كتاب : مقدمة ابن خلدون
المؤلف : ابن خلدون

ثم إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات، وحصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع، فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات، لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة، فيكلفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلاح بشراء تلك البضائع، ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد، فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم، وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضاً جامدة، ويمكثون عطلاً من الإدارة التي فيها كسبهم ومعاشهم. وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب رأس ماله، فيقعد عن سوقه، ويتعدد ذلك ويتكرر، ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح، ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة، ويؤدي إلى فساد الجباية، فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار، لا سيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها، فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة، ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش.
وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجياية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل. ثم إنه ولو كان مفيداً فيذهب له بحظ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع، فإنه من البعيد أن يوجد فيه من المكس. ولو كان غيره في تلك الصفقات لكان تكسبها كلها حاصلاً من جهة الجباية. ثم فيه التعرض لأهل عمرانه، واختلال الدولة بفسادهم ونقصه، فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت بالنفقات، وكان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك.
وكان الفرس لا يملكون عليهم إلا من أهل بيت المملكة، ثم يختارونه من أهل الفضل والدين والأدب والسخاء والشجاعة والكرم، ثم يشترطون عليه مع ذلك العدل، وأن لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه، ولا يتاجر فيحب غلاء الأسعار في البضائع، وأن لا يستخدم العبيد فإنهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة.
واعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولايدر موجوده إلا الجباية وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال، والنظر لهم بذلك،، فبذلك تنبسط آمالهم، وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها، فتعظم منها جباية السلطان. وأما غير ذلك من تجارة أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة. وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان، أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم، ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاؤون، وببيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن. وهذه أشد من الأولى وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم. وربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف، أعني التجار والفلاحين لما هي صناعته التي نشأ عليها، فيحمل السلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعاً، سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم ولا مكس، فإنها أجدر بنمو الأموال، وأسرع في تثميره، ولا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته. فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض عن سعايتهم المضرة بجبايته وسلطانه، والله يلهمنا رشد أنفسنا، وينفعنا بصالح الأعمال، والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والأربعون

في أن ثروة السلطان..
وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة والسبب في ذلك أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل والعصبية بمقدار غنائهم وعصبيتهم، ولأن الحاجة إليهم في تمهيد الدولة كما قلناه من قبل. فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عما يسمون إليه من الجباية، معتاض عن ذلك بما هو يروم من الاستبداد عليهم، فله عليهم عزة وله إليهم حاجة. فلا يطير في سهمانه من الجباية إلى الأقل من حاجته. فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتاب والموالي مملقين في الغالب، وجاههم متقلص لأنه من جاه مخدومهم، ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيته.

فإذا استفحلت طبيعة الملك، وحصل لصاحب الدولة الاستبداد على قومه، قبض أيديهم عن الجبايات، إلا ما يطير لهم بين الناس في سهمانهم، وتقل حظوظهم إذ ذاك لقلة غنائهم في الدولة، بما انكبح من أعنتهم، وصار الموالي والصنائع مساهمين لهم في القيام بالدولة وتمهيد الأمر، فينفرد صاحب الدولة حينئذ بالجباية أو معظمها، ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنفقات في مهمات الأحوال، فتكثر ثروته وتمتلىء خزائنه ويتسع نطاق جاهه ويعتز على سائر قومه، فيعظم حال حاشيته وذويه، من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطي ويتسع جاههم، ويقتنون الأموال ويتأثلونها.
ثم إذا أخذت الدولة في الهرم بتلاشي العصبية وفناء القبيل الماهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار، ولكثرة الخوارج والمنازعين والثوار، وتوهم الانتقاض، فصار خراجه لظهرائه وأعوانه، وهم أرباب السيوف وأهل العصبيات، وأنفق خزائنه وحاصله في مهمات الدولة، وقلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء والإنفاق، فيقل الخراج وتشتد حاجة الدولة إلى المال، فيتقلص ظل النعمة والترف عن الخواص والحجاب والكتاب بتقلص الجاه عنهم، وضيق نطاقه على صاحب الدولة. ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة، ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة. ويرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم، فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئاً فشيئاً وواحداً بعد واحد، على نسبة رتبهم وتنكر الدولة لهم، ويعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثروة والنعمة من بطانتها، ويتقوض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه.
وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدولة العباسية في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم، في الدولة الأموية بالأندلس عند انحلالها أيام الطوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حديرة وبني برد وأمثالهم، وكذا في الدولة التي أدركناها لعهدنا. سنة الله التي قد خلت في عباده.
فصل: ولما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان، بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر، ويرون أنه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته. وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم.

واعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع. فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه، فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين، ولا أهل العصبية المزاحمون له، بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك، لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها، سيما عند استفحال الدولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتخلق بالشر. وأما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان وحاشيته وأهل الرتب في دولته، فقل أن يخلى بينه وبين ذلك أما أولاً فلما يراه الملوك أن ذويهم وحاشيتهم، بل وسائر رعاياهم مماليك لهم، مطلعون على ذات صدورهم، فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضناً بأسرارهم وأحوالهم أن يطلع عليها أحد، وغيرة من خدمته لسواهم. ولقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس، فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم، وما أبيح الجج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية ورجوعها إلى الطوائف. وأما ثانياً فلأنهم وإن سمحوا بحل ربقته هو فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال، لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم، إذ لم يكتسب إلا بها وفي ظل جاهها، فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به. ثم إذا توهمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطر آخر، وهو في النادر الأقل، فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتخويف تعريضاً أو بالقهر ظاهراً، لما يرون أنه مال الجباية والدول، وأنه مستحق للإنفاق في المصالح. وإذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة واليسار المكتسبين من وجوه المعاش، فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية والدول التي تجد السبيل إليه بالشرع والعادة. ولقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بإفريقية الخروج عن عهدة الملك واللحاق بمصر فراراً من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس، فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده، وركب السفين من هنالك، وخلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت والذخيرة، وباع كل ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجواهر، حتى الكتب، واحتمل ذلك كله إلى مصر ونزل على الملك الناصر محمد بن قلاون، سنة سبع عشرة من المائة الثامنة، فأكرم نزله ورفع مجلسه، ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئاً فشيئاً بالتعريض إلى أن حصل عليها، ولم يبق معاش ابن اللحياني إلا في جرايته التي فرضت له، إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره. فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الذي يعتري أهل الدول لما يتوقعونه من ملوكهم من المعاطب، وإنما يخلصون إن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم، وما يتوهمونة من الحاجة فغلط ووهم. والذي حصل لهم من الشهرة بخدمة الدول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السلطانية أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التجارة والفلاحة. والدول أنساب، لكن:
النفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
والله سبحانه هو الرزاق، وهو الموفق بمنه وفضله، والله أعلم.
الفصل الثاني والأربعون

في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية
والسبب في ذلك أن الدولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم، ومنه مادة العمران. فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات، أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها، قل حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية، وانقطع أيضاً ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم، وقلت نفقاتهم جملة وهم معظم السواد، ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم. فيقع الكساد حينئذ في الأسواق، وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك، لأن الخراج والجباية إنما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب الناس للفوائد والأرباح. ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج. فإن الدولة كما قلناه هي السوق الأعظم، أم الأسواق كلها، وأصلها ومادتها في الدخل والخرح، فإن كسدت وقلت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه. وأيضاً فالمال إنما هو متردد بين الرعية والسلطان منهم إليه، ومنه إليهم، فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية. سنة الله في عباده.

الفصل الثالث والأربعون
في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في الأفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن القطر، وخلت دياره، وخربت أمصارة، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان، لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة.
وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام، وما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم والغفلة عن عائدته على الدولة، بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها، فقال له: أن بوماً ذكراً يروم نكاح بوم أنثى، وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية، وهذا أسهل مرام. فتنبه الملك من غفلته وخلا بالموبذان سأله عن مراده، فقال له: أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة، والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل. والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبة الرب وجعل له قيماً، وهو الملك وأنت أيها الملك عمدت إلي الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها، وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال، وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة، فتركوا العمارة، والنظر في العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك. ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع، فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم، وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها، فقلت العمارة، وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية، وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع القواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها.
فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه، وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة وردت على أربابها، وحملوا على رسومهم السالفة، وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم، فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج، وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور، وأقبل الملأ على مباشرة أموره بنفسه، فحسنت أيامه وانتظم ملكه. فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران، وإن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض.
ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها، ولم يقع فيها خراب. واعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر. فلما كان المصر كبيراً وعمرانه كثيراً وأحواله متسعة بما لا ينحصر، كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيراً، لأن النقص إنما يقع بالتدريج. فإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين. وقد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجيء الدولة الأخرى، فترفعه بجدتها، وتجبر النقص الذي كان خفياً فيه، فلا يكاد يشعر به، إلا أن ذلك في الأقل النادر.
والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه، ووباله عائد على الدول.

ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملك أحد أو غضبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله.
واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحريمه مهماً. وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر.
ولو كان كل واحد قادراً عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع، التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا والقتل والسكر. إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه، لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان، فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه، عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه. " وما ربك بظلام للعبيد " .
ولا تقولن أن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع، وهي من ظلم القادر، لأن المحارب زمن حرابته قادر. فإن في الجواب عن ذلك طريقين. أحدهما أن تقول: العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أو مال على ما ذهب إليه كثير، وذلك إنما يكون بعد القدرة عليه والمطالبة بجنايته، وأما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة. الطريق الثاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة، فهي المؤذنة بالخراب، وأما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال، والمدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعاً وسياسة، فليست من القدر المؤذن بالخراب. والله قادر على ما يشاء.
فصل: ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق. وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق، لأن الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران.
فإذا مساعيهم وأعمالهم كلها متمولات ومكاسب لهم، بل لا مكاسب لهم سواها، فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك. فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخرياً في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة. وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملة فأدى إلى انتقاض العمران وتخريبه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الاحتكار

وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس، بشراء ما بين ايديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع. وربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التراخي والتأجيل، فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء، إلى بيعها بأبخس الأثمان، وتعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم. وقد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة والواردين من الأفاق في البضائع، وسائر السوقة، وأهل الدكاكين في المآكل والفواكه، وأهل الصنائع فيما يتخذ من الألات والمواعين، فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات، وتتوالى على الساعات، وتجحف برؤوس الأموال، ولا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح، ويتثاقل الواردون من الأفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك، فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرعايا، لأن عامته من البيع والشراء. وإذا كانت الأسواق عطلاً منها بطل معاشهم، وتنقص جباية السلطان أو تفسد، لأن معظمها من أواسط الدولة، وما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه. ويؤول ذلك إلى تلاشي الدولة وفساد عمران المدينة. ويتطرق هذا الخلل على التدريج ولا يشعر به.
هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأما أخذها مجاناً والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة، وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض.
ومن أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله وشرع المكايسة في البيع والشراء، وحظر أكل أموال الناس بالباطل سداً لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش.
واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال، فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة، فيستحدثون ألقاباً ووجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج. ثم لا يزال الترف يزيد، والخرج بسببه يكثر، والحاجة إلى أموال الناس تشتد، ونطاق الدولة بذلك يزيد، إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها. والله أعلم.
الفصل الرابع والأربعون

في الحجاب كيف يقع في الدول
وأنه يعظم عند الهرم اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه، لأنه لا بد لها من العصبية التي بها يتم أمرها ويحصل استيلاؤها، والبداوة هي شعار العصبية، والدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك، وإن كان قيامها بعز الغلب فقط، فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضاً عن منازع الملك ومذاهبه. فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الأذن.
فإذا رسخ عزه وصار إلى الانفراد بالمجد، واحتاج إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه، لما يكثر حينئذ من بحاشيته، فيطلب الانفراد عن العامة ما استطاع، ويتخذ الأذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته، ويتخذ حاجباً له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة.
ثم إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعه استحالت خلق صاحب الدولة إلى خلق الملك، وهي خلق غريبة مخصوصة، يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها. وربما جهل تلك الخلق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم، فسخطوه وصاروا إلى حالة الانتقام منه. فانفرد بمعرفة هذه الأداب الخواص من أوليائهم، وحجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت، حفظاً على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم، وعلى الناس من التعرض لعقابهم.
فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول، يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء، ويحجب دونه من سواهم من العامة. والحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء، ويحجب دونه من سواهم من العامة. والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا، كما حدث لأيام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية، وكان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جرياً على مذهب الاشتقاق الصحيح.

ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف والعز ما هو معروف، وكملت خلق الملك على ما يجب فيها، فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني، وصار اسم الحاجب أخص به، وصار بباب الخلفاء داران للعباسية: دار الخاصة، ودار العامة، كما هو مسطور في أخبارهم.
ثم حدث في الدول حجاب ثالث أخص من الأولين، وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة. وذلك أن أهل الدولة وخواص الملك إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب، وحاولوا الاستبداد عليهم، فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنه بطانة أبيه وخواص أوليائه، يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة، وفساد قانون الأدب، ليقطع بذلك لقاء الغير، ويعوده ملابسة أخلاقه هو، حتى لا يتبدل به سواه، إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه، فيكون هذا الحجاب من دواعيه. وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر. ويكون دليلاً على هرم الدولة ونفاد قوتها. وهو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم، لأن القائمين بالدولة يحاولون ذلك بطباعهم عند هرم الدولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم، لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك وخصوصاً مع الترشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه.
الفصل الخامس والأربعون

في انقسام الدولة الواحدة بدولتين
اعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها. وذلك أن الملك عندما يستفحل ويبلغ من أحوال الترف والنعيم إلى غايتها، ويستبد صاحب الدولة بالمجد وينفرد به، يأنف حينئذ عن المشاركة، ويصير إلى قطع أسبابها ما استطاع، بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشحين لمنصبه. فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم، ونزعوا إلى القاصية واجتمع إليهم من يلحق بهم، مثل حالهم من الاغترار والاسترابة. ويكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق ورجع عن القاصية، فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها. ولا يزال أمر يعظم بتراجع نطاق الدولة، حتى يقاسم الدولة أو يكاد.
وانظر ذلك في الدولة الإسلامية العربية حين كان أمرها حريزاً مجتمعاً، ونطاقها ممتداً في الاتساع، وعصبية بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر، فلم ينبض عرق من الخلاف سائر أيامه، إلا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم، لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة، ولم يتم أمرهم لمزاحمتهم العصبية القوية.
ثم لما خرج الأمر من بني أمية، واستقل بنو العباس بالأمر، وكانت الدولة العربية قد بلغت الغاية من الغلب والترف، وآذنت بالتقلص عن القاصية، نزع عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، قاصية دولة الإسلام، فاستحدث بها ملكاً واقتطعها عن دولتهم وصير الدولة دولتين. ثم نزع إدريس إلى المغرب وخرج به وقام بأمره، وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربة ومغيلة وزناتة، واستولى على ناحية المغربين. ثم ازدادت الدولة تقلصاً فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم. ثم خرج الشيعة وقام بأمرهم كتامة وصنهاجة، واستولوا على إفريقية والمغرب، ثم مصر والشام والحجاز، وغلبوا على الأدارسة، وقسموا الدولة دولتين أخريين، وصارت الدولة العربية ثلاث دول: دولة بني العباس بمركز العرب، وأصلهم ومادتهم الإسلام، ودولة بني أمية المجددين بالإندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق، ودولة العبيديين بإفريقية ومصر والشام والحجاز. ولم تزل هذه الدول إلى أن كان انقراضها متقارباً أو جميعاً.
وكذلك انقسمت دولة بني العباس بدول أخرى: وكان بالقاصية بنو سامان فيما وراء النهر وخراسان، والعلوية في الديلم وطبرستان، وآل ذلك إلى استيلاء الديلم على العراقين وعلى بغداد والخلفاء. ثم جاء السلجوقية فملكوا جميع ذلك. ثم انقسمت دولتهم أيضاً بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم.
وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب وإفريقية، لما بلغت إلى غايتها أيام باديس بن المنصور، خرح عليه عمه حماد واقتطع ممالك الغرب لنفسه، ما بين جبل أوراس إلى تلمسان وملوية، واختط القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة، ونزلها واستولى على مركزهم أشير بجبل تيطري، واستحدث ملكاً آخر قسيماً لملك آل باديس، وبقي آل باديس بالقيروان وما إليها، ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعاً.

وكذلك دولة الموحدين لما تقلص ظلها ثار بإفريقية بنو أبي حفص فاستقلوا بها، واستحدثوا ملكاً لأعقابهم بنواحيها. ثم لما استفحل أمرهم واستولى على الغاية، خرج على الممالك الغربية من أعقابهم الأمير أبو زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم، واستحدث ملكاً ببجاية وقسنطينة وما إليها، أورثه بنيه، وقسموا به الدولة قسمين، ثم استولى على كرسي الحضرة بتونس، ثم انقسم الملك ما بين أعقابهم، ثم عاد الاستيلاء فيهم.
وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاث وفي غير أعياص الملك من قومه، كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس، وملوك العجم بالمشرق، وفي ملك صنهاجة بإفريقية، فقد كان لآخر دولتهم في كل حصن من حصون إفريقية ثائر مستقل بأمره كما تقدم ذكره. وكذا حال الجريد والزاب من إفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره.
وهكذا شأن كل دولة لا بد وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالترف والدعة وتقلص ظل الغلب، فيقتسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر وتتعدد فيها الدول. والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل السادس والأربعون

في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع
قد قدمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحداً بعد واحد، وبينا أنها تحدث للدولة بالطبع، وأنها كلها أمور طبيعية لها. وإذا كان الهرم طبيعياً في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية، كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني. والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها، لما أنه طبيعي، والأمور الطبيعية لا تتبدل. وقد يتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة في السياسة، فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم، ويظن أنه ممكن الارتفاع، فيأخذ نفسه بتلافي الدولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم، ويحسبه أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم، وليس كذلك، فإنها أمور طبيعية للدولة، والعوائد هي المانعة له من تلافيها. والعوائد منزلة طبيعية أخرى، فإن من أدرك مثلاً أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والديباج ويتحلون بالذهب في السلاح والمراكب، ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات، فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزي والاختلاط بالناس، إذ العوائذ حينئذ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه. ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة، وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه.
وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها، لولا التأييد الإلهي والنصر السماوي. وربما تكون العصبية قد ذهبت فتكون الأبهة تعوض عن موقعها من النفوس. فإذا أزيلت تلك الأبهة مع ضعف العصبية تجاسرت الرعايا على الدولة بذهاب أوهام الأبهة فتتدرع الدولة بتلك الأبهة ما أمكنها حتى ينقضي الأمر.
وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها الماضة الخمود، كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال، وهي انطفاء. فاعتبر ذلك، ولا تغفل سر الله تعالى وحكمته في اطراد وجوده على ما قدر فيه. " ولكل أجل كتاب " .
الفصل السابع والأربعون
في كيفية طروق الخلل للدولة
اعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما. فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند، والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. والخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين. فلنذكر أولاً طروق الخلل في الشوكة والعصبية، ثم نرجع إلى طروقه في المال والجباية.

واعلم أن تمهيد الدولة وتأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبية، وأنه لا بد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها، وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة وقبيلة. فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف وجدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته ذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك، فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم. ويأخذهم الترف أيضاً أكثر من سواهم لمكانهم من الملك والعز والغلب، فيحيط بهم هدمان وهما الترف والقهر. ثم يصير القهر آخراً إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر، فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعودوا الكثير منه، فيهلكون ويقفون وتفسد عصبية صاحب الدولة منهم، وهي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها، فتنحل عروتها وتضعف شكيمتها، وتستبدل عنها بالبطالة من موالي النعمة وصنائع الإحسان ويتخذ منهم عصبية، إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية، لفقدان الرحم والقرابة منها. وقد كنا قدمنا أن شأن العصبية وقوتها إنما هي بالقرابة والرحم، لما جعل الله في ذلك. فينفرد صاحب الدولة عن العشير والأنصار الطبيعية، ويحس بذلك أهل العصائب الأخرى، فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسراً طبيعياً فيهلكهم صاحب الدولة، ويتبعهم بالقتل واحداً بعد واحد. ويقفد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول، مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا. فيستولي عليهم الهلاك بالترف والقتل، حتى يخرجوا عن صبغة تلك العصبية وينسوا نعرتها وسورتها ويصيروا أجراء على الحماية، ويقلون لذلك، فتقل الحامية التي تنزل بالأطراف والثغور، فيتجاسر الرعايا على نقض الدعوة في الأطراف، ويبادر الخوارج على الدولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف، لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية إليهم. ولا يزال يتدرج ونطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة. وربما انقسمت الدولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث، على قدر قوتها في الأصل كما قلناه، ويقوم بأمرها غير أهل عصبيتها، لكن إذعاناً لأهل عصبيتها ولغلبهم المعهود.
واعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام، انتهت أولاً إلى الأندلس والهند والصين.
وكان أمر بني أمية نافذاً في جميع العرب بعصبية بني عبد مناف، حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك من دمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يرد أمره. ثم تلاشت عصبية بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا.
وجاء بنو العباس فغضوا من أعنة بني هاشم وقتلوا الطالبيين وشردوهم، فانحلت عصبية عبد مناف وتلاشت، وتجاسر العرب عليهم، فاستبد عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بإفريقية وأهل الأندلس وغيرهم، وانقسمت الدولة. ثم خرج بنو إدريس بالمغرب، وقام البربر بأمرهم إذعاناً للعصبية التي لهم، وأمناً أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدولة.
فإذا خرج الدعاة آخراً فيتغلبون على الأطراف والقاصية، وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدولة. وربما يزيد ذلك متى زادت الدولة تقلصاً، إلى أن ينتهي إلى المركز، وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف، فتهلك وتضمحل، وتضعف الدولة المنقسمة كلها.

وربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فيستغني بذلك عن قوة العصائب، ويكفي صاحبها، بما حصل لها في تمهيد أمرها الأجراء على الحامية من جندي ومرتزق. ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم فلا يكاد أحد أن يتصور عصياناً أو خروجاً إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له، فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده. وربما كانت الدولة في هذا الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التسليم والانقياد لهم. فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة، فيكون أسلم من الهرج والانتقاض الذي يحدث من العصائب والعشائر. ثم لا يزال أمر الدولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها، شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء، إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور. ولكل أجل كتاب، ولكل دولة أمد. " والله يقدر الليل والنهار " ، وهو الواحد القهار.
وأما الخلل الذي يتطرق من جهة المال، فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر، فيكون خلق الرفق بالرعايا والقصد في النفقات، والتعفف عن الأموال، فتتجافى عن الإمعان في الجباية، والتحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمال، ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة، فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال. ثم يحصل الاستيلاء ويعظم، ويستفحل الملك، فيدعو إلى الترف، ويكثر الأنفاق بسببه، فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم، بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر، ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة. ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات، وينتشر ذلك في الرعية، لأن الناس على دين ملوكها وعوائدها. ويحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه، ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده. ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس، وتكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرعايا، فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا، من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال، بشبهة أو بغير شبهة. ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسرعلى الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم، وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم، ولا تجد عن ذلك وليجة. ويكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم، وبما اتسع لذلك من جاههم، فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية، وتفشو السعاية فيهم بعضهم عن بعض للمنافسة والحقد، فتعمهم النكبات والمصادرات واحداً واحداً إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم، ويفقد ما كان للدولة من االأبهة والجمال بهم. فإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم. ويكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة، وضعفت عن الاستطالة والقهر، فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال، ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه. فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند، ولا يغني فيما يريد. ويعظم الهرم بالدولة ويتجاسر عليها أهل النواحي، والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه، إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعرض لاستيلاء الطلاب. فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها، وإلا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفىء. والله مالك الأمور ومدبر الأكوان، لا إله إلا هو.
فصل في اتساع نطاق الدولةأولاً إلى نهايته ثم تضايقه طوراً بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها

قد كان تقدم لنا في فصل الخلافة والملك، وهو الثالث من هذه المقدمة، أن كل دولة لها حصة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها. واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على حماية أقطارها وجهاتها. فحيث نفد عددهم فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر، ويحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق. وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى. وقد يكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها. وهذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة الباس. فإذا استفحل العز والغلب وتوفرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات، وزخر بحر الترف والحضارة ونشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية ورقت حواشيهم. وعاد من ذلك إلى نفوسهم هيئات الجبن والكسل، بما يعانونه من خنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجولية، بمفارقة البداوة وخشونتها، وبأخذهم العز بالتطاول إلى الرياسة والتنازع عليها، فيفضي إلى قتل بعضهم بيعض، ويكبحهم السلطان عن ذلك بما يؤدي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم، فتفقد الأمراء والكبراء، ويكثر التابع والمرؤوس، فيفل ذلك من حد الدولة، لكسر من شوكتها. ويقع الخلل الأول في الدولة، وهو الذي من جهة الجند والحامية كما تقدم. ويساوق ذلك السرف في النفقات بما يعتريهم من أبهة العز، وتجاوز الحدود بالبذخ، بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السلاح وارتباط خيول، فيقصر دخل الدولة حينئذ عن خرجها ويطرق الخلل الثاني في الدولة وهو الذي من جهة المال والجباية. ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين. وربما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم. وربما اعتز أهل الثغور والأطراف بما يحسون من ضعف الدولة وراءهم، فيصيرون إلى الاستقلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات، ويعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة، فيضيق نطاق الدولة عما كانت انتهت إليه في أولها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه من العجز والكسل في العصابة وقلة الأموال والجباية. فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قبل الجند والمال والولايات، ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق، ومقايسة ذلك بأول الدولة في سائر الأحوال. والمفاسد مع ذلك متوقعة من كل جهة. فيحدث في هذا الطور من بعد ما حدث في الأول من قبل. ويعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول، ويقايس بالوزان الأول أحوالها الثانية، يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدد في كل طور ويأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك، ويقع فيه ما وقع في الأول. فكل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى، ومجددون ملكاً. حتى تنقرض الدولة، وتتطاول الأمم حولها إلى التغلب عليها وإنشاء دولة أخرى لهم، فيقع من ذلك ما قدر الله وقوعه.

واعتبر ذلك في الدولة الإسلامية كيف اتسع نطاقها بالفتوحات والتغلب على الأمم، ثم تزايد الحامية وتكاثر عددهم بما تخولوه من النعم والأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أمية وغلب بنو العباس. ثم تزايد الترف، ونشأت الحضارة، وطرق الخلل، فضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدولة الأموية المروانية والعلوية، واقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها، إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد، وظهر دعاة العلوية من كل جانب، وتمهدت لهم دول، ثم قتل المتوكل، واستبد الأمراء على الخلفاء وحجروهم، واستقل الولاة بالعمالات في الأطراف. وانقطع الخراج منها، وتزايد الترف. وجاء المعتضد فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه، مثل بني سامان وراء النهر وبني طاهر العراق وخراسان، وبني الصفار السند وفارس، وبني طولون مصر، وبنى الأغلب إفريقية، إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم، واستبد بنو بويه والديلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة، وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر، وتطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه. ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم، إلى أن تلاشت دولهم. واستبد الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين. وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولى بن دوشي خان ملك التتر والمغل حين غلبوا السلجوقية وملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام. وهكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول. ولا يزال طوراً بعد طور إلى أن تنقرض الدولة. واعتبر ذلك في كل دولة عظمت أو صغرت. فهكذا سنة الله في الدول إلى أن يأتي ما قدرالله من الفناء على خلقه. و " كل شي هالك إلا وجهه " .
الفصل الثامن والأربعون

في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع
اعلم أن نشأة الدول وبدايتها إذا أخذت الدولة المستقرة في الهرم والانتقاص يكون على نوعين: إما بأن يستبد ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلص ظلها عنهم، فتكون لكل واحد منهم دولة يستجدها لقومه وما يستقر في نصابه، يرثه عنه أبناؤه أو مواليه، ويستفحل لهم الملك بالتدريج، وربما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه، ويتنازعون في الاستئثار به، ويغلب منهم من يكون له فضل قوة على صاحبه، وينتزع ما في يده، كما وقع في دولة بني العباس حين أخذت دولتهم في الهرم، وتقلص ظلها عن القاصية، واستبد بنو سامان بما وراء النهر، وبنو حمدان بالموصل والشام، وبنو طولون بمصر، وكما وقع بالدولة الأموية بالأندلس وافترق ملكها في الطوائف الذين كانوا ولاتها في الأعمال، وانقسمت دولاً وملوكاً أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم. وهذا النوع لا يكون بينهم وبين الدولة المستقرة حرب لأنهم مستقرون في رئاستهم، ولا يطمعون في الاستيلاء على الدولة المستقرة بحرب، وإنما الدولة أدركها الهرم وتقلص ظلها عن القاصية، وعجزت عن الوصول إليها.
والنوع الثاني بأن يخرج على الدولة خارج ممن يجاوزها من الأمم والقبائل إما بدعوة يحمل الناس عليها كما أشرنا إليه، أو يكون صاحب شوكة وعصبية كبيراً في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك، وقد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزازعلى الدولة المستقرة، وما نزل بها من الهرم فيتعين له ولقومه الاستيلاء عليها، ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها ويزنون أمرها كما يتبين. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل التاسع والأربعون
في أن الدولة المستجدة..
إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة

قد ذكرنا أن الدول الحادثة المتجددة نوعان: نوع من ولاية الأطراف إذا تقلص ظل الدولة عنهم وانحسر تيارها، وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة الدولة في الأكثر كما قدمناه، لأن قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوتهم، والنوع الثاني نوع الدعاة والخوارج على الدولة، وهؤلاء لا بد لهم من المطالبة، لأن قوتهم وافية بها، فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك وواف به، فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال تتكرر وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب. ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة. والسبب في ذلك أن الظفر في الحروب إنما يقع كما قدمناه بأمور نفسانية وهمية، وإن كان العدد والسلاح وصدق القتال كفيلاً به لكنه قاصر مع تلك الأمور الوهمية كما مر، ولذلك كان الخداع من أنفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظفر به، وفي الحديث: " الحرب خدعة " .
والدولة المستقرة قد صيرت العوائد المألوفة طاعتها ضرورية واجبة كما تقدم في غير موضع، فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة المستجدة ويكسر من همم أتباعه وأهل شوكته، وإن كان الأقربون من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته، إلا أن الأخرين أكثر، وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التسليم للدولة المستقرة، فيحصل بعض الفتور منهم، ولا يكاد صاحب الدولة المستجدة يقاوم صاحب الدولة المستقرة. فيرجع إلى الصبر والمطاولة، حتى يتضح هرم الدولة المستقرة، فتضمحل عقائد التسليم لها من قومه، وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه، فيقع الظفر والاستيلاء.
وأيضاً فالدولة المستقرة كثيرة الرزق بما استحكم لهم من الملك وتوسع من النعيم واللذات، واختصوا به دون غيرهم من أموال الجباية، فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الأسلحة، وتعظم فيهم الأبهة الملكية، ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختياراً واضطراراً فيرهبون بذلك كله عدوهم. وأهل الدولة المستجدة بمعزل عن ذلك، لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرعب، بما ببلغهم من أحوال الدولة المستقرة، ويحجمون عن قتالهم من أجل ذلك، فيصير أمرهم إلى المطاولة، حتى تأخذ المستقرة مأخذها من الهرم، ويستحكم الخلل فيها في العصبية والجباية، فينتهز حينئذ صاحب الدولة المستجدة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة. سنة الله في عباده.
وأيضاً فأهل الدولة المستجدة كلهم مباينون للدولة المستقرة بأنسابهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم، ثم هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليها، فتتمكن المباعدة بين أهل الدولتين سراً وجهراً، ولا يصل إلى أهل الدولة المستجدة خبر عن أهل الدولة المستقرة، يصيبون منه غرة باطناً وظاهراً، لانقطاع المداخلة بين الدولتين، فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام، وينكلون عن المناجزة حتى يأذن الله بزوال الدولة المستقرة وفناء عمرها، ووفور الخلل في جميع جهاتها، ويتضح، لأهل الدولة المستجدة مع الأيام ما كان يخفى منها، من هرمها وتلاشيها، وقد عظمت قوتهم بما اقتطعوه من أعمالها ونقصوه من أطرافها، فتنبعث هممهم يداً واحدة للمناجزة، ويذهب ما كان يفت في عزائمهم من التوهمات، وتنتهي المطاولة إلى حدها، ويقع الاستيلاء آخراً بالمعاجلة.
واعتبر ذلك في دولة بني العباس حين ظهورها، حين قام الشيعة بخراسان بعد انعقاد الدعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد. وحينئذ تم لهم الظفر واستولوا على الدولة الأموية.
وكذا العلوية بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الديلم، كيف كانت مطاولتهم حتى استولوا على تلك الناحية. ثم لما انقضى أمر العلوية وسما الديلم إلى ملك فارس والعراقين، فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتى اقتطعوا أصبهان، ثم استولوا على الخليفة ببغداد.

