كتاب : المغرب في حلى المغرب
المؤلف : ابن سعيد المغربي

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد نبيه
مملكة قرطبة
أبو العاص الحكم الربضي
ابن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام
ابن عبد الملك بن مروان
ولى سلطنة الأندلس بعد أبويه. وتلخيص ترجمته من مقتبس ابن حيان: أمه زخرف أم ولد. ومولده سنة أربع وخمسين و مائة. مدته ست وعشرون سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام. سنة ثلاث وخمسون سنة. وولى وهو ابن ست وعشرين. وبيعته يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمانين ومائة.
صفته: أسمر طوال نحيف لم يخضب.
ذكور أولاده عشرون، إناثهم ثلاثون. وكان أفحل بني أمية بالأندلس وأشدهم إقداماً وصرامة وأنفة وأبهة وعزة، إلى ما جمع لذلك من جودة الضبط. وحسن السياسة وإيثار النصفة. وكان يشبه بالمنصور العباس في شد الملك وقهر الأعداء وتوطيد الدولة.
وقال الرازي: هو أول من استكثر من الحشم والحفد، وارتبط الخيول على بابه، وناوأ جبابرة الملوك في أحواله، وبلغ مماليكه خمسة آلاف: ثلاثة آلاف منهم فرسان وهم الخرس سموا بذلك لعجمتهم. وكان يقول: ما تحل الخلفاء بأزين من العدل، ولا امتطوا مثل التثبت، ولا ازدلفوا بمثل العفو. وكان يستريح إلى لذاته من غير إفحاش. وكان خطيباً مفوهاً أدبياً شاعراً. ومن حكاياته المستحسنة أنه توجه عليه حكم في أم ولد من القاضي فانقاد للحق، ودفع ثمنها لمولاها. وسايره يوماً زياد بن عبد الرحمن، و قد أردف زياد ولده خلفه، فلما انتهى إلى القنطرة وهو يحادثه سمع الأذان فقطع زياد حديثه، وقال: معذرة إلى الأمير، فإنا كنا في حديث عارضه هذا المنادي إلى الله تعالى، وهو أحق بالإجابة، ومر إلى المسجد، فلم ينكر عليه شيئاً بل زاده حظوة، وكان يكثر من مجالسته. وبلي بمحاربة عميه عبد الله وسليمان، و كانا قد خرجا إلى بر العدوة، فلما سمعا بموت الرضا كرا إلى الأندلس وكان السابق بالعبور عبد الله، تعصب معه أهل بلنسية، وتلوم بعده سليمان بطنجة، فكتب له عبد الله، فجاز إليه، ونهض سليمان إلى قرطبة، فهزمه الحكم الهزيمة القبيحة، ثم هزمه أقبح منها، وانكب به فرسه، وسيق أسيراً؛ فجاء رسول من الحكم بقتله، فقتل، وشهر رأسه بقرطبة، وسقط في يد عبد الله، فصالح الحكم على الإقامة ببلنسية، ولم يزل على ذلك حياة الحكم. واتهم الحكم عمه أمية، فحبسه.
نسق التاريخ
سنة ثمانين ومائة
غزا بالصائفة الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد، وقفل مثقلاً بالغنائم.
سنة إحدى وثمانين
ظهر بهلول بن أبي الحجاج بجهة الثغر الأعلى وملك سرقسطة.
وفيها ثار عبيد بن خمير بطليطلة، فكاتب الحكم أعياناً منها، عملوا في قتله.
سنة اثنتين وتسعين
جمع لذريق بن قارلة ملك الإفرنج جموعه وسار إلى حصار طرطوشة فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر فهزمه وفتح الله على المسلمين وعاد ظافراً. ولبث كليب في السجن بداخل القصر ستاً وعشرين سنة، إذ كان الأمير هشام هو الذي سجنه، وكان له فيما بعد غزوات في النصارى والمنافقين ظفر فيها.
سنة أربع وتسعين
حاصر الحكم ماردة بنفسه.
وفيها عصى عمروس بالثغر، ثم أناب للطاعة، ومات مخلصاً في مدة الحكم، فكانت ولايته على الثغر تسع سنين وعشرة أشهر وأياماً.
سنة سبع وتسعين
فيها غزا عبيد الله بن عبد الله البلنسي صاحب الصوائف، فحل ببرشلونة، فلما كان حضور صلاة الجمعة، وقد تقدم في ملاقاة العدو صلى ركعتين، وركب، فنصره الله عليهم، فدعا بقناة طويلة، فركزت، وصفت رءوس النصارى حولها، حتى ارتفعت فوقها، وغيبت سنانها، فأمر المؤذنين، فعلوها، وأذنوا، فكانت غزوة اختال الإسلام في أردية عزتها دهراً.
سنة تسع وتسعين
غزا الحكم طليطلة، وقد أظهر قصد مرسية، فعاث فيهم أشد العيث ونقل وجوههم إلى قرطبة، فذلوا بعدها دهراً طويلاً.
سنة إحدى ومائتين
فيها نكث أهل ماردة، وقام بأمرها مروان بن الجليقي.
سنة اثنتين ومائتين

فيها كانت وقعة الربض، كان أصل ما هاجها أن بعض مماليك الحكم دفع سيفاً إلى صيقل فمطله، والغلام يتكرر عليه، والصيقل يتهكم به، فأغلظ الغلام للصيقل، وآل الأمر إلى أن خبطه به الصيقل، فقتله، وثار الهيج لوقته، كأنما الناس كانوا يرتقبونه، فهتفوا بالخلعان، وأول من شهر السلاح أهل الربض القبلي بعدوة النهر، ثم ثار أهل المدينة والأرباض، وانحاز الأمويون وأتباعهم إلى القصر، فارتقى الحكم السطح، وحرك حفائظ جنده، فآل الأمر إلى أن غلبهم الجند، وأفشوا القتل، وتتبعوا في الدور. وقتل الحكم بعد ذلك من أسراهم نحو ثلاثمائة، صلبهم على النهر. وكان يوم هذه الوقعة يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من رمضان سنة اثنتين ومائتين. فلما كان في اليوم الثاني أمر بهدم الربض القبلي، حتى صار مزرعة، ولم يعمر طول مدة بني أمية، وتتبع دور أهل الخلاف في غيره بالهدم والإحراق. وبعد ثلاثة أيام أمر برفع القتل والأمان على أن يخرجوا من قرطبة، فلحق جمهور منهم بطليطلة وكاتبوا مهاجر بن القتيل الذي كان قد لحق بدار الحرب، وولوه عليهم، وصار معه نحو خمسة عشر ألفاً في البحر إلى الإسكندرية، وتقاتلوا مع أهلها فأنزلهم عبد الله بن طاهر جزيرة إقريطش، وكانت حينئذ خالية، فعمروها.
وكان في حبس الحكم يومئذ شبريط. صاحب وشقة، وهو ابن عم عمروس صاحب الثغر الأعلى، فلما سمع بثورة الناس قال: أهي غنم؟ لو كان لها راع! كأني بهم قد مزقوا، فأمر الحكم بصلبه.
وأغرب الحكم في بأساء حربه هذه عندما حمى وطيسها بنادرة ما سمع لأحد من الملوك بمثلها، وذلك أنه في مقامه بالسطح وعند بصره باشتداد الحرب دعا بقارورة غالية فجاءه بها خادم له، فأفرغها على رأسه، فلم يملك الخادم نفسه أن قال له: وأية ساعة طيب هذه؟ فقال: اسكت لا أم لك! ومن أين يعرف قاتل الحكم رأسه من رأس غيره، ثم أعتق مماليكه، ووالى الإحسان عليهم، وجعل يقول: ما استعدت الملوك بمثل الرجال، ولا حامى عنها كعبيدها. وكان ممن هرب من أهل الربض إلى طليطلة الفقيه يحيى بن يحيى ثم أمنه الحكم وكان منهم طالوت بن عبد الجبار المعافري أحد من لقى مالك بن أنس، استخفى عند يهودي أحسن خدمته، ثم انتقل إلى الوزير الإسكندارني واثقاً به، فسعى به إلى الحكم، وأمكنه منه، فوجده أغلظ ما كان عليه، فلما قرر عليه ذنوبه قال له: إني أبغضتك لله وحده، فلم ينفعك عندي ما صنعته معي، وأخبره ما جرى له مع اليهودي والوزير، فرقق الله قلبه عليه، فقال له: إن الذي أبغضتني من أجله قد صرفني عنك، ونقص الإسكندارني في عين الحكم. قال: ولقد بلغ من استخفاف أهل الربض بالحكم أنهم كانوا ينادونه ليلاً من أعلى صوامعهم: الصلاة الصلاة يا مخمور. ولم يتمل بالعيش بعد هذه الوقعة من علة طاولته أربعة أعوام، فمات نادماً مستغفراً. وكان مما نعوه عليه أن جعل العشر ضريبة على الناس بعد أن كان مصروفاً إلى أمانتهم.

سنة ست ومائتين
بايع الحكم لابنيه بالعهد: عبد الرحمن ثم المغيرة، فانخلع المغيرة لأخيه ومات مكرماً في حياته، وله عقب كثير. والحكم أول من عقد العهد منهم. وفيها توفي الحكم.
حجب له عبد الكريم بن عبد الواحد وله ترجمة، وعبد العزيز بن أبي عبدة بعده، وكان زاهداً كثير الصدقة. صاحب جيوشه وصوائفه ابن عمه عبيد الله بن عبد الله. من أشهر وزرائه فطيس بن سليمان وكتب عنه أيضاً. وكتب عنه حجاج المغيلي، وهو شاعر. وقضاته مذكورون في تراجمهم. وفي مدته مات شهيد بن عيسى الذي ينسب له بنو شهيد في سنة ثمان وثمانين ومائة، وتمام بن علقمة أحد أكابر النقباء، وعبد الواحد بن مغيث وفطيس بن سليمان، وحجاج المغيلي في سنة ثمان وتسعين ومائة، والفقيه زياد ابن عبد الرحمن اللخمي راوية مالك سنة ست وتسعين ومائة، والفقيه المفتي صعصعة بن سلام سنة اثنتين ومائتين.
وقال ابن حزم في نقط العروس: ومن المجاهرين بالمعاصي السفاحين للدماء لدينا الحكم صاحب الربض، وقد كان من جبروته يخصى من اشتهر بالجمال من أبناء رعيته، ليدخلهم إلى قصره. وأحسن ما أوردوا له من الشعر قوله بعد وقعة الربض:
رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعاً ... وقدماً لأمت الشعب مذ كنت يافعا
فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة ... أبادرها مستنضي السيف دارعا

وشافه على الأرض الفضاء جماجماً ... كأقحاف شريان الهبيد لوامعا
تنبيك أني لم أكن في قراعهم ... بوان، وأني كنت بالسيف قارعا
وأني إذا حادوا سراعاً عن الردى ... فما كنت ذا حيد عن الموت جازعا
حميت ذمارى فاستبحت ذمارهم ... ومن لا يحامى ظل خزيان ضارعا
ولما تساقينا نهال حروبنا ... سقيتهم سجلاً من الموت ناقعا
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم ... فوافوا منايا قدرت ومصارعا

ابنه
أبو المطرف عبد الرحمن بن الحكم
من المقتبس: هو بكر والده. مولده بطليطلة في شعبان سنة ست وسبعين ومائة. عمره اثنتان وستون سنة. دولته إحدى وثلاثون سنة وثلاثة أشهر وستة أيام. وفاته بقرطبة ليلة الخميس لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
ذكر ابن حزم في نقط العروس: أن ولده مائة، النصف ذكور. عني أبوه بتعليمه وتخريجه في العلوم الحديثة والقديمة. ووجه عباس بن ناصح إلى العراق في التماس الكتب القديمة، فأتاه بالسندهند وغيره منها، وهو أول من أدخلها الأندلس وعرف أهلها بها ونظر هو فيها. وكان حسن الوجه بهي المنظر. ومن بديع التعارض في كماله نقص ولادته، لأنه ولد لسبعة أشهر. وكان من أهل التلاوة للقرآن والاستظهار للحديث. وأطنب في ذكره في العلوم وأنه كان يداخل كل ذي علم في فنه. وهو أول من فخم السلطنة بالأندلس بأمور يطول ذكرها، من انتقاء الرجال والمباني وغير ذلك. وهو الذي بنى جامع إشبيلية وسورها. وتولع جواريه ببناء المساجد وفعل الخير.
وهو الذي ميز ولاية السوق عن أحكام الشرطة المسماة بولاية المدينة، فأفردها، وصير لواليها ثلاثين ديناراً في الشهر ولوالي المدينة مائة دينار. وكان يقال لأيامه أيام العروس. واستفتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البر. وتملى الناس معه العيش، وخلا هو بلذاته، وطال عمره وفشا نسله.
وقال الرازي: إنه الذي أحدث بقرطبة دار السكة، وضرب الدراهم باسمه، ولم يكن فيه ذلك مذ فتحها العرب. وفي أيامه أدخل للأندلس نفيس الجهاز من ضروب الجلائب لكون ذلك نفق عليه، وأحسن لجالبيه. ووافق انتهاب الذخائر التي كانت في قصور بغداد عند خلع الأمين فجلبت إليه، وانتهت جبايته إلى ألف ألف دينار في السنة. وهو الذي اتخذ للوزراء في قصره بيت الوزارة، ورتب اختلافهم إليه في كل يوم يستدعيهم معه أو من يختص منهم، أو يخاطبهم برقاع فيما يراه من أمور الدولة. وكان سعيداً. قال ابن مفرج: ما علمنا أنه خرج عليه مع طول أيامه خارج، خلا ما كان من موسى بن موسى بن قسي بناحية الثغر الأعلى. ولم يشغله النعيم عن وصل البعوث إلى دار المغرب.
وكان مكرماً لأصناف العلماء محسناً لهم، وكان يخلو بكبير الفقهاء يحيى بن يحيى كثيراً ويشاوره، وسرق بعض صقالبته بدرة فلمحه، ولما عدت البدر نقصت، فأكثروا التنازع فيمن أخذها، فقال السلطان: قد أخذها من لا يردها ورآه من لا يفضحه، فإياكم عن العودة لمثلها فإن كبير الذنب يهجم على استنفاد العفو، فتعجب من إفراط كرمه وحيائه.
ومن توقيعاته البليغة: من لم يعرف وجه مطلبه كان الحرمان أولى به.
ومن مشهور شعره قوله في جاريته طروب التي هام بها:
إذا ما بدت لي شمس النها ... ر طالعة ذكرتني طروبا
عداني عنك مزار العدى ... وقودى إليهم لهاماً مهيبا
ألاقي بوجهي سموم الهجير ... إذا كاد منه الحصى أن يذوبا
وأجنب في بعض غزواته وقد دنا من وادي الحجارة، فقام إلى الغسل، وفكره موقوف على الخيال الذي طرقه، فاستدعى ابن الشمر وقال له: أجز:
شاقك من قرطبة الساري ... بالليل لم يدر به الداري
فقال بديهة:
زار فحيا في ظلام الدجى ... أهلاً به من زائر زاري
فهاج اشتياقه لصاحبة الخيال، فاستخلف على الجيش، ورجع إلى قرطبة، وكان مولعاً بالنساء ولا يتخذ منهن ثيباً ألبتة. وكملت لذته بقدوم زرياب غلام إسحاق الموصلي.
وفي مدته في سنة سبع ومائتين

أظهر العصيان عم أبيه عبد الله، وعسكر بمرسية، وصلى الجمعة على أن يخرج يوم السبت وقال في خطبته: اللهم إن كنت أحق بهذا الأمر من عبد الرحمن حفيد أخي فانصرني عليه؛ وإن كان هو أحق به مني وأنا صنو جده فانصره علي، فأمنوا على دعائه. ولم يستتم كلامه حتى ضربته الريح الباردة، فسقط مفلوجاً، فكمل الناس صلاتهم بغيره، وافترق الجمع، وصار إلى بلنسية، فمات بها سنة ثمان ومائتين. وأحسن عبد الرحمن الخلف على ولده. وعليه قدم بنو عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم صاحب تيهرت، وأنفق عليهم ألف ألف دينار.

وفي السنة المذكورة.
ثارت فتنة تدمير بين اليمن ومضر ودامت سبع سنين، وكان انبعاثها من ورق دالية جمعها مضري من جنان يمني بغير أمره، فقتله اليماني، وكان أكثرها دائراً على اليمانية.
وفي سنة عشر ومائتين
أمر عبد الحرمن عامله جابر بن مالك أن يتخذ مرسية منزلاً للولاية، وتحرك بنفسه إلى حصار طليطلة وماردة، وفتح حصوناً كثيرة من جليقية، ووصله كتاب صاحب القسطنطينية يذكر ما كان بين السلفين في المشرق والأندلس، فجاوبه بكتاب فيه إنحاء على المأمون والمعتصم.
وفي سنة خمس وعشرين ومائتين
هلك محمود ببن عبد الجبار البربري البطل المشهور المنتزى بماردة الذي دامت محاربته مع أصحاب عبد الرحمن واشتهرت وقائعه. كان قد فر إلى أذفنش وأراد أن يرجع إلى السلطان وهو بحصن من جليقية، فحاربه أذفنش، فجمع ب فرسه في الحرب وصدم بشجرة بلوط قتلته وبقي مجدلاً في الأرض حيناً، وفرسان النصارى قيام على ربوة يهابون الدنو إليه ويخافون أنها حيلة منه.
وفي سنة سبع وعشرين ومائتين
عصى موسى بن موسى صاحب تطيلة، واستولى على الثغر الأعلى وله وقائع مشهورة في العدو والإسلام، وغزاه عبد الرحمن غزوات متتابعة إلى أن صالحه.
وفي سنة تسع وعشرين
ظهرت مراكب الأردمانين المجوس بسواحل غرب الأندلس. ويوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من محرم سنة ثلاثين ومائتين حلت على إشبيلية، وهي عورة، فدخلوها واستباحوها سبعة أيام إلى أن جاء نصر الخصي، وهزم عنها النصارى المعروفين بالمجوس، وعاث في مراكبهم، وفي ذلك يقول عثمان بن المثنى:
يقولون إن الأردمانيين أقبلوا ... فقلت إذا جاءوا بعثنا لهم نصرا
وبعد هذا بنى سور إشبيلية بإشارة عبد الملك بن حبيب.
وفي سنة أربع وثلاثين ومائتين
جهز عبد الرحمن أسطولاً من ثلاثمائة مركب إلى جزيرتي ميورقة ومنورقة لإضرار أهلما بمن يمر بهما من مراكب الإسلام ففتحوهما.
وفي سنة ست وثلاثين ومائتين
كاد نصر الخصي مولاه عبد الرحمن بشربة فيها سم، نبه الأمير عليها، فقال له: اشربها أنت، فشربها، وخرج، فأشار عليه طبيبه بلبن المعز، فلم يوجد حتى هلك.
وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين
ادعى بالثغر الأعلى النبوة معلم، فقتل، وهو يقول على جذعه: " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله " . وكان ينهى عن قص الأظفار والشعر، ويقول: " لا تغيير لخلق الله " .
واحتجب عبد الرحمن قبل موته مدة ثلاث سنين لعلة أضعفت قواه.
وحجب له عبد الكريم حاجب والده إلى أن توفي، فولى بعده سفيان بن عبد ربه ثم عيسى بن شهيد، وعزله بعبد الرحمن بن رستم، ثم أعاده إلى وفاته، وقال ابن القوطية: لم يختلف أحد من شيوخ الأندلس أنه ما خدم بني أمية في الحجاب أكرم من عيسى بن شهيد. ومن كتابه: محمد بن سعيد الزجالي التاكرني. وسيأتي ذكر قضاته في تراجمهم على نسق. وفي مدته مات عيسى بن دينار الطليطلي الذي قيل إنه أفقه من يحيى بن يحيى، وكان له رحلة إلى المشرق وصحب ابن القاسم، ودارت عليه الفتوى، ومات يحيى بن يحيى في رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين.
وذكر الحجاري أن جواد بني أمية بالأندلس عبد الرحمن، وبخيلهم عبد الله، وأطنب في الثناء عليه، وذكر أنه كتب يوماً إلى نديمه ومنجمه عبد الله بن الشمر:
ما تراه في اصطباح ... وعقود القطر تنثر؟
ونسيم الروض يختا ... ل على مسك وعنبر
كلما حاول سبقاً ... فهو في الريحان يعثر
لا تكن مهمالة واس ... بق فما في البطء تعذر

فجاوبه بما تأخر فيه عن طبقته. وله في الكرم حكايات، منها: أن زرياب غناه يوماً، فأطربه، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، فاحتوشه جواريه وولده، فنثرها عليهم. وكتب أحد السعاة إليه بأن زرياب لم يعظم في عينه ذلك المال، وأعطاه في ساعة واحدة، فوقع: نبهت على شيء كنا نحتاج التنبيه عليه، وإنما رزقه نطق على لسانك، وقد رأينا أنه لم يفعل ذلك إلا ليحببنا لأهل داره، ويغمرهم بنعمنا، وقد شكرناه، وأمرنا له بمثل المال المتقدم، ليمسكه لنفسه، فإن كان عندك في حقه مضرة أخرى، فارفعها إلينا.
ورفع له أحد المستغلين بتثمير الخراج أن القنطرة التي بناها جده على نهر قرطبة لو رسم على الدواب والأحمال التي تعبر عليها رسم لاجتمع من ذلك مال عظيم، فوقع: نحن أحوج إلى أن نحدث من أفعال البر أمثال هذه القنطرة، لا أن نمحو ما خلده آباؤنا باختراع هذا المكس القبيح، فتكون عائدته قليلة لنا، وتبقى تبعته وذكره السوء علينا، وهلا كنت نبهتنا على إصلاح المسجد المجاور لك الذي قد تداعى جداره واختل سقفه، وفصل المطر مستقبل، لكن يأبى الله أن تكون هذه المكرمة في صحيفتك، وقد جعلنا عقوبتك بأن تصلح المسجد المذكور من مالك على رغم أنفك، فيكون ما تنفق فيه منك، وأجره لنا، إن شاء الله.
؟ابنه أبو عبد الله محمد كان أخوه عبد الله بن طروب قد رشحه أبوه للولاية بعده، وكان نصر الخصى يعضده، ويخدم أمه طروب الحظية عند عبد الرحمن الأوسط، إلا أن عبد الله كان مستهتراً، منهمكاً، في اللذات، فكان أولو العقل يميلون إلى أخيه محمد. فما مات أبوهما، وكان ذلك بالليل، اتفق رءوس الخدم أن يعدلوا بالولاية عن عبد الله إلى محمد فمر أحدهما إلى منزله وجاء به على بعلة في زي صبية كأنه بنته تزور قصر جدها، فلما مر على دار أخيه عبد الله، وسمع ضجة المنادمين، وليس عنده خبر من موت أبيه أنشد:
فهنيئاً له الذي هو فيه ... والذي نحن فيه أيضاً هنانا
ولما دخل القصر بعد تمنع من البواب، وتم له الأمر، تلقاه بحزم، ولم يختلف عليه أحد من جلة أقاربه.
قال صاحب الجذوة: كان محمد محباً للعلوم مؤثراً لأهل الحديث، عارفاً، حسن السيرة، ولما دخل الأندلس أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد بكتاب أبي بكر بن أبي شيبة، وقرئ عليه، أنكر جماعة من أهل الرأي ما فيه من الخلاف، واستشنعوه، وبسطوا العامة عليه، ومنعوا من قراءته، إلى أن اتصل ذلك بالأمير محمد، فاستحضره وإياهم، واستحضر الكتاب كله، وجعل يتصحفه جزءاً جزءاً، إلى أن أتى على آخره، وقد ظنوا أنه موافقهم على الإنكار عليه، ثم قال لخازن الكتب: هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه فانظر في نسخه لنا، ثم قال لبقي بن مخلد: انشر علمك، وارو ما عندك من الحديث، واجلس للناس حتى ينتفعوا بك. فنهاهم أن يتعرضوا له.
وكان محمد قد فوض أمور دولته لهاشم بن عبد العزيز أعظم وزرائه، واشتمل عليه اشتمالاً كثيراً، وكان هاشم تياهاً، معجباً، حقوداً، لجوجاً، فأفسد الدولة. وكان يقدمه على العساكر، فخرج مرة إلى غرب الأندلس ليقمع ما هنالك من الثوار فأساء السيرة في الحركة والنزول والمعاملة مع الجند، فأسلموه، وأخذ أسيراً، ثم افتدى بأموال عظيمة. وأنهضه مرة مع ابنه المنذر إلى ثغر سرقسطة، فأساء الأدب معه حتى أحقده وأتلف محبته لما صارت السلطنة إليه، وثارت الثوار في الأندلس بسببه. وما مات محمد حتى خرقت الهيبة، وزال ستر الحرمة، و استقبل ابنه المنذر ثم عبد الله نيران الفتنة، فأصلتهما مدة حياتهما إلى أن خمدت بالناصر عبد الرحمن. وكانت وفاة السلطان محمد في آخر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
؟؟

ابنه
أبو الحكم المنذر بن محمد

ولي بعد أبيه، فلم تكن له همة أعظم من خداع وزير أبيه هاشم بن عبد العزيز إلى أن وثب عليه، وسجنه وأثقله بالحديد، وذكره ما أسلفه من ذنوبه الموبقة، ثم أخرجه، وأتى به إلى دار عظيمة كان قد شيدها، وقصر عليها جميع أمانيه، وضرب عنقه فيها، وفتك في أولاده ومخلفيه أشد الفتك وشفى غيظه الكامن. ثم أخذ في التجهيز إلى قتال عمر بن حفصون الثائر الشديد في الثوار، وكان قيامه وامتناعه في قلعة ببشتر بين رندة ومالقة، وقد وقفت عليها، وهي خراب، وكانت من أمنع قلاع الأندلس لا ترام، ولا يخشى من فيها إلا من الأجل، فحصره فيها، فيقال إن أخاه عبد الله، الذي ولى بعده وكان حاضراً معه دس إلى الفاصد مالاً على أن يسم المبضع، ففعل ذلك، فمات المنذر، وبادر في الحين عبد الله بحمله إلى قرطبة، وحصلت له السلطنة. وكان المنذر قد ترشح في مدة أبيه لقود العساكر، وعظم أمره، واشتدت صولته، وكان شكس الأخلاق مر العقاب، ولم تطل مدته.
وذكر صاحب الجذوة أنه كان مولده في سنة تسع وعشرين ومائتين.
فاتصلت ولايته سنتين غير خمسة عشر يوماً. ومات في سنة خمس وسبعين ومائتين. قال الحميدي: وقد انقرض عقب المنذر.

المستكفي
محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله
ابن عبد الرحمن الناصر
قال ابن حيان: بويع محمد بن عبد الرحمن الناصري يوم قتل عبد الرحمن المستظهر يوم السبت لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، فتسمى بالمستكفي بالله، اسماً ذكر له، فاختاره لنفسه، وحكم به سوء الاتفاق عليه، لمشاكلته لعبد الله المستكفي العباسي أول من تسمى به في أفنه ووهنه، وتخلفه وضعفه، بل كان هذا زائداً عليه في ذلك، مقصراً عن خلال ملوكية كانت في المستكفي سميه، لم يحسنها محمد هذا لفرط نخلفه، على اشتباهما في سائر ذلك كله: من توثبهما في الفتنة، واستظهارهما بالفسقة، واعتداء كل واحد منهما على ابن عمه، وتولع كل واحد منهما شأنه بامرأة خبيثة، فلذلك حسناء الشيرازية ولهذا بنت سكرى المورورية، وكل واحد منهما خلع، وتركه أبوه صغيراً. قال: ولم يكن من الأمر في ورد ولا صدر، وإنما أرسله الله على الأمة محنة. بلغت به الحال قبل تملكه إلى أن كان يستجدي الفلاحين، ولم يجلس في الإمارة في تلك الفتنة أسقط منه. خنق ابن عمه ابن العراقي، وسجن ابن حزم وابن عمه أبا المغيرة، واستؤصلت في مدته بالهدم قصور الناصر، وهرب بين النساء لتخنيثه، ولم يتميز منهن.
المعتد بالله أبو بكر
هشام بن محمد بن عبد الملك
ابن الناصر المرواني
من الجذوة: أن أهل قرطبة اتفقوا بعد ذهاب الدولة الحمودية بعد طول مدة عليه. وكان مقيماً بالبونت عند صاحبها محمد بن عبد الله بن القاسم، فبايعوه في ربيع الأول سنة ثمان عشرة وأربعمائة، فبقي متردداً في الثغور ثلاثة أعوام غير شهرين، إلى أن سار إلى قرطبة، ولم يبق إلا يسيراً حتى خلع، وانقطعت الدولة المروانية من يومئذ في سنة عشرين وأربعمائة.
ومن كتاب السلوك في حلى الملوك
أبو الحزم جهور بن محمد
بن جهور بن عبيد الله ابن محمد بن الغمر بن يحيى بن عبد الغافرابن أبي
عبدة الكلبي مولى بني أمية
كان من وزراء الدولة العامرية، قديم الرئاسة، موصوفاً بالدهاء والسياسة، ولم يغير أمراً توجبه المملكة، حتى إنه بقي يؤذن على باب مسجده، ولم يتحول عن داره. وأحسن ترتيب الجند، فتمشت دولته. وكان حرماً يلجأ إليه كل خائف ومخلوع عن ملكه، إلى أن مات في صفر سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، فولى بعده:
ابنه
أبو الوليد محمد بن جهور
ونشأ له ولدان تنافسا في الرئاسة، واضطربت بهما الدولة، وجاء المأمون ابن ذي النون محاصراً لقرطبة من طليطلة، فاستغاثا بالمعتمد بن عباد، فوجه لهم ابنه الظافر بعسكر، فأقلع المأمون عنهم، فغدرهم الظافر، وأخذ قرطبة منهم، وحملهم إلى شلطيش، فسجنوا هنالك، وأقام الظافر ملكاً، إلى أن دخل عليه بالليل حريز بن عكاشة، فقتله، وصارت قرطبة للمأمون بن ذي النون.
ثم وصل إليها المعتمد بن عباد، وولى عليها ابنه المأمون بن المعتمد، فأقام فيها إلى أن قتله بخارجها الملثمون.
وتوالى عليها ولاة الملثمين إلى أن ثار فيها أحمد بن محمد بن حمدين قاضيها.

ثم صارت لعبد المؤمن فتوالت عليها ولاة دولته إلى أن صارت للمتوكل ابن هود. ثم تغلب عليها محمد بن الأحمر المرواني الثائر بأرجونة إلى أن توجه إلى إشبيلية، فعادت إلى ابن هود، فحصرها أذفنش النصراني ملك طليطلة فأخذها، وخرج منها أهلها. والله يعيدها بمنه وحوله.

السلك
القرشيون
من كتاب رغد العيش في حلى قريش
فمن بني العباس.
الزاهد أبو وهب عبد الرحمن العباسي
ذكر ابن بشكوال أنه يقال إنه من بني العباس، وكان منقطع القرين في الزهد والورع، مجاب الدعوة، مقبولاً في الناس، لا يكلم أحداً، ولا يجالسه. وما زالت البركة وإجابة الدعوة متعرفة عند قبره، وكان بظاهر قرطبة.
وباع ماعونه قبل موته، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أريد سفراً فمات إلى أيام يسيرة.
وكان قد طرأ على قرطبة من المشرق، وأخفى نسبه، كان متفنناً في أطراف من العلوم، ومن لم يتكشف على حاله يظهر له أنه مدخول العقل.
وكان لا يأنس إلا بمن يعرفه، وكان أكثر دهره مفكراً، وجهه على ركبته، ثم يرفع رأسه، فيقول: أي وحله.
وأنشد له ابن بشكوال:
أنا في حالتي التي قد تراني ... أحسن الناس إن تفكرت حالا
منزلي حيث شئت من مستقر ال ... أرض، أسقى من المياه زلالا
ليس لي كسوة أخاف عليها ... من مغير، ولا ترى لي مالا
؟أجعل الساعد اليمين وسادي ... ثم أثني إذا انقلبت الشمالا
قد تلذذت حقبة بأمور ... فتدبرتها فكانت خيالا
وتوفي بقرطبة سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، عن تسعين سنة في أيام الناصر، وكان حفل جنازته عظيماً.
وقيل أنه لم يبق أحد من أهل قرطبة لا وسمع عند بابه من يقول: اشهد في غد إن شاء الله جنازة الرجل الصالح في مقبرة بني هائل، فإذا خرج إلى الباب لم يجد أحداً.
وذكر الحجاري أن أبا وهب لقيه مرة غلام وغد بخارج قرطبة، فآذاه بلسانه، ثم أراد أن يرميه بطوبة، فجعل يبحث عنها، ويقول: يا علي طوبة أضرب بها هذا الأحمق!، فوقعت عين أبي وهب على طوبة، فقال له: هذه طوبة خذها، فابلغ بها غرضك، فارتاع الغلام وأخذته كالرعدة. وكان إذا أصبح، ونظر إلى استيلاء النور على الظلمة، رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم إنك أمرتنا بالدعاء إذا أسفرنا، فاستجب لنا، كما وعدتنا. اللهم لا تسلط علينا في هذا اليوم من لا يراقب رضاك ولا سخطك. اللهم لا تشغلنا فيه بغيرك. اللهم لا تجعل رزقنا فيه على يد سواك. اللهم امح من قلوبنا الطمع في هذه الفانية، كما محوت بهذا النور هذه الظلمة. اللهم إنا لا نعرف غيرك فنسأله. يا أرحم الراحمين يا غياث من لا غياث له.
وقال: الاعتزال ملك من لا مال له ولا أعوان، لا يجد من ينازعه، ولا من يستطيل عليه.
ومن بني أمية
بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان
من المقتبس: أن أباه قتل مع يزيد بن عمر بن هبيرة، ودخل بشر إلى الأندلس في صدر أيام عبد الرحمن الداخل، وكان من فتيان قريش وأدبائهم وشعرائهم، ومحاسنه كثيرة.
وذكر الحجاري أن عبد الرحمن كان يحبه ويشاوره، وهو الذي أشار عليه باصطناع البربر واتخاذ العبيد، ليستعين بهم على العرب. وأنشد له صاحب السقط:
حنانيك ما أقسى فؤادك تذهب ال ... ليالي ولا عطف لديك ولا وصل
وإني من قوم هم شرعوا الندى ... فكيف على أبنائهم يحسن البخل
أيوب بن سليمان السهيلي
من السقط: أنه من ولد سهيل بن عبد العزيز بن مروان، ممن خمل ذكره بالفتنة، كان بقرطبة يخدم ابن الحاج، فلما ثار ابن الحاج في مدة الملثمين أنشده قصيدة منها:
إذا أنا لم أبلغ بك الأمل الذي ... قطعت به الأيام فالصبر ضائع
فاعتذر له بالفتنة، فقال: إن لم يكن ما ارتقبته فليكن وعد والتفات، أتعلل بهما، وأعلم منهما أني في فكر الأمير، فالسكوت يطمس أنوار الآمال، ويغلق أبواب الرجاء.
وكان قد حرضه على ابن حمدين، فلما ظفر ابن حمدين حصل في يده أيوب، فكلمه بكلام ألان به قلبه، إلا أنه أمره أن يغيب عنه، فرحل إلى سرقطسة وملكها ابن تيفلويت، فكتب إلى وزيره ابن باجة:
يا من به لاذ العفاة ونحوه ... رقت الأماني دلني ما أصنع

إن صنت وجهي عن سؤال مت من ... جوع ومثلي للورى لا يخضع
فتسبب له في إحسان من قبل الملك، على أن يرحل عن بلدهم فراراً من هذا النسب، فقال: الحمد لله الذي أسعدنا به أولاً، وأشقانا به آخراً واتفق له في طريقه أن أكرمه بدوي نزل عنده، وقد تخيل أنه رسول من بعض ملوك الملثمين، أو ممن يلوذ بهم، فلما أعلمه غلامه أنه من بني أمية هاج وأخذ رمحه، وحلف أن لا يبقى له في منزل. فقال لغلامه: إذا سئلت عني فقل إنه من اليهود، فإنه أمشى لحالنا. وله من شعر:
قرطبة الغراء هل أوبة ... إليك من قبل الحمام المصيب
ذكرك قد صيرته ديدناً ... وكيف أنساك وفيك الحبيب
ومات بسرقطسة في المائة الخامسة.

