله إلى أن أفل نجم حياته، وتغيرت بالأسقام حلاوة شياته.
وتوفي بالقاهرة - رحمه الله تعالى - في سابع المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة، ودفن بجوار جامعه بحكر جوهر النوبي.
كان وهو أمرد رأس مدرج طلب حسام الدين لاجين لما كان نائب الشام، وكان يؤثره ويقربه لأنه كان صياداً شجاعاً. وكان يحبه لأجل أخيه الأمير مظفر الدين، وربما تنادم معهما خلوة.
ولما ولي الملك حسام الدين لاجين طلبه إلى مصر وخلع عليه خلعة ولم يرضها، ثم إنه عاد إلى الشام وطلبه فيما أظن ثانياً، ورسم له بعشرة، وجرى للسلطان ما جرى على ما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، فأقام بمصر إلى أن حضر السلطان الملك الناصر محمد من الكرك، فرسم له بالعشرة، وحضر مع الأفرم إلى دمشق صحبة الطلب. ثم إنه آخذ الطبلخاناه ولاق بقلب الأفرم ونادمه، ولم يزل معه بدمشق إلى أن هرب الأفرم عند قدوم الملك الناصر من الكرك إلى دمشق، فلحق هو بالسلطان ودخل معه ومع خواصه، وجهزه السلطان إلى الكرك ومعه الأمير سيف الدين تنكز، فأحضر الخزانة، وتوجه مع السلطان إلى القاهرة، ودخل معه بأنواع الحيل والتقرب إلى أن ما وصل إلى مصر إلا وهو من جملة المقربين.
أخبرني من لفظه قال: كنا ونحن سائرون في الطريق إذا مررنا بصيد آخذ الصقر الجارح وأقول ياخوند: إن كان نملك مصر فهذا الطير يأخذ هذه الرمية، قال: وأتحيل وأقارب وأبلغ الجهد وأرميه فلا يخطي، فأقول: ياخوند هذا بسعادتك، فنزل من قلبه.

وكان محظوظاً في الصيد بالجوارح والضواري والنشاب، لا يكاد يفوته شيء منه. رأيت أنا هذا منه مراراً عديدة لما كنت أسافر معه، فإنني كتبت له الدرج بصفد وبمصر، وكان يستصحبني معه في أسفاره شاماً ومصراً، ثم إن السلطان أعطاه في مصر إمرة مئة وقدمه عل ألف، وأفرد له زاوية من طيور الجوارح، فكان أمير شكار مع الأمير سيف الدين كوجري.
وحضر مع السلطان إلى دمشق لما توجه إلى الحجاز في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وأقام بدمشق ولم يتوجه إلى الحجاز لأنه وقع وكسرت رجله، وكان الأمير سيف الدين تنكز يحضر لزيارته ويعوده كل قليل، وهو نائب دمشق.
ولما عاد السلطان عاد معه إلى مصر ولقي الحرمة الوافرة وحظي بالديار المصرية، وكان ينتمي إلى الأمير سيف الدين طغاي الكبير وينبسط معه فحلا بقلب الخاصكية وسلم لذلك لما أمسك السلطان الأمير علاء الدين أيدغدي شقير والأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، وما أعطاه الناس في تلك الواقعة سلامه.
ثم إنه توالت عليه الأمراض فرسم له السلطان بالعود إلى الشام، فحضر إليها وهو مستمر عند تنكز على تلك المحبة، إلى أن وقع بينهما بسبب القصب الذي له في قرية عمتنا، وتخاصما في سوق الخيل ورجعا إلى دار السعادة وتحاكما، ثم إنهم سعوا بينهما في المصالحة، فقام تنكز وقام أمير حسين فوضع يده على عنق تنكز وقبل رأسه، فما حمل تنكز منه ذلك. قال لي أمير حسين: والله ما تعمدت ذلك، ولكنه كان خطأ كبيراً، فكتب تنكز وطالع السلطان، فشد الفخري قطلوبغا من أمير حسين شداً كبيراً، فما أفاد كتاب تنكز، ورسم السلطان للأمير شرف الدين أن يكون مقامه بصفد وإقطاعه على حاله، وجاء كتاب السلطان إليه يقول فيه: إنك أسأت الأدب على نائبنا، وما كان يليق بك هذا، وحضر كتاب السلطان إلى نائب صفد بأن الأمير شرف الدين طرخان لا تجرده إلى يزك ولا تلزمه بخدمة إن شاء ركب وإن شاء نزل، فأقام بصفد قريباً من سنتين ونصف. ومن هنا كتبت له الدرج.
ثم إن الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار لما حضر إلى دمشق لإحضار الأمير علاء الدين ألطنبغا من حلب ليتوجه إليها أرغون الدوادار نائباً، كأنه قال للأمير سيف الدين تنكز لما جاء ذكر أمير حسين: والله ما كان السلطان هان عليه أمره، فحينئذ جنح تنكز للصلح مع أمير حسين وسير إليه بالغور ليلتقيه إلى القصير المعيني، فاصطلحا هناك وخلع عليه، ووعده بأنه إذا عاد من مصر أخذه معه إلى دمشق ففاوض السلطان في ذلك فما وافق على ذلك، وطلب الأمير شرف الدين إلى مصر وجاء الفور البريد وأخذه وتوجه به إلى دمشق، وجهز تنكز إلى مصر، فتوجه إليها على خيل البريد، وكنت معه، فوصل إليها في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وخلع عليه وأنعم عليه بإقطاع الأمير بهاء الدين أصلم السلحدار، فأقام عليه إلى أوائل سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى، وحنا السلطان عليه حنواً كثيراً، وأعطى مماليكه الإقطاعات في الحلقة ورتب لهم الرواتب وأمر بعض أقاربه، ورتب الرواتب لبناته وزوجته وأقاربه وبعض غلمانه وأباح طيوره بحضوره، وهذا لم يتفق لغيره.
وهو الذي بنى القنطرة على الخليج وإلى جانبها الجامع الذي له في حكر جوهر النوبي، ولما فرغ أحضر إليه المشد والكاتب حساب ذلك، وقال: هذا حساب هذه العمارة، فرمى به في الخليج، وقال: أنا خرجت عن هذا لله تعالى، فإن خنتما فعليكما، وإن وفيتما فلكما. يقال: إنه غرم على ذلك فوق المئتي ألف درهم، وكان - رحمه الله تعالى - على الدرهم والدينار من يده شحيحاً، وأما من خلفه فما كان يقف في شيء، وكان الفرس والقباء عنده هين الأمر، يطلق ذلك كثيراً.
وكان خفيف الروح دائم البشر، لطيف العبارة، كثير التنديب الداخل، وكانت في عبارته عجمة، لكنه إذ قال الحكاية أو ندب أو ندر يظهر لكلامه حلاوة في السمع والقلب. قال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس رحمه الله تعالى: نحن إذا حكينا ما يقوله هو ما يكون لذلك حلاوة كلامه من فيه.
وكان ظريفاً إلى الغاية في شمائله وحركاته، وكان فيه الخير والصدقة، ولكنه كان يستحيل في الآخر بعد إقباله.
وكان يجلس في مصر رأس الميمنة من أسفل، ولما حضر توتاش جلس مكانه، وكان هو يجلس في الميسرة بعد ذلك إلى أن مات.

وكان السلطان يحبه ويؤثره كثيراً ويعجبه كلامه، وكان قد أعطاه طبلخاناه جعلها وقفاً عليه يعطيها هو من جهته لأي من أراد من أقاربه، فكانت تنتقل بين أقاربه إلى أن مات وماتوا.
وكان قد تولى أمر الركب بدمشق وحج في سنة خمس وسبع مئة، وحج أيضاً من الديار المصرية.
الحسين بن الحسين

بن يحيى أبو محمد بن أبي علي
القاضي الأرمنتي، تقدم ضبط هذه النسبة لم أعلم شيئاً من حاله فأترجمه، أو أعمل الظن فيه حتى أرجحه، لكن ذكره الشيخ قطب الدين عبد الكريم في تاريخه والفاضل محمد بن علي بن يوسف، والفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي في تاريخ الصعيد.
وتوفي بأرمنت - رحمه الله تعالى - في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وأورد له:
غلطت لعمري يا أُخيّ وإنّني ... لفي سكرةٍ ممّا جناه لي الغلط
حططت بقدري إذ رفقت أخسّةً ... ومن رفع الأسقاط حقّ بأن يحط
وأورد له أيضاً:
أقسمت لا عدت لشكر امرئ ... يوماً ولا أخلصت في ودّي
من قبل أن تبدو أفعاله ... في حالة القرب أو البعد
وكلّ من جرّعني سمّه ... فهو الذي أطعمته شهدي
الحسين بن خضرابن محمد بن حجي بن كرامة بن بحتر بن علي بن إبراهيم بن الحسين بن إسحاق بن محمد: الأمير ناصر الدين التنوخي المعروف بابن أمير الغرب، مقامه ومقام ذويه بجبال الغرب من بلاد بيروت، والحسين بن إسحاق في أجداده، وهو ممدوح أبي الطيب في القصيدة القافية التي يقول فيها:
شدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت ... ذفاريّها كيرانها والنمارق
وله فيهم أمداح ومراث. وكرامة بن بحتر هو الذي هاجر إلى نور الدين الشهيد فأقطعه الغرب وما معه بإمرية فسمي أمير الغرب بذلك، قال الأمير ناصر الدين المذكور: ومنثوره إلى الآن عندنا بخط العماد الكاتب، وتحضر كرامة بعد البداوة، وسكن حصن سلحمور من نواحي إقطاعه، وهو على تل عال بغير بناء، وانتشأ أولاده هناك، ولم يزالوا كذلك إلى أن كان الحضر، فكان قذى في عين صاحب بيروت أيام الفرنج، وشجاً في حلقه، ورام حصره مراراً، فتوعر الوصول إليه، فلما صار الحال إلى أولاده الشباب هادنهم صاحب بيروت وسالمهم، وجعلوا ينزلون إلى الساحل، وألفوا الصيد بالطير وغيره، فراسلهم، وطلب الاجتماع بهم في الصيد، فتوجه كبارهم وتصيدوا معه إلى آخر النهار، فأكرمهم وقدم لهم ضواري وطيوراً وكساهم قماشاً ولمن معهم، وعادوا إلى حصنهم، ولم يزل يستدرجهم مرة بعد مرة إلى أن أخرج ابنه معه وهو شاب، فقال: قد عزمت على زواجه، وأدعو له ملوك السواحل، وأريدكم تحضرون ذلك النهار، فتوجه الثلاثة الكبار وبقي أخوهم الصغير في الحصن ووالدته وجماعة قليلة، وتوجهوا إليه، وامتلأ الساحل بالشواني والمدينة بالفرنج الغتم وتلقوهم بالشمع والمغاني، فلما صاروا في القلعة، وجلسوا مع الملوك قعدوا إلى العصر، ثم إنهم غدروا بهم وتكاثروا عليهم وأمسكوهم وأمسكوا غلمانهم، وغرقوهم وركبوا في الليل، ومع صاحب بيروت جميع العسكر القبرسي واشتغلوا بالحصن، وانجفل الفلاحون قدامهم والحريم والصبيان إلى الجبال والشعراء والكهوف وطاولوهم، وعلم أهل الحصن بأن الجماعة قد أمسكوهم وغرقوهم، ففتحوا الباب، وخرجت العجوز ومعها ولدها الصغير وعمره سبع سنين، ولم يبق بينهم سوى هذا واسمه حجي، وهو جد والد هذا ناصر الدين.
ولما حضر السلطان صلاح الدين وفتح صيدا وبيروت، توجه إليه هذا حجي وباس رجل السلطان صلاح الدين في ركابه، فلمس رأسه بيده وقال: أنا آخذ ثأرك، طيب قلبك، أنت موضع أبيك، وأمر له بكتابة أملاك أبيه، وهي القرايا التي بأيديهم بستين فارساً. ولم يزالوا على ذلك إلى أيام الملك المنصور قلاوون، فذكر أولاد تغلب من مشغرا قدام الشجاعي أن بيد الجبلية أملاكاً عظيمة بغير استحقاق، ومن جملتهم أمراء الغرب، وتوجهوا معه إلى مصر، فرسم المنصور بإقطاع أملاك الجبلية مع بلاد طرابلس لجندها وأمرائها، فأقطعت لعشرين فارساً من طرابلس، فلما كان أيام الملك الأشرف توجهوا إليه وسألوه أن يخدموا على أملاكهم بالعدة، فرسم لهم بها وأن يزيدوها عشرة أرماح أخر.

ولما كان أيام الروم في أيام تنكز وكشفها الأمير علاء الدين بن معيد، حصل من تفضول في حقهم، فرسم السلطان الملك الناصر أن تستمر عليهم بمضاعفة العدة، فاستقرت عليهم لستين فارساً، وهي إلى الآن باقية على هذا الحال.
وأما هذا ناصر الدين فإنه كان جواداً سمحاً، لا يزول كرمه ولا يمحى، يخدم أعيان الناس، ويتجاوز الحد في ذلك والقياس، ومن يتوجه إلى تلك النواحي، فإنه يجد منه ثغر جود يخجل الأقاصي.
وكان يكتب جيداً ويأتي من المحاسن ما حق له أن يدعى سيداً، ويترسل ترسلاً فيه فصاحة وبلاغة، وكلمات كأنها قد صاغها صياغة، وفيه عدة فضائل، وكرم عشرة ولطف شمائل، ورئاسة تدل على كرم أصله، وسيادة يترجم عنها لسان قلمه ونصله. وهو مطاع في قومه، لا يصل المشتري ولا زحل إلى سومه، إذا قال لأحدهم: اسكت رمي من وقته بالصمات، وإذا قال له قم قام، وإذا قال له مت مات، يتسارعون إلى امتثال أوامره، ويتقارعون على الفوز بالتحلي من كلامه بجواهره.
ولم يزل على حاله إلى أن غرب نجم أمير الغرب، ولم يدفع عنه أحد بطعن ولا ضرب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في نصف شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
ولما كبر وأسن نزل قبل موته بسنتين عن إمرته لولده الأمير زين الدين صالح، وكنت قد توجهت إلى بيروت ولم يكن بها، فسير إلي قاصداً يطلبني لأتوجه إليه إلى أعبيه، لأرى مكانه فيها، فإن الناس يصفونه بحسن زائد وطيب هواء وماء، فرأيت الحركة تشق علي، فاعتذر، فحضر هو بنفسه بعد أيام بعدما تفضل وروده وأحسن وأجمل وقست جوده على الغمام فكان أندى وأغدق وأكمل.
وأنشدته لما اجتمعت به:
ما زرت في أُعبيه قصداً للجفا ... ربعاً تشرّف بالأمير حسين
ورأيته في ثغر بيروت الّتي ... بنداه أصبح مجمع البحرين
الحسين بن سليمان بن فزارةالقاضي الإمام الفاضل شهاب الدين الكفري، بفتح الكاف وسكون الفاء وبعدها راء، الدمشقي الحنفي.
تلا بالروايات على علم الدين القاسم، وسمع من ابن طلحة ومن ابن عبد الدايم، ودرس بالطرخانية، وكان شيخ الإقراء بالمقدمية والزنجيلية. وقرأ بنفسه على ابن أبي اليسر، وكتب الطباق، وكان شيخ قراءات، وبيده لمن يحاكمه في التفاضل براءات. ودرس وأفتى، وكان في الجود بعلمه أكرم من الغيث وأفنى، وناب في الحكم زماناً، ونظم فيه من الإجادة جماناً.
وكان خيراً عالماً، ديناً لا يرى لسيف السنة ثالماً، إلا أنه أضر بأخرة، فلزم داره وجلس في بيته كالبدر في داره.
ولم يزل على حاله إلى أن حل ضيف الحين بفتى فزاره، وآن اجتماعه به فزاره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى سنة تسع عشرة وسبع مئة عن اثنتين وثمانين سنة.
وقرأ عليه أقضى القضاة شرف الدين أحمد وغيره.
الحسين بن علي

بن إسحاق بن سلام
بتشديد اللام: الشيخ الإمام الفاضل المفتي الكامل الدمشقي الشافعي.
كان مفتي دار العدل في زمن الأفرم. كان فقيهاً عارفا، ونبيهاً حوى من العلم تالداً وطارفا، عارفاً بخلاف المذاهب، شاهداً لمن خلقه بأنه زائد الكرم والمواهب، قل من ناظره وارتد إلا هزيما، أو فاخره في سيادة إلا كان سليباً وابن سلام سليما، يتخرق في الجود، ويرعى حق الضعيف والوفود.
اجتمع فقهاء المذاهب الأربعة في درس من بعض الدروس، وبحث هو مع الجميع، فقطع أصولهم وفروعهم من الغروس، رأى الناس منه في ذلك اليوم عجبا، وجمع محبة القلوب له والتعظيم وحبى.
ولم يزل على حاله إلى أن بغته حمامه، وخفر فيه ذمامه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع عشرة وسبع مئة في رابع عشري شهر رمضان.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وكان قد أعاد بالظاهرية ودرس بالجاروخية، ودرس بالعذراوية، وتوفي - رحمه الله تعالى - وعليه ديون كثيرة، وكان قد ألقى الدرس بالعذراوية عوضاً عن صدر الدين سليمان الكردي يوم الأحد حادي عشر المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
الحسين بن علي بن الحسين بن زهرةنقيب الأشراف بحلب، السيد الشريف شمس الدين أبو علي بن الشريف فخر الدين أبي الحسن بن شمس الدين أبي علي.

توفي - رحمه الله تعالى - بالزرقاء بعد عوده من الحج رابع عشري المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ودفن بسما من عمل بصرى.
الحسين بن علي بن سيد الأهلابن أبي الحسن بن قاسم بن عمار، الشيخ الإمام الشافعي نجم الدين الأسواني الأصفوني.
كان فقيهاً فاضلاً مشاركا، ميمون النقيبة مباركا، صاحب فنون، وعبارات في المعارف الذوقية وشجون. أفتى ودرس، وسرى في طلب العلم وعرس، وانتفع به جماعة من الطلاب، وغنموا الفوائد وأخذوا الأسلاب.
وكان قد تجرد مع الفقراء، وتفرد بأشياء لم يبلغها جماعة من الفقهاء، ثم أناب وعاد إلى طريقة أهل العلم، وتزيا بزي أهل الوقار والحلم.
ولم يزل على حاله إلى أن فقد حسه وذوقه، وأصبح والتراب فوقه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في صفر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
أخبرني العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي قال: تجرد المذكور مع الفقراء زماناً طويلاً، وكان في وقت فقيهاً في المدرسة الشريفية، فحضر درس قاضي القضاة ابن بنت الأعز، فأنشد بعض الناس قصيدةً مديحاً في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرخ هو على عادة الناس، فأنكر القاضي ذلك وقال: أيش هذا ؟ فقام وقال: هذا شيء ما تذوقه، وترك المدرسة والفقاهة بها.
وقال: كان يقرئ في كل شيء في أي كتاب كان، وانتفع به جماعة وقال: كان يفتي ويدرس ويقرئ الطلبة، وهو وأخوه الحسن والزبير، ثلاثة من أهل العلم والتعبد.
وقال الفاضل كمال الدين الأدفوي: هو المعروف بابن أبي شيخة، سمع من أبي عبد الله محمد بن عبد الخالق بن طرخان، ومحمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي وأبي عبد الله محمد بن عبد القوي، ومن أبي الحسن علي بن أحمد الغرافي والحافظ شرف الدين الدمياطي. وحدث بالقاهرة، وأخذ الفقه عن أبي الفضل جعفر التزمنتي وغيره واشتغل عليه الطلبة طائفةً بعد طائفة، وتولى الإعادة بالشريفية وغيرها. وأقام مدة بمدرسة الملك يلقي فيها الدروس، وتجرد مدةً مع الفقراء، وجرى على طريقهم في القول بالشاهد، وأقام بجامع عمرو بن العاص يستغل ويشتغل، وهو قوي النفس، حد الخلق، مقدام في الكلام، وهو من أهل بيت معروفين بالعلم والصلاح.
الحسين بن علي بن مصدق بن الحسنشرف الدين أبو عبد الله الشيباني الواسطي الصوفي بخانقاه سعيد السعداء.
رأيته غير مرة، واجتمعت به عند الصاحب أمين الدين، فأنشدني رحمه الله تعالى جملة من شعره.
وكان شكلاً كاملاً طويلاً هائلاً، ذا ذقن فرشت على صدره، وكادت تسيل فتملأ سعة حجره، ينشد ويتفيهق، ويسيل دمعه فيترقرق، له أبهة في النفوس وجلاله، وعلى كلامه من الذوق أمارة ودلاله.
ولم يزل على حاله إلى أن رأى ابن مصدق الحق اليقين، ولحق بمن تقدمه من المتقين.
وتوفي رحمه الله تعالى ... .
أنشدني من لفظه لنفسه:
وأحور أحوى فاتن الطّرف فاترٍ ... مسير بدور التمّ من دون سيره
إذا جئت أشكو طرفه قال خدّه: ... ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره
فأنشدته أنا لنفسي في مليح نائم:
سباني خدٌّ من فتىً كان نائماً ... فقال عذولٌ شره دون خيره
أتهوى ولم تدر العيون فقلت: دع ... ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
وأنشدته أيضاً لنفسي في مليح يقابل كتاباً:
قابلت كتباً مع حبيبٍ هاجرٍ ... فسرّ قلباً كاد أن يفنى وله
فقلت يا وارث قلبي في الهوى ... جمعت بين الجبر والمقابله
فأنشدني هو لنفسه:
قابلني المحبوب يوماً وغدا ... يمنحني جماله ونائله
قلت له يا سيّدي جبرتني ... فهل أرى من بعدها مواصله
فقال لي هذا الذي فعلته ... على سبيل الجبر والمقابله
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يا من هواه وحبّه ... غطّى على عيني وقلبي
عطفاً عليّ بنظرةٍ ... فإليك إيجابي وسلبي
الحسين بن علي بن عبد الكافيابن علي بن يوسف بن تمام: الإمام الفاضل الفقيه النحوي العروضي الناظم، أقضى القضاة جمال الدين أبو الطيب ابن العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي.

كان ذهنه ثاقبا، وفهمه لإدراك المعاني مراقبا، حفظ التسهيل لابن مالك، وسلك من فهم غوامضه تلك المسالك، وحفظ التنبيه، وكان يستحضره وليس له فيه شريك ولا شبيه، وقرأ غير هذا.
وكان يعرف العروض جيداً، ويبيت لأركان قواعده مشيداً، وينظم الشعر بل الدرر، ويأتي في معانيه بالزهر والزهر، وكانت مكارمه طافحه، وأنامله غيوث سافحه، كثير التواضع في الملتقى، غزير المروءة لا يصل النجم معه فيها إلى مرتقى، عفيف اليد في أحكامه، لم يقبل رشوة أبداً، ولم يسمع بذلك في أيامه، يتصدى لقضاء أشغال الناس، ويعامل من أساء أو أجرم معاملة متغاض متناس، فأحبته القلوب، ومضى حميداً على هذا الأسلوب. إلى أن نغص شبابه، وتقطعت بمن يوده أسبابه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم السبت ثاني شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
ومولده في شهر رجب الفرد سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
وقلت أرثيه:
رزء الحسين عظيمٌ ... وهو العذاب الأليم
ومالنا فيه إلاّ ... صوب الدموع حميم
والصبر أولى ولكن ... صبر الفؤاد عديم
ففي العيون دموعٌ ... تنهلّ منها الغيوم
وفي الحشى زفراتٌ ... منها تشبّ الجحيم
والليل صار حداداً ... تقمّصته النجوم
وللسحائب خدٌّ ... من الرّعود لطيم
والجوّ ضاق خناقاً ... فما يهبّ نسيم
وما تنفّس صبحٌ ... بل راح وهو كظيم
حزناً لقاضٍ قضى ما ال ... ذمام منه ذميم
وكان قاضي عدلٍ ... صراطه مستقيم
يقضي بحقٍّ وصدقٍ ... عن الهوى لا يريم
ترى الثناء عليه ... قد طاب منه الشميم
يلقى الورى منه وجهٌ ... طلق المحيّا وسيم
وثغره في ابتسام ... به يسرّ الغريم
وخلقه مثل روضٍ ... والنبت منه غميم
وجهٌ حييٌّ وخلقٌ ... سهلٌ وصدرٌ سليم
أحبّه الناس حتّى ... مظلومهم والظّلوم
فلو يجور وحاشى ... قضى ارتضته الخصوم
إن الزمان أراه ... بمثله لعقيم
لو كان يفدى لجادت ... أرواحنا والجسوم
وإنّما الموت أمرٌ ... لم ينج منه عظيم
وذاك فينا وفي من ... قد فات داءٌ قديم
قاضي القضاة تصبّر ... فالخطب فيه جسيم
لكنّ مثلك راسٍ ... لمّا تخفّ الحلوم
قد كان درّة عقدٍ ... والسلك فيه نظيم
فما يضرّ سناه ... إن زاك منه قسيم
ودرّه في اتّساقٍ ... والكلّ درٌّ يتيم
إذا بقي أخواه ... فسوف تؤس الكلوم
فلا تبت في عذاب ... وقد حواه النّعيم
يصافح الحور منه ... في الخلد كفٌّ كريم
وأنت تعلم أنّ ال ... ذي دعاه رحيم
وما تقاك ضعيفٌ ... ولا نهاك سقيم
وكلّنا سوف نمضي ... وما عليها مقيم
وكنت أنا قد كتبت إليه:
عندي جمال الدين مسألةٌ غدا ... بيانها فيما لديك محرّرا
إذ أنت من بيتٍ جميع بنيه قد ... فازوا بما حازوا وقد سادوا الورى
إن جاودوا ألفيتهم صوب الحيا ... أو جادلوا أبصرتهم أُسد الشّرى
فاطلع بأُفق الفضل شمساً أشرقت ... لا ترض أنّك فيه بدرٌ أسفرا
وأعد جوابي عن سؤالي إنّه ... لك واضحٌ أن رحت فيه مفكّرا
فكّرت والقرآن فيه عجائبٌ ... بهرت لمن أمسى له متدبّرا
في هل أتى لم ذا أتانا شاكراً ... حتى إذا قال الكفور تغيّرا

فالشكر فاعله أتى في قلّةٍ ... والكفر فاعله أتى متكثّرا
فعلام ما جاءا بلفظٍ واحدٍ ... إن التوازن في البديع تقرّرا
لكنّها حكمٌ يراها كل ذي ... لبٍّ وما كانت حديثاً يفترى
فأمنه لا زلت الجواد بفضله ... لمن استعان به لإشكالٍ طرا
فكتب الجواب إلي عن ذلك:
قبّلت أسطر فاضلٍ بهر الورى ... ممّا لديه عجائبٌ لن تحصرا
قد نال في علم البلاغة رتبةً ... عنها غدا عبد الرّحيم مقصّرا
وأراد منّي حلّ مشكلة غدا ... تبيانها عندي كصبحٍ أسفرا
وجوابه أنّ الكفور ولو أتى ... بقليل كفرٍ كان ذاك تكثّرا
بخلاف من شكر الإله فإنّه ... بكثير شكر لا يكون مكثّرا
فإذاً مراعاة التوازن ههنا ... محظورةٌ لمن اهتدى وتفكّرا
فاصفح فعجزي عن جوابك ظاهرٌ ... كظهور ما بين الثّريّا والثّرى
وكتب هو رحمه الله تعالى إلي ملغزا:
يا أيّها البحر علماً والغمام ندىً ... ومن به أضحت الأيام مفتخره
أشكو إليك حبيباً قد كلفت به ... مورّد الخدّ سبحان الذي فطره
خمساه قد أصبحا في زيّ عارضه ... وفيه باسٌ شديدٌ قلّ من مهره
لا ريب فيه وفيه الرّيب أجمعه ... وفيه يبسٌ ولين البانة النّضره
وفيه كلّ الورى لمّا تصحّفه ... وضيعةٌ ببلاد الشام مشتهره
فكتبت أنا الجواب إليه وهو في ريباس.
؟

الحسين بن علي بن أبي بكر بن محمد
الشيخ الإمام الفاضل بهاء الدين بن تاج الدين أبي الخير الموصلي الحنبلي، شيخ الحديث بالعساكرية، وأحد العدول بمركز المسمارية.
كان شيخاً طوالا، وفاضلاً لا يتمارى ولا يتمالا، ذكي الفطره، زكي العشره، جيد الذهن صافيه، وافي ظل الأدب ضافيه، ينظم جيدا، ولا يدع الكلام يخرج من فيه إلا مفيداً مقيدا. له قدرة على حل الألغاز ونظمها، وقوة على الإصابة في مرامي سهمها.
لم يزل على حاله في الارتزاق بالشهادة إلى أن مات على الشهادة، وأحسن الله إليه معاجه ومعاده، فسكنت شقاشقه، وأصابته من الحمام رواشقه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق في رمضان سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
ومولده في شهر رجب سنة تسعين وست مئة.
قدم الشام قبل الثلاثين وسبع مئة، وأقام بدمشق إلى أن مات رحمه الله تعالى.
وتوجه إلى الديار المصرية، وأقام بها دون الشهرين، وعاد، وكان بيده خطابة قرية دومة قريباً من سنة، ثم انفصل منها، وكان يكتب جيداً ويحب المؤاخذة والمناقضة، وقل من سلم منه من أهل عصره. وكتب بخطه كتابي فض الختام عن التورية والاستخدام وقرأه علي.
وكان يروي جامع الأصول عن رجل عن المصنف، كما قال رحمه الله تعالى.
وبيني وبينه مكاتبات ومحاورات ومراجعات ذكرت منها جانباً في كتابي ألحان السواجع بين البادي والمراجع.
وكان يحب نظم الضوابط، وكتب هو إلي ملغزا:
وما اسمٌ إذا فكرت فيه وجدته ... يحلّ بتصحيفٍ محلاًّ مستّرا
بديع فعالٍ ليس يدرك صنعها ... إذا فكّر الإنسان فيه تحيّرا
ويزري به معكوسه مطلقاً فإن ... أتى فيه تصحيف فلا تسأل القرى
فتصحيفه فيه دقيقٌ وبعضه ... قصيرٌ وبعضٌ قد علا وتجبّرا
وإن صحّف التصحيف من عين فعله ... فذلك محبوبٌ إلى سائر الورى
فقد جمع الضدّين نفعاً وضرّةً ... وجمعاً وتفريقاً وحلواً ممرّرا
وقد جاء في التنزيل آيٌ بذكره ... وذلك أمرٌ ظاهرٌ للّذي قرا
وجملته في الليل يمكن حصرها ... وإن سيم عدّا في النهار تعذّرا
فكتبت أنا الجواب عنه، وهو في نحل:
قريضك فينا قد غدا شامخ الذّرى ... نرى طرسه عند البيان مزهّرا
تغوص على المعنى الخفيّ بقدرةٍ ... تريك دجى الإشكال في الحال نيّرا

أحاشيك من عكس الذي قد أردته ... وألغزته يا فاضلاً بهر الورى
وحاشاك من تصحيفه فهو خلّةٌ ... غدا بغضها في الناس شيئاً تقرّرا
فلا زلت تهدي للأنام بدائعاً ... من النظم ما انهلّ الغمام على الثرى
وكتب هو إلي أيضاً ملغزاً:
وصاحبٌ مستحسنٌ فعله ... ليس له ثقلٌ على صاحب
فتىً ولكن سنّه ربّما ... زادت على السبعين في الغالب
قلت وقد قالوا أبن ما اسمه ... ليعلم الشاهد للغائب
ظننتم تصحيف معكوسه ... يخفى وليس الظّنّ بالكاذب
فكتبت أنا الجواب إليه وهو في مشط:
أفدي بهاء الدين من فاضلٍ ... في النّظم لم يخرج عن الواجب
ألغز في شيء غدا حمله ... على رؤوس الناس في الغالب
تراه لا تضحك أسنانه ... يا حسنه من أصفرٍ شاحب
كم غاص في ليل شبابٍ وكم ... قد لاح في صبح من الشايب
وكتب هو إلي ملغزاً:
وصاحب مكرّمٍ ... ينعته من وصفه
يجود بالنّفع على ... من دهره ما عرفه
وليس يكسى حلّةً ... إلاّ بها قد أتحفه
ولا يزال عارياً ... وبرده قد أنجفه
وعكسه مصحّفاً ... تقبيل ثغرٍ بشفه
فكتبت أنا الجواب، وهو في ميل:
هذا بهاء الدين لا ... يزال يبدي طرفه
ألغز في شيءٍ حكى ... من كلّ قدٍّ هيفه
وفيه من ذاك الذي ... حوشيته بعض الصّفه
بطول شبرٍ رأسه ... أملس رابي الهدفه
إن غاص في شقّ فما ... يبلّ إلا طرفه
وكتب إلي كثيراً من الألغاز والأحاجي وغير ذلك، وأثبت بعض ذلك في ألحان السواجع.
الحسين بن علي بن حمد الغزيعز الدين أخو الحسن بن علي الغزي، تقدم تمام نسبه في ترجمة أخيه.
كان يعمل بيده عدة صنائع، ويتقن أشياء عرفه فيها ضائع، ومعروفه ضائع. وكان يلعب بالعود ويتقن نجارته، ويأتي فيه بأشياء إلا أنه لم تربح فيه تجارته، فإنه كان عثيرا، ولا يزال إلى معروف الناس فقيرا.
وكان ينظم نظماً مقاربا، ويكتب خطا ما وصل طبقة أخيه ولا ربا، وكتب في الدرج بعد وفاة أخيه وأقام مدة إلا أنه لم تشد في ذلك أواخيه:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
ولم يزل على حاله إلى أن توجه إلى مصر، فطعن بها وتردى برداء تربها.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الاثنين ثامن شهر رجب الفرد سنة أربع وستين وسبع مئة.
كان هذا عز الدين أصغر من أخيه بدر الدين، كان يعمل بيده عدة صنائع ويعاني التصوير، ويصنع ذلك، ولم يكن في ذلك مجيداً، كما جود نجارة العود، فإنه نجز للأمير سيف الدين طقطاي الدوادار عوداً كان عجباً من العجائب، وكان يلعب بالعود، ووقفني مرة على مصنف، وضعه في الموسيقى.
وكان قد دخل بعد وفاة أخيه بدر الدين إلى ديوان الإنشاء بدمشق وأقام به في قلة محصول من معلومه وتأخره، إلى أن قطع الناس في أيام الوزير فخر الدين بن قروينه، وكان في جملة من قطع، ثم إنه يستكتب في الديوان على كتب القصص بغير معلوم.
وفي أيام القاضي جمال الدين بن الأثير منع من ذلك، فساءت حاله وتوجه في صحبة شمس الدين بن أبي السفاح إلى مصر، فطعن في يوم والثاني. وتوفي رحمه الله تعالى، وكان يكتب مقارباً وينظم كذلك.
؟

الحسين بن عمر
ابن محمد بن صبرة، مؤنث صبر: الأمير عز الدين.
كان من الأمراء بدمشق، وتولى بها الحجوبية، وهو من بيت له في السيادة سمو، ومن أصل له في الرياسة نمو، ومن قبيل لهم في المكارم رواح وغدو.
وعمر إلى أن بلغ الثمانين، ووقف جواد عمره الركض في تلك الميادين، نقل في آخر عمره إلى طرابلس على إقطاع ضعيف، وخبز ما يشبع من أكله وحده من غير مضيف.
ولم يزل بها إلى أن فقد الصبر ابن صبره، ونزل بعد بلوغ الثريا قبره.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة خمس عشرة وسبع مئة.

