كتاب : بهجة المجالس وأنس المجالس
المؤلف : ابن عبد البر

ففيم عرفت الخير والشَّرَّ باسمه ... وشقَّ لي الله المسامع والفما
وقال آخر:
والكفر مخبثةٌ لنفس المنعم
وقال آخر:
وماتخفي الصَّنيعة حيث كانت ... ولا الشُّكر الصَّحيح من السَّقيم
وقال العتابي:
فلوكان للشُّكر شخصٌ يرى ... إذا ما تأمَّله النَّاظر
لمثَّلته لك حتَّى تراه ... فتعلم أنَّي امرؤٌ شاكر
وقال آخر:
وإنَّك إن ذوّقتني ثمر الغنى ... حمدت الَّذي تجنيه من ثمر الشُّكر
وإن يفن ما أعطيتني اليوم أو غداً ... فإنَّ الَّذي أعطيك يبقى على الدَّهر
وقال آخر:
لأشكرنَّك معروفاً هممت به ... إنَّ اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يمضه قدرٌ ... فالرِّزق بالقدر المحتوم مصروف
قال سليمان التيميّ: إن الله عز وجل أنعم على عباده بقدر طاقته،وكلفهم من الشكر بقدر طاقتهم.
قالوا:كلّ شكر وإن قلّ،ثمن لكل نوال وإن جلّ.
كانت هند بنت المهلب تقول:إذا رأيتم النعمة مستبدرة فبادروها بالشكر قبل حلول الزوال. وقال أبو النواس:
أنت امرؤٌ أوليتني نعماً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
لا تجدثنَّ إليَّ عارفةً ... حتَّى أقوم بشكر ماسلفا
وقال البحتري:
من لا يقوم بشكر نعمة حبِّه ... فمتى يقوم بشكر نعمة ربِّه
أنشد المبرد لمحمود الوراق:
إذا كان شكري نعمة الله نعمةً ... عليَّ له في مثلها يجب الشُّكر
فكيف بلوغ الشُّكر إلاّ بفضله ... وإن طالت الأيَّام واتَّصل العمر
إذا سرَّ بالسَّراء عمَّ سرورها ... وإن مسَّ بالضَّراء أعقبها الأجر
ومامنهما إلاّ له فيه نعمةٌ ... تضيق بها الأوهام والبرُّ والبحر
قال أبو العباس المبرد: هذا معنى لطيف، يقول: إن الله عز وجل لا يحمد إلا بتوفيقه، فيجب أن يحمد على التوفيق، ثم يجب في الحمد الثاني مايجب في الحمد الأول أبداً إلى حيث لا نهاية،ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله:
إذا أنت لم تزدد على كلِّ نعمةٍ ... قد آتاكها شكراً فلست بشاكر
ومن أبيات ليزيد بن محمد المهلبي في هذا المعنى:
فكيف بشكر ذي نعم إذا ما ... شكرت له فشكري منه نعمه
قال رجل من قريش لأشعب الطمع: ياأشعب! أحسنت إليك فلم تشكر! فقال:إن معروفك خرج من غير محتسب إلى غير شاكر.
قالوا: لا تثق بشكر من تعطيه حتى تمنعه.
قال الشاعر: ؟إذا الشَّافع استقصى لك الجهد كلَّه وإن لم تنل نجحاً فقد وجب الشُّكر وقال آخر:
والحمد شهدٌ لا يرى مشتاره ... يجنيه إلا من نقع الحنظل
وقال آخر:
دنوت للمجد والسَّاعون قد بلغوا ... جهد النُّفوس وشدُّوا دونه الأزرا
وساوروا المجد حتَّى ملَّ أكثرهم ... وعانق المجد من وفّي ومن صبرا
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتَّى تلعق الصَّبرا
قال جعفر بن محمد: مامن شيء أسرُّ إليَّ من يد أتبعها أخرى، لأنَّ مع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل.
بابٌ في طلب الحاجات
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيِّه ماشاء " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان،فإنَّ كلّ ذي نعمة محسود " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ لله عباداً خلقهم لحوائج النَّاس، هم الآمنون يوم القيامة " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه " .
قال الشاعر:
أنت وصف الَّنبيِّ إذ قال يوماً ... اطلبوا الخير من حسان الوجوه
وقال محمد بن واسع لقتيبة بن مسلم: إنِّي أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله قبلك، فإن أذن الله فيها قضيتها وحمدناك، وإن لم يأذن الله فيها لم تقضها وعذرناك.
قال يونس رحمه الله:
أنزلت بالحرِّ إبراهيم مسألةً ... أنزلتها قبل إبراهيم بالله
فإن قضى حاجتي فالله يسَّرها ... هو المقدِّرها والآمر والنَّاهي

إذا أبى الله شيئاً ضاق مذهبه ... على الكبير العريض القدر والجاه
وقال أبو العتاهية:
خير المذاهب في الحاجات أنجحها ... وأضيق الأمر أدناه إلى الفرج
كتب سوار بن عبد الله بن سوار القاضي إلى محمد بن عبد الله بن طاهر:
لنا حاجةٌ والعذر فيها مقدَّمٌ ... خفيفٌ معنَّاها مضاعفة الأجر
فإن تقصنها فالحمد لله ربِّنا ... وإن تكن الأخرى ففي أوسع العذر
على أنَّه الرَّحمن معطٍ ومانعٌ ... وللرِّزق أسبابٌ إلى قدرٍ تجري
فأجابه محمد بن عبد الله بن طاهر:
فسلها تجدني موجباً لقضائها ... سريعاً إليها لا يخالطني فكر
شكورٌ بإفضالي عليك بمثلها ... وإن لم تكن فيما حوته شكر
فهذا قليلٌ لَّلذي قد رأيته ... لحقِّك لا منٌّ من لديّ ولا فخر
قال معاوية يوماً لعمرو بن العاص: لي إليك حاجة. قال:ولي إليك حاجة ياأميرالمؤمنين. قال :تهب لي الوهط.قال:هو لك يا أمير المؤمنين. قال معاوية: اذكر حاجتك قال: ترده علي.
قال جعفر بن محمد: حاجة الرجل إلى أخيه فتنة لهما،إن أعطاه شكر من لم يعطه،وإن منعه ذم من لم يمنعه. قال خالد بن صفوان: لاتطلبوا الحوائج عند غير أهلها،ولا تطلبوها في غير حينها، ولا تطلبوا مالا تستحقون منها،فإن من طلب مالا يستحق استوجب الحرمان.
كان يقال: إذا طلب العاقل إلى كريم حاجة انقضت، لأن العاقل لا يطلب إلا ما يمكن،والكريم إذا سئل ما يمكن لم يمنع.
كان يقال:إذا أحببت أن تطاع، فلا تسل مالا يستطاع.
قال عامر بن خالد بن جعفر ليزيد بن الصَّعق:
إنك إن كلَّفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرَّك منِّي من خلق
قال رجل للأحنف:أتيتك في حاجة لا تزرؤك ولا تنكؤك. قال: إذاً لا تقضى،أمثلي يؤتي فيما لا يرزأ ولا ينكأ.
قال رجل للعباس بن محمد،أو لعبد الله بن عباس: أتيتك في حاجة صغيرة، قال: فاطلب لها رجلاً صغيراً.
قيل لآخر:أتيتك في حاجة.قال: اذكرها،فإن الحرّ يقوم بصغير الحاجات وكبيرها.
كان يقال:لا تستعن على حاجة بمن هي طعمته، ولا تستعن بكذاب، فإنه يقرب البعيد ويباعد القريب،ولا تستعن على رجل بمن له إليه حاجة.
قال ابن المقفع: الحاجة يعتري صاحبها الخيفة من مكانين: الاستقبال بها قبل وقتها،والثاني حتى تفوت، وأنشد:
وقد يفوت أناساً بعض ما طلبوا ... عند التَّأنِّي فكان الحزم لو عجلوا
قال أبو فزارة الغاضريّ: أصل العبادة ألا تسأل سوى الله حاجة،فلكل أحد في الله عوض من كل أحد،وليس لأحد من الله عوض بأحد.
سأل رجل مطرّف بن عبد الله بن الشِّخّير حاجة،فقال :من كانت له إلي حاجة فليكتبها في رقعة،فإني أرغب بوجوهكم عن مكروه السؤال.
كان يقال: لا تصرف حوائجك إلى من معيشته في رءوس المكاييل والموازين.
قال العرزمي وروى لأبي الأسود الدؤلي:
وإذا طلبت إلى كريم حاجةً ... فلقاؤه يكفيك والتَّسليم
وإذا طلبت إلى لئيمٍ حاجةً ... فألحَّ في رفقٍ وأنت مديم
وقال آخر:
لا تطلبنَّ إلى لئيمٍ حاجةً ... واقعد فإنَّك قائماً كالقاعد
ياخادع البخلاء عن أموالهم ... هيهات تضرب في حديدٍ باردٍ
وقال أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان:
أأطلب حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنَّ شيمتك الحياء
كريمٌ لا يغيِّره صباحٌ ... عن الفعل الجميل ولا مساء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرُّضه الثَّناء
وقال جرير يخاطب عمر بن عبد العزيز:
أأذكر الضُّرَّ والبلوى التي نزلت ... أم أكتفي بالذي بلِّغت من خبري
وقال آخر:
كفاك مذكِّراً وجهي بأمري ... وحسبي أن أراك وأن تراني
وقال آخر:
أروح بتسليمٍ عليك وأغتدي ... وحسبك بالتَّسليم منِّي تقاضيا
كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناءً وباليأس المصرَّح ناهيا
وقال آخر:
تخلَّ لحاجتي واشدد قواها ... فقد أمست بمنزلة الضَّياع
إذا أرضعتها بلبان أخرى ... أضرَّتها مشاركة الرَّضاع
وقال آخر:

ولا تستعيننَّ في حاجةٍ ... بمن يبتغي حاجةً مثلها
فينسى الَّذي كنت كلَّفته ... ويبدأ بحاجته قبلها
وقال آخر:
وإذا يصيبك والحوادث جمَّةٌ ... حدثٌ حداك إلى أخيك الأوثق
وقال أبو العتاهية:
اقض الحوائج ما استطع ... ت وكن لهمِّ أخيك فارج
فلخير أيَّام الفتى ... يومٌ قضى فيه الحوائج
وقال الحارثي:
وما روضةٌ علويَّةٌ أسديَّةٌ ... منمنمةٌ زهراء ذات ثرى جعد
سقاها النَّدى في غفلة الدَّهر نوءها ... فنوَّارها يهتز كالكوكب السَّعد
بأحسن من حرٍّ تضمَّن حاجةً ... لحرٍ فأوفى بالنَّجاح وبالرِّفد
قال عمر بن أبي ربيعة:
إنَّ لي حاجةً إليك فقالت ... بين أذني وعاتقي ما تريد
كان يقال:من بكر يوم السبت في حاجة،كان حقاً على الله قضاؤها.
قال بشار بن برد:
بكِّرا صاحبيَّ قبل السَّحور ... إنَّ جلَّ النَّجاح في التَّبكير
قالوا: من صبر على حاجة ظفر بها ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
اصبر على مضض الإدلاج في السَّفر ... وفي الرَّواح إلى الحاجات والبكر
لا تضجرنَّ ولا يعجزك مطلبها ... فالنُّجح يتلف بين العجز والقصر
إنِّي رأيت وفي الأيَّام تجربةٌ ... للصَّبر عاقبةً محمودة الأثر
وقلَّ من جدَّ في شيءٍ يطالبه ... واستصحب الصَّبر إلاَّفاز بالظَّفر
وقال محمد بن بشير:
إنَّ الأمور إذا انسدَّت مسالكها ... فالصَّبر يفتق منها كلَّ ماارتتجا
لا تيأسنَّ وإن طالت مطالبةٌ ... إذا استعنت بصبرٍ أن ترى فرجا
أخلق بذي الصَّبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت رجلاً حاجة فلم يقضها له،وسألها غيره فقضاها إليه فكتب هذه الأبيات:
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولَّى سواكم أجرها واصطناعها
أبى لك كسب الحمد رأيٌ مقصِّرٌ ... ونفسٌ أضاق الله في الخير باعها
إذا هي حثَّته على الخير مرَّةً ... عصاها وإن همَّت بسوءٍ أطاعها
الإلحاح لا يصلح ولا يحمل إلا على الله عز وجل. قال مؤرق العجلي: سألت ربي حاجة عشرين سنة، فماانقضت لي ولا يئست منها.
قال أبو العتاهية:
في النَّاس من تسهل المطالب أح ... ياناً عليه وربَّما صعبت
ما كلُّ ذي حاجةٍ بمدركها ... كم من يدٍ لا تنال ما طلبت
من لم يسعه الكفاف معتدلاً ... ضاقت عليه الدُّنيا بما رحبت
وقال القطامي:
قد يدرك المتأنِّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزَّلل
كان بنو يربوع يوصون أولادهم،فيقولون: استعينوا على الناس في حوائجكم بالتثقيل فذلك أنجح لكم.
قال أبو نواس:
ولن يدرك الحاجات من حيث ينبغي ... من النَّاس إلاَّ المصبحون على رجل
وقال أشجع السلمي:
ليس للحاجات إلا ... من له وجهٌ وقاح
وابتكارٌ ودوامٌ ... وغدوٌّ ورواح
إن تكن أبطأت الحا ... جة عنِّي والسَّراح
فعليَّ الجهد فيها ... وعلى الله النَّجاح
وقال آخر:
هيبة الإخوان قاطعةٌ ... لأخي الحاجات عن طلبه
فإذا ماهبت ذا أملٍ ... مات ما أمَّلت من سببه
وقال آخر:
طلب الحوائج كلّها تغرير ... لا ترض معجزةً وأنت قدير
وقال دعبل بن علي الخزاعي:
جئتك مستشفعاً بلا سبب ... إليك إلاَّ بحرمة الأدب
فاقض ذمامي فإنَّني رجلٌ ... غير ملحٍّ عليك في الطَّلب
وقال آخر:
من عفَّ خفَّ على الصَّديق لقاؤه ... وأخو الحوائج وجهه مملول
وقال آخر:
وإذا هممت فأمض همَّك إنّما ... صلب الحوائج كلها تغرير
اختلف أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع في حاجة زماناً فلم يقضها له، فكتب إليه:

أكلّ طول الزِّمان أنت إذا ما ... جئت في حاجةٍ تقول غدا
لا جعل الله لي إليك ولا ... عندك ما عشت حاجةً أبدا
وقال آخر وأظنه محمود الوراق:
وذي ثقةٍ تبدَّل حين أثرى ... وما شيمي موافقة الثِّقات
فقلت له عتبت عليَّ ظلماً ... فراراً من مؤونات العدات
فعد لمودَّتي وعليَّ نذرٌ ... سؤالك حاجةً حتَّى الممات
كتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف:
لئن عدت بعد اليوم إنِّي لظالمٌ ... سأصرف نفسي حين تبغى المكارم
متى ينجح الغادي إليك لحاجةٍ ... ونصفك محجوب ونصفك نائم
وقال الصلتان العبدي:
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجةٌ ما بقي
وقال أبو العتاهية:
متى تنقضي حاجات من ليس واصلاً ... إلى حاجةٍ حتَّى تكون له أخرى
وقال آخر:
إنَّما تنجح المقالة في المر ... ء إذا صادفت هوىً في الفؤاد
سئل بعض الحكماء حاجة فامتنع، فعوتب في ذلك، فقال:لأن يحمر وجهي مرة خير من أن يصفر وجهي مراراً.
قال منصور الفقيه:
من قال لا في حاجةٍ ... مطلوبةٍ فما ظلم
وإنَّما الظَّالم من ... يقول لا بعد نعم
وقال آخر:
إذا قلت في شيءٍ نعم فأتمَّه ... فإن نعم دينٌ على الحرِّ واجب
وإلاَّ فقل لا تسترح وترح بها ... لئَّلا يقول النَّاس إنَّك كاذب
وقال آبو العتاهية:
لا يزال المرء ما عاش له ... حاجةٌ في الصَّدر منه تعتلج
ربَّ أمرٍ قد تضايقت به ... ثمَّ يأتي الله منه بالفرج
وقال آخر:
لئن أخطأت في مدحي ... ك ماأخطأت في منعي
لقد أحللت آمالي ... بوادٍ غير ذي زرع
وقال آخر:
قد تخرج الحاجات ياأمَّ مالكٍ ... كرائم من ربٍّ بهنَّ ضنين
وقال أشجع السلمي:
قد خرجت حاجات أهل الحجا ... بنجحها وامتنع المنهج
وليس فيهم رجلٌ واحدٌ ... منِّي إلى حاجته أحوج
يريبني أنِّي أرى حاجتي ... تدخل في الحاج ولا تخرج
أقول إذا أقلقني عاذلٌ ... بكلِّ ما أكرهه ملهج
قد يدرك الأمر أناة الفتى ... ويسبق في الحاجة من يدلج
باب السُّلطان والسِّياسة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلُّكم راع وكلُّكم مسؤلٌ عن رعيَّته،فالإمام الّذي على النَّاس راعٍ عليهم ومسؤلٌ عنهم، والمرأة راعيةٌ على مال زوجها وهي مسؤلةٌ عنه " .
وقال عليه السلام: " الإمام العدل لا تكاد تردُّ دعوته " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المقسطون يوم القيامة على منابر من نورٍ عن يمين الرَّحمن وكلتا يديه يمين لا يفزعون إذا فزع النَّاس " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلُّ أميرٍ لم يحط رعيَّته بالنَّصيحة لم يرح رائحة الجنة " قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا يصلح هذا الأمر إلاّ شدةٌ في غير عنف، ولين في غير ضعف.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لن يقيم أمر الناس إلا امرؤ حصيف العقدة بعيد الغور، لا يطّلع الناس منه على غوره، ولا يخاف في الله لومة لائم.
وعن عمر رضي الله عنه قال أيضاً: لا يقيم أمر الله إلاّ رجلٌ يتكلم بلسانه كله، يخاف الله في الناس، ولا يخاف الناس في الله.
لعليّ بن أبي طالب في أول كتاب كتبه: أمّا بعد، فإنه أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى اشتري، وبسطوا الجور حتى اقتدي.
قال مجّاعة بن مرارة الحنفي لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه، ضاعت الأمور.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الملك والدين أخوان، لا غنى بأحدهما عن الآخر،فالدّين أّس، والملك حارس فما لم يكن له أس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع.
قال عبد الله بن مبارك:
إنَّ الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا

كم يدفع الله بالسُّلطان معضلةً ... في ديننا رحمةً منه ودنيانا
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبلٌ ... وكان أضعفنا نهباً لأقوانا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمّ أحد على سلطانه، ولا يجلس على تكرمة إلا بإذنه " .
كان يقال: شرّ الأمراء أبعدهم من العلماء،وشر العلماء أقربهم من الأمراء.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: من الملوك من إذا ملك زهّده الله فيما في يديه، ورغبه فيما يد غيره،وأشرب قلبه الإشفاق على ماعنده،فهو يحسد على القليل، ويتسخّط على الكثير.
ولّي عليُّ بن أبي طالب عمَّ المختار بن أبي عبيد عكبرا،وقال له بين يدي أهلها: استوف منهم خراجهم، ولا تجدن عندك ضعيفاً ولا رخصة. ثم قال له: رح إليَّ، قال: فرحت إليه، فقال لي: قد قلت لك بين أيديهم ما قلت، وهم قومٌ خدعٌ،وأنا الآن آمرك بما إن قبلته وإلا أخذك الله به دوني، وإن بلغني خلاف ما أمرتك به عزلتك، لا تتبعنّ لهم رزقاً يأكلونه، ولا كسوة شتاء ولا صيف، ولا تضربن رجلا منهم سوطاً في طلب درهم،ولا تقمه في السجن في طلب درهم، فإنا لم نؤمر بذلك، ولا تستعر لهم دابّة يعملون عليها، فإن أمرنا أن نأخذ منهم العفو.
قال عمرو بن العاص لابنه: يا بنيّ!! احفظ عني ماأوصيك به، إمام عدل خير من مطر وبل، وأسدٌ حطوم خيرٌ من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم.
رسالة أردشير بن بابك إلى الملوك بعده.
من أردشير ملك الملوك، إلى الملوك الكائنين بعده: الخراج عمود المملكة بكنفه تعيش الرعية، وتحفظ الأطراف والبيضة، فاختاروا للعمل عليه أولى الطينة الحرة، من ذوي العقل والحنكة، وكفّوهم بسني الأرزاق يحموا أنفسهم من الارتفاق، فمااستغزر بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الجور.
ومن كلام الفرس في هذا الباب: لا ملك إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة ،ولا عمارة إلا بعدل.
ومن قولهم أيضاً: مثل الملك الذي يأخذ أموال رعيته ويجحف بهم، مثل من يأخذ الطّين من أصول حيطانه، فيطيَّن به سطوحه فيوشك أن تقع عليه البيوت.
ومن كلامهم أيضاً، وينسب إلى أرسطاطاليس: العالم بستانٌ سياجه الدولة، الدولة سلطان تحيه به السُّنة، السُّنة سياسة يسوسها الملك، الملك راع يعضّده الجيش، الجيش أعوان يكنفهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيدٌ يتعبّدهم العدل، العدل مألوفٌ وهو صلاح العالم.
قال عبد الملك بن عمير: كان مكتوباً في مجلس زياد الذي يجلس فيه للناس بالكوفة، في أربع زوايا بقلم جليل: الوالي شديدٌ في غير عنف،ليِّنٌ في غير ضعف، العطية لأربابها والأرزاق لأوقاتها، البعوث لا تجمر، المحسن يحازى بإحسانه، والمسيء يؤخذ على يديه. فكان كلّما رفع رأسه قرأه.
قال قتيبة بن مسلم: ملاك الأمر في السلطان: الشِّدة على المذنب، والِّلين للمحسن، وصدق القول.
قال أشجع بن عمرو السلمي:
لا يصلح السُّلطان إلاَّ شدَّةٌ ... تغشى البريء بفضل ذنب المجرم
قال الوليد بن عبد الملك لأبيه عبد الملك: ياأمير المؤمنين! ماالسياسة؟ فقال: هيبة الخاصة مع شدع عفتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف منها. قال مسلمة بن عبد الملك: ماحمدت نفسي على ظفر ابتدأته بعجز، ولا ذممتها على مكروه ابتدأته بحزم.
قال معاوية لابنه يزيد: أعط من أتاك صادقاً بما تكره،كما تعطي من أتاك بما تحب، واعلم أنه إذا أعطى الأمير على الهوى لا على الغنى فسد ملكه.
قيل لأنو شروان: إنك اصطنعت فلاناً ولا نسب له. فقال: اصطناعنا له نسبه.
قال أبو جعفر المنصور: الذي عليّ للرعية أن أحفظ سبلهم،فينصرفون آمنين في سبيلهم ولا يصدّون عن حجهم، وقضاء نسكهم، وأن أضبط ثغورهم، وأحصّنها من عدوهم وأن أختار قضاتهم، وأعزل بالحق كيلا يصل ظلم بعضهم إلى بعض، وأن أرفع أقدار فقهائهم وعلمائهم، وأكف جهالهم عن حكمائهم.

كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجَّاج: صف لي الفتنة حتى كأني أراها رأي العين. فكتب إليه: لوكنت شاعراً لوصفتها لك في شعري، ولكني أصفها لك بمبلغ رأيي وعلمي، الفتنة تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، فلما قرأ كتابه، قال: إن ذلك لكما وصفت، فخذ من قبلك بالجماعة، وأعطهم عطايا الفرقة، واستعن عليهم بالفاقة،فإنها نعم العون على الطاعة، فأخبر بذلك أبو جعفر المنصور فلم يزل عليه حتى مضى لسبيله.
قال بعض الحكماء من ملوك الفرس، لحكيم من حكماء مملكته: أي الملوك أحزم؟ قال:من غلب جدُّه هزله، وقهر لبُّه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن خطئه، ولاغضبه عن كيده.
لما أراد عمرو بن العاص المسير إلى مصر، قال له معاوية: إني أريد أن أوصيك. قال: أجل. فأوص. قال: انظر فاقة الأحرار فاعمل في سدها، وطغيان السفلة فاعمل في قمعها، واستوحش من الكريم الجائع واللئيم الشبعان، فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع.
قال بعض الحكماء: الرعية للملك كالروح للجسد،فإذا ذهب الروح فني الجسد.
وروى الهيثم بن عديّ، عن مجالد، عن الشعبي، قال عمر بن الخطاب: دلّوني عن رجل أستعمله فقد أعياني أمر المسلمين. قالوا له: عبد الرحمن بن عوف، قال لهم: ضعيف، قالوا له: فلان. قال: لا حاجة لي به. قالوا :فمن تريد؟ قال: رجل إذا كان أميرهم كان كأنّه رجل منهم، وإذا لم يكن أميرهم كان كأنه أميرهم. قالوا: ما نعلمه إلا الرّبيع بن زياد الحارثي. قال: صدقتم.
قال أبو عمر: والربيع بن زياد هذا، كان فاضلا جليلا في قومه،ولاَّه معاوية خراسان، فاستكتب الحسن بن أبي الحسن فكان كاتبه، فلما بلغه قتل معاوية حجر بن عديّ، قال: الَّلهم إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك وعجّل، فزعموا أنه لم يبرح من مجلسه حتى مات. كتب بعض ملوك العجم إلى ملك آخر منهم: قلوب الرعية خزائن ملوكها، فما أودعوها فليعلموا أنه فيها.
قال الإسكندر لأرسطاطاليس:أوصني. قال: فانظر من كان له عبيد فأحسن سياستهم فولّه الجند، ومن كانت له ضيعةٌ فأحسن تدبيرها فولّه الخراج.
وقال بعض الحكماء: لا تصغِّر أمر من جاء يحاربك، فإنك إن ظفرت لم تحمد وإن عجزت لم تعذر.
قيل لكسرى ذي الأكتاف، وكان ضابطاً لمملكته: بم ضبطت ملكك؟ قال: بثمان خصال، لم أهزل في أمر ولا نهي، ولم أخلف وعداً ولا وعيداً، وولّيت للغنى لا للهوى، وعاقبت للأدب لا للغضب، وأوطأت قلوب الرعية الهيبة من غير ضغينة،وملأتها محبة من غير جرأة،وأعطيتها القوت، ومنعتها الفضول.
قال عبد الملك بن عمير: سمعت زياداً وهو يخطب، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي ملّكنا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوَّلنا، فلنا عليكم الطاعة فيما أحسنَّا، ولكم العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا بطاعتكم ومحض ودّنا بمناصحتكم، ومهما قصَّرت فيه من أداء حقكم فلن أقصر في ثلاث:لست محتجباً عن ذي حاجة ولو أتاني طارقاً بليل، ولا مجمِّراً لكم جيشاً، ولا حابساً عنكم عطاء ولا رزقاً لإبّانة، فادعوا الله لأئمتكم بالصلاح، فإنهم ساستكم المذبُّون وكهفكم الذي إليه تأوون،فإن تصلحوا يصلحوا، ولا تشعروا قلوبكم بغضتهم فيشتدَّ عيظكم، ويطول حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، فإنه لو استجيب لكم فيهم كان شراً لكم، نسأل الله أن يعين كلاًّ على كلّ.
كان يقال: ينبغي للملك أن يعمل بثلاث خصال: تأخير العقوبة عند الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن بإحسانه، والعمل بالأناة فيما يحدث له، فإن له في تأخير العقوبة إمكان العفو،وفي تعجيل المكافأة بالإحسان: المسارعة إلى الطاعة، وفي الأناة انفساح الرأي وإيضاح الصواب. كان يقال: من سعى بدليل في التدبير لم يقعد به إلاّ سابق قضاء لا يملك.
ذكر المبرّد قال: كان بعض عقلاء ملوك الفرس إذا شاور من قد رتّبهم لمشورته فقصّروا في الرأي، دعا الذين قد وكّلهم في أرزاقهم فعاقبهم، فيقولون: يخطئ أهل مشورتك فتعاقبنا نحن. فيقول: نعم. إنهم لم يخطئوا إلاّ بتعلق قلوبهم بأرزاقهم فإذا اهتمُّوا لحاجاتهم أخطأوا.

قال بعض الحكماء لبعض الملوك: أوصيك بأربع خصال ترضى بهن ربَّك، وتصلح معهن رعيتك: لا يغرنَّك ارتقاء السهل إذا كان المنحدر وعراً، ولا تعدن وعداً ليس في يديك وفاؤه، واعلم أن الأمور بغتاتٌ فبادر، واعلم أن الأعمال جزاء، فاتَّق العذاب.
قال زياد: كمال الرأي شدةٌ في غير إفراط، ولين في غير إهمال.
ضرب مصعب بن الزبير وجه الأسقف بالقضيب، فقال:إني أجد في الإنجيل: لا ينبغي للإمام أن يكون سفيهاً ومنه يلتمس الحلم، ولا ينبغي له أن يكون جائراً ومن عنده يلتمس العدل. سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام أن يعرّفهم الزمان الذي يرضى فيه الله عن الناس، فقال: إذا استعمل منهم الهيِّن البرّالخّير.
وفي خبر آخر: علامة رضا الله عن عباده أن يستعمل عليهم خيارهم، وأن ينزل الغيث في أوانه، وعلامة سخطه عليهم أن يولى عليهم شرارهم، وينزل عليهم الغيث في غير أوانه.
قال معاوية لابن الكوَّاء: صف لي الزمان، فقال: أنت الزمان إن تصلح يصلح، وإن تفسد يفسد.
خير من هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أمَّتي إذا صلحا صلح الناس، الأمراء والعلماء " .
قال الأحنف بن قيس: كلّ ملك غدور، وكلّ دابة شرود، وكل امرأة خئون؟؟.
قال الأعور السلمي: يا معشر بني سليم أنذركم السلطان فإنه أصبح صعباً حنوطاً يغضب كما يغضب الصبي، ويفترس كما يفترس الأسد.
قال عبد الملك بن مروان: لقد كنت أمشي في الزرع فأتقي الجندب أن أقتله، وإن الحجاج اليوم ليكتب إليّ بقتل فئام من النّاس فما أحفل بذلك.
قال بعض الولاة لأعرابي: قل الحق وإلا أوجعتك ضرباً، فقال وأنت فاعمل به، فما توعَّدك الله به أشدُّ مما توعدني به.
قيل لملكٍ زال عنه ملكه: لم زال عنك مللك؟ قال:لمدافعتي عمل اليوم إلى غد.
قال ابن شبرمة: من أكل من حلوائهم انحطّ؟ في أهوائهم.
قال كسرى لوزيره: إياك أن تدخل عليّ كثيراً فأملّك فتثقل عليّ حوائجك، ولا تطل الغيبة عني فأنساك.
قال بعض الحكماء: من زال عن أبصار الملوك زال عن قلوبهم.
قال ابن المعتز: أشقى النَّاس بالسُّلطان صاحبه، كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقاً.
قال الشاعر:
إنَّ الملوك بلاءٌ حيثما حلُّوا ... فلا يكن لك في أفنائهم ظلُّ
وما تريد بقومٍ إن هم سخطوا ... جاروا عليك وإن أرضيتهم ملُّوا
وإن مدحتهم ظنُّوك تخدعهم ... واستثقلوك كما يستثقل الكلُّ
فاستغن بالله عن أبوابهم أبداً ... إنَّ الوقوف على أبوابهم ذلُّ
قالوا: السلطان كالنار، من تباعد منها لم ينل من دفئها شيئاً،ومن تقرب منها أحرقته.
ذكر أعرابي الملوك فقال: الملك أقرب ما تكون إليه أخوف ما تكون منه، شاهده يظهر حبك، وغائبه يبتغي غيرك.
قال المأمون: لو كنت مع العامة لم أصحب السلطان.
قال أبو قردودة:
إنِّي نهيت ابن عمَّارٍ وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشَّعره
إنَّ الملوك متى تنزل بساحتهم ... يطر بثوبك من نيرانهم شرره
وقال آخر:
إذا ضحك الأمير إليك فاعلم ... بأنَّ ضميره لك مستقيم
ولا تحفل بضحكٍ من كفيٍّ ... فكلُّ النَّاس ضحكهم سقيم
قال العباس بن محمد المنصور: ياأمير المؤمنين؟ إنما هو سيفك ودرعك،فادرع بدرعك من شكرك واحصد بسيفك من كفرك.
قالوا:لا تغتر بالأمير إذا غشك الوزير.
ومنهم من قال: لا تثق بالأمير إذا خانك الوزير.
جلس معاوية يأخذ البيعة على الناس من عليّ. فقال رجل ياأمير المؤمنين إنا نطيع أحياءكم، ولا نبرأ من موتاكم. فالتفت معاوية إلى المغيرة بن شعبة فقال: رجل فاستوص به خيراً.
كان يقال:إذا نزلت من الوالي بمنزلة الثّقة فاعزل عنه كلام الخنا والملق، ولا تكثرنّ له الدعاء في كل كلمة،فإن ذلك يشبه الوحشة، وعظّمه ووقّره في الناس.
قال الشعبيّ: أخطأت عند عبد الملك بن مروان في أربع: حدثني بحديث يوماً فقلت :أعده عليّ فقال: أما علمت أن أمير المؤمنين لا يستعاد وقلت له حين أذن لي عليه: أن الشعبي فقال: ما أدخلناك حتى عرفناك. وكنيت عنده رجلا، فقال أما علمت أنه لا يكنى أحد عند أميرالمؤمنين. وحدثني بحديث فسألته أن يكتبه. فقال:إنا نكتِّب ولا نكتَّب.

وهذا الخبر عندي غير صحيح، لأن المحفوظ عن الشَّعبي أنه قال: مااستعدت حديثاً قط. ولا تشبه سائر الحكاية أخلاق الشعبي.
قال الشعبي:قال لي عبد الملك جنبني ثلاثاً وأورد عليَّ ما شئت، لا تطرني في وجهي، فأنا أعلم بنفسي، وإياك أن تغتاب عندي أحداً، واحذر أن أجد عليك كذبة فلا أسكن إلى قولك أبداً. وهذا مأخوذ من قول العباس لابنه عبد الله رضي الله عنهما. قال عبد الله بن عباس، قال لي أبي:إني أرى أمير المؤمنين - يعني عمر بن الخطاب - يدنيك دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجدنّ عليك كذباً، ولا تغتابن عنده مسلماً،ولا تفشين له سرّاً. فقيل له:يا ابن عباس كل واحدة خير من ألف،فقال: كل واحدة خير من عشرة آلاف.
قال عمر بن الخطاب لهنيّ إذ ولاه الحمى:يا هني اضمم جناحك، واتق دعوة المظلوم.
قال الفرزدق:
قل لنصرٍ والمرء في دولة السُّل ... طان أعمى ما دام يدعى أميرا
فإذا زالت الولاية عنه ... واستوى بالرجال كان بصيرا
قال المهلب لابنه:يا بني اخفض جناحك واشتدّ في سلطانك،فإن الناس للسلطان أهيب منهم للقرآن.
كان يقال: ثلاثة من عازّهم رجعت عزّته ذلاًّ، السَّلطان والوالد والعالم.
كان يقال: أربعة تشتد معاشرتهم المتواني، والفرس الجموح، والسلطان الشديد المملكة والعالم.
بصق عبد الملك يوماً فقصر بصاقه، فوقع فوق البساط، فقام رجل من المجلس يمسحه بثوبه. فقال عبد الملك: أربعة لا يستحيا من خدمتهم: السلطان، والوالد، والضيف، والدابة. وأمر للرجل بصلة.
كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عامل له: إنّ مدينتنا قد احتاجت إلى مرمّة. فكتب إليه عمر: حصّن مدينتك بالعدل، ونقّ طريقها من الظلم. قال معاوية بن أبي سفيان:من وليناه من أمورنا شيئاً فليجعل الرفق بين الأمانة والعدل.
قال محمد بن كعب القرظي: قال لي عمر بن عبد العزيز:صف لي العدل يا ابن كعب. قلت: بخٍ بخٍ، سألت عن أمر عظيم. كن لصغير الناس أباً، ولكبيرهم ابناً،وللمثل منهم أخاً،وللنساء كذلك،وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر احتمالهم، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً فتكون من العادين.
كان يقال: ليس شيءٌ أحسن عند الله من حلم إمام ورأفته.
قال زياد لابنه عبيد الله يا بنيّ:إذا دخلت على أمير المؤمنين فادع له، واصفح صفحاً جميلا، ولا تريّن متهالكا عليه، ولا منقبضاً عنه.
قال مالك: قيل لأبي الدرداء: يردُّك معاوية، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الّلهمَّ غفراً. من يأت أبواب السلطان يقم ويقعد.
قال معاوية: لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي.
قال معاوية يوماً، وقد ذكر من كان قبله:أما أبو بكر فهرب عن الدنيا،وهربت عنه. وأما عمر فأقبلت إليه وهرب منها، وأما عثمان فأصاب من الدنيا وأصابت منه، وأما أنا فقد داستني الدنيا ودستها.
قال أبو عمر رضي الله عنه: سكت عن عليّ، وأنا أقول: وأما عليّ فأصابت الدنيا منه ولم يصب منها.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:إني لأستعمل الرجل، وأدع خيراً منه، وذلك أني أستعمله لأن يكون أنقص عيباً وأوسع رأياً، وأشد جرأة، وأصبر على الجوع والعطش. وقد روي هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
كان يقال: يوم من أيام إمام عادل أفضل من مطر أربعين صباحاً أحوج ما تكون الأرض إليه. قال المهلب: خير الولاة من كان في رعيته كأنه غائب عنها، وهو شاهد فيها وكان المحسن في أيامه آمناً والمسيء خائفاً.
وقال بعض الحكماء الناس يحبّون سلطانهم على الدِّين، والتواضع ولين الجانب، وينقادون لشدة الطّيش.
قال أبو العتاهية:
رضيت ببعض الذُّلِّ خوف جميعه ... وليس لمثلي بالملوك يدان
وكنت امرءاً أخشى العقاب وأتَّقي ... مغبَّة ما تجني يدي ولساني
ولوأنَّني عاندت صاحب قدرةٍ ... لعرَّضت نفسي صولة الحدثان
فهل من شفيعٍ منك يقبل توبتي ... فإنِّي امرؤٌ أو في كلِّ ضمان
وقال الحسن بن سهل :
فرضت عليَّ زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد وإن لم تستطع ... فاجهد بجهدك كلّه أن تنفعا
وقال آخر:

ليس في كلِّ ساعةٍ وأوان ... تتهيَّا صنائع الإحسان
فإذا أمكنت فبادر إليها ... حذراً من تعذُّر الإمكان
كان زياد إذا أتي بصاحب زلة، أخرّ عقوبته أياماً يسأل عن قضيته مخافة الزيادة في العقوبة. صعد عبد الملك المنبر، فقال في خطبته: يا معشر رعيتنا سألتمونا سيرة أبي بكر وعمر، ولم تسيروا فينا ولا في أنفسكم سيرة رعية أبي بكر وعمر، ولكن نسأل الله أن يعين كلاً على كل. تعرَّض رجل للحسن بن سهل، فقال:من أنت؟ فقال: أنا الذي أحسنت إليَّ عام كذا فقال الحسن: مرحباً بمن توسل إلينا بنا.
وهذا عندي مأخوذ من قول معاوية: أحب الناس إلي، من له عندي يد ثم أحبهم إليّ بعده من لي عنده يد.
قال الشعبي:دخلت يوماً على ابن هبيرة وبين يديه رجل يريد قتله، فقلت: أصلح الله الأمير، أنت على فعل مالم تفعل أقدر منك على ما فعلت، ولأن تندم على العفو خير من أن تندم على العقوبة. قال: صدقت يا شعبي. وأمر بالرجل إلى السجن.
قال المأمون: تحتمل الملوك لأصحابهم كل شيء إلا ثلاث خصال:القدح في الملك، وإفشاء الأسرار، والتعرض للحرم.
روى ابن دريد، عن ابن أخي الأصمعي، عن عمه عن أبي عمرو بن العلاء أنه دخل على سليمان بن علي،فسأله عن شيء فصرفه عنه، فغضب سليمان بن علي فخرج أبو عمرو وهو يقول:
أنفت من العار عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قرَّبوا
إذا ما صدقتهم خفتهم ... ويرضون منِّي بأن يكذبوا
قيل للعتابي: لم لا تخدم الأمير؟ أو لا تكتب للأمير، فقال: لأني رأيته يعطي رجلاً ألف مثقال بلا خصلة، ويرمي آخر من أعلى السور على الرأس بلا ذنب، فلا أدري أي الرجلين أكون عنده، مع أن الذي أعطي في ذلك، أكثر من الذي آخذ - يريد مهجته - وركوب الغرر فيها معه، والعتابي هو القائل:
تلوم على ترك الغنى باهلِّيةٌ ... زوى الدَّهر عنها كلَّ طرفٍ وتالد
رأت حولها النِّسوان يرفلن في الكسى ... مقلَّدةً أجيادها بالقلائد
يسرُّك أنِّي نلت ما نال جعفرٌ ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد
وأنَّ أمير المؤمنين أغصَّني ... مغصَّهما بالمرهفات البوارد
ذريني تجئني ميتتي مطمئنَّةً ... ولم أتجشَّم هول تلك الموارد
وإنَّ كريمات المعالي مشوبةٌ ... بمستودعاتٍ في بطون الأساود
وقال الغزال:
وإن أعطيت سلطاناً ... فحاذر صولة الزَّمن
أخو السُّلطان موصوفٌ ... بحسن الرَّأي والفطن
فساعة ما يزاوله ... رماه النَّاس بالَّلعن
ويصبح رأيه المحمو ... د منسوباً إلى الأفن
وتبصر في مطَّيته ... سقوط العين والأذن
وتسترخي مفاصله ... وتكسى كسوة الحزن
كأن بشاشة السُّلطا ... ن حين تزول لم تكن
وقال إدريس بن مقيم الإشبيلي:
قالوا تقرَّب من السُّلطان قلت لهم: ... يعيذني الله من قرب السَّلاطين
إن قلت دنيا فلا دنيا لممتحنٍ ... أو قلت دينٌ فلا ديناً لمفتون
قيل لأعرابي: من أنعم الناس عيشاً؟ قال: من لم يعرف السلطان ولم يعرفه السلطان، وكان في كفاف وغنى.
وأما أهل الآخرة فطريقتهم الإعراض عنهم، وترك معاشرتهم.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:حدثونا أن الحسن البصري نظر إلى قوم صحبوا السلطان واتسعت دنياهم، فقال:ماتنظرون إليهم، فوالله لئن كانوا من أهل الجنة لقد عجل لهم قليل من كثير ذخرلهم، ولئن كانوا من أهل النار لقد أعطوا قليلاً من كثير صرف عنهم فأتاهم، فارحموا ولا تغبطوا.
أنشدني عبد الله بن محمد بن يوسف لنفسه:
مايشتهي قرب السَّلاطين ... غير ضعيف العقل مجنون
لا تكذبن عنهم فما صحبهم ... منهم على دنيا ولا دين
دنياهم بالخزي موصولةٌ ... ولا تسل عن دين مفتون
خيرهم فاعلمه لا يرتجى ... وشرُّهم ليس بمأمون
لا رأي لهم في نيل دنياهم ... حسبي بأن يسلم لي ديني

