كتاب : مقدمة ابن خلدون
المؤلف : ابن خلدون

وماذا بكت بالما وماذا تناحطت ... عيون غزار المزن عذباً حمامها
كأن عروس البكر لاحت تيابها ... عليها ومن نور الأقاحي خزامها
فلاة ودهنا واتساع ومنة ... ومرعى سوى مافي مراعي نعامها
ومشروبها من مخض ألبان شولها ... غنيم ومن لحم الجوازي طعامها
تفانت عن الأبواب والموقف الذي ... يشيب الفتى مما يقاسي زحامها
سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا ... وبلا ويحيى مابلي من رمامها
فكافأتها بالود مني وليتني ... ظفرت بأيام مضت في ركامها
ليالي أقواس الصبا في سواعدي ... إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها
وفرسي عديد تحت سرجي مشاقة ... زمان الصبا سرجاً وبيدي لجامها
وكم من رداح أسهرتني ولم أرى ... من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
وكم غيرها من كاعب مرجحنة ... مطرزة الأجفان باهي وشامها
وصفقت من وجدي عليها طريحة ... بكفي ولم ينسى جداها ذمامها
ونار بخطب الوجد توهج في الحشا ... وتوهج لايطفا من الماء ضرامها
أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى ... فني العمر في دار عماني ظلامها
ولكن رأيت الشمس تكسف ساعة ... ويغمى عليها ثم يبدأ غيامها
بنود ورايات من السعد أقبلت ... إلينا بعون الله يهفو علامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي ... ورمحي على كتفي وسيري أمامها
بجرعا عتاق النوق من فوق شامس ... أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزل بالجعفرية للوى ... مقيم بها مالذ عند مقامها
ونلقى سراة من هلال بن عامر ... يريد الصدا والغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقاً ومغرباً ... إذا قاتلوا قوماً سريع انهزامها
عليهم ومن هو في حماهم تحية ... مدى الدهر ماغنى يفينا حمامها
فدع ذا ولاتأسف على سالف مضى ... ففي الدنيا ما دامت لأحد دوامها
ومن أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر، شيخ الكعوب، ومن أولاد أبي الليل، يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل ويجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلهل، عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه:
يقول وذا قول المصاب الذي نشا ... قوارع قيعان يعاني صعابها
يريح بها حادي المصاب إذا سعى ... فنوناً من إنشاد القوافي عذابها
محيرة مختارة من نشادها ... تحدى بها تام الوشا ملتها بها
مغربلة عن ناقد في غضونها ... محكمة القيعان دابي ودابها
وهيض بتذكاري لها يا ذوي الندى ... قوارع من شبل وهذي جوابها
أشبل جنيناً من حباك طرائفا ... فراح يريح الموجعين الغنا بها
فخرت ولم تقصر ولا أنت عادم ... سوى قلت في جمهورها ما أعابها
لقولك في أم المتين بن حمزة ... وحامي حماها عادياً في حرابها
أما تعلم أنه قد قامها بعدما لقي ... رصاص بني يحيى وغلاق دابها
شهاباً من أهل الأمر يا شبل خارق ... وهل ريت من جا للوغى واصطلى بها
سواها طفاها أضرمت بعد طفيه ... وأثنى طفاها جاسراً لا يهابها
وأضرمت بعد الطفيتين ألن صحت ... لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها
وبان لوالي الأمر في ذا انشحابها ... فصار وهي عن كبر الأسنة تهابها
كما كان هو يطلب على ذا تجنبت ... رجال بني كعب الذي يتقي بها
ومنا في العتاب:
وليداً تعاتبتوا أنا أغنى لأنني ... غنيت بمعلاق الثنا واغتصابها
علي ونا ندفع بها كل مبضع ... بأسياف ننتاش العدا من رقابها
فإن كانت الأملاك بغت عرايس ... علينا بأطراف القنا اختضابها

ولا بعدها الإرهاف وذبل ... ورزق كألسنة الحناش انسلابها
بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه ... تسير السبايا والمطايا ركابها
وهي عالماً بأن المنايا تنيلها ... بلا شك والدنيا سريع انقلابها
ومنها في وصف الظعائن:
قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا ... فتوق بحوبات مخوف جنابها
ترى العين فيها قل لشبل عرائف ... وكل مهاة محتظيها ربابها
ترى أهلها غب الصباح أن يفلها ... بكل حلوب الجوف ماسد بابها
لها كل يوم في الأرامي قتائل ... ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها
ومن قولهم في الأمثال الحكمية:
وطلبك في الممنوع منك سفاهة ... وصدك عمن صد عنك صواب
إذا رأيت أناساً يغلقوا عنك بابهم ... ظهور المطايا يفتح الله باب
ومن قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم:
الشيب وشبان من أولاد برجم ... جميع البرايا تشتكي من ضهادها
ومن قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى وذلك فيما قرب من عصرنا:
يقول بلا جهل فتى الجود خالد ... مقالة قوال وقال صواب
مقالة حبر ذات ذهن ولم يكن ... هريجاً ولا فيما يقول ذهاب
تهجست معنا نابها لا لحاجة ... ولا هرج ينقاد منه معاب
وكنت بها كبدي وهي نعم صابة ... حزينة فكر والحزين يصاب
تفوهت بادي شرحها عن مآرب ... جرت من رجال في القبيل قراب
بني كعب أدنى الأقربين لدمنا ... بني عم منهم شايب وشباب
جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم ... مصافاة ود واتساع جناب
وبعضهم ملنا له عن خصيمه ... كما يعلموا قولي يقينه صواب
وبعضهمو مرهوب من بعض ملكنا ... جزاعاً وفي جو الضمير كتاب
وبعضهمو جانا جريحاً تسمحت ... خواطر منها للنزيل وهاب
وبعضهمو نظار فينا بسوة ... نقهناه حتى ما عنا به ساب
رجع ينتهي مما سفهنا قبيحه ... مراراً وفي بعض المرار يهاب
وبعضهمو شاكي من أوغاد قادر ... غلق عنه في أحكام السقائف باب
فصمناه عنه واقتضي منه مورد ... على كره مولى البالقي ودياب
ونحن على دافي المدى نطلب العلا ... لهم ما حططنا للفجور نقاب
وحزنا حمى وطن بترشيش بعدما ... نفقنا عليها سبقاً ورقاب
ومهد من الأملاك ما كان خارجاً ... على أحكام والي أمرها له ناب
بردع قروم من قروم قبيلنا ... بني كعب لاواها الغريم وطاب
جرينا بهم عن كل تأليف في العدا ... وقمنا لهم عن كل قيد مناب
إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ... ربيها وخيراته عليه نصاب
وركبوا السبايا المثمنات من أهمها ... ولبسوا من أنواع الحرير ثياب
وساقوا المطايا بالشرا لا نسوا له ... جماهير ما يغلو بها بحلاب
وكسبوا من أصناف السعايا ذخائر ... ضخائم لحزات الزمان تصاب
وعادوا نظير البرمكيين قبل ذا ... وإلا هلالا في زمان دياب
وكانوا لنا درعاً لكل مهمة ... إلى أن بان من نار العدو شهاب
وخلوا الدار في جنح الظلام ولا اتقوا ... ملامه ولا دار الكرام عتاب
كسوا الحي جلباب البهيم لستره ... وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب
كذلك منهم حابس ما دار النبأ ... ذهل حلمي أن كان عقله غاب

يظن ظنوناً ليس نحن بأهلها ... تمنى يكن له في السماح شعاب
خطا هو ومن واتاه في سو ظنه ... بالإثبات من ظن القبائح عاب
فواعزوتي إن الفتى بو محمد ... وهوب لألاف بغير حساب
وبرحت الأوغاد منه ويحسبوا ... بروحه ما يحيى بروح سحاب
جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع ... لقوا كل ما يستاملوه سراب
وهو لوعطى ما كان للرأي عارف ... ولا كان في قلة عطاه صواب
وإن نحن ما نستأملوا عنه راحة ... وأنه بإسهام التلاف مصاب
وإن ما وطا ترشيش يضياق وسعها ... عليه ويمشي بالفزوع لزاب
وأنه منها عن قريب مفاصل ... خنوج عناز هوالها وقباب
وعن فاتنات الطرف بيض غوانج ... ربوا خلف أستار وخلف حجاب
يتيه إذا تاهوا ويصبوا إذا صبوا ... بحسن قوانين وصوت رباب
يضلوه عن عدم اليمين وربما ... يطارح حتى ما كأنه شاب
بهم حازله زمه وطوع أوامر ... ولذة مأكول وطيب شراب
حرام على ابن تافر كين ما مضى ... من الود إلا ما بدل بحراب
وإن كان له عقل رجيح وفطنة ... يلجج في اليم الغريق غراب
وأما البدا لا بدها من فياعل ... كبار إلى أن تبقى الرجال كباب
ويحمى بها سوق علينا سلاعه ... ويحمار موصوف القنا وجعاب
ويمسي غلام طالب ريح ملكنا ... ندوما ولا يمسي صحيح بناب
أيا واكلين الخبز تبغوا ادامه ... غلطتوا أدمتوا في السموم لباب
ومن شعرعلي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته:
محبرة كالدر في يد صانع ... إذا كان في سلك الحريرنظام
أباحها منها فيه أسباب ما مضى ... وشاء تبارك والضعون تسام
غدا منه لأم الحي حيين وأنشطت ... عصاها ولاصبنا عليه حكام
ولكن ضميري يوم بأن بهم إلينا ... تبرم على شوك القتاد برام
وإلا كأبراص التهامي قوادح ... وبين عواج الكانفات ضرام
وإلا لكان القلب في يد قابض ... أتاهم بمنشار القطيع غشام
لما قلت سما من شقا البين زارني ... إذا كان ينادي بالفراق وخام
ألا يا ربوع كان بالأمس عامر ... بيحيى وحله والقطين لمام
وغيد تداني للخطا في ملاعب ... دجى الليل فيهم ساهر ونيام
ونعم يشوف الناظرين التحامها ... لنا مابدا من مهرق وكظام
وعرود باسمها ليدعو لسربها ... وإطلاق من شرب المها ونعام
واليوم ما فيها سوى البوم حولها ... ينوح على أطلال لها وخيام
وقفنا بها طوراً طويلاً نسألها ... بعين سخينا والدموع سجام
ولاصح لي منها سوى وحش خاطري ... وسقمي من أسباب أن عرفت أوهام
ومن بعد ذا تدى لمنصور بو علي ... سلام ومن بعد السلام سلام
وقولوا له يا بو الوفا كلح رأيكم ... دخلتم بحورغامقات دهام
زواخر ماتنقاس بالعود إنما ... لها سيلات على الفضا وأكام
ولاقستمو فيها قياساً يدلكم ... وليس البحورالطاميات تعام
وعانوا على هلكاتكم في ورودها ... من الناس عدمان العقول لئام
أياعزوة ركبوا الضلالة ولا لهم ... قرار ولا دنيا لهن دوام

ألا عناهمو لو ترى كيف زايهم ... مثل سراب فلاه ما لهن تمام
خلو القنا يبغون في مرقب العلا ... مواضع ماهيا لهم بمقام
وحق النبي والبيت وأركانه العلى ... ومن زارها في كل دهر وعام
لبر الليالي فيه إن طالت الحيا ... يذوقون من خمط الكساع مدام
ولابرها تبقى البوادي عواكف ... بكل رديني مطرب وحسام
وكل مسافة كالسد إياه عابر ... عليها من أولاد الكرام غلام
وكل كميت يكتعص عض نابه ... يظل يصارع في العنان لجام
وتحمل بنا الأرض العقيمة مدة ... وتولدنا من كل ضيق كظام
بالأبطال والقود الهجان وبالقنا ... لها وقت وجنات البدور زحام
