كتاب : بهجة المجالس وأنس المجالس
المؤلف : ابن عبد البر

مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى اللَه على سيدنا محمد وآله وسلم.
أَما بَعد: فإن لآولى ما ابتدئ به كتاب وافتتح به خطاب، حمد الله على جزيل آلائه، وشكره لجميل بلائه، ثم الصلاة على خاتم أنبيائه وعافب رسله، صلوات الله عليهم أجمعين، وسلام عليهم في العالمين وبركاته. والحمد لله الذي هدانا للإسلام، وفضنا على جميع الأنام، وجعلنا من أمة محمد نبيه عليه الصلاة والسلام.
وبعد: فإن أولى ما عني به الطالب، ورغب فيه الراغب، وصرف إليه العاقل همه، وأكد فيه عزمه، بعد الوقوف على معاني السنن والكتاب، مطالعه فنون الآداب، وما اشتملت عليه وجوه الصواب، من أنواع الحكم التي تحيي النفس والقلب، وتشحذ الذهن واللب، وتبعث على المكارم، وتنهى عن الدنايا والمحارم، ولا شيء أنظم لشمل ذلك كله، وأجمع لفنونه، وأهدى إلى عيونه، وأعقل لشارده، وأثقف لنادره؛ من تقييد الأمثال السائرة، والأبيات النادرة، والفصول الشريفة، والأخبار الظريفة، من حكم الحكماء، وكلام البلغاء العقلاء: من أئمة السلف، وصالحي الخلف، الذين امتثلوا في أفعالهم وأقوالهم، آداب التنزيل، ومعاني سنن الرسول، ونوادر العرب وأمثالها، وأجوبتها ومقاطعها، ومباديها وفصولها، وما حووه من حكم العجم، وسائر الأمم، ففي تقييد أخبارهم، وحفظ مذاهبهم، ما يبعث على امتثال طرقهم واحتذائها، واتباع آثارهم واقتفائها.
وقد جمعت في كتابي هذا من الأمثال السائرة، والأبيات النادرة، والحكم البالغة، والحكايات الممتعة في فنون كثيرة وأنواع جمة، من معاني الدين والدنيا، ما انتهى إليه حفظي ورعايتي، وضمته روايتي وعنايتي، ليكون لمن حفظه ووعاه، وأتقنه وأحصاه زيناً في مجالسه، وأنساً لمجالسه، وشحذاً لذهنه وهاجسه، فلا يمر به معنى في الأغلب مما يذاكر به، إلا أورد فيه بيتاً نادراً، أو مثلاً سائراً، أو حكاية مستطرفة، أو حكمة مستحسنة، يحسن موقع ذلك في الأسماع، ويخفف على النفس والطباع، ويكون لقارئه أنساً في الخلاء، كما هو زين له في الملاء، وصاحباً في الاغتراب، كما هو حلي بين الأصحاب.
وجمعت في الباب به منه المعنى وضده لمن أراد متابعة جليسه فيما يورده في مجلسه ولمن أراد معارضته بضده في ذلك المعنى بعينه، ليكون أبلغ وأشفى وأمتع.
وقد قربته، وبوبته ليسهل حفظه، وتقرب مطالعته، وافتتحت أكثر أبوابه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم تبركاً بتذكاره، وتيمناً بآثاره.
وإلى الله أبتهل في حسن العون والتأييد لما يحب، والتسديد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة واحدة، يزيده الله بها هدىً، ويصرفه بها عن ردى " .
ويروى عن عيسى الخياط، عن الشعبي، قال: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة ينتفع بها فيما يستقبل من عمره، ما رأيت أن سفره قد ضاع.
قال محمد بن سلام الجمحي، عن ابن جعدبة، قال: ما أبرم عمر بن الخطاب أمراً قط إلا تمثل فيه ببيت شعر.
وقال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه: كفاك من علم الأدب أن تروى الشاهد والمثل.
وقال أبو الزناد: ما رأيت أحداً أروى للشعر من عروة بن الزبير. فقيل له: ما أرواك للشعر! قال: وما روايتي من رواية عائشة له، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعراً.
وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا أرواحه، ودعوا ظروفه.
ولقد أحسن القائل، وقيل إنه منصور الفقيه: قالوا خذ العين من كل فقلت لهم في العين فضل ولكن ناظر العين حرفان في ألف طومار مسودة وربما لم تجد في الألف حرفين وروى عن مخلد بن يزيد، عن جابر بن معدان قال: كل حكمة لم ينزل فيها كتاب، ولم يبعث بها نبي، ذخرها الله حتى تنطق بها ألسن الشعراء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر حكمة " .
روى ابن نعيم، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خذ الحكمة ممن سمعتها، فإن الرجل قد يتكلم بالحكمة وليس بحكيم، كما أن الرمية قد تجئ من غير رامٍ.
باب أدب المجالسة وحق الجليس الصالح

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف، وأحمد بن عبد الله بن عمر، وخلف بن سعيد بن أحمد، وسعيد بن سيّد، ومحمد بن عبد الله بن حكم، وأحمد بن عبد الله بن محمدّ بن عليّ، واللفظ لسعيد بن سيّد، قالوا : حدثنا محّمد بن عمر بن لبانة، وسليمان بن عبد السّلام، قالا: حدثنا محّمد بن أحمد العتيبيّ، عن أبي المصعب الزّهري، عن عبد العزيز بن أبي حازم، وحدّثنا عبد الوارث بن سفيان، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا بكر بن حماّد، قال : حدّثنا مسدّد : حدثنا أبو عوانة كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " من قام من مجلسه، ثم رجع فهو أحقّ به " ورواه حّماد بن سلمة عن سهيل، بإسناد مثله.
وحدثنا سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان، وأحمد بن محّمد، وأحمد بن قاسم قالوا : حدّثنا قاسم، قال : حدثنا ابن وضّاح، قال : حدّثنا محمد بن مسعود، قال : حدّثنا يحيى القطّان، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدم المجلس فليسلّم، وإذا قام فليسلم، فليست الأولى بأحقّ من الأخرى " .
وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، قال حدثنا أبو بكر محمد بن داسة قال : حدّثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي المولى عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري عن أبي سعيد الخدريّ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول : " لا يقيمن أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه " قال : وكان ابن عمر إذا قام له رجلٌ من مجلسه، من غير أني يقيمه لم يجلس فيه. ومن حديث أبي بكرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : مثله.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " المجالس بالأمانة، وإنما يتجالس الرّجلان بأمانة الله عزّوجلّ فإذا تفرّقا فليستر كلٌّ منهما حديث صاحبه " وقال أبو البختري : كانوا يكرهون أن يقوم الرجل للرّجل من مجلسه، ولكن ليوسع له.
ومن حديث سعيد المقبري ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال : " لا يوسّع في المجالس إلاّ لثلاثة :لذي علم لعلمه، ولذي سن لسنّه، أو لذي سلطان لسلطانه " .
ومن حديث جابر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : " المجالس بالأمانة إلا ثلاثة: مجلسٌ سفك فيه دمٌ حرامٌ، ومجلسٌ استحلّ فيه فرجٌ حرام، ومجلسٌ استحلّ فيه مالٌ حرام بغير حقه " .
ومن حديث عمر بن عبد العزيز، عن محّمد بن كعب القرظّي، عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: " لكل شيءٍ شرفٌ، وإنّ شرف المجالس، ما استقبل فيه القبلة " .
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: " إذا جلس إليك رجلٌ، فلا تقومنّ حتى تستأذنه " .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " إذا قام الرّجل من مجلسه، فهو أحق به حتّى ينصرف إليه، ما لم يودِّع جلساءه بالسَّلام " .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " لا يفرِّق واحدٌ منكم بين اثنين متجالسين إلاَّ بإذنهما، ولكن تفسَّحوا وأوسعوا " .
وقال أنس بن مالكٍ: ما أخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم ركبتيه ولا قدميه بين يدي جليسٍ له قطّ، ولا تناول أحدٌ يده فتركها حتّى يكون هو الّذي يدعها.
وقال ابن شهاب: كان رجل يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزال يتناول عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم الشىء، وكأنّ ذلك آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا نزع أحدكم عن أخيه شيئاً فليره إياّه " .
وحدث الحسن البصري : أنّ رجلاً تناول عن رأس عمر بن الخطّاب شيئاً فتركه مرتين، ثم تناول الثالثة، فأخذ عمر بيده، فقال:أرني ما أخذت؟ وإذا هو لم يأخذ شيئاً!! فقال: انظروا إلى هذا، قد صنع هذا ثلاث مراتٍ يريني أنّه يأخذ من رأسي شيئاً ولا يأخذه، فإذا أخذ أحدكم من رأس أخيه شيئاً فليره إيّاه.
قال الحسن: نهاهم أمير المؤمنين عن الملق.
و قال الحسن: لو أنّ إنساناً أخذ من رأسي شيئا، قلت: صرف الله عنك السُّوء.
وكان محّمد بن سيرين: إذا أخذ أحدٌ من لحيته أو رأسه شيئاً، قال:لا عدمت نافعاً.
و روي عن عمر بن الخطّاب أنه قال: إذا أخذ أحدٌ عنك شيئاً، فقل: أخذت بيدك خيراً.

وقد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال:لأبي أيّوب الأنصاريّ - وقد نزع عنه أذّى - : " نزع الله عنك ما تكره يا أبا أيّوب " .
قال عمر بن الخطّاب: فحسب المرء من العيّ أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه أن يجد على النّاس فيما تأتيه، وأن يظهر له من النّاس ما يخفى عليه من نفسه.
وعن عمر رضي الله عنه قال: إن مما يصفّي وداد أخيك، أن تبدأه بالسّلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحبّ الأسماء إليه، وأن توسّع له في المجلس.
قال أيّوب الأنصاريّ:من أراد أن يكثر علمه، فليجالس غير عشيرته.
روى سفيان بن عيينة، عن مالك بن معن،قال: قال عيسى صلى الله عليه وسلّم: جالسوا من تذكركم بالله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغّبكم في الآخرة عمله.
قال المدائني:أوصى يحيى بن خالد ابنه، فقال: يا بنيّ إذا حدّثك جليسك حديثاً، فأقبل عليه وأصغ إليه ، ولا تقل قد سمعته وإن كنت أحفظ له، وكأنك لم تسمعه إلاّ منه، فإنّ ذلك يكسبك المحبة والميل إليك.
وعن عبد الملك بن عمير، قال:قال سعيد بن العاص:لجليسي عليّ ثلاث خصال:إذا دنا رحّبت به،وإذا جلس وسّعت له وإذا حدث أقبلت عليه.
وذكر ابن مقسم، قال:سمعت المبرِّد يقول : الاستماع بالعين، فإذا رأيت عين من تحدّثه ناظرةً إليك فاعلم أنه يحسن الاستماع. وقد روينا هذا القول عن سهل بن عبادة.
ومن حديث جابر عن النبيّ عليه السلام، أنّه قال: " من كان له أخٌ في الله فأكرمه فإنما يكرم الله " .
وروينا عن ثعلب النحوي، أنّه قام لصديق قصده، وأنشده:
لئن قمت ما في ذاك منها غضاضةٌ ... عليّ وإنّي للكرام مذلّل
على أنّها منّي لغيرك هحنةً ... ولكنّها بيني وبينك تجمل
ولغيره في هذا المعنى:
إذا ما تبدّى لنا طالعاً ... حللنا الحبا وابتدرنا القياما
فلا تنكرنّ قيامي إليه ... فإنّ الكريم يجلُّ الكراما
وروينا من حديث عائشة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: " أنزلوا النّاس منازلهم " . قال ابن وهب:سمعت مالكاً يقول: إذا الرجل عند رجلٍ جالساً، فجاءه طالب حاجةٍ، فسكت عن عونه فقد أعان عليه.
قال عمرو بن العاص: لا أملُّ جليسي ما فهم عنّي،وإنما الملال لدناءة الرّجال. قال:الشّعبيّ في قومٍ ذكرهم: ما رأيت مثلهم أشدّ تنابذاً في مجلس، ولا أحسن فهماً من محدِّث.
روى الأصمعيّ عن العلاء بن جرير عن أبيه، قال:قال الأحنف بن قيس:لو جلس إليّ مائةٌ لأحببت أن ألتمس رضى كلّ واحدٍ منهم.
وقال عبد الله بن عبّاس: أعز الناس عليّ جليسي الذي يتخطّى النّاس إليّ، أما والله إنّ الذّباب يقع عليه فيشقّ عليّ .قال كشاجم:
؟وجليسٍ لي أخي ثقةٍ ... كأن حديثه خبره
يسرّك حسن ظاهره ... وتحمد منه محتضره
ويستر عيب صاحبه ... ويستر أنّه ستره
و قال آخر:
جليسٌ لي له أدب ... رعاية مثله تجب
لو انتقدت خلائقه ... لبهرج عندها الذّهب
وعن ابن عبّاس، أنه قال: إنّي لأكره أن يطأ الرجل بساطي ثلاثاً فلا يرى عليه أثرى.
وعنه أيضاً رضي الله عنه، أنه سئل: من أكرم الناس عليك؟ قال: جليسي حتّى يفارقني.
قال معاوية لعرابة الأوسي:بأيّ شيءٍ استحققت أن يقول فيك الشّماّخ:
رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقاّها عرابة باليمين
فقال:عرابة: سماع هذا من غيري أولى بك وبي يا أمير المؤمنين،فقال: عزمت عليك لتخبرنّي.فقال: بإكرامي جليسي، ومحاماتي على صديقي.
فقال معاوية: لقد استحققت.
قال عليّ بن الحسين: ما جلس إليّ أحدٌ قط، إلاّ عرفت له فضله حتى يقوم. قال أبو عبادة: ما جلس رجل بين يديّ، إلا مثّل لي أني جالس بين يديه. روى عن عبد الله بن يزيد، وقد روى ذلك لأبي حازم، أنه قال: وطّن نفسك على الجليس السوء، فإنه لا يكاد يخطئك. وقد روى ذلك عن الأحنف، والله أعلم قال بعض الحكماء: رجلان ظالمان يأخذان غير حقّهما، رجلٌ وسّع له في مجلس ضيّق فتربّع وتفتح، ورجلٌ أهديت إليه نصيحةٌ فجعلها ذنباً.

وقال مسعر بن كدام: رحم الله من أهدى إلىّ عيوبي في ستر بيني وبينه، فإن النصيحة في الملأ تقريع.
قال الأحنف: لأن أدعى من بعدٍ أحبّ إليّ من أن أقصى عن قرب.
وعن الأحنف أيضاً أنه قال: ما جلست مجلساً قطّ، أخاف أن أقام منه لغيري وقال البعيث بن حريث: ؟وإنّ مكاني في النّدىّ ومجلسي له الموضع الأقصى إذا لم أقرّب
ولست وإن قرّبت يوماً ببائعٍ ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التّحبُّب
ويعتدّه قومٌ كثيرٌ تجارةً ... و يمنعني من ذاك ديني ومنصبي
جلس رجل إلى الحسن بن عليّ رضي الله عنه، فقال: جلست إلينا على حين قيام، أفتأذن؟! كان يقال:إياك وكلُّ جليسٍ لا تصيب منه خيراً.
وعن معاذ بن جبل، أنه قال: إيّاك وكلّ جليسٍ لا يفيدك علماً.
كان يقال: من سرّه أن يعظم حلمه ، وينفعه علمه، فليقلّ من مجالسته من كان بين ظهرانيه. وقال الحسن البصريّ: انتقوا الإخوان، والأصحاب، والمجالس.
وروى هشام بن عروة ،عن محّمد بن المنكدر، قال :كان يقال: خياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وركناً في المجالس، الموطَّئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون.
تباعد كعب الأحبار يوماً في مجلس عمر بن الخطاب، فأنكر ذلك عليه، فقال: يا أميرالمؤمنين! إنّ في حكمة لقمان ووصيته لابنه : إذا جلست إلى ذي سلطان فليكن بينك وبينه مقعد رجل، فلعلّه يأتيه من هو آثر عنده منك فينحّيك فيكون نقصاً عليك.
وكان يقال: الجليس الصّالح خيرمن الوحدة، والوحدة خيرٌ من الجليس السّوء.
وعن جعفر بن سليمان الضّبعيّ، قال: رأيت مع مالك بن دينار كلباً، فقلت له: ما هذا؟ قال هذا خيرٌ من الجليس السوء.
قال زيادٌ: إنه ليعجبني من الرجال من إذا أتى مجلساً أن يعرف أين يكون مجلسه، وإني لآتي المجلس، فأدع مالي مخافة أن أدفع عمّا ليس لي.
وكان الأحنف إذا أتاه رجلٌ أوسع له، فإن لم يكن له سعة أراه كأنّه يوسع له.
طرح أبو قلابة لجليس له وسادة، فردّها فقال له: أما سمعت الحديث: " لا تردن على أخيك كرامته " .
قال ابن شبرمة لابنه: يا بنيّ! إياك وطول المجالسة، فإنّ الأسد إنما يجترىء عليها من أدام النظر إليها.
وهذا عندي مأخوذٌ من قول أردشير لابنه: يابنيّ لا تمكّن الناس من نفسك فإن أجرأ النّاس على السّباع، أكثرهم لها معاينة. ومن هذا - والله أعلم - أخذ ابن المعتزّ قوله:
رأيت حياة المرء ترخص قدره ... فإن مات أغلته المنايا الطّوائح
كما يخلق الثّوب الجديد ابتذاله ... كذا تخلق المرء العيون الّلوامح
ومن سوء الأدب في المجالسة: أن تقطع على جليسك حديثه، أو تبدره إلى تمام ما ابتدأ به خبراً كان أو شعراً، تتمّ له البيت الذي بدأ به، وتريه أنك أحفظ منه. فهذا غايةٌ في سوء المجالسة، بل يجب أن تصغي إليه كأنك لم تسمعه قط إلاّ منه.
قيل لداود الطّائّي: لم تركت مجالسة الناس؟ قال: ما بقي إلاّ كبيرٌ يتحفّظ عليك، أوصغيرٌ لا يوقِّرك.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا تجالس عدوّك، فإنه يحفظ عليك سقطاتك ويماريك في صوابك.
قالت الخنساء:
إنّ الجليس يقول القول تحسبه ... خيراً وهيهات فانظر ما به التمسا
كان يقال: رأس التّواضع، الرّضا بالدُّون من المجلس. وهذا يروى عن ابن مسعود أنّه قال:إنّ من التواضع أن ترضى بالدُّون من المجلس، وأن تبدأ بالسّلام من لقيت.
قال إبراهيم النَّخعيّ إنّ الرجل ليجلس مع القوم فيتكلّم بالكلام، يريد الله به، فتصيبه الرَّحمة فتعمُّ من حوله، وإنّ الرجل يجلس مع القوم فيتكلّم بالكلام يسخط الله به، فتصيبه السَّخطة فتعمُّ من حوله.
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً في مجلسه، فرفع رأسه إلى السّماء ثم طأطأه ثم رفعه فسئل عن ذلك فقال: " هؤلاء قومٌ كانوا يذكرون الله فنزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة، وحفّتهم الملائكة كالقبّة، فلما دنت منهم تكلّم رجلٌ منهم بباطلٍ فرفعت عنهم ثم تلا: " ويوم تقوم السّاعة يومئذٍ يخسر المبطلون " .

وفي حديث أبي هريرة عن النبيّ عليه السلام، أنه قال: " ما جلس قومٌ مجلساً يقرءون فيه القرآن، ويذكرون السُّنن، ويتعلمون العلم ويتدارسونه بينهم، إلاّ حفّت بهم الملائكة، ونزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، فقيل له يارسول الله الرّجل يجلس إليهم وليس منهم، ولا شأنه شأنهم، أتأخذه الرحمة معهم؟ قال:نعم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " .
أنشد أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، ويقال إنها له: ؟إن صحبنا الملوك تاهوا وعقّوا واستخفّوا كبراً بحقّ الجليس
أو صحبنا االنّجار صرنا إلى البؤ ... س وعدنا إلى عداد الفلوس
فلزمنا البيوت نستخرج العل ... م ونملا به بطون الطّروس
كان يقال: ذوو المروءة والدّين، إذا أحرزوا القوت لزموا البيوت. أنشد أبو عبد الله بن الأعرابيّ - صاحب الغريب - : ؟لنا جلساءٌ ما نملّ حديثهم ألّباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... وعقلاً وتأديباً ورأياً مسدّدا
بلا فتنةٍ تخشى ولا سوء عشرةٍ ... ولا نتّقي منهم لساناً ولا يدا
فإن قلت أمواتٌ فلست بكاذبٍ ... وإن قلت أحياءٌ فلست مفنّدا
ولهذا الشعر خبر لابن الأعرابي مع أحمد بن محمد بن شجاع، ذكرناه مع الأبيات في آخر كتاب " بيان العلم وفضله " . ولمحمد بن بشير في هذا المعنى من قصيد له: ؟فصرت في البيت مسروراً تحدّثني عن علم ما غاب عنّي في الورى الكتب
فرداً تخبّرني الموتى وتنطق لي ... فليس لي في أناسٍ غيرهم أرب
لله من جلساءٍ لا جليسهم ... ولا خليطهم للسوء مرتقب
لا بادرات الأذى يخشى رفيقهم ... ولا يلاقيه منهم منطقٌ ذرب
أبقوا لنا حكماً تبقى منافعها ... أخرى اللّيالي على الأيّام وانشعبوا
إن شئت من محكم الآثار يرفعها ... إلى النّبيّ ثقاتٌ خيرةٌ نجب
أو شئت من عربٍ علماً بأوّلهم ... في الجاهلية تنبيني بها العرب
أو شئت من سير الأملاك من عجمٍ ... تنبي وتخبر كيف الرّأي والأدب
؟حتى كأنّي قد شاهدت عصرهم وقد مضت دونهم من دهرنا حقب
ما مات قومٌ إذا أبقوا لنا أدباً ... وعلم دينٍ ولا بانوا ولا ذهبوا
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " كفارة ما يكون في المجلس من الّلغط أن تقول: سبحانك الّلهمّ وبحمدك، لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك " .
وفي حديث آخر: " كفارة ما يكون في المجلس ألاّ تقوم حتّى تقول: سبحانك اللّهمّ وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، يا ربّ تب عليّ واغفر لي، فإن كان مجلس لغوٍ كان كفّارته، وإن كان مجلس ذكرٍ كان كالطّابع عليه " .
وقال حّسان بن عطّية: ما من قوم كانوا في مجلس لغوٍ فختموه بالاستغفار إلاّ كتب لهم مجلسهم ذلك استغفاراً كله.
وروي عن جماعةٍ من أهل العلم بتأويل القرآن، في قول الله عز وجل: " وسبح بحمد ربك حين تقوم " ، منهم مجاهد وأبو الأحوص وعطاء ويحيى بن جعدة قالوا: حين تقوم من كل مجلس تقول فيه: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، قالوا: ومن قالها غفر له ما كان منه في المجلس.
وقال عطاء: إن كنت أحسنت ازددت إحساناً، وإن كان غير ذلك كان كفارة.
ومنهم من قال: تقول حين تقوم: سبحان الله وبحمده من كلّ مكانٍ ومن كلّ مجلس.
باب حمد الّلسان وفضل البيان
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظنّ أنها تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة حتّى يلقاه... " الحديث.
قال معاذ:قلت يا رسول الله أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: " لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله " .
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: " أفضل الصدقة صدقة اللسان، تدفع بها الكريهة، وتحقن بها الدم " .
وقال عليه الصلاة والسلام: " أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند ذي سلطان جائر " .
قال أبو عنبة الخولاني رحمه الله: ربّ كلمةٍ خير من إعطاء المال. وقال أبان ابن سليم: كلمة حكمة لك من أخيك، خير لك من مالٍ يعطيك؟ لأنّ المال يطغيك والكلمة تهديك.

قالوا:خير الكلام ما دلّ على هدىً، أو نهى عن ردّى.
ذكر عند الأحنف بن قيس:الصمت والكلام، فقال قومٌ: الصمت أفضل فقال الأحنف: الكلام أفضل لأن الصمت لا يعدو صاحبه، والكلام ينتفع به من سمعه، ومذاكرة الرّجال تلقيحٌ لعقولها.
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: " رحم الله عبداً تكلّم بخيرٍ فغنم، أو سكت فسلم " . قال سعيد بن جبير:رأيت ابن عبّاس رضي الله عنه في الكعبة آخذاً بلسانه وهو يقول: يا لسان قل خيراً تغنم، أو اسكت تسلم.
وقالوا السّكوت سلامة، والكلام بالخير غنيمة، ومن غنم أفضل ممن سلم.
قال أعرابيّ:من فضل الّلسان، أن الله عزّ وجلّ أنطقه بتوحيده من بين سائر الجوارح.
وقال عبد الملك بن مروان: الصمت نومٌ والنُّطق يقظة.
قال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلاّ صورة ممثَّلة، أو بهيمة مرسلة، أو ضالّةٌ مهملة.
كان يقال: الألسن خدم القرائح.
قال ربيعة الرأي: السّاكت بين النائم والأخرس.
قالو:إنما المرء بأصغريه: لسانه وقلبه.
كان يقال: اللسان ترجمان الفؤاد، واللسان حيّة الفم.
كان يقال: يجد البليغ من ألم السّكوت ما يجد العييُّ من ألم الكلام.
وقالوا: المرء مخبوءٌ تحت لسانه.
وقال حسان بن ثابت: ؟لساني وسيفي صارمان كلاهما ويبلغ ما لا يبلغ السّيف مذودي وقال جرير:
وليس لسيفي في العظام بقيَّةٌ ... ولا السّيف أشوى وقعةً من لسانيا
وقال الخليل بن أحمد:
أيّ شيءٍ من اللّباس على ذي السّرو ... أبهى من اللّسان البهيّ
قال ابن سيرين: لا شيء أزين على الرجل من الفصاحة والبيان، ولا شيء أزين على المرأة من الشحم.
قال الشاعر: ؟وكائن ترى من ساكتٍ لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التّكّلم
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللّحم والدّم
قال أبو العتاهية:
وللناس خوضٌ في الكلام وألسنٌ ... وأقربها من كلّ خيرٍ صدوقها
وروى ابن عمر قال:قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا " . فتأولت طائفة هذا على الذم لأن السحر مذموم، وذهب الأكثر من أهل العلم، وجماعة من أهل الأدب إلى أنه على المدح لأن الله تعالى مدح البيان وأضافه إلى القرآن، وقد أوضحنا هذا في كتاب التمهيد والحمد لله.
وقد قال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، لرجل سأله حاجة فأحسن المسألة، فأعجبه قوله وقال:هذا - والله - السحر الحلال .
وقال عليّ بن العبّاس الرومي:
وحديثها السِّحر الحلال لو أنَّه ... لم يجن قتل المسلم المتحرِّز
في أبيات قد ذكرتها في موضعها من هذا الكتاب.
وقال الحسن:الرجال ثلاثةٌ، رجل بنفسه، ورجل بلسانه، ورجل بماله.
وكان يقال: في اللسان عشر خصال:أداةٌ يظهرها البيان، وشاهدٌ يخبر عن الضمير، وحاكمٌ يفصل به القضاء، وناطقٌ يردّ به الجواب، وشافعٌ تقضى به الحاجات، وواصفٌ تعرف به الأشياء، وواعظٌ ينهى به عن القبيح، ومعزٍّ تسكن به الأحزان، وملاطفٌ تذهب به الضغينة ومونقٌ يلهى الأسماع.
ونظر معاوية إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما، فأتبعه بصره ثم قال متمثلا:
إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ ... مصيبٍ ولم يثن اللسان على هجر
يصرّف بالقول اللّسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصّقر
ولحسان بن ثابت في ابن عبّاس:
إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ ... بمنطلقاتٍ لا ترى بينها فصلا
شفى وكفى ما في النّفوس فلم يدع ... لذي إربةٍ في القول جدّاً ولا هزلا
في أبيات قد ذكرتها في باب ابن عباس من كتاب " الصحابة " .
كان يقال: الجمال في اللسان.
قيل للأعرابي: ما الجمال؟ قال: طول الجسم، وضخم الهامة، ورحب الشّدق، وبعد الصّوت. قال حبيب: " لسان المرء من خدم الفؤاد " وقال آخر: " والقول ينفذ ما لا ينفذ الإبر " قال امرؤ القيس: " وجرح اللّسان كجرح اليد " قال ابن أبي حازم:
أوجع من وقعة السّنان ... لذي الحجا وخزة اللّسان
باب ذمّ العيّ وحشو الكلام
قال أبو هريرة : لا خير في فضول الكلام.
وقال عطاء:كانوا يكرهون فضول الكلام.

وقال: بترك الفضول تكمل العقول.
وقال: فضول الكلام ما ليس في دين ولا دنيا مباحاً.
وقال: الصّمت صيانة اللّسان، وستر العيّ.
وقالوا: العيّ الناطق أعيا من العي الساكت.
وقالوا: أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، وما ظهر معناه في لفظه.
وروى عبد الله بن عمر، أنّه قيل له: لو دعوت لنا بدعواتٍ. فقال: اللّهم اهدنا وعافنا وارزقنا.فقال رجلٌ لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: أعوذ بالله من الإسهاب.
وقال شفيّ بن ماتع: من كثر كلامه كثرت خطاياه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:من كثر كلامه كثر سقطه.
قال يعقوب عليه السلام لبنيه:يا بنيَّ إذا دخلتم على السلطان فأقلّوا الكلام.
قال ابن هبيرة: ما من شيء إلاّ وهو محتاجٌ إلى فضوله يوماً، إلاّ فضول الكلام.
قال الحسن: رحم الله عبداً أوجز في كلامه، واقتصر على فصاحته، فإن الله يكره كثرة الكلام.
وكان يقال: أفضل الكلام ما قلّت ألفاظه وكثرت معانيه، أخذ هذا المعنى أحمد بن إسماعيل الكاتب فقال:
خير الكلام قليلٌ ... على كثيرٍ دليلٌ
والعيّ معنىً قصير ... يحويه لفظٌ طويل
وقال أبو العتاهية:
الصّمت أليق بالفتى ... من منطقٍِ في غير حينه
لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيونه
وقال منصور الفقيه:
تعمّد لحذف فضول الكلام ... إذا ما نأيت وعند التّداني
ولا تكثرنّ فخير الكلام ال ... قليل الحروف الكثير المعاني
قال بعض قضاة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - وقد عزله: لم عزلتني: قال: بلغني أنّ كلامك مع الخصمين أكثر من كلام الخصمين.
تكلّم ربيعة الرأي يوماً فأكثر الكلام، فأعجبته نفسه، وإلى جنبه أعرابيّ فقال له: يا أعرابي ما تعدّون البلاغة فقال: قلة الكلام.قال: ما تعدون العيّ فيكم؟ فقال: ما كنت فيه منذ اليوم.
وأنشد الخشني - رحمه الله - : ؟؟؟؟ وماالعيّ إلا منطقٌ متتابعٌ سواءٌ عليه حقّّ أمرٍ وباطله قالت العرب: لا يجترئ على الكلام إلا فائق أو مائق.
قال الّنمر بن تولب:
أعذني ربّ من حصرٍ وعيٍّ ... ومن نفسٍ أعالجها علاجا
ومن حاجات نفسي فاعصمنيّ ... فإن لمضمرات النَّفس حاجا
وقال آخر:
عجبت لإدلال العيّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالحقّ أعلما
وفي الصّمت سترٌ للعيّ وإنّما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلّما
قال بعض الحكماء: ليس شيء إلاّ إذا ثنيته قصر إلا الكلام، فإنك كلّما ثنيته طال.
قالوا:أعيا العيّ بلاغة بعيّ، وأقبح اللّحن لحنٌ بإعراب.
كان مالك بن أنس يعيب كثرة الكلام ويذمّه ويقول: كثرة الكلام لا توجد إلاّ في النّساء والضعفاء.
ذمّ أعرابيّ رجلاً،فقال: هو من يتامى المجالس، أعيا ما يكون عند جلسائه، أبلغ ما يكون عند نفسه.
باب في اجتناب اللّحن وتعلّم الإعراب
وذمّ الغريب في الخطاب
كتب عمر إلى أبي موسى: أما بعد، فتفقّهوا في السّنّة،وتعلَّموا العربية.
وروي عنه رحمه الله أنه قال: رحم الله امرأً أصلح من لسانه.
وقال عليّ بن محّمد العلويّ:
رأيت لسان المرء رائد عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون
ولا تعد إصلاح اللّسان فإنّه ... يخبّر عمّا عنده ويبيّن
ويعجبني زيّ الفتى وجماله ... فيسقط من عينيّ ساعة يلحن
كان عبد الله بن عمر يضرب ولده على اللّحن.
قال شعبة: مثل الذي يتعلم الحديث،ولا يتعلم النحو مثل البرنس لا رأس له.
قال المأمون لأحد أولاده - وقد سمع منه لحناً - : ما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده، ويزين بها مشهده، ويفلَّ بها حجج خصمه بمسكتات حكمه، ويملك مجلس سلطانه بظاهر بيانه. أو يسرُّ أحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده أو أمته، فلا يزال الدّهر أسير، كلمته، قاتل الله الذي يقول:
ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صاحبٍ لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التّكلم
لسان الفتى نصفٌ و نصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللّحم والدَّم
وقال الخليل بن أحمد:

لا يكون السّرى مثل الدّنيٍّ ... لاّ ولا ذو الذّكاء مثل الغبيّ
لا يكون الألدّ ذو المقول المر ... هف عند القياس مثل العييّ
أيّ شيء من اللّباس على ذي السّ ... رو أبهى من اللّسان البهيّ
ينظم الحجة السّنيّة في السّل ... ك من القول مثل عقد الهديّ
وترى اللَّحن بالحسيب أخي الهي ... أة مثل الصّدا على المشرفيّ
فاطلب النّحو للحجاج وللشّع ... ر مقيماً والمسند المرويّ
والخطاب البليغ عند جواب ال ... قول تزهى بمثله في النّديّ
وارفض القول من طغام جفوا عن ... ه فقادوا بعضه للنّسيّ
قيمة المرء كلُّ ما يحسن المر ... ء قضاءً من الإمام عليِّ
قال ثعلب: سمعت محمد بن سلاَّمٍ يقول: ما أحدث الناس مروءةً أفضل من طلب النّحو.
قال عبد الله بن المبارك، اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدريّ في الوجه.
وقال عبد الملك:اللحن هجنة بالشريف.
قال ابن شبرمة:إذا سرّك أن تعظم في عين من كنت في عينه صغيراً، ويصغر في عينك من كان فيها كبيراً فتعلّم العربية،فإنها تجرّيك وتدنيك من السّلطان. قال الشاعر:
النّحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن
والنّحو مثل الملح إن ألقيته ... في كلّ ضدٍّ من طعامك يحسن
وإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها منها مقيم الألسن
رأى أبو الأسود الدُّؤلي أعدالا للتجار مكتوباً عليها: لأبو فلان!! فقال: سبحان الله يلحنون ويربحون.
قال رجل للحسن البصريّ: يا أبو سعيد! فقال: كسب الدّوانيق شغلك أن تقول:يا أبا سعيد.
مر خالد بن صفوانٍ بقوم من الموالي يتكلّمون في العربية،فقال:لئن تكلمتم فيها لأنتم أول من أفسدها.
وقالوا: العربية تزيد في المروءة.
وقالوا: من أحبّ أن يجد في نفسه الكبر فليتعلم النحو.
وقال أبو شمر: قارئ النحو إذا دخله الكبر استفاد السخط من الله، والمقت من الناس.
وقال الخليل يوماً: لا يصل أحد من النحو إلى ما يحتاج إليه، إلاّ بما لا يحتاج إليه، فقد صار إذاً ما لا يحتاج إليه يحتاج إليه.
وروي عنه في هذا الخبر،أنه قال:من لم يصل إلى ما يحتاج إليه إلا بما لا يحتاج إليه، فقد صار محتاجاً إلى ما لا يحتاج إليه.
وروى أن هذه القصة عرضت مع أبي الهذيل وروي أنها عرضت لأبي عبيدة مع النّظَّام، والذي تقدّم أصحُّ إن شاء الله تعالى.
وقال المأموني:
سأترك النّحو لأصحابه ... وأصرف الهمّة في الصّيد
إنّ ذوي النّحو لهم همّةٌ ... موسومةٌ بالمكر والكيد
يضرب عبد الله زيداً وما ... يريد عبد الله من زيد
كتب غسّان بن رفيع - المعروف بدماذ - إلى أبي عثمان النحوي المازني:
تفكّرت في النّحو حتّى مللت ... وأتعبت نفسي به والبدن
فكنت بظاهره عالماً ... وكنت بباطنه ذا فطن
خلا أنّ باباً عليه العفا ... ء للفاء يا ليته لم يكن
وللواو بابٌ إذا جئته ... من المقت أحسبه قد لعن
إذا قلت هاتوا لماذا يقا ... ل لست بآتيك أو تأتين
أجيبوا لما قيل هذا كذا ... على النّصب؟ قالوا:بإضمار أن
وروينا عن أبي حاتم السّجستاني رحمه الله قيل: إنها له.والله أعلم.
وقال آخر: ؟؟إنّما النّحو قياسٌ يتّبع وبه في كلّ علمٍ ينتفع
فإذا ما أبصر النّحو الفتى ... مرّ في المنطق مرّاً واتّسع
واتّقاه كل من جالسه ... من جليسٍ ناطقٍ أو مستمع
وإذا لم يبصر النّحو الفتى ... هاب أن ينطق جبناً وانقمع
يقرأ القرآن لا يعرف ما ... فعل الإعراب فيه وصنع
يخفض الصّوت إذا يقرؤه ... وهو لاعلم له فيما اتّبع
والّذي يقرؤه علماً به ... إن عراه الشّك في الحرف رجع
ناظراً فيه وفي إعرابه ... فإذا ما عرف الحقّ صدع

أهما فيه سواءٌ عندكم ... ليست السّنّة فينا كالبدع
وكذاك الجهل والعلم فخذ ... منه ما شئت وما شئت فدع
كان أبو مسلم مؤدب عبد الملك بن مروان، قد نظر في النحو، فلما أحدث الناس التصريف لم يحسنه، وهجا أصحابه فقال:
؟ قد كان أخذهم في النّحو يعجبني ... حتّى تعاطوا كلام الزّنج والرّوم
لّما سمعت كلاماً لست أعرفه ... كأنّه زجل الغربان والبوم
تركت نحوهم والله يعصمني ... من التّقحّم في تلك الجراثيم
وقال عمّار الكلبي:
ماذا لقيت من المستغربين ومن ... قياس نحوهم هذا الّذي ابتدعوا
إن قلت قافيةً بكراً يكون لها ... معنىً يخالف ما قاسوا وما صنعوا
قالوا لحنت فهذا الحرف منخفضٌ ... وذاك نصبٌ وهذا ليس يرتفع
وحرّشوا بين عبد الله فاجتهدوا ... وبين زيدٍ وطال الضّرب والوجع
فقلت واحدةً فيها جوابهم ... وكثرة القول بالإيجاز تنقطع
ما كلّ قولي مشروحٌ لكم فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
حتّى أعود إلى القوم الّذين غذوا ... بما غذيت به والقول يتّسع
فتعرفوا منه معنى ما أفوه به ... كأنّني وهم في قوله شرع
كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قومٍ على الإعراب قد طبعوا
وبين قومٍ رأوا أشيا معاينةً ... وبين قومٍ حكوا بعض الّذي سمعوا
إنّي ربيت بأرض لا يشبُّ بها ... نار المجوس ولا تبنى بها البيع
ولا يطا القرد والخنزير تربتها ... لكن بها الرّيم والرّئبال والضّبع
وقال أبو هفان:
إذا ما شئت أن تحظى ... وأن تلبس قوهيّا
وأن تصبح ذا مالٍ ... فكن علجاً نبيطيّا
وإن سرّك أن تشقى ... وأن تصبح مقليّا
فكن ذا نسبٍ ضخمٍ ... وكن مع ذاك نحويّا

باب اختلاف عبارتهم عن البلاغة
قال المفضّل الضّبّي لأعرابي:ما البلاغة؟ قال الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل.
وقيل للأحنف:ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في استحكام الحجج،والوقوف عند ما يكتفى به.
وقال خالد بن صفوان لرجل كثر كلامه:إنّ البلاغة ليست بكثرة الكلام، ولا بخفّة اللسان، ولا كثرة الهذيان.ولكنها إصابة المعنى القصد إلى الحجة.
وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ فقال: لمحة دالّة.
وقيل لبشر بن مالك: ما البلاغة؟ قال: التقرّب من المعنى،والتباعد عن حشّو الكلام،ودلالةٌ بقليل على كثير.
سئل عبيد الله بن عتبة: ما البلاغة؟فقال:القصد إلى عين الحجة بتقليل اللفظ.
وقال غيره: البلاغة معروفة الفصل من الوصل، وفرق ما بين المشترك والمفرد وفصل ما بين المقيّد والمطلق، وما يحتمل التأويل ويستغني عن الدليل.
وقيل لبعض اليونانية: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام .
وقيل لرجل من الرّوم:ما البلاغة؟ حسن الاقتصاد عند البديهة، والغزارة يوم الإطالة.
وقيل لرجل: ما البلاغة؟ فقال: حسن الإشارة، وإيضاح الدلالة، والبصر بالحجة، وانتهاز مواضع الفرصة.
وسأل معاوية بن أبي سفيان صحاراً العبديّ؟ ماالبلاغة عندكم؟ قال: الإيجاز. قال: ما الإيجاز؟ قال:أن تقول فلا تخطئ وتسرع فلا تبطئ، فقال معاوية. وكذلك تقول؟ قال:أقلني يا أمير المؤمنين.أنت لا تخطئ ولا تبطئ.
وقد روي مثل هذا المعنى للحجّاج مع ابن القبعثري. فالله أعلم.
وقالوا: أبلغ النّاس أحسنهم بديهة، وأمثلهم لفظا.
قال خالد بن صفوان: خير الكلام ما ظرفت معانيه،وشرفت مبانيه والتذّت به آذان سامعيه.
باب من خطب فأريج عليه
قال الحرّ بن جابر،وكان أحد حكماء العرب - فيما أوصى به ابنه: وإياك والخطب فإنّها مشوارٌ كثير العثار.
صعد عثمان بن عفّان رضي الله عنه على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم أرتج عليه، فقال:أمّا بعد فإنّ أول كلّ مركبٍ صعب، وما كنا خطباء، وسيعلم الله، وإن امرأً ليس بينه وبين آدم أب حيٌّ لموعوظ.

