كتاب : بهجة المجالس وأنس المجالس
المؤلف : ابن عبد البر

نسود أقواماً وليسوا بسارة ... بل السيّد المعلوم سلم بن نوفل
أنشد ابن عائشة :
لا يبلغ المجد أقوامٌ وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرةً ... لا عفو ذلّ ولكن عفو أحلام
وإن دعا الجار لبوا عند دعوته ... في النائبات بإسراج وإلجام
مستلئمين ، لهم عند الوغى زجلٌ ... كأن أسيافهم أغرين بالهام
قال الأصمعي : كان يقال : لا يجتمع عشرة إلاّ وفيهم مقاتل أو أكثر ، ويجتمع ألف ليس فيهم حليم.
كان يقال : ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة حليم من سفيه ، وبر من فاجر ، وشريف من دنئ.
قال الأحنف بن قيس : ما نازعني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال ، إن كان فوقي عرفت له قدره ، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه ، وإن كان مثلي تفضلت عليه. أخذ هذا المعنى محمود الوراق فقال :
سألزم نفسي الصفح عن كلّ مذنب ... وإن كثرت منه علىّ الجرائم
وما الناس إلا واحد من ثلاثةٍ ... شريفٌ ومثلى مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف فضله ... وألزم فيه الحقّ والحقّ لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ... مقالته نفسى وإن لام لائم
وأما الذي مثلى فإن زلّ أو هفا ... تفضّلت إن الفضل للحرّ حاكم
وقال آخر :
لقد أسمع القول الذّي كاد كلّما ... تذكرّنيه النفس قلبي يصدّع
فأبدي لمن أبداه منّي بشاشةً ... كأنّي مسرورٌ بما منه أسمع
وما ذاك من عجبٍ به غير أنّني ... أرى أن ترك الشرّ للشرّ أقطع
قال الحسن البصرّى : ما سمعت اللّه عزّ وجلّ نحل عباده شيئاً أقل من الحلم ، فقال عزّ وجلّ : " إن إبراهيم لأوّاه حليمٌ " ، قال : " فبشرناه بغلام حليم " .
قال العتابيّ :
إذا سرّني دهري قبلت وإن أبي ... أبيت عليه أن أضيق له صدراً
فكم من مسئٍ قد لقيت ومحسن ... فأوسعت ذا حلماً وأوسعت ذا شكراً
قال عمر بن أبي طالب رضى اللّه : إنّ السّفيه إذا أعرضت عنه اغتمّ ، فزده إعراضاً.
كان يقال : يحسن السّيرة يقهر المناوئ ، وبالحلم عن السّفيه يكثر أنصارك عليه.
قال الشاعر :
سكت عن السّفيه فظن أبي ... عييت وما عييت عن الجواب
متاركة السّفيه بلا جوابٍ ... أشدّ على السّفيه من العذاب
ولا شئ أحبّ إلى سفيه ... إذا وقع الكريم من السّباب
سبّ الشعبيّ رجل ،فقال له :إن كنت كاذباً يغفر الله لك ،وإن كنت صادقاً يغفر الله لي.
قال الشعبيّ :الغضب غول الحلم.
قال خالد بن صفوان :شهدت عمرو بن عبيد ورجل يشتمه ،فقال :آجرك الله على ما ذكرت من صواب ،وغفر لك على ما ذكرت من خطأ ، قال :فما حسدت أحداً حسدي عمرو بن عبيد على هاتين الكلمتين.
مرّ الشّعبي بقوم ينتقصونه ،فأنشد :
هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ... لعزّة من أعراضنا ما استحلت
قال النّابنة الجعديّ :
ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا
وقال آخر :
وفي الحلم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك أهواء الفؤاد المتيمّ
بصائر يرشدن الفتى مستبينةٌ ... وأخلاق صدق علمها بالتعلم
قيل للحصين بن المنذر :بم سدت قومك ؟قال :بحسب لا يطمع فيه ،ورأى لا يستغنى عنه.
وذكر السّؤدد عند معاوية بن أبي سفيان ،فقال :إنّه لينتقل في اليّ كما ينتقل الظلّ.
قال إياس بن قتادة :
وإن من السّادات من لو أطعته ... دعاك إلى نار يفور سعيرها
قال :كان سفيان بن عيينة يتمثل :
خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن الشّقاء تفرّدى بالسّؤدد
قال :قال عمر بن عبد العزيز لرجل :من سيّد قومك ؟قال :أنا.قال :لو كنته لم تقله.
قال الشاعر :
وإنّ بقوم سوّدوك لفاقةً ... إلى سيدّ لو يظفرون بسيّد

قيل للملهب :ما السّؤدد ؟ قال : أن يركب الرجل في منزله وحده ،ويرجع إلى منزله في جماعة.
قيل لبعض العرب :ما علامة السيّد قيكم ؟ قال : هو الذّي إذا أقبل هبناه ،وإذا أدبر عبناه ،ويروى اغتبناه.
قال عبيد بن الأبرص :
إذا أنت لم تعمل برأىٍ ولم تطع ... أولى الرّأي لم تركن إلى أمر مرشد
ولم تجتنب ذمّ العشيرة كلهّا ... وتدفع عنها باللسّان وباليد
وتحلم عن جهّالها وتحوطها ... وتقمع عنها نخوة المتهدّد
فلست ولو عللت نفسك بالمنى ... بذي سؤدد باد ولا قرب سؤدد
قال أنس بن مدرك :
عزمت على إقامة ذي صلاح ... لأمر ما يسوّد من يسود
وقال أبو الحسن الموسوى :
ما السّؤدد المكسوب إلاّ دون ما ... يومي إليه السّؤدد المولود
فإذا هما اتفقا تكسّرت القنا ... إن غولبا وتضعضع الجلمود
كان يقال :خصلتان لا يسود صاحبهما :الاستطالة في الأقرباء ،والبطر في الأغنياء.
قال المرّار بن سعيد :
إذا شئت يوماً أن تسود قبيلة ... فبا لحلم سد لا بالسّفاهة والشّتم
وقال بعض أهل العلم :لا سؤدد إلاّ بالبخت والجدّ والسعّد ،وذلك أنا قد رأيناهم يقولون :الأفعال المحمودة والأخلاق الجميلة توجب السؤدد والرياسة ،والأفعال المذمومة والأخلاق الدنّية تمنع من السّؤود ،ثم رأينا قوماً سادوا بأخلاق لا تحمد ،وبأفعال لا ترضى ،فمن ذلك :أن الحمق يمنع من السّؤدد ،وقد ساد عيينة ابن حصن ،وكان محمّقاً ،وساد أبو سفيان وكان بخيلا ،والبخيل يمنع من السّؤدد ،وساد عامر بن الطّفيل ،وكان عاهراً ،ولا سؤدد مع العهر ،وساد أبو جهل وما طرّ شاربه ،ودخل دار النّدوة وما استوت لحيته ،والحداثة تمنع من السؤدد ،وساد شبل بن معبد البجلى ،وما بالبصرة بجلىّ غيره ، وهم يقولون :لا سؤود إلاّ بالعدد ،ولما قال قومٌ للأحنف :لولا أنا سوّدناك ما سدت.قال فمن سودّ شبل بن معبد البجلى ،وليس بالبصرة بجليّان.
وساد عتبة بن ربيعة وكان فقيراً إلى أن مات ،حتى قيل :إنه لم يشبع قطّ ،ولم يفضل عن قوت أهله قوت ضيفٍ واحد ،وهم يقولون إنّ الفقر يمنع من السؤدد.
هذا كلّه يدلّك على أن السّؤدد بالبخت.
وقال غيره :أسباب السّؤدد سبعة :العقل والعلم والصيانة وأداء الأمانة والحذق والحلم والسخاء.
أبو سلمى :
لا بدّ للسّؤدد من أرماح ... ومن سفيهٍ دائم النّباح
ومن عديد يتّقى بالرّاح
أي لا يتقى بالدّعاء.
وقال غيلان بن سلمة الثقفيّ :
لا بدّ للسّؤدد من عديد
قال النابغة الذبيانيّ :
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتّقى صولة المستنفر الحامي
قال الحسن بن سهل يوماً : الشّرف في السّرف ،فقيل له : لا خير في السّرف ،فقال : لا سرف في الخير ، فردّ اللّفظة واستوفى المعنى.
قال إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي : عجبت لمن لا يكتب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة.
ابن بشّار :
وإذا جزيت أخاً بذنب ... كان منه لم تسده
ولقلّما طلب الفتى ... لأخيه عيبا لم يجده
الهذلي :
وإنّ سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل
لما توفى عبد الله بن طاهر ،صلىّ عليه ابنه طاهر بن عبد الله ودفنه ،وأعتق عند كل زاوية من زوايا قبره رقبةً من غلمانه ،وفعل ذلك إخوته ،ودفع كل نجلٍ منهم إلى كلّ غلام خمس مائة درهم ،وكان عبد الله بن طاهر قد خلف أربعين ولداً ذكراً ،فقال أبو العميثل الشاعر لمصعب بن عبد الله وكان يختص بطاهر وينادمه :ألا أدلّك على شئ تفعله فتقدم به سائر إخوتك عند الأمير طاهر ؟قال : بلى.فأنشده هذه الأبيات وقال :اكتب بها إلى الأمير ،وهي :
يا من يحاول أن تكون خلاله ... كخلال عبد الله أنصت واسمع
فلأقصدنّك بالنصيحة والذّي ... حجّ الحجيج إليه فاقبل أو دع
إن كنت تطمع أن تحلّ محلّه ... في المجد والشّرف الأشم الأرفع
فاصدق وعفّ وبرّ وارفق واتئّد ... واحلم ودار وكاف واصبر واشجع

والطف ولن وتأنّ وانصر واحتمل ... واحزم وجدّ وحام واحمل وادفع
هذا الطريق إلى المكارم مهيعاً ... فاسلك فقد أبصرت قصد المهيع
فاستحسن طاهرٌ الأبيات ،وقال :والله لقد أفدتني ما يجب به شكرك ،فقلده نيسابور وأعمالها ثلاث سنين ،وأكسبه ألف ألف درهم.
وقال آخر :
إذ هلكت أسد العرين ولم يكن ... لها خلفٌ في الغيل ساد الثعالب
كذا القمر السّاري إذا غاب لم يكن ... له خلفٌ في الجو إلاّ الكواكب
قال بعض الحكماء :من ابتغى المكارم فليجتنب المحارم.
باب حمد الحلم وذمّ السّفه
قال رسول الله صلىّ الله عليه وسلّم لأشجّ عبد لقيس : " يا أشج عبد لقيس أو يا منذر!فيك خصلتان يرضاهما الله ورسوله :الحلم والأناة " فقال :يا رسول الله!أشئ جبلني الله أم شئ اخترعته من قبل نفسي ؟.
فقال : " بل شئ جبلك الله عليه " .فقال :الحمد لله الذي جبلني على خلق يرضاه الله ورسوله.
قال الشّعبي :زين العلم حلم أهله.
قال رجاء بن أبي سلمة :الحلم أرفع من العقل ،لأن الله تسمّى به.
قال معاوية :إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أرجح من حلمي.
وقال معاوية لعمرو بن العاص :من أبلغ الناس ؟قال :من ترك الفضول ،واقتصر على الإيجاز.
قال :فمن أصبر الناس ؟قال :من بذل دنياه في صلاح دينه قال :فمن أشجع الناس ؟قال :من ردّ جهله بحلمه.
قال محمد بن أبي شحاذ :
إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك بروقٌ جمةٌ ورواعد
سئل الأحنف عن الحلم ،فقال :هو الذلّ والصبّر.
كان الأحنف إذا عجبوا من حلمه ،قال :إني لأجد ما تجدون ،ولكنّي صبور.
وقال أيضاً :وجدت الحلم أنصر لي من الرجال.
قال عمر بن عبد العزيز :ما قرن شئ إلى شئ أحسن من حلم إلى علم ،ومن عفو إلى قدرة.
وقد روينا هذا الكلام لمن هو أسنّ من عمر وأكبر.
وقال بلعاء بن قيس :
أبيت لنفسي الخسف لما رضوا به ... وأوليتهم سمعي وما كنت مفحما
وقال شريح :الحلم كنز موقر ،والحليم مطية الجهول.
قالوا :بالعقل استخرج غور الحكمة ،وبالحلم استخرج غور العقل.
قال أبو العتاهية :
فياربّ هب لي منك حلماً فإنني ... أرى الحلم لم يندم عليه حليم
ويارب هب لي منك عزماً على التقي ... أقيم به ما عشت حيث أقيم
ألا إنّ تقوى الله أكرم نسبةٍ ... تسامى بها عند الفخار كريم
قال الخريمي :
أرى الحلم في بعض المواطن ذلّةً ... وفي بعضها عزّاً يسودّ فاعله
قال عمارة بن عقيل :
إذا أغضبت ذا كرمٍ تخطّى ... إليك ببعض أخلاق اللثيم
وإن الله ذو حلمٍ ولكن ... بقدر الحلم منتصف الحليم
وقال آخر :
بني هلال ألا تنهوا سفيهكم ... إنّ السّفيه إذا لم ينه مأمور
وقال حسان بن ثابت :
رب حلمٍ أضاعه عدم المال ... وجهلٍ غطّى عليه النعيم
وقال أوس بن حجر :
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليماً أو أصابك جاهل
وقال صالح بن جناح ،ويروي لغيره :
لئن كنت محتاجاً إلى الحلم إنني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً ولا أخاً ... ولكنني أرضى به حين أحرج
فإن قال بعض الناس فيّ سماجةٌ ... فقد صدقوا والذّلّ بالحرّ أسمج
وقال أبو يعقوب الخريمي :
وإنك تلقى صاحب الجهل نادماً ... عليه ولا يأسى على الحلم صاحبه
وقال حبيب الطائي :
إذا جاريت في خلق دنيّا ... فأنت ومن تجاريه سواء
إذا ما رأس أهل البيت وليّ ... بدا لهم من الناس الجفاء
ولآخر :
أبا حسن ما أقبح الجهل بالفتى ... وللحلم أحيانا من الجهل أقبح
إذا كان حلم المرء عون عدوّه ... عليه فإن الجهل أعفى وأروح
وفي العفو ضعفٌ والعقوبة قوةٌ ... إذا كنت تخشى كيد من عنه تصفح
وقال عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
قال آخر :

إذا نهى السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف
كان عبد الله بن عمر إذا سافر سافر معه بسيفه ،فقيل له في ذلك ،فقال :إن جاءنا سفيهٌ ردّ عنا سفهه ،لأنا لا ندري ما نقابل به السّفهاء.
وقال ابن المعتز :
ولكلّ عقلٍ غفوةٌ أو سهوةٌ ... والحرّ محتاجٌ إلى التّنبيه
والعاقل النّحرير محتاجٌ إلى ... أن يستعين بجاهل معتوه
وقال آخر :
ولربما اعتضد الحليم بجاهلٍ ... لا خير في اليمنى بغير يسارٍ
وقال آخر :
وليس الحليم الذي كلّ ساعةٍ ... به غضبٌ في لأنفه بتوقّد
إذا أمن الجهّال جهلك لم تزل ... عليك بوادي جهلهم تتورّد
وإن عقاب الجاهلين لذاهب ... بحلمك فانظر أي هاتين تعمد
كان يقال :ليس الحليم من قذف فكظم ، ولكن من صدم فصبر.
قال البحتري :
أرى الحلم بؤساً في المعيشة للفتى ... ولا عيش إلاّ ما حباك به الجهل
وقال آخر :
قل ما بدا لك من زورٍ ومن كذبٍ ... حلمي أصمُّ وأذني غير صماَّء
وقال آخر :
ولا خير في عرض امرئٍ لا يصونه ... ولا خير في حلم امرئٍ ذلَّ جانبه
وقال مروان بن الحكم :
إذا أمن الجهال جهلك مرةً ... فعرضك للجهال غنم من الغنم
وإن أنت باذيت السفيه إذا بذا ... فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
فلا تقرضن عرض السفيه وداره ... بحلم فإن أعيا عليك فبالصرم
ومن عاتب الجهال لم يشف غيظه ... ولكنه يزداد سقماً إلى سقم
فدع عنك في كل الأمور عتابه ... فإنك إن عاتبته صار كالخصم
وغمَّ عليه الحلم والجهل والقه ... بمنزلةٍ بين العداوة والسلم
فيرجوك أحياناً ويخشاك تارةً ... ويأخذ فيما بين ذلك بالحزم
فإن لم تجد بداً من الجهل فاستعن ... عليه بجهالٍ فذاك من العزم
وقال أبو دهبل الجمحي :
وكانوا أناساً كنت آمن غيبهم ... فلم ينههم حلم ولم يتحرجوا
قال منصور الفقيه :
إذا رشوةٌ من باب قومٍ تقحمت ... لتدخل فيه والأمانة فيه
سعت هرباً منه وولت كأنها ... حليمٌ تنحى عن جواب سفيه
وقال آخر :
العفو عند لبيب القوم مكرمةٌ ... وبعضه لسفيه الرأي تدريب

باب مدح الجود والكرم وذم البخل واللؤم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالبخل فبخلوا ، وبالفجور ففجروا " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا ثلاث صلح الناس :شحٌ مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه " .
قال الزبير بن العوام في خطبة خطبها بالبصرة : أيها الناس إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يوماً بعمامتي من ورائي فقال : " يا زبير إن الله يقول : أنفق أنفق عليك ، ولا توكئ فيوكأ عليك.
أوسع يوسع عليك ، ولا تضيق فيضيق عليك. واعلم أن الله يحبّ الإنفاق ولا يحب الإقتار ، ويحب السماحة ولو على فلق تمرة ، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية أو عقرب ، واعلم يا زبير أن لله كنوز أموال سوى الأرزاق التي قسمها بين العباد ، محتبسة عنده لا يعطى أحداً منها شيئاً إلا من سأله من فضله ، فاسألوأ الله من فضله " .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : البخل جلباب المسكنة ، وربما دخل السخي بسخائه الجنة.
قال : ومن البخل ترك حقّ قد وجب لخوف شيء لم يقع.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أقيلوا الكرام عثراتهم " ويروى. " أقيلوا ذوى الهبات زلاتهم " .
وروي عنه عليه السلام أنه قال : " المؤمن كريم ، والفاجر لئيم " .
قال جعفر بن محمد : قال الله عز وجل : أنا جواد كريمٌ ، لا يجاورني في جنتي لئيم.
قيل للأحنف : ما الجود ؟ قال : بذل القرى ، وكف الأذى. قيل : فما البخل ؟ قال طلب اليسير ومنع الحقير. وقد روى هذا من كلام أكثم بن صيفي والله أعلم.
سئل الخليل بن أحمد عن الجود ، فقال. بذل الموجود.
قال بعض الحكماء : من أيقن بالخلف جاد بالعطية.

قال أحمد بن أبي دواد : من نال دنيا فلم يرفع وليا ،ولا وضع عدوا فليس بكريم.
قال شعيب بن حرب :ليس السخى من أخذ المال من غير حله فبذره ، وإنما السخىّ من عرض عليه ذلك المال فتركه ، أوجمع من حق ووضع في حق.
كان زياد بن أبيه يقول :من منع ماله سبل الحمد أورثه من لا يحمده.
قال إبراهيم بن أبي عبلة : سمعت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز ،يقول : أف للبخل والله لو كان طريقاً ما سلكته ، ولو كان ثوبا طريفا ما لبسته.
قال معاوية بن أبي سفيان لأبي مسلم الخولاني : إنكم معشر العباد فيكم النكاح والحدة والسماح. قال : أما النكاح فإنا لا نعدل عن أهلينا ، وأما الحدة فإن قلوبنا ملئت خيراً فلا موضع فيها للشر ، وأما السماح فبحسن الظن منا بالخلف من الله تعالى.
قال سفيان بن عيينة : ما استقصى كريمٌ قط ، ألم تسمع إلى قوله الله تعالى : " عرف بعضه وأعرض عن بعض " .
قال أسماء بن خارجة : لو لم يدخل على البخلاء في بخلهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان ذلك عظيماً.
قال زهير :
ومن يك ذا فضلٍ فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
وقال محمد بن يسير :
كم مانع نفسه لذاتها حذراً ... للفقر ليس له من ماله ذخر
إن كان إمساكه للفقر يحذره ... فقد تعجل فقراً قبل يفتقر
وقال آخر :
ما أعلم الناس أن الجود مدفعةٌ ... للبخل لكنه يأتي على النشب
وقال ابن مطير الأسدي :
وما الجود عن فقر الرجال ولا الغنى ... ولكنه خيم الرجال وخيرها
وقال آخر :
إني امرؤ أجزى الكريم بوده ... وأصد عن وصل اللئيم وأقطع
وقال منصور الفقيه :
جهلوا القياس للطفه فتوهموا ... أن البخيل وكلبه مثلان
والكلب يحفظ أهله ويقيهم ... ويكف طارقهم عن العدوان
والنذل يوحش أهله ويجيعهم ... ويحض ناصرهم على الحذلان
فها ومن جعل الكلاب أعزة ... والباخلين أذلةً ضدان
قال أردشير : احذروا صولة الكريم إذا جاع ، واللئيم إذا شبع ، واعلموا أن الكرام أصبر نفوساً ، واللئام أصبر أجساماً.
قال الشاعر :
إن ذا اللؤم إذا أكرمته ... حسب الإكرام حقا لزمك
وأخا الفضل إذا أكرمته ... لم يصغرك ولكن عظمك
قال أبو الطيب المتنبي :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقال آخر :
أراك تؤمل حسن الثنا ... ء ولم يرزق الله ذاك البخيلا
وقال آخر :
تريدين أن أرضى وأنت بخيلة ... ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل
وقال آخر :
ندبتكم لنفعي أن قدرتم ... فلم أر فيكم حراً كريما
ومالي عندكم ذنب أراه ... سوى أني عرفتكم قديما
وقال زيد بن عمرو النخعي :
لقد كذب المعاشر حين قالوا ... عليٌ والمخارق سيدان
هما حجران من جبل صلودٍ ... إذا قيل ارشحا لا يرشحان
فلولا البخل إن البخل عارٌ ... أبا عمرو إذا أعجبتماني
وقال ابن أبي فنن :
وإن أحق الناس باللوم شاعرٌ ... يلوم على البخل الرجال و يبخل
وقال الحطيئة :
سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا ... فسيان لاذم عليك ولا حمد
وقال منصور الفقيه :
زاد البخيل إذا مضى لسبيله ... ذم العدا وقطيعة الوراث
وأخو السماحة فحظه من أهله ... ومن الغريب مدائحٌ ومراث
ولمنصور الفقيه أيضاً :
أما رغيف بني السلي ... ل فمن حمامات الجرم
ما إن يحس ولا يمس ... ولا يذاق ولا يشم
فإذا نزلت بدارهم ... فانزل بشدقٍ ملتثم
حتى تعيش مسلَّماً ... يا من يعيش بغير فم
ولمنصور الفقيه أيضاً :
إذا تغدوا ربطوا قطهم ... بخلاً بما تطرحه المائدة
ما عرضت قطُّ لهم تخمةً ... ولا تشكوا معدة فاسدة
قال الحسن بن هانئ :
وباخل جئته فقدّم ... كسرة خبز وعينه عبرى

فقال ما تشتهي فقلت له ... قطعة جبنٍ وكسرةً أخرى
وله أيضاً :
على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حل في دار الأمان من الأكل
وما خبزه إلا كآوى يرى ابنه ... ولم ير آوى في الحزون ولا السهل
وما خبزه إلا كعنقاء مغربٍ ... تصور في بسط الملوك وفي المثل
يحدث عنها الناس من غير أن يروا ... سوى صورةٍ ما إن تمر ولا تحلى
وما خبزه إلا كليب بن وائلٍ ... ليالى يحمى عزه منبت البقل
وإذ هو لا يستب خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوعٌ بجدٍّ ولا هزل
فإن خبز إسماعيل حل به الذي ... أصاب كليباً لم يكن ذاك عن بذل
ولكن قضاءٌ ليس يسطاع دفعه ... بحيلة ذي ذهنٍ ولا فكر ذي عقل
قلت : أراد بقوله : وإذ هو لا يستب خصمان عنده قول مهلهل :
أودى الخيار من المعاشر كلهم ... واستب بعدك يا كليب المجلس
وتنازعوا في أمر كل عظيمةٍ ... لو قد تكون شهدتهم لم ينبسوا
وكليب هذا هو الذي أراده النابغة الجعدي بقوله :
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم
قال عُبيد الله بن عكراش ، ويروى لأبي يعقوب الخريمي :
وإني لأرثي للكريم إذا غدا ... على طمع عند اللئيم يطالبه
وأرثي له من وقفةٍ عند بابه ... كمرثيتي للطرف والعلج راكبه
وقال جرير :
إن الكرية ينصر الكرم ابنها ... وابن اللئيمة للئام نصور
وقال آخر :
إن من عضت الكلاب عصاه ... ثم أثرى فمعجزٌ أن يجودا
وقال منصور الفقيه :
قل للكرام اعرفوا حقَّ للئام لكم ... إن اللئام لهم عند الكرام يد
لولا اللئام لما عدوا الكرام ولا ... بانوا بفضلٍ إذا ما حصل العدد
لكنهم جنحوا للنقص فانتقصوا ... وزاد غيرهم فضلاً بما اعتقدوا
جادوا فسادوا وضنَّ الآخرون فما ... يغدو على والد من لؤمه ولد
قد ساء ظني بما قد كنت أخمده ... لما رأيت جميع الناس قد فسدوا
تدارسوا البخل حتى دقَّ مذهبهم ... فيه ودانوا بإخلاف الذي وعدوا
فاستعقلوا كل من أصغى لبخلهم ... واستجهلوا كل من واسى بما يجد
فصار للبخل حق الجود بينهم ... وألزموا الجود عار البخل لا رشدوا
وقال آخر :
فإن سمعت بهلكٍ للبخيل فقل ... بعداً وسحقاً له من هالكٍ مودى
قال محمود الوراق :
إذا أعطاك قترّ حين يعطى ... وإن لم يعط قال أبي القضاء
يبخلّ ربّه سفهاً وظلما ... ويعذر نفسه فيما يشاء
تنقّل عن فعال الخير جهلا ... مخافة أن يضرّ به العناء
وقال الحسن بن هاني :
رأيت الفضل متكئاً ... يناعي الخبر والسّمكا
فقطّب حين أبصرني ... ونكس رأسه وبكى
فلما أن حلفت له ... بأني صائمٌ ضحكا
ولمنصور الفقيه أيضاً
أتيت عمراً سحراً ... فقال : إبّي صائم
فقلت : إني قاعدٌ ... فقال : إني قائم
فقلت : آتيك غداً ... فقال : صومي دائم
قال جحظة :
دخلت على باخل بالطعام ... فمات من الخوف لمّا دخلت
فقلت له : لا يرعك الدخول ... فما جئت بيتك حتى أكلت
وقال أبو نواس :
أبو نوح دخلت عليه يوماً ... فغدّاني برائحة الطعام
فكان كمن سقى الظمآن آلاً ... وكنت كمن تغدى في المنام
وقال منصور الفقيه :
إن لم يصبك من الكر ... يم الحرّ وابله فطّله
إن الكريم له على ... معرفة نفسٌ تدلّه
يبدي مكارمه كما ... يبدي فرند السّيف صقله
قال آخر :
وإن جمع الآفات فالبخل شرّها ... وشرّ من البخل المواعيد والمطل
وقال منصور الفقيه :

إذا كان في بخله محكماً ... وحلّ من المجد أعلى الدّرج
وجاءك يخطب زنجيةً ... مشوّهة الخلق فيها هوج
فلا تحفلنّ به خاطباً ... ولا تفرحنّ ولا تبتهج
وإن كان سمحاً جميل الفعال ... كريماً جواداً فإنّ الحرج
وإن القطيعة في صرفه ... ولو جاء يخطب إحدى المهج
بغير صداق لإعساره ... وما عسر منتظر للفرج
قال حمّاد عجرد ، وتروى للعتّابي :
إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنيّاً وهو مجهود
وللبخيل على امواله عللٌ ... رزق العيون عليها أوجهٌ سود
إذا تكرهت أن تعطى القليل ولم ... تقدر على سعةٍ لم يظهر الجود
أورق بخير ترجّى للنوال فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود
بثّ النوال ولا تمنعك قلته ... فكلّ ما سدّ فقراً فهو محمود
وقال منصور الفقيه :
ما بالبخيل انتفاعٌ ... ولكلب ينفع اهله
فنزّه الكلب عن أن ... ترى أخا الكلب مثله
أخبرنا عبد الوارث ،قال :حدثنا أبو عيسى ،قال :انشدني ابن المعلم لعلى بن الجهم :
وإذا الكريم أتيته بخديعةٍ ... ألفيته فيما تروم يسارع
ليس الكريم كما ظننت بجاهلٍ ... إن الكريم لفضله يتخادع
قال آخر :
لا تطلبن إلى لئيم حاجةً ... واقعد فإنّك قائماً كالقاعد
يا خادع البخلاء عن أموالهم ... هيهات تضرب في حديدٍبارد
قال آخر :
طعامه النجم لمن رامه ... وخبره أبعد من أمسه
كأنّه في جوف مرآته ... يرى ولا يطمع في لمسه
قال آخر :
إن كنت تطمع في كلامه ... فارفع يمينك عن طعامه
سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظمٍ من عظامه
وقال دعبل بن على الخزاعي :
لئن كنت لا تولى يداً دون إمرةٍ ... فلست بمولٍ نائلاً آخر الدّهر
وأىّ جواد لم يجد في ملمٍة ... وأي بخيل لم ينل ساعة الوفر
وقال منصور الفقيه :
راجى البخيل وضيعٌ ... كما البخيل وضيع
وما يقول سوى ذا ... في ذين إلاّ رقيع
للعرزمي ويروى لأبي الأسود الدؤلي :
وإذا طلبت إلى كريم حاجةً ... فلقاؤه يكفيك والتسليم
وإذا طلبت إلى لثيم حاجة ... فألحّ في رفق وأنت مديم
وقال آخر :
إذا سست قوماً فاجعل الودّ بينهم ... وبينك تأمن كلّ ما تتخوّف
فإن خفت من أهواء قومٍ تشتّتاً ... فالبالجود فا جمع بينهم يتألفّوا
فإن كشفت عنك الملمات عورةً ... كفاك غطاء الجود ما يتكشف
قال ابن شهاب :الكريم لا تبخله التجارب.
ويروى عنه أنه قال :إن الكريم لا تحكمه التجارب.
وسئل الحسن بن علي رضى الله عنهما عن البخل ،فقال :هو أن يرى الرجل ما ينفقه تلفاً ،وما أمسكه شرفا.
قال طاووس :البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه ،والشّح أن يشح بما في أيدي الناس ،ويحب أن يكون له ما في أيديهم بالحلّ والحرام ولا يقنع .
وقال أبو العتاهية :
وإن امرءا لم يربح الناس نفعه ... ولم يأمنوا منه الأذى للثيم
وإن امرءًا لم يجعل البّر كنزه ... وإن كانت الدنيا له لعديم

باب المروءة والفتوة
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " حسب المؤمن دينه ، وكرمه تقواه ، ومروءته عقله " . ويروى نحو هذا من كلام عمر أيضاً.
وروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، أنه قال لرجل من ثقيف : " ما المروءة قال الصلاح في الدين ، وإصلاح المعيشة ، وسخاء النفس ، وصلة الرحم. فقال عليه السلام : " هكذا هي عندنا في حكمة آل داود " .
تذاكروا المروءة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأكثروا فيها ، فقال : " أما مروءتنا فأن نعفو عمن ظلمنا ، ونعطى من حرمنا ، ونصل من قطعنا " .
قال منصورالفقيه :
أعلن وهبٌ كرمه ... في وصله من صرمه

وعفوه عن كل من ... أسخطه أو ظلمه
وبرّه بنفسه ... وماله من حرمه
فما يراه معظمٌ ... للحق إلاّ أعظمه
أبقى عليه اللّه ما ... أبقاه فينا نعمه
وزاد فيها عنده ... وحاطه وسلمه
من حديث عطاء عن ابن عباس ، قال : رفع إلى عمر بن الخطاب رجل في جرم ، فأراد أن يعاقبه ، فأخبر أن له مروءة ، فقال : استوهبوه من صاحبه.
سئل عبد الله بن عمر ، عن المروءة والكرم والنجدة. فقال : أما المروءة : فحفظ الرجل نفسه ، وإحرازه دينه ، وحسن قيامه بصنعته ، وحسن المنازعة ، وإفشاء السلام ، وأما الكرم : فالتبرع بالمعروف ، والإعطاء قبل السؤال ، والإطعام في المحل. وأما النجدة : فالذب عن الجار ، والصبر في المواطن ، والإقدام على الكريهة.
وفي رواية أخرى ، أن معاوية قال في مجلسه يوماً لمن حضره : من يخبرني عن المروءة والجود والنجدة ؟ فقال عبد اللّه بن هاشم بن عتبة ، وكان بعده عفوه عنه يحضر مجلسه : قال : يا أمير المؤمنين! أما المروءة فالصلاح في الدين ، والإصلاح في المال ، والمحاماة عن الجار. وأما النجدة فالجرأة على الإقدام ، والصبر عند ازورار الأقدام.
قال طلحة بن عبيد اللّه : جلوس الرجل ببابه من المروءة ، وليس من المروءة حمل الكيس في الكم.
سئل الأحنف عن المروءة ، فقال : التفقه في الدين ، وبرّ الوالدين ، والصبر على النوائب.
ويروى عن الأحنف أيضاً أنه قال : لا مروءة لكذوب ، ولا أخ لملول ، ولا سؤدد لسيئ الخلق.
سئل ابن شهاب الزّهري عن المروءة ، فقال : اجتناب الريب ، وإصلاح المال ، والقيام بحوائج الأهل.
سئل إباس بن معاوية عن المروءة ، فقال : أما حيث تعرف فالتقوى ، وأما حيث لا تعرف فاللّباس.
وقال الزهري أيضاً : الفصاحة من المروءة.
قال إبراهيم النخعى : ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق.
قال غيره : من كما المروءة أن تصون عرضك ، وتكرم إخوانك ، وتقيل في منزلك.
قال منصور الفقيه :
من فارق الصبرّ والمرو ... ءة أمكن من نفسه عدوّه
قال ربيعة بن عبد الرحمن : للسفر مروءة ، وللحضر مروءة. فالمروءة في السفر : بذل الزاد ، وقلة الخلاف على الأصحاب ، وكثرة المزاح في غير مساخط اللّه. المروءة في الحضر : إدمان الاختلاف إلى المساجد ، وتلاوة القرآن ، وكثرة الإخوان في اللّه عزّ وجلّ.
وفي رواية أخرى عن ربيعة أنه قال : المروءة ست خصال : ثلاث في الحضر ، وثلاث في السفر ، فأما التي في السفر : فبذل الزاد ، وحسن الخلق ، ومداعبة الرفيق. وأما التي في الحضر ، فتلاوة القرآن ، ولزوم المساجد ، وعفاف الفرج.
قيل لبعض الحكماء : من يجب لذى المروءة إخفاء نفسه وإظهارها ؟ قال : على قدر ما يرى من نفاق المروءة وكسادها.
كان يقال : صن عقلك بالحلم ، ومروءتك بالعفاف ، وبجدتك بترك الحياء ، وجهدك بالإجمال في الطب.
أخبرنا عيسى بن سعيد ، حدثنا مقسم ، حدثنا أبو بكر محمد بن حمدان ،حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد اللّه بن العباس بن عثمان بن شافع بن السّائب ، عن عبد يزيد بن هشام بن عبد المطلب بن عبد مناف ، قال : حدثني عمي عن إبراهيم بن محمد بن العباس ، قال : سمعت سفيان بن عيينة ، وقد سئل عن المروءة ماهي ؟ فقال : الأنصاف من نفسك ، والتفضل على غيرك ، ألم تسمع قول اللّه تعالى " إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان " لاتتمّ المروءة إلاّ بهما ، العدل هو الإنصاف ، والإحسان التفضل.
روى عن الفضيل بن عياض رحمة الله ، أنه سئل عن الرجل الكامل التام المروءة فقال : الكامل من برّ والديه ، ووصل رحمه ، وأكرم إخوانه ، وحسن خلقه ، وأحرز دينه ، وأصلح ماله ، وأنفق من فضله ، وحسن لسانه ، ولزم بيته.
قال الشاعر :
إذا الفتى جمع المروءة والتقى ... وحوى مع الأدب الحياء فقد كمل
قال رجل من بني قريع :
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلا عليه شديد
قال جعفر بن محمد : لا هين لمن لا مروءة له.
قال أحمد بن العدل : زعموا أن الأحنف بن قيس لم يسمع له شعرٌ غير هذين البيتين ، وهما :
فلو مدّ سروى بمال كثير ... لجدت وكنت له باذلا

فإنّ المروءة لا تستطاع ... إذا لم يكن مالها فاضلا
وقال آخر :
رزفت لباً ولم أرزق مروءته ... وما المروءة إلا كثرة المال
إذا أردت مساماة تقعدّني ... عما ينوّه باسمى رفة الحال
وقال منصور الفقيه :
كلّ من فارق المروءة عاشا ... ونما وفره وزاد رياشا
وأخو الفضل والمروءة والدّي ... ن مقلٌ أموره تتلاشى
وقال سفيان الثورى : من لم يحسن يتقرّا.
ذكرت الفتوة عند سفيان رحمه اللّه ، فقال : ليست بالفسق ولا الفجور ،ولكن الفتوة كما قال جعفر بن محمد : طعام موضوع ، وحجابٌ مرفوع ، ونائل مبذول ، وبشر مقبول ، وعفاف معروف ، وأذى مكفوف.
قال محمد بن داود : من كان ظريفاً فليكن عفيفاً ، وأنشد لا بن هرمة :
ولرب ليلة لذة قد نلتها ... وحرامها بحلالها مدفوع
وقال صريع الغواني :
وما ذمى الأيام أن ليست حامداً ... لعهد ليلليّ التي سلفت قبل
ألا رب يومٍ صادق العيش نلته ... بها ونداماى العفافة والبذل
وقال منصور الفقيه :
فضل التقى أفضل من ... فضل اللّسان والحسب
إذا هما لم يجمعا ... إلى العفاف والأدب
وقال آخر :
وليس فتى من راح واغتدى ... لشرب صبوح أو لشرب غبوق
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضرّ عدوّ أو لنفع صديق
وقال جحظة :
ألا يأهل بغداد جميعاً ... عصيتم في المروءة من براكم
تذمون الزمان بغير جرمٍ ... وما بزمانكم عيبٌ سواكم
باب امتحان أخلاق الرّجال
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " الأرواح أجنادٌ مجنده ، فما تعارف منها ائتلف : وما تناكر منها اختلف " .
أخذه بعض الشعراء فقال :
إن القلوب لأجناد مجندةٌ ... للّه في الأرض بالأهواء تعترف
فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : " الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة " .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " إن الأمير إذا تجسس على الناس أفسدهم " .
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : " وجدت الناس اخبر تقله " . وقد روى هذا مرفوعاً عن أبي الدراء.
وفي خبر آخر : " إن الناس سواسيةٌ كأسنان المشط " .
كان يقال : لا يزال الناس بخير ما تباينوا ، فإذا تساووا هلكوا قال الشاعر :
سواءٌ كأسنان الحمار فلا ترى ... لذي شيبة منهم على ناشئ فضلاً
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه :الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم قال على بن أبي طالب رضي اللّه عنه : خالط المؤمن بقلبك ، وخالط الفاجر بخلقك.
كان يقال : يمتحن الرجل في ثلاثة أشياء : عند هواه إذا هوى ، وعند غضبه إذا غضب ، وعند طمعه إذا طمع.
قال أبو عمرو بن العلاء : إذا أردت أن تعرف مالك عند صديقك فاعرف ما كان لصديقه قبلك عنده.
قال سفيان الثورى : إذا أردت أن تعرف مالك عند صديقك فأغضبه ، فإن أنصفك في غضبه وإلا فاجتنبه.
قال الفضل بن عباس بن عتبه بن أبي لهب
إذا أردت وداد امرئٍ ... فسل كيف كان لإخوانه
فإمّا رضيت فأحببته ... وإما ترغبت عن ثيانه
قال الأحنف بن قيس : ما كشفت أحداً قط إلاّ وجدته دون ما كنت أظن قال تأبط شرّاً :
لتقرعنّ على السّنّ من ندم ... إذا تذكرت يوماً بعض أخلاق
وقال آخر :
إنّ المودة بالتجارب ... قضتّ من النّاس المآرب
لم تترّك لي صاحباً ... أصبو إليه ولا أعاتب
متفرداً بتوحّدي ... دون الأباعد والأقارب
ارغب إلى اللّه الذي ... يعطى الجزيل من المذاهب
باللّه تتسع الفجا ... ج إذا تضايقت المذاهب
كان سفيان الثوري يتمثل بهذه الأبيات :
ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمنّ أمورهم وتفقد
وإذا ظفرت بذى الأمانة والتقى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد

ودع التذلل والتخشّع تبتغي ... قرب الذّي إن تدن منه يبعد
وقال آخر :
أهلكني بزيادٍ ثقتي ... وظنونٌ بزيادٍ حسنه
ليس يستوجب شكرا رجلٌ ... نلت خيراً منه من قبل سنه
وقال يزيد بن محمد المهلبي :
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعدّ معايبه
وقال آخر :
إن الرجال إذا اختبرت طباعهم ... ألفيهم شتى على الأخبار
لا تعجلنّ إلى شريعة موردٍ ... حتى تبين صفحة الإصدار
وقال آخر :
اترك مكاشفة الصديق إذا ... غطّى على هفواته ستر
وتجاف عنه بلا مصارمةٍ ... فلنعم صائن عرضك الصبر
وقال آخر :
لا تحمدن امرءاً حتى تجربه ... ولا تذمنه من غير تجريب
وقال محمود الوراق :
لا يغلبنك غالب الحرص ... واعلم بأن النّاس نقص
والبس أخاك على تصنعه ... فلرب مفتضحٍ على النّص
ما كدت أفحص عن أخي ثقة ... إلا ذممت عواقب الفحص
وقال آخر :
إذا أنكرت أخلاق الصديق ... فلست من التحيز في مضيق
طريقاً كنت تسلكه سليماً ... فأسبع فاجتنبه إلى طريق
وقال آخر :
لا تحمدن امرءاً حتى تجربه ... فربّما لم يوافق خبره خبره
وقال آخر :
إذا أنت لم تستقبل الأمر لم تجد ... لكفّك في إدباره متعلّقا
إذا أنت لم تترك أخاك وزلةً ... إذا زلها أوشكتما أن تفرّقا
قال آخر :
قد كنت أحمد أمرى فيك مبتدئاً ... فقد ذممت الذي أحمدت في صدري
فاذهب فأنت امرؤٌ لا شك أوّله ... حلوٌ وآخره مرٌّ على الخبر
قال معاذ بن جبل : إذا أحببت أخاً في اللّه ، فلا تماره ولا تشاره ولا تسل عنه أحداً ، فلربما أخبرك بما ليس فيه ، فحال بينك وبينه.
قال الشاعر :
أردت لكيما لا ترى لي زّلةٌ ... ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل
أجمعوا على القول بأن اللّه تعالى تفرّد بالكمال ، ولم يبرئ أحداً من النقصان.
قال أبو بكر بن دريد :
إذا تصفحت أمور النّاس لم ... تلف امرءا حاز الكمال فاكتفى
من لك بالمهذب النّدب الذي ... لا يجد العيب إليه مختطا
كم من أخ مسخوطةٍ أخلاقه ... أصفيته الودّ لخلق مرتضى
وقال النابغة الذبياني :
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمّه ... على شعثٍ أيّ الرجال المهذّبوقال ابن وكيع :
من لم يكن مؤاخياً إلاّ الذّي ... لا عيب فيه عاش فردا في الورى
وقال آخر :
ما بالمنازل من ضيقٍ ومن ضجر ... بل الطّبائع منها الضّيق والضّجر
وقال آخر :
كل خليل كنت خاللته ... لا ترك اللّه له واضحه
كلهم أروع من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحه
وقال آخر :
كل امرئ صائرٌ يوماً لشيمته ... وإن تخلّق أخلاقاً إلى حين
وقال عباس بن الأحنف :
وما مرّ يومٌ أرتجى فيه راحةً ... فأخبره إلا بكيت على أمس
وقال آخر :
عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأبى دونه الخلق
ولا يواتيك فيما ناب من حدث ... إلا أخو ثقةٍ فانظر بمن تثق
وقال زهير بن أبي سلمى :
ومهما تكن عند امرئ من خليفةٍ ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وقال نصيب الأصفر ، مولى المهدى :
إن البقاع إذا استسر بها الندى ... أنس النبات بها وطاب المربع
وإذا جهلت من امرئ أخلاقه ... وقديمه فانظر إلى ما يصنع
وقال محمود الوراق :
ذممتك أولا حتّى إذا ما ... بلوت سواك عاد اللوم حمداً
ولم أحمدك من خيرٍ ولكن ... رأيت سواك شرّاً منك جداً
فعدت إليك محتملا خليلا ... لأني لم أجد من ذاك بدّا

كمجهودٍ تحامى أكل ميتٍ ... فلما اضطرّ عاد إليه شدّا
وقال أيضاً :
لم أبك من خبث خلّ ... إلا بكيت عليه
ولم أمل عن صديقٍ ... للزّهد فيما لديه
إلى سواه فأبلو ... إلاّ رجعت إليه
كلّ امرئ مستبد ... بحفظ ما في يديه
ذكرا بن مقسم ، حدثنا محمد بن يحيى النديم ، قال : حدثنا المبرد ، قال : كان بين عمارة بن حمزة وبين إسماعيل بن علىّ مودة ، ثم تنافرا. فكتب إليه عمارة :
سأترك ما بيني وبينك ساكنا ... فإن عدت عدنا والوصال سليم
ولو قد خبرت الناس حق اختبارهم ... رجعت إلى وصلى وأنت ذميم
أخبرنا عبد الوراث ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : أنشدنا عيسى الأعمى ، قال أنشدنا ابن المعلم لعلى بن الجهم :
الناس إخوانك حتى إذا ... عرضت للخوان بالدّرهم
ساءك ما سرك من خلقهم ... وصرت وسط الحلق كالعلقم
وقال آخر :
عتبت على سلم فلما فقدته ... وجربت أقواماً بكيت على سلم
وقال آخر :
لم أبك من زمن لم أرض خلته ... إلا بكيت عليه حين ينصرم
وقال آخر :
متى تحسب صديقك لم يقلوا ... وإن تخبر يقلّوا في الحساب
وقال آخر :
ونعتب أحياناً عليه ولو مضى ... لكنّا على الباقي من الناس أعتبا
وقال آخر :
سبكناه ونحسبه لجيناً ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
وقال آخر :
ومن يبتدع ماليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه إلى النفس خيمها
وقال آخر :
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم ... فرش والتمس نفع الذّي بهم ترمى
وقال محمود الوراق :
أثمّ الناس أعرفهم بنقصه ... وأقمعهم لشهوته وحمصه
فدان على السّلامة من تدانى ... ومن لم ترض صحبته فأقصه
وخلّ الفحص ما استغنيت عنه ... فكم من جالب غيظا بفحصه
ولا تستغل عافيةً بشئ ... ولا تستر خصنّ أذى لرخصه
وقال آخر :
ارض من المرء في مودته ... بما يؤدّي إليك ظاهره
من يكشف الناس لم يجد أحداً ... تصح منهم له سرائره
وقال آخر :
يكفيك من قومٍ شواهد أمرهم ... فخذ عفوهم قبل امتحان السّرائر
فإن امتحان القوم يوحش بينهم ... ومالك إلا ما ترى في الظواهر
وإنك إن كشفت لم تر طائلا ... وأبدي لك التكشيف خبث الضمائر
وقال آخر :
ولا خير في ودّ إذا لم يكن له ... على طول مرّ الحادثات بقاء
وقال منصور الفقيه :
إذا جمع الفتى حسبا وديناً ... فلا تعدل به أبداً قريناً
ولا تسمح بحظك منه بل كن ... بحظك من مودّته ضنينا
وقال آخر :
لعمرك ما مال الفتى بذخيرةٍ ... ولكنّ إخوان الثقاب الذخائر
وقال ابن الرومى :
إذا شئت تعرف أصل الفتى ... أجل لحظ طرفك في منظره
فإن لم بين لك فانظر إلى ... أفاعيله فهي من جوهره
فإن غاب عنك بهذا وذا ... فلا تطلبن سوى محضره
فإن المحاضر سرّ الرجال ... بها يعرف النذل من خيّره
بلوت الرجال وأفعالهم ... فكلٌّ يعود إلى عنصره
وقال ربيعة الرّقى :
إن اللئيم وإن خلته ... كريماً يذودك عن عرفه
ويرجع محصول أخلاقه ... إلى أصله وإلى صنفه
باب التودّد إلى الناس
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " مداراة الناس صدقه " .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : " أمرني ربي بمداراة الناس ونهاني عن ملاحاتهم " .
روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : " رأس العقل بعد الإيمان باللّه التودد إلى الناس " .
وقد روى في خبر مرفوع : " التودّد إلى الناس نصف العقل ، وحسن التدبير نصف المعيشة ، وما عال من اقتصد " .

قال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه : إنّ مما يصفى لك ودّ أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته ، وأن تدعوه بأحبّ الأسماء إليه ، وأن توسّع له في المجلس.
قال بعض الحكماء : رأس المداراة ترك المماراة.
وفي الحديث المرفوع : " إذا أحب اللّه عبداً أحبّه الناس " .
أخذه الشاعر فقال :
إذا أحبّ اللّه يوماً عبده ... ألقى عليه محبةً في الناس
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " ألا أنبئكم بشراركم " ؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه. قال : " من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة. ألا أنبئكم بشر من ذلكم " قالوا : بلى. قال : " من يبغض الناس ويبغضونه " .
روينا أن داود عليه السلام ، جلس كئيباً خاليا ، فأوحى اللّه إليه : مالى أراك خاليا ؟ قال : هجرت الناس فيك. قال : أفلا أدلّك على شئ تبلغ رضاي؟ خالق الناس بأخلاقهم ، واحتجز الإيمان فيما بيني وبينك.
كان يقال : من رضى من الناس بالمسامحة طال استمتاعه بهم.
قال أكثم بن صيفي : من تشدّد فرّق ، ومن تراخى تألف ، والسرور في التغافل.
قال علي رضى اللّه عنه : شرط الصحبة إقاله العثرة ، ومسامحة العشرة ، والمواساة في العسرة.
قيل للعتّابي : إنك تلقى الناس كلهم بالبشر! قال : دفع ضغينةٍ بأيسر مؤونة ،واكتساب إخوان بأيسر مبذول.
قال محمود الوراق :
أخو البشر محمود على كلّ حالةٍ ... ولن يعدم البغضاء من كان عابساً
ويسرع بخل المرء في هتك عرضه ... ولم أر مثل الجود للعرض حارساً
قال أعرابي يمدح رجلا بساماً هو زياد الأعجم يمدح عبد اللّه بن عامر ابن كريز.
أخ لك ما تراه الدّهر إلاّ ... على العلات بساماً جواداً
سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا
مراراً ما أعود إليه إلاّ ... تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا
وقال آخر :
ولي صاحبٌ كالموت يوم فراقه ... تغيّر والأيام جمّ عجيبها
أريد له هجراً لبعض خلاله ... فتعطفي أخرى له فأجيبها
وقال آخر :
أخ لي كأيام الحياة إخاؤه ... تلون ألواناً كثيراً خطوبها
إذا عبت منه خلّةً فهجرته ... دعتني إليه خلّة لا أعيبها
وقال ابن وكيع :
من لم يدار الناس عن علم بهم ... انصرفوا وكلّهم له عدا
وقال كثير :
ومن لا يغمّض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتبع جاهداً كل عثرةٍ ... يجدها ولا يسلم الدّهر صاحب
وقال آخر :
وكم من أخٍ لم يحتمل منه خلّةً ... قطعت ولم يمكنك منه بديل
ومن لم يرد إلا خليلاً مهذباً ... فليس له في العالمين خليل
قال آخر :
وأحبب إذا أحببت حبّاً مقارباً ... فإنك لا تدري متى أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقارباً ... فإنك لا تدري متى أنت راجع
هذا مأخوذ من الحديث المرفوع : " أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وابغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما " .
وأحسن ما نظم في هذا المعنى قول أبي العتاهية :
قل لمن يعجب من ... حسن رجوعي ومقالي
ربّ صدّ بعد ودّ ... وهوى بعد تقالى
قد رأينا ذا كثيراً ... جارياً بين الرجال
أنشد حبيبٌ للفند الزّمّاني وقال الجاحظ لا أظنها له :
صفحنا عن بنى ذهل ... وقلنا : القوم إخوان
عسى الأيام أن يرجع ... ن قوما كالذي كانوا
قال آخر :
وكنت إذا صبحت رجال قوم ... صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسونهم ... وأجتنب الإساءة إن أساءوا
وأبصر ما ينقصني بعين ... عليها من عيونهم غطاء
وقال آخر :
ما نالت النفس على شهوة ... ألذ من ودّ صديقٍ أمين
من فاته ودّ أخٍ صالحٍ ... فذلك المغبون حقّ اليقين
قال آخر :
استوحش الناس علىّ جدّا ... ولا أرى لي من أناس بدّأ

إن لم أعاشرهم بقيت فردا وقال آخر :
أغمض للصديق عن المساوى ... مخافة أن أعيش بلا صديق
قال آخر :
أغمّض عيني عن صديقي تغافلا ... كأنّي بما يأتي من الأمر جاهل
وما بي جهلٌ غير أن خليقتي ... تطيق احتمال الكره فيما يحاول
متى ما يربني مفصل فقطعته ... بقيت ومالي في النهوض مفاصل
وقال آخر :
وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... فأشرقني على حنق بريقي
غفرت ذنوبه وصفحت عنه ... مخافة أن أعيش بلا صديق
وقال آخر :
إذا ما خليلي رابني بعض خلقه ... ولم يك عما ساءني بمفيق
صبرت على أشياء منه تريبني ... مخافة أن أبقى بغير صديق
وأنشد ابن الأنباري عن أبيه :
إذا ما صديقي ساءني بفعاله ... ولم يك عما ساءني بمفيق
صبرت على الضَّرَّاء من سوء فعله ... مخافة أن أبقى بغير صديق
" قالوا :لا خير في الناس ،ولابد من الناس "

باب الاستيحاش من الناس والفرار منهم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الناس منزلةً يوم القيامة ، رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يخيف العدو ويخيفونه " . وفي رواية أخرى : " حتى يموت أو يقتل ، والذي يليه رجل معتزل في شعب من الشّعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ، ويعتزل شرور النّاس " .
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه الطمع فقرٌ واليأس غنيٌ ، والعزلة راحةٌ من جليس السوء ، وقرين الصدق خير من الوحدة.
قال أبو الدردّاء : نعم صومعة الرجل المؤمن بيته ، يصون دينه وعرضه ، وأياكم والأسواق ، فإنها تلغي وتلهي.
قال مكحول :إن كان في الجماعة فضل ، فإن في العزلة سلامه.
قال عمر بن الخطاب : خالطوا الناس في معايشكم ، وزايلوهم بأعمالكم.
قال أبو الدّرداء : كان الناس ورقاً لا شوك فيه ، وهم اليوم شوك لا ورق فيه.
يقال : إن فيما أنزل اللّه في الإنجيل على عيسى عليه السلام. كن وسطاً وامشي جانباً.
قال ابن المقفع : وحشة الانفراد أبقى على المرء من أنس التلاقي.
قال بعض العلماء العزلة عن الناس توقي العرض ، وتبقي الجلالة ، وترفع مؤونة المكافأة في الحقوق اللازمة ، وتستر الفاقة.
قال أوس ابن حجر :
وإنّي رأيت النّاس إلا أقلهم ... خفاف العهود يكثرون التّنقّلا
بنى أمّ ذي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبداً سيّد القوم جحفلا
وهم لمقلّ الممال أولاد علّةٍ ... وإن كان محضاً في العمومة مخولا
وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يسوءك إن ولّي ويرضيك مقبلا
ولكن الأخ النّائي إذا كنت آمناً ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وقال الحسن بن عبد الرحمن.
توحشت ولكنّي ... أسرّ بالوحشة أحيانا
وفي الوحشة ما يؤ ... نس من صحبة من خانا
وقال أيضاً :
يا حبّذا الوحشة من أنيس ... إذا خشيت من أذى الجليس
وقال أبو العتاهية :
برمت بالناس وأخلاقهم ... فسرت أستأنس بالوحده
ما أكثر النّاس لعمري وما ... أقلّهم في حاصل العدّه
كتب شيخ من أهل الرّى على باب داره : جزى اللّه عنا من لا نعرفه ولا يعرفنا خيراً ، وأما أصدقاؤنا الخاصة فلا جزاهم اللّه خيراً ، فإن لم نؤت إلا منهم.
قال سفيان وما وجدت من يغفر لي ذنباً ، ولا يستر لي عيباً ، فرأيت في الهرب من الناس السّلامة.
قال الفضيل بن عياض لسفيان الثوري : دلّني على رجل أجلس إليه ، قال : تلك ضالّة لا توجد.
قال أكثم ابن صيفي : الانقباض عن الناس مكسبه للعداوة ، وإفراط الأنس مكسبة لقرناء السوء.
وقال سهل الوراق :
ألا ما لذا الناس قد بدّلوا ... فهم كذئاب عليها ثياب
تواطئوا على كلّ مستقبحٍ ... فما لقبيح لديهم معاب
وخانوا الأمانة ما بينهم ... وهل بالأمانة توفى الذئاب
قال الأضبط بن قريع :
أذود عن حوضه ويدفعني ... يا قوم من عاذري من الخدعه
أنشد الخريري لنفسه :

مخالط الناس في الدّنيا على خطر ... وفي بلاءٍ وصفو شيب بالكدر
كراكب البحر إن تسلم حشاشته ... فليس يسلم من خوف ومن حذر
وقال قدامة بن إبراهيم الجمحى :
العجز ضعف ومالجزم من ضررٍ ... وأحزم الحزم سوء الظنّ بالناس
لا تترك الحزم في أمر تحاذره ... فإن أصبت فما بالحزم من باس
أنشدني عبد الرّحمن بن أبان ، عن عثمان ، قال : أنشدني أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدى لنفسه :
أشعرن قلبك ياسا ... ليس هذا الناس ناسا
قد مضى الإبريز منهم ... وبقوا بعد بحاسا
سامريين يقولو ... ن جميعاً مساسا
لهلال بن العلاء :
لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ ... أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيّى عدّوى عند رؤيته ... لأدفع الشرّ عنّى بالتحيات
وأحسن البشر للإنسان أبغضه ... كأنه قد ملا قلبي محبّات
ولست أسلم ممن لست أعرفه ... فكيف أسلم من أهل المودات
وقال ابن الرومى :
يا ذا الذي منه التغي ... ر والتّنكر والنبوّ
إن كان أدر كك الملا ... ل فقد تداخلني السّلوّ
وقال آخر :
قد كنت عبداً والهوى مالكى ... فصرت حرّا والهوى خادمى
وصرت بالوحدة مستأنساً ... من شرّ أولاد بني آدم
ما في اختلاط الناس خير ولا ... ذو الجهل بالأشياء كالعالم
يا عاذلى في تركهم جاهلا ... عذرى منقوش على خاتمي
وكان في خاتمه منقوشاً : " وما وجدنا لأكثرهم من عهد " وقال منصور الفقيه :
نفرت من كلّ من وثقت به ... إذ كلهم خانني ولم أخن
من لان لي جانباه لنت له ... ومن أبي أن يلين لم ألن
وقال آخر :
هذا زمانٌ ليس إخوانه ... يامعشر الناس بإخوان
إخوان سوءٍ كلّهم فاسقٌ ... له لسانان ووجهان
يلقاك بالبشر وفي قلبه ... داءٌ يواريه بكتمان
حتّى إذا ما غبت عن وجهه ... رماك في الغيب ببهتان
يأيها المرء فكن واحداً ... فرداً ولا تأنس بإنسان
منصور الفقيه :
الناس بحرٌ عميقٌ ... والبعد منهم سفينه
وقد نصحتك فانظر ... لنفسك المسكينه
طرفة بن العبد :
كلّ خليل كنت خاللته ... لا ترك اللّه له واضحه
كلهم أروع من ثعلب ... ماأشبه الليلة بالبارحه
وقال منصور الفقيه :
يا أخا الدّهر إن وفا ... وأخا الدهر إن غدر
كن من الناس كيف شئ ... ت على غاية الحذر
كان يقال : صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار وقال ابن وكيع :
فسد الناس كلّهم وانقضى الودّ ... فما في الورى أخٌ ذو صفاء
وأرى طالب الفرار من النا ... س ومرتاد مربهم في بلاء
ذاك بالانقباض يكسب المق ... ت ويعزى به إلى الكبرياء
وأخو الانبساط يخشى انقلاباً ... من صديق يضيع حق الإخاء
وإذا ما الصديق عاد عدواً ... فهو مستفرهٌ من الأعداء
وقال منصور الفقيه :
في الناس خيرٌ كثيرٌ ... والشرفى الناس أكثر
وقد نصحتك حهدى ... فانظر لنفسك واحذر
فإن وثقت بقولي ... فيهم وإلا فغرر
وله أيضاً :
إنما الناس فزعةٌ ... ليس في الناس مفزع
ذم من شئت منهم ... فهو للذمّ موضع
ولما حضرته الوفاة ، قال : أستغفر اللّه من هذين البيتين.
قال سويد بن منجوف :
قبلغّ مصبعاً عنّي رسولا ... وهل تجد النصيح بكل واد
تعلّم أن كثر من تناجى ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي
أنشد الزبير لأبي همهمة :
إخوة ما حضرت سرّون برّو ... ن فإن غبت فالسّباع الجياع

با ينوي حتى إذا عانيوني ... بان منهم تضاؤلٌ واجتشاع
فهم يغمزون مني قناةً ... ليس يألون عمزها ما استطاعوا
ما كذا يفعل الكرام ولكن ... هكذا يفعل اللثام الوضاع
قال أبو غسان مالك بن الله غلام أبي العتاهية :كنت عند أبي العتاهية قبل موته بثلاثة أيام ،وإنه لشديد العلّة لما به ،فرفع رأسه إلى وقال :يا أبا غسان!
لله درّ أبيك أيّ زمان ... أصبحت فيه وأيّ أهل زمان
كلٌّ يوازنك المودة دائباً ... يعطى ويأخذ منك بالميزان
لإغذا رأى رجحان حبة خردلٍ ... مالت مودته مع الرّجحان
في كلّ يومٍ منه تبدو قصّةً ... تنعي إليك مودّة الإخوان
وقال منصور الفقيه :
أيّ زمان نشأت فيه ... كذي ضلالٍ بأرض تيه
ما شئت من عالم خبيثٍ ... فيه ومن جاهلٍ سفيه
وقال أبو العتاهية :
إن الزمان يغرّني بأمانه ... ويذيقني المكروه من حدثانه
فأنا النذير من الزمان لكلّ من ... أمسي وأصبح وائقاً بزمانه
ما الناس إلا للكثير المال أو ... لمسلّط ما دام في سلطانه
فإذا الزمان رماهما بملمّةٍ ... كان الثّقات هناك من أعوانه
قال إبراهيم بن العباس الصولى :
بلوت الزمان وأهل الزمان ... فكلّ بذم ولوم حقيق
وأوحشني من صديقي الزمان ... وآنسني بالعدوّ الصديق
وله أيضاً
وربّ أخ ناديته في ملمةٍ ... فألفيته منها أجلّ وأعظما
أنشدني محمد بن نصير الكاتب لنفسه :
تطلّب سبيل الهدى جاهداً ... ودع عنك مشتبهات السّبل
وأصبح من الناس مستوفزاً ... فأكثرهم راصدٌ للزّلل
وأجبن من قد ترى منهم ... لعمرك يردى الشجاع البطل
وتصمى المقاتل أقوالهم ... بألسنةٍ وقعها كالأسل
ومن حكّم الناس في عرضه ... فمن جار أكثر ممن عدل
وقال آخر :
وإذا دعوت أخا إخائك ... عند نائبةٍ تنوب
ألفيته أحد الخطوب ... إذا تتابعت الخطوب
وهذا كله عندي والله أعلم مأخوذ من قول القائل :
كنت من كربتي أفر إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار
منصور الفقيه :
تبارك من لو شاء ملكني نفسي ... وصيّر في الإيحاش من خلقه أنسي
وباعد داري عاجلاً عن ديارهم ... كعبد مغيب الشمس عن مطلع الشمس
لعلّى أن أمسي من الشر آمنا ... وأصبح مسروراً بذاك كما أمسي
فما نكّد الدنيا على طيب ظلها ... وقرب جناها العذب شئ سوى الإنس
قال أعرابي ،وهو جابر بن ثابت ،ويعرف بتأبط شرا :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوّت أنسان فكدت أطير
درى الله أني للأنيس لشانئٌ ... وتبغضهم لي مقلةٌ وضمير
وقال آخر :
قد بلوت النّاس طرّا ... لم أجد في الأرض حراً
صار أحلى الناس في عيني ... إذا ما ذيق مرّا
ووجدت الحلو منهم ... عندما جرّبت صبرا
وقال منصور الفقيه :
إن بني دهرنا أفاع ... ليس لمن ساورت طبيب
فلا يكن فيك بعد هذا ... لواحدٍ منهم نصيب
وقال آخر :
قد لزمت السّكوت من غير عىّ ... ولزمت الفراش من غير علّه
وهجرت الإخوان لما أتتني ... عنهم كلّ خصلة مضمحلّه
فعلى أهل ذا الزمان جميعاً ... ضعف قطر السّماء من لعنة الله
وقال آخر :
لا تعرفن أحداً فلست بواجدٍ ... أحداً أضرّ عليك ممن تعرف
أما نظيرك فهو حاسد نعمةٍ ... أو دون ذاك فذو سؤال ملحف
أو فوق ذلك حال دون لقائه ... بواب سوءٍ واليفاع المشرف
وللشافعي الفقيه رحمه الله ،وقيل إنه تمثل بها ،وهي :

ليت الباع لنا كانت مجاورةً ... وليتنا لا نرى مما نرى أحدا
إن السباع لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهاءٍ شرّهم أبدا
فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها ... تعش سليماً إذا ما كنت منفرداً
وقال منصور الفقيه :
أحذّرك الناس إلاّ قليلا ... فلا تبغين إليهم سبيلا
وفارقهم عن قليّ واتخذ ... إذا ما خشيت انفراداً خليلا
من الجنّ والجنّ إن تلقهم ... تجدهم أبرّ فعالا وقليلا
من الإنس ،لا كان مستأنساً ... بهم طالبٌ من سواهم بديلاً
وقال أبو العتاهية :
أياربّ إنّ الناس لا ينصفونني ... وإن أنا لم أنصفهم ظلموني
وإن كان لي شيْ تصدّوا لأخذه ... وإن جئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم ... وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبةٌ فرحوا بها ... وإن صحبتني نعمةٌ حسدوني
سأمنع قلبي أن يحنّ إليهم ... وأحجب عنهم ناظري وجفوني
أنشدني حكم بن المنذر لنفسه :
وكنتم أخلائي الذين أعدّهم ... لصرف زمان إن ألمّ بداهيه
فأخلفتم ظني بكم فقليتكم ... فنفسي عنكم أخر الدهر ساليه
وقال آخر :
ولما رأيت الناس لا عهد عندهمصدفتوبيت اللهعن صحبة الناس
وصرت جليس الكتب ما عشت فيهم ... وأعلمت حسن الصبّر عنهم مع الياس
رأيت لهم كاساً من الغذر بينهم ... تدار وما بالقوم صبرٌ عن الكاس
وهذا الباب وما جانسه من معاني صحبة الناس والفرار منهم ،واتخاذ الإخوان والزهد فيهم ،قد أكثر الناس فيه جدا ،وقد جمع فيه ابن وكيع فتقصىّ وكثّر وجوّد وغزر ،وغرضنا في الكتاب أن نورد فيه ما تصلح المذاكرة به من غير تطويل ،لأن الحفظ أكثر ما يكون مع التقليل ،وبالله العون والتأييد والحول والقوة.
باب الصّديق والعدو
قال جعفر بن محمد : لقد عظمت منزلة الصّديق حتى عند أهل النار ، ألم تسمع إلى قوله الله تعالى حاكيا عنهم : " فما لنا من شافعين ، ولا صديق حميم " .
قال علىّ بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ صديقه في غيبته وبعد وفاته.
قال سويد بن الصّامت :
ألا ربّ من تدعو صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشّهد ما كان شاهداً ... وبالغيب مأثورٌ على ثغره النّحر
تبين لك العينان ما هو كاتمٌ ... من الشرّ بالبغضاء والنظر الشّزر
يسرّك باديه وتحت أديمه ... تميمة غشّ تبترى عقب الظهر
فرشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالى من يريش ولا يبرى
كان أبو العباس السّفاح إذا تعادى اثنان من أهل بطانته لا يسمع من أحد منهما في صاحبه شيئاً ،وإن كان عدلا ،ويقول :العداوة تزيل العدالة.
كان يقال :لا تجالس عدوّك فإنه يحفظ عليك عيوبك ،ويماريك في صوابك.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :ابذل لصديقك كلّ المودة ،ولا تبذل له كلّ الطمأنينة ،وأعطه من نفسك كلّ المواساة ،ولا تفضي إليه بكلّ الأسرار.
روى عن علىّ بن الحسين رحمه الله ،أنه قال :لا يكون الصديق صديقاً حتى بقطع لأخيه المؤمن قطعةًمن دينه يرقّعها بالاستغفار.
قال غيره :من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً ،ولعدوّ صديقه عدوا.
قال يزيد بن الحكم الثّقفي :
تصافح من لا قيت لي ذا عداوه ... وأنت صديقي ليس ذاك بمستوى
في أبيات قد ذكرتها في باب البغي والحسد وغيره ،وفي رواية أخرى :
عدوّك يخشى صولتي إن لقيته ... وأنت صديقي ليس ذاك بمستوى
وقال آخر :
عدوّ صديقي داخلّ في عداوتي ... وإنّي لمن ودّ الصديق ودود
فلا تقترب مني وأنت عدوّ من ... أصادقه فالخير منك بعيد
وقد أنشد المبرد هذين البيتين على قافية القاف على ما رواه شيخنا عيسى عن ابن مقسم ،قال :أنشدني أبو على إسماعيل بن محمد الصّفّار ،قال :أنشدني أبو العباس المبردّ :

صديق عدوى داخل في عداوتي ... وإنيّ على ودّ الصديق صديق
أعادي الذي عادى وأهوى له الهوى ... كأنّي منه في هواه شقيق
وقال العتّابي :
تودّ عدوّى ثم تزعم أنّني ... صديقك إنّ الرأي عنك لعازب
وليس أخي من ودّني رأى عينه ... ولكن أخي من ودّني وهو غائب
قال آخر :
إذا والى صديقك من تعادى ... فقد عاداك وانقطع الكلام
قال معاوية : النبل مؤاخاة الأكفاء ، ومداجاة الأعداء.
قيل لعبد الحميد الكاتب : أيّما أحب إليك أخوك أو صديقك ؟ قال : إنما أحب أخي إذا كان صديقي.
قال بعض العلماء أهل المدينة : من ثقل على صديقه خفّ على عدوه ، ومن أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه مالا يعلمون.
عذل رجل رجلا ، فقال : أراك رطب اللسان من عيوب أصدقائك ، فلا تزدهم في أعداءك ، فإن الصديق يحوّل بالجفاء عدوا ، وكذلك العدو يحول بالصلة صديقا.
كان يقال : لا تجترئ على عداوة رجل بصداقة ألف.
قال الشاعر :
تكثّر من الإخوان ما استطعت أنّهم ... بطونٌ إذا استنجدتهم وظهور
وليس كثيراً ألف خلًّ وصاحبٍ ... وإن عدواً واحداً لكثير
ومما أنشده المبرد :
ترفّع عن مخاشنة الصّديق ... ولا تلج العدوّ إلى مضيق
وإن يسنح من المعروف شئٌ ... فبادر خوف إمكان الطريق
وأحسن من مجاهدة الأعادي ... مجاهدة النفوس على الحقوق
كان المغيرة بن شعبة يقول : إن أنكأ لعدوك ألاّ تعلمه أنك أتخذته عدوّا.
سئل أعرابي عن ابن العمّ ، فقال : عدوّك وعدوّ عدوّك.
كان يقال : من سعادة المرء أن يرى عدوّه خلفه في حياته ، ويقدمه أمامه في وفاته.
كان يقال : لا تلتمس معاونة ذي عداوة بإعطائه فضل قوة يستكثر بها عليك في مخالفتك.
جمع كسرى يوما مرازبته وعيون أصحابه ، فقال لهم : من أي شئ أنتم أشد حزراً ؟ قالوا من العدوّ الفاجر ، والصديق الغادر.
قال موسى بن جعفر : أتّق العدوّ ، وكن من الصديق على حذر فإن القلوب إنما سميت قلوباً لتقلّبها.
منصور الفقيه :
احذر مودة ماذقٍ ... مزج المرارة بالحلاوه
يحصى الذنوب عليك أيّام الصداقة للعداوه وقال جحظة البرامكي :
لا تعدّنّ للزمان صديقاً ... وأعدّ الزمان لللأصدقاء
قال آخر :
دار الصديق إذا أستشاط تغضباً ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد
ولربما كان التغيظ باحثاً ... لمعايب الأباء والأجداد
استعدى أعرابي على بلاد ابن جرير بن الخطفي إلى قثم بن العبّاس فقال :
أعوذ بالعبّاس وحقوى محمّد ... وحقويك من طول الأذى والغوائل
فإنّ بلالاً يابن عمّ محمدٍ ... عدوٌ إذا جاملته لم يجامل
إذا نال يوماً رشوة من مخاصمٍ ... رمى كلّ حقٍّ أدعيه بباطل
قال ابن وكيع :
ليس بالمنكر انقلاب صديقٍ ... ربما غصّ شاربٌ بالشراب
وتلاقى الأخوان بعد فسادٍ كتلاقي ... كتلاقي الأرواح بعد الذهاب
لا تضيعّ مودةً من صديقٍ ... فانقلاب الصديق شرّ انقلاب
قال آخر :
وروّعت حتّى ما أراع من النّوى ... وإن بان جيرانٌ علىّ كرام
فقد جعلت نفسي على النأى تنطوي ... وعيني على هجر الصديق تنام
وقال صالح بن عبد القدوس :
إذا وتر امرءًا فاحذر عداوته ... من أن يزرع الشوك لا يحصد به عنبا
إن العدوّ وإن أبدي بشاشته ... إذا رأى منك يوماً فرصة وثبا
قال الصاحب بن عبّاد :
لقد صدقوا والراقصات إلى مني ... بأنّ مداراة العدى ليس تنفع
ولو أنني دارأت عمري حيةً ... إذا استمكنت يوما من اللسع تلسع
وقال آخر :
ليس الصديق الذي إن زالّ صاحبه ... يوماً رأى ذنباً غير مغفور
إن الصديق الذي تلقاه يعز في ... ما ليس صاحبه فيه بمعذور
وقال آخر :

كان صديقي وكان خالصتي ... أيام نجري مجاري السّوق
قال أبو تمام الطائي :
وحسبك حسرةً لك من صديقٍ ... رأيت زمامه بيدي عدوّ
قال العطوي :
إذا أنكرت أخلاق الصديق ... فلست من التحيّر في مضيق
طريقاً كنت تسلكه سليماً ... فأسبع فاجتنبه إلى طريق
فإن قابلت يسرى منه عسرى ... فراجع من قطعت من الصّديق
وقال عبد بني الحسحاس :
رأيت الحبيب لا يملّ حديثه ... ولا ينفع المشنوء أن يتودّدا
وقال زياد اللأعجم :
عدوّك مسرور وذو الودّ بالذي ... أتى منك من غيظ علىّ كظيظ
تلين لأعل الغلّ والغمز منهم ... وأنت على أهل الصفاء غليظ
نسىّ لما أوليت من صالحٍ مضى ... وأنت لتأنيب علىّ حفيظ
وسميت غيّاظاً ولست بغائظ ... عدوّا ولكنّ الصديق يغيظ
وقال أبو الطيب :
وأرحم أقواماً من العىّ والغبا ... وأعذر في بغضي لأنهم ضدّ
ومن نكد الدّنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له من صداقته بدّ
وقال آخر :
شر البلاد مكانٌ لا صديق به ... وشرّ ما يكسب الإنسان ما يصم
وقال منصور الفقيه :
إذا تخلفت عن صديق ... فلم يعاتبك في التخلف
فلا تعد بعدها إليه ... فإنما وده تكلف
وإن تعد بعدها إليه ... فلا تلمه على التصلف
وقال آخر :
إذا كتم الصديق أخاه سرّا ... فما فضل الصّديق على العدوّ
وقال ابن الروّمى :
عدوّك من صديقك مستفادٌ ... فأقلل ما استطعت من الصّحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطّعام أو الشراب
وإنّك قلّما استكثرت إلاّ ... وقعت على ذئابٍ في ثياب
فدع عنك الكثير فكم كثيرٍ ... يعاب وكم قليلٍ مستطاب
وما اللّجج الملاح بمروياتٍ ... وتلقى الرّىّ في النطف العذاب
إذا انقلب الصديق غدا عدوّا ... مبيناً والأمور إلى انقلاب
وقال منصور الفقيه :
احذر عدوّك مرة ... واحذر صديقك ألف مرّة
فلربمّا انقلب الصديق ... فكان أعلم بالمضرّة
قال آخر :
كن من صديقك خائفاً ... فلربّما حال الصديق
وقال أخر :
أحذر صديقك لا عدوّك إنما ... مستور سرّك عند كلّ صديق
قال أبو بكر الخالدى :
ما في زمانك ما يعزّ وجوده ... إن رمته إلاّ صديقٌ مخلص
وقال الكميت يخاطب بني العباس :
إذا نحن خفنا في زمان عدوّ كم ... وخفنا كم إنّ البلاء لراكد
وقال آخر :
وبغضك للتقّى أقل ضراً ... وأسلم من مودة ذي الفسوق
ولن تنفك تحسد أو تعادى ... فأكثر ما استطعت من الصديق
خالفه ابن الرومي فقال :
عدوك من صديقك مستفادٌ ... فأقلل ما استطعت من الصديق
فإن الداء أكثر ما تراه ... من الأشياء تحلو في الحلوق
أكثر رجل على رجل بالسّلام وقال له : أنا صديقك. قال : وكيف ؟ قال : لأني أسلم عليك. فأنشأ يقول :
لئن كان من قال السّلام عليكم ... يعد صديقاً فالصديق كثير
وقال عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر :
لا تهن للصديق تكرمه ... نفسك حتى تعدّ من خوله
يحمل أثقاله عليك كما ... يحمل أثقاله على جمله
ليس الفتى بالذي يحول عن ال ... عهد ويؤتي الصّديق من قبله
ولست مستبقاً أخاً لك لا ... تصفح عن جهله رعن زلله
وقال آخر :
إن الصّديق فلا تأمن بوائقه ... أسواء العدوّ إذا ما سؤته أثرا
وقال رجل من بنى سليم :
لعمرك إنني وأبا رباحٍ ... على حال التّكاثر شر منذحين
فأبغضه ويبغضنى وأيضاً ... يراني دونه وأراه دوني
فلو أنّا على حجرٍذبحنا ... جرى الدّميان بالخبر اليقين