شكت الرعية بعض العمال، فارتضى العامل بسهل بن عاصم فسأله الأمير:فقال: مافي عاملك مايشتكى إلا أن الله أمر بأمرين، امتثل فينا أحدهما وترك الآخر، قال الله عز وجل: " إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان " ، فعدل فينا ولم يحسن إلينا، وفي العدل بغير إحسان عطب الرعية، فقال له الأمير: صدقت قد وليتك مكانه.
ومن كلام ابن المعتز في هذا الباب: لا يدرك الغنى بالسلطان إلا نفس خاشعة، وجسم متعب، ودين منثلم.
من شارك السلطان في عز الدنيا، شاركه في ذل الآخرة.
فساد الرعية بلا ملك، كفساد الجسم بلا روح.
إذا زادك الملك إيناساً فزده إجلالا.
لا تلبسن بالسلطان في وقت التباس الأمور عليه واضطرابها، فإن البحر لا يكاد يسلم راكبه في حال سكونه، فكيف عند اختلاف رياحه واضطراب أمواجه.
ريح السلطان على قوم سموم، وعلى قوم نسيم.
الملك حقُّ الملك، من نشر أنواع الفضل وبسط أنواع العدل، وجانب المطامع الرديئة، والمطاعم الدنيئة.
قال مطرِّف لا تنظر إلى خفض عيش الملوك،ولكن انظر إلى سرعة ظعنهم، وسوء منقلبهم. سئل رجل من بني أمية عاقل، فقيل له: أخبرنا عن أول شيء كان بدء زوال ملككم، فقال: سألت فاسمع، وإذا سمعت فافهم. تشاغلنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا، ووثقنا بوزراء آثروا مرافقهم على منافعها، وأبرموا أموراً أسروها عنا، فظلمت رعيتنا، ففسدت نياتهم لنا، وجدب معاشنا فخلت بيوت أموالنا، وقل جندنا فزالت هيبتنا، واستدعاهم أعداؤنا فظاهروهم علينا، وكان أكثر الأسباب في ذلك استتار الأخبار عنا.
أنشدني أبو القاسم محمد بن نصير الكاتب لنفسه:
إذا ما الله شاء صلاح قومٍ ... أتاح لهم أكابر مصلحينا
ذوي رأيٍ ومعرفةٍ وفهمٍ ... وإعداد لما قد يحذرونا
فلم يستأثروا بكثير جمعٍ ... وكانوا للمصالح مؤثرينا
ويسَّرهم لفعل الخير فيما ... إليهم من أمور المسلمينا
وإن يشأ الإله فساد قومٍ ... أتاح لهم أكابر معتدينا
ذوي كبرٍ ومجهلةٍ وجبنٍ ... وإهمالٍ لما يتوقَّعونا
فظلُّوا يشرهون ويجمعونا ... وليسوا في العواقب يفكرونا
وجاروا حيثما أمروا بعدلٍ ... كأن قد قيل كونوا جائرينا
وقال الأفوه الأودي:
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهَّالهم سادوا
إذا تولَّى سراة القوم أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم وازدادوا
تلقى الأمور بأهل الرأي قد صلحت ... وإن تولت فبالأشرار تنقاد
وقال محمد بن نصر:
لا تحقرنَّ امرءاً إن كان ذا ضعة ... فكم وضيعٍ من الأقوام قد رأسا
فربّ قومٍ حقرناهم فلم نرهم ... أهلا لخدمتنا صاروا لنا رؤسا
من الأمثال في السُّلطان وصحبته
إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة.
لا صلاح للخاصَّة مع فساد العامة، ولا نظام للدَّهماء مع دولة الغوغاء.
الحكم ميزان الله في الأرض.
كلُّ الناس أحقّاء بالسجود لله عزّ وجلّ، وأحقّهم بالسجود لله والتواضع له من رفعه الله عن السجود لأحد من خلقه.
كفارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان.
لا رحم بين الملوك وبين أحد.
للملوك بدوات.
الملك عقيم.
الملك يبقي على الكفر، ولا يبقى على الظلم.
سكر السلطان أشدُّ من سكر الشراب.
السلطان كالنار:إن باعدتها بطل نفعها، وإن قاربتها عظم ضررها.
جاور ملكاً أو بحراً.
صاحب السلطان كراكب الأسد، يهابه الناس وهو لمركبه أهيب.
أجرأ الناس على الأسد أكثرهم له رؤية.
السُّلطان كالسُّوق ما نفق فيها جلب إليها.
إن كان البحر كثير الماء فإنه بعيد المهوى.
السُّلطان إذا قال لعماله :هاتوا، فقد قال: خذوا.
الناس على دين الملك.
عفو الملوك أبقى للملوك.
من خدم السلطان خدمه الإخوان.
ثلاثة لا أمان لهم: السّلطان والبحر والزمان.
من تحسَّى مرقة السُّلطان أحرقت شفتاه ولو بعد حين.
مثل أصحاب السلطان كقوم رقوا جبلا ثم وقعوا منه، فكان أبعدهم في المرتقى أقربهم من التلف.
باب الكتّاب والكتابة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن أمّة أمِّيةٌ لا نكتب ولا نحسب " .

وروي عنه عليه السلام أنه قال: " من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويقبض المال،ويكثر التجار،و يظهر القلم " .يعني الكتابة.
قال الحسن البصري: لقد أتى علينا زمان وإنما يقال:تاجر بني فلان وكاتب بني فلان، ما يكون في الحي إلا التاجر الواحد والكاتب الواحد، قال الحسن: لقد كان الرجل يأتي الحي العظيم فلا يجد به كاتباً.
وفي الحديث المرفوع: " فشوُّ القلم، وفشو التجارة من أشراط الساعة " يعني بقوله فشو القلم: ظهور الكتابة وكثرة الكتّاب.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أتربوا الكتب وسجُّوها من أسفلها فإنه أنجح للحاجة " .
وفي خبر آخر عنه عليه السلام: " إذا كتب أحدكم في حاجة فليترب كتابه، فالبركة في التراب " .
وروى عن بعض أهل التفسير في قول الله عز وجل حاكياً عن يوسف عليه السلام: " اجعلني على خزائن الأرض إنِّي حفيظٌ عليمٌ " . قال كاتب حاسب.
كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم: أبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعلي وعثمان، وحنظلة الأسديّ،ومعاوية، وعبد الله بن الأرقم، وكان كاتبه المواظب له في الرسائل والأجوبة زيد بن ثابت، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعلم السريانية ليجيب عنه من كتب إليه بها،فتعلمها في ثمانية عشر يوماً.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع: إذا كتبت فألن دواتك، وأطل من قلمك،وفرج بين السطور، وقارب بين الحروف.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله:إذا كتبتم فأرقّوا الأقلام، وأقلوا الكلام واقتصروا على المعاني، وقاربوا بين الحروف، تكتفوا من القراطيس بالقليل.
كانت العرب تسمي كل صانع قيناً إلاّ الكاتب.
قالوا: القلم أحد اللسانين.
قالوا: الخطّ الحسن يزيد الحق وضوحاً.
قال المأمون: الخطّ لسان اليد، وهو أفضل أجزاء اليد.
قال بعض الملوك:للكاتب الناصح ثلاث خصال: رفع الحجاب عنه، واتهام الوشاة عليه،و دفع غائلة العدوّ عنه.
قال ابن القرِّيّة:خط القلم يقرأ بكل مكان، وفي كل زمان، ويترجم كل لسان، ولفظ الإنسان لا يجاوز الآذان.
قال أبو ساسان حضين بن المنذر:ما رأيت بارياً لا يقيم الخط إلا رأيته لا يقيم الشعر.
قيل لنصر بن سيار: فلان لا يخطّ، قال :تلك الِّزمانة الخفية.
قال بعض البلغاء:صورة الخط في الإبصار سواد، وفي الأنصار بياض، وهذا عندي مأخوذ من قول ابن المعتز: القلم يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة، على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء. أمر أبو جعفر المنصور بسجن طائفة من الكتاب غضب عليهم،فكتب إليه بعضهم من طريق السجن:
أطال الله عمرك في صلاحٍ ... وعزٍّ ياأمير المؤمنينا
بعفوك نستجير فإن تجرنا ... فإنَّك رحمةٌ للعالمينا
ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا
وذكر هذا الخبر الحارث بن أسامة في كتابه المعروف بكتاب الخلفاء، وفي أخبار المنصور: أن أحزاباً من الكتاب ترددوا في ديوان داره، فأمر بإحضارهم وتقدم من تأديبهم، فقال واحد منهم، وهو يضرب: أطال الله عمرك،وذكر الأبيات الثلاثة فعفا عنهم وأمر بتخليتهم.
قال ابن القاسم: سئل مالك عن النصراني أيستكتب؟ قال: لا أرى ذلك، وذلك أن الكاتب يستشار، فيستشار هذا في أمور المسلمين! ، ما يعجبني أن يستكتب.
قال بعض الحكماء لبنيه: يا بني تزيوا بزيّ الكتّاب، فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة. قدم كتاب أبي عبيدة على عمر بن الخطاب، وعنده أبو موسى، فقال له: يا أبا موسى! ادع كاتبك حتى يقرأ كتاب أبي عبيدة بالفتح. فقال: إنه لا يدخل المسجد.قال: ولم، أجنبٌ هو؟ قال: لا. ولكنه نصرانيّ، فصاح عليه صيحة وانتهره، قال: عزمت عليك إلا عزلته، ثم قال: لا تقرّبوهم بعد أن أبعدهم الله، ولا تكرموهم بعد أن أهانهم الله، ولا تشاوروهم بعد أن جهّلهم الله، قال أبو موسى: فعزلته وطردته.
قال أبو عمر رحمه الله: كيف يؤتمن على سر أو يوثق به في أمر، من دفع القرآن وكذب النبي عليه السلام.

استأذن على المأمون بعض شيوخ الفقهاء، فأذن له، فلما دخل عليه رأى بين يديه رجلاً يهوديَّاً كاتباً، كانت له منزلة وقربه لقيامه بما يصرفه فيه ويتولاه من خدمته، فلما رآه الفقيه قال - وقد كان المأمون أومأ إليه بالجلوس - : أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إنشاد بيت حضر قبل أن أجلس قال: نعم، فأنشده:
إنَّ الَّذي شرِّفت من أجله ... يزعم هذا أنَّه كاذب
وأشار إلى اليهوديّ، فخجل المأمون ووجم، ثم أمر حاجبه بإخراج اليهودي مسحوباً على وجهه، وأنفذ عهداً باطّراحه وإبعاده، وألاّ يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من أعماله. اسم الكتّاب بالفارسية ديوان، أي شياطين، لحذقهم بالأمور ولطفهم، فسمي الديوان باسمهم.
قال الزبير بن أبي بكر: كتب إليّ المغيرة بن محمد يستبطئ كتبي، فكتبت إليه:
ماغيَّر النَّأي ودَّاً كنت تعهده ... ولا تبدَّلت بعد الذكر نسيانا
ولا حمدت إخاءً من أخي ثقةٍ ... إلاَّ جعلتك فوق الحمد عنوانا
باب الظُّلم والجور
قال الله عز وجل: " وقد خاب من حمل ظلماً " .
وقال عزوجل: " ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً " .
وفي صحف إبراهيم عليه السلام:اتق دعوة المظلوم، فإني لا أردّها، ولو كانت من كافر أقول: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منَّا من ظلم مسلماً أو ضرَّه أو عزَّه أو ناكره " . وروي عنه عليه السلام أنه قال: " ما تبالي حسَّنت جوراً أو دخلت فيه، وفتحت عدلا، أو خرجت منه " . وقد روي هذا من كلام علي رضي الله عنه فالله أعلم.
لمرة بن محكان في الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي:
؟؟أحار تبيَّن في الأمور فإنَّه ... إذا الأمير عدا في الحكم أو فسدا
فإنَّك محلولٌ عليك وظاعنٌ ... فمهما تصبه اليوم تدرك به غدا
وقال آخر:
نخاف على حاكمٍ عادلٍ ... ونرجو، فكيف لمن يظلم
إذا جار حكم امرئٍ ملحدٍ ... على مسلمٍ هلك المسلم
الظلم في وضع كلام العرب: وضع الشيء في غير موضعه، وأخذ المرء ما ليس له،ومن ذلك قولهم: من أشبه أباه فما ظلم، أي ما وضع الشبه في غير موضعه.
فكل مسيءٍ ظالم، تقول العرب للمسيء المفرط في الإساءة: هذا أظلم من حية، وأظلم من ذئب، قال عمرو بن بحر: لأن الحية لا تتخذ لنفسها بيتاً،وهي تقصد كل بيت يصلح لها من بيوت الخشاش والهوامِّ فيهرب أهله عنه ويخلّونه لها خوفا منها.
قال مضرّس بن لقيط الفقعسي:
إذا قلت الداء بيني وبينهم ... أتى حاطبٌ منهم لآخر يقبس
لعمرك لو أنّي أخاصم حيّةً ... إلى فقعسٍ ما أنصفتني فقعس
فما لكم إليَّ كأنَّكم ... ذئاب الغضا والذئب بالَّليل أطلس
ويقولون أيضاً:هو أظلم من ذئب، وأظلم من ورل، كما يقولون:أظلم من حية، وذلك أن الورل يقوى على الحيات كلها، ويأكلها أكلا ذريعاً، وكل شدة يلقاها ذو جحر من الحية تلقى مثل ذلك من الورل، والورل ألطف بدناً من الضب، ولكنه أشد من الضب وأجود سلاحاً، وله شحمة والأعراب يستطيبون لحم ذنبه،والورل دابة خفيفة الرأس والحركات ذاهباً وجائياً، ويميناً وشمالاً، وليس شيء بعد العظاء شيء أكثر تلفتاً منه، وبراشن الورل أقوى من براشن الضب،حكى ذلك كله عمرو بن بحر.
قال: ومن أمثال العرب: من استرعى الذئب ظلم، وأنشد لبعض بني جعفر ابن كلاب يضرب المثل بجور الحية والذئب:
كأنَّني حين أحبو جعفراً مدحي ... أسقيهم طرق ماءٍ غير مشروب
ولو أخاصم أفعى نابها لثقٌ ... أو الأساود من صمِّ الأهاضيب
لكنتم معها إلباً وكان لها ... نابٌ بأسفل ساقٍ أو بعرقوب
ولو أخاصم ذئباً في أكيلته ... لجاءني كلُّهم يسعى مع الذيب
قال بعض الحكماء:أعجل الأمور عقوبة وأسرعها لصاحبها: سرعة ظلم من لا ناصر له إلا الله، ومجاورة النعم بالتقصير، واستطالة الغنيّ على الفقير.
روي عن مجاهد أنه قال: المعلم إذا لم يعدل بين الصبيان كتب من الظلمة.

إنما شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية حرب الفجار، وظهرت العرب على الفرس يوم ذي قار، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا فيها مظلومين.
فأما حرب الفجار فكانت بين بني عامر بن صعصعة وبين قريش، وذلك أن بني عامر بن صعصعة طالبوا أهل الحرم من قريش وكنانة، بجريرة البرَّاض بن قيس في قتله عروة الرجال، وكان البراض خليعاً فاتكاً، فأقامهم إلى حربهم، فألزموهم ذنب غيرهم ظالمين لهم، فلذلك شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم دافعوا عن أنفسهم وديارهم وأموالهم، ونصروا بحضور النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك نصرت العرب على فارس يوم ذي قار برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي: كانت وقعة ذي قار قبل وقعة بدر بأشهر، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فلما بلغه ذلك، قال: " هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم " .
قال هشام: حدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: ذكرت وقعة ذي قار عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: " ذلك أوّل يومٍ انتصفت فيه العرب من العجم " .
خرج الأضبط بن قريع السعدي من بني سعد، فجاور ناساً، فلما رأى مذهبهم وظلمهم لم يحمدهم ورجع إلى قومه، وقال: بكل واد بني سعد، فأرسلها مثلا.
وقال الأشعر الرَّقبان الأسدي في قصيدة له:
وأنت مليخٌ كلحم الحوار ... فلا أنت حلوٌ ولا أنت مرّ
وحسبك في النَّاس أن يعلموا ... بأنَّك فيهم غنيٌّ مضرّ
ومن أمثالهم: من لم يكن ذئباً أكلته الذئاب، وكان الشعبي إذا تمثل بذلك يقول ومن ذا الذي يرضى أن تأكله الذئاب.
ولعبيد بن أيوب وكان قد تاب فظلم، فهم بمراجعة الضلال، فقال:
ظلمت الناس فاعترفوا بظلمي ... فتبت فأزمعوا أن يظلموني
فلست بصابرٍ إلا قليلاً ... فإن لم يرعووا راجعت ديني
قال زهير:
..ومن لا يظلم النَّاس يظلم
أخذه ابن دريد فقال:
من ظلم النَّاس تحاموا ظلمه ... وعزَّ عنه جانباه واحتمى
وقال المتنبي:
والظُّلم من شيم النُّفوس فإن تجد ... ذا عفَّةٍ فلعلَّةٍ لا يظلم
وله أيضاً:؟
ومن عرف الأياَّم معرفتي بها ... وبالنَّاس روَّى رمحه غير راحم
وهذه الأخلاق أخلاق الفسّاق، ومن لم يتأدب بأدب القرآن،ولا استن بسنن الإسلام في الأخذ بالعفو والصفح والرحمة والرأفة، وأين قول المتنبي من قول محمود الوراق:
إنِّي وهبت لظالمي ظلمي ... وغفرت ذاك له على علمي
ورأيته أسدى إليَّ يداً ... فأبان منه بجهله حلمي
رجعت إساءته عليَّ له ... حسناً فعاد مضاعف الجرم
وغدوت ذا أجرٍ ومحمدةٍ ... وغدا بكسب الذَّمِّ والإثم
فكأنَّما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم
مازال يظلمني وأرحمه ... حتَّى بكيت له من الظُّلم
وله أيضاً:
اصبر على الظُّلم ولا تنتصر ... فالظُّلم مردودٌ على الظَّالم
وكل إلى الله ظلموماً فما ... ربِّي عن الظَّالم بالنَّائم
وقال آخر:
نامت جفونك والمظلوم منتبهٌ ... يدعو عليك وعين الله لم تنم
وقال آخر:
ومامن يدٍ إلاَّ الله فوقها ... ولا ظالمٌ إلاَّ سيبلى بظالم
وقال آخر:
فإن قلتم إنَّا ظلمنا فلم نكن ... ظلمنا ولكنَّا أسأنا التَّقاضيا
وقال آخر:
تأنَّ ولا تعجل وكن مترفِّقا؟ً ... وكن راحماً بالنَّاس تبلى براحم
كان يقال:إذا دعتك الضرورة إلى ظلم من هو دونك فاذكر قدرة الله تعالى على عقوبتك، فأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.
قال الشاعر: ؟ونستعدي الأمير إذا ظلمنا فمن يعدي إذا ظلم الأمير
إذا كان الأمير عليك خصماً ... فلا تكثر فقد غلب الأمير
وقال آخر:
والخصم لا يرتجى النَّجاح له ... يوماً إذا كان خصمه القاضي
وقال آخر:
من يكن القاضي أباه فليبت ... في راحةٍ من خصمه لا يلتفت

قال كعب لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما:ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء،فقال عمر:إلا من حاسب نفسه، قال كعب:والذي نفسي بيده إنها لكذلك إلا من حاسب نفسه ما بينهما حرف. يعني في التوراة.
خرج عمر بن عبد العزيز يوماً،فقال: ما شاء الله! كان الوليد بن عتبة بالشام، والحجاج بالعراق وقرَّة بن شريك بمصر، وعثمان بن حيَّان بالحجاز، ومحمّد بن يوسف باليمن، امتلأت الأرض ظلماً وجورا.
ولعون بن عبيد الله بن عتبة بن مسعود: ؟؟وأوَّل ما نفارق غير شكٍّ نفارق ما يقول المارقونا
وقالوا: مؤمنٌ دمه حلالٌ ... وقد حرمت دماء المؤمنينا
وقالوا: مؤمنٌ من أهل جورٍ ... وليس المؤمنون بجائرينا
وقال أبو العتاهية:
أماوالله إنَّ الظُّلم لؤمٌ ... وما زال المسيء هو الظَّلوم
إلى دياَّن يوم الدّين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غداً عند الإله من الملوم
وكتب بها مع يحيى بن خالد بن برمك.
قال الشاعر:
إذا جار الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويلٌ ثمَّ ويلٌ ثمَّ ويلٌ ... لقاضي الأرض من قاضي السماء

باب العفو والتجاوز وكظم الغيظ
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " مازاد الله عبداً بعفوٍ إلاَّ عزَّاً " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " من لا يرحم لا يرحم، إنما يرحم الله من عباده الرحماء " .
وقال عليه السلام: " مانزعت الرَّحمة إلا من شقيٍّ " .
وقال: " ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم " .
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السَّماء " .
وفي الأثر المرفوع أنه: " ينادي المنادي في بعض مواقف القيامة:ليقم من له عند الله ما يحمد له،فلا يقوم إلاّ من عفا " .
وفي الحديث أيضا: ً " إن الله عفوٌّ غفور يحبُّ العفو عن عباده " .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " أقيلوا ذوي الهيئات زلاّتهم " .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل العفو عند القدرة،وأفضل القصد عند الجدة.
قال سعيد بن المسيب:لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.
قال جعفر بن محمد: لأن أندم على العفو خير من أن أندم على العقوبة.
طلب عبد الملك بن مروان رجلا فأعجزه ثم ظفر به، فقال رجاء بن حيوة: ياأمير المؤمنين! قد صنع الله ما أحببت من ظفرك به، فاصنع ماأحبَّ الله من عفوك عنه.
قال رجل للمنصور حين ظفر بأهل الشام،وقد أجلبوا عليه وخالفوه مع عبد الله ابن علي: الانتقام عدلٌ،والتجاوز فضل، ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين ولا يبلغ أرفع الدرجتين.
كان يقال: أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. قال المهلب بن أبي صفرة: خير مناقب الملوك العفو.
قال المأمون: وددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو، فسلمت لي صدورهم.
قال معاوية رحمه الله: ماوجدت شيئاً ألذَّ عندي من غيظٍ أتجرعه، ولم يعرف قيمة الأبَّهة من لم يجرعه الحلم غصص الغيظ.
اعتذر رجل إلى الهادي فقال: ياأمير المؤمنين! إقراري بما ذكرت يوجب عليَّ ذنباً لم أجنه،وردِّي عليك لا أقدم عليه لما فيه من التكذيب لك، ولكني أقول:
فإن كنت ترجو في العقوبة راحةً ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
فعفا عنه.
قال منصور الفقيه:
وقال نبيُّنا فيما رواه ... عن الرحمن في علم الغيوب
محالٌ أن ينال العفو من لا ... يمنُّ به على أهل الذُّنوب
وقال آخر:
فهبني مسيئاً كالذي قلت ظالماً ... فعفوٌ جميل كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو أهلاً لسوء ما ... أتيت به جهلاً فأنت له أهل
سئل ثعلب عن معنى:فهبني مسيئاً، قال:معناه اعددني مسيئاً.
قال محمّد بن علي بن حسين: من كظم غيظا يقدر على إمضائه حشا الله قلبه إيماناً وروي هذا مرفوعاً إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ومما ينسب إلى عمرو بن العاص:
وبعض انتقام المرء يزري بعقله ... وإن لم يقع إلاَّ بأهل الجرائم