وكذا العبيديون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشيعي ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين، ويزيد يطاول بني الأغلب بإفريقية حتى ظفر بهم، واستولوا على المغرب كله، وسموا إلى ملك مصر، فمكثوا ثلاثين سنة أو نحوها في طلبها يجهزون إليها العساكر والأساطيل في كل وقت، وبجيء المدد لمدافعتهم براً وبحراً من بغداد والشام، وملكوا الإسكندرية والفيوم والصعيد، وتخطت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين. ثم نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها، واقتلع دولة بني طغج من أصولها، واختط القاهرة، فجاء الخليفة بعد، المعز لدين الله، فنزلها لستين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندرية.
وكذا السلجوقية ملوك الترك لما استولوا على بني سامان، وأجازوا من وراء النهر مكثوا نحواً من ثلاثين سنة، يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتى استولوا على دولته. تم زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيام من الدهر.
وكذا التتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبع عشرة وستمائة فلم يتم لهم الاستيلاء إلا بعد أربعين سنة.
وكذا أهل المغرب، خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة، فطاولوهم سنين، ثم استولوا عليه. ثم خرج الموحدون بدعوتهم على لمتونة، فمكثوا نحواً من ثلاثين سنة يحاربونهم، حتى استولوا على كرسيهم بمراكش.
وكذا بنو مرين من زناتة خرجوا على الموحدين فمكثوا يطاولونهم نحواً من ثلاثين سنة، واستولوا على فاس واقتطعوها وأعمالها من ملكهم. ثم أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى، حتى استولوا على كرسيهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كله في تواريخ هذه الدول. فهكذا حال الدول المستجدة مع المستقرة في المطالبة والمطاولة. سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية وكيف كان استيلاؤهم على فارس والروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أن ذلك إنما كان معجزة من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم استبصاراً بالإيمان، وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرعب والتخاذل. فكان ذلك كله خارقاً للعادة المقررة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة. وإذا كان ذلك خارقاً فهو من معجزات نبينا صلوات الله عليه، المتعارف ظهورها في الملة الإسلامية. والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العادية، ولا يعترض بها. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل الخمسون

في وفور العمران آخر الدولة
وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات اعلم أنه قد تقرر لك فيما سلف أن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في ملكتها والاعتدال في إيالتها، إما من الدين إن كانت الدعوة دينية أو من المكارمة والمحاسنة التي تقتضيها البداوة الطبيعية للدول. وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرعايا، وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفر، ويكثر التناسل. وإذا كان ذلك كله بالتدريج فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقل. وفي انقضاء الجيلين تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي، فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنماء. ولا تقولن إنه قد مر لك أن أواخر الدولة يكون فيها الإجحاف بالرعايا، وسوء الملكة، فذلك صحيح، ولا يعارض ما قلناه، لأن الإجحاف وإن حدث حينئذ، وقلت الجبايات فإنما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين، من أجل التدريج في الأمور الطبيعية. ثم إن المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدول. والسبب فيه: أما المجاعات فلقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر، بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات، أو الفتن الواقعة في انتقاص الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة، فيقل احتكار الزرع غالباً، وليس صلاح الزرع وثمرته بمستمر الوجود، ولا على وتيرة واحدة، فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلتها مختلفة، والمطر يقوى ويضغف ويقل ويكثر، والزرع والثمار والضرع على نسبته، إلا أن الناس واثقون في أقواتهم بالاحتكار. فإذا فقد الاحتكار عظم توقع الناس للمجاعات فغلا الزرع، وعجز عنه أولو الخصاصة فهلكوا، وكان بعض السنوات، والاحتكار مفقود، فشمل الناس الجوع.

وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه، أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج والقتل، أو وقوع الوباء. وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة. وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني وملابسه دائماً فيسري الفساد إلى مزاجه. فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرئة. وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة. وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف، فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك. وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفوره آخر الدولة، لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلة المغرم، وهو ظاهر. ولهذا تبين في موضعه من الحكمة أن تخلل الخلاء والقفر بين العمران ضروري، ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات، ويأتي بالهواء الصحيح. ولهذا أيضاً فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير، كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب. والله يقدر ما يشاء.
الفصل الحادي والخمسون

في أن العمران البشري.. .
لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري، وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه، وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه، وحكمه فيهم: تارة يكون مستنداً إلى شرع منزلي من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه، وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة، ولمراعاته نجاة العباد في الأخرة، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط.
وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب، وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأساً. ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة " ، والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة، فإن هذه غير تلك. وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع، وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير.
ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين: أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم، ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص. وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة. وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملة ولعهد الخلافة، لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب، وأحكام الملك مندرجة فيها. الوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة، وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً. وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر، إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم، فقوانينها إذاً مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية، والاقتداء فيها بالشرع أولاً، ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم.
ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما. فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه، ووصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الأداب الدينية والخلقية، والسياسة الشرعية والملوكية، وحثه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم بما لا يستغني عنه ملك، ولا سوقة. ونص الكتاب:
نص كتاب طاهر بن الحسينلابنه عبد الله بسم الله الرحمن الرحيم

" أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته، ومراقبته عز وجل، ومزايلة سخطه. واحفظ رعيتك في الليل والنهار. والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسوؤل عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه. فإن الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل فيهم، والقيام بحقه وحدوده عليهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم ومنصبهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسربهم، وإدخال الراحة عليهم. ومؤاخذك بما فرض عليك، وموقفك عليه، وسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت. ففرغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك، ولا يشغلك عنه شاغل، وإنه رأس أمرك وملاك شأنك، وأول ما يوقفك الله عليه. وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه فعلك، المواظبة على ما فرض الله عزوجل عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك، وتوقعها على سننها، من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزوجل فيها، ورتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصرف فيه رايك ونيتك، واحضض عليه جماعة ممن معك وتحت يدك، وادأب عليها، فإنها كما قال الله عز وجل: " تنهى عن الفحشاء والمنكر " .
ثم اتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمثابرة على خلائقه، واقتفاء أثر السلف الصالح من بعده. وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عز وجل وتقواه، وبلزوم ما أنزل الله عز وجل في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الأثارعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قم فيه بالحق لله عزوجل. ولا تميلن عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو لبعيد.
وآثر الفقه وأهله والدين وحملته، وكتاب الله عز وجل والعاملين به، فإن أفضل ما يتزين به المرء الفقه في الدين، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل فإنه الدليل على الخير كله والقائد إليه والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها. ومع توفيق الله عز وجل يزداد المرء معرفة وإجلالاً له، ودركاً للدرجات العلى في المعاد، مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك، والثقة بعدلك.
وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبين نفعاً، ولا أخص أمناً، ولا أجمع فضلاً منه. والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق قائد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها.
ولا تقصر في طلب الأخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد والإعانة، والاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته، ومرافقة أولياء الله في دار كرامته. واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويمخص من الذنوب، وأنك لن تحوط نفسك من قائل، ولا تنصلح أمورك بأفضل منه، فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامتك وخاصتك. وأحسن ظنك بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك.
ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره، فإن إيقاع التهم بالبرآء، والظنون السيئة بهم، آثم إثم. فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم، وارفضه فيهم، يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم. ولا تتخذن عدو الله الشيطان في أمرك معمداً، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم بسوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها. ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك، والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك. والمباشرة، لأمور الأولياء وحياطة الرعية والنظر في حوائجهم، وحمل مؤوناتهم، أيسر عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة.
واخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن، ومؤاخذ بما أساء. فإن الله عز وجل جعل الدين حرزاً وعزاً، ورفع من اتبعه وعززه.

واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقه الأهدى. وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه، ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك. واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك، وتتم لك مروءتك.
وإذا عاهدت عهداً فأوف به، وإذا وعدت الخير فأنجزه. واقبل الحسنة وادفع بها. واغمض عن عيب كل في عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وابغض أهل النميمة، فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها، تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب، لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر. وأحبب أهل الصلاح والصدق، وأعز الأشراف بالحق، وأعن الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الأخرة. واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك. وأنعم بالعدل سياستهم وقم بالحق فيهم، وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. واملك نفسك عند الغضب، وآثر الحلم والوقار، وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله.
وإياك أن تقول أنا مسلط أفعل ما أشاء، فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين لله عز وجل. وأخلص لله وحده النية فيه واليقين به. واعلم أن الملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء. ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى جهلة النعمة من أصحاب السلطان، والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه، واستطالوا بما أعطاهم الله عز وجل من فضله.
ودع عنك شره نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى، واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم والتفقد، لأمورهم والحفظ لحمائهم، والإغاثة لملهوفهم.
واعلم أن الأموال إذا اكتنزت واذخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف الأذية عنهم، نمت وزكت، وصلحت بها العامة، وترتبت بها الولاية، وطاب بها الزمان واعتقد فيها العز والمنفعة. فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله. ووفر منه على أولياء أمير المومنين قبلك حقوقهم، وأوف من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة لك، واستوجبت المزيد من الله تعالى، وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك. وطب نفساً بكل ما أردت، وأجهد نفسك فيما حمدت لك في هذا الباب، وليعظم حقك فيه، وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله وفي سبيل حقه. وأعرف للشاكرين حقهم، وأثبهم عليه، وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون يورث التفريط، والتفريط يورث البوار. وليكن عملك لله عز وجل وفيه، وارج الثواب منه، فإن الله سبحانه قد أسبغ فضله. واعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد، يزدك الله خيراً وإحساناً، فإن الله عز وجل يثيب بقدر شكر الشاكرين وإحسان المحسنين.
ولا تحقرن ذنباً، ولا تمالئن حاسداً، ولا ترحمن فاجراً، ولا تصلن كفوراً، ولا تداهنن عدواً، ولا تصدقن نماماً ولا تأمنن غداراً، ولا توالين فاسقاً، ولا تتبعن غاوياً، ولا تحمدن مرائياً، ولا تحقرن إنساناً، ولا تردن سائلاً فقيراً ولا تحسنن باطلاً، ولا تلاحظن مضحكاً، ولا تخلفني وعداً، ولا تزهون فخراً، ولا تظهرن غضباً، ولا تباينن رجاء، ولا تمشين مرحاً، ولا تزكين سفيهاً، ولا تفرطن في طلب الأخرة، ولا ترفعن للنمام عيناً، ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباة، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا.
وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة. ولا تدخلن في مشورتك أهل الرفه والبخل، ولا تسمعن لهم قولاً، فإن ضررهم أكثر من نفعهم.

وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح. واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم أمرك إلا قليلاً، فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عليهم. ووال من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم. واجتنب الشح، واعلم أنه أول ما عصى الأنسان به ربه، وأن العاصي بمنزلة الخزي، وهو قول الله عز وجل: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " . فسهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم في فيئك حظاً ونصيباً، وايقن أن الجود أفضل أعمال العباد، فأعده لنفسك خلقاً و أرض به عملاً ومذهباً. وتفقد الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، يذهب الله عز وجل بذلك فاقتهم، فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم فى طاعتك وأمرك خلوصاً وانشراحاً. وحسب في السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته ذا رحمة في عدله وعطيته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته. فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضل الباب الأخر، ولزوم العمل به تلق أن شاء الله تعالى به نجاحاً وصلاحاً وفلاحاً.
واعلم أن القضاء من الله تعالى بالمكان الذي ليس فوقه شيء من الأمور، لأنه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض. وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية وتؤمن السبل، وينتصف المظلوم، وتأخذ الناس حقوق وتحسن المعيشة، ويودى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقيم الدين. ويجري السنن والشرائع في مجاريها. واشتد في أمر الله عز وجل. وتورع عن النطف، وامض لإقامة الحدود. وأقلل العجلة، وابعد عن الضجر والقلق، واقنع بالقسم، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صحتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم، وقف عند الشبهة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم، وتثبت وتأن وراقب وانظر وتفكر وتدبر واعتبر، وتواضع لربك، وارفق بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم، فإن الدماء من الله عزوجل بمكان عظيم، فلا تبغ انتهاكاً لها بغير حقها.
وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزاً ورفعة، ولأهله توسعة ومنعةً، ولعدوه كبتاً وغيظاً، ولأهل الكفر من معاديهم ذلاً وصغاراً، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم، ولا تدفعن شيئاً منه عن شريف لشرفه، ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا عن أحد من خاصتك ولا حاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الأحتمال له. ولا تكلف أمراً فيه شطط. واحمل الناس كلهم على أمر الحق، فإن ذلك اجمع لإلفتهم وألزم لرضاء العامة.
واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً، وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم، وقيمهم. فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم. واستعمل عليهم أولي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعلم والعدل بالسياسة والعفاف. ووسع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف. فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك واستجررت به المحبة من رعيتك وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، وكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتياض جندك، وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة. فتنافس فيها ولا تقدم عليها شيئاً، تحمد عاقبة أمرك. أن شاء الله تعالى. واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك خبر عمالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله معايناً، لأموره كلها. وإذا أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فأمضه، وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به، ثم خذ فيه عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمره وقد أتاه على ما يهوى، فأغواه ذلك وأعجبه، فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره. فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة. وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك.

وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، فإذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيشغلك ذلك حتى تمرض منه. وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت بدنك ونفسك، وجمعت أمر سلطانك.
وانظر أحرار الناس وذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم، وشهدت مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم. وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مؤونتهم، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم منافراً وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على ربع مظلمته إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فسل عنه أحفى مسألة، وكل بأمثاله أهل الصلاح في رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وخلالهم إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم. وتعاهد ذوي البأساء ويتماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله تعالى في العطف عليهم والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة. وأجر للأضراء من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم، والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم. وانصب لمرضى المسلمين دوراً تأويهم وقواماً يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يود ذلك إلى سرف في بيت المال.
واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعاً في نيل الزيادة وفضل الرفق بهم. وربما تبرم المتصفح، لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل ذكره وفكره منها ما يناله به من مؤونة ومشقة. وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الأجل كالذي يستقل ما يقربه من الله تعالى، وتلتمس به رحمته.
وأكثر الإذن للناس عليك وأرهم وجهك، وسكن لهم حواسك واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك. وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى.
واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة.
ثم اعتصم في أحوالك كلها بالله سبحانه وتعالى، والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته، وبإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عز وجل.
واعرف ما يجمع عمالك من الأموال، وما ينفقون منها. ولا تجمع حراماً، ولا تنفق إسرافاً.
وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها. وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر، وإعلامك بما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.

وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمور الدولة ورعيتك. ثم فرغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر فيه والتدبر له، فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه، واستخر الله عز وجل فيه، وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه، والتثبت منه. ولا تمنن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم. ولا تقبل من أحد إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور المسلمين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك. وتفهم كتابي إليك وأمعن النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله عز وجل مع الصلاح وأهله. وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله عز وجل رضاً، ولدينه نظاماً، ولأهله عزاً وتمكيناً وللملة والذمة عدلاً وصلاحاً. وأنا أسأل الله عز وجل أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسلام. وحدث الإخباريون أن هذا الكتاب لما ظهر وشاع أمره أعجب به الناس، واتصل بالمأمون فلما قرىء عليه، قال: ما أبقى أبو الطيب، يعني طاهراً، شيئاً من أمور الدنيا والدين، والتدبير والرأي والسياسة، وصلاح الملك والرعية، وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة، إلا وقد أحكمه وأوصى به. ثم أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ليقتدوا به، ويعملوا بما فيه. هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السياسة. والله أعلم.
الفصل الثاني والخمسون

في أمر الفاطمي
وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار، أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح، عل أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته.
ويحتجون في هذا الشأن بأحاديث خرجها الأئمة وتكلم فيها المنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الأخبار. وللمتصوفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقة أخرى، ونوع من الاستدلال، وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم. ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن وما للمنكرين فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند، ثم نتبعه بذكر كلام المتصوفة ورأيهم، ليتبين لك الصحيح من ذلك إن شاء الله تعالى. فنقول: إن جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي، منهم الترمذي وأبو داود والبزاز وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة: مثل علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس، وعلي الهلالي وعبد الله بن الحارث بن جزء، بأسانيد ربما يعرض لها المنكرون كما نذكره. إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل. فإذا وجدنا طعناً في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي، تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها. ولا تقولن: مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين، فإن الاجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول، والعمل بما فيهما، وفي الاجماع أعظم حماية وأحسن دفع. وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك، فقد نجد مجالاً للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمة الحديث في ذلك.
ولقد توغل أبو بكر بن أبي خيثمة، على ما نقل السهيلي عنه، في جمعه للأحاديث الواردة في المهدي فقال: ومن أغربها إسناداً ما ذكره أبو بكر الإسكاف، في فوائد الأخبار، مسنداً إلى مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب بالمهدي فقد كفر ومن كذب بالدجال فقد كذب " . وقال في طلوع الشمس من مغربها مثل ذلك، فيما أحسب. وحسبك هذا غلواً. والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس. على أن أبا بكر الإسكاف عندهم متهم وضاع.
وأما الترمذي فخرج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عباس، من طريق عاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة إلى زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم:

" لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم، حتى يبعث الله فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي " . هذا لفظ أبي داود وسكت عليه. وقال في رسالته المشهورة: إن ما سكت عليه في كتابه فهو صالح. ولفظ الترمذي: " لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي " ، وفي لفظ آخر: " حتى يلي رجل من أهل بيتي وكلاهما حديث حسن صحيح. ورواه أيضاً من طريق موقوفاً على أبي هريرة. وقال الحاكم: رواه الثورى وشعبة وزائدة، وغيرهم من أئمة المسلمين عن عاصم، قال: وطرق عاصم عن زرعن عبد الله كلها صحيحة، على ما أصلته من الاحتجاج بأخبار عاصم، إذ هو إمام من أئمة المسلمين. انتهى.
إلأ أن عاصماً قال فيه أحمد بن حنبل: كان رجلاً صالحاً، قارئاً للقرآن خيراً ثقة، والأعمش أحفظ منه. وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث. وقال العجلي: كان يختلف عليه في زر وأبي وائل، يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما. وقال محمد بن سعد: كان ثقة، إلا أنه كثير الخطإ في حديثه. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قلت لأبي أن أبا زرعة يقول: عاصم ثقة، فقال: ليس محله هذا. وقد تكلم فيه ابن علية فقال: كل من اسمه عاصم سيىء الحفظ. وقال أبو حاتم: محله عندي محل الصدق صالح الحديث، ولم يكن بذلك الحافظ. واختلف فيه قول النسائي. وقال ابن حراش: في حديثه نكرة. وقال أبو جعفر العقيلي: لم يكن فيه إلا سوء الحفظ، وقال الدار قطني: في حفظه شيء. وقال يحيى القطان: ما وجدت رجلاً اسمه عاصم إلا وجدته رديء الحفظ. وقال أيضاً سمعت شعبة يقول: حدثنا عاصم بن أبي النجود وفي الناس ما فيها، وقال الذهبي: ثبت في القراءة، وهو في الحديث دون التثبت، صدوق فهم، وهو حسن الحديث.
وإن احتج أحد بأن الشيخين أخرجا له، فنقول أخرجا له مقروناً بغيره لا أصلاً. والله أعلم.
وخرج أبو داود في الباب عن علي رضي الله عنه، من رواية فطر بن خليفة عن القاسم بن أبي مرة عن أبي الطفيل عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً " . وفطر بن خليفة وإن وثقه احمد ويحيى بن القطان وابن معين والنسائي وغيرهم، إلا أن العجلي قال: حسن الحديث وفيه تشيع قليل. وقال ابن معين مرة: ثقة شيعي. وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: كنا نمر على فطر وهو مطروح لا نكتب عنه. وقال مرة: كنت أمر به وأدعه مثل الكلب. وقال الدار قطني: لا يحتج به. وقال أبو بكر بن عياش: ما تركت الرواية عنه إلا لسوء مذهبه. وقال الجرجاني: زائغ غير ثقة. انتهى.
وخرج أبو داود أيضاً بسنده إلى علي رضي الله عنه عن هارون بن المغيرة، عن عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن أبي خالد، عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال علي ونظر إلى ابنه الحسين: " إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق، يملأ الأرض عدلاً " . وقال هارون: حدثنا عمر بن أبي قيس عن مطرف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمر، سمعت علياً يقول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث على مقدمته رجل يقال له منصور يوطىء أو يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب على كل مؤمن نصره أو قال إجابته " سكت أبو داود عليه. وقال في موضع آخر في هارون: هو من ولد الشيعة. وقال السليماني: فيه نظر. وقال أبو داود في عمر بن أبي قيس: لا بأس به، في حديثه خطأ. وقال الذهبي: صدق له أوهام. وأما أبو إسحاق السبيعي وإن خرج عنه في الصحيحين فقد ثبت أنه اختلط آخر عمره، وروايته عن علي منقطعة، وكذلك رواية أبي داود عن هارون بن المغيرة. وأما السند الثاني فأبو الحسن فيه وهلال بن عمر مجهولان ولم يعرف أبو الحسن إلا من رواية مطرف بن طريف عنه. انتهى.
وخرج أبو داود أيضاً عن أم سلمة وكذا ابن ماجة والحاكم في المستدرك، من طريق علي بن نفيل، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة قالت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المهدي من ولد فاطمة " . ولفظ الحاكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر المهدي فقال: " نعم هو حق وهو من بني فاطمة " .

ولم يتكلم عليه بصحيح ولا غيره، وقد ضعفه أبو جعفرالعقيلي وقال: " لا يتابع علي بن نفيل عليه، ولايعرف إلا به " .
وخرج أبوداود أيضاً عن أم سلمة من رواية صالح بن الخليل عن صاحب له عن أم سلمة قال: " يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام، فيبعث إليه بعث من الشام، فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام، وعصائب أهل العراق فيبايعونه. ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثاً فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب. والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب، فيقسم المال، ويعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويلقي الإسلام بجرانه على الأرض، فيلبث سبع سنين " . وقال بعضهم تسع سنين. ثم رواه أبو داود من رواية أبي خليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة، فتبين بذلك المبهم في الإسناد الأول. ورجاله رجال الصحيحين لا مطعن فيهم ولا مغمز.
وقد يقال: إنه من رواية قتادة، عن أبي الخليل، وقتادة مدلس وقد عنعنه، والمدلس لا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع. مع أن الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي، نعم ذكره أبو داود في أبوابه.
وخرج أبو داود أيضاً وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق عمران القطان عن قتادة عن أبي بصرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يملك سبع سنين " . هذا لفظ أبي داود وسكت عليه. ولفظ الحاكم: " المهدي منا، أهل البيت، أشم الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً، يعيش هكذا، وبسط يساره وإصبعين من يمينه السبابة والإبهام وعقد ثلاثة " قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وعمران القطان مختلف في الاحتجاج به، إنما أخرج له البخاري استشهاداً لا أصلاً. وكان يحيى القطان لا يحدث عنه. وقال يحيى بن معين: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس بشيء. وقال أحمد بن حنبل: أرجو أن يكون صالح الحديث. وقال يزيد بن زريع: كان حرورياً وكان يرى السيف على أهل القبلة. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو عبيد الأجري: سالت أبا داود عنه فقال من أصحاب الحسن، وما سمعت إلا خيراً. وسمعتة مرة أخرى ذكره فقال: ضعيف، أفتى في أيام إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدماء وخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق زيد العمي عن أبي صديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: خشينا أن يكون بعض شيء حدث، فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن في أمتي المهدي يخرج، يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً " . زيد الشاك، قال قلنا: وما ذاك، قال: سنين! قال: " فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني " . قال: " فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله " . لفظ الترمذي قال: هذا حديث حسن. وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن ماجة والحاكم: " يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فتسع، فتنعم أمتي فيه نعمة لم ينعموا بمثلها قط، تؤتي الأرض أكلها ولا يذخر منه شيء. والمال يومئذ كدوس، فيقوم الرجل فيقول: يا مهدي أعطني! فيقول خذ!،. انتهى.
وزيد العمي وإن قال فيه الدار قطني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين إنه صالح، وزاد أحمد: إنه فوق يزيد الرقاشي وفضل بن عيسى، إلا أنه قال فيه أبو حاتم: ضعيف، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال يحيى بن معين في رواية أخرى: لا شيء. وقال مرة: يكتب حديثة، وهو ضعيف. وقال الجرجاني: متماسك، وقال أبو زرعة: ليس بقوي واهي الحديث ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بذاك، وقد حدث عنه شعبة. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه ومن يروي عنهم ضعفاء، على أن شعبة قد روى عنه، ولعل شعبة لم يرو عن أضعف منه.

وقد يقال أن حديث الترمذي وقع تفسيراً لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثواً. لا يعده عداً " . ومن حديث أبي سعيد قال: " من خلفائكم خليفة يحثو المال حثواً " . ومن طريق أخرى عنهما قال: " يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده " . انتهى. وأحاديث مسلم لم يقع فيها ذكر المهدي ولا دليل يقوم على أنه المراد منها. ورواه الحاكم أيضاً من طريق عوف الأعرابي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جوراً وظلماً وعدواناً، ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً " .
وقال فيه الحاكم: هذا صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ورواه الحاكم أيضاً من طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحاً، وتكثر الماشية وتعظم الأمة يعيش سبعاً أو ثماني " . يعني حججاً. وقال فيه، حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من الستة، لكن ذكره ابن حيان في الثقات، ولم يرد أن أحداً تكلم فيه. ثم رواه الحاكم أيضاً من طريق أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن مطر الوراق وأبو هارون العبدي عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تملأ الأرض جوراً وظلماً، فيخرج رجل من عترتي، فيملك سبعاً أو تسعاً، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً " .
وقال الحاكم فيه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وإنما جعله على شرط مسلم لأنه أخرج عن حماد بن سلمة وعن شيخه مطر الوراق. وأما شيخه الآخر وهو أبو هارون العبدي فلم يخرج له. وهو ضعيف جداً متهم بالكذب، ولا حاجة إلى بسط أقوال الأئمة في تضعيفه.
وأما الراوي له عن حماد بن سلمة وهو أسد بن موسى ويلقب أسد السنة، وإن قال البخاري: مشهور الحديث، واستشهد به في صحيحه، واحتج به أبو داود والنسائي، إلا أنه قال مرة أخرى: ثقة لو لم يصنف كان خيراً له. وقال فيه محمد بن حزم: منكر الحديث.
ورواه الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصديق الناجي، عن الحسن بن يزيد السعدي أحد بني بهدلة عن أبي سعيد الخدري قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج رجل من أمتي يقول بسنتي ينزل الله عز وجل له القطر من السماء، وتخرج الأرض بركتها، وتملأ الأرض منه قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يعمل على هذه الأمة، سبع سنين وينزل على بيت المقدس " .
وقال الطبراني فيه ورواه جماعة عن أبي الصديق، ولم يدخل أحد منهم بينه وبين أبي سعيد أحداً ا إلا أبا الواصل، فإنه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد. انتهى. وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم، ولم يعرفه بأكثر مما في هذا الإسناد من روايته عن أبي سعيد، ورواية أبي الصديق عنه. وقال الذهبي في الميزان إنه مجهول. لكن ذكره ابن حبان في الثقات. وأما أبو الواصل الذي رواه عن أبي الصديق فلم يخرج له أحد من الستة. وذكره ابن حبان في الثقات في الطبقة الثانية، وقال فيه: يروي عن أنس، وروى عنه شعبة وعتاب بن بشر.
وخرج ابن ماجة في كتاب السنن عن عبد الله بن مسعود، من طريق يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذرفت عيناه وتغير لونه، قال، فقلت ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه فقال: إنا، أهل البيت، اختار الله لنا الأخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريداً وتطريداً، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملأها قسطاً كما ملؤوها جوراً. فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج. انتهى.