وكان أولاً بدمشق حاجباً مدة، وولي الصفقة القبلية عوضاً عن الرستمي في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة إلى أن نقل آخر عمره إلى طرابلس على إقطاع ضعيف، فكثر الدين عليه وساءت حاله وقل ماله، وكانت نقلته إلى طرابلس في جمادى الأولى سنة أربع عشرة وسبع مئة.
أنشدني لنفسه إجازة العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود ما كتبه إلى الأمير عز الدين بن صبره لما كان بطرابلس:
سلوا عنّي الصّبا فلها بحالي ... وحمل رسائل العشّاق خبره
لتخبركم بأنّي حيث كنتم ... حليف صبابة بكم وعبره
وإني في البعاد وفي التداني ... وحيث حللت عبدٌ لابن صبره
أميرٌ هام بالإحسان وجداً ... به فكأنه من حيّ عذره
تواضع كالنجوم دنت سناءً ... لنا وعلت فأعلى الله قدره
من القوم الأولى كرموا حدوداً ... وآباءً وأعماماً وأُسره
فللدنيا بهم شرفٌ وفخرٌ ... وللإسلام تأييدٌ ونصره
إذا ضنّ الحيا خلفت نداه ... أكفّهم فعاد العسر يسره
أتيت دمشق إذ جازت إليها ... كتائب من أعزّ الله نصره
وكان مجرّداً وفقدت حظّي ... برؤيته وعدت بألف حسره
أعزّ الدّين دعوى ذي دعاءٍ ... يواليه لكم سرّاً وجهره
تذكّر عصر أُنسٍ في حماكم ... أتى وقضى فحيّى الله عصره
وسطّرها وماء الدمع منكم ... إذا ما خطّ سطراً بلّ سطره
هجرت دمشق فالورقاء تبكي ... أسىً وعلت على الأوراق صفرة
وجئت الثغر تكلؤه وتحمي ... سواحله سطاً وتصدّ بحره
فخار لك المهيمن في رباط ... أقمت بساحتيه فحزت أجره
فلا زالت جيادك حيث سارت ... تسايرها السعادة والمسرّه
فحيث حللت كنت رفيع قدرٍ ... لراجيه على الإحسان قدره
الحسين بن محمّد
ابن الحسين محمد بن الحسين بن زين الحسين بن مظفر بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله العوكلاني، بالعين المهملة المفتوحة والواو الساكنة، وبعدها كاف مفتوحة ولام ألف، ونون وياء النسبة: ابن موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
القاضي الكاتب الناظم الناثر شهاب الدين أبو عبد الله الحسيني المعروف بابن قاضي العسكر، موقع الدست الشريف بالقاهرة.
إن نظم قلت: البحر يلتطم، وإن نثر قلت: السيل يحتد ويحتدم كأنه يترسل، ومترسل يتوصل بالبلاغة ويتوسل، بديهته تسبق قلمه، ورويته تلحق بالدر كلمه، ذو نفس ممتد، وفكر محتد، وإنشاء معناه مبيض في خلال السطر المسود. كم أنشأ من تقليد، وكتب من توقيع نسخ بين دفتي التجليد، وقضي لذكره بالتخليد، وراسل إخوانه بكتاب ألقى إليه البيان بالإقليد، وولد معانيه الغامضة فتضرج خد البلاغة من توريد ذلك التوليد، وكان قد أنشأ شيئاً كثيراً، وخلد منه ما لا يعرف له نظيراً، وباشر كتابة السر في حلب، ولم تطل المدة حتى انقلب، فرجع إلى وطنه باختياره، وفرحت مصر بازدياده.
ولم يزل على حاله على وظيفته إلى أن تلاشى كيانه، وأودى بيانه، وسكتت الشقائق، وقرطست تلك الأسهم الرواشق.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شعبان يوم الاثنين سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
وسألته عن مولده فذكر أنه في سنة ثمان وتسعين وست مئة بالقاهرة في سويقة الصاحب.

اجتمعت به ورافقته في ديوان الإنشاء بقلعة الجبل، وبدمشق لما قدم متوجهاً لكتابة سر حلب، وأنشدني كثيراً من نظمه إلى الغاية، وأسمعني من إنشائه ما يزيد على الوصف، ورأيته يكتب وهو ينشي ما يكتبه، وينشدني من شعره غير ما يكتبه، وكان مطيقاً على فني النظم والنثر، له قدرة تامة. كتب بديوان الإنشاء من التقاليد والتواقيع شيئاً كثيراً إلى الغاية. وأجاز لي، على ما ذكره من لفظه، الشيخ شرف الدين الدمياطي وقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد والأبرقوهي. قال: وحفظت التنبيه وبحثته، واشتغل على الشيخ علاء الدين القونوي، ورسم له بالتوقيع بين يدي السلطان الملك الكامل شعبان في سنة ست وأربعين وسبع مئة عوضاً عن القاضي زين الدين محمد بن الخضر لما خرج لكتابة سر الشام، وكان بيده خطابة وتدريس فيما أظن.
وكتبت إليه من رحبة مالك بن طوق:
ما لقلبي عن حبّكم قطّ سلوه ... كلّ حالٍ منكم لدى الصبّ حلوه
إن بخلتم حاشاكم بوفاءٍ ... أو ثنتكم بعد التّعطّف قسوه
فلكم قد قضى وما نقض العه ... د محبٌّ ولي بذلك أُسوه
يا ابن بنت النّبي قل لي وقولي ... يا بن بنت النبي أفضل دعوه
هل بدا في الوفاء منّي نقضٌ ... أو جرى في الحفاظ منّي هفوه
فعلام الإعراض والصّدّ عمّن ... لم يجد في سوى معاليك صبوه
كيف أنسى ساعات وصل تقضّت ... وبعطفي منها بقيّة نشوه
ما خلت خلوة ولم ألق فيها ... من عذارى حديثك العذب جلوه
حيث لي من حديثك النظم والنث ... ر متى ما أردت كاسات قهوه
ومعانٍ كالحور زفّ حلاها ... منطقٌ تشخص الأفاضل نحوه
كان في مصر لي بقربك أنسٌ ... عن أُناسٍ لهم عن الخير نبوه
وأرى رقّة الحواشي التي عن ... دك تغنى عمّن غدا فيه جفوه
وإذا ما أتيت ألفيت صدراً ... منك لي في حماه حظٌّ وحظوه
واقتعدت الفخار بين البرايا ... وتسنّمت في السّيادة ذروه
وأرى أن لي إذا زرت أرضاً ... أنت فيها التشريف في كلّ خطوه
كيف لا والولاء في قومك الغرّ ... أراه في الدين أوثق عروه
منيتي أن أرى حماك بعيني ... لا أراك الحمى ولا دار علوه
آه لو تنصف الليالي إذ ما ... حكمت بالبعاد من غير عنوه
أو لوانّ الفراق يقبل مني ... في اقتراب الدّيار من مصر رشوه
يا زماناً بمصر ولّى حميداً ... هل يجيب الإله لي فيك دعوه
فكتب إلي الجواب عنها تسعةً وستين بيتاً:
أنسيم الصّبا على الروض غدوه ... سحبت ذيلها على كلّ ربوه
وسرى لطفها إلى الدّوح فارتا ... ح فكم رنّحت معاطف سروه
أم سقيط النّدى على الورد كاليا ... قوت إذ يجعل اللآلئ حشوه
أم تثنّي الغصون في حلل الزّه ... ر سقاها السحاب كاسات قهوه
أم مسيل المياه بين رياضٍ ... بنضار الأصيل أمست تموّه
أم غناء الحمام غرّد في البا ... ن وأضحى به يرجّع شدوه
أم نجوم السماء زهرٌ أم البد ... ر منيرٌ أم مشرق الشمس ضحوه
أم وصال الحبيب بعد صدودٍ ... فأتى ذا لذا فأسرع محوه
أم حديث العذيب يعذب في ك ... ل لهاةٍ لمن تذكر لهوه
أم كتابٌ قد جاءني من خليلٍ ... بارع فالخليل لم ينج نحوه
رحب باعٍ لرحبة الشام وافى ... ذو وفاء وعفّة وفتوّه
سامقٌ فوق هضبة المجد والع ... ز سبوق لم يدرك الناس شأوه
ناظمٌ ناثرٌ بليغٌ بديعٌ ... ماهرٌ باهر المقالة أفوه
حيثما حلّ في الممالك حلّى ... وغدا وارداً من الحمد صفوه

بعد حولين قد أتاني فأهلا ... وحباني عذب الكلام وحلوه
وعناني من عبد دارٍ ولكن ... غصبته أيدي الحوادث عنوه
وأرادوا حمول ذكري فغاروا ... منه لمّا أعلى بذكري ونوّه
حجبوه عني فأظهره الل ... ه لعيني، أتحجب الشّمس هبوه
منها:
يا صلاح الدين البديع نظاماً ... والذي من انشائه لي نشوه
لا تلمني على تأخّر كتبي ... إذ ألمّت بحدّ ذهني نبوه
كنت في شدّةٍ وقد فرّج الل ... ه ونجّى، فصرت منها بنجوه
منها:
أنا سبط النّبي وابن عليّ ... شرفٌ باذخٌ لأرفع ذروه
وإذا ما اعتراني الدّهر بالعد ... وان أمسكت منهما أيّ عروه
وطلب مني بشتا أسود، فجهزته إليه وكتبت معه:
يا سيّداً ما زال يدعى سيّدا ... حاز المكارم والعلا والسّؤددا
شرّفتني بأوامرٍ دأبي لها ... مهما أتى مرسومها أن أسجدا
وطلبت بشتاً أسوداً من جلّقٍ ... ولو اقتصرت لبست حظّي الأسودا
لبس العباءة والعيون قريرةٌ ... خيرٌ من الحلل الحرير مع الرّدى
فألبسه فضفاض الذيول حكى دجا ... لوناً فوجهك فوقه ليلٌ بدا
فكتب الجواب عن ذلك:
حيّا دمشق وأهلها غيث النّدى ... وسقى معاهدها الحيا متعهّدا
دارٌ خليل الصدق ساكن ربعها ... ما عنه منّي بالرّضا أن أبعدا
الفاضل المتفضّل الحبر الذي ... جمع المحاسن كلّها متفرّدا
الناظم العقد الفريد قريضه ... والناثر الدرّ النّفيس منضّدا
والكاتب الحسنات في صحفٍ له ... بيضٍ لها اسودّت وجوهٌ للعدى
الصاحب المولي الجميل صحابه ... متفضلاً متطوّلاً متودّدا
وصلت وصلت إليّ منك عوارفٌ ... قرباً وبعداً برّها لن يفقدا
وأتى إليّ البشت مقترناً بما ... لك من يدٍ بيضاء كم وهبت ندى
صوفٌ به لذوي الصّفاء تلفّعٌ ... شعرٌ شعار من اغتدى متعبّدا
قد جاء من جهة الصلاح محبّذا ... هو من لباس تقي به قد أسعدا
قد قمت في ليل الشّتاء به إلى ... ربّ السّما أدعو له متهجّدا
قلت: وبيني وبينه مكاتبات كثيرة ذكرتها في كتابي ألحان السواجع.
الحسين بن محمد بن عدنانتقدم تمام نسبه في ترجمة أخيه أمين الدين جعفر بن محمد، هو الشريف زين الدين الحسيني بن أبي الجن.
كان كاتباً مشهورا، وفاضلاً في أهل الاعتزال مذكورا، فارس جلاد وجدال، ومقام في انتصار مذهبه ومقال. خدم بكرك الشوبك زمانا، ونقل إلى دمشق فوفى لها بالسيادة ضمانا، وتنقل في المباشرات، وتنفل بعد الفرض في المعاشرات، وولي نظر حلب، وجلب إليها من السيادة ما جلب، ثم إنه ولي نقابة الأشراف بدمشق، ونظر الديوان، وجلس في دسته كأنه كسرى في الإيوان، ولما وصل غازان إلى دمشق، واستحوذ عليها ووصل بغول المغول إليها دخل في تلك القضيه، وجبى الأموال من الرعيه، ولما نصر الله الإسلام، ورفع ما كان تنكس منه من الأعلام عوقب الشريف وضرب، وسجن وسحب، وصودر هو وأخوه الشريف أمين الدين، وأخذ منهما جمله، ومزق الله سعدهما وشت شمله. ثم طلب زين الدين إلى القاهرة، ودامت شدته متظاهره، فطلبه الأفرم مرات ليحاققه، ويبصر إن كان الحق معه ليوافقه، فلما أرسل إليه ولاه نظر ديوانه، وألقى إليه من أمره فضل عنانه، وولاه أيضاً نظر الجامع وغيره، ثم إنه عاد إلى مدرج طيره.
ولم يزل على حاله إلى أن شخصت عينه، ووافاه حينه.
وتوفي في سادس ذي القعدة سنة ثمان وسبع مئة.

وهو، رحمه الله، والد السيد علاء الدين نقيب الأشراف. وكان الأفرم قد ولاه نظر ديوانه عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني في جمادى الأولى سنة ثمان وسبع مئة، ولما مات كان بيده نظر ديوان الأفرم، ووكالة الأفرم، ونظر الجامع، وبقي في ذلك مدة يسيرة نحو خمسة أشهر، وتوفي رحمه الله تعالى وعمره نحو خمسة وخمسين عاماً، وتولى نظر الجامع بعده القاضي شرف الدين بن صصرى، وكان قد ولي نقابة الأشراف في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبع مئة.
الحسين بن محمد بن إسماعيلالشيخ الجليل الزاهد العابد الكبير نجم الدين أبو عبد الله القرشي المعروف بابن عبود.
كانت له وجاهة في الدولة عظيمه، ومكانة دونها النجوم التي تزين الليالي البهيمه، إذا قام في أمر كان به أقعد من الوزير، وأنفذ فيه من الأسد إذا يزير، خبيراً بطرق السعي، قديراً على ما يرويه لما لعهوده من الرعي، وهو الذي قام في ولاية الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد حتى تولى القضاء وألزمه بقبول ذلك الضيق بعدما كان فيه من الفضا، لأنه ما زال وجيهاً في الدول، معظماً عند الملوك الأول.
ولم يزل على حاله إلى أن أفل نجمه فما طلع، ولحق الناس ما لحقهم عليه من الهلع.
وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة الجمعة ثالث عشري شوال سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة وقد جاوز السبعين. وحضر جنازته جمع عظيم، وقام بالمشيخة بعده في الزاوية ابن أخيه الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ بدر الدين حسن، وزاويتهم في القرافة مشهورة.
الحسين بن محمد بن عمرابن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن محمد بن المسلم بن هلال، الصدر الأصيل معين الدين أبو علي بن الشيخ الصدر الكبير عماد الدين بن هلال الأزدي الدمشقي.
سمع من ابن أبي اليسر، وأبي بكر بن محمد النشبي، وسعد الدين بن حمويه، والمسلم بن علان، وابن شيبان، والرشيد العامري، وجماعة.
وحدث. وكان يشهد على الحكام وهو منقطع عن الناس. فيه مروة وإحسان، وكرم ومعرفة بالأمور.
توفي رحمه الله تعالى ثاني عشر جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة.
حسين بن محمد بن قلاوونالأمير جمال الدين ابن السلطان والملك الناصر بن السلطان الملك المنصور.
كان من أولاد السلطان الملك الناصر، ولم يتول الملك، وهو آخر أولاد السلطان موتاً فيما أظن، وخلف أموالاً عظيمة، وكان الناصر حسن وغيره من إخوته يخافونه.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وسبع مئة.
وكانت تختلف عليه الأحوال؛ تارة يكون أمير مئة مقدم ألف، وتارة أمير طبلخاناه.
أبو الحسين بن محمودابن أبي الحسين بن محمود بن أبي سعيد بن أبي الفضل بن أبي الرضا: الإمام جمال الدين الربعي البالسي.
كان قد أم بالشجاعي مدة، وترقى إلى أن أم بالسلطان الملك الناصر محمد من سنة ثمان أو سنة تسع وتسعين وست مئة إلى حين وفاته. وكان أكبر الأئمة.
وكان شيخاً فاضلاً عالماً، برياً من الكبر سالماً، كثير التلاوة للقرآن، حسن الأخلاق مع الأصحاب والإخوان، كتب بخطه الكثير، من ذلك كشاف الزمخشري، تفسير القرآن الكريم.
وكان حسن الخط، جيد الضبط، قسم أوقاته ما بين التلاوة والذكر والتسبيح والمطالعة وكتابة العلم. وكان يتهجد كثيراً.
وقرأ بالسبع على الشيخ برهان الدين المالقي. وقرأ عليه مختصره للمقرب بحثاً، وحفظ أكثره.
وقدم القاهرة سنة ستين وست مئة، وأقام بها إلى أن توفي بها بمنزله في درب الأتراك، في شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده ببالس سابع عشر شهر رجب سنة ست وأربعين وست مئة.
قال شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي: سألته عن اسمه فقال اسمي كنيتي، وهكذا سماني والدي.
قلت: وتزوج شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس ابنته فيما أظن.
الحسين بن يوسف بن المطهرالشيخ الإمام العلامة ذو الفنون، جمال الدين بن المطهر الأسدي الحلي المعتزلي.

عالم الشيعه، والقائم بنصرة تلك الأقاويل الشنيعه، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته، ودلت على كثرة أدواته، وكان ريض الأخلاق حليما، قائماً بالعلوم العقلية حكيما، طار ذكره في الأقطار، واقتحم الناس إليه المخاوف والأخطار، وتخرج به أقوام، ومرت عليه السنون والأعوام، وصنف في الحكمه، وخلط في الأصول النور بالظلمه، وتقدم في آخر أيام حزابندا تقدماً زاد حده، وفاض على الفرات مده.
وكان له إدارات عظيمه وأملاك لها في تلك البلاد قدر جليل وقيمة، ومماليك أتراك، وحفدة يقع الشر معهم في أشراك.
وكان يصنف وهو راكب، ويزاحم بعظمته الكواكب. ثم إنه حج وانزوى، وحمل بعد ذلك الرهج وانطوى.
ولم يزل بالحلة على حاله إلى أن قطع الموت دليله، ولم يجد حوله من حوله حيله.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وقيل: سنة ست وعشرين وسبع مئة، وقد ناهز الثمانين.
ومن تصانيفه شرح مختصر ابن الحاجب، وهو مشهور في حياته وإلى الآن، وله كتاب في الإمامة رد عليه العلامة تقي الدين بن تيمية في ثلاث مجلدات كبار، وكان يسميه: ابن المنجس، وله كتاب الأسرار الحفية في العلوم العقلية.
حسين الموله التركمانيكان يحلق ذقنه، ويتركها فترى كأنها ظرف حقنه، ويمشي في الطرق حافيا، ولم يكن عن النجاسات متجافيا، وسخ الثياب دون الإهاب، يحدث نفسه، ويحرك رأسه، ويكثر الحلف بالله تعالى، وربما نطق بشيء من الغيب وتعالى، وبعض الناس اعتقد صلاحه، وبعض الناس ودلو أغمد فيه سلاحه.
الألقاب والأنسابالحصيري: نظام الدين أحمد بن محمود.
الحظيري: شمس الدين عبد القادر بن يوسف بن حشيش علم الدين مسعود بن أبي الفضل، وولده معين الدين هبة الله.
أبو حفصالشيخ زين الدين قاضي القضاة المالكي بحلب.
كان رجلاً معدوداً برجال، وخصماً لا تثبت له الخصوم في مجال، ولا يقعقع له بالشنان، ولا يولي الدبر من بارقه سيف ولا لمع سنان، يطلب ولا يني فتورا، ويدأب ليله ونهاره على التقدم، ولا يراه الدهر ضجورا. تقدم من غير علم بسعيه، وخدم الناس حتى التزموا بحقه ورعيه.
ما زال يسعى إلى أن قال حاسده ... له طريقٌ إلى العلياء مختصر
ولي القضاء بحلب، وتوجه إليها في أوائل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها قاضي القضاة إلى أن توفي رحمه الله تعالى.
وجاء الخبر إلى دمشق بموته في أوائل شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
وثور في هذه المدة نعمةً طائلة، وحصل كتباً كثيرة. وكان في أول حاله بدمشق أميناً في طواحين الأشنان، ثم إنه بقي يخدم كتاب الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب دمشق، فيستخدمونه في الأمانات على بيوع حواصل الأمير، ثم جلس في حانوت الشهود، وبقي يتوجه في كل سنة صحبة بدر الدين الغزي إلى القدس شاهداً على حاصل قمامة. ولما عزل القاضي شهاب الدين الأرتاحي المالكي من قضاء حلب شرع يسعى في المنصب والناس يعجبون منه إلى أن ورد المرسوم بتوجهه إلى حلب.
وقلت أنا فيه:
اجهد ولا تقتصر يوماً على طلب ... فالشّهم من لم يقف في السعي عند طلب
هذا أبو حفص مع جهل يؤخّره ... سعى إلى أن غدا قاضي قضاة حلب
الألقاب والأنسابابن أبي حليقة: علم الدين رئيس الأطباء بمصر إبراهيم ابن أبي الوحش.
ابن الحلبي: القاضي بهاء الدين ناظر الجيش بمصر عبد الله بن أحمد، وولده القاضي فخر الدين ناظر جيش دمشق محمد بن عبد الله.
والحلي: صفي الدين الشاعر عبد العزيز بن سرايا.
والحلي الرافضي: علي بن حسن.
حمادالمقرب الحلبيابن الشيخ الصالح الزاهد العابد المقرئ البركة المقرب الحلبي.
كان هذا الشيخ حماد لله وليا، وبكل خير مليا، جاهد دنياه وسلاحه صلاحه، وجاهر أولاه بالإعراض عن زخرفها فلاح فلاح فلاحه، وعمل على النجاة في أخراه فركب طريقها، وصحب أهلها ورافق فريقها. أنوار الصلاح عليه تلوح، وأرج الولاية من أردانه يفوح.
ظهرت له أحوال وكرامات وقام ليله فالتهجد عاش والكرى مات، وصام نهاره وأوقاته كسب وهي للبطال غرامات. جانب ما يدعى بدعا، وحارب شهوات نفسه ورعى ورعا.

زرته في جامع التوبه، وما كادت تصح لي نوبه، واجتهدت على الثانية، فما اتفق لي إليه أوبه، ورأيت منه رجلاً قد أعرض عن العرض الفاني، وأمسك الجوهر الباقي، وترك الدني الداني، وحصلت لي منه بركات، ووصلت إلي بسببه حركات.
وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يعظمه ويعترف بصلاحه، ويشهد باعتزاله عن الناس وانتزاحه، ويتحقق أنه ممن نأى عن الناس وطار بجناح نجاحه. وحسبك بمن ثبت نضاره على ذلك المحك، وأصغى لحديثه وما قطعه من حيث رق ولا رك.
ولم يزل على حاله إلى أن آثر الله لقاءه، ورأى انتقاله إليه وانتقاءه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وعشرين وسبع مئة بدمشق في عشري شعبان.
وكان الشيخ حماد قد ورد من حلب ونزل بظاهر دمشق على رجل من الأولياء بمرج الدحداح، ثم إن الشيخ حماداً انقطع بجامع التوبة يقرئ القرآن تبرعاً، لا يأخذ عليه أجرةً غير الأجر، وكان لا يزال متوجهاً إلى القبلة على طهارة كاملة، لا يبل لأحد شيئاً إلا من قوم قد صحبهم ووثق بهم وعرف ما هم عليه، وهو مستمر الصيام الدائم والاعتكاف الدائم والتلاوة، هذا وقد جاوز التسعين.
ولم يكن يدعي ولا يفتخر، وكان إذا اضطر إلى ذكر شيء من حاله، قال: كان فقير، أو حكى لي فقير، ولا يصرح بذكر نفسه أبداً، ورأيته وعلى جسمه بلاس شعر تحت القميص، وهو شيخ قد أفنته الليالي والأيام وأنحلته العبادة والمجاهدة، وكانت له جنازة عظيمة إلى الغاية.
ابن حماد: محمد بن إسماعيل.
ابن حماد: خطيب حماة: يوسف بن أحمد.
ابن الحمامية: مسعود بن سعيد.
حمزة بن أسعدابن مظفر بن أسعد بن حمزة: الصدر الكبير الرئيس الصاحب عز الدين بن مؤيد الدين بن مظفر ابن الوزير مؤيد الدين أسعد القلانسي التميمي الدمشقي.
كان رئيس الشام وعلم الأعيان، وعين الأعلام، ذا رأي وبصيره، ويد لم تكن في المكارم قصيره. جرى في السيادة على أعراقه، وترنح في روض الرياسة كالغصن في أوراقه، له تجارب، وله غوص في الشدائد إذا نزلت به ومسارب، قد لبس الزمان، وعرف الإخوان، وقالب الدول، وصور بين عينيه سيرة الملوك الأول، صاحب حزم، ورب همة وعزم، وأخا خبرة ودهاء، ومعرفة وذكاء، وافر العقل، يتحرى الصواب إذا ورد عليه النقل. له في مصر والشام وجاهه، والملوك ومن دونهم يعرفون قدره وجاهه، لا ترد له شفاعه، ولا يجلس في مكان إلا توخى رفاعه. أملاكه يعجز عن نظيرها الملوك، وأمواله وجواهره تضيق بها الصناديق والسلوك. قدم أناساً كثيرين واستخدمهم، وبرقعهم بالرياسة وقدمهم.
ولم يزل على حاله إلى أن لبد الموت عجاجته، وكدر مجاجته.
وتوفي رحمه الله تعالى سادس ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
سمع من ابن عبد الدايم، والرضي بن البرهان، وابن أبي اليسر.
وحج مرتين.
وحدث بدمشق والحجاز، وكان قد توجه إلى مصر، واجتمع بالنائب والسلطان وخلع عليه، وعاد في شهر رمضان سنة أربع وسبع مئة، وتوجه أيضاً إلى مصر، وعاد في شهر رمضان سنة ست وسبع مئة، ومعه أمين الدين بن القلانسي، وخلع عليه بطرحة.
وفي ذي القعدة سنة عشر وسبع مئة لبس خلعة الوزارة بدمشق، وكتب في تقليده: الجناب العالي كما يكتب للنائب تعظيماً له.
وأوقع الحوطة عليه الأمير سيف الدين كراي نائب الشام، وعلى جماعة من غلمانه في يوم الأحد سابع شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة، واستمر في الترسيم أكثر من شهرين. وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى من السنة.
أحضره كراي وادعى عليه بريع الملك الذي أشهر عليه القاضي نجم الدين الدمشقي ببطلان بيع الملك الذي اشتراه من تركة قلاوون في المرثا والسبوحة والفضالية، لكونه بدون قيمة المثل، ولعزل الوكيل الذي صدر منه البيع قبل عقد البيع، ولوجود ما يوفى منه الدين غير العقار، وفيما بعد ذلك أمسك كراي، وخرج الصاحب عز الدين من الاعتقال في يوم الخميس ثالث عشري جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة من دار السعادة إلى الجامع، وصلى الظهر، وتوجه إلى داره، ووقف له الناس في الطرق، وأوقدوا الشموع.

ثم إنه عاد وجلس بدار الحديث أكثر من عشرين يوماً، إلى أن وصل نائب السلطنة الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك، ثم إنه وصل تقليده بإعفائه من الوزارة، واستقراره في وكالة السلطان، وتوجه إلى الديار المصرية، وغاب شهراً، وعاد على يده كتب السلطان بأنه باق على وكالته، وأن القضاة يحترمونه ويسمعون كلامه، والإنكار لما ثبت عليه وأن ذلك لم يأذن فيه السلطان، وذلك بإعانة القاضي كريم الدين الكبير.
وخلع عليه في سابع عشري الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة باستمراره على نظر الخاص، وعلى الصاحب شمس الدين غبريال بنظر الوقف المنصوري، وخلع على شهاب الدين أحمد بن قطنبة التاجر بوكالة الخاص الشريف.
حمزة شمس الدين التركمانيالوافد من الشرق، كان ظالماً غاشماً، هادماً لمباني الخير هاشماً، له جرأة وإقدام، ومحبة في تلاف النفوس والإعدام.
تقرب إلى الأمير سيف الدين تنكز بحيله الدقيقه، وأصالته في المخازي العريقه. لم تمسكن، وتركن لما سمن بعد الهزال وتعكن، فخرب بيوتاً وزاد متزلزل الشر ثبوتا. وصار يركب في البريد ويفعل في مصر والشام كل ما يريد.
وصار يتحمل المشافهات بين تنكز والسلطان، ويحي إليهما من أذى الناس ما لا يوسوسه الشيطان ودخل معهما في عظائم، وحرك ما كان ساكناً من النمائم، وبدل النسمات العليلة بالسمائم، وآذى أناساً بكت عليهم الغمائم وناحت الحمائم، ولو دام أمره شهراً آخر أهلك الحرث والنسل، ونقل المناصب الجليلة من الكفء الكريم إلى اللئيم الفسل. ولكن أخذه الله من مأمنه. وأثار إليه الشر والهلاك من معدنه، فقطعت أربعته ولسانه، وتنوع قبل ذلك عقابه وذله وهوانه.
وكان هلاكه في شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
كان في أول أمره قد وفد من تركمان الشرق، واتصل بخدمة الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، ولم يزل يحتال بكل حيلة إلى أن بقي يصغي إلى كلامه، ويقبل عليه بوجهه، وأظهر عليه معرفة بلاد التتار، فسيره مرة إليها، وأمره أن يشتري له من هناك جارية، فأحضرها فأعجبته ووقعت من قلبه، وصارت حظيته، وصار بعد ذلك يستمر عنده بالليل، وينفرد به، وكان عنده كتاب شاه نامه في أخبار الفرس، فصار يحفظ من ذلك في النهار ويورده عنده في الليل، وتكرر منه ذكر رستم في تلك الحكايات، وكان يسميه رستم، ثم إنه أخذ في الحط على ناصر الدين محمد بن كوندك دواداره، وهو ما هو عنده من التمكن والمحبة وعلو المكانة، ويذكر جماعته الذين في خدمته، وقرر عندهم أموراً وهم غافلون عنها، إلى أن تحقق بعض ما أوحاه إليه، فعظم ذلك عنده وتمكن حمزة. ولم يزل إلى أن عقر الدوادار، وعمل على قتل علي بن مقلد حاجب العرب، وأبعد الدوادار.
وانتقل منه إلى القاضي شرف الدين أبي بكر بن الشهاب محمود كاتب السر وكان عنده جزءاً لا يتجزأ، وعلى علاء الدين بن القلانسي ناظر ديوانه، وعلى قاضي القضاة جمال الدين بن جمله، وعقر جماعة من البريدية وغيرهم، وتقدم، وصار في رتبة ناصر الدين الدوادار، وصار يروح إلى مصر في البريد ويجيء، ويتحمل المشافهات من السلطان إلى تنكز ومن تنكز إلى السلطان.
وعمل بعد ذلك على جماعة من مماليك تنكز وخواصه الأقدمين، وأبعدهم ونفاهم، ولم يبق عنده أحد في مرتبته، وتمرد وتجبر، وطغى وتكبر، وظلم وبالغ في العسف والجور، وعمر حماماً عند القنوات وشيده وزخرفه، فكثرت الشكاوى عليه في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. فتنمر له الأمير سيف الدين تنكز وسجنه وعذبه، ورماه بالبندق الرصاص وهو واقف قدامه عريان، لأنه هو كان يشير عليه بذلك، فذكر هذه العقوبة ولم يستعملها إلا في حقه حتى تورم، وعمل النساء قماشاً لبسنه في ذلك العصر وسمينه بندق حمزة، وما رق له أحد من سوء ما عامل به الناس. ثم إنه نقله من حبس القلعة إلى حبس باب الصغير مدة، ثم أفرج عنه، ثم بلغه عنه كلمات سوء في حقه، فبعث به إلى مغارة زلايا، فقطع هناك لسانه من أصله، وقطعت يداه ورجلاه فيما قيل، وأصبحت جمرة حمزة رمادا، وبلغ الله عدوه فيه مرادا! وكانت مدته دون السنتين أو ما حولها، وله في الظلم والجبروت والفرعنة حكايات، وجد الجزاء عن بعضها في الدنيا.
حمزة بن شريكالأمير شمس الدين التركماني، المقيم بالقبيبات، أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق.