بشر بن حبيب بن الوليد بن حبيب
؟
المعروف بدحون
ذكر صاحب السقط أن جده حبيب بن عبد الملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، صاحب طليطلة، وبنو دحون أعيان بلكونة، رأسوا بهما. ووصفه بالفروسية والأخلاق الملوكية والأدب، وأنشد له قوله:
قل لبرق أضاء من نحو نجد ... كيف بالله ساكن الجزع بعدي
أتراهم على العهود أقاموا ... أم ترى البين قد أخل بعهدي
من يكن في الدنو غير وفي ... كيف يرجى وفاؤه في البعد
قال: ولما قال:
لأضرمن جميع الأرض قاطبة ... ناراً وأبلغ ما لا يبلغ الأجل
أنا الذي ليس في الدنيا له مثل ... وبارتقائي في العليا جرى المثل
سجنه عبد الرحمن الأوسط. ثم تشفع فيه، فسرحه، فرحل إلى المشرق وحج، وروى الحديث، وجاء إلى الأندلس في صورة أخرى.
وذكره ابن حيان في المقتبس وأنه قدم الأندلس بعلم كثير، وكان يتحلق في الجامع، إلى أن نهاه عبد الرحمن عن ذلك.
ومن بني مخزوم
أبو الوليد أحمد بن زيدون المخزومي
من القلائد: زعيم الفئة القرطبية، ونشأة الدولة الجهورية، الذي بهر في نظامه، وظهر كالبدر ليلة تمامه، فجاء من القول بسحر، وقلده أبهى نحر، لم يصرفه إلا بين ريحان وراح، ولم يطلعه إلا في سماء مؤانسات وأفراح، ولا تعدى به الرؤساء والملوك، ولا تردى منه إلا حظوة كالشمس عند الدلوك، فشرف بضائعه، وأرهف بدائعه وروائعه، وكلفت به تلك الدولة حتى صار ملهج لسانها، وحل من عينها مكان إنسانها، وكان له مع أبي الوليد ابن جهور تآلف أحراماً بكعبته وطافا، وسقياه من تصافيهما نطافا، وكان يعتد ذلك حساماً مسلولاً، ويظن أنه يرد به صعب الخطوب ذلولاً، إلى أن وقع له طلب أصاره إلى الاعتقال، وقصره عن الوخد والإرقال، فاستشفع بأبي الوليد وتوسل، واستدفع به تلك الأسنة المشرعة والأسل، فما ثنى إليه عنان عطفه، ولا كف عنه فنون صرفه، فتحيل لنفسه، حتى تسلل من حبسه، ففر فرار الخائف، وسرى إلى إشبيلية سرى الخيال الطائف، فوافاها غلساً قبل الإسراج والإلجام، ونجا إليها برأس طمر ولجام، فهشت له الدولة، وباهت به الجملة، فأحمد قراره، وأرهفت النكبة غراره. وحصل عند المعتضد بالله بن عباد، كالسويداء من الفؤاد، واستخلصه استخلاص المعتصم لابن أبي دؤاد، وألقى بيديه مقاد ملكه وزمامه، واستكفى به نقضه وإبرامه، فأشرقت شمسه وأنارت، وأنجدت محاسنه وغارت، وما زال يلتحف بحظوته، ويقف بربوته، حتى أدركه حمامه، ولقى السرار تمامه، فأخبى منه شهباً طالعة، وزهرة يانعة. وقد أثبت من مقاله، في سراحه واعتقاله، ومقامه وانتقاله، ما هو أرق من النسيم، وأشرق من المحيا الوسيم، من ذلك قوله متغزلاً:
يا قمراً أطلعه المغرب ... قد ضاق بي في حبك المذهب
ألزمتني الذنب الذي جئته ... صدقت! فاصفح أيها المذنب
وإن من أغرب ما مر بي ... أن عذابي فيك مستعذب
ورحل عنه من كان يهواه، وفاجأه ببينه ونواه، فسايره قليلاً وما شاه، وهو يتوهم ألم الفرقة حتى غشاه، واستعجل الوداع، وفي كبده ما فيها من الانصداع، وأقام يومه بحالة المفجوع، وبات ليله منافر الهجوع، يردد الفكر، ويجدد الذكر، فقال:
ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذ شيعك
يا أخا البدر سناء وسنا ... حفظ الله زماناً أطلعك

إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك
وقال يتغزل في ولادة بنت المستكفي التي كان يهواها، وكانت شاعرة:
يا نازحاً، وضمير القلب مثواه ... أنستك دنياك عبداً أنت دنياه
ألهتك عنه فكاهات تلذ بها ... فليس يجري ببال منك ذكراه
عل الليالي تبقيني إلى أمد ... الله يعلم والأيام معناه
وكتب إلى ابن عبد العزيز صاحب بلنسية:
راحت فصح بها السقيم ... ريح معطرة النسيم
مقبولة هبت قبو ... لاً فهي تعبق في الشميم
أفضيض مسك أم بلن ... سية لرياها نميم؟!
بلد حبيب أفقه ... لفتى يحل به كريم
إيه أبا عبد الإل ... له نداء مغلوب العزيم
إن عيل صبري من فرا ... قك، فالعذاب به أليم
أو أتبعتك حنينها ... نفس، فأنت لها قسيم
ذكرى لعهدك كالسها ... د سرى فبرح بالسليم
مهما ذممت فما زما ... ني في زمامك بالذميم
زمن كمألوف الرضا ... ع يشوق ذكراه الفطيم
أيام أعقد ناظر ... ي بذلك المرأي الوسيم
فأرى الفتوة غضة ... في ثوب أواه حليم
الله يعلم أن حب ... ك من فؤادي في الصميم
ولئن تحمل عنك بي ... جسم، فعن قلب مقيم
وله في ولادة القصيدة التي ضربت في الإبداع بسهم، وطلعت في كل خاطر ووهم، ونزعت منزعاً قصر عنه حبيب وابن الجهم:
بنتم وبنا، فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم، ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضى علينا الأسى، لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت ... سوداً، وكانت بكم بيضاً ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... ومورد اللهو صاف من تصافينا
وإذ هصرنا غصون الوصل دانية ... قطوفها، فجنينا منه ماشينا
ليسق عهدكم عهد السرور، فما ... كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا
أن الزمان الذي كنا نسر به ... أنساً بقربهم، قد عاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغص، فقال الدهر آمينا
فانحل ما كان معقوداً بأنفسنا ... وانبت ما كان موصولاً بأيدينا
وقد نكون وما يخشى تفرقنا ... فالآن نحن وما يرجى تلاقينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم ... رأياً، ولم نتقلد غيره دينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا ... أن طال ما غير النأي المحبينا
؟والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً منكم، ولا انصرفت عنكم أمانينا
ولا اتخذنا خليلاً عنك يشغلنا ... ولا اتخذنا بديلاً منك يسلينا
يا ساري البرق غاد القصر فاسق به ... من كان صرف الهوى والود يسقينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ... من لو على البعد حيي كان يحيينا
يا روضة طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جناه الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياة تملينا بزهرتها ... منى ضروباً، ولذات أفانينا
ويا نعيماً خطرنا من غضارته ... في وشي نعمي سحبنا ذيلها حينا
لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة ... وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
إذا انفردت، وما شوركت في صفة ... فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا
يا جنة الخلد، بدلنا بسلسلها ... والكوثر العذب زقوماً وغسلينا
كأننا لم نبت، والوصل ثالثنا ... والسعد قد غض من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا

لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً ... مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك فلم نعدل بمنهله ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
لم نجف أفق جمال أنت كوكبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا
نأسي عليك إذا حثت مشعشعة ... فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا ... سما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
دومي على الوصل ما دمنا محافظة ... فالحر من دان إنصافاً كما دينا
أبدي وفاء وإن لم تبذلي صلة ... فالطيف يقنعنا، والذكر يكفينا
وفي الجواب متاع، إن شفعت به ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا
عليك مني سلام الله ما بقيت ... صبابة بك نخفيها فتخفينا
وقال فيها:
يا مستخفاً بعاشقيه ... ومستغشاً لناصحيه
ومن أطاع الوشاة فينا ... حتى أطعنا السلو فيه
الحمد لله! قد بدا لي ... بطلان ما كنت تدعيه
من قبل أن يهزم التسلي ... ويغلب الشوق ما يليه
وقال:
أيوحشني الزمان وأنت أنسي ... ويظلم لي النهار، وأنت شمسي
وأغرس في محبتك الأماني ... فأجني الموت من ثمرات غرسي
لقد جازيت غدراً عن وفائي ... وبعت مودتي ظلماً ببخس
ولو أن الزمان أطاع حكمي ... فديتك من مكارهه بنفسي
وله:
كأن عشي القطر في شاطئ النهر ... وقد زهرت فيه الأزاهر كالزهر
ترش بماء الورد رشاً وتنثني ... لتغليف أفواه بطييبة الخمر
وقوله:
يا ليل طل أو لا تطل ... لا بد لي أن أسهرك
لو بات عندي قمري ... ما بت أرعى قمرك
وقوله في بني جهور أصحاب قرطبة:
بني جهور أحرقتم بجفائكم ... جناني، فما بال المدائح تعبق
تظنونني كالعنبر الورد إنما ... تطيب لكم أنفاسه وهو يحرق
وقال فيه صاحب الذخيرة: إنه كان سامحه الله ممن لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، والعجب أنه سلم من المعتضد بن عباد، مع كونه كان مدبر دولته، ولم يسلم له أحد من أصحابه.
وولى ولده بعده وهو أبو بكر وزارة المعتمد بن عباد.

ومن كتاب تلقيح الآراء في حلى الحجاب والوزراء
أبو بكر بن ذكوان
ورثاه أبو الوليد بن زيدون بشعر منه:
يا من شآ الأمثال منه بواحد ... ضربت به في السؤدد الأمثال
وذكره ابن حيان في كتاب القضاة، وقال: إنه أبو بكر محمد بن أبي العباس أحمد بن عبد الله بن ذكوان، كان أبوه قاضي القضاة، وإن أعيان قرطبة هتفوا باسم أبي بكر في القضاء عند ولاية أبي الحزم بن جهور، وأجمعوا على أنه في الكهول حلماً وعلماً ونزاهة وعفة وتصاوناً ومروءة وثروة، فأمضى له الولاية ابن جهور، فامتنع إلى أن كثروا عليه، فقبل ذلك، فنصر الحق، فأجمعوا على مقته، فعزل نفسه غرة شعبان سنة ثلاثين وأربعمائة. ومدته سنة غير ثلاثة أيام. ومات إثر ولاية صديقه أبي الوليد ابن جهور يوم الثلاثاء لثلاث خلت من ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وأربعمائة؛ ولم يتخلف عنه كبير أحد من أهل قرطبة، وأتبعوه ثناء جميلاً، و مولده في رجب سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
أبو إسحاق
إبراهيم بن عبيد الله المعروف بالنوالة
وصفه الحجاري بأنه بحر أدب ليس له ساحل، وأفق رئاسة قد زينه الله بنجوم المكارم والفضائل، وأنه كان ممن يؤخذ من ماله وأدبه، وأنه استعان بخزائن كتبه العظيمة على ما صنفه في كتاب المسهب، وكتب له رسالة يعتبه فيها على كونه دخل قرطبة فلم يبادر إلى الاجتماع به، أولها: أنا عاتب على سيدي عتباً لا تمحوه بحور البلاغة، ولا تحمله يد الاعتذار على مر الزمان. وختمها بقوله: وبعد هذا فإني أخبط خبط عشواء في تيه ظلام، فأطلع على صبح وجهك، لنبصر به سبل الهداية، على جري عادتك في تلك الأيام.
ومما أنشد من شعره قوله:

بادر إلى شاد وكأس تدور ... ومجلس قد زينته بدور
في جنة تضحك غدرانها ... وترقص القضب وتشدو الطيور
لما غدا الرعد بها مطرباً ... شق له الزهر جيوب السرور
وبلغ في دولة الملثمين من الجاه والمال والذكر بقرطبة ما لم يبلغه أحد.

ومن كتاب أردية الشباب في حلى الكتاب
محمد بن أمية
مولى معاوية بن يزيد بن عبد الملك
كتب عن هشام بن عبد الرحمن، وكان والده كاتباً لعبد الرحمن.
ومن تاريخ ابن حيان أنه كتب عن الحكم بن هشام فأتهمه بولائه لعمه سليمان الثائر عليه معزله وكان سليمان قدهم بالركون حتى كتب إليه ابن أمية:
لا تقبلن عهوداً لا وفاء لها ... إن المدير عليك الرأي شيطان
إن الصدور التي استعذبت أولها ... أعجازها لك إن حصلت خطبان
كيف المقام بأرض ليس يملكها ... ذاك المبرأ من نقص سليمان
وذكر الفرضي أنه مات خاملاً في مدة عبد الرحمن بن الحكم وبيته بيت كتابة ورئاسة.
أبو القاسم إبراهيم بن الإفليلي
ذكر ابن حيان أنه بذ أهل زمانه بقرطبة في علم اللسان والضبط لغريب اللغة، والمشاركة في بعض المعاني، وكان غيوراً على ما يحمل من ذلك، كثير الحسد، راكباً رأسه في الخطأ البين إذا تقلده.
واستكتبه المستكفي فبرد، ووقع كلامه خالياً من البلاغة، لأنه كان على طريقة المعلمين، فزهد فيه، وما بلغني أنه ألف شيئاً إلا كتابه في شعر المتنبي. ولحقته تهمة في دينه أيام هشام، فسجن في المطبق.
وابن شهيد كثير الوقوع فيه والتندير به. قال في كلام، وصفه فيه: وهو أشدهم ضنانة بألا يكون بالأندلس محسن سواه، وكان الرأي عندي له أن يسكن أرض جليقية، حتى لا يسمع لخطيب فيها ذكراً، ولا يحس لشاعر شعراً، فينعم هنالك فرداً، وليست شيبته شيبة أديب، ولا جلسته جلسة عالم، ولا أنفه أنف كاتب، ولا نغمته نغمة شاعر.
وقال في رسالته التي سماها بالتوابع والزوابع على لسان الجن: وأما أبو القاسم بن الإفليلي فمكانه من نفسي مكين، وحبه بفؤادي دخيل، على أنه حامل علي، ومنتسب إلى. فصاحا: يا أنف الناقة بن معمر، من سكان خيبر، فقام إليهما جني أشمط ربعه يتظالع في مشيه كاسراً لطرفه، زاوياً لأنفه، وهو ينشد:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا؟
فقالا لي: هذا صاحب أبي القاسم. ما قولك فيه يا أنف الناقة؟ قال: لا اعرف على من قرأ؟ فقلت في نفسي: العصا من العصية! فقلت: وأنا أيضاً لا أعرف على من قرأت؟ قال؛ لمثلي يقال هذا الكلام؟ فقلت: وكان ماذا؟ قال فطارحني كتاب الجيل. قلت: هو عندي في زنبيل. قال: فناظرني على كتاب سيبويه. قلت: خريت الهرة عندي عليه.
وقال الحجاري: كان بارد النظم والنثر، لم يندر له من شعره إلا قوله:
صحبت القطيع ونادمته ... وأصبحت في شربه ذا انقطاع
وأبصرت أنسي به وحده ... كأنس الرضيع بثدي الرضاع
قال: وهو القائل في يحيى بن حمود من قصيدة يكفي منها ما يكفي من الترياق:
أنت خير الناس كلهم ... يا بن من ما مثله بشر
فإذا ما لحت بينهم ... قيل هذا البدو والحضر
قال: وأنشدتهما لأحد الأدباء، فقال لي عندما سمع عجز الأول ورأى ترادف الميمات: هذه عقد ذنب العقرب، فلما سمع الثاني قال: سبحان من أخلى خاطر هذا الرجل من التوفيق، وجعله يخرى على فمه!
أبو يحيى أبو بكر بن هشام
هو ممن قرأت عليه وأدركته يكتب عن الباجي ملك إشبيلية. والإشارة إليه بأنه شيخ كتاب الأندلس. وكان سهل الطريقة، كتب عن المأمون أيام ولايته قرطبة، ثم لحق بالبياسي الثائر، وكتب عنه، ثم قتل البياسي، فاستخفى، ثم لحق بإشبيلية.
وتسبب إلى المأمون، وأنشده قصيدة منها:
مولاي إن بليتي مع خدمتي ... خصمان فاحكم للتي هي أقدم
ثم أكثر عليه من الرقاع في ذلك، فوقع له: يا هذا قد أكثرت علينا من الرقاع، وقد أمضينا لك حكم ابن الرقاع.
وبلغني في مصر أنه توفي بالجزيرة الخضراء في سنة أربعين وستمائة. ومما أنشدنيه لنفسه قوله:
لاموا على حب الصبا والكأس ... لما بدا وضح المشيب برأسي

والغصن أحوج ما يكون لسقيه ... أيان يبدو بالأزاهر كاسي
وقوله:
أمسى الفراش يطوف حول كؤوسنا ... إذ خالها تحت الدجى قنديلا
ما زال يحفق حولها بجناحه ... حتى رمته على الفراش قتيلا
ومن نثره: بما أسلف لهذا الحزب الغالب من انتباه والناس نيام، وانتصار بالمال والنفس والكلام، وخوض في لجج المهالك، وقطع لمضيقات المسالك، حتى شكر إثر عناه راحته ونجاحه، وحمد بعد ما أطال سراه صباحه، فجدير أن يجني ثمرة ما غرس، وأن يمشي في ضوء ذلك القبس.

أخوه
أبو القاسم عامر بن هشام
هو صاحب القصيدة المتقدمة في متفرجات قرطبة، وحسبه فخراً وعلو طبقة. وكان مشهوراً بالمنادمة والبطالة. ومن نثره قوله في مخاطبة رئيس: وإني لكالأرض الكريمة إن نظر منها وسقيت أنبتت وأزهرت، وأودعت لسان النسيم، ما يعبر به في الآفاق من شكر الخير الجسيم، وإن أهملت صوحت وأودعت السوافي ما يعمى العين، ويرغم الأنف، وإن لسيدي كبير حق، ولمعظمه صغير حق، ورعى أحدهما منوط بالآخر.
ومن رسالة: وأني يصح له ذلك مع ما اشتهر عنه من كونه نماماً للأسرار، نقالاً لما يسوء سماعه من الأخبار، مولعاً بالفضول، كثير الخروج والدخول، ولاجاً عند فلان وفلان، كثير التضريب والإفساد بين الإخوان، مع لزوم الثقالة، والمظاهرة بالتقلب والاستحالة، لا يشكر كثير الإحسان، ولا يغفر قليل الإساءة، بساط المنادمة معه لا يطوي أبداً، أسقط على المساوئ من كلب على جيفة، وألح فيها من ذباب على قرحة. وله مع الحضرمي ممازحة كثيرة.
وهو المخاطب للحضرمي:
لا خير في الصاحب إن لم يكن ... يقود أو يَنِكحُ أو يَنكَحُ
فإن خلت من صاحب هذه ... فإنه للود لا يصلحُ
فقال له: حسبي القيادة! وقاد له على محبوب له من أبناء الجند، في حكاية طويلة. وحلق أبو الصبي شعره وقيده، وحبسه، لما سمع باجتماعه مع ابن هشام؛ فقال ابن هشام في ذلك:
طال ليلي مذ قصروا ليل شعره ... ورموا بالسرار كامل بدره
يا هلال السماء قبل هلالاً ... قيدوه به مخافة فره
فلما سرح قال:
صفح السرار عن القمر ... وبدا وقد كان استتر
كتب السرور لناظري ... لما رآه قد ظهر:
هذا أمان للجفو ... ن من المدامع والسهر
وسكر ليلة، فخرج والمطر يسح، فرأى جريه، فأعجبه، وزين له السكر الرقاد في وسط الطريق، فجاء أحد العسس، فعرفه، فحمله إلى داره، وجرد ثيابه البليلة، وألقى عليه من ثيابه، وحمله إلى منزله، فلما أفاق أبو القاسم قال:
أقول وقد أوردت نفسي مورداً ... أبحت به ما شاءه السكر من عرضي
وقد صرت سداً بالطريق لسائل ... من القطر إذ لا بسط. تحتي سوى الأرض
وقد هزني في آخر الليل مرسل ... من الله أحياني وألحق بي غمضي
سأثني عليك الدهر في كل محفل ... وما كل من أوليته نعمة يقضي
ولم أدر من ألقى علي رداءه ... خلا أنه قد سل عن ماجد محض
وأنشد له أبو البحر في كتاب زاد المسافر:
وأغن تثنيه الشبية خوطة ... تيهاً وتسحب ثوبه أذيالا
سفرت محاسن وجهه عن شجة ... نونية حشت الحشا بلبالا
لاحت كإحدى حاجبيه تقوساً ... بيضاء راقت في العيون جمالا
فتأملوها آية بدعية ... قمراً جلا في صفحتيه هلالا
ومات قبل أخيه، وله موشحات.
ومن كتاب الياقوت في حلى ذوي البيوت
عبد الملك بن أحمد بن عيسى بن شهيد
مولى بني أمية
ذكر الشقندي: أنه كان جليس الأمير محمد، وأنشد له:
ويلي على أحور تياه ... أجد فيه وهو بي لاه
أقبل في غيد حكين الظبا ... بيض تراق حمر أفواه
يأمر فيهن وينهي ولا ... يعصينه من آمر ناه
حتى إذا أمكنني أمره ... تركته من خشية الله

وذكر الحجاري: أن الأمير محمداً استوزره، وجالس الناصر، واستوزر الناصر ابنه أحمد الشاعر، وكان أحمد يقول: لا يخلص لي جاه ما دام أبي في الحياة، فقال في ذلك شعراً منه:
سرني فرعى وقد أث ... مر واستعلت غصونه
غير أني بجلوسي ... معه صرت أشينه
يا بني اصبر فإن ال ... شيخ قد حانت منونه
وسيبدو لك فرع ... وترى كيف فنونه

أبو عامر أحمد بن عبد الملك
بن أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن عيسى بن شهيد
هو أعظم هذا البيت شهرة في البلاغة. وقال ابن بسام في وصفه: شيخ الحضرة وفتاها ونادرة الفلك الدوار، وأعجوبة الليل والنهار. وأطنب في الثناء على نظمه ونثره وأدبه. وكذلك ابن حيان وصاحبا المسهب والسقط. وقال عنه ابن حيان: كان يبلغ المعنى ولا يطيل سفر الكلام،. ولم يوجد له بعد موته كتب يستعان بها على ما جرت به عادة البلغاء والأدباء، وكان قديراً على فنون الهزل، إلا أنه غلبت عليه البطالة، فلم يحفل في إيثارها بضياع دين أو مروءة، وكان منهمكاً في الجود، حتى شارف الإملاق عند موته.
وله رسالة إلى عبد العزيز بن الناصر بن المنصور بن أبي عامر يمت فيها بتربيته في قصور بني أبي عامر. وأن عمه المظفر بن المنصور أعطاه ألف دينار وهو صغير، وأن حظية المنصور أعطته ألفاً عنها، وثلاثة آلاف عن سيدها. وانصرف عن قصرهم بالغنى، وأن أباه احتوى على ذلك، فبلغ المنصور، فأمر له بخمسمائة دينار، وأقسم على أبيه ألا يمنعه منها فيما شاءه.
وله في جواب رسالة.
فتنفضت تنفض العقاب، وهزتني أريحية كأريحية الشباب، وجعل يوهمني أني ملأت الأرض بجسمي، وأومأت إلى الجوزاء بكفي أن تأملى، والى العواء أن أقبلى. وقلت المجرة في عيني أن تكون لي منديلاً، وصغر الزبرقان عندي أن أتخذه إكليلاً، فقلت: هكذا تكون الألوك، وبمثل هذا تنفح الملوك.
ومن قصيدة يمدح بها ابن الناصر المذكور:
؟ورعيت من وجه السماء خميلة ... خضراء لاح البدر من غدرانها
وكأن نثر النجم ضان عندها ... وكأنما الجوزاء راعى ضانها
وله رسالة يخطب بها أبا بكر بن حزم، سماها بالتوابع والزوابع، وبناها على مخاطبات الجن، قال في أولها: كان لي في أول صبوتي هوى اشتد به كلفي، ثم لحقني في أثناء ذلك ملل وتولى به عني الحمام، فجزعت وأخذت في رثائه في الحائر، وقد أبهمت على أبوابه، وانفردت، فقلت:
تولى الحمام بظبي الخدور ... وفاز الردى بالغزال الغرير
إلى أن انتهيت إلى الاعتذار من الملل الذي كان، فقلت:
وكنت مللتك لا عن قلى ... ولا عن فساد ثوى في ضميري
وأفحمت، فإذا بفارس على باب المجلس على فرس أدهم قد اتكأ على رمحه، وصاح بي: أعجزاً يا فتى الأندلس؟ قلت: لا وأبيك، ولكن للكلام أحيان، وهذا شأن الإنسان، فقال: قل:
كمثل ملال الفتى للنعيم ... إذا دام فيه وحال السرور
فأثبت إجازته، و قلت: بأبي أنت، من أنت؟ قال: أنا زهير بن نمير، من أشجع الجن، فقلت: وما الذي حداك إلى التصور لي؟ قال: هوى ورغبة في اصطفائك، قلت: أهلاً بك أيها الوجه الوضاح، صادفت قلباً إليك مقلوباً، وهوى نحوك مجنوباً، وتحادثنا حيناً، ثم قال: متى شئت استحضاري فأنشد هذه الأبيات:
وآلى زهير الحب يا عز أنه ... متى ذكرتك الذاكرات أتاها
إذا جرت الأفواه يوماً بذكرها ... تخيل لي أني أقبل فاها
فأغشى ديار الذاكرين وإن نأت ... أجارع من دارى هوى لهواها
وأوثب الأدهم جدار الحائط وغاب عني، وكنت متى أرتج علي أنشد الأبيات، فيتمثل لي، فأسير إلى ما أرغب.
ومما ضمن هذه الرسالة من محاسن الشعر قوله:
ومرقبة لا يدرك الطرف رأسها ... تزل بها ريح الصبا فتحدر
تكلفتها، والليل قد ماج بحره ... وقد جعلت أمواجه تتكسر
ومن تحت حضني من ظبا الهند أبيض ... وفي الكف من عسالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعاً ... مقيلان من جد الفتى حين يعثر
فذا جدول في الغمد تسقى به المنى ... وذا غصن في الكف يجنى فيثمر
وقوله:

أفي كل حين مصرع لعظيم؟! ... أصاب المنايا حادثي وقديمي
وكيف اهتدائي في الخطوب إذا دجت ... وقد فقدت عيناي ضوء نجوم
وقوله:
وكأن النجوم في الليل جيش ... دخلوا للكمين في جوف غاب
وكأن الصباح قانص طير ... قبضت كفه برجل غراب
وقوله:
ولرب حان قد أدرت بديره ... خمر الصبا مزجت بصفو خموره
في فتية جعلوا الزقاق تكاءهم ... متصاغرين تخشعاً لكبيره
وترنم الناقوس عند صلاتهم ... ففتحت من عيني لرجع هديره
وقوله:
أصبيح شيم أم برق بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا
هب من نعسته منفتلاً ... مسبلاً للكم مرخ للردا
يمسح النعسة من عيني رشاً ... صائد في كل يوم أسدا
قلت: هب لي يا حبيبي قبلة ... تشف من عمك تبريح الصدا
فانثنى يهتز من منكبه ... قائلاً: لا، ثم أعطاني اليدا
كلما كلمني قبلته ... فهو إما قال قولاً رددا
كاد أن يرجع من لثمي له ... وارتشافي الثغر منه أدردا
قال لي يلعب: خذ لي طائراً ... فتراني الدهر أمشي في الكدا
شربت أعطافه خمر الصبا ... وثناه الحسن حتى عربدا
وإذا بت به في روضة ... أغيداً يقرو نباتاً أغيدا
قام في الليل بجيد أتلع ... ينفض اللمة من دمع الندى
أححت من عضتي في نهدها ... ثم عضت حر خدي عمدا
فأنا المجروح من عضتها ... لا شفاني الله منها أبدا
ومن محاسنة قوله:
وقد فغرت فاها دجى كل زهرة ... إلى كل ضرع للغمامة حافل
ومرت جيوش المزن رهواً كأنها ... عساكر زنج مذهبات المناصل
وخطفت الخضراء في غر زهرها ... كلجة بحر كللت باليعالل
تخال بها زهر الكواكب نرجساً ... على شط نهر للمجرة سائل
ومن بدائعه قوله في صفة برغوث: أسود زنجي، وأهلي وحشي، ليس بوان ولا زميل، كأنه جزء لا يتجزأ من ليل، وشونيزة، وثبتها غريزة، أو نقطة مداد، أو سويداء قلب فؤاد، شربه عب، ومشيه وثب، يكمن نهاره، ويسري ليله، يدرك بطعن مؤلم، ويستحل دم كل مسلم، مساور للأساورة، يجر ذيله على الجبابرة، يتكفر بأرفع الثياب، ويهتك ستر كل حجاب، ولا يحفل ببواب، يرد مناهل العيش العذبة، ويصل إلى الأحراج الرطبة، لا يمنع منه أمير، ولا ينفع فيه غيرة غيور، شره مبثوث، وعهده منكوث، وهكذا كل برغوث.
وقوله:
وقفنا على جمر من الموت وقفة ... صلى لظاه دأب قومي ودابها
إذا الشمس رامت فيه أكل لحومنا ... جرى جشعاً فوق الجياد لعابها
وقوله:
وقالت النفس لما أن خلوت بها ... أشكو إليها الهوى خلواً من النعم
حتام أنت على الضراء مضطجع ... معرس في ديار الظلم والظلم
وقوله:
ومنتن الريح إن ناجيته أبداً ... كأنما مات في خيشومه فار
وقوله في أبي عامر بن المظفر:
جمعت بطاعة حبك الأضداد ... وتألف الأفصاح والأعياد
كتب القضاء بأن جدك صاعد ... والصبح رق والظلام مداد
وقوله:
كأن هامته والرمح يحملها ... غراب بين على بان النقا نعقا
وقوله:
أبى دمعنا يجري مخافة شامت ... فنظمه فوق المحاجر ناظم
وراق الهوى منا عيوناً كريمة ... تبسمن حتى ما تروق المباسم
وقاسى في مرضه شدة، فقال عند موته:
خليلي من ذاق المنية مرة ... فقد ذقتها خمسين قولة صادق
وكان موته من فالج أقام به مدة، ورام أن يقتل نفسه لشدة الآلام، وقال في تلك العلة:
تأملت ما أفنيت من طول مدتي ... فلم أره إلا كلمحة ناظر
وحصلت ما أدركت من طول لذتي ... فلم ألفه إلا كصفقة خاسر

وما أنا إلا أهل ما قدمت يدي ... إذا خلفوني بين أهل المقابر
سقى الله فتياناً كأن وجوههم ... وجوه مصابيح النجوم الزواهر
يقولون: قد أودى أبو عامر العلا ... أقلوا فقدماً مات آباء عامر
هو الموت لم يحرس بأسجاع خاطب ... بليغ ولم يعطف بأنفاس شاعر
وتوفي يوم الجمعة آخر جمادى الأولى سنة ست وعشرين وأربعمائة، ولم يشهد على قبر أحد ما شهد على قبره من البكاء والعويل، وأنشد عليه من المراثي جملة موفورة، وممن رثاه أبو حفص بن برد الأصغر.
وقال الحجاري: كان ألزم للكأس من الأطيار بالأغصان، وأولع بها من خيال الواصل بالهجران. واستوزره المستظهر، ثم اصطفاه هشام المعتد، ورثاه لما خلع بقصيدة منها:
أحللتني بمحلة الجوزاء ... ورويت عندك من دم الأعداء
وحملتني كالصقر فوق معاشر ... تحتي كأنهم بنات الماء
وذكره الثعالبي في اليتيمة، وأنشد له الشقندي ما تقدم في رسالته والحجاري في الحديقة.
؟عم أبي عامر بن شهيد أنشد له في حانوت عطار:
صدوداً وإن كان الحبيب مساعفاً ... وبعداً وإن كان المزار قريباً
وما فتئت تلك الديار حبيبة ... لنا قبل أن نلقى بهن حبيباً
ولو أسعفتنا بالمودة في الهوى ... لأدنين إلفاً أو شغلن رقيباً
وما كان يجفو ممرضي غير أنه ... عدته العوادي أن يكون طبيباً
؟

أخو
أبي عامر بن شهيد
أنشد له في الكتاب المذكور:
شكوت إليك صروف الزمان ... فلم تعد أن كنت عون الزمان
وتقصر عن نعمتي قدرتي ... فيا ليتني لسوى من نماني
ولا غرو للحر عند المضي ... ق أن يتمنى وضيع الأماني
أبو حفص أحمد الأصغر بن محمد
بن أبي حفص
أحمد الأكبر بن برد
قال ابن بسام عنه: فلك البلاغة الدائر، ومثلها السائر. ووصفه بالنظم والنثر. وما أورد له يغني عن الإطناب في وصفه. ولحق جده أبا حفص وقرأ عليه، وسيذكر في مدينة الزاهرة. وصنف كتاباً رفعه للمعتصم بن صمادح صاحب المرية، في بعض فصوله في الحمد: الحمد لله واصل الحبل بعد انقطاعه، وملائم الشعب بعد انصداعه، المصبح بنا من ليل الخطوب، والماحي عنا غياهب الكروب.
الحمد لله وإن عثرت الجدود، وهوت نجوم السعود، المرجو للإدالة، والمدعو في الإقالة، والقادر على تعجيل الانتصار، والآخذ للإسلام بالثار، أما بعد، فما أتيت البصائر من تعليل، ولا الأعداد من تقليل، ولا القلوب من خور، ولا السواعد من قصر، ولا الجياد من لؤم أعراق، ولا الصفوف من سوء اتساق، ولكن النصر تأخر، والوقت المقدور حضر، ولم تكن لتمضي سويف لم يشإ الله إمضاءها، ولا لتبقى نفوس لم يرد الله بقاءها، وفي قوله تعالى أجمل التأسي وأحسن التعزي: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله؛ وتلك الأيام نداولها بين الناس " .
الحمد لله مولف الآراء، وجامع الأهواء على ما أغمد من سيف الفتنة، وأخمد من نار الإحنة.
الحمد لله الذي صير أعداءنا في أعدادنا. وأضدادنا في أعضادنا، والسيوف المسلولة علينا مسلولة دوننا.
وفي بعض فصوله في الشكر: الشكر عوذة على العارفة، وتميمة في جيد النعمة. الكفر غراب ينعب على منازل النعم. الشكر بيد النعمة أمان، وعلى وجه العارفة صوان.
وفي بعض فصوله في وصف القلم: المداد كالبحر، والقلم كالغواص، واللفظ. كالجوهر، والطرس كالسلك ما أعجب شأن القلم! يشرب ظلمة ويلفظ. نوراً، قاتل الله القلم! كيف يفل السنان، وهو يكسر بالأسنان؟!. فساد القلم خدر في أعضاء الخط. رداءة الخط. قذى في عين القراءة.
وفي بعض فصوله في الأمان:

أما بعد، فإنكم سألتم الأمان، أوان تلمظت السيوف إليكم، وحامت الحتوف عليكم، وهمت حظائر الخذلان أن تنفرج لنا عنكم، وأيدي العصيان أن تتحفنا بكم، ولو كلنا لكلم بصاعكم، ولم نرع فيكم ذمة اصطناعكم، لضاق عليكم ملبس الغفران، ولم ينسدل عليكم ستر الأمان، ولكنا علمنا أن كهولكم الخلوف عنكم، وذوي الأسنان العاصين لكم، ممن يهاب وسم الخلعان، ويخاف السلطان، وأنهم لا يراسلونكم في ميدان معصية، ولا يزاحمونكم في منهل حيرة، ولا يماشونكم إلى موقف وداع، ولولا تحرجنا أن نقطع أعضادهم بكم، ورجاؤنا أن يكون العفو على المقدرة تأديباً لكم، لشربت دماءكم سباع الكماة، وأكلت لحومكم ضباع الفلاة، وقد أعطينا بتأميننا إياكم عهد الله وذمته، ونحن لا نخفرهما أيام حياتنا، إلا أن تكون لكم كرة، ولغدرتكم ضرة، فيومئذ لا إعذار إليكم، ولا إقصار عنكم، حتى تحصدكم ظباة السيوف، وتقضي ديون أنفسكم غرة الحتوف.
وفي بدأة عتاب: أظلم لي جو صفائك، وتوعر على أرض إخائك.
وفي بعض فصوله في الاستزارة: نحن من منزل فلان أعزه الله بحيث نلتمح سناك، ونتنسم رياك، وقد راعنا اليوم باكفهرار وجهه، وما ذر من كافور ثلجه، فادرعنا له بالستور، وانغمسنا بين جيوب السرور، ورفعنا لبنات الزناد ألوية حمراء، وأجرينا لبنات الكروم خيلاً شقراء، وأحببنا أن نشهد جيش الشتاء كيف يهزم، وأنفاس البرد كيف تكظم.
فصل في ذم مؤاخ، وهو من أبدع ما قيل في ذلك: خليت عنه يدي، وخلدت قلاه خلدي، بيض الأنوق من رفده أمكن، وصفا المشقر من خده ألين. منزور النوال، رث المقال، أحاديث وعده لا تعود بنفع، ولا هي من غرب ولا نبع، مطحلب الوجه، مراق ماء الحياء، مظلم الخلق، دبوري الريح، مقشعر الوجه، طاشت عنده الصنيعة وضاعت فيه اليد، على وجهه من التعبيس قفل ضاع مفتاحه، وليل مات صباحه. غنى من الجهل، مفلس من العقل، تتضاءل النعم لديه، وتقبح محاسن الإحسان إليه، لم ينظم عليه قط در ثناء، ولا استحق أن يلبس بزة مديح، غربال حديث، كلما أجال قدحاً كان غير فائز، أو رمى سهماً جاءه غير صائب، كبد الزمان عليه قاسية، ونعم الله له ناسية. شر بقعة لغرس المودة وبذر الإخاء، قصير عمر الوفاء للإخوان، عون عليهم مع الزمان، كدر الدنيا وسقم الحياة.
ومن محاسن ما أورده ابن بسام من نظمه قوله:
لما بدا في لا زور ... دي الحرير وقد بهر
كبرت من فرط الجما ... ل، وقلت: ما هذا بشر!
فأجابني: لا تنكرن ... ثوب السماء على القمر
وقوله:
أقبل في ثوب لا زورد ... قد أفرغ التبر من عليه
كأنه البدر في سماء ... قد طرز البرق جانبيه
وقوله:
صح الهوى منا، ولكنني ... أعجب من بعد لنا يقدر
كأننا في فلك واحد ... فأنت تخفى وأنا أظهر
وقوله:
لما رمته العيون ظالمة ... وأثرت في جماله الحدق
ألبس من نسج شعره زرداً ... صيغت له من زمرد حلق
وقوله:
رقم العذار غلالتيه بأحرف ... معنى الهوى في طيها متناهي
نادى عليه الحسن حين لقيته ... هذ المنمنم في طراز الله
وقوله:
وما زلت أحسب فيه السحاب ... ونار بوارقها في لهب
بخاتي توضع في سيرها ... وقد قرعت بسياط الذهب
وقوله:
وقد فتح الأفق للناظري ... ن عن شهلة الصبح جفن الغبش
وقوله:
عارض أقبل في جنح الدجى ... يتهاذى كتهادي ذا الوجى لؤلؤه
بددت ريح الصبا لؤلؤه ... فانبرى يوقد عنه سرجا
وقوله:
؟وكأن الليل حين لوى ... ذاهباً، والصبح قد لاحا
كلة سوداء أحرقها ... عامد أسرج مصباحا
وقوله:
والبدر كالمرآة غير صقله ... عبث العذارى فيه بالأنفاس
والليل ملتبس بضوء صباحه ... مثل التباس النقس بالقرطاس
وجعله الحجاري فوق جده في النثر، قال: وأما النظم، فلا أستجيز أن أجعل بينهما أفعل.
رحل من قرطبة إلى المرية، فاستوزره المعتصم بن صمادح، ثم رحل إلى مجاهد صاحب دانية.
؟