أتجحدني وأنا عقيد نقودها ... وفي سن رمحي للحروب علام
ونحن كأضراس الموافي بنجعكم ... حتى يقاضوا من ديون غرام
متى كان يوم القحط يامير أبو علي ... يلقى سعايا صايرين قدام
كذلك بوحمو إلى اليسر أبعته ... وخلى الجياد العاليات تسام
وخل رجالاً لا يرى الضيم جارهم ... ولايجمعوا بدهى العدو زفام
ألا يقيموها وعقد بؤسهم ... وهم عذرعنه دائماً ودوام
وكم ثار طعنها على البدو سابق ... مابين صحا صيح ومابين حسام
فتى ثار قطار الصوى يومنا على ... لنا أرض ترك الظاعنين زمام
وكما ذا يجيبوا أثرها من غنيمة ... حليف الثنا قشاع كل غيام
وإن جاء خافوه الملوك ووسعوا ... غدا طبعه يجدي عليه قيام
عليكم سلام الله من لسن فاهم ... ماغنت الورقا وناح حمام
ومن شعر عرب نمر بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول:
تقول فتاة الحي أم سلامة ... بعين أراع الله من لارثى لها
تبيت بطول الليل ما تألف الكرى ... موجعة كان الشقا في مجالها
على ما جرى في دارها وبو عيالها ... بلحظة عين البين غير حالها
فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم ... ونمتوا عن أخذ الثأر ماذا مقالها
أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرني ... ويبرد من نيران قلبي ذبالها
أيا حين تسريح الذوائب واللحى ... وبيض العذارى ما حميتو جمالها
الموشحك والأزجال للأندلسوأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتفخرون منهم فناً منه سموه بالموشح، وينظمونه أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً، يكثرون منها، ومن أعاريضها المختلفة. ويسمون المتعدد منها بيتاً واحداً ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالياً فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات. ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد. وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة، الخاصة والكافة، لسهولة تناوله، وقرب طريقه. وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم ابن معافر القبريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني. وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه، صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما. فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية. وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله:
بدرتم شمس ضحى ... غصن نقا مسك شم
ما أتم ما أوضحا ... ما أورقا ما أنم
لاجرم من لمحا ... قد عشقا قد حرم

وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن. الطوائف. وجاء مصلياً خلفه منهم ابن رافع، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون، صاحب طليطلة. قالوا وقد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول:
العدو قد ترنم بأبدع تلحين ... وسقت المذانب رياض البساتين
وفي انتهائه حيث يقول:
تخطر ولا تسلم عساك المأمون ... مروع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين فظهرت لهم البدائع، وسابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي، ثم يحيى بن بقي، وللطليطلي من الموشحات المهذبة قوله:
كيف السبيل إلى ... صبري وفي المعالم أشجان
والراكب وسط الفلا ... بالخرد النواعم قد بان
وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية، وكان كل واحد منهم اصطنع موشحة وتأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد، فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان سافرعن بدر ... ضاق عنه الزمان وحواه صدري
حرق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون. وذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحاً على قول إلا ابن بقي حين وقع له:
أما ترى أحمد في مجده العالي لا يلحق ... أطلعه الغرب فأرنا مثله يا مشرق
وكان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض. وكان في عصرهما أيضاً الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة. ومن الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة، فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها:
جرر الذيل أيما جر،
وصل الشكر منك بالشكر
فطرب الممدوح لذلك، فلما ختمها بقوله:
عقد الله راية النصر،
لأمير العلا أبي بكر
وطرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت، صاح: واطرباه وشق ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت، وحلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه. وذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكير بن زهر. ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر، فغض منه أحد الحاضرين فقال كيف تغض مم يقول:
ما لذ لي شرب راح، ...
لعلى رياض الأقاح، ...
لا هضيم الوشاح، ...
إذا انثنى في الصباح،
أو في الأصيل، ...
أضحى يقول: ...
ماللشمول، ...
لطمت خدي؟
وللشمال
هبت فمال
غضن اعتدال
ضمه بردي
مما أباد القلوبا،
يمشي لنا مستريبا،
يا لحظه رد نوبا!