وهذا الحديث يعرف عند المحدثين بحديث الرايات. ويزيد بن أبي زياد راوية، قال فيه شعبة: كان رفاعاً، يعني يرفع الأحاديث التي لا تعرف مرفوعة. وقال محمد بن الفضيل: كان من كبار أئمة الشيعة. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ، وقال مرة: حديثه ليس بذلك. وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال العجلي: جائز الحديث. وكان بآخره يلقن. وقال أبو زرعة: لين، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال الجرجاني: سمعتهم يضعفون حديثه. وقال أبو داود: لا أعلم أحداً ترك حديثة، وغيره أحب إلي منه. وقال ابن عدي: هو من شيعة أهل الكوفة، ومع ضعفه يكتب حديثه. وروى له مسلم لكن مقروناً بغيره. وبالجملة فالأكثرون على ضعفه. وقد صرح الأئمة بتضعيف هذا الحديث، الذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، وهو حديث الرايات. وقال وكيع بن الجراح فيه: ليس بشيء. وكذلك قال أحمد بن حنبل. وقال أبو قدامة: سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات، لو حلف عندي خمسين يميناً قسامة ما صدقته، أهذا مذهب إبراهيم، أهذا مذهب علقمة، أهذا مذهب عبد الله؟! وأورد العقيلي هذا الحديث في الضعفاء. وقال الذهبي: ليس بصحيح.
وخرج ابن ماجة عن علي رضي الله عنه من رواية ياسين العجلي، عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية عن أبيه عن جده قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المهدي منا، أهل البيت، يصلح الله به في ليلة " . وياسين العجلي وإن قال فيه ابن معين ليس به بأس، فقد قال البخاري: فيه نظر. وهذه اللفظة من اصطلاحه قوية في التضعيف جداً. وأورد له ابن عدي في الكامل، والذهبي في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له، وقال هو معروف به.
وخرج الطبراني في معجمه الأوسط، عن علي رضي الله عنه، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أمنا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله، فقال: " بل منا، بنا يختم الله كما بنا فتح، وبنا يستنقذون من الشرك، وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة بينة، كما بنا ألف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك " . قال علي: أمومنون أم كافرون؟ قال: " مفتون وكافر " . انتهى.
وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال. وفيه عمر بن جابر الحضرمي وهو أضعف منه. قال أحمد بن حنبل: روي عن جابر مناكير، وبلغني أنه كان يكذب، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال، كان ابن لهيعة شيخاً أحمق ضعيف العقل، وكان يقول: " علي في السحاب " ، وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول: " هذا علي قد مر في السحاب " . وخرج الطبراني عن علي رضي الله تعالى عنه، أن، رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يكون في آخر الزمان فتنة يحصل الناس فيها كما يحصل الذهب في المعدن. فلا تسبوا أهل الشام ولكن سبوا أشرارهم فإن فيهم الأبدال يوشك أن يرسل على أهل الشام صيب من السماء فيفرق جماعتهم، حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم. فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات، المكثر يقول هم خمسة عشر ألفاً، والمقلل يقول هم اثنا عشر ألفاً، وأمارتهم " أمت أمت " ، يلقون سبع رايات تحت كل راية منها رجل يطلب الملك، فيقتلهم الله جميعاً، ويرد الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيتهم ورايتهم.
وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال. ورواه الحاكم في المستدرك، وقال، صحيح الإسناد، ولم يخرجاه في روايته. ثم يظهر الهاشمي فيرد الله الناس إلى الفتهم... إلخ وليس في طريقه ابن لهيعة وهو إسناد صحيح كما ذكر. وخرج الحاكم في المستدرك عن علي رضي الله عنه، من رواية أبي الطفيل عن محمد بن الحنفية قال: " كنا عند علي رضي الله عنه، فسأله رجل عن المهدي، فقال علي: هيهات. ثم عقد بيده سبعاً، فقال ذلك يخرج في آخر الزمان، إذا قال الرجل الله الله قتل، ويجمع الله له قوماً قزعاً، كقزع السحاب، يؤلف الله بين قلوبهم فلا يستوحشون إلى أحد، ولا يفرحون بأحد دخل فيهم، عدتهم على عدة أهل بدر، لم يسبقهم الأولون، ولا يدركهم الأخرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر. قال أبو الطفيل، قال ابن الحنفية: أتريده؟ قلت: نعم! قال: فإنه يخرج من بين هذين الأخشبين. قلت لا جرم والله، ولا أدعها حتى أموت، ومات بها يعني مكة، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. انتهى.

وإنما هو على شرط مسلم فقط، فإن فيه عماراً الذهني ويونس بن أبي إسحاق، ولم يخرج لهما البخاري وفيه عمرو بن محمد العنقزي، ولم يخرج له البخاري احتجاجاً بل استشهاداً، مع ما ينضم إلى ذلك من تشيع عمار الدهني، وهو وإن وثقه أحمد وابن معيني وأبو حاتم والنسائي وغيرهم، فقد قال علي بن المديني عن سفيان أن بشر بن مروان قطع عرقوبيه، قلت في أي شيء؟ قال: في التشيع. وخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه في رواية سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن علي بن زياد اليمامي، عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نحن، ولد عبد المطلب، سادات أهل الجنة، أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي " . انتهى.
وعكرمة بن عمار وإن أخرج له مسلم فإنما أخرج له متابعة. وقد ضعفه بعض ووثقه آخرون. وقال أبو حاتم الرازي: هو مدلس فلا يقبل، إلا أن يصرح بالسماع. وعلي بن زياد قال الذهبي في الميزان: لا ندري من هو ثم قال الصواب فيه عبد الله بن زياد. وسعد بن عبد الحميد وإن وثقه يعقوب بن أبي شيبة، وقال فيه يحيى بن معين ليس به بأس، فقد تكلم فيه الثوري، قالوا لأنه رآه يفتي في مسائل ويخطىء فيها. وقال ابن حيان: كان ممن فحش عطاؤه فلا يحتج به. وقال أحمد بن حنبل: سعد بن عبد الحميد يدعي أنه سمع عرض كتب مالك والناس ينكرون عليه ذلك، وهو ههنا ببغداد لم يحج، فكيف سمعها؟ وجعله الذهبي ممن لم يقدح فيه كلام من تكلم فيه. وخرج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن عباس موقوفاً عليه، قال مجاهد قال لي ابن عباس: لو لم أسمع أنك مثل أهل البيت ما حدثتك بهذا الحديث، قال، فقال مجاهد: فإنه في ستر لا أذكره لمن يكره! قال، فقال ابن عباس: " منا، أهل البيت، أربعة: منا السفاح ومنا المنذر ومنا المنصور ومنا المهدي،. قال، فقال مجاهد: بين لي هؤلاء الأربعة. فقال ابن عباس: أما السفاح فربما قتل أنصاره وعفا عن عدوه، وأما المنذر، أراه قال، فإنه يعطي المال الكثير ولا يتعاظم في نفسه، ويمسك القليل من حقه، وأما المنصور فإنه يعطي النصر على عدوه الشطر مما كان يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرهب منه عدوه على مسيرة شهرين، والمنصور يرهب منه عدوه على مسيرة شهر وأما المهدي فإنه الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وتأمن البهائم السباع، وتلقي الأرض أفلاذ كبدها قال: لاقلت وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال، الأسطوانة من الذهب والفضة " .
وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه. وإسماعيل ضعيف وإبراهيم أبوه، وإن خرج له مسلم، فالأكثرون على تضعيفه!.
وخرج ابن ماجة عن ثوبان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلاً لم يقتله قوم،. ثم ذكر شيئاً لا أحفظه، قال: " فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي.
ورجاله رجال الصحيحين، إلا أن فيه أبا قلابة الجرمي، وذكر الذهبي وغيره أنه مدلس، وفيه سفيان الثوري وهو مشهور بالتدليس، وكل واحد منهما عنعن ولم يصرح بالسماع فلا يقبل، وفيه عبد الرزاق بن همام وكان مشهوراً بالتشيع وعمي في آخر وقته فخلط، قال ابن عدي حدث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد، ونسبوه إلى التشيع. انتهى.

وخرج ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي من طريق ابن لهيعة عن أبي زرعة عن عمر بن جابر الحضرمي عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي " . يعني سلطانه. قال الطبراني تفرد به ابن لهيعة، وقد تقدم لنا في حديث علي الذي خرجه الطبراني في معجمه الأوسط أن ابن لهيعة ضعيف، وأن شيخه عمر بن جابر أضعف منه. وخرج البزار في مسنده والطبراني في معجمه الأوسط، واللفظ للطبراني، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فثمان وإلا فتسع، تنعم فيها أمتي نعمة لم ينعموا بمثلها: ترسل السماء عليهم مدراراً، ولا تذخر الأرض شيئاً من النبات، والمال كدوس، يقوم الرجل يقول يا مهدي أعطني، فيقول خذ! قال الطبراني والبزار تفرد به محمد بن مروان العجلي. زاد البزار: ولا نعلم أنه تابعه عليه أحد وهو وإن وثقه أبو داود وابن حبان أيضاً بما ذكره في الثقات، وقال فيه يحيى بن معين: صالح، وقال مرة ليس به بأس، فقد اختلفوا فيه. قال أبو زرعة ليس عندي بذلك وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: رأيت محمد بن مروان العجلي حدث بأحاديث وأنا شاهد لم نكتبها، تركتها على عمد، وكتب بعض أصحابنا عنه كأنه ضعفه. وخرج أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي هريرة قال: " حدثني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق. قال: قلت وكم يملك. قال خمساً واثنتين. قال قلت: وما " خمساً واثنتين؟ قال: " لا أدري " .
وهذا السند، وإن كان فيه بشير بن نهيك، وقال فيه أبو حاتم لا يحتج به، فقد احتج به الشيخان ووثقه الناس ولم يلتفتوا إلى قول أبي حاتم لا يحتج به. إلا أن فيه رجاء بن أبي رجاء اليشكري، وهو مختلف فيه. قال أبو زرعة: ثقة، وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال أبو داود: ضعيف، وقال فيه: صالح. وعلق له البخاري في صحيحه حديثاً واحداً. وخرج أبو بكر البزار في مسنده والطبراني في معجمه الكبير، والأوسط عن قرة بن إياس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتملأن الأرض جوراً وظلماً، فإذا ملئت جوراً وظلماً، بعث الله رجلاً من أمتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، فلا تمنع السماء من قطرها شيئاً، ولا تدخر الأرض شيئاً من نباتها. يلبث فيكم سبعاً أوثماني أوتسعاً " . يعني سنين.
وفيه داود بن المجبر بن قحذم، عن أبيه وهما ضعيفان جداً. وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عمر قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المهاجرين والأنصار، وعلي بن أبي طالب عن يساره، والعباس عن يمييه، إذ تلاحى العباس ورجل من الأنصار، فأغلظ الأنصاري للعباس، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد العباس وبيد علي وقال: " سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جوراً وظلماً، وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً. فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي، فإنه يقبل من قبل المشرق وهو صاحب راية المهدي.
وفيه عبد الله بن عمر العمري وعبد الله بن لهيعة وهما ضعيفان.
وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن طلحة بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ستكون فتنة لا يسكن فيها جانب إلا تشاجر جانب، حتى ينادي مناد من السماء أن أميركم فلان. وفيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف جداً. وليس في الحديث تصريح ذكر المهدي، وإنما ذكروه في أبوابه وترجمته استئناساً.
فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان.

هي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه. وربما تمسك المنكرون لشأنه بما رواه محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح بن أبي عياش، عن الحسن البصري، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا مهدي إلا عيسى ابن مريم " . وقال يحيى بن معين في محمد بن خالد الجندي: إنه ثقة. وقال البيهقي: تفرد به محمد بن خالد. وقال الحاكم فيه: إنه رجل مجهول. واختلف عليه في إسناده: فمرة يروي كما تقدم وينسب ذلك لمحمد بن إدريس الشافعي، ومرة يروي عن محمد بن خالد عن أبان عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. قال البيهقي: فرجع إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول، عن أبان بن أبي عياش وهو متروك، عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو منقطع، وبالجملة فالحديث ضعيف مضطرب. وقد قيل في: " أن لا مهدي إلا عيسى " أي لا يتكلم في المهد إلا عيسى، يحاولون بهذا التأويل رد الاحتجاج به، أو الجمع بينه وبين الأحاديث، وهو مدفوع بحديث جريح. ومثله من الخوارق.
وأما المتصوفة فلم يكن المتقدمون منهم يخوضون في شيء من هذا، وإنما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال وما يحصل عنها من نتائج المواجد والأحوال، وكان كلام الإمامية والرافضة من الشيعة في تفضيل علي رضي الله تعالى عنه، والقول بإمامته وادعاء الوصية له بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، والتبري من الشيخين كما ذكرناه في مذاهبهم. ثم حدث فيهم بعد ذلك القول بالإمام المعصوم، وكثرت التآليف في مذاهبهم. وجاء الإسماعيلية منهم يدعون ألوهية الإمام بنوع من الحلول، وآخرون يدعون رجعة من مات من الأئمة بنوع التناسخ، وآخرون منتظرون مجيء من يقطع بموته منهم، وآخرون منتظرون عود الأمر في أهل البيت مستدلين على ذلك بما قدمناه من الأحاديث في المهدي وغيرها.
ثم حدث أيضاً عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف وفيما وراء الحس. وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة، فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم. وظهر منهم أيضاً القول بالقطب والأبدال، وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والنقباء. وأشربوا أقوال الشيعة، وتوغلوا في الديانة بمذاهبهم، حتى لقد جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة، أن علياً رضي الله عنه ألبسها الحسن البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة. واتصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم. ولايعلم هذا عن علي من وجه صحيح. ولم تكن هذه الطريقة خاصة بعلي كرم الله وجهه، بل الصحابة كلهم أسوة في طرق الهدى، وفي تخصيص هذا بعلي دونهم رائحة من التشيع قوية، يفهم منها ومن غيرها مما تقدم دخولهم في التشيع، وانخراطهم في سلكه.

وظهر منهم أيضاً القول بالقطب وامتلأت كتب الإسماعيلية من الرافضة، وكتب المتأخرين من المتصوفة بمثل ذلك في الفاطمي المنتظر. وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقنه بعضهم من بعض، وكأنه مبني على أصول واهية من الفريقين. وربما يستدل بعضهم بكلام المنجمين في القرانات، وهو من نوع الكلام في الملاحم، ويأتي الكلام عليها في الباب الذي يلي هذا. وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين في شأن الفاطمي، ابن العربي الحاتمي في كتاب عنقاء مغرب وابن قسي في كتاب خلع النعلين وعبد الحق بن سبعين، وابن أبي واطيل تلميذه في شرحه كتاب خلع النعلين. وأكثر كلماتهم في شأنه ألغاز وأمثال، وربما يصرحون في الأقل و يصرح مفسر وكلامهم. وحاصل مذهبهم فيه، على ما ذكر ابن أبي واطيل، أن النبوة بها ظهر الحق والهدى بعد الضلال والعمى، وأنها تعقبها الخلافة، ثم يعقب الخلافة الملك، ثم يعود تجبراً وتكبراً وباطلاً. قالوا: ولما كان في المعهود من سنة الله رجوع أمور إلى ما كانت وجب أن يحيا أمر النبوة والحق بالولاية، ثم بخلافتها، ثم يعقبها الدجل مكان الملك والتسلط، ثم يعود الكفر بحاله. يشيرون بهذا لما وقع من شأن نبوة، والخلافة بعدها، والملك بعد الخلافة: هذه ثلاث مراتب. وكذلك الولاية التي هي لهذا الفاطمي، والدجل بعدها كناية عن خروج الدجال على أثره، والكفر من بعد ذلك. فهي ثلاث مراتب على نسبة الثلاث مراتب الأولى. قالوا: ولما كان أمر الخلافة لقريش حكماً شرعياً بالإجماع الذي لا يوهنه إنكار من لم يزاول علمه وجب أن تكون الإمامة فيمن هو أخص من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم، إما ظاهراً كبني عبد المطلب، وأما باطناً ممن كان من حقيقة الآل، والآل من إذا حضر لم يغب من هو آله. وابن العربي الحاتمي سماه في كتابه " عنقاء مغرب " من تأليفه: خاتم الأولياء، وكنى عنه بلبنة الفضة إشارة إلى حديث البخاري في باب خاتم النبيين، قال صلى الله عليه وسلم: " مثلي فيمن قبلي من الأنبياء كمثل رجل ابتنى بيتاً وأكمله، حتى إذا لم يبق منه إلا موضع لبنة فأنا تلك اللبنة " . فيفسرون خاتم النبيين باللبنة التي أكملت البنيان، ومعناه النبي الذي حصلت له النبوة الكاملة. ويمثلون الولاية في تفاوت مراتبها بالنبوة، ويجعلون صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز الرتبة التي هي خاتمة الولاية، كما كان خاتم الأنبياء حائزاً للمرتبة التي هي خاتمة النبوة. فكنى الشارع عن تلك المرتبة الخاتمة بلبنة البيت في الحديث المذكور. وهما على نسبة واحدة فيها. فهي لبنة واحدة في التمثيل. ففي النبوة لبنة ذهب، وفي الولاية لبنة فضة للتفاوت بين الرتبتين، كما بين الذهب والفضة. فيجعلون لبنة الذهب كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولبنة الفضة كناية عن هذ الولي الفاطمي المنتظر، وذلك خاتم الأنبياء وهذا خاتم الأولياء.
وقال ابن العربي فيما نقل ابن أبي واطيل عنه: وهذا الإمام المنتظر وهو من أهل البيت من ولد فاطمة، وظهوره يكون من بعد مضي - خ ف ج - من الهجرة ورسم حروفاً ثلاثة يريد عددها بحساب الجمل، وهو الخاء المعجمة بواحدة من فوق ستمائة والفاء أخت القاف بثمانين، والجيم المعجمة بواحده من أسفل ثلاثة، وذلك ستمائة وثلاث وثمانون سنة، وهي في آخرالقرن السابع. ولما انصرم هذا العصر ولم يظهر حمل ذلك بعض المقلدين لهم على أن المراد بتلك المئة مولده، وعبر بظهوره عن مولده، وأن خروجه يكون بعد العشر والسبعمائة فإنه الإمام الناجم من ناحية المغرب " .

قال: وإذا كان مولده كما زعم ابن العربي سنة ثلاث وثمانين وستمائة فيكون عمره عند خروجه ستاً وعشرين سنة،. قال: وزعموا أن خروج الدجال يكون سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة من اليوم المحمدي، وابتداء اليوم المحمدي عندهم من يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى تمام ألف سنة لما. قال ابن أبي واطيل في شرحه كتاب خلع النعلين: الولي المنتظر القائم بأمر الله المشار إليه بمحمد المهدي وخاتم الأولياء، وليس هو بنبي وإنما هو ولي ابتعثه روحه وحبيه. قال صلى الله عليه وسلم: " العالم في قومه كالنبي في أمته " . وقال: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. ولم تزل البشرى تتابع به من أول اليوم المحمدي إلى قبيل الخمسمائة نصف اليوم وتأكدت وتضاعفت بتباشير المشايخ بتقريب وقته، وازدلاف زمانه منذ انقضت إلى، هلم جرا " قال: " وذكر الكندي أن هذا الولي، هو الذي يصلي بالناس صلاة الظهر، ويجدد الإسلام، ويظهرالعدل، ويفتح جزيرة الأندلس ويصل إلى رومية فيفتحها ويسير إلى المشرق فيفتحه، ويفتح القسطنطينية، ويصير له ملك الأرض، فيتقوى المسلمون ويعلو الإسلام، ويظهر دين الحنيفية، فإن من صلاة الظهر إلى صلاة العصر وقت صلاة، قال عليه الصلاة والسلام، " ما بين هذين وقت " وقال الكندي أيضاً: الحروف العربية غير المعجمة يعني المفتتح بها سور القرآن جملة عددها سبعمائة وثلاث وأربعون، وسبع دجالية، ثم ينزل عيسى في وقت صلاة العصر، فيصلح الدنيا وتمشي الشاة مع الذئب. ثم يبقى ملك العجم بعد إسلامهم مع عيسى مائة وستين عاماً، عدد حروف المعجم وهي - ق ي ن - ، دولة العدل منها أربعون عاماً " . قال ابن أبي واطيل: " وما ورد من قوله لا مهدي إلا عيسى، فمعناه لا مهدي تساوي هدايته ولايته، وقيل لا يتكلم في المهد إلا عيسى. وهذا مدفوع بحديث جريج وغيره. وقد جاء في الصحيح أنه قال: " لا يزال هذا الأمر قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة يعني قرشياً. وقد أعطى الوجود أن منهم من كان في أول الإسلام، ومنهم من سيكون في آخره. وقال: " الخلافة بعدي ثلاثون أو إحدى وثلاثون أو ستة وثلاثون، وانقضاؤها في خلافة الحسن، وأول أمر معاوية، فيكون أول أمر معاوية خلافة أخذاً بأوائل الأسماء فهو سادس الخلفاء، وأما سابع الخلفاء فعمر بن عبد العزيز، والباقون خمسة من أهل البيت من ذرية علي، يؤيده قوله: " إنك لذو قرنيها " يريد الأمة، أي إنك لخليفة في أولها، وذريتك في آخرها. وربما استدل بهذا الحديث القائلون بالرجعة. فالأول هو المشار إليه عندهم بطلوع الشمس من مغربها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيلى لتنفقن كنوزهما في سبيل الله، وقد أنفق عمر بن الخطاب كنوز كسرى في سبيل الله، والذي يهلك قيصر وينفق كنوزه في سبيل الله هو هذا المنتظر حياً يفتح القسطنطينية: فنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش ذلك الجش. كذا قال صلى الله عليه وسلم: " ومدة حكمه بضع " ، والبضع من ثلاث إلى تسع وقيل إلى عشر. وجاء ذكر أربعين، - في بعض الروايات سبعين. فأما الأربعون فإنها مدتة ومدة الخلفاء الأربعة الباقين من أهله القائمين بأمره من بعده، على جميعهم السلام قال: " وذكر أصحاب النجوم والقرانات أن مدة بقاء أمره وأهل بيته من بعده مائة وتسعة وخمسون عاماً، فيكون الأمر على هذا جارياً على الخلافة والعدل أربعين أو سبعين، ثم تختلف الأحوال فتكون ملكاً. انتهى كلام ابن أبي واطيل.

وقال في موضع آخر: " نزول عيسى يكون في وقت صلاة العصر من اليوم المحمدي حين تمضي ثلاثة أرباعه " . قال: " وذكر الكندي يعقوب بن إسحق في كتاب الجفر الذي ذكر فيه القرانات أنه إذا وصل القرآن إلى الثور على رأس ضح بحرفين الضاد المعجمة والحاء المهملة، يريد ثمانية وتسعين وستمائة من الهجرة، ينزل المسيح فيحكم في الأرض ما شاء الله تعالى " . قال: وقد ورد في الحديث أن عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ينزل بين مهرودتين، يعني حلتين مزعفرتين صفراوين ممصرتين واضعاً كفيه على أجنحة الملكين، له لمة، كأنما خرج من ديماس، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، كثير خيلان الوجه. وفي حديث آخر: مربوع الخلق وإلى البياض والحمرة. وفي آخر: إنه يتزوج في الغرب. والغرب دلو البادية، يريد أنه يتزوج منها وتلد زوجته. وذكر وفاته بعد أربعين عاماً. وجاء أن عيسى يموت بالمدينة ويدفن إلى جانب عمر بن الخطاب. وجاء أن أبا بكر وعمر يحشران بين نبيين " . قال ابن أبي واطيل: والشيعة تقول إنه هو المسيح، مسيح المسايح من آل محمد. قلت وعليه حمل بعض المتصوفة حديث لا مهدي إلا عيسى، أي لا يكون مهدي إلا المهدي الذي نسبته إلى الشريعة المحمدية نسبة عيسى إلى الشريعة الموسوية في الاتباع وعدم النسخ " . إلى كلام من أمثال هذا يعينون فيه الوقت والرجل والمكان بأدلة واهية وتحكمات مختلفة، فينقضي الزمان ولا أثر لشيء من ذلك، فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل كما تراه من مفهومات لغوية وأشياء تخييلية وأحكام نجومية. في هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخر.
وأما المتصوفة الذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدد لأحكام الملة ومراسم الحق ويتحينون ظهوره لما قرب من عصرنا. فبعضهم يقول من ولد فاطمة، وبعضهم يطلق القول فيه. سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب، كان في أول هذه المائة الثامنة، وأخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكريا عن أبيه أبي محمد عبد الله عن أبيه الولي أبي يعقوب المذكور.
هذا آخر ما اطلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوفة، وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا. والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه.
وقد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية التي أريناك هناك. وعصبية الفاطميين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الأفاق، ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش، إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع بالمدينة من الطالبيين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر، منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها، وهم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم وإمارتهم وآرائهم يبلغون آلافاً من الكثرة. فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم، ويؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى تتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار كلمته وحمل الناس عليها. وأما على غير هذا الوجه، مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الأفاق ثمن غير عصبية ولا شوكة إلا مجرد نسبة في أهل البيت، فلا يتم ذلك، ولا يمكن، لما أسلفناه من البراهين الصحيحة.

وأما ما تدعيه العامة والأغمار من الدهماء ممن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه ولا علم يقيده، فيتحينون ذلك على غير نسبة وفي غير مكان، تقليداً لما اشتهر من ظهور فاطمي، ولا يعلمون حقيقة الأمر كما بيناه. وأكثر ما يتحينون في ذلك القاصية من الممالك وأطراف العمران، مثل الزاب بإفريقية والسوس من المغرب. ونجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطاً بماسة لما كان ذلك الرباط بالمغرب من الملثمين من كدالة واعتقادهم أنه منهم أو قائمون بدعوته، زعماً لا مستند لهم، إلا غرابة تلك الأمم وبعدهم عن يقين المعرفة بأحوالها من كثرة أو قلة أو ضعف أو قوة، ولبعد القاصية عن منال الدولة وخروجها عن نطاقها، فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه عن. ربقة الدولة ومنال الأحكام والقهر، ولا محصول لديهم في ذلك إلا هذا. وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتلبيس بدعوة يميه تمامها وسواساً وحمقاً. وقتل كثير منهم. أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلي قال: خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة وعصر السلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التصوف، يعرف بالتويزري نسبة إلى توزر مصغراً، وادعى أنه الفاطمي المنتظر واتبعه الكثير من أهل السوس من ضالة وكزولة وعظم أمره، وخافه رؤساء المصامدة على أمرهم، فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً وانحل أمره.
وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة وعشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس، وادعى أنه الفاطمي، واتبعه الدهماء من غمارة، ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتم أمره. وكثير من هذا النمط. وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا، وهو أنه صحب في حجه في رباط العباد، وهو مدفن الشيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطل عليها، رجلاً من أهل البيت من سكان كربلاء، كان متبوعاً معظماً كثير التلميذ والخادم. قال وكان الرجال من موطنه يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان. قال وتأكدت الصحبة بيننا في ذلك الطريق فانكشف لي أمرهم، وأنهم إنما جاؤوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر وانتحال دعوة الفاطمي بالمغرب. فلما عاين دولة بني مرين، ويوسف بن يعقوب يومئذ منازل لتلمسان، قال لأصحابه: ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط، وليس هذا الوقت وقتنا. ويدل هذا القول من هذا الرجل على أنه مستبصر في أن الأمر لا يتم إلا بالعصبية المكافئة لأهل الوقت، فلما علم أنه غريب في ذلك الوطن ولا شوكة له، وأن عصبية بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب استكان، ورجع إلى الحق وأقصر عن مطامعه وبقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت، لا سيما في المغرب. إلا أن التعصب لشأنه لم يتركه لهذا القول. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدعاة إلى الحق والقيام بالسنة لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره، وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر، ويعتني بذلك ويكثر تابعه. وأكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لما أن أكثر فساد الأعراب فيها، لما قدمناه من طبيعة معاشهم، فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا. إلا أن الصبغة الدينية فيهم لا تستحكم لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الإقصار عن الغارة والنهب لا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك، لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة، ومنها توبتهم. فتجد تابع ذلك المنتحل للدعوة القائم بزعمه بالسنة غير متعمقين في فروع الإقتداء والاتباع، إنما دينهم الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة، ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش بأقصى جهدهم. وشتان بين طلب هذا الأجر في صلاح الخلق وبين طلب الدنيا، فاتفاقهما ممتنع، لا تستحكم لهم صبغة في الدين، ولا يكمل لهم نزوغ عن الباطل على الجملة، ولا يكثرون.

ويختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه، وولايته في نفسه دون تابعه. فإذا هلك انحل أمرهم وتلاشت عصبيتهم. وقد ولع ذلك بإفريقية، لرجل من كعب من سليم يسمى قاسم بن مرة بن أحمد في المائة السابعة، ثم من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطن منهم يعرفون بمسلم، وكان يسمى سعادة، وكان أشد ديناً من الأول وأقوم طريقة في نفسه، ومع ذلك فلم يستتب أمر تابعه كما ذكرناه، حسبما يأتي ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم ورياح. وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدعوة يتشبهون بمثل ذلك، ويلبسون فيها وينتحلون اسم السنة وليسوا عليها إلا الأقل، فلا يتم لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم. انتهى.
الفصل الثالث والخمسون

في حدثان الدول والأمم
وفيه الكلام على الملاحم والكشف عن مسمى الجفر اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوف إلى عواقب أمورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر، سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا، ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها. والتطلع إلى هذا طبيعة للبشر مجبولون عليها. ولذلك نجد الكثير من الناس يتشوفون إلى الوقوف على ذلك في المنام. والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة. ولقد نجد في المدن صنفاً من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه، فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه. فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها، وكثير من ضعفاء العقول كا يستكشفون عواقب أمرهم، في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك، ما بين خط في الرمل ويسمونه المنجم، وطرق بالحصى والحبوب ويسمونه الحاسب، ونظر في المرايا والمياه ويسمونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار، لما تقرر في الشريعة من ذم ذلك، وأن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية.
وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم، ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه. وكل أمة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها، وما يحدث لهم من الحرب والملاحم، ومدة بقاء الدولة، وعدد الملوك فيها، والتعرض لأسمائهم، ويسمى مثل ذلك الحدثان.
وكان في العرب الكهان والعرافون يرجعون إليهم في ذلك، وقد أخبروا بما سيكون للعرب من الملك والدولة، كما وقع لشق وسطيح في تأويل رؤيا ربيعة بن نصر من ملوك اليمن، أخبرهم بملك الحبشة بلادهم، ثم رجوعها إليهم، ثم ظهور الملك والدولة للعرب من بعد ذلك. وكذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حين بعث إليه كسرى بها مع عبد المسيح، وأخبرهم بظهور دولة العرب. وكذا كان في جيل البربر كهان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يفرن، ويقال من غمرة، وله كلمات حدثانية على طريقة الشعر برطانتهم وفيها حدثان كثير، ومعظمه فيما يكون لزناتة من الملك والدولة بالمغرب وهي متداولة بين أهل الجيل. وهم يزعمون تارة أنه ولي، وتارة أنه كاهن، وقد يزعم بعض مزاعمهم أنه كان نبياً، لأن تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير. والله أعلم.
وقد يستند الجيل في ذلك إلى خبر الأنبياء إن كان لعهدهم، كما وقع لبني إسرائيل، فإن انبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبرونهم بمثله عندما يعنونهم في السؤال عنه.
وأما في الدولة الإسلامية فوقع منه كثير فيما يرجع إلى بقاء الدنيا ومدتها على العموم، وفيما يرجع إلى الدولة وأعمارها على الخصوص. وكان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام آثار منقولة عن الصحابة، وخصوصاً مسلمة بني إسرائيل، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما. وربما اقتبسوا بعض ذلك من ظواهر مأثورة وتأويلات محتملة.

ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك، مستندهم فيه. والله أعلم، الكشف بما كانوا عليه من الولاية. وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: أن فيكم محدثين، فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة. وأما بعد صدر الملة وحين علق الناس على العلوم والاصطلاحات، وترجمت كتب الحكماء إلى اللسان العربي، فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجمين في الملك والدول وسائر الأمور العامة من القرانات، وفي المواليد والمسائل وسائر الأمور الخاصة من الطوالع لها، وهي شكل الفلك، عند حدوثها. فلنذكر الآن ما وقع لأهل الأثر في ذلك ثم نرجع لكلام المنجمين.
أما أهل الأثر فلهم في مدة الملل وبقاء الدنيا، على ما وقع في كتاب السهيلي، فإنه نقل عن الطبري ما يقتضي أن مدة بقاء الدنيا منذ الملة خمسمائة سنة، ونقض ذلك بظهور كذبه. ومستند الطبري في ذلك أنه نقل عن ابن عباس، أن الدنيا جمعة من جمع الأخرة، ولم يذكر لذلك دليلاً. وسره والله أعلم تقدير الدنيا بأيام خلق السماوات والأرض وهي سبعة، ثم اليوم بألف سنة لقوله: " وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون " . قال: وقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أجلكم في أجل من كان قبلكم، من صلاة العصر إلى غروب الشمس " . وقال: " بعثت أنا والساعة كهاتين،، وأشار بالسبابة والوسطى، وقدر ما بين صلاة العصر وغروب الشمس حين صيرورة، ظل كل شيء مثليه، يكون على التقريب نصف سبع، وكذلك وصل الوسطى على السبابة، فتكون هذه المدة نصف سبع الجمعة كلها، هو خمسمائة سنة.
ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: " لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم " ، فدل ذلك على أن مدة الدنيا قبل الملة خمسة الأف وخمسمائة سنة.
وعن وهب بن منبه أنها خمسة الأف وستمائة سنة أعني الماضي. وعن كعب أن مدة الدنيا كلها ستة الأف سنة.
قال السهيلي: وليس في الحديثين ما يشهد لشيء مما ذكره، مع وقوع الوجود بخلافه.
فأما قوله: " لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم " ، فلا يقتضي نفي الزيادة على النصف. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " ، فإنما فيه الأشارة إلى القرب، وأنه ليس بينه وبين الساعة نبي غيره، ولا شرع غير شرعه.
ثم رجع السهيلي إلى تعيين أمد الملة من محرك آخر، لو ساعده التحقيق، وهو أنه جمع الحروف المقطعة في أوائل السور بعد حذف المكرر، قال: وهي أربعة عشر حرفاً يجمعها قولك " ألم، يسطع، نص، حق، كره " فأخذ عددها بحساب الجمل فكان سبعمائة وثلاثة، إضافة إلى المنقضي من الألف الآخر قبل بعثه، فهذه هي مدة الملة، قال: ولا يبعد ذلك أن يكون من مقتضيات هذه الحروف وفوائدها. قلت: وكونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره ولا التعويل عليه.
والذي حمل السهيلي على ذلك إنما هو ما وقع فى كتاب السير لابن إسحاق في حديث ابني أخطب من أحبار اليهود، وهما أبو ياسر وأخوه حي، حين سمعا من الأحرف المقطعة " آلم " وتأولاها على بيان المدة بهذا الحساب، فبلغت إحدى وسبعين، فاستقلا المدة. وجاء حي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: هل مع هذا غيره، قال: " آلمص " ، ثم استزاد " آلر " ، ثم استزاد " آلمر " ، فكانت إحدى وسبعين ومائتين فاستطال المدة. وقال: قد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى لا ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً، ثم ذهبوا عنه. وقال لهم أبو ياسر: ما يدريكم لعله أعطى عددها كلها تسعمائة وأربع سنين، قال ابن إسحق: فنزل قوله تعالى: " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " .
ولا يقوم من القصة دليل على تقدير المدة بهذا العدد، لأن دلالة هذه الحروف على الأعداد ليست طبيعية ولا عقلية، وإنما هي بالتواضع والاصطلاح الذي يسمونه حساب الجمل. نعم إنه قديم مشهور، وقدم الأصطلاح لا يصير حجة. وليس أبو ياسر وأخوه حي ممن يؤخذ رأيه في ذلك دليلاً، ولا من علماء اليهود، لأنهم كانوا بادية بالحجاز، غفلاً من الصنائع والعلوم، حتى عن علم شريعتهم، وفقه كتابهم وملتهم، وإنما يتلقفون مثل هذا الحساب كما تتلقفه العوام في كل ملة. فلا ينهض للسهيلي دليل على ما ادعاه من ذلك.

ووقع في الملة في حدثان دولتها على الخصوص مسند من الأثر إجمالي في حديث خرجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان، من طريق شيخه محمد بن يحيى الذهبي عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن فروخ عن أسامة بن زيد الليثي عن أبي قبيصة بن ذؤيب عن أبيه، قال: قال حذيفة بن اليمان: والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قائد فئة إلى أن تنقضي الدنيا، يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته. وسكت عليه أبو داود، وقد تقدم أنه قال في رسالته ما سكت عليه في كتابه فهو صالح، وهذا الحديث إذا كان صحيحاً فهو مجمل، ويفتقر في بيان إجماله وتعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجود أسانيدها. وقد وقع إسناد هذا الحديث في غير كتاب السنن على غير هذا الوجه. فوقع في الصحيحين من حديث حذيفة أيضاً قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذاك إلى قيام الساعة إلا حدث عنه، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابه هؤلاء.
ولفظ البخاري: ما ترك شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره. وفي كتاب الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة العصر بنهار، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه.
وهذه الأحاديث كلها محمولة على ما ثبت في الصحيحين من أحاديث الفتن والأشراط لا غير، لأنه المعهود من الشارع صلوات الله وسلامه عليه، في أمثال هذه العمومات. وهذه الزيادة التي تفرد بها أبو داود في هذا الطريق شاذة منكرة، مع أن الأئمة اختلفوا في رجاله. فقال ابن أبي مريم في ابن فروخ أحاديثة مناكير، وقال البخاري يعرف منه وينكر، وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة. وأسامة بن زيد وإن خرج له في الصحيحين ووثقه ابن معين، فإنما خرج له البخاري استشهاداً، وضعفه يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وأبو قبيصة بن ذؤيب مجهول. فتضعف هذه الزيادة التي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من هذه الجهات مع شذوذها كما مر.

وقد يستندون في حدثان الدول على الخصوص إلى كتاب الجفر، ويزعمون أن فيه علم ذلك كله من طريق الأثار والنجوم لا يزيدون على ذلك، ولا يعرفون أصل ذلك ولا مستنده. واعلم أن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي، وهو رأس الزيدية، كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص. وقع ذلك لجعفر ونظائره من رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء. وكان مكتوباً عند جعفر في جلد ثور صغير، فرواه عنه هارون العجلي وكتبه، وسماة الجفر باسم الجلد الذي كتب عليه، لأن الجفر في اللغة هو الصغير وصار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق. وهذا الكتاث لم تتصل روايته ولا عرف عينه، وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل. ولو صح السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه، فهم أهل الكرامات، وقد صح عنه أنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم، فتصح كما يقول. وقد حذر يحيى ابن عمه زيد من مصرعه وعصاه، فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف. وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علماً وديناً وآثاراً من النبوة، وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة. وقد ينقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام، غير منسوب إلى أحد. وفي أخبار دولة العبيديين كثير منه. وانظر ما حكاه ابن الرقيق في لقاء أبي عبد الله الشيعي لعبيد الله المهدي، مع ابنه محمد الحبيب، وما حدثاه به، وكيف بعثناه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن، فأمره بالخروج إلى المغرب، وبث الدعوة فيه على علم لقنه أن دعوته تتم هناك، وأن عبيد الله لما بنى المهدية بعد استفحال دولتهم بإفريقية قال: " بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار " ، وأراهم موقف صاحب الحمار بساحتها، وبلغ هذا الخبر حافده إسماعيل المنصور، فلما حاصره صاحب الحمار أبو يزيد بالمهدية، كان يسائل عن منتهى موقفه، حتى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الذي عينة جده عبيد الله فأيقن بالظفر، وبرز من البلد، فهزمه واتبعه إلى ناحية الزاب فظفر به وقتله. ومثل هذه الأخبار عندهم كثيرة.
التنجيموأما المنجمون فيستندون في حدثان الدول إلى الأحكام النجومية. أما في الأمور العامة مثل الملك والدول فمن القرانات، وخصوصاً بين العلويين، وذلك أن العلويين زحل والمشتري يقترنان في كل عشرين سنة مرة، ثم يعود القران إلى برج آخر في تلك المثلثة من التثليث الأيمن، ثم بعده إلى آخر كذلك، إلى أن يتكرر في المثلثة الواحدة اثنتي عشرة مرة تستوي بروجه الثلاثة في ستين سنة، ثم يعود فيستوي بها في ستين سنة، ثم يعود ثالثة ثم رابعة، فيستوي في المثلثة باثنتي عشرة مرة، وأربع عودات في مائتين وأربعين سنة، ويكون انتقاله في كل برج على التثليث الأيمن، وينتقل من المثلثة إلى المثلثة التي تليها، أعني البرج الذي يلي البرج الأخير من القران الذي قبله في المثلثة. وهذا القران الذي هو قران العلويين ينقسم إلى كبير وصغير ووسط: فالكبير هو اجتماع العلويين في برجة واحدة من الفلك، إلى أن يعود إليها بعد تسعمائة وستين سنة مرة واحدة، والوسط هو اقتران العلوي في كل مثلثة اثنتي عشرة مرة، وبعد مائتين وأربعين سنة ينتقل إلى مثلثة أخرى، والصغير هو اقتران العلويين في درجة برج، وبعد عشرين سنة يقترنان في برج آخرعلى تثليثه الأيمن في مثل درجه أو دقائقه.

مثال ذلك وقع القران أول دقيقة من الحمل، وبعد عشرين يكون في أول دقيقة من القوس، وبعد عشرين يكون في أول دقيقة من الأسد، وهذه كلها نارية، وهذا كله قران صغير. ثم يعود إلى أول الحمل بعد ستين سنة ويسمى دور القران وعود القران، وبعد مائتين و أربعين ينتقل من النارية إلى الترابية لأنها بعدها، وهذا قران وسط. ثم ينتقل إلى الهوائية ثم المائية، ثم يرجع إلى أول الحمل في تسعمائة وستين سنة وهو الكبير. والقران الكبير يدل على عظام الأمور مثل تغيير الملك والدولة، وانتقال الملك من قوم إلى قوم، والوسط على ظهور المتغلبين والطالبين للملك، والصغير على ظهور الخوارج والدعاة وخراب المدن أو عمرانها. ويقع أثناء هذه القرانات قران النحسين في برج السرطان في كل ثلاثين سنة مرة ويسمى الرابع. وبرج السرطان هو طالع العالم، وفيه وبال زحل وهبوط المريخ، فتعظم دلالة هذا القران في الفتن والحروب، وسفك الدماء، وظهور الخوارج، وحركة العساكر، وعصيان الجند، والوباء والقحط، ويدوم ذلك أو ينتهي على قدر السعادة والنحوسة في وقت قرانهما على قدر تيسير الدليل فيه.
قال جراس بن أحمد الحاسب في الكتاب الذي ألفه لنظام الملك: " ورجوع المريخ إلى العقرب له أثر عظيم في الملة الأسلامية لأنه كان دليلها، فالمولد النبوي كان عند قران العلويين ببرج العقرب، فلما رجع هنالك حدث التشويش على الخلفاء وكثر المرض في أهل العلم والدين ونقصت أحوالهم، وربما انهدم بعض بيوت العبادة. وقد يقال: إنه كان عند قتل علي رضي الله عنه، ومروان من بني أمية، والمتوكل من بني العباس. فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية الإحكام.
وذكر شاذان البلخي: " أن الملة تنتهي إلى ثلثمائة وعشرين. وقد ظهر كذب هذ القول. وقال أبو معشر: يظهر بعد المائة والخمسين منها اختلاف كثير، ولم يصح ذلك " . وقال جراس: " رأيت في كتب القدماء أن المنجمين أخبروا كسرى عن ملك العرب وظهور النبوة فيهم، وأن دليلهم الزهرة وكانت في شرفها، فيبقى الملك في أربعين سنة. وقال أبو معشر في كتاب القرانات: القسمة إذا انتهت إلى السابعة والعشرين من الحوت فيها شرف الزهرة. ووقع القران مع ذلك ببرج العقرب وهو دليل العرب ظهرت حينئذ دولة العرب وكان منهم نبي ويكون قوة ملكه ومدته على ما بقي من درجات شرف الزهرة، وهي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت، ومدة ذلك ستمائة وعشر سنين. وكان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزهرة، ووقوع القسمة أول الحمل، وصاحب الجد المشتري.
وقال يعقوب بن إسحق الكندي: أن مدة الملة تنتهي إلى ستمائة وثلاث وتسعين سنة، قال: لأن الزهرة كانت عند قران الملة في ثمان وعشرين درجة وثلاثين دقيقة الحوت. فالباقي إحدى عشرة درجة وثماني عشرة دقيقة، ودقائقها ستون، فيكون ستمائة وثلاثاً وتسعين سنة. قال: وهذه مدة الملة باتفاق الحكماء، ويعضده الحروف الواقعة في أول السور بحذف المكرر واعتباره بحساب الجمل. قلت: وهذا هو الذي ذكره السهيلي، والغالب أن الأول هو مستند السهيلي فيما نقلناه عنه.
قال جراس: " سأل هرمز إفريد الحكيم عن مدة أردشير وولده وملوك الساسانية فقال: دليل ملكه المشتري، وكان في شرفه فيعطى أطول السنين وأجودها، أربعمائة وسبعاً وعشرين سنة، ثم تزيد الزهرة، وتكون في شرفها وهي دليل العرب، فيملكون لأن طالع القران الميزان، وصاحبه الزهرة، وكانت عند القران في شرفها، فدل أنهم يملكون ألف سنة وستين سنة. وسأل كسرى أنو شروان وزيره بزرجمهر الحكيم عن خروج الملك من فارس إلى العرب، فأخبره أن القائم منهم يولد لخمس وأربعين من دولته، ويملك المشرق والمغرب، والمشتري يغوص إلى الزهرة، وينتقل القران من الهوائية إلى العقرب، وهو مائي وهو دليل العرب، فهذه الأدلة تفضي للملة بمدة دور الزهرة وهي ألف وستون سنة. وسأل كسرى أبرويز أليوس الحكيم عن ذلك، فقال مثل قول بزرجمهر. وقال توفيل الرومي المنجم في أيام بني أمية: " إن ملة الإسلام تبقى مدة القران الكبير تسعمائة وستين سنة، فإذا عاد القران إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملة، وتغير وضع الكواكب عن هيئتها في قران الملة، فحينئذ إما أن يفتر العمل به أو يتجدد من الأحكام ما يوجب خلاف الظن.

قال جراس: " واتفقوا على أن خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنار، حتى تهلك سائر المكونات، وذلك عندما يقطع قلب الأسد أربعاً وعشرين درجة، التي هي حد المريخ وذلك بعد مضي تسعمائة وستين سنة.
وذكر جراس: أن ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان، أتحفه به في هدية، وأنه تصرف للمأمون في الاختبارات بحروب أخيه، وبعقد اللواء لطاهر، وأن المامون أعظم حكمته، فسأله عن مدة ملكهم فأخبره بانقطاع الملك من عقبه واتصاله في ولد أخيه، وأن العجم يتغلبون على الخلافة من الديلم في دولة سنة خمسين، ويكون ما يريده الله، ثم يسوء حالهم، ثم تظهر الترك من شمال المشرق فيملكونه إلى الشام والفرات وسيحون وسيملكون بلاد الروم، ويكون ما يريده الله. فقال له المأمون: من أين لك هذا؟ فقال من كتب الحكماء ومن أحكام صصة بن داهر الهندي الذي وضع الشطرنج. قلت والترك الذين أشار إلى ظهورهم بعد الديلم هم السلجوقية، وقد انقضت دولتهم أول القرن السابع.
قال جراس: وانتقال القران إلى المثلثة المائية من برج الحوت يكون سنة ثلاث ثلاثين وثمانمائة ليزدجرد، وبعدها إلى برج العقرب حيث كان قران الملة سنة ثلاث وخمسين. قال والذي في الحوت هو أول الانتقال. والذي في العقرب يستخرج مف دلائل الملة. قال: وتحويل السنة الأولى من القران الأول في المثلثات المائية في ثاني رجب سنة ثمان وستين وثمانمائة " . ولم يستوف الكلام على ذلك.
وأما مستند المنجمين في دولة على الخصوص، فمن القران الأوسط وهيئة الفلك عند وقوعه، لأن له دلالة عندهم على حدوث الدولة، وجهاتها من العمران، القائمين بها من الأمم، وعدد ملوكهم وأسمائهم وأعمارهم ونحلهم وأديانهم وعوائدهم وحروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات. وقد توجد هذه الدلالة من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالاً عليه، فمن هذا يوجد الكلام في الدول.
وقد كان يعقوب بن إسحق الكندي منجم الرشيد والمأمون وضع في القرانات الكائنة في الملة كتاباً سماه: الشيعة بالجفر، باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصادق، وذكر فيه فيما يقال حدثان دولة بني العباس، وأنها نهايته، وأشار إلى انقراضها والحادثة على بغداد، أنها تقع في انتصاف المائة السابعة، وأن بانقراضها يكون انقراض الملة. ولم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب ولارأينا من وقف عليه، ولعله غرق في كتبهم التي طرحها هلاكو ملك التتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد، وقتل المستعصم آخر الخلفاء. وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يسمونه الجفر الصغير، والظاهر أنه وضع لبني عبد المؤمن، لذكر الأولين من ملوك الموحدين فيه على التفصيل، ومطابقة من تقدم عن ذلك من حدثانه، وكذب ما بعده.
وكان فى دولة بني العباس من بعد الكندي منجمون وكتب في الحدثان. وانظر ما نقله الطبري في أخبار المهدي عن أبي بديل من أصحاب صنائع الدولة، قال: بعث إلي الربيع والحسن في غزاتهما مع الرشيد أيام أبيه، فجئتهما جوف الليل، فإذا عندهما كتاب من كتب الدولة يعني الحدثان، وإذا مدة المهدي في عشر سنين. فقلت هذا الكتاب لا يخفى على المهدي، وقد مضى من دولته ما مضى، فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه. قالا: فما الحيلة؟ فاستدعيت عنبسة الوراق مولى آل بديل، وقلت له انسخ هذه الورقة، واكتب مكان عشر أربعين ففعل، فو الله لولا أني رأيت العشرة في تلك الورقة والأربعين في هذه ما كنت أشك أنها هي. ثم كتب الناس من بعد ذلك في حدثان الدول منظوماً ومنثوراً ورجزاً ما شاء الله أن يكتبوه، وبأيدي الناس متفرقة كثير منها، وتسمى الملاحم. وبعضها في حدثان الملة على العموم، وبعضها في دولة على الخصوص. وكلها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة. وليس منها أصل يعتمد على روايته عن واضعه المنسوب إليه.
الملاحم: فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرانة من بحر الطويل على روي الراء، وهي متداولة بين الناس. وتحسب العامة أنها من الحدثان العائم، فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل. والذي سمعناه من شيوخنا أنها مخصوصة بدولة لمتونة، لأن الرجل كان قبيل دولتهم، وذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمود وملكهم لعدوة الأندلس. ومن الملاحم بيد أهل المغرب أيضاً قصيدة تسمى التبعية أولها:

طربت وما ذاك مني طرب ... وقد يطرب الطائر المغتصب
وما ذاك مني للهو أراه ... ولكن لتذكار بعض السبب
قريباً من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال. ذكر فيها كثيراً من دولة الموحدين وأشار فيها إلى الفاطمي وغيره. والظاهر أنها مصنوعة. ومن الملاحم بالمغرب أيضاً ملعبة من الشعر الزجلي منسوبة لبعض اليهود، ذكر فيها أحكام القرانات لعصره العلويين والنحسين وغيرهما، وذكر ميتته قتيلاً بفاس. وكان كذلك فيما زعموه. وأوله:
في صبغ ذا الأزرق لشرفه خيارا ... فافهموا يا قوم هذي الإشارا
نجم زحل أخبر بذي العلاما ... وبدل الشكلا وهي سلاما
شاشية زرقا بدل العماما ... وشاش أزرق بدل الغرارا
يقول في آخره:
قد تم ذا التجنيس لإنسان يهودي ... يصلب ببلدة فاس في يوم عيد
حتى يجيه الناس من البوادي ... وقتله ياقوم على الفراد
وأبياته نحو الخمسمائة، وهي في القرانات التي دلت على دولة الموحدين. ومن ملاحم المغرب أيضاً قصيدة من عروض المتقارب على روي الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحدين، منسوبة لابن الأبار. وقال لي قاضي قسنطينة الخطيب الكبير أبو علي بن باديس، وكان بصيراً بما يقوله، وله قدم في التنجيم فقال لي: إن هذ ابن الأبار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مقتول المستنصر، وإنما هو رجل خياط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ. وكان والدي رحمه الله تعالى ينشد هذه الأبيات من هذه الملحمة وبقي بعضها في حفظي مطلعها:
عذيري من زمن قلب ... يغر ببارقه الأشنب
ومنها:
ويبعث من جيشه قائداً ... ويبقى هناك على مرقب
فتأتي إلى الشيخ أخباره ... فيقبل كالجمل الأجرب
ويظهر من عدله سيرة ... وتلك سياسة مستجلب
ومنها في ذكر أحوال تونس على العموم:
فإما رأيت الرسوم انمحت ... ولم يرع حق لذي منصب
فخذ في الترحل عن تونس ... وودع معالمها واذهب
فسوف تكون بها فتنة ... تضيف البريء إلى المذنب
ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص هؤلاء بتونس، فيها بعد السلطان أبي يحيى الشهير عاشر ملوكهم ذكر محمد أخيه من بعده. يقول فيها:
وبعد أبي عبد الإله شقيقه ... ويعرف بالوثاب في نسخة الأصل
إلا أن هذا الرجل لم يملكها بعد أخيه، وكان يمني بذلك نفسه إلى أن هلك.
ومن الملاحم في المغرب أيضاً الملعبة المنسوبة إلى الهوشني على لغة العامة في عروض البلد التي أولها:
دعني بدمعي الهتان ... فترت الأمطار ولم تفتر
واستقت كلها الويدان ... وأنى تملي وتنغدر
البلاد كلها تروي ... فأولى ماميل ماتدري
ما بين الصيف والشتوي ... والعام والربيع تجري
قال حين صحت الدعوى ... دعني نبكي ومن عذر
أنادي من في الأزمان ... ذا القرن اشتد وتمري
وهي طويلة ومحفوظة بين عامة المغرب الأقصى، والغالب عليها الوضع، لأنه لم يصح منها قول إلا على تأويل تحرفه العامة أو الحارف فيه من ينتحلها من الخاصة. ووقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربي الحاتمي في كلام طويل شبه ألغاز لا يعلم تأويله إلا الله. لتخلله أوفاق عددية ورموز ملغوزة، وأشكال حيوانات تامة، ورؤوس مقطعة، وتماثيل من حيوانات غريبة. وفي آخرها قصيدة على روي اللام، والغالب أنها كلها غير صحيحة، لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة ولا غيرها. وسمعت أيضاً أن هناك ملاحم أخرى منسوبة لابن سينا وابن عقب، وليس في شيء منها دليل على الصحة، لأن ذلك إنما يؤخذ من القرانات. ووقفت بالمشرق أيضاً على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجريقي وكلها ألغاز بالحروف أولها:
إن شئت تكشف سر الجفر يا سائلي ... من علم جفر وصي والد الحسن
فافهم وكن واعياً حرفا وجملته ... والوصف فافهم كفعل الحاذق الفطن

أما الذي قبل عصري لست أذكره ... لكنني أذكر الآتي من الزمن
بشهر بيبرس يبقى بعد خمستها ... بحاء ميم بطيش نام في الكنن
شين له أثرمن تحت سرته ... له القضاء قضى أي ذلك المنن
فمصر والشام مع أرض العراق له ... وأذربيجان في ملك إلى اليمن
ومنها:
وآل بوران لما نال طاهرهم ... الفاتك الباتك المعني بالسمن
لخلع سين ضعيف السن سين أتى ... لا لو فاق ونون ذي قرن
قوم شجاع له عقل ومشورة ... يبقى بحاء وأين بعد ذو سمن
ومنها:
من بعد باء من الأعوام قتلته ... يلي المشورة ميم الملك ذو اللسن
ومنها:
هذا هو الأعرج الكلبي فاعن به ... في عصره فتن ناهيك من فتن
يأتي من الشرق في جيش يقدمهم ... عار عن القاف قاف جد بالفتن
بقتل دال ومثل الشام أجمعها ... أبدت بشجو على الأهلين والوطن
إذا أتى زلزلت يا ويح مصرمن الزلزال ما زال حاء غير مقتطن
طاء وظاء وعين كلهم حبسوا ... هلكا وينفق أموالاً بلا ثمن
يسير القاف قافاً عند جمعهم ... هون به إن ذاك الحصن في سكن
وينصبون أخاه وهو صالحهم ... لا سلم الأ لف سين لذاك بني
تمت ولايتهم بالحاء لا أحد ... من السنين يداني الملك في الزمن
ويقال إنه أشار إلى الملك الظاهر وقدوم أبيه عليه بمصر:
يأتي إليه أبوه بعد هجرته ... وطول غيبته والشظف والزرن
وأبياتها كثيرة والغالب أنها موضوعة، ومثل صنعتها كان في القديم كثير أو معروف الانتحال.
حكى المؤزخون لأخبار بغداد: أنه كان بها أيام المقتدر وراق ذكي يعرف بالدنيالي، يبل الأوراق ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم، ويحصل على ما يريد منهم من الدنيا، وأنه وضع في بعض دفاتره ميماً، مكررة ثلاث مرات، وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر وكان عظيماً في الدولة فقال له: هذا كناية عنك، وهومفلح مولى المقتدر، ميم في كل واحدة. وذكر عندها ما يعلم فيه رضاه مما يناله من الدولة ونصب لذلك علامات من أحواله المتعارفة موه بها عليه، فبذل له ما أغناه به. ثم وضعه للوزير، الحسن بن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولاً فجاءه بأوراق مثلها وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف، وبعلامات ذكرها وأنه يلي الوزارة للثامن عشر من الخلفاء وتستقيم الأمور على يديه، ويقهر الأعداء، وتعمر الدنيا في أيامه، وأوقف مفلحاً هذا على الأوراق وذكر فيها كوائن أخرى، وملاحم من هذا النوع، مما وقع ومما لم يقع، ونسب جميعه إلى دانيال، فأعجب به مفلح. ووقف عليه المقتدر، واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب، وكان ذلك سبباً لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز. والظاهر أن هذه الملحمة التي ينسبونها إلى الباجريقي من هذا النوع.
ولقد سألت أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية، عن هذه الملحمة، وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي، وكان عارفاً بطرائقهم، فقال: كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية، وكان يتحدث عما يكون بطريق الكشف ويومي إلى رجال معينين عنده، ويلغز عليهم بحروف يعينها في ضمنها لمن يراه منهم. وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه، وولع الناس بها، وجعلوها ملحمة مرموزة، وزاد فيها الخراصون من ذلك الجنس في كل عصر، وشغل العامة بفك رموزها، وهو أمر ممتنع، إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله، ويوضع له وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه. فرأيت من كلام هذا الرجل الفاصل، شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة. " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " . والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الباب الرابع من الكتاب الأول

في البلدان والأمصار وسائر العمران
وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق
الفصل الأول

في أن الدول أقدم من المدن والأمصار
وأنها إنما توجد ثانية عن الملك وبيانه أن البناء واختطاط المنازل إنما هو من منارع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة كما قدمناه. وذلك متآخر عن البداوة ومنازعها. وأيضا فالمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير. وهي موضوعة للعموم لا للخصوص، فتحتاج إلى اجتماع الأيدي، وكثرة التعاون. وليست من الأمور الضرورية للناس التى تعم بها البلوى، حتى يكون نزوعهم إليها اضطراراً، بل لا بد من إكراههم على ذلك، وسوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك، أو مرغبين في الثواب والأجر الذي لا يفي بكثرته إلا الملك والدولة. فلا بد في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدولة والملك.
ثم إذا بنيت المدينة وكمل تشييدها بحسب نظر من شيدها، وبما اقتضته الأحوال السماوية والأرضية فيها، فعمر الدولة حينئذ عمر لها. فإن كان عمر الدولة قصيراً وقف الحال فيها عند انتهاء الدولة وتراجع عمرانها وخربت، وإن كان أمد الدولة طويلاً ومدتها منفسحة، فلا تزال المصانع فيها تشاد والمنازل الرحيبة تكثر وتتعدد، ونطاق الأسواق يتباعد وينفسخ، إلى أن تتسع الخطة وتبعد المسافة وينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد وأمثالها.
ذكر الخطيب في تاريخه أن الحمامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة وستين ألف حمام، وكانت مشتملة على مدن وأمصار متلاصقة ومتقاربة تجاوز الأربعين، ولم تكن مدينة وحدها يجمعها سور واحد لإفراط العمران. وكذا حال القيروان وقرطبة والمهدية في الملة الأسلامية، وحال مصر القاهرة بعدها فيما يبلغنا لهذا العهد.
وأما بعد انقراض الدولة المشيدة للمدينة: فإما أن يكون لضواحي تلك المدينة وما قاربها من الجبال والبسائط بادية يمدها العمران دائماً، فيكون ذلك حافظاً لوجودها، ويستمر عمرها بعد الدولة كما تراه بفاس وبجاية من المغرب، وبعراق العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال، لأن أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرفه والكسب، تدعو إلى الدعة والسكون الذي في طبيعة البشر، فينزلون المدن والأمصار ويتأهلون. وأما إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسسة مادة تفيدها العمران بترادف الساكن من بدوها، فيكون انقراض الدولة خرقاً لسياجها، فيزول حفظها، ويتناقص عمرانها شيئاً فشيئاً، إلى أن يبذعر ساكنها وتخرب، كما وقع بمصر وبغداد والكوفة بالمشرق والقيروان والمهدية وقلعة بني حماد بالمغرب، وأمثالها فتفهمه. وربما ينزل المدينة بعد انقراض مختطيها الأولين ملك آخر ودولة ثانية، يتخذها قراراً وكرسياً يستغني بها عن اختطاط مدينة ينزلها. فتحفظ تلك الدولة سياجها، وتتزايد مبانيها ومصانعها، بتزايد أحوال الدولة الثانية وترفها، وتستجد بعمرانها عمراً آخر، كما وقع بفاس والقاهرة لهذا العهد. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل الثاني
في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار

وذلك أن القبائل والعصائب إذا حصل لهم الملك اضطروا للاستيلاء على الأمصار لأمرين: أحدهما ما يدعو إليه الملك من الدعة والراحة وحط الأثقال، واستكمال ما كان ناقصاً من أمور العمران في البدو، والثاني دفع ما يتوقع على الملك من أمر المنازعين والمشاغبين. لأن المصر الذي يكون في نواحيهم ربما يكون ملجأ لمن يروم منازعتهم، والخروج عليهم، وانتزاع ذلك الملك الذي سموا إليه من أيديهم، فيعتصم بذلك المصر ويغالبهم. ومغالبة المصر على نهاية من الصعوبة والمشقة. والمصر يقوم مقام العساكر المتعددة لما فيه من الأمتناع ونكاية الحرب من وراء الجدران، من غير حاجة إلى كثير عدد ولا عظيم شوكة. لأن الشوكة والعصابة إنما احتيج إليهما في الحرب للثبات، لما يقع من بعد كرة القوم بعضهم على بعض عند الجولة، وثبات هؤلاء بالجدران، فلا يضطرون إلى كبير عصابة ولا عدد. فيكون حال هذا الحصن، ومن يعتصم به من المنازعين، مما يفت في عضد الأمة التي تروم الأستيلاء، ويخضد شوكة استيلائها. فإذا كانت بين أجنابهم أمصار انتظموها في استيلائهم للأمن، من مثل هذا الأنخرام، وإن لم يكن هناك مصر استحدثوه ضرورة لتكميل عمرانهم أولاً، وحط أثقالهم، وليكون شجاً في حلق من يروم العزة والامتناع عليهم من طوائفهم وعصائبهم. فتعين أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار والاستيلاء عليها. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث

في أن المدن العظيمة..
والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني وغيرها، وأنها تكون على نسبتها. وذلك أن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم. فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك، حشر الفعلة من أقطارها، وجمعت أيديهم على عملها. وربما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوى والقدر في حمل أثقال البناء، لعجز القوة البشرية وضعفها عن ذلك، كالمخال وغيره. وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة، مثل إيوان كسرى، وأهرام مصر وحنايا المعلقة وشرشال بالمغرب، إنما كانت بقدرتهم متفرقين أو مجتمعين، فيتخيل لهم أجساماً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير، في طولها وقدرها، لتناسب بينها وبين القدر التي صدرت تلك المباني عنها. ويغفل عن شأن الهندام والمخال، وما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية.
وكثيرمن المتغلبين في البلاد يعاين في شأن البناء، واستعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدولة المعتنين بذلك من العجم، ما يشهد له بما قلناه عيانا. وأكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسميها العامة عادية، نسبة إلى قوم عاد، لتوهمهم أن مباني عاد مصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم وليس كذلك، فقد نجد آثاراً كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم، وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم، كإيوان كسرى ومباني العبيديين من الشيعة بإفريقية، والصنهاجيين، وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حماد. وكذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان، وبناء الموحدين، في رباط الفتح ورباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة، في المنصورة بإزاء تلمسان. وكذلك الحنايا التي جلب إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة أيضاً لهذا العهد. وغير ذلك من المباني والهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريباً وبعيداً، تيقنا أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم. وإنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة. ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد. وقد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي أكثر السنين، ويشاهدونها لا تزيد في جوها ومساحتها وسمكها على المتعاهد. وإنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك. حتى إنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة، كان يتناول السمك من البحر طرياً فيشويه في الشمس. يزعمون بذلك أن الشمس حارة فيما قرب منها، ولا يعلمون أن الحر فيما لدينا هو الضوء لانعكاس الشعاع بمقابلة سطح الأرض والهواء. وأما الشمس في نفسها فغير حار، ولا باردة. وإنما هي كوكب مضيء لا مزاج له. وقد تقدم شيء من هذا في الفصل الثاني، حيث ذكرنا أن آثار الدولة على نسبة قوتها في أصلها. والله يخلق مايشاء ويحكم مايريد.