وقال المتلمّس :
أحارث أنا لو تشاط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمسّ دمٌ دما
وقال آخر :
إذا كنت مما لا ترى نافعاً ... صديق ولا بالعدوّ تضرّ
فسيان إن متّ أو إن حييت ... فلا ذا يسوء ولا ذا يسرّ
لأبي عيينة المهلب ، أو علي بن جبلة :
ولما رأيتك لا فاجراً ... قوياً ولا أنت بالزاهد
وليس عدوّك بالمتقي ... وليس صديقك بالحامد
دخلت بك السّوق سوق الرقيق ... وناديت هل فيك من زائد ؟
فما جائني رجلٌ واحدٌ ... يزيد على درهم واحد
سوى رجل حان منه الشقا ... ء وحلت به دعوة الوالد
محاط به معه درهمٌ ... ردئ فأقبل كالراصد
فبعتك منه بلا شاهدٍ ... مخافة ردّك بالشاهد
وأبت إلى منزلي غانماً ... وحلّ البلاء على الناقد
وقال آخر :
سأصبر من صديقي إن جفاني ... على كلّ الأذى إلاّ الهوانا
قال العطوى :
إذا ما الحرّ فاز بحسن حالٍ ... أجاز صديقه من سوء حال
إذا أثرى رأى حقّا عليه ... له الإفضال من قبل السؤال
لعمرك ما رأيت فتى كريماً ... يحب المال إلا للنوال
أبا حسن ثكلت الحزم فيما ... أحاول من مقالي أو فعالى
لقد كذبت ظنوني فيك أن لم ... أتب من حسن ظنّي بالرجال
وقال آخر :
إذا ما المرء كان له صديقٌ ... فبرّ صديقه فرضٌ عليه
فإن عنه الصّديق أقام يوماً ... فوجه البرّ أن يسعى إليه
وإن كان الصديق قليل مالٍ ... يضيق بذرعه ما في يديه
فمن أسنى فعال المرء ألا ... يضنّ على الصديق بما لديه
وقال آخر :
ما ضاقت النفس على شهوةٍ ... ألذّ من ودّ صديق أمين
من فاته ودّ أخ صالح ... فذلك المغبون حق اليقين
عبد الله طاهر ،ويروى لعلى بن الجهم ،وهي له لا غيره ،حدثنا عبد الوارث ،حدثنا قاسم بن أصبغ ،حدثنا أبو عيسى الأعمى الخباز ببغداد ،قال :أخبرني يحيى بن المعلم ،قال :مررت بعليّ بن الجهم ،وقد أذّن لصلاة الظهر ،وقد دخل المسجد يريد أن يركع ،فسلمت عليه وقلت له :لا يمكنني أن أقيم حتى تصلى لأني مبادر ،قال :فيم ذا ؟فقلت :أبيع قميصي هذا وأكافئ به صديقا له قبلى يدٌ.
قال :فلم أمش إلاّ قليلا حتى ردني ،فقال لي :اكتب وأنشدني :
أميل مع الصديق على ابن أميّ ... وأحمل للصّديق على الشقيق
وإن ألفيتني ملكاً مطاعاً ... فإنّك واجدي عبد الصديق
أفرّق بين معروفي ومنّي ... وأجمع بين مالي والحقوق
قالوا :أحذر من وترته وإن أحسنت إليه ،ومن أوحشته فلا تثق به.
قال الشاعر :
إذا وترت امرءا فاحذر عداوته ... من يزرع الشّوك لا يحصد به عبنا
إن العدوّ وإن أبدي بشاشته ... إذا رأى منك يوماً فرصةً وثبا
وقد تقدم في باب التودد إلى الناس أبياتٌ تصلح في هذا الباب ،فلم أروجهاً لتكرارها.
بابٌ جامعٌ متخيّرٌ في الإخوان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المرء على دين خليله ،فلينظر امرؤٌ من يخالل " .
قال الأوزاعىّ : الصاحب للصاحب كالرقعة للثوب ،إن لم تكن مثله شانته.
قال الشاعر :
وما صاحب الإنسان إلا كرقعةٍ ... على ثوبه فليتخذه مشاكلا
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا خير في صحبة من لا يرى لك كالذي يرى لنفسه " .
وفي الخبر المرفوع أيضا " شيئان لا يزدادان إلاّ قلة :درهمٌ حلال ،وأخٌ في الله تسكن إليه " وقد روى مرفوعاً : " المرء كثيرٌ بأخيه " .
قال علىّ بن أبي طالب ،رضي الله عنه :لا خير في صحبة من تجتمع فيه هذه الخلال :من إذا حدّثك كذبك ، وإذا ائتمنته خانك ،وإذا ائتمنك اتهمك ،وإذا أنمت عليه كفرك ،وإذا أنعم عليك منّ عليك .

وعن ابن عباس أنه قال :أحبب في الله ،وأبغض في الله ،وعاد في الله ،فإنه لا تنال موالاة الله إلا بذلك ،ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان ولو كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك.
قال :ولقد صارت عامة مؤاخاه الناس على أمر الدنيا ،وذلك لا يجدي علىأهله ،ثم قرأ ابن عباس : " الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدوٌ إلا المتقين " ،وقرأ : " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادٌ الله ورسوله " ألآية.
قال المغيرة بن شعبة :النّازل للإخوان منزول.
قال اامنصور لإسحق بن مسلم العقيلي :ما بقي من لذّتك ؟ قال :أخٌ أشتهي معه طول السهر ،ودابةٌ أستهي معها طول السّفر.
قال جعفر بن محمد :حفظ الرجل أخاه بعد وفاته في تركته كرم.
كان يقال :أنصح الناس لك من خاف الله فيك.
قال موسى بن جعفر :من لك بأخيك كلّه ،لا تستقص عليه فتبقى بلا أخ.
كان يقال :الأخوّة قرابةٌ مستفاده.
كان يقال :ما شئٌ أسرع في فساد رجل وصلاحه من صاحبه.
ذكر الرياشي ،عن الأصمعى ،قال :ما رأيت شعراً أشبه بالسنة من قول عديّ بن زيد :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن مقتدى
وصاحب أولى التّقوى تنل من تقاهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدى
وقال أبو العتاهية :
من ذا الذي يخفي عليك ... إذا نظرت إلى قرينه
قال الخوارزمي :
لا تصحب الكسلان في حاجاته ... كم صالحٍ بفساد آخر يفسد
عدوي البليد إلى الجليد سريعةٌ ... والجمر يوضع في الرماد فيخمد
كان سفيان بن عيينة يتمثل :
لكلّ امرئٍ شكلٌ يقرّ بعينه ... وقرة عين الفسل أن يصحب الفسلا
وقال صالح بن جناح :
وصاحب إذا صاحبت حراً مبرّزا ... يزين ويزرى بالفتى قرناؤه
وقال سهل الوراق :
تخيّر قريناً لا يعيب فإنّه ... يقاس لعمري بالقرين قرينه
وشرّ خدين قاطعٌ لخدينه ... إذا حاد يوماً عن هواه خدينه
وقال آخر :
إن النّديم وإن الكأس صيّرني ... كما تراني سليب العقل والدين
قالوا : من أراد أن يدوم له ودّ أخيه ،فلا يمازحه ، ولا يعده موعداً فيخلفه.
أوصى رجلٌ ابنه فقال : يابنىّ! اصحب من إذا غبت عنه خلفك ، وإن حضرت كنفك ، وإن لقي صديقك استزاده لك ، وإن لقي عدوّك كفّه عنك.
وقال بعضهم : لا تؤاخ شاعراً ، فإنه يمدحك بثمن ، ويهجوك مجاناً.
لابن أخي زرّ بن حبيش :
وما استخبأت في رجل خبيئاً ... كدين الصّدق أو حسب عتيق
كان من كلام خالد بن صفوان : اصحب من إن صحبته زانك ، وإن خدمته صانك ، وإن أصابتك فاقة مانك ، وإن رأى حسنة عدها ، وإن رأىسيئة كتمها وسترها ، لا تخاف بوائقه ، ولاتختلف طرائقه.
قال أبو العتاهية :
لك الخير إنّي ناصحٌ لك فاسمع ... طمعت من الإنسان في غير مطمع
طمعت من الإنسان في صفو ودّه ... ألا ليس يصفو ذو طبائع أربع
خذ العفو من كلّ امرىءٍ سمت ودّه ... وإن ضاق عما سمته فتوسع
ولأبي العتاهية أيضاً :
ياربّ خدن كنت آمن غيبه ... أصبحت تنطف في يديه جراحي
سلحته ليردّ بأس عدوّه ... فعدا علىّ فبزّني بسلاحي
وقال العاقولي :
من يكرم الناس يكرموه ... ومن يهنهم يجد هوانا
ومن يقل عثرة يقلها ... ومن يعن لم يزل معانا
كان أخا صاحباً زمانا ... فمال عن وصلنا وخانا
تاه علينا ،وصدّ عنّا ... فما نراه ولا يرانا
وقيل لخالد بن صفوان :أيّ إخوانك أحب إليك ؟قال :الذّي يغفر زللي ،ويقبل عللي ،ويسدّ خللي.
قال المأمون :الإخوان على ثلاث طبقات :فإخوان كالغذاء لا يستغنى عنهم أبدا ،وهم إخوان الصّفاء ، وإخوان كالدواء يحتاج إليهم في بعض الأوقات ،وهم الفقهاء ،وإخوان كالدّاء لا يحتاج إليهم أبدا ، وهم أهل الملق والنفاق لا خير فيهم.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : اصحب من ينسى معروفه عندك ،ويذكر حقوقك عليه.

كان ابن عيينه ماشياً بمكة مع بعض إخوانه ، فنظر فإذا أحداث يتبعونه ،فقال له : انظر من صار جلاّسى اليوم بعد ثمانين سنة... لقد كنت ابن عشرين سنة وما كنت أجالس أبناء العشرين ،وإنما كنت أجالس الشيوخ والكهول ، ألم تسمع إلى قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ؟ قلت : لا. قال : قال عبيد الله :
ألا أبلغا عني عراك بن مالك ... فإن أنتما لم تفعلا فأبا بكر
ويروى : ولا تدعا أن تثنيا بأبي بكر
فكيف تلومان ابن سبعين حجةً ... على ما أتى وهو ابن عشرين أو عشر
وقال آخر :
ابن لي فكن مثلي ، أو ابتغ صاحباً ... كمثلك إني مبتغ صاحباً مثلي
ولا يلبث الإخوان أن يتفرقوا ... إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل
قيل لبعض المدنين :أي الهى أغلب ؟ قال : هوى متشاكلين.
ولعبد الصمد بن المعذل :
الناس أشكال فكل امرئ ... يعرفه الناس بمنتابه
لا تسألن المرء عن حاله ... ما أشبه المرء بأصحابه
وقال أبو الأسود الدؤلي :
لكل امرىءٍ شكل من الناس مثله ... وكل امرىء يهوى إلى من يشاكله
ومالك بدٌ من نزيل فلا تكن ... نزيلاً لمن يسعى به من ينازله
وإن أنت نازلت الكريم فلاقه ... بما أنت من أهل المروءة قائله
وإن أنت نازلت اللئيم فكن فتىً ... تزايله في فعله وتحامله
إذا لم تداخل عزَّ من كان ذا حجاً ... وعزمٍ وحزم لم تجد من تداخله
وما الناس إلا بالأصول فإنما ... يثبت أعلى كل بيتٍ أسفله
وقال جرير :
وإني لأستحي أخي أن أرى له ... على من الحق الذي لا يرى ليا
وفي هذا الشعر يقول جرير :
ألا تخافا نبوتي في ملمة ... وخاف المنايا أن تفوتكما بيا
تعرضت فاستمررت من دون حاجتي ... فحالك إني مستمرٌ لحاليا
وإني مغرور أعلل بالمنى ... ليالي أرجو أن مالك ماليا
فأنت أخي ما لم تكن لي حاجةٌ ... فإن عرصت أيقنت ألا أخا ليا
وهذا البيت من شعر جرير هذا قد أدخله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فيأبياته التي يقول فيها ، فلا أدرى من تقدم صاحبه إليه :
رأيت فضلاً كان شيئاً ملففاً ... فكشفه التمحيص حتى بدا ليا
فأنت أخي ما لم تكن لي حاجةٌ ... فإن عرضت أيقنت ألا أخا ليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتك في الحاجات إلا تنائيا
ولست براء عيب ذي الود كله ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا
فعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ ... ولكن عين السخط تبدي الساويا
كلانا غنى عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
وقد أدخل بعضهم في هذه الأبيات بيتين ، وهما :
ولست بهياب لمن لايهابني ... ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا
متى تدن مني تدن منك مودتي ... وإن تنأ عني تلفني عنك نائيا
وقال روح أبو همام :
فعين السخط تظهر كل عيبٍ ... وعين أخو الرضا عن ذاك تعمى
وقال معن بن أوس :
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كفٍ تبدِّل
كتب ابن عمار إلى برجوان كتاباً فيه قول الشاعر :
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كف تبدل
فدعا برجوان شاعراً كان قد استخصه يعرف بابن أعين ، وقال له :أجب عن هذا البيت ، فقال :
وما زلت أهدى النصح حتى اطَّرحته ... وأقبلت عن سبل الهداية تعدل
فهبك يميني استخبثت فقطعتها ... لتسلم لي نفسي أم الهلك أجمل
وهذا المعنى مأخوذ من قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر :
ألم تر أن المرء تدوى يمينه ... فيقطعها عمداً ليسلم سائره
فكيف تراه بعد يمناه فاعلاً ... بما ليس منه حين تدوى سرائره

أنشدني أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان ، قال : أنشدنا أبو محمد قاسم ابن أصبغ ، قال : أنشدنا أبو بكر بن أبي خيئمة لأبي الشيص محمد بن عبد الله ابن رزين:
صاحبً كان لي وكنت له ... أشفق من والدٍ على ولدٍ
كنا كساق تسعى بها قدمٌ ... أو كذراع نيطت إلى عضد
وكان لي مؤنساً وكنت له ... ليست بنا حاجةٌ إلى أحد
حتى إذا حلت الحوادث من ... ساحتي وحل الزمان من عقدي
احول عني وكان ينظر منعيني ويرمي بساعدي ويدي حتى إذا استرفدت يدي يدهكنت كمسترفدٍ يد الأسد
وقال آخر :
واني لأستحي أخي أن أبره ... قريباً وأن أجفوه وهو بعيد
وقال آخر :
قلت للفرقدين إذ طال ليلي ... وهما في السماء مقترنان
ابقيا كيف شئتما عن قليل ... سوف تطوى السما وتفترقان
قيل لأعرابي : لم قطعت أخاك من أبيك ؟ فقال : إني لأقطع الفاسد من جسدي الذي هو أقرب إلي من أبي وأمي وأعز فقدا.
وقال آخر :
لا تهني بعد أن أكرمتني ... فشديدٌ عادةٌ منتزعته
وقال آخر :
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
وقال آخر :
لن يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليلٌ يكر عليهم ونهار
وقال محمد بن أبي حازم الباهلي :
لم يكن من شكلي ففارقته ... والناس أشكالٌ وألاف
وقال ابن الرومي : " وبعض السجايا ينتمين إلى بعض " قال حبيب :
ولن تنظم العقد الكعاب لزينةٍ ... كما ينظم الشّمل الشتيت الشمائل
وقال المساحقي :
تزهّدني في ودّك ابن مسافع ... مودتك الأرذل دون ذوي الفضل
وأن شرار الناس سادوا خيالاهم ... زمانك إن الرّذل للزمن الرّذل
قال أكثم بن صيفي : أحقّ من يشر كك في شر كاؤك في المكاره.
أخذه دعبل فقال ، ويروي لحبيب :
وإن أولى البرايا أن تواسيه ... عند السّرور لمن واساك في الحزن
إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وقال آخر :
إذا ماخليلي أسا مرّةً ... وقد كان من قبلها مجملا
شكرت المقدّم من فعله ... ولم يفسد الآخر الأوّلا
وقال امرؤ القيس بن عانس الكندي :
إني بحبلك واصلٌ حبلي ... وبريش نبلك رائشٌ نبلي
وشمائلي ما قد علمت وما ... نبحت كلا بك طارقاً مثلي
قال عبيد :
لا ألقينّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادي
الخير أبقي وإن طال الزمان به ... والشّرّ أخبث ما أوعيت من زاد
قال آخر :
وإذا تكون عظيمةٌ أدعي لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وقال آخر :
إذا كنت تأتي المرء تعرف حقّه ... ويحمل منك الحقّ فالتّرك أجمل
وفي البعد منجاة وفي الصرم راحةٌ ... وفي الأرض عمن لا يواتيك مرحل
وقال آخر :
له حقٌ وليس عليه حقٌ ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لأهلها وهو الرسول
قال آخر :
وددتك لما كان ودّك خالصاً ... وأعرضت لما صار نهباً مقسّماً
ولن يلبث الحوض الجديد بناؤه ... على كره الورّاد أن يتهدّما
وقال إبراهيم بن العباس الصولى :
نعم الزمان زماني ... والشّان في إخواني
ممن رماني لمّا ... رأى الزمان رماني
لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثان
لما أخذت أماناً ... إلا من الإخوان
وقال أيضاً :
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حرباً عوانا
وكنت أذمّ إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذم الزمانا
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
وقال آخر وهو كثيّر عزّة:
خير إخوانك المشالاك في المرّ ... وأين الشريك في المرّ أينا

الذي إن حضرت زانك في الحيّ ... وإن غبت كان أذناً وعينا
أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدّلوا كل ما يزينك شينا
وإذا ما حضرت قالوا جميعاً : ... أنت من أكرم العباد علينا
وقال آخر :
لحا الله وصلا إن تغيبت ساعة ... فأنت وأقصى الناس فيه سواء
وخلاّ إذا لم تأته بهديةٍ ... بدت لك منه غفلةٌ وجفاء
وقال المثقب العبدي :
تواعدني مواعد كاذبات ... تمرّ بها رياح الصيف دوني
فإما أن تكون أخي بحقّ ... فيعرف منك غثّى من سميني
وإلا فاطّرحني واتخذني ... عدوّا أتقيك وتتقيني
فإني لو تعاندني شمالي ... عنادك ما وصلت بها يميني
إذا لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك أجتوى من يجتويني
وقال آخر :
أفّا وتفّا لمن مودّته ... إن زلت عنه سويعةً زالت
إن مالت الريح هكذا وكذا ... مال مع الريح حيثما مالت
وقال صالح بن عبد القدّوس :
قل الذي لست أدري من تلوّنه ... أناصحٌ أم على غشّ يداجيني
إني لأكثر مما سميتني عجباً ... يد تشجّ وأخرى منك تأسوني
تغتابني عند أقوامٍ وتمدحني ... في آخرين ،وكلّ عنك يأتيني
هذان أمران شتّى البون بينهما ... فاكفف لسانك عن ذمي وتزييني
لو كنت أعلم منك الودّ هان إذاً ... عليّ بعض الذي أصبحت توليني
لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ... ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني
أرضي عن المرء ما أصفى مودّته ... وليس شئ من البغضاء يرضيني
والله لو كرهت كفّى مصاحبتي ... لقلت إذ كرهت قربي لها بيني
ثم انثنيت على الأخرى فقلت لها : ... إن تسنديني وإلا مثلها كمني
لا أبتغي ودّ من يبغي مقاطعتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
إنّي كذاك إذا أمر تعرّض لي ... خشيت منه على دنياي أو ديني
خرجت منه وعرضني ما أدنّسه ... ولم أقم غرضاً للنّذل يرميني
ربّ امرئ أجنبيّ عن ملاطفتي ... محض المودّة في البلوى يواسيني
وملطفٍ بي مدارٍ ذي مكاشرة ... مغض على وغرٍ في الصدر مكنون
ليس الصّديق الذي تخشى بوادره ... ولا العدو على حال بمأمون
وقال آخر :
لسانك معسولٌ ونفسك شحّةٌ ... ودون الثريا من صديقك مالكا
وقال آخر :
بنو عبسٍ أشدّ الناس بغضاً ... لنا وأشدهم بغضا إلينا
فلا تقبل شهادتنا عليهم ... ولا تقبل شهادتهم علينا
قال لقمان لابنه :ثلاثةٌ لا يعرفون إلاّ في ثلاثة مواطن :لا يعرف الحليم إلا عند الغضب ،ولا الشجاع إلاّ عند الحرب ،ولا الأخ إلا عند الحاجة.
قال بعض الحكماء :الإخوان بمنزلة النار ،قليلها متاع ،وكثيرها بوار ،فلا تسرّنّ بكثرة الإخوان إذا لم يكونوا أخياراً.
قال أسماء بن خارجة :إذا قدمت المودة سمج الثناء.
قال أبو العتاهية :
انت ما استغنيت عن صاحبك ... الدهر أخوه
فإذا أحتجت إليه ... ساعةً مجك فوه
لو رأى الناس نبياً ... سائلاً ما رحموه
وقال سويد منجوف :
فأبلغ مصعبا عني رسولا ... وهل تجد النصيح بكل واد
تعلّم أن أكثر من تناجي ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي
وقال آخر :
لعمرك ما ودّ اللّسان بنافع ... إذا لم يكن أصل المودّة في القلب
كان يقال :تناس مساوئ الإخوان ،يدم لك ودّهم.
وقال آخر :
يا غارساً الكروم ... بجهله وسط السبّاخ
ومحضناً بيض القطا ... تحت الحد الرجا الفراخ
إن الذين تودّهم ... هم ناصبو شبك الفخاخ
ذهب الزّمان بأهله ... فانظر لنفسك من تؤاخ
وقال عبدة بن الطّيب :

إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفش صداع رءوسهم أن تصرعوا
فضلت عداوتهم على أحلامهم ... وأبت ضباب صدورهم ما تنزع
لا تأمنوا قوماً يشبّ صبيهم ... بين الوابل بالعداوة يرضع
قال لقمان لابنه :يا بني!إياك وصاحب السوء ،فإنه كالسيف المسلول ،يعجبك منظره ،ويقبح أثره.
قال المثقّب العبدي :
وصاحب السّوء كالدّاء العياء إذا ... ما ارفض في الجوف يجري هاهنا وهنا
ينبي ويخبر عن عورات صاحبه ... وما رأى عنده من صالحٍ دفنا
كمهر سوءٍ إذا رفعّت سيرته ... رام الجماح وان أخفضته حرنا
إن يحي ذاك فكن منه بمعزلةٍ ... أو مات ذاك فلا تقرب له جننا
ولقعنب بن أم صاحب ،وهو قعنب بن حمزه ،أحد بني عبد الله بن غطفان ، يهجو بني ضبة حيّ من غطفان :
صمّ إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
فطانة فطنوها لو تكون لهم ... مروءةٌ أو تقًى لله ما فطنوا
إن يسمعوا سيئاً طاروا به فرحاً ... منّي ،وما سمعوا من صالحٍ دفنوا
جهلا علينا وجبناً عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
فلن يراجع ودّى ودهم أبنا ... وكنت من بغضهم مثل الذي زكنوا
روى عن معاذ بن جبل ، وقد رفعه بعضهم ، قال : إذا أحببت أخاً في اللّه فلا تماره ولا تساره عنه أحداً ، فربما صادفت له عدوّا فأخبرك بما ليس فيه ، فحال بينك وبينه.
قال أبو الأسود الدؤلى :
وصله ما استقام الوصل منه ... ولا تسمع به قيلاً وقالا
قال محمود الوراق :
لست ممن يماذق الصاحب ال ... ود إذا أظهر الجفاء الصريحا
أنا أنهاه ما استطعت فإن لجّ ... أعرت الفؤاد يأسا مريحا
غير أني على القطيعة لا أظ ... هر هجراً ولا أقول قبيحا

باب العتاب
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : أعقل الناس أعذرهم لهم.
قال الأحنف : العتاب مفتاح التّقالى ، والعتاب قرين الحقد.
وعن الأصمعيّ قال : قال أعرابي : عاتب من ترجو رجوعه.
قال بعض الحكماء : العتاب علامة الوفاء ، وسلاح الأكفاء ، وحاصد الجفاء.
قال العتابي : ظاهر العتاب خير من مكنون الحق ، وضربة الناصح خير من محبة الشّاني.
قال بعض الحكماء : من كثر حقده قلّ عتابه.
قال محمد بن داود : من لم يعاتب على الزلة ، فليس بحافظٍ للخلّه.
قال أسماء بن خارجة الإكثار من العتاب ، داعية إلى الملال.
قيل لبعض الأعراب : من الأديب العاقل ؟ قال : الفطن المتغافل.
قال بعض الأدباء : من أحب أن يسلم له صديقه ، فليقبل عذره ، وليقل عتابه ، فإن العتاب يجرّ الملال.
قال غيره : العتاب مفتاح القطيعة.
قال عمرو بن بحر العتاب رائد الإنصاف وشفيع المودة ، ويد للمحافظة.
أنشدنا الرّياشي ،وهي لهشام الرقاشي : ؟أبلغ أبا مسمع عني مغلغلةً وفي العتاب حياةٌ بين أقوام
قدّمت فبلي رجالا لم يكن لهم ... في الحق أن يلجوا الأبواب قدّامي
لو عدّ قبرٌ كنت أمرمهم ... قبراً وأبعدهم من منزل الذّام
وقال عبيد الله بن طاهر : ؟أعاتب من يحلو بقلبي عتابه وأترك من لا أشتهينلا أعاتبه وقال آخر : ؟وليس عتاب المرء للمرء نافعاً إذا لم يكن للمرء لبّ يعاتبه وقال آخر : ؟أعلتب من أحببت في كلّ زلّةٍ ليحتمى الأمر الذي معه العتب
فإني أرى التأديب عند وجوبه ... بمنزلة الغيث الذي قبله الجدب
وقال على بن الجهم : ؟أعاتب ذا المودّة من صديق إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ودٌّ ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب
وقال آخر :
لولا محبتكم لما عاتبتكم ... ولكنّم عندي كبعض الناس
وقال نصر بن أحمد : ؟وتعاتب الإخوان فيما بينهم بعثٌ على الإجلال والإكرام
لولا اعترافي باعترافك في الذي ... تأتي وتترك ما أتاك ملاميوهذا يشبه قول البحتري :
؟أبا حسن ما كان عتبيك دونهم لواحدةٍ إلاّ لأنك تفهم وقال نصر بن أحمد :

؟إن كان لفظي كريها فاصطبر فعلى كره العلاج يصحّ الله أبدانا
لولا العوارض ما طاب العتاب لنا ... لولا قصارتنا للثوب ما زانا
إني أعاتب إخواني وهم ثقتي ... طوراً وقد تصقل الأسياف أحيانا
هي الذنوب إذا ما كشفت درست ... من القلوب وإلا صرن أضغانا
وقال ابن وكيع : ؟عتابي أخي في كل ذنب أتى به مخوفٌ على حال الأخوة في الودّ
ولست أرى وجهاً لترك عتابه ... على ما جني إذ كان خيراً من الحقد
وقال ابن بسّام : ؟عاتب أخاك إذا هفا واعطف بودّك واستعده
وإذا أتاك بغيبه ... واشٍ فقل لم يعتمده
من ناقش الإخوان لم ... يبد العتاب ولم يعده
وقال محمد بن أبي حازم : ؟خلّ عنك العتاب إن خان ذو الودّ أو هفا
عين من لا يحب وص ... لك تبدي لك الجفا
وقال بشار العقلي : ؟إذا كنت في كلّ الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تسرب مراراً على القذى ... ظمئت وأى الناس تصفو مشاربه
وقال آخر : ؟البس الناس ما استطعت على النّقص وإلاّ لم تستقم لك خلّه
عش وحيداً إن كنت لا تقبل العذ ... ر وإن كنت لا تجاوز زلّة
وقال آخر :
خذ من صديقك ما صفا ... لك لا تكن جمّ المعايب
إن الكثير عتابه ال ... إخوان ليس لهم بصاحب
وقال أحمد بن يوسف :
رأيتك لا تميل إلى صوابٍ ... ولا ترضى الصواب من الجواب
وتركك ما يريبك في كثيرٍ ... أحفّ عليك من طول العتاب
ولعبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر :
خليليّ لو كان الزمان مساعدي ... وعاتبتماني لم يضق عنكما صدري
فأمّا إذا كان الزمان معاندي ... فما لكما أن تؤذياني مع الدهر
وقال آخر :
إن الظّنين من الإخوان يبرمه ... طول العتاب وتغنيه المعاذير
وذو الصفاء إذا مسته معتبةٌ ... كانت له عظةٌ منها وتذكير
وهذا قول مميّز منصف ، حكم فعدل وشرح فأوضح.
أنشد نفطويه :
وكم من ملين لم يصب بملامةٍ ... ومتّبع بالذّنب ليس له ذنب
وكم من محبّ صد من غير بغضة ... وان لم يكن في ودّ خلته عتب
وقال أبو العباس الناشئ :
وليست معاتبا خلاّ لأبي ... رأيت العتب يغري بالعقوق
ولو أني أوقف لي صديقاً ... على ذنبٍ بقيت بلا صديق
وله :
إني ليهجرني الصديق تجنّباً ... فأريه أن لهجره أسبابا
وأخاف إن عاتبته اغريته ... فأرى له ترك العتاب عتابا
وقال آخر :
عتبت علىّ ولا ذنب لي ... بما الذنب فيه بلا شك لك
وحاذرت لومي فبادرتني ... إلى اللّوم من قبل أن أدّرك
فكنّا كما قيل فيما مضى ... خذ اللّص من قبل أن يأخذك
باب الثّقلاء والطفيليين
سئل جعفر بن محمد عن المؤمن ،هل يكون بغيضاً ؟قال :لا يكون بغيضاً ،ولكن يكون ثقيلا.
قال سفيان بن عيينة :قلت لأيوب السّختياني :لم لم تكتب عن طاووس ؟قال :أتيته فوجدته بين ثقلين ،عبد الكريم بن أبي الخارق ،وليث بن أبي سليم.
قال الحسن البصري ،في قوله عز وجل : " فإذا طعمتم فانتشروا " نقال :نزلت في الثقلاء.
وقال السّري :ذكر الله تعالى الثقلاء في القرآن ،في قوله : " فإذا طعمتم فانتشروا " .
وقال أبو أسامة :كنا عند الأعمش ،فجاء زائدة بن قدامة ،فقال الأعمش حين رآه :
وما الفيل تحمله ميتّاً ... بأثقل من بعض جلاّسنا
كان أبو هريرة إذا استثقل رجلا ،قال اللّهم اغفر لنا وله ،وأرحنا منه.
رواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه ،عن أبي هريرة.
كان حمّاد بن سلمة إذا رأى من يستثلقه ،قال : " ربنّا اكشف عناّ العذاب إنّا مؤمنون " .
وعن حمّاد بن سلمة أيضاً ،أنه قال :الصوم في البستان من الثقل.
كان يقال. مجالسة الثقيل حمّى الروح .

قيل لأبي عمرو الشيباني :لأيّ شئ يكون الثقيل أثقل على الإنسان من الحمل الثقيل ؟ فقال : لأن الثقيل يقعد على القلب ، والقلب لا يحتمل ما يحتمل الرأس والبدن من الثقل.
كان فلاسفة الهند يقولون : النظر إلى الثقيل يورث موت الفجأة.
قال ثقيل لمريض : ما تشتهي ؟ قال : أشتهي ألا أراك.
مرض الأعمش فعاده أبو حنيفة ، فقال : يا أبا محمد!لولا أنه يثقل عليك ،لعدتك كل يوم.
فقال الأعمش : والله إنك على لّثقيل وأنت في بيتك ، فكيف إذا عدتني ؟ قال معمر : ما بقي من لذّات إلاّ ثلاثة : محادثة الإخوان ، وحكّ الجرب ،والوقعة في الثقلاء ، وهي أفضل الثلاث.
وقال عبد الرزّاق عن معمر ، قال : ما بقي من لذّات الدنيا إلاّ ثلاثة :محادثة الإخوان ، وأكل القديد ، وحكّ الجرب.وأزيدكم واحدة : الوقيعة في الثقلاء ، وأنشد :
ليتني كنت ساعةً ملك المو ... ت فأفني الثّقال حتى يبيدوا
قال : وسمعت معمرا يقول : رحم الله عبد الكريم أبا أمية ، إن كان لثقيلا غير ثقة.
قيل لأبي النضر : لم تكثر عن شعبة ؟ قال : كان يستثقلني ، وكنت أهلا لذالك.
قال أبو هفان :
مشتمل بالبغض لا تنشني ... إليه طوعاً مقلة الرّمق
يظل في مجلسنا قاعداً ... أثقل من واشٍ على عاشق
كان الأعمش إذا قام من مجلسه ثقيل يتمثل :
إن غاب عنك ثقيل كلّ قبيلةٍ ... ممن يشوب حديثه بمراء
فهناك طاب لك الحديث وإنما ... طيب الحديث بخفة الجلساء
وقال آخر :
إني أجالس معشراً ... نوكى أخفّهم ثقيل
قوم إذا جالستم ... صدئت بقربهم العقول
لا يفقهون مقالتي ... ويدقّ عنهم ما أقول
وقال آخر :
إذا جلس الثقيل إليك يوماً ... أتتك عقوبة من كل باب
فهل لك يا ثقيل إلى خصالٍ ... تنال ببعضها كرم المآب
إلى مالي فتأخذه جميعاً ... أحلّ لديك من ماء السّحاب
وتنتف لحيتي وتدقّ أنفي ... وما في فيّ من ضرس وناب
على ألاّ أراك ولا تراني ... مقاطعةً إلى يوم الحساب
كان يقال :مجالسة الثقيل عذابٌ وبيل.
قال عبد الأعلى بن مسهر : كان نقش خاتم أبي : " أبرمت فقم " فكان إذا استثقل جليسه ناوله خاتمه ليقرأنقشه.
وهذا الخبر رواه أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر ، قال : قال لي هشام بن يحيى :كان نقش خاتم أبيك... فذكر الخبر.
سلم ثقيل على إبراهيم بن عبد الله القارئ صاحب هارون ، فقال له : يا هذا! قد واللّه بلغت منى غاية الأذى ، أسلفنى سلام شهر وأرحنى منك.
قال معمر : كنت جالساً مع سماك بن الفضل في مجلس بصنعاء ، فدخل علينا صاحبٌ له ثقيل فلمّا جلس قال لي سماك : يا معمر! تعال حتى ندعو على كل ثقيل بصنعاء.
قال الشاعر :
أنت يا هذا ثقيل ... وثقيلٌ وثقيل
أنت في المنظر إنسا ... نٌ وفي الميزان فيل
وقال ابن أبي أمية :
شهدت الرقاشى في مجلس ... وكان إلى بغيضاً مقيتا
قال : اقترح بعض ما تشتهي ... فقلت : اقترحت عليك السكوتا
فقال أبو حازم : عود نفسك الصبر الجليس والسوء ، فإنه لا يكاد يخطئك.
قال الهيثم بن عدّى : كنت يوماً عند مسعر بن كدام ، فأتاه رقبة بن مصقلة العبدى ، فقال له معسر : مالك يا ابن مصقلة ؟ قال : صريع فالوذج. قال : وأين ؟ قال : عند من قضى أبوه في الجماعة ، وحكمّ في الفرقة.
دعانا الوليد بن الحارث بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، فأتينا بخوان كجوبة من الأرض ، وأتينا برقاق كأذان الفيلة ، وجرجبرٍ كآذان المعزي ، ثم أتينا بساكبة الماء كأن ظهرها ظهر طائرٍ قيراطيّ ، ثم أتينا بفالوذج عديد ، كأنّ الزئبق والجادى ينبعان من خلاله ، يرى نقش الدرهم من تحته ، فوضع على رأس حبّ فنحن على لذة من هذا وعلى يقين من ذلك. فقال له مسعر : أراك طفيفاً.
فقال : يا أبا محمد! كل من ترى طفيلي إلا أنهم يتكاتمون ، فو اللّه ما برحنا حتى طلع علينا الحارث من بعض أبواب المسجد يخطر بيديه ، فقال رقبة : انظروا إلى هذا وكيف يمشى ؟! لو كان أبوه جدع أنف عمرو بن العاص مازاد على هذا

قال له مسعر : أجل ، قد مضى إلى لعنة اللّه وسقره.
وقال حبيب بن أوس :
يا من تبرمت الدّنيا بطلعته ... كما تبرمت الأجفان بالسهد
يمشى على الأرض مختالاً فأحسبه ... لبعض طلعته يمشى على كبدى
وقال آخر :
لخرط قتادة ولحمل فيل ... وماء البحر يغرف في زبيل
وفك الماضغين وقلع ضرسٍ ... لأهون من مجالسة الثقيل
ولأبي الحسن على بن العبّاس الرّومى :
ولى أصدقاءٌ كثيرو السّلام ... علىّ وما فيهم نافع
إذا أنا أدلجت في حاجة ... لها مطلبٌ نازخٌ شاسعٌ
فلى أبداً معهمٌ وقفةٌ ... وتسليمةٌ وقتها ضائعٌ
وفي موقف المرء عن حاجة ... يتممها شاغلٌ قاطع
ترى كلّ غثٍّ كثير الفضول ... ومصحفه مصحفٌ جامع
يقول الضمير إذا ما بدا : ... ألا قبّح الرجل الطالع
يحدثنى من أحاديثه ... بمالا يلد به السامع
أحاديث هن ّمثال الضريع ... فآكله أداً جائع
غدوت وفي الوقت لى فسحةٌ ... فضاق بي المنهل الواسع
تقدمت فاعتاقنى أسرة ... إلى أن تقدمنى التابع
وقالت بلقيانه حاجتي : ... ألاهكذا النكد البارع
أولئك لاحيهّم مؤنسٌ ... صديقاً ولا ميتهم فاجع
دق طفيليٌّ دار قوم فيها طعامٌ ،فقيل :من هذا ؟فقال :أنا الذي كفاكم مؤونة الرّسول.
لطفيليّ :
نحن قومٌ إذا دعينا أحببنا ... ومتى ننس يدعنا التطفيل
فنقل :علّنا دعينا فغبنا ... أو أتانافلم يجدنا الرّسول
دخل طفيليٌّ دار قوم بغير إذن ،فاشتد عليه صاحب الدار في القول ،فأغلظ له الطفيلي في الجواب ،وقال :والله لئن قمت لأدخلنّك من حيث خرجت.
فقال له صاحب المنزل :أما أنا فأخرجك من حيث دخلت.وأخذ بيده فأخرجه.
قيل لبعض الطفيليين :كم اثنين في اثنين ؟قالكأربعة أرغفة.
قال مطرّف بن مازن ،قاضي اليمن : قال لي الرشيد يوماً : من عبد الرزاق ابن همام الصنعاني ؟ فقلت : رجل من أهل الحديث ، سليم الحديث ثقة. فقال : إن صاحب خبرنا في اليمن كتب يذكر أنه كتب ثقلاء اليمن. فقلت : صدق يا أمير المؤمنين فكتبني فيهم. قال : ولم كتبك فيهم ؟ إنك لحسن الحديث خفيف المجلس ، فما أستثقل منك ؟ قلت : عظم قلنسوتي ، وطول عنقي بغلتي. فضحك هرون ، فما خرجت من عنده حتى أمر لي بكسوة وحملان.
ولطفيلي :
كل يومٍ أدور في عرصة الحي ... أشم القتار شم الذباب
فإذا ما رأيت نار عروسٍ ... أو ختاناً أو دعوةً لصحاب
لم أعرج دون التقحم لا أره ... ب شتماً ووكزة البواب
مستخفا بمن دخلت عليهم ... غير مستأذنٍ ولا هياب
فتراني ألف بالرغم منهم ... كلَّ ما قدموا كلفِّ العقاب
ذاك أهنا من الغر ... م وغيظ البقال والقصاب
كان يقال : ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم : الذاهب إلى مائدة لم يدع إليها ، والمتآمر على ربّ البيت... وقد ذكرنا الحكاية بتمامها في جامع النوادرمن هذا الكتاب.

