كتاب : المغرب في حلى المغرب
المؤلف : ابن سعيد المغربي

هاتِ حديثاً عن مغاني اللِّوى ... فعهدُك اليوم بها أقربُ
إيهِ وإن عذَّبني ذكرُها ... فمن عذاب النفس ما يَعْذُبُ
هل لعبتْ بالعرَصات الصَّبا ... فعجَّ منها للصبا ملعبُ
أم ضرَّها سُقْياك إذ جُدْتَها ... كم غَص ظمآنٌ بما يَشْرَبُ
يا من شكا من زمنٍ قسْوةً ... أين السُّرى والعِيسُ والسَّبْسَبُ
أفلحَ من خاض بحارَ الدُّجى ... وصهوةُ العزِّ له مَرْكَبُ
أليسَ في البيداء مَنْدُوحةٌ ... إن ضاق يوماً بالفتى مَذْهَبُ
لأَخْبِطُ الليلَ ولو أنّه ... ذو لِبَدٍ أو حَيَّةٌ تلْسَبُ
تحمل كورى فيه عَيْرَانةٌ ... إلى سوى مَهْرَةَ لا تُنْسَبُ
وإنما يعرف سُبْلَ العُلى ... يسلكها الأنْجبُ فالأنْجبُ
إن كان للفضل أبٌ إنّه ... نجلُ بني عبد العزيز الأبُ
المُنْتَضَى من حُجُراتِ الأُلى ... على السَّماكين لَهُمْ مَنْصِبُ
ومنها في السيف:
يُبْتَزُّ عن صفحته غِمدُهُ ... كما انْجلى عن مائه الطُّحْلُبُ
وفي الفرس:
يَخْترقُ النَّقْعَ على أشقَر ... ينقضُّ منه في الوَغى كوكبُ
تطيرُ في الحُضْر به أرْبَعٌ ... يُطْوَى لها المَشرِقُ والمغربُ
له تَليلٌ مثلُ ما يَنْثَني ... غُصْنٌ به ريحُ الصَّبا تلعبُ
يُجيلُ في صَهْوته ضَيْغَماً ... ليس سوى السيف له مِخْلَبُ
وقوله:
قُمْ سَقِّني ذَهَبيّةً ... إن الأصيل مُذَهَّبُ
ولَيَسبقَنْ زُهرَ الكوا ... كب للزجاجة كوكبُ
أوَ ما ترى ذَيْلَ السحا ... ب على الحدائق يُسْحبُ
والقُضْبُ ترْقص والغدي ... رُ مع الحمائم يَصخَبُ
وإذا ترنَّم أوْرَقٌ ... فيه تدفَّق مِذْنبُ
والطَّلُّ دمعٌ سائلٌ ... أو در سِلْكِ يُنْهَبُ
والبَرْقُ صَفْحةُ صارمٍ ... أو مارجٌ يتلهَّبُ
ومُهَفْهَفٍ يَصْبُو إلي ... ه الشادنُ المترقِّبُ
طابتْ حميَّاهُ وريَّ ... اهُ أنمُّ وأطْيَبُ
شَربَ المدامَ وعَلَّني ... من ثَغْره ما يَشْرَبُ
حتى إذا انْبرَتِ الشّمو ... ل بمعطفيه تَلَعَّبُ
عانَقْتُ منه الصبح حَتَّى ... لاح صُبْحٌ أشهَبُ
فغدا اصطِباحي من ثنا ... ياهُ الرُّضابُ الأشْنَبُ
وقوله من مَرْثية:
تَضَمَّن منه القبْرُ حَلْيَ مكارمٍ ... فخُيِّلَ لي أن التُّرابَ تَرائِبُ
لئن صَفِرَت منه يَدُ المجد والعُلَى ... فقد مُلِئَتْ من راحتيه الحقائبُ
ووالله ما طَرْفي عليك بجامدٍ ... وهل تجمُد العينان والقلب ذائبُ
ولا لغليل البَرْحِ بعدك ناضِحٌ ... ولو نشأتْ بين الضلوع سحائبُ
ومنها:
هُوَ القدَرُ المحتوم إن جاء مُقْدِماً ... فلا الغابُ محروسٌ ولا الليثُ واثِبُ
وما الناسُ إلاّ خائضُو غَمْرَةِ الرَّدَى ... فطافٍ على ظهر التراب وراسبُ
وقوله:
أعدَّ الهجرَ هاجرةً لقلبي ... وصَيَّرَ وَعْدَهُ فيها سَرَابا
وقوله:
لأقبلتْ تحكي لما مَشْيَ الحُبَابْ ... ظبيةٌ تفترُّ عن مثل الحَبَابْ
كلما مال بها سُكْرُ الصِّبا ... مال بي سُكْرُ هواها والتَّصَاب
أُشْعِرَتْ من عَبَراتي خجلاً ... إذ تجلَّت فتغطَّتْ بنقابْ
مثل شمس الدَّجْنِ مهما هَطَلَتْ ... عَبْرَةُ المُزْن توارتْ بحجابْ
وقوله:
وحَبَّبَ يَوْمَ السَّبْتِ عنديَ أنّهُ ... ينادمني فيه الذي أنا أحْبَبْتُ
ومن أعجب الأشياء أنِّيَ مُسْلِمٌ ... حنيفٌ ولكنْ خيرُ أيّامي السبْتُ
وقوله:

يَحنِيه طولُ ضِرابهِ هامَ العِدَا ... حتى يُرى بيديهِ منه صَوْلَجُ
من كلِّ وقَّادِ السِّنان كأنّما ... في كل ذابلةٍ ذُبَالٌ يُسْرَجُ
وقوله:
ألمّتْ فباتَ الليلُ من قِصَرٍ بها ... يطيرُ ولا غيرُ السرور جناحُ
وبتُّ وقد زارتْ بأنعم حالةٍ ... يعانقني حتى الصباح صباحُ
على عاتقي من ساعِدَيْها حمائلٌ ... وفي حَصْرها من ساعديّ وشاح
وقوله:
سَرَتْ إذ نامتِ الرُّقباءُ حولي ... ومسكُ الليل تُهديه الرياحُ
وقد غنّى الحُلِيُّ على طُلاها ... بوَسْواسٍ فجاوبه الوشاحُ
تُحاذِرُ من عمود الصبح نوراً ... مخافة أن يُلِمَّ بنا افتضاحُ
ولم أرَ قبلها والليلُ داجٍ ... صباحاً باتَ يَذْعَرُهُ صباحُ
وقوله:
ورُبّ مائِسَة الأعطافِ مُخْطَفَةٍ ... إذا دنا نَزْعُهَا فالعيشُ مُنْتَزَحُ
ظَلَّتْ ترِقّ وظلَّ النَّزْعُ يَعطِفها ... كما ترنَّم نشوانٌ بهِ مَرحُ
وقد تألّق نَصْلُ السهْم مندفعاً ... عنها فقُلْ كوكبٌ يُرْمى به قُزَح
وقوله:
شَبُّوا ذُبالَ الزُّرق في يوم الوغَى ... فأنارَ كلّ مذَرّبٍ مصباحا
سُرُجٌ ترى الأرواح تُطْفِي غيرها ... عَبَثاً وهذي تطفئُ الأرواحا
وقوله:
نُثِرَ الوردُ بالخليج وقد دَرَّ ... جه بالهبوب مَرُّ الرياح
مثل دِرْعِ الكَميِّ مَزَّقها الطَّعْ ... نُ فسالتْ بها دماءُ الجراحِ
وقوله:
وليلٍ طَرَقْتُ الخِدْرَ فيه وللدُّجى ... عُبابٌ تراهُ بالكواكب مُزْبِدا
وقوله:
ذَرْني ونَجْداً ولا حملتُ نِجَادي ... إن لم أخُطَّ صَعيدَها بصِعَادي
وأخْضَخِضَنَّ حَشَا الظلام إلى الدُّمَى ... وأصافحنَّ سوالفَ الأجياد
ولقد مررتُ على الكثيب فأرْزَمَتْ ... إبلي ورجَّعتِ الصهيلَ جيادي
ما بين ساحاتٍ لهم ومعاهد ... سُقِيَتْ من العَبَرات صَوْبَ عِهاد
ضَرَبُوا ببَطْن الواديينِ قبَابَهُمْ ... بين الصوارمِ والقَنَا المُنْآد
والوُرْقُ تَهتِف حولهم طرَباً بهمْ ... في كل مَحْنِيَةِ ترنَّمَ حادي
يا بانةَ الوادي كفى حَزَناً بنا ... ألا نُطارح غيرَ بانَةِ واد
أين الظباءُ المُشرئبَّةُ بالضحى ... في مُنْحَنَاكِ وأينَ عَهْدُ سعادِ
وردوا ومن بيضِ المناهل أدْمُعي ... ونأَوْا وبعض الظاعنين فؤادي
فسَقَتْهُمُ حيث التقت برِحالهم ... هُوُج الركاب روائحٌ وغوادي
ينهلُّ وابِلُها كما تنهلُّ منْ ... يُمْنَى أبي الفضل الكريم أيادي
الأرْيحيِّ إلى السماحة مثل مَنْ ... يرتاح للماء المُرَوَّقِ صادي
والمُعْتلي فوق السِّماك أرُومةً ... والمُزْدَرِي في الحِلْم بالأطْوادِ
قاضٍ لَدُنْ يممَّتُ عدلَ قضائِهِ ... لم أُعْطِ جَوْر الحادثات قِيادي
متواضِعٌ لله، يُرْفَعُ قدرُهُ ... عن أن يُقاسَ بسائر الأمجاد
ما قُلّد الأحكام دون تُقىً وهل ... يتقلَّد الصَّمْصام دون نجادِ
طَلْق المحيَّا واليدين إذا احْتَبى ... وإذا حَبا رَحْبُ النَّدَى والنَّادِ
لو أُلْبِسَ الليلُ البهيمُ خِلالَهُ ... لم تشتمل أرجاؤُه بحِدادِ
طابَ الثناءُ تضوُّعاً منه على ... حُلْوِ الشمائل طيِّب الميلاد
ومنها:
يا غُرَّة الزَّمَن البَهيم وعصمة ال ... رَّجُلِ الطريد ونجْعَةَ المرتادِ
خذ من ثنائي ما يكاد نظامُه ... يُنْسِي فصاحة يَعْرُبٍ وإيادِ
ومنها:
وبنو الزمان وإن بدا مَلَقٌ لهم ... أضغانُهم كالجمر تحت رَمادِ

لا غَرْوَ أنَّك قد نبتَّ خلالهم ... قد ينبتُ النُّوَّارُ بين قَتَاد
عجباً لمن قد رام سبقكَ منهمُ ... أنَّى تروم العِيسُ سَبْقَ جوادِ
جَلَّ اعتلاؤك أن تساجلَه عُلاً ... من ذا يضاهى لُجَّةً بِثِمادِ
لا زلتَ ترفلُ في سوابغ أنعُمٍ ... فضفتضة الأذيال والأبْراد
وبقيتَ زَيْناً للبلاد ورفعةً ... إن الصوارم زينةُ الأغماد
وقوله:
وتنفَّستْ وقد استَحَرّ تنهُّدي ... فوشَى بذاك النَّدِّ هذا المَجْمَرُ
وقوله:
علوتَ كلَّ عظيمِ الشأن مَرتبةً ... إن الخلاخيل تعلوها التقاصيرُ
وقوله:
ومُرِنَّةٍ قدحتْ زِنادَ صَبَابتي ... والبرقُ يقدحُ في الظلام شرارُهُ
ورقاءُ تأرَقُ مقلتي لبكائها ... ليلاً إذا ما هَوَّمَتْ سُمَّارُهُ
إيهِ بعيشكِ يا حمامةُ خَبِّري ... كيف الكَثيبُ ورَنْده وعَرارُهُ
أترنَّحتْ بتنفُّسي أثلائُه ... أم أينعتْ بمدامعي أزهارُهُ
أما الفوارسُ فاستداروا حوله ... حيث استقلَّ كما استدار سوارُهُ
ونَضوا شِفارَهُم الصقيلةَ دونه ... حتى حسبنا أنَّها أشفارُهُ
في وَجَنتَيْه من المهنَّد ما اكتسى ... يوم الوَغى وبمقلتيه غِرارُهُ
وقوله:
وزائرة زارت مع الليل مَضْجَعي ... فعانقْتُ غُصْنَ البان منها إلى الفجر
أسائلُها أين الوشاح وقد أتت ... مُعَطَّلةً منه مُعَطَّرَةَ النَّشْرِ
فقالتْ وأوْمَتْ للسِّوار نقلتُه ... إلى مِعْصَمِي لما تَقَلْقَل في خَصْري
وقوله:
رَقَّ النسيمُ وراق الرَّوضُ بالزَّهَر ... فَنَبِّهِ الكأسَ والإبريق بالوَتَرِ
ما العيشُ إلا اصطباحُ الراح أو شَنَب ... يُغْنى عن الراح من سَلْسال ذي أُشُرِ
قل للكواكب غُضِّي للكَرَى مُقَلاً ... فأعيُنُ الزَّهر أولى منك بالسَّهَرِ
وللصباح ألا فانشُرْ رداءَ سَناً ... هذا الدُّجى قد طوتْه راحةُ السَّحَر
وقام بالقهوة الصهباء ذو هَيَفٍ ... يكاد معْطَفُهُ يَنْقَدُّ بالنَّظَرِ
يطفو عليها إذا ما شَجَّها دُررٌ ... من عِقدِه اختُلسَت أو ثَغْرِه الخَصِر
فالكأسُ في كفِّه بالراح مُتْرَعةٌ ... كهالةِ أحدَقَتْ في الأُفْق بالقمر
وقوله:
وما شقَّ وجنته عابثٌ ... ولكنها آيةٌ للبشَرْ
جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاقُ القَمَرْ
وقوله:
كتبتُ ولو أنني أستطيعُ ... لإجلال قَدْرِكَ دون البشرْ
قَددْتُ اليراعة من أنْمُلِي ... وكان المدادُ سواد البصَرْ
وقوله:
ومُقلةِ شادنٍ أودتْ بنفسي ... كأنَّ السُّقْمَ لي ولها لباسُ
يَسُلُّ اللحظُ منها مَشْرقِيّاً ... لقتلي ثم يُغْمِدُهُ النُّعاسُ
وقوله:
مَطْلُولُ أمْلُودِ الصِّبا مَيَّاسُهُ ... خُلِعَ الشبابُ عليه فَهْوَ لباسُهُ
بدرٌ وأكنافُ الحَشَا آفاقُهُ ... ظَبْيٌ وأحْناءُ الضلوع كِنَاسُهُ
لم نَدْرِ إذ جاءَتْ بِنَكْهَتِهِ الصَّبا ... أتضوُّعُ الكافور أم أنفاسُهُ
ولقد عَيينا إذ توالى سَكْرُهُ ... ألحاظُه مالتْ بنا أم كاسُهُ
للحُسْنِ مرقوماً على وجناتِهِ ... سَطرٌ وصفحة خَدِّه قِرطاسُهُ
إن خالفتْ تلك المحاسنُ فعلُه ... فالسيفُ يُطبَعُ من سواه رئاسُهُ
وقوله:
يا ضياءَ الصُّبْح تحت الغَبَش ... أطرازٌ فوق خَدَّيك وُشِي
أم رياضٌ دبَّجَتْها مُزْنَةٌ ... وبدا الصُّدْغُ بها كالحَنَشِ
لست أدري أسهامُ اللَّحْظِ ما ... أتَّقي أم لَدْغُ ذاك الأرْقَشِ

ربّ ليلٍ بتُّه ذا أرَقِ ... ليس إلا من قتاد فُرُشي
سابحاً في لُجَّة الدمع ول ... كنَّني أشكو غليل العَطَشِ
وبُروقُ الليل في أسْدافهِ ... كسيوف بأكفِّ الحَبشِ
وسُهَيْلٌ خافقٌ في أُفْقِهِ ... كضرامِ بيديْ مُرْتَعِش
وسماءُ الله تَبْدى قمراً ... واضحَ الغُرَّة كابن القُرَشِي
وقوله:
بأبي وغيرِ أبي أغَنُّ مُهَفْهَفٌ ... مجدولُ ما تحت الوِشاح خميصُهُ
لبِسَ الفؤادَ ومزَّقَتْهُ جفونُه ... فأتى كيوسفَ حين قُدَّ قميصُه
وقوله:
أدِيرَاها على الروض المندَّى ... وحكْمُ الصبح في الظَّلماء ماضي
وكأسُ الراح تنظر عن حَبابٍ ... ينوبُ لنا عن الحَدَق المِراضِ
وما غرَبتْ نجومُ الأُفْق لكن ... نُقِلْنَ من السماء إلى الرياضِ
وقوله:
وعشيَّةٍ لبستْ رداءَ شقيقٍ ... تَزْهُو بلونٍ للخدود أنيقِ
أبْقَتْ بها الشمسُ المنيرةُ مثل ما ... أبقى الحياءْ بوَجْنَةِ المعشوقِ
لو أستطيع شربتُها كضلَفاً بها ... وعدلْتُ عن كئوس رحيقِ
تَسري بكلّ فتى كأنَّ رداءَه ... خَضِلاً بأدمُعهِ رداءُ غريق
وقوله:
تَبْدو هلالاً ويبدو حَلْيُها شُهُباً ... فما نُفَرِّق بين الأرض والأُفُق
غازَلْتُها والدُّجى الغِرْبيب قد خُلِعت ... منه على وجْنتَيْها حُمرةُ الشَّفقِ
حتى تقلًَّ ظلُّ الليل وانفجرت ... للفجر فيه ينابيعٌ من الفَلَقِ
وقوله:
إذا أردْتُ كئوسَ الراحِ مُتْرَعَةً ... أومتْ إليَّ يدُ الإصباحِ بالشفقِ
وقوله:
أطْلَعَتْ خَجْلتُه في خَدِّه ... شفقاً في فَلَقٍ تحت غَسَقْ
وقوله:
غفرتُ للأيام ذنب الفراقْ ... أنْ فُزْتُ في توديعهم بالعِناقْ
ما أنْسَ لا أنْس لهم وقفةً ... كالشَّهد والعلقم عند المذاقْ
كم لليلة لي بعقيق الحِمى ... قَصرْتُها باللَّثْم والاعتناقْ
ما ادرع الليلُ بظلمائهِ ... حتى كساه الصبحُ منه رواقْ
فانحَفَزَتْ أنجمُه يَشتكي ... للبعض منها البَعْضُ وَشْكَ الفراقْ
وانتبهَ الصبحُ بُعَيْدَ الكرَى ... كَذِي هَوىً من غَشْيَةِ قدْ أفاقْ
في روضةٍ عَلَّمَ أغصانُها ... أهْلَ الهوى العُذْريّ كيف العِناقْ
هَبَّتْ بها ريحُ الصَّبا سُحْرَةً ... فالتفَّتِ الأغصان ساقاً بساق
وقوله:
سمحتُ بقلبي والهوى يورث الفتى ... طِباع الجواد المحْضِ وهْوَ بخيلُ
ولم تَخْلُ من حُسنِ القبول مطامعي ... وظَنِّيَ بالوجه الجميل جميلُ
إذا قَبِلَ المعشوقُ تُحفَةَ عاشِقٍ ... فيوشك أن يُرْجَى إليه وصول
وقوله:
خليليَّ انْظُرا منّي عَليلاً ... يُعَلِّلُ نفْسَهُ نفَسٌ عليلُ
أما غيرُ الجِمال لنا لقاءٌ ... وما غير النسيم لنا رسول
وقوله:
تِبْريةُ اللَّوْنِ مثلُ الغصن قد لبَستْ ... ثوْب الرَّدى مَعْرضاً في موقف الجَذَلِ
تَشْدُو وقد مسحتْ عنها مدامعَها ... " أنا الغريقُ فما خوفي من البَلَل "
ومن مَرْثِيَة:
أعْززْ عليَّ بضيغَمٍ ذي سطوةٍ ... أجَمَاتُهُ بعد الرِّماح رِجامُ
أعززْ عليّ بزهرةٍ مطلولةٍ ... أمستْ ولا غيرُ الضريح كِمَامُ
ما كان إلا التِّبْرَ أُخلِصَ سَبْكهُ ... فاسترجَعَتْه تُرْبَةٌ ورَغامُ
إن راحَ مهجورَ الفِناء فطالما ... هجَرَتْ به أرواحَها الأجسامُ
كَثُرَ العويلُ عليه يوم حِمامِه ... حتى كأنَّ العالمينَ حَمامُ
يا حاملين النَّعشَ أين جيادُه ... يا مُلْبِسيه التُّربَ أين اللام

ضَجَّتْ لمصرعك النوادبُ ضجّةً ... سدّتْ مسامَعها لها الأيام
وقوله:
ولقد طَرَقتُ الحيّ في غَسَق الدُّجى ... والليلُ في شِيَةِ الجوادِ الأدْهمِ
مُتَنَكِّباً زوراءَ مثل هلاله ... نَصّلْتُ أسهُمَها بمثل الأنْجُمِ
يَنسابُ بي بين الصوارم مثلَ ما ... أبصرْتَ في الغُدرِ انسيابَ الأرْقَم
وقوله:
نادَمتُهُ فقرَعْتُ السِّنَّ من نضدَمِ ... في جُنْح ليلٍ كحالى، حالكِ الظِّلَمِ
غَنَّى يُرَدِّدُ: واشوْقي لظَعْنِهِمُ ... فردَّد السَّمْعَ: واشوقي إلى الصَّمَمِ
وقوله:
وفتيان مصاليتٍ كرامٍ ... صحبتهمُ على خَوْضِ الظَّلامِ
وقد خفق النَّعاسُ بهم فمالوا ... به مَيْلَ النزيف من المُدامِ
وكلٌّ تحته هَوجاءُ تَمْطُو ... سوالفُها بإرْخاءِ الزِّمامِ
سريتُ بهم وللظلماء سَجْفٌ ... يُمزِّقه ببارقِهِ حُسامي
أجُرُّ ذوابلي من أرض نَجْد ... خلالَ مَجَرِّ أذْيال الغَمامِ
على مَيْثاءَ رفّ بها الخُزامى ... فأضْحى الزهْرُ مفضوضَ الختامِ
تَلُفُّ غصونَها ريحٌ بليلٌ ... فَيَعْتَنِقُ الأراك مع البَشَامِ
ألا يا صاحبيَّ استَرْوحاها ... شآمِيَّةً فَمَنْ أهْوى شآمِ
عسى نَفَسُ النَّعامى بعد وَهْنٍ ... يُبَشِّرُ من سُلَيْمى بالسَّلامِ
وقوله:
وليل قطعتُ دياجيرهَ ... بعذراءَ حمراءَ كالعَنْدَم
أُديرتْ كواكبُ أقداحها ... عليَّ فأغْرَبْتُها في فَمي
فقال وقد طارَ من خيفةٍ ... وإصباحُهُ واصحُ المَبْسِم
رأيتُكَ تشربُ زُهْرَ النجوم ... فولَّيْتُ خوفاً على أنْجُمِي
وقوله:
ووافى كمثل الصُّبح عُرْيانَ كلما ... تكذِّبه عينُ البصير يَبينُ
وقد كان بالسُّمْر الذوابل في الوَغى ... مصُوناً كما صان العيونَ جفونُ
وقوله:
ولقد تروعهمُ الكواكبُ رَهْبَةً ... لمَّا حَكَيْنَ أسنَّةَ المُرَّانِ
ولربما عَطِشوا فحلَّأهم عن الْ ... غُدْر اشتباهُ البِيض بالغُدْران
والسَّيفُ دامي المَضْربَيْن كجدولِ ... في ضِفَّتيه شقائق النعمانِ
ومنها:
ما لاح في الهيجاءِ نَجْمُ مُثَقِّفٍ ... وهلال كلِّ حَنِيَّةٍ مِرنانِ
وقوله:
دع الخَطِّيِّ يَثْنى مِعْطَفيْهِ ... فإنَّ لأسهمي فضلاً عليه
إذا كان العُلا قَتْلَ الأعادي ... أيَفْضُل غَيْرُ أسْرَعِنا إليه
وقوله:
ويَا لغُصْنِ نَقاً لَدْنٍ معاطفهُ ... سَقَيته الدمعَ أثْمَرَ القُبَلا
وقوله:
والليل يسترني غِرْبيبُ سُدْفَتِهِ ... كأنني خَفَرٌ في خدِّ زنْجيِّ
أبو علي الحسين النَّشَّار
من شعراء زاد المسافر. من إحسانه قوله:
ألُوَّامِي على كَلَفي بيحيى ... متى من حُبِّه أرجو سَرَاحا
وبينَ الخدِّ والشفتين خالٌ ... كزنجيِّ أتى روضاً صَباحا
تحيَّر في جَناه فليس يَدْرِي ... أيَجْنى الورد أم يجني الأقَاحَا
وقوله:
في خدِّ أحمدَ خالٌ ... يصبو إليه الخَلِيُّ
كأنه روضُ وَرْدِ ... جَنَّانُه حَبَشِيُّ
وقوله:
قلبي تُرى أي طريقٍ سَلَكْ ... فحَقَّ يا جسميَ أن أسألَكْ
أنينُهُ دلَّ عليه فَهلْ ... أنحلَه السُّقْمُ الذي أنْحَلكْ
ويا رشاً خُوِّل أُسْدَ الشَّرَى ... هَنَاك ربُّ العرش ما خَوَّلَكْ
قتلت يا بدرُ جميعَ الوَرَى ... فَمَنْ إلى قَتْل الوَرَى أنزلك
ما ملَكُ الموتِ كما حَدّثوا ... بل لَحظُكَ الموت وأنت المَلَكْ
يا يُوسُفاً أزْرى بحسن الذي ... آمن في الجُبِّ وقوعَ الهلَكْ