ويا لماه الشنيبا
برد غليل،
صب غليل،
لا يستحيل،
فيه عن العهد
ولا يزال،
في كل حال
يرجو الوصال،
وهو في الصد واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبي الفضل بن شرف. قال الحسن بن دويريدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح:
شمس قاربت بدراً ... راح ونديم
وابن هردوس الذي له:
ياليلة الوصل والسعود ... بالله عودي
وابن مؤهل الذي له:
ما العيد في حلة وطاق ... وشم طيب
وإنما العيد في التلاقي ... مع الحبيب
وأبو إسحق الرديني، قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول إنه دخل على ابن زهر، وقد أسن، وعليه زي البادية، إذ كان يسكن بحصن أستبه، فلم يعرفه، فجلس حيث انتهى به المجلس. وجرت المحاضرة فأنشد لنفسه موشحة وقع فيها:
كحل الدجى يجريمن مقلة الفجرعلى الصباح
ومعصم النهر في حلل خضرمن البطاح
فتحرك ابن زهر وقال: أنت تقول هذا؟ قال: اختبر! قال: ومن تكون؟ فعرفه، فقال: ارتفع! فوالله ما عرفتك. قال ابن سعيد: وسابق الحلبة التى أدركت هؤلاء أبو بكر بن زهر، وقد شرقت موشحاته وغربت. قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: قيل لابن زهر، لو قيل لك ما أبدع وأرفع ما وقع لك في التوشيح ما كنت تقول؟ قال، كنت أقول:
ما للموله؟
من سكره لا يفيق

يا له سكران
من غير خمر
ما للكئيب المشرق
يندب الأوطان؟
هل تستعاد
أيامنا بالخليج
وليالينا؟
أو يستفاد
من النسيم الأريج
مسك دارينا
أو هل يكاد
حسن المكان البهيج
أن يحيينا؟
روض أظله
دوح عليه أنيق
مورق الأفنان
والماء يجري،
وعائم وغريق
من جنى الريحان
واشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله:
يفوق سهمه كل حين ... بما شئت من يد وعين
وينشد في القصيد:
خلقت مليح علمت رامي ... فليس تخل ساع من قتال
وتعمل بذي العينين متاعي ... ماتعمل يدي بالنبال
واشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس، قال ابن سعيد، ولما سمع ابن زهر قوله:
لله ما كان من يوم بهيج ... بنهر حمص على تلك المروج
ثم انعطفنا وعلى فم الخليج ... نفض في حانه مسك الختام
عن عسجد زانه صافي المدام ... ورداء الأصيل ضمه كف الظلام
قال ابن زهر: أين كنا نحن عن هذا الرداء وكان معه في بلده مطرف. أخبر ابن سعيد عن والده مطرفاً هذا دخل على ابن الفرس فقام له وأكرمه، فقال لا تفعل! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول:
قلوب تصاب بألحاظ تصيب ... فقل كيف تبقى بلا وجد
وبعد هذا ابن حزمون بمرسية. ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه، فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عارياً عن التكلف، قال على مثل ماذا؟ قال على مثل قولي:
ياهاجري هل إلى الوصال ... منك سبيل
أو هل ترى عن هواك سالي ... قلب العليل
وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله:
إن سيل الصباح في الشرق ... عاد بحراً في أجمع الأفق
فتد اعت نوادب الورق
أتراها خافت من الغرق ... فبكت سحرة على الورق
واشتهر بإشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل، قال ابن سعيد عن والده، سمعت سهل ابن مالك يقول له: يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك:
واحسرتا لزمان مضى ... عشية بان الهوى وانقضى
وأفردت بالرغم لا بالرضى ... وبت على جمرات الغضى
أعانق بالفكر تلك الطلول ... وألثم بالوهم تلك الرسوم
قال وسمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة، فما سمعته يقول له لله درك، إلا في قوله:
قسماً بالهوى لذي حجر ... مالليل المشوق من فجر
جمد الصبح ليس يطردما لليلي فيما أظن غداصح ياليل إنك الأبد
أوقفصت قوادم النسر ... فنجوم السماء لا تسري
ومن محاسن موشحات ابن الصابوني قوله:
ماحال صب ذي ضنى واكتئاب ... أمرضه يا ويلتاه الطبيب
عامله محبوبه باجتناب ... ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب
جفا جفوني النوم لكنني ... لم أبكه إلا لفقد الخيال
وذا الوصال اليوم قد غرني ... منه كما شاء وشاء الوصال
فلست باللائم من صدني ... بصورة الحق ولا بالمحال
واشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزايري صاحب الموشحة المشهورة:
يد الأصباح قدحت زناد ... الأنوار في مجامر الزهر
وابن خرز البجائي وله من موشحة:
ثغر الزمان موافق ... حباك منه بابتسام
ومن محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل، شاعر إشبيلية وسبتة من بعدها فمنها قوله:
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صب حله عن مكنس
فهو في نار وخفق مثل ما ... لعبت ريح الصبا بالقبس
وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب، شاعر الأندلس والمغرب لعصره، وقد مر ذكره فقال:
جادك الغيث إذا الغيث همى،
يا زمان الوصل بالأندلس!
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس!
إذ يقود الدهر أشتات المنى

تنقل الخطو على ما ترسم،
زمراً بين فرادى وثنا
مثل ما يدعو الحجيج الموسم
والحيا قد جلل الروض سنا،
فسنا الأزهار فيه تبسم
وروى النعمان عن ماء السما،
كيف يروي مالك عن أنس؟
فكساه الحسن ثوباً معلما،
يزدهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سر الهوى،
بالدجى لولا شموس القدر
مال نجم الكأس فيها وهوى،
مستقيم السير سعد الأثر
وطر مافيه من عيب سوى
أنه مر كلمح البصر
حين لذ النوم شيئاً أو كما
هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بنا، أو ربما
أثرت فينا عيون النرجس
أي شيء لامرىء قد خلصا،
فيكون الروض قد كنن فيه
تنهب الأزهار فيه الفرصا،
أمنت من مكره ما تتقيه
فإذا الماء تناجى والحصى،
وخلا كل خليل بأخيه
تبصر الورد غيوراً برما
يكتسي من غيظه مايكتسي
وترى الآس لبيباً فهما
يسرق السمع بأذني فرس
يا أهيل الحي من وادي الغضا!
وبقلبي مسكن أنتم به!
ضاق عن وجدي بكم، رحب الفضا،
لا أبالي شرقه من غربه
فأعيموا عهد أنس قد مضى،
تعتقوا عبدكم من كربه
واتقوا الله وأحيوا مغرما
يتلاشى نفساً في نفس
حبس القلب عليكم كرما،
أفترضون خراب الحبس
وبقلبي منكم مقترب،
بأحاديث المنى وهو بعيد
قمر أطلع منه المغرب
شقوة المضنى به، وهو سعيد
قد تساوى محسن أو مذنب
في هواه، بين وعد ووعيد
ساحر المقلة معسول اللمى،
جال في النفس مجال النفس
سدد السهم وسمى ورمى
ففؤادي نهبة المفترس
إن يكن جار وخاب الأمل،
وفؤاد الصب بالشوق يذوب
فهو للنفس حبيب أول،
ليس في الحب لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل
في ضلوع، قد براها، وقلوب
حكم اللحظ بها فاحتكما،
لم يراقب في ضعاف الأنفس
ننصف المظلوم ممن ظلما،
ويجازي البر منها والمسي
ما لقلبي كلما هبت صبا،
عاده عيد من الشرق جديد؟
جلب الهم له والوصبا
فهو للأشجان في جهد جهيد
كان في اللوح له مكتتبا
قوله: إن عذابي لشديد!