حج بالركب في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، وهي السنة التي حج فيها الأمير سيف الدين تنكز.
وتوفي شمس الدين حمزة هذا في ثالث شوال سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وجاء الأمير سيف الدين خاص ترك على إقطاعه.
الألقاب والأنسابالحمصي: الأمير علم الدين سنجر.
حمص أخضر: الأمير سيف الدين طشتمر نائب حلب وصفد ومصر.
ابن حمويه: إبراهيم بن محمد.
حميد بن عيسىالأمير شهاب الدين أخو الأمير سيف الدين بن فضل.
ورد كتاب الأمير رمله بن جماز في شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وسبع مئة أن عرب الحجاز قتلوه.
وكان رحمه الله تعالى أعور.
ابن حميد: ناظر الجيش، شمس الدين أبو طالب.
حميضةبالحاء المهملة وفتح الميم، وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها ضاد معجمة: كان أمير مكة، ولقبه عز الدين. وهو ابن الأمير الشريف أبي نمي صاحب مكة.
وكان حميضة هذا قد خرج عن طاعة السلطان، وعصى عليه، وآثر اتباع الشيطان. فولى السلطان أخاه الأمير سيف الدين عطيفه، وحرم جفنه أن يرى طيفه. وبقي حميضة في البرية مشردا، وأمره بين الشر والفساد مرددا، والطلب يضيق عليه الخناق، ويسد عليه فضاء الآفاق، وأهل مكة خائفون من شره، طائفون بالكعبة هرباً من خبث باطنه وسره.
وكان في السنة الماضية قد هرب من مماليك السلطان الملك الناصر محمد لما حج ثلاثة نفر فلحقوا به، وأقاموا عنده، ثم تبين لهم منه أنه ربما يرسلهم إلى السلطان، فقتلوه في وادي بني شعبة، وحضروا إلى مكة، فقيدوا الذي تولى قتله، وجهزه عطيفة إلى السلطان، فقتله به.
وكانت قتلة حميضة في جمادى الآخرة سنة عشرين وسبع مئة.
وكانت قد جرت بينه وبين أخيه أبي الغيث وقعة، فخرج أخوه أبو الغيث، ثم إنه ذبح بأمر أخيه حميضة في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وكان السلطان قد جرد إليه عسكراً، فلما أحس بذلك في ذي القعدة سنة خمس عشرة وسبع مئة نزح قبل وصولهم بستة أيام، وأخذا المال النقد والبز، وهو مئة حمل، وأحرق الباقي في حصنه الذي له بالجديد، وبينه وبين مكة ثلاثة أيام، وقطع ألفي نخلة، والتجأ إلى صاحب الحليف، وهو حصن بينه وبين مكة ستة أيام، وصاهره، فلحقه العسكر، وواقعوه، وأخذوا جميع مال حميضة، وأحرقوا الحصن وأسروا ابن حميضة، وسلموه إلى عمه رميثة.
واستقر رميثة أمير مكة، ولحق حميضة بالعراق، واتصل بخربندا، وأقام في بلاده أشهراً، وطلب منه جيشاً يغزو بهم مكة، وساعده جماعة من الرافضة على ذلك، وجهزوا له جماعة من خراسان، فما اهتموا بذلك حتى مات خربندا، وبطل ذلك.
وكان الدلقندي الرافضي قد قام بنصرته، وجمع له الأموال والرجال على أن يأخذ له مكة، ويقيمه بها، ثم إن محمد بن عيسى أخو مهنا هو وجماعة من العرب وقعوا على حميضة وعلى الدلقندي، فأخذوا ما معهما من الأموال، ودثر حميضة. وكان محمد بن عيسى له مدة في بلاد التتار قد خرج عن طاعة السلطان فحضر عقيب ذلك إلى بلاد الإسلام، فرضي السلطان عنه لذلك.
الألقاب والأنسابابن حنا: الصاحب تاج الدين محمد بن محمد. وشهاب الدين أحمد بن محمد.
ابن حلاوات: موقع طرابلس عمر بن أحمد.
حينئذ: محيي الدين عبد القادر بن أحمد.
الحيسوب: جمال الدين الكاتب عبد الكافي بن عثمان.
ابن أبي الحوافر: بهاء الدين علي بن عثمان. وجمال الدين عثمان بن أحمد.
الحيالي: محمد بن شرشيق.
ابن الحيوان: يوسف بن موسى.
الحوراني: المنشد سليمان بن عسكر. والمحدث يوسف بن محمد.
حرف الخاء

خاص ترك
الأمير سيف الدين الناصري.
كان عند الملك الناصر في الدفعة الأولى والخواص الذين حضروا معه من الكرك، ولهم عنده اليد الطولى.
وكان شكلاً حسناً، تام الظرف، حلو الوجه، أبيض الثغر، أسود الطرف، له قد يقول الرمح إذا رآه: هذا الأسمر ما أذبله ! وذؤابة حب القلوب تجمع فيها، فصارت سنبله. وكانت مع طوله تنزل شبراً عن الحياصه، وإذا خطر بها تهتك المتيم حتى يقول الحيا: صه.
وكان ريض الأخلاق زائد الحلم، لين الجانب في الحرب والسلم.
حضر إلى الشام قبل الثلاثين وسبع مئة، وأقام به إلى أن غرب بدر التمام، وبكى عليه حتى الغمام.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة في يوم الخميس عاشر شهر رجب.

وكان قد زوجه السلطان بابنة الأمير سيف الدين سلار، ولما نزل من القلعة سكن في دار سلار بين القصرين، فأقام كذلك مدة، وجهزه إلى الشام أميراً. وهو والد الأمير صلاح الدين خليل أحد أمراء مصر والشام.
الألقاب والأنسابالخازن: الأمير علم الدين سنجر. والأمير سيف الدين طقتمر. والأمير علاء الدين مغلطاي.
خالد بن المصنف المغنيكان فريد دهره، ووحيد عصره، يعرف علم الموسيقى، ويجيد الضرب بالدف، حتى كأن النغم والضرب له سيقا، قد ملك هذه الصناعة؛ فصارت له ملكه، واقتدر على أصولها وفروعها، وأتى فيها بما لا ذاقه الفارابي ولا علكه. لم أر في عمري مثل اقتداره على هذه الصناعه، ولا مثل سرعة تصنيفه إذا فتح فمه أو مد على الطار ذراعه. قد نظم له عقد هذه الصناعة سلكا، وحاز إرث ما في الأرتماطيقى ملكا. قد عرف النقرات، وما لها من أنس الطباع والنفرات، والأدوار وما لها في الطرب من الإدارات، وجلس في قاعات الإيقاعات، وظهر كالبدر في دارات الطارات.
كان يسافر مع الأمير سيف الدين تنكز في الصيود، وتضمنا وإياه تلك الأغوار والنجود، فننظم له المقطوع الشعر، ونلقيه عليه بما يراه من السعر، فيصنع له في الوقت لحنا، ألذ عند النحوي من إعراب لا يرى فيه لحنا، كأن الله سخر له هذا الأمر وخلقه وفق ذوقه، وجعل من تقدمه تحت تخت هو وحده من فوقه، فكم له ساذخ كله طراز، وكم له من قول ما لحقيقة أحد إليه مجاز. ونقل الناس عنه وإلى الآن أقوالاً معروفه، وسواذخ بالإتقان موصوفه، كل ساذخ كأنه قول أو شيء ما نسخ المتقدمون له على نول، لما فيه من الرنانات المختلفه، والإيقاعات المؤتلفه. ولقد رأيت بمصر جماعة من أرباب هذا الفن وأستاذيه، ومن يعرف هادي طريقته من هاذيه يعترفون له ويعظمونه، ويأخذون در قوله وينظمونه، وقالوا: هذا خالد، ذكره إلى يوم القيامة خالد، لأن علم النغم قال له دون الناس: نعم.
ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن حمل على عود المنايا، ولم يسمع الناس بعده شبابة ولا ناياً.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وثلاثين وسبع مئة تقريباً.
وقلت أنا في رثائه تضميناً:
قد مضى خالد المغنّي وولّى ... وعليه الدموع وقفاً جوار
كم له نوبة، وما كان فينا ... بأميرٍ، تدقّ في الأسحار
ولأقواله المطاعة يعنو ... كلّ من جاء باقي الأعصار
هكذا فلتكن أمارة من أت ... قن فناً وغيره ذو افتقار
رحمة الجنك والدفوف عليه ... وصلاة العيدان والمزمار
خالد بن إسماعيل بن محمدالقاضي الرئيس شرف الدين بن القيسراني المخزومي الشافعي، موقع الدست الشريف بدمشق، ابن القاضي عماد الدين - وقد تقدم ذكره في حرف الهمزة وتمام نسبه هناك - وأخو القاضي شهاب الدين يحيى، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الياء.
كانت فيه رئاسة عظيمه، وسيادة تجلو ظلم الدياجي البهيمه، ومروءة تحمله ما لا يطيق، وعصبية يسير في طريقها مفرداً بلا رفيق، وكرم أنسى خالد به ذكر البرامكة الخالد، وأحيا بطارفه ميت مجده التالد، وقال له كل مؤمل: وبررتني حتى كأنك والد، وإقدام حتى على الأسود والأساود، يذوب عند شمسه الجليد، وشجاعة لا تنكر له فإن ممن ينسب إلى خالد بن الوليد.
وكان في ضميره من الترقي آمال، وله في ذلك نيات صادقة وأعمال، وعنده تشوف إلى وراثة ما لأسلافه من المناصب وله تطلع إلى ارتجاع ما سلبته الليالي بأيديها الغواصب، فحال بينه وبين الوصول إليها حلول أجله، ولم يفرح ذووه وأصحابه ببلوغ سؤله ولا نيل أمله:
تقول له العلياء لو كان نالها ... وجادل فيها من رآه يجالد
وهبت سراة الناس ما لو حويته ... لهّنئت الدّنيا بأنّك خالد
ولم يزل في توقيع الدست إلى أن وقع في المحذور، وأغمد القبر منه شبا السيف المطرور.
وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة السبت ثالث جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وسبع مئة، ودفن بالقبيبات في تربة الصاحب شمس الدين غبريال.
ومولده .. .

وكان والده رحمه الله تعالى لما قدموا إلى دمشق من حلب قد زوجه بابنة الصاحب شمس الدين غبريال، واحتفل به، ورتبه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى في جملة كتاب الإنشاء بدمشق، وذلك في سنة ثماني عشرة وسبع مئة أو ما قبلها، وقرر له معلوماً جيداً. ولما توجه الصاحب شمس الدين إلى نظر الدولة بالديار المصرية توجه معه، ولما عاد منها عاد معه إلى دمشق.
وكان مفرط الجود والكرم، تحمل للتجمل من الديون ما بهظه حمله وآده ثقله، لا تليق كفه درهما ولا ديناراً، غزير المروءة، شجاع النفس، كثير الإقدام على الأخطار، سلمه الله تعالى مرات من العطب لصفاء نيته، وحسن سريرته.
ولما ملك الفخري دمشق في نوبة ألطنبغا جعله كاتب سره، ونفع الناس وولاهم الوظائف، ولم يأخذ من أحد شيئاً. ولما صار الفخري في دمشق، وسكن القصر الأبلق ولاه وكالة بيت المال بدمشق، مع توقيع الدست. ولما توجهوا إلى مصر مع الفخري خرجت عنه للقاضي شرف الدين بن الشهاب محمود، ثم إنه في أيام طقزتمر جلس في توقيع الدست بدمشق.
وكان ينفع الناس قدام النواب، ويثني على من يذكر عندهم، لما عنده من المروءة والعصبية.
وكان يصحب الأمراء، وصحب الأمير فخر الدين أياز نائب حلب، ووقع بينه وبين يلبغا، وطلبه يوم الجمعة يوم هروبه من دمشق، ولو أظفره الله به وجد منه شراً كبيراً، ولكن الله سلم.
وصحب الأمير سيف الدين أرغون الكاملي وهو في مصر. ولما صار في حلب نائباً استمر على صحبته إلى أن عمل نيابة الشام، ثم توجه لحلب ثانياً، ومنها إلى مصر، ولما حضر إلى القدس كان هو وكيله، وقصاده تنزل عنده، وتقضي أشغاله.
وكان فيه خدم للناس كلهم مع إيثاره الفقراء والصالحين، وقضاء أشغالهم وبرهم، وفطورهم في شهر رمضان عنده.
وكان قد قرأ القرآن، وحفظ المنهاج للنووي، وسمع على القاسم بن عساكر. وما رأيت أخطر من أمراضه، ولا أصح من جسمه مع كثرة أمراضه وعلله. ولما كان شاباً كان لا يزال أرمد، ثم لما تكهل كان يتبيع به الدم، فيثور به كل قليل، ويكاد يقتله ويخرج في وجهه أنواع من الماشرا والأمراض الدموية القتالة، وينجيه الله تعالى منها، إلى أن حصلت له قرحة، فأتت عليه، وطولت به قريباً من ثلاثة أشهر.
وكان فصيحاً في اللغة التركية كأنه فيها بلبل.
اللقب والنسبالخالدي صاحب الديوان بالممالك القانية، أحمد بن عبد الرزاق.
ابن الخباز جماعة، منهم: المحدث نجم الدين إسماعيل بن إبراهيم. ومنهم: شمس الدين محمد بن عمر الحلبي الدمشقي. الختني بدر الدين يوسف بن عمر.
خديجة بنت زين عبد الرحمنابن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد المقدسية أم محمد، أم صلاح الدين، وزوج شرف الدين بن الشيخ شمس الدين الحنبلي.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روت لنا عن خطيب مردا، وسمعت من اليلداني، ومحمد بن عبد الهادي، وإبراهيم بن خليل، وابن عبد الدايم. وأجاز لها سبط السلفي، وجماعة.
وتوفيت رحمها الله تعالى في رابع عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولدها تقريباً سنة سبع وأربعين وست مئة.
اللقب والنسبابن الخراط علي بن عثمان. ابن الخشاب صدر الدين أحمد بن عيسى. ابن الخشاب مجد الدين عيسى بن عمر. ومشد الدواوين محمد بن يحيى.
خضر بن بيبرسالملك المسعود بن الملك الظاهر.
كان من أحسن الناس في الشكاله، وأحق من يجعل الحزن والبكا له، عاقلاً مهذباً، ساكناً مدرباً.
أبعد في البحر إلى الأشكري النصراني، وسلاهو وسلامش أخوه مصر، كأنما قالت: لا أراك ولا تراني، وأقام هناك إلى أن توفي أخوه، وعلم أنه قد قل بل عدم مصرخوه، فحضر بعد ذاك خضر، ورأى رونق مصر النضر. فقيل: إنه سقي السم، وعدم من النسيم الشم.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة.
ولما مات كان في سن الكهولة، ووصل إلى مصر من بلاد الأشكري في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
وكان قد ملك الكرك بعد أخيه الملك السعيد، ثم اقتضت آراء الدولة تجهيزه مع أخيه العادل سلامش.
وفي هذا خضر قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر لما ختنه والده الملك الظاهر:
هنّئت بالعيد وما ... على الهناء أقتصر
بل إنها بشارة ... لها الوجود مفتقر

بفرحة قد جمعت ... ما بين موسى والخضر
قد هيّأت لوردكم ... ماء الحياة المنهمر
الخضر بن عبد الرحمنابن الخضر بن الحسين بن الخضر بن الحسين بن عبد الله بن عبدان: الشيخ الأصيل شمس الدين بقية المسندين الدمشقي الكاتب.
تفرد بأشياء من المرويات والأشياخ، وأسمع إلى أن خمد عمر جمره وباخ. وسمع منه خلق على ضعفه، ورزق في ذلك سعداً لو أعفاه لم يعفه؛ لأنه كان ارتزق في خدم الجهات من المكوس وغير ذلك. ثم إنه تركه في آخر عمره، وما مر بتلك المسالك.
ولم يزل على ذلك إلى أن بطل بالموت تسميعه، وشت من الشمل جميعه.
ووفاته في سنة سبع مئة.
ومولده سنة سبع عشرة وست مئة.
وروى عن النفيس بن البن مغازي ابن عائذ، وعن ابن صصرى أبي القاسم، وأبي المجد القزويني، وزين الأمناء، والمعافى بن أبي السنان، والمسلم المازني، وابن غسان، وحضر ابن أبي لقمة. وأجاز له الموفق، والفتح بن عبد السلام.
خضر بن محمدابن الخضر بن عبد الرحمن بن سليمان بن علي، القاضي زين الدين بن القاضي تاج الدين بن زين الدين بن جمال الدين بن علم الدين بن نور الدين، كذا أملى علي نسبه.
قرأ القرآن، وصلى به. وسمع البخاري على الحجار، وست الوزراء، وعلى غيرهما.
وقرأ النحو على الشيخ شهاب الدين بن المرحل، وحفظ الألفيتين المالكية والمعطية. وبحث في المقرب، وصناعة الكتاب لابن النحاس، وبعض التنبية؛ تقدير الربع. وحفظ عروض ابن الحاجب، وقصيدة ابن مالك في الفرق بين الظاء والضاد. والتجريد للبحراني، في البديع.
وكان كاتباً سريعاً، وارداً من سرعة التنفيذ روضاً مريعاً، له صبر على الكتابة وجلد، وقدرة على كتمان ما دخل منه في خلد؛ إلا أنه قليل النظم إلى الغايه، إما لعسرة عليه، أو لأنه لم يكن له به عنايه.
رافقته في الديوان مرتين، وحمدت منه كل ما يشكوه من الضرتين.
ولم يزل على حاله إلى أن فقد الخضر عين الحياه، وظمئ إلى العيش فأسقاه حياه.
وتوفي رحمه الله تعالى في آخر شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة. ومولده في سنة عشر وسبع مئة.
كان في جملة كتاب الإنشاء بقلعة الجبل، ثم لما رسم السلطان الملك الناصر محمد لوالده القاضي تاج الدين محمد بكتابه سر حلب في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة دخل هو دار العدل ولما توجه القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود إلى حلب كاتب سر في سنة ست وأربعين وسبع مئة جعله القاضي علاء الدين بن فضل الله مكانه في الحضور بين يدي النواب بمصر، واستمر به في نيابته، واعتمد عليه، وألقي إليه أمر الديوان فوفى بذلك ووفى.
وكان كاتباً سريعاً، يكتب من رأس القلم التواقيع والمناشير.
وكان ينطق بالجيم كافاً.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
عبدك السائل الفقير ابن خضر ... يسأل العفو والرضا والسّلامه
فعسى بالدّواة يكتب أجرا ... فأنله الرجا يا ذا الكرامه
وأنشدني من لفظه لنفسه في مقص:
يحرّكني مولاي في طوع أمره ... ويسكنني شانيه وسط فؤاده
ويقطع بي إن رام قطعاً وإن يصل ... يشقّ بحدّي الوصل عند اعتماده
ولما طلبت أيام الملك الصالح إسماعيل إلى مصر سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وجلست في ديوان الإنشاء بقلعة الجبل تفضل الجماعة الموقعون، وكتب بعضهم إلي شعراً من باب الهناء، وأجبته عنه. ثم إنه بعد مدة كتب زين الدين هذا:
تأخرّت في مدحي لأني مقصّر ... وفضل صلاح الدين لا زال يستر
خليلٌ له الآداب حقّاً ينالها ... جليلٌ به الأصحاب تسمو وتفخر
لقد آنس الأمصار لّما أتى لها ... وأوحش ربع الشام إذ كان يقفر
فلا شهدت عيناي ساعة بعده ... ولا سهدت شوقاً إليه فتسهر
ودام عليّ القدر يرقى إلى العلا ... محامده بين الأنام تسطّر
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
تفضّلت زين الدين إذ أنت أكبر ... وأشرف من مدح به العبد تذكر
فشرّفت مدري حين شنّفت مسمعي ... فيا من رأى شعراً على الدرّ يفخر
فما هو شعرٌ يحصر الوزن لفظه ... ولكنّه شيء من السّحر يؤثر

يجوز بلا إذن على الأذن خفّةً ... كأنّ الزّلال العذب منه يفجّر
فها أنا منه في نعيمٍ مخلّدٍ ... وعيشي بخضرٍ في ربا مصر أخضر
وكتب إلي أيضاً ملغزاً: يا سيد العلماء والبلغاء، والكتاب والأدباء، ما اسم أول سورتين من القرآن، وحرف من أول سورة أخرى، وهو ثلاثة أحرف، وتلقاه ثمانيه، إذا أفردت مجموعه سراً وجهراً، أول حروفه إليه ينسب أحد الجبال، وآخرها قسماً لا تزال، إن حذفت أوله وصحفت ثانيه فهو ظن حقيقته الآمال، أو صحفت جملته كان وصف مؤمن يجري على هذا المنوال، أو حذفت أوسطه مع التحريف كان عبداً لا يعتق، أو حذفت آخره مع بقاء التحريف كان حيواناً يسرق ولا يسرق، ويأنس وينفر، ويقيد بالإحسان وهو مطلق، يطوف بالبيت، ويأوي في المنازل إلى الحي والميت، ولا يباع ولا يشترى، وعينه المجاز حقيقة تبلغ قيمة بل تماثل جوهرا، وإن أبقيت هذا الاسم على حالته، فهو شيء لا يستغني عنه مسجد ولا جامع، ولا بيع ولا صوامع، ولا مسلم ولا كافر، ولا قاطن ولا مسافر، ولا غني ولا فقير صابر، ولا قوي ولا ضعيف، ولا مشروف ولا شريف، ولا خائن ولا مأمون، ولا حي ولا من سقي كأس المنون، ومع ذلك فهو جليل حقير، قليل كثير، يملكه المالك والمملوك، والملي والصعلوك، وهو شيء ممتهن، ويعلو على رؤوس الأمراء والوزراء والملوك، قلبه بالتحريف فعل مضى، واسم إذا نطق به قد يرتضى، وهو قد يبدو به النور في الدياجي، وعند الصباح ينقطع منه أمل الراجي، لا يستغني عنه بيت ولا بقعة، ومع ذلك يباع بفلس ودينار، وفوق ذلك في الرفعة، وهو بين واضح، فأحلله بميزان عقلك الراجح إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا الجواب عن ذلك وهو في قطن: وقف المملوك على هذا اللغز العجيب، والمعمى الذي ماله في فنه مماثل ولا ضريب، وعجبت منه نباتا نطق معكوسه، وثلثاه كتاب تزدان سطوره وطروسه، أوله يضاف إليه أكبر الجبال، ومجموعه مادة للحبال أشبه بياضا بالثلج، ومحبوبه يروق ويحسن بالحلج، قد خف على اللسان وزنه، وأعجب أرباب الأموال ادخاره وخزنه، كله نابت في التراب، وثلثاه سابح في البحر لا يستراب، إن جعلت آخره وسطا كان فعل من انقطع رجاؤه، واتسعت في اليأس أرجاؤه، وإن صحفت حروفه في هذه الحالة أتتك من الحر واقدة، وأصبحت العجاجة وهي في الجو عاقدة، وإن صحفته أيضاً كان أمةً من الأمم، وليسوا من العرب إذا عدوا ولا العجم، يعد منهم فرعون وجنوده، ولنا فيهم نسب وصهر يعزك منكره وجحوده، وإن عكسته في هذه الحالة كان آنيةً لا محالة، ولهذا اللغز أوصاف أخر لا تذكر، ولا تعرف بعد ولا تنكر، أضربت عنها خوف الإطالة صفحا، وعددت هذا القدر ربحا، لأن مولانا حرسه الله تعالى مد فيه الأطناب، واستوعب أوصافه بالإسهاب والإطناب، والله يديم حياته لأهل الإنشاء، وينشر محامده بلسان الإذاعة والإنشاء، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
خضر بن أقجباجمال الدين بن فخر الدين الصفدي، والده يعرف بأقجبا الساقي.
انتشأ هذا في صفد جندياً مثل والده، وزاد بطارفه على تالده، وسعى حتى ولي بها عدة ولايات، وساس الناس بما رآه من الإهمال والغيابات.
ولما كان أرغون شاه بصفد ثانيا خدمه، وأثبت في الوقوف بين يديه قدمه، فرشحه للتقدم، وعمارة مجده بعد التهدم. ولما حضر إلى دمشق أتاه، ووافقه السعد عنده وواتاه، فحصل له عشرة، فجد في أمرها لما عنده من الشره.
ثم إن الحال زاد به، فسعى في ولاية مدينة دمشق فتولاها، وبقي فيها مدة وما جلاها ولا حلاها، بل راح وخلاها.
وتوفي رحمه الله ثاني عيد النحر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى قد عزل من الولاية قبل موته بعشرة أيام، لأنه كان قد مرض مرضاً طويلاً، وبقي مدة عليلاً.
وكان وهو أمرد صورة في الحسن بديعه، ولما قارب التكهل استحال إلى هيئة شنيعه.
وباشر بدمشق قبل الولاية شد الزكاة.
خضر بن سليمانالأمير ابن أمير المؤمنين المستكفي بالله.
كان ولي العهد. فتوفي في ثالث عشري جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن في التربة المظفرية جوار السيدة نفيسة خارج القاهرة.
خطاب بن محمود بن رنقشالأمير عز الدين العراقي.

كان له مال وثروه، وشيخاً قد بقي على رأي العوام بروه، وفيه خير وإحسان، وفضل أربى به على رب السيف والطيلسان.
عمر الخان بين غباغب والكسوه، وجبر به كل من يمر في الطريق من الرجال والنسوه، وعمر حماماً بحكر السماق معروفاً، وجعله بألسنة الشكر موصوفاً.
وكان فيه معروف وبر، وخير في الظاهر وفي السر.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل الخطب بخطاب، وبدل أهله بنكد العيش بعدما طاب.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
خطابالصاحب الكبير المحترم، ركن الدين بن الصاحب كمال الدين أحمد بن خطاب الرومي السيواسي.
شيخ كبير له حرمه، وعليه أثار سعادة ونعمه، وله غلمان وأتباع وحفده، وحاله تقتضي التوسع في الحشمة والحفده.
وقف خانقاه ببلد سيواس، ووقف عليها وقوفاً كثيرة من أنواع البر التي تعم الناس.
قدم إلى دمشق، وتوجه إلى الحجاز، فمات رحمه الله تعالى بالكرك، وراح إلى الله تعالى، وترك ما ترك، وذلك في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبعمئة، وصلي عليه بالجامع الأموي، ودفن عند جعفر الطيار رضي الله عنه.
خطلو شاهنائب التتار.
كان كافياً كافرا، داهية ماكرا، رفيع المرتبه، لا يبالي بالمعيبة ولا المعتبه.
نزل بالقصر الأبلق في واقعة غازان، وفعل كل ماشان ومازان، وتوجه إليه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكلمه في الرعية، فتنمر عليه، وأعرض عنه، ولم يلتفت إليه.
وكان مقدم التتار يوم شقحب، فعاد بلا أهل، ولا أهل ولا مرحب. وانهزم خاسئاً، وأصبح مكلوءاً معكوماً بعد أن كان كالماً كالئاً.
وجهزه غازان في جيش كبير من المغل لمحاربة صاحب جبال كيلان، فبيته الملك دوباخ، وبثقوا عليهم الماء في الليل فغرقوا، وأظهروا لهم النيران من كل جانب، وأزعجوهم بالصياح إلى الصباح، فغرق أكثرهم، ورماه دوباج بسهم ما أخطأ حبة قلبه، ودخل عليه الموت بهمزة سلبه. وفي هذه الواقعة قتل الشيخ براق كما تقدم في ترجمته.
وكان هلاك خطلوشاه في سنة سبع وسبع مئة، وفرح غازان بموته، لأنه كان يخافه.
الألقاب والأنسابالخطيري: الأمير عز الدين أيدمر.
وابن خطير: الأمير بدر الدين أمير مسعود. وأخوه الأمير شرف الدين محمود. وناصر الدين محمد بن مسعود.
خطيب الفيوم: معين الدين أحمد بن أبي بكر.
خطيب مردا: عبد الرحمن بن محمد.
وخطيب القدس: عماد الدين عمر بن عبد الرحيم.
الخطيب بدر الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن.
ابن خطيب بعلبك: محمود بن محمد.
ابن خطيب بيت الآبار: نجيب الدين أحمد بن عمر. وعلاء الدين علي بن عمر. وموفق الدين عمر بن أبي بكر. وموفق الدين محمد بن عمر. وشرف الدين محمد بن داود. والقاضي ضياء الدين يوسف بن أبي بكر.
خلف ابن عبد العزيزبن محمد بن خلف بن خلف بن عبد العزيز بن محمد، أبو القاسم الكاتب الغافقي القبتوري، بفتح القاف، وسكون الباء الموحدة، وفتح التاء ثالثة الحروف، وسكون الواو، وبعدها راء، الإشبيلي المولد والمنشأ.
قرأ على الأستاذ أبي الحسن الدباج كتاب سيبويه، وقرأ عليه بالسبع، وقرأ الشفاء بسبته على عبد الله بن القاسم الأنصاري. وله إجازة من الرضي بن البرهان، والنجيب بن الصيقل.
وكتب لأمير سبتة، وحدث بتونس عن الغرافي، وحج مرتين.
وكان كاتباً مترسلا، ينثر وينظم، ويكبر الفضلاء، ويعظم، مع الخير والتقوى، وملكة نفسه التي تصبر على المضض وتقوى. جاور بمكة زمانا، وأعطاه الله بالسعادة من ذلك ضمانا.
ولم يزل على حاله إلى أن عد خلف في السلف، وورد موارد التلف.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمدينة الشريفة في أوائل سنة أربع وسبع مئة.
أنشدني من لفظه العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدني المذكور لنفسه:
أسيلي الدّمع يا عيني ولكن ... دماً ويقلّ ذلك لي، أسيلي
فكم في الترب من طرفٍ كحيل ... لتربٍ لي ومن خدّ أسيل
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه:
ماذا جنيت على نفسي بما كتبت ... كفي فيا ويح نفسي من أذكى كفّي
ولو يشاء الذي أجرى عليّ بذا ... قضاءه الكفّ عنه كنت ذا كفّ
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه:
واحسرتا لأمور ليس يبلغها ... ما لي وهنّ منى نفسي وآمالي

أصبحت كالآل لا جدوى لديّ وما ... آلوت جهداً ولكن جدّي الآل
وأنشدني من لفظه الحافظ فتح الدين بن سيد الناس اليعمري، قال: أنشدني لنفسه بالمدينة:
رجوتك يا رحمن إنّك خير من ... رجاه لغفران الجرائم مرتجي
فرحمتك العظمى التي ليس بابها ... وحاشاك في وجه المسيء بمرتج
قلت: شعر جيد، لكنه متكلف.
خليفة بن علي شاهالأمير ناصر الدين ابن وزير البلاد القانية.
كان من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق، وممن للأقلام في ذكره مد ومشق. لما قدم الشام أحبه تنكز. وحصل له من خاطره مركز، فكتب إلى السلطان في أمره، وجعله دون الناس الواردين في حجره.
وكان ذا شكالة حسنه، وطلعة يجفو الطرف لأجلها وسنه، جهزه فيما بعد أرغون شاه إلى صفد محل إقطاعه، وحكم على وصوله إلى دمشق بامتناعه، فحضر إليها طلباً لمداواة مرض حصل له في صفد، فأقام بها قليلاً، وسهم المنية قد أصاب شاكلته ونفد، وما حمل ولا رفد.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان الأمير ناصر الدين قد وفد إلى الشام صحبة الأمير نجم الدين محمود بن شروين الوزير، فرآه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى فأعجبه شكله، فسأل السلطان أن يكون عنده بدمشق أميراً، فرسم له بذلك، واختص بتنكز ولازمه كثيراً، ولما أمسك تنكز لحق كل من كانت له به خصوصية شواظ من ناره، خلا الأمير ناصر الدين فإن السلطان راعى فيه خاطر أخيه؛ لأنه كان في تلك البلاد مقيماً، وتزوج بابنة الأمير سيف الدين كجكن، وكان يلبسها لبس الخواتين في تلك البلاد، ولما عمر الأمير سيف يلبغا جامعه بدمشق تولى هو شد العمارة، وقصد أن تكون عمارته على زي عمارة تلك البلاد الشرقية، فلما أمسك يلبغا خاف ناصر الدين خليفة أن يؤخذ بجريرته فسلمه الله تعالى.
وكان إقطاعه بصفد، فلما جاء أرغون شاه إلى دمشق جهزه إلى صفد، ورسم له بالإقامة هناك، فحصل له ضعف، وحضر للمداواة بدمشق فتوفي بها، وعمر داراً على نهر بردى، تحت دار الجالق، ووضعها وضع تلك البلاد، وما أظنه كان يخلو من تشيع، والله أعلم.
خليل بن إسماعيل بن نابتبالنون أولاً: الفقيه المحدث فخر الدين الأنصاري القدسي.
رحل إلى مصر، ولقي المشايخ وكتب، وحصل في الحديث محصولاً جيداً ودأب.
وكان محدث القدس ومفيده، ومبدي فضله ومعيده.
روى عن العز الحراني، وروى عنه ابن الخباز، وكان ينقض في بحثه على الخصم كما ينقض الباز. وكان ذكياً يقظاً نبيهاً، ويزيد على الحديث بأنه كان فقيهاً.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح فما أمسى، وسكن بعد بيته رمساً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في شهر ربيع الأول.
درس بالأمجدية وغيرها بالقدس، وكان مفيد القدس.
خليل بن محمد بن سليمانالشيخ الإمام العدل جمال الدين السملوطي - بالسين المهملة، وبعدها ميم ولام مشددة وواو وطاء مهملة - الشافعي النحوي.
أقرأ النحو بمصر مدة، وكابد في تعليم الطلبة شدة، وكان عدلاً مقبولاً، ولم يكن بالرياسة متبولاً.
ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى من دعاه، وقام به الصارخ ونعاه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، وقد بلغ السبعين، ودفن بباب النصر خارج القاهرة.
خليل ابن الأمير حسام الدين بن البرجميبالباء الموحدة، والراء والجيم والميم.
كان له دربة بالأمور والمباشرات، وتغاض عن الشرور والمكاشرات، فتحدث في أيام الملك الناصر في ديوان بشتاك، وعظم في تلك المدة فما نال بسوء ولا يشاك، ولما انفصل بشتاك، تحدث في ديوان الكامل، وخدمه قبل الملك، فحصل له به السرور الشامل.
ثم لما ولي الملك، رسم له بإمرة طبلخاناه، وولاه شد الدواوين، وأركبه رقاب من كانوا له مناوين. ولما خلع الكامل أخذ منه ذلك، وانصرم عنه ما هنالك.
ثم أعطي إمرة عشرة، فما وصلت إلا وقد انفصل أجله، ولم ينفعه تلبثه ولا عجله.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق، بصق دماً يوماً، ومات في الثاني.