الفصل الرابع
في أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها
الدولة الواحدة والسبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء إلى التعاون ومضاعفة القدر البشرية.
وقد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتم. فيبتدىء الأول منهم بالبناء ويعقبه الثاني والثالث، وكل واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي، حتى يتم القصد من ذلك ويكمل ويكون ماثلاً للعيان. يظنه من يراه من الأخرين أنه بناء دولة واحدة.
وانظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب، وأن الذي بناه سبأ بن يشجب، وساق إليه سبعين وادياً. وعاقه الموت عن إتمامه، فأتمه ملوك حمير من بعده.
ومثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنة وقناتها الراكبة على الحنايا العادية. وأكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها. ويشهد لذلك المباني العظيمة لعهدنا نجد الملك الواحد يشرع في اختطاطها وتأسييسها، فإذا لم يتبع أثره من بعده من الملوك في إتمامها بقيت بحالها ولم يكمل القصد فيها. ويشهد لذلك أيضاً أنا نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخبريبها، مع أن الهدم أيسرمبن البناء بكثير، لأن الهدم رجوع إلى الأصل الذي هو العدم، والبناء على خلاف الأصل. فإذا وجدنل بناء تضعف قوتنا البشرية عن هدمه مع سهولة الهدم، علمنا أن القدرة التي أسسته مفرطة القوة، وأنها ليست أثر دولة واحدة. وهذا مثل ماوقع للعرب في إيوان كسرى، لما اعتزم الرشيد على هدمه، وبعث إلى يحيى بن خالد وهو في مجلسه يستشيره في ذلك، فقال: يا أمير المومنين لا تفعل واتركه ماثلاً يستدل به على عظيم ملك آبائك الذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل، فاتهمه في النصيحة، وقال: أخذته النعرة للعجم. والله لأصرعنه. وشرع في هدمه وجمع الأيدي عليه، واتخذ له الفؤوس وحماه بالنار، وصب عليه الخل، حتى إذا أدركه العجز بعد ذلك كله وخاف الفضيحة، بعث إلى يحيى يستشيره ثانياً في التجافي عن الهدم، فقال: يا أمير المؤمنين لا تفعل، واستمر على ذلك، لئلا يقال: عجز أمير المؤمنين وملك العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم، فعرفها الرشيد وأقصر عن هدمه.
وكذلك اتفق للمأمون في هدم الأهرام التي بمصر وجمع الفعلة لهدمها، فلم يحل بطائل. وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط الظل وما بعده من الحيطان، وهنالك كان منتهى هدمهم. وهو إلي اليوم فيما يقال منفذ ظاهر. وبزعم الزاعمون أنه وجد ركازاً بين تلك الحيطان. والله أعلم.
وكذلك حنايا المعلقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم وتستجيد الصناع حجارة تلك الحنايا، فيحاولون على هدمها الأيام العديدة. ولا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق، وتجتمع له المحافل المشهورة. شهدت منها فى أيام صباي كثيراً.
" والله خلقكم وما تعملون " .
الفصل الخامس
فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن
وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المصللوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدعة والسكون، وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار. ولما كان ذلك للقرار والمأوى، وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها، وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها: فأما الحماية من المضار فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار، وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من الأمكنة إما على هضبة متوعرة من الجبل، وأما باستدارة بحر أو نهر بها، حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها. ومما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض. فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً، أو مجاوراً للمياه الفاسدة أو لمناقع متعفنة أو لمروج خبيثة، أسرع إليها العفن من مجاورتها، فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة، وهذا مشاهد.

والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب. وقد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بإفريقية، فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه. ولقد يقال أن ذلك حادث فيها، ولم تكن كذلك من قبل. ونقل البكري في سبب حدوثه، أنه وقع فيها حفر ظهر فيه إناء من نحاس مختوم بالرصاص. فلما فض ختانه صعد منه دخان إلى الجو وانقطع. وكان ذلك مبدأ أمراض الحميات فيه. وأراد بذلك أن الأناء كان مشتملاً على بعض أعمال الطلسمات لوبائه، وأنه ذهب سره بذهابه، فرجع إليها العفن والوباء.
وهذه الحكاية من مذاهب العامة ومباحثهم الركيكة. والبكري لم يكن من نباهة العلم واستنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبين خرقه فنقله كما سمعه.
والذي يكشف لك الحق في ذلك أن هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيئها لتعفين الأجسام وأمراض الحميات ركودها. فإذا تخللتها الريح وتفشت وذهبت بها يميناً وشمالاً، خف شأن العفن والمرض البادي منها للحيوانات.
والبلد إذا كان كثير الساكن وكثرت حركات أهله فيتموج الهواء ضرورة، وتحدث الريح المتخللة للهواء الراكد، ويكون ذلك معيناً له على الحركة والتموج. وإذا خص الساكن لم يجد الهواء معيناً على حركته وتموجه، وبقي ساكناً راكداً، وعظم عفنه وكثر ضرره. وبلد قابس هذه، كانت عندما كانت إفريقية مستجدة العمران، كثيرة الساكن تموج بأهلها موجاً. فكان ذلك معيناً على تموج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه، فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض. وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها، فكثر العفن والمرض. فهذا وجهه لا غير.
وقد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت، ولم يراع فيها طيب الهواء. وكانت أولاً قليلة الساكن، فكانت أمراضها كثيرة. فلما كثر ساكنها انتقل حالها عن ذلك. وهذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمى بالبلد الجديد، وكثير من ذلك في العالم. فتفهمه تجد ما قلته لك.
وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور: منها الماء، بأن يكون البلد على نهر، أو بإزائها عيون عذبة ثرة. فإن وجود الماء قريباً من البلد يسهل على الساكن حاجة الماء وهي ضرورية، فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة. ومما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار لا بد له من دواجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب، ولا بد لها من المرعى. فإذا كان قريباً طيباً، كان ذلك أرفق بحالهم، لما يعانون من المشقة في بعده. ومما يراعى أيضاً المزارع، فإن الزروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها، كان ذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله. ومن ذلك الشجر للحطب والبناء، فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقود النيران للاصطلاء والطبخ. والخشب أيضاً ضروري لسقفهم وكثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم. وقد يراعى أيضاً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية. إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول. وهذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات، وما تدعو إليه ضرورة الساكن. وقد يكون الواضع غافلاً عن حسن الاختيار الطبيعي، أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه وقومه، ولا يذكر حاجة غيرهم، كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق وإفريقية، فإنهم لم يراعوا فيها إلا الأهم عندهم، من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشجر والماء الملح. ولم يراعوا الماء، ولا المزارع، ولا الحطب، ولا مراعي السائمة من ذوات الظلف، ولا غير ذلك، كالقيروان. والكوفة والبصرة وأمثالها. ولهذا كانت أقرب إلى الخراب لما لم تراع فيها الأمور الطبيعية.

ومما يراعى في البلاد الساحلية التي على البحر، أن تكون في جبل، أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد، تكون صريخاً للمدينة متى طرقها طارق من العدو. والسبب في ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر، ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات، ولا موضعها متوعر من الجبل، كانت في غرة للبيات، وسهل طروقها في الأساطيل البحرية على عدوها وتحيفه لها، لما يأمن من وجود الصريخ لها. وأن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عيالاً وخرجوا عن حكم المقاتلة. وهذه كالإسكندرية من المشرق، وطرابلس من المغرب، وبونة وسلا. ومتى كانت القبائل أو العصائب موطنين بقربها، بحيث يبلغهم الصريخ والنعير، وكانت متوعرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها، كان لها بذلك منعة من العدو ويئسوا من طروقها، لما يكابدونه من وعرها، وما يتوقعونه من إجابة صريخها. كما في سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها. فافهم ذلك واعتبره في اختصاص الأسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية، مع أن الدعوة من ورائها ببرقة وإفريقية، وإنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها. ولذلك والله أعلم، كان طروق العدو للإسكندرية وطرابلس في الملة مرات متعددة. والله تعالى أعلم.
الفصل السادس

في المساجد والبيوت العظيمة في العالم
إعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه، وجعلها مواطن لعبادته، يضاعف فيها الثواب، وينمي بها الأجور. وأخبرنا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه، لطفاً بعباده وتسهيلاً لطرق السعادة لهم.
وكانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت فى الصحيحين، وهي مكة والمدينة وبيت المقدس. أما البيت الحرام الذي بمكة، فهو بيت إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. أمره الله ببنائه، وأن يؤذن في الناس بالحج إليه فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصه القرآن، وقام بما أمره المله فيه. وسكن إسماعيل به مع هاجر، ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله، ودفنا بالحجر منه. وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام. أمرهما الله ببناء مسجده ونصب هياكله. ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحق عليه السلام حواليه. والمدينة مهاجر نبينا محمد، صلوات الله وسلامه عليه، آمره الله تعالى بالهجرة إليها وإقامة دين الإسلام بها، فبنى مسجده الحرام بها، وكان ملحده الشريف في تربتها. فهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين ومهوى أفئدتهم، وعظمة دينهم. وفي الأثار من فضلها ومضاعفة الثواب فى مجاورتها والصلاة فيها كثير معروف. فلنشر إلى شيء من الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كفل ظهورها في العالم.

فأما مكة فأوليتها - فيما يقال - أن آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور، ثم هدمها الطوفان بعد ذلك. وليس فيه خبر صحيح يعول عليه. وإنما اقتبسوه من مجمل الآية في قوله: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " . ثم بعث الله إبراهيم، وكان من شأنه وشأن زوجته سارة وغيرتها من هاجر ماهو معروف. وأوحى الله إليه أن يترك ابنه إسماعيل وأمه هاجر بالفلاة، فوضعهما في مكان البيت وسار عنهما. وكيف جعل الله لهما من اللطف في نبع ماء زمزم، ومرور الرفقة من جرهم بهما، حتى احتملوهما وسكنوا إليهما، ونزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه. فاتخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتاً يأوي إليه، وأدار عليه سياجاً من الردم وجعله زرباً لغنمه. وجاء إبراهيم صلوات الله عليه مراراً لزيارته من الشام، أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزرب، فبناه واستعان فيه بابنه إسماعيل، ودعا الناس إلى حجه، وبقي إسماعيل ساكناً به. ولما قبضت أمه هاجر وقام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم، ثم العماليق من بعدهم. واستمر الحال على ذلك، والناس يهرعون إليها من كل أفق من جميع أهل الخليقة، لا من بني إسماعيل ولا من غيرهم ممن دنا أو نأى. فقد نقل أن التبابعة كانت تجج البيت وتعظمه، وأن تبعاً كساها الملاء والوصائل، وأمر بتطهيرها وجعله لها مفتاحاً. ونقل أيضاً أن الفرس كانت تحجه وتقرب إليه، وأن غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم كانا من قرابينهم. ولم يزل لجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتى إذا خرجت خزاعة وأقاموا بها بعدهم ما شاء الله ثم كثر ولد إسماعيل وانتشروا وتشعبوا إلى كنانة، ثم كنانة إلى قريش وغيرهم. وساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره. وأخرجوهم من البيت وملكوا عليهم يومئذ، قصي بن كلاب، فبنى البيت وسقفه بخشب الدوم وجريد النخل. وقال الأعشى:
خلفت بثوبي راهب الدور والتي ... بناها قصي والمضاض بن جرهم
ثم أصاب البيت سيل، ويقال حريق وتهدم، وأعادوا بناءه وجمعوا النفقة لذلك من أموالهم. وانكسرت سفينة بساحل جدة فاشتروا خشبها للسقف. وكانت جدرانه فوق القامة، فجعلوها ثمانية عشر ذراعاً. وكان الباب لاصقاً بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلا تدخله السيول. وقصرت بهم النفقة عن إتمامه فقصروا عن قواعده وتركوا منه ستة أذرع وشبراً أداروها بجدار قصير، يطاف من ورائه، وهو الحجر. وبقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصن ابن الزبير بمكة حين دعا لنفسه، وزحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السكوني. ورمى البيت سنة أربع وستين فأصابه حريق. يقال من النفط الذي رموا به على ابن الزبير فتصدعت حيطانه، فهدمه ابن الزبير، وأعاد بناءه أحسن ما كان، بعد أن اختلفت عليه الصحابة في بنائه واحتج عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: لولا قومك حديثو عهد بكفم لرددت البيت على قواعد إبراهيم، ولجعلت له بابين: شرقياً وغربياً، فهدمه وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام. وجمع الوجوه والأكابر حتى عاينوه.
وأشار عليه ابن عباس بالتحري في حفظ القبلة على الناس، فأدار على الأساس الخشب، ونصب من فوقها الأستار حفظاً للقبلة. وبعث إلى صنعاء في الفضة والكلس، فحملها وسأل عن قطع الحجارة الأول، فجمع منها ما احتاج إليه. ثم شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السلام. ورفع جدرانها سبعاً وعشرين ذراعاً، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه. وجعل فرشها وأزرها بالرخام، وصاغ لها المفاتيح وصفائح الأبواب من الذهب.

ثم جاء الحجاج لحصاره أيام عبد الملك ورمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدعت حيطانه. ثم لما ظفر بابن الزبير شاورعبد الملك فيما بناه وزاده في البيت فأمره بهدمه ورد البيت على قواعد قريش كما هي اليوم. ويقال: إنه ندم على ذلك حين علم صحة رواية ابن الزبير لحديث عائشة، وقال: وددت أني كنت حملت أبا حبيب من أمر البيت وبنائه ما تحمل، فهدم الحجاح منها ستة أذرع وشبراً مكان الحجر، وبناها على أساس قريش، وسد الباب الغربي وما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشرقي. وترك سائرها لم يغير منه شيئاً. فكل البناء الذي فيه اليوم، بناء ابن الزبير. وبين بنائه وبناء الحجاج في الحائط، صلة ظاهرة للعيان، لحمة ظاهرة بين البناءين. والبناء متميزعن البناء بمقدار إصبع، شبه الصدع وقد لحم.
ويعرض ههنا إشكال قوي لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطواف. ويحذر الطائف أن يميل على الشاذروان الدائر على أساس الجدر من أسفلها، فيقع طوافه داخل البيت بناء على أن الجدار إنما قام على بعض الأساس وترك بعضه، وهو مكان الشاذروان. وكذا قالوا في تقبيل الحجر الأسود، لا بد من رجوع الطائف من التقبيل حتى يستوي قائماً لئلا يقع بعض طوافه داخل البيت. وإذا كانت الجدران كلها من بناء ابن الزبير، وهو إنما بني على أساس إبراهيم، فكيف يقع هذا الذي قالوه. ولا مخلص من هذا إلا بأحد أمرين: إما أن يكون الحجاج هدمه جميعه وأعاده، وقد نقل ذلك جماعة، إلا أن العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين وتمييز أحد الشقين من أعلاه عن الآخر في الصناعة يرد ذلك، وأما أن يكون ابن الزبير لم يرد البيت على أساس إبراهيم من جميع جهاته، وإنما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله. فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزبير ليست على قواعد إبراهيم. وهذا بعيد، ولا محيص من هذين. والله تعالى أعلم.
ثم إن ساحة البيت، وهو المسجد، كان فضاء للطائفين، ولم يكن عليه جدار أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر من بعده. ثم كثر الناس، فاشترى عمر رضي الله عنه، دوراً هدمها وزادها في المسجد، وأدار عليها جداراً دون القامة. وفعل مثل ذلك عثمان، ثم ابن الزبير، ثم الوليد بن عبد الملك. وبناه بعمد الرخام. ثم زاد فيه المنصور وابنه المهدي من بعده ووقفت الزيادة واستقرت على ذلك لعهدنا.
وتشريف الله لهذا البيت وعنايته به أكثر من أن يحاط به. وكفى من ذلك أن جعله مهبطاً للوحي والملائكة ومكاناً للعبادة وفرض شعائر الحج ومناسكه وأوجب لحرمه من سائر نواحيه من حقوق التعظيم والحق مالم يوجبه لغيره، فمنع كل من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم. وأوجب على داخله أن يتجرد من المخيط إلا إزاراً يستره. وحمى العائذ به والراتع في مسارحه من مواقع الأفات، فلا يراع فيه خائف ولا يصاد له وحش ولا يحتطب له شجر. وحد الحرم الذي يختص بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التنعيم، ومن طريق العراق سبعة أميال إلى الثنية من جبل المنقطع، ومن طريق الجعرانة تسعة أميال إلى الشعب، ومن طريق الطائف سبعة أميال إلى بطن نمرة، ومن طريق جدة سبه أميال إلى منقطع العشائر.
هذا شأن مكة وخبرها وتسمى أم القرى، وتسمى الكعبة لعلوها من اسم الكعب، ويقال لها أيضاً بكة. قال الأصمعي: لأن الناس يبك بعضهم بعضاً إليها أي يدفع. وقال مجاهد: إنما هي باء بكة أبدلوها ميماً، كما قالوا لازب ولازم لقرب المخرجين. وقال ا لنخعي: بالباء للبيت - وبالميم للبلد. وقال الزهري: بالباء للمسجد كله وبالميم للحرم. وقد كانت الأمم منذ عهد الجاهلية تعظمه، والملوك تبعث إليه بالأموال والذخائر، مثل كسرى وغيره.

وقصة الأسياف وغزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروفة. وقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها، سبعين ألف أوقية من الذهب، مما كان الملوك يهدون للبيت قيمتها ألف ألف دينار مكررة مرتين بمائتي قنطار وزناً. وقال اله علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك، فلم يفعل. ثم ذكر لأبي بكر، فلم يحركه. هكذا قال الأزرقي. وفي البخاري بسنده إلى أبي وائل قال: جلست إلى شيبة بن عثمان، وقال جلس إلي عمر بن الخطاب فقال: هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين. قلت ما أنت بفاعل؟ قال.: ولم؟ قلت: فلم يفعله صاحباك. فقال: هما اللذان يقتدى بهما. وخرجه أبو داود وابن ماجة، وأقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس، وهو الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين سنة تسع وتسعين ومائة، حين غلب على مكة عمد إلى الكعبة فأخذ ما في خزائنها وقال: ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعاً فيها لا ينتفع به، نحن أحق به نستعين به على، حربنا، وأخرجه وتصرف فيه وبطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ.
وأما بيت المقدس وهو المسجد الأقصى فكان، أول أمره أيام الصابئة، موضعاً لهيكل الزهرة، وكانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونه، ويصبونه على الصخرة التي هناك. ثم دثر ذلك الهيكل، واتخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم. وذلك أن موسى صلوات الله عليه، لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس، كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحق، ويعقوب من قبله، وأقاموا بفرض التيه، أمره الله باتخاذ قبة من خشب السنط عين بالوحي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها، وأن يكون فيها التابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها، وأن يصنع مذبحاً للقربان، وصف ذلك كله في التوراة أكمل وصف فصنع القبة ووضع فيها تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضاً عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر، لما تكسرت ووضع المذبح عندها.
وعهد الله إلى موسى بأن يكون هرون صاحب القربان، ونصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها ويقربون في المذبح أمامها، ويتعرضون للوحي عندها. ولما ملكوا أرض الشام أئزلوها بكلكال من بلاد الأرض المقدسة ما بين قسم بني يامين وبني أفراييم. وبقيت هنالك أربع عشرة سنة: سبعاً مئة الحرب، وسبعاً بعد الفتح أيام قسمة البلاد ولما توفي يوشع عليه السلام نقلوها إلى بلد شيلو قريباً من كلكال، وأداروا عليها الحيطان. وأقامت على ذلك ثلاثمائة سنة، حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم كما مر، وتغلبوا عليهم. ثم ردوا عليهم القبة ونقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف. ثم نقلت أيام طالوت إلى كنعان في بلاد بني يامين. ولما ملك داود عليه السلام نقل القبة والتابوت إلى بيت المقدس وجعل عليها خباء خاصاً ووضعها على الصخرة. وبقيت تلك القبة قبلتهم، ووضعوها على الصخرة ببيت المقدس، وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها، فلم يتم له ذلك، وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه، ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام. واتخذ عمده من الصفر وجعل به صرح الزجاج وغشى أبوابه وحيطانه بالذهب، وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذهب، وجعل فى ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد، وهو التابوت الذي فيه الألواح. وجاء به من صهيون بلد أبيه داود نقله إليها أيام عمارة المسجد، فجيء به تحمله الأسباط والكهنوتية حتى وضعه في القبر، ووضعت القبة والأوعية والمذبح، كل واحد حيث أعد له من المسجد. وأقام كذلك ما شاء الله. ثم خربه بختنصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه، وأحرق التوراة والعصا، وصاغ الهياكل ونثر الأحجار.
ثم لما أعادهم ملوك الفرس، بناه عزير نبي إسرائيل لعهده، بإعانة بهمن ملك الفرس، الذي كانت الولادة لبني إسرائيل عليه من سبي بختنصر. وحد لهم في بنيانه حدوداً دون بناء سليمان بن داود عليهما السلام، فلم يتجاوزوهما.

وأما الأواوين التي تحت المسجد، يركب بعضها بعضاً، عمود الأعلى منها على قوس الأسفل في طبقتين. ويتوهم كثير من الناس أنها إصطبلات سليمان عليه السلام، وليس كذلك. وإنما بناها تنزيهاً للبيت المقدس عما يتوهم من النجاسة، لأن النجاسات في شريعتهم، وإن كانت في باطن الأرض، وكان ما بينها وبين ظاهر الأرض محشواً بالتراب، بحيث يصل ما بينها وبين الظاهر خط مستقيم ينجس ذلك الظاهر بالتوهم، والمتوهم عندهم كالمحقق، فبنوا هذه الأواوين على هذه الصورة بعمود الأواوين السفلية تنتهي إلى أقواسها وينقطع خطه، فلا تتصل النجاسة بالأعلى على خط مستقيم. وتنزه البيت عن هذه النجاسة المتوهمة ليكون ذلك أبلغ في الطهارة والتقديس.
ثم تداولتهم ملوك يونان والفرس والروم. واستفحل الملك لبني إسرائيل في هذه المدة: لبني حشمناي من كهنتهم، ثم لصهرهم هيرودس ولبنيه من بعده. وبنى هيرودس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام، وتأنق فيه حتى أكمله في ست سنين. فلما جاء طيطش من ملوك الروم وغلبهم وملك أمرهم خرب بيت المقدس ومسجدها، وأمر أن يزرع مكانه. ثم أخذ الروم بدين المسيح عليه السلام ودانوا بتعظيمه. ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصرانية تارة وتركه أخرى، إلى أن جاء قسطنطين وتنصرت أمه هيلانة، وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم، فأخبرها القمامصة بأنه رمي بخشبته على الأرض، وألقي عليها القمامات والقاذورات. فاستخرجت الخشبة، وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة كأنها على قبره بزعمهم، وخربت ما وجدت من عمارة البيت، وأمرت بطرح الزبل والقمامات على الصخرة، حتى غطاها وخفي مكانها جزاء بزعمها عما فعلوه بقبر المسيح.
ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم، وهو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام والفتح، وحضر عمر لفتح بيت المقدس، وسأل عن الصخرة فأري مكانها وقد علاها الزبل والتراب، فكشف عنها وبنى عليها مسجداً على طريق البداوة. وعظم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه، وما سبق من أم الكتاب في فضله حسبما ثبت.
ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده، على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال، كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفي مسجد دمشق، وكانت العرب تسميه بلاط الوليد. وألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد، وأن ينمقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك وتم بناؤها على ما اقترحه.
ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها، وكانت في ملكة العبيديين خلفاء القاهرة من الشيعة واختل أمرهم، زحف الفرنجة إلى بيت المقدس، فملكوه وملكوا معه عامة ثغور الشام. وبنوا على الصخرة المقدسة منه كنيسة كانوا يعظمونها ويفتخرون ببنائها، حتى إذا استقل صلاح الدين ابن أيوب الكردي بملك مصر والشام، ومحا أثر العبيديين وبدعهم زحف إلى الشام وجاهد من كان به من الفرنجة، حتى غلبهم على بيت المقدس، وعلى ما كانوا ملكوه من ثغور الشام. وذلك لنحو ثمانين وخمسائة من الهجرة. وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد على النحو الذي هو عليه اليوم لهذا العهد.
ولا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول بيت وضع، فقال: مكة. قيل: ثم أي؟ قال: بيت المقدس، قيل: فكم بينهما؟ قال: أربعون سنة. فإن المدة بين بناء مكة وبين بناء بيت المقدس، بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان. لأن سليمان بانيه، وهو ينيف على الألف بكثير.
واعلم أن المراد بالوضع، في الحديث، ليس البناء، وإنما المراد أول بيت عين للعبادة. ولايبعد أن يكون بيت المقدس عين للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدة. وقد نقل أن الصابئة بنوا على الصخرة هيكل الزهرة، فلعل ذلك لأنها كانت مكاناً للعبادة، كما كانت الجاهلية تضع الأصنام والتماثيل حوالي الكعبة وفي جوفها. والصابئة الذين بنوا هيكل الزهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام، فلا تبعد مئة الأربعين سنة بين وضع مكة للعبادة ووضع بيت المقدس، وإن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف. وإن أول من بنى بيت المقدس سليمان عليه السلام، فتفهمه ففيه حل هذا الإشكال.