لاعج من أضلعي قد أضرما،
فهي نار في هشيم اليبس
لم تدع في مهجتي إلا ذما
كبقاء الصبح بعد الغلس
سلمي يانفس في حكم القضا
واعمري الوقت برجعي ومتاب
ودعي ذكر زمان قد مضى
بين عتبى قد تقضت وعتاب
واصرفي القول إلى المولى الرضى
ملهم التوفيق في أم الكتاب
الكريم المنتهى والمنتمى
أسد السرح وبمر المجلس
ينزل النصر عليه، مثل ما
ينزل الوحي بروح القدس
وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموثسحات. ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقاً وغرباً وأولها:
حبيبي ارفع حجاب النور ... عن العذار
تنظر المسك على كافور ... في جلنار
كللي ياسحب تيجان الربى ... بالحلى واجعلي
سوارها منعطف الجدول
ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور، لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً. واستحدثوا فناً سموه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة.

وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه. وكان لعهد الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق. قال ابن سعيد: ورأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب. قال: وسمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي، إمام الزجالين في عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال:
وعريش قد قام على دكان ... بحال رواق
وأسد قد ابتلع ثعبان ... من غلظ ساق
وفتح فمه بحال إنسان ... بيه الفراق
وانطلق من ثم على الصفاح ... وألقى الصياح
وكان ابن قزمان، مع أنه قرطبي الدار، كثيراً ما يتردد إلى إشبيلية ونيتاب نهرها فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن. وقد ركبوا في النهر للنزهة ومعهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد وبيوتهم. وكانوا مجتمعين في زورق للصيد، فنظموا في وصف الحال وبدأ منهم عيسى البليدي فقال:
يطمع بالخلاص قلبي وقد فاتو ... وقد ضمني عشقو لشهماتو
تراه قد حصل مسكين محلاتو ... يغلق وكذاك أمر عظيم صاباتو
توحش الجفون الكحل إن غابو ... وذيك الجفون الكحل أبلاتو
ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي:
نشب والهوى من لج فيه ينشب ... ترى إيش دعاه يشقى ويتعذب
مع العشق قام في بالوان يلعب ... وخلق كثير من ذا اللعب ماتوا
ثم قال أبو الحسن المقري الداني:
نهارمليح يعجبن أوصافو ... شراب وملاح من حولي قد طافوا
والمقلين يقول من فوق صفصافو ... والبوري أخرى فقلاتو
ثم قال أبو بكر بن مرتين:
الحق تريد حديث بقالي عاد ... في الواد النزيه والبوري والصياد
لسنا حيتان ذيك الذي يصطاد ... قلوب الورى هي في شبيكاتو
ثم قال أبو بكر بن قزمان:
إذا شمر كمامو يرميها ... ترى البوري يرشق لذاك الجيها
وليس مرادو أن يقع فيها ... إلا أن يقبل بدياتو
وكان في عصرهم بشرق الأندلس محلف الأسود، وله محاسن من الزجل منها قوله:
قد كنت منشوب واختشيت النشب ... وردني ذا العشق لأمر صعب
حتى تنظر الخد الشريق البهي ... تنتهي في الخمر إلما تنتهي
ياطالب الكيميا في عيني هي ... تنظر بها الفضة وترجع ذهب
وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، من قوله في زجله المشهور:
ورزاذ دق ينزل ... وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض ... وترى الآخر يذهب
والنبات يشرب ويسكر ... والغصون ترقص وتطرب
وبريد تجي إلينا ... ثم تستحي وتهرب
ومن محاسن أزجاله قوله:
لاح الضيا والنجوم حيارى ... فقم بنا ننزع الكسل
شربت ممزوج من قراعا ... أحلى هي عندي من العسل
يامن يلمني كما تقلد ... قلدك الله بما تقول
يقول بأن الذنوب تولد ... وأنه يفسد العقول
لأرض الحجاز موريكن لك أرشد ... إيش ماساقك معي في ذا الفضول
مر أنت للحج والزيارا ... ودعني في الشرب منهمل
من ليس لو قدره ولا استطاع النية أبلغ من العمل
وظهر بعد هؤلاء بإشبيلية ابن جحدر الدي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا:
من عاند التوحيد بالسيف يمحق ... أنا بري ممن يعاند الحق
قال ابن سعيد لقيتة ولقيت تلميذه المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله:
ياليتني إن رأيت حبيبي ... أفتل أذنو بالرسيلا

ليش أخذ عنق الغزيل ... وسرق فم الحجيلا
ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل ابن مالك إمام الأدب، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة:
امزج الأكواس واملالي تجدد ... ماخلق المال إلا أن يبدد
ومن قوله على طريقة الصوفية وينحو منحى الششتري منهم:
بين طلوع وبين نزول ... اختلطت الغزول
ومضى من لم يكن ... وبقي من لم يزول
ومن محاسنه أيضاً قوله في ذلك المعنى:
البعد عنك يابني أعظم مصايبي ... وحين حصل لي قربك سببت قاربي