وذكر ذنوب الوغد ترفع ذكره ... فدعه صريع النوم تحت القوادم
وفي معنى هذا البيت الأخير قول ذي الرمة:
قيل لي: قد هجاك مولى زياد ... فأجبه فقلت: ليس بكفوي
لست أهجوه إنه خامل الذِّك ... ر لعلَّ الخسيس يعلو بهجوي
هو كالكلب ينبح الَّليث رعباً ... فذروه يهرّ بعدي ويعوي
هو من سطوتي وبأس هجائي ... في أمانٍ ما بين حلمي وعفوي
كتب علي بن الجهم إلى الحسن بن وهب:
إن تعف عن عبدك المسيء ففي ... فضلك مأوىً للصّفح والمنن
أتيت ما أستحقُّ من خطإٍ ... فجد بما تستحقُّ من حسن
فجاوبه الحسن بن وهب بأبيات منها:
أعوذ بالودِّ الَّذي بيننا ... أن يفسد الأوَّل بالآخر
وله أيضاً:
أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الرَّدى
وقال آخر:
ألا إنَّ خير العفو عفوٌ معجَّل ... وشرُّ العقاب ما يجاز به القدر
وقال أعرابي:
ياربِّ قد حلف الأقوام واجتهدوا ... أيمانهم أنَّني من ساكني النَّار
أيحلفون على عمياء ويحهم ... جهلاً بعفو عظيم العفو غفَّار
وقال آخر:
ياربِّ عفوك عن ذي توبةٍ وجل ... كأنَّه من حذار النَّار مجنون
قد كان قدَّم أعمالاً مقاربةً ... أيّام ليس له عقلٌ ولا دين

باب الغضب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب " .
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يارسول الله دلَّني على عملٍ إذا عملته دخلت الجنة، وأقلل لعلّي أحفظه. قال: " لا تغضب " .
وروي عنه عليه السلام أنه قال: " إذا غضبت قائماً فاقعد، وإذا غضبت قاعداً فقم أو قال:فاضطجع " .
أوحى الله إلى موسى: اذكرني عند غضبك،أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك فيمن أمحق،وإذا ظلمت فارض بنصرتي لك، فإنها خيرٌ من نصرتك لنفسك.
قال عيسى عليه السلام: يباعدك من غضب الله ألا تغضب.
أنشد ثعلب:
متى ترد الشِّفاء بكلِّ غيظٍ ... تكن ممَّا يغيظك في ازدياد
قال سليمان بن داود عليهما السلام: أعطينا ماأعطي الناس وما لم يعطوا،وعلِّمنا ما علِّم الناس ومالم يعلَّموا، فلم نر شيئاً أفضل من العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وخشية الله في السِّر والعلانية.
قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه:إنما يعرف الحلم ساعة الغضب.
وعنه أيضاً:عدوُّ العقل الغضب.
كان يقال: أول الغضب جنون، وآخره ندم ولا يقوم عزّ الغضب بذلِّ الاعتذار.
وروي: كل العطب في الغضب.
قيل للشعبي: لأي شيء يكون السّريع الغضب سريع الفيئة، ويكون بطيء الغضب بطيء الفيئة؟ قال: لأن الغضب كالنار فأسرعها وقوداً أسرعها خموداً.وهذا الخبر أصح عن عبد الله بن حسن،حكاية عن كسرى، ذكره ابن عائشة القرشي التيميّ عنه. قال: قيل لعبد الله بن حسن: مابال الرجل الحديد أسرع رجعةً من البطيء؟ فقال: سئل كسرى عن ذلك، فقال:مثلهمامثل النار في الحطب، أسرعها وقوداً أسرعها خموداً.
أراد المنصور خراب المدينة لإطباق إهلها على حربه مع محمد بن عبد الله بن حسن، فقال له جعفر بن محمد: ياأمير المؤمنين! إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف قدر فغفر، وقد جعلك الله من قبيل الذين يعفون ويصفحون فطفئ غضبه وسكت.
شهد سوَّار القاضي مجلس أبي جعفر المنصور يوماً فرآه قد غضب على أهل البصرة، فقال له: ياأمير المؤمنين! لا تغضب لله بما يغضب الله.
العرب تمدح بترك الغضب.
كان يقال: من أغضبته أنكرته.
قال الشاعر:
لم أقض من صحبة زيدٍ أربي ... فتىً إذا نهنهته لم يغضب
أبيض بسّامٌ وإن لم يعجب ... ولا يضنُّ بالمتاع المحقب
موكَّل الَّنفس بحفظ الغَّيب ... أقصى رفيقيه له كالأقرب
قال عبد الله بن قيس الرقيات:
مانقموا من بني أميَّة إلاَّ ... أنَّهم يحملون إن غضبوا
وأنَّهم سادة الملوك ولا ... تصلح إلاَّ عليهم العرب
قالوا: إذا غضب الرجل فليستلق، وإذا أعيا فليرفع رجليه.
باب الرجاء والخوف

دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه يعوده،فقال: كيف تجدك؟ قال: أجدني أرجو وأخاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده، مااجتمعا في قلب رجلٍ إلاّ أعطاه الله خير مايرجو منه،وآمنه من شر ما يخاف " .
قال أبو الدَّرداء: من خاف أدلج،ومن أدلج بلغ المنزل.
قال مطرِّف بن عبد الله الشِّخِّير: لووزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا.
قال لقمان لابنه: يا بنيّ ارج الله رجاءٍلا تأمن فيه مكره، وخف الله مخافة لا تأيسنّ فيها من رحمته، فقال: كيف أستطيع ذلك، وإنما لي قلب؟ فقال يا بني! إن المؤمن كذي قلبين قلب يخاف به، وقلب يرجو به.
قال عليّ بن أبي طالب: خذوا عني هذه الكلمات، فلو رحَّلتم فيها المطيَّ حتى أنضيتموها لم تبلغوها: لا يرجو عبد إلاّ ربّه، ولا يخاف إلاّ ذنبه. وذكر كلاماً قد ذكرته بتمامه في كتاب " بيان العلم وفضله " .
كان يقال: من خاف الله ورجاه آمنه خوفه، ولم يحرمه رجاءه.
وقف محمد بن سليمان على قبر أبيه،فقال: اللهم إني أمسيت أخافك عليه وأرجوك له، فحقق رجائي، وآمن خوفي عليه.
قال مسلم بن يسار: ماأدري فيم خوف امرئ ورجاؤه إذا لم يمنعاه من ركوب شهوة إن عرضت له، أو لم يصبّراه على مصيبة إن نزلت به.
كتب بعض العلماء إلى بعض إخوانه: أمابعد، فإنه من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.
للحسن بن هانئ وتنسب للشافعي رضي الله عنهما، والله أعلم:
خف الله وارجوه لكلِّ عظيمةٍ ... ولا تطع النَّفس الّلجوج فتندما
وكن بين هاتين من الخوف والرَّجا ... وأبشر بعفو الله إن كنت مسلما
وفيها:
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرَّجا منِّي لعفوك سلَّما
وله:
قد كنت خفتك ثمَّ آمنني ... من أن أخافك خوفك الله
وقال العتابي:
رحل الرَّجا إليك مرتقباً ... حشدت إليه نوائب الدّهر
ردَّت إليك ندامتي أملي ... وثنا إليك عنانه شكري
وجعلت عتبك عتب موعظةٍ ... ورجاء عفوك منتهى عذري
وقال أعرابي، وقد أدخله البعيث في شعره:
وإني لأرجو الله حتّى كأنما ... أرى بجميل الظَّنِّ ماالله صانع
وقال منصور الفقيه:
قطعت رجائي من بني آدم طرَّا ... فأصبحت من رقّ الرَّجاء لهم حرَّا
وعدّل يأسي بينهم فأجلُّهمإذا ذكروا قدراً كأدناهم قدرا
غنيٌ لهم بالله لا متطاولاً ... على أحدٍ منهم ولا قائلاً هجرا
وكيف يعيب النَّاس بالمنع مؤمنٌ ... يرى النَّفع ممن يملك النَّفع والضُّرَّا
عليه اتّكالي في الشَّدائد كلِّها ... وحسبي به عند الشَّدائد لي ذخرا
أنشدني عبد الله بن محمد بن يوسف رحمه الله لنفسه:
أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجلٍ ممَّا به أنت عارف
يخاف ذنوباً لم يغب عنك غيبها ... ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائف
فمن ذا الّذي يرجو سواك ويتَّقي ... ومالك من فصل القضاء مخالف
فياسيّدي لا تخزني في صحيفتي ... إذا نشرت يوم الحساب الصَّحائف
وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ... يصدُّ ذوو ودِّي ويجفو المؤالف
لئن ضاق عنِّي عفوك الواسع الَّذي ... أرجِّى لإسرافي فإنِّي لتالف
وقال أبو العتاهية:
إذا ما اتَّقى الله امرؤٌ لان جانبه ... وقارب بالإحسان من لا يقاربه
يقول الفتى أرجو وأرجو وما له ... نزوعٌ عن الذَّنب الذي هو راكبه
ألا ليس يرجو الله من لاّ يخافه ... وليس يخاف الله من لا يراقبه
من النَّاس من يبصر الدَّهر جهله ... ويزداد فيه الضِّعف حتّى يعاتبه
كفي بصروف الدهر علماً وحكمة ... لمن لم يخنه علمه وتجاربه
ومن لم يثق بالله لم يصف عيشه ... ومن ضاق عنه الحقّ ضاقت مذاهبه
كان أبو سعيد السيره في كثيراً ما ينشد في مجلسه:
اسكن إلى سكنٍ تسرُّ به ... ذهب الزَّمان وأنت منفرد

ترجو غداً وغدٌ كحاملةٍ ... في الحيِّ لا يدرون ما تلد
قرأت على سعيد بن نصر، أن قاسم بن أصبغ حدثهم، قال حدثنا عبد الله ابن روَّاح المدائنيّ، قال يزيد بن هرون، قال: حدثنا أبو موسى التميمي، قال: توفيت النَّوار امرأة الفرزدق فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة وخرج فيها الحسن، فقال للفرزدق: ماأعددت لهذا اليوم يا أبا فراس؟ قال: شهادة ألاَّ إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما دفنت قام الفرزدق على قبرها فقال:
أخاف وراء القبر إن لم يعافنيأشدَّّ من القبر التهاباً وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائدٌ ... عنيفٌ وسوَّاقٌ يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا
قال: فبكى وأبكى.

باب العافية والبلاء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله العافية والمعافاة في الدُّنيا والآخرة،فإنه لم يؤت عبدٌ بعد اليقين بالله بأفضل من المعافاة " .
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " من يرد لله به خيراً يصب منه " .
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " أشدُّ الناس بلاءً النبيُّون، ثم الأمثل فالأمثل " . والأحاديث عنه صلّى الله عليه وسلم في هذا الباب كثيرة جدّاً.
قال عيسى عليه السلام: إنما النّاس مبتلًى ومعافًى، فإذا رأيتم أهل البلاء فارحموهم، وسلوا الله العافية.
قال علي بن الحسين: ماصاحب البلاء الذي قد طال به أحقّ بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء.
قال مطرِّف بن الشِّخِّير: لأن أعافى فأشكر،أحبّ إليَّ من أن أبتلى فأصبر، قال مطرِّف: ونظرت في النعمة التي لا يشوبها كدر فإذا هي العافية.
قال سليمان التَّيمي:إن المؤمن ليبتلى ويعافى، فيكون بلاؤه كفارةً واستعتاباً، وإن الكافر ليبتلى ويعافى فيكون مثل بعيرٍ عقل،لا يدري فيم عقل ولا لم أرسل.
قال منصور الفقيه:
رأيت البلاء كقطر السَّماء ... وما تنبت الأرض من ناميه
فلا تسألنّ: إذا ما سألت ... إلهك شيئاً سوى العافية
وله أيضاً:
حفظ الفتى لسانه ... محبةً في العافيه
واقية من البلاء إن ... كان منه واقيه
قال أكثم بن صيفي:العافية الملك الخفيّ.
كان يقال: لا خير في بدن لا ينكأ ولا في مال لا يرزأ.
كان يقال: من عمل بالعافية فيمن هو دونه رزقها ممن هو فوقه.
قال الشاعر:
بلاءٌ ليس يشبهه بلاءٌ ... عداوة غير ذي حسبٍ ودين
يبيحك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
وقال آخر، وهو أبو راسب:
فلوأنِّي بليت بهاشميِّ ... خؤولته بنو عبد المدان
صبرت على عدواته ولكن ... تعالوا فانظروا عن ابتلاني
قال بشار بن برد:
إنِّي وإن كان جمع المال يعجبني ... فليس يعدل عندي صحَّة الجسد
في المال زينٌ وفي الأولاد مكرمةٌ ... والسُّقم ينسيك ذكر المال والولد
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " البلاء موكَّلٌ بالقول " .
أخذه الشاعر:
إنَّ البلاء موكَّلٌ بالمنطق
وقال آخر:
فإذا رأيت أخا البليّة فاستعذ ... بالله من شرِّ البلاء النَّازل
قال إبراهيم النَّخعي: كانوا يكرهون أن يسألوا الله العافية بحضرة المبتلى.
باب المرض والطِّبِّ
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: " أنزل الدَّاء الذي أنزل الأدواء " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من خير ما تداويتم به الحجامة " .
وقال عليه السلام: " إن كان دواءٌ يبلغ الداء فالحجامة تبلغه " .
قال محمد بن سيرين كنا بساباط المدائن، فمر بي رجل، فقيل لي:هذا حجم كسرى، فدعوته فقلت له:أنت حجمت كسرى؟ قال: نعم. قال وكم حجمته؟ قال:واحدة. قلت: ولم اقتصر على واحدة؟ قال: كان يقول: آخذ من الدواء أدناه، فإن كان نافعاً من نفعه، وإن كان ضارَّاً لم أكن استكثرت من ضرره.

روى النزَّال بن سبرة عن عليّ، أنه قال: من ابتدأ غداءه بالملح أذهب الله عنه كل دائه،ومن أكل إحدى وعشرين زبيبة كل يوم لم يرفي جوفه شيئاً يكرهه، واللحم ينبت اللحم، والثريد طعام العرب، ولحم البقر داء، ولبنها دواء، وسمنها شفاء، والشحم يخرج مثله من الداء.قال النزال: أظنه يريد شحم البقر.قال عليّ رضي الله عنه:وما استشفي بأفضل من السمن،والسمك يذيب البدن، أو قال:الجسد، ولم تستشف النفساء بشيء أفضل من الرطب ، والسواك وقراءة القرآن يذهبان البلغم، ومن أراد البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء، وليخفف الرِّداء، وليقلّ غشُّيان النّساء. قيل له: ياأمير المؤمنين وما خفة الرِّداء؟ قال: خفة الدَّين.
قال شريح: امش بدائك ماحملك.
قال حسَّان بن خريم بن الأغر: دع الدَّواء ما احتمل جسمك الداء.
سئل الحارث بن كلدة طبيب العرب: ماالدواء الذي لا داء فيه؟ قال: هو ألا يدخل بطنك طعام وفيه طعام.
قال غيره: هو أن يقَّدم الطعام إليك وأنت تشتهيه، ويرفع عنك وأنت تشتهيه. قالوا: ثلاثة تقتل: الحمَّام على الكظَّة، والجماع على البطنة، والإكثار من أكل القديد اليابس.
كانوا يقولون: لو أمات العليل الداء أعاشه الدواء.
قال الربيع بن خيثم: ذكرت عاداً وثمود وأصحاب الرسّ وقروناً بين ذلك كثيرا،ً كانت فيهم الأدواء، وكانت فيهم الأطباء، فلا المداوي بقي ولا المداوى.
وقيل له في علَّته: ألا ندعو لك طبيباً؟ فقال: قد نظر إلي الطبيب. فقيل له:ما قال لك؟ فقال إنِّي فعال لما أريد.
وهذا نحو قول أبي الدرداء وقد قيل له: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال الطبيب أمرضني. وقد أوردنا عن العلماء في هذا المعنى ما فيه كفاية يكتفى بها في كتاب " التمهيد " والحمد لله.
ولأبي العتاهية، ويروى لغيره:
إنَّ الطَّبيب بطبِّه ودوائه ... لا يستطيع دفاع مكروهٍ أتى
ماللطَّبيب يموت بالدَّاء الذي ... قد كان يبرئ مثله فيما مضى
كان سفيان بن عيينة، يستحسن قول عديّ بن زيد، حيث يقول:
أين أهل الدِّيار من قوم نوح ... ثمَّ عادٌ من بعدهم وثمود
بينما هم على الأسرَّة والأن ... ماط أفضت إلى التُّراب الجلود
ثمَّ لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذا الوعد كلُّه والوعيد
والأطبَّاء كلُّهم لحقوهم ... ضلَّ عنهم سعوطهم والّلدود
وصحيحٍ أضحى يعود مريضاً ... وهو أدنى للموت ممن يعود
أخذه علي بن الجهم، فقال:؟
كم من عليلٍ قد تخطَّاه الرَّدى ... فنجا ومات طبيبه والعوَّد
وقال أبو العتاهية:
نعى لك ظلَّ الشَّباب المشيب ... ونادتك باسم سواك الخطوب
وقبلك داوي المريض الطبيب ... فعاش المريض ومات الطّبيب
يخاف على نفسه من يتوب ... فكيف ترى حال من لا يتوب
وقال منصور الفقيه:
كذبت إن أنا سمَّي ... ت محسناً أو مصيبا
من لاّ يعاشر إلاَّ ... منجِّماً أو طبيباً
وقال آخر،وهو يزيد بن خذاق العبدي:
هل للفتى من بنات الدَّهر من واق ... أم هل له من حمام الموت من راق
هوِّن عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنَّما مالنا للوارث الباقي
وقال ابن الطَّثريَّة:
وكنت كذي داءٍ تبغَّي لدائه ... طبيباً فلمَّا لم يجده تطبَّبا
وقال محمود الوراق: ؟قد قلت لمّا قال لي قائلٌ قد صار بقراط إلى رمسه
فأين ما دوِّن من كتبه ... وجمعه الأحجار مع جسِّه
لم يغنه إذا حمَّ مقداره ... ولم يساو العشر من فلسه
هيهات لا يدفع عن غيره ... من كان لا يدفع عن نفسه
وقال منصور الفقيه:
ياسيداً باتت القلوب لأنبات كما لا يحبُّ محترقه
إنّ ذوي الطِّبِّ لا أقول بمالا يعلم ربّي خلافه فسقه
فلا تشاورهم فليس لهم ... على شحيح بدينه شفقه
واتل من الوحي ما استطعت ولو ... في كل يومٍ وليلةٍ ورقه
فما يداوي العليل يرحمك الله ... بمثل القرآن والصَّدقه

جاء في الخبر: " من كان به مرض قديم فليأخذ درهماً حلالاً، فليشتر به عسلاً ثم ليشربه بماء السماء فإنه يبرأ بإذن الله " .
قال منصور الفقيه يخاطب بعض إخوانه: ؟ياذا الَّذي أنزلني منزلي علمي بما أنزله منزله
إن كنت في الصِّحَّة ذا رغبةٍ ... فاعتض من المجزرة المبقله
واستعمل الماشَّ وأشباهه ... وباعد الميل عن المكحله
فإنَّما الجاهل كلّ امرئ ... يأكل في الصِّحَّة ماعنَّ له
قال أبو عمر رضي الله عنه: دخلت على الشيخ أبي الوليد بن عباد، عائداً له من بطن كان يشكوه قد اشتد عليه، فوجدته قد أخذ شيئاً من حسو، فقلت له: يا سيدي ما لصاحب البطن والحسو؟فقال: شيء تاقت نفسي إليه،وسئمت أكل الجامد واليابس، فانصرفت من عنده ثم كتبت إليه:
ياسليل الكرام من آل لخم ... وأخا الرَّأي والدَّها والوفاء
إنَّ لي من سقام جسمك سقماً ... ثابتاً في الفؤاد والأحشاء
وبقلبي ممَّا بجسمك ضعفٌ ... للذي تشتكي من الأدواء
وبودِّي لو كنت عنك فداءً ... بدلاً عند هجمة الضَّراء
فاقبل النُّصح سيِّدي واسمع القو ... ل فإنِّي أحكي عن الحكماء
لا يداوي الإسهال بالإحتساء ... لا ولا بالأمراق والباقلاء
إنَّما الطبُّ طردك الضِّدَّ بالضِّ ... دِّ ودفع الأهواء بالإحتماء
حسم ذا الدَّاء ما كان قوتاً ... يألف الطَّبع في قوام الغذاء
وعليك الدُّعاء فالله يشفي ... ليس شافٍ سواه من كلِّ داء
نعم عون العليل توبة صدق ... وكذا البرُّ جالبٌ للشفاء
وسلامٌ عليك منِّي دأباً ... ما جرى الدَّمع قاطعاً للسَّماء
ولمنصور الفقيه أيضاً:
ياشريفاً طيُّ أمثا ... لي عنه النُّصح بدعه
لو مطلت النَّفس بالفرُّو ... ج بعد اليوم جمعه
لم تمت همَّاً ولم تل ... مم بك الحمَّى بسرعه
فاحترس بعد فحسب ال ... مرء أن يخدع خدعه
باب الطَّاعة والمعصية
قال الله عزوجل: " يا أيُّها الَّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولي الأمر منكم " . وقيل في تأويل أولي الأمر قولان: أحدهما أمراء السرايا كان يرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر العلماء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة إلا في معروف، ومن أمر بمعصية فلا طاعة له " .
قال عبد الله بن مسعود في قول الله عزَّوجل: " اتَّقوا الله حقَّ تقاته " : أن يطاع فلا يعصى،ويشكر فلا يكفر،ويذكر فلا ينسى.
وقال قتادة، مثل ذلك وزاد عليها: " فاتَّقوا الله ما استطعتم " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عزَّوجلَّ يا ابن آدم! ما أنصفتني أتحبَّب إليك بالنِّعم، وتتبغّض إليّ بالمعاصي، خيري إليك نازلٌ، وشرُّك إليّ صاعدٌ، كم من ملك كريم يصعد إليَّ منك بعمل قبيح " .
قال الهلاليّ: من لم يصلح على أدب الله لم يصلح على اختياره لنفسه، ومن تعزز بمعصية الله،أذاقه الله ذلاً بحقّ.
قال علي بن عبد الله بن عباس: من لم يجد نقص الجهل في عقله، وذل المعصية في قلبه، ولم يستبن موضع الخل من لسانه عند كلال حده، فليس ممن يرغب عن ذنبه، ولا ينزع عن حال معجزةٍ، ولا يكترث لفضل ما بين حجّة وشبهة.
قال جعفر بن محمد: من نقله الله عزوجل من ذل المعاصي إلى عزّ الطاعة أغناه بلا مال، وآنسه بلا أنيس وأعزّه بلا عشيرة.
أخذه محمود الوراق فقال:
هاكّ الدَّليل لمن أرا ... د غنىً يدوم بغير مال
وأراد عزَّاً لم توطِّ ... ده العشائر بالقتال
ومهابةً من غير سل ... طانٍ وجاهاً في الرِّجال
فليعتصم بدخوله ... في عزِّ طاعة ذي الجلال
وخروجه من ذلة ال ... عا صي له في كلِّ حال