ويروى أن عثمان بن عفّان رضي الله عنه صعد المنبر فأرتج عليه، فقال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال.
وروي في هذا الخبر: أنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل.
وروي أنّ عثمان لمّا بويع،قام فحمد الله وأثنى عليه ثم أرتج عليه، فقال:وليناكم وعدلنا فيكم، وعدلنا عليكم خيرٌ من خطبتنا فيكم، فإن أعش يأتكم الكلام على وجهه.
وروي أنّ عبد الرحمن بن جابر بن الوليد، خطب الناس على منبر حمص فأرتج عليه، فقال:يا أهل حمص! أنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب مصقع،ثم نزل.
وأرتج يوماً على عبد الملك بن مروان،فقال :نحن إلى الفضل في الرأي،أحوج منا إلى الفضل في المنطق.
وأرتج على معن بن زائدة، وهو على المنبر، فضرب بيده ثم قال: فتى حرب لا فتى منابر.
صعد عبد الله بن عامر منبر البصرة، فحصر ،فشقّ ذلك عليه،فقال له زياد: أيّها الأمير! إنك إن أقمت عامّة من ترى أصابهم أكثر مما أصابك.
صعد عليّ بن أرطاة المنبر، فقال: الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم.
أرتج على خالد بن عبد الله القسريّ على منبر الكوفة، فقال: إن هذا الكلام يجيء أحياناً ويعزب أحياناً، ويسهل عند مجيئه، ويعسر عند عزوبه طلبه، وربما طلب فأبى، وكوبر فعصى، فالتأنّي لمجيئه أيسر من التعاطي لأبيّه وهو يخلج من الجريء جنانه، وينقطع من الذّرب لسانه، فلا ينظره القول إذا اتسع، ولا يكسره النطق إذا امتنع،وسأعود فأقول إن شاء الله.
خطب رجل من الأزد أقامه زيادٌ للخطبة على منبر البصرة، فلما رقى المنبر، وقال الحمد لله، أرتج عليه، فقال: قد والله هممت ألاّ أحضر اليوم، فقالت لي امرأتي: نشدتك الله إن تركت الجمعة وفضلها، فأطعتها، فوقفت هذا الموقف، فاشهدوا أنها طالق. فقالوا له: انزل قبحك الله.وأنزل إنزالا عنيفاً.وقد قيل: إن هذه القصة لوازع اليشكري، وفي ذلك قال الشاعر:
وما ضرّني ألاّ أقوم لخطبةٍ ... وما رغبتي في مثل ما قال وازع
وذكر القهرميّ عن أبيه قال: قام القلاخ بن حزن يوم عيد خطيباً، فقال: الحمد لله الذي خلق السّموات والأرض في ستّة أشهر.فقيل له:إنّما خلقها في ستة أيام فقال: أقيلوني، فوالله لقد ظننت أنّي أقللت،وكنت أريد أن أقول في ستّ سنين.
صعد روح بن حاتم المنبر، فلما رآهم قد فتحوا أسماعهم وشقّوا أبصارهم، قال: نكّسوا رءوسكم وغضّوا أبصاركم، فإنّ أول كلّ مركب صعب، وإذا يّسر الله فتح قفل يسِّر.
خطب مصعب بن حيّان خطبة نكاحٍ فحصر، فقال لقّنوا موتاكم شهادة ألاّ إله إلا الله، فقالت أمّ الجارية: عجلّ الله موتك، ألهذا دعوناك؟! قيل لرجل من الوجوه: قم فاصعد المنبر فتكلم، فقام. فلّما صعد المنبر حصر، فقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء. وبقي ساكتاً فأنزلوه وأصعدوا آخر، فلما استوى قائماً وقابل وجوه الناس بوجهه، وقعت عينه على رجلٍ أصلع وحصر،فقال اللّهم العن هذه الصّلعة.
صعد عتّاب بن زرقاء منبر أصبهان فحصر، فقال: والله لا أجمع عليكم عيّا وبخلاء ادخلوا سوق الغنم فمن أخذ شاة فهي له وثمنها عليّ. وقد روي أن هذا إنما عرض لعبد الله بن عامر على منبر البصرة، وأن عتّاب بن ورقاء هو الذي قام على المنبر فحمد الله ثم أرتج عليه، فجعل يقول: أمّا بعد أمّا بعد...، وقبالة وجهه شيخ أصلع فقال:أما بعد يا أصلع، فوالله ما غلّطني غيرك، عليّ به، فأتي به فضربه أسواطاً.
وصعد آخر المنبر فقال: إن الله لا يرضى لعباده المعاصي، وقد أهلك أمة من الأمم بعقرهم ناقةً لا تساوي مائتين وخمسين درهما، فسمّى مقوِّم الناقة.
وهذا هو عبد الله بن أبي ثور عامل ابن الزبير على المدينة.
ذكر عمرو بن شبة، حدثنا الحسين بن عثمان عن بعض علماء المدينة، قال: ثم عزل ابن الزّبير عبيدة بن الزبير، واستعمل عبد الله بن أبي ثورٍ حليف بني عبد مناف، فلّقبه أهل المدينة مقوّم ناقة الله، وغلت الأسعار فتشاءموا به، فعزله ابن الزبير.
صعد أعرابيٌّ المنبر فقال: أقول لكم ما قال العبد الصّالح: " ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد " ، فقالوا له: هذا فرعون. فقال: قد والله أحسن القول.
قال بزرجهمر: هيبة الزَّلل تورث حصراً، وهيبة العاقبة تورث جبناً
باب حمد الصّمت وذمِّ المنطق

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من صمت نجا " .
وروينا عن عقبة بن عامرٍ، أنه قال:يا رسول الله فيم النّجاة؟ فقال: " يا عقبة أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك " .
وروي أنه من كلام لقمان والله أعلم.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " ويلٌ لمن يحدِّث الناس فيكذب ليضحكهم، ويلٌ له، ثم ويلٌ له " .
وعن عيسى عليه السلام، أنه قال : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتفتنوا قلوبكم " .
وبلغنا أنّ داود عليه السلام لقي لقمان بعد ما كبرت سنُّه، فقال: ما بقي من عقلك؟ فقال: لا أنطق فيما لا يعنيني، ولا أتكلَّف ما كفيته.
وقال ابن مسعود: أنذركم فضول الكلام.
وعن ابن مسعود وسلمان الفارسي، قالا :أكثر النّاس وقوفاً يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل.
وعن عطاء: فضول الكلام ما عدا تلاوة القرآن، والقول بالسنة عند الحاجة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تنطق في أمر لا بدَّ لك منه في معيشتك، أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره أن يرى أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه، ثم تلا: " وإنّ عليكم لحافظين. كراماً كاتبين " و " عن اليمين وعن الشِّمال قعيدٌ، ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد " .
وعنه عليه السلام أنه قال: " البرّ ثلاثةٌ المنطق والنظر والصَّمت، فمن كان منطقه في غير ذكر فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبارٍ فقد سها، ومن كان صمته في غير تفكّر فقد لها " . قال بعض الشعراء: ؟ لست ممّن ليس يدري ما هوانٌ من كرامه
إنّ للنّصح وللغ ... ش على العين علامه
ليس يخفى الحبُّ والبغ ... ض وإن رمت اكتتامه
ليس في أخذك بالفض ... ل وبالحلم ندامه
وجواب الجاهل الصَّم ... ت وفي الصَّمت سلامه
وعن الأصمعيّ قال، قال أعرابيّ: السّكوت صيانةٌ لّلسان وسترٌ للعيّ.
وقال أعرابيّ في رجل رماه بالعيّ: رأيت عثرات النّاس في أرجلهم، وعثرة فلان بين فكَّيه.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " إن الرَّجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة " .
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال " .
وذكر الأصمعيّ قال، قال أعرابيٌ: الكلمة أسيرةٌ في وثاق الرَّجل، فإذا تكلّم بها كان أسيراً في وثاقها.
قيل لبكر بن عبد الله المزنيّ: إنك تطيل الصمت؟ فقال:إن لساني سبعٌ، إن تركته أكلني.
وأنشد الخشنيّ: ؟ لسان الفتى سبعٌ عليه مراقبٌ فإنّ لم يزع من غربه فهو آكله وقال الراجز:؟
القول لا تملكه إذا نما ... كالسَّهم لا يرجعه رامٍ رما
وقال آخر:
فداويته بالحلم والمرء قادرٌ ... على سهمه ما دام في كفِّه الَّسهم
قال هبيرة بن أبي وهب:
وإنَّ مقال المرء في غير كنهه ... لكالَّنبل تهوى ليس فيها نصالها
قال أبو العتاهية: ؟ من لزم الصَّمت نجا من قال بالخير غنم اجتمع أربعة حكماء، فقال أحدهم: أنا على ردِّ ما لم أقل، أقدر مني على ردّ ما قلت، وقال الآخر: لأن أندم على ما لم أقل، أحبّ إليّ من أن أندم على ما قلت، وقال الثالث: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، فإذا لم أتكلم بها ملكتها، وقال الرابع: عجبت ممن يتكلم بالكلمة، إن ذكرت عنه ضرته، وإن لم تذكر عنه لم تنفعه.
قال طرفة بن العبد:
؟وإنّ لسان المرء ما لم تكن له ... حصاةٌ على عوراته لدليل
وقال منصور الفقيه:
عليك السُّكوت فإن لم يكن ... من القول بدٌّ فقل أحسنه
فرَّبتما فارقت بالّذي ... تقول أماكنها الألسنة
وقال آخر:
؟ أيُّها المرء لا تقولنّ قولاً ... لست تدري ماذا يجيئك منه
واخزن القول، إنّ الصَّمت حكما ... وإذا أنت قلت قولاً فزنه
وإذا النَّاس أكثروا في حديثٍ ... ليس ممّا يزينهم فاله عنه
وقال أحيحة بن الجلاح: ؟ الصَّمت أكرم بالفتى ما لم يكن عيٌّ يشينه

والقول ذو خطلٍ إذا ... ما لم يكن لبٌّ يعينه
قال ابن مقسم، سمعت جحظة يقول: سمعت المأمون يقول:السخافة كثرة الكلام، وصحبة الأنذال.
أنشد ابن المبارك أخاً له كان يصحبه:
واغتنم ركعتين زلفى إلى الل ... ه إذا كنت فارغاً مستريحا
وإذا ما هممت بالمنطق البا ... طل فاجعل مكانه تسبيحا
إنّ بعض السكوت خيرٌ من النط ... ق وإن كنت بالكلام فصيحا
وقال أبو العتاهية:
؟ ألا إنّ بعد الذخر ذخراً تنيله ... وشرُّ كلام القائلين فضوله
عليك بما يعنيك من كلّ ما ترى ... وبالصَّمت إلاّ عن جميلٍ تقوله
وله:
وحسبك مَّمن إن نوى الخير قاله ... وإن قال خيراً لم يكذِّبه فعله
كان يقال: العافية عشرة أجزاء، تسعةٌ منها في الصمت، وجزء في الهرب من النّاس.
كان يقال:من طوَّل صمته، اجتلب من الهيبة ما ينفعه، ومن الوحشة مالا يضرّه. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إن من شرار النَّاس الذين يكرمون اتّقاء ألسنتهم " .
وقال الشاعر:
صمتُّ على أشياء لو شئت قلتها ... ولو قلتها لم أبق للصُّلح موضعا
وقال منصور الفقيه:
خرسٌ إذا سألوا وإن ... قالوا: عييٌّ أو جبان
فالعيّ ليس بقاتل ... ولربّما قتل اللّسان
كان يقال: اخزن لسانك كما تخزن مالك.
قال امرؤ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيءٍ سواه بخزَّان
وقال آخر: ؟ لعمرك إنّ صمتك ألف عامٍ لأصلح من كلامك بالفضول
فأمسك أو ترى للقول وجهاً ... يبين صوابه لذوي العقول
روينا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، أخذ يوماً بطرف لسانه وقال:ها إنّ ذا أوردني الموارد.
وقال ابن مسعود رحمه الله: إن كان الشُّؤم ففي اللّسان، ووالله ما على وجه الأرض شيءٌ أحقّ بطول سجن من اللسان.
أخذه الشاعر فقال:
؟ وما شيءٌ إذا فكَّرت فيه ... أحقّ بطول سجنٍ من لسان
كان يقال اللّسان سبع عقور.
قال الشاعر:
؟ رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثاً مغيرا
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " وهل يكبّ النّاس في النّار على وجوههم إلاّ حصائد ألسنتهم " .
قال الله عزّ وجل: " ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيبٌ عتيدٌ " ، وقال: " وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون " .
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " إن الله عند لسان كلّ قائل، فلينظر كلُّ امرئ ما يقول " .
قال عمَّار الكلبي: ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وقل الحقّ وإلاّ فاصمتن إنَّه من لزم الصَّمت سلم
إنّ طول الصّمت زينٌ للفتى ... من مقالٍ فيه عيٌ وبكم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رحم الله امرءاً أمسك فضل لسانه، وبذل فضل ماله، وعلم أن كلامه محصيٌ عليه " .
قال الأصبحيُّ: من كثر كلامه كثرت خطاياه.
وقال أبو الدَّرداء: من فقه الرَّجل قلَّة كلامه فيما لا يعنيه.
وقال مالك بن دينار : لو كانت الصُّحف من عندنا، لأقللنا الكلام.
قال الشاعر:
؟ في نبوة الدَّهر لي عذرٌ فلا تلم ... من أقعدته صروف الدّهر لم يقم
حصرٌ يقصّر بي عن كلِّ مرتبةٍ ... وما تقصّر عن نيلٍ لها هممي
إن عابني عائبٌ بالصمت قلت له ... حبس الفتى نطقه خيرٌ من النَّدم
وقال معقر بن حمارٍ البارقي: ؟؟ الشِّعر لبّ المرء يعرضه والقول مثل مواقع النَّبل وقال آخر:
والقول ينفذ مالا تنفذ الإبر
لما خرج يونس عليه السلام من بطن الحوت، أطال الصمت، فقيل له: ألا تتكلم؟ فقال: الكلام صيَّرني في بطن الحوت.
قال عمر بن عبد العزيز: المحظوظ التَّقّي يلجم لسانه، أخذه الحسن بن هانئ فقال:
إنَّما العاقل من أل ... جم فاه بلجام
مت بداء الصَّمت خيرٌ ... لك من داء الكلام
سئل عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - عن قتلة عثمان، فقال: تلك دماء كفّ الله عنها يدي، فأنا أكره أن أغمس فيها لساني.

وقال يزيد بن أبي خبيب المتكلم ينتظر اللعنة، والمتصنَّت ينتظر الرحمة. ويقال: شر ما طبع الله عليه المرء، خلق دنيّ، ولسان بذيّ. وقالوا البذاء من النفاق.
وقال ابن القاسم:سمعت مالكاً يقول:لا خير في كثرة الكلام،واعتبر ذلك بالنساء والصبيان. إنما هم أبداً يتكلمون، لا يصمتون.
وقال الحسن لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلَّم فكَّر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت، وقلب الجاهل من وراء لسانه.
قال نصر بن أحمد:
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل ... وكلّ امرئ ما بين فكَّيه مقتل
وكم فاتحٍ أبواب شرٍّ لنفسه ... إذا لم يكن قفلٌ على فيه مقفل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره ... فذاك لسانٌ بالبلاء موكّل
إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلَّماً ... فدبّر وميّز ما تقول وتفعل
قال صالح بن جناح:
أقلل كلامك واستعذ من شرّه ... إنّ البلاء ببعضه مقرون
واحفظ لسانك واحتفظ من غيّه ... حتّى يكون كأنَّه مسجون
وكِّل فؤادك باللِّسان وقل له ... إنّ الكلام عليكما موزون
فزناه وليك محكماً في قلّةٍ ... إنّ البلاغة في القليل تكون
قال الّلاحقي:
اخفض الصَّوت إن نطقت بليلٍ ... والتفت بالنَّهار قبل الكلام
قال آخر:
أرى الصَّمت خيراً من كلامٍ بمأثمٍ ... فكن صامتاً تسلم وإن قلت فاعدل
ولا تك في حقّ الإخاء مفرّطاً ... وإن أنت أبغضت البغيض فأجمل
ولا تعجلن يوماً بشرٍّ تريده ... وإذ ما هممت الدَّهر بالخير فاعجل
ألا إنّ تقوى الله خير مغبّةٍ ... وأفضل زاد الظَّاعن المتحّمل
وقال آخر:
عوّد لسانك قول الصِّدق تحظ به ... إنّ الِّلسان لما عوّدت معتاد
وقال الحكماء:إذا تمَّ العقل نقص الكلام، فضل العقل على المنطق حكمة، وفضل المنطق على العقل هجنة.
وقال عمرو بن العاص: زلّة الرجل عظم يجبر، وزلّة اللسان لا تبقي ولا تذر وقال أعرابي:
عثرات الِّلسان لا تستقال ... وبأيدي الرِّجال تجزي الرِّجال
فاجعل العقل للِّسان عقالاً ... فشراد اللِّسان داءٌ عضال
إنَّ ذمَّ اللِّسان مبقٍ على العر ... ض وبالقول تستبان الفعال
وقال غيره:
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يموت الرَّجل من عثرة الرِّجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرِّجل تبرا على مهل
وقال منصور الفقيه:
واخرس إذا خفيت أمو ... ر الحقّ عنك عن الإجابة
فأقلّ ما يجزي الفتى ... بسكوته عزّ المهابة
وقال محمود الوراق:
ولفظك حين تلفظ في جميعٍ ... ولا تكذب مقدّمةٌ لفعلك
فزنه إن أردت القول وزناً ... وإلاَّ هدّ من أركان نبلك
وقال آخر:؟
ومن لاَّ يملك الشَّفتين يسخو ... بسوء الَّلفظ من قيلٍ وقال
كان يونس بن عبد الأعلى ينشد هذه الأبيات:
قد أفلح السَّاكت الصَّموت ... كلام واعي الكلام قوت
ما كلّ قولٍ له جوابٌ ... جواب ما تكره السكوت
ياعجباً لامرئ ظلومٍ ... مستيقنٍ أنّه يموت
؟بابٌ من مزدوَّج الكلام
الزوجة أحد الكاسبين، وقيل إصلاح المال أحد الكاسبين.
قلة العيال أحد اليسارين.
القلم أحد الِّلسانين.
الشيب أحد العسرين.
اليأس أحد النّجحين. ويقال: تعجيل اليأس أحد الظَّفرين.
حسن التَّقدير أحد الكسبين.
الَّلبن أحد الجبنين.
كثرة العيال أحد الفقرين.
المال أحد الجاهين.
الدُّعاء للسَّائل أحد العطاءين، وقيل: الرّد على السائل بالدّعاء إحدى الصَّدقتين.
العجيزة أحد الوجهين. وقيل: الشِّعر أحد الوجهين.
الشَّحم إحدى الحسنيين.
البياض أحد الجمالين. المرق أحد اللّحمين.
ملك العجين أحد الرَّيعين. قال عمر بن الخطاب: املكوا العجين إنه أحد الرَّيعين.
المبلِّغ أحد الشَّاتمين.
السامع للغيبة أحد المغتابين.

الرَّاوية للهجاء أحد الهجَّائين.
فصلٌ منه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرجل أوصاه: " حافظ على العصرين " .
والعصران: الصبح والظهر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى البردين دخل الجنة " .
البردان: الغداة والعشي.
وقال بعضهم: الأبردان: الغداة والعشيّ.
الأيهمان: السّيل والحريق.
الأحمران: الذَّهب والزَّعفران.
الأسودان: التَّمر والماء.
الأطيبان: الأكل والجماع.
الأجوفان :الفم والفرج.
الأصغران: القلب واللسان.
الأكبران : الهمَّة واللُّب.
الأصمعان: الفهم الذكي والرأي الحازم.
الجديدان: اللَّيل والنَّهار وكذلك الملوان، وكذلك العصران، قال حميد ابن ثور الهلالي:
ولن يلبث العصران يوماً وليلةً ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمَّما
وقال أبو بكر بن دريد:
إنَّ الجديدين إذا ما استوليا ... على جديدٍ أدنياه للبلى
وقال سليمان بن بطّال:
وتقلُّب الملوين بينهما الرَّدى ... إن لم يكن هذا يجيء به فذا
العمران: أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - هذا قول الأكثر.
كما قالوا: المكَّتان: مكَّة والمدينة.
والقمران :الشمس والقمر.
قال الفرزدق:
أخذنا بآفاق السَّماء عليكما ... لنا قمراها والنُّجوم الطَّوالع
لم يختلفوا أنه أراد الشمس والقمر.
وقال أبوعبيدة في قول قيس بن زهير.
جزاني الزَّهدمان جزاء سوءٍ ... وكنت المزء يجزي بالكرامة
أراد زهدماً وأخاه قيساً ابني محمد بن وهب من بني عبس بن بغيض، وقال أبو عبيدة: الزهدمان: زهدمٌ وكردم.
قال أبو عمر: الحجة في هذا قول الله عزّ وجلّ: " ولأبويه " ، فالأبوان الأب والأم.
وقد قال قتادة: العمران: عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز. والأول أشهر وأكثر.

باب من الأجوبة المسكتة وحسن البديهة
لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بضرب عنق عقبة بن أبي معيط، فقال له:من للصِّبية يا محمد؟ قال: النَّار.
قال الأعمش: احذروا الجواب،فإن عمرو بن العاص قال لعديّ بن حاتم: متى فقئت عينك يا أبا طريف؟ قال: يوم طعنت في استك وأنت مولّ يوم صفين.
شهد أعرابّي بشهادة عند معاوية على شيء، فقال: كذبت.فقال: الكاذب والله مزمل في ثيابك.فتبسم معاوية وقال:هذا جزاء من عجل.
أنشد ابن الرِّقاع قصيدة يذكر فيه الخمر، فقال له معاوية: أما إني قد ارتبت فيك في جودة وصف الشراب، فقال: وأنا قد ارتبت بك في معرفته.
قال تميم بن نصر بن سيَّار لأعرابي: هل أصابتك تخمة قط؟ قال:أما من طعامك وشرابك فلا. قال عبد الملك بن مروان لبثينة: ما رجا منك جميل؟ قالت: ما رجت منك الأمَّة حين ملكتك أمرها.
قيل لبعضهم: صحبت الأمير فلانا إلى اليمن، فما ولاّك؟ قال:قفاه.
قيل لأعرابي: صف لنا النخلة. فقال: صعبة المرتقى، بعيدة المهوى، مهولة المجتنى، رهيبة الِّسلاح، شديدة المؤونة، قليلة المعونة، خشنة الملمس، ضئيلة الظل.
دخل معن بن زائدة على المنصور، فأسرع المشي وقارب الخطر، فقال له المنصور: كبرت سنُّك يا معن؟ قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين. قال: وإنك مع ذلك لجلد. قال:على أعدائك يا أمير المؤمنين.قال: وإن فيك لبقية. قال: هي لك يا أمير المؤمنين.
دخل عديّ بن حاتم على معاوية، وعنده عبد الله بن عمرو، فقال له عبد الله: يا عديّ متى ذهبت عينك؟ قال: يوم مثل أبوك هارباً، وضرب على قفاه مولياً، وأنا يومئذ على الحق، وأنت وأبوك على الباطل.
قال المهديّ لجرير بن زيد: يا جرير إني لأعدُّك لأمر. قال جرير: إن الله قد أعدَّ لك منّي قلباً معقوداً بنصيحتك ويداً مبسوطة بطاعتك، وسيفاً مشحوذاً على عدوك، إذا ما شئت.
قالت جارية ابن السَّمَّاك له: ما أحسن كلامك إلا أنك تردده.قال: أردده حتى يفهمه من لم يكن فهمه. قالت: فإلى أن يفهمه من لم يكن فهمه يمله من فهمه.
قال الحسن لابن سيرين: تعبر الرؤيا كأنك من آل يعقوب. فقال ابن سيرين: وأنت تفسر القرآن كأنك شهدت التنزيل.
قال رجل لعمر بن الخطاب :أهلكنا النوم: فقال: بل أهلكتم اليقظة.
مرت أمة بسعيد بن المسيب وقد أقيم ليضرب، فقالت: يا شيخ! لقد أقمت مقام الخزي. فقال : بل من مقام الخزي فررت.

قال رجلٌ لعمرو بن العاص لأتفرغَنَّ لك. فقال: حينئذ تقع في الشغل.
لقي الحسن الفرزدق في حين خروجه إلى العراق، فسأله عن الناس، فقال:القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر من الله.
قال رجل عند الحسن: أهلك الله الفخار. قال :إذا استوحش في الطريق. قيل للأصمعي: لماذا لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا يواتيني، والذي يواتيني لا أريده، أنا كالمسنّ أشحذ ولا أقطع.
قيل لابن المقفع: مالك لا تقول الشعر؟ فقال: الذي يواتيني لا أريده، والذي أريده لا يواتيني. قال: ابن مناذر:
لا تقل شعراً ولا تهمم به ... وإذا ما قلت شعراً فأجد
قال عبد الله بن مروان لثابت بن عبد الله بن هلال: إنك أشبه الناس بإبليس.
قال: وما تنكر أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن.
قيل لأعرابية من بني عامر: لقد أحسنت العزاء على ابنك. قالت: إن فقده أيأسني من المصائب بعده. ونعى إلى أعرابية ابن لها، فقالت: لقد نعيتموه كريم الجدّين، ضحوكاً إذا أقبل كسوباً إذا أدبر، يأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد.
قال الأحوص للفرزدق: متى عهدك بالزنا؟ قال: مذ ماتت العجوز أمك.
قال أبو الزناد لابن شبرمة في مناظرته له: من عندنا خرج العلم. فقال ابن شبرمة:ثم لم يعد إليكم.
قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه في نسائكم يا بني عبد شمس أبين.
قال زهير:
" ومن لا يكرَّم نفسه لا يكرَّم " ... " ..ومن لا يتّق الشَّتم يشتم "
قال معاوية لابن عباس: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس:وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم.
قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: أين ترى عمك أبا لهب؟ قال:في النار، مفترشاً عمتك حماَّلة الحطب. وكانت أم جميل امرأة أبي لهب بنت حرب بن أمية ابن عبد شمس.
قال الرشيد لشريك القاضي: يا شريك! آية في الكتاب ليس لك ولا لقومك فيها شيء. قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال قوله تعالى: " وإنَّه لذكرٌ لك ولقومك " ، فقال آية أخرى ليس لي ولا لقومي فيها شيء. قال: وما هي؟ قال: " وكذَّب به قومك وهو الحقُّ " .
قال الرشيد لأبي الحارث جمَّيرا: أيسرك أن تخرا الغالية؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: ولم؟ والناس يتمنونها قال: أخاف أن يختم أمير المؤمنين على سراويلي فلا يفتحها.
قال معاوية بكلام عرّض فيه بعبد الله بن الزبير، فقال: يا أمير المؤمنين لا يكن حقنا منك أن تمسك يدك مغلولة إلى عنقك، وتعمل لسانك في قومك.
وروى أن أبا بكر بن عياش كان أبرص، وكان رجل من قريش يشرب الخمر، فقال له أبو بكر: قيل لنا إن نبيا من الأنبياء بعث بحلّ الخمر. فقال: لا أومن به حتى يبرئ الأبرص.
قدم الوليد بن عقبة الكوفة في زمن معاوية، فأتاه أهل الكوفة يسلمون عليه، وقالوا: ما رأينا بعدك مثلك. فقال خيراً أم شراً؟ قالوا: لم نر بعدك إلا شراً منك. قال: لكني والله ما رأيت بعدكم شرا منكم، والله يا أهل الكوفة، إن حبكم لصلف، وإن بغضكم لتلف.
قال المنذر بن الجارود لعمرو بن العاص:أي رجل أنت لو كانت أمك من عز قريش؟ قال عمرو: أحمد الله إليك، لقد عرضت قبائل العرب على نفسي أتمنى من أيهم تكون أمّي في طول ليلتين، فما خطرت عبد القيس على بالي.
جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص، وهو على المنبر عن أمه، فسأله. فقال: هي سلمى بنت حرملة، تلقب النابغة، من بني عنزة، ثم أحد بنى جلاَّن، أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت وأنجبت. فإن كان لك جعل فخذه.
فاخر رجل من ولد أبي البختريَّ بن هشام رجلا من ولد الزبير، فقال: أنا ابن عقير الملائكة. قال ابن الزبير: فنعم العاقر وبئس المعقور، فقال: أنا ابن شداد البطحاء. قال: شدها أبوك بسلحه، وشدها أبي برمحه.
جلس معاوية يأخذ البيعة على أهل العراق بالبيعة له والبراءة من على، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! إنا نبايع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم، فنظر معاوية إلى المغيرة بن شعبة، فقال: رجل، فاستوص به خيراً.

ظفر الحجاج بأصحاب ابن الأشعث، فجلس يضرب أعناقهم، فأتي في آخرهم برجل من تميم، فقال له ياحجاج! لئن كنا أسأنا في الدنيا، فما أحسنت في العقوبة. فقال الحجاج: أفّ لهذه الجيف، ما كان فيهم من يحسن هذا؟ وأمر بتخلية سبيل من بقي.
قال عمر بن عبد العزيز لسالم بن عبد الله بن عمر: أساءتك ولايتنا أم سرتك؟ قال: ساءتني لك وسرتني للمسلمين.
عاتب أعرابي أباه فقال: إن عظيم حقك علي، لا يذهب صغير حقي عليك، والذي تمتُّ به إليّ أمت بمثله إليك، ولست أزعم أنّا سواء، ولكن لا يحل لك الاعتداء.
لما مات الحسن أرادوا أن يدفنوه في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبت ذلك عائشة وركبت بغلة وجمعت الناس، فقال لها ابن عباس: كأنك أردت أن يقال: يوم البغلة كما قيل يوم الجمل؟! قالت: رحمك الله، ذاك يوم نسي. قال: لا يوم أذكر منه على الدهر.
قيل لمعاوية بن سفيان، يوم صفين: إنك تقدم حتى نقول: إنك تقبل، وإنك أشجع الناس، وتتأخر حتى نقول :إنك تفر، وإنك أجبن الناس. قال: أتقدم إذا كان التقدم غنما، وأتأخر إذا كان التأخرعزما.
سأل ابن الزُّبير معاوية حاجة فلم يقضها، فاستعان عليه بمولاة له، فقضى حاجته، فقال له رجل: استعنت بامرأة! فقال: إذا أعيت الأمور من أعاليها طلبناها من أسافلها.
اشتكىعبد الله بن صفوان ضرسه، فأتاه رجل يعوده، وقال: ما بك؟ قال:وجع الضرس. فقال: أما علمت ما يقول إبليس؟ قال: لا. قال: يقول: دواؤه الكسر. قال :إنما يطيع إبليس أولياؤه. مرض رجل من الأعراب فعاده جاره فقال: ما تجد؟ قال: أشكو دمَّلاً آلمني وزكاماً أضرَّ بي.فقال :أبشر فإنه بلغنا أن إبليس لا يحسد شيء من الأمراض ما يحسد على هاتين العلتين لما فيهما من الأجر والمنفعة، فأنشأ الأعرابي يقول:
أيحسدني إبليس دائين أصبحا ... بجسمي جميعاً دمَّلاً وزكاماً
فليتهما كانا به وأزيده ... رخاوة فحلٍ ما يطيق قياما
قال أبو جعفر المنصور لأبي جعونة العامريّ من أهل الشام: ألا تحمدون الله بأنا قد ولينا عليكم ورفع عنكم الطاعون؟! قال: لم يكن ليجمعكم الله علينا والطاعون.
قيل لبعضهم: أراك تكره الغزو، وما يكرهه إلا جبان أو متهم؟ فقال:والله إني لأكره أن يأتيني الموت على فراشي، فكيف أسافر إليه مسافة بعيدة.
عرض بعض القواد أصحابه، فمر به رجل معه سيف رديء، فقال له: ويحك ما هذا السيف؟! أما علمت أن الرجل بسيفه؟ فقال أصلحك الله أيها الأمير،إنها مأمورة. قال هذا مما يقطع شيئاً.
قيل لابن سيرين: من أكل سبع رطبات على الريق سبَّحت في بطنه، فقال ابن سيرين: لئن كان هذا هكذا فينبغي للوزينج إذا أكل أن يصلي الوتر والتراويح.
قيل لابن السَّمَّاك في زمن يزيد بن معاوية: كيف تركت الناس؟ قال: مظلوم لا ينتصف وظالم لا ينتهي.
قال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين قالوا: " ربنا باعد بين أسفارنا " أما كان جمع الشمل خيراً لهم؟ فقال اليماني: قومك أحمق منهم، حين قالوا: " الَّلهمَّ إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السَّماء، أوائتنا بعذابٍ إليم " ، أفلا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه.
قال رجل للرقاشي: ما يجب على المؤمن في حق الله؟ قال: التعظيم له والشكر لنعمه، قال: فما يجب عليه في حق السلطان؟ قال: الطاعة والنصيحة. قال: فما يجب عليه في حق نفسه؟ قال: الاجتهاد في العبادة، واجتناب الذنوب. قال: فما يجب عليه في حق العامة؟ قال: كف الأذى وحسن المعاشرة. قال: فما يجب عليه في حق الخليط؟ قال: الوفاء بالمودة وحسن المعونة.
قال بعض الجلّة لأعرابي من بني تميم يمازحه: يا أعرابيّ! من الذي يقول:
تميمٌ ببطن اللُّؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت
فقال: لا أعرفه. ولكن أعرف الذي يقول :
أعضّ الله من يهجو تميماً ... ومن يروي لها أبداً هجاءا
ببطن عجوزةٍ وبإست أخرى ... وأدخل رأسه من حيث جاءا
دخل طفيليٌّ دار قوم بغير إذن، فاشتدّ عليه صاحب الدار في القول، فأغلظ له الطفيلي في الجواب، وقال له: والله لئن قمت إليك لأدخلنك من حيث خرجت. فقال صاحب المنزل: أمّا أنا فأخرجك من حيث دخلت، وأخذ بيده فأخرجه.