وكان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش، وكان إماماً في هذه الطريقة وله من زجل يعارض به مدغليس في قوله:
لاح الضياء والنجوم حيارى
بقوله:
حل المجون يا أهل الشطارا ... مذ حلت الشمس في الحمل
تجددوا كل يوم خلاعا ... لا تجعلوا بينها ثمل
تجددوا كل يوم خلاعا ... لاتجعلوا بينها ثمل
إليها يتخلعوا في شنبل ... على خضورة ذاك النبات
وحل بغداد واجتاز النيل ... أحسن عندي من ذيك الجهات
وطاقتها أصلح من أربعين ميل ... إن مرت الريح عليه وجاءت
لم تلتق الغبار أمارا ... ولا بمقدار ما يكتحل
وكيف ولاش فيه موضع رقاعا ... إلا ونسرح فيه النحل
وهذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامه بالأندلس من الشعر، وفيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العامية ويسمونه الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم:
دهر لي نعشق جفونك وسنين ... وأنت لا شفقة ولاقلب يلين
حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع ... صنعة السمكة بين الحدادين
الدموع ترشرش والنار تلتهب ... والمطارق من شمال ومن يمين
خلق الله النصارى للغزو ... وأنت تغزو قلوب العاشقين
وكان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي وله فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر:
طل الصباح قم يانديمي نشربو ... ونضحكو من بعد ما نطربو
سبيكة الفجر أحكت شفق ... في ميلق الليل فقم قلبو
ترى عيارها خالص أبيض نقي ... فضة هو لكن الشفق ذهبو
فتنتفق سكتوا عند البشر ... نور الجفون من نورها يكسبو
فهو النهار يا صاحبي للمعاش ... عيش الغني فيه بالله ما أطيبو
والليل أيضاً للقبل والعناق ... على سرير الوصل يتقلبو
جاد الزمان من بعد ما كان بخيل ... ولش ليفلت من يديه عقربو
كما جرع مرو فما قد مضى ... يشرب بيننو ويأكل طيبو
قال الرقيب يا أدبا إيش ذا ... في الشرب والعشق ترى ننجبو
وتعجبوا عذالي من ذا الخبر ... فقلت ياقوم من ذا تتعجبوا
نعشق مليح إلا رقيق الطباع ... علاش تكفروا بالله أو تكتبوا
ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب ... يفض بكرو ويدع ثيبو
أما الكأس فحرام نعم هو حرام ... على الذي ما يدري كيف يشربو
ويد الذي يحسن حسابه ولم ... يقدر يحسن ألفاظ أن يجلبوا
وأهل العقل والفكر والمجون ... يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا
ظبي بهي فيها يطفي الجمر ... وقلبي في جمر الغضى يلهبو
غزال بهي ينظر قلوب الأسود ... وبالوهم قبل النظر يذهبوا
ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا ... ويفرحوا من بعد ما يندبوا
فميم كالخاتم وثغر نقي ... خطيب الأمة للقبل يخطبو

جوهر ومرجان أي عقد يا فلان ... قد صففه الناظم ولم يثقبو
وشارب أخضر يريد لاش يريد ... من شبهه بالمسك قد عيبو
يسبل دلال مثل جناح الغراب ... ليالي هجري منه يستغربوا
على بدن أبيض بلون الحليب ... ما قط راعي للغنم يجلبوا
وزوج هندات ما علمت قبلها ... ديك الصلا يا ريت ما أصلبو
تحت العكاكن منها خصر رقيق ... من رقتو يخفي إذا تطلبوا
أرق هو من ديني فيما تقول ... جديد عتبك حق ما أكذبو
أي دين بقا لي معاك وأي عقل ... من يتبعك من ذا وذا تسلبوا
تحمل أرداف ثقال كالرقيب ... حين ينظر العاشق وحين يرقبو
إن لم ينفس غدر أو ينقشع ... في طرف ديسا والبشر تطلبو
يصير إليك المكان حين تجي ... وحين تغيب ترجع في عيني تبو
محاسنك مثل خصال الأمير ... أو الرمل من هو الذي يحسبو
عماد الأمصار وفصيح العرب ... من فصاحة لفظه يتقربو
بحمل العلم انفرد والعمل ... ومع بديع الشعر ما أكتبو
ففي الصدور بالرمح ما أطعنه ... وفي الرقاب بالسيف ما أضربو
من السماء يحسد في أربع صفات ... فمن يعد قلبي أو يحسبو
الشمس نورو والقمر همتو ... والغيث جودو والنجوم منصبو
يركب جواد الجود ويطلق عنان ... الأغنيا والجند حين يركبوا
من خلعتو يلبس كل يوم بطيب ... منه بنات المعالي تطيبوا
نعمتو تظهر على كل من يجيه ... قاصد ووارد قط ماخيبوا
قد أظهر الحق وكان في حجاب ... لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو
وقدبنى بالسر ركن التقى ... من بعد ما كان الزمان خربو
تخاف حين تلقاه كما ترتجيه ... فمع سماحة وجهو ما أسيبو
يلقى الحروب ضاحكاً وهي عابسة ... غلاب هو لاشيء في الدنيا يغلبو
إذا حبد سيفه مابين الردود ... فليس شيء يغني من يضربو
وهو سمي الصصطفى والإله ... للسلطنة اختار واستنخبو
تراه خليفة أمير المؤمنين ... يقود جيوشو ويزين موكبو
لذي الإمارة تخضع الرؤوس ... نعم وفي تقبيل يديه يرغبوا
بيته بقي بدور الزمان ... يطلعوا في المجد ولايغربوا
وفي المعالي والشرف يبعدوا ... وفي التواضع والحيا يقربوا
والله يبقيهم مادار الفلك ... وأشرقت شمسه ولاح كوكبو