وكان الملك الكامل قد طلبه وهو سلطان فأعطاه طبلخاناه وشد الدواوين، وأعاد الصاحب علاء الدين بن الحراني إلى نظر الدواوين بدمشق، وجهزه معه، فوصلا إليها في أول ذي الحجة سنة ست وأربعين وسبع مئة.
ولما خلع الكامل انفصل من الإمرة ومن الشد، وبقي بطالاً إلى أن كتب له أرغون شاه بعشرة الأمير بدر الدين صدقة بن الحاج بيدمر فما وصل منشوره حتى مات رحمه الله تعالى.
وكان ممن يتوالى محبة أصحاب الشيخ تقي لدين بن تيميه.
خليل بن كيكلدي العلائيالشيخ الإمام العلامة الفريد الكامل، جامع شتات الفضائل، المفسر المحدث الفقيه النحوي الأديب المؤرخ الإخباري صلاح الدين الدمشقي الشافعي الأشعري.
كان أعجوبة في علومه الجمه، وفضائله التي لم يكن أمرها على الناس غمه. أتقن التفسير، وعلم من الحديث ما يشهد به له الجم الغفير. وبرع في الفروع والأصول، وأحاط بما في المحصل والمحصول، واستخرج لباب الإعراب، واطلع على أسرار لغة الأعراب، وعلم تراجم أعيان العالم، وعرف وقائع من داهى أو سالم.
وأما نقد الصحيح من الحديث فذاك فن تفرد بخاصته، وشهد له أهل زمانه في أفراده وعامته، وتصانيفه تؤيد هذه الدعاوي، وتعاليقه تحقق له المحاسن، وتنفي عنه المساوي.
أقام بالقدس زماناً، وأنفق فيه من العمر أعواما، واتخذ فيه من الطلبة أعوانا، فهبت له النفخات القدسيه، وصبت له اللمحات الأنسيه.
ولم يزل على حاله بتلك الأرض المقدسه، والرحل التي هي ظلال البركات معرسه، إلى أن فسد من الصلاح تركيبه، ورحل على الرقاب وعلم الحديث جنيبه.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين ثالث شهر الله المحرم سنة إحدى وستين وسبع مئة.
ومولده في أحد الربيعين سنة أربع وتسعين وست مئة.
سمع صحيح مسلم سنة ثلاث وسبع مئة على الشيخ شرف الدين الفزاري، وكمل عليه ختم القرآن. وسمع البخاري على ابن مشرف سنة أربع. وقرأ العربية وغيرها على الشيخ نجم الدين القحفازي، والفقه والفرائض على الشيخ زكي الدين زكري. وجد في طلب الحديث سنة عشر وسبع مئة. وقرأ بنفسه على القاضي تقي الدين سليمان الحنبلي، وعلى أبي بكر بن عبد الدائم، وعيسى المطعم، وإسماعيل بن مكتوم، وعبد الأحد بن تيمية، والقاسم بن عساكر، وابن عمه إسماعيل، وهذه الطبقة، ومن بعدها. وشيوخه بالسماع نحو سبع مئة شيخ. ومن مسموعاته: الكتب الستة، وغالب دواوين الحديث، وقد علق في مجلد سماه: الفوائد المجموعة في الفرائد المسموعه.

ومن تصانيفه: النفحات القدسية، يشتمل على تفسير آيات وأحاديث، مواعيد، وكتاب الأربعين في أعمال المتقين، وكتاب تحفة الرائض بعلوم آيات الفرائض، وبرهان التيسير في عنوان التفسير، وإحكام العنوان لأحكام القرآن، ونزهة السفرة في تفسير خواتم سورة البقرة، والمباحث المختارة في تفسير آية الدية والكفارة، ونظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد، وتحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد، وتفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال، وتحقيق الكلام في نية الصيام، وشفاء المسترشدين في اختلاف المجتهدين، ورفع الاشتباه عن أحكام الإكراه، ونهاية الإحكام لدراية الأحكام، وكتاب الأربعين الكبرى. وله التعاليق الأربعة: الكبرى والوسطى والصغرى والمصرية في اثني عشر مجلداً. وكتاب الأربعين المغنية بعيون فنونها عن المعين في اثني عشر أجزاءاً. والأربعين الآلهية ثلاثة جزءاً، وعوالي مالك بن أنس السباعيات ستة أجزاء، وسداسيات أصحاب سفيان بن عيينة في سبعة أجزاء، والمحاسن المبتكرة، عشرة أجزاء، والمسلسلات ثلاثة أجزاء، وعنبر السحر في آية السحر، وتقرير غاية المدة في تفسير آية العدة، وتفسير مجابي الهصر في تفسير آيتي الخوف والقصر، والفوائد المحققة في تفسير آيتي المحاربة والحرام، وكتاب إيضاح وجوب الإجمال والإحسان في شرح حديث الخصال الواجبة للغير على الإنسان، وشرح القول الحسن في الوصية لمعاذ عند بعثته لليمن، وروض الإيقان في شرح حديث: الطهور شطر الإيمان، جامع التحصيل لأحكام المراسيل، تحقيق ثبوت الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، كشف النقاب عما روى الشيخان للأصحاب، تفسير حصول السعادة في تقرير شمول الإرادة، تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم، فصل القضاء في أحكام الأداء والقضاء، إبانة الخطوة في قاعدة مد عجوة، رفع الالتباس عن مسائل البناء والغراس، إتمام الفوائد المحصولة في الأدوات الموصولة، الفضول المفيدة في الواو المزيدة، المعاني العارضة لمن الخافضة.
وكان أولاً بزي الأجناد، ثم ترك ذلك، وأقبل على الطالب والاشتغال. وحفظ التنبيه، ومختصر ابن الجاجب، ومقدمتيه في النحو والتصريف، ولباب الأربعين في أصول الدين لسراج الدين الأرموي، وكتاب الإلمام في الأحكام، وعلق عليه حواشي.
ورحل صحبة الشيخ كمال الدين الزملكاني إلى القدس سنة سبع عشرة وسبع مئة.
وسمع من زينب بنت شكر وغيرها. ولازم الشيخ كمال الدين سفراً وحضرا، وعلق عنه كثيراً، وحج معه في سنة عشرين وسبع مئة.
وسمع بمكة من الشيخ رضي الدين الطبري، ولازم القراءة على الشيخ برهان الدين الفزاري في الفقه والأصول مدة سنين، وخرج له مشيخة، وللشيخ تقي الدين قاضي القضة السبكي، وغيره من الأشياخ مشيخات، وولي تدريس الحديث بالناصرية سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
ثم إنه درس بالأسدية سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وأذن له الشيخ كمال الدين الزملكاني بالإفتاء سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ثم درس بحلقة صاحب حمص سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ثم تولى تدريس المدرسة الصلاحية بالقدس سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وأقام به إلى آخر وقت.
وتولى تدريس مشيخة الحديث بالسيفية تنكز بالقدس.
وحج سنة أربع وأربعين وسبع مئة. وجاور بمكة وعاد في سنة ست وخمسين. وعدت أنا وهو إلى الشام، ورافقته في الطريق، واجتمعت به غير مرة في دمشق والقاهرة والقدس. وأخذت من فوائده في كل علم، وقل أن رأيت مثله في تحقيق ما يقوله في كل فن وتدقيقه.
وكان ممتعاً في أي باب فتح، يحفظ تراجم أهل العصر، ومن قبلهم، وتراجم الناس من المتقدمين، وهو عارف بكل شيء يقوله أو يتكلم فيه.
وأنشدني لنفسه إجازة، ونقلته من خطه:
يا ربّ كم من نعمةٍ ... لك لا أُؤدّي شكرها
أو ليتني فيها الجمي ... ل وذدت عني شرّها
وكفيتني يا ربّ في ... كلّ الأمور أمرّها
ووقيتني عند الشدا ... ئد والحوادث ضرّها
فاغفر ذنوبي كلّها ... إنّي لأرهب وزرها
فهي التي فارقتها ... وأجدت حلماً سترها
وعصيت جهلاً حين لم ... أقدر جحيمك قدرها
والطف بعبدك دائماً ... وقه الخطوب ومكرها
وكان له ذوق كبير في الأدب ونكتة، وعمل كثيراً نظماً ونثراً.

وكان فيه كرم زائد، ووجه طلق في تلقي الأصحاب ومن يرد القدس، وترك عليه جملة من الديون بسبب ذلك.
وكتبت إليه وقد ورد إلى دمشق المحروسة في بعض السنين، أظنها سنة تسع وثلاثين وسبع مئة:
أتيت إلى دمشق وقد تشكّت ... إليك لطول بعد وانتزاح
وكانت بعد بعدك في فساد ... وجئت لها ففازت بالصّلاح
وقد أجاز لي بخطه كل ما يجوز له تسميعه. وكان يكتب في الإجازات بيتاً مفرداً، وهو:
أجازهم المسؤول فيه بشرطه ... خليل بن كيكلدي العلائي كاتبه
وهذا مثل ما أكتبه أنا أيضاً في الإجازات، وهو:
أجاز للسائلين ما سألوا ... فيه خليل بن أيبك الصفدي
وكتبت له أنا عدة تواقيع بتدريس المدرسة الصلاحية بالقدس بالشام والقاهرة.
فأول ما كتبت له بذلك بدمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ونسخته: رسم بالأمر العالي، لا زالت أوامره المطاعة تهدي إلى الأماكن الشريفة صلاحا، وترفع قدر من إذا خطا في طلب العلم الشريف تضع له الملائكة جناحا، أن يرتب المجلس السامي الصلاحي مدرسا بالمدرسة الصلاحية بالقدس الشريف لما اتصف به من العلوم التي أتقنها حفظا، وطرز بإيرادها المحافل، فراقت في القلوب معنىً، وفي الأسماع لفظا، فهو الحبر الذي يفوق البحر بغزارة مواده، والعالم الذي أصبح دم الشهداء بإزاء مداده، إن نقل حكماً فما المزني إلا قطرة من هتانه، أو رجح قولاً فما ابن سريج إذا جاراه من خيل ميدانه، أو ناظر خصماً فما ابن الخطيب ممن يعد في أقرانه، أو استدل محتجاً فما يقطع السيف إلا بدليله وبرهانه، فالماوردي حاوي مناقبه وذكره، وأبو إسحاق صاحب التنبيه على رفعة محله وقدره، قد أضحت به وجوه الأصحاب سافرةً عن الحسن البارع والمنظر الجميل، وأمست طرق المذهب بدروسه واضحة الأمارة، راجحة الدليل، ولذلك ندب لنشر العلم الشريف لذلك القطر الجليل، واستحق لفضله الأقصى أن تكون حضرة القدس مقام الخليل، فليورد من فضله الباهر هناك ما يحيي مذهب ابن إدريس بدرسه، وينشر ميت العلم حتى يكون روحاً في قدسه، وليتعهد الطلبة بالحفظ والبحث، فإنها للعلم كالجناحين، وليقف عندما شرطه الواقف أثابه الله الجنة، فما يفسد أمر وقع بين صلاحين، وتقوى الله تعالى زينة العلم، فليجعلها طراز لبسه، وجمال العلم، فليدخرها لغده الذي يربى في الخير على أمسه، والله تعالى يزيده فضلاً على فضله، وينشر به أعلام العلم الذي يخفق على رؤوس أهله، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وبيني وبينه رحمه الله مجارات ومكابتات وألغاز وغير ذلك، وقد سقت منها جانباً في كتابي ألحان السواجع.
ولما بلغتني وفاته رحمه الله تعالى قلت أرثيه:
يا صاح دعني من حديثك إنّ قلبي في البلاء
أو ما ترى أهل الحديث تسافلوا بعد العلائي
وقلت فيه أيضاً:
العلم بعد صلاح الدين قد فسدا ... والفضل نقصانه قد راح مطّردا
مات الذي كان في علم الحديث إذا ... ما أظلم الشكّ فيه راح متّقدا
ومن يحررّ أسماء الرجال ويد ... ري النقد والنقل والتعليل والسندا
قد شارك الناس في أشياء يفضلهم ... فيها من العلم لا نحصي لها عددا
أما إذا كان في نقد الصحيح من ال ... حديث فهو لهذا الشأن قد قعدا
والفقه ألقاه تدريساً يحرّره ... حتى تجاوز في غاياته الأمدا
وفي الأُصولين أستاذٌ فما أحدٌ ... أراه يقوى لديه لو حكى أُحدا
ستّ وستون عاماً مرّ أكثرها ... في نصرة السنة الغراء مجتهدا
إن أظلمت شبهة من إفك مبتدعٍ ... وقام في دفعها قلت الصباح بدا
أهل الضلالات أرداهم فلم يجدوا ... من دونه في جميع الناس ملتحدا
جاؤوا إليه وكادوا الحقّ فيه وقد ... كادوا يكونون من شرّ له لبدا
فشتت الله من لطف عزائهم ... وحلّ إذ فيهم كلّ ما عقدا
مباحثٌ كلّما التفّ الجلاد من ال ... جدال أو ضاق حربٌ فكّت الزردا

سرى إلى غاية ما نالها أحد ... كانت طرائقه نحو العلى قددا
نحوٌ وفقهٌ وتفسير إلى أدب ... قد راح مجموعه المختار منفردا
وفي تراجم أهل العصر حاز يداً ... طولى وكم قد أفاد الناس منه يدا
فليس أدري له مثلاً أنظّره ... ومن يدانيه في شأوٍ فقد بعدا
علمٌ وحلمٌ ومعروفٌ وطيب ثناً ... وحسن سمت ونسك زائد وهدى
تمرّ أوقاته في حفظ سؤدده ... فما رأيت له وقتاً يضيع سدى
يقري الورى جفنات ثم يقرئهم ... مجلداتٍ لمن وافى ومن وفدا
وحين جاور من جور الزمان وقد ... أنضى إلى مكة العيرانة الأُجدا
وكان خير فتى أدّى فرائضه ... في عصره وتردّى الصّبر والجلدا
وكل يوم يزيد البّر في عمل ... منه على أمسه حتى يسرّ غدا
مضى إلى الله محفوفاً برحمته ... حتى يلاقي غدا في الحشر ما وعدا
أكاد من حسن ظني في طريقته ... أني أشاهده في جملة الشهدا
يا بن العلائيّ إني قد قضيتك من ... حق الرثاء الذي أبصرته رشدا
فاذكر أخاك إذا حيّتك نافحةٌ ... من روح ربك أو بلّت لديك صدى
فأنت ضيف عظيم الجود وهو إذا ... ما جاد لم ينس من معروفه أحدا
وقم إلى الله يوم الحشر في دعةٍ ... فأنت عندي معدودٌ من السّعدا
خليل بن أيتمشالأمير صلاح الدين بن الأمير أيتمش المحمدي، والده تقدم ذكره في مكانه من حرف الهمزة.
وكان هذا صلاح الدين له صورة سبحان من أبدعها، ولو شاء لذهب بالشمس وأطلعها، بديع الجمال، وافر الحسن، يشهد له البدر بالكمال قد تأنى الحسن فيه وتألق، وتملأ القمر بنظره لما رآه فتملق، بقد من أين للغصن تخطره، ونشر من أين لزهر الروض في السحر تعطره، ووجه حلا نظره، وتمنى الأفق لو أنه شمسه أو قمره، وعيون من نفاثات السحر في عقد القلوب، وجفون كم وقع أسد منها في أقلوب، وفم تبسم مرجان شفته عن لآلئ منظومه، ووجنات كأنها بأزاهر الحدائق مرقومه، وشعر يخط في الأرض إذا خطا، ويحسده الغزال إذا عطا، زان بجماله المواكب، وزاحمته الكواكب على حسنه بالمناكب.
فلو قدر البدر كان الذي ... تطلّع ما بين أطواقه
وما أطمع الظبي إن رام أن ... يحاكيه يوماً بأحداقه
بينا هو في أمر صعوده، ومنازل سعوده، إذ أنزله الحمام من حصنه، وبكى الحمام على غصنه وتجرع أبوه كأس فقده المر، وود لو كان بدله في تلك الحفر، فتأسف الناس على شبابه، وبلوا بوبل دموعهم ما جف من ترابه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الأربعاء تاسع شهر رمضان، سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وكان ممن يحبه ويهواه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، ولكنه كان يحب من غير إتيان محرم أو معصية غير النظر.
اللقب والنسبابن الخليلي الصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز، وولده شرف الدين عبد الرحمن.
خوبيبضم الخاء المعجمة، وسكون الواو، وبعدها باء موحدة وياء آخر الحروف.
كانت جارية الأمير سيفا الدين بكتمر الساقي، اشتراها بعشرة آلاف دينار مصرية، كانت مغنية عواده، بادية الحسن والطرب عواده، لم يكن دخل مصر لها نظير، ولا غنى الحمام على مثل قدها النضير، اشتراها وهام في هواها، وسكنها في داره على بركة الفيل التي ما اقتنى أحد مثلها ولا حواها، إذا جست أوتارها أخذت من القلوب أوتارها، وجرى من لطف أناملها الماء في العود، وقيل: هذا البدر في السعود. فإذا غنت أغنت عن الأطيار، وإذا عنت عنت قلوب البررة الأخيار.
ثم إنها نقلت بعده إلى ملك بشتاك، وزن فيها ستة آلاف دينار، ودخل معها قماش وحلي، وغير ذلك بعشرة آلاف دينار، ثم إنه وهبها لمملوكه ألطنبغا فيمن أظن، وهنا آخر علمي بأمرها.

ولما اشتراها بكتمر الساقي بلغ أمرها امرأته أم أمير أحمد، فقالت له: أريد أنزل إلى دارك التي على البركة لأتفرج هناك، فعلم المقصود، فنزل إلى خوبي وقال لها: الست إذا جاءت إلى هنا اجلسي على يديها والعود في حجرك، واضربي قدامها، وغني لها نوبة مطربة، فلما نزلت ودخلت الدار أول ما توجهت إلى الشباك المطل على البركة، واشتغلت ساعة، ثم التفتت بعد ذلك إلى جهة جواريها، فرأت جارية تركية بيضاء، وجميع ما عليها أبيض مصقول من غير زركش ولا حلي ولا مصاغ فأنكرت ذلك، وقالت: من هي هذه ؟ فباست الأرض وقعدت، ووضعت العود في حجرها، وقالت: دستور، وغنت نوبة كاملة مطربة، فقالت الست: من هي هذه ؟ فقالوا: هذه جارية الأمير. فقالت: هذه خوشداشتي، ثم أخذت بيدها، وأجلستها إلى جانبها وأحضرت لها بدلة كاملة بطرز زركش وباولي وزركش، وحلياً ومصاغاً مما هو يجمله، وقالت لمن يثق إليها: والله لما قالوا اشترى الأمير جارية بعشرة آلاف دينار وسكنها في داره على البركة، ظننت أنها تكون مثلي في الحشم والخدم والجواري والملبوس. ثم إنها طلعت بعد ذلك إلى القلعة ولم تنكر من أمرها شيئاً، واطمأنت نفسها إلى ذلك.
قلت: ضعيفان يغلبان قوياً، لأن بكتمر الساقي رحمه الله تعالى تداهى فيما قاله لخوبي، وزادت هي في الدهاء عليه، فما حصل لهما بذلك إلا خير.
ولما توفي بكتمر الساقي رحمه الله تعالى في طريق الحجاز قال السلطان: والكم أول ما تصلون القاهرة احترزوا على عود خوبي، فإنها أول ما تسمع خبر بكتمر تكسر عودها. وكان الأمر كما قال، فقيل: إنها أول ما بلغها ذلك قبل وصول السلطان كسرت عودها. وغضب السلطان عليها، وأباعها لبشتاك بستة آلاف دينار، ولكنها لم تقع من قلب بشتاك بموقع.
اللقب والنسبابن خواجا إمام محمد بن عمر ابن أبي الخوف أحمد بن محمد ابن الخيمي مجد الدين إبراهيم بن علي ابن الخلاطي الكاتب محمد بن نجيب
حرف الدال

الألقاب والأنساب
الداراني القاضي صدر الدين
سليمان بن هلال.
دانيال بن منكلي بن صرفاالقاضي ضياء الدين أبو الفضل التركماني، القاضي بالشوبك.
سمع بالكرك من ابن اللتي. وقرأ القراءات على السخاوي بدمشق، وسمع من كريمة، ومن جماعة. وسمع ببغداد من ابن الخازن وعبد الله بن عمر بن النخال، وهبة الله بن الدوامي وإبراهيم بن الخير. وبحلب من ابن خليل. وبمصر من يوسف الساوي وابن الجميزي.
وولي قضاء الشوبك مدة. وولي القضاء بأماكن. وخرج له علاء الدين علي بن بلبان مشيخةً قرأها عليه شرف الدين الفزاري. وخرج له ابن جعوان أربعين حديثاً.
وسمع منه المزي والبرزالي.
وكان شيخاً متميزا، سكن من الوقار حيزا، شكله تام، وفضله في العلم عام، قد تنقل في الولايات، وحكم في عدة جهات.
ولم يزل على حاله إلى أن أمسى الموت في دانيال دانيا، وطرف الحمام إليه رانيا.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ست وتسعين وست مئة بالشوبك.
ومولده سنة سبع عشرة وست مئة.
داود بن إبراهيم بن داود الشافعيسمع من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر وابن البخاري وغيرهما.
وأجاز لي بخطه في سنة ثلاثين وسبع مئة.
داود بن أسدالأمير بهاء الدين القيمري.
كان من رجال الدهر في السعي والتقدم، وأهل الزمان في التوصل إلى خراب بيوت أعاديه والتهدم، إلا أنه لا يدوم له حال، ولا تثبت له قدم، حتى يرميه الدهر بالانتقاد والانتقال.
ولم يزل بين هبوط وصعود، ونحوس وسعود، ومباشرة أملاك وعمائر، ونصب دلالات وأمائر، حتى قمر الدهر من القيمري عمره، وأنفذ الحمام فيه أمره.
وورد الخبر إلى دمشق بوفاته في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وسبع مئة.

أول ما عرفت من حاله أنه تعلق على الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب الشام لما كان بغزة، وخدمه. ولما نقل إلى نيابة الشام حضر معه إلى دمشق، ولم يزل يسعى إلى أن حصل إمره عشرة بغزة، ثم صار يتعلق على واحد بعد واحد ممن يظهر في كل دولة بالديار المصرية واحداً بعد واحد، إلى أن أعطي في وقت إمرة طبلخاناه، وهو يجتهد في التقرب إلى خواطر الأمراء بالضمانات والزراعات والتجارات، إلى أن تعلق أخيراً على الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي، كل هذا وهو في غزة.
ولما حضر السلطان الملك المنصور محمد في واقعة بيدمر حضر في ركاب الأمير سيف الدين يلبغا فأعطي إمرة طبلخاناه بالشام، فأقام بدمشق قليلاً، وتوجه إلى بلاده بغزة، فأقام هناك، وفي الساحل وفي نابلس فوق الشهرين إلى أن وصل الخبر بوفاته رحمه الله تعالى.
وكان قد ولي في وقت نظر القدس الشريف، وبلد سيدنا الخليل عليه السلام. وكان قد تعلل في نابلس وأمر أن يحمل إلى القدس، فحمل على باب، وأظنه مات هناك.
وقيل: إنه خلف ثماني مئة ألف درهم.
داود بن أبي بكر بن محمدالأمير نجم الدين بن الزيبق، بالزاي والياء آخر الحروف، والباء الموحدة وبعدها قاف.
كان من رجال المباشرات وأولي الدربة في الولايات. إذا تولى جهة أصلحها بالسياسه، وصال على أهلها بالصرامة والنفاسه، وله في دسته العبسه، والمهابة الزائدة في الجلسه، يطرق ولا يطرف، ويعرف أشياء، ويري أنه ما يعرف.
اشتهرت حرمته في البلاد، وعلم أنه صاحب جدال وجلاد، وإذا ذكر اسمه للمفسد ود أنه لم يخلق، ورأى أنه يموت ولا يرى ابن الزيبق، هذا إلى لطف وحسن أدب، إذا خلا بأصحابه، ومن يأنس إليه من إخوانه وأترابه. وكان يرعى صاحبه ولا ينساه، ويخدم الناس، ولو دب على المنساه.
تنقل في ولايات الشام ومصر سنين، وقمع الله به جماعةً من المفسدين.
ولم يزل على حاله إلى أن غرب من عمره نجمه، ومحي في رمسه رسمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب الفرد سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ودفن بالصالحية عند تربة الشياح.
أخذ العشرة، وباشر في أيام سلار خاص الساحل والجبل، ثم باشر خاص القبلية، وبعد ذلك باشر الخاص بدمشق عوضاً عن الأمير سيف الدين بكتمر، ثم باشر شد الديوان بحمص، ثم باشر شد الأوقاف بدمشق، ثم تولى جبل نابلس، ثم إنه نقل إلى شد الدواوين بدمشق عوضاً عن الأمير بدر الدين بن الخشاب في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ثم باشر شد غزة والساحل والجبل. وشكر للسلطان الملك الناصر فطلبه إلى مصر وولاه ولاية مصر وشد الجهات والصناعة والأهراء، وأعطاه طلبخاناه، ولم يداخل القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص، وراج عليه الأمير علاء الدين علي بن المرواني، وداخل النشو، فكانا إذا حضرا عنده ينبسط ابن المرواني مع من يكون حاضرا، ويندب وينشرح ونجم الدين الزيبق في تصميم وإطراق، أو يري أنه ناعس، إلى أن رأى النشو أنه ما يدخل معه في دائرته، فاتفق مع الأمير سيف الدين مكلتمر الحجازي، وأحضر من شكا منه في يوم دار عدل، فعزله السلطان، وأمر بإخراجه إلى دمشق إكراماً للأمير سيف الدين تنكز في يومه ذاك، فعاد إلى دمشق، فولاه تنكز شد الأوقاف والخاص، إلى أن جرت واقعة النصارى في نوبة الحريق بالجامع الأموي، فسلمهم الأمير تنكز إليه، فتولى عقابهم وتقريرهم، واستخرج أموالهم وتسميرهم على الجمال وتوسيطهم وحريقهم.
وجرت عقيب هذه الواقعة كائنة تنكز وإمساكه، فأمسك الأمير نجم الدين في جملة من أمسك لأجله، ثم أفرج عنه. وتولى نابلس في أيام الأمير علاء الدين أيدغمش، ثم عزل وتولى بر دمشق في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر.
ثم طلب إلى مصر في أيام الصالح إسماعيل، وتولى شد الخاص المرتجع عن العربان بالشام وصفد وحمص وحماة وطرابلس. وأقام كذلك ولده شجاع الدين أبو بكر نائبه في ولاية البر بدمشق إلى أوائل أيام الأمير سيفي الدين يلبغا، فتوجه على الخاص إلى مصر، وتولى بمصر شد الجيزية، وكان بها كاشفاً ومشدا.

ولما أمسك يلبغا وأقاربه ومن كان تسحب معه حضر الأمير نجم الدين هو والصاحب علاء الدين بن الحراني والأمير عز الدين أيدمر الزراق للحوطة على موجود المذكورين وإقطاعاتهم، وجعل الأمير شمس الدين آقسنقر أمير جاندار يتحدث معهم. وكان قد عين للأمير نجم الدين إقطاع طبلخاناه لتجهز إليه إلى الشام، فاعتل قريباً من جمعة، ومات رحمه الله تعالى.
ومن حسن سياسته أنه تولى نابلس في أيام تنكز فقتل فيهم، وأراق دماءهم، وبعد ذلك نقل عنهم وولي شد دواوين دمشق. وغضب عليه تنكز وأمسكه، وطلب منه مئة ألف درهم، فحضر أكابر أهل نابلس، فقالوا: نحن نزنها عنه، ويعاد إلينا والياً، فكان ذلك من أسباب الرضى عنه.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بشد الخاص بدمشق في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وكان ذلك عقيب قدومه من مصر إلى الشام، وهو: الحمد لله الذي جعل نجم الدين في آفاق السعادة طالعا، وسيره في منازل السيادة حتى كان الحكم بشرفه قاطعا، وقدر له الخير في حركاته وسكناته مستقيماً وراجعا، وأبرزه في هذه الدولة القاهرة لشمل مسراتها جامعا، نحمده على نعمه التي قربت من نأى بعد انتزاحه، وأعادته إلى وطنه الذي طالما شام التماع برقه في الدجى بالتماحه، وجبلته على إشارة دون كل قطر تبسم روضه بثغر أقاحين وما قلنا أقاحه، وخصته بمباشرة خاص تأتى له وتأتي البركات فيه على اقتراحه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نزل إثبات التوحيد في أبياتها، ووجدت النفوس لذاتها بإدمانها لذاتها، ومد الإيمان أيدي جناتها إلى ثمار جناتها، وأوصل الإيقان راحات قاطفيها إلى راحاتها.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بعثه الله إلى الخاص والعام، وأورثه من خزائن جوده فريد الإفضال ومزايا الإنعام، وحببه إلى قوم هم أنس الإنس، وجنبه قوماً " إنْ هُم إلاّ كالأنعامِ " وأيده بالكرامة، وأمده بالكرم ونصره بالملائكة الكرام. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سدوا ما ولاهم، وسادوا من والاهم، وشادوا مجد هذه الأمة فهم أولادهم فيه وبه أولاهم، ووعدوا على ما اتبعوا جنةً دعواهم فيها: سبحانك اللهم، صلاةً يتضوع من نشرها شذاهم، وتكفي من اتبعهم شر أهل البدع وتقيه إذا هم أذاهم، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد: فلما كانت وظيفة شد الخاص الشريف بدومة وداريا من أجل الوظائف، وأنفس المناصب التي كم أمها عاف وراقها عائف، وأشرف المباشرات التي من دونها بيض الصفائح لا سود الصحائف، يحتاج من باشرها إلى أن يكون ممن علت هممه، وغلت قيمه، وشكرت شيمه، حتى تفيض على العام من الخاص نعمه، وتدر بداريا دروه، وتدوم على دومة ديمه.
وكان المجلس السامي الأميري النجمي داود بن الزيبق الناصري ممن تهادته الممالك الإسلامية شاماً ومصرا، وحاز نوعي الثنا مداً وقصرا، وفات البلغاء من الحصر وصفه حصرا، وطرف عيناً ترون العين، ووضع عن الغلال أغلالاً وإصرا. طلع في كل أفق، ولا غرو، فهو النجم، وأقام على من خطف الخطفة من رصد حفظه كوكب رجم، وصلب عوده على من أراد امتحان بأسه بغمز أو اختبار لينه بعجم، وانتقل من جنة دمشق إلى مجاورة النيل وهو نهر الجنه، وعاد إلى وطنه ومصر مصرة على محبته، فأشواقها في سموم هوائها مستجنه، وحسنت مباشرته في كل قطر محدود، وباتت مخازيم سؤدده وسدادها مسدود، وأضحى وعمل عمله ليس لناظر فيه مخرج، ولا دون فضله باب مردود، وأطربت مناقبه حتى قال الناس: هذه مزامير داود.
فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أن يفوض إليه كذا، فليباشر ذلك مباشرةً تشخص لها عيون الأعيان، ويتعلم الكتاب منها تثمير أقلام الديوان، والأبطال تدبير عوالي المران، مجتهداً فيما يدبره، معتمداً على حسن النظر فيما ينبه عليه أو يثمره، فما ندب لذلك إلا لحسن الظن بسياسته، ولا عين لهذه الوظيفة إلا لجميل المعرفة بما جرب بين سؤدده ورياسته، ومثله لا ينبه على مصلحة يبديها، أو منفعة يعلنها أو يعليها، أو فائدة يهديها أو يهديها، أو كلمة اجتهاد لا يملها من يأخذها عنه أو يستمليها.

وهو بحمد الله تعالى غني عن إطراء من يمدحه من الغاوين، أو يزهره له بشد هذا الديوان، فقد باشر قبله شد الدواوين، فلا يبذل للناس غير ما ألفوه من سجاياه الحسان في الإحسان، ولا يطو بشره عنهم، فمن رآه لم يكن معه محتاجاً إلى بستان، ولا يعامل الرفاق إلا بالرفق، فإن " كلّ مَنْ عليها فان " ، والتقوى ملاك الوصايا فليجعلها له نجيا، وقوام الأمور فلا يتخذها ظهريا، وسداد كل عوز فمن رامها " تمثّل لها بشراً سويّاً " ، والله تعالى يتولاه فيما ولاه، ويزيده من فضله الأوفى على ما أولاه، والخط الكريم أعلاه الله تعال أعلاه، حجة على ثبوت العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى.
؟

داود بن الحسن بن منصور
علم الدين بن سواق.
قرأ الفقه على بهاء الدين هبة الله القفطي، وتأدب على أبيه، وقد مر ذكره في حرف الحاء.
كان شاعراً مطبوعا، محمولاً على اللطف موضوعا، خفيف الروح، لا تندمل له من اللهو قروح.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل الأمر الذي هو لقبض النفوس تواق، وساق ابن سواق إلى القبر سواق.
وتوفي في حياة والده رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة. وأورث أباه داءً عظيما، وقال من حزنه: يا ليت الفتى أضحى عقيما.
ومما قال أبوه في رثائه:
مصابك يا داود ليس يهون ... فقد أنبعت فيك العيون عيون
ورثاه محمد بن الحكم بقصيدة منها:
قصدت ربع بني سوّاق مبتغيا ... حجّاً فخبت لأنّي لم أر العلما
ومن شعره علم الدين يمدح طقصبا والي قوص:
لاح برق من الخبا ... إنّ هذا له نبا
وتنشّقت نسمة ... طرقتني مع الصّبا
همت لمّا شممتها ... وفؤادي لها صبا
وسرى النشر في الورى ... عمّ شرقاً ومغربا
هذه دولة الرضا ... وبلها جاء صيّبا
جئت بالحق ناطقاً ... لست يا برق خلّبا
إنما أنت بارقٌ ... لاح من وجه طقصبا
سيف دين مجرّدٌ ... ضيغمٌ ضمّه قبا
عفوه وانتقامه ... قرن الذيب والظّبا
وغدا طوع أمره ... أسمر الخطّ والظبى
قلت: شعر عذب منسجم.
داود بن محمدابن أبي القاسم بن أحمد بن محمد: الأمير الرئيس الجليل عماد الدين ابن الأمير بدر الدين الهكاري.
سمع من ابن اللتي، وحامد بن أبي العميد القزويني، والزكي البرزالي، وابن رواحة، وابن خليل، وابن قميرة بحلب، والتاج بن أبي جعفر بدمشق، وعمار بن منيع بحران، وعبد الغني بن بنين بمصر.
كان فاضلاً نبيلا، عاقلاً جليلا، تولى نيابة قلعة جعبر في أيام الناصر، وكان في تلك الدولة ممن تعقد عليه الخناصر.
ولم يزل يركب ويتصيد، ويتصدى للحركات ولا يتقيد، إلى أن حان مقدوره، وآن نزوله في القبر وحدوره.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة.
ومولده سنة تسع وست مئة.
وحدث بدمشق والقدس.
داود بن مروان بن داودالفقيه الإمام القاضي نجم الدين أبو سليمان الملطي الحنفي.
كان شيخاً كبيراً من أعيان الحنفية، درس بعدة مدارس، وتولى قضاء العسكر. وكان يقدم إلى دمشق، ويحكم فيها نيابةً عن قاضي القضاة حسام الدين أيام إقامته.
وكان فيه مروءة وتعصب.
توفي رحمه الله تعالى ثالث شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وسبع مئة.
داود بن يوسف بن عمررسول الملك المؤيد هزبر الدين بن الملك المظفر التركماني صاحب اليمن.
بحث التنبيه، وحفظ كفاية المتحفظ، ومقدمة ابن بابشاذ، وسمع من المحب الطبري وغيره.
كان قد تفنن في العلوم، وأخذ بكل طرف من الفضائل والفهوم.
وسمع الناس بميله إلى الأفاضل، فجاؤوه من كل قطر بعيد، واعتدوا للدهر يوم لقائه بعيد، وانثالوا عليه من كل فج، وأموا كعبة جوده بالحج. وأحسن إلى الواردين، وأجمل إلى القاصدين، وهاجر إليه أرباب الصنائع، وأودع عندهم الأيادي والصنائع، وجلب إليه نفائس الأصناف، وأنصف أربابها في العوض عنها غاية الإنصاف، جهزت إليه نسخة بالأغاني الكبير في مجلدة واحدة بخط ياقوت، فوزن فيها مبلغ خمسة آلاف درهم، واشتملت خزائنه على مئة ألف مجلد.
وكان يحب أهل الخير، ويزور الصالحين، وكانت أيامه كثيرة الخير.