قال الحسن: لا يغرك توطّيهم رقاب المسلمين، وإن هملجت بهم خيولهم ورفرفت بهم ركابهم، إن ذل المعصية في قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
كان يقال: من أحبك نهاك ومن أبغضك أغراك.
قال العتبي: خطب يزيد بن الوليد فأرجز وقال: أيها الناس! الأمر أمر الله، والطاعة طاعة الله،فأطيعوني ما أطعت الله، يغفر الله لي ولكم.
قالت هند: الطاعة مقرونة بالمحبة، فالمطيع محبوب، وإن نأت داره، وقلَّت آثاره، والمعصية مقرونةٌ بالبغضة، فالعاصي ممقوت، وإن مسَّتك رحمته، ونالك معروفه.
كتب ابن السَّماك إلى أخ له: أفضل العبادة الإمساك عن المعصية، والوقوف عند الشبهة، وأقبح الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة، وقاله سفيان بن عيينة.
ذكر إبليس عند أبي حاتم،فقال: وماإبليس! فوالله لقد عصى فما ضرَّ، وأطيع فما نفع.
قال محمود الوراق وتنسب إلى الشافعي:
تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه ... هذا محالٌ في القياس بديع
لو كان حبُّك صادقاً لأطعته ... إن المحبَّ لمن يحبُّ مطيع
في كل يوم يبتديك بنعمةٍ ... منه وأنت لشكر ذاك مضيع
وقال إسحاق الموصلي:
الملك والعزّ والمروءة والفط ... نة والنبل واليسار معا
مجتمعاتٌ في طاعة العبد لل ... ه إذا العبد أعمل الورعا
والُّلؤم والذُّلُّ والضَّراعة وال ... فاقة في أصل أذن من طمعا
وقال أبو العتاهية:
أراك امرءاً ترجو من الله عفوه ... وأنت على مالا يحبُّ مقيم
فحتّى متى تعصي ويعفو إلى متى ... تبارك ربِّي إنَّه لرحيم
وله أيضاً:؟
أطع الله بجهدك ... صادقاً أو بعض جهدك
أعط مولاك كما تط ... لب من طاعة عبدك
باب الغيبة والنَّميمة
قال الله عزوجل: " ويلٌ لكلِّ همزةٍ لمزةٍ " ، قال مجاهد: هو الطّعَّان الآكل لحوم الناس.
قال الله عزوجل: " ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه وهو في بيته " .
قال عمر بن الخطاب: من أدى الأمانة، وكف عن أعراض المسلمين فهو الرجل.
وقع بين سعد وخالد كلام،فذهب رجل يقع في خالد عند سعد فقال سعد:مه، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قلت في أخيك ما فيه مما يكره فقد اغتبته، وإن قلت فيه ما ليس فيه فذلك البهتان. " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كف عن أعراض المسلمين لسانه أقاله الله يوم القيامة عثرته " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شراركم أيها الناس المشَّاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون لأهل البر العثرات " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثةٌ لا غيبة فيهم: الفاسق المعلن بفسقه، وشارب الخمر، والسُّلطان الجائر " .
قال رجل لابن سيرين: إني وقعت فيك، فاجعلني في حلّ، قال: لا أحب أن أحل لك ما حرم الله عليك.
قال رجل للحسن البصري: إني اغتبت فلاناً وإني أريد أن أستحله فقال: لم يكفك أن أغتبته حتى تريد أن تبهته.
قال ابن عباد الصاحب:
؟؟احذر الغيبة فهي ال ... فسق لا رخصة فيه
إنَّما المغتاب كالآ ... كل من لحم أخيه
قال حذيفة: كفارة من اغتبته أن تستغفر له.
قال عبد الله بن مبارك لسفيان بن عيينة:التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته،قال سفيان:بل تستغفره مما قلت فيه:قال ابن المبارك:لا تؤذه مرتين.
قال عديّ بن حاتم: الغيبة مرعى الّلئام.
قال أبو العتاهية: الصَّائم في عبادةٍ ما لم يغتب.
قال ابن محيريز: مامن ذنبٍ أجدر أن تجده من الرجل - وإن أعجبك - من الغيبة.
قال أبو حاتم: أربح التّجارة ذكر الله، وأخسر التجارة ذكر النّاس.
قال الفضيل بن عياض:ذكر الناس داء، وذكر الله شفاء.
سمع قتيبة بن مسلم رجلا يغتاب آخر،فقال:لقد مضغت مضغة طالما لفظها الكرام.

سمع أعرابيّ رجلا يقع في الناس، فقال:قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب النّاس، لأنّ الطالب لها يطلبها بقدرما فيه منها.
قال الشاعر:
؟ويأخذ عيوب النَّاس من عيب نفسه ... مرادٌ لعمري ما أراد قريب
وقال آخر:
واجرأ من رأيت بظهر غيبٍ ... على عيب الرِّجال أخو العيوب
وقال آخر:
فكلّ عيَّابٍ له منظرٌ ... مشتمل الثَّوب على عيب
كان يقال: ظلم منك لأخيك أن تقول أسوأ ما تعلم فيه.
قال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين له.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارعونَّ عن ذكر الفاسق بما فيه يعرفه الناس " .
قال الحجاج بن الفرافصة: قلت لمجاهد: الرجل يكون وقّاعاً في الناس، فأقع فيه،أله غيبة؟ قال:لا. قلت:من ذا الذي تحرم غيبته؟ قال:رجلٌ خفيف الظّهر من دماء المسلمين، خميص البطن من أموالهم، أخرس الّلسان عن أعراضهم،فهذا حرام الغيبة، ومن كان سوى ذلك فلا حرمة له، ولا غيبة فيه.
قال رجل لعمرو بن عبيد:إنّي لأرحمك مما يقول النّاس فيك. قال:فما تسمعني أقول فيهم؟قال:ما سمعتك تقول إلاّ خيراً.قال:إيَّاهم فارحم.
قال عتبة بن أبي سيفيان لابنه عمرو: يا بنيّ نزّّه نفسك عن الخنا، كما تنزّه لسانك عن البذّا، فإن المستمع شريك القائل.
وهذا عندي مأخوذ من قول كعب بن زهير:
؟إن كنت لا ترهب عن ذمِّي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل
فاخش سكوتي إذ أنا منصتٌ ... فيك لمسموع خنا القائل
فالسَّامع الذَّمِّ شريكٌ له ... ومطعم المأكول كالآكل
مقالة السُّوء إلى أهلها ... أسرع من منحدرٍ سائل
ومن دعا النَّاس إلى ذمِّه ... ذمُّوه بالحقِّ وبالباطل
فلا تهج إن كنت ذا ريبةٍ ... حرب أخي التَّجربة العاقل
فإنَّ ذا العقل إذا هجته ... هجت به ذا حبل حابل
يبصر في عاجل شدَّاته ... عليك غبَّ الضَّرر الآجل
ومن هذا المعنى قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:
فلو شئت أدلي فيكما غير واحد ... علانيةً أو قال عندي في السِّرِّ
فإن أنا لم آمر ولم أنه عائباً ... ضحكت له حتَّى يلجَّ ويستشري
ومن هذا أيضاً قول محمود الوراق:
تحرَّ من الطُّرق أوساطها ... وعدّ عن الجانب المشتبه
وسمعك صن عن سماع القبي ... ح كصون الِّلسان عن النُّطق به
فإنك عند استماع القبي ... ح شريكٌ لقائله فانتبه
قالت الحكماء: حسبك من شرٍّ سماعه.
قال الله عزّوجلّ: " سماعون للكذب أكَّالون للسُّحت " .
قال عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنه،قال لي أبي:إني أرى أمير المؤمنين - يعني عمر - يدنيك ويقربك، فاحفظ عني ثلاثاً:إياك أن يجرّب عليك كذبة، وإياك أن تفشي له سرَّاً، وإيَّاك أن تغتاب عنده أحداً، ثم قال:يا عبد الله! ثلاثاً وأيّ ثلاث. فقال له رجل: يا ابن عباس كلُّ واحدةٍ خير من ألف. فقال: بل كلُّ واحدةٍ خيرٌ من عشرة آلاف.
قال عبد الصمد بن المعذّل:
قد هجرنا مجلس الغي ... بة هجران التَّقال
ألَّفته عصبة نو ... كى لقيلٍ ولقال
ربّ من يشجيه ذكري ... وهو لا يجري ببالي
قلبه ملآن من خو ... في وقلبي منه خال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يرفع إلينا عورة مسلم " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة قتّات " .
وقال عليه السلام: " إياك ومهلك الثلاثة " قيل: وما مهلك الثلاثة؟ قال: " رجل سعى بأخيه المسلم فقتله، فأهلك نفسه وأخاه وسلطانه " .
وقالوا: قبول السِّعاية شرٌّ من السعاية، لأن السعاية دلالة والقبول إجازة.
قال يحيى بن أبي كثير: يفسد النَّمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة.
قال سابق:
؟إذ الواشي بغى يوماً صديقاً ... فلا تدع الصَّديق لقول واشٍ

وقول سابق هذا - والله أعلم - أخذه من قول معاذ بن جبل في قوله:إذا كان لك أخ في الله فلا تماره، ولا تسمع فيه من أحد، فربما قال لك ماليس فيه فحال بينك وبينه.
تنقّص ابن عامر بن عبد الله بن الزبير عليَّ بن أبي طالب، فقال له أبوه: مهلا يا بنيّ لا تنقّصه، فإن بني مروان شتموه ستين سنة، فلم يزده الله بذلك إلا رفعة، وإن الدين لم يبن شيئاً فهدمته الدنيا، وإن الدنيا لم تبن شيئاً إلا عادت على ما بنت فهدمته.
كان يقال: المعرِّض بالناس اتقى صاحبه، ولم يتق ربه.
قال الفرزدق:
تصرَّم عنِّي ودَّ بكر بن وائلٍ ... وما خلت عنِّي ودَّهم يتصرَّم
قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
وقال يزيد بن الحكم الثقفي:
تكاشر من لاقيت لي ذا عداوةٍ ... وأنت صديقي ليس ذاك بمستوى
بدا منك غشٌّ طالما قد كتمته ... كما كتّمت داء ابنها أمُّ مدّوى
جمعت وفحشاً غيبةً ونميمةً ... ثلاث خلالٍ لست عنها بمرعوي
وقال زياد الأعجم:
إذا لقيتك تبدى لي مكاشرة ... وإن أغب فأنت الهامز الُّلمزه
ما كنت أخشى وإن طال الزمان به ... حيفٌ على النّاس أن يغتابني غمزه
وقال منصور الفقيه:
هبني تحرَّزت ممَّن ... ينمُّ بالكتمان
فكيف لي باحتراسٍ ... من قائل البهتان
وقال أيضاً:
لي حيلةٌ فيمن ينمُّ ... وليس في الكذَّاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
قال موسى عليه السلام: ياربّ إن الناس يقولون فيَّ ماليس فيَّ، فاجعلهم ياربّ يقولون فيما فيّ. فأوحى الله تعالى إليه: ياموسى لم أجعل ذلك لنفسي، فكيف أجعله لك.
قال المسيح عليه السلام: لا يحزنك قول الناس فيك،فإن كان كاذباً كانت حسنة لم تعملها، وإن كان صادقاً كانت سيئة عجلت عقوبتها.

باب البغي والحسد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مامن ذنبٍ هو أجدر أن يعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع مايدّخره له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحقّقوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا " .
وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثلاثةٌ لا يكاد يسلم منهن أحد: الطِّيرة، والحسد والظَّن " . قيل: فماالمخرج منهنّ يارسول الله؟ قال: " إذا تطيرت فلا ترجع وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقّق " .
روي عن مجاهد عن ابن عبَّاس أنه قال: لو بغى جبلٌ على جبلٍ ،لدكّ الباغي منهما.
أخذه الشاعر فقال:
؟ولو بغى جبلٌ يوماً على جبلٍ ... لدكَّ منه أعاليه وأسفله
وقال آخر:
ذر البغي إنَّ البغي موبق أهله ... ولم يعدم الباغي من النَّاس مصرعا
قال عمر بن الخطّاب:ما كانت على أحد نعمةٌ إلا كان لها حاسد، ولو كان الرجل أقوم من القدح لوجد له غامزاً.
قال ابن مسعود: لا تعادوا نعم الله عزّوجل. قيل: ومن يعادي نعم الله؟ قال:الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
قال الحسن البصري: ليس أحدٌ من خلق الله إلا وقد جعل معه الحسد، ومن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظّلم لم يتبعه منه شيء.
وعن أنس بن مالك أنه مرّ على ديار خربةٍ خاوية، قال: هذه أهلكها وأهلك أهلها البغي والحسد، إن الحسد ليطفئ نور الحسنات، والبغي يصدِّق ذلك أو يكذبه، فإذا حسدتم فلا تبغوا. قيل للحسن: يا أبا سعيد! أيحسد المؤمن؟ قال: لاأمَّ لك! أنسيت إخوة يوسف.
قال بعض الحكماء: البغي من فروع الحسد، وأقدم الناس على البغي من جهل المعرفة بسرعة نصر الله لمن بغي عليه.
وقالوا: ثلاثةٌ عائدة على فاعلها: البغي والمكر والنِّكث.
قال الله عزوجل: " إنَّما بغيكم على أنفسكم " ، وقال: " ولا يحيق المكر السَّيِّءُ إلاَّ بأهله " ، وقال تعالى: " ومن نكث فإنَّما ينكث على نفسه " .
وقال يزيد بن الحكم:
إنَّ الأمور دقيقها ... مما يهبج به العظيم
والبغي يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم

قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: " لا حسد إلاّ في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب " . وقد ذكرنا كثيراً من الآثار المرفوعة وغيرها في الحسد عند قوله عليه السلام: " لا تحاسدوا " في كتاب " التمهيد " بما فيه كفاية والحمد لله.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أفضل؟ قال: " المؤمن النقي القلب، ليس فيه غل ولا حسد " .
كان يقال: أقبح الأشياء بالسلطان اللجاج،وبالحكماء الضجر، وبالفقهاء سخافة الدين، وبالعلماء إفراط الحرص، وبالمقاتلة الجبن، وبالأغنياء البخل، وبالفقراء الكبر وبالشباب الكسل، وبالشيوخ المزاح، وبجماعة الناس التباغض والحسد.
كان يقال: كادت الفاقة تكون كفراً، وكاد الحسد يغلب القدر، والهم نصف الهرم، والفقر الموت الأكبر.
قال عليُّ بن أبي طالب في خطبة خطبها على المنبر بالكوفة: ما لنا ولقريش بلى. ولهم، إن الله فضلنا فأدخلهم في فضلنا.
قال عليُّ بن أبي طالب،قال إبليس لجنوده:ألقوا بين الناس التحاسد والبغي، فإنهما يعدلان الشرك.
كان يقال: أول ما عصى الله به في السماء والأرض الحسد والحرص. ذهبوا إلى أن إبليس حسد آدم فلم يسجد له، وحرص آدم على الخلود فأكل من الشجرة، وحسد ابن آدم أخاه حين تقبِّل منه قربانه فقتله.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " احذروا ثلاثاً: الحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، والكبر فإنه حطّ إبليس عن مرتبته، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه " .
قال عمر بن أبي ربيعة:
وقديماً كان في النَّاس الحسد
قال سابق:؟
جنى الضَّغائن آباءٌ لنا سلفوا ... فلن تبيد وللآباء أبناء
قال أبو الدرداء:مكتوب في التوراة:إن أحسد الناس لعالم وأبغاهم عليه قرابته وجيرانه.
كان يقال :الحسد في الجيران، والعداوة في الأقارب.
قال ثمامة بن الأشرس في أحمد بن خالد:
؟أفكِّر ماذنبي لديك فلا أرى ... عليَّ سبيلاً غير أنَّك حاسد
وإنا لموسومان كلٌ بسيمةٍ ... أقرَّ مقرٌ أو أبى ذاك جاحد
قال بكر بن عبد الله المزني: حظُّك من الباغي حسن المكاشرة، وذنبك إلى الحاسد دوام النعمة. قال الحسين الخليع:
ما للحسود وأشياعه ... ومن كذب الحقَّ إَّلا الحجر
قال عبد الله بن المقفع:إن الحسد خلق دنيء ومن دناءته أنه موكّل بالأدنىفالأدنى.
قال يزيد بن الحكم الثَّقفي:
تكاشرني كرهاً كأنَّك ناصحٌ ... وعينك تبدى أنَّ قلبك لي دوى
بدا منك عيبٌ طالما قد كتمته ... كما كتمت داء ابنها أمُّ مدَّوى
لسانك ماذىّ وقلبك علقم ... وشرُّك مبسوطٌ وخيرك منطوي
تمَّلأت من غيظٍ عليَّ فلم يزل ... بك الغيظ حتَّى كدت بالغيظ تشتوي
ومابرحت نفسٌ حسودٌ حشيتها ... تذيبك حتَّى قيل: هل أنت مكتوي
وقال النَّطاسيُّون إنك مشعرٌ ... سلالاً ألا بل أنت من حسدٍ جوى
أراك إذا لم أهو أمراً هويته ... ولست لما أهوى من الأمر بالهوى
وكم موطنٍ لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلّة النِّيق منهوي
عدوُّك يخشى صولتي إن لقيته ... وأنت عدوِّي ليس ذاك بمستوي
وفي رواية أخرى:؟
تصافح من ألفيت لي ذا عداوةٍ ... وأنت صديقي ليس ذاك بمستوي
قال ابن المعتز:
ماعابني إلاّ الحسو ... د وتلك من خير المعايب
والخير والحسَّاد مق ... رونان إن ذهبوا فذاهب
وإذا ملكت المجد لم ... أملك مذمَّات الأقارب
وإذا فقدت الحاسدي ... ن فقدت في الدُّنيا المطايب
وأنشد ابن عائشة:
خليليَّ إنّي للثّريّا لحاسدٌوإني على ريب الزمان لواجد أيجمع منها شملها وهي سبعةوأفقد من أحببته وهو واحد
وقال سويد بن أبي كاهل:

كيف ترجُّون سقوطي بعدما ... عمَّم الرَّأس بياضٌ وصلع
بئس ما ظنُّوا وقد عرَّفتهم ... عند غايات المدى كيف أقع
ربَّ من أنضجت غيظاً صدره ... قد تمنّى لي موتاً لم يطع
ويراني كالشَّجا في حلقه ... عسراً مخرجه ما ينتزع
مزبداً يخطر ما لم يرني ... فإذا أسمعته صوتي انفقع
لم يضرني غير أن يحسدني ... فهو يزقو مثل ما يزقو الضُّوع
ويحيِّيني إذا لاقيته ... وإذا يخلو له لحمي رتع
قد كفاني الله ما في نفسه ... وإذا ما يكف شيئاً لم يضع
وقال أبو الأسود الدُّؤلي، ويقال إنها للعرزمي:
تلقي الّلبيب محسَّداً لم يجترم ... شتم الرِّجال وعرضه مشتوم
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالنَّاس أعداءٌ له وخصوم
وقال المرَّار الفقعسيّ:
لاتسأل النَّاس عن مالي وكثرته ... قد يقتر المرء يوماً وهو محمود
أمضي على سنَّةٍ من والدٍ سلفت ... وفي أورمته ما ينبت العود
مطالبٌ بتراتٍ غير مدركةٍ ... محسَّدٌ والفتى ذو الُّلبِّ محسود
وقال أبو الطيب:
أعادي على ما يوجب الحبَّ للفتى ... وأهدأ والأفكار فيَّ تجول
سوى وجع الحسَّاد داو فإنَّه ... إذا حلَّ في قلبٍ فليس يزول
ولا تطمعن من حاسدٍ في مودةٍ ... وإن كنت تبديها له وتنيل
وقال لبيد بن عطارد بن حاجب التَّميمي:
إن يحسدوني فإنَّي غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد
أنا الّذي يجدوني في حلوقهم ... لا أرتقي صعداً فيها ولا أرد
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
ماضرَّني حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو النُّقصان
وقال مروان بن أبي حفصة:
ماضرَّه حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو التَّقصير
قال معاوية بن أبي سفيان:كل الناس أرضيته إلا حاسد نعمة،فإنه لا يرضيه إلا زوالها.
أخذه الشاعر فقال:
كلُّ العداوة قد ترجى إماتتها ... إلاَّ عداوة من عاداك من حسد
قال معاوية بن أبي سفيان:ليس في خلال الشر أشر من الحسد، لأنه قد يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود.
كان يقال: الحاسد إذا رأى نعمة بهت،وإذا رأى عثرة شمت.
قال الخليل بن أحمد:لا شيء أشبه بالمظلوم من الحاسد.
قال محمود الوراق:
؟أعطيت كلَّ النَّاس من نفسي الرِّضا ... إلاَّ الحسود فإنَّه أعياني
لا أنَّ لي ذنباً لديه علمته ... إلاَّ تظاهر نعمة الرَّحمن
يطوي على حنقٍ حشاه لأن رأى ... عندي كمال غنىً وفضل بيان
ماإن أرى يرضيه إلاَّ ذلَّتي ... وذهاب أموالي وقطع لساني
وقال آخر:؟
إن يكثر الله حسُّاداً لهم فعلي ... مقدار ما كثرت فيهم من النِّعم
وقال محمّد بن زياد الحارثي:
إذا ما حملت الشُّكر في كلِّ نعمةٍ ... يحقُّ عليك شكرها واحتمالها
فدع لحسودٍ بعد ذلك خطَّةً ... يكون عليه همُّها ووبالها
لك الأجر والمهنى وللحاسد الَّذي ... يكيدك فيها جرمها ونكالها
وقال آخر:
تمنَّى لي الموت المعجَّل خالدٌ ... ولا خير فيمن ليس يعرف حاسده
وقال نصر بن أحمد:
كأنَّما الدَّهر قد أغرى بنا حسداً ... ونعمة الله مقرونٌ بها الحسد
وقال آخر:
إنَّ العرانين تلقاها محسَّدةً ... ولن ترى للئام النَّاس حسَّادا
وقال آخر:
محسَّدون على ما كان من نعمٍ ... لا ينزع الله عنهم ماله حسدوا
وقال آخر:
إنِّي نشأت وحسَّادي ذوو عددٍ ... ياذ المعارج لا تنقص لهم عددا
وقال بشار العقيلي:

فالله أسأله إدوام دائهم ... وأن يديم لنا ما يوجب الحسدا
وقال أيضاً:
قد أذهب الدَّاء حسَّادي بكثرتهم ... ولو فنوا عزَّ دائي من يداويني
لا عشت خلواً من الحسَّاد إنَّهم ... أعزُّ فقداً من الَّلائي أحبُّوني
أبقى لي الله حسَّادي وغمَّهم ... حتَّى يموتوا بداءٍ غير مكنون
وقال محمود الوراق:
لا تحسدنَّ أخاك وار ... ع له على الأيَّام عهده
حسد الصَّديق صديقه ... وأخاه من سقم المودَّه
وقال حبيب:؟
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النَّار فما جاورت ... ما كان يعرف فضل عرف العود
وقال أبو القاسم الداعية: أدنى الأعراض عرض لا يرتع فيه ذم.
ولأحد بني الطيفان:
؟ومولى كمولى الزِّبرقان دملته ... كما دملت ساقٌ يهاض بها كسر
تراه كأنَّ الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر
وقال ابن أبي طاهر:
ياحاسداً فضل امرئٍ سيِّدٍ ... أصبح قد أحسن في فعله
لا زلت إلاَّ باغياً حاسداً ... لكلِّ ذي نبلٍ على نبله
وزاد من تحسده نعمةً ... دائمةً تبقى على مثله
ولم يزل ذو النَّقص من نقصه ... يحسد ذا الفضل على فضله
وقال أبو فراس الحمداني،وهو الحارث بن سعيد بن حمدان:
لمن جاهد الحسَّاد أجر المجاهد ... وأعجز ما حاولت إرضاء حاسد
ولم أر مثل اليوم أكثر حاسداً ... كأنَّ قلوب النََّاس في قلب واحد
باب السّباب والمشاتمة
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " إيّاكم والفحش، فإنّ الله لا يحبُّ الفحش ولا التَّفحُّش " .
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " المتسابَّان ماقالا، فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم.
قال بعض الحكماء:ما استبّ رجلان إلاّ غلب ألأمهما.
قال الزِّبرقان بن بدر: خصلتان كبيرتان في امرئ السُّوء: شدة السّبِّ، وكثرة الّلطام.
كان يقال: الغالب في الشر مغلوب.
شتم رجلٌ أبا ذر، فقال له: ياهذا لا نغرقنَّ في شتمنا ودع للصلح موضعا، فإنّا لا نكافئ من عصى الله فينا، بأكثر من أن نطيع الله فيه.
قال أبو مسلم صاحب الدعوة، عصبة الأشراف تظهر بأفعالها، وعصبة الأدنياء تظهر بألسنتها.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه " . كان يقال:ظنُّ الحكيم كهانة. ويروى هذا لمعاوية رضي الله عنه.
سئل بعض العرب عن العقل،فقال: الإصابة بالظُّنون، ومعرفة ما لم يكن بما كان.
قال علي بن أبي طالب :لله درّ ابن عباس إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
قال بلعاء بن قيسٍ:
؟وأبغي صواب الظَّنِّ أعلم أنَّه ... إذا طاش ظنُّ المرء طاشت مقادره
وقال أوس بن حجر:
الألمعيُّ الذي يظنُّ بك الظنَّ ... كأن قد رأى وقد سمعا
كان يقال: صحة الظن أول اليقين، أخذه سعيد بن حميد فقال:
أهابك أن أدلَّ عليك ظنَّا ... لأنَّ الظَّن مفتاح اليقين
وقال آخر:
يظنُّ فلا يعدو الضَّمير كأنَّما ... له في الأمور الغائبات رقيب
وقال كثير بن عبد الملك:
رأيت أبا الوليد غداة جمع ... به شيبٌ وما فقد الشَّبابا
ولكن تحت ذاك الشَّيب عزمٌ ... إذا ما ظنَّ أمرض أو أصابا
وقال آخر:؟
وإنِّي لطرف العين بالعين زاجرٌ ... فقد كدت لا يخفى عليَّ ضمير
وقال عبد الله بن محمد الأشبوني:
ذكيٌّ يرى ما في الضمير بظنِّه ... كأن له غيباً على غامض السِّرِّ
وقال آخر:
أحسن الظَّنَّ بمن قد عوَّدك ... حسناً أمس وسوَّى أودك
إنَّ ربَّا كان يكفيك الذي ... كان بالأمس سيكفيك غدك
سمع أعرابي رجلا يقول: إن الله تعالى يتولى محاسبة عباده بنفسه. فقال الأعرابي:إن الكريم إذا تولى شيئاً أحسن فيه.
قال ابن عباس رضي الله عنه:الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سوء الظن بالله عزوجل.

قيل لبعض العلماء:من أسوأ الناس حالا؟ قال:من اتسعت معرفته، وضاقت مقدرته، وبعدت همته، وأسوأ منه حالا:من لم يثق بأحد لسوء ظنه ولم يثق به أحدٌ لسوء فعله.
قال غيره من الحكماء: حسب البعيد الهمة أن تكون غايته الجنة.
قال أبو العتاهية:
الظَّنُّ يخطئ تارةً ويصيب
وقال آخر:
وإنِّي بها في كل حالٍ لواثقٌ ... ولكنّ سوء الظَّنِّ من شدّة الحبِّ
قال المتنبي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصَّدق ما يعتاده من توهُّم
قال ابن هرمة:
وحسبك تهمةً لنصيح قومٍ ... يمدُّ على أخي غدرٍ جناحا
قال أبو حازم: العقل التَّجارب، والحزم سوء الظن.
قال الحسن البصري: لو كان الرجل يصيب ولا يخطئ، ويحمد في كل ما يأتي لداخله العجب.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس كلِّهم - فيما علمت - ثلاثة: العزيز في قوله لامرأته حين تفرّس في يوسف: " أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتّخذه ولداً " ، وصاحبة موسى حين قالت: " ياأبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويُّ الأمين " . وأبو بكر حين تفرّس في عمر رضي الله عنهما فاستخلفه.
نظر إياس بن معاوية يوماً، وهو بواسط، في الرحبة إلى آجرّة، فقال:تحت هذا الآجرّة حيّة، فنزعوا الآجرة فإذا تحتها حيةٌ منطوية، فسئل عن ذلك فقال: إنِّي رأيت ما بين الآجرتين نديَّاً من بين تلك الرحبة، فعلمت أن تحتها شيئاً يتنفس.
قال عمرو بن بحر: إذا نظر الأعرابي موضع منتفخ في أرض مستوية، فإذا رآه يتصدع في تهيّل، وكان تفتحه مستوياً علم أنها كمأة وإن خلط في التصدع والحركة علم أنها دابّة، فاتقى مكانها.
نظر إياس بن معاوية يوماً إلى صدع في الأرض، فقال:في هذا الصدع دابة. فنظروا فإذا فيه دابة، فقال: إن الأرض لا تنصدع إلا عن دابة أو نبات.
قال معن بن زائدة:ما رأيت قفا رجل قطّ إلا عرفت عقله، فقال له الفضل بن شهاب:فإن رأيت وجهه؟ قال:فذلك حينئذ في كتاب أقرأه.
ومر إياس بن معاوية ذات يوم بماء،فقال: أسمع صوت كلب غريب،قيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال بخضوع صوته وشدة نباح غيره من الكلاب. قالوا:فإذا كلب غريب مربوط، والكلاب تنبحه.
وأماقول العماني:
ويفهم قول الحكل لو أنّ ذرّةً ... تساود أخرى لم يفته سوادها
فالحكل:كل من لم يكن له صوت تستبان مخارجه، أو كلام يفهم من الجواب كله. وأما قوله: تساود فمعناه تسارّ، والسَّواد:السِّرار،ومنه قول ابنة الخسِّ:حملني على هذا قرب الوساد، وطول السِّواد.
وفي حديث ابن مسعود: تعالى أساودك، أي أسارّك.
قال وهب بن منبّه خصلتان إذا كانتا في الغلام رجيت نجابته:الرَّهبة والحياء.
قال غيره: إذا استثقل الصبي الأدب، وضج من الحصر إلا أنه إذا حفظ وعي، وإذا فهم أدّى، كان ذلك ممن يرجى.
قال غيره:إذا كان الغلام حازماً في الخلاء، فظيع اللسان في الملاء، يبغض التعليم، ويوارب المعلم، ويقدم أباه على أمه، ويؤخِّر خاله على عمه، وكنيته أحبُّ إليه من اسمه، فإنه يرجى خيره وينتظر عزّه.
وقال ابن الزيّات: إذا رأيت الصبي يحب عاجل المكروه من غير أن يعرف عاجل المنفعة فهو مضعوف، قاله إذ رأى ابنه عمر يحب الكتاب فاغتّم له، فسئل عن ذلك،فقال ما ذكرنا، قال أبو عمر رضي الله عنه:قوله عندي هذا ليس بشيء.
وقال غيره:يستدل على نجابة الصبي بشيئين الحياء وحبّ الكرامة، أما الحياء فهو خير كله، وأما حب الكرامة فيدعو إلى اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل.
قال عمرو بن العاص: أنا للبديهة ومعاوية للأناة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لصغار الأمور وكبارها.
أراد يوسف بن عمر بن هبيرة أن يولّي بكر بن عبد الله المزنيّ القضاء،فاستعفاه، فأبى أن يعفيه، فقال: أصلح الله الأمير،ما أحسن القضاء، فإن كنت كاذباً فلا يحلّ لك أن تولّي الكاذبين، وإن كنت صادقاً، فلا يحل أن تولّي من لا يحسن.

قال رجل من الأعراب ضرير النظر لابنته، وهي تقوده في المرعى:يا بنية انظري كيف ترين السماء؟ قالت كأنها قرون المعزي. قال:ارعي.فرعت ساعة، فقال: انظري كيف ترين السماء؟ قالت كأنها خيل دهم تجرّ جلالها.قال:ارعي. فرعت ساعة ثم قال:انظري كيف ترين السماء؟ قالت: كأن الرباب نعام تعلق بالأرجاء من السماء، قال:ارعي. ثم قال:انظري كيف ترين السماء ؟قالت. ابيضت واسودت ودنت فكأنها عين نفسٍ تطرف. قال: أنجي ولا أراك ناجية.
قال الشاعر:
أكلُّ وميض بارقةٍ كذوب ... أمافي الدَّهر شيءٌ لا يريب
أشار ضيف لقوم إلى بنت لهم لتقبله، فقالت والله إني إذاً لطويل العنق.فسمعها الشيخ، فقال: أشار والله إليها لتقبله.
للبيد أو للبعيث:
لعمرك ما تدري الطّوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطّير ما الله صانع
/باب الظّنّ والزّكانة قد تقدم في الباب الذي قبل هذا ، قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " إذا ظننتم فلا تحققوا " وقال اللّه تعالى : " إنّ الظّنّ لا يغنى من الحقّ شيئاً " وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إياكم والظنّ ، فإن الظنّ أكذب الحديث .
قال عمر بن الخطاب : لا يحل لامرئٍ مسلم سمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوءاً ، وهو يجد لها في شئ من الخير مخرجاً.
وقال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه : لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه.
قال علىّ بن طالب : حسن الظنّ باللّه ألا ترجو إلا اللّه ، ولا تخاف إلا ذنبك.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن باللّه " .
قال الحسن البصرىّ : إنّ المؤمن إذا أحسن الظن أحسن العمل.
قال أبو مسلم الخزلانى : أتّقوا ظنّ المؤمن ، فإن اللّه جعل الحقّ على لسانه وقلبه.
قال عبد اللّه بن عباس : كفى بك ظلما ألا تزال مخاصماً ، وكفى بك إثماً ألا تزال ممارياً.
وعن ابن مسعود : قال عبد الرحمن بن أبى ليلى : ما أمارى أخي أبداً ، لأنى أرى أنى إما أن أكذبه وإما أن أغضبه.
قال عبد اللّه بن حسين على رضى اللّه عنهم : المراء رائد الغضب ، فأخزى اللّه عقلا يأتيك به الغضب.
قال محّمد بن على بن حسين : الخصومة تمحق الدين وتنبت الشحناء في صدور الرجال.
كان يقال : لاتمار حليماً ولا سفيهاً ، فإن الحليم يغلبك ، والسفيه يؤذيك. قيل لعبد الله بن حسين : ما تقول في المراء ؟ قال : يفسد الصداقة القديمة ،ويحلّ العقدة الوثيقة ، وأقل ما فيه أن يكون دريثة للمغالبه والمغالبه ، أمتن أسباب القطيعه. قال عبد الله بن عباس لمعاويه : هل لك في المناظرة فيما زعمت أنك خاصمت فيه أصحابى ؟ قال : وما تصنع بذلك ؟ أشغب بك وتشغب بي ، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك ، ويبقى في قلبى ما يضرك.
قال إبراهيم التّيمى : إياكم والمخاصمات في الدين ، فإنها تحبط الأعمال.
قال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل.
قال الأوزاعىّ : إذا أراد اللّه بقوم شراً ألزمهم الجدل ، ومنعهم العمل.
قال ابن أبي الزناد : ما أقام الجدل شيئاً إلا كسره جدل مثله.
وقد أفردنا في كتاب " بيان العلم " باباً فيما تجوز فيه المناظرة والجدال ، وباباً فيما تكره فيه المناظرة والمجادلة ، وأوردنا فيهما من الآثار عن السلف وأئمة الخلف ما فيه كفاية وبيان ، والحمد للّه وهو المستعان.
قال الأصمعى : سمعت أعرابيا يقول : من لاحى الرجال وماراهم قلت كرامته ، ومن أكثر من شئ عرف به.
وقال مسعر بن كدام الهلالى يوصى ابنه كداما :
إّني منحتك يا كدام نصيحتي ... فاسمع لقول أب عليك شفيق
أمّا المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرصاهما لصديق
إّني بلوتهما فلم أحمدهما ... لمجاورٍ جار ولا لرفيق
والجهل يزرى بالفتى في قومه ... وعروقه في النّاس أىّ عروق
وقال وصعب الزبيرى :
أأقعد بعدما وجفت عظامى ... وكان الموت أقرب ما يلينى
أجادل كلّ معترض خصيمٍ ... وأجعل دينه غرضاً لدينى
فأترك ما علمت لرأى غيرى ... وليس الرّأى كالعلم اليقين
وما أنا والخصومة وهى لبس ... تصرف في الشّمال وفي اليمين

في أبيات قد ذكرناها بتمامها في كتاب " بيان العلم وفضله " والحمد للّه.
قال أبو العبّاس النّاشئ :
وإذا بليت بجاهل متحاملٍ ... يجد المحال من الأمور صوابا
أوليته منّى السّكوت وربّما ... كان السّكوت على الجواب جوابا

باب المراء والخصومة والملاحاة
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم : " أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة ، وبيت في وسط الجنة ، وبيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقّا ، ولمن ترك الكذب وإن كان لاعباً ، ولمن حسنت مخالفته للنّاس " .
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لما أسرى بي كان أول ما أمرني به ربى أن قال : إيّاك وعبادة الأوثان ، وشرب الخمر ، وملاحاة الرجال .
قال قيس بن السّائب : كان رسول اللّه عليه وسلم شريكى في الجاهلية ، فكان خير شريك ، فكان لا يدارى ولا يمارى.
قال معاذ بن جبل : إذا كان لك أخ في اللّه فلا تماره ، ولا تساره الحديث.
قال لقمان لابنه : يا بنى لا تمارين حكيماً ، ولا تجادلن لجوجاً ، ولا تعاشرن ظلوماً ، ولا تصاحبنّ متهماً.
قال لقمان لابنه : يا بنى من قصّر في الخصة خصم ، ومن بالغ فيها أثم فقل الحق ولو على نفسك ، ولا تبال من غضب.
وفي الحديث المرفوع : " احذروا جدال كل مفتون ، فإنّه يلقّن حجّته إلى انقطاع مدته " .
سب أعرابي أعرابياً ، فسكت. فقيل له : لم سكتّ عنه ؟ فقال : مالى علم بما فيه ، وكرهت أن أبهته بما ليس فيه.
ولمحمد بن زياد الحارثى :
وأرفع نفسى عن نفوسٍ وربّما ... تذلّلت في إكرامها لنفوس
وإن رامني يوماً خسيس بجهله ... أبى اللّه أن أرضى بعرض خسيس
وقال حسان بن ثابت :
ما أبلى أنتّ بالحزن تيس ... أم لحانى بظهر غيب لثيم
وقال آخر :
وقل ليزيد إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتّامين للمتشتّم
ولكننا نأبى الجواب ونقتضى ... بكلّ رقيق الشّفرتين غشمشم
قال الخليل : الغشمشم : الجرئ الماضى ، قال الشاعر :
عبل الشّوى غشمشماً غاشما
وقال آخر :
وتبطش أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتّكلم
وقال الأخطل :
أنبئت كلبا تمنّى أن تسافهنا ... وطالما سافهونا ثمّ ما ظفروا
قد أنذروا حيّة في رأس هضبتهٍ ... وما يكاد ينام الحيّة الذّكر
وقال آخر :
فإن تشتمونا على لؤمكم ... فقد تقرض العثّ ملس الأدم
العث دويّبة صغيرة ليس بها إلاّ أنّها تقرض كل شئٍ وقال آخر :
هل يشتمنى لا أبا لكم ... دنس الثّياب كطابخ القدر
جعلٌ تمطّى في غثاثته ... زمن المروءة ناقص الشّبر
أعطى الحسن بن على شاعراً ، فقيل له : تعطى من يقول البهتان ، ويعصي الرحمن ؟ فقال : إن خير ما بذلت به من مالك ما وقيت به من عرضك ، ومن ابتغى الخير اتقى الشر. وقد روى عن ابن شهاب مثل ذلك فى شاعر مدحه فأعطاه. وقد كان يقال : إعطاءُ الشاعر من بر الوالدين. قال جرير :
وما حملت أمّ امرئٍ في ضلوعها ... أعق من الجاني عليها هجائيا
وقال آخر :
اصحب الأخيار وأرغب فيهم ... ربّ من صاحبته مثل الجرب
ودع الناس ولا تشتمهم ... وإذا شاتمت فاشتم ذا حسب
إنّ من سبّ لئيماً كالّذي ... يبدّل الصّفر بأعيان الذّهب
وقال آخر :
مالى أكفكف من " وتشتمنى " ... ولو شتمت بني سعد لقد سكتوا
وقال آخر :
جهلاً علينا وجبنا عن عدوّهم ... لبئست الخلّتان الجهل والجبن
قيل للشعى : فلان يتنقصك ويشتمك. فتمثل بقول كثيّر :
هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت
أسيئى بنا أو أحسنى لاملومةً ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت
وقال قيس المجنون :
حلال لليلى شتمنا وانتقاصنا ... هنيئاً ومغفوراً لليلى ذنوبها
وقال آخر :
إذا ما شئت سبئك غير قومٍ ... وإن كنت المهذب واللّبابا
يها بك كلّ ذى حسب ودينٍ ... وأمّا في اللثام فلن تهابا
وقال آخر :