باب الشماتة
قال الله عز وجل حاكيا عن موسى عليه السلام : " فلا تشمت بي الأعداء ،ولا تجعلني مع القوم الظالمين " .
وقيل لأيوب عليه السلام : أي شيء من بلائك كان أشد عليك ؟ شماتة الأعداء.
قال ابن الكلبي : لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شمتت به نساء كندة وحضرموت ، وخضبن أيديهن ، وأظهرن السرور لموته ، وضربن بالدفوف ، فقال شاعر منهم :
أبلغ أبا بكر إذا ما جئته ... أن البغايا رمن شرَّ مرام
أظهرن من موت النبي شماتة ... وخضبن أيديهن بالعنام
فاقطع هديت أكفهن بصارمٍ ... كالبرق أو مض في متون غمام
قال النبي عليه السلام : " لا تظهر الشماتة لأخيك ، فيعافيه الله ويبتليك " من منتقى الدعاء : اللهم اجعل رزقي رغدا ، ولا تشمت بي أحداً.

ومن دعائه صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أعوذ بك من درك الشقاء ، ومن جهد البلاء ، ومن شماتة الأعداء " .
قال عدي بن زيد العبادي :
أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهلٌ مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من ألاَّ يضام خفير
وقال أبو ذؤيب :
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : سمعت أشهب بن عبد العزيز يدعو على محمد ابن إدريس الشافعي بالموت ، أظنه قال في سجوده ، فذكرت ذلك للشافعي رحمه الله ، فتثمل :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغى خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
قال محمد : فمات الشافعي رحمه الله ، واشترى أشهب من تركته مملوكاً ، ثم مات أشهب بعده بنحو من شهر ، أو قال : خمسة عشر يوماً أو ثمانية عشريوماً ، واشتريت أنا ذلك المملوك من تركة أشهب ، والبيتان الذي تمثل بهماالشافعي لطرفة.
قال مهلهل :
كأن الشامتين بقبر جدي ... على ملك الخورنق والسدير
كأن رماحنا فينا وفيهم ... إذا ما أشرعت أشطان بير
وقال العلاء بن قرظة ، خال الفرزدق :
إذا ما الدهر جرَّ على أناسٍ ... حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
وقال نصيب :
أتصر منى عند الألى هم لنا العدا ... فتشمتهم بي أم تدوم على العهد
وقال عدىّ بن زيد ، وتمثل به معاوية عند موته :
فهل من خالدإما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
عبد الله بن أبي عيينة :
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحساد
وقال منصور الفقيه :
يا من يسر بموتي ... إذا أتاه البشير
إن البشير بموتي ... فلا تسر نذير
واسمع فما أنت ممن ... تخفى عليه الأمور
أليس من كان مثلي ... إلى مصيري يصير
وله :
أيها المظهر الشما ... تة إن مت قبله
عن قليلٍ يصير مث ... لي من كنت مثله
وله :
يا شامتين بمصرعي ... اليوم لي ولكم غد
وله :
يا شامتاً بي إن هلكت ... لكل حيٍ مدى ووقت
وللمنايا وإن تراخت ... في السير يا ذا الشمات بغت
وأنت في قبضة الليالي ... تخاف منها الذي أمنت
والكأس ملأى فعن قريبٍ ... تشرب منها كما شربت
وقال أيضاً :
ما بين يوم المهنيات ... وبين يوم المعزيات
وإن توهمته طويلا ... إلا كما بين ها وهات
ومما ينسب لابن المبارك وليست له وإنما هي للمبارك الطبري :
لولا شماتة أعداء ذوي حسدٍ ... أو اغتمام صديق كان يرجوني
لما طلبت من الدنيا مراتبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني
وقال آخر :
فمن يك عني سائلا لشماتةٍ ... بما نالني أو شامتاً غير سائل
فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرةٍ ... صبوراً على ضراء تلك الزلازل
إذا سرّ لم يفرح وليس لنكبةٍ ... إذا نزلت بالخاشع المتضائل
لأعرابي وقد أغير على إبله :
الا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوي إحن
ما سرني أن إبلي في مباركها ... وأن شيئاً قضاه الله لم يكن

باب مؤاخاة من ليس على دينك
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المرء على دين خليله ، فلينظر امرؤ من يخالل " . وهذا معناه والله أعلم أن المرء يعتاد ما يراه من أفعال من صحبه ، والدين العادة ، فلهذا أمر ألا يصحب إلا من يرى منه ما يحلّ ويجمل ، فإن الخير عادة. وفي معنى هذا الحديث قول عديّ بن زيد :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتدي

وقول أبي العتاهية :
من ذا الذي يخفى علي ... ك إذا نظرت إلى خدينه
وهذا كثير جداً ، والمعنى في ذلك : ألا يخالط الإنسان من يحمله على غير ما يحمد من الأفعال والمذاهب ، وأما من يومن منه ذلك فلا حرج في صحبته.
قال ابن عباس : لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه مقاله.
قال الله عز وجل : " وإذا حييتم بتحيةٍ فحيوا بأحسن منها أو ردوها " وجاء في التفسير : أحسن منها لأهل الإسلام ، أو ردوها لأهل الذمة.
وقيل لسعيد بن جبير : المجوسي يوليني خيراً فأشكره ؟ قال : نعم. قيل : فإن سلم علي أفأرد عليه ؟ قال : نعم.
وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال في أهل الذمة : " لا تبدءوهم بالسلام ،وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " فقد قال بذلك طائفة من أهل العلم منهم مالك بن أنس رحمه الله. روى بشير بن عمر الزهراني ، عن مالك ، أنه كان يكره السلام على أهل الذمة كلهم. قال بشير : فقلت : أترى أن يبدءوا بالسلام ؟ قال : معاذ الله أما سمعت قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوَّي وعدوكم أولياء " .
وقال مالك : أكره مؤاكلة أهل الذمة ، لأن المؤاملة توجب المودة.
وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ، أنهم كانوا يبدءون بالسلام كل من لقوه من مسلم أو ذمى. فالمعنى في ذلك ، والله أعلم ، أنه ليس بواجب أن يبدأ المسلم المار القاعد الذمىَّ ، والراكب المسلم الذمى الماشي ، كما يجب ذلك بالسنة على من كان على دينه ، فإن فعل فلا حرج عليه. فكأنه قال صلى الله عليه وسلم : " ليس عليكم أن تبدءوهم بالسلام " بديل ما روى الوليد بن مسلم عن عروة بن رويم ، قال : رأيت أبا أمامة الباهلي يسلم على كل من لقي من مسلم وذمىّ ، ويقول : هي تحيةٌ لأهل ملتنا ، وأمان لأهل ذمتنا ، واسم من أسماء الله نفشيه بيننا.ومحال أن يخالف أبو أمامة السنة ، لو صحت في ذلك. بل المعنى على تأويلنا والله أعلم ، وعلى هذا يصح تخريج هذه الأخبار ووجوهها.
ذكر ابن أبي شبيب ، عن إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن زياد الألهاني ، وشرحبيل بن مسلم ، عن أبي أمامة ، أنه كان لا يمر بمسلمٍ ولا يهودي ولا بصراني إلا بدأه بالسلام.
وروي عن ابن مسعود وأبي الدراء ، وفضاله بن عبيد ، أنهم كانوا يبدءون أهل الذمة بالسلام.
وقال ابن مسعود : إن من التواضع أن تبدأ بالسلام كلَّ من لقيت.
وعن ابن عباس ، أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب : السلام عليك.
وسئل عبد الله بن وهب ، صاحب مالك ، عن غيبة النصراني ، فقال : أو ليس من الناس ؟ قالوا : بلى. قال : فإن الله عز وجل يقول : " وقولوا للناس حسناً " .
وقيل لمحمد بن كعب القرظي : إن عمر بن عبد العزيز سئل عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال ترد عليهم ولا تبدؤهم. فقال محمد بن كعب : أما أنا فلا أرى بأساً أن تبدأهم بالسلام ، قيل له : لم ؟ فقال : لقوله عز وجل : " فاصفح عنهم وقل سلام " .
ومن حجة من ذهب إلى هذا قوله عز وجل : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " .
وذهب جماعة من العلماء إلى مثل ما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز في ذلك.
وروى ابن المبارك عن شريك عن أبي إسحاق ، قال : كان يقال : من الحمق أن تؤاكل غير أهل دينك.
قال أبو الطمحان الأسدي :
كأن لم يكن بالقصر قصر مقاتل ... وزورة ظلٌ ناعمٌ وصديق
وإني وإن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق
ولبعضهم في مجوسي ساق عنه صداق امرأته ، وهو الأقيشر الأسدي :
شهدت عليك بطيب المشاش ... وأنك حرٌ جوادٌ خضم
وأنك سيِّد أهل الجحيم ... إذا ما ترديت فيمن ظلم
كفاني المجوسي مهر الرباب ... فدى للمجوسي خالٌ وعم
روى إسماعيل بن إسحاق ، قال : سمعت ابن أبي أويس ، يقول : سئل مالك ، أترى بأساً إذا أهدى اليهودي أو النصراني للمسلم أن يكافئه ، فقال : معاذ الله وما للمسلم أن يقبل هديته حتى يكافئه.
وقال آخر :
وجدنا في اليهود رجال صدقٍ ... على ما كان من دينٍ يريب
خليلان اكتسبتهما وإني ... لخلة ماجدٍ أبداً كسوب

للمريمي الشاعر ، وهو القاسم بن يحيى ، من ولد أبي مريم السلمى صاحب النبي عليه السلام ، يخاطب أبا يعقوب إسحاق بن نصر الكاتب العبادي عند إسلام الوليد ابن أخيه ، وكان إسحاق هذا كاتب أبي الجيش بن طولون صاحب مصر :
تعزَّ فإنَّ الحرَّ لا بدَّ يخلق ... وكل امرئ للخير والشرِّ يخلق
وما فرج الأيام إلا مواهبٌ ... فمن بين محرومٍ وآخر يرزق
وما الحزم إلا أن ينزه نفسه ... فتىً كاد في بحرٍ من الهمِّ يغرق
إذا لم يكن في ردِّ ما فات حيلة ... فإن الفتى بالصبر أحرى وأخلق
أتاني غمٌ من سرورٍ سمعته ... فلا أنا مأسورٌ ولا أنا مطلق
سررت بإسلام الوليد ديانةً ... وأقلقني علمي بأنك مقلق
فقلبي به شطران جذلان واحدٌ ... وآخر محزونٌ من أجلك محرق
أنار لكم فينا وأشرق كوكبٌ ... لنا مثله فيكم ينير ويشرق
فكم راعنا من مسلمٍ متنصرٍ ... فهذا بهذا والسعيد الموفق
لزيبا النصراني وكان يتشيع :
عدىٌّ وتيم لا أحاول ذكركم ... بسوءٍ ولكني محبٌ لهاشم
وما تعتريني في عليٍّ ورهطه ... إذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون ما بال النصارى تحبهم ... وأهل النهى من أعرب وأعاجم
فقلت لهم : إني لأحسب حبهم ... سرى في قلوب الخلق حتى البهائم
وله أيضاً :
على أمير المؤمنين خليفةٌ ... وما لسواه في الخلافة مطمع
فلو كنت أبغى ملة غير ملتي ... لماكنت إلا مسلما أشيع

باب الولد والوالد
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من أب يا رسول الله ؟ قال : " أمك قال : ثم من يا رسول الله ؟ قال : أمك : ثم من ؟ قال : أباك ثم أدناك " ومنهم من يرويه : أمك ثلاث مرات ، والأول أثبت.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل ؟ فقال : " الصلاة لوقتها وبر الوالدين " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " البر والصلة وحسن الجوار ، عمارة الديار وزيادة في الأعمار " .
وقال الحسن : البر أن تطيعهما في كل ما أمراك به ، ما لم تكن معصية الله ،والعقوق هجرانهما ،وأن تحرمهما خيرك.
قال عروة في قوله تعالى : " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " . هو ألا يمنعهما من شيء أراده قال يزيد بن أبي حبيب : كان العلماء يقولون : حق الأم أعظم من حق الأب ،ولكل حق.
رأى ابن عمر رجلا يطوف بالبيت حاملا أمه ، وهو يقول لها : أتريني جزيتك يا أمه ؟ فقال ابن عمر : ولا طلقة واحدة ، أو قال : ولا زفرة واحدة.
وروى في الخبر المرفوع : " ما بر أباه من سدّد النظر إليه " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد أن يصل أباه بعد موته ، فليصل إخوان أبيه " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " الود يتوارث ، والبغض يتوارث " .
وقال عليه السلام : " ثلاثٌ يطفئن نور العبد : أن يقطع ودّ أهل بيته ، ويبدّل سنّة صالحة ، ويرمي بصره في الحجرات " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة عاقّ ، ولا منان ، ولا مدمن خمر ، ولا مدمن سحر ، ولا قتات " .
للربيع بن ضبع :
ألا أبلغ بنيِّ بني ربيع ... فأشرار البنين لكم فداء
بأني قد كبرت ورقَّ جلدي ... فلا تشغلكم عنيِّ النِّساء
إذا كان الشتاء فأدفئوني ... فإن الشيخ يهرمه الشتاء
وأما حين يذهب كل قُرٍ ... فسربالٌ خفيف أو رداء
إذا بلغ الفتى مائتين عاماً ... فقد ذهب البشاشة والفتاء
وسئل ابن عباس ، عن رجل قتل امرأته وما توبته ؟ قال : إن كان له أبوان فليبرهما ماداما حيين ، فلعل الله أن يتجاوز عنه. وقد جاء عنه مثل ذلك في المرأة التي تعلمت السحر ثم جاءته تطلب التوبة.
قال مكحول : بر الوالدين كفارة للكبائر.
قال محمد بن المنكدر : بت أغمز رجل أمّي ، وبات عمي يصلي ليلته ، فما تسرني ليلته بليلتي.
قال الشاعر في ابنه :
يود الردى لي من سفاهة رأيه ... ولو متّ بانت للعدوّ مقاتله

إذا ما رآني مقبلاً غضّ طرفه ... كأن شعاع الشمس دوني يقابله
ومثله :
إذا أبصرتني أعرضت عنّي ... كأن الشمس من قبلي تدور
ولعبد الله بن بكر السهمي :
خالل خليل أخيك وارع إخاءه ... وعلم بأن أخا أخيك أخوكا
وبنيك ثم بني بنيك فكن لهم ... براً فإنّ بني بنيك بنوكا
والطف بجدك رحمةً وتعطفاً ... واعلم بأن أبا أبيك أبوكا
روي عن ابن عباس أنه قال : إنما ردَّ الله عقوبة سليمان بن داود عن الهدهد لبره كان بأمه.
رأى أبو هريرة رجلا يمشي خلف رجل ، فقال : من هذا ؟ فقال : أبي. قال : لا تدعه باسمه ولا تجلس قبله ، ولا تمش أمامه.مكتوب في كتب الله عز وجل : لا تقطع ما كان أبوك يصله فيطفأ نورك قال كعب : مكتوبٌ في التوراة ، اتق ربك ، وبرّ والديك ، وصل رحمك ، يمدّ لك في عمرك ، وييسِّر لك يسرك ، ويصرف عنك عسرك.
والآثار في بر الوالدين كثيرة جداً ، وقد نص الله في كتابه من خفض الجناح لهما ، والحضّ على برهما ما يكفي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الولد الصالح من ريحان الجنة " .
ونظر يوماً إلى الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر ، فقال : " إنكم لتجبنون وتبخلون ، وإنكم لمن ريحان الجنة " .
دخل عمرو بن العاص على معاوية ، وعنده بنت له ، فقال : ابعدها عنك ياأمير المؤمنين ، فوالله ما علمت إلا أنهن يلدن الأعداء ، ويقربن البعداء ، ويورئن الضغائن. قال معاوية : لا تقل هذا ياعمر ، فو الله ما مرض المرضى ، ولا ندب الموتى ، ولا أعولّ على الأحزان مثلهن ، ولربّ ابن أخت قد نفع خاله.
قال محمد بن سليمان : البنون نعمٌ ، والبنات حسنات ، والله عز وجل يحاسب على النعم ، ويجازي على الحسنات.
قال منصور الفقيه :
لولا بناتي وسيّآتي ... لذبت شوقاً إلى الملمات
لأنني في جوار قومٍ ... نغّصني قربهم حياتي
وله أيضاً :
أحبّ البنات ،فحبّ البنات ... فرضٌ على كلّ نفسٍ كريمه
لأن شعيباً لأجل البنات ... أخدمه الله موسى كليمه
وقال آخر :
لقد زاد الحياة إلىّ حبّاً ... بناتي إنّهن من الضعاف
مخافة أن ين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صاف
ولأبي محمد الحسن بن عبيدة الريحاني :
حبذا من نعمة الل ... ه البنات الصالحات
هن للنسل وللأ ... نس وهن الشجرات
وبإحسانٍ إليهنّ تكون البركات
إنّما الأهلون أرضو ... ن لنا محترثات
ٍفعلينا الزرع فيها ... وعلى الله النّبات
كان لأبي حمزة الأعرابيّ زوجتان فولدت إحداهما ابنة ،فعزّ عليه ،واجتنبها وصار في بيت ضرتها إلى جنبها فأحست به يوماً في بيت صاحبتها ،فجعلت ترقّص ابنتها الطفلة وتقول :
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظلّ في البيت الذي يلينا
غضبان ألاّ نلد البنينا ... تا الله ما ذلك في أيدينا
بل نحن كالأرض لزارعينا ... يلبث ما قد زرعوه فينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
فعرف أبو حمزة قبح ما فعل ، وراجع امراته.
قال منصور الفقيه :
لولا البنات والذنوب لم أكن ... يروعني ذكر الحنوط والكفن
وقال آخر :
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظّلم
وزادني رغبةً في العيش معرفتي ... ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرّحم
أحاذر الفقر أن يلمم بساحتها ... فيهتك الستر من لحمٍ على وضم
أخشى إضاعة عمٍ أو جفاء أخٍ ... وكنت أحنو عليها من أذى الكلم
ما أنس لا أنس منها إذ تودّعني ... والدمع يجري على الخدّين ذا سجم
لا تبرحن فإن متنا فإنّ لنا ... ربّاً تكفل بالأرزاق والقسم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً ... والموت أكرم نزال على الحرم
وقال آخر :
أحب بنيّتي ووددت أنّي ... سترت بنّيتي في قعر لحد
وما إن ذاك من بغض ولكن ... مخافة أن تذوق البؤس بعدي

رأى ابن عباس رجلا ومعه ابنٌ له ، فقال : أما إنّه لو عاش فتنك ، ولو مات أحزنك.
قال محمد بن علىٌّ بن حسن لابنه جعفر : يابنيّ! إن الله رضيني لك وحذّرني منك ، ولم يرضك لي فأوصاك بي ، يا بنيّ! إن خير الأبناء من لم يدعه البر إلى الإفراط ،ولم يدعه التقصير إلى العقوق.
كان يقال : الولد ريحانتك سبعاً ، وخادمك سبعاً ، وهو بعد ذلك صديقك أو عدوّك أو شريكك.
سأل معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس عن الولد ،فقال : يا أميرالمؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا ، وعماد ظهورنا ، ونحن لهم أرض ذليلة ، وسماء ظليلة ، وبهم نصول عند كل جليلة ، فإن طلبوا فأعطهم ، وإن غضبوا فأرضهم ، يمنحوك ودهم ، ويحبّوك جهدهم ، ولا تكن عليهم قفلا فيتمنّوا موتك ويكرهوا قربك ويملوا حياتك. فقال له معاوية : لله أنت !لقد دخلت علىّ وإني لمملوء غيظا على يزيد ولقد أصلحت من قلبي له ما كان فسد. فلما خرج الأحنف من عند معاوية بعث معاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم ، فبعث يزيد إلى الأحنف بنصفها.
قال علىّ بن أبي طالب :ينبغي لأحدكم أن يتخيّر لولده إذا ولد الاسم الحسن.
وفي الخبر المرفوع : من نعمة الله عز وجل على الرجل أن يشبهه ولده.
قال عمر بن الخطاب : عجّلوا بكني أولادكم لا تسرع إليهم الألقاب السّود.
قال أبو جعفر محمد بن علي : بادروا بالكني قبل الألقاب.
قال : وإنا لنكني أولادنا في الصغر مخافة اللقب أن يلحق بهم.
قال قتادة : رب جاريةً خير من غلام ، ورب غلام قد هلك أهله على يديه.
روى عن النبي صلى عليه وسلم ،أنه قال : " ما نحل والد ولده خيراً من أدب حسن " .
وروى عنه صلى الله عليه وسلم ،أنه قال : " من عال ثلاث بنات ، أو ثلاث أخوات أو ابنتين أو أختين كنّ له حجاباً من النار ، فإن صبر عليهن حتى يزوّجهن دخل الجنة.
كان يقال : من بلغت ابنته النكاح فلم يزوجها فزنت فعليه مثل إثمها ، وإثمها عليه
وكما لا يصبحّ الجسد بلا رأس ... لا تصلح المرأة بغير زوج.
كان عقيل بن علّفة غيوراً ،فحمل يوماً ابنةً له وأنشأ يقول :
إنّي وإن سيق إلىّ المهر ... ألفٌ وعبدان وذودٌ عشر
أحبّ أصهاري إلىّ القبر قال عبد العزيز بن مروان لسعيد بن العاص :كيف حبّك لبناتك ؟قال :إني لأحبهن ،على أنهن يلدن الأعداء ويقربن البعداء ،وهن عددٌ ولسن بولد.
كتب عمر بن الخطاب إلى أهل الأمصار :علّموا أولادكم العوم والفروسيّة ،ورووهم ما سار ،من المثل ، وما حسن من الشعر.
كان يقال : من تمام ما يجب للأبناء على الآباء ، تعليم الكتابة والسباحة.
قال الحجّاج لمعلّم ولده :علّم ولدي السباحة قبل أن تعلمهم الكتابة ، فإنهم يجدون من يكتب عنهم ، ولا يجدون من يسبح عنهم.
قال الشاعر :
خير ما ورّث الرجال بنيهم ... أدبٌ صالح وحسن الثناء
ذاك خيرٌ من الدنانير والأو ... راق يوم شدةٍ أو رخاء
وهي أبيات كثيرة قد ذكرناها وذكرنا الاختلاف في قائلها في باب التعليم في الصغر ،من كتاب العلم.وفي ذلك الباب كثير من معاني هذا الباب ،والله الموفق للصواب.
قال أعرابي ،وهو حطّان بن المعلي :
أبكاني الدهر ويا ربّما ... أضحكني الدّهر بما يرضي
أنزلني الدّهر على حكمه ... من شاهق عالٍ إلى خفض
وابتزّني الدهر ثياب الغني ... فليس لي ثوبٌ سوى عرضي
لولا بنيّات كزغب القطا ... ينهضن من بعض إلى بعض
إن هبّت الريح على بعضهم ... لم تطعم العين من الغمض
لكان لي مضطربٌ واسعٌ ... في الأرض ذات الطول والعرض
وإنّما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشى على الأرض
كان الزبير بن العوام يرقص ابنه عروة ويقول :
أبيض من آل أبي عتيق ... مباركٌ من ولد الصّديق
ألذّه كما ألذّ ريقي
قالوا :من كان له صبّي فليستصب له.
كانت أعرابية ترقّص ابنها ،أو بعض الأعراب يرقص ابنه ويقول :
أحبّه حبّ شحيحٍ ماله ... قد ذاق طعم الفقر ثم ناله
إذا أراد بذله بداله

قال محمد بن يحيى النديم :أول شعر قاله عليّ بن الجهم وهو غلام في المكتب ،وذلك أن أباه أمر المؤدّب أن يجلسه يوم الخميس عنده في المكتب حتى يحفظ حزبه ،فحبسه فكتب إلى أمه :
أمّي جعلت فداك من أمّ ... أشكو إليك فظاظة الجهم
قد سرّح الصبيان كلّهم ... وحسبت بالعدوان والظّلم
قال الزيادي :كنت رجلا مئناثاً ،فقيل لي :أكثر من الاستغفار وقت الجماع ،واستغفر الله عند الجماع ،فف علت فولد لي بضعة عشر ولداً ذكراً.
قال الشاعر :
وما كل مئناث سيشقى ببنته ... وما كلّ مذكار بنوه سرور
ومن هذا المعنى ذكرٌ في باب النساء.
قال أبو العلاء محمد بن أحمد بن جعفر الوكيعي :ما سمعت بكار بن قتيبة القلضي قط ينشد بيت شعر إلاّ مرة ،كنت عنده وأختصم إليه رجل وابنه ،فكان من كل واحد منهما إلى صاحبه ما لم يحمد بكار ،فالتفت إليهما وأنا أسمع.
فقال :
تعاطتيما ثوب العقوق كلا كما ... أب غير بر وابنه غير واصل
كان لعبد الملك بن مروان بيت ملٍ كان قد حجزه من خالص غلاته وضياعه ،لا يدخله شئ من الغلول ،يعدّه للتزويج وشراء الجواري اللواتي يطلب أولادهن ،وكان يقول :إنّ الغلول يبقى في الولد.
قال أعرابي لأبيه وهو عمر بن ذّر الهمداني يعاتبه :يا أبت!إن عظيم حقك علىّ لا يذهب صغير حقيّ عليك ،والذي تمتّ به إلىّ أمت بمثله إليك ،ولست أزعم أنا سواء ولكني أقول لا يحل الاعتداء.
قيل لأعرابي ،وكان له ابن عاقّ :كيف ابنك ؟قال :عذابٌ أزغف علىّ به الدهر ،فليتني قد أودعته القبر ،فإنه بلاء لا يقاومه الصبر ،وفائدة لا يلزم عليها الشكر.
دخل إلى جعفر بن القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي أعرابي ،فسأله جعفر عن بنيه فقال :
إنّ بنّي خيرهم كالكلب ... أبرّهم أولعهم بسبّي
لم يغن عنهم أدبي وضربي ... فليتني كنت عقيم الصّلب
ولبعض العقلاء البررة الأدباء :
بنفسي أنت لا بأبي فإني ... رأيت الجود بالآباء لؤما
كان يقال :من فوائد الدهر موت الابن العاقّ.
قال أمية بن أبي الصلت ،وهو قد عتب على ابنه :
غذوتك مولوداً وغلتك يافعا ... تعلّ بما أسعى عليك وتنهل
إذا ليلةٌ جاءتك بالشكو لم أكن ... بشكواك إلاّ ساهراً أتملتل
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني عيني تهمل
تخاف الرّدى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقتٌ مؤجل
فلما بلغت السنّ والغاية التي ... إليها مدى ما كنت قبل أؤمل
جعلت جزائي غلظةً وفظاظةً ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حقّ أبوّتي ... كما يفعل الجار المجاور تفعل
ورضى أبو الشغب العبسي عن أبنه فقال :
رأيت رباطا حين تمّ شبابه ... وولىّ شبابي ليس في برّه عتب
إذا كان أولاد الرجال حزازةً ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانبٌ منه دميثٌ وجانب ... إذا رامه الأعداء ممتنعٌ صعب
يخبرني عما سألت بهيّنٍ ... من القول لا جافي الكلام ولا لغب
وقال آخر :
فلو كنتم لكيّسة أكاست ... وكيس الأمّ أكيس البنينا

باب الأقارب والموالى
قال رجلٌ لرسو ل اللّه صلى اللّه عليه وسلم. " يا رسول اللّه إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني ، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " لا يزال معك من اللّه ظهيرٌ ما كنت على ذالك " .
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : " ما من ذنبٍ أجدر بأن تجّعل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم " .
ويروي عنه صلى اللّه عليه وسلم : " حقّ كبير الإخوة على صغيرهم كحقّ الوالد على ولده " .
وقال أبو الدرداء :مكتوب في التوراة : إن أحسد الناس لعالمٍ وأبغاهم عليه ، قرابته وجيرانه " .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " مولى القوم منهم " .

قال ابن عباس : قد تقطع الرحمّ ، وقد تكفر النعمى ، ولا شئ كتقارب القلوب. وفي رواية أخرى عنه ، تكفر النعمة ، والرحم تقطع ، واللّه يؤلف بين القلوب ، وإذا قارب بين القلوب لم يزحزها شئٌ أبداً ، ثم تلا : " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ اللّه ألّف بينهم " .
كان يقال : لا تؤدى حقّ الرحم إلا بأن تصل من أدلى بها إذا قطعك ، وتعطيه إذا حرمك.
قال الشاعر :
وجدت قريب الودّ خيراً وإن نأى ... من الأبعد بعدّ الود القريب المناسب
ورب أخ لم يدنه منك ولدٌ ... أبرٌ من ابن الأم عن النوائب
ورب بعيد حاضرٍ لك نفعه ... وربّ قريبٍ شاهدٍ مثل غائب
ولمنصور الفقيه :
مناسبك الأدنى أشدّ عداوةً ... وكفراً لما أوليته من عداتكا
يقول الذي بيني وبينك موجبٌ ... عليك لعمري أثرتي بحياتكا
وما خير من يمسي ويصبح ساخطا ... على اللّه في تأخيره لمماتكا
وقال آخر :
أشدّ عداوةً وأفلّ نفعاً ... من الرجل البعيد الأقربونا
وقال آخر :
ولا خير في قربي لغيرك نفعها ... ولا في صديق لا تزال تعاتبه
يخونك ذو القربى مراراً وربمّا ... وفي لك عند الجهد من لا تناسبه
قالت الأعرابي :ابن عمك عدوك وعدو عدوك.
قال الفضل بن العباس اللهبي في بني امية :
مهلا بني عمنا عن نحت أثلتنا ... سيروا قليلاً كما كنتم تسيرونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا
مهلا بني عمنا مهلاً موالينا ... لاتنشروا بيننا ما كان مدفونا
اللّه يعلم أنّا لا نحبكم ... ولا نلومكم ألا تحبونا
كل يداجى على البغضاء صاحبه ... بنعمة اللّه نقليكم وتقلونا
قال مضرّس بن لقيط الفقعسى :
فقدت موالى الذين كأنهم ... دماميل في وجهى على تنخس
ولما قتل الحسين بن علىّ ، قالت بنت عقيل بن أبي طالب :
ماذا تقول إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلى عند منطلقى ... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمى
لسويد الحارثي أو غيره :
بني عمنا لا تذكروا الشّعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغميم القوافيا
فلسنا كما كنتم تصيبون مثله ... فيقبل عقلاً أو يحكم قاضيا
ولكن حكم السيف فيكم مسلطٌ ... فنرضى إذا ما السيف أصبح راضيا
فإن قلتم إنا ظلمنا فإنكم ... بدائم ولكنا أسأنا التّقاضيا
وقال الأضبط بن قريع :
فصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل وأوقص لبقريب إن قطعه
قال قيس بن زهير :
شفيت النفس من حمل بن بدرٍ ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
قتلت إخوتي سادات قومي ... وقد كانوا لنا حلى الزمان
فإن أك قد شفيت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناتي
قال ذو الإصبع العدواني :
ولى ابن عمّ على ما كان من خلقٍ ... مخالف لى أقليه ويقلني
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني
الله يعلمني والله يعلمكم ... والله يجزيكم عني ويجزيني
ماذا علىّ وإن كنتم ذوي رحمٍ ... ألا أحبكم إذ لم تحبؤني
قال الأعشى :
وإنّ القريب من يقرّب نفسه ... لعمر أبيك الخير لا من تنسّبا
وقال آخر :
وإنّي للبّاس على المقت والقلى ... بني العمّ منهم كاشحٌ وحسود
أذبّ وأرمي بالحصى من ورائهم ... وأبدأ بالنعمى لهم وأعود
قال ابن العميد :
آخ الرجال من الأبا ... عد والأقارب لا تقارب
إن الأقارب كالعقا ... رب أو أشدّ من العقارب

كان عبد الله بن العباس صديقاً لعمر بن عبد الرحمن بن عوف فليقه يوماً مغتاظاً.فقال له : مالك ؟ قال : لقيني فلان - لرجل من أهله - فشتمني وآذاني.
فقال له : هوّن عليك فما من ضارٍ على طريدةٍ بأسرع إليها من ابن عم دنٍّي إلىابن عمسرىّ ، فهوّن عليك.
من شعر طرفة ، ويروي في شعر عدي بن زيد :
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً ... على المرء من وقع الحسام المهنّد
وقال أبو فراس الحمداني :
وهل أنا مسرور بقرب أقاربي ... إذا كان لي منهم قلوب الأباعد
قال العتابي : عشيرتك من أحسن عشرتك ، وابن عمك من عمك خيره ،وقرابتك من قرب منك نفعه ، وأحب الناس إليك أخفّهم ثقلا عليك.
وقال :
إني بلوت الناس في أحوالهم ... وخبرت ما وصفوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنساب
وقال آخر :
كم من أخ لك لم يلده أبوكا ... وأخٍ أبوه أبوك قد يجفوكا
وهذا مأخوذ والله أعلم من قول أكثم بن صيفي : رب أخ لم تجمعه معك ولادة.
قال آخر :
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
وقال أبو الأسود الدؤلي :
إذا المرء ذو القربى وذو الود أجحفت ... به سنةٌ حلت مصيبته حقدي
قال آخر :
سآخذ منكم آل حزن لحوشبٍ ... وإن كان مولائي وكنتمبني أبي
فإن كنت لا أرمى وترمى عشيرتي ... نصب جائحات النبل كشجى ومنكبي
وقال آخر :
فلم أر عز المرء إلا عشيرة ... ولم أر ذلاَّ مثل نأيٍ عن الأهل
وقال آخر :
أخاف كلاب الأبعدين ونبحها ... إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب
وقال المقنع الكندي ، واسمه محمد بن عمير بن أبي شمر الكندي ، وكان من أجمل أهل زمانه وأحسنهم وجها ،وأتمهم قامة ، فكان إذا كشف وجهه يؤذى ،فكان يتقنع دهره ، فسمي لذلك : المقنع. وشعره هذا من أحسن ما قيل في معناه جزالة ونقاوة وسباطة وحلاوة :
يعاتني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ... حقوق ثغورٍ ما أطاقوا لها سداّ
ولي جفنةٌ لا يغلق الباب دونها ... مكللةٌ لحماً مدفقةٌ ثردا
ولي فرسٌ نهدٌ عتيقٌ جعلته ... حجاباً لبيتي ثم أحدمته عبدا
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلفٌ جداً
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيَّي هويت لهم رشداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هم ... دعوني إلى نصرٍ أتيتهم شدا
وإن زجروا طيري بنحس يمر بي ... زجرت لهم طيراً يمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي أن تتابع لي غنى ... وإن قلت مالي لم أكلفهم رفدا
وإني لعبد الضيف مادام نازلا ... وما شيمةٌ لي غيرها تشبه العبدا
وقال طرفة :
وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
وقال عوف التميمي :
ولست لقومي بعيابةٍ ... وشر العشيرة من عابها
أعف وابذل مالي لها ... ولا أتعلم ألقابها
وقال أبو الطمحان القيني :
إذا كان في صدر ابن عمك إحنةٌ ... فلا تستثرها سوف يبدو دفينها
قال آخر :
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وان ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح
قال الثقفي :
من كان ذا عضد يدركظلامته ... إن الذليل الذي ليست له عضد
تنبو يداه إذا ما قلَّ ناصره ... ويأنف الضيم إن أثرى له عدد
وقال أشجع السلمى :
نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن تحت التراب نسيب

وقال محمد بن أبي حازم الباهلي :
رب غريبٍ ناصح الجيب ... وابن أبٍ متهم الغيب
ورب عيابٍ له منظرٌ ... مشتمل الثوب على العيب
قال محمد بن أبان اللاحقي يخاطب أخاه إسماعيل :
تلوم على القطيعة من أتاها ... وأنت سننتها للناس قبلي
واللاحقي هو القائل :
إخفض الصوت إن نطقت بليلٍ ... والتفت بالنهار قبل الكلام
وفي معنى قول اللاحقي في البيت الأول قول الهذلي :
فلا تفزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راضٍ سنةً من يسيرها