وأما المدينة المنورة - وهي المسماة بيثرب - فهي من بناء يثرب بن مهلائل من االعمالقة وبه سميت. وملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز. ثم جاورهم بنو قيلة من غسان وغلبوهم عليها وعلى حصونها. ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها، لما سبق من عناية الله بها، فهاجر إليها ومعه أبو بكر وتبعه أصحابه ونزل بها وبنى مسجده وبيوته في الموضع الذي كان الله قد أعده لذلك وشرفه في سابق أزله. وأواه أبناء قيلة ونصروه، فلذلك سموا الأنصار. وتمت كلمة الإسلام من المدينة حتى علت على الكلمات وغلب على قومه وفتح مكة وملكها. وظن الأنصار أنه يتحول عنهم إلى بلده! فأهمهم ذلك، فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنه غير متحول. حتى إذا قبض صلى الله عليه وسلم كان ملحده الشريف بها. وجاء في فضلها من الأحاديث الصحيحه ما لا خفاء به. ووقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكة، وبه قال مالك رحمه الله، لما ثبت عنده في ذلك من النص الصريح عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المدينة خير من مكة " . نقل ذلك عبد الوهاب في المعونة، إلى أحاديث أخرى تدل بظاهرها على ذلك. وخالف أبو حنيفة والشافعي.
وأصبحت على كل حال ثانية المسجد الحرام. وجنح إليها الأمم بأفئدتهم من كل أوب. فانظر كيف تدرجت الفضيلة في هذه المساجد المعظمة، لما سبق من عناية الله. لها، وتفهم سر الله في الكون وتدريجه على ترتيب محكم في أمور الدين والدنيا.
وأما غير هذه المساجد الثلاثة فلا نعلمه في الأرض، إلا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السلام بسرنديب من جزائر الهند. لكنه لم يثبت فيه شيء يعول عليه.
وقد كانت للأمم في القديم مساجد يعظمونها على جهة الديانة بزعمهم. منها بيوت النار للفرس وهياكل يونان وبيوت العرب بالحجاز، التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها في غزواته. وقد ذكر المسعودي منها بيوتاً لسنا من ذكرها في شيء، إذ هي غير مشروعة ولا هي على طريق ديني، ولا يلتفت إليها ولا إلى الخبر عنها. ويكفي في ذلك ما وقع في التواريخ. فمن أراد معرفة الأخبار. فعليه بها. والله يهدي من يشاء سبحانه.
الفصل السابع

في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة
والسبب في ذلك أن هذه الأقطار كانت للبربر، منذ آلاف من السنين قبل الإسلام، وكان عمرانها كله بدوياً، ولم تستمر فيهم الحضارة حتى تستكمل أحولها. والدول التي ملكتهم من الإفرنجة والعرب لم يطل أمد ملكهم فيهم، حتى ترسخ الحضارة منها، فلب تزل عوائد البداوة وشؤونها، فكانوا إليها أقرب، فلم تكثر مبانيهم. وأيضاً فالصنائع بعيدة عن البربر لأنهم أعرق في البدو. والصنائع من توابع الحضارة، وإنما تتم المباني بها، فلا بد من الحذق في تعلمها. فلما لم يكن للبربرانتحال لها لم يكن لهم تشوف إلى المباني فضلاً عن المدن. وأيضاً فهم أهل عصبيات وأنساب لا يخلو عن ذلك جمع منهم. والأنساب والعصبية أجنح إلى البدو.
وإنما يدعو إلى المدن الدعة والسكون، ويصير ساكنها عيالاً على حاميتها، فتجد أهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة أو الإقامة بها. ولا يدعوهم، إلي ذلك إلا الترف والغنى، وقليل ما هو في الناس. فلذلك كان عمران إفريقية والمغرب كله اوأكثره بدوياً، أهل خيام وظواعن وقياطن وكنن في الجبال. وكان عمران بلاد العجم كله أو أكثره قرى وأمصاراً ورساتيق، من بلاد الأندلس والشام ومصر وعراق العجم وأمثالها، لأن العجم في الغالب ليسوا بأهل أنساب يحافظون عليها ويتناغون في صراحتها والتحامها إلا في الأقل. وأكثر ما يكون سكنى البدو لأهل الأنساب، لأن لحمة النسب أقرب وأشد. فتكون عصبيته كذلك، وتنزع بصاحبها إلى سكنى البدو والتجافي عن المصر الذي يذهب بالبسالة ويصيره عيالاً على غيره، فافهمه وقس عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل الثامن
في أن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة
بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول:

والسبب في ذلك. ما ذكرنا مثله في البربر بعينه، إذ العرب أيضاً أعرق في البدو وأبعد عن الصنائع. وأيضاً فكانوا أجانب من الممالك التي استولوا عليها قبل الإسلام. ولما تملكوها لم ينفسح الأمد حتى تستوفي رسوم الحضارة، مع أنهم استغنوا بما وجدوا من مباني غيرهم. وأيضاً فكان الدين أول الأمر مانعاً من المغالاة في البنيان والإسراف فيه في غير القصد، كما عهد لهم عمر حين استأذنوه في بناء الكوفة بالحجارة، وقد وقع الحريق في القصب الذي كانوا بنوا به من قبل، فقال: افعلوا، ولا يزيدن أحد على ثلاثة أبيات. ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة. وعهد إلى الوفد وتقدم إلى الناس أن لا يرفعوا بنياناً فوق القدر. قالوا: وما القدر؟ قال: ما لا يقربكم من السرف ولا يخرجكم عن القصد. فلما بعد العهد بالدين والتحرج في أمثال هذه المقاصد، وغلبت طبيعة الملك والترف، واستخدم العرب أمة الفرس وأخذوا عنهم الصنائع والمباني، ودعتهم إليها أحوال الدعة والترف، فحينئذ شيدوا المباني والمصانع، وكان عهد ذلك قريباً بانقراض الدولة، ولم ينفسح الأمد لكثرة البناء واختطاط المدن والأمصار إلا قليلاً، وليس كذلك غيرهم من الأمم. فالفرس طالت مدتهم آلافاً من السنين وكذلك القبط والنبط والروم، وكذلك العرب الأولى من عاد وثمود والعمالقة والتبابعة، طالت آمادهم ورسخت الصنائع فيهم، فكانت مبانيهم وهياكلهم أكثر عدداً وأبقى على الأيام أثراً. واستبصر في هذا تجده كما قلت لك. والله، وارث الأرض ومن عليها.
الفصل التاسع

في أن المباني التي كانت تختطها العرب
يسرع إليها الخراب إلا في الأقل والسبب في ذلك شأن البداوة والبعد عن الصنائع كما قدمناه، فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها. وله، والله أعلم، وجه آخر وهو أمس به، وذلك قلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه: من المكان وطيب الهواء والمياه والمزارع والمراعي فإنه بالتفاوت في هذه تتفاوت جودة المصر ورداءته من حيث العمران الطبيعي. والعرب بمعزل عن هذا، وإنما يراعون مراعي إبلهم خاصة، لا يبالون با لماء طاب أو خبث، ولا قل أو كثر، ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض، ونقلهم الحبوب من البلد البعيد.
وأما الرياح فالقفر مختلف للمهاب كلها. والظعن كفيل لهم بطيبها لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثرة الفضلات. وانظر لما اختطوا الكوفة والبصرة والقيروان، كيف لم يراعوا في اختطاطها إلى مراعي إبلهم. وما يقرب من القفر ومسالك الظعن، فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن، ولم تكن لها مادة تمد عمرانها من بعدهم، كما قدمنا بأنه يحتاج إليه في حفظ العمران. فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار، ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس. فلأول وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيتهم التي كانت سياجاً لها، أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن. " والله يحكم لا معقب لحكمه " .
الفصل العاشر
في مبادىء الخراب في الأمصار
اعلم أن الأمصار إذا اختطت أولاً تكون قليلة المساكن، وقليلة آلات البناء، من الحجر والجير وغيرهما مما يعالى على الحيطان عند التأنق: كالزلج والرخام والربج والزجاج والفسيفساء والصدف، فيكون بناؤها يومئذ بدوياً وآلاتها فاسدة. فإذا عظم عمران المدينة وكثر ساكنها كثر الآلات بكثرة الأعمال حينئذ، وكثر الصناع إلى أن تبلغ غايتها من ذلك كما سبق بشأنها. فإذا تراجع عمرانها وخف ساكنها قلت الصنائع لأجل ذلك ففقدت الأجادة في البناء والإحكام والمعالاة عليه بالتنميق. ثم تقل الأعمال لعدم الساكن فيقل جلب الآلات من الحجر والرخام وغيرهما، فتفقد ويصير بناؤهم وتشييدهم من الآلات التي في مبانيهم، فينقلونها من مصنع إلى مصنع، لأجل خلاء أكثر المصانع والقصور والمنازل لقلة العمران، وقصوره عما كان أولاً. ثم لا تزال تنقل من قصر إلى قصر ومن دار إلى دار إلى أن يفقد الكثير منها جملة، فيعودون إلى البداوة فى البناء واتخاذ الطوب عوضاً عن الحجارة، والقصور عن التنميق بالكلية. فيعود بناء المدينة مثل بناء القرى والمدر،. ويظهر عليها سيما البداوة. ثم تمر في التناقص إلى غايتها من الخراب إن قدر لها به. سنه الله في خلقه.
الفصل الحادي عشر

في أن تفاضل الأمصار..
والمدن في كثرة الرفه لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة والسبب في ذلك أنه قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه: وأنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك. والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تسد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً. فالقوت من الحنطة مثلاً لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه. وإذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد ونجار للآلات، وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح، وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت، فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم.
وأهل مدينة أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها بالأقل من تلك الأعمال، وبقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات، فتصرف في حالات الترف وعوائده. وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمه، فيكون لهم بذلك حظ من الغنى. وقد تبين لك في الفصل الخامس في باب الكسب والرزق، أن المكاسب إنما هي قيم الأعمال. فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة. ودعتهم أحوال الرفه والغنى إلى الترف وحاجاته من التأنق في المساكن والملابس واستجادة الأنية والماعون واتخاذ الخدم والمراكب. وهذه كلها أعمال تستدعى بقيمها ويختار المهرة في صناعتها والقيام عليها، فتنفق أسواق الأعمال والصنائع، ويكثر دخل المصر وخرجه، ويحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم. ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية. ثم زاد الترف تابعاً للكسب وزادت عوائده وحاجاتة. واستنبطت الصنائع لتحصيلها، فزادت قيمها، وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية، ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول.
وكذا في الزيادة الثانية والثالثة. لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف والغنى، بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب ورفه وبعوائد من الترف لا توجد في الآخر. فما كان عمرانه من الأمصار أكثر وأوفر، كان حال أهله في الترف أبلغ من حال المصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف: القاضي مع القاضي، والتاجر مع التاجر، والصانع مع الصانع، والسوقي مع السوقي، والأمير مع الأمير، والشرطي مع الشرطي.
واعتبر ذلك في المغرب مثلاً بحال فاس مع غيرها من أمصاره الآخرى، مثل بجاية وتلمسان وسبتة، تجد بينهما بوناً كثيراً على الجملة. ثم على الخصوصيات، فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلمسان، وكذا كل صنف مع أهل صنفه. وكذا أيضاً حال تلمسان مع وهران والجزائر، وحال وهران والجزائر مع ما دونهما، إلى أن تنتهي إلى المدر الذين اعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط، أو يقصرون عنها. وما ذاك إلا لتفاوت الأعمال فيها، فكأنها كلها أسواق للأعمال. والخرج في كل سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه، وكذا القاضي بتلمسان. وحيث الدخل والخرج أكثر تكون الأحوال أعظم. وما بفاس أكثر لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف، فالأحوال أضخم. ثم هكذا حال وهران وقسنطينة والجزائر وبسكرة حتى تنتهي كما قلناه إلى الأمصار التي لا توفي أعمالها بضروراتها، ولا تعد في الأمصار إذ هي من قبيل القرى والمدر. فلذلك تجد أهل هذه الأمصار الصغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر والخصاصة، لما أن أعمالهم لا تفي بضروراتهم. ولا يفضل ما يتأثلونه كسباً، فلا تنمو مكاسبهم. وهم لذلك مساكين محاويح، إلا في الأقل النادر. واعتبر ذلك حتى في أحوال الفقراء والسؤال. فإن السائل بفاس أحسن حالاً من السائل بتلمسان أو وهران. ولقد شاهدت بفاس السؤال يسألون أيام الأضاحي أثمان ضحاياهم ورأيتهم يسألون كثيراً من أحوال الترف واقتراح المآكل، مثل سؤال اللحم والسمن وعلاج الطبخ والملابس والماعون، كالغربال والآنية. ولو سأل السائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر وعنف وزجر.

ويبلغنا لهذا العهد عن أصوال أهل القاهرة ومصر من الترف والغنى في عوائدهم ما نقضي منه العجب. حتى إن كثيراً من الفقراء بالمغرب ينزعون إلى النقلة إلى مصر لذلك، ولما يبلغهم من أن شأن الرفه بمصر أعظم من غيرها. وتعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاق على غيرهم، أو أموال مختزنة لديهم،. وأنهم أكثر صدقة وإيثاراً من جميع أهل الأمصار، وليس كذلك. وإنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر والقاهره أكثر من عمران هذه الأمصار التي لديك، فعظمت لذلك أحوالهم.
وأما حال الدخل والخرج فمتكافىء في جميع الأمصار. ومتى عظم الدخل، عظم الخرج وبالعكس. ومتى عظم الدخل والخرج، اتسعت أحوال الساكن ووسع المصر.
وكل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره، واعتبره بكثرة العمران، وما يكون عنه من كثرة المكاسب التي يسهل بسببها البذل والإيثار على مبتغيه. ومثله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة، وكيف تختلف أحوالها في هجرانها أو غشيانها. فإن بيوت أهل النعم والثروة والموائد الخصبة منها، تكثر بساحتها وأفنييها نثير الحبوب وسواقط الفتات، فيزدحم عليها غواشي النمل والخشاش. ويكثر في سربها الجرذان، وتأؤي إليه السنانير وتحلق فوقها عصائب الطيور، حتى تروح بطاناً وتمتلىء شبعاً ورياً. وبيوت أهل الخصاصة والفقر الكاسدة أرزاقهم، لا يسري بساحتها دبيب ولا يحلق بجوها طائر، ولا تأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة ولا هرة، كما قال الشاعر:
يسقط الطير حيث ينتثر الحب ... وتغشى منازل الكرماء
فتأمل سر الله تعالى في ذلك، واعتبر غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات، وفتات الموائد بفضلات الرزق والترف وسهولتها على من يبذلها، لاستغنائهم عنها في الأكثر بوجود أمثالها لديهم. واعلم أن اتساع الأحوال وكثرة النعم في العمران تابع لكثرته. والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو غني عن العالمين.
الفصل الثاني عشر

في أسعار المدن
اعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناس: فمنها الضروري وهي الأقوات من الحنطة والشعير وما في معناهما كالباقلا والحمص والجلبان وسائر حبوب الأقوات ومصلحاتها كالبصل والثوم وأشباهه، ومنها الحاجي والكمالي مثل الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر المصانع والمباني. فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه، رخصت أسعار الضروري من القوت وما في معناه، وغلت أسعار الكمالي من الأدم والفواكه وما يتبعها، وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه، كان الأمر بالعكس من ذلك. والسبب في ذلك أن الحبوب من ضرورات القوت، فتتوفر الدواعي على اتخاذها، إذ كل واحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله، لشهره أو سنته، فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع، أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه، لا بد من ذلك. وكل متخذ لقوته، تفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كثيرة، تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر، فتفضل الأقوات عن أهل المصر من غير شك، فترخص أسعارها في الغالب، إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية. ولولا احتكار الناس لها، لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران.
وأما سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها، فإنها لا تعم فيها البلوى، ولا يستغرق اتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين، ولا الكثير منهم. ثم إن المصر إذا كان مستبحراً، موفور العمران، كثير حاجات الترف، توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كل بحسب حاله، فيقصر الموجود منها عن الحاجات قصوراً بالغاً. ويكثر المستامون لها، وهي قليلة في نفسها، فتزدحم أهل الأغراض، ويبذل أهك الرفه والترف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم، فيقع فيها الغلاء كما تراه.

وأما الصنائع والأعمال أيضاً في الأمصار الموفورة العمران، فسبب الغلاء فيه أمور ثلاثة: الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه، والثاني اعتزاز أهل الأعمال بخدمتهم وامتهان أنفسهم، لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها، والثالث كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم، وإلى استعمال الصناع في مهنهم، فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها، فيعتز العمال والصناع وأهل الحرف، وتغلو أعمالهم، وتكثر نفقات أهل المصر في ذلك.
وأما الأمصار الصغيرة، القليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها، وما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت، فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه، فيعز وجودة لديهم، ويغلو ثمنه على مستامه. وأما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضاً حاجة لقلة الساكن وضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختص بالرخص في سعره.
وقد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات، قيمة ما يفرض عليها من المكوس والمغارم للسلطان، في الأسواق وأبواب المصر وللجباة في منافع يفرضونها على البياعات لأنفسهم. وبذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية، إذ المكوس والمغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة. وبالعكس كثيرة في الأمصار لا سيما في آخر الدولة. وقد تدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح، ويحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد. وذلك أنهم، لما ألجأهم النصارى إلى سيف البحر، وبلاده المتوعره الخبيثة الزراعة النكدة النبات، وملكوا عليهم الأرض الزاكية والبلد الطيب، فاحتاجوا إلى علاج المزارع والفدن لإصلاح نباتها وفلحها، وكان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم ومواد من الزبل وغيره لها مؤونة، وصارت في فلحهم نفقات لها خطر، فاعتبروها في سعرهم. واختص قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرهم النصارى إلى هذا المعمور بالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك.
ويحسب الناس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنها لقلة الأقوات والحبوب في أرضهم، وليس كذلك، فهم أكثر أهل المعمور فلحاً فيما علمناه وأقومهم عليه، وقل أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدان أو مزرعة أو فلح، إلا قليلاً من أهل الصناعات والمهن أو الطراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. ولهذا يختصهم السلطان في عطائهم بالعولة، وهي أقواتهم وعلوفاتهم من الزرع. وإنما السبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه.
ولما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم وطيب أرضهم ارتفعت عنهم المؤن جملة في الفلح مع كثرته وعمومه، فصار ذلك سبباً لرخص الأقوات ببلدهم. والله مقدر الليل والنهار، وهو الواحد القفار، لا رب سواه.
الفصل الثالث عشر

في قصور أهل البادية
عن سكنى المصر الكثير العمران والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران، يكثر ترفة كما قدمناه، وتكثر حاجات ساكنه من أجل الترف، وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها، فتنقلب ضرورات وتصير الأعمال فيه كلها مع ذلك عزيزة والمرافق غالية، بازدحام الأغراض عليها من أي الترف، وبالمغارم السلطانية التي توضع على الأسواق والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات، ويعظم فيها الغلاء في المرافق والأقوات والأعمال، فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه. ويعظم خرجه، فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مؤنهم.
والبدوي لم يكن دخله كثيراً، إذ كان ساكناً بمكان كاسد الأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب، فلم يتأثل كسباً ولا مالاً فيتعذرعليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير، لغلاء مرافقه وعزة حاجاته. وهو في بدوه يسد خلته بأقل الأعمال، لأنه قليل عوائد الترف في معاشه وسائر مؤنه، فلا يضطر إلى المال. وكل من يتشوف إلى المصر وسكناه من أهل البادية، فسريعاً ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه، إلا من تقدم منهم تأثل المال، ويحصل له منه فوق الحاجة، ويجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة والترف. فحينئذ ينتقل إلى المصر، وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم. وهكذا شأن بداية عمران الأمصار. والله بكل شيء محيط.
الفصل الرابع عشر
في أن الأقطار في اختلاف أحوالها..
بالرفه والفقر مثل الأمصار

اعلم أن ما توفر عمرانه من الأقطار، وتعددت الأمم في جهاته، وكثر ساكنه اتسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم. والسبب في ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الأعمال، وما يأتي ذكره من أنها سبب للثروة، بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته، فيعود على الناس كسباً يتأثلونه، حسبما نذكر ذلك في فصل المعاش وبيان الرزق والكسب. فيزيذ الرفه لذلك، وتتسع الأحوال، ويجيء الترف والغنى، وتكثر الجباية للدولة بنفاق الأسواق، فيكثر مالها ويشمخ سلطانها، ويتفنن في اتخاذ المعاقل والحصون، واختطاط المدن، وتشييد الأمصار.
واعتبر ذلك بأقطار المشرق، مثل مصر والشام وعراق العجم والهند والصين، وناحية الشمال كلها، وأقطارها وراء البحر الرومي، لما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم، وعظمت دولهم، وتعددت مدنهم وحواضرهم، وعظمت متاجرهم وأحوالهم. فالذي نشاهده لهذا العهد، من أحوال تجار الأمم النصرانية، الواردين على المسلمين بالمغرب، في رفههم واتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. وكذا تجار أهل المشرق، وما يبلغنا عن أحوالهم وأبلغ منها أحوال أهل المشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصين، فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى والرفه غرائب تسير الركبان حديثها، وربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر. ويحسب من يسمعها في العامة أن ذلك زياده في أموالهم، أو لأن المعادن الذهبية والفضية أكثر بأرضهم، أو لأن ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم، وليس كذلك. فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار، إنما هو ببلاد السودان، وهي إلى المغرب أقرب. وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة. فلو كان المال عتيداً موفوراً لديهم، لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأمواك، ولاستغنوا عن أموال الناس بالجملة.
ولقد ذهب المنجمون لما رأوا مثل ذلك، واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتساعها ووفورأموالها، فقالوا بأن عطايا الكواكب والسهام في مواليد أهل المشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب. وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النجومية والأحوال الأرضية كما قلناه. وهم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي، وبقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي، وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره. وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الأعمال التي هي سببه، فلذلك اختص المشرق بالرفه من بين الآفاق، لا أن ذلك لمجرد الأثر النجومي. فقد فهمت مما أشرنا لك أولاً أنه لا يستقل بذلك، فإن المطابقة بين حكمه وعمران الأرض وطبيعتها أمرلا بد منه.
واعتبر حال هذا الرفه من العمران، في قطر إفريقية وبرقة، لما خف ساكنها وتناقص عمرانها، كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة. وضعفت جباياتها، فقلت أموال دولها، بعد أن كانت دول الشيعة وصنهاجة بها، على ما بلغك من الرفه وكثرة الجبايات واتساع الأحوال في نفقاتهم وأعطياتهم. حتى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته ومهماته في غالب الأوقات. وكانت أموال الدولة، بحيث حمل جوهر الكاتب في سفره إلى فتح مصر ألف حمل من المال، يستعدها لأرزاق الجنود وأعطياتهم ونفقات الغزاة.
وقطر المغرب وإن كان في القديم دون إفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك. وكانت أحواله في دول الموحدين متسعة وجباياته موفورة. وهو لهذا العهد قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه، وتناقصه، فقد ذهب من عمران البربر فيه أكثره، ونقص عن معهوده نقصاً ظاهراً محسوساً، وكاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوال إفريقية، بعد أن كان عمرانه متصلاً من البحر الرومي إلى بلاد السودان، في طول ما بين السوس الأقصى وبرقة. وهي اليوم كلها أو أكثرها قفار وخلاء وصحارى، إلا ما هو منها بسيف البحر أو ما يقاربه من التلول. والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
الفصل الخامس عشرفي تأثل العقار والضياع في الامصار وحال فوائدها ومستغلاتها

اعلم أن تأثل العقار والضياع الكثيرة لأهل الأمصار والمدن، لا يكون دفعة واحدة، ولا في عصر واحد إذ ليس يكون لأحد منهم من الثروة، ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمها عن الحد، ولو بلغت أحوالهم في الرفه ما عسى أن تبلغ. وإنما يكون ملكهم وتأثلهم لها تدريجاً، إما بالوراثة من آبائه وذوي رحمه، حتى تتأذى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد وأكثر كذلك، أو أن يكون بحوالة الأسواق. فإن العقار في أواخر الدولة وأول الأخرى، عند فناء الحامية، وخرق السياج، وتداعي المصر إلى الخراب، تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها، بتلاشي الأحوال، فترخص قيمها وتتملك بالأثمان اليسيرة، وتتخطى بالميراث إلى ملك الآخر، وقد استجد المصر شبابه باستفحال الدولة الثانية، وانتظمت له أحوال رائقة حسنة، تحصل معها الغبطة في العقار والضياع، لكثر الغبطة في العقار والضياع، لكثرة منافعها حينئذ فتعظم قيمها، ويكون لها خطر لم يكن في الأول. وهذا معنى الحوالة فيها. ويصبح مالكها من أغنى أهل المصر، وليس ذلك بسعيه واكتسابه، إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك.
وأما فوائد العقار والضياع فهي غير كافية لمالكها في حاجات معاشه، إذ هي لا تفي بعوائد الترف وأسبابه، وإنما هي في الغالب لسد الخلة وضرورة المعاش. والذي سمعناه من مشيخة البلدان أن القصد باقتناء الملك من العقار والضياع، إنما هو الخشية، من يترك خلفه من الذرية الضعفاء، ليكون مرباهم به ورزقهم فيه، ونشؤهم بفائدته ماداموا عاجزين عن الاكتساب. فإذا اقتدروا على تحصيل المكاسب سعوا فيها بأنفسهم. وربما يكون من الولد من يعجز عن التكسب لضعف في بدنه أو آفة في عقله المعاشي، فيكون ذلك العقار قواماً لحاله. هذا قصد المترفين في اقتنائه. وأما التمول وإجراء أحوال المترفين فلا. وقد يحصل ذلك منه للقليل أو النادر بحوالة الأسواق، حصول الكثرة البالغة منه، والعالي في جنسه وقيمته في المصر. إلا أن ذلك إذا حصل فربما امتدت إليه أعين الأمراء والولاة، واغتصبوه في الغالب، أو أرادوه على بيعه منهم، ونالت أصحابه منه مضار ومعاطب. والله غالب على أمره، وهو رب العرش العظيم.
الفصل السادس عشر

في حاجات المتمولين من أهل الأمصار
إلى الجاه والمدافعة وذلك أن الحضري إذا عظم تموله وكثر للعقار والضياع تأثله، وأصبح أغنى أهل المصر ورمقته العيون بذلك، وانفسحت أحواله في الترف والعوائد، زاحم عليها الأمراء والملوك وغصوا به. ولما في طباع البشر من العدوان، تمتد أعينهم إلى تملك ما بيده، وينافسونه فيه، ويتحيلون على ذلك بكل ممكن، حتى يحصلونه في ربقة حكم سلطاني، وسبب من المؤاخذة ظاهر، ينتزع به ماله. وأكثر الأحكام السلطانية جائرة في الغالب، إذ العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية وهي قليلة اللبث. قال صلى الله عليه وسلم : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تعود ملكاً عضوضاً " . فلا بد حينئذ لصاحب المال والثروة الشهيرة في العمران، من حامية تذود عنه، وجاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك، أو خالصة له أو عصبية يتحاماها السلطان، فيستظل هو بظلها، ويرتع فى أمنها من طوارق التعدي. وإن لم يكن له ذلك، أصبح نهباً بوجوه التحيلات وأسباب الحكام. والله يحكم لامعقب لحكمه.
الفصل السابع عشر
في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول
وإنما ترسخ باتصال الدولة ورسوخها

والسبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتاً غير منحصر. ويقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون بمنزلة الصنائع، ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه، المهرة فيه. وبقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل صناعتها، ويتلون ذلك الجيل بها. ومتى اتصلت الأيام وتعاقبت تلك الصناعات، حذق أولئك الصناع في صناعتهم، ومهروا في معرفتها. والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرر أمثالها تزيدها استحكاماً ورسوخاً. وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستبحار العمران وكثرة الرفه في أهلها. وذلك كله إنما يجيء من قبل الدولة، لأن الدولة تجمع أموال الرعية وتنفقها في بطانتها ورجالها. وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر من اتساعها بالمال، فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا وخرجها في أهل الدولة، ثم فيمن تعلق بهم من أهل المصر، وهم الأكثر، فتعظم لذلك ثروتهم، ويكثر غناهم، وتتزيد عوائد الترف ومذاهبه، وتستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه، وهذه هي الحضارة. ولهذا نجد الأمصار التي في القاصية، ولوكانت موفورة العمران، تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها، بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركز الدولة ومقرها. وما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم وفيض أمواله فيهم، كالماء يخضر ما قرب منه، مما قرب، من الأرض، إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد. وقد قدمنا أن السلطان والدولة سوق للعالم. فالبضائع كلها موجودة في السوق وما قرب منه، وإذا بعدت عن السوق افتقدت البضائع جملة. ثم إنه إذا اتصلت تلك الدولة، وتعاقب ملوكها في ذلك المصر، واحدا بعد واحد، استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخاً.
واعتبر ذلك في اليهود، لما طال ملكهم بالشام نحواً من ألف وأربعمائة سنة، رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده، والتفنن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائر أحوال المنزل. حتى إنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. ورسخت الحضارة أيضاً وعوائدها في الشام منهم، ومن دولة الروم بعدهم ستمائة سنة، فكانوا في غاية الحضارة.
وكذلك أيضاً القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين، فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر، وأعقبهم بها ملك اليونان والروم، ثم ملك الإسلام الناسخ للكل. فلم تزل عوائد الحضارة بها متصلة. وكذلك أيضاً رسخت عوائد الحضارة باليمن، لاتصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة والتبابعة آلافاً من السنين. وأعقبهم ملك مضر.
وكذلك الحضارة بالعراق لاتصال دولة النبط والفرس بها، من لدن الكلدانيين والكينية والكسروية والعرب بعدهم آلافاً من السنين فلم يكن على وجه الأرض لهذا العهد أحضر من أهل الشام والعراق ومصر.
وكذا أيضاً رسخت عوائد الحضارة واستحكمت بالأندلس، لاتصال الدولة العظيمة فيها للقوط، ثم ما أعقبها من ملك بني أمية - آلافاً من السنين. وكلتا الدولتين عظيمة. فاتصلت فيها عوائد الحضارة واستحكمت.