بيت بني الطبني

أصلهم من طبنة، قاعدة الزاب، والوافد منهم على الأندلس في أيام ابن أبي عامر أبو مضر:
؟

محمد بن يحيى بن أبي مضر الطبني
وصفه الحجاري بالأدب والشعر، ومجالسة الملوك، وكان ممن يجالس أبا الحزم بن جهور وابنه أبا الوليد، وصحب ابن شهيد، وأنشد له:
لا يبعد الله من قد غاب عن بصري ... ولم يغب عن صميم القلب والفكر
أشتاقه كاشتياق العين نومتها ... بعد الهجود، وجدب الأرض للمطر
وعاتبوني على بذل الفؤاد له ... وما دروا أنني أعطيته عمري!!
وذكره الحميدي وأنشد له شعراً يخاطب به أبا محمد بن حزم.
أبو مروان عبد الملك بن زيادة الله
ابن أبي مضر الطبني
من ذخيرة ابن بسام: أنه كان أحد حماة سرح الكلام، وحملة ألوية الأقلام، وذكر ابن حيان: أن جواريه قتلنه لتقتيره عليهن، ورحل إلى المشرق، وحج، وقتل بقرطبة سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
وذكر الحجاري أنه كان إماماً في علم الحديث، ووصفه بالبخل المفرط: كان يترك أهل داره يأكلن الخبز بلاد إدام، فإذا طلبوا الإدام حرد عليهم، وقال: هذه عادة سوء، فخنقوه.
وأنشد له:
إني إذا حضرتني ألف محبة ... تقول: أخبرني هذا وحدثني
صاحت بعقوتى الأقلام زاهية: ... هذى المكارم لا قعبان من لبن
أبو الحسن علي بن عبد العزيز
ابن زيادة الله بن أبي مضر الطبني
جعله الحجاري أشعر بني الطبني، وأنشد له قوله:
لا تسقني إلا بكأس إذا ... شربتها تملك عقلي جميع
وزادك الله سروراً إذا ... سقيتني بالجام أو بالقطيع
لا ترفع الخمر إلى مدة ... أولى وأحلى من زمان الربيع
وقوله:
يا سالباً عاشقيه ... وعاشقاً كل تيه!
ومن مدامي ونقلي ... من وجنتيه وفيه
هلا جزيت فوادي ... ببعض مالك فيه
بيت بني كليب بن ثعلبة بن عبيد الجذامي
مولى بني أمية
أبو مروان عامر بن عامر بن كليب
من تاريخ ابن حيان: أنه أحد وجوه الموالي في العسكر السلطاني، ووصفه الفرضي بالأدب والذكاء والترسل والشعر والمعارضة والتحكك بالشعراء، قال: وفيه يقول العتبي:
عفت معالمه الليالي مثل ما ... عفى سواد الشعر بهجة عامر
ومن شعره قوله:
عظم الخطاء فهل تقيل ... يا سيدي، أم ما تقول؟
أنت العزيز بهفوتي ... وأنا بها العبد الذليل
تالله لو أني استطع ... ت لما بدا مني فضول
ولما رأى مني الصدي ... يق سوى قوام لا يميل
فأبت على الكأس إلا ... أن يداخلني الذهول
وكان مختصاً بالوزير هاشم، فسلطه على الوزير محمد بن جهور، فكان يتتبع سقطاته، فاتفق أن نادمه في متصيد للأمير محمد، فلما دارت الكأس قال ابن جهور لخادمه: هات ذاك التفاح المخروج، فضحك عامر من لحنه، وجعل يقول: يا ضيعة الوزارة! حين تولاها الأبله اللحانة! فغضب، وضربه بالسياط، فغض ذلك من قدره، ونعاه عليه الشعراء في أشعارهم.
قال ابن حيان: ومات سنة خمس وسبعين ومائتين.
وذكر الحجاري: أنه كان لا يبالي أين يضع لسانه، وجرى حديث، فقال بعض رجال السلطان: من قال هذا؟ فقال عامر: قاله بنو إوزة، يعني أحد أولاد الأمير لقب بذلك لتولعه بإوزة كان يشرب عليها، ويعجبه مشيها وصياحها، فبلغه ذلك، فاحتال عليه ولد الأمير بعد أيام، حتى حصله في منزله، وجعله يخدم تلك الإوزة على ما يقتضيه قوله:
يا سائلاً عن قصتي ... اعجب لقبح قضيتي
حال الزمان عن الذي ... تدرى، وذلل عزتي
وكفاك أني كانس ... خرء الإوز بلحيتي
فلما قرأها ابن الأمير ضحك، وأمر له بإحسان وسرحه، فقال فيه قصيدة أولها: ط
لبست ليوم البين درعاً من الصبر ... فقدته ألحاظ خلسن من الخدر
ومنها:
كذا فليكن جود الكرام مرادفاً ... كما أردفت موج تتابع في بحر
أبو خالد بن التراس القرطبي
من ولد أيوب بن حبيب اللخمي الذي ولي سلطنة الأندلس.

ذكره الحجاري، وأخبر أنه كان يصحب أبا المغيرة بن حزم، وكان جهير الصوت، كثير الكلام، لا يكاد يسكت، ولا يكفيه من الطعام قليل، وهو القائل:
كيف اصطباري للذي حل بي ... والرزء فيما ناب منه جليل
إذ من أنا ضيف له باخل ... ولست ممن يكتفي بالقليل
وأخبر الحميدي أنه شاعر مذكور في أيام المستظهر.

أبو علي الحسن بن مضاء القرطبي
ذكر الحجاري أن بيت بني مضاء بقرطبة متوارث الحسب، وأن أبا علي لشعره ديباجة عراقية، ورقة حجازية، وكان مختصاً بعبد الملك بن أبي الوليد ابن جهور، وله فيه أمداح، وأنشد له قوله:
قصر اليوم فحث الش ... رب بالكأس الكبير
فإذا ما طال فاشرب ... فيه بالكأس الصغير
وقوله:
بشرب الكبير، وعشق الصغير ... أدين، ومن لام لا يقبل
بيت بني مسلمة
ذكر ابن حيان: أن أصل هذا البيت مسلمة بن حسان مولى معاوية بن أبي سفيان. ومسلمة من المخلصين لعبد الرحمن الداخل، وكان بباجة، وتناسل ولده بقرطبة.
أبو عامر محمد بن مسلمة القرطبي
أثنى عليه الحجاري وعلى بيته، وذكر: أنه هاجر من قرطبة إلى إشبيلية للمعتضد بن عباد، وندم لما رآه من استحالته، فداراه مدة حياته، واسأله كيف نجا!.
وأنشد له في المعتضد المذكور:
أيا ملك الأملاك والسيد الذي ... يسير على سبل الرشاد بمقباس
عهدتك سمح الكف بالجود، كيف قد ... بخلت بترك المجد أجمع للناس؟!
وقوله في غلام كان يهواه:
وإني لأهواه وأبغي اكتتامه ... وتأبى أمارات اللقاء تكتما
لساني في حكمي ولكن مقلتي ... ولوني ما إن يقبلان تحكما
وفي الذخيرة: أنه أحد جهابذة الكلام، وجماهير النثار والنظام، من قوم طالما ملكوا أزمة الأيام، وخصموا بألسنة السيوف والأقلام. وكان أبو عامر منهم بمنزلة الفص من الخاتم، والسر من صدر الكاتم. وذكر قدومه على المعتضد، وأنه ألف له كتاباً سماه حديقة الارتياح في وصف حقيقة الراح.
وأنشد قوله:
أهلاً وسهلاً بوفود الربيع ... وثغره البسام عند الطلوع
كأنما أزهاره حلة ... من وشي صنعاء السرى الرفيع
أحبب به من زائر زاهر ... دعا إلى الأنس فكنت السميع
وبينه وبين إدريس بن اليمان وابن الأبار مراسلات. وجدهم أبان بن عبيد مولى معاوية بن أبي سفيان، أهدى إليه من سبي البربر.
أبو الحسين بن مسلمة القرطبي
ذكر لي والدي: أنه من سراة هذا البيت، صحبه في مواطن كثيرة أيام الصبا، ووصفه بالمشاركة في العلوم القديمة والحديثة.
قال: وكنا نقول واضيعة خزائن الكتب بحضوره، وكانت له همة فائقة، وكان يوفى إخوانه حقوقهم في المغيب والمشهد، إلا أنه قليل الإخوان هرباً من العجز عن القيام بحق كثيرهم. وذكر والدي: أنه صحبة في سفر، فمرا على مالقة، فوجدا صاحبها أبا علي بن حسون في فرجة، فاتفقا على أن يخاطباه، فقال ابن مسلمة:
مررنا برية قصداً كما ... يمر النسيم بروض الزهر
فقال ابن سعيد:
فجلنا بروض نأى زهره ... وأقلع عنه انسكاب المطر
فقال ابن مسلمة:
فلم نر رحلتنا دون أن ... نسير ببشر وسقيا درر
فقال ابن سعيد:
ولم نقض من كعبة الجود ما ... يقضى الذي حجها واعتمر
فقال ابن مسلمة:
ولم نر إلا خطاب العلا ... بطوع الإقامة أو بالسفر
فقال ابن سعيد:
وترك التكلف تأميلنا ... متى كنت بالبدو أو بالحضر
فقال ابن مسلمة:
وليس لنا رغبة في السحاب ... ولكن لنبصر وجه القمر
فبعث في وصولهما، وكان منه ما اشتهر عنه من الأفعال البرمكية. ومما أنشدنيه والدي من شعر أبي الحسين، فاستحسنته، قوله:
رقد الغزال وكلنا يقظان ... ما تلتقي في حبه الأجفان!
هبت عليه الراح ريحاً صرصراً ... وبمثلها تتقصف الأغصان
وقوله:
بروحي التي وافت، وكالورد خدها ... حياء، ومنها قد شكا الصب ما شكا
وما ضحكت إلا غروراً بمهجتي ... كما خجلت كأس المدام لتفتكا

وقوله:
سلوا ورق الآس لم حددت ... وقد وضح الصبح آذانها
ولم ذا أقيمت على ساقها ... وبلت من الطل أجفانها
أأطربها هاتف قد غدا ... يهز من الطيب أغصانها؟
وله رسائل، وموشحات، وأزجال.

بيت بني قزمان
أثنى على هذا البيت الحجازي في بيوت قرطبة، وأنهم لم يزالوا ما بين وزير وعالم ورئيس.
أبو بكر محمد الأكبر بن عبد الملك
ابن عيسى بن قزمان القرطبي
ذكر ابن بسام: أن المتوكل صاحب بطليوس أول من اتخذه كاتباً، وأثنى على بيته وذاته، وأثبت له رسالة طويلة من غير طائل، وشعراً تركه أولى من إيراده.
وأثنى عليه صاحب القلائد، وذكر أن تكدر عشيه في آخر عمره، وأساء في حقه القاضي أبو عبد الله بن حمدين، وأن أخلاقه كانت صعبة، ففلت من غربه، وكانت سبباً لطول كربه، ولم يورد له إلا قوله:
ركبوا السيول من الخيول وركبوا ... فوق العوالي السمر زرق نطاف
وتجللوا الغدران من ماذيهم ... مرتجة إلا على الأكتاف
أبو بكر محمد بن عيسى بن عبد الملك
ابن عيسى بن قزمان الأصغر
إمام الزجالين بالأندلس، وسيرد من عجائبه في الأهداب، ما يشهد له بالتقدم في هذا الباب. وذكر الحجاري أنه كان في أول شأنه مشتغلاً بالنظم المعرب، فرأى نفسه تقصر عن أفراد عصره، كابن خفاجة وغيره، فعمد إلى طريقة لا يمازجه فيها أحد منهم، فصار إمام أهل الزجل المنظوم بكلام عامة الأندلس.
ومن شعره على طريقة المعرب قوله، وقد رقص في مجلس شرب، فأطفأ السراج بأكمامه:
يا أهل ذا المجلس السامي سرارته ... ما ملت لكنني مالت بي الراح
فإن أكن مطفئاً مصباح بيتكم ... فكل من قد حواه البيت مصباح
وقوله في يحيى بن غانية الملثم سلطان الأندلس:
ولله يحيى إذ تأبط للوغى ... من السمر حزم أرقماً ثم أرقما
وثارت به الهيجا كزند بناره ... فصير كافور الصوارم عندما
لدى موقف رد العجاج سماءه ... ثرى والثرى من أنجم البحر كالسما
ومن كتاب بلوغ الآمال في حلى العمال
عبد الله بن حسين بن عاصم
الثقفي القرطبي
ذكر ابن حيان: أن جده عاصم المعروف بالعريان صاحب عبد الرحمن الداخل، لقب بذلك لأنه عبر نهر قرطبة يوم القتال وهو عريان.
ورحل عبد الله إلى المشرق، وأدرك عصر معلى الطائي، ولقي ببغداد مخارقاً المغنى، واستظرفه رؤساء العراق، وقال له أحدهم: يا غليظ ما أرقك! وكان أكولاً حتى لقب بالزير، كثير السعاية والنميمة، شاعراً مفلقاً.
ولي الشرطة بقرطبة، فمر به فتى حسن الشارة، يترنح سكراً، فأمر بحده، فقال: أنشدك الله ، من الذي يقول:
إذا عاب شرب الخمر في الدهر عائب ... فلا ذاقها من كان يوماً يعيبها؟
فقال ابن عاصم: أنا، وأستغفر الله، فقال الفتى: ما تستحي من الله حين تغري بالشراب، ثم تعاقب فيه؟! فكان ذلك سبباً لأن تركه.
وأخبر الحميدي أنه كان من جلساء الأمير محمد وأنه شرب معه يوماً، وغلام جميل الصورة يسقيهم، فألح الأمير على الغلام في سقي عبد الله، فقال:
يا حسن الوجه لا تكن صلفاً ... ما لحسان الوجوه والصلف؟!
يحسن أن تحسن القبيح ولا ... ترثي لصب متيم دنف
فخيره بين بدرة والغلام، فاختار البدرة خوفاً من الظنة.
أبو الأصبغ عبد العزيز بن فاتح القرطبي
ذكر محمد بن عبد الملك بن سعيد: أنه كان من عمال قرطبة في مدة لمتونة، واختص بأميرها الزبير بن عمر الملثم، ونادمه، وكان عارفاً بالغناء، وأنشدني لنفسه قوله:
عاد من بعد ما أطال الصدودا ... وأتى مرغماً بذاك الحسودا
وتناسى ما كان منه قديماً ... وأعاد الزمان خلقاً جديداً
إن يوماً قضى لنا باجتماع ... لحقيق بأن يسمي سعيدا
وقوله:
قم هات كأس فالروض ممطور ... والأفق مسك والأرض كافور
ري وخمر فحثها عجلاً ... فكلنا عاطش ومقرور
لا حفظ الله من يضيعها ... في مثل ذا اليوم فهو مسحور

الماء فوق الغصون منتظم ... والزهر بين الرياض منثور

ومن كتاب الإحكام في حلى الحكام
معاوية بن صالح القاضي
من تاريخ ابن حيان: أنه دخل الأندلس قبل دخول عبد الرحمن الداخل، وهو من جلة العلماء، عالي الرواية، يذكر عنه أنه روى عنه مالك بن أنس، ووجهه عبد الرحمن عن أختيه اللتين بالشام ليتحيل في إيصالهما إليه، فلم يطاوعاه، ورجع، فولاه قضاء حضرته، وكان يحضر معه غزواته، ويحيى ليلة بالصلاة، فإذا أقبل النهار تقدم في خيل حمص غازياً، إلى أن عزله في آخر أيامه.
وانشد له الحجاري وغيره هذه الأبيات التي قد نسبت لعبد الرحمن المرواني الداخل:
أيها الراكب الميمم أرضي ... أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر الله بيننا بافتراق ... فعسى الله باجتماع سيقضي
القاضي أبو الوليد بن الفرضي
وصفه ابن بسام بحسن النظم، وذكر أنه لما حج تعلق بأستار الكعبة، وسأل الله الشهادة، فمات في فتنة البربر بقرطبة سنة أربعمائة.
قال ابن حزم: أخبرني من رآه بين القتلى يومئذ، وهو في آخر رمق، وهو يقول: " لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء وجرحه يوم القيامة يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك " .
وهذا حديث صحيح في كتاب مسلم. وأنشد له وكان قد كتب بها إلى أهله حين توجه للحج:
مضت لي شهور منذ غبتم ثلاثة ... وما خلتني أبقى إذا غبتم شهراً
وما لي حياة بعدكم أستلذها ... ولو كان هذا لم أكن بعدها حراً
أعلل نفسي بالمنى في لقائكم ... وأستسهل البر الذي جبت والبحرا
ويؤنسني طي المراحل دونكم ... أروح على أرض وأغدو على أخرى
وتالله ما فارقتكم عن قلي لكم ... ولكنها الأقدار تجري كما تجري
وذكر الحجاري: أنه ولي في الفتنة قضاء إستجة، ورغب إليه أهل مصر في الإقامة عندهم فقال: من المروءة النزاع إلى الوطن.
القاضي الفيلسوف أبو الوليد محمد بن أحمد بن الإمام
الفقيه القاضي
أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد
أدرك والدي وقرأ عليه، وقال في وصفه الشقندي: فقيه الأندلس، وفيلسوفها الذي لا يحتاج في نباهته إلى تنبيه.
وأنشد من شعره قوله:
ما العشق شأني ولكن لست أنكره ... كم حل عقدة سلواني تذكره
من لي بغض جفوني عن مخبرة ال ... أجفان قد أظهرت ما لست أضمره
لولا النهى لأطعت اللحظ. ثانية ... فيمن يرد سنا الألحاظ منظره
ما لابن ستين قادته لغايته ... عشرية فنأى عنه تصبره؟
قد كان رضوى وقاراً فهو سافية ... الحسن يورده، والهون يصدره
وولي قضاء القضاة بقرطبة، وكذلك جده أبو الوليد، ومات جده سنة عشرين وخمسمائة. ولأبي الوليد الأصغر تصانيف كثيرة في الفروع والأصول والنحو والفلسفة وغير ذلك، وآل أمره مع منصور بني عبد المؤمن، وقد وقف على قوله عن الزرافة: وقد رأيتها عند ملك البربر، فقرعه على ذلك، فاعتذر أنه ما قال: إلا ملك البرين، إلى أن أمر به، فأقيم، وجعل كل من يمر به يلعنه ويبصق في وجهه، ثم أمر بنفيه إلى بيانه مدينة اليهود.
؟
الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى
ابن المناصف القرطبي
قال والدي: بنو المناصف الثلاثة اجتمعت بهم وذاكرتهم فما رأيت منهم إلا نجيباً مبرزاً، والفضل لأبي عبد الله، لأنه تفنن في العلوم، وولي أكبر خطط القضاء، مثل مرسية وبلنسية، وإن كان موسى أرق شعراً، فإنه أمتن علماً فيما يتعلق بالأصول والفروع، وكان أبو إسحاق مشاركاً مديد الباع في الأصول والفروع، وولي قضاء سجلماسة. ولأبي عبد الله الرجز المشهور بالمغرب في الشيات.
قال: ومما أنشدنيه لنفسه قوله من قصيدة للناصر:
دانت لك العرب طوع الحق والعجم ... وأصبح الدهر عن علياك يبتسم
وقله:
تغيب عني وقلبي ... لديك رهن معذب
فرده لي وبن حي ... ث ما تشا وتغيب
الله يعلم أني ... طول الدجى أتقلب

فجد علي بطيف ... إن كنت في الوصل ترغب
إن لم تلح لي بدراً ... فلح فديتك كوكب
وقوله:
ألزمت نفسي خمولاً ... عن رتبة الأعلام
لا يخسف البدر إلا ... ظهوره في تمام
وحج، وأقام بمصر قليلاً، وكر راجعاًن فمات. وذكر المحدث أبو العباس بن عمر القرطبي أنه جمع كتاباً فيه أربعة علوم: أصول الدين، وأصول الفقه، وفروعه، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
؟

أخوه
أبو إٍسحاق إبراهيم بن المناصف
قال والدي: كان فقيهاً جميل المذهب، ولي قضاء سجلماسة، سألته أن ينشدني من شعره، فقال: من يحفظ من الشعر ما تحفظ أنت يجب على العاقل ألا ينشده شيئاً، إلى أن أنشدني أحد أصحابه له:
يا محرقاً قلبي بنار الأسى ... وماحياً عيني بماء الدموع
رفقاً فإني بالجوى ذاهب ... كيف يبقى من جفاه الهجوع
وأبصر الغصن لوى عطفه ... والبدر محجوباً أوان الطلوع
وقوله في المجبنات:
هات التي إن قربت جمرة ... فهي على الأحشاء كالماء
وكلما عض بها لاثم ... تبسمت عن ثغر حسناء
تبرية الظاهر فضية ال ... باطن لم تصنع بصنعاء
وكان نحوياً.
؟
أبو عمران موسى بن عيسى بن المناصف
ولي دار الإشراف بمراكش في مدة الناصر، وذكره الشقندي، ووصفه بحلاوة الشعر، وأنشد له في غلام جزار:
قالت عواذله لما بصرن به ... في مجزر ساقط الأثواب واللمم
لشد ما عرض الإعراض عاشقه ... فأين ما يدعيه الدهر من همم
فقلت: صارت هموماً كلها هممي ... فما أفرق بين الراس والقدم
لطرفه في فؤادي ما لمديته ... فيما تقسم كفاه على الوضم
وجعله والدي أشعر بني المناصف وأشهرهم شعراً. قال: ومما أنشدني من شعره قوله - وقد وصله من محبوبه مطيب من آس - :
مطيبك المهدي أجل مطيب ... يقل له عندي المقام على جفني
أتى كاسمه آس لما بي من الجوى ... فحل حلول السعد والمال والأمن
وما جاءني والكل منه مسامع ... مؤللة إلا ليسمع ما أثنى
لعمري لقد بتنا وبيني وبينه ... كما بين خيري الحديقة والدجن
يذكر أيام العناق اتساقه ... فأسقيه من عيني ضروباً من المزن
ومن قصيدة:
إن لم يردوا من فؤادي ما سبوا ... يوم النوى أتحفتهم بالباقي
وفي مطلع أخرى:
جاروا وما علموا ما يشتكى الجار ... من القلوب جلاميد وأحجار
ومن كتاب نجوم السماء في حلى العلماء
علماء القرآن العزيز
أبو عبد الله جعفر بن محمد بن مكي
ابن أبي طالب القيسي
جده مكي القيرواني المشهور بالزهد والقراءات، وأثنى ابن بسام على جعفر، وأنشد له شعراً في رثاء أبي مروان بن سراج العالم، أوله:
انظر إلى الأطواد كيف تزول ... ولحالة العلياء كيف تحول؟!
يهوى الفتى طول البقاء مؤملاً ... وله رحيل ليس منه قفول
وذكر الحجاري أنه: حذا حذو جده في الإقراء، وذكر ابن بشكوال: أن جده مكياً توفي بقرطبة في محرم سبع وثلاثين وأربعمائة.
محمد بن محمود المكفوف
ذكر الحميدي: أن ابن حزم أنشد له:
كأن الجياد الصافنات وقد عدت ... سطور كتاب والمقدم عنوان
علماء الحديث
أبو العباس أحمد بن قاسم
جعله الحجاري من رؤساء المحدثين، ورءوس المتفننين، مشاركاً في العلوم القديمة والحديثة. قال ابن بسام: وهو فتى وقتنا بحضرة قرطبة، مقلة عين العصر. وأثنى على نظمه ونثره، وأخبر أنه نظر في التعاليم، وبرع على صغر سنة، وبينهما مخاطبة واجتماع. وأنشد له:
لهج الناس بالقبيح وهاموا ... فالزم البيت واغلق الأبوابا
وإذا ما خرجت تطلب رزقاً ... فأكثر الصمت واضمم الأثوابا
فكثير ممن تجالس تلقى ... من عيوب الورى لديه عيابا
وإذا ما سألته عن جميل ... فيهم لم تجد لديه جوابا

لقى الناس قبلنا غرة الده ... ر ولم نلق منه إلا الذنابى
وقوله:
خذها كما اعتدلت أنابيب القنا ... فكري الثقاف لها وذهني النار

أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان
أخبرني والدي أن والده صحبه، وكان يقول: إنه من أعظم من رآه من العلماء، والذي غلب عليه علم الحديث، وله مشاركة في الأدب.
ومن شعره وفد أصغى إلى غناء:
لا تلحني إن غدوت ذا طرب ... لما ثناني للأنس غريد!
طوراً جليد، وتارة طرب ... كالعود منه الزوراء والعود
ومات في المائة السابعة.
علماء النحو
أبو عبد الله محمد بن يحيى
بن زكريا القلفاط القرطبي
جعله الحجاري من نحاة قرطبة المعروفين بالإقراء، وجملة الشعراء المشهورين بالهجاء، وترقت أذاته إلى أن هجا عبد الله المرواني سلطان الأندلس بشعر منه:
ما يرتجى العاقل في مدة ... الرجل فيها موضع الرأس؟!
ووفد على إبراهيم بن حجاج ملك إشبيلة، فأنشده قصيدة ذم فيها أهل بلدة، فأبغضه لذلك.
قال ابن حيان: فانصرف إلى قرطبة، وابتدأ بهجاء ابن حجاج، فقال شعره الذي فيه:
أبغي نوال الأكرمين معاً ولا ... أبغي نوال البومة البكماء
فبلغ الشعر ابن حجاج، فأرسل إليه من قال له: والله الذي لا إله غيره، لئن لم تكف عما أخذت فيه لآمرن من يأخذ رأسك فوق فراشك! فارتاع، وكف.
أبو بكر محمد بن عبد الله بن ميمون
العبدري القرطبي
كان محمد بن عبد الملك بن سعيد يجالسه كثيراً، و يخبر عن تبحره في النحو، وله شرح الجمل، وشرح المقامات، وعظمت منزلته عند المنصور وكان له ملح وشعر مليح، كقوله:
تقحمت جاحم حر الضلوع ... كما خضت بحر دموع الحدق
أكنت الخليل؟ أكنت الكليم؟ ... أمنت الحريق، أمنت الغرق!
وقوله:
طرفي وحقك، يرعى الن ... جوم نجماً فنجما!
مردداً فكأني ... أفك منها معمى
توفي في المائة السادسة، وله رسالة إلى محبوب يستدعيه: فبالله إلا ما لقيت الرسول، بوجه يدل على القبول، وتفضلت بأن تصل قبل رجوعه إلينا، وتخالفه من طريق مختصر حتى تطلع قبله علينا، هنالك كنا نخر للفضائل سجداً، ولا نزال نوالي شكرك وذكرك أبداً.
علماء اللغة
أبو عبد الملك عثمان بن المثنى
القيسي القرطبي
وصفه ابن حيان بمعرفة اللغة والتجويد في الشعر، وذكر أنه رحل ولقي أبا تمام الطائي، وأخذ عنه شعره، ولقي ابن الأعرابي وغيره، وكان شجاعاً مكثراً للغزو في الثغور، وأدب أولاد عبد الرحمن بن الحكم سلطان الأندلس، وولد في صدر دولة هشام الرضا، فأدرك أربعة سلاطين من المروانية، آخرهم محمد، وفيه يقول:
لو لم أكن أدركت ملك محمد ... وزمانه لحسبتني لم أخلق
وزاره بعض إخوانه في مكتبه بقصر الخلافة، وهو يعلم ولداً للأمير محمد، جميل الصورة، فقال له: كيف حالك مع هذا الرشأ؟ فقال: لا أزال أشرب خمر عينيه فلا أروى، وهو يسقينها دائماً. وأنشأ يقول:
صناعة عيني السهاد وإنما ... صناعة عينيه الخلابة والسحر
ولو بفناء الدهر أرجو نواله ... إذاً لوددنا أنه فنى الدهر
وتوفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين عن أربع وتسعين سنة، وجعله الحجاري أحد أئمة النحاة اللغويين.
أبو محمد
عبد الله بن بكر بن سابق الكلاعي
وقيل البكري المعروف بالنذل
من تاريخ ابن حيان: أن مؤمن بن سعيد لقبه بذلك، وكان مؤدباً بالنحو، عالماً باللسان، مبرزاً في الشعر، أديباً بليغاً.
أدب أولاد الأمير عبد الرحمن بن الحكم، وكان يحب الغلمان وهو القائل من قصيدة في الأمير المذكور:
أيرجو المشركون لهم بقاء ... وقد عزم الأمير على الجهاد
ومن لطيف شعره قوله:
إذا لم يكن لي من ضميرك شافع ... إليك فإني ليس لي منك ناصر
ألان لداود الحديد بقدرة ... مليك على تليين قلبك قادر
صبرت ومالي بالتصبر طاقة ... فيا ليت قلبي مثل قلبك صابر
وفارقتني فالدار غير بعيدة ... وأوحش شيء أن يفارق حاضر
وله من شعر:

وما ضمني يوماً وإياك مجلس ... من الدهر إلا وهو لي منك غائظ
وإني لأغني الناس عن كل مجلس ... يلاحظني فيه على الكره لاحظ

أبو عثمان سعيد بن الفرج
المعروف بالرشاش
مولى بني أمية القرطبي اللغوي
من تاريخ ابن حيان: أنه كان ما آدب الناس في زمانه، وأقومهم على لسان العرب، وأحفظهم للغة، وأعلمهم بالشعر. وحكى عنه أنه كان يحفظ أربعة آلاف أرجوزة، وكان شديد التقعير في كلامه، وقد ضرب به المثل في الفصاحة في الأندلس، كما ضرب ببكر الكناني رسيله. ولما لحقته سعاية عند نصر خصى الأمير عبد الرحمن، وأمر بضربه، جعل يستغيث ويقول: تحنن علي أبا الفتح سيدي! شيخ كبير يفن أبق علي ولا تسط بي. ورحل إلى المشرق، وحج ودخل بغداد، وروى عن الأكابر، وقفل، فسكن مصر، ثم القيروان، إلى أن بلغه أن عبد الرحمن ولي سلطنة الأندلس، وكانت بينهما وصلة، فوفد عليه ، فرعاه، وقربه، وأكثر الرشاش مدحه، وله يقول:
أصبحت لا أحسد إلا امرءاً ... ينال من قربك ما أحرمه
وذكره معاوية بن هشام، وعبادة، والحجاري ووصفه بالتندير، وهو القائل في ابن الشمر:
إنني أكره الهجاء ولك ... ن إلى الله في هجائك قربه
أبو مروان عبد الملك بن سراج
ابن عبد الله بن محمد بن سراج
من الذخيرة: أن جده سراج بن قرة الكلابي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصاب سلفه سباء صيرهم في موالي بني أمية، وأثنى على عظم بيتهم بقرطبة، وأفرط في تعظيم أبي مروان هذا، وقال في وصفه: محيي علم اللسان بجزيرة الأندلس، قال: ولم ير مثله قبله، ولا يرى بعده، والله أعلم. ولد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربعمائة، وتوفي ليلة الجمعة لثمان خلون من ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ورثاه جماعة، منهم ابن عبدون، وأنشد له ابن بسام:
جدرت فقالوا بها علة ... ستقبح بعد بآثارها!
ألا إنها روضة نورت ... فزادت جمالاً بأنوارها
وأطنب في وصف صاحب القلائد وقال: أودى فطويت المعارف، وتقلص ظلها الوارف، إلا أنه كان يضجر عند السؤال فما يكاد يفيد، ويتفجر غيظاً على الطالب حتى يتبلد ولا يستفيد. وأنشد له من قصيدة في مدح المظفر بن جهور:
أما هواك ففي أعز مكان ... كم صارم من دونه وسنان
وبنى حروب لم تزل تغذوهم ... حتى الفطام ثديها بلبان
في كل أرض يضربون قبابهم ... لا يمنعون تخير الأوطان
أو ما ترى أوتادها قصد القنا ... وحبالهن ذوائب الفرسان
وجعله الحجاري أصمعي الأندلس، وأخبر أن صاحب سفط اللآلئ أثنى عليه وعلى بيته، وذكر أن عبد الملك بن أبي الوليد بن جهور عتبه في كونه جاء لزيارته، وأبو مروان لا يزوره، فقال: أعزك الله، أنت إذا زرتني قال الناس: أمير زار علماً تعظيماً للعلم، واقتباساً منه، وأنا إذا زرتك قيل: عالم زار أميراً للطمع في دنياه، والرغبة في رفده، ولا يصون علمه. فتعجبوا من جوابه.
ابنه أبو الحسين
سراج بن أبي مروان بن سراج
من الذخيرة: اسم وافق مسماه، ولفظ طابق معناه، فإنه سراج علم وأدب، وبحر لغة ولسان العرب، وإليه في وقتنا هذا بحضرة قرطبة تشد الأقتاب، وتنضي الركاب. وأثنى على نظمه ونثره، وأنشد له قوله:
لما تبوأ من فؤادي منزلاً ... وغدا يسلط مقلتيه عليه
ناديته مسترحماً من لوعة ... أفضت بأسرار الضلوع إليه
رفقاً بمنزلك الذي تحتله ... يا من يخرب بيته بيديه!
علماء التاريخ
ابن حيان
ثلب أبا الحزم فقال: والله لقد صدق، وإني والله ما أصلح لهذا الأمر، ولكن مكرهاً لزمته. وحلف عبد الملك بن جهور أن يسفك دمه، فأحضره أبوه أبو الوليد، وقال: والله لئن طرأ على ابن حيان أمر لا آخذن أحداً فيه سواك أتريد أن يضرب بنا المثل في سائر البلدان بأنا قتلنا شيخ الأدب والمؤرخين ببلدنا تحت كنفنا مع أن ملوك البلاد القاصية تداريه وتهاديه؟ وأنشد له نظماً، وقال: سبحان من جعله إذا نثر في السماء، وإذا نظم تحت تخوم الماء.
أبو عبد الله محمد بن الصفار
الأعمى الزمن القرطبي

من بني الصفار المنتمين إلى بني مغيث مولى بني أمية، وهو بيت عظيم بقرطبة. وكان هذا الشيخ باقعة قد أخذ نفسه بالوقوع في الأعراض مأخذ ابن حيان على ما تقدم، وتركته بتونس، فنعي إلى سنة أربعين وستمائة، ولم أر أعجب من شأنه فإنه كان أعمى، معطل اليدين والرجلين، شنيع الخلقة، لا يزال لعابد يسيل ووجه يهتز، وإذا جاذبته أهداب الآداب رأيت منه بحراً زاخراً. وكان آية في الحساب والفرائض مقدماً على أعراض الملوك والوجوه، وحسبك أنه لما قال أبو زيد الفازازي كاتب المأمون بن المنصور ابن يوسف بن عبد المؤمن قصيدته التي أولها: " الحزم والعزم منسوبان للعرب " وكان أنصاره عرب جشم، قال ابن الصفار في مناقضتها قصيدته التي منها في ذكر المأمون عم يحيى بن الناصر ومخاصمة على الخلافة:
وإن ينازعك في المنصور ذو نسب ... فنجل نوح ثوى في قسمة العطب
وإن يقل أنا عم فالجواب له ... عم النبي بلا شك أبو لهب
وشاعت القصيدة، وبلغت المأمون فحرص على قتله، فلما كبس مدينة فاس وفر أمامه منها يحيى بن الناصر وكان ابن الصفار في خدمته اختفى عند عجوز في خوص على قارعة الطريق، وقامت بحاله لما رأته عليه من الأعذار الموجبة للصدقة، وأمر المأمون المنادين في الأسواق بالبحث عنه وتحذير من كتمه بإراقة الدم والإحسان لمن أظهره، وأذكيت العيون عله، فستره الله إلى أن سكنت تلك النائرة، ولحق بإفريقية، فأحسن إليه سلطانها أبو زكريا بن عبد الواحد وأجرى عليه مشاهرة، وجالسه، إلى أن كرهه لما شاهده من كثرة وقوعه في الأحياء والأموات، فحجبه عن مجلسه، ولم يقطع الإحسان عنه.
وسايرته يوماً فأنشدني لنفسه قوله:
لا تحسب الناس سواء متى ... ما اشتبهوا فالناس أطوار
وانظر إلى الأحجار في بعضها ... ماء وبعض ضمنه نار
وقوله:
يا طالعاً في جفوني ... وغائباً في ضلوعي
بالغت في السخط ظلماً ... وما رحمت خضوعي
إذا نويت انقطاعاً ... فاعمل حساب الرجوع
ومن نثره: لا يتهلل عند سؤاله ولا يأخذ رائده من أدبه ولا ماله. أيها الغبي المتعثر في ذيول جهله وجاهه، الأشوس الطرف من غير حول، والرافع أنفه دون شمم، الساري إلى العلياء سرى العين، الذي لا يظفر منه قاصده المخدوع بغير التعب والمين وعض اليدين. من دلك علي، ومن هداك إلي، متى استدعيتني إلى ربعك، وتكلفت من التجمل لحضور الفضلاء ما ليس في طبعك، وما العجب منك حين رغبت عن كنيف في تلطيخ بطيب، بل العجب ممن كان في طيب، فجاء يتلطخ بكنيف. وكأني بك في منزلك العامر بالحرمان، الغامر من الفضل والإحسان، وقد قعدت في بهوه، ونفخت شخصك الضئيل في زهوه. ومنه: ذو اللحية الطويلة، والجثة الضئيلة، الوسخ الأثواب، العرى من الآداب، المرسل لسانه في كل عرض، الآخذ في كل قبيح بالطول والعرض.
ومنه: ثم قلت لي ابدأ بمذهب أبي حنيفة أو بمذهب امرئ القيس فكدت والله أضرط ضحكاً، ولا أخاف في تبعة الأدب دركاً. فاتق الله بستر نفسك، ولا تكن في غدك أجهل منك في أمسك.