قال الفرزدق لكثير - وقد أنشد: ما أشبه شعرك بشعري! أفكانت أمك أتت البصرة؟ فقال:لا ولكن أبي أتاها، ونزل في بني دارم.
قال المثّقب العبديّ:
وكلمة حاسدٍ من غير جرمٍ ... سمعت فقلت مرّي فانفذيني
وعابوها عليَّ ولم تعبني ... ولم يعرق لها يوماً جبيني
وما من شيمتي شتم ابن عميِّ ... ولا أنا مخلفٌ من يرتجيني
وذو الوجهين يلقاني طليقاً ... وليس إذا تغّيب يأتليني
بصرت بعيبه فكففت عنه ... محافظةً على حسبي وديني
قال رجلٌ من بني عجل لأبي الرَّوحاء الشاعر، بهمذان: ممن الرجل؟ قال:من العجم. قال العجلي: إنما الشعر للعرب، والمحال أن يقول الشعر رجل من العجم حتى ينزو على أمه رجل من العرب. فقال أبو الروحاء: فكل من لم يقل الشعر من العرب، فقد نزا على أمه رجل من العجم على هذا القياس.
قال مسكين الدارمي: ؟وإذا الفاحش لاقى فاحشاً فبهذا وافق الشَّنّ الطبق
إنما الفحش ومن يعتاده ... كغراب البين ما شاء نعق
أو حمار السُّوء إن أمسكته ... رمح الناس وإن جاع نهق
أو غلام السُّوء إن جوّعته ... سرق الجار وإن يشبع فسق
قال رجل لشريح القاضي: لشد ما ارتفعت فقال له شريح: هل ضرك ذلك؟ إنك لتبصر نعمة الله على غيرك وتعمى عنها في نفسك.
قيل لمزيد - وهو يحمل شيئاً تحت إبطه - : يا مزيد! ما هذا الذي تحت حضنك؟ قال: يا أحمق! ولم خبأته؟ قال الفرزدق للحسن: يا أبا سعيد إني قد هجوت إبليس، أفتسمع؟ فقال له الحسن: اسكت، فإنك على لسانه تنطق.
قيل لأعرابي: أتهمز الفارة؟ قال: إنما يهمزها السنور. قال حمزة الكسائي: أتهمز الذيب؟ قال: لو همزته أكلني.
سأل رجل من الشعراء رجلا من المتكلمين بين يدي المأمون، فقال: ما سنك؟ قال:عظم. قال: لم أرد هذا، ولكن كم تعدَّ؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأزيد. قال: لم أرد هذا، ولكن كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لأهلكني. فضحك المأمون. فقيل له: كيف السؤال عن هذا؟ فقال: أن تقول؟ كم مضى من عمرك.
لقي رجل رجلاً راكباً، فقال له: أين تنزل فقال له: حيث أضع رجلي.
وهب المفضل الضبي لبعض جيرانه أضحية، فلقيه بعد النحر، فقال: كيف وجدت أضحيتك؟ فقال: ما وجدت لها دماً، أراد قول الشاعر: ؟ ولو ذبح الضّبِّي بالسيف لم تجد من اللؤم للضَّبِّيِّ لحماً ولا دما اجتمع ناس من الشعراء على باب عدي بن الرِّقاع الشاعر، فخرجت بنت له، فقالت: ما تريدون، قالوا: نريد أباك لنخزيه ونفضحه. فقالت:
تجمّعتم من كلِّ أوبٍ وبلدةٍ ... على واحدٍ لا زلتم قرن واحد
تفاخر أهل الكوفة وأهل البصرة، فقال ابن شبرمة - وكان كوفياً - : لنا أحلام ملوك المدائن، وسخاء أهل السواد، وظرف أهل الحيرة، ولكم سفه السند، وبخل الخزر، وحمق أهل غسان. قال الربيع الحاجب لشريك القاضي بحضرة المهدي: بلغني أنك اختنت أمير المؤمنين. فقال شريك: لا تقل ذلك. لو كنت اختنته لكان قد أتاك نصيبك.
قال مؤدب يزيد بن عبد الملك يوماً له: لحنت. فقال: الجواد يعثر. قال المؤدب: إي والله، ويضرب حتى يستقيم. فقال: نعم، وربما كسر أنف سائسه.
وقف أعرابي على قوم فقال: رحم الله من لم تمج أذنه كلامي، وقدم لنفسه معاذه من سوء مقامي، فإن البلاد مجدبة، والحال مسغبة، والحياء زاجر يمنع من كلامكم، والفقر يدعو إلى إخباركم، والدعاء أحد الصدقتين، فرحم الله امرءاً أمر بخير. فقيل له: من أنت؟ فقال: اللهم اغفر، سوء الاكتساب يمنعني من الانتساب.
سمع إياس بن معاوية - رحمه الله - يهوديا يقول: ما أحمق المسلمين! يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون. فقال له إياس بن معاوية: أو كل ما تأكله تحدثه؟ قال: لا. لأن الله يجعل أكثره غذاء. قال: فلم تنكر أن يجعل الله جميع ما يأكله أهل الجنة غذاء.

جمع المأمون بين العتَّابي وبين أبي قرَّة النصراني، فقال لهما: تناظرا وأوجزا. فقال العتابي لأبي قرة: أسألك أم تسألني؟ فقال: سلني. قال: ما تقول في المسيح؟ قال: أقول إنه من الله عز وجل. فقال العتابي: إن " من " تجيء على أربعة أوجه: فالبعض من الكل على سبيل التجزؤ، والولد من الوالد على سبيل التناسل، والخل من الحلو على سبيل الاستحالة، والخلق من الخالق على سبيل الصنعة، فهل عندك خامسة قال: لا، ولكني لو قلت واحدة من هذه ما كنت تقول؟ فقال العتابي: إن قلت: إنه كالبعض من الكل جزّأته، والباري لا يتجزأ، وإن قلت: إنه كالولد من الوالد أوجبت ثانيا من الأولاد وثالثا ورابعاً إلى مالا نهاية، وهذا لا يجوز على الباري عز وجل، وإن قلت على سبيل الاستحالة، أوجبت فساداً، والباري لا يستحيل ولا ينتقل من حال إلى حال، وإن قلت: إنه كالخلق من الخالق، كان قولا حقا، وهو الحق الذي لا شك فيه. وصف إبراهيم النظام لأبي عبيدة معمر بن المثنى باليقظة وسرعة الجواب، فمر به يوماً ومعه قارورة زجاج، فأراد أن يختبره، فقال: يا أبا إسحاق! ما عيب هذه؟ فقال سريعة الانكسار، بطيئة الانجبار. فأعجب ذلك أبا عبيدة.
دخل المعتصم على خاقان عائداً فقال للفتح بن خاقان: أيُّما أحسن، دار أمير المؤمنين أم دار أبيك؟ فقال: ما دام أمير المؤمنين في دار أبي فدار أبي أحسن.
سمع سوارٌ القاضي الحجّاج بن أرطاة يقول : أهلكني حب الشرف، فقال: اتق الله تشرف.
قال مالك بن أنس: قدم على عمر بن عبد العزيز فتيان، فقالا: إن أبانا توفي فترك مالا عند عمنا حميد، فأمر عمر بإحضاره، فلما دخل عليه، قال له عمر: يا حميد أنت القائل:
حميد الّذي أمجٌ داره ... أخو الخمر ذو الشَّيبة الأصلع
أتاني المشيب على شربها ... وكان كريماً فما ينزع
فقال: نعم. قال: أما إذ أقررت، فأني سأجلدك؟ قال ولم؟ قال: لأنك أقررت بشرب الخمر، وزعمت أنك تنزع عنها. فقال: هيهات، أين تذهب بك؟ ألم تسمع قول الله يقول: " والشُّعراء يتَّبعهم الغاوون، ألم تر أنَّهم في كلِّ وادٍ يهيمون وأنَّهم يقولون مالا يفعلون " ؟ قال عمر: أولى لك يا حميد، لقد أفلت. ثم قال: ويحك ياحميد، كان أبوك صالحاً، وأنت رجل سوء. قال: أصلحك الله، وأنت رجل صالح، وكان أبوك رجل سوء، وما كلُّ الناس يشبه أباه، فقال: إذن هؤلاء يزعمون أن أباهم توفي، وترك عندك مالاً. قال: صدقوا، وأنا أحضره الآن. فأحضره بخواتيم أبيهم، ثم قال: إن هؤلاء توفي أبوهم منذ كذا وكذا، وأنا أنفق عليهم من مالي وهذا مالهم. فقال عمر: ما أحدٌ أحقّ أن يكون عنده منك. قال: ما كان ليعود إليّ وقد خرج من عندي.
دخل الأحنف بن قيس التميمي على معاوية بن أبي سفيان يوماً، فقال: يا أحنف ما الشيء الملَّفف في البجاد؟ يعرض له بقول الشاعر:
إذا ما مات ميتٌ من تميمٍ ... فسرّك أن يعيش فجيء بزاد
بخبزٍ أو بتمرٍ أو بسمنٍ ... أو الشيء الملَّفف في البجاد
تراه يطوف في الآفاق حرصاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
والشيء الملفف في البجاد: وطب اللبن. فعلم الأحنف ما أراد معاوية بتعريضه، فقال: الشيء الملفف في البجاد هو السخينة يا أمير المؤمنين. وذلك أن قريشاً كانت تعّير بأكل السخينة. وهي حساء من دقيق كانوا يصنعونها عند المسغبة وغلاء السعر.

باب الأدب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما منح والدٌ ولده خيراً من أدب حسن " وفي رواية أخرى عنه عليه السلام أنه قال: " ما نحل والدٌ ولده خيراً من أدب حسن " .
قال سليمان بن داوود: من أراد أن يغيظ عدوَّه، فلا يرفع العصا عن ولده.
وقال محمد بن سيرين: كانوا يقولون: أكرم ولدك وأحسن أدبه.
كان يقال: من أدّب ولده أرغم أنف عدوه.
قال الحسن: التعلّم في الصغر كالنقش على الحجر.
قال الشاعر:
خير ما ورَّث الرّجال بنيهم ... أدبٌ صالحٌ وحسن الثّناء
هو خيرٌ من الدََّنانير والأو ... راق في يوم شدَّةٍ أو رخاء
تلك تفنى والدِّين والأدب الصَّ ... الح لا تفنيان حتَّى البقاء
إن تأدَّبت يا بنيّ صغيراً ... كنت يوماً تعدّ في الكبراء

وإذا ما أضعت نفسك ألفي ... ت كبيراً في زمرة الغوغاء
ليس عطف القضيب إن كان رط ... باً وإذا كان يابساً بسواء
قال لقمان : ضرب الوالد للولد كالّسماد للزرع.
قال بعض الحكماء: لا أدب إلاّ بعقل، ولا عقل إلا بأدب.
كان يقال: التجربة علم، والأدب عون، وتركه مضرّة بالعقل.
كان يقال: العون لمن لا عون له الأدب.
قال الأحنف: الأدب نور العقل، كما أنّ النار في الظلمة نورالبصر.
قال الأصمعيّ: ما مطيةٌ أبلغ دركاً وهي وادعة من الأدب.
قال بزرجمهر: أرفع منازل الشَّرف لأهله العلم والأدب.
وقيل: من قعد به حسبه نهض به أدبه.
وقال ابن أبي دؤاد لرجل تخطّى أعناق الرّجال إليه: إنّ الأدب المترادف خير من النَّسب المتلاحف.
كان يقال: الأدب من الآباء، والصّلاح من الله.
كان يقال: من أدّب ابنه صغيراً قرّت به عينه كبيراً.
وقال الحجاج لابن القرِّيَّة: ما الأدب؟ قال: تجرُّع الغصّة حتى تمكن الفرصة.
ووصف أعرابيٌّ الأدب في مجلس معمر بن سليمان، فقال: الأدب أدب الدّين، وهو داعيةٌ إلى التوفيق، وسببٌ إلى السعادة وزادٌ من التقوى، وهو أن تعلم شرائع الإسلام، وأداء الفرائض، وأن تأخذ لنفسك بحظّها من النافلة، وتزيد ذلك بصحّة النية، وإخلاص النفس، وحبّ الخير، منافساً فيه، مبغضاً للشرّ نازعاً عنه، ويكون طلبك للخير، رغبةً في ثوابه، ومجانبتك للّشِّر رهبةٌ من عقابه، فتفوز بالثواب، وتسلم من العقاب، ذلك إذا اعتزلت ركوب الموبقات، وآثرت الحسنات المنجيات.
وقال أعرابيٌ: الأديب من اعتصم بعزّ الأدب من ذلّة الجهل، ولم يتورط في هفوة، وكان أدبه زلفى إلى الحظوة في دنياه وأخراه.
قال منصور الفقيه:
ليس الأديب أخا الرِّوا ... ية للنّوادر والغريب
ولشعر شيخ المحدثين ... أبي نواسٍ أو حبيب
بل ذو التَّفضل والمرو ... ءة والعفاف هو الأديب
كان يقال: من لم يصلح على أدب الله لم يصلح على اختياره لنفسه.
الحطيئة:
إذا نكبات الدَّهر لم تعظ الفتى ... عن الجهل يوماً لم تعظه أنامله
ومن لم يؤدّبه أبوه وأمّه ... تؤدِّبه روعات الرَّدى وزلازله
فدع عنك ما لا تستطيع ولا تطع ... هواك ولا يذهب بحقّك باطله
وقال آخر:
من لم يؤدِّبه والداه ... أدَّبه الَّليل والنَّهار
وقال محمد بن جعفر: الأدب رياسة، والحزم كياسة، والغضب نار، والصَّخب عارٌ.
قال ابن القرِّيَّة: تأدبوا فإن كنتم ملوكاً سدتم، وإن كنتم أوساطاً رفعتم، وإن كنتم فقراء استغنيتم.
قال شبيب بن شبية: اطلبوا الأدب فإنّه عونٌ على المروءة، وزيادةٌ في العقل، وصاحبٌ في الغربة، وحليةٌ في المجالس.
قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قول الله عزّ وجل: " يا أيُّها الَّذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " ، قال: أدّبوهم وعلّموهم.
قال الشاعر:
يقوِّم من ميل الغلام المؤدِّب ... ولا ينفع التّأديب والرَّأس أشيب
وقال آخر:
إنّ الحداثة لا تقص ... ر بالفتى المرزوق ذهنا
لكن تزكِّى عقله ... فيفوق أكبر منه سنَّاً
وقال آخر:
رأيت الفهم لم يكن انتهابا ... ولم يقسم على مرِّ السِّنين
ولوأنَّ السِّنين تقاسمته ... حوى الآباء أنصبة البنين
قال مصعب بن عبد الله الزُّبيري: قال لي رجل من أهل الأدب فارسيّ النسب: إن ثلاثة ضروب من الرجال لم يستوحشوا في غربة، ولم يقصروا عن مكرمة: الشجاع حيث كان، فبالناس حاجة إلى شجاعته وبأسه، والعالم فبالناس حاجة إلىعلمه، والحلواللسان فإنه ينال ما يريد بحلاوة لسانه ولين كلامه، فإن لم تعط رباطة الجأش، وجرأة الصدر، فلا يفوتنك العلم وقراءة الكتب، فإن بها أدباً وعلماً قد قيَّدته لك العلماء قبلك، تزداد بها في أدبك وعلمك.
قال سابق البربريّ:
قد ينفع الأدب الأحداث في مهلٍ ... وليس ينفع بعد الكبرة الأدب
إنَّ الغصون إذا قوَّمتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قوّمتها الخشب
قيل لعيسى عليه السلام: من أدَّبك؟ قال: ما أدَّبني أحدٌ، رأيت جهل الجاهل فاجتنبته.

قال بعض الحكماء: أفضل ما يورِّث الآباء الأبناء: الثناء الحسن، والأدب النافع، والإخوان الصالحون، وأنشدوا:؟
ويعدم عاقلٌ أدباً فيجفو ... وتنسبه إلى غلظ الطِّباع
ومنزلة التَّأدب من أديبٍ ... بمنزلة السِّلاح من الشُّجاع
قال عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بنيّ لوعداكم ما أنتم فيه ما كنتم تعوّلون عليه؟ فقال الوليد:أما أنا ففارس حرب، وقال سليمان: أما أنا فكاتب سلطان، وقال ليزيد: فأنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين!؟ ما تركاغاية لمختار. فقال عبد الملك: فأين أنتم يا بنيّ من التجارة التي هي أصلكم ونسبتكم؟ فقالوا: تلك صناعة لا يفارقها ذل الرغبة والرهبة، ولا ينجوصاحبها من الدخول في جملة الدّهماء والرعية، قال: فعليكم إذاً بطلب الأدب، فإن كنتم ملوكاً سدتم، و إن كنتم أوساطاً رأستم، وإن أعوزتكم المعيشة عشتم.

باب ترويح القلوب وتنبيهها
قال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخوَّلنا بالموعظة مخافة السّآمة علينا.
وكان عليُّ بن أبي طالب يقول: إنّ هذه القلوب تملّ كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة.
وقال عليٌّ رضي الله عنه: نبّه بالتفكّر قلبك، وجاف عن النوم جنبك، واتق الله ربّك.
قال أبو الدّرداء: إني لأستجمُّ قلبي بشيءٍ من اللّهو، ليكون أقوى لي على الحقّ.
قال عبد الله بن مسعود: أريحوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمى.
وقال أيضاً: إنّ للقلوب شهوةً وإقبالا، وفترة وإدباراً، فخذوها عند شهواتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها.
كان يقال: الملالة تفسخ المودّة، وتولّد البغضة، وتنغّص اللّذة.
قال أرسطو طاليس: ينبغي للرّجل أن يعطي نفسه لذّتها في النهار ليكون ذلك عوناً لها على سائر يومه.
في صحف إبراهيم عليه السّلام: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعةٌ يناجي فيها ربّه، وساعةٌ يحاسب فيها نفسه، وساعةٌ يخلّي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويجمل، فإنّ هذه الساعة عونٌ له على سائر السّاعات.
قال عمر بن عبد العزيز: تحدثوا بكتاب الله تعالى، وتجالسوا عليه، وإذا مللتم فحديثٌ من أحاديث الرّجال حسنٌ جميل.
وقال بعض الحكماء من السَّلف:القلوب تحتاج إلى قوتها من الحكمة كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الغذاء.
دخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه، وهو في نوم الضّحى، فقال: يا أبت إنّك لنائم، وإنّ أصحاب الحوائج لراكدون ببابك فقال: يا بنيَّ إن نفسي مطيّتي، وإن حملت عليها فوق الجهد قطعتها.
قال الحسن البصريُّ رضي الله عنه: حادثوا هذه القلوب، فإنّها سريعة الدُّثور، وأفزعواهذه النفوس فإنها طلعة، وإن لم تفعلوا هوت بكم إلى شرّ غاية.
وقال غيره من العلماء: حادثوا هذه القلوب فإنّها تصدأ كما يصدأ الحديد، وقد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: " إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد " . قالوا: فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: " تلاوة القرآن " .
كان يقال: الفكرة مرآة المؤمن، تريه حسنه من قبيحه.
كان يقال: التفكر نورٌ، والغفلة ظلمة.
باب قولهم في وصف العيش
وما تتمنَّاه الَّنفس
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسمه، معه قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا " .
كان عمر بن الخطاب يعجبه قول عبدة بن الطبيب:
المرء ساعٍ لأمرٍ ليس يدركه ... والعيش شحٌ وإشفاقٌ وتأميل
قال أبو يعلى: حدثنا الأصمعي، قال: حدثنا محمد بن حرب الزِّيادي، قال: حدثني أبي قال: قال زيادٌ لجلسائه: من أغبط الناس عيشاً؟ قالوا: الأمير وجلساؤه.فقال :ما صنعتم شيئاً، إنّ لأعواد المنابر هيبة،و إنّ لفرع لجام البريد لفزعة، ولكن أغبط النّاس عندي: رجل له دارٌ لا يجري عليه كراؤها، وله زوجة صالحة، قد رضيته ورضيها فهما راضيان بعيشهما، لا يعرفنا ولا نعرفه، فإنّه إن عرفنا وعرفناه أتعبنا ليله ونهاره، وأفسدنا دينه ودنياه.
قال عمر: لما فتح الله على رسوله بني النضير وغيرهما، كان يتخذ منها لنفسه وعياله قوت سنة، ثم يجعل الباقي في الكراع والسّلاح في سبيل الله.
وقال سليمان: إذا أحرزت النفس قوتها اطمأنت.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إذا تمنّى أحدكم فليكثر، فإنّما يسأل ربّه " .

وليس في هذا معارضة لقول الله: " ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعضٍ " لأن معنى هذا عند العلماء أن يتمنى الرجل مال أخيه وامرأة أخيه، ليصرفه الله عنه إليه فذلك التمني المكروه.
قال محمد بن سيرين: نهيتم عن الأمانيّ، ودللتم على ما هو خير منها لكم، سلوا الله من فضله.
وقد ذكرنا في كتاب " التمهيد " معنى قوله عليه والسلام: " لا يتمنينّ أحدكم الموت لضرٍّ نزل به " ، عند قوله عليه السلام: " لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر أخيه فيقول: يا ليتني مكانه " . قال المنصور لإسحاق بن مسلم العقيلي: ما بقي من لذاتك؟ قال جليس يقصر به طول ليلي، وزائر أشتهي من أجله طول السهر.
وقال غيره: زائر أشتهي به طول السهر ودابة أشتهي من أجلها طول السفر.
قال مسلمة بن عبد الملك: العيش في ثلاثٍ: سعة المنزل، وموافقة المرأة، وكثرة الخدم.
قال عباية الجعفيّ: ما يسرُّني بنصيبي من التمني حمر النَّعم.
قال عبد الرحمن بن أم الحكم: لذة العيش في زحف الأحرار إلى طعامك، وبذل الأشراف وجوههم إليك فيما تجد السبيل إليه، وقول المنادي: الصلاة أيها الأمير.
قال قتيبة بن مسلم لوكيع بن أبي سود: ما السرور؟ قال: لواءٌ منشور،و جلوسٌ على السّرير، والسّلام عليك أيّها الأمير.
قيل لأمّ البنين: ما أحسن شيءٍ رأيت؟ قالت: نعم الله مقبلةً عليّ.
سأل قتيبة رجلاً: ما السّرور؟ قال: الولد الصالح والمال الواسع.
قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - : لذّة العيش ظفرك بمن تحبّ بعد امتناع، ولذة لا توجب عليك إثماً، وحقٌ وافق هوىً.
قيل لأبي حازم: ما اللّذة؟ قال: الموافقة، ولا أنيس كالصاحب المواتي.
وروى الرِّياشي عن الأصمعي قال: قال شبيب بن شيبة: عيش الدنيا في ثلاث: محادثة الإخوان، ومباشرة النسوان، وشم الصبيان.
قال بعض الحكماء: كثرة الالتفات سخف، ومجالسة الحمقى تورث النّوك، وكثرة المنى تخلق العقل، وتفسد الدين، وتنفي القناعة.
قال أبو العتاهية: ؟لله أصدق والآمال كاذبةٌ وجلّ هذي المنى في القلب وسواس ذكر عمرو بن بحر عن الأصمعي قال: قال بعضهم: الاحتلام أطيب من الغشيان، وتمنِّيك الشيء أوفر حظاً للّذة من قدرتك عليه.
قال عمرو بن بحر: كأنه ذهب إلى أن المال إذا ملك وجبت فيه حقوق، وخاف مالكه عليه الزوال، واحتاج إلى الحفظ، وكل من عظمت عليه نعمة الله عظمت مؤونة الناس عليه.
ذكر المدائني قال: قيل لامرئ القيس: ما أطيب عيش الدّنيا؟ فقال :بيضاء رعبوبة، بالطّيب مشبوبة، باللحم مكروبة.
وسئل الأعشى: أيّ العيش ألّذ؟ فقال: صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية.
وسئل طرفة، فقال: مطعمٌ شهيّ، وملبس زهيّ ومركب وطيّ.
وقال غيره:
أطيب الطَّيِّبات قتل الأعادي ... واختيالٌ على متون الجياد
وأيادٍ حبوتهنَّ كريماً ... إنّ عند الكريم تزكوا الأيادي
لبعض الحكماء: أسوأ الناس حالاً من اتسعت أمنيَّته وضاقت مقدرته، وبعدت همّته.
قيل لعبد الرحمن بن أبي بكرة: أيّ الأمور أمتع؟ فقال: ممازحة حبيب، ومحادثة خدين، وأمانٍ تقطع بها أيامك. وفي رواية أخرى عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، أنه قيل له: أيُّ شيءٍ أكثر إمتاعاً؟ قال: المنى.
قال بعض الأعراب، ويروي لأبي بكر العرزمي: ؟منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى وإلاَّ فقد عشنا بها زمناً رغدا
أمانيّ من سلمى عذابٌ كأنَّما ... سقتك بها سلمى على ظمإٍ بردا
اجتمع عبد الله وعروة ومصعب بنو الزبير بن العوام، عند الكعبة، فقال عبد الله:أحب ألا أموت حتى تجيء إليّ الأموال وأكون خليفة.
وقال مصعب: أحب أن أليَ العراقين - يعني الكوفة والبصرة - وأزوّج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة.
وقال عروة: لكني أسأل الله الجنة. فصار عبد الله ومصعب إلى ما تمنيا، ويرون أن عروة صار إلى الجنة.
كان المتمني بالكوفة إذا تمنى يقول: أتمنى أن يكون لي فقه أبي حنيفة، وحفظ سفيان، وورع مسعر بن كدام، وجواب شريك.
قال الأصمعيّ: قال لي بن أبي الزناد :المنى والحلم أخوان.
قال مالك بن أسماء: ؟؟ولمَّا نزلنا منزلاً طلَّه النّدى أنيقاً وبستاناً من النَّور حاليا
أجدَّ لنا طيب المكان وحسنه ... منىً فتمنَّينا فكنت الأمانيا
قال سلم الخاسر:

لولا منى العاشقين ماتوا ... أسىً وبعض المنى غرور
من راقب الناس مات غمّاً ... وفاز باللَّذة الجسور
وقال منصور الفقيه:
لوأنَّ ليتاً نفعت ... مع ترك ما ينفعني
ما كان لي قولٌ سوى ... يا ليتني لم أكن
وقال آخر:
ذهب البرد وآبا ... فاستوى العيش وطابا
وقال آخر:
ولي من تمنِّي النَّفس دنيا عريضةٌ ... ومصطبحٌ يغدو عليَّ ويطرق
تملِّكني الأموال لا فقر بعدها ... وعرساً غيوراً فاحشاً وتطَّلق
فقدت المنى لا نحن نلهو عن المنى ... لتجربةٍ منَّا ولا هي تصدق
وقال آخر:
وأكثر أفعال الليالي إساءةٌ ... وأكثر ما تلقى الأماني كواذبا
وأنشد نفطويه: ؟ الدهر يصدقنا وتكذبنا المنى بعداتها وتغرُّنا الآمال
وإذا المنيَّة أقبلت لم تثنها ... خيلٌ مطهّمةٌ ولا أموال
وقال آخر:
إنّ القناعة والعفا ... ف ليغنيان عن الغنى
فإذا صبرت على المنى ... فاشكر فقد نلت المنى
وقال عبد الملك بن حبيب:
صلاح أمري والَّذي أبتغي ... هينٌ على الرَّحمن في قدرته
ألفٌ من البيض وأقلل بها ... لعالمٍ أزرى على بغيته
زرياب قد يأخذها جملةً ... وصنعتي أشرف من صنعته
قال آخر: ؟مسيئات أيّام الزَّمان كثيرةٌ ومحسنة الأيام في الدَّهر أعلام
وعيشك فيما تستخصّ وتصطفي ... قصيرٌ وإن طالت ليالٍ وأيّام
فصل بسرور النَّفس عيشك إنَّه ... مضى مثل ما مرّت بعينك أحلام
قال بشار بن برد:؟
ذكرنا أحاديث الزَّمان الَّذي مضى ... فلذَّ لنا محمودها وذميمها
وقال آخر: ؟
من راقب الموت لم تكثر أمانيه ... ولم يكن طالباً ما ليس يعنيه
قيل لرقبة بن مصقلة: أنت بعيد الدار من المسجد، وتنصرف بلا مؤنس؟ قال: إني حين أخرج من المسجد أبتدئ أمنية فما تنقضي حتى أدخل المنزل.
قال لبيد بن أبي ربيعة:
؟واكذب الَّنفس إذا حدَّثتها ... إنّ صدق النَّفس يزري بالأمل
وقال آخر:
ربّ من بات يمنِّي نفسه ... حال من دون مناه أجله
قال يزيد على المنبر: ثلاث يخلقن العقل، وفيها دليلٌ على الضعف: سرعة الجواب، وطول المنى، والاستغراق في الضحك.
وقال الأحنف بن قيس: كثرة الأماني من غرور الشيطان.
قال حبيب:
من كان مرتع عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا
وقال آخر:
إذا تمنيت بت الليل مغتبطاً ... إن المنى رأس أموال المفاليس
وقال آخر: ؟إذا حدَّثتك النَّفس أنك قادرٌ على ما حوت أيدي الرِّجال فكذّب
فإن أنت لم تفعل ومال بك الهوى ... إلى بعض ما منّتك يوماً فجرِّب
قال أبو العتاهية:
إنما الفقر فضول التَّمنِّي ... فانسها واستوهب الله ذكرا
قيل لسليمان بن عبد الملك: ما اللّذة؟ قال:جليس ممتع أضع بيني وبينه التّحفُّظ.
قال الحجاج بن يوسف لخريم - وهو خريم بن خليفة بن سنان بن أبي حارثة المرّي - ما العيش؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش. قال: زدني قال: والشّباب، فإني رأيت الشّيخ لا ينتفع بعيش. قال: زدني. قال: والصّحة، فإني رأيت السّقيم لا ينتفع بعيشٍ. قال زدني. قال: لا أجد مزيداً.
قال أعرابيّ:
وما العيش إلاّ في الخمول مع المنى ... وعافيةٍ تغدو بها وتروح
وقال آخر:
إنّ الفتى يصبح للأسقام ... كالغرض المنصوب للسِّهام
أخطأ رامٍ وأصاب رام ... يقول: إنِّي مدركٌ أمامي
في قابل ما فاتني في العام
قيل لرجل من الحكماء: من أنعم الناس عيشاً؟ قال: من كفى همَّ الدنيا، ولم يهتم بالآخرة.
قال الشاعر:
لا تمنّ المنى فتغترّ جهلاً ... طالما اغترَّ بالمنى الجهلاء
قال آخر:؟
ليت شعري وأين منَّي ليت ... إنّ ليتاً وإنَّ لواً عناء

باب اختلاف الهمم في أنواع المال

عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " خير المال عينٌ ساهرةٌ لعين نائمة " .
وروي عنه عليه السّلام أنه كان يأمر الأغنياء باتّخاذ الغنم، ويأمر المساكين باتّخاذ الدَّجاج. قال مالك بن أنس - رحمه الله - : لما خرج مروان من المدينة مرّ بماله بذي خشب، فلما نظر إليه قال: ليس المال إلا ما أسرجت عليه المناطق.
قيل لابنة الخس:ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت:قنىً. قيل: فمائة من الضأن؟ قالت:غنىً قيل فمائة من الإبل؟ قالت: منىً.
وأما قول امرئ القيس: ؟لنا غنمٌ نسوِّقها غزارٌ كأنّ قرون جلَّتها العصيُّ فإنه أراد أنها كانت معزى، لوصفه قرونها بالعصي، وأما قوله:
فتملأ بيتنا إقطاً وسمناً ... وحسبك من غنىً شبعٌ وريُّ
فإنه زعم بعضهم أن، الإقط لا يكون إلا من لبن البقر، وقالوا: المعزى أكثر لبنا، وأكثر سمناً وزبداً.
قال المستورد: الذَّهب والورق حجران، إن تركتهما لم يزيدا، وإن أخذت منهما نفدا، والحيوان كالبقل إن أصابته الشمس ذوى، ولكن المال الأرض والماء.
قال ابن شهاب الزهريّ - رحمه الله - يخاطب أخاه عبد الله:
تتبّع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلّك يوماً أن تجاب فترزقا
وروى النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: " تسعة أعشار الرزق في التجارة، والعشر في السَّابياء " .
لما بلغ عمر بن الخطاب أن من نزل بالكوفة من الصحابة اتخذوا الضياع وعمروا الأرضين، كتب إليهم: لا تنهكوا وجه الأرض فإن شحمها في وجهها.
ولمابلغه أن عتبة بن غزوان وأصحابه بنوا باللَّبن كتب إليهم: وقد كنت أكره لكم ذلك، فإذا فعلتم فعرّضوا الحيطان، وأرفعوا السُّمك، وقاربوا بين الخشب.
باع رجل رجلاً أرضاً، فقال البائع: أما والله لقد أخذتها شديدة المؤونة قليلة المعونة - يعني الأرض - . فقال المبتاع: والله لقد أخذتها بطيئة الاجتماع سريعة التفرق - يعني الدراهم.
قالوا إذا بعد المال عن موضع ربّه قلت فوائده.
قال الشاعر:
سأبغيك مالاً بالمدينة إنَّني ... أرى عازب الأموال قلت فوائده
أوصى سهل بن حينف، أحد بني عبد الرحمن بن عوف، وكانت أمُّه أنصارية فقال له: إنك احبّ إخوتك إليّ، وإني موصيك بوصية: اعلم أنه لا عيلة على مصلح، ولا مال مع الخرق، واعلم أن خير المال العقل، وخير المال ما أطعمك ولم تطعمه وإن قلّ، واعلم أن الرقيق ليسوا بمال، ولكنهم جمال، واعلم أن الماشية إنما هي مال أهلها، وإن كنت متخذاً من المال شيئاً فمزرعة إن زرعتها انتفعت بها، وإلا لم ترزءك شيئاً. قال: فحفظت نصيحته، فكانت لي أنفع مما ورثت.
ذكر النخل والزّرع عند بعض الأشراف العقلاء فقال: شرينا النخل من فضول غلات الزرع، ولم نشتر الزرع من فضول غلات النخل.
قال الّليث بن سعد: لماا فتتحت إفريقية عجب الناس من كثرة ما أصابوا فيها من الأموال، فسألوا بعض من كان معهم من الأسرى، فبدر إلى شجرة زيتون كانت بين يديه، فأخذ منها عوداً وأراهم إياه، وقال: من هذا جمعنا هذه الأموال نصيب الزيتون فيأتينا أهل البحر والبر، والصحراء والرمل، يبتاعون منا الزيتون، فمن ثمَّ كثرت أموالنا.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن العاص: " هل لك يا عمرو أن أبعثك في جيشٍ يسلّمك الله ويغنمك وأرغب لك رغبة صالحة " .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم من حديث المقداد بن معدي كرب، وهو حديث صحيح، أنه قال صلّى الله عليه وسلّم: " ما أكل ابن آدم طعاماً خيراً له من أن يأكل من عمل يده، وكان داود عليه السلام يأكل من عمل يده " .
وكان داود عليه السلام يعمل القفاف الخوص، وقيل كان نوح نجاراً، وكان زكريا نجاراً صلى الله عليهما وسلَّم.
وأجمع العلماء أنّ أشرف الكسب: الغنائم، وما أوجف الله عليه بالخيل والرِّكاب، إذا سلم من الغلول. وقد سمّى الله الجهاد تجارة منجية من عذابٍ أليم.
قال بعض لصوص همدان:
ومن يطلب المال الممنّع بالقنا ... يعيش مثرياً أو تخترمه المخارم
متى تجمع القلب الذكيّ وصارماً ... وأنفاً حميّاً تجتنبك المظالم
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم

باب التجارة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الكسب عمل اليد، وكلّ بيع مبرور " .

وعنه عليه السلام أنه قال: " أفضل الكسب كسب الصَّانع إذا صحّح " .
وقال عليه السلام: " التجار هم الفجّار إلا من برّ وصدق " .
وقال عليه السلام: " التاجر الأمين الصدوق مع الشّهداء يوم القيامة " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر التجار؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!؟؟ ؟؟؟؟إن بيعكم هذا يشوبه الحلف، فشوبوه بالصّدقة " . وقال صلى الله عليه وسلّم: " الجالب مرزوقٌ والمحتكر ملعون " .
أو قال " ..مذموم " .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " تسعة أعشار الرّزق في التجارة، والعشر في السَّابياء " .
وقال عليه السّلام: " الّلهم بارك لأمّتي في بكورها " .
وروي عنه عليه السّلام أنه قال: " من أشراط السّاعة، أن يرفع العلم، ويقبض المال ، ويظهر القلم، وتكثر التجار " .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " من استقالة أخوه المسلم في بيع باعه منه، فأقاله أقالّه الله من عثرته يوم القيامة " .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :فرّقوا بين المنايا، واجعلوا الرَّأس رأسين.
وقال عمر: بع الحيوان أحسن ما يكون في عينك.
وقال ابن شهاب:مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابيّ وهو يبيع مسوّمة فقال: " عليك بأول سومة، أو بأول سوم، فإن الرّبح مع السَّماح " .
قيل للزبير رحمه الله: بم بلغت هذا المال؟ قال: إني لم أرد ربحاً، ولم أشتر عيباً.
كان يقال: الأسواق موائد الله في الأرض ، فمن أتاها أصاب منها.
قال خالد بن صفوان: في التِّجار لؤم الطبائع، وعيّ اللّسان، وموت القلب، وسوء الأدب، وقصر الهمة، والاشتمال على كل بليّة.
اشترى أعرابيٌ جملاً فندم عليه في شرائه، فجعل يصعِّد النظر فيه،ويصوبه ليجد ما يتوصّل به إلى ردّه فقال البائع: من طلب عيباً وجده.
يقال: الغبن في شيئين، في الرَّداءة أو الغلاء، فإذا استجدت فقد سلمت من أحدهما.
قال الراجز:
ما أرخص الغالي إذا كان حسن
وقال محمود الورَّاق:
وإذا غلا شيءٌ عليّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
قال معاوية - رحمه الله - لقوم: ما تجارتكم؟قالوا: بيع الرقيق قال: بئس التجارة ضمان نفس، ومئونة ضرس.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا اشتريت بعيراً فاشتره ضخماً، فإن لم توافق كرماً، وافقت لحماً.
ودخل مالك بن دينار السوق فجلس إلى قومٍ يحدثهم، فقال: كيف سوقكم؟ قالوا: كاسدة. قال:غششتم. قال: وكيف متاعكم؟ قالوا:رديء قال: كذبتم. قال:وكيف كثرته؟ قالوا:قليل. قال:حلفتم.
كان عبد الله بن مسعود يقول: عجباً للتاجر كيف يسلم إن باع مدح، وإن اشترى ذمّ.
قال سعيد بن المسيّب: إذا أبغض الله عبداً جعل رزقه في الصِّياح.يعني - والله أعلم - من لا صناعة له إلاّ النداء لغير صلاة محترساً بالليل وبراحاً بالنهار. ونحو هذا عن الفضيل بن عياض، وزاد كالملاحين ودونهم، ومنهم الذين يصيحون على أسوار المدن بالليل.
قال ابن عباس: من اشترى ما لا يحتاج إليه يوشك أن يبيع ما يحتاج إليه.
قال المغيرة بن حبناء:
وما كلُّ حينٍ يصدق المرء ظنُّه ... ولا كلُّ أصحاب التِّجارة يربح
ولابن شهاب الزُّهري:
ألا كلُّ من يهدي له البيع يرزق ... وقد يصلح المال اليسير الموفَّق
ولمنصور الفقيه:
بنيَّتي لا تجزعي واصبري ... عساك بصبرك أن تظفري
فلو نال يوماً أبوك الغنى ... كساك الدَّبيقيَّ والتُّستري
ولكن أبوك ابتلي بالعلوم ... فما إن يبيع ولا يشتري
بابَّ الرِّزق
قال الله عزَّ وجل: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدُّنيا " الآية.
وقال: " والله فضَّل بعضكم على بعضٍ في الرِّزق " .
سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أمَّ حبيبة تقول: الَّلهم متِّعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: " دعوت الله لآجالٍ معلومةٍ وأرزاقٍ مقسومة " .
وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: " أبى الله أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون " .
وقال عليه السلام: " استنزلوا الرِّزق بالصدقة " .
وقال عليه السلام: " ولا يحملنَّكم استبطاء الرِّزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا ينال ما عنده بما يكره، اتَّقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلّ، ودعوا ما حرم " .