وأما إفريقية والمغرب، فلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم. إنما قطع الروم والإفرنجة إلى إفريقية البحر، وملكوا الساحل، وكانت طاعة البربر أهل الضاحية لهم طاعة غير مستحكمة. فكانوا على قلعة أو فاز. وأهل المغرب لم تجاورهم دولة، وإنما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر. ولما جاء الله بالإسلام وملك العرب إفريقية والمغرب، ولم يلبث فيهم ملك العرب إلا قليلاً أول الإسلام، وكانوا لذلك العهد في طور البداوة، ومن استقر منهم بإفريقية والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفه، إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة. ثم انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود، على يد ميسرة المظفري أيام هشام بن عبد الملك، ولم يراجعوا أمر العرب بعد واستقلوا بأمر أنفسهم، وإن بايعوا لإدريس فلا تعد دولته فيهم عربية، لأن البرابر هم الذين تولوها، ولم يكن من العرب فيها كثير عدد. وبقيت إفريقية للأغالبة ومن إليهم من العرب، فكان لهم من الحضارة بعض الشيء، بما حصل لهم من ترف الملك ونعيمه، وكثرة عمران القيروان. وورث ذلك عنهم كتامة ثم صنهاجة من بعدهم. وذلك كله قليل، لم يبلغ أربعمائة سنة. وانصرمت دولتهم، واستحالت صبغة الحضارة، بما كانت غير مستحكمة. وتغلب بدو العرب الهلالين عليها وخربوها، وبقي أثر خفي من حضارة العمران فيها. وإلى هذا العهد يؤنس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهدية سلف، فتجد له من أحوال الحضارة في شؤون منزله وعوائد أحواله، آثاراً ملتبسة بغيرها، يميزها الحضري البصير بها، وكذا في أكثر أمصار إفريقية. وليس ذلك في المغرب وأمصاره، لرسوخ الدولة بإفريقية أكثر أمداً منذ عهد الأغالبة والشيعة وصنهاجة.
وأما المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحدين من الأندلس، حظ كبير من الحضارة. واستحكمت به عوائدها، بما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلاد الأندلس. وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعاً وكرهاً. وكانت من اتساع النطاق ما علمت، فكان فيها حظ صالح من الحضارة واستحكامها، ومعظمها من أهل الأندلس. ثم انتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النصارى إلى إفريقية، فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثاراً، معظمها بتونس، امتزجت بحضارة مصر، وما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب وإفريقية حظ صالح من الحضارة عفى عليه الخفا، ورجع على أعقابه. وعاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة والخشونة. وعلى كل حال فآثار الحضارة بإفريقية أكثر منها بالمغرب وأمصاره، لما تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب، ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم. فتفطن لهذا السر فإنه خفي عن الناس.
واعلم أنها أمور متناسبة، وهي حال الدولة في القوة والضعف، وكثرة الأمة أو الجيل، وعظم المدينة أو المصر، وكثرة النعمة واليسار. وذلك أن الدولة والملك صورة الخليقة والعمران، وكلها مادة لها، من الرعايا والأمصار وسائر الأحوال. وأحوال الجباية عائدة عليه، ويسارهم في الغالب من أسواقهم، ومتاجرهم. وإذا أفاض السلطان عطاءه وأمواله في أهلها، انبثت فيهم، ورجعت إليه، ثم إليهم منه. فهي ذاهبة عنهم في الجباية والخراج، عائدة عليهم في العطاء. فعلى نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا، وعلى نسبة يسار الرعايا أيضاً وكثرتهم، يكون مال الدولة. وأصله كله العمران وكثرته. فاعتبره وتأمله في الدول تجده. والله سبحانه وتعالى يحكم لا معقب لحكمه.
الفصل الثامن عشر

في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره
وأنها مؤذنة بفساده

قد بينا لك فيما سلف، أن الملك والدول غاية للعصبية، وأن الحضارة غاية للبداوة، وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس. كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً. وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها، وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة، ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاً كذلك، لأنه غاية لا مزيد وراءها. وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران، دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها. والحضارة، كما علمت، هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه، كالصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية، ولسائر أحوال المنزل. وللتأنق في كل واحد من هذه، صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها. وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة، لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها: أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد، ويعجز الكسب عن الوفاء بها. وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله، والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران، فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجاته. ثم تزيدها المكوس غلاء لأن كمال الحضارة إنما تكون عند نهاية الدولة في استفحالها، وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم. والمكوس تعود على البياعات بالغلاء، لأن السوقة والتجار كلهم، يحتسبون على سلعهم وبضائعهم، جميع ماينفقونه، حتى في مؤونة أنفسهم، فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات وأثمانها. فتعظم نفقات أهل الحاضرة وتخرج عن القصد إلى الإسراف. ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في الإملاق والخصاصة، ويغلب عليهم الفقر. ويقل المستامون للبضائع، فتكسد الأسواق وتفسد حال المدينة.
وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف. وهذه مفسدتها في المدينة على العموم في الأسواق والعمران.
وأما فساد أهلها في ذاتهم، واحداً واحداً على الخصوص، فمن الكد والتعب في حاجات العوائد، والتلون بألوان الشر في تحصيلها، وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها، بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه. وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوض عليه واستجماع الحيلة له، فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والرباء في البياعات. ثم تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه، والمجاهرة به وبدواعيه، واطراح الحشمة في الخوض فيه، حتى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم، الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. وتجدهم أيضاً أبصر بالمكر والخديعة، يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر، وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح، حتى يصير ذلك عادة وخلقاً لأكثرهم، إلا من عصمه الله. ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة. ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب، وأهملته الدولة من عدادها، وغلب عليه خلق الجوار والصحابة، وإن كانوا أصحابه أهل أنساب وبيوتات. وذلك أن الناس بشر متماثلون، وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان، وفسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه ولاطيب منبته. ولهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدول، منطرحين في الغمار، منتحلين للحرف الدنية في معاشهم بما فسد من أخلاقهم، وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة. وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها، وهو معنى قوله تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميراً " .

ووجهه أن مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم، لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها، فلا تستقيم أحوالهم. وإذا فسدت أحوال الأشخاص، واحداً واحداً، اختل نظام المدينة وخربت. وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواصي: أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب، حتى إن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور، تطيراً به، وليس المراد ذلك ولا أنه خاصة في النارنج، وإنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة. ثم إن النارنج والليم والسرو وأمثال ذلك، مما لا طعم فيه ولا منفعه، هو من غايات الحضارة، إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط، ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترفة وهذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه. ولقد قيل مثل ذلك في الدفلى، وهو من هذا الباب، إذ الدفلى لا يقصد بها إلا تلون البساتين بنورها، ما بين أحمر وأبيض، وهو من مذاهب الترف.
ومن مفاسد الحضارة أيضاً الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح، من الزنا واللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع: إما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا، فيجهل كل واحد ابنه إذ هو لغير رشدة، لأن المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين والقيام عليهم فيهلكون، ويؤدي ذلك إلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط إلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط المؤدي إلى عدم النسل رأساً وهو أشد في فساد النوع إذ هو يؤدي إلى أن لا يوجد النوع. والزنا يؤدي إلى عدم ما يوجد منه. ولذلك كان مذهب مالك، رحمه الله، في اللواط أظهر من مذهب غيره، ودل على أنه أبصر بمقاصد الشريعة واعتبارها للمصالح. فافهم ذلك واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف، وأنه إذا بلغ غايتة انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم، كالأعمار الطبيعية للحيوانات. بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد، لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك. والحضري لا يقدر على مباشرة حاجاته، إما عجزاً لما حصل له من الدعة، أو ترفعاً لما حصل له من المربى في النعيم والترف. وكلا الأمرين ذميم. وكذلك لا يقدر على دفع المضار واستقامة خلقه للسعي في ذلك. والحضري بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى في قهر التأديب والتعليم، فهو لذلك عيال على الحاميه التي تدافع عنه. ثم هو فاسد أيضاً في دينه غالباً بما أفسدت منه العوائد وطاعتها، وما تلونت به النفس من ملكاتها كما قررناه، إلا في الأقل النادر. وإذا فسد الإنسان فى قدرته ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة. وبهذا الاعتبار كان الذين يتقربون، من جند السلطان، إلى البداوة والخشونة، أنفع من الذين يتربون على الحضارة وخلقها. وهذا موجود في كل دولة. فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم من العمران والدول. والله سبحانه وتعالى، كل يوم، هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن.
الفصل التاسع عشر

في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك
تخرب بخراب الدولة وانتقاضها قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت وانتقضت، فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه، وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب، ولا يكاد ذلك يتخلف. والسبب فيه أمور: الأول: أن الدولة لا بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس والبعد عن التحذيق. ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم التي منها مادة الدولة، فتقل النفقات ويقصر الترف. فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة، ونقصت أحوال الترف فيها، نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر، لأن الرعايا تبع للدولة، فيرجعون إلى خلق الدولة: إما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم، أو كرهاً لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال، وقلة الفوائد التي هي مادة العوائد، فتقصر لذلك حضارة المصر، ويذهب منه كثير من عوائد الترف. وهي معنى ما نقول في خراب المصر.

الأمر الثاني: أن الدولة إنما يحصل لها الملك والاستيلاء بالغلب، وإنما يكون بعد العداوة والخروب. والعداوة تقتضي منافاة بين أهل الدولتين، وتكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال. وغلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الأخر، فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعة وقبيحة. وخصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها، حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف، فتكون عنها حضارة مستأنفة.. وفيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصهما، ومعنى اختلال العمران في المصر.
الأمر الثالث: أن كل أمة لا بد لهم من وطن هو منشأهم ومنه أولية ملكهم. وإذا ملكوا وطناً آخر تبعاص للأول، وأمصاره تابعة لأمصار الأول. واتسع نطاق الملك عليهم.
ولابد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة، لأنه شبه المركز للنطاق، فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول وتهوي أفئدة الناس إليه من أجل الدولة والسلطان، فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول. والحضارة إنما هي بوفور العمران كما قدمنا، فتنتقص حضارته وتمدنة وهو معنى اختلاله. وهذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان، وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة، ولبني العباس في العدول عن دمشق إلى بغداد، ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس. وبالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في مصر يخل بعمران الكرسي الأول.
الأمر الرابع: أن الدولة المتجددة إذا غلبت على الدولة السابقة لا بد فيها من تتبع أهل الدولة السابقة وأشياعها، بتحويلهم إلى قطر آخر تؤمن فيه غائلتهم على الدولة. وأكثر أهل المصر الكرسي أشياع الدولة. إما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو من أعيان المصر، لأن لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم وتنوع أصنافهم. بل أكثرهم ناشىء في الدولة فهم شيعة لها. وإن لم يكونوا بالشوكة والعصبية، فهم بالميل والمحبة والعقيدة. وطبيعة الدولة المتجددة محو آثار الدولة السابقة، فتنقلهم من مصر الكرسي إلى وطنها المتمكن في ملكتها. فبعضهم على نوع التغريب والحبس، وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف، بحيث لا يؤدي إلى النفرة، حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة وسواد العامة. وينزل مكانهم في حاميتها وأشياعها من يشتد به المصر. وإذا ذهب من مصر أعيانه على طبقاتهم نقص ساكنه، وهو معنى اختلال عمرانه. ثم لا بد أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة، وتحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة. وإنما ذلك بمثابة من يملك بيتاً داخله البلى، والكثير من أوضاعه في بيوته ومرافقه لا توافق مقترحه، وله قدرة - على أوصاف مخصوصة على تغيير تلك الأوضاع، وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرب ذلك البيت، ثم يعيد بناءه ثانياً.
وقد وقع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي لذلك وشاهدناه. وعلمناه.
" والله يقدر الليل والنهار " .
والسبب الطبيعي الأول في ذلك على الجملة، أن الدولة والملك للعمران، بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها. وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر، بما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع، فتتعين السياسة لذلك. أما الشريعة أو الملكية وهو معنى الدولة، وإذا كانا لا ينفكان، فاختلال أحدهما مؤثر في اختلال الآخر، كما كان عدمه مؤثراً في عدمه. والخلل العظيم إنما يكون من خلل الدولة الكلية مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم، أو بني أمية أو بني العباس كذلك. وأما الدول الشخصية، مثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد، فأشخاصها متعاقبة على العمران، حافظة لوجوده وبقائه، وقريبة الشبه بعضها من بعض، فلا تؤثر كثير اختلال. لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية والشوكة، وهي مستمرة مع أشخاص الدول. فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران، فأذهبت أهل الشوكة بأجمعهم، عظم الخلل كما قررناه أولاً. والله قادر على ما يشاء. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز.
الفصل العشرون

في اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع
دون بعض وذلك أنه من البين أن أعمال أهل المصر يستدعي بعضها بعضاً، لما في طبيعة العمران من التعاون. وما يستدعي من الأعمال يختص ببعض أهل المصر فيقومون عليه، ويستبصرون في صناعته ويختصون بوظيفته، ويجعلون معاشهم فيه ورزقهم منه، لعموم البلوى به في المصر والحاجة إليه. وما لا يستدعي في المصر يكون غفلاً، إذ لا فائدة لمنتحله في الاحتراف به. وما يستدعي من ذلك لضرورة المعاش، فيوجد في كل مصر، كالخياط والحداد والنجار وأمثالها. وما يستدعي لعوائد الترف وأحواله، فإنما يوجد في المدن المستبحرة في العمارة، الآخذة في عوائد الترف والحضارة مثل الزجاح والصائغ والدهان والطباخ والصفار والسفاج والفراش والذباح وأمثال هذه، وهي متفاوتة. قدر ما تريد عوائد الحضارة وتستدعي أحوال الترف تحدث صنائع لذلك النوع، فتوجد بذلك المصر دون غيره. ومن هذا الباب الحمامات لأنها إنما توجد في الأمصار مستحضرة المستبحرة العمران، لما يدعو إليه الترف والغنى من التنعم. ولذلك لا يكون في المدن المتوسطة. وإن نزع بعض الملوك والرؤساء إليها، فيختطها ويجري أحوالها. إلا أنها إذا لم تكن لها داعيه من كافة الناس، فسرعان ما تهجر وتخرب، وتفر عنها القومة، لقلة فائدتهم ومعاشهم منها. والله يقبض ويبسط.
الفصل الحادي والعشرون
في وجود العصبية في الأمصار
وتغلب بعضهم علي بعض من البين أن الالتحام والاتصال موجود في طباع البشر، وإن لم يكونوا أهل نسب واحد، إلا أنه كما قدمناه أضعف مما يكون بالنسب، وأنه تحصل به العصبية بعضاً مما تحصل بالنسب. وأهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصهر، يجذب بعضهم بعضاً إلى، أن يكونوا لحماً لحماً وقرابة قرابة، تجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله، فيفترقون شيعاً وعصائب. فإذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية، احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم، والنظر في حماية بلدهم، ورجعوا إلى الشورى وتميز العلية عن السفلة. والنفوس بطباعها متطاوله على الغلب والرياسة، فتطمح المشيخة - لخلاء الجو من السلطان والدولة القاهرة - إلى لاستبداد، وينازع كل صاحبه، ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشيع والأحلاف. ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب، فيعصوصب كل لصاحبه، ويتعين الغلب لبعضهم، فيعطف على أكفائه، ليغض من أعنتهم. ويتتبعهم بالقتل أو التغريب، حتى يخضد منهم الشوكات النافذة، ويقلم الأظفار الخادشة. ويستبد بمصره أجمع. ويرى أنه قد استحدث ملكاً يورثه عقبه، فيحدث في ذلك الملك الأصغر ما يحدث في الملك الأعظم، من عوارض الجدة والهرم.

وربما يسمو بعض هؤلاء إلى منازع الملوك الأعاظم، أصحاب القبائل والعشائر والعصبيات والزحوف والحروب والاقطار والممالك، فيتحلون بها، من الجلوس على السرير، واتخاذ الآلة، وإعداد المواكب للسير في أقطار البلد، والتختم والتحية، والخطاب بالتهويل، وما يسخر منه من يشاهد أحوالهم، لما انتحلوه من شارات الملك التي ليسوا لها بأهل. إنما دفعهم إلى ذلك تقلص الدولة والتحام بعض القرابات، حتى صارت عصبية. وقد يتنزه بعضهم عن ذلك ويجري على مذاهب السذاجة فراراً من التعريض بنفسه للسخرية والعبث. وقد وقع هذا بإفريقية لهذا العهد في آخر الدولة الحفصية لأهل بلاد الجريد، من طرابلس وقابس وتؤزر ونفطة وقفصة وبسكرة والزاب، وما إلى ذلك. سموا إلى مثلها عند تقلص ظل الدولة عنهم منذ عقود من السنين، فاستغلبوا على أمصارهم واستبدوا بأمرها على الدولة في الأحكام والجباية وأعطوا طاعة معروفة وصفقة ممرضة، وأقطعوها جانباً من الملاينة والملاطفة والانقياد، وهم بمعزل عنه. وأورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد. وحدث في خلقهم من الغلظة والتجبر ما يحدث لأعقاب الملوك وخلفهم. ونظموا أنفسهم في عداد السلاطين، على قرب عهدهم بالسوقة، حتى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبو العباس، وانتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكرة في أخبار الدولة. وقد كان مثل ذلك وقع في آخر الدولة الصنهاجية، واستقل بأمصار الجريد أهلها، واستبدوا على الدولة، حتى انتزع ذلك منهم شيخ الموحدين وملكهم عبد المؤمن بن علي، ونقلهم كلهم من إمارتهم بها إلى المغرب، ومحا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره. وكذا وقع بسبتة لآخر دولة بني عبد المؤمن. وهذا التغلب يكون غالباً في أهل السروات والبيوتات المرشحين للمشيخة والرياسة فى المصر، وقد يحدث التغلب لبعض السفلة من الغوغاء والدهماء. وإذا حصلت له العصبية والالتحام بالأوغاد، لأسباب يجرها له المقدار، فيتغلب على المشيخة والعلية، إذا كانوا فاقدين للعصابة. والله سبحانه وتعالى غالب على أمره.
الفصل الثاني والعشرون

في لغات أهل الأمصار
إعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة، أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها، ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربية، وإن كان اللسان العربي المضري قد فسدت ملكته وتغير إعرابه. والسبب في ذلك ما وقع للدولة الإسلامية من الغلب على الأمم، والدين والملة صورة للوجود وللملك. وكلها مواد له، والصورة مقدمة على المادة، والدين إنما يستفاد من الشريعة، وهي بلسلن العرب، لما أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي، فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها. واعتبرذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم، وقال: إنها خب، أي مكر وخديعة. فلما هجر الدين اللغات الأعجمية، وكان مان القائمين بالدولة الإسلامية عربياً، هجرت كلها في جميع ممالكها، لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم، وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك. وصار اللسان العربي لسانهم، حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم، وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة. ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أواخره، إن كان بقي فى الدلالات على أصله، وسمي لساناً حضرياً في جميع أمصار الإسلام.

وأيضاً فأكثر أهل الأمصار في الملة لهذا العهد، من أعقاب العرب، المالكين لها، الهالكين في ترفها، بما كثروا العجم الذين كانوا بها وورثوا أرضهم وديارهم. واللغات متوارثة، فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء، وإن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئاً فشيئاً. وسميت لغتهم حضرية منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار، بخلاف لغة البدو من العرب، فإنها كانت أعرق في العروبية. ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق، وزناتة والبربر بالمغزب، وصار لهم ملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية، فسد اللسان العربي لذلك، وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين، وصار ذلك مرجحاً لبقاء اللغة المضرية من الشعر والكلام، إلا قليلاً بالأمصار، عربية. فلما ملك التتر والمغول بالمشرق، ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجح، وفسدت اللغة العربية على الإطلاق، ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية، بالعراق وخراسان وبلاد فارس وأرض الهند والسند وما وراء النهر، وبلاد الشمال، وبلاد الروم، وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام، إلا قليلاً يقع تعليمه صناعياً بالقوانين المتدارسة من علوم العرب، وحفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك. وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس والمغرب، لبقاء الدين طالباً لها، فانحفظت بعض الشيء. وأما في ممالك العراق وما وراءه، فلم يبق له أثر ولا عين، حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي، وكذا تدريسه في المجالس. والله أعلم بالصواب. والله مقدر الليل والنهار. صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
الباب الخامس من الكتاب الأول

في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع
وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل
الفصل الأول
في حقيقة الرزق والكسب
وشرحهما وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية اعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ويمونه، في حالاته وأطواره، من لدن نشوئه إلى أشده إلى كبره " والله الغني وأنتم الفقراء " . والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان، وامتن به عليه في غير ما آية من كتابه فقال تعالى: " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه " وسخر لكم الشمس والقمر وسخر لكم البحر وسخر لكم الفلك وسخر لكم الأنعام. وكثير من شواهده. ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه، بما جعل الله له من الاستخلاف. وأيدي البشر منتشرة، فهي مشتركة في ذلك. وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض. فالإنسان متى اقتدر على نفسه، وتجاوز طور الضعف، سعى في اقتناء المكاسب، لينفق ما آتاة الله منها، في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها. قال الله تعالى: " فابتغوا عند الله الرزق " .
وقد يحصل له ذلك بغير سعي، كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله. إلا أنها إنما تكون معينة، ولا بد من سعيه معها كما يأتي، فتكون له تلك المكاسب معاشاً إن كانت بمقدار الضرورة والحاجة، ورياشاً ومتمولاً إن زادت على ذلك. ثم إن ذلك الحاصل أو المقتنى، إن عادت منفعته على العبد، وحصلت له ثمرته، من إنفاقه في مصالحه وحاجاته سمي ذلك رزقاً. قال صلى الله عليه وسلم: " إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " . وإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته فلا يسمى بالنسبة إلى المالك رزقاً، والمتملك منه حنيئذ بسعي العبد وقدرته يسمى كسباً. وهذا مثل التراث، فإنه يسمى بالنسبة إلى الهالك كسباً ولا يسمى رزقاً، إذ لم يحصل له به منتفع، وبالنسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمى رزقاً. وهذا حقيقة مسمى الرزق عند أهل السنة. وقد اشترط المعتزلة في تسميته رزقاً أن يكون بحيث يصح تملكه، وما لا يتملك عندهم فلا يسمى رزقاً. وأخرجوا الغصوبات والحرام كله عن أن يسمى شيء منها رزقاً. والله تعالى يرزق الغاصب والظالم والمؤمن والكافر، ويختص برحمته وهدايته من يشاء. ولهم في ذلك حجج ليس هذا موضع بسطها.

ثم اعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد إلى التحصيل ، فلا بد في الرزق من سعي وعمل ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه. قال تعالى: " فابتغوا عند الله الرزق " . والسعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه، فالكل من عند الله. فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول. لأنه إن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وإن كان مقتنى من الحيوان أو النبات أو المعدن فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع.
ثم إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول، وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب. وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان، فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق، التي هما عنها بمعزل، فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة. وإذا تقرر هذا كله فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات، إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه هو قيمة عمله، وهو القصد بالقنية، إذ ليس هنالك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها. مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، إلا أن العمل فيهما أكثر، فقيمته أكثر. وإن كان من غير الصنائع، فلا بد في قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها. وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل له حصة من القيمة عظمت أو صغرت. وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس، فإن اعتبار الأعمال والنفقات فيها ملاحظ فى أسعار الحبوب كما قدمناه، لكنه خفي في الأقطار التي علاج الفلح فيها ومؤونته يسيرة، فلا يشعر به إلا القليل من أهل الفلح. فقد تبين أن المفادات والمكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية، وتبين مسمى الرزق، وأنه المنتفع به. فقد بان معنى الكسب والرزق وشرح مسماهما.
واعلم أنه إذا فقدت الأعمال، أو قلت بانتقاص العمران، تأذن الله برفع الكسب.
ألا ترى إلى الأمصار القليلة الساكن، كيف يقل الرزق والكسب فيها، أو يفقد، لقلة الأعمال الإنسانية. وكذلك الأمصار التي يكون عمرانها أكثر، يكون أهلها أوسع أحوالاً وأشد رفاهية كما قدمناه قبل. ومن هذا الباب تقول العامة في البلاد، إذا تناقص عمرانها إنها قد ذهب رزقها، حتى أن الأنهار والعيون ينقطع جريها في القفر، لما أن فور العيون إنما يكون بالإنباط والامتراء الذي هو بالعمل الإنساني، كالحال في ضروع الأنعام، فما لم يكن إنباط ولا امتراء نضبت وغارت بالجملة، كما يجف الضرع إذا ترك امتراؤه. وانظره في البلاد التي تعهد فيها العيون لأيام عمرانها، ثم يأتي عليها الخراب كيف تغور مياهها جملة كأنها لم تكن. " والله يقدر الليل والنهار " .
الفصل الثاني

في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه
اعلم أن المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله، وهو مفعل من العيش. كأنه لما كان العيش الذي هو الحياة لا يحصل إلا بهذه، جعلت موضعاً له على طريق المبالغة. ثم إن تحصيل الرزق وكسبه: إما أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه، على قانون متعارف، ويسمى مغرماً وجباية، وإما أن يكون من الحيوان الوحشي باقتناصه وأخذه برميه من البر أو البحر، ويسمى اصطياداً، وإما أن يكون من الحيوان الداجن باستخراج فضوله المتصرفة بين الناس في منافعهم، كاللبن من الأنعام، والحرير من دوده، والعسل من نحله، أو يكون من النبات في الزرع والشجر بالقيام عليه وإعداده لاستخراج ثمرته. ويسمى هذا كله فلحاً. وإما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانئة: إما في مواد بعينها، وتسمى الصنائع من كتابة وتجارة وخياطة وحياكة وفروسية وأمثال ذلك، أو في مواد غير معينة، وهي جميع الامتهانات والتصرفات، وإما أن يكون الكسب من البضائع وإعدادها للأعواض، إما بالتقلب بها في البلاد أو احتكارها وارتقاب حوالة الأسواق فيها. ويسمى هذا تجارة.

فهذه وجوه المعاش وأصنافه، وهي معنى ما ذكره المحققون من أهل الأدب والحكمة كالحريري وغيره، فإنهم قالوا: " المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة " : فأما الإمارة فليست بمذهب طبيعي للمعاش، فلا حاجة بنا إلى ذكرها، وقد تقدم شيء من أحوال الجبايات السلطانية وأهلها في الفصل الثاني، وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش. أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات، إذ هي بسيطة وطبيعية فطرية، لا تحتاج إلى نظر ولا علم، ولهذا تنسب قي الخليقة إلى آدم أبي البشر، وأنه معلمها والقائم عليها، إشارة إلى أنها أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة. وأما الصنائع فهي ثانيتها ومتأخرة عنها، لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار، ولهذا لا توجد غالباً إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدووثان عنه. ومن هذا المعنى نسبت إلى إدريس الأب الثاني للخليقة، فإنه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى. وأما التجارة وإن كانت طبيعية في الكسب، فالأكثر من طرقها ومذاهبها، إنما هي تحيلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع، لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة. ولذلك أباح الشرع فيه المكاسبة، لما أنه من باب المقامرة، إلا أنه ليس أخذاً لمال الغير مجاناً، فلهذا اختص بالمشروعية. والله أعلم.
الفصل الثالث

في أن الخدمة ليست من المعاش الطبيعي
اعلم أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة والملك الذي هو بسبيله، من الجندي والشرطي والكاتب. ويستكفي في كل باب بمن يعلم غناءه فيه ويتكفل بأرزاقهم من بيت ماله. وهذا كله مندرج في الإمارة ومعاشها إذ كلهم ينسحب عليهم حكم الإمارة، والملك الأعظم هو ينبوع جداولهم. وأما ما دون ذلك من الخدمة فسببها أن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته، أو يكون عاجزاً عنها، لما ربي عليه من خلق التنعم والترف، فيتخذ من يتولى ذلك له، ويقطعه عليه أجراً من ماله. وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان، إذ الثقة بكل أحد عجز، ولأنها تزيد في الوظاثف والخرج وتدل على العجز والخنث اللذين ينبغي في مذاهب الرجولية التنزه عنهما. إلا أن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها، فهو ابن عوائده لا ابن نسبه. ومع ذلك فالخديم الذي يستكفى به ويوثق بغنائه كالمفقود، إذ الخديم القائم بذلك لا يعدو أربع حالات: إما مضطلع بأمره وموثوق فيما يحصل بيده، وإما بالعكس فيهما، وهو أن يكون غيرمضطلع بأمره ولا موثوق فيما يحصل بيده، وإما بالعكس في إحداهما فقط، مثل أن يكون مضطلعاً غير موثوق أو موثوقاً غير مضطلع. فأما الأول، المضطلع الموثوق، فلا يمكن أحد استعماله بوجه، إذ هو باضطلاعه وثقته غني عن أهل الرتب الدنية ومحتقر لمنال الأجر من الخدمة، لاقتداره على أكثر من ذلك، فلا يستعمله إلا الأمراء أهل الجاه العريض، لعموم الحاجة إلى الجاه. وأما الصنف الثاني. من ليس بمضطلع ولا موثوق، فلا ينبغي لعاقل استعماله، لأنه يجحف بمخدومه في الأمرين معاً، فيضيع عليه لعدم الاصطناع تارة، ويذهب ماله بالخيانة أخرى، فهو على كل حال كل على مولاه. فهذان الصنفان لا يطمع أحد في استعمالهما. ولم يبق إلا استعمال الصنفين الآخرين: موثوق غير مضطلع، ومضطلع غير موثوق. وللناس الترجيح بينهما مذهبان، ولكل من الترجيحين وجه. إلا أن المضطلع، ولو كان غير موثوق، أرجح لأنه يؤمن من تضييعه، ويحاول على التحرز عن خيانته جهد الاستطاعة. وأما المضيع ولو كان مأموناً، فضرره بالتضييع أكثر من نفعه. فاعلم ذلك واتخذه قانوناً في الاستكفاء بالخدمة. والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء.
الفصل الرابع
في أن ابتغاء الأموال من الدفائن
والكنوز ليس بمعاش طبيعي

اعلم أن كثيراً من ضعفاء العقول في الأمصار، يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض، ويبتغون الكسب من ذلك. ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض، مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية، لا يفض ختامها ذلك إلا من عثر على علمه، واستحضر ما يحله من البخور والدعاء والقربان. فأهل الأمصار بإفريقية يرون أن الإفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك، وأودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها. وأهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط والروم والفرس. ويتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة، من انتهاء بعض الطالبين لذلك إلى حفر موضع المال، ممن لم يعرف طلسمه ولا خبره، فيجدونه خالياً أو معموراً بالديدان. أو يشارف الأموال والجواهر موضوعة، والحرس دونها منتضين سيوفهم. أو تميد به الارض حتى يظنه خسفاً أو مثل ذلك من الهذر.
ونجد كثيراً من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي وأسبابه، يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتخرمة الحواشي، إما بخطوط عجمية، أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدفائن، بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها، يبتغون بذلك الرزق منهم، بما يبعثونهم على الحفر والطلب، ويموهون عليهم بأنهم إنما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا، من منال الحكام والعقوبات. وربما تكون عند بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال السحرية يموه بها على تصديق ما بقي من دعواه، وهو بمعزل عن السحر وطرقه، فتولع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار، والتستر فيه بظلمات الليل، مخافة الرقباء وعيون أهل الدول. فإذا لم يعثروا على شيء ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي ختم به على ذلك المال، يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم. والذي يحمل على ذلك في الغالب، زيادة على ضعف العقل، إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة والفلح والصناعة، فيطلبونه بالوجوه المنحرفة، وعلى غير المجرى الطبيعي، من هذا وأمثاله، عجزاً عن السعي في المكاسب، وركوناً إلى تناول الرزق من غير تعب ولا نصب في تحصيله واكتسابه. ولا يعلمون أنهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك، من غير وجهه، في نصب ومتاعب وجهد شديد أشد من الأول، ويعرضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات. وربما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة الترف وعوائده، وخروجها عن حد النهاية، حتى تقصر عنها وجوه الكسب ومذاهبه، ولا تفي بمطالبها. فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطبيعي، لم يجد وليجة في نفسه، إلا التمني لوجود المال العظيم دفعة من غير كلفة، ليفي له ذلك بالعوائد التي حصل في أسرها، فيحرص على ابتغاء ذلك ويسعى فيه جهده. ولهذا فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدولة، ومن سكان الأمصار الكثيرة الترف المتسعة الأحوال، مثل مصر وما في معناها. فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك وتحصيله، ومساءلة الركبان عن شواذه، كما يحرصون على الكيمياء. هكذا يبلغنا عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة، لعلهم يعثرون منه على دفين أو كنز، ويزيدون على ذلك البحث عن تغوير المياه، لما يرون أن غالب هذه الأموال الدفينة كلها في مجاري النيل، وأنه أعظم ما يستر دفيناً أو مختزناً في تلك الآفاق. ويموه عليهم أصحاب تلك الدفاتر المفتعلة في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النيل، تستراً بذلك من الكذب، حتى يحصل على معاشه، فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال السحرية لتحصيل مبتغاه من هذه، كلفاً بشأن السحر متوارثاً في ذلك القطر عن أوليه. فعلومهم السحرية وآثارها باقية بأرضهم في البراري وغيرها. وقصة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بذلك وقد تناقل أهل المغرب قصيدة ينسبونها إلى حكماء المشرق، تعطى فيها كيفية العمل بالتغوير بصناعة سحرية حسبما تراه فيها وهي هذه:
يا طالباً للسر في التغوير ... إسمع كلام الصدق من خبير
دع عنك ما قد صنفوا في كتبهم ... من قول بهتان ولفظ غرور
واسمع لصدق مقالتي ونصيحتي ... إن كنت ممن لا يرى بالزور
فإذا أردت تغور البئر التي ... حارت لها الأوهام في التدبير