الأديب أبو محمد
عبد الحق الزهري القرطبي
من حفاظ مؤرخي الأندلس وأدبائها، جالسته كثيراً في إشبيلية ومالقة، وكان والدي يكرمه لحفظه، والذي في ذكري الآن من شعره قوله من قصيدة في ذم بني هود حين خلعوا عن إشبيلية:
كأنما الراية السوداء قد نعبت ... لهم غراباً ببين الأهل والولد
مات الهدى تحتها من فرط روعته ... فأظهر الدهر منها لبسة الكمد
علماء الفلسفة
سعيد بن عبد الرحمن بن محمد
بن عبد ربه القرطبي
هو ابن أخي أبي عمر بن عبد ربه صاحب العقد، ذكره صاعد في كتاب طبقات الأمم وأخبر أنه فصد يوماً، فبعث إلى عمه المذكور راغباً في الحضور عنده، فلم يسعفه، فكتب له:
لما عدمت مؤانساً وجليسا ... نادمت بقراطاً وجالينوسا
وجعلت كتبهما شفاء تفردى ... وهما الشفاء لكل برح يوسى
فجاوبه عمه:
ألفيت بقراطاً وجالينوسا ... لا يأكلان ويرزآن جليسا
فجعلتهم دون الأقارب جنة ... ورضيت منهم صاحباً وأنيسا

وأظن بخلك لا يرى لك تاركاً ... حتى تنادم بعدها إبليسا
قالوا: وكان جميل المذهب، طيباً، شاعراً، منقبضاً عن الملوك، وهو القائل:
أمن بعد غوصي في علوم الحقائق ... وطول انبساطي في مواهب خالقي
وفي حين إشرافي على ملكوته ... أرى طالبا رزقاً إلى غير رازق
ومن المسهب: أنه كان آية في فنون العلم القديم، لكنه ثقيل الطلعة، سيئ الأدب والمقابلة، ولذلك كان عمه أبو عمر يكرهه. وذكر أن الناصر المرواني استحضره لينظر عليه في العلم القديم، فقابله من الكلام العامي الجلف بما كرهه من أجله، وأبعده.

أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط
الرعيني الأعمى القرطبي
من المسهب: أن أباه كان يبيع الحنطة بقرطبة، ونشأ هذا الأعمى نشأة أعانته على أن بلغ غاية من العلم الحديث والعلم القديم. وكان بنو ذكوان هم الذين كفوه مؤونة الدهر، وفرغوه للاشتغال بالعلم. وكان الغالب عليه المنطق حتى اتهم في دينه ونفي عن قرطبة. وله في فراره واستقراره بالجيزة الخضراء تحت كنف أميرها محمد بن القاسم بن حمود قصيدة، منها:
تفرغت من شغل العداوة والظعن ... وصرت إلى دار الإقامة والأمن
أمقتولة الأجفان من دمع حزنها ... أفيق فإني قد أفقت من الحزن
وما عن قلى فارقت تربة أرضكم ... ولكنني أشفقت فيها من الدفن
قال: وكفاك من شعره قوله من قصيدة في علي بن حمود العلوي:
راحت تذكر بالنسيم الراحا ... وطفاء تكسر للجنوح جناحا
مرت على التلعات فاكتست الربى ... حللاً أقام لها الربيع وشاحا
فانظر إلى الروض الأريض وقد غدا ... يبكي الغوادي ضاحكاً مرتاحا
والنور يبسط نحو ديمتها يداً ... أهدي لها ساقي الندى أقداحا
وتخاله حيي الحيا من عرفه ... بذكيه فإذا سقاه فاحا
روض يحاكي الفاطمي شمائلاً ... طيباً، ومزن قد حكاه سماحا
ومن نثره: زففتها إليك بنت ليلتها عذراء، وجلوتها عليك كريمة فكرها حسناء، تتلفع بحبرة حبرها، وتتبختر في شعار شعرها، مؤتلف بين رقها ومدادها، ومجتمع في بياضها وسوادها: " الليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس " .
وذكر: أن الوزير أبا بكر بن ذكوان مرض له ولد جميل طبه ابن الحناط، فلما خلا به يوماً سأله عن حاله، فضجر الغلام من طول العلة، فقال: أعرف والله دواء يريحك، قال: وما هو؟ قال: تقبلني، وآتيك به، فاغتاظ الغلام، ثم سهل عليه ذلك التماس الراحة، فقبله وقام ليأتيه بالدواء. فقال: عمدته خيار شنبر، وها هو حاضر! وكشف عن ... وقد قام، فاغتاظ الغلام، وضربه بزبدية، كانت أمامه، فخرج هارباً. وبلغت الحكاية أباه، فضحك منها وتمثل:
كيف يرجو الحياء منه جليس ... ومكان الحياء منه خراب
وقيل له: كيف كان هشام المعتد؟ فقال: كيفي من الدلالة على اختياره أنه استكتبني واتخذ ابن شهيد جليساً!! وكان ابن الحناط أعمى وابن شهيد أصم.
ومن المتين لابن حيان: وفي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة نعى إلينا أبو عبد الله بن الحناط الشاعر الأديب القرطبي بقية الأدباء النحارير في الشعر. هلك بالجزيرة الخضراء في كنف الأمير محمد بن القاسم بن حمود، وكان من أوسع الناس علماً بعلوم الجاهلية والإسلام وسائر التعاليم. ووصفه بفساد الدين، وأنه ولد أعشى الحملاق، ثم طفئ نور عينيه بالكلية بعد القراءة الكثيرة، فازداد براعة، وكان يتطبب عنده الملوك والخاصة. وقال في وصفه ابن بسام: زعيم من زعماء العصر، ورئيس من رؤساء النظم والنثر، وبينه وبين أبي عامر بن شهيد مناقضات نظماً ونثراً أشرقت أبا عامر بالماء، وأخذت عليه بفروج الهواء، ومما أنشده له قوله في مخاطبة المظفر بن الأفطس ملك بطليوس:
كتبت على البعد مستجدياً ... لعلمي بأنك لا تبخل
فجاء الرسول كما اشتهي ... وقد ساق فوق الذي آمل
وما كان وجهك ذاك الجميل ... ليفعل غير الذي يجمل
وقوله من قصيدة في علي بن حمود:
لوينا بأعناق المطي إلى اللوى ... وقد علمتنا البث تلك المعالم

سقى منبت اللذات منها ابن هاشم ... إذا انهملت من راحتيه الغمائم
إمام أمام الدين حد حسامه ... طرير ومنه في يد الله قائم
ويزهر في يمناه زهر من الظبا ... له من رءوس الدارعين كمائم
بكل خميس طبق الأرض نقعه ... وضيق مسراه الجلاد الصلادم
كأن مثار النقع إثمد عينه ... وأشفار جفنيه الشفار الصوارم
وقوله من قصيدة في القاسم بن حمود يذكر فيها خيران الصقلبي وقتل المرتضى المرواني لما هزمهما صنهاجة على غرناطة:
لك الخير، خيران مضى لسبيله ... وأصبح ملك الله في ابن رسوله
وفرق جمع الكفر واجتمع الورى ... على ابن حبيب الله بعد خليله
وقام لواء النصر فوق ممنع ... من العز جبريل إمام رعيله
وأشرقت الدنيا بنور خليفة ... به لاح بدر الحق بعد أفوله
فلا تسأل الأيام عما أتت به ... فما زالت الأيام تأتي بسوله

علماء التنجيم
عبد الله بن الشمر بن نمير القرطبي
منجم سلطان الأندلس عبد الرحمن بن الحكم ونديمه
من المقتبس: أنه كان نسيج وحده مجموعاً له من الخصال النبيلة ما فرق في عمر من جميع التعاليم والأدب والشعر والنثر. وكان لطيفاً حلواً يغلب على قلب من شاهده. وصحب عبد الرحمن قبل السلطنة أيام والد الحكم، ولما صار الأمر إليه وفى له ونادمه.
وذكر عبادة: أنه كان قد بشر عبد الرحمن بأن الأمر سيصير إليه من جهة التنجيم، فلما كان ذلك أحسن جزاءه، وأجرى عليه رزقاً للشعر ورزقاً للتنجيم. وكان أيام تمكن نصر الخصى من عبد الرحمن يقل زيارة محمد ابن عبد الرحمن، فلما هلك نصر قال شعراً منه:
لئن غاب وجهي عنك إن مودتي ... لشاهدة في كل يوم تسلم
وما عاقني إلا عدو مسلط ... يذل ويشجي من يشاء ويرغم
ولم يستطل إلا بكم وبعزكم ... وما ينبغي أن يمنح العز مجرم
فنحمد رباً سرنا بهلاكه ... فما زال بالإحسان والطول ينعم
وذكر عبد الله بن الناصر في كتاب العليل والقتيل: أن الأمير عبد الرحمن قال يوماً لابن الشمر على الشراب: ما فعلت غفيرتك التي كانت جرداء، قد صارت أخياطها كالعروق؟ فقال: عملت منها لفائف لبغيلك الأشهب! وكان حينئذ الأمير عبد الرحمن ليس له ما يركب إلا البغيل المذكور، لأنه كان مضيقاً عليه في زمان والده، وكان له أخ مرشح للسلطنة، ولم تتسع حاله حتى هلك أخوه.
وذكر الرازي: أن عبد الرحمن خرج مرة لصيد الغرانيق التي كان مولعاً بها، فأبعد، وكان الشتاء، فقال ابن الشمر شعراً منه:
ليت شعري أمن حديد خلقنا ... أم نحتنا من صخرة صماء
كل عام في الصيف نحن غزاة ... والغرانيق غزونا في الشتاء
إذ نرى الأرض والجليد عليها ... واقع مثل شقة بيضاء
وكأن الأنوف تجدع منا ... بالمواسى لزعزع ورخاء
نطلب الموت والهلاك بإلحا ... ح كأنا نشتاق وقت الفناء
وبدر منه ما أوجب سجنه، فكتب إليه شعراً منه:
قل لمن أمسى بأرض ال ... غرب للخلق ربيعا
لا يضيق لي منك ما قد ... وسع الناس جميعا

وذكر ابن حيان أن الأمير عبد الرحمن كان مصغياً لأحكام التنجيم، ولم يكن عنده في المنجمين مثل ابن الشمر. وغض يوماً من علم المنجمين، وقال: إنه مخرقة ورجم بالغيب، فأراد ابن الشمر أن يقيم له برهاناً على صحته: بأن قال للأمير، اختبر في مقامك بما شئت؟ فقال: إن أنبأتني على أي باب من أبواب هذا المجلس أخرج في قيامي صدقت بعلمك، فكتب ابن الشمر في ورقة مختومة ما اقتضى له الطالع، ودعا الأمير من فتح له باباً محدثاً في غارب المجلس الذي يلي مقعده، ثم خرج منه وترك الخروج من أبواب المجلس الأربعة وفتح الورقة، فوجد فيها ما فعله الأمير، فتعجب، ووصله. ونزل بفحص السرادق أعلى قرطبة وقد قفل من غزاة مزمعاً على الدخول إلى قرطبة صبيحة غده في تعبئة كاملة، فقال له ابن الشمر: لتعلم أنك مغلوب على ذلك، ولا بد لك الليلة من المبيت في قصرك، فقال: والله لأدخلنه، فقال: والله لتدخلنه مكرهاً، ولأكونن في هيئتي شبهك في طريقك إليه، وسوف ترى. فغضب ووكل به، وكان ذلك اليوم مشمساً صائفاً، فما هو إلا أن دنا المساء، فانهمل من المطر وهب من الريح ما ضج له الناس، وتداعوا للدخول لقرطبة، ولم يجد الأمير بداً من مبادرة قصره، وركب في نفر من خاصته، وابن الشمر إلى جانبه يسايره، فوطئت دابة ابن الشمر مسماراً فلم تنهض، فأمر له بفرس من جنائبه بسرجه ولجامه، فركبه، وشكا نفوذ الماء لغفارته التي كان يتوقاه بها ووصله إلى جسده، فأمر له الأمير بممطر خز من مماطره، وقنزعة من قنازعه، صباً عليه، فاستوى والأمير في لبوسه، ومضى يسايره. فلما نزل قال له: يا مولاي كيف رأيت قولي؟ فقال: انطلق بما عليك وتحتك، والصلة لاحقة بك. وكتب ابن الشمر في الحين رقعة فيها:
تحرك حين حركه ... لوقت إيابه القدر
فيا من دونه الحجا ... ب والأستار والحجر
لئن كنت امرءا تخشى ... بوادر زجره البشر
فما يخشاك بهرام ... ولا زحل ولا القمر
وجعله الحجاري رئيس المنجمين بالأندلس، إلى ما حباه الله به من حسن الخلال، التي بأقلها يبلغ الكمال.

علماء الموسيقى
إسحاق بن شمعون اليهودي القرطبي
من المسهب: أحد عجائب الزمان، في الاقتدار على الألحان، وكان قد لازم ابن باجة، وأحسن الغناء بلسانه ويده، وأخذ طرائق كثيرة عن كلب النار واعتبط شاباً وكان له نظم رائق، كفاك منه قوله:
قم هات كأسك فالنعيم قد اتسق ... والعود عن داعي المسرة قد نطق
ولديك من حث الكووس أزاهراً ... في الخز يمرح كالأراكة في الورق
والزهر زهر والرياض سماوها ... والفجر نهر والشقائق كالشفق
وكان كثير المقام، على شرب المدام، وهو القائل:
خبرت العالمين فلم أجد من ... يثير لي المنى غير المدام
تجلى الهم عن فكري وتبدى ... لي اللذات أجمع في نظام
وتطمعني بمالا أرتجيه ... بأحلى من لذاذات المنام
وتخرج بي إذا واليت حثاً ... بها في الشرب من خلق الطغام
ولو أني أحكم لم أذرها ... تحل بغير آقاق الكرام
علماء الطب
أبو عبد الله محمد بن قادم القرطبي
من المسهب: من أطباء قرطبة المشهورين في الدولة المروانية. وأنشد له من قصيدة:
بأي لسان أقتضى شكر نعمة ... مننت بها عفواً ولم أتكلم
وقد كان حالي في أخير ذمائه ... فكنت له مثل المسيح ابن مريم
ولولاك ما كان القريض بنافع ... ولا كان في جيد العلا بمنظم
وله في بدأة قصيدة يرثي بها ولده:
بني بكاك الجود والسيف والقلم ... ولو تستطيع الشهب لم تبد في الظلم
أبو محمد عبد الله بن خليفة القرطبي
يعرف بالمصري لطول إقامته بمصر

من الذخيرة: شيخ الفتيان، وآبدة الزمان، وخاتمة أصحاب السلطان، وكان رحل إلى مصر واسمه خامل، وسماؤه عاطل، فلم يلبث، أن طرأ على الأندلس، وقد نشأ خلقاً جديداً، وجرى إلى النباهة طلقاً بعيداً، فتهادته الدول، وانتهت إليه التفاصيل والجمل، وكلما طرأ على ملك فكأنه معه ولد؛ وإليه قصد، يجري مع كل أحد، ويجول في كل بلد، وتلون في العالم تلون الزمان، وتلاعب بملوك الطوائف تلاعب الرياح بالأغصان، حتى ظفر به المأمون بن ذي النون، فشد عليه يد الضنين. وذكر: أنه اشتهر بالطب، وكان كثير النادرة حاضر الجواب. ووقفت له على شعر أكثره عاطل من حلية البديع. ولما انصرفت الدولة الذنونية تحيز إلى إشبيلية، فأنس المعتمد بمكانه، وجعل له حظاً من سلطانه، وذكر: أنه بقي بعد خلع المعتمد مشتملاً على فضل جدة، إلى أن توفي سنة ست وتسعين وأربعمائة يوم الجمعة منتصف رجب.
وذكر ابن حيان: أنه كان ابن جار له خفاف، وأخذ في ذمه. وأنشد له في المأمون بن ذي النون.
وقد كان لي في مصر دار إقامة ... ولكن إلى المأمون كان التشوق
حللت عليه والمكارم جمة ... وسحب العطايا فوقها تتألق
وقوله:
الحب داء دواؤه القبل ... والرسل بين الأحبة المقل
يا حفظ الله ليلة سلفت ... حيت ببدر سماؤه الكلل
بتنا وراح العفاف تلحفنا ... برد وفاء والشمل مشتمل
اثنان من شدة التعانق قد ... صارا كفرد بالروح يتصل
حتى إذا غرة الصباح بدت ... وجفنة بالعبير مكتحل
فارقني وهو خائف وجل ... نشوان من خمرة الصبا ثمل
عيناي منه قريرة أبداً ... والنار بين الضلوع تشتعل
ومدح بلقين بن حماد صاحب القلعة، ومدح باديس بن حبوس، صاحب غرناطة، بقصيدة منها:
رسخت أصول علاكم تحت الثرى ... ولكم على خط المجرة دار
تبدو شموس الدجن من أطواقكم ... وتفيض من بين البنان بحار
؟إن المكارم صورة معلومة ... أنتم لها الأسماع والأبصار
ذلت لكم قمم الخلائق مثلما ... ذلت لشعري فيكم الأشعار
فمتى مدحت ولا مدحت سواكم ... فمديحكم في مدحه إضمار
وقوله:
ألا يا هند قد قضيت حجى ... فهات شرابك العطر العجيبا
فقد ذهبت ذنوبي في طوافي ... فقومي الآن نقترف الذنوبا
خلطنا ماء زمزم في حشانا ... بماء الكرم فامتزجا قريبا
وقوله:
أي هلال أطل فينا ... مطلعه الطوق في الجيوب
كحيل طرف ثقيل ردف ... مبسمه اللؤلؤ الرطيب
يقودنا كيف شاء طوعاً ... لأن أعوانه القلوب
وذكر الحجاري ذم ابن حيان له، وقال: ما كان له عنده ذنب إلا جواره، فبئس الذمام. وذكر: أنه قصد بعد ابن ذي النون المعتمد بن عباد، فلم يحمده، وكتب له رسالة بعد انفصاله عنه، فيها:
رحلت وفي القلب جمر الغضا ... وهجري لكم دون شك صواب
؟كما تهجر النفس طيب الطعام ... إذا ما تساقط فيه الذباب
وذمه ابن اللبانة في كتاب سقيط الدرر، لأن المعتمد بن عباد كان يعظمه، ويجزل إحسانه له، فلما خلع ظهر منه في حقه قلة وفاء وادعى أن جارية ولدت من ولد المعتمد في ملكه، وأنها غصبت له، فأخذها، ومعها ولد صغير من ولد المعتمد استعبده، وصار يصرف فيما يصرفه فيه العبيد.
؟

ومن كتاب مصابيح الظلام في حلى الناظمين لدر الكلام
أبو الأجرب جعونة الكلابي
من المقتبس: أنه كان مداحاً للصميل وزير يوسف بن عبد الرحمن الفهري سلطان الأندلس، أفنى فيه قوافيه، وكان الصميل قد أغلظ القسم على نفسه ألا يراه إلا أعطاه ما حضره، فكان أبو الأجرب يعتمد إغباب لقائه، وكان لا يزوره إلا مرتين في العيدين، وكان قد هجاه وهجا قومه، فلما حصل في يده عفا عنه فنسخ هجوه بمدحه.
قال: وكان فارساً شجاعاً، يدعى عنترة الأندلس، لم يلحق دولة بني أمية. قيل إنه مات قبل وقعة المصارة، التي كانت لعبد الرحمن على يوسف.
ومن الجذوة: أنه جعونة بن الصمة، وأنشد له:

ولقد أراني من هواي بمنزل ... عال ورأسي ذو غدائر أفرع
والعيش أغيد ساقط أفنانه ... والماء أطيبه لنا والمرتع
وجعله ابن حزم في طبقة جرير والفرزدق وعصرهما وذكر الحجاري أنه من العرب الطارئين على الأندلس، كان يرحل ويحل بأكناف قرطبة.

مؤمن بن سعيد بن إبراهيم بن قيس
مولى الأمير عبد الرحمن المرواني الداخل
من المقتبس: أنه فحل شعراء قرطبة، كان يهاجي ثمانية عشر شاعراً، فيعلوهم، وكانت آفته التهكم بالناس، وتتبع زلاتهم، وتمزيق أعراضهم فرموه عن قوس واحدة. ورحل إلى المشرق، فلقي أبا تمام الطائي، وروى عنه شعره، وكان يقرأ عله بالأندلس، وقرأ عليه يوماً أحد المتعلمين قول حبيب:
أرض خلعت اللهو خلعي خاتمي ... فيها وطلقت السرور ثلاثا
فقال له: من سرور هذه أصلحك الله؟ فقال: هي امرأة حبيب، وقد رأيتها ببغداد! وحمله طبعه الذميم على أن أفسد حاله عند مستخلصه هاشم بن عبد العزيز وزير الأمير محمد. ولما أسر هاشم شمت به، وقال مخاطباً أبا حفص، ابن عم هاشم وعدوه:
تصبح أبنا حفص على أسر هاشم ... ثلاث زجاجات، وخمس رواطم
وبح بالذي قد كنت تخفيه خفية ... فقد قطع الرحمن دولة هاشم
وقال هذه القصيدة سراً، وصنع على وزنها قصيدته:
متى ترجع الأيام دولة هاشم ... ويشملها نور العلا والمكارم
ولم يخف على هاشم وبنيه قصيدة الشماتة، فلما عاد هاشم إلى وزارته، وخلص من الأسر نصب له حبائل السعاية عند الأمير محمد، حتى أطال حبسه الذي أدى به إلى الهلكة، ولم يفده ما أطاله في حبسه من النظم والنثر، وأكثر التشفع بجد هاشم: محمد بن جهور، فلم يفده، فأقذع في هجائه. وفي أبي حفص المتقدم الذكر يقول:
أخاطر في هوى عمر برأسي ... أليس أعز من رأسي علياً؟!
ولما كسر أهل سجن قرطبة السجن، وفروا منه، رغب مؤمن عن الفرار، وظن أن ذاك يخلصه، فلما وقف هاشم بباب الحبس لمعاينة من فيه، والنظر في أمره، خرج إليه مؤمن، وأستعطفه، فلم يلتفت إله، وأوصى السجان بإيصاده. فقتله اليأس إلى ستة أيام، ليلة الثلاثاء لأربع خلون من رجب سنة سبع وستين ومائتين.
وجعله الحجاري دعبل الأندلس.
وأنشد له الحميدي:
حرمتك ما عدا نظراً مضراً ... بقلب بي أضلاع مقيم
فعيني منك في جنات عدن ... مخلدة، وقلبي في الجحيم
محمد بن عبد العزيز العتبي
من المسهب: أنه من نبهاء شعراء دولة الأمير محمد، وكان مخصوصاً بالقاسم بن الأمير محمد، كما كان مؤمن بن سعيد مخصوصاً بمسلمة بن الأمير محمد، وكان بينهما مهاجاة.
وله حكايات مع القاسم، منها: أنه ناوله قدحاً كبيراً ليشربه من يده، فقام واقفاً، وصب القدح في حلقه، من غير أن يباشر شفة الكأس، فأمر أن يملأ له دنانير.
وأنشد:
إذا نفح النسيم فقم وباكر ... رياض النهر والأنداء تهمى
ولا تشرب بنات الكرم إلا ... على روض ند وبنات كرم
أبو عبد الله محمد بن مسعود القرطبي
من الذخيرة: كان ظريفاً في أمره، كثير الهزل في نظمه ونثره، وأراه فيما انتحاه تقيل منهاج ابن حجاج بالعراق، فضاقت ساحته، وقصرت راحته، وأعياه الصريح فمذق، ولم يحسن الصهيل فنهق، ومما أنشد له:
وخرجنا كما دخلنا بلا فل ... س ولكن ربحت صفع قفاء
مد في ذا المكان ذا الحرف لما ... مده صفع ظالم ذي اعتداء
وجعله الحجاري من مشهوري شعراء المائة الخامسة.
؟أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي القرطبي كان عندي من الشعراء، ثم وقفت على ذكره في خط الصاحب كمال الدين بن أبي جرادة، ووصفه بأنه كان مقرئاً نحوياً، وأنه سمع الحديث بقرطبة على أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتاب، ودخل حلب، وأقرأ بها، ورحل إلى الموصل، ودخل أصفهان، وتوفي سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بالموصل. وذكر ابن عساكر: أنه توفي يوم الجمعة سنة سبع وستين وخمسمائة وأنشد له الصاحب:
عرج على منزل الأحباب يا حادي ... بباب أبرز حيث الكوكب الهادي
لعلنا نلتقي ليلاً بهم وعسى ... نلقي إليهم حديثاً ليس بالبادي

يا حادي العيس لا تعجل وها كبدي ... ودمع عيني عن ماء وعن زاد

أحمد بن مسعود بن محمد الخزرجي القرطبي
ذكر لي أنه من شعراء قرطبة الذين رحلوا إلى المشرق، وأنشدت له:
من لي به ذو صلف زائد ... يمطلني ناظره ديني
وكلما وافيته طالباً ... ألفيته منكسر العين
ثم وقفت على ذكره في خط. الكمال بن الشعار المؤرخ، موصوفاً بالتفنن في العلوم الكثيرة، وأنه صنف كتباً في الطب والنحو وأصول الدين، وكان شافعياً، وسكن دنيسر، وانتفع به أهلها، وبها مات سنة إحدى وستمائة.
قال: وأنشدني له أبو الحسن علي بن يوسف بن محمد بن الصفار المارديني الكاتب الشاعر بإربل، قال: أنشدني أبو العباس الخزرجي لنفسه:
وفي الوجنات ما في الروض لكن ... لرونق زهرها معنى عجيب
وأعجب ما التعجب منه أني ... أرى البستان يحمله قضيب
وقوله:
ونمت بنا في الليل أنوار وجهه ... فمد علينا في ذوائبه سترا
أبو الحسن علي بن يوسف
بن خروف القرطبي
شاعر مشهور في الغرب والشرق، مدح بسبتة ملكها إدريس بن يوسف ابن عبد المؤمن بقصائد، منها قوله من قصيدة في وصفها:
خذها إليك عروساً لا كفاء لها ... تزيد جدتها ما دامت الحقب
عذراء أخجلها ما فيك من عظم ... حتى لكادت من العلياء تنتقب
إن لم تكن أحرزت من ربها حسباً ... فإن مدحك في أثنائها حسب
ومدح بمراكش وزيرها أبا سعيد بن جامع بقصيدة منها:
ضمنت لعيني يوم لحت لأفقها ... بأن لا ترى وجهاً من الدهر يسود
ومن مشهور شعره قوله:
لا تظهرن صفاء ... ولا لمن تصطفيه
لولا صفاء زجاج ... لم ينظر البول فيه
وقوله:
وكان غريب الحسن قبل عذاره ... فلما التحى صار الغريب المصنفا
وقوله وهو المرقصات في راقص:
ومنوع الحركات يلعب بالنهى ... لبس المحاسن عند خلع لباسه
متأوداً كالغصن وسط رياضه ... متلاعباً كالظبي عند كناسه
بالعقل يلعب مقبلاً أو مدبراً ... كالدهر يلعب كيف شاء بناسه
ويضم للقدمين منه رأسه ... كالسيف ضم ذبابه لرئاسه
وأنشد له صفوان في زاد المسافر في غلام ضربته قوس في فمه:
لا زرت يا زوراء كف حلاحل ... يوم الهياج ولا رميت نبالاً
نازعت عند الرمى مقلة شادن ... تصمى القلوب ولا تغب نزالاً
فقرعت مبسم ثغره حسداً له ... لما غدا بدراً وكنت هلالا
فبدت جمانة سنة مرجانة ... وغدا قراح رضابه جريالا
وقوله:
بني المغيرة لي في حيكم رشأ ... ظلال سمر كم تغنيه عن سمره
يزهى به فرس الكرسي من بطل ... بإبرة هي مثل الهدب من شفره
كأنها فوق ثوب اخز جائلة ... شهاب رجم جرى والنجم في أثره
وقوله:
ما راق للطرف غير طرف ... قصر في العدو بالظليم
ذى نقط كالنجوم تبدو ... في جنح ليل له بهيم
وقوله:
تبلج صبح الذهن عندي نيراً ... فغارت من الأموال شهب عواتم
ولو كان ليل الجهل عندي حالكاً ... للاحت به مثل النجوم الدراهم
وأنشدت له:
مثلي يسمى أريباً ... مثلي يسمى أديباً
متى وجدت كثيباً ... غرست فيه قضيبا
ولا أبالي خصيبا ... لاقيته أم جديبا
واستدعاه ابن لهيب لدعوة لم يرضها، فقال
دعاني ابن لهيب ... دعاء غير نبيه
إن عدت يوماً إليه ... فوالدي في أبيه
وقال في حلب شعراً منه:
حلبت الدهر أشطره ... وفي حلب صفا حلبي
وقدر أن منيته كانت في حلب بقلعتها، وقد حضر في ليلة لسماع الواعظ تاج العلا الشريف فخرج للإراقة، فسقط في جب طعام، فمات فيه في سنة عشر وستمائة.
وكان قد مدح أبا عبد الله محمد بن عياش كاتب الحضرة بمراكش، فأعطاه شيئاً لم يرضه، فاغتاظ، ورده، وقال:

مدحت ابن عياش فجدد لي الذي ... حباني به ما قد تناسيت من كربي
ورددت إليه عظمه لأسره ... وأقبلت أمحو كل ما كان في قلبي
وأصبحت أسمو للمشارق طالعاً ... لأني رأيت الشمس تنحط في الغرب
ورحل إلى المشرق.

أبو جعفر أحمد بن شطرية القرطبي
سابق في حلبة شعراء المائة السابعة، اعتبط شاباً، وله في ناصر بني عبد المؤمن قصائد جليلة، منها قصيدته التي مدحه بها حين جاز إلى الأندلس:
كذا يشرف الطالع الأسعد ... ويسمو لأملاكه السيد
ويرعى أقاصي أقطاره ... قريب له عزمة تبعد
إذا جمعت فكرها للوغى ... تفرق من سربه الفرقد
ومما اخترته من شعره قوله:
رأوا ميلاً في قده فتباشروا ... وقالوا: اجنه مهما تمايل وارجحن
وما علموا أن الهلال وقد غدا ... ممالاً بعيد لا ينال مدى الزمن
وقالوا أتخشى فترة في جفونه ... فقلت أما تخشى من الفترة الفتن
وقوله:
ستر الصبح بطره ... وجرا الليل بغره
وأرى من وجهه في ... قده غصناً وزهره
كمل الله لدينا ... من محياه المسره
كعبة للحسن في ك ... ل فؤاد منه جمره
جاءني كالظبي في أش ... راكه إذ حل شعره
مبدياً وجهاً كأن الل ... يل يجلو منه بدره
ومضى عني ولكن ... بعد ما خلف نشره
فتراني في افتضاح ... كلما أخفيت سره
وقوله:
انظر إلى النهر الذي ... لا ينقضي خفقانه
أمواجه في دوحه ... ماجت بها أشجانه
مرحت به في ملعب ... مترادف فرسانه
أمسى جموحاً إذ غدا ... بيد النسيم عنانه
قد درعته الريح إذ ... طعنت به أغصانه
وقوله:
وافى بنرجسة وطر ... ف الشمس يغمضه المغيب
فكأنما حتم علي ... ه لزوم عين من رقيب
وقوله:
يا منكراً ذكر من أهواه حين جلا ... كأس المدام على عيني ونظمها
لولا الذي في كؤوس الراح من حبب ... يحكي ثناياه ما قبلت مبسمها
وقوله:
أيا مانعى في يقظة وهو باذل ... إذا النوم أعماني لكل وصال
وددت بأن الدهر أجمع ليلة ... لأني لا أحظى بغير خيال
أبو جعفر أحمد بن قادم القرطبي
بيت بني قادم، مشهور بقرطبة، وقد تقدم في الأطباء منهم أبو عبد الله بن قادم، وجد أبي جعفر لأمه أبو جعفر الوزغي الأديب المشهور. وكان أبو جعفر بن قادم آية في الشعر والتوشيح، أولع الناس بغلام صقيل الخد، أو بغلامة قائمة النهد، اجتمع به عمي يحيى بقرطبة، واستنشده من شعره، فأكثر من ذكر الغلمان والجواري فقال له: يا أبا جعفر، كأنك وكلت على التغزل في الغلمان والجواري؟! فقال على الفور: فترى أنت يا سيدي من الرأي أن أقصر نظمي على كل تيس مثل سيدي وأشباهه؟ قال: فكدت والله أموت من الضحك، وعذرته، فإني كنت كما وصلت من السفر، ولي لحية كبيرة ضخمة، و على حلية الجندية، وليس لي عبارة الأدباء. ومما اخترته مما كتبه عنه من شعره قوله، وقد جلس مع ندماء في جنة يشقها نهر، فرمى أحدهم فيه بطبق ورد نثره عليه:
يا حبذا الروض النضير يشقه الن ... هر الذي من فوقه الورد افترق
شبهته بالأفق شق ظلامه ... نهر الصباح وفوقه قطع الشفق
وقوله:
بأبي وغير أبي غري ... ب اللون يخجل في الكلام
ماء الشباب بوجهه ... يبدي لنا مزج المدام
؟خيلانه كحبابها ... ولثامه بدل الفدام
ألقى به كسحابة ... سفرت عن البدر التمام
وفى لنا ألفاً وكل ... م فانثنى أدباً كلام
فلثمت منه موطئ الن ... عل الذي فوق الرغام
وطفقت أملأ جانبي ... ه من اعتناق واستلام

فكأنني قد طفت من ... ه هناك بالبيت الحرام
ووردت زمزم كوثر ... ولثمت أركان المقام
وأنا أميله ويأ ... بى قده إلا قوام
كالبان تعطفه فإن ... خليته في الحين قام
يا خصره! يا جيده! ... كم من وشاح أو نظام
متكفل بهما اعتنا ... قي عند ما يرخى الظلام
يا عاذلي كم ذا تلي ... م بما تزخرف من ملام
وتقول لي: ماذا يفي ... د المهر من دون اللجام؟
والغصن إن لم يبد في ال ... أوراق خلته الحمام
هو ما علمت قريب عه ... د بالمهاد وبالفطام
لا يعرف الحيل التي ... جمعت لمن خبر الأنام
؟غر شققت حجابه ... عنه كما انشق الكمام
لم يدر قبلي ما الصدو ... د ولا الوصال ولا الغرام
؟قد الحسام فإن يجز - ه صار يصلح للحسام ورثاه والدي بقصيدة أولها:
عليك سلام الله قبر ابن قادم ... على بعد داري مودعاً في الغمائم

أبو جعفر أحمد بن رفاعة القرطبي
من مشهوري شعراء قرطبة في المائة السابعة، وهو أيضاً ممن اعتبط شاباً، اجتمع به عمي يحيى، وكتب عنه ما منه قوله - وهو كاف في الدلالة على جلالة قدره - :
ضربت عليك المكرمات رواقها ... وثنت عليك المعلوات نطاقها
أوسعت أبناء الزمان مكان ما ... قد كان قبلك عن سواهم عاقها
فلو الحمائم أفصحت لمسائل ... زعمت بأنك ملبس أطواقها
ومن كتاب ذهبية المساء في حلى النساء
مهجة بنت التياني القرطبية
من المسهب: أن أباها كان يبيع التين، وكانت هي تدخل عند ولادة بنت المستكفي الشاعرة، وكانت من أجمل نساء زمانها، وأخفهن روحاً، فعلقت بها ولادة، ولزمت تأديبها، إلى أن صارت شاعرة، وهجت ولادة، وزعمت أنها ولدت وليس لها بعل، فقالت ما نقص عنه ابن الرومي:
ولادة قد صرت ولادة ... من دون بعل، فضح الكاتم!
حكت لنا مريم لكنه ... نخلة هذي ذكر قائم
قال: ومما تقدمت به فحول الذكران قولها:
لئن حلأت عن ثغرها كل حائم ... فما زال يحمي عن مطالبه الثغر
فذلك تحميه القواضب والقنا ... وهذا حماه من لواحظها السحر
الحلة
من كتاب الإحكام في حلى الحكام
أول من ذكره أبو عبد الملك أحمد بن عبد البر، في كتاب القضاة: معاوية بن صالح، قاضي عبد الرحمن المرواني، أول سلاطينهم بالأندلس، وقد تقدمت ترجمته في السلك. ونذكر هنا بعده من ولى قضاء الجماعة بقرطبة، إلى أن انتقل قطب الإمامة إلى مدينة الزهراء. ثم نذكر قضاة الفتنة حين عاد القطب إلى قرطبة، وخرجت الزهراء والزاهرة.
نصر بن طريف
مولى عبد الرحمن المرواني الداخل
من كتاب ابن عبد البر: أنه تربى معه، وتأدب بأدب الملوك، واستحق عنده خطة القضاء، لما كان خير أهل زمنه، فكان يستقضيه عاماً، ومعاوية بن صالح عاماً، وتوفي في مدة هشام أول ولايته.
مصعب بن عمران
من كتاب ابن عبد البر: أنه شامي الأصل، دخل الأندلس في مدة عبد الرحمن الداخل، وكان راوية عن الأوزاعي لا يتقلد مذهباً، ويقضى بما يراه صواباً، وكان خيراً، وسجل على أحد رجال الأمير هشام في دار أخرجه عنها، فشكاه إلى الأمير، وطمع أن يأمره بحله فقال الأمير: والله لو سجل علي في مقعدي هذا لخرجت عنه. أقره الحكم بعد أبيه هشام حتى مات مصعب.
أبو بكر محمد بن بشير المعافري

من كتاب ابن عبد البر: أنه ولاه الحكم بعد وفاة مصعب، وهو من أهل باجة، رحل وحج، وسمع علماً كثيراً. كان يكتب لأحد الوزراء، فأشار به على الحكم فاستدعاه، فمر في طريقه بعابد كان فله صديقاً، فأخذ معه في أمره، فقال له العابد: اصدقني في ثلاثة أسألك عنها: كيف مدح الناس وذمهم من قلبك؟ وكيف حبك في أن يخدمك الفتيان، وتكثر بين يديك الألوان؟ وكيف حبك للباس الحسن وركوب الفاره؟ فقال ابن بشير: أما مدح الناس وذمهم فما أبالي من مدحني أو ذمني في الله عز وجل، وأما أن تخدمني الفتيان وتكثر بين يدي الألوان فما أجد قلبي يتوق إلى ذلك ولا يشتهيه، وأما الركوب واللباس فما أفضل على ملبسي ومركوبي شيئاً سواه أبداً، قال: فاقبل القضاء ولا بأس عليك. فلما وصل قبل القضاء على ثلاثة شروط: نفاذ الحكم على كل أحد، وإذا ظهر له العجز من نفسه أعفى، وأن يكون رزقه من الفيء. وكان يدخل المسجد، وعليه رجاء معصفر، وحذاء صرار، ولمة مسرحة مدهونة، فيخطب على المنبر، فإذا رام أحد من دينه شعرة فالثريا أقرب إليه. وكان لا يجالسه أحد إذا قعد للقضاء، ولا يكالمه، ولا يسايره، ولا يخلو به في داره، وله طوابع من وقف عليها بادر إلى مجلس الحكم. واحتاج سعيد الخير بن عبد الرحمن الداخل إلى شهادة سلطان الأندلس الحكم وهو ابن أخيه، فردها القاضي، فركب إلى ابن أخيه وقال: اليوم ذهب سلطاننا من الأندلس، قاضيك الذي وليته يرد شهادتك، فقال: القاضي رجل صالح فعل ما يجب عليه ولست أعارضه.
وأول سجل سجل به على الوزير الذي سعى في ولايته، فشكاه إلى الحكم، فقال له: أنت اخترته، ولكن امض إليه في منزله. فإن أوصلك إلى نفسه، وخرج إليك فقد جعلت عزله بيدك، فلما استأذن عليه خرج إذن القاضي بأن يصل إلى مجلس الحكم، ورجع الوزير خائباً. فأرسل له: والله لأطلبن دمك، فكان جواب القاضي: أما أنا فلست أقتله إلا بقلمي فزاد غبطة عند الحكم. وكان بقي بن مخلد يثني عليه، ويقول: له في قضائه حقائق لا يقارن فيها إلا بمن تقدم من صدر هذه الأمة واستحقت أم ولد عند الحكم، فألزمه ابن بشير أداء ثمنها إلى مستحقها. وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة.