باب المملوك والمالك
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يدخل الجنة سيء المملكة " .
كان يقال : التسلط على المملوك دناءة.
وقال بعض الحكماء : اذكر عند قدرتك وغضبك قدرة الله عليك ، وعند حكمك حكم الله فيك.
كان يقال : أنعم الناس عيشاً من حسن عيش غيره في عيشه.
كان يقال : اللإحسان إلى الخادم يشجي العدو ، ويذهب البؤس ، والكسوة تظهر الغنى.
قال عمر بن الخطاب : أكثروا شراء الرقيق ، فرب عبد يكون أكثر رزقاً من سيده.
اشترى عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي عبد بني الحسحاس واسمه سحيمٌ ، وكان حبشياً سمحاً شاعراً ، وكتب إلى عثمان بن عفان : إني قد اشتريت لك غلاماً حبشياً شاعراً فكتب إليه عثمان : لا حاجة لي به ، فإنما حظ أهل العبد الشاعر إذا شبع أن يشبِب بنسائهم ، وإذا جاع أن يهجوهم.
قال لقمان لابنه : يا بني إياك وخدمة العين. قال : وما خدمة العين ؟ قال : ألا يكون لك عبد لا يخدمك إلا حيث يراك.
باع أعرابي غلاماً له من قومٍ من أهل البصرة ، فجعلوه سقاءً على ظهر بعير لهم ،فلبث الأعرابي حيناً ثم لقيه فسأله عن حاله ؟ فقال : أنا في سفر لا ينقضي ، وغديرٍ لا ينزح ، وقوم لا يروون.
قال بعض الحكماء : أفضل المماليك الصغار ، لأنهم أحسن طاعة ، وأقل خلافاً ،وأسرع قبولا.
كان يقال : استخدم الصغير حتى يكبر ، والأعجمي حتى يفصح.
روى سفيان بن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن ابن معبد ، عن ابن عباس ،قال : من حلف على ملك يمينه أن يضربه فكفارته تركه ، ومع الكفارة حسنة.
قال أبو الفتح :
بطرتم فطرتم والعصا زجر من عصا ... وتقويم عبد الهون بالهون رادع
وقالآخر :
إذا لم يكن في منزل المرء حرةٌ ... رأى خللاً فيما تدير الولائد
فلا يتخذ منهن حرٌ قعيدةً ... فهن لعمر الله بئس القعائد
قال آخر :
العبد يزجر بالعصا ... والحر تكفيه الملامة
وقال آخر :
العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الإشارة
أخده من قول مالك بن الريب :
العبد يقرع بالعصا ... والحر يكفيه الوعيد
وقال بشار :
الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الردِّ
كان يقال الحر حرٌ وإن مسه الضر ، والعبد عبد ولو مشى على الدر أخذه الشاعر فقال :
وإن الحر في الحالات حرٌ ... وإن الذل يقرن بالعبيد
وقال يزيد المهلبي :
إن العبيد إذا أذللتهم صلحوا ... على الهوان عن أكرمتهم فسدوا
قال المتنبي :
لا تشتري العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاسٌ مناكيد
وقال آخر :
إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنى له ذنباً وإن لم يكن ذنب
باب الذكر والثناء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم " ؟ قالوا :بم ذا يا رسول الله ؟ قال : " بالثناء الحسن والثناء السيء ، أنتم شهداء الله في الأرض ، بعضكم على بعض " .
قال عبد الله بن مسعود : عنوانصحيفة الميت ثناء الناس عليه.
وروى ذلك عن ابن عمر أيضاً.
قال كعب الأحبار : إذا أحببتم أن تعملوا ما للعبد عند ربه فانظروا ما يتبعه من حسن ثناء.
قال مطرف بن الشخير : عنوان كرامة الله لعبده حسن الثناء عليه ، وعنوان هوانه سوء الثناء عليه.
قال بعض الحكماء : الناس أحاديث ، فإن استطعت أن تكون أحسنهم حديثاً فافعل.
ومن ها هنا والله أعلم أخذ ابن دريد قوله :
وإنما المرء حديثٌ بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن وعى
قال آخر :

أرى الناس أحدوثةً ... فكوني حديثاً حسن
قال آخر :
وكل جديد يا أميم إلى البلى ... وكل امرئٍ يوماً يصير إلى كان
وقد مضى قوله حاتم الطائي : أخاف مذمات الأحاديث من بعدي مات ابن لحبيب بن الملهب ، فقدم أخاه يزيد ليصلي عليه ، فقيل له : أتقدمه وأنت أسن منه ؟ قال : إن أخي قد شرفه الناس وشاع له فيهم الصيت ، ورمته العرب بأبصارها ، فكرهت أن أضع منه ما رفع الله.
قال رجل من غنىّ :
فإذا بلغتم أهلكم فتحدثوا ... ومن الحديث مهالكٌ وخلود
قال آخر :
فأثنوا علينا لا أباً لأبيكم ... بإحساننا إن الثناء هو الخلد
قال الأسدي :
فإني أحب الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أموت ولم ألم
كان أبو عمرو بن العلاء يتمثل :
وسيبقى الحديث بعدك فانظر ... خير أحدوثة تكون فكنها
قال داود بن جهور ، وتنسب إلى منصور ، وليست له وقد رويناها لداود ،والله أعلم :
إذا أعجبتك طباع امرئٍ ... فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود المكرمات ... حجابٌ إذا جئته يحجبك
قال آخر :
ذكر الفتى عمره الباقي وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال
قال التهامي :
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً ... حتى يرى خبراً من الأخبار

باب البكاء على ما مضى من الأزمان
والتلهف على صالح الإخوان، والحنين إلى الأوطان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر : " فكيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وخفت أمانتهم " ؟ قيل لبعض الحكماء : بأي شيء يعرف وفاء الرجل دون تجربة واختبار ؟ قال : بحنينه إلى أوطانه ، وتلهفه على ما مضى من زمانه.
روى أبو العلاء زكريا بن يحيى بن خلاد ، عن الأصمعي ، قال : قال أعرابي : إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ودوام عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه ، وبكائه على ما مضى من أزمانه.
روى عروة عن عائشة : أنها تمثلت بقول لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب
يتحدثون ملالة وخيانةً ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
ثم قالت : كيف لو أدرك لبيد زماننا هذا ؟ قال عروة : كيف لو أدركت عائشة زماننا هذا ؟.
بلغ ابن عباس قول عائشة : رحم الله لبيداً ، لو أدرك زماننا هذا ؟ فقال ابن عباس : رحم الله لبيداً ورحم عائشة ، لقد أصبت باليمين سهما في خزائن عاد ، كأطول ما يكون من رماحكم هذه ، مريشٌ مفوق مكتوب عليه :
فهل لي إلى أجبال هند بذي اللوى ... لوى الرمل من قبل الممات معاد
بلاد بها كنّا ونحن نحبها ... إذ الناس ناسٌ والبلاد بلاد
قال أبو العتاهية :
لله أزمنة عهدت رجالها ... في النائبات وإنهم لكرام
ماذا أقول لوافد الزمن الذي ... هلك الأرامل فيه والأيتام
زمن هوت أعلامه وتقطعت ... فرقاً فليس لأهله أعلام
زمن مكاسب أهله مدخولةٌ ... جداً فروع أصوله الآثام
زمن تحامى المكرمات سراته ... حتى كأن المكرمات حرام
روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخلت عليه عجوز وهو في بيت عائشة ، فأكرمها وقربها ووصلها ، فقالت له عائشة : من هذه العجوز ؟ فقال : " كانت تأتينا وتزورنا أيام خديجة ، وحفظ العهد من الإيمان " .
وقال آخر :
ذهب الزمان برهط حسان الألى ... كانت مناقبهم حديث الغابر
وبقيت في خلف تحلّ ضيوفهم ... منهم بمنزلة اللئيم الغادر
سود الوجوه لئيمةٌ أحسابهم ... فطس الأنوف من الطرز الآخر
وقال آخر :
مضى الذين إذا ما جئت أسألهم ... قالوا برحبٍ : على العينين والرّاس
وقد بقيت بأوغادٍ أكابرهم ... ليسوا بناسٍ بلى أشباه نسناس
وقال عتيبة الأعور :
ذهب الذين أحبهم ... وبقيت فيمن لا أحبه
إذ لا يزال كريم قو ... مٍ فيهم كلبٌ يسبّه

وقال الحارث بن الوليد :
ذهب الذين إذا رأوني مقبلا ... هشوا وقالوا مرحباً بالمقبل
وبقيت في خلف كأنّ حديثهم ... ولغ الكلاب تهارشت في منهل
وقال الأحوص :
ذهب الذين أحبهم سلفا ... وبقيت كالمفقود في خلف
من كلّ مطوىّ على حنق ... متصنعٍ يكفي ولا يكفي
وقال بشار :
فسد الزمان وساد فيه المقرف ... وجرى مع الطّرف الحمار الموكف
كان سفيان الثوري يقول : ذهب الناس فلا مرتع ولا مفرع ولعبد اللّه بن المبارك الفقيه ، وتروى لغيره :
دهب الرجال المتقدى بفعالهم ... والمنكرون لكلّ أمرٍ منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضاً ليأخذ معورٌ من معور
ركبوا ثنيات الطريق فأصبحوا ... متنكبين عن الطريق الأكبر
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدرٌ وأبعدها إذا لم يقدر
العلم زين للرجال مروءةٌ ... والعلم أنفع من كنوز الجوهر
أأخي إن من الرجال بهيمةً ... في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكلّ مصيبة في ماله ... وإذا يصاب بدينه لم يشعر
ولأبي حفص عمرو بن علىّ بن بحر الفلاس ، وكان أحد أئمة أهل الحديث الحفاظ الجلية :
ألا ذهب التّكرم والوفاء ... وباد رجاله وبقى الغثاء
وأسلمي الزمان إلى رجالٍ ... كأمثال الذئاب لهم عواء
صديق كلما استغنيت عنهم ... وأعداء إذا نزل البلاء
وقال منصور الفقيه :
يا زماناً أورث الأح ... رار دلاّ ومهانه
لست عندي بزمانٍ ... إنما أنت زمانه
كيف نرجو منك خيراً ... والعلا فيك مهانه
أجنوناً ما نراه ... منك يبدو أم مجانه
وقال آخر :
كنا نعيّر من يأتي بفاحشةٍ ... والناس يرعون حقّ الدين والحسب
فالناس قد تركوا التعيير كلهم ... لما استوى النّاس في الفحشاء والكذب
وقال آخر :
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذّاهب ... فالناس بين مجاملٍ وموارب
وقال آخر :
ذهب التكرم والوفاء من الورى ... وتقّرضا إلاّ من الأشمار
وفشت خيانات الثقات وغيرهم ... حتى اتّهمنا رؤية الأبصار
ولعبد الله بن عبد العزيز بن ثعلبة اليعقوبي الشّذني :
مضى دهر السّماح فلا سماح ... ولا يرجى لدي أحدٍ فلاح
رأيت الناس قد مسخوا كلابا ... فليس لديهم إلاّ النّباح
وأضحى الظّرف عندهم قبيحا ... ولا والله إنّهم القباح
سلام أهل إبليس عليكم ... فإن البين أوشكله الرّواح
نروح فنستريح اليوم منكم ... ومن أمثالكم قد يستراح
إذا ما الحرّ هان بأرض قومٍ ... فليس عليه في هرب جناح
وقال آخر : ؟مضى الجود والإحسان واجتثّ أصله وأخمد نيران النّدى والمكارم
وصرت إلى ضرب من الناس آخر ... يرون العلا والمجد جمع الدّراهم
كأنهم كانوا جميعاً تعاقدوا ... على اللؤم والإمساك في صلب آدم
كان بلال لما قدم المدينة ينشد تشوقا إلى المكة ، ويرفع عقيرته : ؟ألا ليت شعرى هل أبيتّن ليلةً بوادٍ وحولى إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنّةٍ ... وهل يبدون لى شامةٌ وطفيل
ولا بن ميادة واسمه الرّمّاح : ؟ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلةً بحرة ليلى حيث ربيّننى أهلى
بلادٌ بها نيطت على تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي
وقال آخر : ؟أحبّ بلاد اللّه ما بين منعجٍ إلى وسلمى أن يصوب سحابها
بلادٌ بها عقٌ الشباب تمائمي ... وأول أرض مسّ جلدي ترابها
وقال آخر : ؟أحنّ إلى دهرٍ مضى بغضارةٍ إذا العيش رطبٌ والزمان مواتي
وأبكى زماناً صالحا قد فقدته ... يقطع قلبي ذكره حسرات
تمطّى علينا الدّهر في متن قوسه ... ففرقنا منه بنبل شتات
وقال متمم بن نويرة :

؟؟وكنا كندماني جذيمة حقبةً من الدّهر حتى قبل لن يتصدعا
فلما تفرّقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وقال آخر :
خمسون عاماً تولت من تصرّفها ... عسرٌ ويسرٌ على الحالين أشهده
لم أبك من زمن صعب لشدته ... إلا بكيت عليه حين أفقده
وما جزعت على ميتٍ فجعت به ... إلاّ ظللت لستر القبر أحسده
وما ذممت زمانا في تقلّبه ... إلاّ وفي زمني قد صرت أحمده
ولأبي عبد الرحمن العطوى ، واسمه محمد بن عطية :
سألت عن سبب الإقتار والعدم ... وعن زوال النّدى في العرب والعجم
نودى : هوت أنجم الإفضال واشتملت ... أم التواصل في الدنيا على عقم
أنعمى إليك مواساة الصديق وما ... قد كان يرعى من الأخلاق والذمم
أنعمى إليك خلال الفضل قاطبةً ... لم يبق منهنّ إلا دارس العلم
أين الوفاء الذي قد كان يعرفه ... قومٌ لقومٍ وأين الحفظ للحرم
أين الجميل الذي قد كان ملتبسا ... أهل الوغاء وأهل الفضل والكرم
أيسر أنت صديق الناس كلّهم ... ثم ابل سرهم في حالة العدم
فإن وجدت صديقا عند نائبةٍ ... فلست من طرقات الخبير في أمم
لما أناخ علىّ الدهر كلكله ... وخاننى كلّ ذي ودٍّ وذي رحم
ناديت ما فعل الأحرار كلهم ... أهل الندى والهدى والبعد في الهمم
قالوا : حدا بهم ريب الزّمان فسل ... أحداثه عنهم تخبرك عن رمم
روينا عن عبد اللّه بن مصعب الزبيري أنه قال : خرجنا إلى الغزو زمن مروان بن محمد حتى إذا كنّا ببعض الطّريق أصابنا مطرٌ وابل ، قملنا إلى قصر رفع لنا فصرنا إلى فنائه ، إذ خرجت وليدة فقالت : بأبي وأمي! من أين أنتم فقلنا : من مكة. فتنفست الصّعداء ، وأنشأت تقول :
من كان ذا سكن بالشام يألفه ... فإن في غيره أمسى لى السّكن
وإنّ ذا القصر حىّ مابه وطنى ... لكن بمكة أمسى الأهل والوطن
من ذا يسائل عنّا أين منزلنا ... فالأقحوانة منّا منزلٌ قمن
إذ نلبس العيش صفواً ما يكدره ... ضغن الوشاة ولا ينبوبنا الزّمن
قال : فمضينا في غزونا حتى إذا قضينا شأننا وقفلنا راجعين ، أخذنا المساء عند ذلك القصر ، فأضافنا صاحبه وأحسن ضيافتنا ، فقلت له : ثمّ حاجة. فقال : وما هي ؟ قلت : وليدة صفتها كذا ، إما أن تبيع وإما أن تهب ، فقال : ما شاء اللّه كان ، واللّه لو كانت حية ما مضيت إلاّ بها ، ولكنها ماتت منذ أيام تلهفاً على مفارقة من نشأت معه.
روينا من وجوه أن أبا خالد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج فقيه مكة رضى اللّه عنه ، خرج إلى اليمن إلى معن بن زائدة في دين ركبه ، قال : فلما نزلت عليه رحبّ بي وسهّل ، وقال : ما أقدمك هذه المدرة ؟ فقلت : دينٌ ركبني لم تف به جائزة أمير المؤمنين ، فضاق ذرعي فلم أر له سواك ، فخرجت إليك. فقال : قدمت خير مقدم ، يقضي دينك وتنصرف محبوراً إلى وطنك. قال : فأقمت عنده شهوراً في أحسن مثوى وأكرم ضيافة ، فإني لخارج من عنده يوماً إذ رأيت الناس يتأهبون إلى الحج ، فأدركتني وحشة ، ولم أملك العبرة ، وحنّت نفسي إلى الوطن ، فرجعت إليه وقد اغرورقت عيناي بالدموع ، فقال لي : مالك ؟ قلت : رأيت الناس في أهبة الحج والخروج إلى مكة فذكرت أبياتاً لعمر بن أبي ربيعة حملتني على ما ترى قال : وأى أبيات عمر هي ؟ فقلت : قوله :
هيهات من أمة الوهّاب منزلنا ... إذا نزلنا بسيف البحر من عدن
واحتّل أهلك أجيادا فليس لنا ... إلا التذكر أو خظٌ من الحزن
بل ما نسيت غداة الخفيف موقفها ... وموقفي ، وكلانا ثمّ ذو شجن
وقولها للثريّا وهي باكية ... والدمع منها على الخدين ذو سنن
باللّه قولى له في غير معتبةٍ ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو رضيت بها ... فما أخذت بترك الحجّ من ثمن

فقال : أتعزم على الرحيل والرجوع إلى وطنك ؟ قلت : نعم. قال : صحبتك السلامة ، ورزقت العافية. وخرجت من عنده فما وصلت إلى موضعي ، حتى سبقني خمسة عشر بغلا عليها عصب اليمن ، ودراهم ، وضروب من الخير ، فقضيت ديني وتأثّلت منه كنزاً مما بيدي اليوم.

باب مدح مغالبة الهوى وذم اتباعه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حبّك الشئ يعمي ويصمّ " .
قال وهب بن ممبهّ : العقل والهوى يصطرعان ، فإيّهما غلب مالٌ بصاحبه.
قال ابن دريد :
وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا
قال عمر بن عبد العزيز : أفضل الجهاد جهاد الهوى.
قال بعض الحكماء : من نظر بعين الهوى خاف ، ومن حكم بالهوى جار قال سفيان الثوري : أشجع الناس أشدهم من الهوى أمتناعاً.
وقال : من المحقّرات تنتج الموبقات.
ويقولون : إن هشام بن عبد الملك لم يقل بيت شعرٍ قطّ إلاّ هذا :
إذا أنت لم تعصي الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
" قلت : لو قال : إلى كلّ ما فيه عليك مقال " كان أبلغ وأحسن.
قال بعض الحكماء : إنما يحتاج اللبيب ذو الرأى والتّجربة إلى المشاورة ليتجرّد له رأيه من هواه.
قال بعضهم : اعص النساء وهواك ، واصنع ما شئت.
قلت : لو قال اعص الهوى لا كتفي.
قيل للمهلّب : بم ظفرت ؟ قال : بطاعة الحزم وعصيان الهوى.
قالوا : ما ذكر الله تعالى الهوى في شيئ من القرآن إلاذمه.
قيل لشريح : أحمد الله لما سلمك من الفتن.قال : كيف أصنع بقلبي وهواي ؟ قال : الهوى غالب ، والقلوب مغلوبة.
قال امتدح بترك الهوى من الحكماء ، قال الزبير بن عبد المطلب :
وأجتنب البوائق حيث كانت ... وأترك ما هويت لما خشيت
أخبرنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا نصر بن محمّد الأسديّ الكوفيّ ، حدثنا إبراهيم بن عثمان المصّيصي ، حدثنا مخلّد بن حسين ، حدثنا هشاّم ابن حسان ، عن محمد بن سيرين قال : بيتا عمر بن الخطاب يجوس ذاتة ليلة إذ سمع امرأة وهي تقول :
هل من سبيلٍ إلى خمرٍ فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
فلما أصبح قال : عليّ بنصر. فجيء به ، فإذا هو أجمل الناس ، فقال : إنها المدينة فلا تساكنيِّ فيها. فخرج إلى البصرة فنزل على ابن عمٍّ له ، هو أمير البصرة ، فبينما هو جالس مع ابن عمه وامرأته ، إذ كتب في الأرض : إني لأحبك حبّاً لو كان فوقك لأظلك ، ولو كان تحتك لأقلك. فقرأته وكتبت تحته : وأنا. وكان الأمير لا يقرأ ، فعلم أنه جواب كلام ، فأكفأ عليه إناءً وقام وبعث إلى من يقرأه ، فبلغ ذلك نصراً ، فلم يجئ إليه ، ومرض حتى سلّ وصار شبه الفرخ ، فأخبر الأمير بذلك ، فقال : اذهبي إليه ، فأبت ، فقال : عزمت عليك إلاّ ذهبت إليه وأسندته إلى صدرك وأطعمته.
قال : فلما أتت الباب قيل له : هذه فلانة. فكأنه انتعش شيئاً ، فصعدت إليه وأسندته إلى صدرها وأطعمته ، فأفاق ، فخرج من البصرة واستحيا من ابن عمه فلم يلقه بعدها.
قال إبراهيم بن عثمان : الأمير مجاشع بن مسعود السلمى ، وامرأته الخضراء.
قال إبراهيم بن عثمان : وأخبرني محمد بن كثير ، أن نصر بن حجاج كتب إلى عمر رضي الله عنه :
لعمري لئن سيرتني وحرمتني ... وما جئت ذنباً إن ذا لحرام
ومالي ذنبٌ غير ظنّ ظننته ... وفي بعض تصديق الظنون أثام
أأن غنّت الذلفاء يوماً بمنيةٍ ... وبعض أماني النساء غرام
ظننت بي الأمر الذي لو أتيته ... لمل كان لي في الصالحين مقام
ويمنعني مما تمنت حفيظتي ... وآباء صدقٍ صالحون كرام
ويمنعها مما تمنت صلاتها ... وبيتٌ لها في قومها وصيام
فهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... فقد جبَّ منّي غاربٌ وسنام
قال بعض الحكماء : الهوى عدو العقل ، فإذا عرض لك أمران ولم يحضرك من تشاوره فاجتنب أقربهما إلى هواك.
ومما ينسب إلى الشافعي ، وأظنه لسهل الوراق :
إذا حار ذهنك في معنيين ... وأعياك حيث الهوى والصواب
فدع ما هويت فإن الهوى ... يقود النفوس إلى ما يعاب

قال غيره : اغتنم من الخير ما عجلت ، ومن الهوى ما سوفت.
كان يقال : إذا غلب عليك عقلك فهو لك ، وإن غلب عليك هواك فهو لعدوك.
قال عمر لمعاوية : من أصبر الناس ؟ قال : من كان رأيه راداً لهواه.
قال أعرابي : ما أشد جولة الرأي عند الهوى ، وأشد فطام النفس عند الصبر.
قال نفطويه :
إن المرائي لا تريد ... ك خدوش وجهك في صداها
وكذلك نفسك لا تريد ... ك عيوب نفسك في هواها
وعن نفطويه ، قال : تضيّف صديقٌ لي من أهل الأدب إلى إمرأة من أهل البصرة ، فتعرض لها ، فقالت : أيها الرجل مالك حظ في غيرة الرجال على الحرم ، فيكون ذلك زاجراً لك عن التعرض لحرم غيرك ، إن لم يكن لك ناه من دين ؟ أما علمت أن الأمور إلى أواخرها تؤول إلى أوائلها ، وإن من عوّد نفسه الرفث والخنا كان كمن اتخذ المزابل مجلساً ، وقلما مجن رجل إلا هلك.
قال الشاعر :
الحب زورٌ والهوى باطل ... والقلب ما أجريته يجري
وترك ما تهوى يسيرٌ إذا ... أعملت فيه سعة الصدر
وقال منصور النمري :
وإن امرءاً أودى الغرام بلبه ... لعريان من ثوب الفلاح سليب
قال آخر :
عين المحب كليلةٌ ... عن عيب كلِّ فتىً يود
قال عمر بن أبي ربيعة :
حسنٌ في كلِّ عينٍ من تود
وقال روح أبو همام :
وعين السخط تبصر كلَّ عيبٍ ... وعين أخي الرضا عن ذاك تعمى
وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر :
فعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ... ولكنَّ عين السخط تبدي المساويا
قال أبو العتاهية :
والمرء يعمى عمن يحب فإن ... أقصر عن بعض ما به أبصر

باب معنى عشق النساء والهوى فيهن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت من ناقصات عقل ودين ، أسلب لعقول ذوي الألباب منكن " .
سئل بعض الحكماء عن العشق ، فقال : شغل قلبٍ فارغ.
وجد في صحيفةٍ لبعض أهل الهند : العشق ارتياحٌ جعل في الروح ، وهو معنى تنتجه النجوم بمطارح شعاعها ، وتتولد الطوالع بوصلة أشكالها ، وتقبله النفوس بلطيف خواطرها ، وهو بعد جلاء للقلوب ، وصقيل للأذهان ما لم يفرط ، فإن أفرط عاد سقما قاتلا ، ومرضا منهكا ، لا تنفد فيه الآراء ، ولا تنجع فيه الحيل ، العلاج منه زيادة فيه.
حضر عند المأمون يوماً يحيى بن أكثم ، وثمامة بن أشرس ، فقال المأمون ليحيى : خبرني عن حد العشق فقال : يا أمير المؤمنين سوانح تسنح للعاشق يؤثرها ويهيم بها تسمى عشقا. فقال ثمامة : اسكت يا يحيى ، فإنما عليك أن تجيب في مسألة من الفقه ، وهذه صناعتنا. فقال المأمون : أجب يا ثمامة. فقال : يا أمير المؤمنين إذا تقادحت جواهر النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة أثقبت لمحنورٍ ساطع تستضيء به بواطن العقل فتهتز لإشراقه طبائع الحياة ، ويتصور من ذلك اللمح نور حاضر بالنفس متصل بجوهرها فيسمى عشقا.
وصف أعرابي عاشقا ، فقال : كان يستر عيناً قد درت مآقيها ، ويحنو على كبد قد أعيت مداويها.
ذكر رجلٌ أيام شبابه وامرأة كان يهواها ، فقال : ذلك هوى شربته النفس أيام شبابها ، فاستخفت بالعاذلات وعتابها.
وصف بعض الحكماء الهوى الذي هو عشقٌ للنساء ، فقال : بطن فرقَّ ، وظهر فكثف ، وامتنع وصفه عن اللسان فهو بين السحر والجنون ، لطيف المسلك والكمون.
وقال بعض الأدباء : الهوى جليسٌ ممتع ، وأليف مؤنس وصاحب مملّك ، مسالكه لطيفة ، ومذاهبه متضادة وأحكامه سائرة ، ملك الأبدان وأرواحها ، والقلوب وخواطرها ، والعيون ونواظرها ، والعقول وآراءها ، وأعطى عنان طاعتها ، وقاد نصرفها ،توارى الأبصار مدخله ، وغمض في القلوب مسلكه.
قال عباس بن الأحنف ،فيما أنشده إسحاق الموصلي له.
فلو كان لي قلبان عشت بواحدٍ ... وخلّيت قلباً في هواك يعذّب
ولكنّما أحيا بقلبٍ مروّع ... فلا العيش يصفو لي الموت يقرب
تعلمت ألوان الرّضا خوف سخطها ... وعلّمها حبّي لها كيف تغضب
ولي ألف وجهٍ قد عرفت مكانه ... ولكن بلا قلبٍ إلى أين أذهب
وللصّمّة القشيري :
لعمري لئن كنتم على النّأى والغني ... بكم مثل مابي إنّكم لصديق

إذا زفرات الحبّ صعّدن في الحشى ... رددن ولم يفتح لهن طريق
للعباس بن الأحنف :
أرى الطّريق قريباً حين أسلكه ... إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف
أنشدنا أبو القاسم محمد بن نصر الكاتب رحمه الله لنفسه في معنى بيت عباس هذا :
أمر نشيطاً إذا زرتكم ... وأرجع كسلان لا أنشط
وسير المطية ما كدني ... ولكن هوى لكم مفرط
وقال العباس بن الأحنف :
يقرب الشوق داراً وهي نازحةٌ ... من عالج الشوق لم يستبعد الدارا
وله :
مت على من غبت عنه أسفاً ... لست منهم بمصيبٍ خلفا
لن ترى قرة عين أبداً ... أو ترى نحوهم منصرفا
قلت لما شفَّني وجدي بهم ... حسبي الله لما بي وكفى
بين الدمع لمن يبصرني ... ما تضمني إذا ما ذرفا
ولمحمد اليزيدي :
أتيتك عائداً بك من ... ك لما ضاقت الحيل
وصيرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل
فإن سلمت لكم نفسي ... فما لاقيته جلل
وإن قتل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل
كتب المهدي إلى الخيزران وهو بمكة :
نحن في أفضل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غبتم ونحن حضور
فأجدوا المسير ، بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرياح فطيروا
فأجابته :
قد أتانا الذي وصفت من الشو ... ق فكدنا وما فعلنا نطير
ليت أنّ الرياح كن يؤدي ... ن إليكم ما قد يجنّ الضمير
لم أزل صبّةً فإن كنت بعدى ... في سرورٍ فدام ذاك السرور
قال بعض الأدباء : ما أشد جولة الرأي عند الهوى وفطام النفس عند الصبّا ، لقد تصدعت كبدي للمحبّين لو العاذلين قرطة في آذانهم ونيران متأججة في أبدانهم لهم دموع غزيزةٌ على المغائي ، كغروب السّواني وأنشد :
سقى الله أطلالاً لليلي وشقّقت ... عليهنّ من غرّ الغمام جيوب
فما تقشعرّ الأرض إن نزلت بها ... ولكنها تزهي بها وتطيب
وقال آخر :
وقال أناسٌ : لا يضريك نأيها ... يلي كلّ ما شفّ النفوس يضيرها
أليس يضير العين أن تكثر البكاء ... ويمنع منها نومها وسرورها
وقال آخر :
فلو أن شرق الشّمس بيني وبينها ... وأهلي وراء الشمس حيث تغيب
لحاولت قطع الأرض بيني وبينه ... وقال الهوى لي إنه لقريب
وقال الصمّة بن عبد الله القشيري :
إذا ما أتتنا الريح نحو أرضكم ... أتينا برياكم فطاب هبوبها
أتينا بريح المسك خالط عنبراً ... وريح الخزامي باكرتها جنوبها
وقال آخر :
ضاف قلبي الهوى فأكثر سهوى ... وجوى الحب مفظع كلّ حلو
لو علا بعض ما علاني ثبيراً ... ظلّ ضعفاً ثبير من ذاك يهوى
من يكن من هوى الغواني خلواً ... يا ثقاتي فإنني غير خلو
قال العبّاس بن الأحنف :
جرى السّيل فاستبكاني السيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتيّ غروب
وما ذاك إلاّ أن تيقنت أننّي ... أمرّ بوادٍ أنت منه قريب
يكون أجاجا قبلكم فإذا انتهى ... إليكم تلقّى طيبكم فيطيب
أيا ساكني شرقيّ دجلة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
قال بعضهم : لو لم يكن في العشق إلاّ أنه يشجع قلب الجبان ، ويسخي كف البخيل ، ويصفّي ذهن الغبي ، ويبعث حزم العاقل ، ويخضع له عزّ الملوك ، وتصرع له صولة الشجاع ، وينقاد له كلّ ممتنع ، لكفي به شرفا.
قال الأصمي :سمعت أعرابيّا يقول : إذا ترعت هتوف الضحى على الغصون ، أرسلت الشئون مياها إلى العيون ،فمن ذاد عينيه عن البكا أورث قلبه حزنا.

عشق أبو القمقام بن بحر السقا امرأة موسرة ، فأطمعته في نفسها ، فبعث يستهديها طعاماً ، حتى فعل ذلك غير مرة ، فلما أكثر عليها ، بعثت إليه :رأيت العشق يكون في القلب ويفيض إلى الكبد ، ثم يستبطن الأحشاء ، وحبّك لا أراه تجاوز المعدة.
قال أعرابيّ من فزارة : عشقت امرأة من طّي ، فكانت تظهر لي مودّة ، فو الله ما جرى بيني وبينها شئ من ريبة ، غير أني رأيت بياض كفها ليلة ، فوضعت كّفي على كفها ، فقالت : مه! لا تفسد ما صلح ، فأرفضضت عرقا من قولها ، فما عدت لمثل ذلك.
قال بعضهم : الرجل يكتم بغض المرأة أربعين يوماً ، ولا يمكنه أن يكتم حبها يوماً واحدا ، والمرأة تكتم حب الرجل أربعين يوماً ، ولا يمكنها أن تكتم بغضه يوما واحداً.
قال يوسف بن هرون :
دقّت معاني الحبّ عن أذهانهم ... فتأوّلوها أقبح التأويل
وقال كثيرّ :
إذا ما رادت خلّةً أن تستميلنا ... أبينا وقلنا الحاجبية أوّل
وقال حبيب :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكّنا
لعلىّ بن الجهم :
يا سائلي ما الهوى اسمع إلى صفتي ... الحّب أعظم من وصفي ومقداري
ماء المدامع نار الشوق تحدره ... فهل سمعت بماءٍ فاض من نار
وقال أبو العتاهية :
أذاهب الهوى جسمي ولحمي وقوّتي ... فلم يبق إلاّ الروح والجسد النضو
رأيت الهوى حجر الغضا غير أنّه ... على كلّ حال عند صاحبه حلو
وقال آخر :
أسرّ الذي بي والدموع تبوح ... وجسمي سقيم والفؤاد قريح
وبين ضلوعي لوعة لم أزل بها ... أذوب اشتياقاً والفؤاد صحيح
وقال الصّمّة القشيري :
أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكريك ما كفكفت للعين مدمعا
فقالت : بلى والله ذكراً لو انّه ... يصبّ على صمّ الصفا لتصدّعا
وأكثرهم ينسون إليه في هذا الشعر قوله :
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت ... مزارك من ليلي وشعبا كما معا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً ... وتجزع أن داعي الصّبابة أسما
بكت عيني اليسرى فلمّا زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكر أيّام الحمى ثم أنثي ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا
فليست عشيّات الحمى برواجعٍ ... إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
ومهم من ينسبها إلى قيس بن ذريح ، وللمجنون أيضا تنسب ، والأكثر أنّها للصّمّة.
/باب في وصف النساء بالحسن والرقة وما يحمد من نعوتهن، ووصف منطقهن قال أنس بن مالك: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره في حجة الوداع، ومعه نساؤه، وكان له حادٍ يحدو بهن يقال له أنْجَشةَ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أنجشة رفقاً! رويداً بالقوارير " . يعني أنهن ضعاف يسرع إليهن الكسر، ولا يقبلن الجبر.
ذكر أعرابي امرأة، فقال: كاد الغزال يكونها لولا ماتم فيها ونقص منه.
وصف أعرابي النساء، فقال: ظعائن في سوالفهن طول، غير قبيحات العطول، إذا مشين أسبلن الذيول، وإذا ركبن أثقلن الحمول.
كتب الحجاج بن يوسف إلى محمد أخيه، وهو أمير على اليمن: أن اخطب على ابني امرأة حسناء من بعيد، مليحة من قريب شريفة في قومها، ذليلة في نفسها، أمة لبعلها. فكتب إليه: قد أصبتها لك، وهي خولة بين مسمع، على عظم ثدييها. فكتب إليه: إن المرأة لا يحسن صدرها حتى يعظم ثدياها.
قال المهلب: عليكم من بنات خراسان بمن عظمت هامتها، وطالت قامتها.
قال محمد بن حسين: عليكم بذوات الأعجاز فإنهن أنجب.
كان يقال: إذا طال ساعد المرأة وعنقها وساقها لم يشك أنها تنجب.
قيل لأعرابي: أي النساء أفضل؟ قال: الطويلة السالفة، الرقيقة الرادفة، العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، التي في حجرها غلام، وفي بطنها غلام، ولها في الغلمان غلام.
وصف علي بن أبي طالب رضى الله عنه امرأةً، فقال: تدفئ الضجيع، وتروى الرضيع. يعني بعظم ثدييها.
قال ابن شبرمة: سمعت محمد بن سيرين يقول: ما رأيت على رجل لباساً أزين من فصاحة، ولا رأيت لباساً على امرأة أزين من شحم.
كان يقال: لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال: أقوم العوج.

وقال مصعب بن الزبير: المرأة فرش فاستوثروا.
كان يقال: من تزوج امرأة فليستجد شعرها، فإن الشعر أحد الوجهين.
كان يقال: النساء لعب فتخيروا.
من الأمثال السائرة: لن تعدم الحسناء ذاماً.
وقالوا: عقل المرأة في جمالها، وجمال الرجل في عقله.
وصف رجل امرأة فقال: كأن عينيها السقم لمن رآها، وكلامها البرء لمن ناجاها.
قال أشهب بن عبد العزيز. سئل مالك بن أنس: أيسلم الرجل على المرأة؟ فقال: أما المتجالّة فلا بأس، وأما التي كلامها أشهى من الرطب فلا.
وقال سحنون: سمعت أشهب يقول: المكيات أخنث النساء، والمدنيات أغنج النساء.
وشبه الأخطل كلام امرأة بعقد انقطع فتحدر لؤلؤه، فقال:
قد يكون بها سلمى تُحَدّثني ... تَسَاقُطَ الْحَلْيِ حاجاتي وأَسْرَارِي
وقال القطامي:
فهن يَنْبِذْنَ من قولٍ يَصِبْن به ... مواقعَ الماء من ذي الغُلَّةِ الصّادِي
وقال الراعي:
لهنَّ حديثٌ فاترٌ يترُك الفَتَى ... خفوقَ الْحَشَا مُسْتَهلَكَ اللُّبِّ طامِعاَ
وقال أعرابي:
وحديثها كالقَطْرِ يسمعُهُ ... راعى سِنينَ تتابَعَتْ جَدْبَا
فأصاخ يرجو أن يكون حَياً ... ويقولُ من فرحٍ هيا رباَّ
وفي رواية أخرى:
فأصاخ مُسْتَمِعاً لِدَرَّتِها
وقال جِرَانُ العَوْد:
حَديثٌ لو أنّ اللّحمَ يصلى بحرِّه ... غَرِيضاً أتى أصحابَه وهو مُنْضَجُ
وقال بشار:
كأنّ حديثَها سكَرُ الَّشراب
ولبشّار أيضاً:
وحديثٍ كأنه قطعُ الرّو ... ضِ وفيه الحمراءُ والصفراءُ
وله:
وكأنّ تحتَ لِسَانِها ... هاروتَ ينفثُ فيه سِحراَ
وكأنّ رجْعَ حديثها ... قِطَعُ الِّرياض كسينَ زَهْرا
وله:
ولها مَبْسِمٌ كغُرِّ الأقَاحي ... وحديثُ كالوَشْيِ وشْىِ الْبُرُودِ
وقال علي بن العباس الرومي:
وحديثُها السِّحْرُ الحلالُ لو أنّه ... لم يَجْنِ قتلَ الْمُسْلِمِ المتحرِّزِ
وإن طال لمُ يمْلَلْ وإن هي أوْجَزتْ ... ودّ المحدِّث أنها لم تُوجِزِ
شَرَكُ العقول ونُهْزَهٌ ما مِثْلُها ... للمطمئن وعُقلة المستوفز
وقال امرؤ القيس:
وهي هيفاءُ لطيفٌ خصْرُها ... ضخمةُ الثِّدْي وَلمّا ينكسرْ
وقال المرار بن سعد الجبلي:
صَلْتَةُ الخَدّ طويلٌ جيدُها ... ضخمةُ الثّدْيِ ولمّا يَنْكَسِرْ
وقال غيره:
موسومةُ بالحسن ذات حواسدٍ ... إنّ الحسان مَظَنةٌ للحُسَّدِ
وترى مَآقِيَها تقلِّبُ مُقْلَةً ... سوداءَ ترغبُ عن سَوَاد إحد
وقال آخر:
إن النّساءَ رياحينٌ خلقنَ لَنا ... وكلنا يَشتهى شمَّ الرَّيَاحِينِ
وقال آخر:
ونحن بَنْو الدُّنْيَا وهنّ بَنَاتُها ... وعيشُ بنى الدُّنيا لقاءُ بَناتِها
وقال حسان بن ثابت:
لو يدبُّ الحَوْلِيُّ من وَلَدِ الّذ(م) ... رِّ عليها لأدمَأَتْها الكُلُومُ
الحولي من ولد الذر لا يعرف من المسن، وإنما أراد الصغير من ولد الذر، كما قال الآخر:
يُلَقَّطُ حَوْلِيُّ الحصا من منازِلٍ ... من الحيِّ أمست بالجَبِيبَيْنِ بَلْقَعَا
وحولي الحصا صغارها، فشبهه بالحولي من ذوات الأربع.
وقال حميد بن ثور:
منعمةٌ لو يًصْبح الذَّرُّ سارياً ... على جلدها بَضَّت مَدَارِجُهُ دَمَا
وقال عمر بن أبي ربيعة:
لو دَبّ ذَرٌّ فوق ضَاحِي جِلْدِها ... لأبَان مِنْ آثارهن حُدُورَا
وقال آخر:
من القاصَرات الطَّرْفِ لو دب مُحْوِلٌ ... من الذَّرِ فوق الإتْبِ منها لأثّرا
وقال الحسنُ بن هانئ:
وكأن مَنْثُور رُمَّانٍ بوجنتها ... لو دبَّ فيها خيالُ الذَّرِ لا نجرها
وقال النظام:
رقَ فلو دبَّ به نملةٌ ... لخضبّتُه بدمٍ جاَرِى
أُضمرُ أن أضمرَ حبِّي له ... فيشتكى إضمارَ إضماري
وبلغ قول النظام هذا أبا الهذيل، فقال: لقد رقّ هذا الموصوف حتى لا يناكُ إلا بزب الوهم.