أقسمتُ لو أنك في عصرهِ ... بآية الحسن الذي دَلَّلَكْ
ما خَلَتِ الحسناءُ يوماً بهِ ... تِيهاً ولا قالت له هَيْتَ لَكْ
إن قُطِّعَتْ أيْدي نساءٍ له ... فكم قلوب قَطَّعَ الناسُ لَكْ

الأهداب
مُوَشَّحة لابن حَريق
سل حارِسَيْ روضةِ الجمالِ ... وصَوْلَجَيْ ذلك العِذارْ
من توَّجَ الغصنَ بالهلال ... وأنبَتَ الوردَ في البَهارْ
أيّ أقاحٍ وجُلّنارِ ... حاما على مَنْهَلِ الرُّضابِ
وأيّ صِلَّيْن من عِذارِ ... دَبَّا كلامَين في كتاب
وأيّ ماءٍ وأيّ نارٍ ... ضمَّتْهما نَعمةُ الشبابِ
فقلْ حَيَا مَوْردٍ زُلاَلِ ... يحرسُه الثغرُ بالشِّفارْ
وقل جِنانٌ وقل لآلِ ... يُعَلُّ بالمسك والعُقارْ
من لي به والمنى غرورُ ... وسنانُ طاوى الحشا غَريرُ
النَّورُ من خدِّه منيرُ ... على فؤادي ولا نَصيرُ
يا نفس ما منك بالوصالِ ... بُدٌّ ولا منّيَ انتصارْ
فقد دعا جَفْنُه نزالِ ... فأين من فتكهِ الفِرارْ
يا قلبي المُبْتَلى بحبِّه ... باعتك عيني بلا شِرا
كم باخل في الهوى بقُرْبِهْ ... حتى على الطيف بالكَرَى
صبراً على هَجْره وعتْبه ... فليس إلا الذي تَرَى
لعل رفقاً من الوصالِ ... يُدال من قَسْوةِ النِّفَارْ
أو بعضَ ما تحدث الليالِ ... يفك من ذلك الإسارُ
وناصحٍ قال يا غريبُ ... أسرَفت في البَثِّ والحَزَنْ
للمرءِ من دمعه نصيبُ ... والروحُ ما إن له ثَمنْ
ويحك لا عيشَةٌ تطيبُ ... ولا نديمٌ ولا سَكنْ
فخلِّ عينيَّ في انهمال ... يقر للدَّمع من قرارْ
وابك معي رقّةً لحالي ... بكاءَ غَيْلان في الديار
جعلتُ لِبْسَ الهوى شِعاراً ... واختلت في برده القشيبِ
ولي حبيبٌ سَطَا وجارا ... بالنفس أفْديه من حبيبِ
شدوت إذ مرَّ بي سِرارا ... من خشية السامع الرقيبِ
محمد اللُّنْقُ يا غزالِ ... يا صاحب العينين الكبارْ
قطفتَ قلبي ولم تبالِ ... لِسْ ذا عَلِكْ يا حبيبي عارْ
من زجل لأبي زيد الحداد البكّازور البلنسي:
أيش تستر يا بن أبي العافيَهْ ... لسْ تخفي عن حَدّ هذا الخافِيَهْ
اش تستر لس بهَ شي أن يستتر
ذا القِصَا لا بد لها أن تشتهر
أي صفقا كان يشتريها من حضر
بصَلْبا ولَسْ تكون لي غالِيَهْ ... لأنك من الفلك العاليه
إيش تدهب عند البطون من العقول
جُجَّ الكاس ومُدّ ساقك لا تزول
وإبليس يضحك يجيها ويقول
اطمن قد أن الشريب باليَه ... والفتيان عُزَّاب ودارا خاليَهْ
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصخبه، فهذا:
الكتاب الثاني
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة البلنسية
وهو
كتاب الحلة السندسية في حلى الرُّصافة البلنسيَّة
مناظر وبساتين ومياه جارية، تُصاقب حضرة بَلَنْسِية، وهي من أبدع مُتَفّرَّجاتها، وقد كثر ذكرها في الشعر. منها:
أبو عبد الله محمد بن غالب الرُّصافيّ
أملى عليّ والدي في شأنه: هو شاعر الأندلس في أوانه، بما اشتهر عند الخاص والعام من إحسانه، قال: وكان عمي أبو جعفر بن سعيد يقول عنه: هو ابن رومي الأندلس لما رآه من حسن اختراعه وتوليده، كمعناه في الحائك، ومعناه في النجار، وذكره للأصيل، وما تقف عليه من شعره، مما يدلك على عظم قدره، وقد وفد على عبد المؤمن، وأنشده وهو في جَبَل الفَتْح قصيدة أولها:
لو اقتبَسْتَ الهدى من جانب الطُّورِ ... أُعْطيت ما شئت من هَدْيٍ ومن نور

الغرض من ديوانه: قوله من قصيدة في أبي جعفر الوَقَّشِي وزير ابن هَمْشك:
لمحلَّك التَّرْفيعُ والتعظيمُ ... ولوجهكَ التقديسُ والتكريمُ
ولراحتيكَ الحمدُ في أرزاقنا ... والرزقُ أجمعُ منهما مقسومُ
يا مُنْعماً تطوي البلادَ هِباتُهُ ... ومن الهبات مسافرٌ ومقيمُ
إيهٍ ولو بعضَ الحديث عن التي ... حَيّا بها رَبْعي أجَشُّ هَزيمُ
قد زارني فسُقيتُ من وَسْمِيِّه ... فوق الذي أُرْوِي به وأُسِيمُ
سَرَتِ الجيادُ به إليَّ وفتيةٌ ... سَفَروا فقلت أهلَّةٌ ونجومُ
نعماء جُدْتَ بها إن لم نلتقي ... فيمن يُدَنْدِنُ حولها ويحومُ
وأعَزُّ من سُقْيَا الحَيَا من لم يَبِتْ ... في الحيّ برقُب بَرْقَهُ ويَشيمُ
ولقد أضِنُّ على الحَيَا بسؤاله ... والجوُّ أغْبَرُ والمرَادُ هَشيمُ
وإن استحبَّ القَطْرُ سُقْيا مَوْضِعِي ... فمكانُ مثلي عنده مَعْلُومُ
لما أدرْتُ إلى صنيعك ناظري ... فرأيت ما أوْلَيْتَ فَهْوَ عِميمُ
فلَّدْتُ جيدَ الشكر من تلك الحُلَى ... ما شاءه المنثور والمنظومُ
وأشرْتُ قُدَّامي كأنّيَ لاثمٌ ... وكأن كفَّك ذلك الملثومُ
يا مُفْضِلاً سَدِكَ السخاء بماله ... حَتَّام تبذل والزمانُ لئيمُ
تَتَلَوَّنُ الدنيا ورأيك في العُلاَ ... والحمدُ دأبُك والكريمُ كريمُ
ومنِ المتمِّمُ في الزمان صنيعةً ... إلا كريم شأنه التَّتْمِيمُ
مثل الوزير الوقشيِّ ومثله ... دون امتراءٍ في الورى معدومُ
رجلٌ يدوُس النيِّرات بنَعْلِه ... قَدَمٌ ثَبوتٌ في العلا وأُرومُ
وصل البيانُ به المدى فكلامُه ... سهلٌ يشُقُّ وغامضٌ مفهومُ
من معشرٍ والاهُمُ في سِلْكه ... نَسَبٌ صريحٌ في العَلاءِ صَميمُ
قومٌ على كتفِ الزمان لَبوسُهم ... ثوبٌ بحُسْن فِعالهم موسوم
آثارهم في الحادثين حديثةٌ ... وفخارُهمْ في الأقدمين قديمُ
لو لم يُعِدُّوا من دعائم بيتهم ... رُمْحَ السِّماك لخانه التقويمُ
ماتوا ولكن لم يمت بك فخرهم ... فالمجدُ حَيٌّ والعظام رميمُ
يا أحْسَدَ الدنيا وقد يَغَنَى بها ... عن كُنْيَةٍ واسمُ العظيم عظيمُ
أُجْري حديثك ثم أعجبُ أنَّه ... قولٌ يقال وعَرْفُهُ مشمومُ
فبكلِّ أرضٍ من ثنائك شائعٌ ... عَبَقٌ كما ولَجَ الرِّياضَ نسيمُ
يَجْرِي فلا يَخْفى على مُستَنشق ... لو أنّه عن أذنه مكتومُ
يُطوَى فينشرُهُ الثناء لطيبه ... ذِكْرُ الكريم بعنبرٍ مختومُ
صحبتكَ خالدةُ الحياة وكل ما ... تجتاز بابك جنَّةٌ ونعيمُ
في ظل عزٍّ دائمٍ وكرامةٍ ... وفِناءُ دارك بالوفود زَحيمُ
من كل ذي تاجٍ تَعِلَّةُ قصدهِ ... مرآك والإلمامُ والتسليمُ
وقوله من أخرى في المذكور:
أَلأَجْرعٍ تحتلّه هِنْدُ ... يَنْدى النسيمُ ويأرَجُ الرَّنْدُ
ويطيبُ واديهِ بموردها ... حتى ادّعى في مائه الوَرْدُ
نِعْمَ الخليطُ نَضَحْتُ جانجتي ... بحديثه لو يَبْرُدُ الوجْدُ
يُحْييك من فيهِ بعاطرةٍ ... لو فاهَ عنها المسْكُ لم يَعْدُ
يا سعْدُ قد طاب الحديثُ فَزِدْ ... منه أخا نَجْواكَ يا سَعْدُ
فلقد تجدَّد لي الغرامُ وإنْ ... بَلِيَ الهوى وتقادَمَ العَهْدُ
ذِكْرٌ يمرّ على الفؤاد كما ... يوحى إليك بسِقْطهِ الزَّنْدُ
وإذا خَلَوْتُ بها تمثَّلَ لي ... ذاك الزمانُ وعيشُه الرَّغْدُ

ولقاءُ جيرتنا غداتئِذٍ ... متيسِّرٌ ومَرامهم قَصْدُ
وخيامهم أيام مضربها ... سقط اللوى وكئيبة الفرد
أعدوا بها طوراً ورُبَّتَمَا ... رُعْتُ الفَلا والليلُ مَسْوَدُّ
لكواكبٍ هي في تَرَاكُبِها ... حَلَقُ الدروع يضمُّها السَّرْدُ
من كلّ أرْوَعَ حَشْوُ مِغْفَرَهِ ... وَجْهٌ أغَرُّ وفاحِمٌ جَعْدُ
ذُكِرَ الوزير الوقَّشِيّ لهمْ ... فأثارهم للقائه الوُدُّ
مترقّبين حلولَ ساحتهِ ... حتى كأنَّ لقاءَه الخُلْدُ
قد رنَّحَتْهمُ من شمائلهِ ... ذِكْرٌ كما يتضوَّع النَّدُّ
نعم الحديث الحُلْوُ تملكه ال ... رُّكْبَانُ حيث رمى بها الوَخْدُ
يا صاحبيَّ أخبرُهُ عجبٌ ... لكما على ظمأٍ به ورْدُ
أم ذِكرُهُ تتعللاَّنِ بهِ ... إذْ ليس منه لذب فمٍ بُدُّ
شَفَتَيكما فالنَّحْلُ جاثمةٌ ... مما يُسيل عليهما الشَّهْدُ
رَجُلٌ إذا عرَض الرجالُ له ... كَثُرَ العديدُ وأعوَزَ النِّدُّ
من معشرٍ نَجَمَ المقال بهم ... زُهْر كما يتساوق العِقْدُ
لبسوا الوزارة معْلَمين بها ... ومع الصَّنائف يحسُنُ البُرْدُ
مستأنفين قديمَ مجدِهمُ ... يبْنى الحفيدُ كما بَنى الجَدُّ
حُمِدوا إلى جَدٍّ وأعقبهم ... حَمْدٌ بأحمدَ ما له حَدُّ
وكأنما فاق الأنامَ بهم ... نَسَبٌ إلى القمرين ممتدُّ
فيرى وليدُهُمُ المنامَ على ... عُبْرِ المجرَّة أنه مَهْدُ
ويرى الحَيَا في مُزْنه فيرى ... أنَّ الرَّضاع لِريِّهِ صَدُّ
وكأنّما وُلِدُوا ليكْنَفِلوا ... حيث السَّنَا والسؤدد العِدُّ
فعلتْ كرائمُهم بهم وعلا ... فوق السماء النَّهْدُ والجَهْدُ
ومنها:
ضَمِن النوالُ بأن تروح إلي ... ه العيسُ مُعْلَمةً كما تَغْدو
ولقد أراني بالبلاد وآ ... مالُ البلاد ببابه وَفْدُ
وهِباتُه تصف النَّدى بيدِ ... علياءَ أقدمُ وَفدها المَجْدُ
خفقتْ بها في الطَّرْسِ بارقةٌ ... حَدَق المُنَى من دونها رُمْدُ
محمولةٌ حَمْلَ الحسام وإنْ ... خَفِيَ النِّجادُ هناك والغِمْدُ
يَسْطُو بها فأقول يا عجَباً ... ماذا يُرِي علياءَه الجدُّ
حتى اليراعةُ بين أنْمُلِه ... يا قومِ مما تَطْبَع الهنْدُ
وقوله منها:
والأمر أشهر في فضائله ... ما إن يُلَبِّسُها لك البُعْدُ
هيهات يذهب عنك موضعهُ ... هَطَلَ الغمام وجلجل الرَّعْدُ
أعْرَبْتُ عن مكنون سُؤدُدِهِ ... ما تُعْجِم الورقاء إذ تَشْدو
سوَراً من الأمداح محكمةً ... من آيهنَّ الشكرُ والحمدُ
ولعل ما يَخْفى وراء فمي ... من وده أضعاف ما يَبْدو
وقوله:
سَقى العَهْدُ من نَجدٍ معاهدَهُ بِما ... يغارُ عليها الدمعُ أن تشربَ القَطْرا
ومنها:
فَيَا عِينةَ الجَرْعاء ما حال بيننا ... سوى الدهر شيءٌ فارجعي نَشْتكي الدَّهْرا
تفضَّتْ حياةُ العيش إلا حُشاشَةً ... إذا سألَتْ لُقْياكَ عَلَّلتها ذِكُرا
وكم بالنَّقَا من روضة مُرجَحِنَّةِ ... تُضَمِّخُ أنفاسُ الرياح بها نَشْرَا
ومن نُطفةٍ زرقاء تلعب بالصَّدا ... إذا ما ثَنَى ظِلُّ مُدارٌ بها سُمْرا
ومنها:
وبرْدِ نسيم أنْثنى عند ذكرهِ ... على زَفَراتٍ تَصْدَعُ الكبدَ الحَرَّا
وإنَّ لُبَاناتٍ تَضمَّنها الحَشَا ... قليلٌ لديها أن نضيق بها صدرا
وقوله من مرثية:
رَمِيَّ الموتِ إنَّ السهم صَابا ... ومن يُدْمِنُ على غَرَضٍ أصابا

إلامَ أشُبُّ من نيران قلبي ... عليك لكل قافية شهابا
وقد ودَّعتُ قبلَكَ كلَّ سَفْرٍ ... ولكنْ غابَ حيناً ثمَّ آبا
وأهيَجُ ما أكون لك ادّكاراً ... إذا ما النجمُ صَوَّبَ ثم غابا
وقوله:
لا تَسَلْ بعد قَتْل يوسُف عَنّي ... ففؤادي مُثَلَّمٌ كسلاحِهْ
لو تأمَّلْتَ مُقْلتي يوم أودى ... خِلتَني باكياً ببعض جراحِهْ
وقوله:
يا وردةً جادتْ بها يَدُ مُتْحِفٍ ... فَهَمَى لها دَمْعي وهَاجَ تأَسُّفي
حمراءَ عاطرةَ النسيم كأنّها ... من خَدّ مُقْتبِلِ الشبيبة مُتْرَفِ
عَرَضتْ تُذَكِّرُني دماً من صاحبٍ ... شَرِبَتْ به الدنيا سُلافَةَ قَرْقَفِ
فنشقتها شغفاً وقلت لصاحبي ... هي ما تمج الأرض من دم يوسف
وقوله من قصيدة:
أيُّها الآملُ خَيْماتِ النَّقا ... خَفْ على قلبك تلك الحَدَقا
إنّ سِرْباً حُشِيَ الخَيْمُ بهِ ... ربَّما غَرَّكَ حتى تَرْمُقا
لا تُثِرْها فِتنةً مِنْ رَبْرَبٍ ... ترْعُدُ الأُسْدُ لديهِ فَرَقَا
وانْجُ عنها لحظةً سَهميّةً ... طال ما بلَّت ردائي عَلَقَا
وإذا قيل نَجَا الركْبُ فقُلْ ... كيفما سالَم تلك الطُّرُقا
يا رُماةَ الحيِّ موهوبٌ لكم ... ما سفَكتُم من دمي يوم النَّقَا
ما تعمَّدتُمْ ولكن سَبَبٌ ... قَرَّبَ الحَيْنَ وأمرٌ سَبَقَا
والتفاتاتٌ تلقَّتْ عَرَضاً ... مَقْتَلَ الصَّبِّ فخلَّتْهُ لَقَا
أهِ منْ جَفْنٍ قريحٍ بعدكم ... يشتكي خَدَّايَ منه الغَرَقَا
وحَشاً غيرِ قريرٍ كلَّمَا ... رُمْتُ أن يَهْدَأً عنكُمْ خَفَقَا
وفؤادٍ لم أضَعْ قَطُّ يَدِي ... فَوْقَهُ خِيفَةَ أن تحْترقَا
ما لنَجْمٍ عكفتْ عيني على ... رَعْيهِ ليس يَريمُ الأفقا
ولعينٍ خلعَتْ فيك الكَرَى ... كيف لم تَخْلَعْ عليك الأرَقَا
أيُّها اللُّوَّامُ ما أهْداكُمْ ... عن قلوب أسهَرَتْنا قَلَقَا
ما الذي تبغونَ من تعذيبها ... بعدما ذابتْ عليكمْ حُرَقَا
قومَنا فوزوا بسُلوَانكُمُ ... ودعوا بالله من تَشَوّقا
وارْحموا في غَسَقِ الظلماء مَنْ ... بات بالدمع يَبُلُّ الغَسَقَا
عَلِلونا بالمُنَى منكمْ ولو ... بخيالٍ منكمُ أنْ يَطْرُقَا
وعِدُونا بلقاءٍ منكمُ ... فكثيرٌ منكمُ ذكرُ اللِّقَا
لو خَشِينا الجَوْرَ من جيرتنا ... لاَنْتَصَفْنا قبل أن نَفْتَرقا
واصْطَبحنا الآن من فَضْلَةِ ما ... قد شرِبْنا ذلك المُغْتَبَقَا
فسقى الله عَشِيَّاتِ الحِمَى ... والحِمَى أكْرَمَ هَطَّالٍ سَقَى
قد رُزقناها وكانت عيشَةً ... قَلَّما فاز بها من رُزِقا
ولا وسَهْمٍ جاءَ من نحوكمُ ... إنَّه أقْتَلُ سَهْمٍ فُوِّقا
وحُلَى نَجْدٍ سَنُجْري ذِكْرَها ... أوْ سَعَتْنا في الهوى مُرْتَفَقَا
ما حلا بعدكمُ العيشُ لنا ... مذ تياعدتُمْ ولا طابَ البَقَا
فَمنِ المُنْبي إلينا خَبَراً ... وعلى مُخْبرنا أنْ يَصدُقا
هَلْ دَرَتْ بابلُ أنَّا فِئَةٌ ... تَجْعَلُ السِّحْرَ من السحْرِ رُقَى
نَنْقُشُ الآيةَ في أضْلاعنا ... فتَقِينا كلَّ شيءٍ يُتَّقَى
مِن بَنَان الوَزَر الأعلى الذي ... يَخْجَلُ السِّحْرُ إذا ما نَطَقَا
وقوله:
ما مثل موضعكَ ابْنَ رِزقٍ موضعُ ... رَوْضٌ يَرِفُّ وجَدْوَلٌ يَتَدَفَّعُ