صور كصورتك التي أوقفتها ... والرأس رأس الشبل في التقوير
ويداه ماسكتان للحبل الذي ... في الدلو ينشل من قرار البير
وبصدره هاء كما عاينتها ... عدد الطلاق احذر من التكرير
ويطا على الطاءات غير ملامس ... مشي اللبيب الكيس النحرير
ويكون حول الكل خط دائر ... تربيعه أولى من التكوير
واذبح عليه الطير والطخه به ... واقصده عقب الذبح بالتبخير
بالسندروس وباللبان وميعة ... والقسط والبسه بثوب حرير
من أحمر أو أصفر لا أزرق ... لا أخضر فيه ولا تكدير
ويشده خيطان صوف أبيض ... أو أحمر من خالص التحمير
والطالع الأسد الذي قد بينوا ... ويكون بدء الشهر غير منير
والبدر متصل بسعد عطارد ... في يوم سبت ساعة التدبير
يعني أن تكون الطا آت بين قدميه كأنه يمشي عليها وعندي أن هذه القصيدة من تمويهات المتخرفين، فلهم في ذلك أحوال غريبة واصطلاحات عجيبة، وتنتهي التخرفة والكذب بهم إلى أن يسكنوا المنازل المشهورة والدور المعروفة بمثل هذه، ويحفرون بها الحفر ويضعون فيها المطابق والشواهد التي يكتبونها في صحائف كذبهم، ثم يقصدون ضعفاء العقول بأمثال هذه الصحائف، ويبعثونه على اكتراء ذلك المنزل وسكناه ويوهمونه أن به دفيناً من المال لا يعبر عن كثرته، ويطالبونه بالمال لاشتراء العقاقير والبخورات لحل الطلاسم، ويعدونه بظهور الشواهد التي قد أعدوها هنالك بأنفسهم ومن فعلهم، فينبعث لما يراه من ذلك وهو قد خدع ولبس عليه من حيث لا يشعر، وبينهم في ذلك اصطلاح في كلامهم، يلبسون به عليهم، ليخفى عند محاورتهم فيما يتناولونه، من حفر وبخور وذبح حيوان وأمثال ذلك.
وأما الكلام في ذلك على الحقيقة فلا أصل له في علم ولا خببر. واعلم أن الكنوز، وإن كانت توجدة لكنها في حكم النادر على وجه الاتفاق، لا على وجه القصد إليها. وليس ذلك بأمر تعم به البلوى، حتى يدخر الناس غالباً أموالهم تحت الأرض، ويختمون عليها بالطلاسم، لا في القديم ولا في الحديث. والركاز الذي ورد في الحديث وفرضه الفقهاء، وهو دفين الجاهلية، إنما يوجد بالعثور والاتفاق، لا بالقصد والطلب. وأيضاً فمن اختزن ماله وختم عليه بالأعمال السحرية فقد بالغ في إخفائه ، فكيف ينصب عليه الأدلة والأمارات لمن يبتغيه. ويكتب ذلك في الصحائف، حتى يطلع علي ذخيرته أهل الأمصار والأفاق، هذا يناقض قصد الإخفاء. وأيضاً فأفعال العقلاء لا بد وأن تكون لغرض مقصود في الانتفاع. ومن اختزن المال فإنما يختزنه لولده أو قريبه أو من يؤثره. وأما أن يقصد إخفاءه بالكلية عن كل أحد، وإنما هو للبلا والهلاك، أو لمن لا يعرفه بالكلية ممن سيأتي من الأمم، فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوجه.
وأما قولهم: أين أموال الأمم من قبلنا، وما علم فيها من الكثرة والوفور فاعلم أن الأموال من الذهب والفضة والجواهر والأمتعة إنما هي معادن ومكاسب، مثل الحديد والنحاس والرصاص وسائر العقارات والمعادن. والعمران يظهرها بالأعمال الإنسانية ويزيد فيها أو ينقصها. وما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث. وربما انتقل من قطر إلى قطر ومن دولة إلى اخرى بحسب أغراضه، والعمران الذي يستدعيه. فإن نقص المال في المغرب وإفريقية، فلم ينقص ببلاد الصقالبة والإفرنج، وإن نقص في مصر والشام، فلم ينقص في الهند والصين. وإنما هي الآلات والمكاسب، والعمران يوفرها أو ينقصها، مع أن المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات، ويسرع إلى اللؤلؤ جوهر أعظم مما يسرع إلى غيره. وكذا الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير، ينالها من البلاء والفناء ما يذهب بأعيانها لأقرب وقت.

وأما ما وقع في مصر من أمر المطالب والكنوز، فسببه أن مصر كانت في ملكة القبط منذ آلاف أو يزيد من السنين، وكان موتاهم يدفنون بموجودهم من الذهب والفضة والجواهر واللآلىء، على مذهب من تقذم من أهل الدول. فلما انقضت دولة القبط، وملك الفرس بلادهم نقروا على ذلك في قبورهم وكشفوا عنه، فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف: كالأهرام من قبور الملوك وغيرها. وكذا فعل اليونانيون من بعدهم وصارت قبورهم مظنة لذلك لهذا العهد. ويعثر على الدفين فيها في كثير من الأوقات. أما ما يدفنونه من أموالهم أو ما يكرمون به موتاهم في الدفن من أوعية وتوابيت من الذهب والفضة معدة لذلك، فصارت قبور القبط منذ آلاف من السنين مظنة لوجود ذلك فيها. فلذلك عني أهل مصر بالبحث عن المطالب لوجود ذلك فيها، واستخراجها. حتى إنهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدولة، ضربت على أهل المطالب. وصارت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى والمهوسين، فوجد بذلك المتعاطون من أهل الأطماع الذريعة إلى الكشف عنه والذرع باستخراجه. وما حصلوا إلا على الخيبة في جميع مساعيهم، نعوذ بالله من الخسران، فيحتاج من وقع له شيء من هذا الوسواس، أو ابتلي به، أن يتعوذ بالله من العجز والكسل في طلب معاشه، كما تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وينصرف عن طرق الشيطان ووسواسه، ولا يشغل نفسه بالمحالات والكاذب من الحكايات. " والله يرزق من يشاء بغير حساب " .
الفصل الخامس

في أن الجاه مفيد للمال
وذلك أنا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروة من فاقد الجاه. والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه. فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته، من ضروري أو حاجي أو كمالي، فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه. وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل، يستعمل فيها الناس من غير عوض، فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه. فهو بين قيم للأعمال يكتسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها، فتتوفر عليه. والأعمال لصاحب الجاه كثيرة، فتفيد الغنى لأقرب وقت، ويزداد مع الأيام يساراً وثروة. ولهذا المعنى كانت الإمارة أحد أسباب المعاش كما قدمناه. وفاقد الجاه بالكلية ولو كان صاحب مال، فلا يكون يساره إلا بمقدار ماله وعلى نسبة سعيه، وهؤلاء هم أكثر التجار. ولهذا تجد أهل الجاه منهم يكونون أيسر بكثير. ومما يشهد لذلك، أنا نجد كثيراً من الفقهاء وأهل الدين والعبادة، إذا اشتهروا حسن الظن بهم، واعتقد الجمهور معاملة الله في إرفادهم ، فأخلص الناس في إعانتهم على أحوال دنياهم والاعتمال في مصالحهم. أسرعت إليهم الثروة وأصبحوا مياسير من غير مال مقتنى، إلا ما يحصل لهم من قيم الأعمال التي وقعت المعونة بها من الناس لهم. رأينا من ذلك أعداداً في الأمصار والمدن. وفي البدو، يسعى لهم الناس في الفلح والنجر، وكل قاعد بمنزله لا يبرح من مكانه، فينمو ماله ويعظم كسبة، ويتأثل الغنى من غير سعي. ويعجب من لا يفطن لهذا السر في حال ثروته وأسباب غناه ويساره. والله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب.
الفصل السادسفي أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً..
لأهل الخضوع والتملق وإن هذا الخلق من أسباب السعادة

قد سبق لنا فيما سلف أن الكسب الذي يستفيده البشر إنما هو قيم أعمالهم. ولو قدر أحد عطل عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية. وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته. وعلى نسبة ذلك نمو كسبه أو نقصانه. وقد بينا آنفاً أن الجاه يفيد المال، لما يحصل لصاحبه من تقرب الناس إليه بأعمالهم وأموالهم، في دفع المضار وجلب المنافع. وكان ما يتقربون به من عمل أو مال عوضاً عما يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض في صالح أو طالح. وتصير تلك الأعمال في كسبه، وقيمها أموال وثروة له، فيستفيد الغنى واليسار لأقرب وقت. ثم إن الجاه متوزغ في الناس ومترتب فيهم طبقة بعد طبقة، ينتهي في العلو إلى الملوك الذين ليس فوقهم يد عالية وفي السفل إلى من لا يملك ضراً ولا نفعاً بين أبناء جنسه. وبين ذلك طبقات متعددة. حكمة الله في خلقه. بما ينتظم معاشهم وتتيسر مصالحهم ويتم بقاؤهم لأن النوع الإنساني لما كان لا يتم وجوده وبقاؤه إلا بتعاون أبنائه على مصالحهم، لأنه قد تقرر أن الواحد منهم لا يتم وجوده. وأنه وإن ندر ذلك في صورة مفروضة لا يصح بقاؤه. ثم إن هذا التعاون لا يحصل إلا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع، ولما جعل الله لهم من الاختيار، وأن أفعالهم إنما تصدر بالفكر والروية لا بالطبع. وقد يمتنع، من المعاونة فيتعين حمله عليها، فلا بد من حامل يكره أبناء النوع على مصالحهم، لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع. وهذا معنى قوله تعالى: " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات " ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمة ربك خير مما يجمعون " . فقد تبين أن الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف فيمن تحت أيديهم من أبناء جنسهم، بالإذن والمنع، والتسلط بالقهر والغلبة، ليحملهم على دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة، وعلى أغراضه فيما سوى ذلك، ولكن الأول مقصود في العناية الربانية بالذات، والثاني داخل فيها بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الإلهي. لأنه قد لا يتم وجود الخير الكثير، إلا بوجود شر يسير من أجل المواد، فلا يفوت الخير بذلك، بل يقع على ما ينطوي عليه من الشر اليسير. وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهم.
ثم إن كل طبقة من طباق أهل العمران، من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطباق. وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد هذا الجاه من أهل الطبقة التي فوقه، ويزداد كسبه تصرفاً فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه. والجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش، ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متسعاً كان الكسب الناشئ، عنه كذلك، وإن كان ضيقاً وقليلاً فمثله. وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله وعلى نسبة سعيه ذاهباً وآيباً في تنميته كأكثر التجار. وأهل الفلاحة في الغالب، وأهل الصنائع كذلك، إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم، فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر، ولا تسرع إليهم ثروة وإنما يرمقون العيش ترميقاً ويدفعون ضرورة الفقر مدافعة. وإذا تقرر ذلك، وأن الجاه متفرع، وأن السعادة والخير مقترنان بحصوله، علمت أن باذله وإفادته من أعظم النعم وأجلها، وأن باذله من أجل المنعمين. وإنما يبذله لمن تحت يديه، فيكون بذله بيد عالية وعن عزة، فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملق، كما يسأل أهل العز والملوك، وإلا فيتعذر حصوله. فلذلك قلنا إن الخضوع والتملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصل للسعادة والكسب، وإن أكثر أهل الثروة والسعادة بهذا الخلق. ولهذا نجد الكثير ممن يتخلق بالترفع والشمم، لا يحصل لهم غرض من الجاه، فيقتصرون في التكسب على أعمالهم، ويصيرون إلى الفقر والخصاصة.

واعلم أن هذا الكبر والترفع من الأخلاق المذمومة، إنما يحصل من توهم الكمال، وأن الناس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة، كالعالم المتبخر في علمه، أو الكاتب المجيد في كتابته أو الشاعر البليغ في شعره. وكل محسن في صناعته يتوهم أن الناس محتاجون لما بيده، فيحدث له ترفع عليهم بذلك، ويهذا يتوهم أهل الأنسات، ممن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبرون بما رأوه أو سمعوه من حال آبائهم في المدينة، ويتوهمون أنهم استحقوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم. فهم متمسكون في الحاضر بالأمر المعدوم إذ الكمال لا يورث وكذلك أهل الحيلة والبصر والتجارب بالأمور، قد يتوهم بعضهم كمالاً في نفسه بذلك واحتياجاً إليه.
وتجد هؤلاء الأصناف كلهم مترفعين، لا يخضعون لصاحب الجاه، ولا يتملقون لمن هو أعلى منهم. ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على الناس، فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان للملك، ويعده مذلة وهواناً وسفهاً. ويحاسب الناس في معاملتهم إياه بمقدار مما يتوهم في نفسه، ويحقد على من قصر له في شيء مما يتوهمه من ذلك. وربما يدخل على نفسه الهموم والأحزان من تقصيرهم فيه، ويستمر في عناء عظيم من إيجاب الحق لنفسه أو إباية الناس له من ذلك. ويحصل له المقت من الناس لما في طباع البشر من التأله. وقل أن يسلم أحد منهم لأحد في الكمال والترفع عليه، إلا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة. وهذا كله في ضمن الجاه. فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه، وهو مفقود له كما تبين لك، مقته الناس بهذا الترفع ولم يحصل له حظ من إحسانهم. وفقد الجاه لذلك من أهل الطبقة التي هي أعلى منه، لأجل المقت وما يحصل له بذلك من القعود من تعاهدهم وغشيان منازلهم، ففسد معاشه، وبقي في خصاصة وفقر أو فوق ذلك بقليل. وأما الثروة فلا تحصل له أصلاً. ومن هذا اشتهر بين الناس أن الكامل في المعرفة محروم من الحظ، وأنه قد حوسب بما رزق من المعرفة واقتطع له ذلك من الحظ، وهذا معناه. ومن خلق لشيء يسر له. والله المقدر، لا رب سواه.
ولقد يقع في الدول أضراب في المراتب من أهل هذا الخلق، ويرتفع فيها كثير من السفلة، وينزل كثير من العلية بسبب ذلك. وذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب والاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم وسلطانهم، ويئس من سواهم من ذلك. وإنما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السلطان، وكأنهم خول له.
فإذا استمرت الدولة وشمخ الملك، تساوى حينئذ في المنزلة عند السلطان كل من انتمى إلى خدمته وتقرب إليه بنصيحته، واصطنعه السلطان لغنائه في كثير من مهماته. فتجد كثيراً من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده ونصحه، ويتزلف إليه بوجوه خدمته، ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه. حتى يرسخ قدمه معهم، وينظمه السلطان في جملته، فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة، وينتظم في عدد أهل الدولة. وناشئة الدولة حينئذ من أبناء قومها الذين ذللوا صعابها ومهدوا أكنافها مغترين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار، وتشمخ به نفوسهم على السلطان ويعتدون بآثاره، ويجرون في مضمار الدالة بسببه، فيمقتهم السلطان لذلك ويباعدهم. ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدون بقديم، ولا يذهبون إلى دالة ولا ترفع. إنما دأبهم الخضوع له والتملق والاعتمال في غرضه، متى ذهب إليه، فيتسع جاههم وتعلو منازلهم، وتنصرف إليهم الوجوه. والخواص بما يحصل لهم من ميل السلطان والمكانة عنده. ويبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم، لا يزيدهم ذلك إلا بعداً من السلطان ومقتاً وإيثاراً لهؤلاء المصطنعين عليهم، إلى أن تنقرض الدولة. وهذا أمر طبيعي في الدول. ومنه جاء شأن المصطنعين في الغالب. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب سواه.
الفصل السابع

في أن القائمين بأمور الدين..
من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب

والسبب في ذلك أن الكسب كما قدمناه قيمة الأعمال، وأنها متفاوتة بحسب الحاجة إليها. فإذا كانت الأعمال ضرورية في العمران عامة البلوى فيه، كانت قيمتها أعظم وكانت الحاجة إليها أشد. وأهل هذه الصنائع الدينية لا تضطر إليهم عامة الخلق، وإنما يحتاج إلى ما عندهم الخواص ممن أقبل على دينه. وإن احتيج إلى الفتيا والقضاء في الخصومات، فليس على وجه الاضطرار والعموم، فيقع الاستغناء عن هؤلاء. في الأكثر. وإنما يهتم بهم وبإقامة مراسمهم صاحب الدولة، بما له من النظر في المصالح فيقسم لهم حظاً من الرزق على نسبة الحاجة إليهم على النحو الذي قررناه. لا يساويهم بأهل الشوكة ولا بأهل الصنائع الضرورية، وإن كانت بضاعتهم أشرف من حيث الدين والمراسم الشرعية، لكنه يقسم بحسب عموم الحاجة وضرورة أهل العمران، فلا يصح في قسمتهم إلا القليل. وهم أيضاً لشرف بضائعهم أعزة على الخلق وعند نفوسهم، فلا يخضعون لأهل الجاه، حتى ينالوا منه حظاً يستدرون به الرزق، بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك، لما هم فيه من الشغل بهذه الصنائع الشريفة المشتملة على أعمال الفكر والتدبر. بل ولا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهل الدنيا لشرف صنائعهم، فهم بمعزل عن ذلك. فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب. ولقد باحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك علي، فوقع بيدي أوراق مخرقة من حسابات الدواوين بدار المأمون، تشتمل على كثير من الدخل والخرج يومئذ. وكان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة والأئمة والمؤذنين فوقفته عليه. وعلم منه صحة ما قلته ورجع إليه. وقضينا العجب من أسرار الله في خليقته، وحكمته في عوالمه. والله الخالق القادر، لارب سواه.
الفصل الثامن

في أن الفلاحة من معاش المستضعفين
وأهل العافية من البدو وذلك لأنه أصيل في الطبيعة وبسيط في منحاه. ولذلك لا تجده ينتحله أحد من أهل الحضر في الغالب، ولا من المترفين. ويختص منتحله بالمذلة. قال صلى الله عليه وسلم، وقد رأى السكة ببعض دور الأنصار: " ما دخلت هذه دار قوم إلا دخله الذل " . وحمله البخاري على الاستكثار منه. وترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو تجاوز الحد الذي أمر به. والسبب فيه والله أعلم ما يتبعها من المغرم المفضي إلى التحكم واليد العالية، فيكون الغارم ذليلاً بائساً، بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة. قال صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرماً " إشارة إلى الملك العضوض، القاهر للناس، الذي معه التسلط والجور، ونسيان حقوق الله تعالى في المتمولات، واعتبار الحقوق كلها مغرماً للملوك والدول. والله قادر على ما يشاء. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل التاسع
في معني التجارة ومذاهبها وأصنافها
اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال، بشراء السلع بالرخص، وبيعها بالغلاء، أياً ما كانت السلعة، من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش. وذلك القدر النامي يسمى ربحاً. فالمحاول لذلك الربح: إما أن يختزن السلعة ويتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء، فيعظم ربحه، وإما بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشتراها فيه، فيعظم ربحه. ولذلك قال بعض الشيوخ من التجار، لطالب الكشف عن حقيقة التجارة: أنا أعلمها لك في كلمتين، اشتراء الرخيص وبيع الغالي. فقد حصلت التجارة إشارة منه بذلك إلى المعنى الذي قررناه. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب سواه.
الفصل العاشرفي أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة وأيهم ينبغي له اجتناب حرفها

قد تقدم لنا أن معنى التجارة تنمية المال، بشراء البضائع ومحاولة بيعها بالغلاء بأغلى من ثمن الشراء. اما بانتظار حوالة الأسواق ، أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى، أو بيعها، بالغلاء على الآجال. وهذا الربح بالنسبة إلى أصل المال نزر يسير، لأن المال إن كان كثيراً عظم الربح، لأن القليل في الكثير كثير. ثم لا بد في محاولة هذه التنمية الذي هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة، في شراء البضائع وبيعها، ومعاملتهم في تقاضي أثمانها. وأهل النصفة قليل، فلا بد من الغش والتطفيف المجحف بالبضائع، ومن المطل في الأثمان المجحف بالربح. كتعطيل المحاولة في تلك المدة وبها نماؤه. ومن الجحود والإنكار المسحت لرأس المال، إن لم يتقيد بالكتاب والشهادة. وغناء الحكام في ذلك قليل، لأن الحكم إنما هو على الظاهر، فيعاني التاجرمن ذلك أحوالاً صعبة. ولا يكاد يحصل على ذلك التافه من الربح إلا بعظم العناء والمشقة، أو لا يحصل، أو يتلاشى رأس ماله. فإن كان جريئاً على الخصومة، بصيراً بالحسبان، شديد المماحكة، مقداماً على الحكام، كان ذلك أقرب له إلى النصفة منهم بجراءته، ومماحكته، وإلا فلا بد له من جاه يدرع به، فيوقع له الهيبة عند الباعة، ويحمل الحكام على إنصافه من غرمائه، فيحصل له بذلك النصفة واستخلاص ماله منهم، طوعاً في الأول وكرهاً في الثاني. وأما من كان فاقداً للجراءة والإقدام من نفسه، وفاقد الجاه من الحكام، فينبغي له أن يجتنب الاحتراف بالتجارة، لأنه يعرض ماله للضياع والذهاب، ويصيره مأكلة للباعة، ولا يكاد ينتصف منهم، لأن الغالب في الناس، وخصوصاً الرعاع والباعة، شرهون إلى ما في أيدي الناس سواهم، متوثبون عليه. ولولا وازع الأحكام لأصبحت أموال الناس نهباً. " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين " .
الفصل الحادي عشر

في أن خلق التجار نازلة..
عن خلق الأشراف والملوك وذلك أن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء، ولا بد فيه من المكايسة ضرورة. فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها، وهي أعني خلق المكايسة، بعيدة عن المروءة، التي تتخلن بها الملوك والأشراف. وأما إن استرذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم، من المماحكة والغش والخلابة وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان رداً وقبولاً، فأجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف. ولذلك تجد أهل الرئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة، لأجل ما يكسب من هذا الخلق. وقد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق ويتحاماه، لشرف نفسه وكرم جلاله، إلا أنه في النادر بين الوجود. والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه، وهو رب الأولين والآخرين.
الفصل الثاني عشر
في نقل التاجر للسلع

التاجر البصير بالتجارة، لا ينقل من السلع، إلا ما تعم الحاجة إليه، من الغني والفقير والسلطان والسوقة، إذ في ذلك نفاق سلعته. وأما إذا اختص نقله بما يحتاج إليه البعض فقط، فقد يتعذر نفاق سلعته حينئذ، بأعواز الشراء من ذلك البعض، لعارض من العوارض، فتكسد سوقه وتفسد أرباحه. وكذلك إذا نقل السلعة المحتاج إليها فإنما ينقل الوسط من صنفها، فإن الغالي من كل صنف من السلع إنما يختص به أهل الثروة وحاشية الدولة، وهم الأقل. وإنما يكون الناس أسوة في الحاجة إلى الوسط من كل صنف، فليتحر ذلك جهده، ففيه نفاق سلعته أو كسادها. وكذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة، أو شدة الخطر في الطرقات، يكون أكثر فائدة للتجار وأعظم أرباحاً وأكفل بحوالة الأسواق. لأن السلع المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة، لبعد مكانها أو شدة الغرر في طريقها، فيقل حاملوها ويعز وجودها. وإذا قلت وعزت غلت أثمانها. وأما إذا كان البلد قريب المسافة، والطريق سابل بالأمن، فإنه حينئذ يكثر ناقلوها، فتكثر وترخص أثمانها. ولهذا تجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس وأكثرهم أموالاً، لبعد طريقهم ومشقته، واعتراض المفازة الصعبة المخطرة بالخوف والعطش. لا يوجد فيها الماء إلا في أماكن معلومة، يهتدي إليها أدلاء الركبان، فلا يرتكب خطر هذا الطريق وبعده إلا الأقل من الناس. فتجد سلع بلاد السودان قلية لدينا، فتختض بالغلاء، وكذلك سلعنا لديهم. فتعظم بضائع التجار من تناقلها وويسرع إليهم والثروة من أجل ذلك. وكذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق، لبعد الشقة. وأما المترددون في الأفق الواحد، ما بين أمصاره وبلدانه، ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة، لكثرة السلع وكثرة ناقليها. و " الله هو الرزاق ذو القوة المتين " .
الفصل الثالث عشر

في الاحتكار
ومما اشتهر عند ذوي البصر والتجربة في الأمصار، أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤوم. وأنه يعود على فائدته، بالتلف والخسران. وسببه، والله أعلم، أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطراراً، فتبقى النفوس متعلقة به. وفي تعلق النفوس بمالها سر كبير في وباله على من يأخذه مجاناً.
ولعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل. وهذا وإن لم يكن مجاناً فالنفوس متعلقة به، لإعطائه ضرورة من غير سعة في العذر فهو كالمكره. وما عدا الأقوات والمأكولات من المبيعمات لا إضطراراً للناس إليها، وإنما يبعثهم عليها التفنن في الشهوات، فلا يبذلون أموالهم فيها إلا باختيار وحرص. ولا يبقى لهم تعلق بما أعطوه. فلهذا يكون من عرف بالاحتكار، تجتمع القوى النفسانية على متابعته، لما يأخذه من أموالهم، فيفسد ربحه. والله تعالى أعلم.
وسمعت فيما يناسب هذا، حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب. أخبرني شيخنا أبو عبد الله الآبلي قال: حضرت عند القاضي بفاس لعهد السلطان أبي سعيد، وهو الفقيه أبو الحسن المليلي، وقد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قال، فأطرق ملياً، ثم قال لهم: من مكس الخمر. فاستضحك الحاضرون من أصحابه وعجبوا، وسألوه عن حكمة ذلك. فقال: إذا كانت الجبايات كلها حراماً، فأختار منها ما لا تتابعه نفس معطيه. والخمر قل أن يبذل فيها أحد ماله، إلا وهو طرب مسرور بوجدانه، غير أسف عليه، ولا متعلقة به نفسه. وهذه ملاحظة غريبة. والله سبحانه وتعالى يعلم ما تكن الصدور.
الفصل الرابع عشر
في أن رخص الأسعار مضر
بالمحترفين بالرخيص وذلك أن الكسب والمعاش، كما قدمناه، إنما هو بالصنائع أو التجارة. والتجارة هي شراء البضائع والسلع وادخارها. يتحين بها حوالة الأسواق بالزيادة في أثمانها، ويسمى ربحاً. ويحصل منه الكسب والمعاش للمحترفين بالتجارة دائماً. فإذا استديم الرخص في سلعة، أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متمول على الجملة، ولم يحصل للتاجرحوالة الأسواق فيه فسد الربح والنماء بطول تلك المدة، وكسدت سوق ذلك الصنف، ولم يحصل التاجر إلا على العناد، فقعد التجارعن السعي فيها وفسدت رؤوس أموالهم.

واعتبر ذلك أولاً بالزرع، فإنه إذا استديم رخصه كيف تفسد أحوال المحترفين به، بسائر أطواره، من الفلح والزراعة لقلة الربح فيه، ونزارته أو فقده. فيفقدون النماء في أموالهم أو يجدونه على قلة، ويعودون بالإنفاق على رؤوس أموالهم، وتفسد أحوالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة. ويتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضاً بالطحن والخبز، وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرف من لدن زراعته إلى صيرورته مأكولاً.
وكذا يفسد حال الجند، إذا كانت أرزاقهم من السلطان عند أهل الفلح زرعاً، فإنها تقل جبايتهم من ذلك، ويعجزون عن إقامة الجندية التي هم بسببها ويرتزقون من السلطان عليها، ويقطع عنهم الرزق، فتفسد أحوالهم. وكذا إذا استديم الرخص في العسل والسكر، فسد جميع ما يتعلق به، وقعد المحترفون به عن التجارة فيه. وكذا حال الملبوسات إذا استديم فيها الرخص أيضاً. فإذا الرخص المفرط مجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف الرخيص، وكذا الغلاء المفرط أيضاً. وربما يكون في النادر سبباً لنماء المال بسبب احتكاره وعظم فائدته. وإنما معاش الناس وكسبهم في التوسط من ذلك وسرعة حوالة الأسواق، وعلم ذلك يرجع إلى العوائد المتقررة بين أهل العمران. وإنما يحمد الرخص في الزرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه، واضطرار الناس إلى الأقوات من بين الغني والفقير. والعالة من الخلق هم الأكثر في العمران، فيعم، الرفق بذلك، ويرجح جانب القوت على جانب التجارة في هذا الصنف الخاص. و " الله هو الرزاق ذو القوة المتين " . والله سبحانه وتعالى رب العرش العظيم.
الفصل الخامس عشر

في أن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء
وبعيدة من المروءة قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح، ولا بد في ذلك من المكايسة والمماحكة والتحذلق وممارسة الخصومات واللجاج، وهي عوارض هذه الحرفة. وهذه الأوصاف تغض من الذكاء والمروءة وتخدج فيها، لأن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس. فأفعال الخير تعود بآثار الخير والذكاء، وأفعال الشر والسفسفة تعود بضد ذلك، فتتمكن وترسخ إن سبقت وتكررت. وتنقص خلال الخير إن تأخرت عنها، بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس، شأن الملكات الناشئة عن الأفعال. وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم. فمن كان منهم سافل الطور، مخالفاً لشرار الباعة، أهل الغش والخلابة والخديعة والفجور في الأيمان على البياعات والأثمان إقراراً وإنكاراً، كانت رداءة تلك الخلق عنده أشد، وغلبت عليه السفسفة، وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة. وإلا فلا بد له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته. وفقدان ذلك فيهم في الجملة. ووجود الصنف الثاني منهم، الذي قدمناه في الفصل قبله أنهم يدرعون بالجاه، ويعوض لهم من مباشرة ذلك، فيهم نادر وأقل من النادر. وذلك أن يكون المال قد توفر عنده دفعة بنوع غريب، أو ورثه عن أحد من أهل بيته، فحصلت له ثروة تعينه على الاتصال بأهل الدولة، وتكسبه ظهوراً وشهرة بين أهل عصره، فيترفع عن مباشرة ذلك بنفسه، ويدفعه إلى من يقوم له به من ولائه وحشمه. ويسهل له الحكام النصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من بره وإتحافه، فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مر. فتكون مروءتهم أرسخ وأبعد عن المحرجات، إلا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب، فإنهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء ووفاقهم، أو خلافهم فيما يأتون أو يذرون من ذلك، إلا أنه قليل، ولا يكاد يظهر أثره. " والله خلقكم وما تعملون " .
الفصل السادس عشر
في أن الصنائع لا بد لها من العلم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6