وقال عليه السلام لعبد الله بن مسعود: " لا تكثر همَّك يا عبد الله، ما يقدَّر يكن، وما ترزق يأتك " .
قال الشاعر:
فإنَّك ما يقدر لك الله تلقه ... كفاحاً وتجلبه عليك الجوالب
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " .
أنشد ابن أبي الدنيا:
ومن ظنّ أنَّ الرِّزق يأتي بحيلةٍ ... فقد كذَّبته نفسه وهو آثم
يفوت الغنى من لا ينام عن السُّرى ... وآخر يأتي رزقه وهو نائم
فما الفقر في ضعف احتيالٍ ولا الغنى ... بكدٍّ وللأرزاق في النَّاس قاسم
سأصبر إن دهرٌ أناخ بكلكلٍ ... وأرضى بحكم الله ما الله حاكم
لقد عشت في ضيقٍ من الدَّهر مدَّةً ... وفي سعةٍ والعرض منِّي سالم
وقال جعفر بن محمَّد: إني لأملق فأتاجر الله بالصدقة فأربح.
وقال عروة بن الزبير: العاقل من إذا رزق ما لا نظر فيه، فإنه لا يدري لعله يكون آخر رزقه.
ومما يروي لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه نظر:
لو كان صخرةٍ في البحر راسيةٍ ... صمَّاء ملمومةٍ ملسٍ نواحيها
رزقٌ لعبدٍ يراه الله لانفلقت ... حتَّى يؤدَّي إليه كلُّ ما فيها
أو كان تحت طباق السَّبع مطلبها ... لسهَّل الله في المرقى مراقيها
حتَّى تؤدَّي الَّذي في الَّلوح خطّ له ... إن هي أتته وإلاَّ سوف يأتيها
وأنشد ابن الأعرابي:
الحمد لله ليس الرِّزق بالطَّلب ... ولا العطايا لذي عقلٍ ولا أدب
إن قدّر الله شيئاً أنت طالبه ... يوماً وجدت إليه أقرب السبب
وإن أبى الله ما تهوى فلا طلبٌ ... يجدي عليك ولو حاولت من كثب
وقد أقول لنفسي وهي ضيِّقةٌ ... وقد أناخ عليها الدَّهر بالعجب
صبراً على ضيقة الأيَّام إنّ لها ... فتحاً وما الصَّبر إلاّ عند ذي الأدب
سيفتح الله أبواب العطاء بما ... فيه لنفسك راحاتٌ من التّعب
ولو يكون كلامي حين أنشره ... من الُّلجين لكان الصَّمت من ذهب
وقيل لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد على كثرتهم؟ قال:كما قسَّم بينهم أرزاقهم.
ولسريج بن يونس المحدث:
يا طالب الرِّزق في الآفاق مجتهداً ... أتعبت نفسك حتَّى شفَّك التَّعب
تسعى لرزق كفاك الله مؤنته ... أقصر فرزقك لا يأتي به الطَّلب
كم من سخيفٍ ضعيف العقل نعرفه ... له الولاية والأرزاق والذَّهب
ومن حصيفٍ له عقلٌ ومعرفةٌ ... بادي الخصاصة لم يعرف له نشب
فاسترزق الله مما في خزائنه ... فالله يرزق لا عقلٌ ولا حسب
وقال آخر:
كم من قويٍّ قويٍ في تقلُّبه ... مهذّب الرأي عنه الرِّزق منحرف
وكم ضعيفٍ ضعيف الرأي تبصره ... كأنه من خليج البحر يغترف
أنشد أبو حاتم عن الأصمعي:
يا أيُّها المضمر همَّاً لا تهمّ ... إنك إن تقدر لك الحمَّى تحم
ولو علوت شاهقاً من العلم ... كيف توقّيك وقد جفّ القلم
قالوا: المقادير تبطل التقدير،وتنقض التدبير.
قال الشاعر:
إذا عقد القضاء عليك عقداً ... فليس يحلُّه إلا القضاء
وقال ابن المعتز:
يا مكلَّ العيس في ديمومةٍ ... يتبع الآمال كالباغي المضلّ
إنَّ مفتاح الذي تطلبه ... بيد المقدار فاصبر واتكل
فرغ الله من الرزق ومن ... مدَّة العمر ومن وقت الأجل
وقال أبو العتاهية:
وفدت إلى الله في وفده ... لألتمس الرِّزق من عنده
إذا ما قضى الله أمراً مضى ... ولم يقو حيٌّ على ردِّه
قال المفضَّل الضَّبِّي: قيل لأعرابيّ من أين معاشكم؟ قال: من أزواد الحاجّ. قلت: فإذا صدروا فبكى، ثم قال: لو كنا نعيش من حيث نعلم لم نعش.ثم قال: أتفهم؟ قلت:نعم،فقال:

هل الدَّهر إلاَّ ضيقةٌ فتفرَّج ... وإلا َجديدٌ ناضرٌ ثم ينهج
أرى النَّاس في الدُّنيا كسفرٍ تتابعوا ... على منهج ثم استقلُّوا فأدلجوا
فقال البربري:
يا أيُّها الظَّاعن في حظِّه ... إنَّما الظاعن مثل المقيم
كم من لبيبٍ عاقلٍ قلَّبٍ ... مصحَّح الجسم مقلٌ عديم
ومن جهولٍ مكثرٌ ماله ... ذلك تقدير العزيز العليم
حظك يأتيك وإن لم ترم ... ما ضرّ من يرزق ألاَّ يريم
كان يقال: بكّروا في طلب الرزق، فإن النَّجاح في التبكير.
قال أبو هريرة:إذا سأل أحدكم الله الرزق فلينظر كيف يسأل، فإن الله يرزق الحلال والحرام، ولكن ليقل الّلهم ارزقني ما ينفعني ولا يضرني.
قالوا: الرزق رزقان رزق لا يأتيك إلا بالتسبّب ورزق يأتيك به الله من حيث لا تحتسب. وقلت أنا الرزق رزقان.فرزق تطلبه، ورزق يأتيك عفواً.
قال عروة بن أذينة أو بكر بن أذينة، وهو الصحيح:
إنِّي لأعلم والأقدار نافذةٌ ... أنّ الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلُّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنِّيني
وقال آخر:
توكَّل على الرَّحمن في كلِّ حاجةٍ ... ولا تؤثرنّ العجز يوماً على الطّلب
ألم تر أن الله قال لمريم ... إليك فهزِّي الجذع يسَّاقط الرُّطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزِّها ... جنته ولكن كلُّ شيءٍ له سبب
وقال آخر:
ما يغلق الله باب الرِّزق عن أحدٍ ... إلاَّ سيفتح دون الباب أبوابا
وقال بكر بن حماد:
النَّاس حرصى على الدُّنيا وقد فسدت ... فصفوها لك ممزوج بتكدير
فمن مكبٍ عليها لا تساعده ... وعاجزٍ نال دنياه بتقصير
لم يدركوها بعقلٍ عندما قسمت ... وإنما أدركوها بالمقادير
لو كان عن قدرةٍ أو عن مغالبةٍ ... طار البزاة بأرزاق العصافير
وقال آخر:
قد يرزق المرء لم تتعب رواحله ... ويحرم الرِّزق من لم يؤت من تعب
وإنني واجدٌ في النَّاس واحدةً ... الرِّزق أروغ شيءٍ عن ذوي الأدب
ولعلي بن هشام:
المرء يسعى ويسعى الرِّزق يطلبه ... وربّما اختلفا في السَّعي والطلب
حتَّى إذا قدَّر الرَّحمن جمعهما ... للإتّفاق أتاك الرزق عن كثب
وقال آخر:
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
قال بعض الحكماء: الحلال يقطر قطراً والحرام يسيل سيلا.
قال الغزال:
طالب الرِّزق الحلال لا يقر ... نهاره وليله على سفر
في الحرِّ والبرد وأوقات المطر ... وماله في ذاك نزرٌ محتقر
إنّ الحلال وحده لا يختمر ... أين ترى مالاً حلالاً قد ثمر
ما إن رأينا صافياً منه كثر
قال الناشئ:
إذا المرء أحمى نفسه كلّ شهوةٍ ... لصحَّة أيّامٍ تبيد وتنفد
فما باله لا يحتمي عن حرامها ... لصحّة ما يبقى له ويخلَّد
وقال آخر:
إنَّ الحرام غزيرةٌ حلباته ... ووجدت حالبة الحلال نزورا
قال أكثم بن صيفي: من فاته الرزق فبالعاقبة ظفر.
قال منصور الفقيه:
أرزاقنا مقسومةٌ وهكذا آجالنا ... فما تحول بيننا وبينها أحوالنا
وله أيضا:
ما ضيّع الله خلقاً ... فأتَّقي أن أضيعا
الله يرزق من لا ... يطيعه والمطيعا
فاجعل سكوتك لله ... ونجواك جميعا
وكلُّ بؤسي ونعمي ... سيفنيان سريعا
وقال آخر:
يا ربَّما جاءني مالا أؤمِّله ... وربَّما خاب مأمولٌ ومنتظر
لو زاد في الرزق حرصٌ أو مطالبةٌ ... ما كان من قد يطيل الكدّ يفتقر
ولأبي يعقوب إسحاق بن حسَّان الخريمي:
أقلِّى عليّ الَّلوم يا أمَّ مالكٍ ... فلم يؤت من حرصٍ على المال طالبه

فوالله ما قصَّرت في وجه مطلبٍ ... أرى أن فيه مطلباً فأطالبه
ولكن لهذا الرزق وقتٌ موقَّتٌ ... يقسّمه بين البريَّة واهبه
وأسهرني طول التَّفكر إنَّني ... عجبت لأمرٍ ما تقضَّى عجائبه
أرى فاجراً يدعى جليداً لظلمه ... ولو كلِّف التَّقوى لكلَّت مضاربه
وعّفاً يسمَّى عاجزاً لعفافه ... ولولا التُّقى ما أعجزته مذاهبه
وأحمق مصنوعاً له في أموره ... يسوِّده إخوانه وأقاربه
على غير حزمٍ في الأمور ولا تقىً ... ولا نائلٍ جزلٍ تعدّ مواهبه
فليس لعجز المرء أخطأه الغنى ... ولا باحتيال أدرك المال كاسبه
ولكنَّه قبض الإله وبسطه ... فمن ذا يجاريه ومن ذا يغالبه
أنشدني خلف بن قاسم، قال: أنشدنا محمد بن عبيد الله الصَّيدلانّي، قال: أنشدنا عليّ بن سليمان الأخفش:
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شدّ بعنسٍ رحلاً ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والرَّ ... حل ومن لا يزال مغتربا
وقال محمود الوراق:
قيامة من مات في موته ... وإخمال ما شاع من صوته
ترى المرء يجزع من فوت ما ... لعلَّ السَّلامة في فوته
ويفنى ولم تفن آماله ... وإعمال سوف إلى ليته
وكم أزعج الحرص من راغب ... إلى الصِّين والرِّزق في بيته
ولأبي الأسود الدؤلي أو المرزمي:
وعجبت للدُّنيا وحرفة أهلها ... والرِّزق فيما بينهم مقسوم
والأحمق المرزوق أعجب ما أرى ... من أهلها والعاجز المحزوم
ثم انقضى عجبي لعلمي أنَّه ... رزقٌ موافٍ وقته معلوم
وقال آخر:
ليس بالعقل يطلب المرء رزقاً ... كم رأينا من أحمقٍ مرزوق
وأصيل من الرجال نبيلٍ ... سدَّ عنه الحرمان كل طريق
وقال آخر:
الرّزق يأتي قدراً على مهل ... والمرء مطبوعٌ على حبّ العجل
وقال آخر:
يا راكب الهول والآفات والهلكة ... لا تعجلنَّ فليس الرِّزق بالحركة
من غير ربَّك في السَّبع العلى ملكاً ... ومن أدار على أرجائها فلكه
أما ترى البحر والصَّيَّاد تضربه ... أمواجه ونجوم الَّليل مشتبكة
يجرّ أذياله والموج يلطمه ... وعقله بين عينه كلكل السَّمكة
حتَّى إذا راح مسروراً بها فرحاً ... والحوت قد شكّ سفُّود الرَّدى حنكة
أتى إليك به رزقاً بلا تعبٍ ... فصرت تملك منه مثل ما ملكه
لطفاً من الله يعطي ذا بحيلته ... هذا يصيد وهذا يأكل السَّمكة
وقال أبو العتاهية:
طال همِّي بغير ما يعنيني ... وطلابي فوق الَّذي يكفيني
ولو أني كففت لم أبغ رزقي ... كان رزقي هو الذي يبغيني
أحمد الله ذا المعارج شكراً ... ما عليها إلاَّ ضعيف اليقين
وقال آخر:
لعمرك ما كلُّ التعطُّل ضائرٌ ... ولا كل شغلٍ فيه للمرء منفعه
إذا كانت الأرزاق في القرب والنَّوى ... عليك سواءٌ فاغتنم لذَّة الدَّعه
وإن ضقت فاصبر يكشف الله ما ترى ... فياربَّ ضيقٍ في جوانبه سعه
وقال آخر:
هوِّن عليك فإن الأمر مقدور ... وكلّ شيءٍ من الأشياء مسطور
والرِّزق والخلق والآجال قد قسمت ... وأحكمتها وزمَّتها المقادير
فليس يقدر مرءٌ صرف واحدةٍ ... منها ولو كثرت منه التَّدابير
كم من رأيناه ذا مالٍ وذا سعةٍ ... وذا غضارة عيشٍ وهو محبور
لا يعرف الله جهلاً خاطئاً حمقاً ... لولا غناه لعافته الخنازير
لم يركب الهول في قفرٍ ولا لججٍ ... ولا تكلَّف أمراً فيه تغيير

لكن أتاه الغنى حتَّى أناخ به ... وما تقدَّم منه فيه تفكير
وآخرٌ رجلٌ ناهيك من رجلٍ ... علاَّمةٌ بأمور النَّاس تحرير
قد جال في الأرض حتَّى لم يدع أفقاً ... شرقاً وغرباً وما في ذاك تقصر
وقد تكمَّلت الآداب واجتمعت ... فيه العلوم وما تحوي القماطير
ولم تفته من الأشياء واحدةٌ ... يحظى بها رجلٌ إلاَّ الدَّنانير
كان يقال:إذا لم يرزق الإنسان ببلدة فليتحوَّل إلى أخرى.
قال ابن القاسم: سمعت مالكاً :يقول بلغني أنَّ عمر بن الخطاب قال: من كان له رزقٌ في شيء فليلزمه.
قال وقال مالك: سمعت أهل مكَّة يقولون: ما من أهل بيت فيهم اسم محمَّدٍ إلا رزقوا ورزق خيراً.
قال العكّي:
يا ربّ فتيانٍ ذوي غربةٍ ... أبناء أسفارٍ مقلِّينا
ما أدركوا في طول تطوافهم ... خفضاً من العيش ولا لينا
وسهَّل الله بتوفيقه ... ما أمَّلوه للمقيمينا
وإذا الأرزاق مقسومةٌ ... يقسمها الله فيعطينا
ولسهل الورَّاق:
أرى اثنين في الدنيا وشتَّان ما هما ... وما منهما إلاَّ عجيبٌ شؤونه
أخو حركاتٍ في المكاسب معدمٍ ... على أنَّه فيها قليلٌ سكونه
وآخر مثرٍ ذو سكونٍ كأنَّما ... على رزقه ذاك السُّكون يعينه
ألا ربَّما يأسى اللبيب لما يرى ... ويكمد حتَّى تستهلّ جفونه
كريمٌ جفاه دهره فهو ضائعٌ ... ولا ريب إلاَّ أنَّ دهراً يخونه
ووغدٌ لئيم الطَّبع تحوي يمينه ... مكاسب ما خفت بهنَّ يمينه
فذاك على إقتاره ذو تجمّل ... وذا مقرفٌ جعد البنان ضنينه
إذا غاص في ذا مفكرٌ طاش عقله ... ولم يدر ما أسبابه وفنونه
جدودٌ وفيها للمفكر عبرةٌ ... طويلٌ بها وسواسه وشجونه
ولولا اعتصام المرء بالعلم إنه ... نجاةٌ لأهليه لساءت ظنونه
وما كان ربِّي عزَّ ربَّيبجائرٍولكنَّه علم عجيبٌ يصونه
شهدت بأن الله عدلٌ قضاؤه ... وإني بدين الموقنين أدنيه
وقال آخر:
وقد يحرم الله الفتى وهو عاقلٌ ... ويعطي الفتى مالاً وليس بذي عقل
وذلك عدلٌ من حكومة ربِّنا ... يجود ويعطي وهو ذو النائل الجزل
وقال آخر:
لا تعذلي لم أقصِّر ويك في الطّلب ... أيّ البلاد وأيّ الأرض لم أجب
هذا وفيّ خلالٌ كلُّها سببٌ ... إلى الغنى غير أن الرِّزق لم يجب
والله أحمد في رزقي فما صرفت ... عنِّي المكاسب إلاَّ حرفة الأدب
وقال الوليد بن عبيد البحتريّ:
وآيسني علمي بألاّ تقدُّمي ... مفيدي ولا مزرٍ علىَّ تأخُّري
ولو فاتني المقدور مما أرومه ... بسعيٍ لأدركت الذي لم يقدَّر

باب الحرص والأمل
الحرص على أكل الشجرة أخرج آدم من الجنة.
كان يقال: شدة الحرص من سبل المتالف.
وقال الأحنف : آفة الحرص الحرمان، ولا ينال الحريص إلاّحظّه.
كان الحسن البصريّ يقول: ما بعد أملٌ إلاّ ملَّ عمل.
كان يقال: من أطال الأمل أمات العمل.
قال بعض الحكماء : الإنسان لا ينفكُّ من الأمل، فإن فاته الأمل قوي على المنى.
قال: والأمل يقع بسبب، وباب المنى مفتوح لمن أراد الدخول فيه.
من كلام الحكماء: الرزق مقسوم، والحريص محرومٌ، والحسود مغمومٌ، والبخيل مذموم.
قال الخليل بن أحمد: ؟الحرص من شرّ أذاة الفتى لا خير في الحرص على حال
من بات محتاجاً إلى أهله ... هان على ابن العمِّ والخال
وقال غيره: الحرص مفسدة، والبخل مبغضة، والعجلة خطأ، والرفق يمن، والبذاء شؤم.
وقال آخر:
أيُّها الدَّائب الحريص المعنَّى ... لك رزقٌ وسوف تستوفيه
فاسأل الله وحده ودع النّا ... س وأسخطهم بما يرضيه

لا ينال الحريص شيئاً فيكفي ... ه وإن كان فوق ما يكفيه
وقال محمود الوراق:
غنى النَّفس يغنيها إذا كنت قانعاً ... وليس بمغنيك الكثير مع الحرص
وإن اعتقاد الهمِّ للخير جامعٌ ... وقلَّة همِّ المرء تدعو إلى النغص
وقال أيضاً:
لا تحمدنَّ أخا حرصٍ على سعةٍ ... وانظر إليه بعين الماقت القالي
إنّ الحريص لمشغول بشوقته ... عن السُّرور بما يحوي من المال
وقال محمود الوراق أيضاً:
علام يشقى الحريص في طلب الرِّز ... ق بطول الرَّواح والدَّلج
يا قارع الباب ربّ مجتهدٍ ... قد أدمن القرع ثم لم يلج
وربّ مستولجٍ على مهلٍ ... لم يشق من قرعه ولم يهج
فاطو على الهمِّ كشح مصطبرٍ ... فآخر الهمِّ أول الفرج
وقال آخر :
يا أيها النَّاس كان لي أملٌ ... أعجلني عن بلوغه الأجل
فليتَّق الله ربَّه رجلٌ ... أمكنه في حياته العمل
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل:
وبالغ أمر كان يأمل دونه ... ومختلجٍ من دون ما كان يأمل
وكان يتمثل أيضا:
لا يغرَّنك عشاءٌ ساكنٌ ... قد يوافى بالمنيَّات السَّحر
كان المأمون يعجبه قول أبي العتاهية:
تعالى الله يا سلم بن عمرٍو ... أذلَّ الحرص أعناق الرِّجال
أخذه أبو الفتح الملقب بكشاجم فقال:
بالحرص في الرِّزق يذّل الفتى ... وفي القنوع الشَّرف الشَّامخ
قال أبو عمر: وشعر أبي العتاهية الذي فيه هذا البيت الذي أعجب المأمون:
نعى نفسي إليّ من الَّليالي ... تصرُّفهنَّ حالاً بعد حال
فما لي لست مشغولاً بنفسي ... ومالي لا أخاف الموت مالي
لقد أيقنت أنِّي غير باقٍ ... ولكنِّي أراني لا أبالي
تعالى الله يا سلم بن عمرٍو ... أذلّ الحرص أعناق الرِّجال
هب الدُّنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى زوال
فما ترجو بشيءٍ ليس يبقى ... وشيكاً ما تغيِّره الَّليالي
قال:فلما بلغ سلماً الخاسر قول أبي العتاهية، قال:
ماأقبح التَّزهيد من واعظٍ ... يزهِّد النَّاس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقاً ... أصحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الدنيا فما باله ... يكتنز المال ويسترفد
يخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا تنفد
الرزق مقسومٌ على من ترى ... يسعى له الأبيض والأسود
ولأبي العتاهية شعر في عروض شعره هذا وقافيته أوله:
أتدري أيّ ذلٍّ في السُّؤال ... وفي بذل الوجوه إلى الرِّجال
شعر حسن جيد في معناه قد ذكرته في باب القناعة من هذا الكتاب.
قال زياد بن أبي سفيان: اثنان يتعجلان النَّصب ولا يظفران بالبغية: الحريص في حرصه، ومعلِّم البليد ينبو عنه فهمه.
قال داود الطائي: يا ابن آدم ارتحلك الحرص فأنساك أجلك، ونصب لك أملك ورب حريص محروم، وواجد مذموم.
قال مسلم بن قتيبة: في إفراط الحرص مذلّة قبل إدراك الطلبة.
كانوا يقولون: أول دناءة الحرص ، تأميل البخل.
قال محمود الوراق: ؟أراك يزيدك الإثراء حرصاً على الدُّنيا كأنَّك لا تموت
فهل لك غايةٌ إن صرت يوماً ... إليها قلت حسبي قد رضيت
وقال آخر:
الحرص داءٌ قد أضرَّ ... بمن ترى إلاَّ قليلا
كم من عزيز قد رأي ... ت الحرص صيَّره ذليلا
فتجنَّب الشَّهوات واح ... ذر أن تكون لها قتيلا
فلربّ شهوة ساعةٍ ... قد أورثت حزناً طويلا
وقال آخر:
كم إلى كم انت للحر ... ص وللآمال عبد
ليس يجدي الحرص والشُّغ ... ل إذا لم يك جدُّ
ما لما قد قدّر الَّل ... ه من الأمر مردّ
وقال محمود الوراق:
لا ينفع الجدّ والتَّشمير والحذر ... خطّ الكتاب فلا ورد ولا صدر

تستعجل النَّفس آمالاً لتبلغها ... كأنَّها لا ترى ما يصنع القدر
وقال آخر:؟؟
كلُّنا نأمل مداً في الأجل ... والمنايا هنَّ آفات الأمل
وقال آخر:
لقد غرَّت الدُّنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلةٍ ما بعدها متحوَّل
فساخط أمرٍ لا يبدَّل غيره ... وراضٍ بعيشٍ غيره سيبدَّل
وبالغ أمرٍ كان يأمل غيره ... ومختلجٍ من دون ما كان يأمل
وقال محمود الوراق:
الحرص عونٌ للزّمان على الفتى ... والصَّبر نعم العون للأزمان
لا تخضعنَّ فإنّ دهرك إن رأى ... منك الخضوع أمدَّه بهوان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن غلبك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، وإياك واللّو، فإن الَّلوَّ يفتح عمل الشيطان " .
ولأبي عبد الله الصُّوري:
لمَّا رأيت النَّاس قد أصبحوا ... وهمَّة الإنسان ما يجمع
قنعت بالقوت فنلت المنى ... والفاضل العاقل من يقنع
ولم أنافس في طلاب الغنى ... علماً بأنَّ الحرص لا ينفع
ولبكر بن حمَّاد:
الناس حرصى على الدُّنيا وقد فسدت ... فصفوها لك ممزوج بتكدير
في أبيات ذكرتها في باب " ذكر الدُّنيا " من هذا الكتاب.
باب الطَّمع واليأس
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستعيذ بالله من طمعٍ في غير مطمع، ومن طمعٍ يقود إلى طبع.
قال عمر بن الخطاب : ما شيء أذهب لعقول الرجال من الطمع.
وفي حديث آخر أن عمراً وابن الزبير قالا لكعب: ما يذهب العلم من صدور الرجال بعد أن علموه؟ قال: الطمع، وطلب الحاجات إلى الناس.
وقال كعب: الصَّفا الزَّلاَّل الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء : الطمع.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: في اليأس الغنى، وفي الطمع الفقر، وفي العزلة راحة من خلطاء السوء.
قال عمرو بن عبيد: في المؤمن ثلاث خلال: يسمع الكلمة التي تؤذيه فيضرب عنها صفحاً كأن لم يسمعها، ويحبُّ للناس ما يحبُّ لنفسه، ويقطع أسباب الطمع من الخلق.
قال أبو العتاهية:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أنَّي قنعت لكنت حرّا
ولإسحاق الموصلي: الُّلؤم والذُّلّ والضَّراعة والفا - قة في أصل أذن من طمعا قال ابن المبارك رضي الله عنه: ما الذلُّ إلاّ في الطمع.
وقال غيره:ويح من غرّه الطمع، وتمادى به الولع.
وقال أبو العتاهية:
أذلَّ الحرص والطَّمع الرِّقابا
وله أيضاً:
إنّ المطامع ما علمت مذلَّةٌ ... للطّامعين وأين من لا يطمع
وقال محمود الوراق:
وما زلت أسمع أنَّ النُّفوس ... مصارعها بين أيدي الطَّمع
وقال بعض الحكماء: قلوب الجَّهال تستعبد بالأطماع، وتسترقُّ بالمنى، وتنال بالخدائع.
قال محمد بن أبي حازم:
جعلت غنيمة الأطماع يأساً ... فآوتني إلى كنفٍ وديع
فتلك مطَّية الإقبال غفلاً ... بلا رحلٍ يشدُّ ولا نسوع
وقال آخر:
اليأس عمَّا بأيدي الناس مكرمةٌ ... والرِّزق يصحب والأرزاق تتَّسع
؟لا تجزعنَّ على ما فات مطلبه ها قد جزعت فماذا ينفع الجزع
إنَّ السَّعادة يأسٌ إن ظفرت به ... بعض المراد وإنَّ الشَّقوة الطمع
أتى رجلٌ إلى خالد بن عبد الله القسريّ، فقال: أتكلم بجرأة اليأس، أم بهيبة الأمل؟ قال بل بهيبة الأمل. فسأله حاجةً فقضاها.
وقال الهمداني:؟
فلا الحرص يغنيني ولا اليأس ما نعى ... نصيبي من الشَّيء الَّذي أنا آمله
وقال محمود الوراق:
حدَّثت باليأس عنك النَّفس فانصرفت ... واليأس أحمد مرجوٍّ من الطَّمع
فكن على ثقةٍ أنِّي على ثقةٍ ... ألاَّ أعلِّل نفسي منك بالخدع
محوت ذكرك من قلبي ومن أذني ... ومن لساني فصل إن شئت أو فدع
إنَّ اَّلذي ببلاد الصِّين أقرب لي ... وساء منتجعاً لو رمت منتجعي
إذا تباعد قلبي عنك منصرفاً ... فليس يدنيك منِّي أن تكون معي
وقال آخر:

ولا تلبث الأطماع من ليس عنده ... من الدِّين شيءٌ أن تميل به النّفس
كان بشر بن الحارث ينشد هذه الأبيات كثيراً متمثلاً بها:
المرء يزرى بلبِّه طمعه ... والدَّهر فاعلم كثيرةٌ خدعه
والنَّاس إخوان كلِّ ذي نشبٍ ... قد جاع عبدٌ إليهم ضرعه
وكلُّ من كان مسلماً ورعاً ... يشغله عن عيوبهم ورعه
كما المريض السَّقيم يشغله ... عن وجع النَّاس كلِّهم وجعه
وقال آخر:
الله أحمد شاكراً ... فبلاؤه حسنٌ جميل
أصبحت مسروراً معا ... فًى بين أنعمه أجول
خلواً من الأخزان خفّ ... الظهر يغنبني القليل
ونفيت باليأس المنى ... عنِّي فطاب لي المقيل
والنَّاس كلهم لمن ... خفَّت مؤونته خليل
باب ذمِّ السُّؤال
وحمد ما جاء عن غير مسألة من النَّوال
روى ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عمر بن الخطاب عطاءً، فقال عمر: يا رسول الله أعطه من هو أفقر مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف إليه، ولا سائل له فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك " .
قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحداً ولا يردّ شيئاً أعطيه.
قال ثوبان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تسألوا الناس " قال: فما سألت أحداً شيئاً بعدها، فكان سوطه يسقط من يده، فما يسأل أحداً أن يناوله إياه.
ومن حديث مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطائه فردّه، فقال له: " لم رددته " ؟ فقال: يا رسول الله! أليس أخبرتنا أن خيراً لأحدنا ألاّ يأخذ من أحد شيئاً؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " إنما ذلك عن المسألة، فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق ساقه الله إليك " . فقال عمر: والذي نفسي بيده لا أسأل أحداً شيئاً ولا يأتيني شيءٌ من غير مسألة إلا أخذته.
قال أبو الدَّرداء: إنّ أحدكم يقول: اللهم ارزقني،و قد علم أنَّ الله لا يخلق له ديناراً ولا درهماً،وإنما يرزق بعضكم من بعض، فإذا أعطي أحدكم شيئاً فليقبله، فإن كان غنياً فليضعه في أهل الحاجة من إخوانه، وإن كان إليه فقيراً فليستعن به على حاجته ولا يردّ على الله رزقه الذي رزقه.
قال عبد الله بن عمر: ما يمنع أحدكم إذا أتاه الله برزق لم يسأله أن يقبله، فإن كان غنياً عاد به على أخيه، وإن كان محتاجاً كان رزقاً قسمه الله له.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم " . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " للسائل خدوشٌ أو كدوحٌ يكدح بها الرّجل وجهه إلاّ أن يسأل ذا سلطان " .
وروي عنه عليه السلام، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال " إذا دخل السّائل بغير إذنٍ فلا تطعموه " .
وقال عليه السلام: " من كان لا بدّ سائلا فليسأل الصّالحين، أو ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بداً " .
وقد أشبعنا هذا الباب وأوضحنا معانيه في كتاب " التمهيد " والحمد لله.
رفع الواقديُّ - رحمه الله - إلى المأمون رقعة، فوقع فيها المأمون: إنك رجلٌ فيك خلّتان:سخاءٌ وحياءٌ، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي منعك من أن تطلعنا على ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بثلاثة آلاف درهم. فان كنا أصبنا إرادتك فذاك، وإن لم نكن فبجنايتك على نفسك، وأنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد، عن محمد بن إسحاق، عن الزُّهري، عن أنس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للزُّبير " يا زبير! إن مفاتيح الرزق، بإزاء العرش، ينزل الله للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثَّر كثِّر له، ومن قلَّل قلِّل له " . قال الواقديّ: فقلت له: يا أمير المؤمنين! قد نسيت هذا الحديث،فكان تذكارك إياي له أعجب إليّ من الجائزة.
قال أبو العتاهية:
إذا ما المرء صرت إلى سؤاله ... فما تعطيه أكثر من نواله
ومن عرف المحامد جدّ فيها ... وحنَّ إلى المكارم باحتياله

ولم يستغل محمدةً بمالٍ ... ولو كانت تحيط بكلِّ ماله
عيال الله أكرمهم عليه ... أبثُّهم المكارم في عياله
وللفقيه أبي عمر بن عبد البر رضي الله عنه:
تعفُّف المرء عن سؤاله ... وكسبه الحلّ باحتياله
وسعيه في الصلاح عيشٍ ... لمن يواريه من عياله
مروءةٌ وبالغٌ بها ... من يبلغها منتهى كماله
ومن يصن وجهه يزنه ... صيانة الوجه من جماله
رضي الفتى بالقضاء عزٌُّ ... وذلَّة الوجه في ابتذاله
ولأبي دلف العجلي:
بلوت مرارة الأشياء طرّاً ... فما شيءٌ أمرّ من السُّؤال
ولم أر في الخطوب أشدّ هولاً ... وأصعب من معاداة الرِّجال
وقال أعرابي:
علام سؤال النَّاس والرِّزق واسع ... وأنت صحيحٌ لم تخنك الأصابع
وفي العيش أوطارٌ وفي الأرض مذهبٌ ... عريضٌ وباب الرِّزق في الأرض واسع
فكن طالباً للرِّزق من رازق الغنى ... وخلِّ سؤال النَّاس فالله صانع
وحج هارون الرشيد، فأرسل إلى سفيان بن عيينة فأمره أن يحدث بنيه، فقال يا أمير المؤمنين قد سألني الناس فامتنعت عليهم، ولكني أجلس لبنيك وللناس، فقال: نعم. فلما جلس صاح به الناس: سألناك الجلوس لنا فأبيت علينا،فلما جاءك المال والجائزة جلست.فقال للمستملي: أنصتهم لي.فصاح المستملي: صه صه. فسكت الناس، فأخرج سفيان بن عيينة رأسه إليهم،وقال: حدثني الزهري، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما شيءٌ أحل وأطيب من ثلاثة :صداق الزوجة، والميراث،وما أتاك الله به من غير مسألة، فإنه رزق ساقه الله إليك " .والله ما جئت هذا الرجل ولا سألته شيئاً من ماله،ولو وجّه إليّ شطر ماله لقبلته،ثم أدخل رأسه ولم يحدثهم في ذلك الموسم بشيء.
أشخص المنصور سواراً القاضي من البصرة إلى بغداد في شيء أراد أن يشافهه فيه، فمر بواسط، وفيها يحيى بن سعيد الأنصاري يتولى القضاء،فدلَّ عليه، فقال له:ألك حاجة إلى أمير المؤمنين؟ قال: نعم يعفيني من القضاء. فقال سوار للمنصور إذ قدم عليه، وكلمه فيما أراد: يا أمير المؤمنين! الأنصار تعلم ما يجب في حقهم. قال:هيه. قال: يحيى بن سعيد تعفيه من القضاء. قال :قد أعفيته.فلما انحدر سوار مرّ بواسط، فقال ليحيى بن سعيد: قد أعفاك أمير المؤمنين. فقال: لا جزاك الله خيراً عن صبية من الأنصار كانوا يقتاتون هذه الست مائة درهم في كلّ شهر.
كأنه أراد أن يعرّض ولا يحقّق.
كان الحسن البصريّ رحمه الله يقول: لا يردّ جوائزهم إلاّ أحمق أو مراءٍ، وقد ذكرنا من رأى قبول جوائز السلطان من أئمة أهل العلم، ومن تورع عن ذلك منهم في كتاب " التمهيد " والحمد لله.
قال مطرِّف بن الشِّخير: إذا كانت لأحدكم إليّ حاجة فليرفعها في رقعة ولا يواجهني بها، فإني أكره أن أرى في وجه أحدكم ذل المسألة.
وقد روي عن يحيى بن خالد بن برمك مثل ذلك، وتمثل: ؟ مااعتاض باذل وجهه بسؤاله عوضاً ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السُّؤال مع النوال وزنته ... رجح السُّؤال وخفّ كلُّ نوال
لبعض الكتاب إلى عبد الله بن طاهر:
ولقد علمت وإن نصبت لي المنى ... أنّ الخصاصة لا تداوى بالمنى
فلئن وفيت لأنهضنَّ بشكركم ... ولئن أبيت لأحملنَّ على القضا
فأنجز له عبد الله بن طاهر عدته.
قال الحسن بن عبيد البغدادي:
صن الوجه الّذي إن لم تصنه ... بقيت وأنت في الدُّنيا ذليل
وعش حراً ولا يحملك ضرٌ ... على مرعىً له غبٌّ وبيل
فليس الرّأي إلاَّ الصَّبر حتّى ... يديل اليسر من عسرٍ مديل
أليس لكلِّ آفلةٍ طلوعٌ ... بلى ولكل طالعةٍ أفول
وكان أبان بن عثمان رحمه الله يتمثل:
مالي تلادٌ ولا استطرفت من نشبٍ ... وما أؤمِّل غير الله من أحد
إني لأكرم وجهي أن أوجِّهه ... عند السُّؤال لغير الواحد الصَّمد
عزّ القناعة والإيمان يمنعني ... من التَّعرُّض للمنَّانة النَّكد