وكأنما هُوَ من بَنانك صفحةٌ ... فالحُسْنُ يَنْبُتُ في ثَراهُ ويُبْدِعُ
وعشيَّة لبسَتْ رداءَ شُحُوبها ... والجو بالغَيْم الرقيق مُقَنَّعُ
بلغت بنا أمَدَ السرور تأَلُّفاً ... والليلُ نحو فراقنا يتطّلَّعُ
فابلُلْ بها زَمَنَ الغَبوق فد أتى ... من دون قُرْص الشمس ما يُتَوَقَّعُ
سَقَطَتْ ولم تملك يمينُكَ رَدَّهَا ... فَوِدِدْتُ يا موسى بأَنَّك يُوشَعُ
وقوله:
يا راكباً واللِّوى شِمالُ ... عن قَصْدِهِ والعَصَا يَمينُ
نَجْداً على أَنَّهُ طريقٌ ... تقطعه للصَّبَا عُيُونُ
وحَيِّ عَنِّي إن جُزْت حَيَّاً ... أمضى مواضيهمُ الجفون
وقُلْ على أيْكَةٍ بوادٍ ... للوُرْقِ في قُضْبها حَنينُ
يا أيْكَ لا يَدَّعي حمامٌ ... ما يجد الشَّيِّقُ الحَزينُ
لو أنَّ بالوُرْقِ ما بقلبي ... لاحْتَرَقَتْ تحتَها الغصونُ
وقوله:
وذي حنينٍ يكادُ شَجْواً ... يختلسُ الأنْفُسَ اختلاسا
إذا غَدَا للرياض جاراً ... قال لها المَحْلُ لا مِسَاسا
تبسَّم الزَّهْرُ حينَ يبكي ... بأدْمُعٍ ما رأيْنَ بَاسَا
من كلِّ جَفْنِ يَسُلُّ سَيْفاً ... صار له غِمْدُهُ رِئاسَا
وقوله:
ذات الجناح تَقَلَّبي ... بجوانح القلب الخَفُوقْ
وتَسَاقطي بالسَّرْحَتَيْ ... ن تساقط الدَّمْع الطَّليقْ
وسليهما بأَرقَّ منْ ... عِطْفَيْ قضيبهما الوَريقْ
هل بعدنا مُتَمَتَّعٌ ... في مثل ظلِّها العَتيقْ
وإذا صَدَرْتِ مُبينةً ... لتُبَلِّغي النَّبَأَ المَشُوقْ
أُخْتُ الهواءِ فالعجي ... بأخي الهوى حتى يُفيقْ
ولتَعْلَمي إن ضِفْتِ يا ... ورقاءُ ذا جَفْنٍ أريقْ
أن القِرَى عَبَراتُه ... فتعلَّمي لَقْطَ العقيقْ
وقوله:
ورَوْضٍ جلا صَدَأَ العين بهْ ... نسيمٌ تَجارى على مَشْرَبهْ
صَنَوْبَرةٍ ركبَتْ ساقَها ... عليه فخاضَتْ حَشَا مِذْنَبِهْ
فَشَبَّهْتُها وأنابيبَها ... بها الماء قد جَدَّ في مَسْكَبهْ
بأرقمَ كَعَّك من شخصِهِ ... وأفرُخُهُ يتعلَّقْنَ بهْ
وقوله في غلام حائك:
قالوا وقد أكثروا في حبّه عَذَلي ... لو لم تَهِمْ بمُذَال القَدْرِ مُبْتَذل
فقلت لو أن أمري في الصَّبابة لي ... لاخْتَرْتُ ذاك ولكن ليس ذلك لي
عُلِّقْتُهُ حَبَبِيَّ الثَّغْر عاطِرَهُ ... أَلْمَى المُقَبَّل أحْوى ساحرَ المُقَل
إذا تأمَّلَتَه أعطاك مُلْتَفِتاً ... ما شئتَ من لحظات الشادنِ الغَزل
غَزَيِّلٌ لم تزل في الغَزْل جائلةً ... بَنانُهُ جَوَلان الفكر في الغَزَل
جذلانُ يلعب بالمِحْراك أنملُهُ ... على السَّدَى لَعِب الأيام بالأمل
ما إن يَنِي تَعِبَ الأطرافِ مُشْتَغِلاً ... أفديهِ من تَعِبِ الأطراف مُشْتَغِل
جَذْباً بكفَّيْه أو فَحْصاً بأخْمصِهِ ... تَخَبُّطَ الظَّبْي في أشْرَاكِ مُحْتَبل
وقوله في نجّار:
تعلَّم نَجاراً فقلت لعلَّه ... تعلَّمها من نَجرِ مُقْلته القَلْبَا
شقاوةُ أعوادٍ تصَدَّى لجَهْدِها ... فآوِنةً قَطْعاً وآوِنةً ضَرْبا
غَدَتْ خَشَباً تَجْني ثمارَ جِناية ... بما اسْتَرَقَتْه من مَعَاطفِه قُضْبا
وقوله في حَمّام:
انظر إلى نَقْشِيَ البديعِ ... يُسْليك عن زهرة الرَّبيعِ
لَوْ جُنِيَ البحرُ من رياض ... كان جَيَ روضيَ المَرِيعِ
سقانيَ الله دمعَ عيني ... ولا وقاني جوَى ضلوعي
فما أبالي شقاءَ بعضي ... إذا تَشَقَّيتُ في جميعي

كيف تراني وُقيتَ ما بي ... ألستُ من أعجب الرُّبوعِ؟
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثالث
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة البلنسية
وهو
كتاب الخَصْر الأهْيَف في حَلْي قرية المَنْصَف
من قرى بلنسية؛ منها:
أبو الحجاج يوسف المَنْصَفيّ
زاهد مشهور سكن مدينة سَبْتَة، وأدركه والدي، ومن مشهور شعره قوله:
قالت ليَ النفس أتاك الرَّدَى ... وأنت في بحر الخطايا مُقيمْ
فما ادَّخَرْتَ الزاد قُلتُ اقْصِرِي ... هل يُحمَل الزادُ لدار الكريمْ
وقوله في زورق:
وسابحٍ بات لا يَثْنِي قوائمَه ... كالصَّقْرِ يَنْحَطُّ مذعوراً لِعِقْبانِ
كأنَّهُ مقلةٌ للجوِّ شاخِصةٌ ... ومن مجَاذيفه أهدابُ أجْفَانِ
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الرابع
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة البلَنسية
وهو
كتاب الوُرْق المُرِنَّهْ، في حلى قرية بَطَرْنَهْ
من قرى بلنسية؛ منها:
أبو جعفر أحمد بن الجَزَّار
من المسهب: هو الذي شجر بينه وبين ابن غَرْسِيَة مولى إقبال الدولة بن مجاهد ملك دانية ما أوجب أن صنع ابن غَرْسِية الرسالة الشعوبية في تفضيل العجم على العرب، وعارضها جماعة من الفضلاء، وأبو جعفر ممن عارضها برسالة، وفيه يقول ابن غَرْسية هاجياً له:
بَطَرْنَةُ تعلمُ أصلاً له ... عَزُبْتَ فَسَلْها فما تُنْكرُ
ومَثِّلْ بها وَضَماً ماثلاً ... وشَفْرَةَ جَزْر ولا أُكْثِرُ
تجرُّ ذيول العُلاَ تائهاً ... وجَددُّكم الجازرُ الأكْبَرُ
فهذي العُلا لا عُلاَ حاجبٍ ... ومثلُكَ يا سيدي يَفْخَرُ
وفضَّله صاحب المسهب، وأطنب في تقديمه بقوله:
وما زلتُ أجْنِي منك والدهرُ مُمْحِلٌ ... ولا ثمرٌ يُجْنى ولا زَرْعَ يُحْصَدُ
ثمارَ أيادٍ دانياتٍ قطوفُها ... لأغصانها ظلُّ عليّ ممدَّدُ
يُرَى جارياً ماءُ المكارم تحته ... وأطيارُ شكري فوقهنَّ تُغَرِّدُ
ومن شعره قوله:
إليك أبا عليٍّ جُبتُ بِيداً ... مَهَامِهَ مثلَ صدرك في انفساحِ
وغِربانُ الدُّجى قد نفَّرَتْها ... إلى أوكارها رَخَمُ الصَّباحِ
وقد أنشد هذه الأبيات عمه في الحديقة.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الخامس
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة البلنسية
وهو
كتاب المِنًّه، في حلى بِنَّه
من قرى بَلَنْسية، منها:
أبو جعفر أحمد بن عبد الوليّ البِنِّي
من المسهب: من سوابق حَلْبَة عصره، وغُرَر دهره، خَلَع عِذاره في الصِّبا، وهَبَّ مع غرامه جَنُوباً وصَباً. وذكره الفتح في المطمح ثم ذكره في ضمن القلائد وقال: وهو مطبوع النظم نبيله، واضحُ نهجه في الإجادة وسبيله، يضرب في علم الطب بنصيب، وسهم يخطئ أكثر مما يصيب، وكان أليف غلمان، وحليف كفر لا إيمان، ما نطق متشرِّعاً، ولا نظر متورِّعاً، ولا اعتقد حَشْراً ولا صَدَّق بَعْثاً ولا نِشْراً، وربما تنسَّك مجوناً وفتْكاً، وتمسَّك باسم التُّقى وهو يهتكه هتكاً، لا يبالي كيف ذهب، ولا بما تَمَذْهب، وكانت له أهاجٍ جَرَعَ بها صَاباً، وادّرع منها أوصاباً. الغرض من نظمه قوله:
من لي بغُرَّةِ فاتن يختالُ في ... حُلَل الجمال إذا مَشَى وحُليِّهِ
لو شبَّ في وَضَح النهار شُعاعُها ... ما عاد جُنْح الليل بعد مُضِيِّه
شَرِقَتْ بماءِ الحُسْنِ حتى خَلَّصَتْ ... ذَهَبِيَّة في الخدِّ من فِضِّيِّه
في صفحتيه من الحياء أزاهرٌ ... غذِيَتْ بوَسْمِيِّ الصِّبا ووَليِّهِ

سَلَّت محاسنُه لقَتْل مُحبِّه ... من سِحْر عينيه حُسَامَ سَمِيِّهِ
وقوله:
كيف لا يزداد قلبي ... من جَوَى الشَّوْقِ خَبالاَ
وإذا قلت عليٌّ ... بَهَر الناسَ جَمالا
هو كالغُصْنِ وكالبَدْ ... رِ بهاءً واعتدالا
أشْرَقَ البدرُ سروراً ... وانْثَنى الغصنُ اخْتيالا
إنَّ من رام سُلُوِّي ... عنه قد رَامَ مُحالا
لستُ أَسْلُو عن هواهُ ... كان رُشْداً أو ضلالا
قل لمن قصَّر فيه ... عَذْلَ نَفْسِي أو أطالا
دون أن تدرك هذا ... يُسْلَبُ الأفْقُ الهِلالا
وقوله:
تَنفَّس بالحمى مطلولُ روضٍ ... فأودَعَ نَشْرَهُ ريحاً شَمالا
فَصَبَّحَت العقيقَ إليَّ كَبْلاً ... تُجرِّرُ فيه أرْداناً خِضَالا
أقول وقد شَمِمْتُ التُّرْبَ مِسْكاً ... بنفحتها يميناً أو شمالا
نسيم بات يَجْلُب منك طِيباً ... ويشكو من محبّتك اعتلالا
يَنُمُّ إليّ من زهَرات رَوْض ... حَشَوْت جوانحي منها ذُبالا
وذكر نَفْيَ ناصر الدولة له من مَيُورْقَة في قوله وقد ردَّته الريح:
أحبتنا الأُلَى عَتَبُوا علينا ... فأقصَوْنا وقد أزِفَ الوَدَاعُ
لقد منتك لنا جَذَلاً وأُنْسَاً ... فما في العيش بعدكمُ انتفاعُ
أقول وقد صَدَرْنا بعد يومٍ ... أشَوْقٌ بالسفينة أم نزاعُ
إذا طارتْ بنا حامتْ عليكم ... كأن قلوبنا فيها شِراع
ومن شعره قوله:
قالوا تصيب طيورَ الجوِّ أسهُمُهُ ... إذا رماها فقلنا عندنا الخَبَرُ
تعلَّمتْ قوسُه من قوس حاجِبِهِ ... وأيَّدَ السهمَ من ألحاظه الحَوَرُ
يلوح في بردةٍ كالنَّفْسِ حالكةٍ ... كما يلوح بجنح الليلة القَمَرُ
وربما راق في خضراء مُورِقَة ... كما تفتَّحَ في أوراقه الزَّهَرُ
وقوله:
تروق حُسْناً وفيك الموت أجمعُهُ ... كالصَّقْل في السيف أو كالنُّور في النارِ
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب السادس
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة البلَنسية
وهو
كتاب الحال المغبوطه، في حلى حصن مَتِّيطَه
من حصون بَلنْسية، منه:
أبو جعفر أحمد بن جعفر المَتِّيطِيّ
سكن سَبْتة. ولهذا البيت فيها مجد شامخ، وتصرُّف في ولايات، وكان أبو جعفر مشهوراً بالتوشيح. ومن شعره قوله من قصيدة في أبي سعيد بن جامع وزير أئمة بني عبد المؤمن:
سَمَوْتَ حتى عَلَوْتَ النَّجْمَ مرتفعاً ... هذا صعودٌ لمن في الدهر قد مَجُدَا
وخافك الناس طُرّاً في مياههمُ ... لو أن بأْسَك في ماءٍ لما وُرِدا
زَيَّنتَ مُلْكَ أمير المؤمنين بما ... أظهرت من غزواتِ نظِّمتْ عَدَدَا
أبو عبد الله محمد بن أحمد المَتِّيطيّ
ذكر أبو سهل المحدِّث أنه اجتمع به، وأنشده قوله:
سيرَ بمن أهواهُ في زَوْرَق ... واشتعل الوجْدُ اشتعال القَبْس
كأنما الزورق قلبي بَدَا ... في لُجَج الدمع بريح النَّفَسْ
أبو جعفر أحمد بن محمد المَتِّيطيّ
أخبرني والدي: أنه كان شاعراً مكثراً، وأنه لقيه بسَبْتة في مدة المستنصر، وله أمداح كثيرة في أبي يحيى بن يحيى بن أبي إبراهيم ملك سبْتة، ومن شعره قوله:
يا سائلي عن شهابٍ مُرْتَمياً ... من النجوم لمدْحُورٍ ومُسْتَرِقِ
كفارسٍ حَلَّ إحْضَاراً عِمامتَهُ ... وضمَّها مُسْرعاً في آخر الطَّلَقِ
وقوله:
انظر إلى الشمس قد وافتْ لمغربها ... مصفرَّة الوجه لكن ما بها خَجَلُ
كأنها عندَ رأيِ العين إذ سَقَطَتْ ... وخَلَّفَتْ جمرة تُذْكَى وتَشْتَعِلُ

خَريدةٌ غَطَست في اليمِّ وانتزعتْ ... خُلْدِيَّةً رَيْثَما تَرْوَى وتَغْتَسِلُ
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب السابع
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب مملكة بَلَنْسِية
وهو
كتاب النجوم الزُّهْر، في حلى جزيرة شُقْر
من المسهب: عروس الأندلس المقلَّدة من نهرها بسلْك، المتلفِّعة من جنانها بسندس، روضٌ بَسَّام، ونهر كالحسام، وبلبل وحمام، ومنظر يحثّ على حَسْو المُدام، كما قال حسنتها أبو إسحاق بن خفاجة:
سَقْياً لها من بِطاح أُنْسِ ... ودَوْحِ حُسْن بها مُطلِّ
فما ترى غير وَجْه نَهْرٍ ... أطلَّ فيه عِذارُ ظِلِّ
الكاتب أبو المطرِّف أحمد بن عميرة
هو الآن عظيم الأندلس في الكتابة وفي فنون من العلوم، وقد كتب عن زيان بن مرْذنيش ملك بلنسية، وأخبرني أبو عبد الله بن الأبار البلنسي: زيان بن مرذنيش أحضر يوماً حَجَّاماً، ثم أخرج له جائزة، ودفع إليه أبو المطرِّف شعراً، فلم يُجِزْه، فكتب إليه:
أرى من جاءَ بالمُوسى مُواسىً ... وراحةَ من أراح المَدْحَ صِفْراً
فَأَنْجَح سعيُ ذا إذ قَصَّ شَعْراً ... وأخفق سعْيُ ذا إذ قَصَّ شَعْرَا
فأمر له بإحسان.
الكاتب أبو جعفر أحمد بن طلحة
لقيته بإشبيلية وهو يكتب عن سلطان الأندلس المتوكل بن هود، ويكون نائباً عن الوزير إذا غاب، وآل أمره إلى أن فسد ما بينه وبين ابن هود، وفر إلى سبتة، فأحسن له ملكها الموفق الينشتى، ثم بلغه أنه يكثر الوقوع فيه، فرصده في شهر رمضان وهو يشرب الخمر وعنده عواهر، فكبسه وضرب عنقه، وله شعر في الطبقة العالية، منه قوله:
يا هل ترى أظْرَفَ من يومنا ... قَلَّد جِيدَ الأفْقِ طَوْقَ العَقيقْ
وأنطق الوُرْقَ بعيدانها ... مُرْقِصةً كلَّ قضيبٍ وريقْ
والشمسُ لا تشرب خَمْرَ النَّدَى ... في الروض إلا بكؤوس الشَّقيق
وقوله:
أدِرْها فالسَّماء بدَتْ عروساً ... مُضَمَّخَةَ الملابس بالغَوالي
وخَدُّ الروض خَفَّره أصيلٌ ... وجَفْنُ النَّهر كُحِّلَ بالظِّلال
وجِيدُ الغُصْنِ يُشرِف في لآل ... تُضِيء بهنَّ أكنافُ الليالي
وقوله:
لله نهرٌ عند ما زُرْتُهُ ... عايَن طَرْفي منه سحراً حَلاَلْ
إذ أصبح الطَّلُّ به ليلَةً ... وحالَ فيها الغُصْنُ شبْهَ الخيال
وقوله:
ولما ماجَ بَحْرُ الليل بيني ... وبينكمُ وقد جَدَّدْتُ ذِكْرَا
أراد لقاءَكمُ إنسانُ عيني ... فمدَّ له المنامُ عليه جَسْرَا
وقوله:
ولما أن رأى إنسانُ عيني ... بصحن الخدّ منه غريقَ ماءِ
أقام له العِذارُ عليه جسراً ... كما مُدَّ الظلامُ على الضِّياء
البيوت
أبو القاسم بن خرشوش
من أعيان الجزيرة في مدة الملثَّمين، ومن شعره قوله:
دَعْني إذا الطيرُ نادى ... على الغصون: الصَّبوحُ
هناك أتْلِفُ مالي ... وإن نهاني النَّصيحُ
الحكَّام
أبو يوسف يعقوب بن طلحة
من المسهب: أنه ولى قضاء جزيرة شُقْر، وكان ظريف المذاكرة، حسن المحاضرة، شاهدت منه أيام مُقامي بجزيرة شُقْر محاسن لو بُثَّت على الرض ما ذوى، ولو حُمِيَ بها النجم ما هَوَى، أدبٌ كما سَجع الحمام، وكرمٌ مثل ما هَطَل الغمام؟ ومما أنشدنيه من شعره قوله من قصيدة:
ألا فَسَل البيداءَ عنِّيَ هل رأت ... سُرَايَ بها ما بين رُمْحٍ ومُنْصُلِ
بقلب لو أنَّ السيف منه لما نَبَا ... وسُهْدٍ إذا ما نام ليلُ المهبَّل
على كل طِرْفٍ يسبق الطَّرْف شَدُّهُ ... تراه إلى العلياء مثليَ يَعْتَلي
فطوراً على بَرْقٍ وطوراً على ضُحىً ... وطوراً على ليلٍ بصبحٍ محجَّلِ
العلماء
الأديب الفاضل أبو إسحاق
إبراهيم بن أبي الفتح بن خفاجة

من الذخيرة: الناظم المطبوع، الذي شَهِدَ بتقديمه الجميع، المتصرف بين أشتات البديع.
ومن القلائد: مالك أعنَّة المحاسن وناهج طريقها، العارف بتَرْصيعها وتنميقها، الناظم لعُقودها، الرَّاقم لبُرودها.
ومن المسهب: هو اليوم شاعر هذه الجزيرة، لا أعرف فيها شرقاً ولا غرباً نظيره.
الغرض من محاسنه قوله:
أما والتفات الرَّوضِ عن أزْرق النَّهْرِ ... وإشراقِ جِيد الغُصْن في حُلَّة الزَّهْرِ
ومنها:
ولم ألق إلا صَعْدَةً فوق لأْمَةٍ ... فقلت قضيبٌ قد أطلَّ على نَهْرِ
ومنها:
ولم أر إلا غُرَّةً فوق شُقْرَةٍ ... فقلت حَبابٌ يستديرُ على خَمْرِ
ومنها:
غَزَاليّةُ الألحاظ رِيميَّة الطُّلَى ... مُدَاميَّةُ الألْمَى حَبَابيَّةُ الثَّغْرِ
تَرَنَّحَ في مَوْشيَّةِ ذهبيَّةٍ ... كما اشتبكتْ زُهْرُ النجوم على البَدْرِ
وقد خَلَعَتْ ليلاً علينا يَدُ الهوى ... رداءَ عناقٍ مَزَّقَتْهُ يَدُ الفَجْرِ
وقوله:
وعَشِيَّ أُنْسٍ أضْجَعَتْنَا نَشْوَةٌ ... فيها يمهِّد مضجعي ويدمَّثُ
خَلَعَتْ عليّ بها الأراكةُ ظلَّها ... والغصنُ يُصْغِي والحمامُ يُحَدِّثُ
والشمسُ تجنح للغروب مريضةً ... والبَرْقُ بَرْقِي والغمامة تَنْفُثُ
وقوله:
ومُهَفْهَفٍ طاوى الحَشَا ... خَنِثَ المعاطف والنَّظَرْ
بَهَرَ العيون بصورةٍ ... تُليَتْ محاسنها سُوَرْ
فإذا رَنَا وإذا شَدَا ... وإذا سعى وإذا سَفَرْ
فَضَح المُدَامة والحما ... مَةَ والأراكةَ والقَمَرْ
وقوله:
كأنَّما اللَّحْظُ كيمياءُ ... يُذْهِبُ من خَدِّه لُجَيْنَا
وما تيقَّنتُ أنَّ عَيْناً ... تَقلِبُ عين اللُّجَيْن عَيْنا
وقوله:
وأسودٍ يَسْبَحُ في لُجَّةٍ ... لا تكتُمُ الحصباءَ غُدْرَانُهَا
كأنّها في شكلها مُقْلَةٌ ... زرقاءُ والأسودُ إنْسَانُها
وقوله:
كتابنا ولدينا البدرُ نَدْمانُ ... وعندنا بكؤوسِ الراح شُهْبَانُ
والقُضْبُ مائِسَةٌ والطير ساجعةٌ ... والأرضُ كاسيةٌ والجَوُّ عُرْيانُ
وقوله:
كتبتُ وقلبي في يديك أسيرُ ... يقيم كما شاءَ الهوى ويسيرُ
ولي كلَّ حينٍ من نسيبي وأدمُعِي ... بكل مكانٍ روضةٌ وغَديرُ
وقوله:
يا نُزْهَةَ النَّفْس يا مُناها ... يا قُرَّةَ العَيْنِ يا كَرَاها
أما ترى لي رِضاك أهْلاً ... وهذه حالتي تراها
فاستَدْرك الفَضْلَ يا أباهُ ... في رَمَقِ النَّفْسِ يا أخاها
فَسَوْتَ قَلْباً ولِنْتَ عِطْفاً ... وعِفْتَ من تَمْرَة نَوَاها
وقوله:
قُلْ للقبيح الفَعَال يا حَسَناً ... ملآْتَ عينيَّ ظُلْمَةً وسَنَا
قاسمني طَرْفُكَ الضَّنَى أفَلاَ ... قاسمَ جَفْنَيّ ذلك الوَسَنَا
إني وإن كنتُ هَضْبَةً جَلَداً ... أهتزُّ للحُسْن لوعَةً غُصْنَا
قَسَوْتُ قَلْباً ولِنْتُ مكْرُمةً ... لم ألتزمْ حالةً ولا سَنَنا
لستُ أُحِبُّ الجمودَ في رَجُلٍ ... تحسبه من جموده وَثَنَا
لم يَكْحَل السُّهْدُ جَفْنَه كَلَفاً ... ولا طوى جسمَه الغرامُ ضَنَى
فإنني والعفافُ من شيَمي ... آبى الرزايا وأعشق الحَسَنا
طوراً منيبٌ وتارةً غَزِلٌ ... أبكى الخطايا وأندُبُ الدِّمَنَا
إذا اعْتَرَتْ خَشْيةٌ بَكَى وشكى ... أو انْتَحَتْ راحةٌ دَنا فَجَنى
كأنني غُصْنُ بَانةٍ خَضِلٌ ... تَثْنيه ريحُ الصَّبَا هنا وهنا
وقوله:
حَدَرَ القِنَاعَ على الصَّباح المُسْفِرِ ... ولَوَى القَضيبَ على الكَثيب الأعْفَرِ