وأخذ ابن الرومي قول النظام، فقال:
رقّ فلو دبّ به ذرةٌ ... منعَّلةٌ أَرْجُلها بالحريرِ
لأثّرت فيه كما أثّرت ... مَدَامَةٌ في العارض المستدير
قال بعض حكماء أهل الأدب، كمال حسن المرأة أن تكون أربعة أشياء منها شديدة البياض، وأربعة أشياءٍ شديدة السواد، وأربعة أشياء شديدة الحمرة، وأربعة أشياء مدورة، وأربعة واسعة، وأربعة ضيقة، وأربعة رقيقة، وأربعة عظيمة، وأربعة صغاراً، وأربعة طيبة الريح. فأما الأربعة الشديدة البياض. فبياض اللون، وبياض العين، وبياض الأسنان، وبياض الظفر.
وأما الأربعة الشديدة السواد، فشعر الرأس، والحاجبين، والحدقة والأهداب.
وأما الشديدة الحمرة: فاللسان، والشفتان، والوجنتان، واللثة.
وأما المدورة: فالرأس، والعين، والساعد، والعرقوبان.
وأما الواسعة: فالجبهة، والعين، والصدر، والوركان.
وأما الضيقة: فالمنخران، والأذنان، والسرة، والفرج.
وأما الصغار: فالأذنان، والفم، واليدان، والرجلان.
وأما الرقاق: فالحاجب، والأنف، والشفتان، والخصر.
وأما الطيبة الريح: فالأنف، والفم، والأبط، والفرج.
وأما العظيمة: الهامة، والمنكبان، والأضلاع، والعجز.
أنشد ابن أبي طاهر لشريك الجعدي:
ولو كنتُ بَعْد الشَّيْبِ طالبَ صَبوَةٍ ... لأَصْبَى فؤَادِي نِسْوَة بِحُلاَحِلِ
عفيفاتُ أسْوَارٍ بَعِيدَاتُ ريبةٍ ... كثيراتُ إخْلافٍ قليلاتُ نائلِ
تعلَّمْنَ والإِسْلاَم فيهن والتقى ... شَوَاكِلَ من علمِ الذّين ببَابلِ
مِراضُ العُيون في احْمِرار مَحَاجِرٍ ... طوالُ المتونِ راحجاتُ الأسَافِلِ
هضيماتُ ما بين الَّترائب والحشَا ... لِطَافُ البُطونِ ظامِئاتُ الخلاخِلِ
تعوضن يوم الغيدِ من جَدَل المَهَا ... عيوناً وأعناقَ الظباءِ العَواطلِ
كأن ذُرَا الأنْقَاءِ من رَمْلِ عَالِجٍ ... خَبَتْ وَالْتَقَتْ منهنّ تحت المفاصلِ
ولدعبل بن علي الخزاعي:
له منظر وَطْفٌ ومنسدل وحفُ ... ومبتسم يحيى إذا قتل الطّرفُ
وللظَّبى عينَاه وللدًّرِّ ثغرُه ... وَللقُضُبِ الأعْلى وللكُثُب الرِّدْفُ
ظلمتُكَ لما قلتُ أشْبَهَكِ الخِشْفُ ... أو القمرُ المعدود من شهره النصف
ولكنك الُّنورُ المركبُ جوهراً ... من الحُسْن لم يبلغ له الوهُم وَالوصفُ
أنشدني أبو عمر يوسف بن هَرون لنفسه:
بحتُ بُحبِّي ولو غَرَامِي ... ويكونُ في صخرةٍ لَباحاَ
ضيَّعْتمُ الرُّشْدَ من مُحبٍّ ... ليسَ يَرَى في الَهَوى جُنَاحاَ
لم يستطع حَمْلَ ما يُلاقى ... فشقَّ أثْوابَهُ وَصَاحاَ
مُحيِّرَ المقلَتْين قل لِى ... هل شَرِبَتْ مُقْلَتَاكَ رَاحاَ
نَفْسيِ فدى لَمٍ وخدٍّ ... قد جَمَعَا اللَّيْل والصبَّاَحاَ
وَعَقْرَبٍ سُلِّطَتْ عَلَيْنا ... تَملأُ أكبادَنا جِراحاَ
قد طارَ من شوقِهِ فؤادي ... فصارَ شَوْقِي له جَنَاحاَ
أنشدني أبو القاسم محمد بن نصير الكاتب لنفسه:
لَثَاتُك ياقوتٌ وَثَغْرُك لُؤْلؤ ... وريقُك شهدٌ والنَّسيِمُ عَبيِرُ
ومن وَرَقِ الْوَرْدِ الجنيِّ مُقَبَّلٌ ... تَرَشُّفُهُ عند المماتِ نشُورُ
وخدُّكَ وردُ الرَّوضِ والصّدغ عَقْربٌ ... وطرْفكَ سحرٌ والمجسُّ حريرُ
وحاجبُك المَقْرُون نونان صُفِّفَا ... وقد لاح سَوْسَانٌ عليه نضيرُ
وشعرُكَ ليلٌ فاحُم اللونِ حالكٌ ... ووجهْكَ بدرٌ تحت ذاكَ مُنِيرُ
وأنفُك من دُرًّ مذَابٍ مركّبٌ ... وجيدُك جيدُ الظّبْيِ وهو غريرُ
وصدرُك عاجٌ أبيضُ اللون مشرِقٌ ... ورُمّانُ كافورٍ عليه صَغِيرُ
ومن فضةٍ بيضاءَ كَفّاك صِيغَتَا ... ولكنْ بمحِّمر العَقِيق تشيرُ

وقدُّك غصنٌ حين هبَّت به الصبَّاَ ... وردْفكَ دعصٌ للرمال وثيرُ
وتخطو على أنبوبتين حًكاَهما ... من النخل جُمَّارٌ يجذّ؟ُ قشير
وتحتهما مشطان رَخْصاَنِ دَلّها ... عُقُولَ ذوى الألْبَابِ حين تدورُ
ودَلُّكَ سحرٌ يَخْلِسُ العقل فاتنٌ ... ولفظُك دُرٌّ إن نطقت نشيرُ
فمالك في الدُّنيا من الناسِ مُشبْهٌ ... ولاَلَكَ في حوُر الجنان نظيرُ
وهذا الشعر من أحسن ما قاله متقدم أو متأخر في عموم وصف المرأة وأجمعه وأطبعه إن شاء الله تعالى، على أن هذا الوصف معدوم.

باب النظر إلى الوجه الحسن
قال الله عز وجل " قُلْ للمُؤْمِنين يَغُضُّوا من أبْصاَرِهم " ، " وقلْ للمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ من أبصاَرِهِنّ " .
ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس وهو رديفه، عام حجة الوداع، من النظر إلى الخثعمية، وصرف وجهه عنها.
ومنع بعض أصحابه الدخول عليه من أجل صفية زوجته، وقال لهم: إنها صفية.
ومنه امرأتين من نسائه من النظر إلى ابن أم مكتوم، فقالتا: أليس أعمى؟ فقال: أفعمياوان أنتما؟.
قال عقيل بن علفة: لأن ينظر إلى ابنتي مائة رجل خير من أن تنظر هي إلى رجل واحد.
نظر أبو حازم بن دينار إلى امرأة حسناء ترمى الجمار أو تطوف بالبيت، وقد شغلت الناس بالنظر إليها لبراعة حسنها، فقال لها: أمة الله! خمري وجهك، فقد فتنت الناس، فهذا موضع رغبةٍ ورهبة. فقالت له: إحرامي في وجهي أصلحك الله يا أبا حازم، وأنا من اللواتي قال فيهن العرجي:
من اللاّءِ لم يَحْجُجْنَ يبغين حِسْبةً ... ولكنْ ليقْتُلْن التَّقَّى المُغَفّلاَ
فقال أبو حازم لأصحابه: تعالوا ندع الله ألا يعذب هذه الصورة الحسنة بالنار، فقيل له: أفتنتك يا أبا حازم، فقال: لا، ولكن الحسن مرحوم.
هكذا روينا هذا الخبر عن أبي حازم من وجوه بألفاظ مختلفة ومعنى متقارب.
وذكر المدائني عن عبد الله بن عمر العمري، قال: خرجت حاجاً فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلامٍ أرفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها، وقلت: يا أمة الله! ألست خاجة؟ أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا، ثم قالت: تأمل يا عمري، فإني ممن عناه العرجي بقوله:
أماطت كِساَءَ الخزّ عن حُرِّ وجهها ... وأدْنَتْ على الخدين بُردْاً مُهَلهْلاَ
من اللاّءِ لم يَحْجُجْنَ يبغين حِسبَةً ... ولكنْ ليقتُلْنَ البريءَ المغَفّلاَ
وترمى بعينيها القلوبَ ولحظِها ... إذا ما رَمَتْ لم تُخْط منهن مَقْتَلاَ
قال: فقلت: فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار، قال: وبلغ ذلك سعيد بن المسيب؛ فقال: أما والله لو كان من أهل العراق، لقال: اغربي قبحك الله، ولكنه ظرف عباد أهل الحجاز.
قال عبد الله بن طاهر:
وجه يدلُّ الناظرين ... عليه في اللّيلِ البَهِيمْ
فكأنه روحُ الحَيا ... ةِ يَهْبُّ مِسْكيّ النسيمْ
في خدِّه ورد الجَمَا ... لِ يُعَلُّ من ماءِ النعيمْ
سقْمُ الصّحيح المُستَقِلِّ ... وصحة الرَجُلِ السَّقيم
نظر رجلان إلى جارية حسناء في بعض طرق مكة فمالا إليها فاستسقياها ماءً، لسقتهما فجعلا يشربانه ولا يسيغانه فعرفت ما بهما فجعلت تقول:
هما استسقيا ماءً على غير ظمأة ... ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما
فعجبا من ذلك ودفعا الإناء إليها فمرت وهي تقول:
وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبَتْكَ المناظرُ
رأيتَ الذي لا كلّه أنت قادرٌ ... عليه ولا عَنْ بعضهِ أنت صابر
وقال آخر:
خليليَّ للبغضاء عينٌ مُبيِنَةٌ ... وللحبِّ آياتٌ تُرَى ومعارفُ
ألا إنّما العينانِ للقلبِ رَائدٌ ... فما تألفُ العينانِ فالقلبُ يألفُ
يحبُّ ويُدْنِى من يقلُّ خلافُهُ ... وليس بمحبوبٍ حبيبٌ مخالفُ
قال آخر:
ومَالَكَ منها غير أنَك رائدٌ ... بعينيْك عينيها فهلْ ذاكَ نافِعُ

دخل الشعبي على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا شعبي! بلغني أنه اختصم إليك رجلٌ وامرأته، فقضيتَ للمرأة على زوجها، فقال فيك شعراً، فأخبرني بقصتيهما وأنشدني الشعر إن كنت سمعته. فقال: يا أمير المؤمنين! لا تسألني عن ذلك. فقال: عزمت عليك لتخبرني. قال: نعم، اختصمت إلى امرأة وبعلها، فقضيت للمرأة إذ توجه لها القضاء، فقام الرجل وهو يقول:
فُتِن الشّعْبيُّ لّما ... رَفَعَ الطَّرْفَ إليها
بفتاةٍ حين قامتْ ... رفَعَتْ مَأكَمَتَيْها
ومشت مشياً رُوَيْداً ... ثم هزّت مِنْكبَيْها
فتنتهُ بقوامٍ ... وبخطَّىْ حاجبيها
وبنانٍ كالمَدَارِي ... واسْودادِ مُقْلتَيْها
قال للجِلْوَازِ قَرّب ... هَاوأحْضِر شاهديْها
فقضى جوراً علينا ... ثم لم يَقْضِ عَلَيها
كيف لو أبْصر منها ... نحرَها أو سَاعِدَيها
لصَباَ حتى تَرَاهُ ... ساجداً بينَ يَدَيْها
بنتُ عيسى بن حَرادٍ ... ظُلِمَ الخَصْمُ لَدَيْها
قال عبد الملك: فما صنعت يا شعبي؟ قال: أوجعتُ ظهرهَ حين جوّرني في شعره.
هذا ما رواه سفيانُ بن عيينة، عن سالم بن أبي حفصة، عن الشعبي، وهو أصح إسنادٍ لهذا الخبر. وذكر الهيثم بن عدي، قال: خاصمت أم جعفر بين عيسى بن حراد زوجها إلى الشعبي، فلما قامت بين يديه، قيل لها: ما صعنت؟ قالت: سألني البينة، ومن سأل البينة فقد فلج، ثم قضى لها، فقال هذيل الأشجعي:
فنن الشّعبىّ لما ... رفع الطرفَ إليها
وذكر الأبيات: وفي رواية الهيثم بن عدي: أن الشعر لهذيل الأشجعي فيها، فبلغ ذلك الشعبي، فقال: أبعده الله، ما قضينا إلا بحق. قال الهيثم: فحدثني ابن أبي ليلى، قال: خرجنا مع الشعبي من المسجد، وقد قام من مجلس القضاء، فمررنا بجارية تغسل في إجانة فلما رأت الشعبي قالت:
فُتن الشّعبيّ لما
فقال الشعبي:
رفع الطّرفَ إليها
خاصم الوليد بن صريع، مولى عمرو بن حريث، أخته أم كلثوم ابنة صريع إلى عبد الملك بن عمير، قاضي الكوفة، وكان يقال له: القبطي، لفرسٍ كان له فقضى لها على أخيها، فقال هذيل الأشجعي:
لقد عثرَ القبطيُّ أو زَلَّ زلةً ... وما كان منه لا العثارُ ولا الزّللْ
أتاه وليدٌ بالشُّهودِ يقودُهُمْ ... على ما ادّعَى من صامتِ المالِ والخَوَلْ
يقودُ إليه كلْثُماً وكلاُمها ... شفاءٌ من الدَّاءِ المخامرِ والخَبَلْ
فأدْلى وليدٌ عند ذاك بحجةٍ ... وكان وليدٌ ذا مِراءٍ وذا جَدَلْ
وكان لها دَلٌّ وعينٌ كحيلةٌ ... فأدْلَتْ بحُسنِ الدَّلِّ منها وبالكَحَلْ
فأفْتنَت القبطيَّ حتّى قضى لها ... بغيرِ قضاءِ الله في مُحْكَم الطُّوَلْ
فلو أنّ من في القصرِ يعلمُ علْمَه ... لما اسْتَعملَ القبِطيَّ يوماً على عَمَلْ
له حين يقضي للنساء تَخَاوُصٌ ... وكان ومات فيه التخَاوص والحَوَلْ
إذا ذاتُ دَلٍّ كلمتهُ بحاجةٍ ... فهمَّ بأنْ يقضى تَنَحْنَح أو سَعَلْ
وبرّقَ عينيه ولاكَ لسانَهُ ... ويَرَى كل شيءٍ ما خلا شخصَها خَلَلْ
فبلغ ذلك عبد الملك بن عمير، فقال: ما لهذيل أخزاه الله؟ والله لربما جاءتني النحنحة أو السعلة وأنا في المتوضأ فأردها مخافة ما قال.
لعبد الله بن سليمان النحوي المكفوف:
تقولُ من للعمى بالحُسْن قلتُ لَها ... كَفَى عَن الله في تحقيقهِ الخبرُ
القلبُ يُدرك مالا عينَ تدركُهُ ... والحُسْنُ ما استحسنتْه النفس لا البَصرُ
وما العيونُ التي تعمى إذا نظرَتْ ... بل القلوبُ التي يَعْمىَ بها النظرُ
وقال أيضاً ينقُضه:
ما إن يُمتِّع بالمعشوقِ عاشِقَهُ ... سمعٌ إذا لم يمتّعْهُ به البَصرُ
وكل قلبٍ له حبٌّ يقلبه ... وأعذب الحبِّ ما أحباكه النظرُ

ولو تكافي الهوى مرأى ومستعماً ... لما تبَاينَت الأصواتُ والصورُ
أنشد إسحق بن إبراهيم لعمر بن أبي ربيعة في محمد بن عروة بن الزبير، وكان جميلاً:
إني امرؤٌ مُولَعٌ بالحسن أتبعُه ... لاحظَّ لي فيه إلاّ لذةُ النظرِ
وقال محمود الوراق:
من أطلق الطَّرْفَ اجتنى شَهْوَةً ... وحارس الشَّهوةِ غضُّ البَصَرْ
والطّرْفُ للقلبِ لسانٌ فإنْ ... أرادَ نطقاً فليكرَّ النَّظَرْ
يُفْهَمُ بالعينِ عن العينِ ما في الْ ... قلبِ من مكنونِ خيرٍ وشَرْ
يَطْوِي لسانُ المرءِ أَخبارَه ... والطرفُ لا يملكُ طيَّ الخَبرْ
وقال آخر:
لا تكثرنَّ تأمُّلاً ... وامْلِكْ عَلَيْك عنانَ طَرْفِكْ
فَلرُبَّما أرسلتَه ... فَرَمَاكَ في ميدانِ حَتْفِكْ
وقال أعرابي:
نظرتُ إليها نظرةً ما يَسرُّنِي ... وإِنْ كنت محتاجاً بها ألفُ دِرْهَمِ
قال شيخ من بني نمير: نظرت إلى مولدةٍ باليمامة، فقالت: ملأت عينيك وملك غيرك.
وقال ذو الرمة:
على وجهِ مَيٍّ مِسْحةٌ من مَلاَحَةٍ ... وتحتَ الثِّيابِ العارُ لو كان باَدياَ
ألم ترَ أنّ الماءَ يخبُثُ طعمهُ ... ولو كان لونُ الماءِ أَبيضَ صافياَ
وقال بعض الأعراب:
جزى الله البراقعَ من ثيابِ ... عن الفتيانِ شراً ما بَقِيناَ
يوارينَ الملاَحَ فلا أرَاها ... ويوهِمْنَ القِبَاحَ فيزْدَهيِناَ
وقال آخر:
لقد أعجبَتْها نفسُها فتملّحت ... بأيِّ جمالٍ ليتَ شِعْرِى تَمَلَّحُ
وقال إسماعيل القراطيسي:
وقد أتانِي خبرٌ راعني ... مِنْ قولِها في السِّرِّ واضَيْعَتَاهْ
أمثلُ هذا يبتغى وصلنَا ... أما يرى ذا وجهْهَ في المرَاهْ
وقال عباس بن الأحنف:
هَمّتْ بإتيانِنا حتّى إذا نظرتْ ... إلى المِرَاةِ نهاها وجههُا الحَسَنُ
ما كان هذا جزائِي من مَحاسِنِهَا ... أغَرتْ بي الشَّوْق حتى شفَّني الشَّجَنُ
كان يقال: أربعة تزيد في البصر: النظر إلى الوجه الحسن، وإلى الخضرة وإلى الماء الجاري، والنظر في المصحف.
دخل الشعبي سوق الرقيق، فقيل له: هل من حاجة؟ فقال: حاجتي صورة حسنة، يتنعم فيها طرفي، ويلتذ بها قلبي، وتعينني على عبادة ربي.
أدام إبراهيم النظام النظر إلى جاريةٍ حسناء، فقال مولاها: أراك تديم النظر إليها، فقال: مالي لا أتأمل منها ما أحل الله، وفيه دليل على حكمة صنعة الله، ومعه اشتياق إلى ما وعد الله.
قال الحسن البصري: ينبغي للوجه الحسن ألا يشين وجهه بقبيح فعله وينبغي لقبيح الوجه ألا يجمع بين قبيحين.
قال الشاعر:
إنّ حُسْنَ الوجهِ يحتا ... جُ إلى حُسْنِ فِعَال
حاجةَ الصَّادِي من الما ... ءِ إلى العَذْبِ الزَّلاَلْ

باب جامع ذكر النساء وتزويج الأكفاء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدُّنيا كلها متاع، وخير متاع الدُّنيا المرأةُ الصالحة " .
ويروى أن داود عليه السلام قال لابنه سليمان: يا بني! إن المرأة الصالحة كمثل التاج على رأس الملك، والمرأة السوء كمثل الحمل الثقيل على ظهر الشيخ الكبير.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرأة كالضلع العوجاء؛ إن رفقت بها استمتعت منها " أخذه الشاعر فقال:
هي الضِّلَعُ العوجاءُ لستَ تُقِيمُها ... ألاَ إنّ تقويمَ الضلوعِ انكسارُها
قيل لبعض الأعراب: من تركت عند نسائك؟ فقال: حافظين: الجوع والعري، عرين فلا يظهرن، وجعن فلا يأشرن.
مما أوصى به محمد بن عبد الله بن حسين ابنيه، فقال: واعلما أن لن تسقط امرأة واظبت على ثلاث خلال: الماء والسواك والكحل فعليكما بهن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن. قالوا: وما خضراء الدمن؟ فقال: المرأة الحسناء في المنبت السوء " . شبهها بنبات أخضر نضر نبت على دمنة، وهي الأبعار والأبوال تبلبل بعضها على بعض.

قال معاذ بن جبل: أخوف ما أخاف عليكم النساء، إذا تسورن الذهب، ولبسن عصب اليمن، ورباط الشام، فأتعبن الغنىّ وكلفن الفقير مالا يجد.
قال سمرة بن جندب: سمعت عمر بن الخطاب يقول: النساء ثلاث والرجال ثلاثة: امرأة عاقلة مسلمة عفيفة هينة لينة ودود ولود، تعين أهلها على الدهر، ولا تعين الدهر على أهلها، وقليلا ما تجدها. وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك، وأخرى غلٌ قملٌ يجعله الله في عنق من يشاء، ثم إذا شاء أن ينزعه نزعه.
وذكر الرجال بما قد ذكرته في باب ثلاثة.
قال منصور الفقيه:
أفضلُ ما نال الفَتَى ... بعد الهُدَى وَالْعَافِيَهْ
قرينةٌ مُسْلمِةٌ ... عفيفةٌ موَاتَيهْ
ذكر ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: قالوا: النساء خلقن من ضعف، فداووا ضعفهن بالسكوت، وعوراتهن بالبيوت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تُنكح المرأة لمالها وحسبها وجمالها ودينها، فعليك بذوات الدين تربت يداك " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالأبكار؛ فإنهن أطيب أفواهاً، وأرتق أرحاماً، وإياكم والعجائز " .
وروي عنه عليه السلام أنه قال: " أعظم النساء بركةً أحسنهنّ وجوها، وأرخصهن مهوراً " .
وروي عنه عليه السلام أنه قال: " ترفقوا ولا تطلقوا، وانكحوا الأكفاء واختاروا لنطفكم، فإن العرق دساس " .
كان يقال: إياكم ومناكحة الحمقاء، فإن صبحتها أذى ومناكحتها أذى " .
قال أبو الأسود لبنيه: يا بني! قد أحسنت إليكم صغاراً وكباراً، وقبل أن تولدوا، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: التمست لكم من النساء الموضع الذي لا تعابون به.
وشوور بعض الحكماء في تزويجٍ، فقال للمشاور: يا ابن أخي! إياك أن تزوج لأهل دناءةٍ أصابوا من الدنيا، فإنك تشركهم في دناءتهم، ويستأثرون عليك بدنياهم. قال: فقمت عنه وقد اكتفيت بما قال لي.
كان يقال: لا تسترضعوا الحمقاء؛ فإن اللبن ينزع بالشبه إليها.
قال عمر بن الخطاب: لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، واستعينوا عليهن بالعرى.
قال عمر بن الخطاب رحمه الله: استعيذوا بالله من شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر.
وقال أيضاً: عليكم بالسراري؛ فإنا رأيناهن يأخذنَ بعز العرب وملك العجم.
قال علي بن أبي طالب: خيرُ نسائكم الطيبة الرائحة، الطيبة الطعام، التي إن أنفقت أنفقت قصدا، وإن أمسكت أمسكت قصدا، فتلك من عمال الله، وعامل الله لا يخيب.
قال علي بن أبي طالب: من أراد البقاء - ولا بقاء - فليخفف الرداء، وليباكر الغداء، وليقل مجامعة النساء. قيل له: وما خفة الرداء؟ قال: الدين. ثم قال: المرء بجدّه والسيف بحدّه، والثناء بعد البلاء.
قال عمرو بن العاص: الناكح مغترس، فلينظر امرؤ حيث يقع غرسه.
قال المغيرة بن شعبة: صاحب المرأة الواحدة امرأة مثلها، إن بانت بان معها، وإن حاضت حاض معها، وإن مرضت مرض معها، وصاحب المرأتين على جمرتين، وصاحب الثلاث على رستاق، وصاحب الأربعة كل ليلةٍ عروس، أخذه الشاعر فقال:
وصاحبُ ضرتَّينِ على الليالي ... كما قد قيل بين الْجَمْرَتَيْنِ
رضَا هذِى يُهيَجّ سُخْط هَذِى ... فما يَعْرَى من إحدَى السُّخْطَتين
دخل أعرابي على الحجاج فسمعه يقول: لا تكمل النعمة على المرء حتى ينكح أربع نسوة يجتمعن عنده، فانصرف الأعرابي فباع متاع بيته، وتزوج أربع نسوة، فلم توافقه منهن واحدة، خرجت واحدة حمقاء رعناء، والثانية متبرجة، والثالثة فارك أو قال فروك، والرابعة مذكرة، فدخل على الحجاج فقال: أصلح الله الأمير، سمعت منك كلاماً أردت أن تتم لي به قرة عين؛ فبعت جميع ما أملك، حتى تزوجت أربع نسوةٍ، فلم توافقني منهن واحدة، وقد قلت فيهن شعراً، فاسمع مني، قال: قُل. فقال:
تزوجتُ أبغي قُرّةَ العينِ أربَعا ... فياليتَ أنّى لم أكن أتزوَّجُ
وياليتنى أَعْمَى أصمُّ ولم أكُنْ ... تزوجتُ بل ياليت أنى مُخَدَّجُ
فواخدةٌ ما تعرفُ الله ربَّها ... ولا ما التُّقَى تدري وَلا ما التَّحرُّجُ
وثانيةٌ ما إن تقرَّ ببيتها ... مذكّرة مشهورة تتبرَّجُ
وثالثة حمقاءُ رَعْنَا سخيفةٌ ... فكل الذي تأتي من الأمر أعوجُ

ورابعةٌ مفروكةٌ ذاتُ شِرَّةٍ ... فليستْ بها نفسي مَدَى الدهر تُبْهَجُ
فهنَّ طلاقٌ كلُّهُن بوائنُ ... ثلاثاً ثلاثاً فاسْهَدُوا لا تلجلجوا
فضحك الحجاج حتى كاد يسقط من سريره، ثم قال له: كم مهورهنّ؟ قال: أربعة آلاف درهم. فأمر له بثمانية آلاف درهم.
قال أكثم بن صيفي لبنيه: يا بني لا ينكبنكم جمال النساء عن صراحة النسب، فإن المناكح الكريمة مدرجة للشرف.
روى أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر: أن عبد الله بن رواحة وقع على جارية له، فاتهمته امرأته، فقال: ما فعلت. فقالت: فاقرأ القرآن إذاً. فقال:
وفينا رسولُ اللهِ يتلوُ كتابَهُ ... كما انشقّ مشهورٌ من الصبح سَاطِعُ
أتانا الهُدى بعد العَمى فقلوبُنَا ... به موقنات أن ما قال واقعُ
يبيتُ يجافى جنبه عن فِرَاشه ... إذا استثقلَتْ بالهَاجعينَ المضاجعُ
فقالت: أولى لك. وفي رواية أخرى في هذه القصة أنها لما قالت له: فاقرأ إذاً شيئاً من القرآن، قال:
سمعتُ بأنّ وعدَ الله حقٌّ ... وأن النَّار مثوى الكاَفِرِينا
وأن العرشَ فوقَ الماءِحقٌّ ... وفوقَ العرشِ ربُّ العالَمِينا
قالت: ما شاء الله! كذبت عيني، وأنت الصادق. أو نحو هذا.
قال المغيرة بن شعبة: إذا كان الرجل مذكراً والمرأة مذكرة تصادما العيش، وإذا كان الرجل مؤنثا والمرأة مؤنثة ماتا هزلاً، وإذا كان الرجل مؤنثاً والمرأة مذكرة كان الرجل هو المرأة، والمرأة هي الرجل، وإذا كان الرجل مذكراً والمرأة مؤنثة طاب عيشهما.
قال الحسن: إياكم وسمنة البنات، فإن كنتم لابد فاعلين، فاحفظوهن.
قال إياس بن معاوية: من يمن المرأة الولد، ومن بركتها مياسرتها في المهر.
كان يقال: لا تزوج كريمتك إلا من عاقل، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها أنصفها.
قال غيره: لا تزوج وليتك إلا من ذي دين، فإن أحبها أحسن إليها، وإن أبغضها لم يظلمها.
روى أبو العباس عن الأصمعي قال: قال أعرابي لامرأته: صفيني بما تعلمي مني ولا تكتمي. فقالت: أما والله إن كنت لخفيفاً على ظهر الفرس، ثقيلاً على العدو، ضحوكاً مقبلا، كسوباً مدبراً، لا تشبع ليلة تضاف، ولا تنام ليلة تخاف.
وعن الأصمعي أيضاً، قال: هلك رجل من العرب، فقيل لامرأته: صفي بعلك، فقالت: والله إن كان - فيما علمت - لضحوكاً إذ ولج، كسوباً إذا خرج، آكلا ما وجد، غير سائلٍ ما فقد.
قال الأصمعي، قال الحسن: كان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة تقول: ما حسبه، وما حسبها؟ فلما جاء الإسلام، قالوا: ما دينه، وما دينها؟ وأنتم اليوم تقولون: ما ماله، وما مالها؟.
قال الشاعر:
لا يأمننَّ على النساءِ أخٌ أَخَا ... ما في الرجالِ على النساءِ أَمينُ
إن الأمينَ وإنْ تحفّظَ جَهْدَهُ ... لابدّ أنّ بنظرةٍ سيخونُ
قيل لبعضهم: ما تقول في الباه؟ قال: عندي ما يقطع حجتها، ولا يقضي حاجتها.
قيل لمدني: ما عندك من هذا الأمر؟ قال: إن منعت غضبت، وإن تركتُ عجزت.
قيل لآخر: ما عندك للنساء؟ قال: أطيل الظمأ، ثم أرد فلا أشرب.
مرت بعيسى بن موسى جاريةٌ، فقام إليها فصرعها، فلما رامها عجز عنها فقال:
القلبُ يطمعُ والأسبابُ عاجزةٌ ... والنفسُ تهلكُ بين العجزِ والطمع
كان يقال: لعن كل فاجر عند الجماع!!.
قالوا: لذة المرأة على قدر شهوتها، وغيرتها على قدر محبتها.
تزوج رجل - وهو روح بن زنباع - أم جعفر بنت النعمان بن بشير، زوجها له عبد الملك بن مروان، وقال: إنها جارية حسناء، فاصبر على بذاء لسانها، فصحبها ثم أبغضها. فمن قوله فيها:
ريحُ الكرائِم معروفٌ لَهَا أَرَجٌ ... وريحُها ريحُ كلبٍ مسَّهُ مطرُ
وقد هجته هي أيضاً، فمن قولها فيه:
بكى الخَزُّ من رَوْحٍ وأنكرَ جلْدَهُ ... وعجَّتْ عجيباً من جُذامَ المطارِفُ
قال بعض الأعراب:
من منزلي قد أخْرجتنِي زوجَتِي ... تهرُّ في وجْهِي هَرِيَر الكلبةِ
زُوِّجتُها فقيرةً منْ حِرْفَتِي ... قلتُ لها لمّا أراقَتْ جَرَّتِي

أمّ هلالٍ أبْشري بالحسرةٍ ... وأبْشري منّي بوقع الضرّةِ
خطب النوار بنت أعين بن ضبعة المجاشعية رجل من قيس، فجعلت العقد عليها إلى الفرزدق، وكان أبوها قتلته الخوارج أيام الحكمين، وكان علي رضى الله عنه بعثه إلى البصرة، فقال لها الفرزدق: أشهدي لي أنك جعلت أمرك إلى فإني أخاف من هو أقرب إليك مني من أوليائك. فأشهدت له. فأنكحها الفرزدق من نفسه، وأشهدهم، فلم ترض النوار، فتنازعا. فخرجا إلى عبد الله بن الزبير، وكان العراق والحجاز يومئذ إليه. فتشفعت النوار يومئذ بخولة بنت منظور بن زبان الفزاري، وتشفع الفرزدق بابنها حمزة بن عبد الله بن الزبير، فأنجحت خولة وشفّعها زوجها ابن الزبير وقال الفرزدق: لا تقربها حتى تصير إلى البصرة فتحكم معها إلى عاملي بها، فقال الفرزدق:
أمّا بِنوه فلم يقبلْ شفاعَتَهمُ ... وشّفعوا بنتَ منظورِ بنِ زَبَّانَا
ليس الشفيعُ الذي يأتِيكَ مُئْتَزراً ... مثلَ الشفيعِ الذي يأتيك عُرْيَانَا
خطب العريان بن الهذيل البرجمي امرأةً، فكان أصم وكانت عوراء، فقالت: تسأل عنا ونسأل عنك، فقال:
فإن تسألِى عنّا وَعَنْكِ فإنَّنا ... كِلانَا به داءٌ أصمَّ وأعْورَا
فقالت: أمّا إذ عرفت الداء فاجلس، فبعثت إلى وليها فزوجها إياه.
قال الأصمعي:قيل لأعرابي: من لم يتزوج امرأتين لم يذق لذة العيش، فتزوج امرأتين ثم ندم، فقال:
تزوجتُ اثنتين لفرطِ جَهْلي ... بما يَشْقَى به زوجُ اثنتين
فقلتُ أصِيرُ بينهما خروفاً ... أنَّعم بين أَكرمِ نعجتينِ
فصرتُ كنعجةٍ تُمْسِى وتُضْحِى ... تَرَدَّدُ بين أخبثِ ذئبتينِ
رضى هَذِى يهيّجُ سُخطْ هذى ... فما أعْرَى من إحدى السّخْطتينِ
وأَلْقَى في المعيشة كلَّ بُوسٍ ... كذاك المرءُ بين الضّرَّتينِ
لَهذِى ليلةُ ولتلك أُخرْى ... عِتابٌ دائمٌ في الليلتينِ
وقال الغزال:
إن الفتاةَ وإن بَدَا لك حبهُّا ... فبقلبها داءٌ عليكَ دفينُ
وإذا ادّعين هوى الكبير فإنّما ... هو للكبير خديعةٌ وقُرُونُ
وإذا رأيتَ الشيخَ يهوىَ كاعباً ... فَعَلَيْه من دركِ القُرُون دُيُونُ
وقال الغزال أيضاً:
أنا شيخٌ وقلتُ في الشيخ مَا يَعْ ... لمُه كلُّ أبْلهٍ وذَهِينِ
كلُّ شيخ تراه يكثر من كس ... ب الجوارِي فخذه لي بالقرونِ
قال الأحنف بن قيس: إذا أردتم الحظوة عند النساء فأفحشوا في النكاح، وأحسنوا الأخلاق.
قيل لأعرابي: ما تقول في نساء طيى؟ قال: إذا شئت. قيل: فما تقول في نساء ضبة؟ قال: نك ودحرج.
روى عن النبي عليه السلام أنه قال: " النساء حبائل الشيطان " .
قال معاوية: ما رأيت منهوماً في النساء إلا رأيت ذلك في ضعف منته.
قال عبد الملك: من أراد النجابة فبنات فارس، ومن أراد النكاح فبنات البربر، ومن أراد الخدمة فالروميات.
قال سعيد بن المسيب: ما عرفنا أولادنا حتى عرفنا بنات فارس.
قال أبو هلال الراسبي: جاء رجل إلى أهله بجزر، فقال: يا هذه! اطبخيه أو اشويه وكليه، فإن المطبوخ جيد للبطن، والمشوي جيد للظهر، والنِّئ جيد للجماع، قالت: ليس عندنا نار فكله.
غاضب رجلٌ امرأته ثم ترضاها، فلجت فكابرها حتى جامعها، فقالت: أخزاك الله، كلما وقع بيني وبينك شيء جئتني بشفيع لا يمكنني رده.
قال الشاعر أيمن بن خريم:
لقيتُ من الغانياتِ العُجَابَا ... لو أدركَ منى العَذَارى الشَّبابَا
ولكنّ جِمَاعُ العذاري الحِسَانِ ... عذابٌ شديدٌ إذا المرءُ شاباَ
يُرَضْنَ بكلِّ عَصَا رائضٍ ... ويُصْبحْنَ كلَّ غداةٍ صِعَاباَ
عَلاَمَ يكَحِّلْن حور العُيونِ ... ويُحْدثْنَ بعد خَضابٍ خِضَاباَ
ويبرُقْنَ إلاّ لما تَعْلَمُون ... فلا تحْرِمُوا الغانياتِ الضّراباَ
فلو كلْتَ بالمُدِّ للغانياتِ ... وظاهَرْتَ بعد الثيابِ الثياباَ