أبو القاسم الفرج بن كنانة
ذكر ابن عبد البر: أن الحكم استقضاه بعد وفاة ابن بشير وكان خيراً، فاضلاً، ذا وقار وسمت يعظم بهما في العيون والقلوب، واستعفى الحكم، فعزله.
أبو مروان عبيد الله بن موسى
من كتاب ابن عبد البر: أن الحكم ولاه أول سنة إحدى ومائتين إلى أن مات سنة أربع ومائتين، وطلب الاستعفاء فلم يعفه، وقال له: إذا كان الأمير يجور والقاضي يجور فأين يجد الناس الراحة؟ توفي سنة أربع ومائتين.
أبو محمد حامد بن يحيى
من الكتاب المذكور: أن الحكم ولاه بعد عبيد الله إلى أن توفي الحكم. وتوفي في أول مدة عبد الرحمن بن الحكم سنة سبع ومائتين. وكانت فتيا قضاة الحكم تدور على زياد بن عبد الرحمن وعيسى بن دينار ويحيى بن حصن.
أبو نجيح مسرور بن محمد
من الكتاب المذكور: استقضاه عبد الرحمن سنة سبع ومائتين، وتوفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وكان من مواليه. أحسن السيرة، وخطب في الاستسقاء فقال: يا أيوب البلوطي! عزمت عليك حيث كنت لتقومن، فلم يقم إليه إلا بعد أن أقسم عليه في الثالثة، وقال: يا هذا، أشهرتني، أما كنت أدعو حيث أنا؟! ثم رفع رأسه القاضي فقال: اللهم إنا نستشفع إليك بوليك هذا، وألح بالدعاء، وكثر الضجيج والبكاء، فلم ينصرفوا إلا وأحذيتهم في أيديهم من كثرة المطر، وطلب أيوب بعد ذلك فلم يوجد.
أبو عثمان سعيد بن سليمان
من الكتاب المذكور: أصله من فحص البلوط، وكان عم سليمان بن أسود القاضي، وكان صليباً مهيباً، خطب بخطبة واحدة طول أيامه لم يبدلها، وخرج إلى الاستسقاء، فلما بدأ خنقته العبرة، فلم يكمل الاستسقاء، وصلى وانصرف، فسقى الناس في ذلك النهار وولى القضاء مرتين لعبد الرحمن بن الحكم.
أبو بكر يحيى بن معمر

من الكتاب المذكور: أصله من إشبيلية، استقدم عبد الرحمن وولاه القضاء، وكان صالحاً، وقدم ليلة عيد، وكانت توضع للإمام عنزة في المصلى، فباكر أهل الدهاء والحركة واصطفوا إلى العنزة، ليختبروا خطبته وينتقدوا عليه، فلما نظر إليهم عرف بهيئاتهم أنهم بالصفة التي كانوا بها، فقال للقومة: إني أرى الناس قد تزاحموا، فقدموا هذه العنزة ليتسعوا، فقدموها وطاش أوساط الناس وأحداثهم يتقدمون كباً وجرياً مع العنزة، وتثاقل أولئك عن الخفوف، فصار حول القاضي من لا مئونة عليه منهم، وخالف شيخي الفقهاء: يحيى وعبد الملك، فانقبضا عنه، فعزل في آخر سنة تسع ومائتين، فركب بغلته وجعل خرجه تحته، وانصرف، وقال لمن صحبه: يا أهل قرطبة! كما جئناكم كذلك ننصرف عنكم.

أبو عقبة الأسوار بن عقبة
من الكتاب المذكور: أنه لما عزل ابن معمر أشار يحيى بن يحيى على الأمير عبد الرحمن به، وكان صالحاً، فاضلاً، عاقلاً، مسمتاً، حسن الحكم، وتوفي وهو قاضي، سنة ثلاث عشرة ومائتين.
أبو إسحاق إبراهيم بن العباس الأموي
من الكتاب المذكور: أنه جد بني أبي صفوان، وكان عاقلاً، فاضلاً مسمتاً، وكان عبد الرحمن قد عزم على أن يولى القضاء بعد الأسوار رأس الفقهاء يحيى بن يحيى، فامتنع، وقال له: أشر علي بمن أوليه، فأشار عليه بإبراهيم، فأحسن الحكم، إلا أنه صار طوعاً ليحيى، فرفع رافع لعبد الرحمن: أن يحيى قد ملك الأندلس، وقد مكنه الأمير، والناس له طوع، وهو عامل على أخذ البيعة لهذا القرشي القاضي، وأن يخلع الأمير، أبقاه الله، فلينظر لنفسه فبعث في عبد الملك بن حبيب مناقض يحيى، فأخرج له البطاقة، واستنصحه، فقال: أصلح الله الأمير قد علمت ما بيني وبين يحيى، وليس ذلك بحاملي على أن أقول غير الحق، لا يأتيك من يحيى في هذا إلا ما يأتيك مني، ولكن أقول لا يشرك الأمير في حكمه من يشركه في نسبه، ففطن الأمير، وعزل إبراهيم آخر سنة ثلاث عشرة ومائتين. وكانت فيها القضاة في مدة عبد الرحمن تدور على عيسى بن دينار ويحيى وعبد الملك، وكلهم مات في مدته إلا عبد الملك، فإنه أدرك في مدة محمد ستة شهور.
أبو عبد الله محمد بن سعيد الإلبيري
من الكتاب المذكور: أشار به يحيى فولاه عبد الرحمن بعد إبراهيم، وكان من إلبيرة، وكان يحيى قد عرفه منها أيام اختلافه بالتجارة إليها، وكان حسن السمت، جميل المذهب في قضائه. وكان إذا اختلف عليه الفقهاء لم يؤثر على قول يحيى، فلم يزل قاضياً إلى سنة عشرين ومائتين فتشاور في قضية فتوقف فيها عن قول يحيى وغيره. ثم شاروه في قضية ثانية، فقال لرسوله: ما أفك له كتاباً لأني قد أشرت عليه في قضية فلان، فلم ينفذ القضاء. فركب من حينه إلى يحيى واعتذر له، ووعد أنه ينفذ القضاء من يومه، فقال: يا هذا إنما ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيراً الله عز وجل متخيراً في القضاء، فأما إذ تقضى برضا مخلوق فارفع تستعفى، وإلا رفعت في عزلك، فرفع. فعزل.
يخامر بن عثمان
من الكتاب المذكور: ولاه عبد الرحمن سنة عشرين ومائتين، وأصله من جيان، وكان خيراً فاضلاً، غير أنه كان فيه جفاء؛ لما قعد يحكم ونظر إلى عظم يحيى بن يحيى وغلبته على قلوب الناس كتب إلى عبد الرحمن إني قدمت قرطبة فوجدت لها أميرين: أمير الأخيار وأمير الأشرار، فأما أمير الأخيار فيحيى بن يحيى، وأما أمير الأشرار فأنت! فاستجفاه، وعزله، وأعاد على القضاء سعيد بن سليمان، فمات في سنة سبع وعشرين ومائتين.
أبو الحسن علي بن أبي بكر
من الكتاب المذكور: استقضاه عبد الرحمن بعد وفاة سعيد بإشارة يحيى. وقلما كان يولى عبد الرحمن قاضياً إلا بإشارته. فلذلك كثروا في أيامه، إذ كان يشير عليه بالقاضي فإذا أنكر منه شيئاً قال للقاضي: استعف وإلا رفعت في عزلك وكان حسن السمت مستقيم الحال، إلى أن توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
أبو عبد الله بن عثمان
أخو يخامر المتقدم
من الكتاب المذكور: كان عابداً، ولاه عبد الرحمن بعد وفاة علي ابن أبي بكر، وقيل: إنه كان من الأبدال مجاب الدعوة، ومات سنة أربع وثلاثين.
أبو عبد الله محمد بن زياد

من الكتاب المذكور: هو جد بني زياد، وكان عاقلاً راوية عن يحيى، ولكنه لم يكن حافظاً، وأبقاه الأمير محمد على القضاء حتى توفي ابن زياد، وكان أديباً.

أبو القاسم أحمد بن زياد أخو محمد
من الكتاب المذكور: ولاه محمد بعد وفاة أخيه، وكان فاضلاً خيراً، يقال: إنه مجاب الدعوة، وخرج يستسقي، وأمر من حمل معه غطاء، فعجب الناس فلم ينصرف إلا والغيث نازل، ولكنه كان فيه جفاء، وحرج صدر. وكان سليمان ابن أسود يكتب عنه، وبلغه أن الأمير محمداً ذكره للقضاء بعده، فاستبطأ سليمان الخطة، فأتاه من باب النصيحة، وقال له: لو كتبت إلى الأمير تستعفيه، وتذكر شيخك وضعفك كان أشرف لك عنده، وصرت أعظم في قلبه؟ فقال له: اكتب عني بما رأيت، فكتب بذلك، فلما وصل الكتاب إلى الأمير اغتنم ذلك وأعفاه من يومه.
أبو أيوب سليمان بن أسود
من الكتاب المذكور: أن الأمير محمداً استقضاه بعد استعفاء أحمد بن زياد، وكان صالحاً صليباً متقشفاً، وكان سبب عظمه في قلب محمد أن الأمير عبد الرحمن كان قد استقضاه بماردة، ومحمد أميرها، قبل سلطنته، فقدم تاجر يهودي برقيق من جليقية، وكان فيهن جارية رائعة الجمال تشطط اليهودي في ثمنها على الأمير محمد، فأمسكها عنه، فرفع ذلك إلى سليمان، فآل الأمر إلى أن أنكرها، وركب القاضي إلى قرطبة لأبيه، فحينئذ ردها على اليهودي، فقال القاضي لليهودي: قد بلغتك ما طلبته، وأرى أن تصير الجارية إلى الأمير بما أحبه من الثمن، ففعل ذلك، ووجهها إلى الأمير، وقال: هذا أشبه بالأمير وأليق. فعظم في عينه من ذلك الحين. ولم يزل قاضيه إلى أن مات، إلا سنتين عزله فيها لسبب، ثم رده. وجاءه رجل بوثيقة فيها شهد الوزير هاشم بن عبد العزيز، فقال له: لا بد من أن يأتيني هاشم يشهد عندي، فمضى الرجل إليه، فقال له: لست من أهل الشهادات، فقال: يا سيدي اتق الله في، فبك تتم حاجتي، والقاضي دعاني إليك. فلما سمع هاشم ذلك طمع أن يسجل القاضي بشهادته، فيكون ذلك فخراً باقياً له، فركب هاشم إلى مجلسه وشهد عنده ومضى، وكان مع شهادته شهادة عدل فقال القاضي للرجل: زدني شهادة عدل ثان، فظهر أن القاضي كاد هاشماً، وبلغ ذلك محمداً فنقص به عقله لجواز كيد القاضي عليه.
وطالبت أيدون الحظى عند الأمير محمد امرأة في دار، فأعطاها طابعه، فلما وقف عليه اعتذر بأنه مشغول ببعض أشغال الأمير، فبينما هو مقبل إلى القصر إذ ضرب على عنانه رسول القاضي، وصرفه عن موكبه، فأدخله عليه في الجامع، فقال له: عصيت طابعي، فقال: لم أعص، فقال: وحق هذا البيت لو ثبت عندي عصيانك لأمرت بك إلى الحبس. ولما رأى صعوبة مقامه أعطاها ما ادعت. ودخل على الأمير باكياً شاكياً، فقال: يا أيدون، سلنا حوائجك كلها ما خلا معارضة قضاتنا، والقاضي أعلم بما فعل.
أبو عبد الله عمرو بن عبد الله
من الكتاب المذكور: أن الأمير محمداً أراد شراء دار من أيتام لبعض كرائمه، فشطط. القاضي سليمان في ثمنها، ولم يساعد الأمير ولا وزيره هاشم ابن عبد العزيز، فأشار هاشم بأن يعزله ويستقضي عمراً حتى يمكنه من الدار المذكورة بما يحب، فكان ذلك. ثم رد سليمان إلى القضاء بعد سنتين. وكان عمرو عاقلاً وقوراً، وكان أبوه قد روى عن المدنيين، فكان يقول وجدت في كتاب أبي كذا، وكان يتورك في فتياه على محمد بن وضاح.
؟أبو معاوية عامر بن معاوية من الكتاب المذكور: أصله من ريه أشار به على المنذر بقي بن مخلد فولاه. وكان صالحاً وروى علماً كثيراً، عن ابن بكير وأصبغ وغيرهما في المشرق، وعن عبد الملك بن حبيب. وكان مدار فتياه على بقي بن مخلد، ولما ولى عبد الله عزله.
؟
أبو محمد النضر بن سلمة
من الكتاب المذكور: ولاه الأمير عبد الله بعد ابن معاوية، وكان عاقلاً مقتدياً بمن قبله من القضاة، ومدار فتياه على بقي وعبيد الله بن يحيى. وحال في ولايته الثانية، وولي الوزارة بعد عزله عن القضاء في دولته الثانية، فدخل في مطالبات آلت به إلى أن مات خاملاً، وقد أقعده النقرس. أدركته على ذلك، ولما احتاج عبد الله إلى المال المودع للورثة في الجامع لحال الفتنة منعه منه، فعزله لما رفع إليه موسى بن زياد: إن ولاني الأمير أتبرأ به إليه، فولاه.
أبو القاسم موسى بن زياد

من كتاب ابن عبد البر: ولى القضاء كما تقدم، فكان أول من أفسد هذه الخطة، وكان باطنه غير ظاهره، وكان أسلم بن عبد العزيز صديقه ووصفه بأشياء قبيحة. وكان مدار فتواه على محمد بن عمر بن لبابة ولما صح عند الأمير أمره عزله، ولكنه جعله في الوزراء.

أبو القاسم محمد بن سلمة
من الكتاب المذكور: استقضاه عبد الله بعد موسى، وكان خيراً زاهداً، غير أنه كان من الجهل في غاية. قال يوماً لصهيب بن منيع: أي شهر قبل رجب أو شعبان؟ فقال: رجب ثم شعبان فقال: انظر ماذا تقول، فإني على أن أكتب بطاقة إلى الأمير فلا تنشبني إلا في صحيح. وحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم قول في شيء، فقال: من أين قال هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأشار إليه محمد بن غالب أن احذر السيف. وكان ولده أبو الجودي يشير إلى الفقه بلا علم، فاعتل محمد في بعض الجمع فصلى ابنه عوضه بأمر الأمير، فشق على آل السلطان ذلك لصلابة أبيه، فدسوا مع رقع البطائق على أبي الجودي بكل قبيحة، فقال: لا ألتفت إلى ذلك حتى أمتحن حقيقته بمحمد بن وليد الفقيه، وكان عنده في أعلى المنازل، بخديعة وذلك: أنه كان يأخذ حزمة حطب فيجعلها على عنقه، ويتلقاه في محجته من ناحية الجبل إذا خرج للصيد كأنه مقبل بحطب على ظهره يعيش منه، فإذا مر به وضع الحزمة، وأقبل يسلم عيه! فيقول الأمير: هذا فقيه فاضل حقاً ما له قرين! فقامت له بهذا عنده سوق فبعث له الحاجب ابن حدير السليم وكان يكره القاضي في شأن ولده، فقال له: كفيتك، فلما أحضره الأمير وأخذ معه في ذلك قال: إني أكرم الله الأمير ليست بيني وبين ولد القاضي خلطة، ولا أعرفه، غير أني رأيت الناس بعد صلاة الجمعة يعيدون الصلاة، فسألت عن ذلك فقالوا: لما اعتل القاضي تقدم بالناس ابنه، فلم يرضوه فأعاد أكثر الناس الصلاة، فلما سمع الأمير هذا قال: لا يعيد الناس الصلاة إلا من أمر عرفوه منه، لا يصلي بعد هذا.
أبو القاسم
أحمد بن محمد بن زياد اللخمي
من كتاب ابن عبد البر: كان عربياً شريفاً وشيخاً وسيماً جميلاً ذا هيئة حسنة، غير أنه أهان خطة القضاء وتبذل فيها بالركوب إلى السلطان والدخول فيما لا يسعه من أمورهم، وكان ممولاً، كثير الصدقات سخياً بإطعام الطعام، وكان الصنائع العظيمة ويحضرها شيوخ زمانه من الفقهاء والعدول، ولم يزل قاضياً وصاحب صلاة حتى توفي الأمير عبد الله، وأقره الناصر شهوراً. ثم عزله وولى أسلم بن عبد العزيز، ثم أعاده إلى أن مات، فعاد أسلم. وكان اعتماده في الشورى على محمد بن عمر بن لبابة وابن وليد وعبيد الله بن يحيى.
قضاة الفتنة
أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن
بن وافد
من كتاب ابن حيان في القضاة: استقصاه وولاه الصلاة هشام المؤيد آخر أئمة الجماعة إثر سخطه على أحمد بن ذكوان ونفيه له وقت اشتعال الفتنة البربرية، وكان يقول إنه من عرب العريش، من الشام، من لخم. وجرت له خطوب طويلة مع محمد بن أبي عامر، كانت سبب نزوع نفس هشام إليه وتوليته بعد ابن ذكوان، فنعم العوض أصاب فيه، فقد كان فقيهاً، عالماً، حافظاً، عادلاً، حاذقاً، خيراً، فاضلاً، نزهاً، من أعلام الشورى بقرطبة، المبرزين في العلم والرئاسة، لم يزل يؤذن له في مسجده المجاور لداره قبل ولايته، و فيها.

وله رحلة إلى المشرق حج فيها ولقي العلماء، وتحكك، وممن لقى أبو محمد بن أبي زيد فقيه المغرب بالقيروان ولم يزل يصل سببه إلى أن مات ابن أبي زيد، إلا أنه أخل به في ولايته حب السلطان ولجاجه في دفع صلح البرابرة، وقد أهلكوا الناس، وخالف عبد الرحمن بن منيوه مولى ابن أبي عامر مدبر أمر هشام في ذلك. فكان سبب صرفه يوم الأربعاء لتسع خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وأربعمائة، فالتزم منزله إلى أن خرج ابن منيوه عن قرطبة، ودبر الأمر الموالي العامريون، فأعاد هشام ابن وافد يوم الخميس لثمان بقين من رجب سنة ثلاث وأربعمائة إلى القضاء والصلاة بعد تكره منه واشتداد من هشام. ولما غلب المستعين بالبرابرة على هشام وأهلك المصر وقلب الدولة استخفى ابن وافد فوقع الطلب الحثيث عليه لما أٍلفه من عداوة البرابرة فظفروا به صبيحة يوم الخميس لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعمائة، فعنفوا به وجرروه، وتلوه على وجهه إلى باب القصر راجلاً حافياً، مكشوف الرأس بادي الصلعة، ما عليه إلا قميصه، وفي رقبته عمامته يقتادونه بها مخترقين به الشوارع إلى باب القصر، والناس تتقطع قلوبهم ولا يغنون عنه، والبربر ينادون عليه: هذا جزاء قاضي النصارى مسبب الفتنة، ومعطي المشركين حصون المسلمين على ذلك رشوة، وهو لا يترك الرد عليهم والتكذيب لهم. فما رئي أجلد منه على محنته، وأدخل على المستعين، فأفحش في سبه. وتقدم في صلبه. فنظر في ذلك وزيره وصاحب مدينته موسى بن هارون بن حدير، وكان أشد الناس عليه، فأحضر آلة الصلب، والبربر ينتظرون مشاهدته، وترادفت الشفاعات فيه، فاستحياه، وأمر بسجنه في داخل قصره، وامتنع من أكل طعامه إلى أن تحيلت مولاة له في إيصال قوت ترمق به، واشتدت به العلة، إلى أن انكشف للناس موته غداة يوم الأحد لأربع عشرة خلت من ذي القعدة سنة أربع وأربعمائة بإخراجه إلى أسطوان الميضأة على باب الجامع، ملقى موتى المحاويج والغرباء موعظة لمن يبصره فتكفل به بعض العامة وأحد الزهاد، ولم يصل عليه أحد من المشاهير خوفاً من السلطان والعيون.

أبو المطرف عبد الرحمن
بن أحمد بن أبي المطرف
من كتاب ابن حيان: أنه استقضى دون الصلاة ما بين دولتي ابن وافد المذكور. وأصله من باغة، من بيت ذي جاه ومال، وكان الأغلب عليه الأدب والرواية، وكان قليل الفقه، أكره على القضاء، فلم يزل يحسن السيرة ويواصل الاستعفاء إلى أن خرج عبد الرحمن بن منيوه عن قرطبة، فعزله هشام وأعاد ابن وافد كما تقدم.
قال: ولم تعلق به لأئمة، وعاش فيما بعد مقبلاً على النسك، إلى أن توفي يوم الاثنين للنصف من صفر سنة سبع وأربعمائة بقرطبة، ومولده صدر سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. وذكر ابن مفرج في تاريخه: أنه كان له رحلة حج فيها وروى. وجهد المستعين بأبي العباس بن ذكوان في ولاية القضاء فامتنع، فقسمه بين يونس بن الصفار ومحمد بن خرز من أعيان زناته إلى أن جاءت دولة ابن حمود.
أبو المطرف عبد الرحمن بن بشر
المعروف بابن الحصار
من كتاب ابن حيان: أن أباه كان حصاراً وبنو فطيس يدعون ولاءه. وكان يبدو عليه مذهب الشعوبية في دفع الفخر بالأنساب، ويتلو: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ولم يقبل القضاء حتى ناوله عهده بيده على بن حمود، وأقسم عليه وإن عينه لتدمع، وكان ماهراً بالحكومة لا يعدله أحد من أهل زمانه في التوثيق واستنباط النوازل، مع حلاوة اللفظ وحسن الخط، يشف على الفقهاء بذلك، مع مساواته إياهم فيما يحذقونه من الفتوى ويحفظونه من المسائل والكتب، له في ذلك القدم الثابتة، إلى أن ما رزقه من الذكاء، وجمال الهيئة، وتمام الآلة، والنزوع في أبواب من المعارف كثيرة، يجمل بها محاضرته.

ومن رجل لئيم الخئولة، شعوبي الرأي، هادماً الشرف بالكلية، ذي عجرفة يزرى به التعريض، ويحب المماتنة الجالبة للعداوة، أضاع قضاء الفريضة وزهد في الرحلة على الصحة والثروة، وبه اختتم كملة القضاة بالأندلس على علاته. ولم يزل بنو حمود يقدمونه للقضاء واحداً بعد واحد، واشتهر بالهوى فيهم، وتناولته السعايات، فعزله هشام المعتد المرواني، وهو بالثغر، قبل أن يصل إلى قرطبة، فتأخر يوم الأربعاء لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة سنة تسع عشرة وأربعمائة، فكانت مدته اثنتي عشرة سنة وعشرة أشهر وأربعة أيام، ولم يزل خاملاً خائفاً إلى أن دفن بمقبرة العباس بعد صلاة العصر من يوم السبت للنصف من شعبان سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة فشهده الخليفة هشام كالشامت به، وكان الجمع في جنازته كثيراً.

أبو الوليد يونس بن عبد الله
بن الصفار من بني مغيث
من كتاب ابن حيان: أن هشاماً المعتد ولاه بعد ابن الحصار فلم يقبل إلا بعد الجهد من الكبراء، ولم يزل قاضياً إلى أن هلك ليلة الجمعة لثلاث بقين من رجب سنة تسع وعشرين وأربعمائة. وصار خامتة القضاة بقرطبة، وآخر الخطباء المعدودين فيها وتأريخ المحدثين، لا ينازع في هذه المراتب، على ما أخل به من تمام الخصال التي اجتمعت لمن قبله، وهلك وهو أسند من بقي بالأندلس وأوسعهم جمعاً وأعلاهم سناً؛ زاد على التسعين ستة أشهر، وهو مع ذلك ممتع بحواسه، يستبين الخط الدقيق، ويرتجل الخطب الطوال، ولا يدع التأليف. وله كتب حسان في الزهد والرقائق وغيرها. وكان على تفرده بالحديث متقدماً في علم اللسان والآداب، راوية للشعر والخبر، حسن البلاغة خطيباً ذرباً، سريع الدمعة، له ضلع صالح في الشعر، أسعده في الصبا على الرقيق وفي المشيب على الوعظ.
من رجل لم يحذق في المسألة والجواب ولا برع في الفقه، وفرط في إضاعة الحج لغير عذر، وكان مع ارتسامه بالزهد ملججاً في حب الدنيا، منافساً في مراتبها العلية، مزدلفاً إلى ملوكها على اختلاف دولهم. استغنى بعد بادئ الإملاق، فضاد قول القضاة الفضلاء: من ولى القضاء ولم يفتقر فهو سارق. وأشهد على نفسه عند موته أنه استخلف على القضاء ابنه مغيث بن محمد، فلم يمض ذلك مدته تسع سنين وستة أشهر وأربعة عشر يوماً، وولي بعده في مدة أبي الحزم بن جهور أبو بكر بن ذكوان، و هو شاعر تقدمت ترجمته في السلك.
أبو محمد عبد الله بن أحمد
المعروف بابن المكوى
من كتاب ابن حيان: أن الأحكام تعطلت بعد استعفاء ابن ذكوان وطالت المدة، فضج الناس إلى أبي الحزم، فولى ابن المكوى، ولم يكن في نصاب القضاء، وهو ممن آثر الخمول للدعة والفلاحة على الدراسة، وانطوى مع ذلك على العفة والصيانة، ولم يقبله إلا بعد جهد، ولم يطلق عليه اسم القضاء على سبيل ابن ذكوان قبله، وذلك يوم الخميس لسبع خلون من محرم اثنتين وثلاثين وأربعمائة. واكتسب في ولايته صرامة وإعجاباً، حتى استخف بكثير من وجوه الناس، فجرت له بذلك خطوب واعترض ملك قرطبة أبا الوليد بن أبي الحزم، وعزل وزيره إبراهيم بن محمد بن يحيى عن مخارن الجامع، وأكثر الناس السوال في صرفه، فصرف غداة يوم الاثنين لثلاث عشرة بقيت من ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وبقي خاملاً إلى أن دفن عشي يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين، فشهده جميع الناس وأثنوا عليه بالعفة والانقباض. من رجل قليل العلم نكد الخلق، به طرق لأول النقص على هذه الولاية الرفيعة.
أبو علي حسن بن محمد بن ذكوان
من كتاب ابن حيان: أن أبا الوليد ولاه بعد ابن المكوى وهو شيخ أهل بيته الحاظين بهذه الدولة ومتقلد الحسبة قديماً، فاستقل بالعمل، لطول دربته بالحكم، على نقصان العلم، وقد كان عفيفاً ذا صرامة وثروة ومرانة بالحكومة.
من رجل عار عن العلم عاطل عن الأدب ضارب بأوفر الحظ في شكاسة الخلق وخشونة الطبع، ألجأ إليه الاضطرار، إلى أن جرى من تخليطه في مهاودة ابن عمه أحمد بن محمد بن ذكوان والرهيط الذين سعوا في الوثوب على السلطان بقرطبة، فعزله أبو الوليد في صدر ربيع الأول سنة أربعين وأربعمائة، وألزمه منزله إلى أن توفي على ذلك، فدفن بمقبرة العباس عشي يوم الثلاثاء لإحدى عشرة خلت من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وشهد جنازته ملك قرطبة أبو الوليد.

أبو بكر
يحيى بن محمد بن يبقى بن زرب
من كتاب ابن حيان: أن أبا الوليد ولاه بعد ابن ذكوان، وهو عميد الفقهاء في زمانه، اختار منه كهلاً عفيفاً، لين العريكة، حليماً مبلو السداد وقوام الطريقة، وجمع له ذلك إلى خطة الصلاة والخطابة، على رسم والده القاضي أبي بكر بن يبقى، وما أجاب إلا بعد جهد، فلم يفارق العفة والسلامة إلى أن مات يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سبع وأربعين وأربعمائة، وصلى عليه ملك قرطبة أبو الوليد. ولم يكن فيه إلى العفة التي جملت حاله خلة تدل على فضيلة، فما وجد فقده، ولا بكت عليه سماؤه ولا أرضه. وتوقف أبو الوليد بعده عن تعيين قاض مدة طويلة، وصرف النظر في الأحكام إلى وزيره أبي الحسن بن يحيى، فانثال الناس وكثر تعبه، وتفرقت الأمور عليه، وهو يصدرها كلها في واد رحب من سعة خلقه وحسن سياسته.
أبو القاسم
سراج بن عبد الله بن سراج
من كتاب ابن حيان: أن أبا الوليد أراح وزيره من أحكام القضاء، وفرغه لما كان بسبيله من تدبير الدولة، واختار للقضاء ابن سراج المذكور، من البيت المشهور، جده سراج مولى الأمير الداخل. وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة بقيت من صفر، ثمان وأربعين وأربعمائة بعد جهد به، وقسمه عليه، قال وهو مقيم على حاله إلى وقت إملاء هذا الكتاب وقد نيف على الثمانين؛ حسن البقية.
المشهورون من قضاة قرطبة بعد هذا التاريخ
أبو الوليد أحمد بن رشد الأكبر
صاحب التصانيف الجليلة في الأصول والفروع والخلافيات، أطنب ابن اليسع في ذكره بما هو من أهله، وذكر أن له كتاباً سماه بالمتحصل، جمع فيه اختلاف أهل العلم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وتسمية مذاهبهم، وكتاب المقدمات في الفقه. وكناه ابن بشكوال في الصلة بأبي القاسم ووصفه بالخير والعقل والفضل وأنه كان محبباً للناس. وتوفي يوم الجمعة الثالث عشر من رمضان سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ومولده في سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
أبو القاسم أحمد بن محمد
بن علي بن محمد
ابن عبد العزيز بن حمدين
من صلة ابن بشكوال: قاضي الجماعة بقرطبة، أخذ عن أبيه، وتفقه عليه وتقلد القضاء مرتين، وكان نافذاً في أحكامه، جزلاً في أفعاله، وهو من بيت علم ودين وجلالة وفضل، وتوفي قاضياً يوم الأربعاء لثمان بقين من ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، وصلى عليه ابنه أبو عبد الله.
أبو عبد الله
محمد بن أصبغ بن المناصف
أطنب ابن اليسع في الثناء عليه، وذكر أنه ولي قضاء قرطبة في مدة على ابن يوسف بن تاشفين قال: وقد كنت أسمع بمن وهب الآلاف وألزم ماله الإتلاف، فيداخلني ما يداخل المخبر من تصديق وتكذيب وتبعيد وتقريب، حتى باشرته ينفق في كل يوم على أكثر من ثلاثمائة بيت يعيل ديارهم ويقيل عثارهم، وكان يحرث له في ضياعه الموروثة بثمانمائة زوج في كل عام، فلم يبق عند نفسه منها إلا ما يأكل.
ومن كتاب نجوم السماء في حلى العلماء
الفقيه الأعظم
أبو محمد يحيى بن يحيى الليثي
من الجذوة: أصله من البربر من مصمودة، تولى بني ليث، فنسب إليهم، رحل إلى المشرق فسمع مالك بن أنس وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وعبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن وهب. وتفقه بالمدنيين والمصريين من أكابر أصحاب مالك، بعد انتفاعه بمالك وملازمته له، وكان مال يسميه عاقل الأندلس. وكان سبب ذلك فيما روى: أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه، فقال قائل: قد خطر الفيل فخرجوا، ولم يخرج، فقال له مالك: ما لك لم تخرج لتنظر الفيل وهو لا يكون في بلادكم؟ فقال له: لم أرحل لأنظر الفيل وإنما رحلت لأشاهدك، وأتعلم من علمك وهديك، فأعجبه ذلك منه وسماه: عاقل الأندلس.

وإليه انتهت الرياسة في الفقه بالأندلس وبه انتشر مذهب مالك هنالك وتفقه به جماعة لا يحصون. وكان مع إمامته ودينه مكيناً عند أمراء الأندلس معظماً، وعفيفاً عن الولايات منزهاً، جلت درجته عن القضاء، فكان أعلى قدراً من القضاة عند ولاة الأمر هنالك، لزهده في القضاء وامتناعه منه؛ سمعت الفقيه الحافظ أبا محمد علي بن أحمد يقولك مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولى قضاء القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إلى مذهبه. ومذهب مالك بن أنس عندنا، فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان، مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا والرياسة، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به. على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط، ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم، وداعياً إلى قبول رأيه لديهم. وكذلك جرى الأمر في إفريقية لما ولى القضاء بها سحنون بن سعيد ثم نشأ الناس على ما انتشر. وكانت وفاة يحيى بن يحيى في رجب لثمان بقين منه من سنة أربع وثلاثين ومائتين وخلف بعده ابنه عبيد الله الفقيه المشهور. وممن أخذ عنه من الأعلام: أبو عبد الله محمد بن وضاح، وزياد بن محمد بن زياد المعروف بشبطون، وإبراهيم بن قاسم بن هلال، ومحمد بن أحمد العتبي، وإبراهيم بن محمد بن بان، ويحيى بن حجاج، ومطرف بن عبد الرحمن، وعجنس بن أسباط الزيادي، وعمر بن موسى الكناني، وعبد المجيد بن عفان البلوي، وعبد الأعلى بن وهب، وعبد الرحمن بن أبي مريم السعدي، وسليمان بن نصر المريى، وأصبغ ابن الخليل، وإبراهيم بن شعيب.