وتملّكتْه هِزَّةٌ في عزَّةٍ ... فارْتجَّ في وَرَقِ الشباب الأخْضَرِ
متنفِّساً عن مثل نَفْحة مِسْكِهِ ... مُتَبَسِّماً عن مثل سِمْطَيْ جَوْهَر
سَلَّتْ عليّ سيوفَها أجفانُه ... فلقيتهنَّ من الشَّبابِ بِمغْفَرِ
متجلِّداً آبى بنفسِيَ أن أرى ... هذا الهِزَبْرَ قتيلَ ذاك الجُؤْذَرِ
فحشَا بطعنته حَشَا متنفِّس ... تحت الدُّجى من مارجٍ مُتَسَعِّرِ
يَغْشَى رماحَ الخطِّ أوَّلَ مُقْبل ... ويكُرُّ يوم الحرب أخرَ مُدْبِرِ
فتراه بين جِراحَتَيْنِ للحظَةِ ... مكسورةٍ ولعاملٍ متكسِّر
بيني وبينك ذِمَّةٌ مرعيَّةٌ ... فإذا تنوسَيتِ الأزمَّةُ فاذْكُر
والمَحْ صحيفةَ صفحتي فاقرأْ بها ... سطرين من دمعٍ بها مُتَحَدِّر
كَتَبَتْهُما تحت الظلام يَدُ الضَّنَى ... خوفَ الوُشاة بأحمرَ في أصفَر
ومنها:
يَثْنِي معاطِفَه وأُذْرِي عَبْرَةً ... فإخالهُ غُصناً بشطَّيْ جعْفَرِ
وقوله:
سقاني وقد لاحَ الهلالُ عشيَّةً ... كما اعوجَّ في دِرْعِ الكَمِيِّ سِنانُ
ونَمَّتْ بأسْرار الرياض خميلةٌ ... لها الزَّهْرُ ثَغْرٌ والنسيم لسانُ
وكتب على ظهر رقعة هاج:
ومعرِّض ليَ بالهجاء وهَجْره ... جاوبْتُهُ عن شعره في ظهره
فلئن نَكُنْ بالأمس قد لُطْنا به ... فاليوم أشعاري تلوط بشعرهِ
وقوله:
والريحُ تَعْبَثُ بالغصون وقد جَرَى ... ذَهَبُ الأصيل على لُجَيْنِ الماءِ
أبو طالب عبد الجبار المتنّبِّي
من الذخيرة: كان يعرف بالمتنبي. أبرع أهل وقته أدباً، وأعجبهم مذهباً، وأكثرهم تفنناً في العلوم، وأوسعهم ذَرْعاً في المنثور والمنظوم. وكان فيما بلغني يفد نفسه بمُلْك، ويَنْخَرط للمجون في سِلْك، لا يبالي أين وقع، ولا يحفل بأي شيء صنع، ومن شعره قوله:
كيف البقاءُ ببيْتٍ لا أنيسَ به ... ولا وِطاءٌ ولا ماءُ ولا فُرُشُ
كأنَّه كُوَّةٌ في حائطٍ ثُقِبَتْ ... في ظلمة الليل يأوي جَوْفَها حَنَشُ
وقوله:
قُلْ لأبي يُوسُفٍ المُنْتقَى ... والفاضلُ الأوحد في عَصْره
ومن إذا حَرَّك موسيقة ... وظل يُبْدي السِّحْرَ من عَشْرِهِ
تخاله إسحاق أو مَعْبَداً ... تشْدُو بألحانٍ على وَتْرَهِ
هل لك أن تسمع مُهْديكمُ ... فتطرُدَ الأشجان عن فكْرِه
حتى إذا الأيام أبدتْ له ... ما في ضمير الزَّهر من سِرِّهِ
أعطاك من جدْواهُ ما تَشْتهِي ... فِضَّتِهِ البيضاء أو تِبْرِهِ
وقوله:
وخَمَّار أنختُ به مَسيحي ... رَخيم الدَّلِّ ذي وتر فصيحِ
سقني ثم غَنَّاني بصوتِ ... فدَاوَى ما بقلبي من جُروح
وفضَّ فَمَ الدِّنان على اقتراحٍ ... فاح البيت منْها طيبَ ريحِ
فقلتُ له لِكَمْ سنةٍ تراها ... فقال أظنها من عهد نُوحِ
فلما أن شَدَا الناقوسُ صَوْتاً ... داعني أن هَلُمَّ إلى الصَّبُوح
وحَيّاني وفدَّاني بكأْسٍ ... وقبَّلني فردَّ إليَّ روحي

الشعراء
أبو عبد الله محمد بن الدمن
المعروف بمرْج كُحْل
هو في المغرب مثل الوَأْواءِ الدمشقيّ كان ينادي في الأسواق، حتى إنه نعيش ببيع السمك، ترقَّت به همته إلى الأدب قليلاً قليلاً، إلى أن قال الشعر، ثم ارتفعت فيه طبقته، ومدح الملوك والأعيان، وصدر عنه مثلُ قوله:
عَرِّجْ بمُنْعَرِج الكثيبِ الأَعْفَرِ ... بين الفُرَات وبين شَطِّ الكَوْثَرِ
ولْتَغْتَبِقْها قهوةً ذهبيَّةَ ... من راحَتَي أحْوى المدامع أحْور
وعشيَّة كم بتُّ أرقبُ وقتها ... سمحتْ بها الأيامُ بعد تَعذُّر

نِلْنا بها آمالنا في جَنَّةٍ ... أهْدَت لناشِقِها شميمَ العَنْبَرِ
والروضُ بين مفضَّضٍ ومَذْهَّبٍ ... والزَّهْرُ بين مُدَرْهَمٍ ومُدَنَّر
والوُرْقُ تشدو والأراكةُ تَنْثَني ... والشمسُ تَرْفُلُ في قميصِ أصْفَر
وكأنه وكأن خُضْرَةَ شَطِّهِ ... سيفٌ يُسَلُّ على بساط أخْضرِ
وكأنما ذاك الحَبابُ فِرِنْدُهُ ... مهما طَفَا في صفحهِ كالجوهَرِ
نهرٌ يَهيمُ بحسنِهِ من لم يَهِمْ ... ويُجيد فيه الشِّعْرَ من لم يَشْعُر
ما اصفرَّ وَجْهُ الشمس عند غروبها ... إلا لفرقةِ حُسْنِ ذاك المنظر
وقوله:
سَرَوا يَخْبِطُونَ الليلَ والليلُ قد سَجَا ... وعَرْفُ ظلامِ الأُفْق منه تأَرَّجا
إلى أن تخَيَّلْنا النجومَ التي بَدَتْ ... بهِ يا سَميناً والظلامَ بَنَفْسَجَا
ومما شجاني أنْ تألَّقَ بارقٌ ... فقلتُ فؤادي خافقاً مُتَوَهِّجا
وشِيبَ بياضُ القَطْرِ منه بحمرةِ ... فأذكرني ثَغْراً لسَلْمَى مُفَلَّجَا
أمائِسَةَ الأعطاف من غير خَمْرَةِ ... بأسهُمِها تُصْمِي الكميَّ المُدَجَّجَا
أأنتِ التي صَيَّرْتِ قدَّكِ مائساً ... وعِطْفَكِ مَيَّاداً ورِدْفَكِ رَجْرَجا
وأغضبكِ التشبيهُ بالبَدْر كاملاً ... وبالدَّعْصِ مَرْكوماً وبالظَّبي أدْعَجا
وقلب شَجٍ صَيَّرْتِهِ كُرَةً وقد ... أجَلْتِ عليهِ لامَ صُدْغِكِ صَوْلَجَا
فلا رَحَلَتْ إلا بقلبي ظعينةٌ ... ولا حملتْ إلا ضلوعيَ هَوْدَجا
وقوله:
وعندي من معاطفِها حديثٌ ... يُخَبِّرُ أنَّ ريقتها مُدَامُ
وفي ألحاظها السَّكْرَى دليلٌ ... ولا ذُقْنا ولا زَعَمَ الهمامُ
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثامن
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب مملكة بلنسية
وهو
كتاب السحر المُسَطَّر، في حلى حصن مُرْبَيْطَر
البساط
من المسهب: هي من المدن الرومية المشهورة بالأندلس، فيها آثار عظيمة، وأعظمها الملعب الذي أمام قصرها، وهو صَنَوْبريّ الشكل، قد ارتقى بأحكم صَنْعَة درجةً درجةً، إلى أن تكون الدرجة العليا لا يجلس فيها إلا الملك وحده، ثم ما انحدر منها اتسع المكان بحسب الطبقات إلى أن تكون الدرجة الأخرى لجمهور مَنْ يلوذ بالملوك من غير الخاصة المقربين.
العصابة
ملكها في مدة الطوائف
القائد أبو عيسى بن لَبّون
وكان قبل ذلك وزيراً للمأمون بن ذي النون، ولَعِبَ عليه جاره ابن رزين صاحب السَّهلة، فأخرجه منها، ولم يعوضه بشيء عنها.
من القلائد: هو ممن رأس وما شَفّ، ووَكفَ جوده وما كفَّ، وأعاد كاسد البدائع نافقاً، ولم يُصْدِر آملاً خافقاً، وكانت عنده مناهلي تُزَفُّ، فيها للمُنى أبكارٌ نواهد. ومن شعره قوله:
سَقَى أرضاً، ثَوَوها، كلُّ مُزْنٍ ... وسايرهم سرورٌ وارتياحُ
فما ألْوَى بهم مَبلَلٌ ولكنْ ... صروفُ الدهر والقَدَرُ المتاحُ
سأبكي بعدهمْ حُزْناً عليهم ... بدمع في أعنَّتِه جِماحُ
وقوله:
قم يا نديمُ أدِرْ عليّ القَرْقَفَ ... أًوَ ما ترى زَهْرَ الرياض مُفَوَّفا
فتخال محبوباً مُدلاًّ وَرْدَه ... ا ووتخال نرجسَها محِبّاً مُدْنَفَا
والجُلَّنَارَ دماءَ قَتْلَى مَعْرَكٍ ... والياسمينَ حَبَابَ ماءٍ قد طَفا
وقوله:
لَحَا الله قلبي كم يحنَّ إليكمُ ... وقد بعتمُ حظِّي وضاع لديكمُ
إذا نحن أنصفناكمُ من نفوسنا ... ولم تُنصفونا فالسَّلام عليكمُ
وقوله:
لو كنتَ تشهد يا هذا عَشِيَّتَنا ... والمزنُ يسكبُ أحياناً وينحدرُ

والأرض مصفرَّةٌ بالمزن كاسيةٌ ... أبصرت تبْراً عليه الدُّرُّ يَنْتَثِرُ
وقوله:
يا ربَّ ليل شَربْنا فيه صافيةً ... حمراءَ في لونها تَنْفى التباريحا
ترى الفَراشَ على الأكواس ساقطةً ... كأنما أبصرتْ منها مصابيحا
وقوله بعدما أُخِذَ منه بلده:
يا ليت شعري وهل في ليت من أرَبٍ ... هيهات لا تنقضي للمرءِ آرابُ
أين الشموسُ التي كانت تطالُعنا ... والجوُّ من فوقه لليل جِلْبابُ
وأين تلك الليالي إذ نُلمُّ بها ... فيها وقد نام حُرَّاسٌ وحُجَّابُ
تُهْدِي إلينا لُجَيناً حَشْوُهُ ذَهَبٌ ... أناملُ العاجِ والأطرافُ عُنَّابُ
وقوله:
نَفَضْتُ كفّي من الدنيا وقلت لها ... إليك عني فما في الحقّ أغْتَبنُ
مِنْ كِسْرِ بيتيَ لي روضٌ ومن كُتُبي ... جليسُ صدقِ على الأسرار مُؤْتَمَنُ
وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قومي وما لهمُ علوٌ بمن دَفَنُوا

السلك
أبو عيسى لُب بن عبد الودود المُرْبَيْطَريّ
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب التاسع
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة البلنسية
وهو
كتاب المراعي العازبة، في حُلى كورة شَاطِبة
ينقسم هذا الكتاب إلى:
كتاب الغيوث الصائبة، في حُلَى مدينة شاطبة
كتاب النغْمة المطربه، في حُلى حصن يانبَه
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الأول
من الكتابين اللذين يشتمل عليهما:
كتاب الكورة الشاطبية
وهو
كتاب الغيوث الصائبة، في حُلى مدينة شَاطِبَة
البساط
من المسهب: مدينة عظيمة، مانعة كريمة تعزُّ بامتناع معقلها نفوسُ أهلها، وتَخْرُجُ من بَطْحائها في أحسن متأمّل، وهي من التي نشزت على بلنسية في مدة ملوك الطوائف. ومن مُتَفَرَّجاتها البطحاء، والغدير، والعين ثم لابن هود، وساد فيها أبو الحسين بن عيسى وكان مشهوراً بالجود ممدّحاً وصارت له بعد موت ابن هود، ثم صالح بنوه النصارى عليها. وصارت بحكمهم.
السلك
ذوو البيوت بيت بني الجَنَّان
بيت موثَّل التوارث، وهم من كنانة، أمهرهم:
أبو العلاء عبد الحق بن خلف
بن مفرّج بن الجَنّان
من المسهب: كاتب شاطبة الذي لم أجد له فيها نظيراً، وماجدها الذي ألفيته للمكارم وليّاً ونصيراً، اجتمعت به في بلده، فأحلّني بين خِلبِهِ وكبده، وهو معروف فيها، بالكتْب عمن يليها، من الأمراء، والاستشارة في الآراء، تتجلّى الوزراء باسمه، وتشرف الكتابة بوَسْمه. ولما أسرعتُ الرحيل عن شاطبة وجَّه لي ببِرٍّ، وكتب معه:
يا سيِّداً زارَ أرْضاً ... أمْسَتْ به أُفْقَ بَدْرِ
ما كنتَ إلا كبَرْقٍ ... فكن غَديراً لقَطْرِ
حتى نُوَفِّيَ وِرْداً ... من فَيْضِ علمٍ كبَحْرِ
وإن أبَيْتَ فَسِرْ في ... أمْنٍ وحِفْظٍ وبرِّ
وكن عليماً لنارٍ ... أضْرَمتْهَا طيَّ صَدْر
وأنشدني لنفسه:
سَرَى بهد الهُدُوِّ خيالُ نُعْمى ... ولم تَدْر الوشاةُ أوانَ سَارا
وزارَ وَأعْيُنُ الرُّقَبَاءِ تُذْكَى ... حذاراً أن يزُورَ وأن يُزَارا
فدون طروقِ ذاك الحيِّ سُمْرٌ ... تدور بجانبيه حيث دارا
سأشكر للكَرَى خَلَساتِ وَصْلٍ ... كما لَقَط القَطَا ثم استطارا
وذكره صاحب فرحة الأنفس، وأورد له رسالة كتبها إلى يحيى بن غانية الملثّم، يهنِّيه بهزيمة النصارى:

أطال الله بقاء الرئيس الأجل واضح آيات المساعي، مجايا في تأييده دعوة الداعي، ولا زال معقودة بالظفر ألويتُه معمورةً بصالح الدعاء ساحاته وأنديته، كتابي وما خططت بحرف، إلا رمقت السماء بطَرْف. أدعو وأتوسَّل، إلى من يسمع الدعاء ويقبل، ويُسْنِي الحظوظ فيُجْزل، على ما أولى من قِسَمٍ أتاحها الله على يديه، وألقى أزمَّتَها إليه، حتى انقادت له بعد شِماس، وتأتَّت على ياس، وهل كانت إلا خبيثة الدهر، وبَيْضَةَ العُقْر، صعبت على من كان قبل من أولى السياسات، ومدبّري الرياسات.

ابنه الكاتب
أبو بكر بن أبي العلاء
كان من الجِلَّة ببلدة، وجَرَت عليه محنةٌ سُجِن فيها وقُيِّد، فكتب على الحائط بالفَحْم وقد أيقن بالموت:
ألا دَرَى الصِّيدُ من قومي الصناديدُ ... أنِّي أسيرٌ بدارِ الهُون مقصودُ
لا أَبْسُطُ الخَطْوَ إلا ظَلَّ يَقبِضُهُ ... كَبْلٌ، كما التفَّت الحيَّاتُ مَعْقودُ
وقد تألَّبَ أقوامٌ لسَفْك دمِي ... لا يَعْرِف الفضْلُ مَغْناهم ولا الجُودُ
وقوله في غلام يقفز فارّاً:
ووسيمِ الخَلْق والخُلُقِ ... يَنْثَنَى كالغُصْن في الوَرَقِ
مرَّ يُلْقي النار في ضَرَمٍ ... كفُؤاد الصَّبِّ مُحْترِقِ
ومضى يَجْتابُ جاحِمَها ... كانْصلات النَّجْم في الأُفُقِ
أبو الوليد بن الجنَّان
من هذا البيت. صحبته بمصر وحلب، وأنا أقْطَعُ أنه معدوم النظير في الغَوْص على المعاني المخترعة والمولَّدة. فمما كتبته عنه من شعره قوله من قصيدة مدح بها الصاحب الكبير المُنْعِم كمال الدين بن أبي جرادة:
فوق خَدِّ الورد دَمْعٌ ... من عيون الحِبِّ يَذْرِفْ
برِداء الشمس أضحى ... بعد ما سال يُجَفِّفْ
وقوله:
قُم سَقِّنيها وجيشُ الليل مُنْهَزِمٌ ... والصبح أعلامه محمرَّة العَذَبِ
والسُّحْبُ قد بدَّدَتْ في الأرض لؤلؤَها ... تَضُمُّهُ الشمسُ في ثوبٍ من الذَّهَبِ
وقوله:
الأرض بالشمس تهيمُ فلِذا ... يأتي بشيراً بالقدوم الغَبَشُ
لو لم يكن لَمَا غَدَا لها ... بساطُ أزهار الرياض يُفْرَشُ
وقوله:
ودَوْحةٍ أطرَبتْ منها حمائمُها ... أُفْقَ السماء فلم تَبْرَحْ تُنَقِّطُها
تحكي الكمامةُ فيها راحةً قُبِضَتْ ... يُلْقِي السحابُ لها دُرّاً فَتَلْقُطُها
وهو الآن بالقاهرة مصدَّراً في إقراء النحو.
أبو الحسن محمد بن أبي جعفر بن جبير
أخبرني والدي: أنه كتب عن عثمان بن عبد المؤمن ملك غرناطة وحج وجلَّ قدره في رحلته، ثم عاد إلى الأندلس، ثم عاد إلى مصر، فمات، وقبره بالإسكندرية، ومن شعره قوله:
طولُ اغتراب وبَرْحُ شَوْقٍ ... لا صَبْرَ والله لي عَلَيْهِ
إليك أشكو الذي أُلاقي ... يا خَيْرَ من يُشْتكى إلَيْهِ
ولي بغَرْناطةٍ حبيبٌ ... قد غَلِقَ الرَّهنُ في يَدَيْه
ودَّعتُهُ وهْو بارتماضِ ... يُظْهِرُ لي بعضَ ما لديْهِ
فلو ترى طلَّ نَرْجِسَيْهِ ... ينهلُّ في وَرْد صَفْحَتَيْهِ
أبصرتَ دُرّاً على عقيقٍ ... من دمعه فوق وجْنَتَيْهِ
وقوله:
غريبٌ تذكَّر أوطانَهُ ... فهيَّج بالذِّكْر أشجانَه
يَحُلُّ جَوَاه عقودَ العَزَاءِ ... ويَعْقِدُ بالنجم أجفانه
ويُرْسل للغَرْب من دمعهِ ... غُروباً لتسقيَ سُكَّانه
وقوله:
يا وفودَ الله فُزْتُمْ بالمُنَى ... فهنيئاً لكمُ أهْلَ مِنَى
قد عرفنا عَرفاتٍ بعدكمْ ... فلهذا برَّحَ الشوقُ بِنا
نحن بالمغرب نُجْري ذكركمْ ... وغُروبُ الدمع تجري بيننا
الكتاب
؟أبو بكر عبد الرحمن بن مُغَاور
كتب عن أبي الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن سلطان المغرب الأوسط وقسَم أبو الربيع يوماً على خاصته أُتْرُجّاً، فأعطاهم واحدة واحدة وخصَّه باثنتين، فقال:

قَسَم الأُتْرُجّ فينا ... مَلِكٌ طَلُقُ اليديْن
لم تكن قسمةَ ضِيزَى ... بين أتْرابي وبيني
إذ حَبَا فَرْداً بِفَرْدٍ ... وحَبَاني باثنتين
هكذا ما زال حظيِّ ... مثلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ
ووهب له أحد الأعيان سَهْمَه من الساقية في ثومه، فسقى بها جَنَّته، ثم وصل إلى ابن مغاور في ذلك اليوم ضيف، فكتب إلى المذكور الذي سقى جَنَّته:
سقيتَ أرضي بفَيْضِ ماءٍ ... فاسْقِ ضلوعي بفَيْضِ راحِ
واتركْ جفايَ يذهبْ جُفَاءً ... واخْفض جناحاً على جُناحي
وقال وقد عَلِقَ أخ له امرأة من بني يَنَّق:
بَنِيَّ يَنَّقٍ كُفُّوا عيون ظِبتائكم ... فما بيننا ثأْرٌ ولا عندنا ذَحْلُ
أسَوَّغْتُمُ الشَّهْدَ المشورَ لطاعمٍ ... وقلتمْ حرامٌ أن يُلِمَّ به النَّحْلُ
إذا ما تَصَدَّتْ في الطريق طَروقةٌ ... فغيرُ نكير أن يُلمَّ بها الفَحْلُ
وقوله:
الحمد لله بلغْنا المُنى ... لا حدَّ في الخمر ولا في الغِنا
قد خَلَّلَ القاضي لنا ذا وذا ... وإن شكرناهُ أحلَّ الزِّنا