قيل: إن عز الدين الكولمي ورد عليه، ومعه من الحرير والمسك والصيني ما أدى عنه ثلاث مئة ألف درهم. وأنشأ قصراً عديم المثل بديع الحسن.
ولما مات رحمه الله تعالى اضطرب أمر اليمن مدة، وتمكن الملك الظاهر بن الملك المنصور، وقبضوا على المجاهد بن المؤيد، ثم مات المنصور، وكان دينا رحيما.
ثم ثار أمراء مع المجاهد، فاستولى على قلعة تعز، ثم قوي أمره، وجرى على الرعايا من النهب وافتضاض الأبكار كل سوء، ودام الحرب بين الظاهر والمجاهد، وآل الأمر إلى أن استقل الظاهر، وبقيت تعز بيد المجاهد، فحوصر مدة، وخربت لذلك تعز خراباً لا يستدرك، ثم إن المجاهد تمكن وأباد أضداده.
ولم يزل المؤيد هزبر الدين في أرغد عيش مدة نيف وعشرين سنة، لأنه ملك بعد أخيه الأشرف سنة ست وتسعين، وبقي في ملك اليمن إلى أن خذل بالموت المؤيد، وأنزله من قصره إلى قبر تشيد.
ووفاته رحمه الله تعالى في ثاني ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، ودفن عند قبر أخيه بالمدرسة.
وقال تاج الدين عبد الباقي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى يمدحه، وقد ركب فيلاً، ونقلته من خطه:
الله أولاك يا داود مكرمةً ... ورتبةً ما أتاها قبل سلطان
ركبت فيلاً وظل الفيل ذا رهجٍ ... مستبشراً وهو بالسلطان فرحان
لك الإله أذلّ الوحش أجمعه ... هل أنت داود فينا أم سليمان
وقال يمدحه وقد بنى القصر، ومن خطه نقلت:
يا ناظم الشّعر في نعم ونعمان ... وذاكر العهد من لبنى ولبنان
ومعمل الفكر في ليلى وليلتها ... بالسفح من عقدات الضال والبان
قصرٌ فبالعلو من وادي زبيد علا ... عالي المنار عظيم القدر والشان
به التغزّل أحلى ما يرى بهجاً ... فدع حديث لييلات بعسفان
قصرٌ بناه هزبر الدّين مفتخرا ... وشاد ذلك بانٍ أيّما بان
هذا الخورنق بل هذا السدير أتى ... في عصر داود لا في عصر نعمان
فقف براحته تنظر لها عجباً ... كم راحة هطلت منه بإحسان
أنسى بإيوانه كسرى فلا خبرٌ ... من بعد ذلك عن كسرى لإيوان
سامى النجوم علاءً فهي راجعةٌ ... عن السّموّ لإيوان ابن حسّان
تودّ فيه الثريا لو بدت سرجاً ... مثل الثريا به في بعض أركان
يحفّه دوح زهر كلّه عجبٌ ... كم فيه من فنن زاهٍ وأفنان
الألقاب والأنسابابن الدباهي الحنبلي: محمد بن أحمد.
الدبابيسي: مسند القاهرة يونس بن إبراهيم.
درباس بن يوسف بن درباسالأمير الكبير حسام الدين الحميدي.
كان بدمشق حاجبا، وشكره واجبا، لأنه باشر الحجوبية، وشد الأوقاف، فأثنى عليه حتى الحمائم على فروع الأراك فوق الأحقاف.
وكان ذا هيئة وشكاله، ورئاسة وحشمة وجلاله، فصيح اللسان، مليح البيان، شعره والدر سواء في القيمه، وكلامه لانسجامه كأنه صوب الديمه.
لم يزل بدمشق على حاله إلى أن أثارت له المنون حربا، وسدت على ابن درباس من الحياة دربا.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة.
وكان أولاً بصفد فهام بحبها، وألف بها، ثم إنه نقل إلى دمشق، وأعطي إمرة الطبلخاناه والتقدم والوجاهة، وهو يتشوق إلى صفد، ويتذكر أوقات أنسه، وإذا رأى أحداً من أهلها مال إليه وصبا، وشم فيه أرج ما قطعه هناك في زمن الصبا. ونظم في حنينه إليها أشعاراً، وغنى بها الناس.
من ذلك:
يا صاحبي إن شئت توليني منن
عرّج على صفدٍ فلي فيها شجن
وبها أحبائي وأهلي والوطن
وهم أعزّ من روحي ومن ... أهواهم في السرّ والإعلان
كم ليلة قد بتّ في ساحاتها
أجني ثمار اللهو من وجناتها
وأجرّ ذيل صباي في عرصاتها
هل راجعٌ ما فات من لذاتها ... أترى يعود لنا زمانٌ ثان
الألقاب والألقاب

ابن دقيق العيد: تاج الدين أحمد بن علي. وعز الدين عامر بن محمد بن علي. وطلحة بن محمد بن علي. ومحب الدين علي بن محمد. وجلال الدين محمد بن عثمان. والشيخ تقي الدين محمد بن علي. وكمال الدين محمد بن محمد بن علي.
الدقوقي: المحدث محمود بن علي.
الدكالي الصوفي: اسمه عثمان.
الدشتي: شهاب الدين أحمد بن محمد.
الدشناوي: بدر الدين زكري بن يحيى. وتاج الدين محمد بن أحمد.
ابن درباس: فخر الدين عثمان بن محمد.
ابن الدريهم: علي بن محمد بن عبد العزيز.
دلشاذبالدال المهملة واللام الساكنة وبعدها شين معجمة، وألف وذال معجمة: بنت دمشق خواجا بن جوبان، الخاتون زوج النوين، الشيخ حسن الكبير حاكم بغداد، تزوجها بعد عمتها الخاتون بغداد.
كانت ذا حظوة عند بعلها، وكان لها أطوع من نعلها، لجمالها الذي فتنه، وحكم على قلبه بشجنه لما شحنه غراما وسجنه، فكانت هي الحاكمة في مملكة العراق، والآمرة في كل شيء من القطع والوصل والدنو والفراق، لا يخالفها أحد، ولا يحالفها من يكون له من دونها ملتحد، تكتب إلى نواب الشام بما تريد، وتجهز الأولاق في أشغالها وتعود رسلها على البريد، ويطلب نواب الشام منها ما يحاولونه من المهمات، ويدفعون لها ما يخشونه من الملمات. ورأيت اسمها في الكتب التي ترد عنها بالمغرة العراقية، وهو كتابة عظيمة، والظاهر أنه كتب عنها بأمرها، بخلاف خط الكتاب بنفسه، وهذا إن كان بيدها فهو أمر عظيم، وإن كان بأمرها فهو أيضاً كبر همة، كونه يكون بخط قوي جيداً، وكانت تميل إلى الغرباء وتحسن إليهم.
ولم تزل على حالها إلى أن كسفت من وجهها الشمس، وانطبقت عليها سحابة الرمس.
وتوفيت رحمها الله تعالى في ثاني القعدة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ونقلت من بغداد إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودفنت هناك.
وقيل: إن زوجها سقاها سماً؛ لأنه اتهمها بالميل إلى ابن عمها الأشرف بن تمرتاش، وذلك لأنه صادر جميع نوابها بعد موتها ومن كان من جهتها.
دلنجيبكسر الدال المهملة وفتح اللام وسكون النون، وبعدها جيم وياء آخر الحروف: الأمير سيف الدين ابن أخت الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا.
وكان قد أقام بمصر أميراً مده، ولسيف عزمه مضاء وحده، وأخرج لنيابة غزه، وصار لها به شرف باذخ وعزه، لأنه كتب له بها عن السلطان: نائب السلطنة بغزة، ولم يكتب لأحد غيره بعد الجاولي حتى ولا للأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب ودمشق، وأضيف له الحديث في نابلس، وهذه ميزة أخرى، ولم يكن لأحد من دمشق في غزة ولا في نابلس ولا في الساحل حديث البتة.
ولم يزل على حاله إلى أن دلي دلنجي في قبره، وراح إلى عالم نجواه وسره.
ولما جرى للأمير سيف الدين بلجك الناصري في غزة مع العربان ما جرى، ورد بعده الأمير سيف الدين دلنجي، وكان وصوله إليها في أوائل شهر جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة، وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة رابع عشر جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
وقاسى في نيابته شدائد من عرب جرم وموقع، وجرت بينهم حروب وجراح، وقتل عدة من أمراء غزة، وتولى النيابة بعده الأمير فارس الدين ألبكي.
دمرخان بن قرمانالأمير نجم الدين.
كان في مصر أمير مئة مقدم ألف، وحضر إلى دمشق كذلك.
أقام بدمشق إلى أن توفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
الألقاب والألقابالدهلي: نجم الدين سعيد بن عبد الله.
دوباج بن قطلي شاهابن رستم بن عبد الله، الملك شمس الدين أبو العز بن الملك بن الملك صاحب كيلان.
كان فارساً بطلا، لا يقبل في الإقدام عدلا، ولا يريد إلا الممات عن الحياة بدلا، وكان مع ذلك عاقلا، ولم يكن عن تدبير مملكته غافلا، له في القلوب مهابة مهابه، وعنده في مقالبة الأيام والليالي إصابه. لمح الدنيا بعين الصدق فعرفها، وتحقق غدرها وسرفها، فترك الملك، ونزل عنه لابنه، ونفض ما في يده منه، وما في ضبنه.
وقدم إلى الشام ليحج فأدركه أجله بقباقب، كأنه كان له هناك يراصد أو يراقب.
ووفاته في سادس عشري شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وقباقب منزلة عن الرحبة إلى جهة دمشق، فحمله جماعته إلى دمشق، وأنشئت له تربة مليحة بشرقي سوق الصالحية، ورتب له فيها المقرئون.

وهو الذي رمى قطلي شاه الملك بسهم فقتله لما جهزه غازان إلى قتالهم في سنة ست وسبع مئة، وبقي في ملك كيلان خمسة وعشرين عاماً، ومات وعمره أربع وخمسون سنة، ووصى للحج عنه فحج عنه جماعة، وأنفق على تربته أموال كثيرة.
الألقاب والأنسابابن دمرتاش: محمد بن محمد.
ابن الدويك: محمد بن عبد الجبار.
الدمياطي: شهاب الدين أحمد بن أيبك. والشيخ الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف.
الدمياطي: عماد الدين محمد بن علي.
الدميثري: الأمير علم الدين سنجر.
الدواداري: الأمير علم الدين سنجر.
الدلاصي: عبد الله بن عبد الحق.
ابن دلغادر: زين الدين قراجا.
الدهان: محمد بن علي.
ابن الدميري: محمد بن علي.
ابن الدواليبي الحنبلي: محمد بن عبد المحسن.
حرف الذال

ذبيان
هو الأمير ناصر الدين الشيخي والي القاهرة.
كان داهيه، نفسه بالجد لاهيه، رجلاً رجله في الثرى، وهامة همته في الثريا ترى، نطر من أسف البير، وتسنم ذروة الفلك الأثير. وتقدم بالقاهرة في الدولة، ورأى نفسه في سماء المجد كالبدر، وخدمه كالنجوم حوله، لكنه كسف قريبا، وما نفعه أن كان أريبا.
كان هذا الأمير ناصر الدين قد ورد من الشرق صحبة الشيخ عبد الرحمن الكواشي رسول الملك أحمد إلى السلطان الملك المنصور قلاوون، وحبس الشيخ عبد الرحمن وجماعته في قلعة دمشق، ولما مات أفرج عنهم، وبقي هذا ناصر الدين يخيط الكوافي بدمشق.
ثم إنه توجه إلى مصر، وتوصل إلى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وتحيل إلى أن تولى ولاية القاهرة، والتزم بمستظهر، وعضده الجاشنكير إلى أن ولي الوزارة، ثم إنه قبض عليه وصودر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وسبع مئة بالقاهرة، بعد العقوبة والضرب، وذلك في أوائل ذي القعدة من السنة.
ذبيان بن أبي الحسن بن عثمانالحاج العفيف البعلبكي التاجر.
وكان يروي عن الشيخ الفقيه محمد اليويني وابن عبد الدائم، وغيرهما. وحدث بجزء ابن جوصا، وكان من أهل القرآن.
وتوفي في رابع جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة.
الألقاب والألقابابن أبي الذر: نجم الدين الصوفي عبد العزيز بن عبد القادر.
الذهبي: محمد بن أحمد.
ذون بطروبالذال المعجمة والواو الساكنة، وبعدها نون وباء موحدة وطاء مهملة وراء وواو، وقيل فيه: ذون بترو، بالتاء ثالثة الحروف بدلاً من الطاء: الملك الكبير الطاغية الفرنجي الأندلسي.
كان جباراً عنيدا، وشيطاناً مريدا، ملئ قلبه من المسلمين حقدا، وتضرم عليهم بالغضب وقدا، وبالغ في القسوه، وود من كلبه لو شرب دمهم في حسوه، تمرداً من منه وكفورا، وعتواً وعدواناً وفجورا.
اجتهد وبالغ ليستأصل ما بقي من المسلمين بالأندلس، وحشد من قدر عليه من الفرنج الحمس، ولكن الله رد كيده في نحره، وأغرقه لما طغى في بحره، وما نفعه جيشه الذي لا يحصى، ولا أمره الذي كان لا يرد ولا يعصى، وقتل هو وجنده، ومن اعتقد أنه بيده يشد بنده، وسلخ بعد ذلك الصبر والجلد جلده، وحشني قطنا، وعلق على باب غرناطة، وطال في العذاب خلده.
وكان هلاكه في سنة تسع عشر وسبع مئة.
وكان من خبر هذا الطاغية أن الفرنج حشدوا ونفروا من البلاد، وذهب سلطانهم ذون بطرو إلى طليطلة ودخل على الباب، وسجد له وتضرع، وطلب منه استئصال ما بقي بالأندلس من المسلمين، وأكد عزمه، فقلق المسلمون، وعزموا على الاستنجاد بالمريني، ونفذوا إليه فلم ينجع، فلجأ أهل غرناطة إلى الله تعالى. وأقبل الفرنج إلى المسلمين في جيش لا يحصى، فيه خمسة وعشرون ملكاً، فقتل الجميع عن بكرة أبيهم، وأقل ما قيل أنه قتل في هذه الملحمة خمسون ألفاً، وأكثر ما قيل ثمانون ألفاً، وكان نصراً عزيزاً ويوماً مشهوداً، والعجب أنه لم يقتل من المسلمين سوى ثلاثة عشر فارساً، وكان عسكر الإسلام ألف وخمس مئة فارس، والرجالة نحواً من أربعة آلاف. وقيل: دون ذلك.
وكانت الغنيمة ذهباً وفضة سبعين قنطاراً، وأما الدواب والقماش والعدد فشيء لا يحصى كثرةً، وبقي المسلمون يحتاجون إلى ما ينفقونه على الأسرى لقوتهم وقوت من يحرسهم ويحرس الدواب، فكان في كل يوم خمسة آلاف درهم، وبقي المبيع في الدواب والأسرى والغنائم ستة أشهر متوالية، ومل الناس من طول البيع وداخلهم العجز والكسل.

وكانت الواقعة في صبيحة يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وسبع مئة وهو رابع عشر حزيران يوم عيد العنصرة للنصارى، وكان ذلك يوم عيد للإسلام، ويوم وبال على الكفار.
وكان نزول الكفار على مكان يقال له منظرة بينوس بالقرب من جبل إلبيرة، وهو عشرة أميال من غرناطة.
ومن جملة الملوك الذين للكفار: صاحب إشبونة وقشتالة والقرنيرة، وأرغون وطلبيرة، والذي تولى القتال نائب صاحب غرناطة الشيخ الصالح المجاهد أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء، وابنا أخيه الشقيقان أبو يحيى وأبو معروف، أمير جيش مالقة، ابنا عبد الله بن أبي العلاء وأخوهم لأبيهم أبو عامر خالد، أمير جيش رندة، وأبو مسعود محمد بن علي، وأمير جيش الخضراء أبو عطية مناف وغيرهم.
وعلى الجملة فكانت واقعةً عظيمة لطف الله فيها بالمسلمين، ولم يتفق لها نظير، ولله الحمد والمنة على ما عود هذه الأمة من النعمة.
حرف الراء

رافع بن هجرس
الإمام المقرئ المحدث الفقيه الزاهد أبو محمد الصميدي - بضم الصاد المهملة وفتح الميم، وبعدها ياء آخر الحروف، ودال مهملة - جمال الدين الصوفي نزيل القاهرة.
سمع بدمشق من أصحاب ابن طبرزد، وبمصر من طائفة.
وكان حيزً زاهدا، مأموناً عابدا، عني بالروايه، وصار له بها أتم عنايه، وكتب وحصل بعض الأصول، وعلق وأفاد، ولم يكن له إلى سن الرواية وصول.
واشتغل بالقراءات حينا، وجعل له الطلب والدأب دينا، إلى أن جر رافع إلى قبره، وقطع إلى الآخرة مخاضة عمره.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر الحجة سنة ثماني عشرة وسبع مئة بمصر عن خمسين سنة إلا سنة.
رجب بن قراجا بن عبد اللهزين الدين الأرزني، بهمزة وراء ساكنة وبعدها زاي ونون.
أخبرني العلامة أبو حيان قال: زين الدين رفيقنا على الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى. كان له اعتناء بشيء من الأدب واللغة. وكان يكتب خطاً ليس بالجيد، لكنه في غاية الضبط والصحة، يشكل الحروف كلها ما أشكل منها، وما لم يشكل.
وأنشدنا لنفسه:
شاهدت في طرسك سحرا غدا ... يخامر الألباب بالأكؤس
وكان كالروض غدا ناضرا ... يلذّ للأعين والأنفس
رجب بن أشبرك التركمانيالشيخ تقي الدين العجمي شيخ الزاوية التي تحت قلعة الجبل بالقاهرة.
كان شيخاً مسنا، قد اتخذ بالأجل من سهام الدهر، مجنا، له وجاهة عند الدوله، وفي قلوب الناس له صوله، وعنده فقراء وأتباع، وله مريدون من الخواص والرعاع.
لم يزل على حاله إلى أن أصابه سهم المنية فما أخطاه ولا تعداه، وكأن ميتته أمانة مؤداه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رجب الفرد سنة أربع عشرة وسبع مئة. وعمره إحدى وثمانون سنة.
وكان في الديار المصرية شيخ طائفة العجم.
الألقاب والألقابالرجيحي: شيخ التونسية، اسمه سيف الدين.
الرجبي والي مدينة دمشق، اسمه آقوش.
رزق الله بن فضل الله
الرئيس مجد الدين بن تاج أخو القاضي شرف الدين النشو.
كان أولاً نصرانياً، فاستخدمه أخوه في استيفاء الخزانة والخاص، وكان ينوب أخاه النشو إذا غاب، ويدخل إلى السلطان الملك الناصر محمد، ويخرج، فلما كان في سنة ست وثلاثين وسبع مئة في يوم الجمعة استسلمه السلطان قبل الصلاة على يده، وأبى عليه فلكمه بيده، وعرض عليه السيف، فأسلم، وخلع عليه، وقال له: لا تكن إلا شافعي المذهب مثلي، واستخدمه عند الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، فظهر وساد، وجلس في صدر الرياسة واتكا على وساد، وعظم شانه، وشاع ذكره، وعلا مكانه، وتوسع في الوجاهة قدره وإمكانه، وتبيدق وسط رقعة القلعة فرزانه، وكان قد بلغ السها راقيا، وطاف بكؤوس الجود ساقيا، ووهب فما أبقى على المال باقيا.
وكان أولاً فيه ميل إلى المسلمين، وحنو زائد على المؤمنين، رتب سبعاً يقرأ في الجامع الأزهر، وقرر نصيباً من الصدقات تخفى وعند الله تظهر، وكان يجهز في كل سنة إلى الحرمين ستين قميصا، ولا يجد كفه عن الجود محيصا.
وكان يحرص على أن يسلم من عبيده ممن يميل إليه سرا، يفعل ذلك خفيةً خيفةً من أمه حتى لا ينال شرا، فعل ذلك مع جماعة من غلمانه النصارى، وأرقائه الذين هم في سكرة الجهل حيارى.

ولم يزل في مراقي سعادة، ومعارج سيادة إلى أن أمسك هو وأخوه - على ما سيأتي ذكره في ترجمة أخيه - وسلمه السلطان إلى الأمير سيف الدين قوصون فأصبح مذبوحاً، ذبح نفسه بيده، ولم يمكن أحداً يتمكن من عقابه ولا فساد جسده، وذلك في ثالث شهر صفر سنة أربعين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى ربعة، حلو الوجه، مليح العينين، أقطف الجفون.
وكان نظيف الملبس، طيب الرائحة، يغير قماشه في غالب الأيام مرتين. وكان يفصل قماشه ويقول للخياط: طوله عن تفصيلي، وكف الفضل إلى داخل، فسألته عن ذلك فقال: أنا قصير، وأهب قماشي لمن يكون أطول مني، فإذا فتق ذلك الفضل جاء طوله. وكان كثيراً ما يهب قماشه، وقلما غسل له قماشاً إلا إن كان أبيض.
وعمر داراً مليحة إلى الغاية على الخليج الناصري.
وكتبت أنا إليه لما اهتدى:
أنت أهدى للخير من أن تهدّى ... يا عزيزاً بكلّ غال يفدّى
هذه للسعود والفضل أولى ... حزتها من مليك عصرك نقدا
هكذا الهمّة النّفيسة في النّا ... س إذا حاولت من الله رشدا
لك سرٌّ أبدى وأعاد ال ... فضل لله ما أعاد وأبدى
كيفما كنت لم تزل في الأيادي ... والمعالي والفضل والبرّ فردا
أينما سرت في طريق المعالي ... تتلقّى في كلّ أمرك سعدا
سوف ترقى مراتب السّعد حتى ... يفتدي الدّهر طائعاً لك عبدا
ولعمري قد قلّد الله هذا ال ... عصر من سعيك الموفّق عقدا
وإذا سدت في الشّباب فماذا ... لك من بعد أن بلغت الأشدّا
أنت ذو فطنةٍ من النّار أذكى ... وبنانٍ من السّحائب أندى
ومحلٍّ كالنّجم لمّا تعلّى ... ومحيّا كالبدر لمّا تبدّى
إنّ منكم للملك لمّا ظهرتم ... شرفاً زاده علّوك مجدا
شرفٌ قد علا على الشّمس قدرا ... ما تعدّى لمّا عليها تعدّى
لك منه أخٌ تراه شقيقا ... في رياض السّعود قد فاق وردا
يخجل الشّمس في السّماء جمالاً ... ويفوق البحار في الجود رفدا
قد أنام الأنام في كهف أمنٍ ... ولقد كان كحلهم قبل سهدا
وأقرّ القلوب وهي التي كا ... نت من الرّوع في الدّجى ليس تهدا
فلهذا قد سرّ أهلاً وصحبا ... ولهذا أفنى عدوّاً وضدّا
فإلى جوده الرّغائب تسري ... وإلى بابه الرّكائب تحدى
صانه الله من صروف الليالي ... وكساه من فاخر الحمد بردا
وأرانا فيك الذي نتمنّى ... من علوٍّ يجاوز الشّمس حدّا
رزق الله بن تاج الدينكان شكلاً لطيفا، ووجها حسناً ظريفاً، أنيق البزه، رشيق الحركة والهزه، إلا انه كان في بطانه مؤوفا، وربما كان داء مخوفا، وكان لذلك يعلوه اصفرار، ويرى له عن الصحة فرار.
دخل ديوان الإنشاء، وصار من الخاصة الساكنين في الأحشاء. وكانت كتابته متوسطه، وعبارته في الفصاحة غير مؤرطه، ونظمه ما به من باس، ولا في جودته إلباس، وكان له فضل على رفاقه، وإحسان يبكون معه على فراقه.
ولم يزل على حاله إلى أن رزق رزق الله الحمام، ومحق بدره بعد التمام. وتوفي - رحمه الله تعالى - ... وأربعين وسبع مئة.
وكان قد كتب إلي وأنا بدمشق أبياتا في هذا الوزن والروي، إلا أنني طلبتها عند هذا التعليق، فلم تر عيني لها أثرا، ولا وجدت لمبتدئها خبرا.
والجواب الذي كتبته أنا عن الأبيات المعدومة والقطعة التي جعلت يد الضياع بيوتها مهدومة هو هذا:
سطورك أم راحٌ بدت في زجاجها ... وكان سرور القلب بعض نتاجها
أتتني من مصرٍ إلى أرض جلّقٍ ... فأهدت إلى نفسي عظيم ابتهاجها
فيا نفس الأسحار في كلّ روضةٍ ... تيمّم ربا مصر ولطّف مزاجها
وقف لي على ديوان الانشاء وقفةً ... وحيّ الكرام الكاتبين مواجها
فثمّ وجوهٌ كالبدور تكاملت ... ولاق بها في الفضل رونق تاجها

أئّمة كتّابٍ إذا ما ترسّلوا ... فأقلامهم ترمي العدى بانزعاجها
وإن نظموا قلت الذّراري تنسّقت ... ولاق على الأيام حسن ازدواجها
هنالك رزق الله بين ظهورهم ... فلا نفسٌ الاّ تمّ إبلاغ حاجها
فيا ليت شعري هل أفوز بقربهم ... ويهدأُ من عيني اضطراب اختلاجها
وكنت أنا كتبت إلى القاضي ناصر الدين بن النشائي لغزا في عيد:
يا كاتبا بفضله ... كلّ أديبٍ يشهد
ما اسمّ عليك قلبه ... وفضله لا يجحد
ليس بذي جسمٍ يرى ... وفيه عينٌ ويد
فكتب القاضي ناصر الدين الجواب:
يا عالماً لنحوه ... حسن المعاني يسند
ومن له فضائلٌ ... بين الورى لا تجحد
أهديت لغزاً لفظه ... كالدّرّ إذ ينضّد
فابق إلى أمثاله ... عليك إلفاً يرد
وكتب إلي أيضاً القاضي كمال الدين محمد بن القاضي جمال الدين إبراهيم بن شيخنا أبي الثناء شهاب الدين محمود:
يا من زكا ولادةً ... وطاب منه المحتد
ومن أياديه بها ... كلّ البرايا تشهد
ومن غدا نواله ... كالبحر فيه مدد
ألغزت في شيءٍ غدا ... يأتي وفيه غيد
وال عبد قد صحّفه ... فاقنع به يا سيّد
واقبله من مقصّرٍ ... لطولكم لا يجحد
ودم معافى أبداً ... ما صحب الزّند يد
وكتب تاج الدين رزق الله المذكور أيضاً:
يا فاضلاً آدابه ... بها الورى تسترشد
ومن على علومه ... أهل النّهى تعتمد
ألغزت في عيدٍ إلى ... عبدٍ إليكم يسند
ولم يؤخّر نظمه ... إلاّ حياءً يحمد
ولم يماثل من له ... في سائر الفضل اليد
فدم سعيداً تنتقي ال ... آداب أو تنتقد
؟

اللقب والنسب
ابن الرزيز الخطيب
عبد الأحد بن يوسف.
الرستمي والي الولاة، اسمه آقوش.
ابن رزين
بدر الدين عبد اللطيف بن محمد. وعلاء الدين عبد المحسن بن عبد اللطيف.
ابن الرسام علي بن محمد.
رشيد بن كامل
الإمام العلامة القاضي رشيد الدين الحرشي - بالحاء المهملة والراء والشين المعجمة - الرقي، وكيل بيت المال بحلب.
سمع من ابن مسلمة، وابن علان، والقوصي، وعدة.
له تفنن وأعمال، وترسلات من ديوان الإنشاء ينفق فيها الأموال. وكان يكتب بدمشق الإنشاء، ويحضر مجالس الناصر الحلبي في البكرة والعشاء.
وولي نظر الجيش بدمشق أيضا، ودرس بعصرونية حلب فأفاض الفوائد فيها فيضا. وولي وكالة بيت المال بحلب، وما قصر في أخذ ولا طلب.
وكان ذا صيانة وعقل، وفضل صح به عن النقل، وله قريض أبرز رياضه، وطرز بالسواد بياضه.
ولكن ما حماه الأجل بحماه، ولا اتقى الحتف لما رماه.
وتوفي بحماة غريباً - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة.
ومن شعره:
الألقاب والأنسابالرشيدي: الشيخ برهان الدين إبراهيم بن لاجين.
رشيد الدولة: الوزير فضل الله بن أبي الخير.
ابن رشيد: محمد بن عمر.
ابن رشيق: محمد بن الحسين.
ابن الرضي المسند: أبو بكر بن محمد.
الرضي المنطيقي: إبراهيم بن سليمان.
ابن الرفعة: أحمد بن عبد المحسن. الشيخ نجم الدين فقيه العصر أحمد بن محمد.
الرفا المسند: علي بن محمد.
ابن الرعاد: محمد بن رضوان.
رقية بنت محمد بن دقيق العيد
بن وهب القشيرية
هي ابنة الشيخ العلامة شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد.
سمعت من العز الحراني بقراءة والدها، ومن أبي بكر بن الأنماطي، وابن خطيب المزة. وحدثت بالقاهرة، وسمع منها جماعة.
قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: سمعنا عليها جزءاً من سنن الكشي، وأجازت لنا.
وهي امرأة متعبدة ملازمة للخير، من بيت العلم والصلاح.
توفيت - رحمها الله تعالى - يوم الجمعة رابع عشر شعبان سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
الألقاب والأنساب
ابن الرقاقي أمين الدين

أبو بكر بن عبد العظيم.
الرقي الشيخ إبراهيم بن أحمد بن محمد.
ابن رمتاش الأمير زين الدين أغلبك.
رميثة
بضم الراء وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وبعدها ثاء مثلثة وهاء: الأمير أسد الدين أبو عراده بن أبي نمي، أمير مكة، نجم الدين بن الأمير بهاء الدين أبي سعد الحسن بن علي الحسيني.
كان قد وصل إلى القاهرة، وجهز السلطان معه جماعةً من الجند والعرب نحو ثلاث مئة نفر، وجماعةً من الحجاج إلى مكة في ثاني شعبان سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان قد قبض عليه أمير الركب المصري رابع عشر الحجة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وتوجه به إلى مصر، ولما وصل أكرمه السلطان وأجرى عليه في كل شهر ألف درهم، فبقي كذلك مكرما أربعة أشهر، وهرب من القاهرة إلى الحجاز، فلما علم السلطان بهروبه في اليوم الثاني كتب إلى شيخ آل الحريث، وقال: هذا هرب على بلادك، وما أعرفه إلا منك. فركب الهجن وسار خلفه مجدا، فأدركه نائما تحت عقبة أيلة، فجلس عند رأسه وقال له: اجلس يا أسود الوجه. فانتبه رميثة وقال: صدقت، لو لم أكن أسود الوجه ما نمت هذه النومة المشؤومة حتى أدركتني. وقبض عليه، وأحضره إلى السلطان، فألقاه في السجن وضيق عليه. فقيل: إنه حصل له رمي دم، ثم أفرج عنه وعن حاجبه علي بن صبح في المحرم سنة عشرين وسبع مئة.
وفي سنة إحدى وعشرين حلف له بنو حسن، وأظهر بمكة مذهب الزيدية، وكتب بذلك عطيفة إلى السلطان، فتأذى لذلك ...
وفي يوم الثلاثاء حضر الأمير رميثة إلى مكة، وقرئ تقليده، ولبس خلعة السلطان الملك الناصر بعد وصول أمان السلطان إليه، وذلك في مستهل جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
؟
اللقب والنسب
الرهاوي أمين الدين عبد الله بن عبد الله. وعز الدين محمد بن عمر.
ابن رواحة نور الدين أحمد بن عبد الرحمن. وزين الدين عبد الرحمن بن رواحة.
الرومي الشيخ شهاب الدينأحمد بن محمد بن إبراهيم.
بنو ريان جماعة منهم القاضي عماد الدين سعيد بن ريان. وولده تاج الدين محمد. والقاضي جمال الدين سليمان بن أبي الحسن. وولده كمال الدين إبراهيم.
رنكالبالراء والنون الساكنة والكاف وبعدها ألف ولام: الأمير سيف الدين بن أشبغا، أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق.
كان أبوه من كبار بيوت المغول، وهو إذا رأيته يغتال عقلك منه غول، شكلاً تاما ضخما، وممن لم توجد له في المعرفة عزما، سليم الباطن والطباع، يرغب في العزلة عن الناس والانجماع.
جرد إلى بيروت فكأنما جرد منها إلى تابوت، لأنه ما حمل رنكال منها رنكا، وجد البلى في جسده وأنكى.
وتوفي في بيروت - رحمه الله تعالى - في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
حرف الزاي
الألقاب والأنساب
الزارزاري: شرف الدين موسى بن علي.
الزريزاني: تقي الدين عبد الله بن محمد.
ابن الزريزير: الكاتب الحاسب علي بن معالي.
ابن الزراد: محمد بن أحمد.
ابن الزمر: الإمام النحوي أحمد بن إبراهيم.
الزراق: الأمير عز الدين أيدمر. والأمير علم الدين سنجر.
ابن الزبطر: عيسى بن موسى.
الزرندي: جلال الدين عبد الله بن أحمد.
الزرعي: جماعة: شهاب الدين أحمد بن عمر. وبدر الدين محمد بن سليمان. والقاضي ناصر الدين الزرعي ناصر بن منصور.
أبو زرعة: محمد بن يونس.
زكرياء بن أحمدابن محمد بن يحيى بن عبد الواحد ابن الشيخ عمر الملك أبو يحيى صاحب تونس وطرابلس والمهدية وقابس وتوزر وسوسة، البربري المغربي الهنتاني المالكي اللحياني.
كان فقيها، فاضلا نبيها. قد أتقن العربية، واطلع على غوامض المعاني الأدبية، ونظم الشعر، وأتى فيه بالسحر. وكانت له فضائل، وعنده من العلم خمائر كأنها خمائل. إلا أنه كان مبخلا، فلذلك لم يستمر مبجلا.
ملك هذه النواحي، وحكم على مدنها والضواحي، وابتسمت بملكه الثغور البسامة من الأقاحي. ثم إنه رفض ملكه، وقطع من ذلك سلكه. وجاء إلى الإسكندرية وأقام بها واتخذها وطنا، ولم يضق بذلك عطنا.
ولم يزل على حاله إلى أن أغمض طرفه، ومال عليه من الموت جرفه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده بتونس سنة نيف وأربعين وست مئة.