ولم تُنِلْهُنّ من ذاك قُرْباَ ... كأنَّك حَدَّثْتَهُنّ الكذَابَا
إذا لم يُخَالَطْنَ كلَّ الخِلاَ ... طِ أصْبَحْنَ مُخْرَ نْطِماتٍ غِضاباَ
يميتُ العتابَ خِلاَطْ النساءِ ... ويُحْيى اجتنابُ الخلاطِ السّبَاباَ
قضى سلمان بن ربيعة على رجل بأن يأتي امرأته في كل أربع ليلة، فرضى ذلك عمر، وجعله قاضياً بالكوفة، وخبره مشهور قد ذكرناه في مواضع.
وروى يعقوب بن طلحة، وإسحق بن محمد السني أن عمر بن الخطاب شكت إليه امرأة أن زوجها لا يأتيها إلا في كل طهر مرة، فقال لها: ليس لك غير ذلك ولا كرامة.
روى عن أبي هريرة، وبعضهم يرويه مرفوعاً: أنه قال: فضلت المرأة على الرجل بتسعةٍ وتسعين جزءاً من اللذة، أو قال من الشهوة، ولكن الله ألقى عليهن الحياء.
قال المأمون: النساء شر كلهن، وشر ما فيهن قلة الاستغناء عنهن.
قال غيره: الصبر عنهن أهون من الصبر عليهن.
قال معاوية: هن يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام.
كان يقال: النكاح فرح شهر، وغم دهر، ووزن مهر، ودق ظهر.
ودخل معاوية بن أبي سفيان على ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد، ومعه خديج الخصى فاستترت منه، فقال لها معاوية: إن هذا بمنزلة المرأة، فعلام تستترين منه. فقالت: كأنك ترى المثلى به أحلت له مني ما حرم الله.
كان محمد بن حسين يقول: اللهم ارزقني امرأة تسرني إذا نظرت، وتطيعني إذا أمرت، وتحفظني إذا غبت.
قالت أسماء بنت أبي بكر: النكاح رق النساء، فلتنظر المرأة عند من تضع رقها.
ضرب عبد الملك بن مروان بعثاً إلى اليمن، فأقاموا سنين، جنى إذا كان ذات ليلة وهو بدمشق، قال: والله لأعسن الليلة مدينة دمشق، ولأسمعن ما يقول الناس في البعث الذي غربت فيه رجالهم، وغرمت فيه أموالهم. فبينما هو في بعض أزقتها إذا هو بصوت امرأة قائمة تصلي، فتسمع إليها، فلما انصرفت إلى مضجعها قالت: اللهم يا غليظ الحجب، ويا منزل الكتب، ويا معطي الرغب، ويا مؤدي الغرب. أسألك أن ترد غائبي، فتكشف به همي، وتصفي به لذتي، وتقر به عيني، وأسألك أن تحكم بيني وبين عبد الملك بن مروان الذي فعل بي هذا، فقد صير الرجل نازحاً عن وطنه، والمرأة مقلقةً على فراشها، ثم أنشأت تقول:
تطاول هذا اللّيلُ فالعينُ تدمَعُ ... وأَرّقني حُزْنِي وقلبِيَ مُوجَعُ
فبتّ أقاسي الليلَ أرعَى نجومَهُ ... وباتَ فؤادي هامداً يتفزّعُ
إذا غابَ منها كوكبٌ في مغيِبهِ ... لمحتُ بعيني آخراً حين يطلعُ
إذا ما تذكرتُ الذي كان بينَنَا ... وجدتُ فؤادي للهَوَى يتقطّعُ
وكلُّ حبيبٍ ذاكرٌ لحبيبِهِ ... يرَجِّى لِقاهُ كلّ يومٍ ويطمعُ
فذا العرشِ فُرج ما ترى من صَبابتي ... فأنت الذي ترعى أموري وتسمعُ
دعوتُك في السّراءِ وَالضُّرِّ دعوةً ... على غُلة بين الشراشيف تلْذَعُ
فقال عبد الملك لحاجبه: تعرف لمن هذا المنزل؟ قال: نعم، هذا منزل زيد بن سنان. قال: فما المرأة منه؟ قال: زوجته. فلما أصبح سأل كم تصبر المرأة عن زوجها؟ قالوا: ستة أشهر. فأمر ألا يمكث العسكر أكثر من ثلاثة أشهر.
قال سليمان بن داود صلى الله عليهما: يا بني! لا تكثر الغيرة على أهلك من غير ريبة، فترمى بالشر من أجلك وإن كانت بريئة.
قال طفيل الغنوي:
إنّ النساءَ كأشجارٍ نَبَتْنَ معاً ... منها المُرَارُ وبعضُ المرِّمأ كولُ
إن النساءَ متى يُنْهَيْنَ عن خُلُقٍ ... فإنّه واجبٌ لابدَّ مفعولُ
وجد صبي منبوذ في بعض مساجد أصفهان، ومعه صرة فيها مائة دينار، ورقعة مكتوب فيها: هذا جزاء من لا يزوج ابنته.
كان رجل من أهل الشام مع الحجاج بن يوسف يحضر طعامه، فكتب إلى أهله يخبرهم بما هو فيه من الخصب، وأنه قد سمن، فكتبت إليه امرأته:
أُتُهدى ليَ القرطاسَ والخبزُ حاجتي ... وأنتَ على بابِ الأميرِ بطينُ
إذا غبتَ لم تذكْر صديقاً وإن تُقِمْ ... فأنت على ما في يديك ضنينُ
فأنت ككلبِ السُّوءِ جوَّعَ أَهلَه ... فيهزلُ أهلُ البيت وهو سمينُ

لأبي عيينة المهلبي في رجل من قومه، تزوج امرأة قد تزوجت قبلة مائة زوج فماتوا عنها:
رأيتَ أثاثها فرغبت فيه ... وكم نصبتْ لغيرك بالأثاث
إلى دارِ المنُون فرحّلَتْهم ... بأجنحةٍ تطيرُ بهم حِثاثِ
فصيّر أمرَها بيديّ كَميْا ... أبثُّ حبالها لك بالثلاثِ
وإلاّ فالسلامُ عليك مِنّى ... سآخذُ من غدٍ لك في المراثيِ
قال إسحاق الموصلي، أنشدني ابن كناسة لنفسه:
لقد كان فيها للأَمانِة موضعٌ ... وللسِّرِّ كتمانٌ وللعينِ منظرُ
فقلت: ما بقى؟ فقال: أين الموافقة.
قال ابن المقفع: وطءُ العجوز وأكل القديد يهرم.
قال الشاعر:
لا تَنكِحَنّ عجوزاً إن دَعَوْكَ لها ... ولو حَبَوْكَ على تزويجها الذَّهَبَا
وإنْ أَتَوْك فقالوا: إنّها نَصَفُ ... فإنّ أَطيبَ نصفيها الَّذي ذَهَبَاَ
كتب رجل إلى صديق له نكح عجوزاً:
أمسكتَ نفسَكَ حتى إذا ... أتيتَ على الخمسِ والأرْبَعيِنَا
تزوجتَها شارفاً فَخْمَةً ... فَلاَ بالرِّفَاءِ ولا بالبنينَا
فلا ذاتُ مالٍ تزوجْتَها ... ولا ولدٍ تَرْتجي أن يكوناَ
بِهَا أبداً فالتمسْ غيرها ... لعلَّك تُعْطَى بَغثٍ سميناَ
قال دعبل، ويقال: إنها لأبي دلف:
تعجَّبَتْ إذ رأتْ شيبي فقلتُ لها ... لا تعجبي، من يطل عمرٌ بهِ يُشِبِ
شيبُ الرجالِ لهم زينٌ وَمكْرُمةٌ ... وشيبُكُنّ لكنَّ الويلُ فاكتئبي
فينا لكنَّ وإن شيبٌ بدا أربٌ ... وليس فيكنّ بعد الشيب من أَرَبِ
ولبعض الأعراب:
عجوز تُرَجّى أن تكونَ صبيهً ... وقد شابَ منها الرأسُ واحدودب الظهر
تَدُسُّ إلى العطار ميرةَ أَهلِهَا ... وَهَلْ يصلح العطارُ ما أفسد الدهر؟
وقال امرؤ القيس:
أراهُنّ لا يُحْبِبْنَ من قلَّ مالُه ... ولا مَنْ بدا في عارضَيْهِ مشيبُ
وقال آخر:
كَفَاكَ بالشيب ذنباً عند غانيةٍ ... وبالشَّبَابِ شفيعاً أيُّها الرَّجُلُ
وقال الأعشى:
وأرى الغوانِي لا يُواصلن امْرَءا ... فقد الشبابَ وقد يَصِلْنَ الامْرَدَا
وقال علقمة بن عبدة:
فإن تسألُوني بالنساءِ فإنّني ... بصيرٌ بأدواء النساءِ طبيبُ
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه ... فليس له في وُدِّهِنّ نصيبُ
يُردْنَ ثراءَ المالِ حيثُ علمنَهُ ... وشرخُ الشبابِ عندَهُنّ عجيبُ
قال منصور الفقيه:
إذا ما استحَرَّ ولم يتَّسِعْ ... ولم يكُ رَطْباً ولا يابساً
وحلَّ وأمكَنَ من نفسِهِ ... فنبِّه له جَارَكَ النّاعِساَ
وقال منصور النمري:
ما واجه الشيبَ من عين وإن وَمِقَتْ ... إلاّ لها نبوةٌ عنه ومرتَدعُ
وقال حبيب:
أحْلى الرجالِ من النساءِ مواقعاً ... من كان أشبههم بهنّ خُدودَا
وقال آخر:
أرى شيب الرجال من الغوانِي ... بموقع شيبهنّ من الرّجَالِ
شاورَ رجلٌ رجلا في النكاح، فقال له: إيّاك والجمالَ الفائق، فإن الشاعر قال:
ولن تصادِفَ مرعًى مُونقاً أبداً ... إلاّ وجدتَ به آثارَ مأكُولِ
قال آخر:
لا تأمنَنْ أُنْثى حبَتَك بودّها ... إن النساءَ ودادُهُنّ مُقَسَّمُ
اليومَ عندك دَلُّهَا وحديثُها ... وغداً لغيِرك كفَهُّا والمعصمُ
وقال ابن هبيرة:
يا راعى الذَّودِ لا تَرْحل لِمكْرُمَةٍ ... إنّ القلاصَ إذا ما غَابَ رَاعيها
لم يَثْنِها أَحدٌ دون الفحولِ فلا ... تهملْ قلوصَكَ إمّا كنت تَحميِها
ولا تَلمُهَا على وِرْدٍ وقد ظَمِئَتْ ... لو شئتَ أَرْوَيْتها إذْ كنتَ سَاقيِها
احُظرْ مشاربَها، واحففْ جوانبهِا ... وارْمُمْ مذاهِبَها، تسلم قَوَاصِيها

خليّتَها لفحولٍ غير فاخرةٍ ... في كلَ برِيَّةٍ قفْرٍ فَيَافِيها
حتى إذا أَخْدَجَت في كل منزلةٍ ... بكيتَ، أبْكى إلهي عينَ مُبْكيِها

باب الأمثال السائرة في النساء
لا تحمد الحرة عام هدائها، ولا الأمة عام شرائها.
من ينكح الحسناء يعط مهراً.
من يمدح العروس إلا أهلها؟.
لكل فتاة خاطب، ولكل أمر طالب.
كل ذات دل تختال.
كاد العروس أن يكون أميراً.
وليس لمخضوب البنان يمين.
لا تسد الثغور بالمحصنات.
قال الشاعر:
كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا ... وعلى المُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وهذا الشعر لعبد الرحمن بن حسان، وذلك أنه كانت عند المختار بن أبي عبيد امرأتان، إحداهما أم ثابت بنت سمرة بن جندب، والأخرى عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري، فعرضهما مصعب على البراءة من المختار، فأما بنت سمرة فتبرأت منه فخلاها، وأما الأنصارية فامتنعت فقتلها، فقال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ذلك:
إنّ من أعجبِ العَجائبِ عِندِي ... قتلُ بيضاءَ حرةٍ عُطبولِ
قُتِلَتْ باطلاً على غير جُرْمٍ ... إن للهِ دَرَّهَا من قتيلِ
كُتبَ القتلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانياتِ جَرُّ الذُّيولِ
النساء بالنساء أشبه من الماء بالماء، ومن الغراب بالغراب، ومن الذئاب بالذئاب. كل غانية هند.
نعم لهوُ المرأة المغزل.
البياض نصف الحسن، والعجيزة أحد الوجهين.
لا عطر بعد عروس. أخذه الشاعر فقال:
من كان يبكى لِمَا بِي ... من طولِ وَجْدٍ رَسيِسِ
فالآنَ قبلَ وفاتِي ... لا عِطْرَ بعد عَرُوسِ
العوان لا تعلم الخمرة.
لما زوج أسماء بن خارجة ابنته، دخل عليها ليلة بنائها، فقال: يا بنية، إن كان النساء أحق بتأديبك، ولا بدّ من تأديبك، كوني لزوجك أمةً يكن لك عبداً، ولا تقربي منه جداً فيملك أو تمليه، ولا تباعدي عنه فتثقلي عليه، وكوني له كما قلت لأمك:
خُذِي العَفْوَ منّى تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سوْرَتِي حينَ أغضبُ
ولا تَنْقٌرِيني نَقْرَةَ الدُّفِّ مَرَّةً ... فإنّك لا تدرِين كيفَ الْمُغَيّبُ
فإنّي رأيتُ الحبّ في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يَلْبث الحبُّ يذهبُ
بابُ اللّباس
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحريرُ حلالٌ لباسهُ لإناث أمتي، حرامٌ على ذكورها " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّما يلبس الحريرُ من لا خلاق له في الآخرة " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لبس ثوبَ شهرةٍ وعزةٍ في الدنيا أكسبه الله ثوب مذلة يوم القيامة " .
سئل عمر بن الخطاب عن لبس الحرير للنساء، فقال: هن لعبكم؛ فزينوهن بما شئتم.
وروى مرفوعاً أيضاً: " من ليس منظوراً، وركب مشهوراً، لم يزل الله عنه معرضاً، وإن كان عليه كريماً " .
قال عبد الله بن عمر: من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه وإن كان ولياً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما أسفل من ذلك في النار، لا ينظر الله عزّ وجل إلى من جرّ ثوبه خُيَلاَء " .
ولما ذكر الإزار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت أم سلمة: إذاً ينكشف عنها. قال: " فذراعٌ لا تزيد عليه " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كم من كاسيةٍ في الدنيا، عاريةٍ يوم القيامة " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " كاسياتٌ عاريات، مائلاتٌ مميلاتٌ، لا يدخلن الجنة ولا يجدنَ ريحها " وريحها يوجد من مسيرة خمس مائة عام.
كان يقال: كل من الطعام ما اشتهيت، وألبس من الثياب ما اشتهى الناس.
نظمه الشاعر، فقال:
إن العيونَ رَمَتْك مُذ فَاجَأتَهَا ... وعليك من شَهْرِ اللِّباسِ لباسُ
أمّا الطعامُ فكلْ لنفسك ما اشتهتْ ... واجعل لباسَك ما اشتهاه الناسُ
ويروى:
أمّا الطعام فكل لنفسك ما اشتهتْ ... والبس لباساً يَشْتهيه الناسُ
وقال هلال بن العلاء الرقي:
أجِدِ الّثيابَ إذا اكتسيتَ فإنّها ... زينُ الرجالِ بها تُهاب وتُكْرَمُ

ودع التَّواضُعَ في اللّباس تحرّياً ... فاللهُ يعلم ما تجنُّ وتكتمُ
فَدَنِىّ ثوبِك لا يزيدُك زُلْفَةً ... عند الإله وأنت عبدٌ مُجْرمُ
وبهاءُ ثوبِك لا يضرُّك بعد أنّ ... تخشى الإله، وتَتّقى ما يَحْرُمُ
كان بكر بن عبد الله المزني، يقول: البسوا ثياب الملوك، وأميتوا قلوبكم بالخشية.
وقال الحسن: إن قوماً جعلوا خشوعهم في لباسهم، وكبرهم في صدورهم، وشهروا أنفسهم بلباس هذا الصوف، حتى إن أحدهم بما يلبس من الصوف أعظم كبراً من صاحب المطرف بمطرفه.
قال الوليد بن مزيد: كان الناس عندنا يلبسون الأردية، وكان الأوزاعي يلبسها، فترك الناس لبسها ولبسوا السيجان، فرأيت الأوزاعي قد ترك لبس الأردية ولبس الساج، فقلت له: يا أبا عمرو! كنت تلبس الأردية فتركتها ولبست الساج، فما الذي دعاك إلى ذلك، فقال: يا ابن أخي! رأيت الناس يلبسون الأردية فلبستها معهم، وتركوها فتركتها معم، ولبسوا السيجان فلبست معهم، ولو عادوا إلى الأردية لعدت معهم.
قال سفيان بن حسين: قلت لإياس بن معاوية: ما المروءة؟ قال: أما في بلدك فالتقوى، وأما حيث لا تعرف فاللباس.
روى بقية عن الأوزاعي، قال: بلغني أن لباس الصوف في السفر سنة، وفي الحضر بدعة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم، يحب من الألوان الخضرة ويكره الحمرة، ويقول: " هي زينة السلطان " .
قال مالك بن الأشتر لعلي بن أبي طالب: تمام جمال المرأة في خفها، وتمام جمال الرجل في عمامته.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسامة بن زيد في بعض السرايا فعممه بيده وسدل طرف عمامته.
قيل لأعرابي: إنك لتديم لبس العمامة؟ قال: إن عضواً فيه السمع والبصر لحقيق أن يوقى من الحر والقر.
روى عن النبي عليه السلام، أنه قال: " الشعر الحسن كسوة الله، فأكرموه " .
وقال عليه السلام لأبي قتادة: " رجل جمتك وأحسن إليها وأكرمها " .
قال أبو هريرة: إذا كان في الرجل ثلاث فهو الكامل، إذا فخر في المجلس وأحسن جوابات الكتب، وأحسن كور العمامة.
روى الرياشي وأبو حاتم عن الأصمعي، قال: ألا أدلك على لباس إن لبسته كان سريا، وإن رفعته كان بهيا، وإن ذخرته كان طرياً؟ قال: نعم. قال: عليك بالتقوى. قال: ألا أدلك على خليلٍ إن صحبته صانك، وإن احتجت إليه مانك، وإن تجرت به أربحك، وإن ترحلت به حملك؟ قال: نعم. قال: عليك بالأدب. ثم قال: ألا أدلك على بستانٍ تكون منه في أكمل روضة، وميت يخبرك عن المتقدمين، ويذكرك إذا نسيت، ويؤنسك إذا استوحشت، ويكف عنك إذا سئمت؟ قال: نعم. قال: عليك بالكتاب.
قالت ابنة العوام أخت الزبير لزوجها حكيم بن حزام - وكان كثير المال - : مالك لا تلبس لباس الناس اليوم؟ قال: وما تنكرين من لباسي، وإزاري قطري، وردائي مغافري، وقميصي سابري، وعمامتي خرقانية.
نظر بعض الأمراء إلى رجلٍ في أطماره فازدراه، فقال له: أصلحك الله، لا تنظر إلى هيئتي، ولكن انظر إلى همتي، فأنا - والله - كما قال عبد الله بن زياد:
فإنْ أَكُ قَصْداً في الرجالِ فإنّني ... إذا حلَّ امرؤٌ ساحتي لجسيمُ
وكما قال الآخر:
لا تنظرنّ إلى الثيابِ فإنّني ... خَلِقُ الثَّيَاب، من المُروءةِ كاَسِي
أنشد ثعلب:
وإنما الشّعر عقلٌ أنت تَعْرِضه ... على المجالس إنْ كَيْساً وإن حُمُقا
وإنّ أشعرَ بيتٍ أنت قائُلهُ ... بيتٌ يقالُ إذا أنشَدتَه صَدَقا
البس جديدَك إنّي لابسٌ خَلَقي ... ولا جديدَ لمن لا يلبسُ الخَلَقا
قال عبد الله بن المبارك: مخامر الرجال في اللحى والأكمام، ومخامر النساء تحت القمص.
وأنشد غير واحد للشافعي رحمه الله تعالى:
علّى ثيابٌ لو تباعُ جميعُها ... بفَلْسٍ لكان الفَلْسُ منهنّ أكثّرا
وفيهنّ نفسٌ لو يقاسُ ببعضها ... نقوسُ الورى كانت أجلَّ وأكبراَ
وأخذ هذا المعنى ابن أبي الفضل البصري الشاعر يخاطب المتنبي، فقال:
لئن كان ثوبي فوقَ قيمته الفَلْسُ ... فلي فيه نفسٌ دون قيمتها الإِنسُ
فثوبُك بدر تحت أنواره دُجًي ... وثوبَي ليلٌ تحتَ أطمارِه شمسُ
وسبق إلى هذا المعنى ابن هرمه، فقال:

قد يدركُ الشرفُ الفَتَى وردَاؤُهُ ... خَلَقٌ وجَيبُ قميصِهِ مرقوعُ
كان القاسم بن محمد يلبس الخز، وسالم بن عبد الله يلبس الصوف، وكانا يتجالسان في المجلس ويتحدثان الدهر، لا ينكر واحد منهما لباس صاحبه.
نظر ابن المبارك ببغداد إلى رجل عليه ثياب صوف لا تخالطها غيرها، فقال من هذا؟ فقيل له: هذا أبو العتاهية الشاعر، فكتب إليه ابن المبارك:
أيُّها القارئ الذي لبس الصُّو ... ف وأضحى يُعَدُّ في العُبّادِ
الْزَمِ الثَّغْرَ والتعبُّدَ فيهِ ... ليس بغدادُ موضعَ الزُّهَّادِ
إن بغدادَ للملوكِ محلٌّ ... ومناخ للقارئ الصَّيَّادِ
وقال محمود الوراق:
تصَوَّف فازْدَهَي بالصُّوف جَهْلاً ... وبعضُ النّاسِ يَلْبَسهُ مَجاَنَه
يُريكَ مَهَانَةً ويُجِنّ كِبْراً ... وليس الكبر من شكل المَهَانَه
تصنّع كيْ يُقال له أمين ... وما معنَى التَّصَنُّع للأَمَانْه
ولم يردِ الإلَه به ولكنْ ... أرادَ به الطريقَ إلى الخيَانَهْ
وقال آخر:
وثياب المرء جِلْوا ... زٌ له بَيْنَ يديَهْ
وقال آخر:
لا يعجبنّك من بَصُون ثيابَهُ ... حَذَرَ الْغُبَارِ وَعِرْضُهُ مَبْذولُ
ولربّما افتقرَ الفتى فرأيَتهُ ... دنسَ الثيابِ وعِرْضُهُ مَغسُولُ
أنشدني إبراهيم بن محمد، قال: أنشدني أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي لنفسه في أبي مسلم ابن فهد الهذلي الإشبيلي، وذكر حكاية عرضت له معه:
أبا مُسْلم إنّ الفَتَى بجَنَانِهِ ... ومِقْوَلِهِ لا بالمراكبِ واللُّبْسِ
وليسَ ثيَابُ المرءِ تُغْنِى قُلاَمةً ... إذا كان مقصوراً على قِصَرِ النَّفْسِ
وليس يُفيدُ العلمَ والحلمَ والُّتقى ... أبا مُسْلمٍ طولُ القُعود على الكُرْسِي
ولا تُبْتني العليا بكأسٍ وقينةٍ ... وصهباءَ لم تَنْغَرْ بها القِدْرُ كالوَرْسِ
أعيَّرْتَني أن لم أفرِّه مَطِيَّتي ... وأنّ ثيابِي غيرُ بيضٍ ولا مُلْسِ
فربَّ ثيابٍ رثّة حشوُها فتىً ... أجدُّ مُمِرٌّ غيرُ فَسْلٍ ولا نِكْسِ
وآخرُ بَرَّاقُ الثيابِ وعِرْضُهُ ... من العَارِ والتَّدْنِيسِ رجِسٌ عَلَى رِجْسِ
فإمَّا تَهوُلَنْكَ البغالُ فإنّها ... منوّعةٌ عند اليّهُوديِّ والقَسِّ
قال رجل للحسن بن أبي الحسن: يا أبا سعيد! إنا قد وسع الله علينا أفنناك من كسوة وعطر ما لو شئنا اكتفينا بدونه، فما نقول؟ قال: أيها الرجل! إن الله قد أدب أهل الإيمان فأحسن أدبهم، قال تعالى: " ليُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ، ومَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فلينفِقْ مما آتاهُ اللهُ " ، وإن الله ما عذب قوماً أعطاهم الدنيا فشكروه، وما عذر قوماً زوى عنهم الدنيا فعصوه.
روى عن لقمان الحكيم، أنه قال: التقنع بالليل ريبة، وبالنهار مذلة. وقد روى هذا عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم.
قال رجل لإبراهيم النخعي: ما ألبس من الثياب؟ فقال: مالا يشهرك عند العلماء، ولا يحقرك عند السفهاء.

باب المراكب من الخيل وغيرها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة، الأجرُ والمغتم " .
وقد ذكرنا في الآثار الثابتة في الخيل وفضلها، وفضل رباطها، والأجر في اكتساب ذلك، في كتاب - التمهيد - ما فيه شفاء، وإشراف على المعنى والحمد لله.
كان يقال: لا تقودوا الخيل بنواصيها فتذلوها، ولا تجزوا أعرافها فإنها أدفاؤها، ولا تجزوا أذنابها فإنها مذابُّها. وقد روى هذا الكلام مرفوعاً.
قال عمر بن الخطاب: عليكم بإناث الخيل، فإن بطونها كنز، وظهورها حرز. وقد روى هذا مرفوعاً أيضاً.
قال علي بن أبي طالب: الخيل المطلب والمهرب.
قال ابن عباس رضى الله عنه:
أحبُّوا الخيل واصْطبروا عَلَيْها ... فإنّ العزَّ فيها والَجمَالا
إذا ما الخيلُ ضَيّعها رجالٌ ... رَبَطْنَاها فشاركتِ العِيَالا

نُقاَسُمها المعيشةَ كلَّ يومٍ ... ونكسوها البراقِعَ والجِلاَلاَ
قال الحسن البصري: الجفاء مع أذناب الإبل، والذلة مع أذناب البقر، والسكينة مع أذناب الغنم، والعز مع نواصي الخيل وقد روى بعض هذا مرفوعاً. قال خالد بن صفوان: الخيل للرغبة والرهبة، والبراذين للدعة، والبغال للسفر البعيد والأثقال، والإبل للتحمل، والحمير للزينة وخفة المؤونة.
ساير شبيب بن شيبة بعض الأمراء، وهو على برذون، والأمير على فرس، فقال له الأمير: سِر، فقال: كيف أسايرك وأنت على فرس، إن تركته سار، وإن حركته طار، وأنا على برذون، إن تركته وقف، وإن ضربته قطف. فأمر له بفرس فاره.
قيل لأعرابي: صف لنا فرسك. قال: سوطه عنانه، وهمه أمامه، وما ضربته قط إلا ظالماً له.
بعث الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك بفرس، وكتب إليه: قد وجهت إليك بفرس حسن المنظر، محمود المخبر، أسيل الخد، رشيق القد.
قال بعض الحكماء: أكرم الخيل أجزعها من الضرب، وأكرم الصفايا أشدها ولها إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدها حنيناً إلى أوطانها، وأكرم المهار أشدها ملازمة لأمهاتها.
للحسن بن يسار:
يا فارساً تَرْهَبُ الفرسانُ صَوْلَتَهُ ... أما عَلمِتَ بأن النَّفْسَ تُفْتَرَسُ
يا راكبَ الفرسِ السّامي بغُرَّتِهِ ... ولابسَ السَّيْفِ يحكي لونَهُ القبسُ
لا أنت تبقى على سيفٍ ولا فَرَسٍ ... وليس يبقى عليك السَّيْف والفَرَسُ
وهو شعر جيد محكم، فيه مواعظ وحكم، وأوله:
إنّ الحبيبَ من الأحبابِ مُخْتَلسُ ... لا يمنعُ الموتَ حُجَّابٌ ولا حَرَسُ
قال بعض البلغاء: البغل تواضع عن خيلاء الخيل، وارتفع عن ذلّة العير، فهو وسط، وخير الأمور أوساطها.
قال ابن أبي طاهر: ما وصف برذون بأحسن من قول المسلمي من ولد مسلمة بن عبد الملك، واسمه محمد بن يزيد:
فإذا احْتَبَى قَرَبُوسَه بِعنَانِه ... عَلَكَ الشَّكيِمَ إلى انْصِرافِ الزَّائر

باب الطعام والأكل
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعجبه الذراع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيد أدام الدنيا والآخرة، اللحم " .
قال سفينة: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حباري، وقال في الضب: " لست بآكله ولا بمحرمه " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فلا تأكلوا الثوم ولا البصل، ومن أراد أكلهما فليمتهما طبخاً " .
والكراث والفجل في معنى الثوم والبصل.
قال عمر بن الخطاب: إياكم واللحم، فإن له ضراوةً كضراوة الخمر.
إنما كره الإدمان عليه، والله أعلم، لما فيه من التنعم والتشبه بالأعاجم، ألا ترى أنه كتب إلى عماله: اخشوشنوا، وإياكم والتنعم وزي العجم.
ذكر عند بعض العرب اللحم، فقال: إنه ليقتل السباع. يريد إدخال بعضه على بعض قبل تمام الهضم - والله أعلم.
خطب عمر بن الخطاب يوماً، فقال: إياكم والبطنة، فإنها مكسلة عن الصلاة، مؤذية للجسم. وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أبعد من الأشر، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة، وإن امرءًا لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
مر علي بن أبي طالب بمجلسٍ من مجالس الأنصار، فسلم عليهم، فقاموا له وحفوا به ورحبوا وقالوا: لو نزلت فأكلت من طعامنا، فقال لهم: إما حلفتم علينا، وإما انصرفنا.
قال علي بن أبي طالب: المعدة حوض البدن، والعروق واردة عليها وصادرة عنها، فإذا صحت صدرت العروق عنها بالصحة، وإذا سقمت صدرت العروق بالسقم.
قال بعض الأطباء: اللحم ينبت اللحم، والشحم لا ينبت اللحم ولا الشحم.
قال علي بن أبي طالب: الشحم يخرج مثله من المدا.
أتى عمر بن عبد العزيز بيته يوماً، فقال: هل عندكم من طعام؟ فأصاب تمراً وشرب من ماء، وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله.
قيل للشعبي: أي الطعام أحب إليك؟ قال: ما صنعه النساء، وقل فيه العناء.
قال سلمان: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نجد في التوراة أو قال في الإنجيل: البركة في الطعام غسل اليد قبله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البركة في الطعام غسل اليد قبله وبعده " .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن للطعام حقا. قيل: وما حقه يا رسول الله؟ قال: ذكر الله في أوله وحمده في آخره " .
ومن حديث على بن ثابت، عن حمزة بن أبي حمزة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نَسِى أن يُسم الله على طعامه، فليقرأ: قل هو الله أحد " .
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأكل بالشمال، والشرب بالشمال، وعن الاستنجاء باليمين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لربيبه عمر بن أبي سلمة: يا بني: " قل بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك " .
كان علي بن أبي طالب إذا دعى إلى طعام أكل شيئاً قبل أن يأتيه، ويقول: قبيح بالرجل أن يظهر نهمته في طعام غيره.
وقال رحمه الله: من أراد البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقل غشيان النساء.
قال منصور الفقيه:
قارب فديتُك إن أكلْ ... تَ وإن شربتَ وإن غَشِيتاَ
وأنا الكفيلُ لك الحيا ... ةَ بأن تعافَى ما حييتاَ
قال قيس بن أبي حازم: نزل بي أعرابي من أحمس، فلم آله تكرمةً، فقال لي: أكل الحي يجد مثل هذا الذي أرى عندك؟ فقلت: إن أخبثهم عيشاً يشبع من الخبز والتمر، فقال: أقسم بالله لئن كنت صادقاً ليوشكن أن يقتتلوا، فإن العرب - والله - ما زالت إذا شعبت اقتتلت. قال قيس: فلم ألبث إلا أربعة أشهر حتى قتل عثمان، ثم كانت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين والنهروان.
قال الشعبي: الناس في جنة الله تعالى ستة أشهر - يعني أيام الرطب.
ذكر أبو الحسن بن مقسم، قال: سمعت محمد بن مسلم الزجاج جارنا، قال: سمعت عباس الدوري، يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: لا يمل الباذنجان عاقل.
وسمعت القاضي أبا عمرو، يقول: لو علم الثور الذي يحمل الباذنجان أنه عليه، تاه على الثيران.
قلت: هذا لمن استطابه، وعذب عنده، وأما من جهة الطب، فذمه عندهم أكثر من مدحه.
قال طريح بن إسماعيل الثقفي:
دَعْ بَعْضَ أكلك ربّ آكلِ أكلةٍ ... يوماً سيلفظها إذا هُو لاكَهَا
ولبعض المتأخرين في رجل مات من أكلةٍ أكلها في شعرٍ له فيه:
يا مَنْ جنت كَفُّه على جَسَدِه ... يَرْحَمُك الله يا قَتِيلَ يَدِهْ
قال الفضيل بن عياض: خصلتان يقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
قال حميد الأرقط:
أتانا ولم يَعْدِلْه سحبان وائِلُ ... بياناً وعلماً بالّذي هو قائلُ
فما زال عنه اللقُم حتّى كأنّه ... من العيِّ لما أن تكلّمَ باقلُ
دعا عبد الملك بن مروان رجلاً إلى غدائه، فقال له قد تغديت. قال عبد الملك: ما أقبح بالرجل أن يأكل حتى لا تكون فيه بقية للطعام! فقال: يا أمير المؤمنين! بي فضل، ولكنى كرهت أن آكل فأصير إلى ما استقبح أمير المؤمنين.
قال إبراهيم النخعي: ما رأيت راكباً أحسن من زبدٍ على تمر.
قال الشاعر:
ألم تَرَ أن الزُّبْد بالتّمرِ طيبٌ ... وأنّ الحُبَاري خالةُ الكَرَوَانِ
قال عمر بن بحر: العامة لاتشك بأن الكروان ابن الحباري.
وقال آخر:
نُنَافِسُ في طيبِ الطَّعام وكلُّه ... سواءٌ إذا ما جَاوَز اللَّهَوَاتِ
دعا الحجاج رجلا إلى غدائه، فقال: قد تغدّيت. قال: إنك لتباكر الغداء قال: لخلالٍ ثلاث: إن ناجيتُ رجلا لم يجد في خلوفا، وإن شربت ماء شربته على ثقل، وإن حضرت قوماً على طعام حضرتهم ومعي بقية من غرض. فعجب منه.
قال سليمان بن عبد الملك لسالم بن عبد الله، وقد رآه حسن السحنة: أي شيء تأكل؟ قال: الخبر والزيت، وإذا وجدت اللحم أكلته. قال له: وتشتهيه؟ قال: إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيه.
قيل لأعرابي: أتحسن تأكل الرأس؟ قال: نعم. فقيل له: كيف تأكله؟ فقال: أبخص عينيه، وأسحي خديه، وأفك لحييه، وأعفص أذنيه، وأرمى بالدماغ إلى من هو أحق به مني.
قيل لبعض العقلاء: أي الطعام أطيب؟ قال: الجوع أعلم.
كان يقال: نعم الإمام الجوع، ما ألقيت إليه شيئاً إلا قبله وطاب عنده.
روى معن بن عيسى، عن مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: الخبيص يزيد في الدماغ.
وروى عن جعفر بن محمد رحمه الله، أنه قال: الخلال بعد الطعام يشد اللثات، ويجلب الرزق، ويطيب نكهة الفم.