ومايغني ذا القصيد في عروض ... ياشمس خدر مالها مغربو
ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فناً آخر من الشعر، في أعاريض مزدوجة كالموشح، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضاً وسموه عروض البلد وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلاً مطلعها:
أبكاني بشاطي النهر نوح الحمام ... على الغصن في البستان قريب الصباح
وكف السحر يمحو مداد الظلام ... وماء الندى يجري بثغر الأقاح
باكرت الرياض والطل فيها افتراق ... كثير الجواهر في نحور الجوار
ودمع النواعير ينهرق انهراق ... يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
لووا بالغصون خلخال على كل ساق ... ودار الجميع بالروض دورالسوار
وأيدي الندى تخرق جيوب الكمام ... ويحمل نسيم المسك عنها رياح
وعاج الصبا يطلى بمسك الغمام ... وجر النسيم ذيلو عليها وفاح
رأيت الحمام بين الورق في القضيب ... قد ابتلت أرياشو بقطر الندى

تنوح مثل ذاك المستهام الغريب ... قد التف من تربو الجديد في ردا
ولكن بما أحمر وساقو خضيب ... ينظم سلوك جوهر ويتقلدا
جلس بين الأغصان جلسة المستهام ... جناحا توسد والتوى في جناح
وصار يشتكي مافي الفؤاد من غرام ... منها ضم منقاره لصدره وصاح
قلت ياحمام أحرمت عيني الهجوع ... أراك ماتزال تبكي بدمع سفوح
قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع ... بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح
على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ... ألفت البكا والحزن من عهد نوح
كذا الوفا وكذا هو الزمام ... انظر جفون صارت بحال الجراح
وأنتم من بكى منكم إذا تم عام ... يقول عناني ذا البكا والنواح
قلت ياحمام لو خضت بحرالضنى ... كنت تبكي وترثي لي بدمع هتون
ولو كان بقلبك مابقلبي أنا ... ما كان يصير تحتك فروع الغصون
اليوم نقاسي الهجر كم من سنا ... حتى لا سبيل جملة تراني العيون
ومما كسا جسمي النحول والسقام ... أخفاني نحولي عن عيون اللواح
لوجتني المنايا كان يموت في المقام ... ومن مات بعد ياقوم لقد استراح
قال لي لو رقدت لأوراق الرياض ... من خوفي عليه وذا النفوس للفؤاد
وتخضبت من دمعي وذاك البياض ... طوق العهد في عنقي ليوم التناد
أما طرف منقاري حديثو استفاض ... بأطراف البلد والجسم صار في الرماد
فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته، وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم، وكثر سماعة بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوعوه أصنافاً إلى المزدوج والكازي والملعبة والغزل. واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها.
فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم وهومن أهل تازا:
المال زينة الدنيا وعز النفوس ... يبهي وجوهاً ليس هي باهيا
فها كل من هو كثير الفلوس ... ولوه الكلام والرتبة العاليا
يكبر من كثر مالو ولو كان صغير ... ويصغر عزيز القوم إذ يفتقر
من ذا ينطبق صدري ومن ذا تغير ... وكان ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومو كبير ... لمن لا أصل عندو ولا لو خطر
لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس ... ويصبغ عليه ثوب فراش صافيا
اللي صارت الأذناب أمام الرؤوس ... وصار يستفيد الواد من الساقيا
ضعف الناس على ذا وفسد ذا الزمان ... ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب
اللي صار فلان يصبح بو فلان ... ولو رأيت كيف يرد الجواب
عشنا والسلام حتى رأينا عيان ... أنفاس السلاطين في جلود الكلاب
كبار النفوس جداً ضعاف الأسوس ... هم ناحيا والمجد في ناحيا
يرو أنهم والناس يروهم تيوس ... وجوه البلد والعدمة الراسيا
ومن مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته:
تعب من تبع قلبو ملاح ذا الزمان ... أهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك
ما منهم مليح عاهد إلا وخان ... قليل من عليه تحبس ويحبس عليك
يهبوا على العشاق ويتمنعوا ... ويستعدوا تقطيع قلوب الرجال
وإن واصلوا من حينهم يقطعوا ... وإن عاهدوا خانوا على كل حال
مليح كان هويتو وشت قلبي معو ... وصيرت من خدي لقدمو نعال
ومهدت لو من وسط قلبي مكان ... وقلت لقلبي أكرم لمن حل فيك
وهون عليك ما يعتريك من هوان ... فلا بد من هول الهوى يعتريك
حكمتوا علي وارتضيت بو أمير ... فلو كان يرى حالي إذا يبصرو

يرجع مثل در حولي بوجه الغدير ... مرديه ويتعطس بحال انحرو
وتعلمت من ساعا بسبق الضمير ... ويفهم مرادو قبل أن يذكرو
ويحتل في مطلو لو أن كان ... عصر في الربيع أو في الليالي يريك
ويمشي بسوق كان ولو بأصبهان ... وإيش مايقل يحتاج لو يجيك
حتى أتى على آخرها.