كان اللحياني قد وزر لابن عمه المستنصر مدة، ثم إنه ملك سنة ثمانين وست مئة، ثم خلع، ثم إنه حج سنة تسع وسبع مئة، واجتمع بالشيخ تقي الدين بن تيمية.
ورد إلى تونس وقد مات صاحبها، فملكوه سنة ثماني عشرة وسبع مئة، فوثب على تونس قرابته أبو بكر، فسار اللحياني إلى ثغر إسكندرية إحدى وعشرين وسبع مئة، وقد رفض الملك، وأقام بها إلى أن مات.
وكان جدهم من أكبر أصحاب ابن تومرت، وكان اللحياني قد أسقط من الخطبة ذكر المهدي المعصوم، وكان جد أبيه قد ملك الغرب بضعاً وعشرين سنة، ثم ابنه المستنص الملقب بأمير المؤمنين، وذلك في الدولة الظاهرية، ودامت دولته إلى سنة ست وسبعين وست مئة. وكان شهماً ذا جبروت، وتسلطن بعده ابنه الواثق بالله يحيى، ثم خلع بعد سنتين وأشهر، وتملك المجاهد إبراهيم، فبقي أربعة أعوام، ثم توثب عليه الدعي أحمد بن مرزوق البجائي الذي زعم أنه ولد الواثق، وتم ذلك له، لأن المجاهد قتل الفضل بن الواثق سرا، فقال: هذا: أنا هو الفضل، وملك عامين. وقام عليه أبو حفص أخو المجاهد، فهرب الدعي، ثم أسر وهلك تحت السياط بعد اعترافه أنه دعي. فتملك أبو حفص ثلاثة عشر عاما، وأحسن السيرة، ثم مات سنة أربع وتسعين وست مئة، وقام أبو عصيدة محمد بن الواثق، فملك خمسة عشر سنة. وكان صالحا مشكورا، وكان اللحياني قد لقب القائم بأمر الله.
ومن شعره ...
زكري بن يحيىابن هارون بن يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن عبد الله، بدر الدين الدشناوي، بالدال المهملة والشين المعجمة والنون ومن بعدها ألف وواو: التونسي.
كان فقيها أديبا، نبيها أريبا، له نظر كأن قوافيه كؤوس، أو أزاهر روضة زاكية الغروس. حدث بشيء منه، ورواه الأكابر عنه.
ولم يزل بالقاهرة إلى أن كمل مدته، وسكن الموت شرته وحدته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ... وسبع مئة.
وروى عنه من شعر زين الدين عمر بن الحسن بن حبيب وغيره.
أنشدني من لفظه الحافظ فتح الدين أبو الفتح اليعمري قال: أنشدني من لفظه ملغزاً في طيبرس:
وما اسمٌ له بعضٌ هو اسم قبيلةٍ ... وتصحيف باقيه تلاقي به العدى
وإن قلته عكساً فتصحيف بعضه ... غياثٌ لظمآنٍ تألّم بالصّدى
وباقيه بالتّصحيف طيرٌ وعكسه ... لكلّ الورى علمٌ معينٌ على الرّدى
ومن شعره في راقص:
يا من غدا الحسن إذ غنّى وماس لنا ... مقسّما بين أبصارٍ وأسماع
قاسوك بالغصن رقصا والهزار غنا ... وما يقاس بمّياسٍ وسجّاع
قد تسجع الورق لكن غير داخلةٍ ... ويرقص الغصن بل في غير إيقاع
ومنه:
لا تسلني عن السّلوّ وسل ما ... صنعت بي لطفاً محاسن سلمى
أوقعت بين مقلتي ورقادي ... وسقامي والجسم حرباً وسلما
ومنه في مليح خطائي:
فقال لي العذول أراك تبكي ... فقلت له بكيت على خطائي
وقلت: أراد التورية بالخطأ مهموزاً مقصوراً ضد الصواب، عن الخطائي وهو المليح التركي الخطائي، وهو ممدود مهموز، فما قعدت معه التورية، وكذلك استعمله جمال الدين بن نباتة فقال: ....
وهو من المادة الأولى في الخطأ وسوء الاستعمال. هذا الكلام على الفصيح الذي هو المشهور عند أهل العلم. وأما اللغة المرذولة المرجوحة الضعيفة التي هي غير فصحى فذاك بمعزل عن الانتقاد.
ومما قلت أنا في مليح خطائي:
أحببت من ترك الخطا ذا قامة ... فضحت غصون البان لمّا أن خطا
إيّاكم وجفونه فأنا الذي ... سهمٌ أصاب حشاه من عين الخطا
وقلت أيضاً:
يا قلب لا تقدم على ... سحر الجفون إذا سطا
ومن العجائب أنّه ... أضحى يصحّ مع الخطا
ومن نظم بدر الدين الدشناوي - موشح:
أيا من عليّ تجنّى ... وقد حاز لطف المعنّى
اجعل من صدودك أمنا
وارحمني وهب لي وصلا ... به أتملاّ
وكن للمكارم أهلاً ... هذا أحلى
زكري بن محمود بن زكري

الشيخ الفقيه الإمام زكي الدين البصروي الحنفي، مدرس الشبلية، وكان قد درس أولاً بالمدرسة الفرخشاهيه، ثم إنه درس أياماً يسيرة في آخر عمره بالشبلية عوضاً عن فصيح الدين المارديني، وأخذت منه الفرخشاهية، وكان ذلك في بعض جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
وتوفي زكي الدين المذكور في سادس عشر رجب من السنة المذكورة، وكانت مدة الولاية أربعين يوماً.
زكري بن يوسفابن سليمان بن حامد البجلي: الشيخ الإمام البارع زكي الدين الشافعي.
كان شيخ تعليم وحبر تفهيم. قرأ عليه جماعة من الطلاب، وانتفع به زمرة من ذوي القرائح والألباب، وكان له قدرة على الإفاده، ورد الدرس والإعاده، يجلس في الحائط القبلي، ويظن من يراه لحسن سمته أنه الجنيد أو الشبلي.
ولم يزل على حاله إلى أن عز لحاقه، وأوحش الطلبة فراقه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمسين وست مئة.
وأول ما خطب نيابةً عن الشيخ جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني بجامع دمشق في يوم الجمعة ثاني عشر شهر رجب سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان ملازماً للإشغال والإفادة والصلاة في الجامع الأموي، وكانت حلقته في الحائط القبلي من الجامع الأموي.
ودرس بالطيبة والأسدية، وأعاد بالعذراوية والعصرونية.
وسمع من جمال الدين الصيرفي، ومن علي بن البالسي، ومن الشيخ شمس الدين، ومن ابن البخاري، ومن محمد بن القواس، وعمر بن عصرون، والرشيد العامري وغيرهم، وحدث.
الألقاب والنسببنو الزكي: عبد العزيز عماد الدين بن يحيى. والقاضي تقي الدين عبد الكريم بن يحيى بن محمد.
زمرد بنت أيرقبفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وراء بعدها قاف: الخطوية زوج شيخنا أثير الدين، والدة نضار الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى في حرف النون.
سمعت من جماعة وحدثت.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها بمكة جزءاً خرجه لها زوجها أثير الدين، وكان لها في صحبته نحو من أربعين سنة.
روت عن الأبرقوهي والدمياطي وابن الصواف وابن السقطي والعجوي وعبد القادر بن الصعبي وزينب الإسعردية.
توفيت رحمها الله تعالى سادس عشر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفنت عند ابنتها في البرقية داخل القاهرة، ورثاها الشيخ بأبيات، وجاوزت الخمسين.
الألقاب والأنسابالزملكاني: فتح الدين أحمد بن عبد الواحد. والشيخ كمال الدين قاضي القضاة محمد بن علي. وعماد الدين محمد بن أحمد.
الزنكلوني: الشيخ مجد الدين إسماعيل بن أبي بكر.
ابن الزيبق: الأمير نجم الدين داود بن أبي بكر. وولده الأمير ناصر الدين محمد بن داود.
الزيرباج: الأمير حسام الدين لاجين.
زهراء: بنت عبد الله بن محمد بن عطا: هي ابنة قاضي القضاة شمس الدين الحنفي، وهي أم علاء الدين علي بن ناصر الدين داود بن بدر الدين يوسف بن أحمد بن مقلد الأذرعي الحنفي.
ابن زهرة: السيد نور الدين حسن بن محمد بن علي. وشمس الدين الحسين بن علي.
ابن زنبور: الوزير علم الدين عبد الله بن أحمد.
الزواوي: شرف الدين عيسى بن مسعود.
زيد بن عبد الرحمن بن عبد العزيزالشيخ الفقيه زين الدين أبو كبير المغربي الشافعي.
كان عنده مشاركة في فقه وأدب، وتواريخ ووقائع وأيام العرب، حسن المحاضره حلو المذاكره، إلا أنه كان لتأخره عن المناصب يمنى من حسده بالعذاب الواصب، فينطوي على إحن وترات، وينبض القسي الواترات.
ووقف مرات بين يدي النواب، وكاد يمتهن بأيدي الحجاب، وجرت له في ذلك وقائع، واتفقت له بدائه فيها بدائع، وما أنجح له فيها عناء، ولا رشح له إناء:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
وكان لا يزال مصفرا، معلولاً معفرا.
ولم يزل على حاله إلى أن ضرب زيد، وأصبح يرسف من العدم في قيد.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة اثنتين وستين وسبع مئة. ولعله قد قارب الستين أو تعداها بقليل.
وكان قد باشر في صفد قضاء بعض النواحي، وعاد إلى دمشق وبقي فقيهاً بالمدارس، وكان مقيماً بالمدرسة الأكزية على باب الخواصين، وتوجه إلى مصر مرات، وأحضر تواقيع بولايات، ولم تمض، وكان لا يزال خاملاً. وتوفي رحمه الله تعالى بعلة الاستسقاء.

كتب هو إلي ملغزا: يا مولانا أثقل الله بفواضلك الكواهل، وأخمل بفضائلك الأوائل من الأفاضل، إن أمكن أن تلمح هذا اللغز اللطيف، وتعطيه حظا من سيال فكرك الشريف، تقلد المملوك به مأنة الفضل العميم، وتحلي بورود لفظه كما يتحلى بوجود شخصه بين يدي سيد كريم، وهو: ما اسم يعتني الصائمون غالباً بتحصيله، ويتنافس الأكابر منهم في جملته وتفصيله، خماسي الحروف في الترصيف والترتيب، مسطح الشكالة في البساطة، كري عند التركيب، إن حذفت خمساً رأيته طائراً وسيما قص الأثر فاهتدي به، وغالب في طرق اللؤم تميما، وإن اختلس في أوله كان في الثغور الحصينة لآلئاً في الليل البهيم، وفي سورة القلم ناراً أحرقت الجنة التي أصبحت كالصريم.
عزمت على إهدائه غير مرّة ... إلى بابك العالي فأمسكت عن قصدي
فقد قيل عادات الأكابر أنّهم ... بإهدائه أولى فما جزت عن حدّي
فأوضحه لي معنىً وإن شئت صورةً ... وإن شئت فارسم لي فإني به أبدي
فكتبت إليه الجواب عن ذلك، وهو في قطائف وجهزت إليه منه صحناً:
أمولاي بدر الدين مثلك من يهدي ... نداه وإن كان الضلال غدا يهدي
بعثت بلغزٍ قد حلا منك لفظه ... فأخمل ذكر القطر فضلاً عن الشّهد
فسامح فقد أوضحته لك صورةً ... على أنّه لا بدّ من شرح ما عندي
يا مولانا هذا لغزك بديع المعنى، بعيد المبنى، يترشفه السمع سلافه، ويتلقفه البصر ورداً جنيا متى أراد اقتطافه، قد أغربت في قصده وأحكمت عقد بنده، دلني على معناه حسن مبناه، وقرب البيان من مغناه، فلك الفضل في حله وسح وابله وطله. ومن غرائب خواصه أنه أخذ من اللبن والحلاوة حظا، ومتى صحفت ثلاثة أخماسه عاد فظا، قد راقت العيون ملاحته، وحشيت بالقلوب حلاوته، يختص بشهر رمضان، لأن في قلبه حلاوة كحلاوة الإيمان، بعضه يقلى وكله محبوب، وآخره تحت القطر وأوله فوق الجمر المشبوب، يروقك إذا نثرت عقده، وفصلت زوجه وفرده، وأشبه شيء بالكواعب إذا اشتملت بالمناشف المخمل، وأحسن ما ترى ثرياه إذا اجتمع شملها وتكمل، وأليق ما ينشد إذا جف ثراها وانفصمت عراها:
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ... ولا زال منهلاًّ بجرعائك القطر
زين العرب بنت تاج الدينعبد الرحمن بن عمر بن الحسن بن عبد الله السلمي الدمشقي المعروفة ببنت الجوبراني.
حجت وجاورت بمكة، وكانت شيخة رباط الحرمين، وأقامت برباط درب النقاشة، وتزوجت بالكمال بن العماد الأشتر، وفارقها سنة ثمان وخمسين وست مئة، ولم تتزوج بعده. وهي بنت أخي النجيب محاسن العدل.
وسمعت من الشيخ تاج الدين القرطبي الأربعين السباعيات لعبد المنعم الفراوي، وحدثت بها غير مرة، وسمعت من العز عبد العزيز بن عثمان الإربلي.
وأجازها في سنة ست وثلاثين وست مئة السخاوي، وأبو طالب بن صابر، وإبراهيم الخشوعي، وكريمة، وجماعة من أصحاب ابن عساكر.
وأقعدت في آخر عمرها. وكانت تحفظ أشياء حسنة.
وتوفيت رحمها الله تعالى في أوائل سنة أربع وسبع مئة.
ومولدها تقريباً سنة ثمان وعشرين وست مئة.
الألقاب والألقابزين الدار وجيهية: بنت المؤدب علي بن يحيى، يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف الواو.
زينب بنت عمرابن كندي بن سعيد بن علي، أم محمد، ابنة الحاج زكي الدين الدمشقي، زوجها ناصر الدين بن قرقيسن معتمد قلعة بعلبك.
كانت امرأة صالحة خيرة دينة لها بر وصدقة، بنت رباطاً، ووقفت أوقافاً، وعاشت في خير ونعمة، وحجت وروت الكثير، وتفردت في الوقت.
أجاز لها المؤيد الطوسي وأبو روح الهروي وزينب الشعرية وابن الصفار وأبو البقاء العكبري وعبد العظيم بن عبد اللطيف الشرابي وأحمد بن ظفر بن هبيرة.
حدثت بدمشق وبعلبك.
وسمع منها أبو الحسين اليونيني وأولاده وأقاربه، وابن أبي الفتح، وابناه، والمزي، وابنه الكبير، وابن النابلسي والبرزالي وأبو بكر الرحبي وابن المهندس. وقرأ عليها شيخنا الذهبي من أول الصحيح إلى أول النكاح، وسمع منها عدة أجزاء.
وتوفيت رحمها الله تعالى بقلعة بعلبك سنة تسع وتسعين وست مئة.
زينب بنت أحمد

ابن عمر بن أبي بكر بن شكر الشيخة الصالحة المعمرة الرحلة أم محمد المقدسية الصالحية.
سمعت من ابن اللتي، وجعفر الهمداني. وتفردت في وقتها.
وحدثت بدمشق ومصر والمدينة والقدس.
كانت تقيم مع ولدها، وكان مهندساً. وهي والدة الشيخ محمد بن أحمد القصاص.
توفيت رحمها الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
زينب بنت سليمانابن إبراهيم بن رحمة الإسعردي المسندة المعمرة الدمشقية، نزيلة القاهرة.
سمعت الصحيح من الزبيدي، ومن شمس الدين أحمد بن عبد الواحد البخاري، وابن الصباح، وعلي بن حجاج، وكريمة. وأجاز لها خلق.
وسمع منها شيخنا الذهبي.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة خمس وسبع مئة، وهي في عشر التسعين.
زينب بنت أحمد كمال الدينابن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسية.
شيخة مشيخة مسندة.
سمعت من محمد بن عبد الهادي، وإبراهيم بن خليل، وابن عبد الدايم، وخطيب مردا، وعبد الحميد بن عبد الهادي، وعبد الرحمن بن أبي الفهم اليلداني، وأجاز لها إبراهيم بن الخير وخلق من بغداد.
أجازت لي سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة أربعين وسبع مئة، في تاسع عشر جمادى الأولى عن أربع وتسعين سنة.
زينب بنت يحيىابن الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الشيخة الصالحة الأصيلة المسندة أم محمد.
حضرت في الخامسة على عثمان بن علي المعروف بابن خطيب القرافة، وعلى عمر بن أبي نصر بن عوة، وعلى إبراهيم بن خليل.
أجازت لي سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
وكتب عنها عبد الله بن المحب.
وتوفيت رحمها الله تعالى في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
زينب بنت إسماعيل بن إبراهيمالشيخة مسندة الشام، أمة العزيز، بنت المحدث نجم الدين.
حدثت عن ابن عبد الدائم، وخلق.
وتوفيت رحمها الله تعالى عن أكثر من تسعين سنة في المحرم سنة خمسين وسبع مئة، أو في أواخر ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
زينب بنت عبد الرحمنابن محمد بن أحمد بن قدامة، الشيخة الصالحة أم عبد الله بنت الشيخ شمس الدين أبي الفرج بن أبي عمر.
سمعت من ابن عبد الدايم، ووالدها.
وأجازت لي. وكتب عنها عبد الله بن المحب.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
حرف السين

سارة بنت عبد الرحمن
ابن أحمد بن عبد الملك بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن مفلح بن هبة الله بن نمير المقدسية، أم محمد الشيخ المسند شمس الدين أبي الفرج.
سمعت من إبراهيم بن خليل، وروت عنه.
قرأ عليها شيخنا علم الدين البرزالي بطريق الحجاز باللجون من عمل الكرك، وفي الحجر.
وتوفيت رحمها الله تعالى رابع عشري شوال سنة ست عشرة وسبع مئة.
سالمالأمير سيف الدين السلاح دار.
كان أميراً كبيراً مقدماً في الديار المصرية، صاهر الأمير سيف الدين سلار أيام نيابته، وأخرجه السلطان الملك الناصر محمد إلى دمشق.
وكان إقطاعه بمصر إقطاعاً كبيراً إلى الغاية، وكانت له بدمشق حرمة وافرة، وفيه ديانة وخير.
وتوفي رحمه الله تعالى في الحادي والعشرين من شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ودفن بسفح جبل قاسيون.
سالم بن محمد بن سالمابن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد الرئيس، أمين الدين أبو الغنائم ابن الحافظ أبي المواهب بن صصرى التغلبي الدمشقي الشافعي.
حدث عن مكي بن علان. وسمع من خطيب مردا، والرشيد العطار، والرضي بن البرهان، وإبراهيم بن خليل، وجماعة.
وكان على وجهه شامة كبيرة حمراء.
كان عدلا لا يقبل في المروءة عذلا، ظاهر المروءه، طاهر السريرة المخبوءه.
باشر الوظائف الكبار بأمانة خشنه، ولم ير الناس منه إلا حسنه، صحب الناس وتأدب، وانفصل عنهم فما ندر أحد عليه ولا ندب.
ولم يزل على حاله إلى أن أدرك العطب سالم، وسلك من اندرج من العوالم.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة.
كان قد ولي نظر الخزانة، وولي نظر الدواوين بدمشق، وغير ذلك، ثم إنه حج وجاور، ثم عاد إلى دمشق، وتنظف من ذلك جميعه، وأقبل على شأنه، ولازم منزله حتى لقي الله تعالى.
سالم بن أبي الدر

الشيخ الإمام مدرس الشامية الجوانية، أمين الدين الشافعي.
قرأ على الكراسي مدة، ونسخ من مسموعاته عدة، ورتب صحيح ابن حبان، وروى عن ابن عبد الدائم للشبان.
وكان ذا دهاء، ومكر بأمور الادعاء.
ولم يزل على حاله إلى أن دعاه مولاه، وراح إلى الله وتولاه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
وكان إمام مسجد الفسقار، وعنده خبرة بالدعاوي ونقضها.
وسمع منه شيخنا الذهبي مشيخة ابن عبد الدائم، وعاش اثنتين وثمانين سنة.
وهو سالم بن عبد الرحمن بن عبد الله، الشيخ أمين الدين، أبو الغنائم بن أبي الدر الدمشقي الشافعي.
كان فقيهاً فاضلاً، اشتغل وحفظ وحصل، ولازم الشيوخ وأثنى عليه مشايخ عصره، مثل الشيخ محيي الدين النواوي، وشرف الدين بن المقدسي، وغيرهما.
وكان قد اشتغل أولاً على قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ، وبعد ذلك على الشيخ محيي الدين النواوي. وكان إمام مسجد ابن هشام، ومعيداً بالمدارس، ثم إنه ولي تدريس المدرسة الجوانية، وكان مشهوراً بمعرفة الحكومات، والكتب الحكمية، وكان ذا مروءة وعصبية. وكان له ثبت بمسموعاته.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
سالم بن ناصر الدينالفقيه شرف الدين.
كان قاضي قارا وخطيبها ورئيسها، ونجي مكارمها ونجيبها، شاعراً مفوهاً، أديباً لم يكن وجه فضله مشوهاً، أقام بقارا مدة من الزمان، ومد فيها للأضياف كبار الجفان.
ولم يزل على حاله إلى أن درج من عش حياته، وغاض الوفاء عند الوفادة بوفاته.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومن شعره ....
سالم بن أبي الهيجاءابن حميد بن صالح بن حماد، الإمام الفقيه القاضي مجد الدين أبو الغنائم الأذرعي الشافعي.
كان فقيهاً فاضلا، سؤوساً عاقلا، كثير التلاوه، وعنده بعد ذلك من الأدب علاوه، يحفظ كثيراً من الأشعار، ويتلقفها ويأخذها ليلقنها بأغلى الأسعار. حسن الهيئه، كريم الرجعة والفيئه، خبيراً بالأحكام، قوي النفس على من تعلى من الأنام، وكانت له حرمه، ولم تحفظ عنه جرمه.
توجه إلى مصر بعد ما انفصل من قضاء نابلس، فأدركه أجله هناك، وقال له عمله المبارك: بلغت مناك.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة ثامن عشر شهر رجب الفرد سنة خمس وسبع مئة. وعاش ثلاثاً وسبعين سنة.
ومولده بقرية جمحا، قرية بالقرب من أذرعات.
وهو والد شمس الدين محمد محتسب نابلس، وشهاب الدين أحمد وكيل الحاج أرقطاي.
وروى عن الحافظ ضياء الدين المقدسي.
سالم الأمين الموصلي المنجمكان شيخاً في النجامة قد تميز، ومال إلى معرفة هذا العلم وتحيز، يحل الأزياج ويكتب التقاويم، ويعرف عروض البلدان ومواقعها من الأقاليم، وله دربة في تلك الأوضاع، وتلك الأمور التي لا يعرفها إلا من امتد منه الباع.
لم يزل على حاله إلى أن لم يبق عمره دقيقه، واستوفى جليل أجله ودقيقه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
اللقب والنسبالسامري: سيف الدين أحمد بن محمد.
سبط زيادة: الحسن بن عبد الكريم.
ابن السابق: علي بن عثمان عبد الواحد.
ابن سامة: محمد بن عبد الرحمن.
السبكي: جماعة منهم: قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي. وولده القاضي جمال الدين الحسين. وتقي الدين محمد بن عبد اللطيف. والقاضي زين الدين عبد الكافي بن علي. وصدر الدين بن علي.
ابن السباك: الشيخ تاج الدين الحنفي، علي بن سنجر.
ست الوزراءالشيخة الصالحة المعمرة مسندة الوقت أم عبد الله ابنة القاضي شمس الدين عمر بن العلامة شيخ الحنابلة، وجيه الدين أسعد بن المنجا بن أبي البركات التنوخية الدمشقية الحنبلية.
سمعت الصحيح ومسند الشافعي من أبي عبد الله بن الزبيدي، وسمعت من والدها جزأين.
كانت مسندة العصر، وخريدة الرواية في القصر، رزقت الحظوة الباهره، وطالت بذاك النجوم الزاهره، فحدثت بالصحيح مرات، وفازت من ذاك بالصلات والمبرات، وكانت ثابتة على طول التسميع، مديدة الروح على الشروط وما يطرأ عليها من التفريع؛ إلا أنها انثالت عليها الجوائز، ولم تكن كمن عداها من العجائز.
وطلبت إلى مصر، وسمع منها الأمير سيف الدين أرغون النائب، والقاضي كريم الدين الكبير.

ولم تزل على حالها إلى أن لم تجد ست الوزراء من الموت وزرا، وصال الدهر على أهلها بفقدها وزرى.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولدها سنة أربع وعشرين وست مئة.
وحجت مرتين، وتزوجت بأربعة رجال رابعهم نجم الدين عبد الرحمن بن الشيرازي. وكان لها ثلاث بنات.
قرأ عليها شيخنا الذهبي مسند الشافعي، وهي آخر من حدث بالكتاب. وسمع منها الوافي، وابن المحب، والقاضي فخر الدين المصري، والشيخ صلاح الدين العلائي، والشيخ جمال الدين بن قاضي الزبداني، وخلق كثير.
؟

ست الفقهاء
ابنة إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل، الشيخة الصالحة المعمرة المسندة بنت الإمام تقي الدين بن الواسطي الصالحية الحنبلية.
سمعت حضوراً جزء ابن عرفة في سنة خمس من عبد الحق بن خلف. وسمعت من إبراهيم بن خليل وغيره. وسماعها قليل، لكن لها إجازات عالية من جعفر الهمداني، وأحمد بن المعز الحراني، وعبد الرحمن بن بنيمان، وعبد اللطيف بن القبيطي، وروت الكثير، وسمعوا منها سنن ابن ماجة وأشياء.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة ست وعشرين وسبع مئة. ولها اثنتان وتسعون سنة.
ست العربابنة سيف الدين علي بن الشيخ رضي الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار المقدسي. الشيخة الصالحة أم محمد.
حضرت على ابن عبد الدائم جزء ابن عرفة، وحدثت وسمع منها شيخنا علم الدين البرزالي، وأجازت لي.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وإجازتي منها كانت في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ست القضاةأم محمد بنت القاضي محيي الدين بن القاضي تاج الدين أحمد الشيرازي.
قاربت التسعين سنة.
روت عن كريمة بنت عبد الوهاب مشيختها ثمانية أجزاء، والزهاد والعباد لابن الأزهر البلخي، ولم يوجد لها سوى ذلك.
وتزوجت بالشيخ مجد الدين الروذراوري، ثم بالبدر بن الخرقي، ثم بغيره.
وتوفيت رحمها الله تعالى في ثامن عشري القعدة سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ست الأمناءبنت الشيخ صدر الدين أسعد بن عثمان بن أسعد بن المنجا، وهي أخت والدة الخطيب معين الدين بن المغيزل وإخوته. وكانت تدعى أم عز الدين، وهو ولدها الأول.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روت الحديث، وسمعنا عليها من جدها، وكانت أكبر من عمها وجيه الدين بسنتين.
توفيت رحمها الله تعالى بالسعيدية قبل دخول القاهرة في أواخر شهر ربيع الأول سنة سبع مئة في الجفل.
ست الوزراءأم محمد ابنة الشيخ العدل الرئيس تاج الدين أبي الفضل يحيى بن مجد الدين أبي المعالي محمد بن شمس الدين أبي العباس أحمد بن الشيخ المسند أبي يعلى حمزة بن علي بن هبة الله بن الحبوبي التغلبي الشيخة.
حجت وأعتقت ولازمت الخير، وغلبت السوداء عليها آخر عمرها، فتغير ذهنها نحو سنة.
لها إجازة من الشيخ علم الدين السخاوي والحافظ ضياء الدين المقدسي وعز الدين بن عساكر النسابة، والضياء عتيق السلماني وتاج الدين القرطبي، وسالم ابن عبد الرزاق خطيب عقربا، وأخيه الجمال يحيى والعز أحمد بن إدريس المزة، والصفي عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة وغيرهم. وحدثت قديماً.
توفيت رحمها الله تعالى يوم الخميس رابع شوال سنة خمس عشرة وسبع مئة ومولدها سنة تسع وثلاثين وست مئة.
ست العلماءالمعروفة بالبلبل. شيخة رباط درب المهراني بدمشق.
كانت قوامة بالليل لأدوارها، ملازمة للصلاة على سجادها، مشهورة بحسن الوعظ والتذكير، والمبادرة إلى المواعيد والتبكير.
ولم تزل على حالها إلى أن خرس البلبل منها، وقام الناعي بالذكرى عنها.
وتوفيت رحمها الله تعالى ثالث عشري شهر رجب الفرد سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وكانت جنازتها حافلة بالنساء.
ست الأهلبنت علوان بن سعيد بن علوان بن كامل. الشيخة الصالحة المسندة البعلبكية الحنبلية.
روت الكثير عن الشيخ بهاء الدين عبد الرحمن المقدسي، وتفردت عنه بقطعة من المسموعات.
قال شيخنا البرازلي: قرأت عليها بدمشق الزهد للإمام أحمد في أربع مجلدات وأجزاء كثيرة. وقرأت عليها ببعلبك عوالي البهاء عبد الرحمن، ومحاسبة النفس لابن أبي الدنيا.
وكانت من أهل الدين والصلاح والقناعة، لا تبالي بنفسها في مأكل ولا غيره.
وتوفيت رحمها الله تعالى في تاسع عشر المحرم سنة ثلاث وسبع مئة.