دخل جنادة بن أبي أمية على معاوية، وهو يأكل، فدعاه إلى الأكل، فقال: أنا صائم، قلم تزل الألوان تختلف بين يدي معاوية حتى جئ بجدي محنوذ سمين، فقال جنادة: ليأمر لي أمير المؤمنين بماء أغسل يدي وآكل من هذا الجدي. فقال له: ألم تقل إنك صائم؟ قال: بلى. ولكنى على رد يوم أقدر منى على رد مثل هذا الجدي. فضحك معاوية وأمر بالماء، فغسل يده وأكل معه.
قال الحسن البصري: غسل اليد قبل الطعام ينفي الفقر. وبعد الطعام ينفي اللحم.
كان يقال: أحب الطعام إلى الله عز وجل ما كثرت عليه الأيدي.
قال أبو بكر الهذلي: إذا جمع الطعام أربعاً كمل، إذا كان حلالاً، واجتمعت عليه الأيدي، وسمى الله في أوله، وحمد في آخره.
كان يحيى بن معين يتمثل:
المالُ يَنْفدُ حِلُّهُ وحَرَامُه ... يوماً وتَبْقَى في غدٍ آثامُهُ
ليسَ التقىّ بُمّتقٍ في دِيِنِه ... حتى يَطِيب شَرابُه وطعامُهُ
قال لقمان لابنه: يا بني! لا تأكل شيئاً على شبع، فإنك إن تركته للكلب خير لك من أن تأكله.
كان الحسن بن علي رضى الله عنه، يقول: ائتونا بالخوان نأتنس به حتى يأتي الطعام.
كان لكسرى جامٌ فيه حب رمان يسف منه بين كل لونين ملعقة ليعرف اختلاف الألوان.
روى عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رجل من أهل الشام: أنعت لكم الأكل؟ قالوا: نعم. قال: إذا أكلت فابرك على ركبتيك. وافتح فاك، وأحدج عينيك، وفرج أصابعك، وعظم لقمتك، واحتسب نفسك. قال عبد الله بن دينار: ما سمعت عبد الله بن عمر يحدث بهذا الحديث قط، فبلغ قوله: واحتسب نفسك، إلا ضحك حتى بدت نواجذه.
قال أبو الهندي، وهو من ولد شبث بن ربعي:
أكلت الضِّبَاب فما عِفْتُها ... وإني لأهوى قديدَ الغَنَمْ
ورَكَّبْتُ زُبْداً على تمرةٍ ... فنعم الطعامُ ونعم الأُدُمْ
وما في البُيُوض كبيض الدجاج ... وبيضُ الجرادِ شفاء القَرَمْ
ومُكْنُ الضِّباب طعام العُرَيْبِ ... ولا تشتهيِه نفوسُ العَجَمْ
قال عمرو بن بحر: الجراد المأكول منه، ضروب: منه الأهوازي، وفيه المذنب، وأطيبه الأعرابي، وأهل خراسان لا يأكلونه. قال: والجراد الأعرابي لا يتقدمه في الطيب شيء، وما أحصى كم سمعت من الأعراب من يقول: ما شبعت منه قط، وما أدعه إلا خوفاً من عاقبته، أو لأني أعيا فأترك. قال: والجراد يطيب حاراً وبارداً ومشوياً ومطبوخاً، منظوماً في الخيط، أو مجعولا في المسلة. قال: والبيض المقدم في الطيب ثلاثة أجناس: بيض الأشبور، وبيض الدجاج، وبيض الجراد. - وبيض الجراد - فوق بيض الأشبور في الطيب؛ وبيض الأشبور فوق بيض الدجاج. قال: والجرد يؤكل يابساً وغير يابس، ويجعل إداما ونقلا. قال: وذكرت امرأةٌ الجراد، فقالت لها أخرى: كيف حبك فيه؟ قالت: والله إنه لأحب إلى من الحبل.
كان بشر بن المعتمر، خاصاً بالفضل بن يحيى، فقدم عليه رجل من مواليه - وهو أحد بني هلال - فجاء به يوماً إلى الفضل ليكرمه بذلك، وحضرت المائدة، وذكر الضب ومن يأكله، فأفرط الفضل في ذمه وتابعه القوم، ونظر الهلالي فلم ير على المائدة عربياً غيره، وغاظه كلامه، فلم يلبث أن أتى الفضل بصفحةٍ ملأى من فراخ الزنابير ليتخذ له منها بزماورد، والدبر والنحل عند العرب أجناس من الذبان، فلم يشك الهلالي أن الذي رأى من ذبان البيوت والخشوش، وكان الفضل حين ولي خراسان، قد استطرف بها بزماورد الزنابير، فلما قدم العراق كان يتشهاها، فتطلب له وتساق من كل مكان، فشمت به وأصحابه لما رأى من ذلك، وخرج وهو يقول:
وعِلْجٍ يعافُ الضَّبَّ لؤماً وبطنةَ ... وبعضُ إدامِ العِلْج هامُ ذُبَابِ
ولو أنَّ مَلْكا في الوري ناك أمَّهُ ... لقالوا له: أوتيتَ فصلَ خطابِ
قال الحسن بن هانئ:
إذا ما تميميٌّ أتاك مُفَاخِراً ... فقلْ: عَدِّ عن ذا، كيف أَكْلُكَ للضَّبّ
تفاخرُ أَبْنَاءَ الملوكِ سفاهةً ... وبَوْلُكَ يجري فوق سَاقِكَ والكَعْبِ
وقال ابن المعتز:
رأيت بيوتاً زُيِّنَت بنمارقٍ ... وزُيِّن ما فيهنَّ بالوَشْيِ والطُّرْزِ

فلم أر ديباجاً ولم أَرَ سُنْدُساً ... بأحسنَ في بيتِ الكريم من الخبزِ
وقال آخر:
فكم من أكْلةٍ مَنَعَتْ أَخَاهَا ... بلَّذةِ ساعةٍ أَكَلاَتِ دَهْرِ
وكم من طالبٍ يَسْعَى لشيءٍ ... وفيه هلاكُهُ لو كان يدرِي
قال المأمون: سبعة أشياءٍ لا تمل، أكل خبز البر، وشرب ماء العنب، وأكل لحم الضان، والثوب اللين، والرائحة الطيبة، والفراش الوطئ، والنظر إلى كل شيء حسن. فقال له الحسن ابن سهل: أين محادثة الإخوان يا أمير المؤمنين؟ قال: هن ثمانٍ وهي أولهن.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يرويه عن علي، أنه قال: لا يقام عن الطعام حتى يرفع.
قال ابن عباس: من السنة إذا دعوت أحداً إلى منزلك أن تخرج معه حتى يخرج.
روى جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، أنه قال: رب البيت آخر من يغسل يديه.
وقال أبو الزناد: من إكرام الضيف وحسن الأدب في مؤاكلته، أن تغسل يديك قبله أولا، وبعده آخراً.
لعبد الله بن المبارك، وتمثل بها المأمون:
احضر طعامَك وابْذُلْه لمن أكلا ... واحَلِفْ على من أبى، واشكرْ لمن فَعَلاَ
ولا تكن سَابريَّ العَرْضِ مُحْتَشِماُ ... مِنَ القليلِ، فلستَ الدَّهْرَ مُحْتَفِلاَ
وقال آخر في ذم الشراب:
لا تفتكنّ على الكؤوس بِشُرْبها ... فهيَ التي بكَ عن قليلٍ تَفْتِكُ
يكفيك منْها أنَّ عقَلكَ تَارةً ... يبكي عَلَيْك، وَأنَّ جَهْلك يضحكُ
وقال آخر:
وإني لأستحيي أكيلِيَ أن يَرَى ... مكانَ يدي من جانبِ الزَّاد أقْرَعَا
أبيتُ هضم الكَشْح مضطمر الحشا ... من الجُوع أحْشى الذَّمَ أن أتضَلَّعَا
وإنَّك إنْ أَعطيتَ بطنك سُؤْلَهُ ... وَفَرْجَكَ نالا مُنْتَهَى الذِّم أَجْمَعَا
وقال كعب بن سعد الغنوي:
وزادٍ رفعتُ الكفَّ عنه تَجَمُّلاً ... لأوثَر في زادِي علىَّ أكيِلي
وما أنا للقول الذَّي لَيْس نَافِعِي ... ويغضبُ منه صاحبي بَقؤُولِ

باب النوم وتصرف المعاني فيه
روى أن المسيح عليه السلام قال: خلقان أكرههما، النوم من غير سهر، والضحك من غير عجب، والثالثة وهي العظمى: إعجاب الرجل بعلمه.
قال داود لابنه سليمان عليهما السلام: إياك وكثرة النوم، فإنه يفقرك إذا احتاج الناس إلى أعمالهم.
قال لقمان لابنه: يا بني! إياك وكثرة النوم والكسل والضجر، فإنك إذا كسلت لم تؤد حقا، وإذا ضجرت لم تصبر على حق.
كتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: بلغني أنك لا تقيل، وإن الشياطين لا تقيل.
قال علي: من الجهل النوم في أول النهار من غير سهر، والضحك من غير عجب، والقائلة تزيد في العقل.
قال عبد الله بن مسعود: النوم - عند الموعظة من الشيطان - .
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: النوم على ثلاثة أوجه، نوم خرق، ونوم خلق، ونوم حمق. فأما النوم الخرق، فنومة الضحى، يقضى الناس حوائجهم وهو نائم، وأما نوم الخلق، فنوم القائلة نصف النهار، وأما نوم الحمق، فالنوم حين تحضر الصلوات.
قال غيره: نوم أول النهار خرق، ونوم القائلة خلق، ونوم العشى حمق، والنوم بين العشاءين يحرم الرزق.
قيل لأعرابي: ما يدعوك إلى نومه الضحى؟ قال: مبردة في الصيف، مسخنة في الشتاء.
قال بعض العلماء: النعاس يذهب العقل، والنوم يزيد فيه.
قال عبد الله بن شبرمة: نوم نصف النهار يعدل شربة دواء، يعني في الصيف.
قال عباس بن الأحنف:
قالوا: تنامُ، فقلت: الشّوْق يمنعُني ... من أن أنامَ وعيني حشَوها السُّهُدُ
أبكي الذَّين أذاقُوني مَوَدّتَهُمْ ... حتّى إذا أيقظوني للهوى رَقَدُوا
هم قد دَعَوْني فلما قمتُ مقتضيا ... للجبِّ نحوَهُمُ من قُرْبهم، بَعُدُوا
لأخرجنّ من الدنيا وحُبُّهُمُ ... بين الجوانِحِ لم يَشْعرْ به أحدُ
كان يقال: لإبليس لعوق وكحل وسعوط، فلعوقه الكذب، وكحله النعاس عند سماع الخير، وسعوطه الكبر.
قال علي بن الجهم، يهجو قوما:
أكثرُ ما يعرفُه القّوْمُ ... الأكْلُ والراحةُ والنّومُ

نوكي مياسيرٌ إذا عدت الْ ... أيّام لم يُعْرَف لهم يومُ
وقال آخر:
عجبتُ لطّرْفي والكَرَى إذ تنافَرَا ... وقد كانَ قبلَ اليومِ بينهُمَا وَصْلُ
كأنّ البكا أغراهُما بتفرُّقِ ... فلم يجتمعْ من بعدهِ لهما شملُ
أنشد ابن دريد:
ولذِّ كطَعْمِ الصَّرْخَدِيّ تركُتُه ... بأرض العِدَا من خَشْيةِ الْحَدَثَانِ
ومُبْدٍ لي الشَحْناءَ بيني وبينّهُ ... دعوتُ وقد طال السُّري فَدَعَانيِ
وفسر اللذَّ فقال: اللذُّ: اللذيذ، وأراد به هنا النوم. والصرخدي: الخمر، وقيل العسل.
وللفرزدق، أو غيره:
يقولُون طالَ الليلُ والليلُ لم يَطُلِ ... ولكنّ من يَبْكِ من الشّوّقِ يَسْهرِ
وقال بشار:
لم يطل ليلى ولكن لم أنَمْ ... ونَفَى عنّي الكَرَى طيفٌ أَلَمّ
قال أبو ملجم الأعرابي:
أبيتُ أُرَاعِي النَّجْمَ حتّى كأنّنِي ... بناصيتي حَبْلٌ إلى النَّجْم مُوثَقُ
وما طال ليلى غير أنّي أَحبُّها ... أُعَلّلُ نفسي بالأماني فتَعْلَقُ
وقال علي بن بسام:
لا أظلمُ الليلَ ولا أدّعي ... أنّ نجومَ السّماءِ ليستْ تَغُورْ
لَيْلِى كما شَاءَتْ فإن لم تَزُرْ ... طَالَ، وإنْ زارت فليِلى قصيرْ
قال عدي بن الرقاع:
وكأنّ ليِلى حينَ تَغْرُبُ شمسُهُ ... بسَوادِ آخرَ مثّلهُ مَوصُولُ
لأبي جندب الهذلي، فيما ذكر المدائني:
تعَالَوْا أعينوني على اللّيل إنَّهُ ... على كلِّ عينٍ لا تَنَامُ طويلُ
قال المدائني، وهو القائل أيضاً:
ألاّ أَيُّها النُّوامُ ويحكُمُ هُبُّوا ... أسَائلكم هَلْ يقتلُ الرَّجُلَ الحبُّ
قال: وهو القائل:
قل للمليحِة في الخمارِ الأسْوَدِ
وذكر الأبيات، وليس هذا موضعها، وغير المدائني ينشد قوله: ألا أيها النوام... لجميل بن معمر، وينشد: قل للمليحة في الخمار الأسود...للدارمي.
قال صالح بن حسان يوماً لجلسائه: أيكم ينشد بيتاً نصفه لمخنث يتفكك بالعقيق، ونصفه لأعرابي في شملة بالبادية؟ قالوا: ما نعرفه. قال: هو قول ابن معمر:
ألا أيُّها الركب النِّيامُ ألا هبّوا ... أسَائِلكُم هل يقتلُ الرجلَ الحبُّ؟
ولعباس بن الأحنف:
أيّها النَّائِمون حَوْلِي أَعيِنُو ... نِي عَلَى اللَّيلِ حِسْبَةً وائْتِجَارَا
حَدِّثُونِي عن النّهارِ حديثاً ... أوصفُوهُ فقد نسيتُ النّهَارَا
وقال خالد الكاتب:
رَقَدْتَ ولم تَرْثِ للسَّاهِرِ ... ولَيْل الْمُحِبْ بلا آخِرٍ
ولم تَدْرِ بعدَ ذهابِ الرُّقَادِ ... ما فعلَ الدَّمع بالنّاظِر
وقال سعيد بن حميد:
يا ليلُ بل يا أَبَد ... أنائمٌ عَنْك غَدُ
يا ليلُ لو تَلْقَى الذي ... أَلْقَى بها أو تجدُ
قُصِّر من طُولِك أَوْ ... ضُعِّفَ منك الجَلَدُ
ولبعض أهل عصرنا:
إلْفِي قريبٌ وأُنْسِي ما يتمُّ بِهِ ... واللَّيْلُ يَقطَعُ صَبْرِي كلَّه طُولاَ
إذا كواكبُهُ الأخْرَى أردتُ بها ... مِنْ غُمَّتِي فَرَجاً عَادَتْ لِيَ الأولَى
وللمنتصر بالله:
رأيتُك في المَنَامِ أَقلَّ بخْلاً ... وأطوعَ منك في غَيْر المَنَامِ
فليتَ الصُّبْح زَالَ فلا تراه ... وليت الليل أُخِّرَ ألفَ عامِ
فلو أنّ النُّعاسَ يُبَاع بيعاً ... لأغليتُ النُّعَاس على النيامِ

باب الحمام
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّكم سَتَفْتَحُون الشَّامَ، فَتجدون فيها بيوتاً تُدعى الَحمامات، فلا يَدخلها من النساء إلا مريضةٌ أو نُفَسَاء، ولا يحلّ دخولها لرجل إلاّ بمئزَر " .
قال أبو هريرة: بئس البيت الحمام، يكشف العورة، ويذهب الحياء.
قال أبو الدرداء: نعم البيت الحمام، يذهب الدرن، ويذكر النار.

قال ابن القاسم: سئل مالك عن القراءة في الحمام. فقال: القراءة بكل مكان حسنة، وليس الحمام بموضع قراءة، فمن قرأ الآية والآيتين فليس بذلك بأس، وليس الحمام من بيوت الناس الأول.
كان الحسن إذا دخل الحمام أغمض مخافة أن تقع عينه على عورة أحد، وربما قادة غلامه.
ودخل أبو حنيفة الحمام فرأى فيه قوماً لا مآزر لهم ، فأغلق عينيه، وجعل يتهدي بيديه. فقال له أحدهم: متى ذهب بصرك يا أبا حنيفة؟ قال: منذ انكشفت عورتكم.
كان يقال: إذا جمع الحمام خمس خصال فقد كمل: أن يكون قديم البناء، عذب الماء، كثير الضياء، مرتفع الهواء، وأفضل ذلك كله: أن يكون الحوض نقياً معتدل الحر.
قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن دخول الحمام، فقال: ما أن وجدته خالياً، أو كنت تدخل مع قوم يستترون ويتحفظون فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان يدخله من لا يبالي ولا يتحفظ لم أر أن تدخله، وإن كنت متحفظاً.
قال أصبغ: وأدركت ابن وهب يدخله مع العامة متحفظاً، ثم ترك ذلك، وكان لا يدخله إلا مختليا.
قال شمس المعالي:
أَنتَ في الحمّام موقو ... فٌ على قَلْبِي وَسَمْعي
فتأَمّلها تجدْهَا ... كُوِّنَتْ من بعضِ طَبْعِي
حَرّهَا من حَرّ أَنْفَا ... سِي وفيضُ الماءِ دَمْعي
ودخل أعرابي البصرة، قدمها من البادية فنزل على قريب له، فلما رآه أشعث الرأس عزم عليه في دخول الحمام، وقال له: إنه يوم جمعة تطهر في الحمام وتنظف، فلما دخل الأعرابي الحمام، زلقت رجله وسقط، فأصابته شجة فوق حاجبه، فخرج وهو يقول:
وقالوا: تَطَهّرْ إنه يوم جُمْعَةٍ ... فأُبْتُ من الحَّمامِ غيرَ مطهّرِ
تزوَّدْتُ منه شَجّةً فوق حاجِبِي ... بغيِر جهادٍ بئسَ ما كان متجرِي
تقول لَي الأعرابُ لما رأونني ... بِهِ لا تَلَبَّثْ، بالصَّرِيَمةِ أَعْقِرِ
فما تَعْرِفُ الأعرابُ في السُّوقِ مِشْيَةً ... فكيفَ ببيتٍ ذيِ رخام وَمَرْمَرِ

باب في البراغيث والبق والبعوض
في الحديث المرفوع: لا تلعنوا البرغوث فإنه نبه نبياً من الأنبياء لصلاة الصبح، حديث ليس بقوي الإسناد.انفرد به سويد أبو حاتم، يباع الطعام عن قتادة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أعرابي بالبصرة:
ظللتُ بالبَصْرَة في مِرَاشِ
وفي براغيثَ أَذَاهَا فَاشِي
من نافرٍِ منها وذِي خِرَاشِ
يَرْفَعُ جنبيّ عن الفِرَاشِ
فأنا في حرب وفي تَخْرَاشِ
يَترك في جَنْبَّي كالحَوَاشِي
وزوجةٍ دائمة الهرَاشِ
تَغْلِي كغَليِ المِرْجَل النَشْنَاشِ
وقال رجلٌ من بني حمان، وقع في جند الشام، مندوباً في بعض حصون الساحل:
أَأَنْصُرُ أهلَ الشَّام ممن يكيدُهُمْ ... وأَهْلِي بنجدٍ ذات حرص على النصرِ
براغيثُ تُؤذْيني إذَا النَّاسُ نَوَّمْوا ... وبقٌّ أقاسيِهِ على سَاحِلِ البَحْرِ
تضيف عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، رجلا من الأعراب كان يأتيه يتصيد عنده، ففرش له في بيت خال من ناحية داره، فبات فيه، ثم غدا عليه فقال: يا أبا عثمان! ماذا رأيت هذه الليلة! قال: وما ذاك؟ قال: سود حدب زرق آذينني، وقد قلت فيهن شعراً، قال: وما هو؟ قال: قلت:
الليل نصفان نصف للهموم فما ... أقضى رقاداً ونصف للبراغيث
أبيت حيث تساميني أوائلها ... أنزو وأخلط تسبيحاً بتغويث
سود مداليج في الظلماء مؤذية ... وليس ملتمس منها بمشبوث
كأنهن وجلدي إذ خلون به ... أيتام سوءٍ أغاروا في مواريث
ليل البراغيث أنكاني وأرقني ... لا بارك الله في ليل البراغيث
قال أعرابي:
إن البراغيث لهن عض ... وحكة وألم ممض
كأنما تنبتهن الأرض
وذكرت البراغيث عند أعرابي من قيس، فقال: ليلها ناصب ومددها دائب.
وذكرت البراغيث عند رجل من كلب، فقال: أخزاها الله، ما أدنأ صغارها، وما أشر كبارها، وأخفى أنظارها، وأقبح آثارها.
قال أحمد بن إسحاق:
ما للبراغيث أفنى الله جملتها ... حتى يقوم برغوث بدينار

لروضة من رياض الحزن معشبة ... بها الظباء تراعي غب أمطار
أشهى لقلبي من درب به نبط ... ومنزل بين حجامٍ وجزار
وقال آ خر:
ما للبراغيث أخزى الله ليلتها ... من يلق منهن ما لاقيت لم ينم
كأنهن وجلدي إذ ظفرن به ... وضمني مضجعي، يطلبنني بدم
قال أعرابي:
لم أر كاليوم ولا مذ قط ... أطول من ليلي بنهر بط
كأنما نجومه في ربط ... أبيت بين خطتي مشتط
من البعوض، ومن التغطي ... إذا تغنين غناء الزط
وكن مني بمكان القرط ... وخزنني وخزاً كوخز الشرط
وقال آخر، يصف بعوضة وخرطومها:
مثل السفاة دائم طنينها ... ركب في خرطومها سكينها
ولأبي إسحق الصابي، وهو إبراهيم بن هلال الكاتب في البعوض قال:
ألحت صروف الدهر من كل جانب ... على بأصناف الأذى والجوائح
وأخرجنني من مواطن كان جنتي ... لحسن مرابعه وحسن الروائح
وعوضنني من ذلك الظل والجني ... على الرغم من أنفي بسكني البطائح
محل خسيس لا يطيب مساؤه ... لثاويه والإصباح ليس بصابح
بليت ببقً ذي مناسر طعمه ... لحوم صناديد الرجال الجحاجح
وقد كنت في بغداد أشكو بغاثه ... فكيف اصطباري للبزاة الجوارح
أجاور في جنح الدجى كل جحفلٍ ... يجالدني أبطاله بالصفائح
إذا سفكت كفى دماً من بغوضةٍ ... فذلك جزء من دمٍ لي طائح
له وخزة في السمع قبل وقوعه ... على الجسم من تغريد نشوان صابح
فكم مستغيث ساهر العين صائح ... إلى مثله من شاهر العين صائح
وكم غائص في النوم يصفح نفسه ... لنبلة رامٍ أو لطعنة رامح
لسويد بن منجوف العبدي، وكان قديماً جاهلياً:
أبي القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غرير
به البق والحمى وأسد خفية ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور
ولأعرابي من بني جفنة مازحاً:
مر الجراد على زرعي فقلت له: ... الزم طريقك لا تولع بإفساد
فقال منهم خطيب فوق سنبلةٍ ... أنا على سفرٍ لابد من زاد
ولابن المعتز في البعوض أيضاً:
بت ليلى كله لم أطرف ... لجرجس كالزئبر المنتف
يلسعننا بالسعر المخوف ... يعذب المهجة إن لم تتلف
ويثقب الجلد وراء المطرف ... حتى يرى فيه كشكل المصحف
ولي أصف ما لاقيت من البغوض بإشبيلية في الشرف، وفي مدينة قبتور ومدينة قبطيل، وذلك حين مبيتي بها، وما منه تلقي المدينة أيضاً:
بعوض قبتور والقبطيل والشرف ... قد آذنت بذهاب النفس والتلف
فمن مثير دخانٍ يستجير به ... وآخرٍ مختفٍ في الثوب ملتحف
قد غيب الرأس والرجلين مستتراً ... بالبيت من طرفٍ فيه إلى طرف
ويلي من الجرجس المثنى عقربه ... ينصب مثل عقابٍ جاع مختطف
يؤم أذني هجماً كالمهدد لي ... وكالمنادي بأخذ الهارب النطف
خرطومه كسنان لا يقوم له ... ثوب مثنى ولو قد كان من خزف
يا ويله من عدو لست تدفعه ... إلا بلطم على الأعضاء منصرف
نفي البعوض أناساً من مساكنهم ... على البحيرة في غربٍ من الشرف
وساحل البحر طولا أصل منبته ... يغشى المدينة في الأبيات والغرف
وليس عنهم بستر أو مدافعةٍ ... أو حيلةٍ قد أعدوها بمنحرف
ولغيري في البعوض ببلنسية:
ضاقت بلنسية بي ... وذاد عنها غموضي
رقص البراغيث حولي ... على غناء البعوض

باب في السجن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر " .
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه حبس رجلا في تهمة.

سجن عمر بن الخطاب الحطيئة في قوله في الزبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
بعد أن سأل حساناً ولبيداً فقالا: إنه هجاء له وضعة منه، فأمر به فحبس، وقيل إنه رماه في بئر لا ماء فيها، فقال الحطيئة:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ ... زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الإثر
فامنن على صبيةٍ في الرمل مسكنهم ... بين الأباطح يغشاهم بها القدر
أهلي فداؤك كم بيني وبينهم ... من عرض داويةٍ يعمى بها الخبر
فكلمه فيه عبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، واسترضياه حتى أخرجه من السجن، ثم دعاه فهدده بقطع لسانه إن عاد يهجو أحداً.
كتب على باب سجن بالعراق: هاهناتلين الصعاب، وتختبر الأحباب.
مكتوب على باب سجن كبير من سجون الملوك: هذه منازل البلوي، وقبور الأحياء، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء.
ولأعرابي مسجون:
ولما دخلت السجن كبر أهله ... وقالوا: أبو ليلى الغداة حزين
وفي الباب مكتوب على صفحاته ... بأنك تنزو ثم سوف تلين
وقال علي بن الجهم في السجن في شعر له:
خرجنا من الدنيا من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجةٍ ... فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت لم تأت عجلي وأبطأت ... وإن هي ساءت بكرت وأتت عجلي
ولبعض السجان:
ما يدخل السجن إنسان فتسأله ... ما بال سجنك إلا قال مظلوم
وقال آخر:
أسجن وقيد واغتراب وعبرة ... وفقد حبيب إن ذاك عظيم
وإن امرءًا تبقى مواثيق عهده ... على كل هذا إنه لكريم
كتب أبو العتاهية من السجن إلى الرشيد يستعطفه ويسترحمه، فوقع له في رقعته: لا بأس عليك. فأعاد عليه أبو العتاهية رقعةً أخرى فيها:
أرقت وطار عن عيني النعاس ... ونام السامرون ولم يواسوا
أمين الله أمنك خير أمنٍ ... عليك من التقى فيه لباس
تساس من السماء بكلب بر ... وأنت به تسوس كما تساس
كأن الخلق ركب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس
أمين الله إن الحبس باس ... وقد وقعت ليس عليك باس
لما سجن عضد الدولة فناخسرو أبا إسحق الصابي وقبض عليه، واستصفى أمواله، وذلك في حين قتله عز الدولة بختيار بن أحمد بن بويه الديلمي، وكان الصابي كاتب بختيار على ديوان الإنشاء، فزار أبو الفرج الببغاء الشاعر أبا إسحق الصابي في السجن ثم قطعه، فكتب إليه الصابي:
أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص
مضت مدة تستام ودي غالياً ... فأرخصته والبيع غالٍ ومرتخص
وآنستني في محبسي بزيارةٍ ... شفت كمداً من صاحبٍ لك قد خلص
ولكنها كانت كحسوة طائرٍ ... فواقاً كما يستفرص السارق الفرص
وأحسبك استوحشت من ضيق محبسٍ ... وأوجست خوفاً من تذكرك القفص
تحوشيت يا قس الطيور فصاحةً ... إذا نثر المنظوم أو درس القصص
من المنسر الأشغى ومن حزة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصة المقص
ومن صعدة فيها من الدبق لهذم ... لفرسانكم عند الطعان بها قعص
فهذي دواهي الطير وقيت شرها ... إذا الدهر من أحدائه جرع الغصص
فأجابه أبو الفرج الببغاء:
أيا ماجداً في حلبة المجد ما نكص ... ويا كاملاً في رتبة الفضل ما نقص

ستخلص من هذا السرار وأيما ... هلالٍ تواري في السرار وما خلص
بدولة تاج الملة الملك الذي ... له في أعالي قبة المشتري حصص
تقنصت إلطافي وما كنت قبل ذا ... أظن بأن المرء بالبر يقتنص
فأصبحت لا أخشى أذية جارحٍ ... ورأيك لي وكر وقلبك لي قفص

باب الوكلاء
قال بعض الحكماء: لا مال لمن لا صبر له على خيانة الوكلاء وإضاعة الكفاة.
قال نصر بن سيار: لا تتخذ الوكيل داهيةً أريباً، ولا ذا عشيرة منيعة، فإنك إن قاومته أيام حياتك، عجز عنه ولدك بعد وفاتك.
كان عمر بن مهران يكتب في نهاية اسمه: اللهم احفظه ممن يحفظه.
لما مرض يعقوب بن حميد التاجر، قال له بعض ولده: أي شيءٍ تشتهي؟ قال: كبد وكيل.
قال نصر بن سيار: لعن الله وكيل الضيعة، إن عشت أكلها دونك، وإن مت ادعاها بعدك، وإن كان عاجزاً جاهلا استهلكها، وإن كان قوياً ذا عارض أعملها فيك ولم يعملها لك.
ذكر أن القحذمي مات وله ضيعة في يد وكيل، فكابر عليها.
قال شقران العلامي:
ذكرت أبا أروى فبت كأنني ... برد الأمور الماضيات وكيل
باب العادة ومالا ينسى
قال أكثم بن صيفي: ما يسرني أني مكفي أمر الدنيا. قيل: ولم؟ قال: أخاف عادة العجز.
قال العرب: العادة أملك بالإنسان من الأدب.
وقالوا: العادة طبيعة ثانية.
كان يقال: ما دخل باللبن لم يخرج إلا مع الروح.
قالوا: الخير عادة، والشر لجاجة.
قال الراجز:
تعود الخير فالخير عادة ... تدعو إلى الغبطة والسعادة
قال الشاعر:
ما إن تخلقت إلا شيمتي خلقاً ... إن الخلائق تأبى دونها الخلق
قال الشاعر:
كل امرئٍ صائرٌ يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
وقال آخر:
فإن يشرب أبو عثمان أشرب ... وإن كانت معتقةً عقارا
وإن يأكل أبو عثمان آكل ... وإن كانت خنانيصاً صغارا
وقال آخر:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ... ذا عفافٍ وحياءٍ وكرم
قوله للشيء لا إن قلت لا ... وإذا قلت نعم قال نعم
وقال آخر:
وكنت إذا علقت حبال قومٍ ... صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم ... وأجتنب الإساءة إن أساءوا
أشاء سوى مشيئتهم فآتى ... مشيئتهم وأترك ما أشاء
باب في المنجمين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تعلم باباً من النجوم، فقد تعلم باباً من السحر، ما زاد زاد " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا " .
قال عمر بن الخطاب: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم أمسكوا.
قال الخليل بن أحمد:
أبلغا عني المنجم أني ... كافر بالذي قضته الكواكب
شاهد أن من تكهن أو نجم ... زار على المقادير كاذب
عالم أن ما يكون وما كان ... قضاء من المهيمن واجب
وقال آخر:
علم النجوم على العقول وبال ... وطلاب شيءٍ لا ينال وبال
هيهات ما أحد مضى ذو فطنةٍ ... يدري متى الأرزاق والآجال
إلا الذي هو فوق سبع سمائه ... ولوجهه الإعظام والإجلال
وقال أبو العباس الناشئ:
سألت المنجم عن رحلةٍ ... أؤمل براً عليها وبحرا
فقال المنجم لي: لا تسر ... فإنك إن سرت لاقيت شرا
فإن كان يعلم أني أسير ... فقد جاء بالنهي لغواً وهجرا
وإن كان يجهل سيري فكيف ... تراني إذا سرت لاقيت ضرا
وقال أبو تمام الطائي:
والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لاقى السبعة الشهب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة ... ما كان في فلك منها وفي قطب
وفيها يقول أبو الطيب المتنبي:
فتبا لدين عبيد النجوم ... ومن يدعى أنها تعقل
وقال منصور الفقيه:
قول المنجم شيء ... دعا إليه التوهم

فلا تصدق بشيءٍ ... مما يقول المنجم
وله أيضاً:
إذا كنت تزعم أن النجوم ... تضر وتنفع من تحتها
فلا تنكرن على من يقول ... بأنك بالله أشركتها
وله أيضاً:
لو أن نجماً تكلم ... لقال: صكوا المنجم
لأنه قال جهلاً ... بالغيب ما ليس يعلم
وقال أيضاً:
قالوا أعد فلان ... لخوف هذا القران
زادا كثيراً وداراً ... وثيقة البنيان
فقلت بات فلان ... يرجو النجاة بذان
هلا استعان على ما ... يخشى من الحدثان
بمن وقاه وليداً ... مكروه كل زمان
ومن غذاه جنيناً ... في ضيق ذاك المكان
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه:
فأين الزيج والقانو ... ن والأركند والكمه
وأين السند هند البا ... طل الجدول هل ثمه
سوى الإفك على الله ... تعالى منشر الرمه
إذا كان أخو النجم ... يرى الغيب بما ضمه
فلم ذا يطلب الرزق ... طلاب العاجز الهمه
وهذي الأرض قد وارت ... كنوزاً عدةً جمه
فلا والله ما لل ... ه وخلق يحتوي علمه
أخبرني عبد الله بن محمد بن يوسف، قال أخبرنا أحمد بن مالك بن عابد، قال: أخبرني أحمد ابن محمد بن عبد ربه أبو عمر الشاعر، قال: دخلت على الوزير جهور بن الضيف، وكان القحط قد ألح، والغيث قد احتبس واغتم الناس لذلك، وتحدث المنجمون بتأخر الغيث مدة طويلة، فوجدت عنده ابن عزر المنجم وجماعةً من أصحابه، وقد أقاموا الطالع وعدلوا، وقضوا بتأخير الماء شهراً. فقلت للوزير: إن هذا من أمور الله المغيبة، وأرجو أن يكذبهم الله بفضله، ثم خرجت عنه وأتيت داري، فجاء أول الليل والسماء قد تغيمت، ونمت ساعة، فما أيقظني إلا نزول الماء، فقمت وقربت مني المصباح، ودعوت بالدواة والقلم، فما رفعت يدي حتى نسخت هذه الأبيات، ثم صابحت بها الوزير، فسر بها واستحسنها. وهي:
ما قدر الله هو الغالب ... ليس الذي يحسبه الحاسب
قد صدق الله رجاء الورى ... وما رجاء عنده خائب
وأنزل الغيث على راغبٍ ... رحمته إذ فنط الراغب
قل لابن عزرا السخيف الحجا ... زري عليك الكوكب الثاقب
ما يعلم الشاهد من حكمنا ... كيف بأمرٍ حكمه غائب
وقل لعباس وأشياعه ... كيف ترى؟ قولكم الكاذب
خانكم كيوان في قوسه ... وغركم في لونه الكائب
فكلكم يكذب في علمه ... وعلمكم في أصله كاذب
ما أنتم شيءٌ ولا علمكم ... قد ضعف المطلوب والطالب
تغالبون الله في حكمه ... والله لا يغلبه غالب
محبوب الحبر الذي ماله ... في فهمه ند ولا صاحب
قد أشهد الله على نفسه ... بأنه من جهلكم تائب
وأنشدني عباس بن يحيى بن قزمان لعمه عيسى بن قزمان:
هذا بإذن الله ما شاء قدره ... وليس فيما قضى كيوان والقمر
لو كان عند النجوم السابحات بما ... يجري على الخلق من أنبائهم خبر
لم يحتلل بذراهم ريب حادثةٍ ... بل كان ينجيهم الإنذار والحذر
ما كان ينجل منهم عالم ولداً ... في ساعةٍ ما بها نحس ولا كدر
تقيه أنجمه صرف الزمان فلا ... يأتي عليه ولا يفني له عمر
هيهات ذلك أمر لا يطاق ول ... كن الفتى ينتهي حيث انتهى القدر
وللقرشي سعيد بن العاص المرواني:
مستحيل أن تدرك الأوهام ... علم غيب تغيب عنه الأنام
كيف يحتاز علمه بشري ... وهو علم قد حازه العلام
لست ممن يقول فيه يجهلٍ ... ما يقول الكندي والنظام
كل من قال إن للنجم حكما ... لم يجز فاعلمن عليه السلام

سطر الأولون فيه أساطي ... ر ولم يلهموا الرشاد فهاموا
إذا أرادوا بالسند هند وبالأركند والزيج روم مالا يرام
خبطوا في أمورها خبط عشوا ... ء حين ضلت في كنهها الأوهام
والذي هينموا به من قريبٍ ... هذيان آثاره البرسام
إنما السبعة الدراري أجرا ... م ولكن لا تعقل الأجرام
وصفوها بالفهم وهي شخوص ... ما لديها فهم ولا إفهام
وحكوا أنها تؤثر في العا ... لم والعالمون عن ذا نيام
كذبوا ليس للكواكب نقض ... في جميع الورى ولا إبرام
والذي قاله الأوائل فيها ... فهو مالا يقوله الإسلام
إنما سخرت بقدرة باري ... ها إلى أن يحين منه انصرام
فهي تجري في رتبة ليس تعدو ... ها ولا يستحيل فيها النظام
كل يومٍ تساق فيه إلى الغر ... ب سراعاً كما تساق السوام
ليس يقضي كيوان أمراً كما قا ... لوا، ولا المشتري ولا بهرام
لا ولا الشمس في البروج ولا البد ... ر الذي ينجلي به الإظلام
إنما الأمر الذي خلق الخل ... ق وتمضي بعزمه الأحكام
باب ثلاثةٍ من الحكم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: " يا علي! ثلاثة لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤاً " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثٌ منجيات، وثلاث مهلكات، فأما المنجيات: فالعدل في الرضى والغضب، وخشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغني والفقر. وأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه " .
وروى عنه عليه السلام، أنه قال: " ثلاثة من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، وثلاث من شقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء " .
وفي الخبر المأثور: " الخير كله في ثلاث: السكوت والكلام والنظر، فطوبى لمن كان سكوته فكره، وكلامه حكمة، ونظره عبرة " .
كان الحسن يقول: أصول الشر ثلاثة: الحرص والحسد والكبر، فالكبر منع إبليس من السجود لآدم، والحرص أخرج آدم من الجنة، والحسد حمل ابن آ دم على قتل أخيه.
قال ابن عجلان: ثلاثة لا يصلح العمل إلا بهن: التقوى، والنية الحسنة، والإصابة.
روى سفيان، عن جامع بن أبي راشد، عن ميمون بن مهران، قال: ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر، الأمانة تؤدي الى البر والفاجر والعهد يوفي به للبر والفاجر، والرحم توصل برةً كانت أو فاجرة.
ثلاثة لا شيء أقل منهن، ولا يزددن إلا قلة: درهم حلال تنفقه في حلال وأخ في الله تسكن إليه، وأمين تستريح إلى الثقة به.
قال عمر بن الخطاب: الفواقر في ثلاث: جار سوء في دار مقام، إن رأى حسنةً سترها، وإن رأى سيئة أذاعها. وامرأة سوء إن دخلت لسنتك، وإن غبت عنها لم تأمنها. وسلطانٍ جائر إن أحسنت لم يحمدك، وإن أسأت قتلك.
قال الحسن: لولا ثلاث ما وضع ابن آدم رأسه: المرض والفقر والموت.
قال الضحاك أو غيره من الحكماء: إذا ظفر إبليس من ابن آدم بثلاث لم يطلبه بغيرهن: إذا أعجب بنفسه، واستكثر عمله، ونسى ذنوبه.
قال مسلمة بن عبد الملك: العيش في ثلاث: سعة المنزل، وكثرة الخدم، وموافقة الأهل.
قال الخليل بن أحمد: ثلاث ينسين المصائب: مر الليالي، والمرأة حسناء، ومحادثة الإخوان.
وقال غيره: ليس لثلاثٍ حيلة: فقر يخالطه كسل، وخصومة يداخلها حسد، ومرض يداخله هرم.
وقال غيره: ثلاثة تجب مداراتهم: الملك السليط، والمرأة، والمريض.
ثلاثة يعذرون في سوء الخلق: المريض، والمسافر، والصائم.
ثلاثة لا يستخف بهم: عامل السلطان، والعالم، والصديق: لأن من استخف بالسلطان أفسد ونياة ومن استخف بالعالم أفسد دينه ومن استخف بالصديق أفسد مروءته.
ثلاثة أشياء تخلق العقل، وتفسد الذهن: طول النظر في المرآة، والاستغراق في الضحك، ودوام النظر في البحر.
ومما يفسد الذهن ثلاثة: الهم والوحدة والفكر.
ثلاثة تهرم وربما قتلت صاحبها: الجماع على الامتلاء، ودخول الحمام على البطنة، وأكل القديد اليابس.

أقسام الكتاب
1 2 3 4