الفقيه المحدث أبو عبد الله
محمد بن الفرج
المعروف بابن الطلاع
من كتاب ابن اليسع: أنه كان من العلماء بالحديث ومذهب مالك، وله تواليف، منها كتابه في نوازل الأحكام النبوية، وكتابه في الوثائق، وسنده في موطأ يحيى من أعلى ما يوجد في زمانه. وهو من قرطبة، ولقيه المعتمد ابن عباد فنزل له عن دابته، ووعظه ابن الطلاع ووبخه.
الفقيه الإمام
أبو عبد الله محمد بن عتاب
من كتاب ابن اليسع: ذو الوقار والسكينة، والمكانة المكينة وذكر أنه رحل وساد أترابه، وألف كتاباً في الحديث، وكان في المائة الخامسة في زمن المعتمد بن عباد.
أبو الحسن علي بن الصفار
من البيت المشهور. ذكر ابن اليسع أن له تاريخاً في جزيرة الأندلس، ووصفه بالدعابة والمرح. وله رواية عن يونس بن مغيث وهو جده.
اللغوي أبو غالب
تمام بن غالب
المعروف بابن التياني
من الأعلام في علم اللغة المشهورين، انتقل من قرطبة إلى مرسية، وبث علمه هنالك، وصنف كتاباً في اللغة وقف عليه مجاهد العامري ملك الجزر ودانية، فأعجبه، فبعث إليه بألف دينار وكسوة على أن يزيد فيه أنه صنفه مطرزاً باسم مجاهد، فقال أبو غالب: كتاب صنفته لله ولطلبة العلم أصرفه إلى اسم ملك، هذا والله ما لا يكون أبداً، وصرف على مجاهد الألف الدينار والكسوة، فزاد في عين مجاهد وعظم في صدور الناس.
وقد أطنب الحجاري بسبب هذه القضية في شكر الملك والعالم، وقال: هكذا ينبغي أن تكون الملوك وكذا يجب أن تكون العلماء.
ومن كتاب الريحانة في حلى ذوي الديانة
الزاهد عبد الرحمن بن مروان
ابن عبد الرحمن الأنصاري القنازعي القرطبي
من تصنيف ابن بشكوال في زهاد الأندلس وأئمتها: أنه نسب إلى صنعته، وأطنب في الثناء عليه، وأخبر أنه جمع في أخباره كتاباً مفرداً. وله رحلة ورواية بالمشرق، وندبه الخليفة علي بن حمود إلى الشورى، فلم يعرج عليه. وكان صوام النهار، قوام الليل، راضياً بالقليل من الحلال، وربما اقتات بما يرميه الناس من أطراف البقول وما أشبه ذلك، ولا ينحط إلى مسألة أحد.

وقال: كنت بمصر وشهدت العيد مع الناس، فانصرفوا إلى ما أعدوه وانصرفت إلى النيل، وليس معي ما أفطر عليه إلا شيء من بقية ترمس بقي عندي في خرقة، فنزلت على الشط، وجعلت آكله وأرمي بقشره إلى مكان منخفض تحتي، وأقول في نفسي: ترى إن كان اليوم بمصر في هذا العيد أسوأ حالاً مني؟ فلم يكن إلا ما رفعت رأسي وأبصرت أمامي، فإذا برجل يلقط قشر الترمس الذي أطرحه ويأكله، فعلمت أنه تنبيه من الله عز وجل، وشكرته. وتوفي بقرطبة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وكان من أهل العلم بالحديث والفقه، مجوداً للقرآن.

الأهداب
أبو بكر محمد بن عيسى بن عبد الملك
بن عيسى بن قزمان
إمام الزجالين بالأندلس، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره. وقد جمع أزجاله. وديوانها مشهور بالمشرق والمغرب، وذكر في خطبته أن الإعراب في الزجل لحن، كقول أحدهم وهو أخطل بن نمارة:
كسر الله رجل كل ثقيل
على كونه إماماً، وصدر عنه مثل قوله:
طاق في خد وبف فالقنديل
عم مقابل وجدت إليك سبيل
وقوله:
قدر الله وساق الخناس
إلى داري على عيون الناس
ولعبنا طول النهار بالكاس
وجا الليل وامتد مثل القتيل
ونوه في ترجمته بذكر أبي القاسم محمد بن أحمد بن حمدين وأبي العلاء بن زهر في الرياسة ومدحه لهما.
فمن ملح أزجال ابن قزمان قوله في هزيمة:
والكتف يتعلق والقحف يقسم
وشنيوران راقد في برك من دم
قد خط فيه السيف خطا لا يفهم
وجا الغبار من فوق بحل نشاره
وقوله:
اصحى تعيب الناس كل أحد عيب ماع
إنما هو المطهر من سلم يد وقاع
وقال في بداءة زجل في مدح ابن أضحى قاضي غرناطة:
الله ساقك ولم يسوقك أحد ... واجتمعنا اصداف أخير من وعد
وفر الله مشي ذك الأميال
والرقاد الردي وشغل البال
وكفى الله المؤمنين القتال
وفي آخره:
طار حديثك على المدن والقرى
قاضي يعطي عطية الأمرا
رد غرناطة مكة الشعرا
فترى فيها أهل كل بلد
وله:
لو زارني صاحب التفريق ... قد كان نفيق
حتى نرى مثل ما قدريت من الأمل
فما حلو لا تقول سكر ولا عسل
يقبل الروح ولا يدري طيب القبل
لس يربح القبل والتعنيق ... غير العشيق
شربت سرك وه عندي جل المنى
وقمت للرقص بأكمامي على الغنا
وأصبح الناس يذكر الله وأصبحت أنا
ما بين الأشكال والأبريق ... سكران غريق
وله:
ليس عندي ... قوام ولاه فلاح
إلا شرب الشراب ... وعشق الملاح
نرضي إبليس إلى متى ذا العقوق
فه شيخي وله علي حقوق
والشريبة مفتاح لكل فسوق
في لساني نربط ... ذك المفتاح
أيها الناس وصيتي للجميع
من خلاع فإن اليوم خليع
ولا نمشوا إلا بكاس أو قطيع
وسكارى إيك ... لا تمشو صحاح
اسكت اسكت هذا الحديث يمضغ
فقلاده في عنق من بلغ
إن دراه ... محمد بن أصبغ
خمس مت سوط يحس للبراح
إنما بع ... ل المري بالنهار
فإذا كنت وقت رقاد في دار
أرخ شف وارضع في هذا العقار
لا تقع لك قطاع ... في اصطباح
فإن أصبحت ... وفي دماغك ثقل
جع فالدار إن ... كان لراسك عقل
ويكون الغذا ... لحم ببقل
والله الله لاتستجيبإذا تصاح
وإذاكنت صاح إذتصبح
اغسل أجك ... وهلل أو سبح
شرط إن قال أحد اعمل لي آح
اعمل ات أح وزيد فالساق حاح
وإذا كنت مع فقي أو إمام
ويقل لك شربت قط مدام
قل له اشنه يا فقي ذا الكلام
والله ما ذقت قط ... شرب تفاح
فإن أجمعك بيه زماناً نبيل
وعسى لس ذا الصبر غير قليل
؟قل له السا وجدت إليك سبيل
جي نقل لك بالرسل ... أو بالصياح
تدري إذ قلت لي شربت عقار

آه حقاً كن نبتلعها كبار
واناذاب نحسوها ليل ونهار
بشرابك ... وربما أقداح
تحفظ اسماه سايقل لك لا
قل له خذ نملا منه أذنيك ملا
هي هي القهوة والمدام والطلا
والحمياوالخندريسوالراح
وله:
كن صبيان ودارت الأحوال
والتحينا وصرنا ذاب رجال
وكن إكريت دويره من إنسان
برباعي سكنت فيه زمان
ثم قال لي تزن ثلاث أثمان
ونزن لو ولو طلب مثقال
إن فيه حنى أمام السير
وعقاباً مليح بجنب البير
وقصيبا عليها باباً كبير
تكشف الفحص من ثلاث أميال
والربض لا شيوخ ولا حجاج
وأرامل ملاح بلا أزواج
ويجوني طول النهار عن حواج
واشيات لس ينبغي أن تقال
ومنه:
إش نقل لك بقيت كذا مبهوت
وأخذني فزع بحال من يموت
وقفز قلب مثل قفز الحوت
وضرب بالجناح بحل برطال
وله:
تدر إش قال لي الفقى تب ... إن ذا فضول وأحمق
كف نتوب والروض زاهر ... والنسيم كالمسك يعبق
والربيع ينشر علام ... مثل سلطاناً مؤيد
والثمار تنثر حليه ... بثياب بحل زبرجد
والرياض تلبس غلالا ... من نبات فحل زمرد
والبهار مع البنفسج ... يا جمال ابيض في أزرق
والندى والخير والآس ... والراح والظل والما
والمليح خلطي مهاود ... والرقيب أصم أعمى
وزمير من فم ساحر ... وغنا من كف سلمى
والزجاج ملح مجزع ... والشراب أصفر مروق
يا شراباً مر ما أحلاك ... علقم ات ممزوج بسكر
بالذي رزقن حبك ... من نثر عليك جوهر
وترى لش تشتكي ضر ... لش نراك رقيق أصفر
ما أظن إلا ألم بيك ... أو مليح لا شك تعشق
ذا الطريق يعجبن يا قوم ... ما أملح وما أجل
أي نبل أقل ل خليه ... وسمع مما أقل ل
يا صديقي لس نراع ... يا صديقي لس نمل
قل لي كف نترك ذا الأشيا ... قصة حقيق بالحق
ونجوم السعد تطلع ... ونوار اليمن تفتح
وغنا ودن دن دن ... ولعب وكح كح كح
وارتفع عني يا راجل ... انسلخ عكان أح أح
القطع فز عن يام ... تركف يعمل لي بق بق
وله:
نفني عمرى فالخنكرا والمجون
يا بياض خلع بنيت أن يكون
إنما أن نتوب أنا فمحال
وبقاى بلا شريب ضلال
نفن عمرى ودعن مما يقال
إن ترك الخلاع ... عندي جنون
خذوا مالي وبددوه فالشراب
وثيابي ولبسه القحاب
وقولا لي بأن رايك صواب
لم تكن قط في ذا الحديث مغبون
وإذا مت مذهبي فالدفن
أن نرقد في كرم بين فالدفن
أن نرقد في كرم بين الجفن
ويضم الورق على كفن
ولراسي عمامه من زرجون
ومنه:
إنماه ما ريت ذك التحت ساق
وذك العينين الملاح الرشاق
وعمل إير فاسراول رواق
ورفع بالثياب بحل قيطون
أنا والله قد ابتديت في العمل
أوذيك زلق لساعة دخل
وأنا نرعج حلو حلو كالعسل
وهبط روحي بن سقى سخون
؟

الهيدورة
قال الحضرمي: كان بقرطبة مخنث يعرف بالهيدورة، قد برع في التخنيث والكيد، حتى صار يضرب به المثل، وهو الذي لما حصل في الأسر كتب له إخوانه يتفجعون من شأنه، فجاوبهم: يا سخفاء العقول ولأي شيء تتفجعون من شأني وهناك ... وهنا .... وزيادة ختانة لم تقطع خير كثير.
قال: وليس بالأندلس بلد قد شهر بكثرة القطماء مثل قرطبة، وخاصة منه درب ابن زيدون، فيقولون في التعريض: هو من درب ابن زيدون كما يقولون: رطب الذراع.

قال: وكان في درب ابن زيدون رجل مشهور بهذا الشأن ينام في أسطوان داره، ويترك القفل على الباب يتمكن فتحه، فإذا رآه سارق على تلك الحال عالج الباب ودخل، فيمسكه القطيم، وكان له عبدان يريحهما بهذا الشأن، فيقول للسارق: أيها الملعون! جسرت على بابي وفتحته وأردت الدخول على حرمي، ما بقى لك إلا أن .... والله وتالله لا زلت حتى تفعل، فتتم لك النادرة في. ثم ينبطح فيرى السارق أنه يفعل ذلك لئلا يفتضح، ثم يطلقه.

البحبضة الحكيم
كان خفيف الروح. قصدته يوماً عجوز وهو في دكانه، فقالت له وهو بين جلسائه: يا سيدي، أنت هو الحكيم البحبوضي؟ فقال لها في الحين: يا ستي وأنت هي العجوزة سو القوادة. وكان في قرطبة طبيب يقال له رأس قدح، فجاءته عجوز يوماً، وقالت له: يا سيدي! أنت ه الرأس خيبة! فقال: من عاش كبر.
يحيى بن عبد الله بن البحبضة
كان في المائة السابعة يشتغل بأعمال السلطان وله أزجال على طريقة البداة التي يغنون بها على البوق. من ذلك زجله الطيار:
دعن نشرب قطيع صاح
من ذنا ست الملاح
دعن نشرب ونرخي شفا
ونصاحب من لس فيه عفا
يا زغلا شدوا الأكفا
من باب الجوز يسمع صياحي
والله إنك صرف ملحلا
وسمينا بحال بخلا
وخفيفا بحال بوللا
حن تطرلى مع الرياح
والله ذنا أنى مشاكل
وحزامي مليح وكامل
حن تراني نرخي السراول
على وجه القرق الصياح
يا زغلة درب الزجالي
منه فيكم زغل بحال
أو دلال بحال دلالي
أو رماح بحال رماحي
غدا قالت تجيني ذنا
بتحنفف مليح وحنا
نشرب الكاس معها مهنا
حن تجيني بياض صباحي
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثاني
من الكتب التي يشتمل عليها
كتاب الحلة الذهبية في حلى الكورة القرطبية وهو
كتاب الصبيحة الغراء في حلى حضرة الزهراء
هن عروس: لها منصة وتاج وسلك وحلة.
المنصة
ذكر ابن حوقل: أن الناصر بناها في غربي قرطبة في سفح جبل، وأمر مناديه ينادي: ألا من أراد أن يبني بجوار السلطان فله أربعمائة درهم، فسارع الناس إليها، وجعلا الناصر قطبه، قال الحجاري: وكان منذر ابن سعيد قاضي الناصر وخطيبه كثيراً ما يقرعه فيما أسرف فيه من مبانيه، ويعظه، ودخل عليه يوماً وهو مكب على البنيان، فوعظه، فأنشده الناصر قوله وهو عالي الطبقة:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
أما ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حادث الأزمان
إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان
ودخل عليه مرة وهو في قبة قد جعل قرمدها من ذهب وفضة، والمجلس قد غص، فقام ووعظه، وتلا: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة " الآية، فاحتمله لمكان منه.
وقال وزيره عبيد الله بن إدريس:
سيشهد ما شيدت أنك لم تكن ... مضيعاً وقد مكنت للدين والدنيا
فبالجامع المعمور للعلم والتقى ... وبالزهرة الزهراء للملك والعليا
وقد ذكرها المعتمد بن عباد في قوله الذي استدعى به وزراءه وكتابه، وقد تنادموا بالزهراء، إلى قصر قرطبة، أنشده الفتح:
حسد القصر فيكم الزهراء ... ولعمري وعمركم ما أساء
قد طلعتم به شموساً صباحاً ... فاطلعوا عندنا بدوراً مساء
وقد ذكرها الوزير أبو الوليد بن زيدون في شعره الذي خاطب به محبوبته ولادة:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا ... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله ... كأنما رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الفضى مبتسم ... كما شققت عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت ... بتنا لها حين نام الدهر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندى فيه حتى مال أعناقا

كأن أعينه، إذا عاينت أرقي ... بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا ... إليك، لم يعد عنه الصبر أن ضاقا
لو كان وفى المنى في جمعنا بكم ... لكان من أكرم الأيام أخلاقا
آس ينافحه نيلوفر عبق ... وسنان نبه منه الصبح أحداقا
لا سكن الله قلباً عن ذكركم ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملي نسيم الريح نحوكم ... وافاكم بفتى أضناه ما لاقى
كان التجاري بمحض الود مذ زمن ... ميدان أنس جرينا فيه أطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم ... سلوتم وبقينا نحن عشاقا
بنى الزهراء الناصر، وسكنها، ثم سكنها ابنه المستنصر. وسكن المؤيد بن المستنصر مدينة الزاهرة، فنذكر ترجمتي الناصر والمستنصر وأعلام دولتتيهما.

التاج
الناصر لدين الله
أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد
ابن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم
ابن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان
ذكر الحميدي: أنه ولي بعد جده عبد الله، وكان والده قد قتله أخوه المطرف بن عبد الله في صدر دولة أبيهما، وترك ابنه عبد الرحمن ابن عشرين يوماً، فولي وله اثنتان وعشرون سنة، وكانت ولايته من المستطرف، إذ كان بالحضرة جماعة أكابر من أعمامه وأعمام أبيه، فلم يعترض معترض. وكان شهماً، صارماً، وكل من ذكرنا من أجداده فليس منهم من تسمى بإمرة المؤمنين، ولم يتعدوا في الخطبة الإمارة. وجرى على ذلك عبد الرحمن إلى آخر السنة السابعة عشرة من ولايته، فلما بلغه ضعف الخلافة في العراق أيام المقتدر وظهور الشيعة بالقيروان تسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالناصر ولم يزل منذ ولي يستنزل المتغلبين حتى استكمل إنزال جميعهم في خمس وعشرين سنة من ولايته، وصار جميع أقطار الأندلس في طاعته.
ومن المسهب: إنما تسمى بأمير المؤمنين حين بلغه أن المقتدر خطب له بالخلافة وهو دون البلوغ. ولما قتل المطرف بن عبد الله أخاه محمد بن عبد الله، قتله به أبوه، وقد قيل إن أباهما قتل الاثنين. وخلا الو لعبد الرحمن، وملك قلب جده بحسن خدمته، وكل ما يعلم أنه يوافق غرضه، فتقدم بعد جده في مستهل ربيع الأول سنة ثلاثمائة، فقال ابن عبد ربه صاحب العقد:
بدا الهلال جيداً ... والملك غض جديد
يا نعمة الله زيدي ... إن كان فيك مزيد
وصرف من الآراء والحيل في الثوار الذين اضطرمت بهم الأندلس ما يطول ذكره، حتى صفت له الجزيرة.
قال: وأعانه على ذلك المعرفة باصطفاء الرجال واستمالة أهوائهم بالمواعيد وبذلك الأموال مع طول المدة وهبوب ريح السعادة، وقد شبهوه بالمعتضد العباسي في تلافي الدولة، وكان يده في استنزال العصاة القائد أبا العباس ابن أبي عبدة، وبقي في السلطنة خمسين سنة وستة أشهر وثلاثة أيام.

قال ابن غالب: وجد بخطه: أيام السرور التي صفت له في هذه المدة الطويلة يوم كذا ويوم كذا، فكانت أربعة عشر يوماً، وكانت وفاته ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من رمضان سنة خمسين وثلاثمائة. وكان مشغوفاً بتضخيم البنيان والسلطنة والجند. وقسم أموال جبايته على ثلاثة: قسم للجند والحروب، وقسم للبنيان، وقسم ينفق منه في غير هذين من المصالح، ويخزن باقيه ذخيرة. وقد تقدمت أبياته في البنيان مما أنشده الشقندي والحجاري، وله حكايات دينية ودنياوية، فأملح ما وقفت عليه من حكاياته الدينية ما حكاه الحجاري؛ من أنه حضر يوم جمعة في جامع الزهراء فلما خطب منذر بن سعيد قال في خطبته: " أتبنون بكل ريع آية تعبثون " . الآية، فتحر الناس لذلك، وعلم الناصر أنه عرض به، فلما فرغ قال لابنه المستنصر فيما جرى عليه، ثم قال: لكن علي لله يمين ألا أصلي خلفه ما عشت فلما جاءت الجمعة الثانية قال لابنه: كيف نصنع في اليمين؟ قال يؤمر بالتأخر، ويستخلف غيره، فاغتاظ الناصر وقال: أبمثل هذا الرأي القائل تشير علي؟! والله لقد ندمت على ما فرط مني في اليمين، وإني لأستحيي أن أجعل بيني وبين الله غير منذر، ثم رأى أن يصلي في جامع قرطبة فواصل ذلك بقية مدته. وكان له جلساء ووزراء عظماء يأتي منهم تراجم بعد هذا. وأعظم من استعان به في الحروب ابن عمه سعيد بن المنذر بن معاوية بن أبان بن يحيى بن عبيد الله بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك، وهو الذي تولى حرب ابن حفصون كبير المنافقين، وافتتح قلعته، وكان ممدحاً، جواداً سعيد الحياة، فقيد الممات، وحضر ليلة عنده وزيره ومولاه أبو عثمان بن إدريس، فغنت جارية:
أحبكم ما عشت في القرب والنوى ... وأذكركم في حالة الوصل والصد
على أنم لا تشتهون زيارتي ... قريباً ولا ذكراي في فترة البعد
واستجاز وزيره، فقال: الابتداء لأمير المؤمنين، فقال:
وأنتم جعلتم مهجتي مسكن الجوى ... وأنت جعلتم مقلتي مسكن السهد
ثم قال الوزير:
ومالي عنكم جرتم أو عدلتم ... على كل حال فاعلموا ذاك من بد
وكانت علامة سكره وأمر ندمانه بالقيام أن يميل برأسه إلى حجره، وربما أنشد:
ما زلت أشربها والليل معتكر ... حتى أكب الكرى رأسي على قدحي
وكان على حسن خلقه وحلمه ربما حدثت له على المنادمة وسوسة كدرت ما يعتاد منه. ولما كثرت قطع المنادمة، ثم تزهد. ومن قبيح ما يؤثر عنه حكايته مع الجارية التي كانت عنده بمنزلة حبابة من يزيد: سكر ليلة، فأكثر من تقبيلها، فأكثرت الضجر والتبرم، وقبضت وجهها، فأمر ألا يزال وجهها يلثم بألسنة الشمع، وهي تستغيث، فلا يرحمها، حتى هلكت.
قال الحجاري: وربما كان أجود من جميع من ملك من بني مروان، ومما نسب له وقد نسب لابنه المستنصر:
ما كل شيء فقدت إلا ... عوضني الله عنه شيا
إني إذا ما منعت خيري ... تباعد الخير من يديا
من كان لي نعمة عليه ... فإنها نعمة عليا
وذكر: أن توقيعاته بليغة؛ كتب له محمد بن عبد الرحمن المعروف بالشيخ، الممتنع بحصن لقنت في جواب استنزاله له ما أوجب أن كان في جواب الناصر له: ولما رأيناك قد تذرعت بإظهار اتقاء الله رأينا أن نعرض عليك أولاً ما لا بد لك من أخراً وليس من أطاع بالمقال، كمن أطاع بعد الفعال. فبادر مستسلماً إلى قرطبة.
وكتب له ابن عمه سعيد بن المنذر وهو محاصر ابن حفصون يذكر له تلون بني حفصون، فأجابه بكتاب فيه: مهما تحققت من غدر بني حفصون ومكرهم فزد فيه بصيرة واثبت على تحقيقك، ومهما ظننت فصير ظنك تحقيقاً، فإنهم شجرة نفاق، أصلها وفروعها تسقى بماء واحد، فاهجر فيهم المنام والدعة، فالعيون إليهم تنظر والآذان نحوهم تسمع، فمتى استنزلتهم من معقلهم أغناك ذلك عن مكابدة غيرهم. فلم يزل بهم حتى غلب عليه.

وأقدم عليه رجل وقاح بالشكوى والصياح، وخرج من أمره أنه اشترى حماراً فخرج فيه عيب، فرفع ذلك إلى القاضي فرد حكمه إلى أهل السوق فأفتوا أنه عيب حديث قال: فألزموني به وأنا لا أريده، فقال: تجاوزت القاضي وأهل السوق إلى الخليفة في هذه المسألة الوضيعة، ثم أمر به فضرب، نودي عليه بذلك مجرساً، ورد رأسه إلى وزرائه، وقال: أعلمتم أن الأمير عبد الله جدي بنزوله للعامة في الحكم للمرأة في غزلها، والحمال في ثمن ما يحمله، والدلال في ثمن ما ينادي عليه، أضاع كبار الأمور ومهماتها، والنظر في حروبه، ومدارأة المتوثبين عليه، حتى اضطرمت جزيرة الأندلس، وكادت الدولة ألا يبقى لها رسم. وأي مصلحة في نظر غزل امرأة ينظر فيه أمين سوق الغزل، وإضاعة النظر في قطع الطرق وسفك الدماء وتخريب العمران؟!. وكان حاجبه موسى بن حدير على ذكائه يقول: ما رأيت أذكى منه، كنت والله آخذ معه في الشيء تحليقاً على سواه، حتى أخرج إليه، فيسبقني لمرادي، ويعلم ما بنيت عليه تدبيري. وكان له عيون على ما قربن وبعد، وصغر، وكبر، وكان معروفاً بحسن العهد، وبذلك انتفع في استنزال المتغلبين.
قال الحجاري: ورفع للناصر أن تاجراً زعم أنه ضاعت له صرة فيها مائة دينار، ونادى عليها، واشترط أن يهب للآتي بها عشرة دنانير، فجاء بها رجل عليه سمة خير، ذكر أنه وجدها، فلما حصلت في يده قال: إنها كانت مائة وعشرة، وإن العشرة التي نقصت منها أخذها الذي أتى بها، وأبى أن يدفع له ما شرط، فوقع الناصر: صدق التاجر والرجل الذي وجد المال، ولولا صدق الرجل ما أتى بشيء مجهول، فاردد عليه المائة، وناد على مال التاجر فإنه مائة وعشرة. فكان ذلك من ملحه.
وقال لقائد عساكره ابن أبي عبدة: إن استرسلت في الكلام معك بمحفل، فتعقبه في الخلوة، ومع ذلك فإنك ترى بالمشاهدة ما لا نراه، فلا ترجع عن مصلحة.
وقتل الناصر ابنه عبد الله ذبحاً بيده، وقد بلغه أنه يريد قتله وأخذ الخلافة.

ابنه
الحكم المستنصر بالله
من الجذوة: كان له إذ ولى بعد أبيه سبع وأربعون سنة، وكان حسن السيرة، جامعاً للعلوم، محباً لها، مكرماً لأهلها، وجمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من ملوك الأندلس قبله، وذلك بإرساله فيها إلى الأقطار واشترائه لها بأعلى الأثمان، ونفق عليه ذلك فحمل إليه. وكان قد رام قطع الخمر من الأندلس، وأمر بإراقتها، وتشدد في ذلك، وشاور في استئصال شجرة العنب، فقيل إنهم يعملونها من التين وغير ذلك. فوقف عما هم به.
ومن المسهب: توفي يوم الأحد لليلتين خلتا من صفر سنة ست وستين وثلاثمائة، فكانت مدته خمس عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام.
وحكى ابن حيان: أن عدد الكتب التي كانت فهارس بأسماء الكتب التي اجتمعت في خزائنه أربعة وأربعون، في كل فهرست منها عشرون ورقة. ووجه لأبي الفرج الأصبهاني ألف دينار على أن يوجه له نسخة من كتاب الأغاني؛ وباسمه طرز أبو علي البغدادي كتاب الأمالي، وعليه وفد، فأحمد وفادته. وأنشد من شعره قوله:
إلى الله أشكو من شمائل مترف ... على ظلوم لا يدين بما دنت
نأت عن داري، فاستزاد صدوده ... وإني على وجدي القديم كما كنت
ولو كنت أدري أن شوقي بالغ ... من الوجد ما بلغته لم أكن بنت
وأنشد له ابن حيان:
عجبت وقد ودعتها كيف لم أمت ... وكيف انثنت بعد الوداع يدي معي
فيا مقلتي العبرى عليها اسكبي دماً ... ويا كبدي الحرى عليها تقطعي!
وله غزوات وفتوح مدن. ومات بالفالج.
وكان حاجبه جعفر مولاه قبل جعفر المصحفي. قال ابن غالب وفي مدته ضرب الدينار الجعفري المشهور بالأندلس.
السلك
من كتاب مشارع الصفا في حلى الشرفا
بنو أمية بالأندلس يعرفون بالشرفاء، ونذكر منهم هنا أولي الفضل من السلالة الناصرية على نسق، وغيرهم ممن كان في مدتي الناصر والمستنصر.
عبد الله بن الناصر
من الجذوة: أن كان فقيهاً شافعياً، متنسكاً، شاعراً، أخبارياً، وأنشد له:
أما فؤادي فكاتم ألمه ... لو لم يبح ناظري بما كتمه
إليك عن عاشق بكى أسفاً ... حبيبه في الهوى وما ظلمه
ظلت جيوش الهوى تقاتله ... مذ نذرت أعين الملاح دمه

ومن المسهب: مثل ذلك، وأنه كان محسناً للشعراء، وأن سعيد ابن فرج أخا أبي عمر أهدى له ياسميناً أبيض وأصفر، وكتب معه:
مولاي! قد أرسلت نحوك تحفة ... بمراد ما أبغيه منك تذكر
من ياسمين كالنجوم تبرجت ... بيضاً وصفراً والسماح يعبر
فعوضه عنها ملئ طبقها دنانير ودراهم، وكتب له:
أتاك تعبيري ولما يحل ... مني على أضغاث أحلام
فاجعله رسماً دائماً قائماً ... منك ومني أول العام
وأنشد له، وقد مر مع أحد الفقهاء فأبصر غلاماً فتان الصورة:
أفدي الذي مر بي فمال له ... لحظي ولكن ثنيته غصبا
ما ذاك إلا مخاف منتقد ... فالله يعفو ويغفر الذنبا
قال الرقيق في تاريخه: كان عبد الله يسمى الزاهد، فبايع قوماً على قتل والده وأخيه الحكم ولي العهد، فسجنه أبوه، ثم ذبحه بيده يوم الأضحى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وقتل أصحابه قال صاحب سفط اللآلئ: ومن العجائب أن عبد الله كان شافعياً، وأخاه عبد العزيز حنيفاً، والمستنصر مالكياً.

عبد العزيز بن الناصر
ذكره الحميدي وأنشد له ما تركه أولى، وأنشد له صاحب سفط اللآلئ وقال: كان له شعر عراقي المشرع، نجدي المنزع، كقوله:
زارني من همت فيه سحراً ... يتهادى كنسيم السحر
أقبس الصبح ضياء نوره ... فأضا، والفجر لم ينفجر
واستعار الروض منه نفحة ... بثها بين الصبا والزهر
أيها الطالع بدراً نيراً ... لا حللت الدهر إلا بصري
وكان مغرماً بالخمر والغناء، فتر الخمر لبغض أخيه فيها، فقال: لو ترك الغناء لكمل سروره، فقال: والله لا تركته حتى تترك الطيور تغريدها، ثم قال:
أنا في صحة وجاه ونعمى ... هي تدعو للذة الألحان
وكذا الطير في الحدائق تشدو ... للذي سر نفسه بالعيان
أخوهما
أبو عبد الله محمد بن الناصر
من السقط. أنه كان شاعراً، أديباً، حسن الأخلاق كريم السجايا، له من قصيدة، وقد قدم أخوه المستنصر من بعض غزواته:
قدمت بحمد الله أسعد مقدم ... وضدك أضحى لليدين وللفم
لقد حزت فينا السبق إذ كنت أهله ... كما حاز بسم الله فضل التقدم
ابن أخيهم أبو عبد الله
محمد بن عبد الملك بن الناصر
ذكره الثعالبي في اليتيمة، وأنشد له من قصيدة خاطب بها العزيز صاحب مصر:
ألسنا بني مروان، كيف تبدلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر
إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض، واهتزت إليه المنابر
فأجابه العزيز: عرفتنا فهجوتنا، و لو عرفناك لأجبناك. وفضله الحجاري في الشعر. ومن أحسن ما أنشد له صاحب السقط قوله:
أتاني وقد خط العذار بخده ... كما خط في ظهر الصحيفة عنوان
تزاحمت الألحاظ في وجناته ... فشقت عليه للشقائق أردان
وزدت غراماً حين لاح كأنما ... تفتح بين الورد آس وسوسان
وقوله من قصيدة:
وإني إذا لم يرضى قلبي يمنزل ... وجاش بصدري الفكر جم المذاهب
جليد يود الصخر لو أن صبره ... كصبري على ما نابني للنوائب
وأسرى إلى أن يحسب الليل أنني ... لطول مسيري فيه بعض الكواكب
وولى الإمامة ولداه: المرتضى والمعتد.
الشريف الطليق أبو عبد الملك مروان
ابن عبد الرحمن بن مروان بن الناصر
من الجذوة: أن أكثر شعره في السجن. وقال ابن حزم: إنه في بني أمية كابن المعتز في بني العباس ملاحة شعر وحسن تشبيه. سجن وهو ابن ست عشرة سنة.
ومكث في السجن ست عشرة سنة، وعاش بعد إطلاقه من السجن ست عشرة سنة، ومات قريباً من الأربعمائة. وكان فيما قيل يتعشق جارية كان أبوه قد رباها معه، وذكرها له، ثم بدا له فاستأثر بها، وأنه اشتدت غيرته لذلك، فانتضى سيفاً، وانتهز فرصة في بعض خلوات أبيه معها، فقتله، وعثر على ذلك، فسجن. وذلك في أيام المنصور أبي عامر محمد ابن أبي عامر. ثم أطلق بعد ذلك فلقب الطليق لذلك ومن مستحسن شعره قصيدة أولها:

غصن يهتز في دعص نقا ... يجتني منه فؤادي حرقا
أطلع الحسن لنا من وجهه ... قمراً ليس يرى ممحقا
ورنا عن طرف ريم أحور ... لحظه سهم لقلبي فوقا
وفيها:
أصبحت شمساً وفوه مغرباً ... ويد الساقي المحيي مشرقا
فإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخد منه شفقا

بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا
الكتاب الثالث من الكتب التي يشتمل عليها
كتاب الحلة الذهبية في حلى الكورة القرطبية وهو
كتاب البدائع الباهرة في حلى حضرة الزاهرة
هي عروس لها منصة وتاج وسلك وحلة: المنصة .... التاج
المؤيد هشام
قال ابن حيان: وانهمك هشام طول أيامه... ونال في مدة هذا الانهماك والدعة أهل الاحتيال من الناس.. الرغائب النفسية بما ازدلفوا به من أثر كريم أو زخرفوه من كذب صريح، حتى لقد اجتمع عند نساء القصر ثمانية حوافر، عزي جميعها إلى حمار عزير المستحيى بالأية الباهرة، واجتمع عندهن من خشب سفينة نوح عليه السلام وألواحها قطعة، وظفرن من نسل غنم شعيب عليه السلام بثلاث. وكثير من ذا توجهت على أمواله منه أعظم حيلة، ولهجن مع ذلك بطلب ذوي الأسماء الغريبة من الناس مثل: عبد النور، وعبد السميع، وحزب الله، ونصر الله، يصير الرجل من هؤلاء في الحاشية، ويستعمل على وكالة جهة، ولا يبعد أن يتمول في أقرب مدة. وإن اتفق أن يكون مع ذلك ذا لحية عظيمة، وهامة ضخمة، تقدمت به السعادة، ولا سيما إن كانت لحيته حمراء قانية، فإنها أجدى عليه من دار البطيخ غلة. ثم لا يسأل عما وراء ذلك من أصل وفضيلة، ولو كان مردداً في بني اللخناء ترديداً. وذكر في شأن الدعي الذي تشبه بهشام أنه ظهر في المرية في أيام زهير سنة ست وعشرين وأربعمائة. ثم ظهر عند القاضي ابن عباد بإشبيلية، وخطب له مغالطاً باسمه، ومستميلاً قلوب الناس. ووجه ابن جهور أمير قرطبة من وقف على غيه، وصحت عنده الشهادة به، وخطب له، ثم رجع عن ذلك.
قال: وأظهر المعتضد بن عباد موت هذا الدعي.
وهول الحجاري حديثه في التخلف وقال: نشأ جامد الحركة، أخرس الشمائل، لا يشك المتفرس فيه أنه نفس حمار في صورة آدمي. وعشق في صباه نباح كلب فجعل الغلمان يهيجونه، حتى ينبح، ليلتذ بذلك. وكلما زاد سناً نقص عقلاً ولما خلعه المهدي وحصل في قبضته قال لأحد غلمانه، وقد ذهبت دولته، وهتك حرمه: بالله انظر هدهدي إن كان سلم، وافتقده لئلا يهلك بالجوع والعطش، فإنه من ذرية الهدهد الذي دل سليمان على عرش بلقيس. قال المأمور بهذا: فكدت والله أخنقه، فيستريح، ويستراح منه.
وكانت أمه صبح هي التي أظهرت المنصور بن أبي عامر، ويقال إنها أرضعته، ولهذا كان يقال له ظئر هشام، فلما تغلب ولم يرع صبحاً قالت لابنها: أما ترى ما يصنع هذا الكلب؟ فقال: دعيه ينبح لنا، ولا ينبح علينا.
ومن تخلفه أنه رام الصعود إلى برج يتفرج فيه، فنزل في دهليز تحت الأرض، فلما طال عليه النزول، وأظلم المكان، قال للذي معه: يا إنسان! أين أعلى البرج؟! قال: فقلت: يا مولاي، ليس هذا بابه، وإنما هذا باب الدهليز الذي تحت الأرض. قال: صدقت. وإلا لو كان باب البرج كان يكون فيه خابية الماء! وإنما جعل الخابية شرطاً، لأنه كان له برج يعتاد صعوده، وفي بابه خابية.