وكان أبوها من الصالحين الكبار.
ستيتةالخاتون بنت الأمير سيف الدين كوكائي، زوج الأمير سيف الدين تنكز رحمهم الله تعالى.
كانت خيرة صينة دينة. ترد زوجها عن أشياء كثيرة. وهي والدة الخوندة أم السلطان الملك الصالح صلاح الدين صالح، وأم فاطمة زوج الأمير سيف الدين بلجك ابن أخت الأمير سيف الدين قوصون.
توفيت رحمها الله تعالى في ليلة الاثنين ثالث شهر رجب الفرد سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفنت في التربة التي لها على باب الخواصين بجانب المدرسة الطيبة، وعمل إلى جانب التربة رباط للنساء.
وكانت قد حجت في العام الماضي، وتصدقت بشيء كثير.
اللقب والنسبابن سحاب: أحمد بن سليمان.
السخاوي: نور الدين قاضي القضاة المالكي، علي بن عبد النصير.
السديد الدمياطي، الطبيب اليهوديكان من أطباء السلطان الملك الناصر محمد، لا يدخل الرئيس جمال الدين بن المغربي إلى دور السلطان في الغالب إلا وهو معه.
وكان شيخاً قد أسن، وأشبه الشن، نحيفاً مائل الرقبه، قليل البشر كما يقال، كأن وجهه عقبه، إلا أنه فاضل في صناعته، ماهر في إنفاق ما معه من بضاعته، على ذهنه شيء كثير من إقليدس، ومسائل مما يحتاج إليه المهندس، وعلى ذهنه جزء كبير من الطبيعي وغيره، ويستحضر كثيراً من كلام الأطباء الذين يحتاج إلى أن يكونوا سبب خيره. وكان سعيد العلاج، يكاد يبري الاستسقاء والانفلاج، لم يكن في عصره من له سعادة علاجه، ولا من يدخل إلى المريض بواسطة مزاجه. حضرت علاجه في جراحة القاضي شرف الدين ناظر الخاص، وكان إذا تكلم يسمع له والمجلس بالأفاضل غاص، وسمعت منه فوائد، وجمعت عنه فرائد.
ولم يزل السديد إلى أن حصل به الخطب الشديد، ولم ينفعه علاج قديم ولا جديد.
وهلك في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة فيما أظن.
وكان قد قرأ على الشيخ علاء الدين بن النفيس، وحضر مباحثه مع قاضي القضاة جمال الدين بن واصل.
وذكر لي أشياء من فوائد الشيخ علاء الدين المذكور.
الألقاب والأنسابابن السديد: شمس الدين أحمد بن علي. وجمال الدين محمد بن عبد الوهاب. ومجد الدين هبة الله بن علي.
السروجي: قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم.
السروجي: المحدث محمد بن علي.
سعد الله بن غنائمابن علي بن ثابت، أبو سعيد الحموي النحوي المقرئ الضرير.
كان ذا دين متين، وفضل مبين، ضرير النظر، غزير البحث والنظر. أقرأ الناس وأفاد، وفاز منهم بشكر ماله من نفاد.
ولم يزل على حاله إلى أن طوحت به الطوائح، واجتاحته الجوائح.
وتوفي رحمه الله تعالى ستة عشر وسبع مئة.
الألقاب والألقابابن بنت أبي سعد: فخر الدين عثمان بن علي.
والمسند ابن سعد: يحيى بن محمد.
أبو السعودابن أبي العشائر بن شعبان الباذبيني، ثم المصري. الشيخ الصالح الزاهد، شيخ الفقراء السعودية.
كان صاحب عباره، ورب مجاز وعباره، وفيه انجماع وزهاده، وأذكار وعباده، وله أتباع، ومريدون يرون أن طريقه تشترى وما تباع، وسوقه بمصر قائمه، وقلوب أصحابه فيه هائمه.
ولم يزل على حاله إلى أن فرغ الأجل منه، وانصرف وجه الحياة عنه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
الألقاب والألقابالسعودي: جماعة منهم: سيف الدين عبد اللطيف.
السعودي: الشيخ أيوب.
سعيد بن ريان بن يوسف بن ريانالصدر الكبير الرئيس القاضي عماد الدين الطائي ناظر حلب.
كان من أحسن الناس وجهاً وقدا، وشكالة من ألف بالنظر إليها ما تعدى، بزته فاخره، وسعادته ظاهره، واسع الصدر، نبيه القدر، كريم البنان، صحيح البيان، فصيح المقاله، سريع الإقاله، سماطه ممدود، واحتياطه غير مردود، سعيد المباشره، حميد المعاشره، جيد التنفيذ والتصرف، خبيراً بالتودد والتعرف، قوي النفس لا يعبأ بمن ناواه، ولا يبالي بمن يزعم أنه ساواه.
ولم يزل على حاله في تقلب الدهر به إلى أن جاءه الأمر المقضي، وتصبح من موته بما لا يرضي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رجب سنة ثمان وسبع مئة.
باشر نظر الديوان بحلب مرات، وطلب إلى مصر وصودر، وأخذ منه على ما قيل: أربع مئة ألف درهم.

وكان شرف الدين بن مزهر في تلك الأيام بمصر، وكان يحضر في دار الوزارة بقلعة الجبل، ويشكو عطلته وبطالته وضيق ذات يده، ويقول: والله ما تعشيت البارحة إلا على سماط عماد الدين بن ريان، يا قوم ما هذا إلا رجل كريم النفس، كان البارحة على سماطه من الحلاوة أربعة صحون، وكان .. وكان ..، ويعدد أشياء، يقصد بذلك أذاه في الباطن، وهو في الظاهر يثني عليه ويتغمم له لأنه كان تلك المدة يحمل في المصادرة، وحط عليه الجاشنكير، وقال: ما بقيت أستخدمه في ديوان السلطان أبداً. فقال الأمير سيف الدين سلار: أنا أستخدمه في ديواني، فجعله ناظر ديوانه في دمشق، فحضر إليها، ورأى فيها من السعادة والوجاهة والتقدم أمراً زائداً عن الحد، وصحب الناس فيها، وعاشر أهلها ورؤساءها من أرباب السيوف والأعلام، وظهر بمكارم أخجلت صوب الغمام.
ولما كان في رابع شوال وصل شرف الدين عبد الرحمن بن الصاحب فخر الدين بن الخليلي مباشراً ديوان سلار عوضاً عن عماد الدين بن ريان، وذلك سنة سبع وسبع مئة. ولم يزل إلى أن حج وعاد مع الركب المصري، ورسم له بنظر حلب على عادته، وأخذ توقيعه بذلك، وحضر إلى دمشق فمرض بها، ومات رحمه الله تعالى.
وكان يكتب جيداً إلى الغاية، ويقول الشعر طباعاً. كتب إلى الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وهو بدمشق مشد الدواوين:
يا من إذا استنخي ليوم كريهةٍ ... هزّت شمائله المروءة فانتخى
أنت الذي يخشى ويرجى دائماً ... وإليك يلجأ في الشدائد والرّخا
وإذا الحروب توقّدت نيرانها ... أطفأتها بعزيمة تجلو الطخا
وإذا تميل إلى الكسير جبرته ... وعلى العليّ من الجبال تفسّخا
حزت المكارم والشجاعة والفت ... وّة والمروّة والنباهة والسّخا
وأتت لك الأقدار فهي كما تشا ... بمحلّك العالي غدت تجري رخا
؟

سعيد بن عبد الله
الإمام الفاضل العالم الحافظ نجم الدين أبو الخير الدهلي، بالدال المهملة المكسورة وبعدها هاء ساكنة ولام، الحنبلي الهلالي الحريري صنعةً.
رحل من بغداد، وحضر إلى الشام، وتوجه إلى مصر، وثغر الإسكندرية.
أكثر عن بنت الكمال، وابن الرضي، وتعب وحصل الأجزاء.
وكان له عمل جيد وهمه، ورحلة للأقاليم وعزمه، لم يكن آخر وقت مثله في هذا الشان، ولا من يدانيه في علو المكان؛ لأنه يعرف التراجم والوفيات، وما فيها من اختلاف الروايات، وهذا أمر قل من رأيته يعتني به، أو يرعى اختلاف ترتيبه، وكان بعد شيخنا الذهبي قائماً بهذا الشأن في الشام، وبعده لم يبق في هذا الفن بشاشة تشتام.
وله تواليف كتبت عليها أنا وغيري من فضلاء العصر تقريضا، ومدحناه فيها تصريحاً لا تعريضا.
ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن تعثر سعيد في طريق أجله، وراح إلى الله تعالى في عجله، لأنه بصق دماً يومين، ومات في الثالث رحمه الله تعالى وذلك في خامس عشري القعدة سنة تسع وأربعين في طاعون دمشق.
ومولده سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
وكان قد سمع علي بعض تواليفي.
قال شيخنا الذهبي: سمع المزي من السروجي عنه. ومن تصانيفه كتاب تفتت الأكباد في واقعة بغداد، وكتبت له عليه تقريضاً. والرحلة الثانية إلى مصر، وكتبت له عليها ما نسخته: وقفت على هذا السلك الذي جمع در القريض، والروض الذي تنظر النجوم الزهر إلى زهره استحياءً بطرف غضيض، والسحر الذي ما نفث مثله في أحشاء العشاق كل طرف فاتر ولا جفن مريض، والأدب الذي لو حاوله شاعر لوقع منه في الطويل العريض، لأنه اختيار الشيخ الإمام الرحال الجوال نجم الدين سعيد الدهلي الحريري الحنبلي أدام الله به الانتفاع، وشنف بأقواله الأسماع:
إمام إذا ناداه في الفضل حاسد ... تعثّر علما إنّ ذاك سعيد
كذلك لو جاراه في أمد العلا ... لقلنا اقتصر فالنجم منك بعيد
ولم يسمه بالفوائد سدى، ولا وسمه بهذه السمة إلا وهي واضحة الهدى، علماً منه بأن الفاضل لن يجهله، وأن الفوائد جمع لا نظير له، فالله تعالى يمتع الفضلاء بفوائده المدونة، ومحاسنه التي هي كفواكه الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
كتب في شهر ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
سعيد بن أحمد بن عيسى

الشيخ الإمام الفاضل العدل نجم الدين، القاضي أبي العباس الغماري المالكي.
كان معيداً بالمدرسة الناصرية والمنكوتمرية. كان فيه مخالطه، وإبهام للناس بالناس ومغالطه، مع كيس ولطف ذوق، وتقلبات لا يجيء فيها إلا من فوق، وعنده فقه، وله نظم ما به من باس، ومحاضرة مخرق بها فستر ذلك الإلباس، وحصل من الدنيا جملة وافرة، ولم يكن له من يرثها بعده، ولم يتزود منها غير الكفن لما نزل لحده.
ولم يزل على حاله إلى أن طمس نجمه، ورمس فوقه رجمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب النصر بالقاهرة.
كانت فيه مداخلة للناس ومزاحمة، وكان يصحب أولاد ابن الأثير، وأوهم بذلك حتى قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، فكان لا يجهز إلى مصر شيئاً حتى يجهز إلى النجم سعيد نصيبه.
وخلف جملة صالحة، ولم يكن له وارث.
سعيد بن محمد بن سعيدالقاضي الرئيس الأصيل الكاتب، شمس الدين بن الأثير الموقع.
كان رجلاً عاقلاً ملازماً لوظيفته، لا يدخل نفسه فيما لا يعنيه. وله اشتغال، وولي كتابة الإنشاء بدمشق.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر القعدة سنة إحدى وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون بتربة اشتريت له.
سعيد بن محمد بن سعيد بن محمد بن سعيدالقاضي شمس الدين بن الصدر شرف الدين بن الأثير، سبط القاضي محيي الدين بن فضل الله.
توفي رحمه الله تعالى شاباً ابن ثماني عشرة سنة، وفجعت والدته فيه.
وكان من جملة كتاب الإنشاء. وكتب صداقه، ولم يدخل بزوجته.
ومات في جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة.
سفرىبنت يعقوببن إسماعيل بن عمر، عرف بقاضي اليمن، الشيخة الصالحية المعمرة أم محمد.
سمعت من جدها إسماعيل، وأخيه إسحاق جزء أبي القاسم الكوفي. أجازت لي في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق، وأذنت في ذلك لعبد الله بن المحب.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
الألقاب والألقاب

السفاقسي
الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد. وأخوه شمس الدين محمد بن محمد.
ابن السفاحكاتب سر حلب زين الدين عمر بن يوسف. وعمه قاضي قضاة حلب نجم الدين عبد القاهر.
ابن السقطيجمال الدين محمد بن عبد العظيم.
ابن السكاكريبدر الدين علي بن محمد.
ابن سكرةناظر دمشق بهاء الدين أبو بكر.
ابن السكريعلي بن عبد العزيز.
ابن السكريعلي بن قيران.
السكندريقاضي طرابلس شمس الدين أحمد بن أبي بكر بن منصور.
السكاكينيمحمد بن أبي بكر.
ابن السلعوسشهاب الدين أحمد بن عثمان. وتقي الدين عمر بن محمد بن عثمان.
ابن سلامةبهاء الدين موسى بن عبد الرحمن.
سليمان بن إبراهيم بن سليمانالقاضي علم الدين أبو الربيع، المعروف بابن كاتب قرا سنقر، في الديار المصرية.
وكان في الشام يعرف بالمستوفي، وورد من الديار المصرية أولاً مستوفي النظر بدمشق، ثم عزل في أيام الصاحب أمين الدين، وصودر، وذلك في سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، فيما أظن، ثم إنه باشر نظر البيوت والخاص.
ثم إنه في أيام قطلوبغا باشر صحابة الديوان، وكان في مصر أولاً في زكاة الكارم، ثم إنه باشر عند الأمير سيف الدين منكلي بغا الناصري السلاح دار. وكان أولاً مع والده عند قرا سنقر، وهو خصيص به، وتوجه معه إلى البرية، وعاد منها.
وكان من ذوي المروءات، وأولي الرغبة في الفتوات، يخدم الناس بجاهه وماله، ويولي الإحسان قبل سؤاله.
وكان النظم عنده أهون من التنفس، وأسرع من القطر عند التبجس، فكنت أتعجب من أمره، ويحصل لي نشوة من كؤوس خمره، مع أنه نظم عذب أمضى من عضب، قد خلا من التعقيد والتعاظل المكروه، وانسجم فلا يظهر عليه كلف تكلف، ولا يعروه.
وكان فصيحاً في اللغة التركيه، وما يورده من عباراتها المحكيه، وكان للكتب جماعه، ونفسه في الاستكثار منها طماعه، حصل منها شيئاً كثيرا، واقتنى منها أمراً كبيرا.
وكان خطه أبهى من الرياض، وأبهج من ترقرق المياه في الحياض. وكتب بخطه كثيراً من المجلدات، وجمع مجاميع هي بين الأدباء مخلدات.
وكان في صناعة الحساب بارعا، وفي عقد الجمل للبرق مسارعا.

وصحب الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وجمع شعره ودونه ورواه عنه. وروى من شعر ابن سيد الناس وأكثر منه.
ولم يزل على حاله إلى أن زال من الحياة ملك سليمان، وراح ولم ينفعه مما جمع غير التوحيد والإيمان.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد سابع عشري جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده ثامن عشر المحرم سنة سبع وسبعين وست مئة.
كتب هو إلي وأنا بالقاهرة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة:
يا غائباً غاب عن عيني فلم تنم ... وذاهباً فضله قد شاع في الأُمم
سافرت عنا فطال الليل في سهدٍ ... فنحن بعدك في ظلم وفي ظلم
آنست مصر وأوحشت الشآم فيا ... خلوّه من حلى الآداب والكرم
ليهن مصر صلاح الدين كونك في ... أرجائها كاتباً في أشرف الخدم
جمّلت ديوان إنشاءٍ حللت به ... يا خير حبر يوشّي الطّرس بالقلم
فما محيّاك إلا بدر داجيةٍ ... وما يمينك إلاّ ركن مستلم
سقياً لأيام أنسٍ كان رونقها ... بفضل أنسك فينا وافر القسم
نجني فضائلك الغرّ الحسان ولا ... نعبا بروضٍ سقاه وابل الدّيم
أقسمت لا فرق ما بين الجواهر في ... عقدٍ وبين الذي تبدي من الكلم
فالله يبقيك ما ناحت مطوّقةٌ ... فيما نرجّيه من سعد ومن نعم
فكتبت أنا الجواب إليه:
بالغت في الجود والإحسان والكرم ... وزدت في شرف الأخلاق والشيم
وما رضيت بغايات الأولى سبقوا ... إلى المعالي ولا ترضى بعزمهم
حتى تحوز على الجوزاء مرتقياً ... إلى معاني لم تخطر بفكرهم
وتدرك المجد سبّاقا وشغلهم ... في عثرة القول أو في عثرة الكلم
كم اجتهدت لعليّ أن أفوز فلم ... أفز سوى مرةٍ في الدهر بالخدم
وأبعدتني الليالي بعد ذاك وفي ... قلبي حلاوة ذاك اللطف والشيم
فكنت كالمتمنّي أن يرى فلقا ... من الصباح فلما أن رآه عمي
فليت دهري يسخو لي بثانيةٍ ... حتى أعود إليها عود مغتنم
وأجتلي أوجه اللذات سافرةً ... عن كل مغنىً حوى صنفاً من النّعم
فما خلائقك الحسنى التي بهرت ... عقلي سوى زهرٍ في الروض مبتسم
أو نسمةٍ خطرت بالبان نفحتها ... ولا أقول سرت بالضّال والسّلم
وما عبارتك المثلى سوى دررٍ ... والناس تحسبها ضرباً من الكلم
كم التقطت ومولانا يسامرني ... جواهر الفضل والآداب والحكم
وكم معانٍ كأنّ السحر نضّدّها ... لم تبق عندي عقابيلا من السقم
نعم وأبيات شعرٍ راق موردها ... لم أنسهنّ وما بالعهد من قدم
آها لأيّامنا بالخيف لو بقيت ... عشراً وواهاً عليها كيف لم تدم
يا سيداً بندى يمناه صحّ لنا ... أنّ الغمام بخيلٌ غير منسجم
وماجداً جدّ في كسب العلى فغدا ... تخشى الصوارم منه صولة القلم
شوقي إلى لثم ذاك زاد على ... شوق الرياض إذا جفّت إلى الديم
ووحشتي لمحياك الجميل هل اس ... توحشت قطّ لبدر التم في الظلم
ووحشتي لفوات القرب منك كما ... تجسّر الساهد المضنى إلى الحلم
فهذه بعض أشواقٍ أكابدها ... في وصفها قلمي ساوى لنطق فمي
أظهرت وجدي ولم أكتم لواعجه ... ومن يطيق خفا نار على علم
وأنشدني غالب نظمه من لفظه لنفسه، فمما أنشدني لنفسه قوله ينحو فيه ما نحاه الشيخ تقي الدين السروجي في أبياته المشهورة:
قصّة الشوق سر بها يا رسولي ... نحو من قربه مناي وسولي
عند باب الفتوح حارةٌ بها الد ... ين تحت الساباط قف يا رسولي
وإذا ما حللت تلك المغاني ... قف بتلك الطلول غير مطيل
وتأمّل هناك تلق غرير الط ... رف أحوى يرنو بطرفٍ كحيل

من بني الترك فاتر الطرف يرمي ... بنبال الجفون كل نبيل
ألفيّ القوام قد ألف الهج ... ر دلالاً على المحبّ الذليل
فإذا قال أُوزي نجك در سلام بر ... كيف حال المضنى الكئيب العليل
قبّل الأرض ثم قدّم إليه ... قصةً قدّمت بشرح طويل
فإذا قال أُوزي نجك در سلام بر ... كيف حال المضنى الكئيب العليل
قل قلن خش دا كل تلاماس دن ... ادن إلاّ سني بلا تطويل
كال سني كرمسكين كشي شفّه الوج ... د فأضحى حلف الضنى والنحول
وأما أبيات الشيخ تقي الدين عبد الله بن علي السروجي فأنشدني شيخنا الحافظ فتح الدين أبو الفتح اليعمري والقاضي الرئيس عماد الدين إسماعيل بن القيسراني، كلاهما قال: أنشدنا من لفظه لنفسه الشيخ تقي الدين السروجي، وأكثر الأبيات أنشدنيها القاضي عماد الدين:
يا ساعي الشوق الذي مذ جرى ... جرت دموعي فهي أعوانه
خذ لي جواباً عن كتابي الذي ... إلى الحسينيّة عنوانه
فهي كما قد قيل وادي الحمى ... وأهلها في الحسن غزلانه
امش قليلاً وانعطف يسرةً ... يلقاك درب طال بنيانه
واقصد بصدر الدرب دار الذي ... بحسنه يحسن جيرانه
سلّم وقل يخس من كي من ... اشت حديثاً طال كتمانه
كنكم كرم ساوم اشي أط كبي ... فحبّه أنت وأشجانه
واسأل لي الوصل فإن قال يق ... فقل أُوت قد طال هجرانه
وكن صديقي واقض لي حاجة ... فشكر ذا عندي وشكرانه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
غرامي فيك قد أضحى غريمي ... وهجرك والتجني مستطاب
وبلواي ملالك لا لذنب ... وقولك ساعة التسليم طابو
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أيا من قد رمى بسهم ... من الأجفان فهو أشدّ أقجي
أيحسن منك أن أشكو غرامي ... فتعرض نافراً وتقول يقجي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
قلت له كم تشتكي ... وتشتهي خذ واتكي
فقال: لا قلت: له ... لا تشتهي وتشتكي
وأنشدني من لفظه لنفسه، وقد توفيت زوجته:
إنّي لأعجب لاصطباري بعدما ... قد غيّبت بعد التنعّم في الثرى
هذا وكنت أغار حال حياتها ... من مرّ عاطفة النسيم إذا سرى
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أقول لقلبي حين غيّبها الثرى ... تسلّ فكلٌّ للمنية صائر
وفي كل شيء للفتى ألف حيلة ... ولا حيلةٌ فيمن حوته المقابر
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تقول بحقّ ودّك عدّ عنّي ... ودعني ما الكؤوس وما العقار
وهاريقي وكاسات الحمّيا ... وذق هذا وذا ولك الخيار
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لا تقل قد قبلت عقد نكاحٍ ... وبصدق الصّداق لا تك راضي
وإذا ما عجزت قل بالتسرّي ... لم، وإلاّ بغير علم القاضي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
قالت وقد راودتها عن حالة ... يا جارتي لا تسألي عمّا جرى
إني بليت بعاشق في أيره ... كبرٌ فلا فلسٌ ويطلب من ورا
سليمان بن إبراهيم

بن إسماعيل الملطي الحنفي
القاضي الفقيه شمس الدين أبو محمد.
ناب في الحكم مدة طويلة بدمشق، ودرس بالظاهرية وغيرها، وناب بالقاهرة في الحكم لما توجه إليها في الجفل.
وكان رجلاً صالحاً مباركاً متواضعاً.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت نصف ذي القعدة سنة ثلاث وسبع مئة.
سليمان بن إبراهيم بن سليمانابن داود بن عتيق بن عبد الجبار، القاضي صدر الدين المالكي.
تولى قضاء الشرقية والغربية من الديار المصرية، وسافر رسولاً من جهة السلطان إلى بغداد.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشري شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
سليمان بن أحمد

ابن الحسن بن أبي بكر بن علي، تقدم تمام النسب في ترجمة ولده الحاكم أحمد بن سليمان، هو أمير المؤمنين أبو الربيع المستكفي بالله بن الحاكم بأمر الله الهاشمي العباسي البغدادي الأصل، المصري المولد.
قرأ واشتغل قليلاً، وخطب له عند وفاة والده سنة إحدى وسبع مئة، وفوض جميع ما إليه من الحل والعقد إلى السلطان الملك الناصر محمد، وسارا معاً إلى غزو التتار، وشهدا مصاف شقحب في شهر رمضان سنة اثنين وسبع مئة، وهو مع السلطان راكب، وجميع كبار أمراء الجيش مشاة، وعليه فرجية سوداء مطرزة وعمامة كبيرة بيضاء بعذبة طويلة، وقد تقلد سيفاً عربياً محلى.
ولما فوض الأمر إلى الجاشنكير، وقلده السلطنة بعد توجه السلطان الملك الناصر، ولقب المظفر، عقد له اللواء، وألبسه خلعة السلطنة: فرجية سوداء وعمامة مدورة، وركب بذلك والوزير حامل التقليد على رأسه، وهو من إنشاء القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر وأوله: " إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " هذا عهد لا عهد لمليك بمثله.
رأيته أنا بالقاهرة مرات، وكان تام الشكل حسنا، يملأ برونقه العين مهابة وسنا، تعلوه الهيبة والوقار وعليه من أبهة الخلافة والأمانة أنوار، يجود لو كان المال طوع حكمه، وينصف المظلوم ولكن هو يشكو مثل ظلمه.
ولم يزل بمصر إلى أن تنكر السلطان عليه، وكاد من الحنق يحضره بين يديه، فأطلعه وأهله إلى القلعة، وأسكنه برجاً مطلاً على الباب، وحير في أمره ذوي العقول والألباب، فلم يركب ولم ينزل، ولم يدخل ولم يخرج وهو في المنزل، وبقي مدة تقارب الخمسة أشهر، ثم أفرج عنه، وأنزله إلى داره، وهو لم يشتف منه. ثم إنه تنكر عليه بعد نصف سنة أخرى، وجرعه في هذه المرة كأساً مزاجها مراً، وجهز وأولاده إلى قوص في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فراح إليها والعيون من الناس عليه عبرى، والنفوس لم تملك على مصابه صبرا، وأقام بها يكابد هواحر هواجرها، ويجري دمعاً لما نزل من عينه محا محاجرها، إلى أن توفي ولده صدقه، وكان يحل منه محل قلبه لا الحدقه، فوجد عليه وجداً شديدا، وأذاب قلبه ولو كان حديدا.
ولم يزل بعد ذلك في حزن يذوي، ودمع يكوي، إلى أن فجع المؤمنون بأميرهم، وباح الحزن عليه بما في ضميرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل شعبان سنة أربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة.
وكان له ولد كبير اسمه خضر كان قد جعله ولي عهده، فتوفي في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، وعهد بالأمر إلى ولده الحاكم أحمد، فلم يمضه السلطان وبويع ابن أخيه أبو إسحاق إبراهيم بيعة خفية لم تظهر إلى أن تولى السلطان الملك المنصور أبو بكر، فأحضر ولده أبا القاسم أحمد، وبايعه ظاهراً، وكني أبا العباس، على ما تقدم في ترجمته في الأحمدين.
وأخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: إن المرتب الذي كان له لم يكن يبلغ خمسين ألف درهم في السنة، فلما خرج إلى قوص قوم غالياً وحسب زائداً، ليكثر ذلك في عين السلطان، وجعل ستة وتسعين ألفاً، فرسم بأن يصرف ذلك إليه بكماله من مستخرج الكارم، فأرادوا نقصه فازداد.
سليمان بن أبي بكرالأمير علم الدين ابن الأمير سيف الدين بن البابيري، تقدم ذكر والده في حرف الباء.
وكان هذا الأمير علم الدين شاباً حسن الوجه، مبرأ من عدم الحياء وقبح النجه، حلو الصوره، كأن وجهه للملاحة جامع، والمحاسن عليه مقصوره. تنقل في الولايات وتوقل هضبات النيابات.
ولم يزل على حاله حتى أدرج في كفنه، واستحال بعد صحة تركيبه إلى عفنه.
وتوفي رحمه الله تعالى بحماة، ورد الخبر إلى دمشق بموته في أول شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبع مئة، وعمره يقارب الثلاثين أو يزيد عليها قليلاً.
وكان والده الأمير سيف الدين البابيري يحبه محبة زائدة وإذا قيل له: يا أبا سليمان، يترنح ويتريح، وأخذ له إمرة عشرة في حياته، ثم أخذ إمرة الطبلخاناه بدمشق في سنة سبع وخمسين أو سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. وتولى ولاية الولاة القبلية، ووقع في أيامه ذاك العشير، إلى أن حضر الأمير شهاب الدين شنكل من الديار المصرية.

ثم إن الأمير علم الدين سليمان أعطي نيابة ألبيرة في أوائل سنة ستين وسبع مئة، ثم عزل عنها، وحضر مع الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي من حلب إلى دمشق، فولاه ولاية الولاة بالقبلية، وعزل عنها، ورسم له بنيابة ألبيرة، فتوجه إليها، وأقام بها إلى أن عزل منها بالأمير سيف الدين قراكز أخي الأمير سيف الدين يلبغا، ونقل إلى حماة أمير طبلخاناه، فأقام بها قليلاً، وتوفي رحمه الله تعالى.
وكان يحصل له في بعض الأوقات صرع، حصل له في وقت بحلب وقد حضر ليتوجه إلى نيابة ألبيرة، فتحامل وأمسك نفسه إلى أن حصل له رعاف كثير، وهو بباب دار النيابة بحلب رحمه الله تعالى.
عمل شد الدواوين بدمشق أيضاً.
سليمان بن أبي حربعلم الدين الكفري الفارقي النحوي الحنفي.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين قال: تصاحبت أنا والمذكور بالقاهرة، وكان من تلاميذ ابن مالك، أخبرني أنه عرض عليه أرجوزته الكبرى المعروفة بالكافية الشافية وأنه بحث أكثرها عليه، وأنه قرأ القراءات السبع بدمشق، وأشغل الناس عليه، وكان حنفي المذهب. قال: وأنشدني كثيراً يذكر أنه له، ولما قدم الأديب شهاب الدين العزازي إلى القاهرة، ذكر لنا أنه كان ينشد لنفسه كثيراً مما كان ينشده العلم سليمان لنفسه.
وأنشدني قال: أنشدني الفقير يعيش الفارقي قال: مما كتب به العلم سليمان إلى الكاتب شرف الدين بن الوحيد رحم الله جميعهم، وعفا عنهم:
أما ومجد أثيل أعجز الفصحا ... ونائل كلّما استمطرته سمحا
لو وازن ابن الوحيد الناس كلّهم ... ببعض ما ناله من سؤددٍ رجحا
سليمان بن حسنابن أحمد بن عمرون البعلبكي الصدر شرف الدين.
ولد بحماة، وحدث عن الحافظ شرف الدين اليونيني وغيره، واختلط في سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
باشر عدة ولايات بطرابلس وغزة وبعلبك ودمشق، وولي الأقطار الكبار في دمشق مثل الربوة وغيرها.
وكان لين العريكه، لا يذم صاحبه ولا يخون شريكه، رافق في طرابلس لأسندمر النائب، وكان يحكي عنه الغرائب والعجائب، إلا أنه نزل به الوقت، وآل أمره بعد المحبة إلى المقت، وبطل من المباشره، وتخلى عن الاختلاط بالناس والمعاشره، وعبس الدهر في وجهه بعد المكاشره، وانكمش عن الصحبة بعدما كان عنده فيها شره، وجلس مع الشهود في الساعات، وخلع وقاره على الخلاعات، إلى أن أصبح الشرف في الحضيض، وغمض الموت طرفه وكان غير غضيض.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وخمسين وسبع مئة، عن نيف وثمانين سنة.
وتولى نظر غزة والساحل ونابلس في وقت، وحضر من غزة إلى نابلس ليكشف أمرها، فحصل له مباشروها خمسة آلاف درهم على عادة الكتاب، فلما طلعوا وتلقوه، انفرد بالناظر خلوةً وقال: يا مولانا: عندكم فرد كناب من هذا النابلسي وقليل صابون وزيت ؟ فقال له: نعم، فقال: دبره لنا وجهزه إلى غزة، وكان جميع ما طلبه ما يقارب الثلاث مئة، وراحت تلك الخمسة آلاف، وتوفرت على المباشرين، وكذا كان يفعل في نظر الزكاة، يطلع إلى القابون ويتلقى القفول، فيحصل له كبار القفول التفاصيل الحرير والتحف والذهب والدراهم، فيقول لهم: الوقت مضرور إلى منيشفات بغدادية، فيعرف التجار أن ذلك رضاه، فيوفرون ما حصلوه لأنفسهم، ويعطونه ذلك القدر النزر.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بنظر غزة والساحل ونابلس في ثالث عشري صفر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة وهو:

رسم بالأمر العالي، لا زالت شموس سعوده تحل بالشرف، وعروس وعوده تثمر بالتحف، لمن ارتدى بظلها والتحف، أن يرتب المجلس السامي القضائي الشرفي في كذا وكذا، ثقة بكفايته التي شهرت، ونامت عيون من دونه عنها وسهرت، وملأت القلوب إعجاباً بها وبهرت، لأنه الرئيس الذي كبت الجياد عن بلوغ مداه، وكبت الحساد بما حازه من الفضل الذي تقمص برده وارتداه، والماجد الذي جاذب في السيادة لما امتطاها أعنةً وأرسانا، والماهر الذي يملأ المعاملات حسناً وإحسانا، والكاتب الذي طالما جادل فجدل من العمال أبطالاً وفرسانا، والناظر الذي أصبح لناظر الزمان على الحقيقة إنسانا. فليباشر ما فوض إليه مباشرةً، يظهر بها عزه، في وجه غرة غزه، ويغرق بحره الساحل بالعين والغله، حتى يكون كل ذرة في لجه درة، ويفيض على نواحي بره بره، وليضبط ما تحصل منها بأقلام الفكر في دفاتر الجنان، ويضع على متحصلاتها ختم مراعاته حتى لا يصل إليها ولا الجان، وكيف وعليها خاتم سليمان ؟! على أن هذه النواحي عش دب منه ودرج، وعرين دخل غابه فغاب وخرج، وأفق طالما ترقى في مطالعه وعرج، وبر وبحر خلط علمه معرفتيهما ومرج، وبلاد تحقق مقاصد أهلها فما يبدون ولا يعيدون، ومباشرات لما دبرها قصرت عن أوصاف ابن عمرون فيها بلاغة ابن زيدون، والتقوى ملاك الأمور، فلينزلها ربوع فكره، وليجعلها نجي سره وجهره، والله تعالى يوفق مساعيه، ويجمل بمحاسنه أيامه ولياليه، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
سليمان بن أبي الحسن بن ريانالقاضي جمال الدين بن ريان الطائي، هو ابن عمر القاضي عماد الدين سعيد بن ريان المقدم ذكره.
كان رجل زمانه ونظير أقرانه.
يحب الخط المنسوب ويبالغ فيه، ويود لو ملك كل شيء ليذهبه في تلافيه، ويلزم أولاده بالتجويد، ويحرضهم على تحصيله وبياض وجههم بكثرة التسويد، ويجتهد على نسخ المصاحف الكبار، وينفق عليها جملة من اللجين والنضار، ماله في غير ذلك أرب، ولا يثنيه عن ذلك أحد في العجم ولا في العرب، وبقية وصفه يأتي في مرثيته نظماً، ومن هناك يعلم قدر ما كان فيه حقيقةً لا وهما.
نزل عن وظيفته لولده القاضي بهاء الدين الحسن في آخر عمره، وانقطع هو في بيته، وأقبل هو على ما يعينه في آخرته من أمره، إلى أن ابتلعه فم لحده، وأصبح عبرةً لمن تركه من بعده.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
ومولده في حادي عشري شهر رمضان سنة ثلاث وستين وست مئة.
وكان والده رجلاً صالحاً من أهل القرآن، حرص على ولده هذا القاضي جمال الدين سليمان، وأقرأه القرآن الكريم، وكان يمنعه من عشرة أقاربه، وإذا رآه يكتب القبطي المعرب يضربه وينكر ذلك عليه، فأبى الله تعالى إلا أن يجعل رزقه في صناعة الحساب.
ولم يزل مع ابن عمه القاضي عماد الدين سعيد بن ريان، فلما حج عماد الدين وتوجه إلى مصر وأخذ توقيعاً بنظر حلب، ووصل إلى دمشق توفي رحمه الله تعالى، فأخذ القاضي جمال الدين توقيعه، وتوجه به إلى حلب، وكان قراسنقر بها نائباً، ولعماد الدين عليه حقوق خدم، فاستقر القاضي جمال الدين ناظر جيش، ولم يزل بها إلى سنة ثماني عشرة وسبع مئة، فرسم له بنظر صفد في المال، فحضر إليها وأقام بها إلى أوائل سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، فطلب إلى مصر وولاه السلطان نظر الكرك ووكالة بيت المال، ثم إنه ولاه نظر حلب، ولم يخرج من مصر ولم يتوجه إلى الكرك، فحضر إلى حلب ناظر المال، فأقام بحلب مدة يسية، وتوجه إلى مصر وتولاها ثانياً.
ثم إنه عزل من نظر بيت المال وحضر إلى نظر المال بصفد ثانياً، فأقام قريباً من شهر، ثم طلب إلى مصر، وتولى نظر الجيش بحلب، ولم يزل إلى أن عزل في واقعة لؤلؤ، وأقام بطالاً مدة يسيرة، ثم إنه جهز إلى نظر طرابلس فأقام بها. ثم إنه حضر إلى صفد ثالثاً ناظر المال، وولده القاضي شرف الدين ناظر الجيش، فأقام بها مدة. ثم توجه إلى حلب ناظر الجيش.
ثم إنه استعفى وطلب الوظيفة لولده القاضي بهاء الدين الحسن ولزم بيته مدة.
ثم إن السلطان ولاه نظر الجيش بدمشق عوضاً عن القاضي فخر الدين بن الحلي لما توفي رحمه الله تعالى، وأقام به إلى أن عزل في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، فتوجه إلى حلب وأقام بها ملازماً بيته، لا يخرج منه إلا إلى صلاة الجمعة.