رضيت بالله في يومي وفي غده ... والله أكرم مأمولٍ لبعد غد
قال أبو العتاهية:
أتدري أيَّ ذلٍّ في السُّؤال ... وفي بذل الوجوه إلى الرِّجال
يعزُّ على التَّنزّه من رعاه ... ويستغني العفيف بغير مال
إذا كان السُّؤال ببذل وجهي ... فلا قرِّبت من ذاك النَّوال
معاذ الله من خلقٍ دنيٍّ ... يكون الفضل فيه عليَّ لالي
وقال أيضاً:
لو رأى النَّاس نبياً ... سائلاً ما رحموه
ولأبي دلف أو لعبد الله بن طاهر:
أعجلتنا فأتاك عاجل برِّنا ... قلاً ولو أمهلتنا لم يقلل
وقال عبد الصمد بن المعذَّل في حين قدوم يحيى بن أكثم البصرة، قالت له امرأته لو أتيته فسألته ،فقال:
تكلِّفني إذلال نفسي لعزِّها ... وهان عليها أن أهان لتكرما
تقول: سل المعروف يحيى بن أكثمٍ ... فقلت سليه ربَّ يحيى بن أكثما
وقال مسلم بن الوليد:
أقول لمأفون البديهة طائر ... مع الحرص لم يغنم ولم يتموَّل
سل الناس إنِّي سائل الله وحده ... وصائن عرضي عن فلانٍ وعن فل
قال حبيب:
وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي
قال محمود الوراق:
يا أيُّها الطَّالب من مثله ... رزقاً له جرت عن الحكمه
لا تطلب الرِّزق إلى طالبٍ ... مثلك محتاجٍ إلى الرَّحمه
وارغب إلى الله الذي لم يزل ... في يده النعمة والنِّقمه
وقال يونس:
إنّ الوقوف على الأبواب حرمان ... والعجز أن يرجو الإنسان إنسان
حتى تأمل مخلوقاً وتقصده ... إن كان عندك بالرحمن إيمان
عطاؤه لك إن أعطاكه ضعةٌ ... فكيف إن كان بعد المطل حرمان
ثق بالذي هو يعطي ذا ويمنع ذا ... في كلِّ يومٍ له في خلقه شان
قال محمود الوراق:
إنَّ السُّؤال فعدَّ عنه قليلهثمنٌ لكلِّ عطيَّةٍ أو مال
والحال تقعد بالكريم فما ترى ... فيه لعزِّته تغيُّر حال
وقال أيضاً:
شاد الملوك قصورهم وتحصَّنوا ... من كلِّ طالب حاجةٍ أو راغب
غالوا بأبواب الحديد تمنعاً ... قد بالغوا في قبح وجه الحاجب
فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... بادي الضَّراعة طالباً من طالب
وقال النمر بن تولب:
لا تغضبنَّ على امرئٍ في ماله ... وعلى كرائم صلب مالك فاغضب
وقال عبيد بن الأبرص:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
وقال النمر بن تولب
ومتى تصبك خصاصةٌ فارج الغنى ... وإلى الَّذي يهب الرَّغائب فارغب
وقال أبو الأسود الدؤلي:
وإنَّ أحقَّ النَّاس إن كنت مادحاً ... لمدحك من أعطاك والعرض وافر
وقال سلم الخاسر:
وفتى خلا من ماله ... ومن المرؤة غير خال
أعطاك قبل سؤاله ... وكفاك مكروه السُّؤال
قال قيس بن عاصم: إياكم والمسألة، فإنها آخر كسب الرجل.
دخل أعرابيٌّ على داود بن مزيد المهلَّبي، فقال: إني لم أصن وجهي عن مسألتك، فصن وجهك عن ردِّي، وضعني من كرمك بحيث وضعتك من أملي فيك، قال:قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم، وهي أكثر من قدرك. قال:والله لئن جاوزت قدري فما بلغت قدرك.
قال أبو الفرج البيغاء:
ما الذُّلّ إلاَّ تحمّل المنن ... فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
وقال آخر:
أمن بيت الكلاب طلبت عظماً ... لقد حدَّثت نفسك بالمحال
وقال آخر:
لعن الله نائلاً ترتجيه ... من يدي من تريد أن تقتضيه
أيّ فضلٍ لصاحب الفضل من بع ... د تقاضيه وابتذال الوجوه
إنما الفضل والسَّماح لمن يع ... طيك عفواً وماء وجهك فيه
أيُّها الدَّائب الحريص المعنَّى ... لك رزقٌ وسوف تستوفيه
فسل الله وحده ودع النَّا ... س وأسخطهم بما يرضيه

أن ترى معطياً لما منع الل ... ه ولا مانعاً لما يعطيه
وقال آخر:
إذا ما كنت متخذاً خليلاً ... فخالل مثل حسان بن سعد
فتىً لا يرزأ الإخوان شيئاً ... ويرزؤه الخليل بغير كدّ
وقال آخر:
ولست بسائل الأعراب شيئاً ... حمدت الله إذ لم يأكلوني
وقال أعرابي:
إنَّ المسائل للرِّجال مذلَّةٌ ... تفنى منافعها ويخلد عارها
وقال آخر:
... ويمسي ليس يملك درهما
يبيت يراعي النَّجم من سوء حاله ... ويصبح ضاحكاً متبسِّما
ولا يسأل المثرين ما في رحالهم ... ولو مات هزلاً عفَّةً وتكرُّما
ولا يسألن من كان يسأل مرَّةً ... وإن كثرت أمواله وتدرهما
وقال ربيعة الرَّقِّي:
ولا تسأل الناس ما يملكون ... ولكن سل الله واستكفه
ولا تخضعنَّ إلى سفلةٍ ... وإن كانت الأرض في كفِّه
فإنَّ الَّلئيم وإن خلته ... كريماً يذودك عن عرفه
ويرجع محصول أخلاقه ... إلى أصله وإلى صنفه
وكل مقلٍّ وذي ثروةٍ ... فإنّ المنيَّة من خلفه
وقال محمود الوراق:
اسأل العرف إن سألت كريماً ... لم يزل يعرف الغنى واليسارا
فقليل الشَّريف يكسب مجداً ... وكثير الوضيع يكسب عارا
وإذا لم يكن من الذُّلِّ بدٌّ ... فالق بالذُّلِّ إن لقيت الكبارا
ليس إجلالك الكبير بذلٍّ ... إنَّما الذُّلُّ أن تجلَّ الصِّغارا
وقال أيضاً:
يا أيها المتعب بزل الجمال ... وطالب الحاجات من ذي النَّوال
لا تحسبنّ الموت موت البلى ... فإنَّما الموت سؤال الرِّجال
كلاهما موتٌ ولكنّ ذا ... أشدُّ من ذاك لذلِّ السُّؤال
وقال محمود بن الحسن النحاس الوراق:
بخلت وليس البخل منِّي سجيَّةً ... ولكن رأيت الفقر شرَّ سبيل
لموت الفتى خيرٌ من البخل للفتى ... وللبخل خيرٌ من سؤال بخيل
فلا تسألن من كان يسأل مرَّةً ... فللموت خيرٌ من سؤال سؤل
لعمرك ما شيءٌ لوجهك قيمةٌ ... فلا تلق إنساناً بوجه ذليل
وقال ابن المعتز:
يا ربَّ جودٍ جرّ فقر امرئٍ ... فقام للنَّاس مقام الذَّليل
فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خيرٌ من سؤال البخيل
وقال أعرابي لص:
وإنِّي لأستحيى من الله أن أرى ... أطوف بحبلٍ ليس فيه بعير
وأن أسأل المرء اللَّئيم بعيره ... وبعران ربِّي في البلاد كثير
وفي التمهيد أبيات في هذا المعنى ذوات عدد حسان لم أذكرها ها هنا.

باب انتظار الفرج
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انتظارالفرج بالصبر عبادة " .
ويروى لأبي محجن الثقفي:
عسى فرجٌ يأتي به الله إنَّه ... له كلَّ يومٍ في خليقته أمر
عسى ما ترى ألاَّ يدوم وأن ترى ... له فرجاً ممَّا ألحّ به الدَّهر
إذا اشتدَّ عسرٌ فارج يسراً فإنَّه ... قضى الله أنَّ العسر يتبعه اليسر
وقال الأضبط بن قريع:
لكلِّ ضيقٍ من الأمور سعه ... والمسى والصُّبح لا بقاء معه
وقال آخر:
كن عن همومك معرضاً ... وكل الأمور إلى القضا
وابشر بخيرٍ عاجلٍ ... تنسى به ما قد مضى
فلربَّ أمرٍ مسخطٍ ... لك في عواقبه الرِّضا
كان يقال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو.
قال الشاعر:
كن لما لا ترجو من الأمر أرجى ... منك يوماً لما له أنت راج
إنَّ موسى مضى ليطلب ناراً ... من ضياء رآه والَّليل داج
فأتى أهله وقد كلَّم الل ... ه وناجاه وهو خير مناج
وكذا الأمر كلَّما ضاق بالنَّا ... س أتى الله فيه ساعةً بالانفراج
وقال منصور الفقيه:

" وما عسرٌ لمنتظر الفرج " وقال بشار:
خليليّ إنَّ الصَّبر سوف يفيق ... وإنّ يساراً في غدٍ لخليق
وما خاب بين الله والنَّاس عاملٌ ... له في التُّقى أو في المحامد سوق
ولا ضاق فضل الله عن متعفِّفٍ ... ولكنّ أخلاق الرِّجال تضيق
وقال آخر:
روِّح فؤادك بالرِّضا ... ترجع إلى روحٍ رطيب
لا تيأسنّ وإن ألحّ ... الدَّهر من فرجٍ قريب
وقال آخر:
لعمرك ما كلُّ التَّعطل ضائرٌ ... ولا كلُّ مسعىً فيه للمرء منفعه
إذا كانت الأرزاق في القرب والنَّوى ... عليك سواءً فاغتنم لذَّة الدَّعه
وإن ضقت فاصبر يفرج الله ما ترى ... ألا ربّ ضيقٍ في عواقبه سعه
وقال آخر:
ربَّما خير لامرئٍ ... وهو للأمر كاره
ربَّ خيرٍ أتاك من ... حيث تأتي المكاره
وقال أحمد بن محمود، وقيل إنها لأحمد بن صالح:
إذا اشتملت على النَّاس الخطوب ... وضاق لما به الصَّدر الرَّحيب
وأوطنت المكاره واطمأنَّت ... وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانفراج الضِّيق وجهاً ... وقد أعيى بحيلته الأريب
أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ ... يمنّ به الَّلطيف المستجيب
وكلُّ الحادثات إذا تناهت ... فموصولٌ بها الفرج القريب
ومولانا الإله فخير مولى ... له إحسانه ولنا الذُّنوب
وقال الشاعر:
لعمرك ما يدري الفتى كيف يتَّقي ... نوائب هذا الدَّهر أم كيف يحذر
يرى الشَّيء ممَّا يتَّقي فيخافه ... وما لا يرى ممَّا يقي الله أكبر
وقال منصور الفقيه:
إذا الحادثات بلغن المدى ... وكادت لهنَّ تذوب المهج
وحلّ البلاء وقلّ الوفا ... فعند التَّناهي يكون الفرج
وقال آخر:
واصبر على الدَّهر إن أصبحت منغمراً ... بالضِّيق في لججٍ تهوى إلى لجج
فما تجرَّع كأس الصَّبر معتصمٌ ... بالله إلاَّ أتاه الله بالفرج
لا تيأسن إذا ما ضقت من فرجٍ ... يأتي به الله في الرَّوحات والدُّلج
وإن تضايق بابٌ عنك مرتتجٌ ... فاطلب لنفسك باباً غير مرتتج
قال أبو العتاهية في نفيع حاجب موسى الهادي:
ما ترى عند نفيعٍ منفعه ... فسل الرَّحمن رزقاً في دعه
إن يكن أمسك عنَّا نيله ... فسيغني الله كلاً من سعه
وقال أبو العتاهية:
النَّاس في الدِّين والدُّنيا ذوو درجٍ ... والمال ما بين موقوفٍ ومختلج
من صاق عنك فأرض الله واسعةٌ ... في كلّ وجه مضيقٍ وجه منفرج
قد يدرك الرَّاقد الهادي برقدته ... وقد يخيب أبو الرَّوحات والدُّلج
خير المذاهب في الحاجات أنجحها ... وأضيق الأمر أدناه من الفرج
وقال آخر:
سأصبر للزَّمان وإن رماني ... بأحداثٍ تضيق بها الصُّدور
وأعلم أنَّ بعد العسر يسراً ... يدور به القضاء المستدير
ومما ينسب إلى الشافعي رضي الله عنه، وقيل إنها لسهل الوراق، والله أعلم:
سيفتح بابٌ إذا سدّ باب ... نعم وتهون الأمور الصِّعاب
ويتَّسع الحال من بعد ما ... تضيق المذاهب فيها الرِّحاب
مع الهمّ يسران هوّن عليك ... فلا الهمّ يجدي ولا الإكتئاب
فكم ضقت ذرعاً بما هبته ... فلم ير من ذاك قدرٌ يهاب
وكم بردٍ خفته من سحابٍ ... فعوفيت وانجاب عنك السّحاب
ورزقٌ أتاك ولم تأته ... ولا أرّق العين منه الطِّلاب
وناءٍ عن الأهل ذي غربةٍ ... أتيح له بعد يأسٍ إياب
وناجٍ من البحر من بعد ما ... علاه من الموج طامٍ عباب
إذا احتجب النَّاس عن سائلٍ ... فما دون سائل ربِّي حجاب

يعود بفضلٍ على من رجاه ... وراجيه في كلِّ حين يجاب
فلا تأس يوماً على فائتٍ ... وعندك منه رضاً واحتساب
فلا بدّ من كون ما خطّ في ... كتابك تحبى به أو تصاب
فمن حائلٌ دون ما في الكتاب ... ومن مرسلٌ ما أباه الكتاب
في أبيات قد ذكرتها في موضعها من هذا الكتاب.
وقال محمد بن يسير:
إنّ الأمور إذا انسدّت مسالكها ... فالصَّبر يفتق منها كلَّ ما ارتتجا
لا تيأسنَّ وإن طالت مطالبةٌ ... إذا استعنت بصبرٍ أن ترى فرجا
أخلق بذي الصَّبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وقال محمد بن حازم الباهلي:
هوِّن عليك فكلّ الأمر ينقطع ... وخلّ عنك عنان الهمّ يندفع
فكلُّ همٍّ له من بعده فرجٌ ... وكل أمرٍ إذا ما ضاق يتِّسع
إنَّ البلاء وإن طال الزَّمان به ... فالموت يقطعه أو سوف ينقطع
وقال آخر:
رأيت الأمر يبعد بعد قربٍ ... ويدنو الأمر بالقدر المسوق
فلا تفرح بأمرٍ إن تدانى ... ولا تيأس من الأمر السَّحيق
وقال ابن المبارك:
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدرٌ وأبعدها إذا لم تقدر
وقال آخر:
إن يكن يومي تولّى سعده ... وتداعى لي بنحسٍ ونكد
فلعلّ الله يقضي فرجاً ... في غدٍ من عنده أو بعد غد
وقال آخر:
أحسن الظَّنّ بمن قد عوّدك ... حسناً أمس وسوَّى أودك
إنّ رباً كان يكفيك الَّذي ... كان بالأمس سيكفيك غدك
قال العبسي:خرجت حاجاً فضاق صدري، فجعلت أقول:
أرى الموت لمن أمسى ... على الذُّلِّ له أصلح
فإذا هاتف من ورائي يقول:
يا أيُّها المرء الَّذي ... يرى الهمّ به برَّح
إذا ضاق بك الصَّدر ... ففكِّر في ألم نشرح
وقال آخر:
رأيت العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كلِّ قيل
فلا تجزع وقد أعسرت يوماً ... فقد أيسرت في دهرٍ طويل
ولا تظنن بربِّك ظنّ سوءٍ ... فإنّ الله يأتي بالجميل
ذكر الطحاوي قال: حدثنا أحمد بن أبي عمران، قال:حدثنا أبو النصر أحمد بن حاتم، قال: حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، قال:استعمل الحجّاج أبي علي بعض أعماله فنقم عليه فتوارى أبي عنه في بادية قومه وأنا معه، فبينا أنا في سحر من الأسحار إذ مرّ راكب وهو يقول:
صبِّر الَّنفس عند كلّ ملمٍّ ... إنّ في الصَّبر حيلة المحتال
لا تضق في الأمور ذرعاً فقد ... يكشف غمَّاؤها بغير احتيال
ربَّما تجزع الُّنفوس من الأم ... ر له فرجةٌ كحلّ العقال
قال: فقلت: ما ذاك؟ قال: مات الحجاج. فوالله ما أدري بأيهما كنت أشد فرحا، أبقوله مات الحجاج أم بقوله :فرجة.
قال العطوي:
مستشعر الصّبر مقرونٌ به الفرج ... يبلى ويصبر والأشياء تنتهج
حتَّى إذا بلغت مقدور غايتها ... جاءتك تضحك عن ظلمائها السُّرج
فاصبر ودم واقرع الباب الَّذي طلعت ... منه المطامع فالمغرى به يلج
يقدِّر الله فارج الله وارض به ... ففي إرادته الغمَّاء تنفرج
وقال هلال بن العلاء الرَّقّي:
هوِّن عليك مصائر الدُّ ... نيا تكن سبلاً فجاجا
لا تضجرنَّ بضيقةٍ ... يوماً فإنَّ لها انفراجا
وقال آخر:
كلوا اليوم من رزق الإله وأبشروا ... فإنّ على الرحمن رزقكم غدا
وقال منصور الفقيه:
يامن يخاف أن يكو ... ن ما يخاف سرمدا
أما سمعت قولهم ... إنّ مع اليوم غدا
وقال أبو العتاهية:
هي الأيَّام والغير ... وأمر الله منتظر
أتيأس أن ترى فرجاً ... فأين الله والقدر
باب الجدِّ والحدّ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجدِّ منه الجدّ " .

قال أكثم بن صيفي:جدُّك لا كدُّك.
قال أشجع السُّلمي:
سبق القضاء بكلِّ ما هو كائنٌ ... فليجهد المتقلِّب المحتال
قالوا: أسعد الناس: من كان القضاء له مساعداً، وكان لذلك أهلا، وأشقى الناس: من كان مشغولاً بلا دين ولا دنيا، ولم يثق بأحد لسوء ظنه، ولا وثق به أحدٌ لسوء فعله.
قال أبو الأسود الدُّؤلي:
المرء يحمد سعيه من جدِّه ... حتَّى يزيَّن بالَّذي لم يعمل
وترى الشَّقيَّ إذا تكامل حدُّه ... يرمي ويقذف بالَّذي لم يفعل
أنشد ابن الأعرابي:
الجدُّ أنهض بالفتى من عقله ... فانهض بجدٍّ في الحوادث أو ذر
فلقد يجد المرء وهو مقصرٌ ... ويجدُّ ثم يحدُّ غير مقصِّر
وقال يزيد بن محمَّد المهلَّبيّ:
وإذ جددت فكلّ شيءٍ نافعٌ ... وإذا حددت فكلُّ شيءٍ ضائر
وإذا أتاك مهلَّبيٌ في الوغى ... والسَّيف في يده فنعم النَّاصر
قال أبو يعقوب الخزيمي، وإسمه إسحاق بن حسَّان:
لا تنظرنّ إلى عقلٍ ولا أدب ... إن الجدود قرينات الحماقات
وقال خراش بن زهير:
وكانت قريشٌ يفلق الصَّخر جدُّها ... إذا أوهن النَّاس الجدود العواثر
وقال الحارث بن حلِّزة:
عش بخيرٍ لا يضر ... ك النَّوك ما لاقيت جدَّا
والنَّوك خيرٌ في ظلا ... ل الرّزق ممَّن عاش كدَّا
وقال آخر:
فعش في ظلّ أنوك حالفته ... مقاديرٌ يساعدها الصَّواب
ذهاب المال في حمدٍ وأجرٍ ... ذهابٌ لا يقال له ذهاب
قيل لزياد:ما الحظّ؟ قال: من طال عمره، ورأى في عدوه ما يسره فهو ذو حظ.
وكان يقال لا حظّ إلا ما أشخص عنك ما تكره، وجلب إليك ما تحب.
قال محمد بن أبي حازم الباهلي:
لا تعجبنّ لأحمقٍ ... نال الغنى من غير كدِّه
ولعاقلٍ ما يستقلّ ... فكُّلهم يسعى بجدِّه
وقال امرؤ القيس:
وقاهم جدَّهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابيّ:
وما لبّ الَّلبيب بغير حظٍّ ... بأغنى في المعيشة من فتيل
رأيت الحظّ يستر عيب قومٍ ... وهيهات الحظوظ من العقول
ولحسان أو لابنه عبد الرحمن:
وإنَّ امرءاً يمسي ويصبح سالماً ... من النَّاس إلاَّ ما جنى لسعيد
وقال أعرابيّ:
وإنّ الَّذي ينجو من النَّار بعدما ... تزوَّد من أعمالها لسعيد
ولبعض أهل عصرنا:
أرى همم المرء ما لم يكن ... يساعده السَّعد همَّاً عليه
وقد يعجز المرء ذو الإحتيال ... إذا الله لم يقض رزقاً إليه
وقال صالح بن عبد القدوس:
وليس رزق الفتى من حسن حيلته ... لكن جدودٌ بأرزاقٍ وأقسام
كالصَّيد يحرمه الرَّامي المجيد وقد ... يرمي فيرزقه من ليس بالرَّامي
ولرجل من بني قريع أو للمعلوط، وقيل: إنها لحاتم الطائي:
متى مايرالنَّاس الغنيَّ وجاره ... فقيرٌ يقولوا عاجزٌ وبليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظٍ قسِّمت وجدود
وكائن رأينا من غنىٍّ مذمَّمٍ ... وصعلوك قومٍ باد وهو حميد
ومعطى ثراء المال من غير قوَّةٍ ... ومحروم جمع المال وهو جليد
ٍوقال حبيب الطائي:
أبا جعفر ٍإنّ الجهالة أمُّها ... ولودٌ وأمّ العلم جذَّاء حائل
وله أيضاً:
فإنِّي ما حورفت في طلب الغنى ... ولكنَّكم حورفتم في المكارم
احتاج أبو الأسود الدؤلي إلى جار له يستقرض منه، وكان حسن الظَّنِّ به، فاعتلَّ عليه ودفعه، فقال أبو الأسود :
فلا تطمعن في مال جارٍ لقربه ... فكلّ قريبٍ لا ينال بعيد
وفوِّض إلى الله الأمور فإنَّما ... تروح بأرزاقٍ عليك جدود
ولا تشعرنَّ النَّفس يأساً فإنَّما ... يعيش بجدٍّ عاجزٌ وبليد
وفي نحو هذا لبعض أهل عصرنا:

تجشَّم جسيم الهول في طلب المجد ... فنيل الغنى بين التَّجشُّم والكدِّ
ودع قول ذي جهلٍ يرى العجز راحةً ... ذر الكدّ فيما رمته المنع بالجدِّ
وقال آخر:
تطلَّبت حتَّى لم أجد متطلَّباً ... وبالجدِّ يسعى المرء لا بالتَّطلُّب
كتب كسرى إلى بزرجمهر وهو في الحبس: جنت لك ثمرة العلم أن صرت به أهلا للقتل.فكتب إليه بزرجمهر: أما ما كان معي الجد فقد كنت أنتفع بثمرة العلم، والآن إذ ولّى عني الجدّ، فقد أنتفع بثمرة الصبر.
قال سابق البربري:
والنَّاس في طلب المعاش وإنَّما ... بالجدِّ يرزق منهم من يرزق
ولو أنَّهم رزقوا على أقدارهم ... ألفيت أكثر ما ترى يتصدَّق
ما النَّاس إلاَّ عاملان فعاملٌ ... قد مات من عطشٍ وآخر يغرق
وقال البحتري:
ألا ليت المقادر لم تقدَّر ... ولم تكن الأحاظي والجدود
فتعلم أيُّنا يغدو ويمسي ... له هذي المواكب والعبيد
وقال حبيب الطائي:
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدى الفتى في دهره وهو عالم
وقال ابن دريد:
لا ينفع العلم بلا جدٍّ ولا ... يحبطك الجهل إذا الجدُّ علا
وقال الحسين بن أحمد:
بالجدِّ أجدى على امرئٍ طلبه ... ومن يطل حرصه يطل تعبه
وقال آخر:
عش بجدٍّ وكن هبنَّقة القي ... ي نوكاً أو شيبة بن الوليد
عش بجدٍّ ولا يضرك نوكٌ ... إنما عيش من ترى بالجدود
هبنقة القيسي اسمه يزيد بن ثروان، وكنيته أبو نافع، أحد بني قيس بن ثعلبة، وهو الذي شرد له بعير فجعل لمن جاء به بعيرين، فقيل له: لم هذا؟ قال: فأين فرحة الوجدان؟ وأنشدني محمد بن نصر الكاتب رحمه الله لنفسه:
لا تشرهنّ إلى دنيا تملكها ... قومٌ كثيرٌ بلا عقلٍ ولا أدب
ولا تقل إنَّني أبصرت ما جهلوا ... من الإرادة في مرٍّ ومنقلب
فبالجدود هم نالوا الَّذي ملكوا ... لا بالعقول ولا بالعلم والحسب
وأيسر الجدُّ نحوي كلَّ ممتنعٍ ... على التَّمكُّن عند البغي والطَّلب
وإن تأمَّلت أحوال الَّذين مضوا ... رأيت من ذا وهذا أعجب العجب
وقال إبراهيم بن المهدي:
قد يرزق المرء لم تتعب رواحله ... ويحرم الرِّزق من لم يؤت من تعب
مع أنَّني واجدٌ في النَّاس واحدةً ... الرِّزق أروغ شيءٍ عن ذوي الأدب
وخلَّةٍ قلّ فيها من يخالفني ... الرِّزق والنَّوك مقرونان في سبب
يا ثابت العقل كم عانيت ذا حمقٍ ... الرِّزق أولى به من لازم الجرب
وقال آخر:
ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً فيه لي شوم
إن المقدم في حذف بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم
وقال آخر:
كفى حزناً أنَّ الغنى متعذِّرٌ ... عليَّ وأنِّي بالمكارم مغرم
فوالله ما قصَّرت في نيل غايةٍ ... ولكنَّني أسعى إليها فأحرم
وقال آخر:
ليس عن حيلة الرِّجال أصابوا ال ... مال بل قسمةٌ لهم وجدود
منهم العاجز المرجَّى له الرِّ ... زق ومنهم محارفٌ مجدود
قال بشار بن برد:
ما ضر أهل النَّوك ضعف الكدِّ ... صادف حظاً من سعي بجدِّ
وقال البحتري:
وآيسني علمي بألاَّ تقدُّمي ... مفيدي ولا مزرٍ على تأخُّري
ولو فاتني المقدور ممَّا أرومه ... بسعيٍ لأدركت الَّذي لم يقدَّر
وقال الصابي:
إذا جمعت بين امرأين صناعةٌ ... وأحببت أن تدري الَّذي هو أحذق
فلا تتأمَّل منهما غير ما به ... جرت لهما الأرزاق حين تفرَّق
فحيث يكون النَّوك فالرِّزق واسعٌ ... وحيث يكون الحذق فالرِّزق ضيِّق
باب المال حمداً وذمّاً
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " قلب الشَّيخ شابٌ في حب اثنتين: طول الحياة وكثرة المال " .

وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " نعم المال الصَّالح للرجل الصالح " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدِّينار والدِّرهم أهلكا من كان قبلكم وإنهما مهلكاكم " .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " لكلّ أمةٍ فتنة، وفتنة أمتي المال " .
وقال أيضاً: " إنَّ أحساب أهل الدُّنيا التي إليها ينتمون: المال " .
وقال عليه السلام: " ما ذئبان جائعان أرسلا في حظيرة غنم بأفسد لها من حب المال، والسَّرف لدين المؤمن " .
قال قيس بن عاصم لبنيه حين حضرته الوفاة: يا بني عليكم بالمال واصطناعه، فإنه منبهةٌ للكريم، ويستغنى به عن اللئيم.
قال الحسن البصري: لكل أمة وثن يعبدونه، وصنم هذه الأمة الدينار والدرهم.
وقال الحسن:إذا أردت أن تعلم من أين أصاب الرجل ماله، فانظر فيم أنفقه ، فإن الخبيث ينفق في السرف.
قال أبو ذرّ أموال الناس تشبه الناس، وعن أبي ذر أيضا: إنما مالك لك، أو للوارث أو للجائحة، فلا تكن أعجز الثلاثة.
قال أكثم بن صيفي: من ضعف عن كسبه اتكل على زاد غيره.
قال سعيد بن المسيب: لا خير فيمن لا يكسب المال ليكفَّ به وجهه، ويؤدِّي به أمانته، ويصل به رحمه.
قالوا للمسيح: يا روح الله أخبرنا عن المال، فقال المال لا يخلو صاحبه من ثلاث خلال: إما أن يكسبه من غير حله، وإما أن يمنعه حقه، وإما أن يشغله إصلاحه عن عبادة ربه.
قال الحطيئة: ؟ولست أرى السَّعادة جمع مالٍ ولكنَّ التَّقيَّ هو السَّعيد وأنشد ابن الأعرابي:؟
المال يغشى رجالاً لا طباخ لهم ... كالسَّيل يغشى أصول الدِّندن البالي
وهذا البيت في شعر لعمار الكلبي أوله:
قف بالعوير على أبلاء أطلال ... كأنَّها حللٌ أو خطُّ تمثال
الفقر يزري بأقوامٍ ذوي حسبٍ ... وربَّما ساد جبس القوم بالمال
وفيه يقول:
أصون عرضي بمالي لا أدنِّسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودى فأجمعه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال
الجبس: اللئيم. وقوله: لا طباخ لهم: أي لا قوة ولا طاقة، قاله الخليل.
وقال فضالة بن زيد العدواني: ؟وماالعيش إلاَّ المال فاحمد فضوله ولا تهلكنه في الضَّلال فتندم
إذا جلّ خطبٌ صلت بالمال حيثما ... توجَّهت من أرضٍ فصيح وأعجم
وهابك أقوامٌ وإن لم تصبهم ... بنفعٍ ومن يستغن يحمد ويكرم
ويعطي الذي يبغي وإن كان باخلاً ... بما في يديه من متاعٍ ودرهم
وقال لبيد:
وماالبرُّ إلاَّ مضمراتٌ من التُّقى ... وما المال إلاَّ مضمرات ودائع
وقال حاتم الطائي:
لعمرك ما يغني الثَّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصَّدر
أماويّ إنَّ المال غادٍ ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذِّكر
وقال الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعفُّ من القنوع
وقال المتلمس:
لحفظ المال أيسر من بغاه ... وضربك في البلاد بغير زاد
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقال آخر:
واطلب المال بحرصٍ ... واسرع المشي إليه
كلُّ من كان غنيَّاً ... سلَّم الناس عليه
وإذا كان فقيراً ... فقد البرُّ لديه
وثياب المرء أعوانٌ ... له بين يديه
وقال آخر:
إذا قلَّ مال المرء قلَّ صفاؤه ... وضاقت عليه أرضه وسماؤه
وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدَّامه خيرٌ له أم وراؤه
إذا قلَّ مال المرء لم يرض عقله ... بنوه ولم يغضب له أولياؤه
فإن مات لم يفقد ولم يحزنوا له ... وإن عاش لم يسرر صديقاً بقاؤه
وقال أبو اليقظان: ما ساد في الجاهلية مملق إلا عتبة بن ربيعة.
وقال محمد بن مناذر:
رضينا قسمة الجبَّار فينا ... لنا حسبٌ وللثَّقفيِّ مال
وقال المعلوط:
وماسوَّد المال الدَّنيء ولا دنا ... لذاك ولكنَّ الكريم يسود
وقال عروة بن الورد:

ومن يك مثلي ذا عيالٍ ومقتراً ... من المال يطرح نفسه كلَّ مطرح
ليبلغ عذراً أو يصيب غنيمةً ... ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح
هذان البيتان أنشدهما ابن قتيبة لأوس بن حجر، وخالفه حبيب وغيره فأنشدهما لعروة.
وقال عروة بن الورد:
إذاالمرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصَّديق فأكثرا
وصار على الأذنين كلاً وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكَّرا
وقال منصور الفقيه:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... وهي نعله أو باع في السُّوق خفَّه
ولم يك مأموناً على مال جاره ... إذا ما رآه خالياً أن يلفَّه
وقال الفرزدق:؟
والمال بعد ذهاب المال يكتسب
قال إبراهيم النخعي: إنما أهلك الناس فضول الكلام وفضول المال.
ولعبيد الله بن عبد الله بن عتبة الهذلي الفقيه:
أعاذل عاجل ما أشتهي ... أحبُّ إليَّ من الرَّائث
سأحبس مالي على حاجتي ... وأوثر نفسي على الوارث
وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر:
أرى نفسي تتوق إلى أمورٍ ... ويقصر دون مبلغهنَّ مالي
فنفسي لا تطاوعني لبخلٍ ... ومالي لا يبلِّغني فعالي
وقال أعرابي:
إذا ما الفتى لم يبلغ إلاَّ لباسه ... ومطعمه فالخير منه بعيد
يذكِّرني صرف الزَّمان ولم أكن ... لأهرب ممَّا ليس منه محيد
فلو كنت ذا مالٍ لقرِّب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت أنت رشيد
فذرني أجوِّل في البلاد لعلَّه ... يسرُّ صديقٌ أو يساء حسود
وقال آخر:؟
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
وقال قيس بن عاصم:
سأودع مالي الحمد والأجر كلَّه ... فلا أجر في الدُّنيا ولا الحمد دائم
فرحت بما قدَّمت منه وإنَّني ... على حسن ما أخَّرت منه لنادم
كان يقال: شر مالك ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت لذة إنفاقه.
قال الشاعر:
ذهاب المال في حمدٍ وأجرٍ ... ذهابٌ لايقال له ذهاب
وقال آخر:
وحفظك مالاً قد عنيت بجمعه ... أشدُّ من المال الَّذي أنت طالبه
قال جعفر من محمد رحمهما الله: من نقله الله من ذل المعصية إلى عز الطاعة أغناه بلا مال، وآنسه بلا أنيس، وأعزّه بلا عشيرة.
قال محمود الوراق:
هاك الدّليل لمن أرا ... د غنىً يدوم بغير مال
وأراد عزَّاً لم توطِّ ... ده العشائر بالقتال
ومهابةً من غير سل ... لطانٍ وجاهاً في الرِّجال
فليعتصم دخوله ... في عزِّ طاعة ذي الجلال
وخروجه من ذلَّة ال ... معاصي له في كلِّ حال
وقال النمر بن تولب:
خاطر بنفسك كي تصيب رغيبةً ... إنَّ الجلوس مع النِّساء قبيح
فالمال فيه تجلَّةٌ ومهابةٌ ... والفقر فيه مذلَّةٌ وفضوح
وقال آخر:
ويزري بعقل المرء قلَّة ماله ... تحمقِّه الأقوام وهو لبيب
وقال حسان بن ثابت الأنصاري:
ربّ حلمٍ أضاعه عدم الما ... ل وجهلٍ غطَّى عليه النَّعيم
وقال الخريمي وهو أبو يعقوب:
العيش لا عيش إلاَّ ما قنعت به ... قد يكثر المال والإنسان مفتقر
وقال أمية بن أبي الصَّلت:
إذا اكتسب المال الفتى من وجوهه ... وأحسن تدبيراً له حين يجمع
وميَّز في إنفاقه ما بين مصلحٍ ... معيشته فيما يضرّ وينفع
وأرضى به أهل الحقوق ولم يضع ... به الذُّخر زاداً لَّلتي هي أنفع
فذاك الفتى لا جامع المال ذاخراً ... لأولاد سوءٍ حيث جاءوا وأرضعوا
وقال كثير:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة نعمى أو خليلٌ توامقه
بخلت وبعض البخل حزمٌ وقوَّةٌ ... فلم يفتلتك المال إلاَّ حقائقه
وقال محمود الوراق:
ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للنَّذل

ولم أر عزَّاً لامرئٍ كعشيرةٍ ... ولم أر ذلاً نأيٍ عن الأهل
ولم أر من عدمٍ أضَّر على الفتى ... إذا عاش بين النَّاس من عدم العقل
وقال آخر:
الفقر يزري بأقوامٍ ذوي حسبٍ ... وقد يسوِّد غير السَّيِّد المال
وقال محمود الوراق:
أرى دهرنا فيه عجائب جمَّةٌ ... إذا استعرضت بالعقل ضلَّ لها العقل
أرى كلَّ ذي مالٍ يسود بماله ... وإن كان لا أصلٌ هناك ولا فصل
وآخر منسوباً إلى الرَّأي خاملاً ... وأنوك مخبولاً له الجاه والنُّبل
وما الفضل في هذا الزمان لأهله ... ولكنَّ ذا المال الكثير له الفضل
فشرِّف ذوي الأموال حيث لقيتهم ... فقولهم قولٌ وفعلهم فعل
ومما ينسب إلى محمود، وأظنها لغيره وهو أبو عبد الرحمن العطوي:
دع الرِّياء لمن لجّ الرِّياء به ... في الأمر بالبذل واذكر ذلَّة العدم
ومت على الدِّرهم المنقوش موت فتىً ... رأى الممات عليه أكرم الكرم
وعدِّ عن ذا وعن هذا وقولهم ... الذكر يبقى وتفنى لذَّة النِّعم
لولا غناك لكنت الكلب عندهم ... فإن أبيت فجرِّب واشق بالنَّدم
وقال أبو العتاهية:
والنَّاس حيث يكون المال والجاه