وكان منهم علي بن المؤذن بتلمسان، وكان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف، أبدع في مذاهب هذا الفن. ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن وبني مرين إلى إفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان، ويعزيهم عنها ويؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها، وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه ويسمى براعة الاستهلال:
سبحان مالك خواطر الأمرا ... ونواصيها في كل حين وزمان
إن طعناه أعظم لنا نصراً ... وإن عصيناه عاقب بكل هوان
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص:
كن مرعى قل ولا تكن راعي ... فالراعي عن رعيته مسؤول
واستفتح بالصلاة على الداعي ... للإسلام والرضا السني المكمول
على الخلفاء الراشدين والأتباع ... واذكر بعدهم إذا تحب وقول
أحجاجاً تخللوا الصحرا ... ودوا سرح البلاد مع السكان
عسكر فاس المنيرة الغرا ... وين سارت بو عزايم السلطان
أحجاج بالنبي الذي زرتم ... وقطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم ... المتلوف في إفريقيا السودا
ومن كان بالعطايا يزودكم ... ويدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا ... ويعجز شوط بعدما يخفان
ويزف كر دوم تهب في الغبرا ... أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا ... وبلاد الغرب سد السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا ... طبقاً بحديد أوثانياً بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبأً ... أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور وما شرا ... لو تقرأ كل يوم على الديوان
لجرت بالدم وانصدع حجرا ... وهوت الخراب وخافت الغزلان
أدر لي بعقلك الفحاص ... وتفكر لي بخاطرك جمعا
إن كان تعلم حمام ولا رقاص ... عن السلطان شهر وقبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص ... وعلامات تنشرعلى الصمعا
ألا قوم عاريين فلا سترا ... مجهولين لا مكان ولا إمكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا ... وكيف دخلوا مدينة القيروان
أمولاي أبو الحسن خطينا الباب ... قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد والزاب ... واش لك في إعراب إفريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب ... الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام والحجاز وتاج كسرى ... وفتح من إفريقيا وكان
رد ولدت لو كره ذكرى ... ونقل فيها تفرق الأخوان
هذا الفاروق مردي الأعوان ... صرح في إفريقيا بذا التصريح
وبقت حمى إلى زمن عثمان ... وفتحها ابن الزبيرعن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان ... مات عثمان وانقلب علينا الريح
وافترق الناس على ثلاثة أمرا ... وبقي ما هو للسكوت عنوان
إذا كان ذا في مدة البرارا ... إش نعمل في أواخر الأزمان
وأصحاب الحضر في مكناساتا ... وفي تاريخ كأنا وكيوانا

تذكرفي صحتها أبياتاً ... شق وسطيح وابن مرانا
إن مرين إذا تكف براياتا ... لجدا وتونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا ... عيسى بن الحسن الرفيع الشأن
قال لي رأيت وأنا بذا أدري ... لكن إذا جاء القدرعميت الأعيان
ويقول لك ما دهى المرينيا ... من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى ... سلطان تونس وصاحب الأبواب
ثم أخذ في ترحيل السلطان وجيوشه، إلى آخر رحلته ومنتهى أمره، مع أعراب إفريقية، وأتى فيها بكل غريبة من الإبداع. وأما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضاً على لغتهم الحضرية، إلا أن أكثره رديء، ولم يعلق بمحفوظي منه شيء لرداءته.
الموشحات والأزجال في المشرقوكان لعامة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه المواليا، وتحته فنون كثيرة يسمون منها القوما، وكان وكان، ومنه مفرد ومنه في بيتين، ويسمون دوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغضان. وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب، وتبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية، فجاؤوا بالعجائب، ورأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط، وهو ذو أربعة أغصان وأربع قواف، ويسمى صوتاً وبيتين. وأنه من مخترعات أهل واسط، وأن كان وكان فهو قافية واحدة وأوزان مختلفة في أشطاره: الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة وأنه من مخترعات البغداديين. وأنشد فيه لنا: بغمز الحواجب حديث تفسير ومنو أوبو، وأم الأخرس تعرف بلغة الخرسان.
انتهى كلام الصفي. ومن أعجب ما علق بحفظي منه قول شاعرهم:
هذي جراحي طريا ... والدما تنضح
وقاتلي يا أخيا ... في الفلا يمرح
قالوا ونأخذ بثأرك ... قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني ... يكون أصلح
ولغيره:
طرقت باب الخبا قالت من الطارق ... فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق ... رجعت حيران في بحر أدمعي غارق
ولغيره:
عهدي بها وهي لاتأمن علي البين ... وإن شكوت الهوى قالت فدتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ... ذكرتها العهد قالت لك علي دين
ولغيره في وصف الحشيش:
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي ... تغني عن الخمر والخمار والساقي
قحباً ومن قحبها تعمل على إحراقي ... خبيتها في الحشى طلت من أحداقي
ولغيره:
يا من وصالو لأطفال المحبة بح ... كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو والتصبر بح ... كل الورى كخ في عيني وشخصك دح
ولغيره:
ناديتها ومشيبي قد طواني طي ... جودي علي بقبلة في الهوى يامي
قالت وقد كوت داخل فؤادي كي ... ماظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
ولغيره:
راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ... ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
أسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه ... رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
ولغيره:
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر ... وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
وصي في حيهم يا من يريد الأجر ... ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
ولغيره:
عيني التي كنت أرعاكم بها باتت ... ترعى النجوم وبالتسهيد اخاتت
وأسهم البين صابتني ولافاتت ... وسلوتي عظم الله أجركم ماتت
ولغيره:
هويت في قنطرتكم ياملاح الحكر ... غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن إذا ما انثنى يسبي البنات البكر ... وإن تهلل كما للبدر عندو ذكر
ومن الذي يسمونه دوبيت:
قد أقسم من أحبه بالباري ... أن يبعث طيفه مع الأسحار
يا نار أشواقي به فاقتدي ... ليلاً فعساه يهتدي بالنار

واعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها، حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية. فلا يشعر الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب، ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمشرق، ولا المشرقي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب. لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم، وكل واحد منهمل ممرذ لبلاغة لغته وذائق محاسن الشعر من أهل جلدته. " وفي خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم آيات للعالمين " .
خاتمة: وقد كدنا أن نخرج عن الغرض، ولذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول، الذي هو طبيعة العمران، وما يعرض فيه، وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاء له. ولعل من يأتي بعدنا، ممن يؤيده الله بفكرصحيح وعلم مبين، يغوص من مسائله على أكثرمما كتبنا، فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله، وإنما عليه تحيين موضع العلم وتنويع فصوله، وما يتكلم فيه، والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
قال مؤلف الكتاب عفا الله عنه: أتممت هذا الجزء الأول، المثتمل على المقدمة بالوضع والتأليف، قبل التنقيح والتهذيب، في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة. ثم نقحته بعد ذلك وهذبته، وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته. وما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6