ولما كان في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، حضر إلى دمشق وتوجه منها إلى الحجاز وقضى حجة الإسلام وعاد فيها وقد ضعف، فركب محفةً وتوجه إلى حلب، ولم يزل في حلب على حاله إلى أن توفي.
ولقد رأيته يقوم في الليل ويركع قبل الفجر قريباً من عشرين ركعة، وله في كل اسبوع ختمة يقرؤها هو وأولاده، ويصوم في غير شهر رمضان. وكان ذهنه جيداً في العربية والأصول.
وسمع ابن مشرف وست الوزراء، وقرأ العربية على الشيخ شرف الدين أخي الشيخ تاج الدين، ويعرب جيداً، ويعرف الفرائض جيداً، والحساب وطرفاً صالحاً من الفقه، وعلى ذهنه نكت من المعاني والبيان والعروض، وينقل كثيراً من القراءات ومرسوم المصحف.
ولي معه مباحث كثيرة رحمه الله تعالى.
ولما توفي كتبت إلى ولده القاضي شرف الدين حسين قصيدة رثيته بها وه:
أظمأت نفس المعالي يا ابن ريّانا ... حتّى توقّدت الأحشاء نيرانا
وانهلّ دمع الغوادي فيك من حزنٍ ... وشقّق البرق في الآفاق أردانا
ومزّق الصبح أثواب الدّجى ورمى ... حلي النجوم وأضحى فيك عريانا
وكلّ ساجعة في الأيك نائحةٌ ... تملي من الوجد في الأشجار أشجانا
أتت دمشق بك الأخبار من حلب ... يا بئس ما خبّر النّاعي وناجانا
وددت من حرقتي لو كنت ذا شجن ... لو أنّ للصخر قبل اليوم آذانا
تكاد تبكي المعالي فيك من جزعٍ ... بالدمع لو وجدت للدمع أجفانا
من للظلام إذا نام الأنام غدا ... يقطّع الليل تسبيحاً وقرآنا
ومن لمحرابك الزاكي فليس يرى ... من بعد فقدك فيه قطّ إنسانا
كم قد ختمت كتاب الله متّعظاً ... وفي تدبّره كم رحت ولهانا
وكم حثثت الخطا نحو الصلاة لأج ... ل الصفّ الأوّل في الأسحار عجلانا
تواظب الصّوم في يوم الخميس وفي ال ... إثنين حتى لقد أمسيت خمصانا
وكم ممالك قد دبّرت حوزتها ... فكنت خير وزير قطّ ما خانا
وتستقيم بك الأحوال ماشيةً ... حتى تفيض بك الأموال طوفانا
لله درّك كم جمّلت مدرسةً ... وبالكتابة كم شرّفت ديوانا
فكنت في الجود غيثاً والهدى علماً ... وفي الحجى حجة والعلم نهلانا
ثم اعتزلت الورى من غير ما سبب ... إلا لتطلب من ذي العرش رضوانا
ومن أراد من الأُخرى جواهرها ... أباع أعراض هذي المال مجانا
وكان أربح مالاً عند خالقه ... وراج أرجح يوم الحشر ميزانا
فاذهب فأيّ ضريح أنت ساكنه ... ترى التراب به روحاً وريحاناً
ولم يمت من بنوه سادةٌ نجبٌ ... لما بنى مجدهم شادوه إتقانا
وجمّلوا الملك إذ زانوا مناصبه ... وألبسوها من العلياء تيجانا
إن كوتبوا أو لقوا أو خوطبوا وجدوا ... في الخط واللفظ في الهيجاء فرسانا
بهاؤهم ما يباهي عزمه أحدٌ ... وفيهم شرفٌ باقٍ لهم زانا
وما شهابهم خافٍ بمطلعه ... كما كمالهم قد حاز إحسانا
تعزّ يا شرف الدين الذي قبضت ... يمنى علاه من العيّوق أرسانا
بيانه ظاهرٌ لو أنّ رونقه ... للبدر لم يخش عند السّير نقصان
تالله ما دار كأسٌ من بلاغته ... عليّ إلا أهزّ العطف نشوانا
له عبارات نظمٍ كلّما سحبت ... ذيولها أعثرت في الحال سحبانا
مثل العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فالناس في حلب حلّت بهم بهمٌ ... وأصبح القوم خرساً في خراسانا

فلا يرع لكم سربٌ بحادثة ... ولا رأى شأنكم خطبٌ ولا شانا
ولا يكدّر لكم شربٌ بنازلة ... ولا حدت لكم الأحداث أضغانا
تحفّكم بركاتٌ من تقاه فقد ... أخذتم منه حرزاً من سليمانا
يقبل الأرض وينهي ما عنده من الألم لهذه النازله، والقلق لهذه الرزية التي جعلت الدموع هاميةً هامله، والجزع لهذه الحادثة التي تركت الجوانح حاميه، فليت القوى لو كانت حاملة ف " إنا لله وإنا إليه راجعون " قول من فقد جماله، وعدم صبره واحتماله، وفجعه الدهر بواحده الذي ما رأت عينه مثاله، فرحم الله ذلك الوجه الجميل، وقدس تلك السريرة التي كان الصفاء لها ألزم زميل، وما بقي غير الأخذ فيما وقع بالسنه، والصبر على فقد من أثار النار في الفؤاد وسكن الجنه، وقد جهز المملوك هذه القصيدة التي يسبح نونها من الهم في يم، ويشرح في هذا المأتم ما تم، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك: يقبل الأرض وينهي ورود المثال الشريف يتضمن تعزي حسن لفظها، وأثر في القلوب وعظها، وتعين تسطيرها في صحائف الأفكار وحفظها، فوقف المملوك على محاسنها وأحاسنها، وشملته من مكامنها بميامنها، وتسلى بما حوت من مفصل الرثاء ومجموعه، وأسال من أجفانه دماً بدل دموعه، فيالها من رزية عظمت فيها المآتم، ومصاب كشفت حجبه السليمانية عن حزن له خاتم، وتحقق المملوك من أثناء أبيات القصيدة النونية بركات ذي النون، ونظر إلى نونها وقد غاص في بحر الفضائل فاستخرج دره المكنون، ولقد كتب المملوك جواب مولانا معترفاً فيه بالتقصير، مغترفاً من منهل فضله الغزير، وهو:
جدّدت في القلب آلاماً وأحزانا ... أسالت الدّمع من جفنيّ طوفانا
فاعجب لجفنٍ يفيض الماء مدمعه ... ومهجةٍ تلتظي بالحزن نيرانا
عزّيتنا في أبينا فاكتسبت به ... أجراً وأوليتنا فضلاً وإحساناً
أكرم به من أبٍ شاعت مناقبه ... في الناس واشتهرت بالجود إعلانا
كم بات في ظلمات الليل منتصباً ... في خدمة اللّه يقضي الليل يقظانا
كم ختمةٍ قد تلاها في النهار وكم ... أفنى الحنادس تسبيحاً وقرآنا
ولازم الصّوم أوقات الهواجر لا ... يرتدّ عن صومه ديناً وإيماناً
وكان يخشن في دين الإله تقىً ... عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا
وكان يخشى ويرجى في ندىً وردىً ... والصّعب من رأيه تلقاه قد هانا
شبنا وأذهلنا عظم المصاب به ... وكلّ صبّ به ذهل بن شيبانا
سارت جنازته والخلق تتبعها ... والحزن عمّهم فينا وغشّانا
حتى ملائكة الرّحمن مذ علموا ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
نعى النّعاة وضجّوا بالنعيّ له ... فأورثوا القلب أشجاناً وأحزانا
جار الزمان ولم يقصد بمصرعه ... إلا ليهدم للمعروف أركانا
إن الخطوب التي ساقت منيّته ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
من ذا يوفّي علاه بالرثاء ولو ... كان المرثّي له قسّاً وسحبانا
لم أقض بالشعر حقاً من علاه ولو ... نظمت في كلّ يوم فيه ديوانا
لو قيل: من فاق أرباب الصّلاح تقىً ... كان الجواب: سليمان بن ريّانا
إني لأعلم أنّ اللّه يجعله ... أوفى البريّة عند اللّه ميزانا
حيّرتنا بمثال فيه تعزيٌ ... به اتّعظنا وعزّانا وسلاّنا
فيه قريضٌ بديع النّظم مشتملٌ ... على معانٍ حسانٍ فقن حسّانا
إن رمت تشبيهه بالرّوض كان له ... فضلٌ على الرّوض لا يحتاج برهانا
الرّوض يذبل في وقتٍ ونظمك قد ... وقاه فكرك طول الدّهر ماشانا
أو قلت ألفاظه مثل الكواكب لم ... أكن موفّيه بالأوصاف تبيانا

إذ الكواكب في ضوء النهار أرى ... أنوارها تختفي في الجو أحيانا
لكن أقول هذا العقد الثّمين وقد ... نظمت ألفاظه درّاً وعقيانا
في أحمر الطرس قد سطّرت أحرفه ... كالدّرّ خالط ياقوتاً ومرجانا
حفظت عهدك في حال الحياة ومن ... بعد الممات فحيّا اللّه مولانا
كذا تكون صفات الحرّ يحفط من ... عهد المودّة أصحاباً وإخوانا
لا ذقت فقد حميم بعدها وحمت ... وقاية اللّه مولانا وإيانا
سليمان بن حسنالشيخ حسام الدين بن بدر الدين، ابن الشيخ الكبير القدوة العارف غانم المقدسي.
كان حسام الدين شيخ الحرم بالقدس، له همة وفيه مكارم، وعنده خدمة للناس.
حدث عن الشيخ تقي الدين الواسطي.
وسمع منه أمين الدين بن الواني.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشري شعبان سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده في شهر رجب سنة أربع وخمسين وست مئة.
سليمان بن حمزةابن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة: الشيخ الإمام المفتي شيخ المذهب، مسند الشام قاضي القضاة تقي الدين أبو الفضل المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي.
سمع الصحيح حضوراً في الثالثة من ابن الزبيدي، وسمع صحيح مسلم وما لا يوصف كثرةً من الحافظ ضياء الدين، وربما عنده عنه ست مئة جزء. وسمع حضوراً من جده الجمال أبي حمزة، وابن المقير، وأبي عبد الله الإربلي، وسمع من ابن اللتي، وجعفر الهمداني، وابن الجميزي، وكريمة الميطورية وعدة.
وأجاز له محمد بن عماد، وابن باقا، والمسلم المازني، ومحمود بن مندة، ومحمد بن عبد الواحد المديني، ومحمد بن زهير شعرانة، وأبو حفص السهروردي، والمعافى بن أبي السنان، والمقرئ ابن عيسى وخلق كثير.
وخرج له ابن المهندس مئة حديث، وخرج له شيخنا الذهبي جزءاً فيه مصافحات وموافقات، وخرج له ابن الفخر معجماً ضخماً.
وروى الكثير بقراءة شيخنا علم الدين البرزالي، وتفقه بالشيخ شمس الدين وصحبه مدة.
ودرس بالجوزيرة وغيرها. ولي الجوزية والقضاء عشرين سنة. ومن تلاميذه ولده قاضي القضاة عز الدين، وقاضي القضاة ابن مسلم، والإمام محمد بن العز، والإمام شرف الدين أحمد ابن القاضي، وطائفة.
وسمع منه المزي، وابن تيمية، وابن المحب، والواني، والشيخ صلاح الدين العلائي، وابن رافع، وابن خليل، وعدد كثير.
وقرأ طرفاً من العربية، وتعلم الفرائض والحساب، وحفظ الأحكام لعبد الغني، والمقنع.
وكان حاكماً عادلا، لا يقبل في الحق عاذلا، وكان جيد الإيراد للدروس، خبيراً باجتناء ثمار العلم من الغروس، يحفظ درسه من ثلاث مرات أو أكثر، ويسرده كأنه عقد تنضد إذا كان عند غيره قد تبعثر. وبرع في مذهبه وجوده، وأجرى جواد ذهنه فيه على ما عوده. وكانت له معرفة تامة بتواليف الموفق، وإذا تكلم فيها رأيت الغصن رقص والطير غنى والنهر صفق. وتخرج به الأصحاب، وجر السحاب خلفه ذيله السحاب.
وكان إذا أراد أن يحكم قال: صلوا على رسول الله، فإذا صلوا، حكم، وذل الخصم له ولو كان مروان بن الحكم.
ولم يزل على حاله إلى أن قطع الله من الحياة أمله، والتقى التقي عمله.
وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشري العقدة سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
وكان الجاشنكير قد عزله سنة تسع وسبع مئة بالقاضي شهاب الدين بن الحافظ، ولما حضر السلطان من الكرك اجتمع به وولاه.
سليمان ابن داودابن سليمان بن محمد بن عبد الحق، الشيخ الإمام الفاضل الأديب الفقيه الرئيس القاضي صدر الدين أبو الربيع ابن الشيخ ناصر الدين الحنفي.
فقيه تأدب فبرع، وبلغ إلى الغاية من أول ما شرع، نظم سائر الفنون، وصدح في أيك الأدب والغصون. وقعدت معه التورية فأطربت، وزادت محاسن نظمه على الروض وربت.

وكان مطرحاً عديم الوقفه، لا يكلف بالكلفه، ولا يأنس إلى وطن المناصب، ولا يفرق بين الشيعة والنواصب. قد أصبح في عالم الإطلاق، وتمسك بما يؤدي إلى مكارم الأخلاق. جاب البلاد، وجال بين العباد، ولم يدع شاماً إلا شام برقه، ولا عراقاً إلا ونبش عرقه، ولا حجازاً إلا كشف حجابه، ولا يمناً إلا وأم ملوكه وأربابه. وولي مناصب القضاء وغير ذلك، وانسلخ من الجميع يقول:
وما الناس إلاّ هالكٌ وابن هالك
طالما تمزر الفقر وتمزق، وأنف من ذلك فتزود للرتبة العالية وتزوق:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّياً فعدناني
ولم يزل ينجد ويغير، ويقطع الآفاق بالمسير، حتى ابتزه الدهر ثوب حياته، والتقطه طائر الموت فيما التقط من حباته.
وتوفي رحمه الله تعالى في أول سنة إحدى وستين وسبع مئة بالمهجم من بلاد اليمن.
ومولده سنة سبع وتسعين وست مئة.
قرأ القرآن على الشيخ مبشر الضرير، وسمع على أشياخ عصره مثل الحجار، وابن تيمية، والمزي، وغيرهم.
وقرأ المنظومة على عمه القاضي برهان الدين بن عبد الحق وحفظها، وقرأ ألفية ابن معطي، وحفظ النكت الحسان في النحو، وعرضها على مصنفها شيخنا أبي حيان، وكتب له عليها، وأثنى عليه، وعلق عليها حواشي من أولها إلى آخرها بخطه من كلام الشيخ، وبحث الأصلين على الشيخ صفي الدين الهندي بدمشق، وعلى تاج الدين بن السباك ببغداد، وقرأ تلخيص المفتاح على الخيلخاني.
ودخل بغداد سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، واجتمع بفضلائها. وسافر إلى خراسان والري، وعاد إلى مادرين. ثم رد إلى القاهرة ثانياً، وكان قد دخلها أولاً مع عمه قاضي القضاة برهان الدين، وكان يقرأ له الدرس في مدارسه بالقاهرة، وأذن له في الإفتاء.
ودرس بالديلمية، وحضر درسه أول يوم قاضي القضاة جلال الدين القزويني وبقية القضاة.
ودخل اليمن سنة خمس وأربعين وسبع مئة بعدما حج، واجتمع بصاحبه، فأقبل عليه وأنس به، ورأيت خطه إليه في عدة أوراق بآداب كثيرة ولطف زائد وخوله نعماً أثيلة. وباشر عندهم، ثم إنه تزوج بابنة الوزير، وحد صحبة الملك المجاهد صاحب اليمن في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فجرت لهم تلك الأحوال ونهبوهم.
أخبرني صدر الدين من لفظه قال: عدم لي في البر والبحر ما قيمته خمسة وعشرون ألف دينار.
وحضر إلى دمشق ومعه جملة من الجواهر الثمينة. ثم إنه توجه إلى القاهرة، وسعى في أيام الأمير سيف الدين شيخو، فباشر توقيع الدست بالقاهرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة - فيما أظن - وبعد قليل رسم له بنظر الأحباس مع توقيع الدست.
وجرت له حركة بسبب جاري تزوجها من جواري السلطان تخلخل أمره فيها ثم سكن، فلما أمسك الأمير سيف الدين صرغتمش أخرجوه إلى دمشق موقعاً في سنة ستين أوائلها، فجاء إليها ولم يباشر شيئاً، وأقام في دمشق لا يظهر، إلى أن سافر منها واختفى خبره، ثم ظهر أنه مقيم بنابلس لا يظهر، ومعه مملوك له مليح الصورة يدعى طشتمر، ثم توجه إلى الحجاز سنة ستين وسبع مئة، ثم إنه دخل اليمن ومملوكه معه، فلما وصل إلى المهجم توفي رحمه الله تعالى. قيل: إنه قتل لأنه كان معه قطعة بلخش عظيمة، كان يدعي أنها لصاحب اليمن.
وكان قد تولى القضاء ببغداد وبماردين أيضاً.
وكان رحمه الله تعالى عديم الكلفة، مطرحاً للرئاسة، يمشي في باب اللوق، ويمشي تحت قلعة دمشق، وكان هشاً بشاً، رضي الأخلاق. اجتمعت به غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، وكان جيد النظم، تقعد معه التورية والاستخدام وصناعة البديع، وجود فنون الشعر من الموشح والزجل والمواليا والقريض وغير ذلك.
أنشد لنفسه بالقاهرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة:
أيري كبيرٌ والصّغير يقول لي: ... اطعن حشاي به وكن صنديدا
ناديت هذا لا يجوز، فقال لي: ... عندي يجوز، فنكته تقليدا
وأنشدني لنفسه سنة اثنين وخمسين وسبع مئة:
عشقت يحيى، فقال لي رجلٌ: ... لم يبق فيك من الغرام بقيّا
تعشق يحيى تموت، قلت له: ... طوبى لصبّ يموت في يحيى
وأنشدني لنفسه:
قال حبيبي: زرني ولكن ... يكون في آخر النهار
قلت أُداري الورى وآتي ... لأيّ دارٍ فقال: داري
وأنشدني لنفسه:

طال حكّي وعندما ... قلت: خذه لوقته
ضرط العلق ضرطةً ... دخل الأير في استه
وأنشدني لنفسه:
سموت إذ كلمتني ... سلمى بغير رساله
وقال صحبي: تنبّا ... وكلمته الغزاله
وأنشدني لنفسه:
من يكن أعمى أصما ... يدخل الحان جهارا
يسمع الألحان تتلى ... ويرى الناس سكارى
وأنشدني لنفسه:
بدا الشّعر في الخدّ الذي كان مشتهى ... فأخفى عن المعشوق حالي وما تخفى
لقد كانت الأرداف بالأمس روضةً ... من الورد وهي اليوم موردة الحلفا
وأنشدني لنفسه:
يا رسول الحبيب غث مستهاماً ... مغرماً يعشق الملاح ديانه
حدّث الخائف الكئيب من الهج ... ر فهو ممن الحديث أمانه
وأنشدني لنفسه:
وقائلةٍ يوم الوداع أرى دماً ... تفيض به عيناك، ناديت لا أدري
ألم تعلمي أنّ الفؤاد لبيننا ... يذوب وأنّ العين لا بدّ أن تجري
وأنشدني لنفسه:
وإلام أمنحك الوداد سجيّةً ... وأبوء بالحرمان منك وبالأذى
ويولمني فيك العذول وليس لي ... سمعٌ يعي وإلى متى نبقى كذا
وأنشدني لنفسه:
يقول نديمي عن نضوحٍ بكفّه ... لقد فضح الصّهبا وجلّ عن الخبث
فقلت: هو المطبوخ من حسدٍ لها ... ألم تره قد صار منه إلى الثّلث
وأنشدني لنفسه:
ضيّعت أموالي في سائبٍ ... يظهر لي بالودّ كالصّاحب
لمّا انتهى ما لي انتهى ودّه ... واضعية الأموال في السّائب
وأنشدني لنفسه:
وساحر طرفٍ عقربٌ فوق صدغه ... تدبّ إلى قلبي ولم أملك النفعا
وحيّة شعرٍ خلفها نحو مهجتي ... يخيّل لي من سحرها أنّها تسعى
وأنشدني لنفسه:
لمّا حكى برق النّقا ... لمعان ثغرك إذ سرى
نقل الغمام إليك عن ... دمعي الحديث كما جرى
وأنشدني لنفسه:
حظّ عينيّ من الدّنيا القذى ... وفؤادي حظّه منها الأذى
ولكم حاولت فيها راحةً ... ما أراد اللّه إلا هكذا
وبيني وبينه مكاتبات ذكرتها في كتابي ألحان السواجع، وعلقت من شعره كثيراً مما أنشدنيه من لفظه لنفسه من الموشحات والمواليا وغير ذلك وجميعه في التذكرة التي لي.
سليمان بن داود بن سليمانأمين الدين رئيس الأطباء بدمشق.
كان سعيد العلاج، عديد السعد برأيه والابتهاج، أول ما ظهر به من المعرفة واشتهر، وشاع عنه أنه قد جاد وقهر، لما طلب إلى طرابلس لمعالجة أسندمر نائب طرابلس، فإنه وجده في الصيف في مثل ساحل طرابلس، وهم قد أدخلوه في خركاة وألبسوه فروة للمنام ثقيلة ومرضه حاد، فأمر بإخراجه من الخركاة، ونزع الفروة وحلق رأسه، وأخذ في علاجه بما يصلح به مزاجه، فصح وعوفي، وأعطاه شيئاً كثيراً، فاشتهر حينئذ أمر الأمين سليمان.
وأنا اجتمعت به بدمشق والديار المصرية غير مرة، وبحثت معه، فوجدته رجلاً خبيراً بالعلاج لا على القواعد، بل أخذ ذلك بسعد يرشده له، وفطنة تؤديه إليه، ولم أجده يعرف شيئاً من الحكمة. وزرت أنا وهو الآثار النبوية التي برباط الصاحب تاج الدين محمد بن حنا في المعشوق.
ولما توجه قاضي القضاة القزويني إلى الديار المصرية وجد عند السلطان تطلعا إلى عافية القاضي علاء الدين بن الأثير لفالج أصابه، فقال القاضي للسلطان: يا خوند: أمين الدين سليمان الطيب بدمشق داوى ولدي عبد الله من هذا المرض وبرئ منه. فطلبه السلطان إلى القاهرة، ولازم ابن الأثير، فما أنجب فيه علاج، لأنه كان قد تحكم فيه المرض، وعاد إلى دمشق في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وكان يسمر عند الصاحب شمس الدين بن غبريال، ويلعب الشطرنج بين يديه كل ليلة، ويلازمه في النزهة وغيرها، وكان قد حصل أموالاً عديدة وكتباً عظيمة.
ولم يزل على حاله إلى أن أعيي العلاد داؤه، وفقده صحبه وأوداؤه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة في يوم السبت سادس عشري شعبان.
وكان قد سمع على شيخه كمال الدين الدنيسري شيئاً من الحديث بقراءة شيخنا علم الدين البرزالي.
ودفن بالقبيبات قبلي دمشق.

سليمان بن عبد الحليم بن عبد الحكيم
الشيخ الإمام العالم الفاضل صدر الدين الباردي، بالباء الموحدة وبعد الألف راء ودال مهملة، المالكي الأشعري.
كان فقيهاً في مذهب مالك، سديد الطرق في علمه والمسالك، أفتى على مذهب إمامه مالك رضي الله عنه زمانا، والتقط الناس من فتاويه دراً وجمانا، وكان من بقايا العلماء وسلف الفضلاء، أشعري العقيدة، لا يقدر أحد على أن يكيده، وكان يصحب أكابر الشافعية ومن فيه ذكاء أو ألمعية.
ولم يزل على حاله إلى أن فترت من الباردي حركاته، واستولت عليه سكناته.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد خامس جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وكان يدرس بالشرابيشية.
وقلت أنا فيه:
من بعد صدر الدّين صدري ضاق بل ... قد ذاق فرط جوىً وحزن زائد
ومن العجائب أن قلبي يلتظي ... بالنار من حزني لأجل الباردي
سليمان بن عبد الرحمنابن علي بن عبد الرحمن الشيخ الإمام العالم نجم الدين أبو المحامد النهرماوي - بالنون والهاء والراء والميم والألف والواو - الحنبلي قاضي القضاة ببغداد.
قال الحافظ نجم الدين الدهلي: سمع ببغداد جميع الأربعين الطائية على المسند أبي البركات إسماعيل بن علي بن أحمد بن الطبال الأزجي بسماعه ممن جمعها الإمام أبي الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي، وحدث بها ببغداد، وسمعها جماعة، منهم نجم الدين الدهلي.
وكان المذكور شيخ الحنابلة ببغداد وفقيههم ومدرسهم، تفقه على شيخ الإسلام تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي بكر الزريراني، وكان يثنى عليه بمعرفة الفقه. ودرس للحنابلة بالمستنصرية، وباشر القضاء مع التعفف والصيانة والتقشف، ولم يحكم بين الناس قبل موته بمده. ثم إن ولده استقل بالقضاء في حياته فسده، وولي التدريس أيضا، وأفاض الخير فيضا.
ولم يزل نجم الدين المذكور على حاله إلى أن فغر القبر له فمه، وحلم إليه فالتقمه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة ببغداد.
ومولده تقريباً سنة سبع وأربعين وست مئة.
سليمان بن عبد القويابن عبد الكريم بن سعيد الطوفي، بالطاء المهملة والواو.
كان فقيهاً حنبليا، عارفاً بفروع مذهبه مليا، شاعراً أديبا، فاضلاً لبيبا، له مشاركة في الأصول، وهو منها كثير المحصول، قيماً بالنحو والفقه والتاريخ ونحو ذلك، وله في كل ذلك مقامات ومبارك.
ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة عشر وسبع مئة.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: كان شيعياً يتظاهر بذلك، ووجد بخطه هجو في الشيخين رضي الله عنهما.
وكان قاضي القضاة الحاري يكرمه ويبجله ورتبه في مواضع من دروس الحنابلة، وأحسن إليه. ثم وقع بينهما، وكلمه في الدرس كلاماً لا يناسب الأدب، فقام عليه ابنه شمس الدين، وفوضوا أمره إلى بدر الدين بن الحبال، وشهدوا عليه بالرفض، فضرب، وتوجه من القاهرة إلى قوص، وأقام بها سنين.
وفي أول قدومه نزل عند بعض النضارى وصنف تصنيفاً أنكرت عليه ألفاظ فغيرها. قال: ولم نر منه بعد ولا سمعنا شيئاً يشين.
ولم يزل ملازماً للاشتغال وقراءة الحديث والمطالعة والتصنيف وحضور الدروس معنا إلى أن سافر من قوص إلى الحجاز. وكان كثير المطالعة، أظنه طالع أكثر كتب خزائن قوص، وكانت قوته في الحفظ أكثر منها في الفهم.
وصنف تصانيف منها: مختصر الترمذي، واختصر الروضة في أصول الفقه تصنيف الشيخ الموفق، وشرحها، وشرح الأربعين النووية، وشرح التبريزي في مذهب الشافعي وكتب على المقامات شرحاً رأيته يكتب فيه من حفظه، وما أظنه أكمله، وصنف في مسألة كاد، وسماه إزالة الإنكاد، وتكلم على آيات من الكتاب العزيز.
ومن شعره:
إن ساعدتك سوابق الأقدار ... فأنخ مطيّك في حمى المختار
هذا ربيع الشهر مولده الذي ... أضحى به زند النبوّة وار
هو في الشهور يهشّ في أنواره ... مثل الربيع يهشّ بالأنوار
ومن قصيدة يهجو فيها بلاد الشام:
قوم إذا حلّ الغريب بأرضهم ... أضحى يفكّر في بلاد مقام
بثقالة الأخلاق منهم والهوى ... والماء وهي عناصر الأجسام

ووعورة الأرضين فامش وقع وقم ... كتعّثر المستعجل التّمتام
لا غرو إن قست القلوب قلوبهم ... واستثقلوا خلقاً لدى الأقوام
فجوار قاسيّون هم وكأنهم ... من جرمه خلقوا بغير خصام
قالوا: لها في المسندات مناقبٌ ... كتبت بها شرفاً حليف دوام
أهل الرواية أثبتوا إسنادها ... من كل حبر فاضل وإمام
قلت: الأماكن شرّفت لا أهلها ... لخصوصة فيها من العلاّم
أرض مشرّفة وقوم جيفةٌ ... فالكلب حل بموطن الأجرام
سليمان بن عثمانالصدر الرئيس فخر الدين بن فخر الدين، ابن الشيخ الإمام صفي الدين أبي القاسم محمد بن عثمان البصروي.
ولي حسبة دمشق وأقام فيها إلى أن عزل منها بابن الحداد في سابع ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة، فأقام بدمشق مدة يسيرة أياماً قلائل.
وتوفي في سابع عشري السهر المذكور، وحمل إلى بصرى ودفن بها. وكان قد توجه إلى الديار المصرية فتوفي بالبرية.
وكان شاباً كريماً حسن الأخلاق.
سليمان بن عبد الكافيالصدر الرئيس القاضي جمال الدين.
كان فيه عقل وسكون، وحياء وحشمة. ولاه الأمير سيف الدين تنكز نظر ديوانه ونظر البيمارستان النووي بعدما عزل القاضي جمال الدين يوسف شقير وصادره وأخذ ماله في شهر رجب سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. واستمر ابن عبد الكافي في نظر ديوان تنكز إلى أن أمسك، ولما حضر الأمير سيف الدين بشتاك إلى دمشق أمسك عبد الكافي في جملة مباشري تنكز، وأخذ منه مبلغ خمسين ألف درهم باليد القوية، ثم إنه فيما بعد ولي استيفاء معاملة فيما أظن إلى أن توفي رحمه الله تعالى.
سليمان بن عسكر بن عساكرعلم الدين أبو الربيع المنشد الحوراني نقيب المتعممين بدمشق.
كان يحفظ أكثر ديوان الصرصري في مدائح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يحضر الأفراح والولائم، والختم والمآتم، وكل جمع يكون، وكل مكان يعلم أنه له فيه زبون، لا يكاد يفوته موضع، لا ينجو من خفه موقع، ومهما جرى في ذلك المجلس، أنشد هو من المدائح ما يوافق ذلك ويؤنس، ويحضر دروس الغزاليه، ويقوم عقيب الفراغ وينشد قصيدة حاليه، ويحج كل سنة، ويكون في الركب مؤذنا، ويقوم على كل من يموت موبنا، وينشد ما يحفظه جيداً من غير لحن ولا تحريف، ولا خروج عن قواعد التصريف، إلا أن الناس كانوا يستثقلونه، ويبخسون حظه ويهملونه.
ولما مات ما قام مقامه أحد، ولا خلفه من اعترف بفضله أو جحد.
ولم يزل على حاله إلى أن نشد فما وجد ضائعه، وكسدت بعده بضائعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر شهر رجب الفرد سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
وكان قد سمع وروى عن عمر بن القواس.
وكتبت له مرسوماً على ظاهر قصة، وقد توجه مؤذناً بالركب، ونسخة ذلك: لأنه المنشد الذي أضحت قصادئه غاية المقصود، والمطرب الذي يقال فيه: هذا سليمان: وقد أوتي مزماراً من مزامير داود، والحافظ الذي يعرب إنشاده، والفصيح الذي يعلو به النظم إن شاده. لو سمعه الصرصري لعلم أنه فيما يورده متبصر، ويحقق أن السامعين له إذا بكوا وخضعوا عرانيق ماء تحت باز مصرصر كم حرك ساكن القلوب بلفظه البديع، وأجرت عبارته العبرات من بحره السريع، وجعل المحافل رياضاً لأنه أبو الربيع، فليؤذن آذاناً إذا سمعه الركب أقام، وقالوا: هذا المؤذن الذي للناس كلهم إمام، والله يرزقنا شفاعة من يجلو علينا مدائحه، ويفيض علينا في الدنيا والآخرة منائحه، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وكان قد حضر بعض أفاضل العصر من مصر ورأى ما يفعله علم الدين المذكور من الإنشاد في المجامع، فأنكر ذلك، وأنشدني:
أهل دمشق منهم ... قد ضاع مالا يوجد
فكلّما تجمّعوا ... يقوم فيهم منشد
قلت: هذا خطأ فاحش في التصريف، فإنه يقال: نشد الضالة فهو ناشد، وأنشد قصيدة فهو منشد، وأنت هنا تريد من نشدان الضالة فهو حينئذ ناشد.
سليمان بن عمر بن سالمابن عمرو بن عثمان الشيخ الإمام قاضي القضاة جمال الدين الزرعي الشافعي، عرف بذلك لأنه حكم بزرع مدة.
سمع من ابن عبد الدايم، والكمال أحمد بن نعمة، والجمال بن الصيرفي، وجماعة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16