الكاتب أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز
كان بمرَّاكُش في مدة المنصور، وكتب عن أبي زكريا بن أبي إبراهيم صاحب سَبْتَة، وكان يقول من الشعر ما منه قوله:
أيا سَرْحَةً ناديتُها مُظْهِراً لها ... غرامي وسرِّي في الضمير قد انطَوى
قَعيدَكِ، هل تدرين ما بي من الضَّنَى ... وماذا أقاسيه عليكِ من الجَوَى
فيا ليتني لم أعرفِ الحبَّ ساعةً ... فلولا الهوى ما كان نَجْميَ قدْ هَوَى
ومن كتاب الإحكام، في حُلى الحُكّام
أبو الحسن طاهر بن نيفون
قاضي شاطبة
من المسهب: عالم أعلام، وفاضلٌ في كل فن وإمام، نهض به علمه حتى صيّره عَلَماً، وأبرزه في بلده حَكَماً. وله من مدح في إبراهيم بن يوسف بن تاشفين.
أَيا ملكاً أولانيَ العزَّ والغِنَى ... وصيَّرني بعد الخمول مُكَرَّمَا
وأبصرني في الأرض مُلقىً مذَلَّلاً ... فرفَّعني بالعزِّ والجاه للسَّمَا
العلماء
أبو بكر محمد بن أبي عبد الله
محمد بن سُراقة
هو الآن صاحب مدرسة الحديث التي بناها السلطان الكامل في القاهرة، وهو في نهاية اللطافة، وخلوص الديانة والقبول، وعلى أموره طُلاوة، استنشدته من شعره، فأنشدني قوله:
دعاني إلى إسْماع شعريَ سَيِّدٌ ... غَرٍ بفُنون العلم يَرْوِي ويكتبُ
فقلتُ عجيبٌ عنديَ الجود بالُّلهَا ... وبُخْليَ بالشعر المهلهل أعجبُ
وما الشعر إلا صورة العَقْل حَجْبُها ... إذا لم تكن في غاية الحسن أوجَبُ
الطبيب أبو عامر محمد بن ينَّق
شُهرَ ذكاءً وطَبْعاً، وعمِّر للمحاسن رَبْعاً، لولا عُجْب استهواه، وأخلّ بما حواه، وزهْوٌ ضَفا على أعطافه، وأخفى ثوب إنصافه، إلا أن حسنة إحسانه لتلك السيئة ناسخة، وفي نفس الاستحسان راسخة.
ومن شعره قوله:
دَعْني أُصَادِ زماني في تقلُّبِهِ ... فهل سمعتَ بظلِّ غير مُنْتقل
وكلما راحَ جَهْماً رُحْتُ مبتَسماً ... كالبَدْر يزداد إشراقاً مع الطَّفَل
ولا يروعَنْكَ إطراقي لحادثةٍ ... فاللَّيْثُ مَكْمَنُهُ في الغِيل للغَيلِ
فما تأَطَّر عِطْفُ الرُّمْح من خَوَرٍ ... فيهِ ولا احمرَّ صَفْحُ السيف منْ خَجَلِ
لا غَرْو أن عُطِّلتْ من حَلْيها هِممي ... فهل يُعَيَّرُ جِيدُ الظَّبي بالعَطَل
وَيْلاهُ هَلاًّ أنالَ القوسَ باريهَا ... وقلَّد العَذْبَ جِيد الفارسِ البَطل
وقوله:
وما ظبيةٌ أدْماءُ تَأْلَفُ وَجْرَةً ... ترودُ ظلال الضَّالِ أو أثَلاتِها
بأحسنَ منها يومَ أومَتْ بلحظها ... إلينا ولم تَنْطقْ حذارَ وُشَاتها
وأطنب في الثناء عليه صاحب السِّمْط، وأنشد له، في بعض ما أنشد، ما هو منسوب لغيره.
الشعراء

أبو محمد عبد الله بن سلفير الشاطبي
ّ
من فرحة الأنفس: له من قصيدة في محمد بن مرْذنيش ملك مُرْسية تصف قِطَعَه البحرية:
وبنْتِ ماءٍ لمَسْرَى الريح جِرْيَتُها ... تمْشي كما مشت النَّكْبَاءُ والثَّمِلُ
قد جَلَّلوها شراعاً مثل ما نشأتْ ... يُظلُّها من غمامٍ فوقها ظُلَلُ
كأنها فوق متنِ الريح سَابِحَةً ... فَتْحَاءُ يعلو بها طوراً ويَسْتَفِلُ
جابت بنا كل خَفّاق الحشَا لَجب ... لملتقى المَوْج في حافاته زَجَلُ
أبو عبد الله محمد بن يربوع الشاطبي
ّ
ذكره صفوان في زاد المسافر، وذكر: أنه طلب من صفوان شيئاً من شعره فمطله، فكتب له ابن يربوع:
فدَيْتُكَ ما هذا التَّنَاسي أبا بَحْرِ ... لقد ضاق ذَرْعاً عن تحمُّله صَبْري
أأصْدُرُ عن أُفْق الكواكب سادراً ... وأرحل ظمآناً على شاطئ النَّهْر
وأنشد له قوله في أحد ملوك بني عبد المؤمن:
أَسَيِّدنا لا تُنكرنَّ تزاحُماً ... على كفكم منّا فمورِدُها عَذْبُ
وُعْذرا إلينا فالقلوب نوازِعٌ ... إلى لَثْمها والحكْمُ ما حكمَ القَلْبُ
فلو بلغَتْ شُهْبُ السماءِ بلوغَنَا ... لتقبيلها ظلَّتْ تزاحمنا الشُّهْبُ
الأهداب
موشحة لابن مُوهَد الشاطبيّ
وسكن مُرْسيَة ومدح بها ابن مرذنيش ملك شرق الأندلس:
أما طربتَ إلى الحُمَيَّا ... ما بين ندمانٍ وساقِ
والبدرُ في عقب الثريّا ... والليلُ ممدودُ الرِّواقِ
خُذها على رغم العذولِ
خَرْقاءَ تلعبُ بالعقولِ
والنهرُ كالسيف الصَّقيلِ
على رياض فاحَ رَيَّا ... ولاحَ مصقولَ التَّراقي
تلم المُنَى يا صاحباً ... لا مُلْكُ مصرَ مع العراقِ
قد كنت أصبو إلى الرحيق
حتى شُغلْتُ عن الإبريقِ
بقهوةٍ من لذيذ الرِّيقِ
أنا الذي صِدْتُ ظُبَيّاً ... طاوى الحَشَا حُدْوَ العِناقِ
تَسْقي مراشفهُ شَهِيَاً ... من مُسْكرٍ عَذْب المذاقِ
يا من لَحَا ولك التَّفْنِيدُ
حُبِّي لَعَزَّةَ لا يبيدُ
فربما بَلِيَ الجديد
يا من أحبَّ القُرْبَ إليّا ... كيف السبيلُ إلى التلاقي
لقد لقيتُ الموت حَيَّاً ... ما بين نأْيِكَ واشتياقي
من لي به فوق ما أقولُ
تحارُ في وَصْفه العقولُ
فما إلى وَصْله سبيلُ
أحببْ به أحببْ إليَّا ... ظَبْياً يروَّع بالفراقِ
طَلْقَ الأسرَّة والمحيَّا ... كالظَّبي مكحول المآقي
مَنْ لي بمن أهوى ومَنْ لي
ليس الهَوَى إلا لمثلي
وأنت يا بَعْضِي وكُلِّي
أبْعَدْتَني بُعْدَ الثُّريّا ... وأنت تعلم ما ألاقي
يا من هَوِيتْ أبقِي عليَّا ... كما أنا عليكَ باقِ
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثاني
من الكتابين اللذين تشتمل عليهما كورة شاطبة.
وهو
كتاب النَّغْمة المُطْرِبه، في حُلى حصن يانَبه
من المسهب: حصن بَهِجُ المنظر، ذو فواكه ومياه، منه:
أبو عبد الله محمد بن خَلصَة الأعمى
من الذخيرة: كان أحد العلماء بالكلام، وله حظ من النثر والنظام، لكنه بالأئمة العلماء، أشبه منه بالكتاب الشعراء، وقد بَدَرَتْ له أشعارُ يسير بها إلى البديع، ويذهب فيها إلى التصنيع. وكتب عن إقبال الدولة بن مجاهد ملك دانية والجزر. ومن شعره قوله من قصدية في مدحه:
خَدَمتكمْ ليكونَ الدهر من خَدَمي ... فما أحالتْهُ عن أحواله حِيَلي
إن لم تكن حالي مُبَدَّلةً ... فنا انتفاعي بِعلْمِ الحال البَدَل
وقوله من قصيدة:
أَطِعْ أمْرَ مَنْ تهواهُ عَزَّ قد بَزَّا ... كفى بالهوى ذُلاًّ وبالحسن مُعْتَزَّا
ومنها:

ولما لَحَاني الدهرُ لَحْوَ العَصَا ولم ... أجِدْ من بنيَه غيرَ من زادني وَخزَا
جعلتك لي حِصْناً ونبَّهتُ مِقْوَلاً ... جُرَازاً جُذَاذاً لا كَهاماً ولا كَزَّا
ولم تقتصدْ منك القصيدةُ نائِلاً ... كثيرٌ لها أن تُسْتَجَازَ ولا تُجْزَى
ليُمْتِعْ بك الله الأمانيّ والمُنَى ... ولا تُفْجَعُ الآداب فيك ولا تُرْزا
وقوله:
عَدَمٌ ذا الورى وأنتمْ وجودُ ... وهُراءٌ وأنتمُ المعقولُ
وإذا كَشَّف الحقائقَ فكْرٌ ... شَهدتْ لي بما أقول العقولُ
وقوله يخاطب الحُصْريَّ:
أيا صادقاً هَواهُ ... إذا المدَّعون مانُوا
فلم يَحْوِ ما حواهُ ... زمانٌ ولا مكانُ
ولم يَفْرِ ما فَرَاهُ ... حُسَامٌ ولا سِنانُ
إذا سَلَّ مُرْهَفاتٍ ... من المنطق البيانُ
تَبَيَّنْتُ أنَّ أمْضيَ ... من الصارم اللسانُ
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب العاشر
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة البلَنسية
وهو
كتاب في حُلى حصن البُونْت
من المسهب: معقل من المعاقل الرفيعة، والشواهق المنيعة، ملكة في مدة ملوك الطوائف:
القائد أبو محمد
عبد الله بن القاسم الفهري
ّ
وضبطه أشدّ الضبط، وضار شَجىً في حَلْق صاحب بلنسية، وعنده أطال المكثَ هشامٌ المعتدّ المروانيّ الذي صار خليفة بقرطبة ومن عنده استدعى للخلافة وولي بعد ابنه:
القائد أبو عبد الله محمد بن عبد الله
فحذَا حَذْوَ أبيه، ومنع رياسته ممن يليه، إلى أن أدركه ما يُدرك البدر التمام، وأخذه الحمام، فولي بعده ابنه:
الأمير أبو محمد
عبد الله بن محمد بن عبد الله
ومنه أخذ هذا الحصن أمير الملثّمين يوسف بن تاشفين. من القلائد: رجل زَهَت به الرياسة والتدبير، وجبلٌ دونه يَلَمْلَمٌ وثَبيرٌ، ووقار، لا يُستَفَزُّ ولو دارت عليه العُقار، إذا كتب باهت البدرَ رُقعتهُ، وقرطسَتْ أفئدة المعاني نَزْعتُه، وضعته الدولة في مَفْرقها، وأطلعت شمسَه في مشرقها، فأظهر جمالها، وعطَّر صَبَاها وشَمالها، فسهَّل لراجيها حَزْنها، وصابَ بأحسن السِّير مُزْنها، ولاح بِشْرُها، ونَفح نَشْرُها وجادت يده بالحَيَا، وعادت به أيام الفضل بن يحيى، إلا أن الأيام اتَّقَتْه، فما أبقتْه، وخَشِيه مكْرُها، فغشيه نُكْرها، فتخلَّت عنه الدولة تخَلَّى العقد عن عنق الحسناء، وأعرضت عنه إعراض النسيم عن الروضة الغنَّاء، وإنها لعالمة بسَنائه، هائمةٌ بغَنَائه، ولكن الزمان لا يريد شَفُوقاً، ولا يرى أن يكون بالفضائل محفوفاً، وهو اليوم قد انقبض عن الناس وأجناسهم، واستوحش من إيناسهم، وأنِسَ بنتائج أفكاره، وهام بعيون العلم وأبْكاره.
الغرضُ مما أورد له. كتبَ إلى الوزير أبي بكر بن عبد العزيز مُجاوباً عن كتاب خاطبه به مسلياً عن نَكْبته:
ولو لم أفُلَّ شباةَ الخطوب ... بحدٍّ محدِّ ظُبَا الصارِمِ
ولم أَلْقَ من جُنْدها ما لقيتُ ... بصبْرٍ لأبطالها هازمِ
ولم أعْتَبرْ حادثات الزمانِ ... بِخبْرِ خبيرٍ بها عالِم
لكان خطابُك لي ذُكْرَةً ... تُنَبِّه من سِنة النائِمِ
ورِدْءاً يردُّ صعاب الأمور ... على عَقِب الصاغر الراغم

فكيف وقد قَرَعْتُ النائبات إصغاراً، ولقيتُ من هبوبها إعصاراً، ولم أستعن في شيء منها بمخلوق، ولا فوَّضت في جميع أمورها إلا إلى أعدل فاتح وأحفظ موثوق، وأسأله أن يجعلها كفارة السيئات، وطهارىً من دَرَن الخطيئات بمنِّه وكرمه. وإن خطاب السيد وصَل، غِبَّ ما تجافى ومَطَل، فكان الحبيبَ المقبَّل، من حقه أن يُسْتَمال ويُسْتَنْزل، ولا عتاب عليه فيما فعل. وقد علمت أنه مهما أبطأ برهةً متَّصلةً، فما أخطأ حفاظاً بظهر الغيب وصلَةً، وإنما نهته عن مقتضى نظره، ليبينه بفحوى تأخره. وعلى أن العوائد أحمد من البَدِيَّات، والفوائد في النتائج لا في المقدمات، كما خُتم الطعام بالحلواء، بل كما نُسِخَ الظلام بالضياء، وبُعث محمد أخرَ الأنبياء. وإن اختفاءه لمقدور حق قدره، ووفاءَه لجدير بالمبالغة في شكره، ولقد بلغت مكارمه مداها، وسلَت مساهمته عما اقتضاها، وقد آن أن يدع من ذكرى نَهْبٌ صِيحَ في حَجَراته، واستُبيح من جهاته.
وكتب له أبو العباس بن عشرة قاضي سَلا، وقد حَلَّ أبو محمد سَلا، وظنَّ أنه يجد منه مؤانسة، فانقبض عنه واعتذر بالسلطان:
واحَسْرَتا لصديقٍ ما له عِوضٌ ... إن قُلْتَ من هو لا يلقاك مُعْتَرِضُ
ألقاه بالنفس لا بالجسْم من حذَر ... لعلّةٍ ما رأيتَ الحُرَّ يَنْقَبِضُ
فجاوبه أبو محمد:
شرُّ الجيادِ إذا أجْرَيْتَ منقبضُ ... ما للوجيه على الميدان مُعْتَرَضُ
أنَّى تُضَاهيه فُرسان الكلام ومِن ... غباره في هواديهنَّ ما نَفَضُوا
ومرَّ في الشعر إلى أن قال بعد العتاب:
والحرُّ حرٌّ وأمْرُ الله مُنْتَظَرٌ ... والذكرُ يبقَى وعمر المرء مُنقَرِضُ
وأثْنَى عليه وعلى بيته صاحب المسهب، وقال في وصفه: مَلِك قمرِي الوجه، سحابيُّ اليد روضيّ الجناب، مَلّك طُفَيليّ السماح على الأقارب والأباعد، ما فُرِّجت أبوابه إلا تفرَّجت الشدائد. وأنشد له قوله:
خُلِعَتْ عن المُلْكِ لكنِّني ... عن الصبر والمجد لا أُخْلَعُ
رماني الزمان بأرزائه ... وغَيْرِي من خَطْبه يجْزَعُ
فليس فؤاديَ بالملتظي ... ولا مُقْلتي حسْرةً تدْمعُ
ولي أَمَلٌ ليته لم يكن ... فكم ذا يَغُرّ وكم يخْدَعُ
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الحادي عشر
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة البلَنسية
وهو
كتاب حنين السانية، في حلى أعمال دانيَة
هي محسوبة من المملكة البلنسية، وانقطعت عنها في مدة ملوك الطوائف، وينقسم كتابها إلى:
كتاب القطوف الدانية، في حلى مدينة دَانِيَة
كتاب تغريد السكران، في حلى حصن بُكَيران
كتاب أنس العُمْران، في حلى حصن بَيْران
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الأول
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب أعمال دانية
وهو
كتاب القطوف الدانية، في حلى مدينة دانية
المنصة
كاد هذا العمل يكون مملكة منقطعة عن بَلنسية، لعظم ما احتوى عليه، وشهرة حاضرته مدينة دانية وما تأثَّل مِن ملك مَنْ يُذْكَر.
التاج
اقتطعها في مدة ملوك الطوائف:
الموفق مجاهد بن عبد الله ملك الجُزُر
وصَيَّرها حَضْرَةً لملكه، وكان جليل القدر، له غزوات في النصارى في البحر مشهورة، ومن أعظم ما فتحه جزيرة سَرْدانيَة الكبيرة. وكان محبّاً في العلماء محسناً لهم كثير التولع بالمقرئين للكتاب العزيز، حتى عُرف بذلك بلده، وقُصد من كل مكان، وشُكر في الأقطار بكل لسان. وقد أثنى عليه ابن حيان في كتاب المتين بهذا الشأن، وقد وفد عليه أفراد الشعراء كإدريس ابن اليَمان وجلَّة العلماء كابن سيده. وولي بعده ابنه:
إقبال الدولة عليّ بن مجاهد
وحذا حذو أبيه في الإقبال على العلماء إلا أنه كان ذلك تطبُّعاً لا طبعاً وكانت همته في التجارة وجمع الموال إلى أن أخذها منه المقتدر بن هود.

قال الحِجاريّ: وكانت مدته ومدة أبيه في ملك دانية ستين سنة. ثم توالت عليها ولاة الملثمين وولاة ابن مرذنيش وولاة بني عبد المؤمن، ثم كانت لزيان بن مرذنيش صاحب بلنسية، ومنه أخذها النصارى، أعادها الله.

السلك
الكتاب
عبدالله ابن عبد البر النمري
الكاتب أبو محمد عبد الله بن العالم أبي عمر بن عبد البر النَّمَريّ
من الذخيرة: كان أبو محمد قد حلَّ من كُتّاب الإقليم، محل الغَفْر من النجوم، وتصرّف في التأخير والتقديم، تصرُّف الشَّفْرة في الأديم، وتصرَّف ثم ذكر مكان تصانيفه، ونبه على ما جرى على أبي محمد عند المعتضد بن عباد حين وَشَى به ابن زيدون، وزعم أنه يطعن في الدولة، فكاد أن يهلك على يديه، حتى وصل أبوه، وخلصه منه.
الغرض من نثره: قوله من رسالة عن ابن مجاهد وقد زَفَّ ابنته إلى المعتصم ابن صُمادح: وقد توغّلت معك في أسباب الأُلفة، وهتكت بيني وبينك أسباب المراقبة والكُلْفة، فأنا أستريح إليك بخفيات سرّى، وأجلو عليك بُنيّات صدري، خروجاً إليك عما عندي، وجَرْياً معك على ما يقتضيه إخلاص ودي، وجلاءً لشواغل بالي، واستظهاراً بك على حالي، وشفاءً لمضَض نفسي، واستدعاءً لما نَفَر وشرَد من أُنْسي، كما ينفث المصدور، ويتلقى بَرْدَ النسيم المحرور، وكما تفيض النفس عند امتلائها، وتجود العين طلباً للراحة بمائها. وكنت أشرت في كتابي بتوجه مَنْ بتوجه مَنْ توجه من قِبَلي، ممن كان رَوْح أُنسي، وريحان جَذَلي ونفسي، إلى أن قَرَعَ ما قرع من لوعة الفراق ولَذَعَ ما لذع من لوعة الاشتياق، وأنا أظن ذلك عاقبة الصبر تَغْلبه، والجلَد يَعْقُبُه، وأن انصرام الأيام ينسيه ويذهبه، فإذا هو قد أفرط وزاد، وغلب أو كاد.
ومن القلائد: بحر البيان الزاخر، وفخر الأوائل، والأواخر. ومن شعره قوله في رجل مات مجذوماً:
ماتَ من كنا نراهُ أبداً ... سالمَ العَقْل سقيمَ الجَسَدِ
بَحْرُ سُقْمٍ ماجَ في أعضائه ... فرمى في جلده بالزَّبَدِ
كان مثل السيف إلا أنه ... حُسِدَ الدهر عليه فصَدِي
وقوله:
لا تُكثرنَّ تأمُّلاً ... واحْبِسْ عليك عِنان طَرْفِك
فلربّما أرْسَلْتَهُ ... فرماك في مَيْدان حَتْفِك
الكاتب أبو جعفر أحمد بن أحمد الداني
من الذخيرة: قدَّمَتْه قُدْمَتُه إذ كان أسْناهم موضعاً، وأرفعهم عند ملوك الطوائف مطاراً وأحسن موقعاً، وله إحسان كثير، بين منظوم ومنثور. وكان أبوه شُرطيّاً بدانية، فتميَّز هو بالأدب وقال في أخيه، وكان يكثر من هجائه:
جارَ ذا الدهرُ علينا ... وكذا الدهرُ يجورُ
كان شُرطيّاً أبونا ... وأخي اليومَ وزيرُ
أنا مأبونٌ صغيرٌ ... وهو مأبون كبيرُ
وقوله:
وعصا أبينا إنها ألِيَّةٌ ... شوهاء إنك شَوْهَةُ الوزراء
وله نَثْرٌ في القصور العَبَّادية بإشبيلية، وقد تقدم ذلك هنالك. وذكره الحِجاري وأنشد له قوله:
ألا يا سائلاً عن شرْح حالي ... عَنَاهُ من أموريَ ما عناني
حَوَيْتُ من الفضائل ما علمتُمْ ... وحُرْتُ الخَضْل في يوم الرِّهان
وما إن نِلت غي الأيام إلا ... سبابَ أحي وحَسْبي من أماني
الكاتب أبو عبد الله محمد بن مسلم الداني
من الذخيرة: آية الزمن، ونهاية الفطنة واللسَن، نفثَ بالسحر، واغترف من البحر، ونظم الداراي بدلاً من الدُّر. ومما أورده من نثره قوله: من رسالة خاطب بها صاحب مَيُورقة.