من شاتم النّاس رموه بما ... لم يك يعتدّه في الحساب
كأنه أخذه من قول كعب بن زهير :
ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذموه بالحقّ والباطل
وقال آخر :
ولست مشاتماً أحداً لأّبى ... رأيت الشّتم من عىّ الرّجال
إذا جعل اللئيم أباه نصباً ... لشاتمه فديت أبى بمالى
وقال آخر :
وتجزع نفس المرء من شتم مرّة ... ويشتم ألفاً بعد ذاك فيصبر
وقال آخر :
لعمرك ما سبّ الأمير عدوّه ... ولكنّما سبّ الأمير المبلّغ
وقال آخر :
من يخبّرك بشتم عن أخٍ ... فهو الشّاتم لا من شتمك
ذاك شتم لم يواجهك به ... إنّما اللّوم على من أعلمك
وقال آخر :
أبا حسنٍ يكفيك ما فيك شاتماً ... لعرضك من شتم الرّجال ومن شتمى
وقال آخر :
وما يقى عنك قوماً أنت خائفهم ... كمثل دفعك جهّالاً بجهّال
فاقعس إذا حدبوا واحدب إذا قعسوا ... ووازن الشّرّ مثقالاً بمثقال
وقال آخر :
ثالبنى عمرو وثالبته ... فقد أثم المثلوب والثّالب
قلت له خيراً فقال الخنا ... كلّ على صاحبه كاذب
باب الكبر والعجب والتّيه
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، حاكياً عن اللّه عزّ وجل : " الكبرياء ردائي ، والعظمة إزارى ، فمن نازعنى واحداً منهما أدخلته النار " .
وقال رسول اللّه صلى اللهّ عليه وسلم : " لا ينظر اللّه عزّ وجلّ إلى من جرّ ثوبه خيلاء ، وفي حديث آخر : لاينظر اللّه عزّ وجلّ إلى من جرّ ثوبه بطرا " .
قال رسول اللّه صلى اللهّ عليه وسلم : إنما الكبر أن يسفّه الحقّ ، ويغّمض النّاس.
قال محمّد بن علىّ بن حسين : ياعجباً من المختال الفخور الذي خلق من نطفه ، ثم يصير جيفة ثم لا يدرى بعد ذلك ما يفعل به.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلى : سمعت أحمد بن يوسف ، وذكر رجلا كان يذهب بنفسه في التيه ، فقال : يتيه فلان ، وما عنده فائدة ولا عائده ولا رأى جميل.
قال الشاعر :
يامظهر الكبر إعجاباً بصورته ... أبصر خلاءك إنّ المين تثريب
لو فكر النّاس فيما في بطونهم ... ما استشعر الكبر شبّانٌ ولا شيب
قيل لعيسى عليه السلام : طوبى لبطن حملك ، فقال : طوبى لمن علمه اللّه كتابه ، ولم يكن جباراً.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " لا يزال الرّجل يذهب بنفسه في التّيه حتى يكتب في الجبّارين ، فيصيبه ما أصابهم " .
قال مالك بن دينار : كيف يتيه من أوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بين ذلك حاملٌ عذرة.
أخذه أبو العتاهية فقال :
ما بال من أوّله نطفةٌ ... وجيفة آخره يفخر
أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو ولا تأخير ما يحذر
وأصبح الأمر إلى غيره ... في كل ما يقضى وما يقدر
وقال منصور الفقه :
تتيه وجسمك من نطفة ... وأنت وعاءٌ لما تعلم
وله أيضاً :
قولوا لزوّار الكنف ... والمنشئين من نطف
يا جيفاً من الجيف ... ما لكم وللصّلف
كان يقال : لولا ثلاثٌ سلم النّاس : شحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه.
قال جعفر بن محمد : علم اللّه عز وجل أن الذنب خير للمؤمن من العجب ، ولولا ذلك ما ابتلى مؤمن بذنب.
قال بلال بن سعيد : إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً فقد تمت خسارته.
قال بعض الحكماء : البلية التي لا يؤجر عليها المبتلى بها : العجب ، والنعمة التي لا يحسد عليها : التواضع.
كان يقال : لاشئ أكلم للمحاسن من العجب والتيه قال نصر بن أحمد :
ومن أمن الآفات عجباً برأيه ... آحاطت به الآفات من حيث يجهل
وقال منصور الفقيه :
لاتحلقنّ بتيّاه فتحمله ... على التّزيّد مما يسخط اللّه
واهجره للّه لا للنّاس مبتغياً ... ثواب ربّك في هجران من تاها
وقال آخر :
إن عيسى أنف أنفه ... أنفه ضعفٌ لضعفه
لو تراه راكباً والتّيه ... قد مال بعطفه

لرأيت الأنف في السّر ... ج وعيسى مثل ردفه
وقال ابن السّلمانى :
أتيه على جنّ البلاد وإنسها ... ولو لم أجد خلقاً لتهت على نفسى
أتيه فلا أدرى من التّيه من أنا ... سوى ما يقول الناس فيّ وفى جنسى
فإن زعموا أنّى من الإنس مثلهم ... فما لي عيبٌ غير أنّى من الإنس
وقال خلف الحمر :
لنا صاحبٌ مولعٌ بالخلاف ... كثير الخطاء قليل الصّواب
ألجّ لجاجاً من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب
ولأبى العتاهية ، ويروى لمنصور الفقيه :
حّذتك الكبر لا يعلقك ميسمه ... فإنّه ملبسٌ نازعته اللّه
يا بوس حامل رجسٍ ليس يغسله ... بالماء عنه إذا كلّمته تاها
يرى عليك له فضلاً ومنزلةً ... إن نال في العاجل السّلطان والجاها
مثنٍ على نفسه راضٍ بسيرته ... كذبت يا صاحب الدّنيا ومولاها
وقال منصور الفقيه :
قلت للمعجب لمّا ... قال مثلى لا يراجع
يا قريب العهد بالمخ ... رج لم لا تتواضع
قال على بن محمد : إنما أهلك الناس العجلة والعجب ، ولو ثبتوا ولم يعجلوا لم يهلك منهم أحد.
قال ابن أبى ليلى : ما رأيت ذا عجب قطّ إلا اعتراني بعض دائه. يريد أنه يبعثه على مكافأته بالتكبر عليه.
قال بعض الحكماء : من استطاع أن يمنع نفسه أربعاً كان جديرا ألا ينزل به مكروه : العجلة ، واللجاجة ، والتواني ، والعجب. ولإبراهيم بن العبّاس الصولى في محمد بن عبد الملك الزيات :
أبا جعفرٍ عرّج على خلطائكا ... وأقصر قليلاً عن مدى غلوائكا
فإن كنت قد أوتيت بالأمس رفعةً ... فإنّ رجائي في غد كرجائكا
ولمنصور الفقيه :
قد كنت أيام كنت مثلكم ... أرى الهلال الخفيّ بالعجله
لو مرّ بي تائهٌ على جمل ... لم أره الآن قلّةً ولا جمله
باب التّواضع والإنصاف
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما تواضع عبدٌ للّه إلاّ رفعه اللّه.
وقال صلى اللّه عليه وسلم : تواضعوا يرفعكم اللّه ، واعفوا يعزكم اللّه.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : طوبى لمن تواضع من غير منقصة ، وذل نفسه من غير مسكنة ، وأنفق مالاً جمعه من غير معصية ، طوبى لمن طاب كسبه ، وصلحت سريرته ، وكرمت علانيته.
انتسب رجلٌ عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى بلغ عشر آباء ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لاحسب إلا في التواضع ، ولا نسب إلا بالتقوى ، ولا عمل إلا بالنية ، ولا عبادة إلا باليقين.وعنه عليه السلام أنه قال : من عظمت نعمة اللّه عليه فليطلب بالتواضع شكرها ، فإنه لا يكون شكوراً حتى يكون متواضعاً.
قال بعض الحكماء : رأس الحكمة طاعة اللّه ، وتقديم حسن النية ، وعراها التواضع في الحقّ ، والإنصاف في المناظرة ، والإقرار بما يلزم من الحجة ، وثمرتها حفظ الثواب ، في العاجلة ، والنجاة في العاقبة ، وحقّها العمل بها ، وألاّ تمنع من من مستحقها ، وأن توقر أوعيتها لوقارها.
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : ما من أحدٍ إلاّ وفي عنقه حكمةٌ موكل بها ملك ، يقول اللّه به : إن تواضع عبدى فارفعه ، وإن ارتفع فضعه.
قال بكر بن عبد اللّه المزنى : ما أرى امرءًا إلاّ رأيت له الفضل علىّ ، لأنّي من نفسى على يقيين ، وأنا من النّاس على شك.
قال عبد اللّه بن مسعود : إن من التواضع الرّضا بالدّون من شرف المجلس ، وأن تسلّم على من لقيت.
قال عبد اللّه بن المبارك : التعزّز على الأغنياء تواضع.
كان يقال : بالتواضع تتمّ النعمة ، وبالتكبر تحق النقمة.
كان سليمان عليه السلام يجئ إلى أوضع المجالس بنى إسرائيل فيجلس معهم فيقول : مسكينٌ بين ظهرانى مساكين.
كان يقال : ثمرة القناعة الرّاحة ، وثمرة التواضع المحبة.
قال لقمان لابنه : يا بنىّ تواضع للحقّ ، تكن أعقل الناس قال أبو الدّرداء : ليس الذي يقول الحق ويفعله بأفضل من الذي يسمعه فيقبله.
قال بعض الحكماء : إذا نسك الشريف تواضع ، وإذا نسك الوضيع تكبّر.ولذى الرّمّة الأسدىّ :

إذا اصطحب الأقدام كان أذلّهم ... لأصحابه نفساً أبرّ وأفضلا
وما الفضل في أن يؤثر المرء نفسه ... ولكنّ فضل المرء أن يتفضلا
قال سالم بن قتيبه : ما تكبّر في ولايته إلا من كبرت عنه ، ولا تواضع فيها إلا من كبر عنها.
قال بعض الفلاسفة : أظلم الناس لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه ، ورغب فيمن يبعده.
قال بزر جمهر : وجدنا التواضع مع الجهل والبخل ، أحمد من الكبر مع الأدب والسخاء فأعظم بحسنه سترت من صاحبها سيئتين ، وأقبح بسيئة غطّت من صاحبها حسنتين.
قال عبد الملك بن مروان : أفضل النّاس من تواضع عن رفعة ، وزهد عن قدرة ، وأنصف عن قوة كان يقال : من حقوق الشّرف أن تتواضع لمن هو دونك ، وتنصف من هو مثلك ، وتنبل على من هو فوقك.
قال ابن السّماك للرشيد : تواضعك في شرفك أشرف من شرفك قال جعفر بن محمد : من أنصف النّاس من نفسه قضى به حكماً لغيره قال معن بن أوس :
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
قال مالك بن الرّيب :
فإن تنصفونا يال مروان نقترب ... إليكم وإلا فأذنوا ببعاد
ففي الأرض عن المذلّة مذهبٌ ... وكلّ بلاد أوطنت كبلادى
قال العباس بن عبد المطلب :
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواطع في أيماننا تقطر الدّما
تركناهم لا يستحلون بعدها ... لذي رحمٍ يوماً من الدّهر محرماً
قال الحكم بن المنذر الجارود في الإنصاف :
بنى عمنّا لا تجزعوا من طعاننا ... فقد كان قبل اليوم مبكى ومجزعاً
وذوقوا كما ذقنا من الحرب إنّنا ... نرى شر أهل الأرض من قد تضعضعاُ
ونادى مناد يال بكر بن وائل ... ونادى بعبد القيس ناد فأسمعا
فما خذلتنا الأزد إذ دارت الرّحى ... ولكنّهم يحمون عزّاً ممنّعا
خطنا البيوت بالبيوت فأصبحوا ... بنى عمّنا من يرمهم يرمنا معا
وقال أبو الأسود الدؤلى :
إذا قلت أنصفنى ولا تظلمنّنى ... رمى كلّ حقّ أدّعيه بباصل
فما طلته حتّى ارعوى وهو كاره ... وقد يرعوى ذو الشّغب عند التجادل
وإنك لم تعطف إلى الحق ظالماً ... بمثل خصيم عاقل متجاهل
قالوا : ثلاثة من حقائق الإيمان : الاقتصاد في الإنفاق ، والابتداء بالسلام والإنصاف من نفسك.
وفي سماع أشهب ، قال مالك رضى اللّه عنه :ليس في الإنسان شئٌ أقل من الإنصاف.
قال جعفر بن سعد : ما أقلّ الإنصاف ، وما أكثر الخلاف ، الخلاف موكل بكلّ شئ حتى القذاة في رأس الكوز ، فإذا أردت أن تشرب الماء جاءت إلى فيك ، وإذا أردت أن تصب من رأس الكوز لتخرج رجعت.
قال الشاعر :
آخ الكرام المنصفين وصلهم ... واقطع مودّة كلّ من لا ينصف
وقال أبو العتاهية :
إذا ما لم يكن لك حسن فهم ... أسأت إجابةً وأسأت سمعا
وقال أبو عثمان الشريشى :
لو جرحت رأسى يدا منصف ... لما تمنّيت بأن أبرا
باب الرّأى والمشورة
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما تشاور قومٌ إلاّ هداهم اللّه لأرشد أمورهم.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لن يهلك امرؤٌ عن مشورة.
قال صلى اللّه عليه وسلم : المستشار مؤتمن.
قال الحسن : إن اللّه لم يأمر نبيّه بمشاورة أصحابه حاجة منه إلى رأيهم ، ولكنه أراد أن يعرفهم ما في المشورة من البركة.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من نزل به أمر فشاور فيه من هو دونه تواضعاً منه عزم له على الرّشد.
قال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه : شاور في أمرك من يخاف اللّه عز وجل.
قيل لرجل من بنى عبس. ما أكثر صوابكم ؟ ! قال : نحن ألفٌ وفينا حازم واحد ، ونحن نشاوره ونطيعه ، فصرنا ألف حازم.
قال عامر بن الظّرب : الرأى نائم والهوى يقظان ، فلذلك يغلب الهوى الرأى.
كان يقال : بإجالة الفكرة يستدرّ الرأى المصيب كان علىّ بن أبى طالب يقول : رأى الشيخ خير من مشهد الغلام

قال بزر جمهر : حسب ذا الرأي ومن لا رأى له أن يستشير عالماً ويطيعه. مرّ حارثه بن زيد بالأحنف بن قيس فقال : لولا أنك عجلان لشاورتك في بعض الأمر. فقال : يا حارثه أجل ، كانوا لايشاورون الجائع حتى يشبع والعطشان حتى ينقع ، والأسير حتى يطلق ، والمضلّ حتى يجد ، والراغب حتى يمنح. كان يقال : استشر عدوّك العاقل ، ولا تستشر صديقك الأحمق ، فإن العاقل يتقي على رأيه الزّلل ، كما يتقي الورع على دينه الجرح. قال ابن المقفع : ثلاثة لا آراء لهم : صاحب الخف الضيق ، وحاقن البول وصاحب المرأة السليطة. قال بعض البلغاء : لا نتيجة لرأى إلا عن طاعة ونصيحة ، ولا نتيجة لمشورة إلا عن محبة ومودة. وقال بعضهم : لاتترك الأمر مقبلا ، وتطلبه مدبراً ، فإن ذلك من ضعف العقل وقلة الرأى.
كان يقال : لا تدخل في رأيك بخيلا فيقصّر فعلك ، ولا جباناً فيخوّفك مالا تخاف ، ولا حريصاً فيعدك مالا يرجى.
قال بعض الأعراب :
ولو أنّ قومى أكرمونى وأتأموا ... سجالاً بها أسقى الذّين أساجل
كففت الأذى ما عشت عن حلمائهم ... وناضلت عن أعراضهم من يناضل
ولكنّ قومى عزّهم سفهاؤهم ... على الرّأى حتّى ليس للرأى حامل
قال النبى صلى اللّه عليه وسلم : الحزم : في مشاورة ذوى الرّأى وطاعتهم.
قال الملهب : إذا كان الرأى عند من يملكه دون من يبصره ضاعت الأمور.
قال الحكماء : إذا كنت مستشيراً فتوخّ ذا الرأى والنصيحة ،فإنه لا يكتفى برأى من لا ينصح ، ولا نصيحة لمن لا رأى له.
ولبشار بن برد ، وقيل إنها لعنترة ، وقيل : إنها للعجّاج الأسدى :
إذا بلغ الرّأى المشورة فاستعن ... برأى نصيحٍ أو نصاحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضةً ... فإنّ الخوافى رافدٌ للقوادم
وآذن من القربى المقدّم نفسه ... ولا تشهد الشورى امرءًا غير كاتم
وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يوتّد بقائم
فإنّك لا تستطرد الهمّ بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم
أنشدنى الأعرابي :
وأنفع من شاورت من كلّ ناصحاً ... شفيقاً فأبصر بعدها من تشاور
وليس بشافيك الصّديق ورأيه ... غريبٌ ولاذو الرّأى والصّدر واغر
وقال بكر بن أذينة :
ولا أشير على من لاّ يشاورنى ... إذا طوى ذات يومٍ أمره دونى
قال أكثم بن صيفى : المشورة مادة الرأى.
قال ابن هبيرة لبعض ولده : ولا تشر على مستبدّ ، ولا على عدوّ ، ولا على متّلون ، ولا على لجوج ، ولا تكون أول مستشار ، ولا أول مشير ، وإياك والرأى الفطير ، وخف اللّه في المستشير ، فإن التماس موافقه لؤم ، وسوء الاستماع منه خيانة.
قال سليمان عليه السلام لابنه : يا بنى لا تقطع أمراً حتى تشاور مرشداً فإنك إذا فعلت ذلك لم تندم.
كان يقال : من اجتهد رأيه وشاور صديقه ، قضى ما عليه.
قال عمر بن العاص : ما نزلت بى قطّ عظيمةٌ فأبرمتها حتى أشاور عشرةً من قريش مرتين فإن أصبت كان الحظّ لى دونهم ، وإن أخطأت لم أرجع على نفسى بلائمة.
قال بعض الأعراب :
خليلىّ ليس الرأى في صدر واحد ... أشيرا علىّ اليوم ما تريان
أأركب صعب الأمر إنّ ذلوله ... بنجران لا يقضى بحين أوان
وأظن هذين البيتين من الأعرابى القائل :
لقد هزئت منّى بنجران إذ رأت ... مقامى في الكبلين أمّ أبان
كأن لم تر قبلى أسيراً مكبلاً ... ولا رجلاً يرمى به الرّجوان
وقد تمثل بهذا البيت عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ، وكتب به إلى بعض أمرائه وقضاته.
كان يقال : أمران جليلان لا يصلح أحداهما إلاّ بالتفرّد ، ولا يصلح الآخر إلا بالتّعاون ، الملك والرّأى ، فإن استقام الملك بالشركاء استقام الرأى بالاستبداد ، وهذا لا يكون أبداً.
قال صالح بن عبد القدوس
وإن باب أمرٍ عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه
وإن ناصح منك يوماً دنا ... فلا تنأ عنه ولا تقصه

قال الأحنف : اضربوا الرأى بعضه ببعض يتولّد منه الصّواب ، وتجنّبوا منه شدة الحزم ، واتّهموا عقولكم ، فإن فيها نتائج الخطأ ، وذمّ العاقبة.
كان يقال : خذ الأمر مقلا ، فشرّ الرأى : الدّبرىّ.
قال الشاعر ، وهو القطامىّ :
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا
قال بعض العرب : قبل الرّمى يراش السّهم وقال سابق : وقبل أوان الرّمى تملا الكنائن وقال الفارسىّ : بادر الفرصة قبل أن تكون غصّة ، وأنشد :
تدارك الأمر قبل نهبته ... أبلغ فيما تحبّ من دركه
قال بعض الحكماء : حقيق أن يوكّل إلى نفسه ، من أعجب برأيه.
قال عبد الملك : اللحن هجنة الشريف ، والعجب آفه الرأى.
قال قتيبه بن مسلم : من أعجب برأيه ، لم يشاور كفيا ، ولم يوات نصيحاً.
قال بزر جمهر : أفره الدّواب لاغنى به عن السّوط ، وأعفّ النساء لا غنى بها عن الزواج ، وأعقل الرجال لا غنى به عن المشورة.
قال عبد الملك بن مروان : لأن أخطئ وقد استشرت أحب إلىّ من أن أصيب من غير مشورة.
قال قتيبه بن مسلم : الخطأ مع الجماعة خيرٌ من الصواب مع الفرقة ، وإن كانت الجماعة لا تخطئ ، والفرقة لا تصيب.
قال المأمون : ثلاثٌ لا يعدم المرء الرشد فيهنّ : مشاورة ناصح ، ومداراة حاسد ، والتحبب إلى الناس.
كان عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه يستشير في الأمر ، حتى إن كان ربما استشار المرأة ، فأبصر في رأيها فضلا.
كان يقال : ما من قوم تمالئوا على أمرهم ، ثم شاوروا امرأة إلا تبّر اللّه أمرهم.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لايفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.
كان يقال : من طلب الرّخصة من الإخوان عند المشورة ، ومن الفقهاء عند الشبهة ، من الأطباء عند المرض ، أخطأ الرّأى ، وحمل الوزر ، وازداد مرضاً.
قال الشاعر ، وأظنها لمنصور الفقيه :
إذا الأمر أشكل إنفاذه ... ولم تر منه سبيلا فسيحا
فشاور بأمرك في سترةٍ ... أخاك اللبيب المحبّ النّصيحا
فربّتما فرّج النّاصحون ... وأبدوا من الرّأى رأياً صحيحا
ولا يلبث المستشير الرّجال ... إذا هو شاور أن يستريحا
وقال آخر :
إنَّ الَّلبِيب إذا تفرّق أمره ... فتق الأمور مناظراً ومشاور
أخو الجهالة يستبدّ برأيه ... فتراه يعتسف الأمور مخاطرا
وقال آخر :
وعاجز الرّأى مضياعٌ لفرصته ... حتّى إذا فات أمر عاتب القدرا
وقال آخر :
أنتم أناسٌ عظامٌ لا حلوم لكم ... لا تعلمون أجاء الرّشد أم غابا
لا تبصرون وجوه الرّأى مقبلة ... وتبصرون إذا ولين أذنابا
قال أبو عمر : الاستبداد مذموم عند جماعة الحكماء ، والمشورة محمودة عند غاية العلماء ، ولا علم أحداً رضى الاستبداد وحمده ، إلا رجل واحد مفتون ، مخادع لمن يطلب عنده لذته فيرقب غرته ، أو رجلٌ فاتك يحاول حين الغفلة ، ويرتصد الفرصة ، وكلا الرّجلين فاسقٌ مائق ، مثال أحدهما قول عمر بن أبى ربيعة. يخاطب من يخدعه.
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرّة واحدةً ... إنّما العاجز من لا يستبد
ومثال الآخر ، قول سعيد بن ثابت العنبرى الأعرابى
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السّيف صاحبا
سئل الحسن البصرىّ ، عن قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تستضيئوا بنار المشركين فقال : أراد لا تستشيروا المشركين في أموركم ولا تأخذوا برأيهم.
باب كتمان السّر وإفشائه
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من أسّر إلى أخيه سرّاً لم يحلّ له أن يفشيه عليه.
قال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه : من كتم سره كان الخيار بيده ، ومن عرّض نفسه للتّهمة فلا يلومنّ من أساء الظنّ به.
قال عباس بن عبد المطلب لابنه عبد اللّه رضى اللّه عنهما : يابنى إن أمير المؤمنين يدنيك - يعنى عمر بن الخطاب - فاحفظ عنى ثلاثاً : لا تفشينّ له سراً ، ولا تغتابن عنده أحداً ، ولا يطّلعنّ منك على كذبة.