ونظر يوماً إلى بغلة كانت من تحف الملوك، وقد جعل على فرجها ما جرت به العادة، خوف تعدى السواس عليها. فقال: لم صنعت هذه الأخراس على حر هذه البغلة؟ فعرفه بالعلة، فقال: فاجعل على حجرها أخراساً أخر، فقد يكون في السواس لاطة! قال: فوالله ما قدرت على أن أملك الضحك، فخالسته، وتحملت على تقطيعه وستره، ثم قلت: يا سيدي، البغلة إذا خيط. فرجها قدرت على أن تبول منه، وكيف تصنع إذا خيط. حجرها بما يخرج منه، قال: صدقت، فاجعل على حراستها شاهدين عدلين يرقبان ذلك الموضع، فقلت له: سأكلم الحاجب، قال: وانفصلت إلى ابن أبي عامر، لأطرفه بما جرى، فلما أخبرته سجد، وجعل يكرر حمد الله. قال: ثم قال لي: أتعلم أن في هذا الذي أنكرته صلاح المسلمين؟! وذلك أن السلطان الذي تصلح معه الرعية اثنان: إما سلطان قاهر ذو رأي، عارف بما يأتي ويذر، مستبد بنفسه، وإما سلطان مثل هذا تدبر الدنيا باسمه، ولا يخشى المتفرغ لحراسة سلطانه غائلة؛ والمتوسط يهلك ويهلك.
ودخل عليه يوماً أحد الفقهاء ليستفتيه في مسألة تختص بحرمه، فلما فرغ من سؤاله، قال له: يا فقيه، إنا في هذا البستان نعرض لمشاهدة هذه الطيور في مسافدتها، أتراها تحسب علينا قيادة؟ قال: فقلت له: لا، يا أمير المؤمنين، فقال: الحمد لله وتهلل وجهه، وقال: لقد أزلت عني غماً تراكم في صدري! ثم أمر خادماً واقفاً على رأسه أن يأتيه بسفط، فلما كشفه إذا فيه حصى كثير، فقال: كل حصاة منها مقابلة لمجامعة بين طوير، ونحن نسبح الله كل يوم بهذا العدد، ليكفر عنا تلك الهنات، فقلت: الأمر أهون فقد رخص الله لأمير المؤمنين في ذلك.
وكانت له جارية من أحسن ما تقع عليه العين، فلما أراد أن يستقضها وجدها ثيباً، فسألها، فقالت: بينما أنا ذات يوم راقدة تحت الشجرة الفلانية في البستان، وإذا بمن نزه الله ذكره عن هذا المكان قد جامعني واستفضني، فاستيقظت، فوجدت الدم على رجلي، وخفت الفضيحة، وكتمت ذلك. فبكى هشام المتخلف، وقال: أبلغت أنا من العناية عند الله أن يأتي من أتاك إلى بستاني ويستفض جاريتي؟ أنت حرة لوجه الله! وأمر في الحين أن تبنى بذلك الموضع رابطة يتعبد فيه. ووجد بخطه على هذا البيت:
ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل
هذا وقت كان بعر الغزلان فيه ييبس للشمس بدل الزبيب، ويوكل، فسبحان الذي عوضنا منه بالزبيب الطيب ببركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن السلك
من كتاب رغد العيش في حلى قريش
المطرف بن عمر الهشيمي
من ولد هشيم بن عبد الملك
ابن المغيرة بن الوليد بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان
من السقط: أنه من متميزي المروانيين وشعرائهم، وكان المظفر بن أبي عامر يحسن له، وله فيه أمداح منها قوله:
إن المظفر لا يزال مظفراً ... حكماً من الرحمن غير مبدل
تلقاه صدراً كلما قابلته ... مثل السنان بمحفل وبجحفل
وطلبه المهدي، ففر إلى شرق الأندلس، وصحب المرتضى.
وله في شعر:
وكدر عيشي بعد صفو وإنما ... على قدر ما يصفو الخليل يكدر
أبو عثمان سعيد بن عثمان
بن مروان المعروف بالبلينة
قال الحميدي: هو من شعراء الدولة العامرية وأنشد له من قصيدة في المنصور بن أبي عامر:
من لي بمن تأبى الجفون لفقده ... في الدهر ألا نلتقي أو نلتقى
ريم يروم وما اختبرت جريمة ... قتلي ليتلف من بقائي ما بقى
وإذا رماني عن قسي جفونه ... لم أدر من أي الجوانب أتقى
قال: وفيها مدح مفرط الحسن أعطاه عليها ثلثمائة دينار: ومن السقط: أنه من نبهاء بني مروان، ومتقدمي شعرائهم. والبلينة: حوت كبير يعرف بدابة البحر.
ولما هجره المنصور بن أبي عامر، دخل عليه ومجلسه غاص، فأنشده:
مولاي مولاي أما آن أن ... تريحني الأيام من هجركا
وكيف بالهجر وأني به ... ولم أزل أسبح في بحركا
فضحك وأقبل عليه.
وأنشد له صاحب اليتيمة:
والبدر في جو السماء قد انطوى ... طرفاه حتى عاد مثل الزورق
فتراه من تحت المحاق كأنما ... غرق الكثير وبعضه لم يغرق
ومن كتاب تلقيح الآراء

في حلى الحجاب والوزراء
المنصور أبو عامر
محمد بن أبي عامر المعافري
الذي حجب المؤيد، وكان في منزلة سلطان، وهو مذكور في كتب كثيرة، ولابن حيان فيه كتاب مفرد، قال الحميدي: أصله من الجزيرة الخضراء وله بها قدر وأبوة، وورد شاباً إلى قرطبة، فطلب العلم والأدب، وتمهر، وكانت له همة لم تزل ترتقى من شيء إلى أن اعتنت به صبح أم هشام المؤيد، فصارت له الحجابة، وكان له مجلس معروف في الأسبوع، يجتمع فيه أهل العلم. وغزواته نيف وخمسون غزوة، وله فتوح كثيرة، وكان في أكثر زمانه لا خيل بغزوتين في السنة.
ومن خط ابن حيان: هو أبو عامر محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر محمد بن الوليد بن سويد بن عبد الملك. وعبد الملك جده هو الداخل للأندلس مع طارق في أول الداخلين من العرب، وهو وسيط في قومه.
وذكر أن المستنصر ولى ابنه هشاماً العهد وهو غلام، ولما مات قام بأمره جعفر المصحفي الحاجب، وعدل عن المغيرة الذي أراد الصقالبة مبايعته وهو أخو المستنصر. وقال: إن أبقينا بن مولانا كانت الدولة لنا، وإن استبدلنا به استبدل بنا. وبعث ابن أبي عامر إلى الغيرة فقتله في داره. وكان عبد العزيز أخو المستنصر تقدم بمديدة. واشتغل الأصبغ ببطالة أزالت عنه التهمة. وذكر أن المصحفي استأثر بالأموال، وبنى المنازل، وهدم الرجال، وعارضه من ابن أبي عامر فتى ماجد،، أخذ معه بطرفي نقيض: بالبخل جوداً، وبالاستبداد أثرة، وباقتناء الضياع اصطناع الرجال، فظهر عليه عما قليل. وكانت حال ابن أبي عامر متمكنة عند الحرم لقديم الاتصال، وحسن الخدمة، والتصدي لمواقع الإرادة، وطلاقة اليد في باب الألطاف، وأخرجن له أمر الخليفة هشام إلى حاجبه المصحفي في الاستعانة به والموازرة. واستراح المصحفي إلى كفايته، واغتر بخدمته ومكره، وأخذ المصحفي يدفع الرجال، وابن أبي عامر يضمهم، إلى أن غلب عليه. وذكر أنه في مدة المستنصر ولى قضاء كورة رية وقضاء إشبيلية، وارتقى إلى خطة الشرطة بالحضرة والسكة، فعلت حاله، وهمته ترتمي أبعد مرمى، وهو في ذلك كله يغدو إلى باب المصحفي ويروح. فما ثبتت قدمه امتثل رسم أمراء الديلم المتغلبين في عصره على بني العباس ونسخ رجال الدولة برجاله. وأول عروة نقضها فتكه في جماعة الصقلب المتمردين، واستخراج الأموال العظيمة منهم، وكانت النصرانية قد جاشت بموت المستنصر، وجاء صراخهم إلى باب قرطبة، وظهر من المصحفي جبن، وأمر أهل قلعة رباح بقطع سد نهرهم، يلتمس بذلك دفاع العدو من حوزته. فأنف ابن أبي عامر من ذلك، وقام بأمر الجهاز، ويعان بمائة ألف مثقال، فلما قفل ظافراً وقد ملك الجند بما رأوه من حسن كرمه سمت همته، وأخذ نفسه بالتغلب على مكان المصحفي، فاستعان بغالب الناصري صاحب مدينة سالم، شيخ الموالي، وفارس الأندلس، وصاهره، وان عدواً للمصحفي، فتمكن، وصار عند المصحفي كلا شيء، إلا أنه غالطه مديدة، ولم يشك المصحفي في الإدبار، إلى أن عزل، وسخط السلطان عليه وعلى أولاده وأسبابه، وطولبوا بالأموال، و تمكن منهم ابن أبي عامر كيف شاء، وكان لا يريح المصحفي من المطالبة، وإذا سم من أذاه أسلمه إلى عدوه غالب، إلى أن هلك في سجنه كما تقدم في ترجمته.
ثم حصلت وحشة بني صبح أم هشام الخليفة وبين المنصور آل الأمر فيها إلى أن كنت الغلبة له، وأخذ الأموال التي كانت في القصر مختزنة، ونقلها إلى داره، ووكل بالقصر من أراد، وصات الدولة باطناً وظاهراً على حكمه.

وكان في أثناء ذك مريضاً، وأرجف أعداؤه به، ولما أفاق وصل إلى الخليفة هشام، واجتمع به، واعترف له بالاضطلاع بالدولة، فخرست ألسنة الحسدة، وعلم ما في نفوس الناس، لظهور هشام ورؤيته، إذ كان منهم من لم يره قط. فأبرزه، وركب ركبته المشهورة، وقد برزوا له في خلق عظيم لا يحصيهم إلا رازقهم، معاً على الطويلة، سادلاً للذؤابة، والقضيب في يده، على زي الخلافة، وإلى جانبه المنصور راكباً يسايره، وعبد الملك بن المنصور راجلاً يمشي بين يديه، ويسير الجيش أمامه. وخرج المنصور إلى الغزاة، وقد وقع في مرضه الذي مات منه في صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، واقتحم أرض جليقية من تلقاء طليطلة إلى أرض قشتلة، بلد شانجه بن غرسية، وهو كان مطلوبه؛ فأحال الغارة على بلاده، وقويت هنالك علته، فاتخذ سرير خشب يحمله السودان على أعناقهم، واشتدت عليه الخلقة، فوصل إلى مدينة سالم، وأيقن بالموت، فقال: إن زمامي يشتمل على عشرين ألف مرتزق، ما أصبح منهم أسوأ حالاً مني فأمر ابنه عبد الملك بالنفوذ إلى قرطبة بعد ما أكثر وصيته، وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر.
وذكر ابن حيان: أن أباه خلف بن حسين دخل على المنصور حينئذ، وهو كالخيال، وأكثر كلامه بالإشارة. ومات ليلة الاثنين، لثلاث بقين من رمضان سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وأوصى أن يدفن حيث يقبض، فدفن في قصره بمدينة سالم.
واضطرب الموالي على ابنه عبد الرحمن، وقالوا: إنما نحن في حجر آل أبي عامر الدهر كله!.
وكان عليه في قرطبة من الحزن يوم وصول العسكر ما لا شيء فوقه، وكان مما أوصى ولده عبد الملك ألا يلقى بيده إلقاء الأمة فينشب في حبس بني أمية.
قال: فإن انقادت لك الأمور بالحضرة، وإلا فانتبذ بأصحابك وغلمانك إلى بعض الأطراف التي حصنتها لك، وانتظر غدك إن أنكرت يومك، وإياك أن تضع يدك في يد بني مروان فإني أعرف ذنبي لهم.
ومن فرحة الأنفس: دامت دولته ستاً وعشرين سنة، فيها اثنتان وعشرون غزوة. ومن المسهب: أنه استعان أولاً بالمصحفي على الصقالبة، ثم بغالب على المصحفي، ثم بجعفر ممدوح ابن هانئ على غالب، ثم بعبد الرحمن بن هاشم التجيبي على جعفر، وعدا بنفسه على عبد الرحمن وقال للدهر هل من مبارز!.
وعلى قبره مكتوب:
آثاره تنبيك عن أوصافه ... حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله ... أبداً ولا يحمي الثغور سواه
وقيل إنه وصل من قرية كرتش من عمل الجزيرة الخضراء، برسم طلب العلم، وترقى من الكتابة أمام باب القصر إلى أن صار القصر بحكمه.
وأنشد له ابن حيان:
رميت بنفسي هول كل عظيمة ... وخاطرت والحر الكريم يخاطر
وما شدت بيتاً لي ولكن زيادة ... على ما بنى عبد المليك وعامر
رفعنا المعالي بالعوالي بسالة ... وأورثناها في القديم معافر
وله حكايات في الجهاد والغيرة والهيبة كثيرة، رحمة الله عليه.

أبو مروان عبد الملك بن أحمد بن شهيد
أبوه أحمد الوزير المذكور في الزهراء. وابنه أحمد المذكور في قرطبة، استوزره المنصور بن أبي عامر، واكتسب معه أموالاً عظيمة.
وذكر صاحب المطمح: أنه حضر يوماً عند المنصور على راحة، فتناهى الطرب بالمنصور وندمائه، إلى أن تصايحوا، وتراقصوا، وبلغ الدور بالكأس إلى ابن شهيد، وكان لا يطيق القيام من نقرس، فأقامه الوزير ابن عباس، فارتجل هذه الأبيات، و جعل يغرد بها:
هاك شيخ قاده ود لكا ... قام في رقصته منهتكا
لم يطق يرقصها مستثبتاً ... فانثنى يرقصها مستمسكا
أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالاً على رأسي لكا
فهقه الإبريق مني ضحكا ... ورأى رعشة رجلي فبكى
ومن كتاب بغية الراد في حلى الرؤساء والقواد
القائد يعلى بن أحمد بن يعلى
ذكر الحميدي في الجذوة أن يعلى كان شاعراً، وأنشد له، وقد بعث بورد مبكر إلى المنصور بن أبي عامر:
بعثت من جنتي بورد ... غض له منظر بديع
فقال ناس رأوه عندي ... أعجله عامة المريع
قلت: أبو عامر المعلى ... أيامه كلها ربيع
ومن كتاب أردية الشباب في حلى الرؤساء والكتاب

أبو حفص أحمد بن برد
من الذخيرة: أن المظفر بن أبي عامر ولاه ديوان الإنشاء بعد القبض على أبي مروان الجزيري، ثم كتب لملوك الفتنة، ورقاه للوزارة المستظهر وكان واسطة السلك، وقطب رحى الملك. وبنو برد موالي بني شهيد. وتوفي بسرقسطة سنة ثمان عشرة وأربعمائة، وقد نيف على الثمانين.
وعنوان بلاغته في النثر، قوله من رسالة عن المظفر حين قتل صهره عيسى بن سعيد بن القطاع.
أيها الناس، ونقكم الله بعصمته، واستنقذكم برحمته، إن من علم منكم حال الخائن عيسى بن سعيد بالمشاهدة، ورأى مبلغ النعمة عليه بالمحاضرة، فقد اكتفى بما شهد، واجتزأ بما حضر، ومن غاب عنه كنه ذلك، فليعلم أنا أخذناه من الحضيض الأوهد، وأنتشلناه من شظف العيش الأنكد، ورفعنا خسيسته، وأتممنا نقيصته، وخولناه صنوف الأموال، وصيرنا حاله فوق الأحوال، بدأ بذلك المنصور مولاي رحمه الله، فاعتمدته، وأسبغت من نعمي عليه، ما أحوج العامة والخاصة إليه، فلا أقر لنا بحق، ولا قابل إحساننا بصدق، ولا عامل رعيتنا برفق، ولا تناول خدمتنا بحذق، بل أعلن بالمعاصي، واستذل الأعزة، وذوي الهيئات والمروة، وناجزهم وأنس بأضدادهم، ونبذ عهودنا، وخالف سبلنا، وكدر على الناس صفونا، حتى إذا ملكه الأشر، وتناهى به البطر، وعلت به الأمور، وغره بالله الغرور، وحاول شق عصا الأمة، وهد ركن الخلافة، بما احتجن من حرام الأموال، واستمال من طغام الرجال، فحجته نعمنا عليه، وخصمته عوارفنا لديه، وكشف لنا سريرته، حتى صرعه بغيه، وأسلمه غدره، وأخذه الله بما اجترح، وأوبقه بما اكتسب، فأعجلناه عن تدبيره، وصار إلى نار الله وسعيره.
وكان ابن القطاع قد أراد أن يقلب الدولة، ويولى الخلافة هشام بن عبد الجبار بن الناصر المرواني، فقتله المظفر في مجلس شراب.
ومن كتاب الياقوت في حل ذوي البيوت
عبد الرحمن بن محمد بن النظام
من المسهب: أنه كان من نبهاء الدولة العامرية، وأنشد له ملغزاً في مبخرة:
وجاثمة لها ابن مستطار ... يفارق جسمه عند احتراق
ولم أر قبله من ذي نعيم ... يحرق جسمه والروح باق
إذا صاحبته لم يبد شخصاً ... ولا يخفى عليك لدى التلاق
أبو مضر محمد بن الحسين التميمي الطبني
هو أصل بني الطبني: أهل البيت الشهير بقرطبة. من الجذوة: أنه من بني حمان، شاعر مكثر، وأديب مفتن، ومن بيت أدب وشعر وجلالة، كان في أيام المستنصر، وله أولاد نجباء مبرزون في الأدب والفضل. وذكر ابن حيان: أنه كان شاعراً عالماً بأخبار العرب وأنسابهم. شرب يوماً مع المنصور بن أبي عامر فغنت قينة ببيتين من شعره:
صدفت ظبية الرصافة عنا ... وهي أشهى من كل ما يتمنى
هجرتنا فما إليها سبيل ... غير أنا نقول: كانت وكنا
فاستعادها أبو مضر، فأنكر ذلك المنصور، وعلم أن هيبته لم تملأ قلبه، فأومأ إلى بعض خصيانه، فأخرج رأس الجارية في طست، ووضعه بين يدي الطبني، وقال له المنصور: مرها فلتعد، فسقط في يده.
ومن المسهب: أنه وفد على المنصور من طبنة قاعدة الزاب فاستوطن حضرته، وكان مع شعره وعلمه وارتفاع مكانه له خفة روح، وانطباع نادر جذب بهما هواه وأحسن ما أختاره من شعره قوله:
اجتمعنا بعد التفرق دهراً ... فظللنا نقطع العمر سكرا
لا يراني الإله إلا طريحاً ... حيث تلقى الغصون حولي زهرا
قائلاً كلما فتحت جفوني ... من نعاس الخمار: زدني خمرا
أبو بكر عبد الله بن أبي الحسن
من المسهب: من أعيان قرطبة، وممن يحضر مجلس ابن أبي عامر، وبلغ ابن أبي عامر عنه ما أوجب طلبه، فاستخفى مدة، وأحسن ما أنشد له قوله في رثاء صديق له اعتبط:
رجعت على رغم الوفاء إلى الصبر ... كما صبر الظمآن في البلد القفر
وقلت لعيني: ما وفيت وإن جرت ... عليك كما ينهل منسكب القطر
وكيف أوفى قدر ثكلي بعد من ... دفنت به الآمال أجمع في قبر
على حين لم أبصر به ما رجوته ... ولم أر من ذاك الهلال سنا البدر
فواهاً لعمر منك لذ قصيره ... فكان خفيفاً مثل إغفاءة الفجر
أبو عبد الله محمد بن شخيص

من المسهب: أحد من له البيت الرفيع، والنظم البديع، وممن يحضر مجلس المظفر بن أبي عامر. وماشاه يوماً في بستان، فنظر إلى ورد مقابل آس ورغب أن يقول في ذلك، فقال:
أراد الورد بالاس انتقاصاً ... فقال له: نقيصتك الملال
فقال الورد: لست أزور إلا ... على شوق كما زار الخيال
وأنت تديم تثقيلاً طويلاً ... تدوم به كما رست الجبال
فتسأمك العيون لذاك بغضاً ... وترقبني كما رقب الهلال
وذكر الحميدي أنه مات قبل الأربعمائة.

جعفر بن أبي علي القالي
من المسهب: بنى له أبوه بقرطبة مرتبة بقيت محفوظة، ورفع له ذكراً ووطد له كرامة لم تزل ملحوظة، وحمى ما غرسه له أبوه، وثمره بناصع أدبه. قال: ومن فطانته أنه دخل يوماً على المنصور بن أبي عامر، فقال له من أراد ينكت عليه: يا مولانا هذا هو القالي. فقال جعفر: لأعداء الحاجب أذلهم الله بعزته. فاستحسن ذلك المنصور.
ومن أحسن ما أنشد له قوله من شعر:
بين العذيب وبين وادي المنحني ... خلفت قلبي للصبابة والعنا
الموت أحسن من فراقك ساعة ... أتراك تحسب من تفارق في هنا
ودعت منك الغصن يبسم زهره ... والورد عانق آسه والسوسنا
ورحلت منك بعبرة ما تنقضي ... فحسبت جفني للسحائب معدنا
قال: وثار في خاطره أن يرحل إلى موطن أصله، ويجتمع هنالك مفترق شمله، ويحل بين من له به من الأقارب، ولا يثني العنان بعد إلى المغارب، فلما حل بغداد، أكذبت عينه ظنه، وأجدب المراد، وأخفق المراد، فرجع لا يلوي على متعذر، ولا يمر بغير مستكره عنده متكدر، فقال:
حننت إلى بغداد حيث تمكنت ... أصولي فلما أن حللت ببغداد
رأيت دياراً يبعث الهم لحظها ... وقوماً يسومون الغريب بأحقاد
فوليت عنهم عائداً غير عاطف ... وإن كان فيما بينهم نشء أجدادي
وجزت على مصر فغمضت مقلتي ... وقلت بعنف مغرب الشمس يا حادي
وكان أشد ما لقيه ببغداد، أنه حرد يوماً بحضرة جماعة منهم، وأفرط في سوء الخلق، فقال له أحدهم: يا هذا، بئس ما عوضتنا عما نقله أبوك من بلدنا إلى المغرب: حمل عنا علماً وأدباً، وجئتنا بجهل وسوء أدب، فقال: المشي يلزمني إلى مكة حافياً راجلاً إن قعدت لكم في بلد من يومي هذا. وخرج من حينه، فقال له البواب: من أين أتيت يا إنسان؟ فقال بشدة الغيظ: من لعنة الله! فقال: اصبر حتى أستأذن عليك! وكتب بذلك للوزير، فقال الوزير: لا ينكر هذا الخلق على مغربي، فأطلقوه ينصرف إلى موضعه الذي ذكر.
ومن كتاب نجوم السماء في حلى العلماء
أبو الأصبغ
عيسى بن عبد الملك بن قزمان
معدود في علماء الحديث والأدب، وكان المنصور بن أبي عامر قد جعله يؤدب هشاماً المؤيد.
وأنشد له حبيب الأندلس في كتاب فصل الربيع:
لا شيء أحسن منظراً إن زرته ... أو مخبراً من حسن روض ناضر
إن جئته أعطاك أجمل منظر ... أو غبت زارك في النسيم الخاطر
وأنشد له أبو الحجاج البياسي مؤرخ الأندلس:
ومما شجاني هاتف يبعث الأسى ... فهيج من قلبي ومن خفقانه
يكاد القضيب اللدن يعشق قده ... فيذهله بالميس عن طيرانه
وبيت بني قزمان أفي قرطبة بيت جليل منه أعلام ونبهاء، ومنهم أبو بكر بن قزمان الزجال.
الحكيم الأديب أبو عبد الله
محمد بن الحسن المذحجي
المعروف بابن الكتاني
من الجذوة: له مشاركة قوية في علم الأدب والشعر وله تقدم في علوم الطب والمنطق، وكلام في الحكم، و رسائل في ذلك كله وكتب معروفة.
وعاش بعد الأربعمائة مدة.
ومن شعره قوله:
نأيت عنكم بلا صبر ولا جلد ... وصحت وا كبدي حتى مضت كبدي
أضحى الفراق رفيقاً لي يواصلني ... بالبعد والشجو والأحزان والكمد
وبالوجوه التي تبدو فأنشدها ... وقد وضعت على قلبي يدى بيدي
إذا رأيت وجوه الطير قلت لها: ... لا بارك الله في الغربان والصرد
أبو الأصبغ عيسى بن الحسن

من المسهب من شعراء الدولة العامرية، من شعره قوله في عيسى بن سعيد ابن القطاع:
أنت عيسى بن سعيد ... لست روح الله عيسى
كلم الناس فقد كل ... م رب الناس موسى
وكان ممن باطن عبد الله بن المنصور بن أبي عامر، فلما ضرب أبوه عنقه سجن أبا الأصبغ. وفي طول سجنه يقول:
ليت شعري كيف البلادو كيف ال ... إنس والوحش والسما والماء
طال عهدي عن كل ذاك، وليلي ... ونهاري في مقلتي سواء
ليس حظي من البسيطة إلا ... قدر قبر صبيحة أو مساء
وإذا ما جنحت فيه لأنس ... أوحشتني بأنسها الأغبياء
؟

الحلة
من كتاب تلقيح الآراء في حلى الحجاب والوزراء
المظفر عبد الملك بن المنصور
بن أبي عامر
ذكر ابن حيان ضبطه للدولة بعد موت أبيه، ونفيه من خاف فتنه من الغلمان إلى سبتة، وأحبه الناس، وانصب التأييد والإقبال عليه انصباباً لم يسمع بمثله، وسكن الناس منه إلى عفاف ونزاهة، فأخذوا في المكاسب والزينة، وبلغت الأندلس في أيامه إلى نهاية الجمال والكمال.
وكان أحمد بن فارس المنجم قد قال: لم يولد بالأندلس قط أسعد من المظفر على نفسه وعلى أبيه وحاشيته، نعم! وعلى أهل الأندلس طراً، وأنها لا تزال بخير حياته، فإذا هلك لم تفلح، فكان كذلك. وكانت نفائس الأعلاق والآلات الملوكية قد ارتفعت في وقته ارتفاعاً عظيماً، وبلغت الأندلس في مدته إلى نهاية الهدو والرفاهية، وجرى على سنن أبيه من غزوة النصارى، وضبط الدولة، ورام صهره عيسى بن سعيد المعروف بابن القطاع أن يأخذ الدولة، فغطن به، وعاجله وقتله في مجلس المنادمة.
إلا أنه لم يكن فيه للأدب ما كان له من أبيه، فقد وصفه ابن حيان بأنه كان مائلاً لمجالسة العجم الجفاة من البرابر والإفرنج، منهمكاً في الفروسية وآلاتها، إلا أن أصحاب أبيه لم يخل بهم ولا جفاهم، بل أبقاهم على رسمهم.
أخوه الناصر
عبد الرحمن بن المنصور
كان هذا الرجل بضد أخيه، إذ قام نحساً على نفسه وعلى أهل الأندلس، فمنه انفتح باب الفتنة العظمة وفسد الناموس.
لما مات أخوه استولى على حجابة هشام المؤيد، فأخذ في الانهماك شرباً وزندقة وحكى عنه من الطعن في الدين قولاً وفعلاً حكايات شنيعة، ومع هذا فإنه طلب من هشام أن يوليه العهد بعده، ففعل، ولقبه بالمأمون، ورأى بنو مروان أن الخلافة خارجة عنهم، فثار عليه المهدي بن عبد الجبار. وكان الناصر غائباً في طليطلة، فرجع إلى قرطبة ليصلح ما فسد، فتلقاه عسكر حزوا رأسه. وقد أفرده أصحابه لسوء تدبيره، وانقرضت الدولة العامرية.
ومن كتاب الأحكام في حلى الحكام
أبو بكر محمد بن إسحاق بن السليم
أطنب ابن بشكوال في تعظيمه علماً وعبادة، وذكر أنه رحل وحج. وكان يتصيد الحيتان بنهر قرطبة، ويقتات من ثمنها. ولاه قضاء الجماعة المستنصر، بعد وفاة منذر، ولم يطرق له بعيب إلا من جهة التطويل في أحكامه. ثم ولاه الصلاة والخطبة. وتوفي يوم الثلاثاء عقيب جمادى الأولى سنة سبع وستين وثلاثمائة.
أبو بكر محمد بن يبقى بن زرب
من الجذوة: قاضي الجماعة بقرطبة. سمع من أبي محمد قاسم بن أصبغ البياني وغيره، وكان فقيهاً فاضلاً نبيلاً جليلاً، وله كتاب في الفقه سماه الخصال. كان في أوائل الدولة العامرية. وفي كتاب القضاة ذكره. وروى عنه القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث بن الصفار وأبو بكر عبد الرحمن بن أحمد بن حوبال وغيرهما.
أبو عبد الله محمد بن يحيى بن زكريا
المعروف بابن برطال
قال ابن حيان في كتاب القضاة: إنه خال المنصور بن أبي عمر، وكان من بيت غنى وثروة، وشهر صلاحه، إلا أنه لم يكن من العلماء.
ودام إلى أن ظهر اختلاله بكبر السن، وغلبه ولده أحمد عن أمره، ولم يك بالمرضي عند الناس فتخوف ابن أبي عامر عند ذلك، فعزله عن القضاء، ناقلاً إلى خطة الوزارة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة.
أبو العباس أحمد بن محمد بن ذكوان

من كتاب ابن حيان: أن ابن أبي عامر قلده القضاء بعد خاله، قال: والناس ينسبون بني ذكوان إلى برابر فحص البلوط. وهم يزعمون أنهم من بني سليم من موالي بني أمية. واتصلت ولايته إلى قيام الفتنة، وسعى عليه ابن القطاع فعزل، ثم رد إليها، واعتلت منزلته في مدة المظفر بن أبي عامر وأخيه الناصر، وقلده الناصر الوزارة، وكان يكتب عنه من الوزير قاضي القضاة، وهو أول من كتب عنه بذلك من قضاة الأندلس. فلا كان قضاء القضاة من خطط الدولة المروانية، لأنهم لم يفوضوا أمر القضاة إلى قاض في وقت من الأوقات. ومال إلى البرابر في الفتنة، فقبض عليه واضح مولى أبي عامر مدبر دولة هشام أسوأ قبض، ونفي إلى بر العدوة في وقت تنكر البحر، فسلمه الله إلى وهران إلى أن قتل واضح. فاسترجع إلى قرطبة، ولم يقبل خطة القضاة بوجه. وكان السلطان لا يقطع أمراً دونه، وصحبته الرياسة بقية مدته إلى أن مات على تلك الحال، فدفن صلاة العصر من يوم الأحد لتسع بقين من رجب سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، بمقبرة العباس مع سلفه، ولم يتخلف عنه كبير أحد من الخاصة والعامة، وشهد الخليفة يحيى بن علي ابن حمود جنازته.

أبو المطرف
عبد الرحمن بن محمد بن فطيس
من كتاب ابن حيان أنه ولي القضاء بين مدتي أبي العباس بن ذكوان. وهو أحد الأعاظم من وزراء السلطان في أحد البيوت المولوية التي انتهى إليها الشرف. وممن جمعه إلى ذلك الارتسام بالعلم والرواية الواسعة، والتقدم بالعمل في الحكومة بالمظالم والشرطة. وكان مشهوراً بالصلابة في الحق، وإعزاز الحكومة، إلا أنه كان يخلط صرامته ببطش وعجلة وحدة لا تليق بالأحكام. وكان الغالب عليه الرواية والبصر بطريق الحديث. وصاهره ابن القطاع صاحب الدولة العامرية، وكانت وفاته صدر الفتنة، فدفن يوم الثلاثاء للنصف من ذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة.
ومن كتاب نجوم السماء في حلى العلماء
أبو عمر أحمد بن سعيد بن إبراهيم الهمداني
المعروف بابن الهندي
ذكره ابن بشكوال في كتاب الأعلام، وأخبر أنه روى عن أبي علي صاحب الأمالي، وعن قاسم بن أصبغ، وكان حافظاً لأخبار أهل الأندلس، بصيراً بعقد الوثائق، وله فيها ديوان كبير كثير المنفعة.
ولا عن زوجه بالجامع في قرطبة في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، فعوتب في ذلك، وقيل له: مثلك يفعل هذا؟! فقال: أردت إحياء سنة.
قال ابن بشكوال: وكانت وفاته في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وصلى عليه القاضي أحمد بن ذكوان. ومولده لعشر بقين من محرم سنة عشرين وثلثمائة.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الرابع من الكتب التي تشتمل عليها
الكورة القرطبية وهو
كتاب الوردة في حلى مدينة شقندة
كانت في قديم الزمان مدينة، ثم خربت وصارت قرية، وهي مطلة عليها مجاورة لها. منها:
أبو الوليد الشقندي
وحسبه من التنبيه على محله في الأدب رسالته التي تقدمت في صدر كتاب الأندلس، وكان شاهداً عدلاً يتولى القضاء في مثل بياسة وأبدة، وتفنن في العلوم القديمة والحديثة وارتقى إلى أن كان ممن يحضر مجلس منصور بني عبد المؤمن، وكان والدي يقدمه، وأبصرته في إشبيلية في مدة ابن هود، وبها توفي بعد سنة سبع وعشرين وستمائة.
له في مطلع قصيدة في منصور بني عبد المؤمن وقد نهض للنصارى عام الأرك:
إذا نهضت فإن السعد منتهض ... ترمي السعود سهاماً والعدا غرض
لك البسيطة تطويها وتنشرها ... فليس في كل ما قد رمت معترض
وأنشد الوزير ابن جامع قصيدة فيها:
استوقف الركب قد لاحت لك الدار ... واسأل بربع تناءت عنه أقمار
لا خفف الله عني بعد بينهم ... فإنني سرت الأحباب ما ساروا
ألا رعى الله ظبياً في قبابهم ... منه لهم في ظلام الليل أنوار
غدا أنيساً بهم لا شيء يذعره ... لكنه عن جنابي الدهر نفار
فقال له الوزير: يا أبا الوليد! هذا الظبي نفارك، فمن تواقك؟ فخلج. وله:
عللاني بذكر من همت فيه ... وعداني عنه بما أرتجيه

وإذا ما طربتما لارتياحي ... فاجعلا خمرتي مدامة فيه
ليت شعري وكم أطيل الأماني ... أي يوم في خلوة ألتقيه
وإذا ما ظفرت يوماً بشكوى ... قال لي: أين كل ما تدعيه
لا دموع ولا سقام فماذا ... شاهد عنك بالذي تخفيه
قلت: دعني أمت بدائي فإني ... لو براني الغرام لا أبديه

بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الخامس
من الكتب التي يشتمل عليها.
كتاب الكورة القرطبية وهو
كتاب الجرعة السيغة في حلى قرية وزغة من قرى قرطبة. ينسب إليها:
أبو جعفر
أحمد بن يحيى الحميري الوزغي
خطيب جامع قرطبة، المصدر به في المائة السابعة لإقراء النحو وفنون الأدب، المشهور بالظرف واللطافة. كان يعشق غلاماً اسمه عيسى فقرأ عليه غلام اسمه محمد، فمال إليه وقال:
تبدلت من عيسى بحب محمد ... هديت ولولا الله ما كنت أهتدي
وما عن ملال كان ذاك وإنما ... شريعة عيسى عطلت بمحمد
ابن أخيه
الحافظ أبو زكريا
كان له نوادر مضحكات مع كونه كان حافظاً لأكثر السيرة وكثير من كتب اللغة، وتقرب إلى سلطان إفريقية ابن عبد الواحد بما حكى له عنه من الغفلة والبله إلى أن صار يحضه، وكان على رأسه طاقية وسخة فأعطاه عمامة كبيرة، فكان يعمم قدر ثلثها، ويجعل الثلثين في كمه، ويقال له: إذا كبرت عليك اقطعها، فيقول: إنعام السلطان لا أجسر على قطعه.
ورأيته يوماً في عسكر السلطان وهو راكب بغلة، وقد انحدرت به، وجاء جمل من فوق، فقال مخاطباً للجمل: بفضلك ألا اصبر حتى أمضي عنك. وكان يخاطب السلطان من الألفاظ. العامية المحشوة بسوء الأدب بما يضحك، وقد مات بالفسطاط.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد وآله وصبحه، فهذا:
الكتاب الثاني من الكتب التي يشتمل عليها
كتاب المملكة القرطبية وهو
كتاب الدرة المصونة في حلى كورة بلكونة
الحالي منها قعدتها مدينة بلكونة، وهي آهلة مشهورة الاسم في عصرنا، معروفة بالفرسان. فيها ثلاث تراجم.
سعيد بن هشام بن دحون
أخبر الحجاري: أنه من ولد دحون المرواني المتقدم الذكر في تراجم بني أمية. وبنو دحون أعيان بلكونة إلى الآن، وقال: إنه لما دخل إلى بلكونة سأل فيها عمن يتسم بالأدب وقول الشعر، فدل على سيعد بن هشام، فوجده في قرية من قراها في زي الفلاحين، فتأنس به، واستنشده من شعره فأنشده قوله:
استعار الروض ممن ... همت فيه ورد خده
ورآه ذا احتياج ... فحباه غصن قده
ثم أوفى نرجس الأل ... حاظ مع رمان نهده
فمن الإنصاف مهما ... سمى الروض بعبده
فلهذا يزدهى الرو ... ض علينا فوق حده
وقوله في أبي عبد الله بن حمدين قاضي قرطبة:
إلى أي وقت أرتجيك وإنما ... يرجى الفتى أيان يسعده السعد
وهذا أوان لحت فيه محكماً ... يطيعك أهل العلم والمال والجند
فمن لي بوعد إن تأخر حاضر ... فقد ينعش النفس المؤملة الوعد
؟القائد أبو الحسن علي بن وداعة السلمي البلكوني ذكر الحجاري: أنه كان من أعيانها ووليها لبني عامر، وكان في المائة الخامسة، وكان فارساً شجاعاً أديباً شاعراً وخاض في فتنة ابن عبد الجبار، فقتل فيها، و من شعره قوله:
قفوا ساعة حتى أوفي بالعهد ... وأبدي إليكم من جوى بعض ما عندي
أمر على الأطلال لم تجر أدمعي ... ولا مهجتي ذابت عليها من الوجد
وأين وفاء كنت أعني بأمره ... لقد غيرت مني الحوادث بالبعد
وما حلت، لكني جليد على النوى ... أموت وما أخفيه ليس له مبدي
على أن لي في جانب الشوق رقة ... كما أرهفت بعد الصدا ظبة الهند
أيا دعد كم أبكي عليك تشوقاً ... كأني قد أخرجت من جنة الخلد