إن أغْبَبْتُ على بعد الديار مكاتبتك، وأقْلَلْت مع شحط المزار مخاطبتك، فإني أكاتبك بلسان وداد، وأناجيك بخلوص الفؤاد، وإنما يتخاطب أهل بُعْد المكان، ويتكاتب ذوو النأْي عن العِيان، وأنت في الضمير ماثل، فما تزيد الرسائل، وبين الجفون جائل، فما تفيد الوسائل، لكن العين لا تبرأ من الأرق، حتى تُطبق جفنيها على الحَدَق، والنفس لا تهدأ من القلق، حتى تجمع شَطْرَيْها إلى أُفق، فلهذا يجب على الصديق تأكيد العهد ولو بإهداء السلام، إذا لم يستطل على الإلمام، وتجديد الود ولو بالكتاب، فإنه قد يغني عن الخطاب، لكن قد يأتي من عوائق الزمان، وعوارض الحدَثان، ما يحول بين المرء وقلبه، حتى يسهو في الصلاة وهو بين يدي ربه.
ومن المسهب: كاتب بليغ الكتابة، كثير الإصابة. وأنشد له:
أما ترى الصبح أقبَلْ ... فالكأسُ لِمْ لا تُعَجَّلْ
هات المدامَ دِراكاً ... فإنني لسْتُ أُمْهَلْ
ما العيش إلا مُدَامٌ ... ومَنظَرٌ ومُقَبَّلْ
وهاكها طوعَ ملكي ... فكلَّ ما شئت أفْعَلْ

الكاتب أبو الربيع سليمان بن أحمد الداني
صحبه والدي وكتب معه لعبد الواحد بن منصور بني عبد المؤمن، واجتمعت به أنا في حضرة مراكش، فتركته بها، ومدح يحيى بن الناصر بقصيدة نال فيها من عمه إدريس، فقال فيها:
ومُلْكُ يحيى حياةٌ لا نفادَ لها ... وملك إدريس واهي الركن مندرِسُ
وذكر الخُشَني في كتاب فصل الربيع: أنه حضر ليلة مع الأديب أبي شهاب المالَقي فقُدِّم أمامهما عنقودان من عنب أبيض وأسود، فأخذ أبو الربيع الأبيض، وقال:
أتَانَا بابْن كَرْمٍ كان أشْهَى ... لدى نفس الظريف من الحُمَيَّا
بعنقودٍ كأن الحبَّ منه ... لآلٍ كنَّ للحَسْناء زِيَّا
فقال جمالُه صِفْهُ وأوجزْ ... فقلت البَدْرُ قد حمل الثُّرَيّا
الكاتب أبو عامر أحمد بن غَرْسِية
من المسهب: من عجائب دهره، وغرائب عصره، إن كان نصَابه في العجمية، فقد شهدت له رسالته المشهورة بالتمكّن من أعِنَّة العربية، وهو من أبناء نصارى البُشْكُنْس، سُبِيَ صغيراً، وأدَّبه مجاهد مولاه الجُزر ودانية، وكان بينه وبين أبي جعفر بن الجزار الشاعر صحبة أوجبت أن استدعاه من خدمة المعتصم بن صُمادح ملك المريَّة، ناقداً عليه ملازمة مدحه، وتركه ملكَ بلاده. ومن شعره قوله من قصدية في إقبال الدولة لما ولاه أبوه عهده:
الآن أُطْلِعَ في ليل الرجاءِ سَنَا ... زقابل الصبح والإظلامُ قد ظَعَنا
عهدٌ حَبَاكَ به من ليس يشبههُ ... مَلْكٌ فأخْلصْ عليه السِّرَّ والعَلَنَا
ولتَلْقَه بانتهاضِ لا كِفاءَ له ... ما إنْ يُبَعِّد لا مِصْراً ولا عَدَنَا
وقوله:
إنَّ أصْلى كما علمت ولك ... نَّ لساني أعزُّ من سَحْبَانِ
وأنا من خير الملوك بصدْرٍ ... عهل ترى بالقناة صَدْرَ السِّنَانِ
العلماء
الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر النَّمَري
من المسهب: إمام الأندلس في علم الشريعة ورواية الحديث، لا أستثني من أحد، وحافظها الذي حاز خَصل السبق واستولى على غاية الأمد، وانظر إلى آثاره، تُغْنك عن أخباره، وشاهده ما أورده في تمهيده واستذكاره، وعلمه بالأنساب، يُفْصح عنه ما أورده في الاستيعاب، مع أنه في الأدب فارس، وكفاك دليلاً على ذلك كتاب بهجة المجالس، وبالأفق الداني ظهر علْمه، وعند ملوكه خَفَق عَلَمه. ومن شعره قوله:
إذا فاخَرْتَ فافْخَرْ بالعلومِ ... ودَع ما كان من عَظْمٍ رَميمِ
فكم أمسيتُ مُطَّرَحاً بجهْلٍ ... وعلمي حلَّ بي بين النجومِ
وكائنٍ من وزيرٍ سار نحوي ... فلازَمني ملازمة الغريم
وكم أقبلتُ مُتَّئِداً مُهَاباً ... فقام إليَّ من مَلِكٍ عظيم
وركبٍ سار في شَرقٍ وغَرْبٍ ... بذكرى مثل عَرْفٍ في نسيم
وقوله وقد قصد المعتضد بن عباد من دانية إلى إشبيلية:
قصدتُ إليك من شَرْق لغَرْب ... لتُبْصرَ مقلتي ما حلّ سمْعِي

وتَعْطِفُك المكارمُ نحو أصْلٍ ... دعاكم راغباً في خيْرِ فَرْعِ
فإن جُدْتُمْ به من بعد عَفْوٍ ... فليس الفضل عندكمُ ببِدْعِ
فوعْدَك كي يُسَكِّنُ خَفْقَ قَلْبي ... ويَرْقَأ منْ جفوني سكْبُ دَمْعي

الشعراء
ابن هَنْدو الداني
من شعراء ملوك الطوائف المذكورين في كتاب الذخيرة. من شعره قوله وقد عرض ابن هود جنده، وفيهم بعض الأعلاج في نهاية الجمال ينفخ في قَرْن.
أعَنْ بابلٍ أجفانُ عينيْكَ تَنْفُث ... وهم قوم موسى قد جعلتَ تحدِّثُ
أفي الحق أن تحكي سَرَافيل نافخاً ... وأمكث في رَمْسِ الصُّدُود وألْبَثُ
أبو بكر محمد بن عيسى
المشهور بابن اللَّبَّانة
من الذخيرة: كان أبو بكر شاعراً يتصرف، وقادراً لا يتكلف، مرصوص المباني، منمّق الألفاظ والمعاني، وكان من امتداد الباع، والانفراد والانطباع كالسيف الصقيل الفَرَد، توحَّد بالإبداع وانفرَد. وذكر أن أمه كانت تبيع اللَّبَن، وأخبر بوفائه مع المعتمد بن عبَّاد وتفجعه لدولته حين خُلع عن ملكه، ومما أنشده من شعره قوله:
بدا على خدِّه عِذَارٌ ... في مثله يُعْذَرُ الكئيبُ
وليس ذاك العِذَارُ شَعراً ... لكنما سِرُّهُ غريبُ
لما أراق الدماءَ ظُلْماً ... بدت على خَدِّه الذنوبُ
وقوله:
يا شادناً حَلَّ في السَّوادِ ... من لحظ عيني ومن فؤادي
وكعبةً للجمال طافَتْ ... من حولها أنفسُ العبادِ
ما زدتني في الوصال حَظّاً ... إلا غدا الشَّوقُ في ازديادِ
أعْشَى سَنا ناظرَيْك طَرْفي ... فليس يلتذُّ بالرُّقادِ
وقوله:
بدا على خدِّه خالٌ يُزَيِّنُهُ ... فوادني شَغَفاً فيه إلى شَغَفِ
كأنَّ حَبَّةَ قلبي حين رُؤْيته ... طارتْ فقال لها في الخَدِّ منه قِفي
وقوله:
يَروقك في أهل الجمال ابنُ سيِّدٍ ... كترجمةٍ راقَتْ وليس لها مَعْنى
حكى شَجَر الدفلاءِ حُسْناً ومنظراً ... فما أحسن المَجْلَى وما أقبح المَجْنَى
وقوله في المتوكل بن الأفطس:
مضيتَ حُسَاماً لا يُفَلُّ غَرْبُ ... وأُبْتَ غَماماً لا يُحَدُّ له سَكْبُ
وأضحَيْتَ من حاليك تقسِمُ في الوَرَى ... هِباتِ وهَبَّاتٍ في الأمْنُ والرُّعْبُ
وقد كان قُطْرُ الجوفِ كالجوف يشتكي ... سَقاماً فلما زُرْتَه زاره الطِّبُّ
فلا مُقْلَةً إلا وأنت لها سَنىً ... ولا كَبدٌ إلا وأنت لها خِلْبُ
ومنها:
ومالوا إلى التسليم فوق جيادهم ... كما مالت الأغصانُ من تحتها كُثْبُ
فَقَفَّوْك ما قَفَّوا وهم للعُلا رحىً ... وداروا كما دارتْ وأنت لهم قُطْبُ
وقوله من قصيدة في المعتضد بن عباد:
كِلْني إلى أحد الأبناء يُنْعِشُني ... إن لم يكنْ منك بَحْرٌ فليكنْ نَهَرُ
قد طال بي أقْطَعُ البيداء متَّصِلاً ... وليس يُسْفِرُ عن وَجْه المُنَى سَفَرُ
جُدْ بالقليل وما تدري تجودُ به ... يا ماجداً يَهَبُ الدنيا ويعتذرُ
وقوله:
يا من عليه من المكارم والعُلا ... بُرْدٌ بتطريز المحامد مُعْلَمُ
وقوله:
أُحَدِّثُ عن يوم الوَغَى مِلْءَ منطقي ... وأُسْأَل عن يوم المَّوَال فأسكُتُ
وقوله:
أنا مثلُ مرآةٍ صقيلٍ وجْهُها ... ألقي الوجوهَ بكُلِّ ما تلقاني
كالماءِ ليس يُريك من لونٍ سوى ... ما تحته من سائر الألوان
ومنها:
مَلِكٌ إذا عَقَدَ المغافرَ للوَغَى ... حَلَّ الملوكُ معاقدَ التِّيجانِ
وإذا غَدَتْ راياتُه منشورةً ... فالخافقان لهنَّ في خَفَقانِ
ومن سمط الجمان: سَمَوْألُ الشعراء، وريحانة الأمراء، الذي ارتضع أخْلاف الدول حافلة الشُّطور، وأطلع السِّحْرَ الحلال في أثناء السطور. وأنشد له قصيدة منها:

والروضُ إن بعدتْ عليك قُطوفُهُ ... وفَدَتْكَ عنه الريحُ وهْيَ بَليلُ
حَسْبُ النسيم من اللطافة أنَّه ... صحَّتْ به الأجسامُ وهْوَ عليلُ
ومن أخرى قوله:
هلاّ ثناكِ عليَّ قَلْبٌ مُشْفِقُ ... فترَيْ فَرَاشاً في فِراشِ يُحْرَقُ
أنت المنيَّةُ والمُنَى فيك استوى ... ظلُّ الغمامة والهجيرُ المُحْرقُ
ويقال إنَّكِ أيْكَةٌ حَتَّى إذا ... غَنَّيتِ قيل هيَ الحمام الأوْرَقُ
يا قَدَّ ذابلةِ الوَشيج ولونَها ... لكنْ سنانُك أكحلٌ لا أزْرَقُ
يا من رشَقْتُ إلى السلوّ فردّني ... سبقت جفونك كلّ سهم يَرْشُقُ
جَسدي من الأعداء فيك لأنه ... لا يَسْتبِين لطَرفِ طيفٍ يرمُق
لم يَدر طَيْفُك موضعي من مضجَعِي ... فعذَرته في أنَّه لا يَطرُق
خَفِيتُ لديه مَنابعي ومنابتي ... فالدَّمْعُ يَنْشَعُ والصبابةُ تُورقُ
وكأنَّ أعلام الأمير مبسِّرٌ ... نُشِرَت على قلبي فأصبحَ يَخْفُقُ
ومن القلائد: المديدُ الباع، الفريد الانطباع، الذي ملك للمحاسن مَقاداً، وغَدا له البديع منقاداً. ونبَّه على مكانه من ابن عباد ووفائه له، وأنشد له قوله:
حُنِيَتْ جوانحُه على جَمْرِ الغَضَى ... لما رأى برقاً أضاءَ بذي الأضا
واشتمَّ من ريح الصَّبا رَوْحَ الصِّبا ... فقَضَى حقوق الشوق فيه بأن قَضى
والتفَّ في حَبِرَاته فحسبتُها ... من فوقِ عِطفيه رداءً فَضْفضا
قالوا الخيالُ حياتُه لوزارةٍ ... قلتُ الحقيقةُ قلتمُ لو غَمَّضا
يَهْوَى العَقِيقَ وساكنيه وإن يكن ... خَبَرُ العقيق وساكنيه قد انقَضى
ويودّ عَوْدته إلى ما اعتادَهُ ... ولقلَّما عاد الشبابُ وقد مضى
ألِفَ السُّرَى فكأنَّ نَجْماً ثاقباً ... صَدع الدُّجى منهُ وبرْقاً مُومِضا
طلبَ الغِنَى من ليله ونهاره ... فلهُ على القمرين مالٌ يُقْتَضى
ومنها:
والليلُ قد سَدَّى وألحَمَ ثوبَهُ ... والفجرُ يرسلُ فيه خيطاً أبيضا
وطال من ناصر الدولة صاحب مَيورقة السَّراح وقد خاف في ذَراه، فكتب إليه:
عَسَى رَأفَةٌ في سَراحٍ كريمٍ ... أبلُّ ببَرْد نداهُ الغليلا
وعَلّي أُراح من الطالبين ... فأسكن للأمْنِ ظلاًّ ظليلا
ومن بَلَّهُ الغيثُ في بَطْن وادِ ... وبات فلا يَأمَنَنَّ السيولا
لقد أوقدوا ليَ نيرانهمْ ... فصيَّرني اللهُ فيها الخليلا
أفرُّ بنفسي وإن أصبحتْ ... مَيُورْقَةُ مصْراً وجَدْوَاكَ نيلا
ومن مشهورة شعره قوله:
عَرِّجْ بمُنْعرَجات واديهم عسَى ... تلقاهم نزلوا الكثيب الأوعَسَا
اطْلُبْهُمُ حيث الرياضُ تفتَّحَت ... والريحُ فاحتْ والصباحُ تنفَّسا
مَثِّلْ وجوهَهمُ بدوراً طُلَّعاً ... وتَخيَّل الخِيلانَ شُهْباً كُنَّسا
وإذا أردن تنعُّماً بِقُدودهمْ ... فاهصِرْ بنَعْمانَ الغصونَ المُيَّسا
بأبي غزالٌ منهمُ لن يتَّخِذْ ... إلا القَنا من بعد قلبِيَ مَكْنِسَا
لبِسَ الحديدَ على لُجَين أديمِهِ ... فعجبتُ من صبْحٍ توَشَّحَ حِنْدسا
وأتى يجرُّ ذوابِلاً وذوائباً ... فرأيت روضاً بالصَّلال تَحرَّسا
وقوله:
أبصرتُهُ قصَّر في المِشْيَهْ ... لما بَدَتْ في خَدِّه لِحيهْ
قد كتب الشَّعْرُ على خدِّه ... أو " كالذي مرّ على قَرْيَهْ "

الأهداب
موشحة لابن اللبانة
كم ذا يؤرِّقني ذو حَدَقِ مَرْضَى ... صحاحِ لا بُلينَ بالأرَقِ
قد باحَ دمعي بما أكتُمهُ
وحَنَّ قلبي لمن يظلمُهُ
رَشاً تمرّنَ في لا فَمُه
كم بالمُنَى أبَداً ألثَمُه

يَفْتَرُّ عن لؤلؤٍ في نَسَقِِ من ... الأقاحِ بنسيمه العَبِقِ
هل من سبيل لرَشْف القُبَلِ
هيهات في نيل ذاك الأمَلِ
كم دونه من سيوف المُقَلِ
سُلَّتَ بلحظِ وَقَاحٍ خَجِلِ
أبدى لنا حُمْرَةً في يَقَقِ خَدُّ ... الصباحِ فيه حُمْرَة الشَّفَقِ
مَن لي بمَدْح بني عَبَّاد
ومن محمَّدهمْ إحْمادي
تلك الهباتُ بلا ميعادِ
عَذَرْت من أجلها حُسَّادي
حكتْني الوُرْقُ بين الوَرَق راشوا ... جَناحي ثم طوَّقوا عنقي
لله مَلْكٌ عليه اعتمدا
من يَعْرُبٍ وهْوَ أسْناهم يَدا
وهم إذا عَنَّ وَفْدٌ وفَدَا
سالوا بحاراً وصالوا أُسْدا
إن حاربوا أو دُعُوا في نَسَقِ راحوا ... براحِ للنَّدى وللعَلَقِ
طاب الزمانُ لنا واعتدلا
في دولةٍ أورثتْنا جَذَلا
رَدَّت علينا الصِّبا والغَزلا
فقلتُ حين حبيبي رَحَلاَ
أهْدِ السلامَ لصبٍّ قَلِقِ مع ... الرياحِ والأنامَ لا تَثِقِ
وله الموشحة التي منها:
كذا يَقْتَادْ سَنَا الكوكب الوَقادْ ... إلى الجُلاّسْ مشعشعةُ الأكواسْ
أقِمْ عُذْري ... فقد آن أنْ أعْكُفْ
على خَمْرٍ ... يطوف بها أوْطفْ
كما تَدْري ... هضيمُ الحَشَا أهْيَفْ
إذا ما مادْ في مخضرَّة الأبْرادْ ... رأيت الآس في أوراقه قد ماسْ
ومناه في مدح الرشيد بن المعتمد بن عباد:
سَطَا وجادْ رشيد بني عَبَّادْ ... فأنْسَى الناسْ رشيد بني العباسْ
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثاني
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب المملكة الدانية
وهو
كتاب تغريد السَّكْران، في حُلى حصن بُكَيْران
من حصون دانية منه:
المشرَّف أبو بكر
محمد بن أحمد بن رُحَيم
من القلائد: رجل الشرف سؤدداً وعلاء، واشتمالاً على الفضائل واستيلاء استقل بالنقض والإبرام، وأوضح رسم المجاملة والإكرام. وذكر أنه غُنِّي له بهذين:
خليلي سيراً وارْبعَا في المناهلِ ... ورُدا تحيَّاتِ الخليطِ المُزَايلِ
فإن سأل الأحبابُ هَنِّي تشوُّقاً ... فقولا تركناهُ رَهين البلابل
فزاد عليهما قوله:
وإن يتناسوني لعذرٍ فذَكِّرَا ... بأمري ولا يَشعُرْ بذاك عواذلي
لهل الصَّبَا تأْبى فتُحيي بنفحةٍ ... فؤاديَ مِنْ تلقاءِ مَن هُوَ قاتلي
فيا ليت أعناقَ الرياح تُقِلُّنِي ... وتُنْزِلني ما بين تلك المنازلِ
وغُنِّي له بهذه الأبيات:
بَدَا فكأنما قَمَرٌ ... على أزْرَاره طَلَعَا
يفُتّ المِسْكَ عن يَقَق ال ... جبين بنانُه ولَعَا
وقد خَلَعَتْ عليه الرَّا ... حُ من أثوابها خِلَعَا
فزاد عليها قوله:
فأَهْدَى من محاسنه ... إلى أبصارنا بِدَعَا
فلما فَتَّ أكبدُنا ... وجازَ قلوبنا رجَعا
ففاضَتْ أعيُنٌ أَسَفاً ... وفاظت أَنْفُسٌ جزَعَا
وله في مطلع قصيدة في تميم ابن أمير الملثمين:
على المُرْهَفَات البيضِ والسِّمُرِ المُلْدِ ... تدور رَحَى المَلْك المتوَّج بالمَجْدِ
ومنها:
بلُقيا تَميمٍ تمَّ لي كلَّ مطلب ... ونلت المُنى تفتَرّ سافرة الخَدِّ
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثالث
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب أعمال دانية
وهو
كتاب أنْس العُمْران، في حلى حصن بَيْرَان
من المسهب: من أعمال دانية، منه:
أبو القاسم بن خَيْرون

سكن دانية، وكان في شعراء إقبال الدولة، ولما دخل المقتدر بن هود دانية أنشده:
ألا فاطْلُعْ بها بَدْراً مُنِيراً ... وكُنْ لله مانحِها شَكورا
فيا مَلِكَ الملوك نداء عَبْدٍ ... تكاد تَشِبُّ زفرته سَعيرا
أيَجْمُلُ أن أراك أمامَ لَحْظي ... وأبْقَى خاملاً كَلاًّ فَقيِرا

مملكة طرطوشة
كتاب الفصوص المنقوشة، في حلى مملكة طُرْطُوشَة
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثالث
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب شرق الأندلس
وهو
كتاب الفصوص المنقوشة، في حلى مملكة طُرْطُوشَة
مملكة في شرقيّ بلنسية، وقد حصلت بأسرها للنصارى، من مدينتها:
الوزير الكاتب
أبو الربيع سليمان بن أحمد القضاعي
من الذخيرة: من قدماء الأدباء بذلك الثَّغْر، ومن كتّاب العصر المتصرفين في النظم والنثر، وكلامه يجمع بين الحلاوة والجزالة. ومن شعره: قوله يخاطب أحد وزراء قُرطبة، وقد قال له في تلك الفتنة لو كنت عندنا في قرطبة حصلت بها على الوزير.
هَبْكَ كما تدَّعي وزيراً ... وزيرُ من أنت يا وزيرُ
والله ما للأمير مَعْنىً ... فكيف من وزَّر الأميرُ
وأنشد له الحِجاريّ:
ما السحر إلا من جفونك يُتَّقى ... يا غصنَ بان قد تَثَنّى في نَقا
كم رُمْتُ أن أرْقَى إليك وأنت في ... أُفق الجمال هلالُ تِمٍّ أشرقا
الفقيه أبو بكر
محمد بن الوليد الفهريّ الطرطوشيّ
صحب أبا الوليد الباجيّ بسَرقُسطة، وسكن الشام ومصر، وكان إماماً عالماً زاهداً، كثيراً ما يُنشد:
إن لله عباداً فُطُنا ... طَلَّقُوا الدنيا وخافوا الفِتَنا
فكّروا فيها، فلما علموا ... أنها ليست لحيٍّ وطنا
جعلوها لُجّةً واتخذوا ... صالحَ الأعمال فيها سُفُنا
وتوفِّي بالإسكندرية سنة عشرين وخمسمائة، والأبيات منسوبة له.
مملكة السهلة
كتاب النَّهْلَة، في حلى مملكة السَّهْلة
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الرابع
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب شرق الأندلس
وهو
كتاب النَّهْلة، في حُلى مملكة السَّهْلَة
هي بين مملكة بَلَنْسِية وجهات ثغر سَرقُسطة، وحَضْرَتها شَنْتمرية.
التاج
ملكها في مدة ملوك الطوائف:
هُذَيل بن خلف بن رزين البَرْبريّ
ذكر ابن حيان: أنه كان من أكابر برابر الثغر، واقتطع هذه المملكة في مدة ملوك الطوائف.
قال الحِجاريّ: ولما مات هذيل وليها ابنه عَبود بن هذيل، فاقتفى طريق والده إلى أن مات، فولي بعده ابنه:
ذو الرياستين
أبو مروان عبد الملك بن رزين
من القلائد: ورِثَ الرياسة عن ملوك عَضَدوا مُؤازِرَهم، وشدوا دون المحارم مآزِرَهم، لم يتوشحوا إلا بالحمائل، ولا جَنَحوا للبأس إلاّ في أعِنَّة الصّبا والشمائل. وكان ذو الرياستين منتهى فخارهم، وقُطْب مدارهم. ثم قال: وربما عاد إنعامه بُوساً، وذلك في مجلس شرابه، ومع هذا فإنه كان غَيْثاً في الندى، ولَيْثاً في العِدا، وكتب إلى الوزير ابن عمّار:
ضمانٌ على الأيام أن أبلُغَ المُنى ... إذا كنت غي ودّي مُسِرّاً ومُعلِنا
فلو تسأل الأيامُ من هو مُفْرَدٌ ... بودِّ ابن عمّارٍ لقلت لها أنا
فإن حالت الأيام بيني وبينهُ ... فكيف يطيب العيش أو تحسُنُ المُنى
ومن شعره قوله:
وروضٍ كساه الطَّلُّ وَشْياً مُجَدَّداً ... فأضحى مقيماً للنفوس ومُقعِدا
إذا صافحتْه خلْت غُصُونَه ... رواقِصَ في خُضرٍ من القُضْب مُيَّدا
إذا ما انسكابُ الماء عاينت خِلْتَهُ ... وقد مسَرتْه راحةُ الرَّاح مِبْرَدا
وإن سكنَتْ عنه حَسِبْت صفاءهُ ... حُساماً صقيلاً صافيَ المَتْن جُرِّدا