باب جامع القول في الغنى والفقر
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم: " ارض بما قسم الله لك تكن أغنى النَّاس،واعمل بما افترض الله عليك تكن أعبد النَّاس، واجتنب ما حرَّم الله عليك تكن أورع النّاس " .
وقال عليه السلام: " ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النَّفس " .
وفي الحديث المرفوع: " الفقر أزين للمؤمن من الغدار، وعلى خدِّ الفرس " .
وقد أتينا معنى الفقروالغنى، والمقدار المحمود في ذلك عند العلماء بدلائل السنن، وأقاويل السلف، بما فيه كفايةٌ وتبصرة وشفاءٌ لما في الصدور في موضعه من كتاب " بيان العلم " والحمد لله.
قال أوس بن حارثة: خير الغنى القناعة، وشرُّ الفقر الضَّراعة.
قال فضيل بن عياض: إنما الفقر والغنى بعد العرض على الله.
أنشدنا الرياشي:
ما شقوة المرء بالإقتار تقتره ... ولا سعادته يوماً بإكثار
إنَّ الشَّقيَّ الذي في النَّار منزله ... والفوز فوز الذي ينجو من النَّار
قال جعفر بن محمد: العز والغنى يجولان في الأرض، فإذا أصابا موضعاً يدخله التَّوكُّل أوطناه.
كان يقال: الشكر زينة الغنى، والعفاف زينة الفقر.
وقالوا: حقُّ الله واجب في الغنى والفقر، ففي الغنى العطف والشكر، وفي الفقر العفاف والصبر.
كان يقال: سوء حمل الغنى يورث مقتاً، وسوء حمل الفاقة يضع شرفاً.
كان يقال:الغنى في النفس، والشرف في التواضع، والكرم في التقوى.
أنشدنا الرياشي:
وبينا الفتى في الفقر إذ صار في الغنى ... وبينا الفتى في البؤس إذ صار في الخفض
كذاك صروف الدَّهر تلعب بالفتى ... فنبرم أحياناً وتسرع في النَّقض
وقال آخر:
قد أنطقت الدَّراهم بعد عيٍّ ... أناساً طالما كانوا سكوتا
فما عادوا على جارٍ بخيرٍ ... ولا رفعوا لمكرمةٍ بيوتاً
كذاك المال ينطق كلَّ عيٍّ ... ويترك كلَّ ذي حسبٍ صموتا
وقال آخر:
نطقت مذ استفدت المال حتَّى ... كأنَّك عالمٌ ذلق اللِّسان
وشجَّعك الَّذي قد كان قدماً ... يسمِّيك الجبان ابن الجبان
وقال محمود الوراق:
الفقر في النَّفس وفيها الغنى ... وفي غنى النَّفس الغنى الأكبر
وقال حماد الراوية: أفضل بيت من الشعر قيل في الأمثال:
يقولون يستغني ووالله ما الغنى ... من المال إلاَّ ما يعفُّ وما يكفي
ولمحمود الوراق أيضاً:
صاحب اليسر يرقب العسر والمع ... سر في دهره يراقب يسرا
ليس خلقٌ له على الله حقٌ ... إنَّما حقُّه على النَّاس طرَّا
لا يحابي الغنيَّ فيما أتاه ... لا ولا يظلم الذي مات فقرا

يمنع الله عبده نظراً من ... ه ويسنى له العطيَّة مكرا
ليس من بخله ينقِّص ذا الفق ... ر ولم يعط ذا الغنى المال قسرا
قال عبد الله بن الأهتم: من ولد في الفقر أبطره الغنى.
كان يقال: خصلتان مذمومتان: الاستطالة مع السّخاء والبطر مع الغناء.
كان يقال: لا تدع على ولدك بالموت، فإنَّه يورث الفقر.
قال أعرابيٌ من باهلة:
سأعمل نصّ العيس حتَّى يكفَّني ... غنى المال يوماً أو غنى الحدثان
فللموت خيرٌ من الحياةٍ يرى لها ... على الحرِّ بالإقلال وسم هوان
كأنَّ الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسانٍ ناطقٌ بلسان
وقال يحيى بن حكم الغزال، وتروى لغيره ابن المعتز، أو غيره:
إذا كنت ذا ئروةٍ من غنًى ... فأنت المسوَّد في العالم
وحسبك من نسب صورةٌ ... تخبِّر أنَّك من آدم
وللغزال أيضاً:
إنِّى حلبت الدَّهرأصناف الدِّرر ... فمرَّةً حلوٌ وأحياناً مقر
وعلقماً حيناً وأحياناً صبر ... وجلُّ ما يسقيكه الدَّهر كدر
فلم أجد شيئاً من الفقر أمرّ ... ألا ترى أكثر من فيها يفرّ
مخافة الفقر إلى نارٍ سقر وقال آخر:
لعمرك إنَّ القبر خيرٌ من الفقر ... لمن كان ذا يسرٍ وعاد إلى عسر
ولعروة بن الورد:
دعيني للغنى أسمى فإنِّي ... رأيت النَّاس شرُّهم الفقير
وأحقرهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له كرمٌ وخير
يباعده الخليل وتزدريه ... حليلته وينهره الصَّغير
وتلقي ذا الغنى وله جلالٌ ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليلٌ عيبه والعيب جمٌ ... ولكن للغنى ربٌّ غفور
وقال آخر:
رأيت النَّاس لمَّا قلَّ مالي ... وأكثرت الغرامة ودَّعوني
فلمَّا أن غنيت وثاب وفرىإذا هم لا أب لك راجعني
وقالوا: بقدر ما يعطى الغنىُّ من الإيسار، يعطى من الإجلال، وبقدر ما ينزل بالفقير من فقر يذهب بهاؤه وتتضع منزلته، حتى يتهمه من كان يأمنه، ويسيء به الظن من كان يثق به. ومحاسن الغني مساوىء الفقير، إذا كان جواداً قالوا:مبذر، وإن كان لسناً قالوا: مهذار، وإن كان شجاعاً، قالوا: أهوج، وإن كان حليماً صموتاً، قالوا: عيّ بليد، وكل شيء هو للغنىّ مدح هو للفقير ذم.
قال الشاعر:
لعمرك إنَّ المال قد يجعل الفتى ... سنيَّاً وإنَّ الفقر بلمرء قد يزري
فما رفع النَّفس الدَّنيئة كالغنى ... ولا وضع النَّفٍس الكريمة كالفقر
وقال حبيب:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسَّيل حربٌ للمكان العالي
وللمغيرة بن حبناء:
وماالفقر يزري بالرَّجال ولا الغنى ... ولكن قلوب القوم للقوم تقدح
وقال امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدَّرب دونه ... وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنَّما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وقال أبو العتاهية:
أجلَّك قومٌ حين صرت إلى الغنى ... فكلُّ غنيٍّ في العيون جليل
إذا مالت الدُّنيا إلى المرء رغَّبت ... إليه ومال النَّاس حيث يميل
وليس الغنى إلاَّغنىً زيَّن الفتى ... عشيَّة يقرى أو غداة ينيل
وقال الصَّلتان العبديّ:
إذا قلت يوماً لمن قد ترى ... أروني السّرىَّ أورك الغنى
وقال ابن سعدان:
تقنَّع بما يكفيك والتمس الرِّضا ... فإنَّك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنَّما ... يكون الغنى والفقر من قبل الَّنفس
وقال بكر بن أذينة:
كم من فقيرٍ غني النَّفس نعرفه ... ومن غنيٍّ فقير النَّفس مسكين
وقال محمود الوراق:
لبست صروف الدَّهر كهلاً وناشئاً ... وجرَّبت حالي على العسر واليسر
فلم أر بعد الدِّين خيراً من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شراً من الفقر
ولمحمود الوراق:

ياعائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكثر لو تعتبر
من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى إن صحَّ منك النَّظر
أنَّك تعصي كي تنال الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر
وفي رواية أخرى:
أنَّك تعصي الله ترجو الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر
وقال آخر:
ولا تعدني الفقر ياأمّ مالكٍ ... فإنَّ الغنى للمنفقين قريب
وهذا مأخوذ والله أعلم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " يقول الله ياابن آدم أنفق أنفق عليك " .
وقال بعض الحكماء في ذم الغنى: طالب الغنى طويل العناء، دائم النَّصب، كثير التعب، قليل منه حظُّه، خسيس منه نصيبه، شديد من الأيام حذره، ثم هو بين سلطان يرعاه، ويفغر عليه فاه، وبين حقوق تجب عليه، يضعف عن منعها، وبين أكفاء وأعداء ينالونه ويحسدونه ويبغون عليه، وأولاد يمُّلونه ويودون موته، ونوائب تعتريه وتحزنه.
وقال بشر بن المعتمر المتكلم:
وإذاالجهول رأيته مستغنياً ... أعيا الطَّبيب وحيلة المحتال
وقال الخليل بن أحمد:
ماأسمج النُّسك بسأل ... وأقبح البخل بذي المال
من كان محتاجاً إلى أهله ... هان على ابن العمِّ والخال
ماوقع الإنسان في ورطةٍ ... أزرى به من رقَّة الحال
قيل لبعض الحكماء: مابالنا نجد من يطلب المال من العلماء أكثر ممن يطلب العلم من ذوي الأموال؟ قال: لمعرفة العلماء بمنافع المال، وجهل ذوي الأموال بمنافع العلم.
قال الشاعر:
ألم تر أنَّ الفقر يزرى بأهله ... وإنَّ الغنى فيه العلا والتَّجمُّل
قال أحيحة بن الجلاح:
استغن عن كلِّ ذي قربى وذي رحمٍ ... إنَّ الغنىَّ من استغنى عن النَّاس
والبس عدوَّك في رفقٍ وفي دعةٍ ... لباس ذي إربة للدَّهر لبَّاس
باب الدَّين
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله مقبلا غير مدبر، أيكفّر الله عنّي خطاياي؟ قال: " نعم. إلاّالدَّين، بذلك أخبرني جبريل " .
وعنه عليه السلام أنه قال: " صاحب الدَّين محبوسٌ عن الجنة بدينه " .
وقال عليه السلام - " بعد أن فتح الله عليه وأفاء الله على المسلمين " - : " من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً فعليّ " .
كان يقال: لا همّ إلاّهمّ الدَّين، ولا وجع إلاّوجع العين. وقد روى هذا القول عن النبي صلّى الله عليه وسلم من وجه ضعيف.
قال عمر بن الخطاب: إياكم والدَّين، فإنّ أوله همٌّ وآخره حرب.
قال جعفر بن محمد: المستدين تاجر الله في الأرض.
قال عمر بن عبد العزيز: الدَّين وقرٌ طالما حمله الكرام.
قال عمرو بن العاص: من كثر صديقه كثر دينه.
قيل لمحمد بن المنكدر:أتحجُّ وعليك الدين؟ قال: الحج أقضى للدين. يريد الدعاء فيه والله أعلم.
كان يقال: الدَّين رقّ، فلينظر أحدكم أين يضع رقّه.
كان يقال: الأذلة أربعة: النَّمَّام، والكذّاب ، والفقير، والمديان.
كان يقال: حرّيّة المسلم كرامته، وذلُّه دينه، وعذابه سوء خلقه.
كان الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب الشاعر يعامل الناس بالعينة، فإذا حلت دراهمه ركب حماراً يقال له شارب الريح، فيقف على غرمائه فيقول:
بنو عمِّنا أدُّوا الدَّراهم إنَّما ... يفرِّق بين النَّاس حبُّ الدَّراهم
وقال آخر:
فما شأن ديني إذ يحلُّ عليكم ... أرى النَّاس يقضون الدُّيون ولا يقضى
لقد كان ذاك الدَّين نقداً وبعضه ... لمرضٍ فما أدَّيت نقداً ولا عرضا
ولكنَّما هذا الَّذي كان منكم ... أمانيّ ما لاقت سماءً ولا أرضا
فلو كنت تنوين القضاء لديننا ... لأنسأت لي بعضاً وعجَّلت لي بعضا
قال أبو عثمان المازني:سمعت معاذ بن معاذ، وبشر بن المفضل ينشدان هذين البيتين لمجنون عامر:
طمعت بليلى أن تريع وإنَّما ... تقطِّع أعناق الرِّجال المطامع
وداينت ليلى في خلاءٍ ولم يكن ... شهودٌ على ليلى عدولٌ مقانع
وقال آخر أنشده ابن الزبير:
ألا ليت النَّهار يعود ليلاً ... فإنَّ الصُّبح يأتي بالهموم

حوائج ما نطيق لها قضاءً ... ولادفعاً وروعات الغريم
كان يقال: الدَّين همٌّ بالليل وذل بالنهار، وإذا أراد الله أن يذل عبده جعل في عنقه ديناً.
وقال آخر:
إنَّ القضاء سيأتي دونه زمنٌ ... فاطو الصَّحيفة واحفظها من الفار
قال كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة:
قضى كلُّ ذي دينٍ فوفىَّ غريمه ... وعزَّةٌ ممطولٌ معنىً غريمها
أنشدنا الصولي لسليمان بن وهب متمثلا:
من النَّاس إنسانان ديني عليهما ... مليَّان لو شاءا لقد قضياني
خليليّ أمَّا أمُّ عمرو فمنهما ... وأمَّا عن الأخرى فلا تسلاني

باب الاقتصاد والرفق
قال الله عزّ وجلّ: " ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " وقال: " والَّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " .
فهذا أدب الله تعالى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " ماعال من اقتصد " .
كان يقال: ثلاثٌ من حقائق الإيمان:الاقتصاد في الإنفاق، والإنصاف من نفسك، والابتداء بالسلام.
كتب بعض الصالحين إلى بعض إخوانه: كل مارده العقل، وناله الفضل فجميلٌ حسن.
قال عبد الله بن عباس الهدي الصّالح، والسَّمت الحسن، والاقتصاد،جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " إن الله يحبُّ الرفق في الأمر كله " .
قال عليه السلام: " ما كان أرفق قط في شيءٍ إلاّزانه، ومن حرم الرفق حرم الخير " .
وقال صلى الله عليه وسلّم: " ماأراد الله بأهل بيت خيراً إلا أدخل عليهم الرفق ولا أراد بهم شرَّاً إلاّ أدخل عليهم الخرق " .
قال عمر بن الخطاب: لا يقل مع الإصلاح شيء،ولا يبقى مع الفساد شيء.
قال المتلمِّس:
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرفق يمن، والخرق شؤم " .
سئل بعض العلماء عن السكينة، فقال: هي السكون عما الحركة فيه، والعجلة لا يحمدها الله ولا يرضاها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأناة من الله، والعجلة من الشيطان " .
لسهل بن هارون في يحيى بن خالد:
عدوُّ تلاد المال فيما ينوبه ... منوعٌ إذا ما منعه كان أحزما
وقال آخر:
عليك بأوساط الأمور فإنَّها ... نجاةٌ ولا تركب ذلولاً ولا صعبا
وقال آخر:
لا تذهبنَّ في الأمور فرطا ... لا تسألنَّ إن سألت شططا
وكن من النَّاس جميعاً وسطا
قال أعرابي للحسن: ياأباسعيد؟؟ علمني ديناً وسوطاً لا ذاهباً فروطاً، ولا ساقطاً سقوطاً. قال له الحسن:أحسنت، خير الأمور أوسطها.
قال محمود الوراق:
إنِّي رأيت الصَّبر خير معوَّلٍ ... في النَّائبات لمن أراد معوَّلا
ورأيت أسباب القنوع منوطةً ... بعرى الغنى فجعلتها لي معقلا
فإذا نبا بي منزلٌ لا يرتضي ... جاوزته واخترت عنه منزلا
وإذا غلا شيءٌ عليَّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
لبعض المتأخرين من البخلاء يوصي ابنه:
إذا ما كنت في بلدٍ غريباً ... وخفت من أن تبوء بغير مال
فلا تبسط يديك وكل قليلاً ... يفوتك كلُّ يومٍ في اعتدال
وذبَّ عن الدَّراهم كلَّ حينٍ ... وكثِّرها وقلِّل في العيال
وقل في كل شيءٍ تشتهيه ... من الأشياء هذا الشَّيء غال
فترك المال للأعداء خيرٌ ... لربِّ المال من ذلِّ السُّؤال
روينا عن نصر بن علي الجهضمي،قال: دخلت على أمير المؤمنين المتوكل فإذا هو يمدح الرفق فأطنب، فقلت: ياأميرالمؤمنين أنشدني الأصمعي في الرفق. فقال هاته يا نصر، فقلت :
لم أر مثل الرِّفق في لينه ... أخرج للعذراء من خدرها
من يستعن بالرِّفق في أمره ... قد يخرج الحيَّة من جحرها
قال سابق:
إنَّ التَّرفُّق للمقيم موافقٌ ... وإذا يسافر فالتَّرفُّق أوفق
لو سار ألف مدجَّجٍ في حاجةٍ ... لم يلقها إلاَّالَّذي يترفَّق
باب السَّفر والاغتراب

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السفر قطعةٌ من العذاب، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجِّل الرجوع إلى أهله " .
وزاد بعضهم في هذا الحديث " السفر قطعة من العذاب، فاقطعوه بالدُّلجة " .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:تلقَّوا الحاجَّ ولا تشّيعوهم.
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: " سافروا تصحّوا وتغنموا " .
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " مامات ميت بأرض غربةٍ إلا قيس له من مسقط رأسه إلى منقطع أثره في الجنة " .
ومن حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلَّم، قال: " موت الغريب شهادة " .
ومن حديث أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: " من مات غريباً مات شهيداً " .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله، فأينما وجدت الخير فأقم واتق الله " .
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - ومنهم من يرفعه - قال: من سعادة المرء أن تكون زوجته موافقة، وأولاده أبراراً، وإخوانه صالحين، ورزقه في بلده الذي فيه أهله. مكتوبٌ في التوراة: ابن آدم؟ أحدث سفراً أحدث لك رزقاً.
قالت العرب: من أجدب انتجع.
قيل لأعرابيّ أين منزلك؟ قال: بحيث ينزل الغيث.
من أمثال العامة: البركات مع الحركات.
وقالوا: ربما أسفر السَّفر عن الظَّفر.
قال البحتري: ؟؟وإذا الزَّمان كساك حلَّة معدمٍ فالبس لها حلل النَّوى وتغرَّب وقال زهير:
ومن يغترب يحسب عدوَّاً صديقه ... ومن لا يكرِّم نفسه لا يكرَّم
وقال الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلومٍ مجرّاً ومسحبا
وتدفن منه الصَّالحات وإن يسيء ... يكن ماأساء النَّار في رأس كبكبا
وقال آخر:
إنَّ الغريب بأرضٍ لا عشير بها ... كبائع الرِّيح لا يعطى به ثمنا
وقال سابق:
لا ألفينَّك ثاوياً في غربةٍ ... إنَّ الغريب بكلِّ سهمٍ يرشق
وقال آخر:
فلم أرعزَّ المرء إلاَّ عشيرةً ... ولم أر ذلاً مثل نأيٍ عن الأهل
وقال آخر:
إنِّي الغريب فما ألام على البكا ... إنَّ البكا حسنٌ بكلِّ غريب
وقال آخر:
يجازى بالَّذي تجد القلوب ... ويأنس بابن بلدته الغريب
وصادفني غريبٌ فالتقينا ... وكلُّ مساعدٍ فهو القريب
وقال آخر:
تغرَّبت عن أهلي أؤمِّل ثروةً ... فلم أعط آمالي وطال التَّغرُّب
فما للفتى المحتال في الرِّزق حيلةٌ ... ولا لجدودٍ جدَّها الله مذهب
وقال كعب بن زهير:
فقرِّي في بلادك إنَّ قوماً ... متى يدعوا بلادهم يهونوا
وقال آخر:
ليس ارتحالك تزداد الغنى سفراً ... بل المقام على خسفٍ هو السَّفر
قالوا: ترك الوطن أحد اليسارين.
قال الشاعر:
وماالموت إلاَّرحلةٌ غير أنَّها ... من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي
وقال آخر:
لقرب الدَّار في الإقتار خيرٌ ... من العيش الموسَّع في اغتراب
وقال آخر:
ومهمةٍ فيها السَّراب يسبح ... يدأب فيه القوم حين يصبح
كأنَّما ثووا بحيث أصبحوا ... الَّليل أخفى والنَّهار أفضح
قالوا: إذا كنت في غير بلدك، فلا تنس نصيبك من الذل.
وأنشدوا:
إنَّ الغريب له استكانة مذنبٍ ... وخضوع مديانٍ وذلٌ مريب
وقال آخر:
إذا كنت في قومٍ عداً لست منهم ... فكل ما علفت من خبيثٍ وطيِّبٍ
وقال آخر:
إنّ الغريب وإن أقام ببلدةٍ ... يهدى إليه خراجها لغريب
وقال آخر:
غريبٌ يقاسي الهمَّ في أرض غربةٍ ... فياربِّ قرِّب دار كلِّ غريب
قالوا: الغريب كغرس ذابل ماتت أرضه، ونفد شربه.
قال النمر بن تولب:
إذا كنت في سعدٍ وأمُّك منهم ... غريباً فلا يغررك خالك من سعد
فإنّ ابن أخت القوم مصغىً إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بأبٍ جلد
قالت العرب: ليس بينك وبين بلاد نسب، خير البلاد ما حملك.
وقال آخر:

ليس الفتى بفتىً لا يستضاء به ... ولا يكون له في الأرض آثار
وقال آخر:
سل الله الإياب من المغيب ... فكم قد ردَّ مثلك من غريب
سلِّ الهمَّ عنك بحسن ظنٍ ... ولا تيأس من الفرج القريب
قال بعض العقلاء: أعرف بيتاً قد بيّت أكثر من مائة ألف رجل في المساجد، وفي غير أوطانهم، وهو:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تمش ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا
قال خالد بن صفوان: في السفر ثلاثة معان:الأول الغرم، الثاني القدرة، والثالث الرحيل.
كان يقال: فقد الأحبة غربة.
قال الشاعر:
إذا مامضى القرن الَّذي أنت فيهم ... وخلِّفت في قرنٍ فأنت غريب
وقال لبيد بن ربيعة:
لعمرك مايدريك إلاَّ تظنِّياً ... إذا رحل السُّفار من هو راجع
لعمرك ماتدري الطَّوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطَّير ما الله صانع
وقال علي بن الجهم:
يارحمتا للغريب في البلدالنَّا ... زح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأيه وغربته ... عدلٌ من الله كلُّ ما صنعا
أراد أعرابي السفر فقال لامرأته - وقيل إنه الحطيئة - :
عدِّي الِّسنين لغيبتي وتصبَّري ... وذري الشُّهور فإنَّهنَّ قصار
فأجابته:
اذكر صبابتنا إليك وشوقنا ... وارحم بناتك إنَّهنَّ صغار
فأقام وترك سفره.
قال امرؤ القيس:
وقد طوَّفت في الآفاق حتَّى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
طربت إلى الأصيبية الصِّغار ... وهاجك منهم قرب المزار
وكلُّ مسافرٍ يزداد شوقاً ... إذا دنت الدِّيار من الدِّيار
وقال جرير:
ولما التقى الحيَّان ألقيت العصا ... ومات الهوى لما أصببت مقاتله
وقال آخر:
سررت بجعفرٍ والقرب منه ... كما سرَّ المسافر بالإياب
وكنت بقربه إذ حلَّ أرضى ... أميراً بالسَّكينة والصَّواب
كممطورٍ ببلدته فأضحى ... غنيّاً عن مطالبة السَّحاب
وقال آخر، وحكى صاحب البيان أنه لمضرَّس الأسدي:
مقلٌ رأى الإفلال عاراً فلم يزل ... يجوب بلاد الله حتَّى تموَّلا
إذا جاب أرضاً أو ظلاماً رمت به ... مهامه أخرى عيسه متقلقلا
ولم يثنه عمَّا أراد مهابةٌ ... ولكن مضى قدماً وما كان مبسلا
فلمَّا أفاد المال جاد بفضله ... لمن جاءه يرجو نداه مؤمِّلا
وقال آخر، وهو الأحمر بن سالم المزني:
فألقت عصاها واستقرّ بها النَّوى ... كماقرَّعيناً بالإياب المسافر
وقال آخر:
إذا نحن أبنا سالمين بأنفسٍ ... كرامٍ رجت أمراً فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة إنَّها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها
وقال آخر:
رجعنا سالمين كما بدأنا ... وما خابت غنيمة سالمينا
وماتدرين أيُّ الأمر خيرٌ ... أما تهوين أم ما تكرهينا
قال عوف بن محلِّم:عادلت عبد الله بن طاهر إلى خراسان، فدخلنا الرُّيّ في السحر فإذا قمرية تغرد على فنن شجرة، فقال عبد الله:أحسن والله أبو كبير في قوله:
ألاياحمام الأيك إلفك حاضرٌ ... وغصنك ميَّادٌ ففيم تنوح
ثم قال: يا عوف أجزها. فقلت: شيخ كبير،وحملت على البديهة، وهي معارضة أبي كبير،ثم انفتح لي شيء، فقلت:
أفي كلِّ عامٍ غربةٌ ونزوح ... أما للنَّوى من ونيةٍ فتريح
لقد طلح البين المشتُّ ركائبي ... فهل أرينَّ البين وهو طليح
وأرَّقني بالرَّيِّ نوح حمامةٍ ... فنحت وذو الشَّجو القريح ينوح
على أنَّها ناحت ولم تذر عبرةً ... ونحت وأسراب الدُّموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
وذكر تمام الخبر.
كان يقال: من لم يرزق ببلدة فليتحوّل إلى أخرى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " الأرض أرض الله،والعباد عباد الله، فحيث وجد أحدكم رزقه،فليتق الله وليقم " .
قال عبد الله بن أبي الشّيص:
أظنُّ الدَّهر قد آلا فبرَّا ... بألاَّ يكسب الأموال حرَّاً
لقد قعد الزَّمان بكلِّ حرٍّ ... ونقّض من قواه المستمرَّا
كأنَّ صفائح الأحرار أردت ... أباه فحارب الأحرار طرَّا
فأصبح كلُّ ذي شرفٍ ركوباً ... لأعناق الدُّجى برَّاً وبحرا
فهتَّك جيب درع الَّليل عنه ... إذا ما جيب درع الَّليل زرَّا
يراقب للغنى وجهاً ضحوكاً ... ووجها للمنيَّة مكفهرَّا
فيكسب من أقاصي الأرض كسباً ... يحلُّ به المحلَّ المشمخرَّا
ومن جعل الظَّلام له قعوداً ... أضاء له الدُّجى خيراً وشرَّا
وقال آخر:
لا تصحبنَّ رفيقاً لست تأمنه ... شرُّ الرَّفيق رفيقٌ غير مأمون
أنشد نفطويه:
خاطر بنفسك لا تقعد بمعجزةٍ ... فليس حرٌ على عجزٍ بمعذور
إن لم تنل في مقامٍ ماتطالبه ... فأبل عذراً بادلاجٍ وتهجير
لن يبلغ المرء بالإحجام همَّته ... حتَّى يباشرها منه بتغيير
قالت بنت الأعشى:
أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منَّا الرّحم
إذا غبت عنَّا وخلَّفتنا ... فإنَّا سواءٌ ومن قد يتم
وقال آخر:
وقالت وعيناها تفيضان عبرةً ... أيا أملي خبِّر متى أنت راجع
فقلت لها تالله يدري مسافرٌ ... إذا أضمرته الأرض ما الله صانع
وقال آخر:
حتَّى متى أنا في حلٍّ وترحال ... وطول سعىٍ وإدبارٍ وإقبال
ونازح الدَّار لا أنفكُّ مغترباً ... عن الأحبَّة لا يدرون ما حالي
بمشرق الأرض طوراً ثمَّ مغربها ... لايخطر الموت من حرصي على بالي
ولو قنعت أتاني الرِّزق في دعةٍ ... إنَّ القنوع الغنى لا كثرة المال
أنشد الأصمعي لحاجب الفيل اليشكري:
لمَّا رأت بنتي بأنِّي مزمعٌ ... بترحُّلٍ من أرضها فمودِّع
ورأت ركابي قرِّبت لرحالها ... قالت وغرب العين منها يدمع
أبتا أتتركنا وتذهب تائهاً ... في الأرض تخفضك البلاد وترفع
فيضيع صبيتك الّذين تركتهم ... بمضيمةٍ في المصر لم يترعرعوا
فيهم صغيرٌ ليس ينفع نفسه ... وصغيرةٌ تبكي وطفلٌ يرضع
إنَّا سنرضى ما أقمت بعيشنا ... ماكان من شيءٍ نجوع ونشبع
والله يرزقنا فنرضى رزقه ... وكفى بحسن معيشة من يقنع
إنَّا إذا ما غبت عنَّا لم نجد ... ممَّا تخلَّف عندنا ما ينفع
تجفو موالينا ويعرض جارنا ... وقريبنا الأدنى يعزُّ ويقطع
ونخاف أن تلقاك وشك منيّةٍ ... فيصيبنا الأمر الجليل المفظع
فنصير بعدك ليس يرفع بيتنا ... ويذلُّنا أعداؤنا ونضيَّع
هذا الرَّحيل وأمرنا ماقد ترى ... فمتى تؤوب إلى الصِّغار وترجع
فخنقت من قول الصِّغار بعبرةٍ ... كاد الفؤاد لقولهم يتصدَّع
وأجبتها صبراً بنيَّة واعلمي ... أن ليس يعدو يومه من يجزع
وقال الغزال:
وكم ظاعنٍ قد ظنَّ أن ليس آيباً ... فآب وأودى حاضرون كثير
وإنَّ الَّذي أعظمته من تغرُّبيعليَّ وإن أعظمت ذاك يسير
رأيت المنايا يدرك العصم عدوها ... فينزلها والطَّير منه تطير
وعلِّي أمضي ثمَّ أرجع سالماً ... ويهلك بعدي آمنون حضور
جعلت أرجِّيها إيابي ومن غدا ... على مثل حالي لا يكاد يحور
وكيف أبالي والزَّمان قد انقضى ... وعظمي مهيضٌ والمكان شطير
وإنِّي وإن أظهرت منِّي تجلُّداً ... لذو كبدٍ حرَّي عليك حسير
وقال آخر:

يقيم الرِّجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النَّوى بالمقترين المراميا
فأكرم أخاك الدَّهر ما دمتما معاً ... كفى بالممات فرقةً وتنائيا
وقال الراجز:
إنَّ فراخاً كفراخ الأوكر ... بأرض بغداد وراء الأجسر
تركتهم كبيرهم كالأصغر ... عجزاً عن الحيلة والتَّشمر
ذكرى لديهم مثل طعم السُّكَّر ... ووجدهم بي مثل وجد الأعور
بعينه إذ ذهبت لم يبصر
التشمر: الاكتساب، شمرت لأهلي: أي اكتسبت لهم، وتشَّمر الشجر إذا أورق.
قال أبو الفتح البستيّ:
لئن تنقَّلت من دارٍ إلى دارٍ ... وصرت بعد ثواءٍ رهن أسفار
فالحرُّ حرٌ عزيز النَّفس حيث ثوى ... والشَّمس في كلِّ برج ذات أنوار
وقال غيره:
كفى حزناً أنِّي مقيمٌ ببلدةٍ ... وأنت بأخرى ما إليك سبيل
خرج الشافعي الفقيه رضي الله عنه في بعض أسفاره، فضمَّه الليل إلى مسجدٍ،فبات فيه،وإذا في المسجد قوم عوامّ يتحدثون بضروب من الخنا وهجر المنطق، فتمثل:
وأنزلني طول النَّوى دار غربةٍ ... إذا شئت لاقيت امرءاً لا أشاكله
قال شريك:كان يقال: إن أنجى النَّاس من البلايا والفتن، من انتقل من بلدٍ إلى بلد.
قيل لبعضهم :أيُّ سفرٍ أطول؟ فقال: من كان في طلب صاحبٍ يرضاه، أودرهم حلالٍ يكسبه.
قال حاتم الطَّائي:
إذا لزم النَّاس البيوت وجدتهم ... عماةً عن الأخبار خرق المكاسب
قال محمد بن أبي حازم الباهلي:
كم المقام وكم تعتافك العلل ... ما ضاقت الأرض في الدُّنيا ولا السُّبل
فارحل فإنّ بلاد الله ما خلقت ... إلا ليسلك منها السَّهل والجبل
إن ضاق لي بلدٌ يّممت لي بلداً ... وإن نبا منزلٌ بي، كان لي بدل
وإن تغيَّر لي عن ودِّه رجلٌ ... أصفى المودَّة لي من بعده رجل
لم يقطع الله لي من صاحب أملا ... إلاّ تجدَّد لي من صاحبٍ أمل
الله قد عوَّد الحسنى فما برحت ... منه لنا نعمٌ تترى وتتَّصل
يمسي ويصبح بي عمرٌ أدافعه ... برزق ربِّي حتى ينفد الأجل
وقال بعض المتأخرين من المغاربة،وتنسب إلى المتنبي، ولا تصح له:
رأيت المقام على الإقتصاد ... قنوعاً به ذلَّةً للعباد
وعجزٌ بذي أدبٍ أن يضيق ... به عيشه وسع هذي البلاد
وماغرب الرِّزق عن رائدٍ ... ولا سيما حسن الإرتياد
إذا ما الأديب ارتضى بالخمول ... فلاحظَّ في الأدب المستفاد
وفي الإضطراب وفي الإغتراب ... منال المنى وبلوغ المراد
وشرُّ الضَّراغم ضرغامةٌ ... طوى شبله وهو في الغيل هاد
وإن صارمٌ قرَّ في غمده ... حوى غيره الفضل يوم الجلاد
ولو يستوي بالنُّهوض القعود ... لما ذكر الله فضل الجهاد
إذا النَّار ضاق بها زندها ... ففسحتها في فراق الزِّناد
فدع موطناً واغد مسترزقاً ... كذا الرِّزق غادٍ إلى كلِّ غاد
ولا تفن عمرك خوف الفراق ... لبيضٍ ملاح وسمرٍ خراد
يطلن البكا عند شحط النَّوى ... ويأسين كلَّ الأسى في البعاد
فكم ترحةٍ من أسى فرقةٍ ... تعود سروراً بحسن المعاد
إلى كم تحمَّل ضيق المعاش ... وتصبر والصَّبر صعب القياد
على حالةٍ فوتها خيرها ... وضيق المعيشة سقم الفؤاد
بلا حاسدٍ لي ولا حامدٍ ... قليلة خيرٍ كماء الثِّماد
فلا شرَّ منِّي يخاف العدو ... ولا خير يرجوه أهل الوداد
جب الأرض شرقاً وجب غربها ... إلى كلِّ فجٍ عميقٍ وواد
عساك تنال الغنى أو تموت ... وعذرك في ذاك للنَّاس باد
فإن يكن الفقر حتماً عليك ... فكابده في غير ناديك ناد

فللموت أهون من أن تراك ... بعين الخساسة عين الأعادي
فإن لم تنل مطلباً رمته ... فليس عليك سوى الإجتهاد
وقال آخر:؟
مامن غريبٍ وإن أبدى تجلُّده ... إلاَّ سيذكر بعد الغربة الوطنا
وقال عبيد بن الأبرص:
وكلُّ ذي غيبةٍ يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب

باب التحول عن مواطن الذل
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه " قالوا: يا رسول الله وكيف يذل نفسه؟ قال: " يتعرض من البلاء لما لا يطيق " .
قال أوس بن حجر:
؟أقيم بدار الحزم ما دام حزمها ... وأحر إذا حالت بأن أتحوَّلا
وقال المتلمّس:؟؟؟
إنَّ الهوان حمار البيت يألفه ... والحرُّ ينكره والفيل والأسد
؟ولا يقيم بدار الذُّلِّ يألفها إلاَّ الذَّ ليلان عير الحيِّ والوتد
هذا على الخسف مربوطٌ برمَّته ... وذا يشجُّ فما يأوي له أحد
وقال مالك بن الرَّيب:
فإن تنصفونا آل مروان نقترب ... إليكم وإلاَّفأذنوا ببعاد
ففي الأرض عن دار المذلَّة مذهبٌ ... وكلُّ بلادٍ أوطنت كبلادي
وقال المغيرة بن حبناء:
ومثلى إذا ما الدَّار يوماً نبت به ... تحوَّل عنها واستمرَّت مرائره
ولا أنزل الدَّار المقيم بها الأذى ... ولا أرأم الشّيء الَّذي أنا قادره
إذا أنت لم ترغب بدارٍ نزلتها ... فبعها بدار أو بجارٍ تجاوره
أنشد أبو عبيد عن الأصمعي:؟
إذا كنت في دارٍ يهينك أهلها ... ولم تك مكبولاً بها فتحوَّل
وقال الزبير بن عبد المطلب:؟
ولا أقيم بدارٍ لا أشدُّ بها ... صوتي إذا ما اعترتني سورة الغضب
وقال آخر:
لا تأسفنَّ على خلٍّ تفارقه ... إنَّ الأقاصي قد تدنو فتأتلف
في النَّاس متبدلٌ والأرض واسعةٌ ... فيها مجالٌ لذي لبٍّ ومنصرف
وقال قيس بن الخطيم:؟
ومابعض الإقامة في ديارٍ ... يعيش بها الفتى إلاَّ بلاء
وقال المغيرة بن حنباء:
وفي الدّهر والأيَّام للمرء عبرةٌ ... وفي الأرض عن دار الأذى مترحرح
وقال معن بن أوس:
وفي النَّاس إن رثَّت حبالك واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القلى متحوَّل
وقال عبد الصمد بن المعذل ، ويروى لغيره:
إذا وطنٌ رابني ... فكلُّ بلادٍ وطن
وقال أبو العتاهية:
من عاش قضَّى كثيراً من لبانته ... وللمضايق أبوابٌ من الفرج
من ضاق عنك فأرض الله واسعةٌ ... في كلِّ وجه مضيقٍ وجه منفرج
وقال الحسين بن الضحاك ، أو أبو العتاهية :
هممٌ تقاذفت الخطوب بها ... فهرعن من بلد إلى بلد
وقال آخر:
وفي الأرض عمَّن لايواتيك مرحل
وقال حبيب بن أوس الطائي :
وطول مقام المرء في الحيِّ مخلقٌ ... لديباجتيه فاغترب تتجدَّد
فإني رأيت الشَّمس زيدت محبَّةً ... إلى النَّاس إذ ليست عليهم بسرمد
وقال ابن المعتز:
رأيت حياة المرء ترخص قدره ... فإن مات أغلته المنايا الطَّوائح
كما يخلق الثوب الجديد ابتذاله ... كذا تخلق المرء العيون اللَّوامح
وقالأ أبوالفتح البستي:
وطول الماء في مستقرِّه ... يغيِّره لوناً وريحاً ومطعما
و قال أبو الفتح الشدوني:
إذا ما الحرُّ هان بأرض قومٍ ... فليس عليه في هربٍ جناح
وقد هنَّا بأرضكم وصرنا ... لقى في الأرض تذروه الرِّياح
وقال محمود الوراق:
وإذا نبا بي منزلٌ لا يرتضي ... جاوزته واخترت منه منزلا
وقال آخر:
وإذا الدِّيار تنكَّرت عن حالها ... فدع الدِّيار وأسرع التَّحويلا
ليس المقام عليك حقاً واجباً ... في منزلٍ يدع العزيز ذليلا
وقال بشار بن برد:
وكنت إذا ضاقت عليّ محلةٌ ... تيمَّمت أخرى ما عليّ تضيق