ذكرتك والأعداء من كل جانب ... وقد جلت ما بين المطهمة الجرد
على ساعة لا يذكر المرء قلبه ... يقد بها الهندي قداً إلى قد
لئن عادت الأيام بيني وبينكم ... لأشكو لكم ما أثر الدمع في خدي
وما أحرقت من مهجتي جمرة النوى ... ويا ليت شعري هل أرى ذلكم يجدي
وبينه وبين صاعد مخاطبة وهو مذكور في الجذوة

سعيد بن جهير البلكوني الشاعر
ذكر الحجاري: أنه كان في المائة الخامسة، خبيث الهجو سيئ الخلق، وله هجو في عبيد الله بن المهدي، ولما أكثر من هجو أعيان قرطبة نفوه منها فانتهى إلى مصر، فاضطر إلى جواز النيل، وهو في معظم تياره، فطلب منه صاحب مركب الجواز أجرة التعدية، فلم يحتملها لسوء خلقه وبخله، فأخذ ثيابه وجعلها على رأسه، وسبح قاطعاً للنيل، فكان آخر العهد به، ولم يحفظ الدحوني من شعره إلا قوله:
تثقل بالزيارة كل يوم ... وتزعم أن شخصك لا يمل
وبيتين في عبيد الله بن المهدي وقد تقدما في ترجمته.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمداً لله والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثالث من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة القرطبية وهو
كتاب محادثة السير في حلى كورة القصير
الحال منها حصن القصير في شرقي قرطبة على النهر.
ذكر والدي: أنه حضر لديه مع أبي الحسين الوقشي في روضة مدبجة على النهر، فصنع أبو الحسين.
شربنا على وادي القصير عشية ... وقد ركضت فيه الجياد النواسم
على نرجس مثل الدناينر بددت ... على بسط خز والبهار دراهم
وقد ضحكت للأقحوان مباسم ... تقبلها من حسنهن المباسم
ورق رجاء للأصيل مدبج ... فأنق فيه من يد الشمس راقم
ومالت عليه للغمام ذوائب ... فخيل لي أن الغمام عمائم
هنالك لو أبصرتني لوجدتني ... وقد حسدتني في الهديل الحمائم
وقد ملأت عيناى قلبي مسرة ... وغاب نصيح عن جنابي ولائم
ولما انقضى ذاك النعيم شككت في ... تمكنه حتى كأني حالم
عبد الغافر بن رجلون المرواني
أخبرني والدي: أن مولده بحصن القصير، وأنه من ولد سليمان بن عبد الملك اجتمع به في غزوة المنصور بطليطلة، وأخبر: أنه كان أسوأ الناس خلقاً، ينفرون من عشرته لذلك، وشعره ضعيف ، أحسنه قوله:
هذا هو الغصن النضير ... هذا هو الظبي الغرير
هذا هو الليل البهي؟ ... م بدا على القمر المنير
قوموا انظروه فإنه ... ما إن له أبداً نظير
ووقع له في زجل ما هو مستحسن:
أوقد في قلبي النار ... ولس يريد يطفيه
وسد باب الدار ... أي خذل فيه وأي تيه
يا أحسن الغزلان ... يا كوكب دري
لك تسجد الأغصان ... ويمدح القمرى
؟ويخجل النعمان ... وأنت لا تدري
والعقل فك قد حار ... والوصف والتشبيه
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الرابع من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة القرطبية وهو
كتاب الوشي المصور في حلى كورة المدور

الحال منها حصن المدور، المعقل العظيم المشهور في الأندلس، وقد ذكر ابن غالب: أنه كان للروم به اعتناء في القديم وعليه اعتماد، وأخبر: أن ملك القسطنطينية توجه إلهي أحد أرسال بني أمية ولم يسأله عن شيء سؤاله عن طليطلة والمدور. وفي أهله شجاعة وجفاء للغريب على كل حالة. وما التجأ إليهم مقهور مسلوب من دولة إلا خذلوه وصاروا عليه. وذكر الحضرمي: أنه اجتاز بها مرة فبينا هو قاعد أمام الدار التي نزل بها ينظر إلى منازع بداتها المطبوعين على الجفاء والبداوة إذ مر به بدوي غريب فسأله عن طريق الجامع، قال: فقلت له: ما أعرف فإني غريب، فابتدر لي بدوي من جهالها برمحه في يده، وسدده إلى نحري وقال لي: ولد ملعونة زنديق! لك في البلد أكثر من خمسة أيام، ولم تسأل عن جامعنا، ولم تصل فيه، واجتمع على كثير من أجناسه، وقلت: هذا آخر يومي من الدنيا فما خلصني منهم إلا شيخ من شيوخهم، فيه بعض تهذيب بدخول البلاد.

ومن المدور
أبو بكر محمد الأعمى المخزومي
من المسهب: بشار الأندلس انطباعاً ولسناً وأذاة، وهو الذي أحيا سيرة الحطيئة بالأندلس فمقت، وكان لا يسلم من هجوه أحد، ولا يزال يخبط الآفاق بعصاه، ويقع فيمن أطاعه أو عصاه. وأصله من المدور، وقرأ بقرطبة ثم جال على البلدان، وأكثر الإقامة في غرناطة، وتعرض لشاعرتها نزهون، وهجاها بقوله:
ألا قل لنزهونة ما لها ... تجر من التيه أذيالها
ولو أبصرت فيشة شمرت ... كما عودتني سربالها
فقالت فيه:
قل للوضيع مقالاً ... يتلى إلى حين يحشر
من المدور أنشئ ... ت والخرا منه أعطر
حيث البداوة أمست ... في جهلها تتبختر
لذاك أمسيت تهوي ... حلول كل مدور
خلقت أعمى ولكن ... تهيم في كل أعور
جاوبت هجواً بهجو ... فقل لعنت من اشعر
إن كنت في الخلق أنثى ... فإن شعري مذكر
قال: وأنت إذا سمعت قوله من شعر يهجو به أحد من صبه الله عليه وعلى قومه:
ألا فاعلموا أني لكم غير صابر ... على لومكم أخرى الليالي الغوابر
فعرجوا بني اللخناء نحو هجائكم ... إلى لعنة تزري بمن في المقابر
فأنتم سننتم كل محدث سبة ... ولم تتركوا فيها لحاقاً لآخر
رأيتكم لا تتقون مذمة ... ولا عندكم من هزة نحو شاكر
وأهون ما أهدى الزمان إليكم ... فلا عشتم للوم طلعة شاعر
فأين الألى كانوا إذا جاء ناظم ... تلقته منهم بالندى كف ناثر
سلام عليهم كلما ارتحت نحوهم ... فلا أثر من بعدهم للمآثر
أعيركم جهدي بكل قبيحة ... وما لكم نم يقظة بالمعاير
ركنتم إلى الأعذار في كل حاجة ... فهل نفعت نبلي حصون المعاذر
وقوله:
ألا لا تركنن إلى فلان ... فتسرى منه في ليل السليم
لئيم ليس ينفع فيه لؤم ... يروم وراثة العرق اللئيم
إذا جربته يوماً تراه ... مضاع الجار ممطول الغريم
وإن كشفته لاقيت منه ... مصون المال مبذول الحريم
وقوله:
وأحدب ليس له همة ... ولا لذة في سوى فيشة
يقول أنا القوس في شكله ... فلا تنكروا السهم في بدرتي
فضولكم أبداً زائد ... أفقحتكم تلك أم فقحتي
وقوله في ابن له:
؟الحق أبلج ليس أنت وحق من ... أحيا بك الأجلاف ممن يفلح
لا تهتدي بفضليه لا ترعوى ... بملامة لا أنت ممن يصلح
يزداد عقلك ما كبرت تنقصاً ... وتلج في صمم إذا ما تنصح
أكل وسلح كل حين لا ترى ... لسواهما ما دمت حياً تطمح
أسخنت عين المجد يا ابن عميرة ... ولقد تقر عيونه لو تذبح
وقوله:
قطيم يغلق أبوابه ... ويفرح بالبيت مهما خلا
يفرج أولاده عامداً ... ويبعدهم أبداً منزلا

ويرجع للبيت من حينه ... لوغد أخي فيشة مبتلى
يعذبه يومه منشداً ... علوت فلا تزهدن في العلا
تعلم من لطفه صنعة ... تصير مخرجه مدخلا
علمت قدر شعره، وما صبه الله منه على أهل عصره.
قال والدي: هجاءو الأندلس: المخزومي، واليكى، والأبيض.
وأنشد علي بن أضحى قاضي غرناطة قصيدة منها:
عجباً للزمان يطلب ثاري ... وملاذي منه علي بن أضحى
الأبي الذي يمد من البأ ... س إباه إلى السماكين رمحا
جاره قد سما على النطح عزاً ... ليس يخشى من طالب الثأر نطحا
فكأني علوت قرن فلان ... أي تيس مطول القرن ألحى
فقال له: يا أبا بكر هلا اقتصرت على ما أنت بسبيله فكم تقع في الناس؟ فقال: أنا أعمى وهم لا يبرحون حفراً، فقال: والله لا كنت لك حفرة أبداً. وجعل يوالي عليه يده.
وأخبرني والدي: أن جده عبد الملك بن سعيد كان كثير الإحسان له مستحفظاً من لسانه، وبعد ذلك فما سلم من أذاته. ومن خبره معه: أنه قصده مرة وهو بقلعته، فأنزله وتلقها ببر قولاً وفعلاً، ثم إنه قال لغلام له: اسأل في الموضع الذي نزل فيه المخزومي متى يرحل؟ وكان غرضه أن يرسل له زاداً، وينظر ما يركب عليه، فأساء الغلام التناول، وضرب عليه بابه، فخرج له الأعمى، فقال: يقول لك القائد: متى ترحل؟ فقال: ارفق أكتب لك الجواب، فكتب له أبياتاً منها:
لا ترجون بني سعيد للندى ... فالظل أفيد منهم للسائل
فلقد مررت على منازلهم فما ... أبصرت منها غير بعد منازل
قوم مصيبتهم بطلعة وافد ... وسرورهم أبدأً بخيبة راحل
وفيهم يقول وقد أسكنوه جوارهم:
أبنى سعيد قد شقيت بقربكم ... فلتتنركوني حيث شئت أسير
أفنى المدائح فيكم لا وعدكم ... يقضي، وقلبي في المطال أسير
أعطيتم نزراً على طول المدى ... ويقول وغد: إنه لكثير
ولشد ما عرضتموني للعنا ... فرس عتيق عاشرته حمير
فإذا صهلت غدا النهاق مجاوبي ... يا رب أنت على الخلاص قدير
قال: ووجدت بخط والدي محمد: ومن نسيب المخزومي، على قلته، قوله:
رب حسناء كالغزالة جيداً ... والتفاتاً تزري بحور الخلود
كلمتني فطار قلبي إليها ... وترجيت للظماء ورودي
فتجافت عن منظري ثم قالت ... أترى الحور واصلات القرود
لم ألمها على الصدود لأني ... كنت أهلاً من مثلها للصدود
قال: ولم يخل في هذا من الهجاء، ولكن لنفسه!! وأنشد له ابن غالب:
زنجيكم بالفسوق داري ... يدلي من الحرص كالحمار
يخلو بنجل الوزير سراً ... فيولج الليل في النهار

بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الخامس من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة القرطبية وهو
كتاب نيل المراد في حلى كورة مراد
في غربي قرطبة. الحالي منها حصن مراد، سكنه قبيلة مراد فنسب إليها. منه:
عبد الملك بن سعيد المرادي الخازن
أنشد له الحميدي في الجذوة في وصف ناعورة:
ناهيك ناعورة تعالت ... على ضفافي مع اقتداري
يحملها الماء بانقياد ... وتحمل الماء باقتسار
تذكر طوراً حنين ناي ... وتارة من زئير ضاري
تسقى بساتين حاويات ... غرائب الروض والثمار
طلوع عبد العزيز فيها ... كالشمس في جنة القرار
وله في بعض من زاره، فحجبه:
ما حمدناك إذ وقفنا ببابك ... للذي كان من طويل حجابك
قد ذممنا الزمان فيك وقلنا ... أبعد الله كل دهر أتى بك
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الأول من كتابي الكورة القبرية وهو
كتاب الدرة
في حلى مدينة قبرة

مدينة نابهة، هي قصبة الكورة، فيها ترجمة، وهي:

عبد الواحد بن محمد بن موهب
التجيبي القبري
فقيه محدث، عاصر أبا عمر بن عبد البر، وهو ممن ذكره ابن بشكوال: في كتاب الصلة، وأنشد له قوله:
يا روضتي ورياض الناس مجدبة ... وكوكبي وظلام الليل قد ركدا
إن كان صرف زماني عنك أبعدني ... فإن شوقي وحزني عن ما بعدا
كتاب الذهبية الأصيلية في حلى المملكة الإشبيلية
كتاب الذهبية الأصيلية في حلى المملكة الإشبيلية
ينقسم هذا الكتاب إلى اثني عشر كتاباً، هي: 1 - كتاب الحلة الذهبية في الكورة الإشبيلية؟ 2 - كتاب الحركات المجونية في حلى الكورة القرمونية 3 - كتاب الدرة المخزونة في حلى كورة شذونة 4 - كتاب فجأة السرور في حلى كورة مورور 5 - كتاب نفحة الورد في حلى قلعة ورد 6 - كتاب شفاء التعطش في حلى كورة أركش 7 - كتاب الدروع المسنونة في حلى كورة أشونة 8 - كتاب بغية الظريف في حلى جزيرة طريف 9 - كتاب الحلة الحمراء في حلى الجزيرة الخضراء 10 - كتاب الزبدة في حلى كورة رندة 11 - كتاب نيل القبلة في حلى كورة لبة 12 - كتاب الحلة المعجبة في حلى كورة أونبة
كتاب الحلة الذهبية في الكورة الإشبيلية
ينقسم هذا الكتاب إلى تسعة كتب، هي: 1 - كتاب النفحات الذكية في حلى حضرة إشبيلية 2 - كتاب النسرينه في حلى قرية مقرينه 3 - كتاب روق العريش في حلى قرية منيش 4 - كتاب وشي المحابر في حلى قلعة جابر 5 - كتاب العذار المطل في حلى جزيرة قبطل 6 - كتاب الحانة في مدينة طريانة 7 - كتاب الحبابة في حلى قرية الغابة 8 - كتاب وشي المصر في حلى حصن القصر 9 - كتاب النورة في حلى حصن لورة
مملكة اشبيلية
كتاب النفحات الذكية في حلى حضرة إشبيلية
المنصة... التاج... السلك: من كتاب الياقوت في حلى ذوي البيوت...
أبو حفص عمر بن الحسن الهوزني
من الذخيرة: أفضى أمر إشبيلية إلى عباد، وأبو حفص يومئذ ذات نفسها، وآية شمسها، وناجذها الذي عنه تبتسم، وواحدها الذي بيده ينقض ويبرم، وكان بينه وبين عباد قبل إفضاء الأمر إليه، ومدار الرياسة عليه، ائتلاف الفرقدين وتناصر اليدين، واتصال الأذن بالعين. ولما ثبتت قدم المعتضد بالرياسة، ودفع إلى الدبير والسياسة، أوجس منه ذعراً، وضاق بمكانه من الحضرة صدراً.. وكان ألمعياً، وذكياً لوذعياً، لو أخطأ الحازم أجله، ونفعت المحتال حيله، فاستأذن المعتضد في الرحلة، سنة أربعين وأربعمائة، فصادف غيرته وكفى إلى حين معرته.. وتهادى عجائب ذكره الشام والعراق، ثم رحل إلى مصر، و له هنالك صوت بعيد، ومقام محمود، ووصل إلى مكة، وروى في طريقه كتاب الترمذي في الحديث، وعنه أخذه أهل المغرب، ثم رجع إلى الأندلس واستأذن المعتضد في سكنى مرسية، رأياً رآه، وبلداً اختاره وتوخاه.. فلما غلب الروم على مدينة بربشتر سنة ست وخمسين... خطب المعتضد برسالة يحضه فيها على الجهاد، فراجعه برسالة... يشير ليه فيها بالرجوع إلى بلده، لا بل استدرجه إلى ملحده.. فاستقر بإشبيلية سنة ثمان وخمسين، ولقيه المعتضد بأعلى المحل، وفوض إليه من الكثر والقل، وعول عليه في العقد والحل، فلما كان يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت لربيع الأول سنة ستين أحضره القصر... وباشر قتله بيده، فلم ينل عباد بعده سولا، ولا متع بدنياه إلا قليلاً ومن شعره في رسالة كان خاطب بها المعتضد من مرسية:
أعباد جل الرزء والقوم هجع ... على حالة ما مثلها يتوقع
فلق كتابي من فراغك ساعة ... وإن طال فالموصوف للطول موضع
إلا لم أبث الداء رب نجاحه ... أضعت، وأهل للملام المضيع
وفي الرسالة: فالثمرة من ساقها، والجياد على أعراقها
أبو الحسن علي بن أبي حفص
عمر بن أبي القاسم
ابن أبي حفص الهوزني
جد أبيه و أبو حفص المذكور، وأبوه أبو القاسم هو الذي سعى في فساد دولة بني عباد عند أمير الملثمين ثأراً بأبيه حتى نال غرضه. وأخبرني والدي: أنه اجتمع به، وكان يكتب عن منصور بني عبد المؤمن، وأنشد له:
من لي بفاتكة اللحاظ إذا رنت ... فكأنما سيف براني قاضب

هي صيرت جسمي رقة خصرها ... وجفت ومالي من رضاها جانب
وإذا شكوت تقول لي ما تستحي ... تشكو الغليل وماء عينك ساكب

أبو القاسم محمد بن عبد الغفور
ذكر صاحب الذخيرة: أنه توفي في عنفوان شبابه، فقال فيه المعتمد بن عباد:
أبا قاسم قد كنت دنياً صحبتها ... قليلاً كذا الدنيا قليل متاعها
وأحسن ما أنشد له قوله:
لا تنكروا أننا في مهمه أبداً ... نحث في نفنف طوراً وفي هدف
فدهرنا سدف ونحن أنجمه ... وليس ينكر مجرى النجم في السدف
لو أسفر الدهر لي أقصرت عن سفري ... وملت عن كلفي بهذه الكلف
ابنه
أبو محمد عبد الغفور
ذكر ابن بسام: أنه نشأ بين يدي أبيه في دولة المعتمد. وذكره الحجاري فقال: قطع الله لسان الفتح صاحب القلائد، فإنه شرع في ذمه بما ليس هو من أهله، والله ما أبصرت عيني شخصاً أحق بفضله منه، وأنشد ل في مطلع قصيدة:
هو السعد حتى يعبد الحجر الصلد ... وتترك شمس الأفق والقمر الفرد
وذكر صاحب الخريدة: أنه كان بمراكش كاتباً سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. وقال في وصفه صاحب القلائد: قد كنت نويت ألا أجري له ذكراً، و لا أعمل فيه فكراً، لتهوره، وكثرة تقعره. وقال إنه من شدة حقده يتنكد بالأفراح، ويحسد حتى على الماء القراح. وأنشد له جملة أبيات في يحيى بن سير كلها ساقطة عن طبقة المختار، وأشبه ما أنشد له قوله في معارضة قول المتنبي ومداخلته:
سر حيث شئت تحله النوار ... وأراد فيك مرادك المقدار
وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... وغمامة بل ديمة مدرار
تنفي الهجير بظلها وتنيم بال ... رش القتام وكيف شئت تدار
؟وقضى الإله بأن تعود مظفراً ... وقضت بسيفك نحبها الكفار
ابنه
أبو القاسم محمد
أثنى عليه صاحب السمط، وذكر: أنه اعتبط. شاباً، وأورد له رسالة طويلة سماها بالساجعة والغربيب يقول فيها: ومن القصائد مصائد تهيض أجنحة الوفر، ومن الرسائل حبائل تعلق شوارد البيض والصفر.
ومنها: إلى أن احتل بقعة استقاها من قليب النصرانية، بأرشية الردينية، واستخرجها من لهوات الكفر، بأيدي المهندة البتر.
أبو الحكم
عمرو بن مذحج بن حزم الإشبيلي
ذكر ابن بسام: أن أبا الحسن البطليوسي فيه يقول، وقد غلب بحسنه على لبه:
رأى صاحبى عمراً فكلف وصفه ... وحملني من ذاك ما ليس في الطوق
فقلت له: عمرو كعمرو، فقال لي ... صدقت ولكن ذاك شب عن الطوق
وممن تغزل فيه: ابن عبدون، قال ابن بسام: فلما هم ليله بنهاره ودب على سيف وجنته فرند عذاره، راع المجد بحزم وكرم، وسره بسيف وقلم، فبارى نجوم الليل، وتقلب في صهوات الخيل، وعلى ذلك فلم ينسى مكارم الأخلاق، ولا خلا من قلوب العشاق، وأثنى على سلفه، وأنشد له في شعر يراجع به ابن عبدون:
لئن حازت الدنيا بك الفضل آخراً ... ففي أخريات الليل ينبلج الفجر
وقوله:
ولا غرو إن طافت برجلك وثأة ... لها المجد خفاق الجناحين واجم
فقد ترجف الأفلاك في دورانها ... وتنقض أعلام النجوم العوائم
وقوله في أبي العلاء بن زهر:
يا جالياً وجه السعادة واضحاً ... ومقلباً طرف النباهة طامحا
صير مجنك صفحتي قمر الدجى ... وسنان رايتك السماك الرامحا
وبينه وبين ابن بسام مشاعرة.
أخوه
أبو بكر محمد بن مذحج
ذكر الحجاري: أن أخاه أبا الحكم أظهر وأكبر وأشعر، وأنشد له:
ألسنا من القوم الذين سموا بنا ... إلى حيث لا تسمو النجوم ولا تسري
فكم جعلوا عبساً يطول عبوسها ... وكم صبحوا بكراً براغية البكر
ابن عمهما
الوليد محمد بن يحيى بن حزم المذحجي
جعله ابن بسام أحلى الناس شعراً، لا سيما إذا عتب. ومن أحسن ما أنشده من شعره قوله:
وخيل الظلام أمام الصبا ... ح والركض قد ضم أجوافها
وقد فضض الفجر أذيالها ... وزاد فذهب أعرافها
وقوله:

أساكن قلبي والجوار حفيظة ... لعلك تصغي تارة فأقول
أعيذك من أقوال قوم مريبة ... فكم قمر غطى عليه أفول
وكم أملوا لا بلغوا فيك خطة ... وحاشاك منها، والحديث يطول
ومستكشف لم يدر ما بين أضلعي ... تعرض لي، واللوم فيك ثقيل
فشدت لساني يعلم الله سكتة ... لها في جناني زفرة وعويل
وسد طريق اللحظ دمع كأنما ... تشحط من جفني فيه قتيل
وقوله:
مقال يطير الجمر من جنباته ... ومن تحته قلب عليك يذوب
وقوله:
لما استمالك معشر لم أرضهم ... والقول فيك كما علمت كثير
داريت دونك مهجتي فتماسكت ... من بعد ما كادت إليك تطير
فاذهب فغير جوانحي لك منزل ... واذهب فغير وفائك المشكور
وقوله:
بأي مقال من لساني أرثيه ... وأي دموع من جفوني أبكيه
وقد جل رزئي فيه حتى كأنما ... جميع رزايا الناس مجموعة فيه

أبو الحسن بن فندلة
وصفه صاحب السمط بالفضل والجود والارتياح. ومن أحسن ما أنشده من شعره قوله:
ودارت حمياً الكأس بيني وبينه ... فدبت دبيباً ليس يحسنه النمل
وقوله:
انظر إلى الراح والكؤوس ... تبعث زهواً إلى النفوس
وقد علاها الحباب نظماً ... سمعت بالجوهر النفيس؟
فهو كتاج على مليك ... أو مثل سلك على عروس
أبو بكر بن افتتاح
قال في وصفه صاحب السمط: كرم أوله وآخره، وعظم باطنه وظاهره، وهو من مداح علي بن يوسف بن تاشفين. وأحسن ما أنشد له قوله:
منعوا التحية عن محب مدنف ... يوم الوداع فأبت أخيب آيب
ما ضر يوم رحيلهم لو ودعوا ... إن الوداع دليل رأى العاتب
يا ربة البيت الكريم نجاره ... في ذروة الشرف الرفيع الجانب
من لي برجع تحية جنح الدجى ... إني أراها كالشهاب الثاقب
ومن نثره قوله: كيف يحسن لا زلت تحميني القبيح، وتقتطع الحمد بالثمن الربيح أن أهدى الصفر للذهب؟! أو أقاول من انتقى من البلاغة طرائفها واستزاد فضل ما يهب، لا جرم أن نومي إلى كرم اعتقاده، حملني على حمل هذه الزيوف إلى صيارفة انتقاده.
أبو القاسم
محمد بن إبراهيم بن المواعيني
أثنى صاحب السمط على ذكائه وأدبه وأخلاقه، وأنشد له في قصيدة يمدح بها الزبير بن عمر:
برقت ثغورهم وسالت أدمعي ... فانظر إلى برق وصوب عهاد
ومنها:
طولوا وصولوا، فالمناسب حمير ... أهل المفاخر والندى والنادي
للقوم في كل البلاد رياسة ... تحكي بني العباس في بغداد
أضحت مجالسهم سروج جيادهم ... إن السروج مجالس الأمجاد
وقوله من قصيدة يمدح بها زينب بنت علي بن يوسف:
طابت الصهباء في أفواههم ... حيث أبدوا من ثغور حببا
وقوله:
كأن أقاح الروض بين شقيقه ... طفو حباب في قرارة راح
ومن نثره: أطال الله بقاء الأمير محفوفاً بالرايات الخافقة، موصوفاً بالآراء المتوافقة، ولا زالت أمصاره تنير، ومضاؤه يبير، ياله أيده الله من مضاء لا يبيت له جار على وجل! وردى يستوهب من كماته كل أجل!.
أبو بكر محمد بن مرتين
أثنى عليه الحجاري، و ذكر أنه كان ينادم ابن افتتاح، وأنش له قوله:
كيف لي بعدكم بطيب الهجوع ... وجفوني مملوءة بدموعي
كل شيء يئست منه إذا ما ... بنتم غير عبرتي وولوعي
ولكم قد شكوت مما ألاقي ... غير أني أشكو لغير سميع
وقوله يخاطب ابن افتتاح:
صحبت منك العلا والفضل والكرما ... وشيمة في الندى قد فاقت الشيما
مودة في ثرى الإنصاف راسخة ... وسمكها فوق أعنان السماء سما
أبو أيوب سليمان بن أبي أمية
قال صاحب الذخيرة في وصفه: الوزير أبو أيوب في وقتنا بحر الأدب وساحله، وسنام المجد وكاهله، وسنان الحسب وعامله، ورافع لواء الحمد وحامله. وكر: أن دولة المعتمد بن عباد كانت دائرة على أبيه ومما أنشده من شعره قوله:

أمسك دارين حياك النسيم به ... أم عنبر الشحر أم هذي البساتين
بشاطئ النهر حيث النور مؤتنق ... والراح تعبق، أم تلك الرياحين

أبو العباس أحمد بن حنون الإشبيلي
من بيوت إشبيلة وأغنيائها آل أمره إلى أن اتهم بالقيام على السلطان، ففر على وجهه، ثم عفى عنه، في مدة المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن. وهو ممن ذكره صفوان في كتاب زاد المسافر، وعنوان طبقته قوله في أشتر:
يا طلعة أبدت قبائح جمة ... فالكل منها إن نظرت قبيح
أبعينك الشتراء عين ثرة ... منها ترقرق دمعها المسفوح؟
شترت فقلنا زورق في لجة ... مالت بإحدى شقتيه الريح
وكأنما إنسانها ملاحها ... قد خاف من غرق فظل يميح
وقوله:
وبيضاء تحسبها درة ... تذوب إذا ذكرت، أو تكاد
تنمنم بالمسك كافورتي ... محياً حوى الحسن طراً وزاد
فقلت، وقد كان ما كان من ... تخلل خيلانها بالفواد:
أكل وصالك ذاك البياض ... وبعض صدودك ذاك السواد؟!
فقالت: أبى كاتب للملوك ... دنوت إليه بحكم الوداد
فخاف اطلاعي على سره ... فلم يعد أن رشني بالمداد
وله موشحات مشهورة.
ومن كتاب تلقيح الآراء في حلى الحجاب والوزراء
أبو الوليد
إسماعيل بن محمد بن عامر بن حبيب
الملقب بحبيب
ذكر صاحب الذخيرة: أن ابن الأبار هو الذي أقام قناته، وصقل مرآته، ولو تخطاه صرف الدهر، وامتد به قليلاً طول العمر، لسد طريق الصباح، و غبر في وجوه الرياح، قتله المعتضد بن عباد، ابن تسع وعشرين سنة. وله كتاب البديع في فصل الربيع. وأحسن ما أنشده له قوله:
إذا ما أدرت كؤوس الهوى ... ففي شربها لست بالمؤتلى
مدام تعتق بالناظرين ... وتلك تعتق بالأرجل
أبو الحسن علي بن غالب بن حصن
أثنى عليه صاحب الذخيرة، ونبه على قوله:
بكرت سحرة قبيل الذهاب ... تنفض الماء عن جناح الغراب
وأخبر: أن ابن زيدون لم يزل يسعى في حتفه بمكره، حتى فتك به المعتضد بن عباد. وأحسن ما أنشده له قوله:
وما هاجني إلا ابن ورقاء هاتف ... على فنن بين الجزيرة والنهر
مفستق طوق لازورد كلكل ... موشى الطلى أحوى القوادم والظهر
أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ ... وصاغ على الأجفان طوقاً من التبر
حديد شبا المنقار داج كأنه ... شبا قلم من فضة مد في حبر
توسد من فرع الأراك أريكة ... ومال على طي الجناح مع النحر
ولما رأى دمعي مراقاً أرابه ... بكائي فاستولى على الغصن النضر
وحث جناحيه وصفق طائراً ... وطار بقلبي حيث طار ولا أدري
وقوله:
قم يا غلام فسقنيها واطرب ... واشرب عتبت عليك إن لم تشرب
من قهوة صفراء ذات أسرة ... في الكأس تأنلق ائتلاق الكوكب
خضبت بنان مديرها بشعاعها ... فعل العرارة في شفاه الربرب
ومن مجونياته قوله:
قمت نشوان وقامت ... بتهاد وتثن
ونضت عنها قميصاً ... ثم لما ضاجعتني
قلبت بطناً لظهر ... قلت: لا! ظهراً لبطن
فانثنت في خجل قا ... ثلة عند التثني:
أنا حانوت بوجدهي ... ن فلط إن شئت وازن
وله:
كأنما في الكأس من صبها ... خيط من الفضة مفتول
وقوله:
اشرب على طيب نسيم السحر ... وانظر إلى غرة ذاك القمر
كأنه ماء غدير صفا ... والمحق فيه مثل ظل الزهر
وذكر الحجاري: أنه نشأ مع المعتضد، فاستوزره، إلا أنه كان فيه طيش أداه إلى حتفه.
؟الوزير الكاتب أبو الوليد محمد بن عبد العزيز بن المعلم من الذخيرة: بديع ذلك الأوان، وأحد وزراء المعتمد الكتاب الأعيان، فمما أورده من نثره:

سقى عهدك أيتها الدمنة الزهراء كل عهد، وجاد على قطرك أيتها الروضة الغناء كل قطر، وتناوحت عليك إلا من ضلوعي جنوب وشمال، ولا زالت تجر عليك للنعيم أذيال.
ومن النظم قوله من قصيدة في المعتمد، وقد رجعت له قرطبة، وقتل ابن عكاشة قاتل ابنه الظافر:
صفا لك الشرب كانت فيه أقذاء ... وعاد برءاً على ما أفسد الداء
ولم يعجل بمقدور له أجل ... وللأمور مواقيت وآناء
فقد تباطأ وحي الله آونة ... عن النبي وغابت عنه أنباء
فليهنك الصنع قد راقت عواقبه ... وشفعت منه بالآلاء آلاء
؟

ومن كتاب الكتاب
الكاتب
أبو محمد عبد الله بن عمر الإشبيلي
الملقب بالمهيرس
كان بمراكش كاتباً عن ابن الشهيد مدبر دولة يحيى بن الناصر. أخبرني أبو يحيى بن جامع الوزير أنه قتل في إحدى المعارك المراكشية، وأنه كتب يوماً يستهدي منه فاختة كان قد سمعها عنده، وكان في ذلك الحين يكنى بأبي العلاء:
ألا خذها إليك أبا العلاء ... حلى الأمداح ترفل في الثناء
وهبهاقينة تهدى عروساً ... خضيب الكف قانية الرداء
لأجعلها محل جليس أنسى ... وأغنى بالهديل عن الغناء
أبو بكر محمد بن أحمد بن البناء الإشبيلى
ساد ببلده، وصار يكتب عن ملوكه وهو، أهل لذلك، لما أحرزه من الصيانة والأدب والبلاغة، وهوذو غرام في اقتناء نفائس الكتب ونسخها. ومن أحسن شعره قوله من قصيدة في رثاء أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وقد عزل عن بلنسية، وهي في شرق الأندلس، وولي إشبيلية، وهي في غربها، فمات:
كأنك من جنس الكواكب كنت، لم ... تفارق طلوعاً حالها وتواريا
تحليت من شرق يروق تلألؤا ... فلما انتحيت الغرب أصبحت هاويا
ومن كتاب الإحكام في حلى الحكام
القاضي أبو بر
محمد بن عبد الله بن العربي الإشبيلي
قال الحجاري: لو لم ينسب لإشبيلية إلا هذا الإمام الجليل، لكان لها به من الفخر ما يرجع عنه الطرف وهو كليل.
وقال ابن الإمام: بحر العلوم، وإمام كل محفوظ ومعلوم. له أشعار تشوق فيها إلى بغداد وإلى الحجاز. وهو مذكور في كتاب السمط، واجتمع مع عبد المؤمن.
ومن أظرف شعره وألطفه قوله، وقد داعبه ابن أمير من أمراء الملثمين بأن ركض فرسه، وهز عليه رمحه:
يهز على الرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث
فلو أنه رمح إذاً لاتقيته ... ولكنه رمح، وثان، وثالث
وقوله وقد دخل عليه غلام جميل الصورة في ثياب خشنة:
لبس الصوف لكي أنكره ... وأتانا شاحباً قد عبسا
قلت: إيه قد عرفناك وذا ... جل سوء لا يعيب الفرسا
كل شيء أنت فيه حسن ... لا نبالي حسن ما قد لبسا
وقال، وقد كتب كتاباً، فأشار أحد من حضر أن يتربه:
لا تشنه بما تذر عليه ... فكفاه هبوب هذا الهواء
فكأن الذي تذر عليه ... جدري بوجنة حسناء
ومن كتاب نجوم السماء في حلى العلماء
النحوي اللغوي
أبو بكر محمد بن الحسين الزبيدي الإشبيلي
من الجذوة: أنه إمام في النحو واللغة، وله في النحو كتاب الإيضاح واختصر كتاب العين للخليل. وأنشد له قوله يخاطب جارية كان يحبها، وقد استأذن المستنصر في العود إلى إشبيلية، فلم يأذن له:
ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بد للبين من زماع
لا تحسبين صبرت إلا ... كصبر ميت على النزاع
ما خلق الله من عذاب ... أشد من وقفة الوداع
إن يفترق شملنا سريعاً ... من بعد ما كان ذا اجتماع
فكل شمل إلى افتراق ... وكل شعب إلى انصداع
توفي قريباً من الثمانين والثلاثمائة.
أبو عمر أحمد بن محمد بن حجاج
من الذخيرة: أنه كان بحر علوم، وسابق ميدان منثور ومنظوم، ونبه على سلفه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4