وغنَّت به وُرْقُ الحمائم حولنا ... غناءً ينسِّيك الغَريضَ ومعبدا
فلا تجفوَنَّ الدهر ما دام مُسْعِداً ... ومُدَّ إلى ما حَباك به يدا
وخُذها مُدَاماً من غزالٍ كأنه ... إذا ما سقى بَدْرٌ تحمَّل فَرْقَدا
وقوله:
دعِ الجفْنَ يُفْنِي الدمع ليلة وَدَّعوا ... إذا انقلبوا بالقلب لا كان مَدْمَعُ
سَرَوا كاغتداء الطير لا الصبرُ بعدهم ... جميلٌ ولا طولُ الندامة يَنْفعُ
أضيقُ بحمْل الفادحات من النَّوَى ... وصدري من الأرض البسيطة أوْسَعُ
وإن كنتُ خَلاَّع العِذار فإنني ... لبستُ من العلياءِ ما ليس يُخْلَعُ
إذا سلَّت الألحاظُ سيْفاً خشيتُه ... وفي الحرب لا أخشى ولا أتوقَّعُ
وقوله:
أتُرى الزمانُ يسرُّنا بتلاقي ... ويضمُّ مشتاقاً إلى مُشتاقِ
وتَعَضُّ تفَّاحَ الخدود شفاهُنَا ... ونرى سَنا الأحْداق بالأحْداقِ
وتعودُ أنفسنا إلى أجسامها ... من بعدما شَرَدَتْ على الآفاقِ
وقوله في شمعة:
ربَّ صفراءَ تردّتْ ... بِرداء العاشقينا
مثلَ فعل النار فيها ... تفعل الآجالُ فينا
الوزير الكاتب أبو بكر بن سرّراي

وزير ذي الرياستين وكاتبه
أنشد له الحِجاريّ:
ما ضَرَّكُمْ لو بَعَثْتُمْ ... ولو بأدْنى تحيَّهْ
تهزُّني من شَذَاها ... إليكمُ الأرْيحيَّهْ
خذوا سلامي إليكم ... مع الرياح النَّدِيَّهْ
في كل غُرَّة يَوْم ... تَتْرَى وكلّ عَشِيَّهْ
جهات الثغر
كتاب ابتسام الثَّغْر، في حُلَى جهات الثَّغْر
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الخامس
من الكتب التي يحتوي عليها كتاب:
شرق الأندلس
وهو
كتاب ابتسام الثَّغْر، في حلى جهات الثَّغْر
ينقسم الكتاب إلى: كتاب البسْطة، في حلى مدينة سَرقُسْطة كتاب النُّكته، في حلى قرية أُشْكرتَه كتاب زهرة الخميله، في حلى مدينة تُطيله كتاب المَعُونه، في حلى طَرَسُونه كتاب الغصون المائِده، في حلى مدينة لارِدَه كتاب الرَّشْقه، في حلى مدينة وَشْقَه كتاب هجعة الحالم، في حلى مدينة سالم بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الأول
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب الثغر
وهو
كتاب البَسْطة، في حلى مدينة سَرقُسْطة
المنصَّة
قد نص الرازيّ على طيب أرضها وحسن بُقْعتها. ومن المسهب: أما سرقسطة فإني أنشد بعد خروجي عنها ما قاله ابن حمديس:
فإن كنتُ أُخرجتُ من جَنّةِ ... فإني أُحَدِّثُ أخبارها
ناهيك من مدينة بيضاء، أحدقَتْ بها من بساتينها زمردةٌ خضراء، والتفَّت عليها أنهارها الأربعة، فأضحت بها رياضها مرصَّعة مجزَّعة. ولا نعلم في الأندلس يحدق بها أربعة أنهار سواها، وكأن كل جهة تغايرتْ على إتحافها، فأهدت إليها نَهْراً يَلْثَمُ من أعطافها. وأشهرها نهر جِلَّق، وشرب موسى بن نُصير فاتح الأندلس من ماء نهر جلَّق، فاستعذبه، وحكم أنه لم يشرب بالأندلس ماء أعذب منه، وشبَّه ما عليه من البساتين بغُوطة دمشق. وقيل إن سرقسطة من بنيان الإسكندر، وفيها يقول الأمير عبد الله بن هود الذي أخرجه بنو عمه منها:
إن بِنْتُ عن سَرَقُسْطَةٍ ... فبِرَغم أنفي لا اختياري
ما جال طَرْفي في السما ... ء وقد نأتْ عنها دياري
إلا وخلتُ قصورَها ... برياضها هذي الدَّراري
ومن متفرَّجاتها الجِلَّقين ووادي الزيتون. ومن مصانع ابن هود قصر السرور، ومجلس الذهب، فيهما يقول المقتدر بن هود:
قَصْرَ السرور ومجلسَ الذَّهَبِ ... بكما بلغْتُ نهاية الطَّرَبِ

لو لم يَحُزْ مُلْكي خلافكما ... كانت لديّ كفايةُ الأرَبِ

التاج
كان فيها فِتَنٌ عظيمة في مدة بني مروان، وثار بها في مدة ملوك الطوائف:
المنصور منذر بن يحيى التُّجيبي
وكان جليل القدر ممدّحاً، وفيه يقول ابن دَرَّاج شاعر الأندلس:
ربّ ظَبْيٍ فَتَكتْ ألحاظُهُ ... كعوالي مُنْذِرٍ يوم النِّزَال
ولما توفي وليَ بعده:
المظفر يحيى بن منذر
وكان له ابن عم متهوِّر، كثير الحسد له، ازدراه، ولم يلتفت إليه:
وإنك لم يَفْخَرْ عليك كفاخرٍ ... ضعيفٍ ولم يَغْلبك مثلُ مُغَلَّبِ
فدخل عليه في قصره على غفلة. وفتك بالمظفر، وكان:
المستعين
سليمان بن أحمد بن هود الجُذَاميّ
والياً له على لاَردَة، فلما سمع بهذا الخبر انقضَّ على سَرقُسطة، انقضاض العُقاب منتهزاً، الفرصة، فهرب عنها القاتل وملكها المستعين فورث الثغر عَقِبه، وولي بعده ابنه.
المقتدر أحمد بن سليمان
من المسهب: عميد بني هود وعظيمهم. ورئسيهم وكريمهم، ذو الغزوات المشهورة، والوقائع المذكورة. من رجل كان يعاقب بين حثّ الكؤوس، وقطف الرؤوس، وقد ملك مملكة دانية، وأخرج منها إقبال الدولة بن مجاهد العامريّ، ونسب له الحِجاريّ:
لستُ لدَى خالقي وَجيهاً ... هذا مَدَى دهريَ اعتقادي
لو كنتُ وَجْهاَ لَمَا بَرَاني ... في عالم الكَوْن والفسادِ
وولي بعده ابنه:
المؤتَمَن يوسف بن المقتدر
فكان خير خلَف عن أبيه، حامياً لملكه مجاهداً لعدوه، مَأْلَفاً للأُدباء والعلماء والشعراء، وبه استجار ابن عمار من ابن عباد. ولما مات ولي بعده ابنه:
المستعين أحمد بن المؤتَمَن
ويقال له المستعين الأصغر. وانتثر سلك ملك الطوائف على يد أمير المسلمين يوسف بت تاشفين وهو ملكُ جميع الثغر الأعلى، وحضْرته سرقسطة، وداراه أمير الملثّمين لبعده واشتغاله عنه، وتركَه حَجْزاً بينه وبين النصارى، وكان نعم الرأي. وولي بعده ابنه:
عماد الدولة عبد الملك بن المستعين
ولما ولي علي بن يوسف إمارة الملثمين قلّد الأمور أعيان البلاد من الفقهاء، ونشأَت نشأة من الفقهاء والمرابطين امتدت أيديهم وآمالهم، وزينوا لعليٍّ أخذ بلاد الثغر من يد عماد الدولة، فكاتبه في ذلك، فرغب إليه عماد الدولة أن يجري معه على ما كان عليه سلفه مع سلفه، ويتركه حاجزاً بينه وبين النصارى. فأبى ولجَّ، فكان ذلك سبباً إلى أن استعان عماد الدولة بالنصارى وخرج من سرقسطة، فملكها الملثمون، ثم حصَرها النصارى فأخذوها منهم، واعتصم عماد الدولة بمعقل رُوطة، وأخذ النصارى في تملك بلاد الثغر شيئاً في شيء، إلى أن ملكوا جميعه، ومات عماد الدولة بروطة، وولي بعده ابنه:
المستنصر بن عماد الدولة
فلم يستطع مقاومة النصارى، فسلم إليهم رُوطة، وآل أمره إلى أن صادف الفتنة القائمة على الملثمين بالأندلس، فنهض فيها، ومال إليه الأندلس لقديم ملكه، فملك قُرْطُبة وغَرْناطة ومُرسية وبَلَنسية وما بين هذه البلاد، ثم آل أمره إلى أن قتله النصارى في معركة.
السلك
ذوو البيوت
الأمير أبو محمد عبد الله بن هود
من المسهب: حَسَنة بني هود التي رقَموا بها بُرْداً من الحسَب وأطلعوا ما نَظْمُهُ غُرَرٌ في وجه النَّسب، وكان ابن عمه المقتدر يحسده حسَداً ما عليه م مزيد، ويود أن يكون بدلاً من كلامه في مجلسه وَقْعُ الحديد، فنفاه عن الثغر، وقصد طُلَيطلة حضرة ابن ذي النون، ثم مَلَّ الإقامة هنالك، فجعل يضطرب ما بين ملوك الطوائف، إلى أن استقر قراره عند المتوكل بن الأفْطَس. وأُنشد له ما أنشده صاحب الذخيرة في خطاب بني عَمِّه:
ضَلَلْتُمْ جميعاً ألَ هودٍ عن الهُدَى ... وضَيَّعْتُمُ الرأْي الموفّق أجمعا
وشِنْتُمْ يمينَ الملك بي فقطعتُمُ ... بأيديكُمُ منها وبالغدر إصْبَعا
وما أنا إلا الشمس عند غياهبٍ ... دَجَتْ فأَبتْ لي أن أُنِيرَ وأسْطعَا
فلا تقطعوا الأَسباب بيني وبينكم ... فأنْفُكُمُ منكمْ وإن كان أجْدَعا
الكتاب
أبو المطرّف عبد الرحمن بن فاخر
المعروف بابن الدباغ

من الذخيرة: كان أحد من خُلّي بينه وبين بيانه، وجرى السحر الحلال بين قلمه ولسانه، وكان استوحش من أمير بلده، ومقيم أوَده، ابنِ هود المقتدر، فخرج عنه، وفرَّ منه. وخرج من كلامه أنه لم يُفلح في كل مكان توجه إليه، بسوء خلقه، وكثرة ضجره، فنبت به حضرة المعتمد بن عباد، وحضرة المتوكل ابن الأفْطس، فرجع إلى سرقسطة، فذُبح فيها في بستان. وترسُّله مملوءٌ من شكوى الزمان، وترادف الحرمان، كأن الرزايا لم تُخلَق لأحد سواه، كقوله: كتابي وعندي من الدهر ما يَهُدُّ أيْسَرُه الرَّواسي، ويفُت الحجر القاسي، ومن أقلِّها قلبُ محاسني مساوي، ومكارمي مخازي، وقصدي بالبِغْضَة من جهة المِقَة، واعتمادي بالخيانة من جهة الثقة، فقِسْ هذا على ما سواه وعارضْ به ما عداه، ولا أطوِّل عليك، فقد غُيّر عليّ حتى شرابي، وأوحشني حتى ثيابي.
ومن شعره قوله في غلام رآه يَسقي عصفوراً ويطعمه:
يا حامل الطائر الغِرِّيد يعشَقُه ... يَهْنَى العصافير ُ أن فارت بقُرْباكا
تُمْسِي وتصبحُ مشغوفاً بصحبتهِ ... في غفلةٍ عن دَمٍ نُحْريه عيناكا
إذا رأتك تغنَّت كلها طَرَباً ... حتى كأَن طيور الجوِّ تهواكا
يا ليتني الطير في كفَّيْك مَطْعَمُه ... وشُرْبهُ حين يُسْقَى من ثناياكا

أبو الفضل
حَسْداي بن يوسف بن حسداي الإسرائيلي
من الذخيرة: كان أبوه يوسف بن حَسْداي بالأندلس من بيت شرف اليهود، متصرّفاً في دولة ابن رزين، وكان له في الأدب باع، ونشأ ابنه أبو الفضل هَضْبة علاء وجَذْوة ذكاء. وذكر أنه عُنِي بالتعاليم وأسلم وساد. ومن نثره من كتاب خاطب به ابن رزين: كنت أرتاح إذا وَمَض من أفقه ابتسامُ بارق، أو ذرَّ من سَمْته الوضاح سَنا شارِق، فأقتصر من تلقائه على استنشاق نسيم، وأنَّى لي من عَرار نَجْدٍ بشَميم، حتى ورد ما أمتع بوابل بعد طلّ، وسَقَى نَهَلاً ووالى بعْلّ، وبهر بسِحْرَي حرامٍٍ حلّ، قد قَصَر الله عليه الإبداع طوراً في الندى ببراعة خطيب وبلاغة كاتب، وطوراً في الوغى ببديهة طاعن ورويّة ضارب، والرَّبُّ يُديم إمتاع الفضائل ببارع جلاله، ويصون عيون الحوادث عن كماله. ومن شعره قوله:
وأطْرَبَنَا غَيْمٌ يمازج شَمْسَهُ ... فيُسْتَر طوراً بالسَّحاب ويُكشَفُ
تَرَى قُزْحاً في الجو يفتح قوسَهُ ... مُكبّاً على قُطْنٍ من الثلْج يُنْدَفُ
العمال
أبو الربيع سليمان بن مهران
من الذخيرة: من شعراء الثغر، كان في ذلك العصر، وله شعر كثير، وإحسان شهير، وعلى لفظه ديباجةٌ رائقة، ومما بقي منه قوله:
خليليَّ ما للرّيح تأْتِي كأنَّما ... يخالطُها عند الهبوب خَلُوقُ
أمِ الريحُ جاءَتْ من بلاد أحبّتي ... فأحسَبها عَرْفَ الحبيب تسوقُ
سقى الله أرضاً حلَّها الأغيَدُ الذي ... له بين أحْناءِ الضلوع حَريقُ
أصار فؤادي فرقتين فعنده ... فريقٌ وعندي للسياق فريقُ
وذكر الحِجاريّ: أنه خدم المظفر بن أبي عامر، وتصرف في الأعمال السلطانية، وأنشد له قوله:
بما بِجَفْنَيكَ من فتورٍ ... وفوق خَدَّيك من حَيَاءِ
إلاّ تَرَفَّقتَ بي قليلاً ... فقد أطال النَّوَى عَنائي
أرجوك لكن رجاءَ بَرْقٍ ... خُلَّبُه قاطعٌ رَجَائي
وكيف أبْغي لديكَ وَصْلاً ... وأنت ما جُدْت باللِّقاءِ
في كل يومٍ ليَ التماحٌ ... منك إلى كوكب السماءِ
الرؤساء والقواد
القائد أبو عمرو بن ياسر
مولى عماد الدولة بن هود
من المسهب. أندى من الطَّلِّ الباكر، وآنقُ من الروض الزاهر، وجَرَتْ عليه نكبة من عماد الدولة، وأطال سَجْنَه، فأكثر مخاطبته بالشعر فسرَّحه وهو القائل يخاطب عماد الدولة في شأن الحكيم ابن باجَّة وقد حصل في سجنه:
أعمادَ دولة هاشمٍ قد أسعد ال ... مقدارُ في أسر العدوِّ الكافرِ
لا تنس منْهُ كلَّ ما كابَدْتَهُ ... من سوءِ أقوالٍ وسوء سرائِرِ

لولاهُ ما أضحت قواعدُ ثَغْرنا ... كالطَّلِّ يَسْقُطُ من جناح الطَّائِرِ
؟

القائد شجاع بن عبد الله
مولى عماد الدولة بن هود
من المسهب. تِلْوُ ابن ياسر في الأدب وعلو المكان، إلا أن شجاعاً كان يزيد بالشجاعة والفروسية، فواد تمكنه عند مولاه. ومن شعره قوله:
ألا فانظروني كلما احتدم الوَغَى ... وأقبلت الفُرْسانُ من كل جانبِ
هنالك لا أَلْوِي على لوم لائم ... ولستُ بذي فكر لأمر العواقبِ
أبو عبد الله محمد بن زُرارة
من رؤساء سرقسطة، وممن ساد بصحبة الملوك مع البيت القديم. ومن شعره قوله، أنشده الحِجاريّ وابن بسام في الذخيرة:
لي صديقٌ غَلِطْتُ بل لِيَ مَوْلَىً ... منْ لمثلي بأن تكونَ صديقي
نتلقَّى التقاءَ رُوحٍ بروحٍ ... بضروب التقبيل والتَّعْنيقِ
ليس في الأرض من يُمَيِّزُ منَّا ... عاشقاً في اللقاء من مَعْشُوقِ
أبو عامر بن الأصيلي
ّ
ومن شعره قوله في رثاء:
على مَصْرع الفهريّ رُكْني ومَوئِلي ... بكيتُ وأبكى طول دهري وحُقَّ لي
أُؤَبِّنُ من مات النَّدَى يَوْم موتِه ... وقُلِّص ظلُّ عن كل أَرْمَلِ
وما كان صَمْتي منذ حينٍ لسلوةٍ ... ولكنَّ عُظْمَ الرُّزْء أخْرَسَ مِقْولِي
الشعراء
يحيى الجزار السرقسطي
كان في دكان يبيع اللحم فتعلقت نفسه بقول الشعر فبرع فيه، وصدر له أشعار مدح بها الملوك من بني هود ووزرائهم، ثم ترك الأدب والشعر، واعتكف على القِصَابة، فأمر ابن هود وزيره ابن حَسْداي أن يوبخه على ذلك، فخاطبه بأبيات منها:
تركتَ الشعرَ من ضَعْف الإصابَهْ ... وعدتَ إلى الدَّناءة والقِصابَهْ
فأجابه الجزار:
تَعيبُ عليَّ مأْلوفَ القِصابَهْ ... ومن لم يَدْر قدر الشيءَ عابهْ
ولو أحكَمْتَ منها بَعْضَ فنٍّ ... لما استبدلت منها بالحجابهْ
أما ولو اطَّلعْتَ عليَّ يَوْماً ... وحَوْلي من بني كلبٍ عصابَهْ
لَهالَكَ ما رأيتَ وقلت هذا ... هِزَبْرٌ صَيَّرَ الأوضامَ غابهْ
فتكْنا في بني العَنْزيّ فَتْكاً ... أقَرَّ الذعر فيهمْ والمهابَهْ
ولم نُقْلع عن الثَّوْريِّ حَتَّى ... مَزَجْنَا بالدم القاني لُعابَهْ
ومن يعتزُّ منهم بامتناعٍ ... فإنَّ إلى صوارمنا إيابهْ
ومنها:
وحَقِّك ما تركْتُ الشِّعر حَتَّى ... رأيتُ البُخْلَ قد أذكى شِهابَهْ
وحتى زرتُ مشتاقاً حبيباً ... فأبْدَى لي التَّجهُّمَ والْكآبَهْ
فظنَّ زيارتي لطِلاب شيءٍ ... فنافرني وأغلظ لي حجابه
ومن شعره قوله:
لو وردت البحار أطلب ماءً ... جضفَّ قبل الورود ماءُ البحارِ
ولو أنَّى بعتُ القناديل يوماً ... أُدْغِمَ الليلُ في بياض النهارِ
الأهداب
موشحة للكاتب أبي بكر أحمد بن مالك السَّرَقُسْطيِّ
ماذا حَمَّلوا ... فؤاد الشجِي يوم ودّعوا
ما لي بالنوى ... يَدٌ تستطاعُ
ونار الجوى ... يذكيها الوداعُ
وسرُّ الهوى ... بدموعي يُذَاعُ
بالحبِّ تهْمِلُ ... عُيُونٌ وتلتاعُ أضْلُعُ
هل يرجى إيابْ ... لعهد الحبائبْ
إذ غُصنُ الشبابْ ... مطلول الجوانبْ
ووصلُ الكِعابْ ... مبذولٌ لطالبْ
فلا تبخلُ ... بالوصل ولا الصبّ يَقْنَعُ
لا أسْلُو ولا ... أصغي للاَّحي
بل أصبو إلى ... هَضيم الوشاح
يُجيل الطِّلاَ ... ما بين الأقاح
فلو يعدلُ ... لما بِتَّ أظْما ويَنْقَعُ

كم ذا تَهجعُ ... وجَفْني ساهرْ
بدر يطلُعُ ... في الصبح لناظرْ
له بُرْقُعُ ... من سود الضفائرْ
أُسَيْمَرْ حُلُو ... بياضْ كلِّ عاشقْ يَبيتْ مَّعُ
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثاني
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب الثَّغْر
وهو
كتاب نَقْش التِّكَّه، في حلى قرية أُشْكُرْكه
منها:
أبو الطاهر يوسف بن محمد الأُشكُركيّ
من المسهب: إمام في علم اللغة، صحبه عَمِّي، وأخبرني أنه كان في هذا الفن بحراً، وكان له جاه ومكان عند ملوك الثَّغْر بني هود وغيرهم من ملوك الطوائف. وأكثر أمداحه في المعتصم بن صُمادح ملك الْمَرِيّة.
ومن السمط روض الأدب العاطر، وغَمامه المُنْهمر الهامر. الغرض من نظمه قوله:
يا غُصناً هَزَّه نَداهُ ... يمنعه الحلمُ أن يَميدا
لم يَشْنِ منك الشباب عِطْفاً ... ولا استمال الفَخارُ جِيدا
إن تلقه فالأنام طُرّاً ... وإن غدا بينهم وَحيدا
يهزّ منه القريضُ عِطْفاً ... والمدحُ يثني إليه جِيدا
وقوله من قصيدة يخاطب بها الرفيع بن المعتصم بن صمادح:
ألا مُبْلِغٌ عني الرفيعَ تحيَّةً ... كما نبّه الروضَ النسيمُ المخلَّقُ
عدمتُ رسولاً بالتحيّة نحوَهُ ... فسار بها عني الهَوَى والتَّشوُّقُ
ونازعني ذكراه شوقٌ مُبَرِّحُ ... كما علَّلَ الشَّرْبَ الرحيقُ المُعَتَّقُ
فيا ليت شعري عل يُعرِّجُ خاطرٌ ... عليَّ يَجْرِي بذكرىَ مَنْطِقُ
وقوله من قصيدة فيه:
إليك رفيعَ المُلْك تُهْدى المحامدُ ... وباسمك تسمو في الزمان المشَاهِدُ
ملكتَ سبيلاً في المكارم أوَّلاً ... لك الفضل هادٍ تقتفيه ورائدُ
وقوله:
أضاحِيَةٍ وقد ضَفَتِ الظِّلالُ ... وصادرةً وقد نَقَعَ الزُّلالُ
أفيقي إنه أنْدَى جَنابٍ ... وأكرم مَنْ تُشَدّ له الرحالُ
فما بَرْقٌ سَرَيْتُ له جَهَامٌ ... ولا بحرٌ سَمَوْتُ إليه آلُ
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثالث
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب الثَّغْر
وهو
كتاب زَهْر الخميله، في حلى مدينة تُطِيله
المنصة
باشتهارها في الحَرْث وطيب الزرع يُضْرَبُ المثل في الأندلس، وهي مُحْدَثة بُنيت في مدة سلاطين بني مروان.
التاج
كان فيها في مدة بني مروان بنو موسى، تغلبوا على الثَّغْر.
وكان لهم في طلب الملك دويّ، ولما ثارت ملوك الطوائف صارت تابعة لسرقسطة، داخلة في دولة بني هود.
السلك
الزهَّاد
أبو بكر يحيى التُّطيلي
سكن غَرْناطة وصار من أعيانها وذوي النباهة فيها. أدركْتُه هنالك في آخر عمره وقد تزهّد، واقتصر على قول الشعر في طريقة الزهد. كتب له الشاعر مَرْج كُحْل بقصيدة منها قوله:
لأبي بكر التُّطيليِّ ... يَتْبع الإخْوان شرقاً وغربا
فأجابه بقصيدة منها:
يا أبا عبد الإله المفدَّى ... من جميع الناس عُجْماً وعُرْبا
ثمراتُ الأنْسِ تُرْتاد عِنْدي ... وهْيَ روضك تُجْنَى وتُجْنى
قد بلوتُ الناسَ شرقاً وغرباً ... ودعوت الصبر حُزْناً فَلَبَّى
فالتزمْ حالك صَبْراً وإلاّ ... زدت بالعجز إلى الخطب خَطْبَا
العلماء
الأديب أبو الحسن
علي بن خير التَّطِيليّ
من المسهب: أُخبرت بسَرقسطة أنه كان أحفظ أهل عصره بالآداب، وأعرفهم بالتواريخ والأنساب. رحل من بلده تُطيلة إلى حضرة الملك سَرَقُسْطة، فتوصل بآدابه وأمداحه إلى المقتدر بن هود، وحل عنده محل الواسطة من العقود، والعَلَم من البرود. ومن شعره قوله:

أخطأْت في بِرِّ الذي لم يَرْعَهُ ... وغدَا يلاحظني بمُقْلة ساخِرِ
إن التواضع للذي يَعْتدّهُ ... ضَعَةً لجهْلٌ ما له من عاذرِ
وقوله:
إذا غِبْتُ عنكم لا يَرِبْكُمْ تطاولٌ ... لبعدٍ فوُدّي زائد الصَّفوِ والبِرِّ
كما عُتِّقت صَهْبَاءُ من طول عهدها ... وجاءَتك باستحيائها في حُلى التِّبْر

الشعراء
أبو جعفر أحمد بن عبد الله
بن هريرة الأعمى التُّطِيليّ
من الذخيرة: له أدب بارع، ونظر في الغوامض واسع، وفهم لا يجارَى، وذهن لا يُبَارى، ونظم كالسحر الحلال، ونثر كالماء الزلال، جاءَ في ذلك بالنادر المُعْجِز، في الطويل منه والموجز، وكان في الأندلس مَسْرىً للإحسان، ومرَدّاَ في الزمان، إلا أنه لم يطل زمانه، ولا امتد أوانه، فاعْتُبِط عند ما به اغْتُبط.
من القلائد: له ذهن يكشف الغامض الذي يَخْفَى، ويعرف رسم المُشْكل وإن عَفَا، أبْصَر الخفيَّات بفهمه، وقَصَر فكَّها على خاطره ووهمه.
الغرض من شعره قوله:
مَللْتُ حِمْصَ ومَلَّتْني فلو نطقتْ ... كما نطقتُ تلاحينا على قَدَرِ
وسوَّلتْ ليَ نفسي أن أفارقها ... والماءُ في المُزْن أصْفَى منه في الغُدُرِ
ومنها:
أما اشتفَتْ منِّيَ الأيامُ في وطَني ... حتى تُضَايق فيما عَن مِن وَطري
ولا قضتْ من سواد العين حاجتَها ... حتى تكرّ على ما كان في الشَّعَر
وقوله من قصيدة:
سطا أسَداً وأشْرقَ بَدْرَ تِمٍّ ... ودارت بالحتوف رَحىً زَبون
وأحْدَقَتِ الرِّماحُ به فأعْيا ... عليَّ أهَالةٌ هيَ أم عَرينُ
وقوله:
هذا الهوى وقديماً كنت أحْذَرُهُ ... السُّقْمُ مَورِدُهُ والموت مصدَرَهُ
جِدٌّ من الشوق كان الهزلُ أوَّلَهُ ... أقلَّ شيءٍ إذا فكَّرْتُ أكثَرُهُ
ولي حبيبٌ دَنَا لولا تمَنُّعُهُ ... وقد أقول نَأى لولا تذكُّرُهُ
وله الرثاء الطويل المشهور الذي أنشده صاحب القلائد، أوله:
خُذَا حَدِّثاني عن فُلٍ وفلانٍ ... لعلي، أُرَى، باقٍ على الحَدَثانِ
ومنه:
أبا حَسَنٍ أما أخوك فقد مَضَى ... فيا لَهْفَ نفسي ما التقى أخوانِ
ونبَّهني ناعٍ مع الصبح كلما ... تشاغلْتُ عنه عَنَّ لي وعناني
أُغَمِّضُ أجفاني كأَنِّيَ نائِمٌ ... وقد لجَّتِ الأحشاءُ في الخفقان
ومنها:
يقولون لا يَبْعَدْ وللهِ درُّهُ ... وقد حِيل بين العَيْر والنَّزَوانِ
ويأبَون إلا ليتَه ولعلَّه ... ومن أين للمقصوص بالطَّيَرانِ
ومن فرائده قوله:
بحياة عصياني عليكِ عواذلي ... إن كانت القُرُباتُ عندكِ تنفعُ
هل تذكرين ليالياً بِتْنَا بها ... لا أنتِ باخِلةٌ ولا أنا أقْنَعُ
وقوله في مطلع قصدية:
أعِدْ نظراً في صَفْحَتَيْ ذلك الخَدِّ ... فإني أخاف الياسمينَ على الوَرْدِ
وقوله من قصيدة:
إذا صدق الحسامُ ومُنْتَضِيهِ ... فكلُّ قرارةٍ حصنٌ حصينٌ
وما أسَدُ العرين بذي امتناعٍ ... إذا لم يَحْمِهِ إلا العَرينُ
الأهداب
موشحة للأعمى مشهورة:
ضاحكٌ عن جُمَانْ ... سافرٌ عن بَدْرِ
ضاق عنه الزمانْ ... وَحَواهُ صدري
أهِ مما أجِدْ ... شَفَّني ما أجدْ
قام بي وقعدْ ... بإطِشٌ مُتَّئِدْ
كلما قلتُ قدْ ... قال لي أين قَدْ
وانثنى غصنَ بانْ ... ذا فَنَنٍ نَضْرِ
لاعبتْهُ يدانْ ... للصَّبا والقَطْرِ
ليس لي بك بُدْ ... خذ فؤادي عن يَدْ
لم تَدَعْ لي جَلَدْ ... غير أني أجْهَد
مُكْرَعٌ من شُهُدْ ... واشتياقي يَشْهَدْ
ما لِبنْتِ الدِّنانْ ... ولذاك الثَّغْرِ
ليس مُحيَّا الأمان ... من حُمَيَّا الخَمْرِ

بي جوىً مُضْمرُ ... ليت جهدي وَفْقُهْ
كلما يُذكَرُ ... ففؤادي أُفْقُه
ذلك المنظرُ ... لا يداوي عشقُهْ
بأبي كيف كانْ ... فلكيٌّ دُرِّي
رقَّ حتى استبانْ ... عُذْرُه وعُذْري
هل إليك سبيلْ ... أو إلى أن أيَسَا
ذبتُ إلا قليلْ ... عَبْرةً أو نَفَسَا
ما عسى أن أقول ... ساءَ ظني بعَسَى
وانقضى كل شانْ ... وأنا أسْتَشْري
خالعاً من عِنانْ ... جَزَعي أو صَبْري
ما على من يلوم ... لو تلاهى عَنِّي
هل سوى حُبِّ ريمْ ... دينُهُ التَّجنِّي
أنا فيه أَهِيم ... وهو بي يُغَنِّي
قد رأيتكْ عِيَانْ ... آش عليك ساتدري
سايطول الزمانْ ... وتجرِّب غيري
موشحة أخرى له:
غُصْنٌ يَميسْ على كُثْبانِ ... رَيّان أمْلَدْ
بين القوام وبين اللِّينِ ... يكاد ينقدّ
بمهجني أوْطَف تيَّاه
مهفهفٌ ينثني عِطْفَاه
بالأسْد قد فتكتْ عيناه
سطا فسلَّ من الأجفانِ ... سيفاً مؤَيَّدْ
أنا القتيلْ به في الحِين ... دَمي تقلَّدْ
راموا مرامهم عُذَّالي
ولست عن حُبِّه بالسّالي
إن السلوّ من المحال
وكيف يحسنُ بي سُلْواني ... عن حُبِّ أغْيَدْ
لو بعتُ به نفسي وديني ... لكنت أرشدْ
صِلْ مستهامك يا با بكرِ
فقد بلغتَ المَدَى من هَجْرِ
كم قد طَوَتْكَ ضروب فكري
الشوق يفضح لي كتماني ... والدمع يَشْهَدْ
وقد حَرَمْتَ الكرى أجفاني ... ولست أسعد
قَدٌّ كمثل القضيب الناعمِ
يهتزّ مثل اهتزاز الصارم
بدرٌ بدا تحت ليلِ فاحِمِ
قد مازج الورد بالسّوسانِ ... منه على الخَدّ
ونفحه عن شَذَا دارِينِ ... أذكى من النَّدِّ
يا حُسْنَها من فتاةٍ رُودْ
زارتْه يومَ صباح العِيد
غنَّت على رأسه في العود
خلِّ سِواري وخُذْ هِمْياني ... حبيبي أحمدْ
واطلع معي للسرير حَيُّوني ... ترقُد مجرَّدْ
وقيل إنه حضر مع ابن بَقيّ وغيرهما الوشّاحين في إشبيلية، واتفقوا على أن يصنع كل واحد منهما موشحة، ويحضروا جميع ما قالوه في مجلس حُكْم، فصنعوا ذلك، واجتمعوا في المجلس، فابتدأ الأعمى وأنشد:
ضاحكٌ عن جمانْ ... سافرٌ عن بَدْرِ
ضاق عنه الزمانْ ... وحواه صَدْرِي
فخرَّق الجميعُ الورقَ الذي كتبوا فيه موشحاتهم، فإنهم سمعوا ما يفتضحون بمعارضته.
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الرابع
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب الثَّغْر
وهو
كتاب المعونة، في حلى مدينة طَرَسونه
من المسهب: مدينة مشهورة الذكر في الحديث والقديم. منها:
أبو إسحاق إبراهيم بن مُعَلَّى الطَّرَسونيّ
شاعر ممتد النَّفس، شديد المَرَس، قدير على التطويل، اشتهر ذكره بمدح مَلِكِ الثَّغْر المقتدر بن هود، وجال على بلاد الأندلس وهو، ممن ذكره ابن بسام وقال فيه: قِدْح البلاغة المُعَلَّى، وسيفها المحلَّى. ومما أثبته من شعره قوله في رثاء:
هل بين أضْلعنا قلوبُ جنادلِ ... أم خَلْفَ أدمُعِنا سدودُ جداولِ
في كل يومٍ حُزْنُ نَجْمٍ ساقط ... ما بيننا وكسوفُ بَدْرٍ زائلِ
سَدِكَتْ بنا الأرزاءُ مُغِبَّةٍ ... وألحَّت النكبات غير غوافلِ
وهْيَ الليالي ليس يَخْفَى نَقْضُها ... فلذاك تطلبُ حُرٍّ كاملِ
وقوله من أخرى:

فلا يَغْرُرْكَ بهجةُ مُسْتَجَدٍّ ... إذا ما الجَمْرُ عاد إلى الرَّمادِ
أبا الحجّاج لو لم يُؤْتَ بِدْعٌ ... لحجَّ الناسُ قبرَك في احتشادِ
وزاركَ من بني الآمال حَفْلٌ ... يُصِمُّ الأرضَ من هَيْدٍ وهادِ
فقد بارتْ بضائعهمْ عليهمْ ... وحَلّوا السُّوقَ مُفْرطة الكَسادِ
وقوله:
رُزْءٌ بكت منهُ العُلاَ ومُصابُ ... شَقَّتْ عليه جُيُوبَها الأحبابُ
وطَفِقْتُ ألْتَمِسُ العَزَاءَ فخانني ... نَفَسٌ يذوب ومدمَعٌ ينسَابُ
وتلَجْلَجَ الناعي بهِ فسألته ... عَوْد الحديث لعله يرْتابُ
بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الخامس
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب الثَّغْر
وهو
كتاب الغصون المائده، في حُلى مدينة لارِدَه
مدينة مشهورة من مدن الثغر على نهر، وقد أخذها النصارى. ومنها:
الفقيه أبو محمد
عبد الله بن هرون الأصبحي الَّلارِديّ
من المسهب: كفى لاردة أن كان منها هذا الفاضل العالم، الزاهد، المحسِنُ فيما ينظم، فمن نظمه قوله:
أين قلبي أضَاعَهُ كلُّ طَرْفٍ ... فاترٍ يُصرَع الحليمُ لَديْهِ
كلما زاد ضَعْفه ازداد فَتْكاً ... أيُّ صَبْر تُرَى يكونُ عليهِ
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب السادس
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب الثَّغْر
وهو
كتاب الرَّشْقه، في حلى مدينة وَشْقَه
من مشاهير مدن الثغر، أخذها النصارى في أول تلك الفتنة، ومنها:
أبو الأصبغ عيسى بن أبي درهم
قاضي وَشْفَه
من المسهب: أنه كان عالماً فاضلاً، ولاه المستعين بن هود قضاءَها، وكان له أدب، ومن شعره: قوله:
دُفِعْتُ إلى ما أُرِدْهُ كراهَةً ... ولو أنَّني أبْغيه ما نالَه جهْدِي
فَتَعْلَمُ أنَّ الدهر ليس أموره ... تَسِيرُ على عُرْفٍ وتَنْزِعُ في قَصْدي
وقوله:
يا حبَّذا نهرُنا وقد عَبِثَتْ ... به صَبَاه والموجُ يتبعها
والأفق يَرْثي لما بهِ فَعَلَتْ ... فالسُّحبُ تَجْري عليه أدمعُها
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب السابع
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب الثَّغْر
وهو
كتاب هَجْعة الحالم، في حُلَى مدينة سالم
من المدن الجليلة المشهورة، وفيها قبر المنصور بن أبي عامر، وهي الآن للنصارى. منها:
أبو الحسن باق بن أحمد بن باق
أثنى الحجاريّ على بيته وذاته، وذكر أنه صحب أبا أمية بن عصام قاضي مُرْسية، وله فيه أمداح، من ذلك قوله:
وما سُدْتَ إلا بالمكارم والعُلا ... ولولا ضياءُ البدر ما كان يعتلِي
لخَلَّصْتَني من سَطْوَة الدهر بعد ما ... أراد شتاتي بالنَّوَى وتَرَحُّلِي
وقوله:
لله يومٌ قد غَدَوْتَ منادمي ... فيه فتَسْقيني وطَوْراً تَشرَبُ
والكأْسُ قد طلعت على آفاقنا ... شمساً ولكنْ في المباسم تَغْرُبُ
يا ليت شعري وَهْيَ في ضَعْفٍ وفي ... خَجَل وموردُها يَلَذُّ ويَعذُبُ
لِمَ أصبحتْ في الحكم أجْوَر جائرٍ ... فَغَدَتْ بها الألبابُ طُرّاً تَذْهبُ
وقوله:
لا تقل جَدِّي فلانٌ وأبي ... مثله في كلِّ مَجْدٍ وحسَبْ
وتَرُمْ رفْعَة قَدْرِ بِنُهىً ... سِيَّما إن كنتَ فذّاً في الأدبْ
حِرِ أُمِّ المجد والعلم إذا ... لم يكن عندك شيء من ذَهَبْ
وقوله:
ليتني كنتُ لمن لا يَرْتَقي ... لمعالٍ وفقدت الحَسَبا
إنما يَربحُ مَنْ إسنادُهُ ... سِمةُ العجز ويبغي التَّعَبا
جعفر بن عنق الفضة

ذكر الحجاريّ: أنه مدح قاضي قرطبة ابن حمدين، وهو ممن تفخر به مدينة سالم، وانشد له:
لي على الأطلال دمْعٌ ... مثلُ ما تَهْنِي السحابُ
وفؤادي خافقٌ ما ... حَدَّثَتْ عنهمْ ركابُ
ليت شعري كيف أهوا ... همْ وقلبي قد أذابوا

مملكة ميورقة
كتاب اللمعة البَرْقيَّة، في حلى المملكة المَيُورقيَّة
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب السادس
من الكتب التي يشتمل عليها:
كتاب شرق الأندلس
وهو
كتاب اللمعة البَرْقيَّة، في حُلى المملكة الميورقيَّة
هذه جُزُرٌ في البحر مضافة إلى الأندلس وكتبها ثلاثة
كتاب الغَبْقَه، في حلى جزيرة مَيُورْقَهْ
كتاب النَّشْقَه، في حلى جزيرة مَنُورْقه
كتاب الأراكة المائسه، في حلى جزيرة يابسه
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الأول من كتب الجُزُر
وهو
كتاب الغَبْقَه، في حلى جزيرة مَيُورْقه
المنصَّة
طول هذه الجزيرة أربعون ميلاً، من أخصب بلاد الله، وفيها بحيرة دُوْرُها تسعة أميال، وفيها حصون، وقاعدتها مدينة مَيُورقه بالجهة القبلية من الجزيرة وتدخلها ساقية جارية على الدوام ووادٍ شِتْويّ يشقّ المدينة، وبها قلعة للملك، وفيها يقول ابن اللَّبانة.
بَلَدٌ أعارَتْهُ الحمامةُ طَوْقَهَا ... وكسَاهُ حُلَّةَ ريشهِ الطاووسُ
وكأنما تلك المياه مُدَامةٌ ... وكأنَّ قيعان الديارِ كؤوسُ
التاج
أول من فتحها من أيدي النصارى عبد الله بن موسى بن نُصير الذي فتح أبوه جزيرة الأندلس. وملكها في مدة ملوك الطوائف مجاهد العامريّ الذي تقدمت ترجمته في مدينة دَانية، ولما مات غلب عليها مولاه المرتضى أغلب، وكان واليَه عليها، ثم مات فوليها:
مُبَسِّر ناصر الدولة
فدام بها ملكه، وأحسن التدبير، وقصده الفضلاء، منهم ابن اللَّبَّانة، وله فيه أمداح كثيرة. ولم يخلعه الملثَّمون منها. ولما مات صارت الجزيرة لهم وتوالى عليها ولاة الملثَّمين إلى أن قامت عليهم الأندلس بإطْلال دولة عبد المؤمن، فركن إليها عبد الله بن محمد المشهور بابن غانية الملثَّم، فاستقام بها ملكه، ثم ملكها بعده إسحاق، وكان ضابطاً للملك غازياً للنصارى. وملكها بعده ابنه عبد الله فصرف له بنو عبد المؤمن وجوههم، فدخلوا عليه الجزيرة في مدة منصور بني عبد المؤمن سنة ثمانين وخمسمائة، وكَبَا به فرسه، فقتل. وصارت لبني عبد المؤمن، وتوالت عليها ولاتهم، إلى أن أخذها النصارى من أبي يحيى بن عمران التيمللي، وكان بخيلاً غير حسن التدبير، سامحه الله. وكان ذلك بعد ما ثارت الأندلس على بني عبد المؤمن في عام خمسة وعشرين وستمائة، وهي الآن للنصارى جبَرها الله.
السلك
المحدِّث الإمام أبو عبد الله
محمد بن فَتُوح الحُمَيْديّ
من الأئمة المشهورين، حجَّ وسكن بغداد، وصَنَّف فيها جذوة المقتبس، في علماء الأندلس وفضلائها، وهو مذكور في صلة ابن بشكوال، وأنشد له قوله:
لقاءُ الناسِ ليس يُفيد شيئاً ... سِوى الهَذَيانِ من قيل وقالِ
فأَقْلِلْ من لقاء الناس إلا ... لأخْذ العلْم أو إصلاح حالِ
ابن عبد الوليّ الميورقيّ
أخبرني من اجتمع به في ميورقة أنه كان شاعراً وشّاحاً، وأنشدني له:
هل أمانٌ من لحظك الفَتّانِ ... وقوام يَميس كالخَيْزُرانِ
مهجتي منك في جحيمٍ ولك ... ن جفوني قد مُتِّعَتْ في جِانِ
فَتَنَتْني لواحظٌ ساحراتٌ ... لست أخْشَى من فتنة السلطانِ
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثاني من كتب الجزر
وهو
كتاب النَّشْقه، في حلى جزيرة مَنُورْقه

بيناه وبين مَيُورقه في البحر خمسون ميلاً، وهي مستطيلة، قليلة العرض، في وسطها حصن مانع. لما أخذ النصارى جزيرة ميورقة اقتطعها صاحب أعمالها:

أبو عثمان سعيد بن حكم
وداراهم عليها، فدامت بها رياسته إلى الآن، وهو مشكور السيرة أندى من الغمام، يحدِّث عنه من جاز على جزيرته بالعجائب أدام الله مدته ولا قطع نعمته. ومن شعره قوله:
هِمَّتي في هذه الدُّنْ ... يا لبيبٌ أصطفيهِ
وفسادٌ لست أبقي ... ه وخَيْرٌ أقْتِفِيهِ
أعانه الله بكرمه.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد، أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا:
الكتاب الثالث من كتب الجزر
كتاب الأراكة المائسه، في حلى جزيرة يابسه
جزيرة خصيبة بضد اسمها، أخذها النصارى بعد أخذ ميورقه. منها:
أبو بكر العطار اليابسي
ّ
من شعراء الذخيرة، كان في مدة ملوك الطوائف. أحْسَنُ شِعرهِ قوله:
والجيش قد جعلتْ أبطالُه مَرَحاً ... تختال عن خُيَلاء السُّبَّق العُتُقِ
هيَ البحور ولكن في كواثبها ... عند الكريهة مَنجاةٌ من الغَرَقِ
الأندلس المسيحية
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد، أما بعد حمد الله والصلاة على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه، فهذا الكتاب الثاني من كتاب الأندلس وهو كتاب
لحظة المُريب فيما بقي من جزيرة الأندلس لعباد الصَّليب
قد ذكر الحِجاريّ: أن الباقي في يد النصارى كان أقل من الذي أخذه المسلمون، إلى أن كانت الفتنة بانقراض الدولة المَرْوانية، فما برحوا ينهضون ويتقوَّوْن على الإسلام، إلى أن بقي بيد الإسلام في هذه المدة ما يكون قدر العُشر، والله وليُّ المسلمين بكرمه.
وأعظمُ الملوك الذين توارثوا المملكة عند النصارى بالأندلس وقسموا بلادها أربعة: أذفونش، وهو ملك قَشْتالة، وهي أعمال في جهة طُلَيْطلة إلى البحر المحيط، كانت قاعدتُها قبل أن تصير لهم طُلَيْطلة مدينةَ غلّيسية، وهي على البحر المحيط. ثم البرجُلوني وهو ملك شرق الأندلس، ويقال لمملكته أرَغون، لأنه كان في مدينة أرغون حتى ملك طُرْطوشة وبرجُلونه وغيرها. ثم البَبُوج، وهو في بلاد الشمال مجاور لبَطليموس، قاعدته ليون. ثم ابن الرّيق، وهو ملك جِلِّيقية، وهي في الشمال والغرب من الأندلس كانت قاعدته مدينة شانت يلقوه، وهي عظيمة إلى نهاية، فيها معدن الذهب، وقد صارت له أَشْبُونة وغيرها من بلاد الإسلام.
وليس في جميع هذه البلاد ما فيه ترجمة حالية بالأدب لبقائها في أيدي النصارى.

أقسام الكتاب
1 2 3 4