وماخاب بين الله والنَّاس عاملٌ ... له في النّقى أو في المحامد سوق
ولا ضاق فضل الله عن متعفّفٍ ... ولكنَّ أخلاق الرِّجال تضيق
وقال آخر: ؟إذا كنت في دارٍ وحاولت رحلةٍ فدعها وفيها إن رجعت معاد وقال آخر:
خلِّط فهذا زمانٌ فيه تخليط ... والنَّاس صنفان محرومٌ ومغبوط
ولا تقم ببلادٍ لا انتفاع بها ... فالأرض واسعةٌ والرِّزق مبسوط
ولا تكن غرَّةًٍترضى بغير رضىً ... فإنَّ رزقك عند الله مخطوط
وقال جواس الكلبي:
وإذا العلج أغلق الباب دوني ... لم يحرِّم على متن الطَّريق
وكفاني جفاء من يزدريني ... قطعي الخرق بالمروخ الحروق
وقال آخر:
اصبر على حدث الزَّمان فإنَّما ... فرج الشَّدائد مثل حلِّ عقال
وإذا خشيت تعذُّراً في بلدةٍ ... فاشدد يديك بعاجل التِّرحال
إنَّ المقام على الهوان مذلَّةٌ ... والعجز أضعف حيلة المحتال
وقال يحيى بن حكم الغزال:
وإنَّ مقامي شطر يومٍ بمنزلٍ ... أخاف على نفسي به لكثير
وقد يهرب الإنسان من خيفة الردى ... فيدركه ما خاف حيث يسير
وقال المتنبي:
إذا لم أجد في بلدةٍ ما أريده ... فعندي لأخرى عزمةٌ وركاب
وقال أبو عثمان العروضي في مهموزته:
إنَّ الفتى كلَّ الفتى من رأى ... هوانه أقبح ما قد رأى
اهرب عن الذُّلِّ وعجِّل فما ... أقربه من كلِّ من أبطآ
لو جرحت رأسي يدا منصفٍ ... لما تمنَّيت بأن أبرآ
ولي حين رحلت من إشبيلية:
وقائلةٍ مالي أراك مرحّلاً ... فقلت لها:صه واسمعي القول مجملا
تنكَّر من كنَّا نسرُّ بقربه ... وعاد زعافاً بعدما كان سلسلا
وحقَّ لجارٍ لم يوافقه جاره ... ولا لاء مته الدَّار أن يترحَّلا
بليت بخفضٍ والمقام ببلدةٍ ... طويلاً لعمري مخلقٌ يورث البلا
إذا هان حرٌ عند قومٍ أتاهم ... ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا
ولم تضرب الأمثال إلاَّ لعالمٍ ... ولا عوتب الإنسان إلاَّ ليعقلا
وقال ابن حازم، أو ابن بسام:
وإن نبا منزلٌ بحرٍّ ... فمن مكانٍ إلى مكان
لا يلبث الحرُّ في مكانٍ ... ينسب فيه إلى هوان
الحرُّ حرٌّ وإن تعدَّت ... عليه يوماً يد الزَّمان
والنَّذل نذلٌ وإن تكنَّى ... وصار ذا منطقٍ وشان
فاسترزق الله واستعنه ... فإنَّه خير مستعان
وقال أبو الفتح:
متى رفضتني دار قومٍ تركتها ... وإن لم يكن منها ومن أهلها بد
وقال حبيب:
لا يمنعنَّك خفض العيش في دعةٍ ... نزوع نفسٍ إلى أهلٍ وأوطان
تلقى بكلِّ بلادٍ إن نزلت بها ... أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان
وقال ابن أبي حبيش:
يا نازلاً ببطليوسٍ إذا ظفرت ... يوماً يداك بيوم البين فاستبق
ولا تقم ببلادٍ لا يعاد بها ال ... مرضى وعجِّل على ما فيك من رمق
إنَّ المقام بأرضٍ لا يزار بها ... ولا يعاد أخو الشَّكوى من الحمق
باب التَّوديع والفراق
ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب في مسيره إلى العمرة،فقال: " يا أخي لا تنسنا من دعائك " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا خرج أحدكم إلى سفر فليودع إخوانه،فإن الله جاعل له في دعائهم بركة " .
وكان عبد الله بن عمر إذا ودع رجلا يقول:استودع الله دينك، وأمانتك، وخواتم عملك.
قال الشعبي: السُّنة إذا قدم رجل من سفر، أن يأتيه إخوانه فيسلّموا عليه، إذا خرج إلى سفر أن يأتيهم فيودعهم ويغتنم دعائهم.
ودع شعبة بن الحجّاج رجلا خارجاً إلى الحج فقال له :أما إنَّك إن لم تعدَّ الحلم ذلاً، ولا السّفه شرفاً، سلم حجُّك.
ودع عبد الله بن المبارك رجلا، فقال:
ونحن ننادي أنّ فرقة بيننا ... فراق حياةٍ لا فراق ممات

وقال إبراهيم الموصلي:
تقضَّت لباناتٌ وجدّ رحيل ... ويشف من أهل الصَّفاء غليل
ومدَّت أكفٌ للوداع تصافحت ... وكادت عيونٌ للفراق تسيل
ولا بد للإلفين من ذمِّ لوعةٍ ... إذا ماالخليل بان عنه خليل
فكم من دمٍ قد طلّ يوم تحمَّلت ... أوانس لا يودى لهنّ قتيل
غداة جعلت الصَّبر شيئاً نسيته ... وأعولت لو أجدى عليك عويل
وقال محمد بن مقسم، أنشده له ابنه أبو الحسن أحمد بن مقسم:
فراق الأحبَّة داءٌ دخيلٌ ... ويوم الرَّحيل لنفسٍ رحيل
سمعت ببينك فاعتادني ... غليلٌ ببقلبي وحزنٌ طويل
أهذا ولم يك يوم الفراق ... فإن كان لا كان زاد الغليل
وأيقنت أنِّي به تالفٌ ... ما قد وصفت عليه دليل
حياة الخليل حضور الخليل ... ويفنى إذا غاب عنه الخليل
وقال آخر:
بكت عيني غداة البين حزناً ... والأخرى بالبكا بخلت علينا
فجازيت التي جادت بدمع ... بأن أقررتها بالوصل عينا
وجازيت التي جادت بدمعٍ ... بأن غمّضتها يوم التقينا
وقال الزبير بن بكار:شيعني إسحاق بن إبراهيم و قال:
فراقك مثل فراق الحياة ... وفقدك مثل افتقاد الدّيم
عليك السَّلام فكم من وفاءٍ ... أفارق منك وكم من كرم
وقال آخر:
ودّع أحبابه فما وقفوا ... ولا على ذي صبابةٍ عطفوا
كم كبدٍ قطعوا بينهم ... وكم دموعٍ عليهم تلف
كأنَّهم لم يجاوروك ولم ... تعرفهم والوصال مؤتلف
وقال آخر:
لم أنس يوم الرَّحيل موقفها ... وطرفها في دموعها غرق
وقولها والرِّكاب واقفةٌ ... تركتني هكذا وتنطلق
وقال آخر:؟
ليس شيءٌ من الفراق وإن كا ... ن أخو الوجد والهاً كلفا
أحرق من وقفة المشيِّع للقل ... ب يريد الرُّجوع منصرفا
وقال آخر:
أقول له حين ودَّعته ... وكلٌّ بعشرته مبلس
لئن رجعت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس
وقال آخر:
من يكن يكره الفراق فإنِّي ... أشتهيه لموضع التَّسليم
إنَّ فيه اعتناقةً لوداعٍ ... وانتظار اعتناقةٍ لقدوم
وقال آخر:
صاح الغراب بوشك البين فارتحلوا ... وقرَّبوا العيس قبل الصُّبح واحتملوا
وغادروا القلب ما تهدا لواعجه ... كأنَّه بضرام النَّار مشتعل
وفي الجوانح نار الحبِّ تقذفها ... أيدي النّوى بزناد الشَّوق إذ رحلوا
لمَّا أناخوا قبيل الصّبح عيرهم ... ورحَّلوها وسارت بالدُّمى الإبل
وقلَّبت من خلال السُّجف ناظرها ... ترنو إليًّ ودمع العين منهمل
وودّعت ببنان عقده عنمٌ ... ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل
ويحيى من البين ماذا حلَّ بي وبهم ... من نازل البين حلَّ البين وارتحلوا
يا راحل العيس عرِّج كي نودِّعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إنِّي على العهد لم أنقض مودّتهم ... يا ليت شعري لطول البين ما فعلوا
أنشدني أبو القاسم خلف بن قاسم رحمه الله، قال أنشدني أبو بكر بن محمد ابن عبد الله بن الصَّيدلاني، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل الأخفش:
سقياً ورعياً وإيماناً ومغفرةً ... للباكيات علينا حين نرتحل
يبكي علينا ولا نبكي على أحدٍ ... أنحن أغلظ أكباداً أم الإبل
وقال آخر:
أحجَّاج بيت الله في أيِّ هودجٍ ... وفي أيِّ خدرٍ من خدوركم قلبي
أأبقى نحيل الجسم في أرض غربةٍ ... وحاديكم يحدو بقلبي مع الرَّكب
وقال عمر بن أبي ربيعة:
هاج القريض الذِّكر ... لمَّا غدوا فانشمروا
على بغالٍ شحَّجٍ ... قد ضمَّهنَّ السَّفر

فيهنَّ هندٌ ليتني ... ما عمِّرت أعمَّر
حتَّى إذا ما جاءها ... حتفٌ أتاني القدر
وقال آخر:
أيا عجباً ممَّن يودِّع إلفه ... يمدَّ يداً نحو الفراق فيسرع
هممت بتوديع الحبيب فلم أطق ... فودَّعته بالقلب والعين تدمع
وينظر إليه في قول الآخر:
ودَّعها طرفي فقالت له ... بالدَّمع أستودعك الله
وقال حبيب
مااليوم أوَّل توديعي ولا الثَّاني ... البين أكثر من شوقي وأحزاني
حسب الفراق بأنَّ الدَّهر ساعده ... فصار أملك من روحي بجثماني
وماأظنُّ النَّوى يرضى بما صنعت ... حتَّى تشافه بي أقصى خرسان
وقال آخر:
أهدى إليه سفرجلاً فتطيَّرا ... منه وظلّ مفكِّراً مستعبراً
خوف الفراق لأنَّ شطر هجائه ... سفرٌ وحقَّ له بأن يتطيَّرا
وقال آخر:
أقيم وتظعنين وأنت روحي ... وهل جسدٌ يعيش بغير روح
لئن كان الفراق غداً فإنِّي ... سأحمل لا أشكُّ إلى ضريحي
تعالي بعد فرقتنا لنبكي ... فإنِّي نائحٌ أبداً فنوحي
وقال أبو الشيص، وهو محمد بن عبد الله بن رزين:
مافرَّق الأحباب بع ... د الله إلاَّ الإبل
والنَّاس يلحون غرا ... ب البين لمَّا جهلوا
وماعلى ظهر غرا ... ب البين تطوى الرِّحل
ولا إذا صاح غرا ... بٌ في الدِّيار ارتحلوا
وماغراب البين إلاَّ ... ناقةٌ أو جمل
أنشدنيها عبد الوارث عن قاسم عن أبي خيثمة لأبي الشِّيص.
وقال العلوي علي بن محمد:
ولقد نظرت إلى الفراق فلم أجد ... للموت لو فقد الفراق سبيلا
ياساعة البين الطَّويل كأنَّما ... واصلت ساعات القيامة طولا
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الفقيه:
لعمري لئن شطَّت بعثمة دارها ... لقد كدت من قبل الفراق أليح
أروح بهمٍّ ثم أغدو بمثله ... ويحسب أنِّي في الثِّياب صحيح
وقال حبيب:
يوم الفراق لقد خلقت طويلا ... لم تبق لي جلداً ولا معقولا
لو جاء مرتاد المنيَّة لم تجد ... إلاَّ الفراق على النُّفوس دليلا
قالوا الرَّحيل فما شككت بأنَّها ... نفسي عن الدُّنيا تريد رحيلا
وهذا باب أكثر فيه أهل الظرف، فرأيت اختصاره،قال الحارث بن وعلة، وتنسب إلى العتّابي كلثوم بن عمرو،وهي أبيات كثيرة أولها:
ماغناء الحذار والإشفاق ... وشآبيب دمعك المهراق
غرَّ من ظنَّ أن يفوت المنايا ... وعراها قلائد الأعناق
ويد الحادثات رهنٌ بمرَّا ... تٍ من العيش مصرَّات المذاق
كم صفيَّين متّعا باتفاقٍ ... ثمَّ صارا من بعده لافتراق
قلت للفرقدين والَّليل ملقٍ ... سود أكنافه على الآفاق
ابقيا ما بقيتما سوف يرمي ... بين شخصيكما بسهم الفراق
هوِّني ذا عليك واقني حياءً ... لست تبقين لي ولست بباق
أيُّنا قدَّمت حمام المنايا ... فالَّذي أخَّرت سريع الَّلحاق
لا يدوم البقاز للخلق ل ... كنَّ دوام البقاء للخلاَّق
إن قضى الله أن يكون تلاقٍ ... بعد ما قد ترين كان التّلاقي
وقال آخر، وهو نفطويه:
شيئان لو بكت الدِّماء عليهما ... عيناي حتَّى تؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقَّيهما ... فقد الشَّباب وفرقة الأحباب
وقال الغزال:
وإن رجائي في الإياب إليكم ... وإن أنا أظهرت العزاء قصير
وإن كنت تبغين الوداع فبالغي ... فدونك أحوالٌ أرى وشهور
وقال آخر:
ليس الفراق وإن جزعت بضائرٍ ... ما لم تفرِّق بيننا الأخلاق
إن لم يحل حدث المنيَّة بيننا ... فسنلتقي وسيحفظ الميثاق

والدَّهر يجمع بين كلِّ مفارقٍ ... ولكلِّ ملتقيين منه فراق
وقال محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين:
مدَّت إلى البين أطرافاً مخضَّبةً ... لمَّا تولَّت وذاقت حرقة البين
وودَّعتني وما همَّت ولا نطقت ... وإنَّما ودّعت وحياً بعينين
بلى لقد أومأت نحوي بإصعبها ... إيماءةً ختلت عنها الرَّقيبين
وقال آخر:
أتذكر إذا تودِّعنا سليمى ... بعود بشامةٍ سقى البشام
يريد: تشير إلينا بمسواكها مودعة.
وقال أبوعوانة: كنت أجالس أبا العتاهية فأراد الخروج إلى مكة فودعني وقال:
إن نعش نجتمع وإلاَّ فما ... أشغل من مات عن جميع الأنام
قالت أعرابية لابن لها، وقد ودعته وهو يريد سفراً: امض مصاحباً مكلوءاً، لا أشمت الله بك عدواً، ولا أرى محبيك فيك سوءاً.
ودع أعرابي رجلا، فقال كبت الله لك كل عدوّ إلا نفسك، وجعل خير عملك، ما ولى أجلك. بيت قديم:
وكلُّ مصيبات الزَّمان وجدتها ... سوى فرقة الأحباب هيِّنة الخطب
قال محمد بن عبد السلام الخشني:
كأن لم يكن بينٌ ولم تك فرقةٌ ... إذا كان من بعد الفراق تلاق
كأن لم تؤرَّق بالعراقين مقلتي ... ولم تمر كفُّ الشَّوق ماء مآق
ولم أزر الأعراب في خبت أرضهم ... بذات اللِّوى من رامةٍ وبراق
ولم أصطبح في البيد من قهوة النَّوى ... بكأسٍ سقانيها الفراق دهاق
وقال آخر:
خليليّ إلاَّتبكيا لي أستعن ... خليلاً إذا أفنيت دمعي بكى ليا
كأن لم تكن بينٌ إذا كان بعده ... تلاق ولكن لا إخال تلاقيا
قالوا: كم بين لوعة الفراق وفرح التلاق.

باب الزيارة والعيادة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من زار أخاً له في الله،أو عاده، خاض الرحمة حتى يرجع وقال الله عز وجلّ له:طبت ممشاك وتبوأت من الجنَّة منزلا " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتاكم الزائر فأكرموه " وقال حاكياً عن الله عز وجل: " وجبت محبتي للمتزاورين فيّ والمتحابين فيّ " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،لأبي هريرة: " ياأباهريرة زرغبَّاً تزدد حبّاً " .أخذه الشاعر فقال:
إذا شئت أن تقلى فزر متواتراً ... وإن شئت أن تزداد حبَّاً فزد غبَّا
أنشدني أبو عثمان سعيد بن سيد، لعبد الملك بن جهور الوزير:
وقد قال الرَّسول وكان برَّاً ... إذا زرت الحبيب عزره غبَّا
وأقلل زور من تهواه تزدد ... إذا ما زرته مقةً وحبَّا
ولعلي بن أبي طالب الكاتب:
إنِّي رأيتك لي محبَّاً ... وإليّ حين أغيب صبَّا
فهجرت لا لملالةٍ ... حدثت ولا استحدثت ذنبا
إلاَّ لقول نبيِّنا ... زوروا على الأيَّام غبَّا
ولقوله من زار غبَّا ... منكم يزداد حبَّا
قال خارجة بن زيد النحوي: دخلت على محمد بن سيرين بيته زائراً له،فوجدته جالساً بالأرض،فألقى إليّ وسادة،فقلت له:إني قد رضيت لنفسي مارضيت لنفسك.فقال: إني لا أرضى لك في بيتي ما أرضى لنفسي، واجلس حيث تؤمر، فلعل الرجل في بيته يكره أن تستقبله.
قال بشار:
لا تجعلن أحداً عليك إذا ... أحببته وهويته ربَّا
وصل الخليل إذا شغفت به ... واطو الزِّيارة دونه غبَّا
فلذاك خيرٌ من مواصلةٍ ... ليست تزيدك عنده قربا
لكن يملُّك ثمَّ تدعو باسمه ... فيقول:ها،وطالما لبَّى
وقال آخر:
عليك بإقلال الزِّيارة إنَّها ... تكون إذا ما دامت إلى الهجر مسلكا
فإنِّي رأيت الغيث يسأم دائماً ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
قال قيس بن سعد بن عبادة: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم زائراً،فوقف ببابنا.
قال ابن المعتز:
وقفةٌ في الطَّريق نصف الزِّياره
وقال آخر:
وحظُّك زورةٌ في كلِّ عامٍ ... موافقةٌ على ظهر الطَّريق

سلاماً خالياً من كلِّ شيءٍ ... يعود به الصَّديق على الصَّديق
كان يقال:امش ميلاً وعد عليلا، وامش ميلين وأصلح بين اثنين،وامش ثلاثة أميال، وزر في الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان فيمن قبلكم رجل يزور أخاً له في الله بقرية أخرى، فأرصد الله على مدرجه ملكا،فلما انتهى إليه قال له: أين تريد؟ قال:أريد قرية كذا. قال: وما حاجتك فيها؟ قال: زيارة أخ لي في الله.قال:وهل غيرذلك؟ قال: لا قال:فهل عليك من نعمة تربيها، أو تشكرها؟ قال: لا ،إلا أنه أحبني في الله فأحببته فيه. قال: فإني رسول الله إليك، مخبرك أنه يحبك كما أحببت فيه " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور،ثم أذن لي فيها فزوروها فإنها تذكّر الآخرة، ولا تقولوا هجراً " .
كان سفيان بن عيينة يقول:لا تعمل الأقدام في الزيارة إلاّ إلى أقدارها، وينشد:
فضع الزِّيارة حيث لا يزرى بها ... كرم المزور ولا يعاب الزَّائر
وقال العباس بن الأحنف:
يقرِّب الشَّوق داراً وهي نازحةٌ ... من عالج الشَّوق لم يستبعد الدَّارا
أزوركم لا أكافئكم بجفوتكم ... إنَّ المحبَّ إذا لم يستزر زارا
وقال الأحوص:
وماكنت زوَّاراً ولكنَّ ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بدَّ أن سيزور
أزور على أن لست أفقد كلَّما ... أتيت عدوَّاً بالبنان يشير
وقال آخر:
فإنَّي لزوَّارٌ لمن لا يزورني ... إذا لم يكن في ودِّه بمريب
ومستقربٌ دار الحبيب وإن نأت ... وما دار من أبغضته بقريب
وقال آخر:
رأيت تباعد الإخوان قرباً ... إذا اشتملت على الودِّ القلوب
وليس يواصل الإلمام إلاَّ ... ضنينٌ في مودَّته مريب
وقال إبراهيم بن العباس الصولي:
دنت بأناسٍ من تناءٍ زيارةٌ ... وشطَّ بليلى عن دنوٍ مزارها
وإنَّ مقيماتٍ بمنقطع الِّلوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها
وأما قول قرم بن مالك:
علام إوايم البخلاء فيها ... فأقعد لا أزور ولا أزار
قال بعضهم:إن معناه علام أستوحش من الناس، وتأول من ذهب هذا المذهب في قول العرب: لولا الأوام هلك الأنام، أي لولا أنس الناس بعضهم ببعض لهلكوا إذا عمتهم الوحشة. وقال آخرون:في قولهم: لولا الأوام هلك الأنام، أي لولا أن بعض الناس إذا رأى صاحبه صنع خيراً تشبه به لهلك الناس، ولبعض أهل العصر:
أزور خليلي ما بدا لي هشُّه ... وقابلني منه البشاشة والبشر
فإن لم يكن هشٌ وبشٌ تركته ... ولو كان في الُّلقيا الولاية واليسر
وحقُّ الذي ينتاب داري زائراً ... طعامٌ وبرٌ قد تقدَّمه بشر

باب العيادة أيضا
ً
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عائد المريض في مخرفة الجنة " .
وقال عليه السلام: " عائد المريض يخوض الرحمة،فإذا قعد عنده غمرته " .
قال مالك: أو نحو هذا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حقِّ المسلم على المسلم أن يسلِّم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض ويشمِّته إذا عطس، ويشيِّع جنازته إذا مات ويجيبه لطعامه إذا دعاه " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل العيادة أخفُّها " .
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال:حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن الحجاج - يعني بن أرطاة - عن المنهال عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عبّاس، قال: " من دخل على مريضٍ لم تحضر وفاته، فقال: أسأل الله العظيم، ربَّ العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات شفي " .
قال الشاعر:
؟إن كنت في ترك العيادة تاركاً ... حظِّي فإنِّي في الدُّعاء لجاهد
ولربَّما ترك العيادة مشفقٌ ... وأتى على غلِّ الضّمير الحاسد
وقال آخر:
إذامرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
وقال عبد الله بن مصعب الزبيري:
مالي مرضت فلم يعدني عائدٌ ... منكم ويمرض كلبكم فأعود
فسمي عائد الكلب.
ولجعفر بن حذار الكاتب:
؟إنَّ العيادة يومٌ بين يومين ... واقعد قليلاً كلحظ العين بالعين

لا تبرمنَّ مريضاً في عيادته ... يكفيك من ذاك تسآلٌ بحرفين
وللشافعي الفقيه رضي الله عنه وقد اشتكى بمصر شكوى عاده فيها بعض إخوانه، فلمسوا جبينه، وقالوا له: أنت بخير ونحو هذا، فقال:
أقول لعائديَّ وشجَّعوني ... وغرَّهم فتور حمى جبيني
تعزَّوا بالتَّصبُّر عن أخيكم ... فضجُّوا بالبكاء وودّعوني
فلم أدع الأنين لقلِّ سقمي ... ولكنِّي ضعفت عن الأنين
سأصبر للحمام وقد أتاني ... وإلاَّ فهو آتٍ بعد حين
وإن أسلم يمت قبلي حبيبٌ ... وموت أحبَّتي قبلي يسوني
قال المدائني:سقط عبد الله بن شبرمة القاضي عن دابته، فوثئت رجله، فدخل عليه يحيى بن نوفل الشاعر عائداً له ومادحاً، وكان جاره فأنشده:
أقول غداة أتانا الخبير ... ود سَّ أحاديثه هينمه
لك الويل من مخبرٍ ماتقول؟ ... أبن لي وعدِّ عن الجمجمه
فقال خرجت وقاضي القضا ... ة منفكَّةٌ رجله مؤلمه
فقلت وضاقت عليَّ البلاد ... وخفت المجلِّلة المعظمه
فغزوان حرٌّ وأمُّ الوليد ... إن الله عافى أبا شبرمه
جزاءً لمعروفه عندنا ... وما عتق عبدٍ له أو أمه
قال: وفي المجلس جارٌ ليحيى بن نوفل يعرف ما في منزله، فلما خرج تبعه، فقال له: ياأبا معمر! رحمك الله من غزوان وأمّ الوليد؟ قال: سنَّوران في البيت فاستر عليّ.

باب الحجاب
قال رسول الله صلىِّ الله عليه وسلِّم : " من ولي من أمور النَّاس شيئاً فاحتجب عن حاجتهم، احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حاجته، وخلّته وفاقته " .
وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: " من رفع حاجة ضعيفٍ إلى ذي سلطان لا يستطيع رفعها، ثبَّت الله قدميه على الصِّراط يوم القيامة " .
حجب معاوية أبا الدّرداء يوماً وحبسه عند بابه، فقيل له: يا أبا الدرداء! ويفعل هذا بك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: من يأت أبواب السلطان يقم ويقعد.
قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي: ؟دخلت على معاوية بن صخر على حين يئست من الدّخول
وما نلت الدُّخول عليه حتّى ... حللت محلّة الرّجل الذَّليل
وأغضيت الجفون على قذاها ... ولم أنظر إلى قالٍ وقيل
فأدركت الّذي أمّلت منه ... بمكثٍ والخطا زاد العجول
حجب أعرابيٌّ عند باب سلطان فقال:
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولن يكرم النّفس الّذي لا يهينها
حدثني أبو القاسم خلف بن قاسم رحمه الله، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبيد الله الصَّيدلاني، قال :حدثنا عليُّ بن سليمان الأخفش، قال: أنشدني بعض أصحابنا:
في كلِّ يومٍ لي ببابك وقفةٌ ... أطوى إليها سائر الأبواب
فإذا جلست وغبت عنك فإنّه ... ذنبٌ عقوبته على البوّاب
استأذن أبو سفيان على عثمان رضي الله عنه، فأبطأ إذنه، فقيل حجبك أمير المؤمنين ؟ فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجب.
قال معاوية لحضين بن المنذر: يا أبا ساسان كأنك لا تحسن إذنك. فأنشأ يقول:
كلُّ خفيف الرّأي يمشي مشِّمراً ... إذا فتح البواب بابك إصبعا
ونحن الجلوس الماكثون رزانةً ... وحلماً إلى أن يفتح الباب أجمعا
قال زياد لحاجبه: يا عجلان! إنّي ولّيتك ما وراء بابي، وعزلتك عن أربعة:طارق الليل فشرٌ ما جاء به، وخبر رسول صاحب الثغر فإنّه إن تأخر ساعة أبطل عمل سنة، وهذا المنادي الصّلاة وصاحب الطعام فإنَّ الطَّعام إذا أعيد عليه التَّسخين فسد.
قال مروان لابنه عبد العزيز - حين ولاّه مصر - يا بنيّ مر حاجبك يخبرك من حضر بابك كلّ يوم، فتكون أنت تأذن وتحجب، وآنس من دخل عليك بالحديث فينبسط إليك، ولا تعجل بالعقوبة إذا أشكل عليك الأمر، فإنّك على العقوبة أقدر منك على ارتجاعها.
كان يقال: لا تقم على باب حتى تدعى إليه.

أقام رجل على باب كسرى سنة، فلم يؤذن له، فقال له الحاجب: اكتب كتاباً وخفّفه أوصله لك. فقال: لا أزيد على أربعة أسطر، فكتب في السطر الأول: الأمل والضرورة أقدماني عليك، وفي السطر الثاني: ليس مع العدم صبر على الطلب، وفي السطر الثالث: الرجوع بلا فائدة شماتة الأعداء وفي السطر الرابع: إما نعم مثمرة، وإما لا موئسة. فوقع كسرى تحت كل سطر بأربعة آلاف درهم، فانصرف بستة عشر ألف درهم.
قال أشجع بن عمر السُّلمي، في باب محمد بن منصور بن زياد:
على باب ابن منصورٍ ... علاماتٌ من البذل
جماعاتٌ وحسب البا ... ب فضلا كثرة الأهل
وقال بشار بن برد:
يسقط الطَّير حيث ينتثر الحبُّ ... وتغشى منازل الكرماء
وقال حبيب:
إنّ السّماء ترجَّى حين تحتجب
وقال آخر:
يزدحم النَّاس على بابه ... والمشرب العذب كثير الزِّحام
وقال عبيد الله بن عكراش:
وإنّي لأرثي للكريم إذا غدا ... على طمعٍ عند الَّلئيم يطالبه
وأرثي له من وقفةٍ عند بابه ... كمرثيتي للطِّرف والعلج راكبه
كتب رجل إلى عبد الله بن طاهر:
إذا كان الجواد له حجابٌ ... فما فضل الجواد على البخيل
فأجابه عبد الله بن طاهر:
إذا كان الجواد قليل مالٍ ... ولم يعذر تعلَّل بالحجاب
وقال البحتري:
أتيتك لَّلتسليم لا أنَّني امرؤٌ ... طلبت بإتيانك أسباب نائلك
فألفيت بوَّاباً ببابك مغرماً ... بهدم الّذي أوطأته من فضائلك
وقد قيل قدماً حاجب المرء عاملٌ ... على عرضه فاحذر جناية عاملك
وكن عالماً أن لست من بعد راجعاً ... إليك ولو كان الهدى من رسائلك
ولعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود إلى عمر بن عبد العزيز:
يا عمر بن عمر بن الخطّاب ... إن وقوف الحرِّ عند الأبواب
يدفعه البوَّاب بعد البواب ... يعدل عند الحرّ قلع الأنياب
قال بعض الأكاسرة لحاجبه: لا تحجب عني أحداً إذا أخذت مجلسي،فإن الوالي لا يحجب إلا عن ثلاث:عيٌ يكره أن يطلع عليه، أو بخل فيكره أن يدخل عليه من يسأله، أو ريبة.
وقد نظم هذا كله محمود الوراق فقال:
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه ... وردّ ذوي الحاجات دون حجابه
ظننت به إحدى ثلاثٍ وربّما ... نزعت بظنٍّ واقعٍ بصوابه
فقلت به مسٌ من العيِّ قاطعٌ ... ففي إذنه للنّاس إظهار ما به
فإن لم يك عيُّ اللسان فغالبٌ ... من البخل يحمي ماله عن طلابه
فإن لم يكن هذا ولا ذا فريبةٌ ... يصرُّ عليها عند إغلاق بابه
وله أيضاً:
لولا مقارفة الرِّيب ... ما كنت مّمن يحتجب
أو لا فعيٌ فيك أو ... بخلٌ على أهل الطَّلب
فاكشف لنا وجه العتا ... ب و لا تبال من عتب
وقد جمع منصور الفقيه هذا المعنى في أقل نظم، فقال:
وطول الحجاب مخبِّرٌ ... عن عيِّ صاحبه وبخله
فإذا الفتى لم يستبن ... هذا تبيّن ضعف عقله
وأرفع من هذا قول زهير:
السِّتر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر
قصد إبراهيم بن المهدي بن يحيى بن خالد فحجبه، فكتب إليه إبراهيم:
إني أتيتك للسّلام ولم ... أنقل إليك لحاجةٍ رجلي
فحجبت دونك مرّتين وقد ... تشتدّ واحدةٌ على مثلي
وقال آخر:
سأترك باباً تملك إذنه ... وإن كنت أعمى عن جميع المسالك
فلو كنت بوّاب الجنان تركتها ... وحوّلت رجلي مسرعاً نحو مالك
وقال محمود الوراق:
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... كعهدي به حتّى يخفَّ قليلا
وما خاب من لم يأته متعمِّدا ... ولا فاز من قد نال منه وصولا
وما جعلت أرزاقنا بيد امرئٍ ... حمى بابه من أن ينال دخولا
إذا لم أجد يوماً إلى الإذن سلَّماً ... وجدت إلى ترك المجيء سبيلا
وقال آخر:

على أيِّ بابٍ أطلب الإذن بعدما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه
وفي معنى هذا قول الفرزدق:
وكان يجير النّاس من سيف مالكٍ ... فأصبح يبغي نفسه من يجيرها
وقال آخر:
ولست بمتّخذٍ صاحباً ... يقيم على بابه حاجبا
ويلزم إخوانه حقَّه ... وليس يرى حقّهم واجبا
وقال أبو تمام:
هشٌ إذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مهذّب الخدّام
وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيُّهما أخو الأرحام
وقال أبو العتاهية في عمرو بن مسعدة:
ما لك قد حلت عن وفائك واس ... تبدلت يا عمرو شيمة كدره
ما لي في حاجةٍ إليك سوى ... تسهيل إذني فإنها عسره
إّني إذ ا الباب تاه صاحبه ... لم يك عندي لتركه نظره
لستم ترجَّون للحساب ولا ... يوم تكون السَّماء منفطره
لكن لدنيا تكون بهجتها ... سريعة الإنقضاء منشمره
قد كان وجهي لديك معرفةً ... فاليوم أضحى باباً من النكرة
كتب أبو مسهر إلى أبي جعفر محمد بن عبدكان، وكان قد حجب على بابه:
إني أتيتك للسَّلام أمس فلم ... تأذن عليك لي الأستار والحجب
وقد علمت بأني لم أردَّ ولا ... والله ما ردّ إلاَّ الحديث والأدب
فأجابه محمد بن عبد كان:
لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما ... قال ابن أوسٍ ففي أشعاره أدب
ليس الحجاب بمقصٍ عنك لي أملاً ... إنّ السَّماء ترجّى حين تحتجب
وقال منصور الفقيه:
إن الحجاب عذابٌ ... وليس لي بالعذاب
كلاَّ فلا تعذلوني ... على اتَّصال اجتنابي
وله أيضاً:
إذا كان لا بدَّ من حجبةٍ ... ومن حاجبٍ فاجعلوه رفيقا
يخاطب من جاءه بالجميل ... فيأتي صديقاً ويمضي صديقا

باب المصافحة وتقبيل اليد والفم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " تصافحوا يذهب الغلّ " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " : إذا التقى المسلمان وتصافحا تحاتت ذنوبهما كما يتحاتُّ الشَّجر " .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا صافح رجلاً لم ينزع يده من يده حتى يكون الرّجل هو الذي ينزع يده من يده.
قال أبو مخلد: المصافحة تجلب المحبة.
كان يقال: تحية المؤمنين المصافحة والسَّلام.
قال الشّاعر:
قد يمكث النّاس دهراً ليس بينهم ... ودٌّ فيزرعه التَّسليم والُّلطف
لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وأرادوا النزول على حكم سعد بن معاذ وكان قد تخلف بالمدينة لجرحٍ أصابه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عليه قال للأنصار: " قوموا إلى سيّدكم " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سرّه أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار " .
ومذهب الحديثين أنه جائز للرجل أن يكرم القاصد إليه إذا كان كريم القوم، أو عالمهم، أو من يستحقّ البرّ منهم بالقيام إليه أو يرضى بذلك منهم.
قال ابن المسيّب البغدادي جار ابن الرومي:
أقوم وما بي أن أقوم مذلةٌ ... عليّ وإنّي للكرام مذلَّل
على أنَّها منِّي لغيرك هجنةٌ ... ولكنَّها بيني وبينك تجمل
كان يقال: تقبيل اليد إحدى السجدتين.
تناول أبو عبيدة بن الجراح يد عمر ليقبِّلها، فقبضها، فتناول رجله فقال: ما رضيت منك بتلك فكيف بهذه.!! دخل عقَّال بن شبَّة على هشام بن عبد الملك، فأراد أن يقبِّل يده فقبضها، وقال: مه فإنه لم يفعل هذا من العرب إلا هلوع، ومن العجم إلا خضوع.
قال الحسن: قبلة يد الإمام العدل طاعة.
كان يقال:قبلة الرّجل زوجته الفم، وقبلة الوالد ولده الرأس، وقبلة الأمِّ الولد الخدَّ، وقبلة الأخت الأخ العنق.
قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:قبلة الوالد عبادة، وقبلة الولد رحمة، وقبلة المرأة شهوة وقبلة الرجل أخاه دين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العينان تزنيان وزناهما النظر ،و الفم يزني وزناؤه القبل، واليد تزني وزناؤهما اللمس، ويصدِّق ذلك كله الفرج أو يكذبه " .

قال الهيثم بن عديّ قال لي صالح بن حيّان: من أفقه الشّعراء؟ فقلت: اختلف في ذلك. فقال: أفقه الشعراء وضَّاح اليمن، حيث يقول:
إذا قلت هاتي ناوليني تبسّمت ... وقالت معاذ الله من فعل ما حرم
فما نوَّلت حتّى تضرّعت عندها ... وأعلمتها ما أرخص الله في الَّلمم
باب الرَّسول صلى الله عليه وسلم
ذكر ابن الأنباري عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الرَّسول والرَّسيل والرّسالة سواء.
وينشد هذا البيت على وجهين:
لقد كذب الواشون ما بحث عندهم ... بسرٍّ ولا أرسلتهم برسول
ويروى برسيل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أبردتم إليّ بريداً، أو بعثتم رسولا، فليكن حسن الوجه، حسن الاسم، وإذا سألتم الحوائج فاسألوا حسان الوجوه " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرجل الصّالح يجيء بالخبر الصالح، والرجل السّوء يأتي بالخبر السّوء " .
أنشد أبو حازم القاضي ببغداد:
وأتانا عن النبيِّ حديثا ... ن إليه كلاهما يسندان
واحدٌ في الحاجات يأمرنا أن ... نبتغي من ذوي الوجوه الحسان
ثم في الفال حبّه حسن الاس ... م وهذان فيك مجتمعان
ومعاذ الإله أن يلفيا في ... ك كما جاء عنه لا يصدقان
كان عبد الملك بن مروان إذا ولَّى رجلاً البريد، سأل عن صدقه وعفته وأمانته، وقال: إن كذبه يشكك في صدقه، وشرّه يحمله على كتمان الحق، وعجلته تهجم به على ما يندمه ويؤثمه.
قالوا: الرسول قطعة من المرسل.
قال عمرو بن العاص: ثلاثةٌ دالّة على صاحبها: الرسول على المرسل، والهدية على المهدي، والكتاب على الكاتب.
لما قال عمر بن أبي ربيعة:
من رسولي إلى الثُّريّا فإنِّي ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب
هي مكنونةٌ تحيَّر منها ... في أديم الخدَّين ماء الشّباب
أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين خمسٍ كواعبٍ أتراب
ثم قالوا تحبها؟ قلت بهراً ... عدد القطر والحصى والتّراب
قال له ابن أبي عتيق: والله لا كان المبلغ لهذا الشعر غيري. فارتحل من المدينة حتى أتى مكة، فصادف الثريا في الطواف. فقالت له: يا ابن أبي عتيق! ماجاء بك، وليس هذا أوان الحج؟ فقال: أبيات لعمر. فقالت أنشدني. فأنشدها الأبيات حتى أتى على آخرها. فقالت: أدى الله أمانتك، فقد أديت. قال: فضرب راحلته ورجع.
قال صالح بن عبد القدوس:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه
سمع الخليل بن أحمد رجلاً ينشد بيت صالح هذا:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه
فقال: هو الدِّرهم.
وقال آخر:
وما أرسل الأقوام في حاجةٍ ... أمضى ولا أنفع من درهم
يأتيك عفواً بالذي تشتهي ... نعم رسول الرَّجل المسلم
ولبعض المتأخرين من أهل عصرنا:
إذا كنت متّخذاً رسولاً ... فلا ترسل سوى حرٍّ نبيل
فإن النُّجح في الحاجات يأتي ... لطالبها على قدر الرَّسول
وقال الراجز:
ما مرسلٌ أنجح فيما نعلم ... من طبقٍ يهدي وهذا الدِّرهم
وقال منصور الفقيه:
أرسلت في حاجةٍ رسولاً ... يكنى أبا درهمٍ فتمَّت
ولو سواه بعثت فيها ... لم تحظ نفسي بما تمنّت
باب الهديَّة
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " الهدية رزقٌ من رزق الله، فمن أهدي إليه شيءٌ فليقبله ولا يردّه، وليكافئ عليه " .
وقال صلى الله عليه وسلّم: تهادوا فإنّ الهدية تذهب السّخيمة، وتزيل وحر الصدور ولا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة " ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها أفضل منها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أهدي إليّ ذراع لقبلت، ولو دعيت لكراع لأجبت " .
قال رجل لأبي ذر:فلان يقرئك السلام.فقال :هدية حسنة، وحمل خفيف.
وقال عليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه:نعم الشيء الهدية أمام الحاجة.

وقد حدثنا ابن صاعد، قال:حدثنا زياد بن يحيى أبو الخطاب، حدثنا أبو عتّاب الدَّلاَّل، وحدثنا عثمان بن عبد الرحمن، حدثنا الزُّهري، عن عبد الله بن وهب بن زمعه عن أم سلمة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: " الهدية تذهب السّخيمة " . قيل: وماالسَّخيمة؟ قال: " الإحنة تكون في الصُّدور " .
وعن الهيثم بن عديّ، قال: كان يقال: ما ارتضى الغضبان، ولا استعطف السُّلطان،و لا سلبت الشَّحناء، ولا دفعت المغارم ولا توقِّي المحذور، ولا استعمل المهجور بمثل الهدية والبرّ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " من أهديت إليه هدية فجلساؤه شركاؤه فيها " .
قال أبو إسحاق الصَّابي:
رويت في السُّنة المشهورة البركه ... أنّ الهديَّة في الجلاَّس مشتركه
كان يزيد بن قيس الأرحبيّ، والياً لعلي رضي الله عنه، فأهدى إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما وترك ابن الحنفية، فضرب عليّ رحمه الله على جنب ابن الحنفية وقال:
وما شرُّ الثَّلاثة أمَّ عمروٍ ... بصاحبك الَّذي لم تصبحينا
روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال للقرابات: " تزاوروا ولا تجاوروا، وتهادوا فإن الهدّية تثبت المروءة وتستلُّ السّخيمة " .
أصبح عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بالكوفة يوم نيروز هدايا كثيرة وتحف، فأنكر ذلك. فقالوا له: إنه يوم نيروز قال: فنيروز لنا إذاً كل يوم.
قال أبو عمر: كان هذا منه رضي الله عنه - إن صحّ - قبل أن يدخل الكوفة، وأن يكون خليفة، لأن المحفوظ عنه من رواية الثقات أنه كان لا يقبل هدية نيروز ولا مهرجان، وأنه كان يأخذ ما أهدى إليه عماله فيضعه في بيت المال - مال المسلمين.
قال يونس بن عبيد : أتيت ابن سيرين يوماً ومعي خبيص، فقلت: قولوا له:يونس بالباب. فقال - وأنا أسمع - :قولوا له: قد نام. فقلت: إن معي خبيصاً. قال: كما أنت حتى أخرج إليك.
قال الشاعر:
هدايا النّاس بعضهم لبعضٍ ... تولِّد في قلوبهم الوصالا
وتزرع في الضّمير هوىً وودّاً ... ويكسوهم إذا حضروا جمالا
قال أبو عوانة: قلت للأعمش: ياأبا محمد! إن عندي بطة سمينة، أفتكون عندي في الدار؟قال: وما تصنع بعنائي؟! ابعث بها إلى الدار.
قال الشاعر:
إنّ الهدايا لها حظٌّ إذا وردت ... أحظى من الإبن عند الوالد الحدب
وقال آخر:
ما من صديقٍ وإن أبدى مودّته ... يوماً بأنجح في الحاجات من طبق
إذا تلثّم بالمنديل منطلقاً ... لم يخش صولة بوابٍ ولا غلق
لا تكذبنّ فإنّ النَّاس قد خلقوا ... لرغبةٍ يكرمون النَّاس أو فرق
أمّا الفعال فعند النَّجم مطلعه ... والقول يوجد مطروحاً على الطُّرق
وقال آخر:
أهدى إليه حبيبه أترجّةً ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر
خوف التّبدُّل والتَّلوُّن إنَّها ... لونان باطنها خلاف الظّاهر
بعث أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع بنعل، وكتب معها:
نعلٌ بعثت بها لتلبسها ... تمشي بها قدمٌ إلى المجد
لو كان يحسن أن أشرِّكها ... خدّي جعلت شراكها خدِّي
أهدى الطائي إلى الحسن بن وهب قلماً، وكتب إليه:
قد بعثنا إليك أكرمك الل ... ه بشيءٍ فكن له ذا قبول
لا تقسه إلى ندى كفِّك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجزيل
واغتفر قلَّة الهديَّة منِّي ... إن جهد المقلِّ غير قليل
أولم إسحاق بن إبراهيم الموصلي وليمة، فأهدى إليه إخوانه هدايا، وأهدى إليه إبراهيم بن المهدي جراب ملح وجراب أشنان مطيب، وكتب إليه رقعة:فداك أخوك عنده، لولا أن البضاعة تقصر لجزت السَّابقين إلى برِّك، وكرهت أن تطوى صحيفة البرّ ولاحظّ لي فيها ،فوّجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته، والمختوم به لطيبه ونظافته، جراب ملح وجراب أشنان هدية من يحتشم إلى من لا يغتنم، وكتب أسفل الرقعة:
هديَّتي تقصر عن همّتي ... وهمّتي تعلو على مالي
وخالص الودِّ ومحض الهوى ... أحسن ما يهديه أمثالي
بعث رجل إلى دعبل بأضحية، فكتب إليه دعبل:
بعثت إلينا بأضحيَّةٍ ... وكنت حريَّاً بأن تفعلا

ولكنَّها خرجت غثَّةً ... كأنك أرعيتها حرملا
فإن قبل الله قربانها ... فسبحان ربِّك ما أعدلا
قال قتادة:يعرف سخف الرجل في سخف هديته. قال ذلك في نعل أهديت إليه.
ولي في هذا:
سخافة المرء تدرى في هديَّته ... والنَّوك والُّلؤم فيها يظهران معا
إنّ اللئيم إذا أهدى هديّته ... أبدى نذالته فيها لمن سمعا
ولخلف الأحمر:
سقى حجَّاجنا نوء الثُّريّا ... على ما كان من بخلٍ ومطل
هم جمعوا النِّعال وأحرزوها ... وسدُّوا دونها باباً بقفل
إذا أهديت فاكهةً وشاةً ... وعشر دجائجٍ بعثوا بنعل
ومسواكين طولهما ذراعٌ ... وعشرٌ من رديء المقل خشل
فإن أهديت ذاك لتحملوني ... على نعل فدقّ الله رجلي
أناسٌ يأنفون لهم رواءٌ ... تغيم سماؤهم من غير وبل
إذا انتسبوا ففرعٌ من قريشٍ ... ولكنّ الفعال فعال عكل
وقال آخر في جار له أتى من الحج لم يهد إليه شيئاً:
عبّاس ما وجهك بالهشِّ ... ولا أبرئك من الغشِّ
لم تهد لي نعلاً ولا مقلةً ... كأنَّما جئت من الحشِّ
ولمنصور الفقيه - يداعب صديقاً يكنى أبا النصر ويسمى فتحاً، قدم من الحج - شعرٌ حسن النظم مليح المعنى، رأيت إيراده لحسنه:
سألت الحجيج وقد أقبلوا ... يؤمُّون مصر من أرض الحرم
فقلت لهم بعد إيناسهم:أفتحٌ بمكَّة أم قد قدم؟
فقالوا:ترحَّل من قبلنا ... لعشر ليالٍ توالت حرم
فقلت بحرمة من زرتم؟ ... أحقّاً تقولون؟ قالوا: نعم
فأقبلت في صرخةٍ منهم ... وقلبي ممّا به يضطرم
أعدِّد آلاءه والجفون ... مسافيح بالدَّمع والدَّمع دم
فصادفني صالحٌ عبده ... فقال: فديتك لم تلتدم؟
وماذا دعاك إلى ما أرى ... فقلت: الحذار على ذي الكرم
أبى نصرٍ البحر من جوده ... إذا المزن ضنّت بصوب الدِّيم
فقال: ألم يأت من جمعةٍ ... فقلت كذبت فأين الأدم؟
وأين القفاف الحسان القدود ... وأقداح جيشان تلك السُّلم
وأين النِّعال وأين الفراء ... وأين البرود وأين البرم
وأين القديد قديد الظِّباء ... وأين الملوَّز مثل العنم
فقال: وحقّك ما جاءنا ... بشيءٍ سوى نفسه فاغتنم
قدوم صديقك واستهده ... حديث الوفود وفود الأمم
إلى البيت يشهدك أخباره ... عجائب عربهم والعجم
فقلت: ألا ليت أخباره ... وناقلها خلف قافٍ ولم
ولخلف بن خليفة الأقطع من بني قيس بن ثعلبة في جار له غاب ثم قدم، ولم يهد له، وكانت بينهما مصافاة:
أتانا أخٌ من غيبةٍ غاب أشهراً ... وكنت إذا ما غاب أنشده الرَّكبا
فجاء بمعروفٍ كثيرٍ فدسَّه ... كما دسَّ راعي السُّوء في حضنه الوطبا
فقلت له: هل جئتني بهديَّةٍ ... فقال: بنفسي. قلت: آثر بها الكلبا
هي الَّنفس لا آسى عليها وإن نأت ... ولا أتمنّى الدَّهر يوماً لها قربا
إذا هي أوفت من ثمانين قامةً ... فلا السَّهل لقَّاها الإله ولا الرَّحبا
أهدى أبو أسامة الكاتب إلى بعض إخوانه في يوم نيروز وسهماً وديناراً ودرهماً، وكتب إليه:
لا زلت كالورد نضير الميسم ... ونافذاً مثل نفوذ الأسهم
في عزّ دينارٍ ونجح درهم
أهدى أبو إسحاق بن هلال الصابي إلى عضد الدولة في يوم مهرجان اصطرلاباً على قدر الدرهم محكم الصنعة وكتب إليه:
أهدى إليك بنو الحاجات واحتشدوا ... في مهرجانٍ عظيمٍ أنت تعليه
لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى ... سموّ قدرك عن شيءٍ تساميه
لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه

وأهدى شمس المعالي إلى عضد الدولة سبعة أقلام، وكتب إليه:
قد بعثنا إليك سبعة أقلا ... م لها في البهاء حظٌ عظيم
مرهفاتٍ كأنّها ألسن الحيَّ ... ات قد جاز حدَّها التّقويم
وتفاءلت أن ستحوى الأقالي ... م بها كلُّ واحدٍ إقليم
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: كانت الهدية فيما مضى هدية، أما اليوم فهي رشوة. وقال كعب الأحبار: قرأت في ما أنزل الله على بعض أنبيائه: الهدية تفقأ عين الحكيم.
وقال الشاعر:
إذا أتت الهدية باب قومٍ ... تطايرت الأمانة من كواها

باب الجار
قالت عائشة: يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيِّهما أهدي؟ قال: " إلى أقربهما باباً " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " لا يؤمن جارٌ حتى يأمن جاره بوائقه " وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه " .
كان داود عليه السلام يقول: الّلهم إني أعوذ بك من جار سوءٍ، عينه ترعاني، وقلبه لا ينساني.
مكتوب في التوراة: إنّ أحسد النّاس لعالمٍ وأنعاه عليه قرابته وجيرانه.
وقال عكرمة: أزهد النّاس في عالم جيرانه.
قال رجل لسعيد بن العاص: والله إنّي لأحبُّك. فقال له:ولم لا تحبنّي ولست بجار لي ولا ابن عم.
كان يقال:الحسد في الجيران،و العدواة في الأقارب.
روى يحيى بن يحيى الباجي، قال حدثني محمد بن الفضل المكّي. قال حدثني أبي عن إبراهيم عن عبد الله،قال:مرَّ مالك بن أنسٍ بقينة تغني شعر مسلم:
أنت أختي وأنت حرمة جاري ... وحقيقٌ عليّ حفظ الجوار
إنَّ للجار إن تغيبّ غيباً ... حافظاً للمغيب والأسرار
ما أبالي أكان للباب سترٌ ... مسبل أم بقي بغير ستار
فقال مالك:علموا أهليكم هذا ونحوه.
وعن مالك، أيضاً، قال مالك بن أنس،قال أبو حازم:كان أهل الجاهلية أحسن جواراً منكم، فإن قلتم: لا .فبيننا وبينكم قول شاعرهم:
ناري ونار الجار واحدةٌ ... وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضرَّ جاراً لي أجاوره ... ألاَّ يكون لبيته ستر
أعمى إذا ما جارتي برزت ... حتّى يواري جارتي الخدر
قال أبو عمر: هذا الشاعر مسكين الدارميّ.
وقال آخر: ؟أقول لجاري إذ أتاني معاتباً مدلا بحقٍّ أو مدلا بباطل
إذا لم يتصل خيري وأنت مجاوري ... إليك فما شرِّي إليك بواصل
قال الأصمعي: ومن أحسن ما قيل في حسن الجوار:
جاورت شيبان فاحلولى جوارهم ... إن الكرام خيار النّاس للجار
من كلام عليّ رحمه الله: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق، أخذه الشاعر فقال:
يقولون قبل الدّار جارٌ مجاورٌ ... وقبل الطَّريق الّنهج أنس رفيق
وقال آخر:؟
اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم ... لا تصلح الدّار حتّى يصلح الجار
وقال آخر:
يلومونني أن بعت بالرُّخص منزلي ... ولم يعرفوا جاراً هناك ينغِّص
فقلت لهم كفُّوا الملام فإنّها ... بجيرانها تغلو الدِّيار وترخص
قال الحسن البصري رحمه الله:إلى جنب كلِّ مؤمن، منافقٌ يؤذيه.
وقال بشَّار بن بشر المجاشعي:
وإني لعفٌّ عن زيارة جارتي ... وإنّي لمشنوءٌ لدى اغتيابها
إذا غاب عنّي بعلها لم أكن لها ... زؤوراً ولم تأنس إليّ كلابها
ولم أك طلاّباً أحاديث سرِّها ... ولا عالماً من أي جنسٍ ثيابها
قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه:من حق الجار أن تبسط له معروفك وتكف عنه أذاك. قال علّي للعباس رضي الله عنهما:مابقي من كرم أخلاقك؟قال: الإفضال على الإخوان وترك أذى الجيران.
كان يقال:ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكنه الصبر على الأذى.
قال منصور الفقيه يمدح بعض إخوانه من جيرانه: ؟يا سائلي عن حسينٍ وقد مضى أشكاله
أقل ما في حسينٍ ... كفُّ الأذى واحتماله
قال الحطيئة:
لعمرك ما المجاور في كليبٍ ... بمقصىً في الجوار ولا مضاع
هم صنعوا لجارهم وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصَّناع

ويحرم سرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع
وقال الحسن بن عرفطة:
ولم أر مثل الجهل يدعو إلى الرّدى ... ولا مثل جار السُّوء يكره جانبه
وقال آخر:
لا يأمن الجار شرّاً في جوارهم ... ولا محالة من شتم وألقاب
ومثل هذا قول الآخر:
أجلُّ العشيرة إمّا حضرت ... ولا أتعلّم ألقابها
وقال حاتم الطائي ويروى لغيره:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما عملت الزَّاد فاتَّخذي له ... أكيلاً فإنّي لست آكله وحدي
بعيداً قصيّا أو قريباً فإنّني ... أخاف مذ مّات الأحاديث من بعدي
وكيف يسيغ المرء زاداً وجاره ... خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد
وقال غيره:
سقياً ورعياً لأقوامٍ نزلت بهم ... كأنّ دار اغترابي عندهم وطني
إذا تأملت من أخلاقهم خلقاً ... علمت أنَّهم من حيلة الزَّمن
وقال ابن حبناء:
إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي ... له مركبٌ فضلٌ فلا حملت رجلي
ولم يك من زادي له نصف مزودي ... فلا كنت ذا زادٍ ولا كنت ذا رحل
شريكين فيما نحن فيه وقد أرى ... عليَّ له فضلاً بما نال من فضلي
ويروى لحاتم الطائي.
تذاكر أهل البصرة من ذوي الآداب والأحساب في أحسن ما قاله المولدون في حسن الجوار من غير تعسف ولا تعجرف، فأجمعوا على بيتي أبي الهندي وهما:
نزلت على آل المهلَّب شاتياً ... غريباً عن الأوطان في زمنٍ محل
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم ... وبرُّهم حتّى حسبتهم أهلي
باب الضَّيف
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليلة الضّيف حقٌ واجب " .
وقد أوضحنا في كتاب " التمهيد " معنى هذا الحديث وغيره في الضيافة، وذكرنا قول من أوجبها ومن ندب إليها؟ ووجوه أقوالهم واعتلالهم والحمد لله وحده.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، وما زاد فهو صدقة، ولا يحل أن يثوي غيره حتى يحرجه " . قيل للأوزاعي: رجل قدِّم إلى ضيفه الكامخ والزيتون، وعنده اللحم والعسل والسمن؟ فقال: هذا لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
قال أبو ذؤيب:
لا درَّ درِّى إن أطعمت نازلهم ... خبز الشَّعير وعندي البرُّ مكنوز
قال نافع: كان ابن عمر إذا نزل على قوم لا يأكل لهم شيئاً فوق ثلاث، ويقول بعد الثلاث: أمسكوا عنا صدقتكم، ويقول لي: أنفق من عندك.
ذكر أبو عبيدة أن معاوية قال يوماً لجلسائه: أي أبيات العرب في الضيافة أحسن؟ فاختلفوا وأكثروا، فقال معاوية: قاتل الله أبا النجم حيث يقول:
لقد علمت عرسي فلانة أنَّنى ... طويلٌ سنا ناري بعيدٌ خمودها
إذا حلَّ ضيفي با لفلاة ولم أجد ... سوى منبت الأطناب شبَّ وقودها
وقالوا: أحسن شيء في الضيافة قول مسكين الدارميّ:
طعامي طعام الضَّيف والرَّحل رحله ... ولم يلهني عنه غزالٌ مقنَّع
أحدِّاثه إنّ الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنّه سوف يهجع
وقال العلوي صاحب الزنج:
يستأنس الضَّيف في أبياتنا أبداً ... فليس يعلم خلقٌ أيُّنا الضَّيف
ولخالد عينين، وإنما قيل له خالد عينين لأنه كان ينزل أرضا بالبحرين: يقال لها عينين:
أيها الموقدان شبَّا سناها ... إنّ للضَّيف طارفي وتلادي
وقال عوف بن الأحوص.
ومستنبحٌ يغشى الغداة ودونه ... من الَّليل بابا ظلمةٍ وستورها
رفعت له ناري فلمّا اهتدى لها ... زجرت كلابي أن يهرَّ عقورها
فلا تسأليني واسألي عن خليقتي ... إذا ردَّ عافي القدر من يستعيرها
ترى أن قدري لا تزال كأنَّها ... لدى الغرث المقرور أمٌ يزورها
وقال حسان بن ثابت:
يغشون حتّى ما تهرُّ كلابهم ... لا يسألون عن السَّواد المقبل
وقال أبو الطحان القيني

وقد عرفت كلابهم ثيابي ... كأنّي منهم ونسيت أهلي
وقال المَّرار الحملي:
ألف النَّاس فما يهجمهم ... من عسيف يبتغي الخير وحرّ
وقال امرؤ القيس:
أعرف الحقّ ولا أجهله ... وكلابي أنسٌ غير عقر
ما يرى كلبي إلا آيساً ... إن رأي خابط ليلٍ لم يهر
وقال حاتم الطائي:
إذا ما بخيل النّاس هَّرت كلابه ... وشقّ على الضَّيف الغريب عقورها
فإن كلابي قد أقرَّت وعوِّدت ... قليلٌ على من يعتريها هريرها
وقال يعقوب الخريمي:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخضب عندي والمحلُّ جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنَّما وجه الكريم خصيب
وللشماخ في عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
إنك يا ابن جعفر خير الفتى ... وخيرهم لطارقٍ إذا أتى
وربَّ نضوٍ طرق الحيّ سرىً ... صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى
إنّ الحديث جانبٌ من القرى
وقال سهل الوراق:
وضيفك قابله بِّبرك وليكن ... له منك أبكار الحديث وعونه
وقال آخر:
سلي الطارق المعترَّ ياأمّ مالكٍ ... إذا ما أتاني بين ناري ومجزري
أأبسط وجهي؟ إنَّه أوّل القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري
تمثل بهذين البيتين عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في جوابه معاوية.
أما قول الشاعر:
بئس عمر الله قوماً طرقوا ... فقروا أضيافهم لحماً وحر
فإنه أراد لحماً دبت عليه الوحرة، وهي دويبَّة كالعظاية خضراء إذااجتمعت تلتصق بالأرض: الجمع: وحر، ومنه قيل وحر الصدر، كما قيل للحقد ضبّ، ذهبوا به إلى لزوقه بالصَّدر التزاق الوحرة بالأرض، يقال:لحم وحر،إذا دبّت عليه الوحرة.ولبن فئر إذا وقعت فيه الفأرة.
وقال رجل من بني فقعس، وهو الحارث بن يزيد، يمتدح نفسه بخدمة الضيف:
لعمر أبيك الخير إني لخادمٌ ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس
وقال المقنّع الكندي:
وإني لعبد الضِّيف مادام نازلاً ... وما شيمةٌ لي غيرها تشبه العبدا
وما امتدح به ذم بضده، قال الشاعر:
تراهم خشية الأضياف خرساً ... يصلُّون الصَّلاة بلا أذان
وقال حمّاد عجرد:
وجدت أبا الصَّلت ذا خبرةٍ ... بما يصلح المعدة الفاسده
تخوّف تخمة أضيافه ... فعلّمهم أكلة واحده
وقال عمرو بن الأهتم التَّميمي المنقري من أشرافهم، وكان شاعراً محسناً،يقال: كأن شعره حللٌ منشَّرة، وله صحبة:
ذريني فإنَّ الشُّحَّ يا أم مالكٍ ... لصالح أخلاق الرِّجال سروق
ذريني وحظِّي في هواي فإنَّني ... على الحسب العالي الرفيع شفيق
ومستنبحٍ بعد الهدوء أجبته ... وقد حان من ساري الشتاء طروق
فقلت له: أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فهذا مبيتٌ صالحٌ وصديق
أضفت ولم أفحش عليه، ولم أقل:للأحرمهإنَّ الفناء يضيق
لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق
وقال آخر:
وطريد ليل ساقه سغبٌ ... وهناً إليَّ وقاده برد
أوسعت جهد بشاشةٍ وقرىً ... وعلى الكيم لضيفه الجهد
ثم اغتدى ورداؤه نعمٌ ... أسديتها وردائي الحمد
وقال القاسم بن أميَّة بن أبي الصّلت:
قومٌ إذا نزل الغريب بأرضهم ... ردُّوه ربَّ صواهل وقيان

باب المعروف
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " كلُّ معروفٍ صدقة " .
قال أبو جرى الهجيمي: يارسول الله أوصني. فقال: " لا تحقرنَّ شيئاًمن المعروف أن تأتيه، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقى، ولو أن تلقي أخاك ووجهك منبسطٌ إليه " .
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " أهل المعروف في الدُّنيا، هم أهل المعروف في الآخرة " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " إذا طلبتم المعروف فاطلبوه عند حسان الوجوه " .

وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلُّكم على شيءٍ يحبُّه الله ورسوله؟ " قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: " المعروف والتَّغابن للضَّعيف " .
قال عيسى عليه السلام: استكثروا من شيء لاتمسّه النار. قالوا: وما هو يا روح الله؟ قال: المعروف.
قال عبد الله بن عباس: ما رأيت رجلاً أوليته معروفاً إلا أضاء مابيني وبينه،ولا رأيت رجلاً فرط إليه مني شيء إلا أظلم ما بيني وبينه.
قال زيد بن علي بن حسين: ما شيء أفضل من المعروف ولا ثوابه ولا كلُّ من رغب فيه يقدر عليه ولا كلّ من قدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن تمت السعادة للطالب والمطلوب منه.
قال ابن عباس: المعروف أيمن زرع، وأفضل كنز، ولا يتم إلا بثلاث خصال: بتعجيله وتصغيره وستره. فإذا عجّل هني، وإذا صغّر فقد عظم،وإذا ستر فقد تمِّم.
قال زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتَّق الشَّتم يشتم
وقال أخر:
إنَّ ابتداء العرف مجدٌ باسقٌ ... والمجد كلُّ المجد في استتمامه
إنَّ الهلال يروق أبصار الورى ... حسناً وليس كحسنه لتمامه
أنشد الزبير بن بكّار:
أبل من شئت تقله ... عن قليلٍ لفعله
ضاع معروف واضع ال ... عرف في غير أهله
قال القاسم بن معن، قال رجل لعون بن عبد الله بن عتبة:ما السخاء؟ قال:التأني للمعروف. قال فما البخل؟قال:الاستقضاء على الملهوف.
قال ابن عباس لا يزهِّدنك في المعروف كفرٌ من كفر،فإنه يشكرك عليه من لم يصنعه.
كان يقال:في كل شيء سرفٌ إلاّفي المعروف.
قال حبيب:
وإذا امرؤٌ أهدى إليك صنيعةً ... من جاهه فكأنَّها من ماله
كان يقال: لا يزهِّدنك في المعروف دمامة من يسديه إليك،ولا ينبو بصرك عنه،فإن حاجتك في شكره ووفائه لا منظره، وإن لم يكن أهله فكن أنت أهله.
قال الشاعر:
ولم أر كالمعروف أمَّا مذاقه ... فحلوٌ وأمَّا وجهه فجميل
تمثل رجل عند عبد الله بن جعفر بقول الشاعر:
إنَّ الصَّنيعة لا تكون صنيعةً ... حتَّى يصاب بها طريق المصنع
فإذا أصبت صنيعةً فاعمد بها ... لله أو لذوي القرابة أو أودع
فقال عبد الله بن جعفر:هذان البيتان يبخّلان الناس، لا. ولكن أمطر المعروف إمطاراً، فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً، وإن أصاب اللئام كنت له أهلا.
كان يقال:من أسلف المعروف كان ربحه الحمد.
قال عمرو بن العاص:في كل شيءٍ سرفٌ إلا في ابتناء المكارم أو اصطناع معروف، أو إظهار مروءة.
وكان يقال:كما يتوخَّى للوديعة أهل الأمانة والثقة، كذلك ينبغي أن يتوخَّى بالمعروف أهل الوفاء والشكر.
كان يقال:إعطاء الفاجر يقوّيه على فجوره،ومسألة اللئيم إهانة للعرض،وتعليم الجاهل زيادة في الجهل، والصّنيعة عند الكفور إضاعة النعمة، فإذا هممت بشيء من هذا، فارتد الموضع قبل الإقدام على الفعل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الصَّنيعة لا تكون إلاَّفي ذي حسبٍ أو دين،كما أنَّ الرِّياضة لا تكون إلا في نجيب " .
مكتوب في التوراة :افعل إلى امرئ السُّوء خيراً يجزك شراً.
كان يقال:صاحب المعروف لا يقع،فإذا وقع أصاب متكئاً.
قال الشاعر:
ودون النَّدى في كلِّ قلبٍ ثنيةٌ ... لها منجدٌ حزنٌ ومنحدرٌ سهل
يودُّ الفتى في كلِّ نيلٍ ينيله ... إذا ما انقضى لو أنَّ نائله جزل
كان الحجاج بن يوسف يقول:خير المعروف ما أنعشت به الكرام.
كان يقال:من لم يرب معروفه فكأنه لم يصطنعه.
كان يقال:أحي معروفك بإماتته.
كتب أرسطو طاليس إلى الإسكندر: املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها،وطلبك ذلك منها بالإحسان أدوم بقاء لإحسانك منه باعتسافك، وأعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطَّها إلى القلوب بالمعروف،واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول، قدرت على أن تفعل، فاجهد ألاّ تقول تسلم من أن تفعل.
كان يقال: اتق أن يسدّ عنك طريق المعروف بالكفر أو بالمنّ، فإن المنّ يفسد الصنيعة والكفر يمحوها، والشكر يمحوها والشكر يجلب النعمة.
قال الشاعر:
أفسدت بالمنّ ماأوليت من حسنٍ ... ليس الكريم بما أسدى بمنَّان
وقال الحسن بن هانئ:

فامض لا تمنن عليَّ يداً ... منك المعروف من كدره
قال معاوية ليزيد:يابني اتخذ المعروف منالا عند ذوي الأحساب تشتمل به مودتهم، وتعظم في أعينهم، وتكف به عاديهم، وإياك والمنع، فإنه ضد المعروف.
كان يقال: حصاد من يزرع المعروف في الدنيا،اغتباط في الآخرة.
ذم أعرابي رجلا،فقال: كان سمين المال، مهزول المعروف.
قال الزهيري:من زرع معروفاً حصد خيراً، ومن زرع شراً حصد ندامة.
قال الشاعر:
من يزرع الخير يحصد ما يسرُّ به ... وزارع الشَّرِّ منكوسٌ على الرَّأس
وقال الراجز:
من يزرع الخير يحصد حصاده ... موفَّراً يوماً إذا ماأراده
قال بشر بن أبي خازم:
وأيدي النَّدى في الصَّالحين فضول
وقال الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقال عبد الله بن مبارك رضي الله عنه:
يد المعروف غنمٌ حيث كانت ... تحمَّلها شكورٌ أو كفور
ففي شكر الشَّكور لها جزاءٌ ... وعند الله ما كفر الكفور
قال الأصمعي: سمعت أعرابيّاً يقول:أسرع الذنوب عقوبة كفر المعروف.
ولابن دريد وقيل إنه أنشدها:
وماهذه الأيَّام معارةٌ ... فما اسطعت من معروفها فتزوَّد
فإنَّك لا تدري بأيَّة بلدةٍ ... تموت ولاما يحدث الله في غد
قال بزرجمهر: خير أيام المرء ما أغاث فيه المضطر،واحتسب فيه الأجر،وارتهن فيه الشكر، واسترقّ فيه الحرّ.
جمع كسرى مرازبته وعيون أصحابه، فقال لهم:على أي شيء أنتم أشد ندامة؟ قالوا:على وضع المعروف في غير أهله،وطلب الشكر ممن لا يشكره.
قال الشاعر:
وزهَّدني في كلِّ خيرٍ منعته ... إلى النَّاس ماجرَّبت من قلَّة الشُّكر
وقال آخر:
النَّاس من شاكرٍ للعرف محتملٍ ... ومن كفورٍ لما أوليته زمر
فابسط يد الجود تحمل بعض نائلها ... وإنّما النَّاس والمعروف كالغرر
وقال آخر:
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يلاقي الّذي لاقى مجير أمَّ عامر
قال المهلب: عجبت لمن يشتري المماليك بماله،ولا يشتري الأحرار بمعروفه.
وقال: ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرم حرّاً تملكه.
قال المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت الَّلئيم تمرَّدا
قال عبد مناف:دواء من لم يصلحه الإكرام الهوان.
قال الشاعر:
من لم يؤدِّبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه
وقال محمود الوراق:
فكَّرت في المال وفي جمعه ... فكان ما يبقى هو الفاني
وكان ما أنفقت في أوجه ال ... برِّ بمعروفٍ وإحسان
هو الَّذي يبقى وأجزى به ... يوم يجازى كلُّ إنسان
ومن فساد العرف إحصاؤه ... وذكره في كلِّ إبَّان
فانشر إذا أوليت عرفاً وإن ... أوليته فاستر بنسيان
باب الشُّكر
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من أولى معروفاً فلم يجد إلا الثنا فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره " .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " من أهدى إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء " .
سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عائشة رضي الله عنها تنشد لليهودي:
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد نما
يجزيك أو يثنى عليك وإنَّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
فقال: " قاتله الله ما أحسن ما قال!، من لم يجد إلا الدعاء والثناء فقد كافأ " .
وفي رواية أخرى لهذا الخبر عن عائشة أنها قالت:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " أنشدي شعر ابن الغريض اليهودي حيث قال:إن الكريم " فأنشدته:
إنَّ الكريم إذا أراد وصالنا ... لم يلف حبلي واهياً رثَّ القوى
أرعى أمانته وأحفظ غيبه ... جهدي فيأتي بعد ذلك ماأتى
أجزيه أو أثني عليه فإنَّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

وهذا الشعر لا يصح فيه إلا ماروي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة:أنه للغريض اليهودي وهو الغريض بن السموءل بن عادياء اليهودي، من ولد الكاهن هرون بن عامر بن ساعر، وأما أهل الأخبار،فاختلفوا في قائله، فقيل: هو لورقة بن نوفل، وقيل هو لزهير بن جناب الكلبي، وقيل: لعامر بن المجنون وقيل ليزيد بن عمرو بن نفيل، ومنهم من قال:إنه ليزيد عن عمرو أو ورقة بن نوفل البيتان الأولان، والصحيح فيها وفي الأبيات غيرها أنهما للغريض اليهودي والله أعلم.
قال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
لوكنت أعرف فوق الشُّكر منزلةً ... أعلى من الشكر عند الله في الثَّمن
إذا منحتكها منِّي مهنَّدةً ... شكراً على صنع ما أوليت من حسن
وقال آخر في يحيى بن خالد البرمكي:
طلبت ابتغاء الشُّكر فيما فعلت بي ... فقصَّرت مغلوباً وإنِّي لشاكر
لقد كنت تعطيني الجزيل بديهةً ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر
فأرجع مقنوطاً وترجع بالَّتي ... لها أوَّلٌ في المكرمات وآخر
ومما أنشده الرياشي:
شكري لفعلك فانظر في عواقبه ... تعرف بفضلك ما عندي من الشُّكر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها،وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر له إن يستغفر،وإن الرجل ليلبس الثوب فيحمد الله فما يبلغ ركبته حتى يغفر له " .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل " .
وقال: " أشكر الناس لله عز وجل أشكرهم لعباده،ومن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير " .
وفي التفسير: " اعملوا آل داود شكراً " . قالوا: الطاعات كلها شكر، وأفضل الشكر الحمد.
وفي قوله في نوح عليه السلام: " إنَّه كان عبداً شكوراً " ، وقالوا:كان لا يقوم ولا يقعد، ولا يلبس ثوباً، ولا يأكل ولا يشرب إلا حمد الله، فأثنى عليه الله بذلك.
مكتوب في التوراة: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك،فإنه لا زوال للنعم إذا شكرت،ولا مقام لها إذا كفرت، والشكر زيادة في النعم، وأمان من الغير.
قال أبو نخيلة: ؟شكرتك إنَّ الشُّكر حبلٌ من التُّقى وما كلُّ من أوليته نعمةً يقضي
وأحييت من ذكري وما كنت خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
قال حذيفة بن اليمان: ماعظمت نعمة الله على أحد إلاّ ازداد حقّ الله عليه عظما.
قال عروة بن الزَّبير:من لم يعرف سوء ما يبلى لم يعرف خير مايولى.
قال جعفر بن محمد: ماأنعم الله على عبد نعمة فعرفها بقلبه وشكرها بلسانه فما يبرح حتى يزداد.
قال ابن عباس: لوقال لي فرعون خيراً لرددت عليه مثله.
قيل لسعيد بن جبير: المجوسيّ يوليني خيراً فأشكره؟ قال: نعم قال أوس بن حجر:وقيل:إنه لأبي يعقوب الخريمي:
سأجزيك أو يجزيك عنِّي ربُّنا ... وحسبك منِّي أن أودَّ وأحمدا
ولأبي المعافي يعقوب بن إسماعيل بن رافع، مولى مزينة في بكار بن عبد الله الزبيري:
إنَّني أثني بما أوليتني ... لم يضع حسن بلاءٍ من شكر
إنَّني والله لا أكفركم ... أبداً ما صاح ديكٌ في السَّحر
وقال آخر:
فلو كان يستغني عن الشُّكر ماجدٌ ... لعزَّة ملكٍ أو علوِّ مكان
لما ندب الله العباد لشكره ... فقال اشكروني أيُّها الثَّقلان
وقال آخر:
سأشكر عمرا ما تراخت منيَّتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلَّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشَّكوى إذاالنَّعل زلَّت
وقال آخر:
رأى خلَّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتَّى تجَّلت
وقال آخر:
لئن طبت نفساً عن ثنائي فإنَّني ... لأطيب نفساً من نداك على عسري
فلست إلى جدواك أعظم حاجةً ... على شدَّة الإعسار منك إلى شكري
قال عمر بن عبد العزيز:ذكر النعمة شكر.
قال جعفر بن محمد: من لم يشك الجفوة لم يشكر النعمة.
قال الشاعر:
إذا أنا لم أعرف لذي الفضل فضله ... ولم ألم الخبَّ الَّلئيم المذمَّما

أقسام الكتاب
1 2 3 4