قال أكثم بن صيفي : إن سرّك من دمك ، فانظر أين تريقه.
كان يقال : احفظوا أسراركم كما تحفظون أبصاركم وكان يقال : أكثر ما يتم به التدبير الكتمان.
قال قيس بن الخطيم :
أجود بمضمون التّلاد وإنّنى ... بسرّك عمنّ سالنى لضنين
وإن ضيّع الإخوان سراً فإنّنى ... كتومٌ لأسرار الخليل أمين
يكون له عندى إذا ما ائتمنته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين
إذا جاوز الإثنين سرٌّ فإنّه ... بنشرٍ وإفشاء الحديث قمين
وفي مثل هذا : إن السرّ لا يسمّى سرّاً حتى يسره رجلٌ واحد إلى رجل آخر.
قال الصّلتان العبدى :
وسرّك ما كان عند امرئ ... وسرّ الثّلاثة غير الخفى
وقال سابق :
فلا تخبر بسرِّك ،كلُّ سرًّ ... إذا ما جاوز الإثنين فاشى
وقال آخر :
لكلَّ امرىء يا أمّ عمرو طبيعةٌ ... وتفضيل ما بين الرّجال الطّبائع
فلا يسمعن سرّى وسرّك ثالثٌ ... ألا كلّ سرًّ جاوز اثنين ضائع
وكيف يشيع القلب سرّاً وفوقه ... حجابٌ وما فوق الحجابٌ الأضالع
وذهبت طائفة إلى أن السرَّ ما أسررته في نفسك ،ولم تبده إلى أحد.
قال عمرو بن العاص : ما استودعت رجلا سرّاً فأفشاه فلمته ، لأنى كنت به أضيق صدراً حين استودعته إياه.
وإلى هذا ذهب القائل حيث قال :
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فعدر الّذى يستودع السّرّ أضيق
وأنشد الأصمعى قال :أنشدنى أعرابي :
لا أكتم الأسرار لكن أبثّها ... ولا أدع الأسرار تقتلنى غمّا
وإنّ سخيف الرّأى من بات ليله ... حريباً بكتمان كأنّ به حمّى
وفي بثّك الأسرار للقلب راحةٌ ... وتكشف بالإنشاء عن قلبك الهمّا
وقال سحيم الفقعسىّ :
لا أكتم الأسرار لكن أذيعها ... ولا أدع الأسرار تغلى على قلبي
وإنّ ضعيف العقل من بات ليله ... تقلّبه الأسرار جنباً إلى جنب
ومثله قول الآخر :
لا تفشين سرّك إّلا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحاً
فإّنى رأيت غواة الرّجال ... لا يتركون أديماً صحيحاً
وقال رجل من بني سعد :
إذا ما ضاق صدرك عن حديثٍ ... فأفشته الرّجال فمن تلوم
إذا عاتبت من أفشى حديثى ... وسرّى عنده فأنا الظّلوم
وإنّى حين أسأم حمل سرّى ... وقد ضمّنته صدري سؤوم
ولست محدثاً سرّى خليلاً ... ولا عرسي إذا خطرت هموم
وأطوى السّرّ دون النّاس إنّي ... لما استودعت من سرّ كتوم
وقال المتنبي :
رضاك رضاي الذي أوثر ... وسرّك سرّى فما أظهر
كفتك المروءة ما تتّقى ... وآمنك الودّ ما تحذر
وسرّكم في الحشا ميّتٌ ... إذا انتشر السّرّ لا ينشر
وقال حارثة بن بدر الغداني :
خليليّ لولا حب زينب لم أسل ... أفي اليوم لقّيت المنيّة أم غدا
خليليّ إن أفشيت سرّى إليكما ... فلا تجعلا سرّى حديثاً مبددّا
فإن أنتما أفشيتماه فلا رأت ... عيونكما يوم الحساب محمّدا
وقال آخر :
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها ... فسرّك عند النّاس أفشى وأضيع
وقال ابن ميّادة واسمه الرّمّاح :
يا خليليّ هجّرا كي تروحا ... هجتما للرّواح قلباً قريحا
إن تروحا لتعلما سرّ سعدي ... تجداني بسرّ سعدي شحيحاً
إنّ سعدي كمنية التمنّى ... جمعت عفّةً ووجهاً صبيحا
كلمتني وذاك ما نلت منها ... إنّ سعدي ترى الكلام ربيحا
قيل لرجل : كيف كتمانك للسر ... قال : أجحد المخبر. وأحلف للمستخبر.
أسر رجل إلى رجلٍ سراً ، فلما فرغ قال له : حفظت ؟ قال : لا. بل نسيت.
قال أبو محجن الثقفي :
قد أركب الهول مسدولا ستائره ... وأكتم السرَّ فيه ضربة العنق

وقال مسكين الدرامى :
وإني امرؤٌ منّى الحياء الذي ترى ... أعيش بأخلاق قليلٌ خداعها
أواخى رجالاً لست مطلع بعضهم ... على سرّ بعض غير أنّى جماعها
يظلّون شتّى في البلاد وسرّهم ... إلى صخرةٍ أعيا الرّجال انصداعها
وقال آخر :
ولو قدرت على نسيان ما اشتملت ... منّى الضّلوع من الأسرار والخبر
لكنت أول من ينسى سرائره ... إذا كنت من نشرها يوماً على خطر
قال أبو الشِّيص :
ضع السِّرَّ في صمَّاء ليست بصخرةٍ ... صلودٍ كما عاينت من سائر الصَّخر
ولكنَّها قلب امرئٍ حفيظةٍ ... يرى ضيعة الأسرار شراً من الشَّرِّ
يموت وما ماتت كرائم فعله ... فيبلى وما يبلى ثناه على الدَّهر
كان يقال : لا تطلعوا النّساء على سركم ، يصلح لكم أمركم قال الشاعر :
ختمت الفؤاد على حبهَّا ... كختم الصحيفة بالخاتم
هوت بي في حبَّها نظرةٌ ... هوىَّ الفراشة في الجاحم
وقال آخر :
فإن تلك ليلى حمَّلتني أمانةً ... فلا وأبي ليلى إذاً لا أخونها
حفظت لها السَّرَّ الّذي الذي كان بيننا ... ولا يحفظ الأسرار إلا أمنها
كان يقال : كل شئ تكتمه عن عدوك ، فلا تظهر عليه صديقك وقال آخر :
إذا كتم الصديق أخاه سرّاً ... فما فضل الصَّديق على العدوِّ
وقال آخر :
فبثثت عمراً بعض ما في جوانحي ... وجرَّعته من مرِّ ما أتجرَّع
ولا بد من شكوى إلى حفيظةٍ ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلَّع
وقال أبو الشص :
لا تأمن على سرِّي و سرَّكم ... غيري و غيرك أو طيَّ القراطيس
وقال ابن وطيع :
إذا كنت ذا سرًّ تخاف من أعدا ... عليه ظهوراً فاطوه دون ذي الودَّ
فيا ربَّ خلًّ حال عمَّا عهدته ... فظل لما قد كنت أودعته يبدي
وقال تشبيب بن البرصاء :
وإني لأكمن السِّرَّ عندي وإن أتى ... لذلك من عهد الأمانة حين
كمون النوى لايشعر النَّاس أنَّه ... ثوى في رفاق الأرض وهو دفين
وقال آخر :
تبوح بسرِّك ضيقاً به ... وتبغي لسرِّك من يكتم
وكتمانك السِّرَّ ممن تخاف ... ومن لا تخوَّفه أحزم
وقال آخر :
أداري خليلي ما أستقام بودِّه ... وأمنحه ودي إذا يتحبب
ولست ببادي صاحبي بقطيعةٍ ... ولا أنا مبدي سرَّه حين أغضب
ومما أنشده الرِّياشي رحمه الله :
بديهته قبل تدبيره ... متى رمته فهو مستجمع
وفي كفّه للغنى مطلبٌ ... وللسِّرَّ في صدره موضع
باب الحرب والشَّجاعة والجبن
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " لا تمنَّوا لقاء العدوّ ، وإذا لقيتموهم فاثبتوا " قال أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه في كتابه إلى خالد بن الوليد : احرص على الموت توهب لك الحياة : أخذه الشاعر فقال :
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياةً مثل أن أتقدَّما
ومن هذا قول الخنساء :
نهبن النفوس وهون النُّفو ... س عند الكريهة أوقى لها
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض بني عبسٍ : كم كنتم في يوم كذا ؟ قال : كنا مائه ، لم نكثر فنتوا كل ونفشل ، ولم نقلَّ فنذلَّ. قال : فيم كنتم تظهرونّ على أعدائكم ، ولستم بأكثر منهم ؟ قال : كنا نصبر بعض الناس هنيهة.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لابنه الحسن ، وقد قيل لابنه محمد : يا بني! لاتدعون أحداً إلى البراز ، فإنه بغي ، ولا يدعونَّك أحد إله إلا أجبته.
وقد وفد على عمر بن الخطاب بفتح ، فقال : متى لقيتم عدوكم ؟ قالوا : أول النهار. قال : فمتى انهزموا ؟ قالوا : آخر النهار ، فقال : إناّ للّه! وأقام الشرك للإيمان من أول النهار إلى آخره!! واللّه إن كان هذا إلاّ عن ذنب بعدى ، أو أحدثته بعدكم ، ولقد استعملت يعلى بن أميّة على اليمن استنصر لكم بصلاحه.

قيل لعنترة : كم كنتم يوم الفروق ؟ قال : كنا ألفاً مثل الذهب الخالص ، ليس فينا غيرنا ، لم نكثر فنفشل ، ولم نقل فنذل. لم يكن قبيل في العرب ألف فارس إلا ثلاث قبائل : مرّة وعبس وبنو الحارث بن كعب.
قال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ، لعمرو بن معدى كرب : أخبرنى عن السّلاح.قال : سل عما شئت. قال : الرّمح ، قال : أخوك وربما خانك. قال النّبل ؟ قال : منايا تخطئ وتصيب. قال : التّرس ، قال : ذلك المجنّ وعليه تدور الدوائر. قال : الدّرع ، قال : مشغلة للرّاجل متعبةٌ للفارس ، وإنها لحصنٌ حصين. قال : السيف ؟ قال : قارعتك أمّك على الثّكل. قال عمر : بل أمّك. قال : أخبرني عن الحرب ، قال : مرّة المذاق ، إذا قلصت عن ساق ، من صبر لها عرف ، ومن ضعف عنها تلف ، وهى كما قال الشاعر :
الحرب أولّ ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكلّ جهول
حتّى إذا اشتعلت وشبّ ضرامها ... عادت عجوزاً غير ذات خليل
شمطاء جزّت رأسها وتنكرت ... مكروهةً للشّمّ والتقبيل
قال حذيفة بن اليمان : الفتنة تلقح بالنجوى ، وتنتج بالشكوى. أخذ نصر بن سيار قول حذيفة هذا ، واللّه أعلم ، حين قال : إن الحرب أوّلها الكلام وهى أبيات كتبها إلى مروان بن محمد :
أرى خلل الرّماد وميض نار ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النّار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها الكلام
فقلت من التّعجب ليت شعري ... أأيقاظٌ أميّة أم نيام
بلغ أبا الأغر أن أصحابه ، وقع بينهم شر ، فوجه ابنه الأغر ، وقال له : يا بنى كن يداً لأصحابك على من قاتلهم ، وإياك والسيف ، فإنه ظل الموت ، واتق الرمح ، فإنه رسالة المنية ، ولا تقرب السهام ، فإنها رسل لا تؤامر من يرسلها ، قال : فبم أقاتل ؟ قال : بما قال الشاعر :
جلاميد أملاء الأكفّ كأنّها ... رءوس رجالٍ حلّقت بالمواسم
وهذا الشعر هو :
تغطّى نميرٌ بالعمائم لؤمها ... وكيف يغطّ اللؤم طىّ العمائم
فإن تضربونا بالسّياط فإنّنا ... ضربناكم بالمرهفات الصّوارم
وإن تحلقوا منّا الرّءوس فإننا ... حلقنا رءوساً باللّحى والغلاصم
وإن تمنوا منّا السّلاح فعندنا ... سلاحٌ لنا لا يشترى بالدّراهم
جلاميد أملاء الأكفّ كأنّها ... رءوس رجالٍ حلقت بالمواسم
ومن أحسن ما قيل في الصبر على الحرب قول نهشل بن حرّى بن ضمرة :
ويومٍ كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم يكن نارٌ قيامٌ على الجمر
صبرنا له حتّى تقضّى وإنّما ... تفرّج أيام الكريهة بالصّبر
ومثله قول الآخر :
بكى صاحبي لما رأى الموت موقناً ... مطّلاً كإطلال السّحاب إذا اكفهرّ
فقلت له : لاتبك عينك إنّما ... يكون غداً حسن الثناء لمن صبر
فما أخّر الإحجام يوماً مقدّماً ... ولا عجّل الإقدام ما أخّر القدر
ومن أحسن ما قيل في النظم في الصبر على الحرب ، قول قطرى بن الفجاءة التميمى الخارجي :
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لن تراعى
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عزّ ... فيطوي عن أخي الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كلّ حيّ ... وداعيه لأهل الأرض داعي
ومن لم يعتبط يهرم ويسقم ... وتسلمه المنون إلى انقطاع
وقال أصرم بن حميد :
حرامٌ على أرماحنا طعن مدبرٍ ... ويندقّ قدماً في الصّدور صدورها
مسلّمةٌ أعجاز خيلي في الوغى ... وداميةٌ لبّاتها ونحورها
وقول الآخر :
وقد يلتقى الجمعان والموت فيهما ... فيقتل من ولى ويسلم من ثبت
وقد ذكرت في " باب الاعتذار " ... احسن ما قيل في النظم ،في الاعتذار
ومن أحسن ما قيل في الإنصاف في صفة الحرب ،واللقّاء والصّدق في ذلك ،قول عبد الشّارق

بن عبد العزّى الجهنى :
تنادوا يال بهثة يوم صبر ... فقلنا : أحسني ضرباً جهينا
سمعنا دعوةً عن ظهر غيبٍ ... فجلنا جولةً ثم ارعوينا
فلما أن تواقفنا قليلاً ... أنخنا للكلاكل فارتمينا
ولما لم ندع قوساً وسهماً ... مشينا نحوهم ومشوا إلينا
تلألؤ مزنةٍ برقت لأخرى ... إذا جاءوا بأسيافٍ ردينا
شددنا شدّةً فقتلت منهم ... ثلاثة فتيةٍ وقتلت قينا
وشدّوا شدّةً أخرى فجروّا ... بأرجل مثلهم ورموا جوينا
وكان أخي جوينٌ ذا حفاظٍ ... وكان القتل للفتيان زينا
فآبوا بالرّماح مسكّراتٍ ... وأبنا بالسّيوف قد انحنينا
فباتوا بالصّعيد لهم أحاحٌ ... ولو خفّت لنا الكلمى سرينا
وقال العديل العجلى :
إذا ما حملنا حملةً ثبتوا لنا ... بمرهفةٍ تفرى السّواعد من بعد
وإن نحن نازلناهم بصوارم ... ردوا في سرابيل الحديد كما نردى
وقال آخر :
نصل السّيوف إذا قصرن بخطونا ... قدماً ونلحقها إذا لم تلحق
وقال آخر :
إنّ الرّماح نصيرة بالجاسر
وقال آخر :
وقلت لنفسي إنّما هو عامرٌ ... فلا ترهبيه وانظري أين يركب
قال قطرىّ بن الفجاءة :
لا يركنن أحدٌ إلى الإحجام ... يوم الوغى متخوّفاً لحمام
فلقد أراني للّرماح دريئةً ... من عن يميني مرّة وأمامي
حتى خضبت بما تحدّر من دمى ... أحناء سرجي بل عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام
قال عمر بن الخطاب :الجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث يشاء ،فالجبان يفر عن أهله وولده ،والجرئ يقاتل عمن لا يؤؤب به إلى رحله : ومن شعر لأبى يعقوب الخريمى :
يفرّ جبان القوم عن عرس نفسه ... ويحمى شجاع القوم من لا يناسبه
ويرزق معروف الجواد عدوّه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه
وقال قطرىّ بن الفجاءة :
يا ربّ ظلّ عقاب قد وقيت بها ... مهري من الشمس والأبطال تجتلد
وربّ بوم حمى أرعيت عقوته ... خيلى امتساراً وأطراف القنا قصد
ويوم لهو لأهل الخفض ظلّ به ... لهوى اصطلاء الوغى أو ناره تقد
مشهرّاً موقفي والحرب كاشفةٌ ... عنها القناع وبحر الموت مطرّد
وربّ هاجرةٍ تغلى مراجلها ... مخرتها بمطايا غارةٍ تخد
تجتاب أودية الأفزاع آمنةً ... كأنّها أسدٌ يقتادها أسد
فإن أمت حتف أنفي لا أمت كمداً ... على الطّعان وقصر العاجز الكمد
قالت الخنساء :
ومن ظنّ مّمن يلاقى الحروب ... بألا ّيصاب فقد ظنّ عجزا
وقال حبيب الطائى :
ودنونا ودنوا حتّى إذا ... أمكن الضّرب فمن شاء ضرب
تركوا القاع لنا إذ كرهوا ... غمرات الموت واختاروا الهرب
وقال دريد بن الصّمة ، ويقال : إنها لعمرو بن معدى كرب :
أعاذل إنَّما أفنى شبابي ... ركوبي في الصّريخ إلى المنادى
مع الفتيان حتّى سلّ جسمي ... وأقرح عاتقي حبل النّجاد
وقال آخر :
قوم إذا اشتجر القنا ... جعلوا القلوب لها مسالك
الّلابسين قلوبهم ... فوق الدّروع لدفع ذلك
ومن أحسن ما قيل في صفة الطعن ،قول الحارث بن حلّزة :
فرددناهم بضربٍ كما يخ ... رج من جرية المزاد الماء
وفعلنا بهم كما علم الل ... ه وما إن للخائنين ذماء
وقال الفند الزّمّاني :
وطعن كفم الزّقّ ... إذا والزّق ملآنّ
وقال آخر :
ومثلك قد كسرت الرّمح فيه ... فآب بدائه وشفيت دائى
وقالت بنت المنذر بن ماء السماء :
وقالوا : فارس الهيجاء ،قلنا : ... كذاك الرّمح يكلف بالكريم
وقال آخر :

ضممت إليه بالقناة قميصه ... فخرّ صريعاً لليدين وللفم
وقال عنترة :
فشككت بالرّمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرمّ
وقال آخر :
صراعنا طريفاً بأرماحنا ... ولا تأكل الحرب إلاّ السّمينا
وقال عليّ بن محمد العلوى ، المعروف بالمبرقع ، صاحب الزّنج :
ينثني الصّارم المهنّد والرّم ... ح الرّد ينيّ والشجاع الجرىّ
حيث لا أنثني ولا يتثنّى ... بيدى صارمٌ ولا سمهرىّ
من رآني فقد رأى مشرفيّاً ... ماضياً في يمينه مشرفيّ
شأني الفارس المدجّج في النّق ... ع إذا نازل الكمىّ الكمىّ
ورأيت الفضاء أضيق ما يس ... ى به حتى كأنّه مطوىّ
ياابنة العمّ أوقدي النّار في الليّ ... ل فإنّي لكل آتٍ أتىّ
أكرم الضيف ما أستطعت لآنّ ... مطعمي حاضرٌ وكأسي روئ
كيف لا تزهق النفوس لشخصي ... حين أغشى الوغى وجدّي على
ذو التقى والنبل وذو العلم والحل ... م ومن خير طينة والوصي
والّذي قال إنّه البوم منى ... مثل هارون منه أخيه النبيّ
وقال عبيدة بن هلال :
يهوى وترفعه الرماح كأنه ... شلوٌ تنشّب في مخالب ضار
فيرى صريعاً والرّماح وتنوشه ... إن السّراة قصيرة الأعمار
وقال مهلهل :
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزول
وقال ابن مقوم الضبى :
ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل
وقال أعشى همدان :
أبلغ يزيد بنى شيبان مالكه ... أنّ الكتائب لا يهزمن بالكتب
إنّ الوعيد بظهر الغيب معجزةٌ ... فإن أردت قتال القوم فاقترب
من ها هنا واللّه أعلم أخذ حبيب :
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب
وقال آخر :
وخارج أخرجه حبّ الطّمع ... فرّ من الموت وفي الموت وقع
من كان يهوى أهله فلا رجع قال السموءل بن مادياء اليهودى :
يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
كان معاوية رضى اللّه عنه يتمثل بهذين البيتين :
كأنّ الجبان يى أنه ... سيقتل قبل انقضاء الأجل
وقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشّجاع البطل

أشعار الجبناء
قال أيمن بن خريم :
إنّ للفتنة ميلاً بيّناً ... فرويد الميل منها يعتدل
فإذا كان عطاء فأقم ... وإذا كان قتال فاعتزل
إنّما يسعرها جهالها ... حطب النّار فدعها تشتعل
وقال آخر :
أضحت تشجّعنى هند وقد علمت ... أنّ الشّجاعة مقرونٌ بها العطب
للحرب قوم أضل اللّه سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
ولست منهم ولا أبغى فعالهم ... لاالقتل يعجبني منهم ولا السّليب
لا والذي جعل الفردوس جنته ... مايشتهي الموت عندي من له أرب
وقال أبو الغمر المدني كاتب الحسن بن زيد :
قد هان عندي لسان العار والعذل ... فلست آنف من جبن ولا فشل
إنّي بخلت بنفس لا يجاد بها ... ولست بالمال أفديها من البخل
هيهات تأبى لي التغرير فلسفةٌ ... ترى حضور الوغى من أكثر الزّلل
متى رأيت شجاعاً مات بالأجل ... ونال من لذّة الدنيا مدى الأمل
كأنّ آجال شجعان الورى خلقت ... في أنفس البيض والخطبّة الذّبل
وقال أيضاً :
إني أضن بنفس لا يجاد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية السّرف
ما أبعد القتل من نفس الجبان وما ... أحلّه بالفتى الحامي عن الشّرف
وقال أيمن بن خريم :
يقول لي الأمير وقد رآني ... تقدم حين جدّ بنا المراس

فمالي إن أطعتك غير نفسي ... ومالي غير هذا الراس راس
وقال الهذلى يصف جباناً :
تحول قشعريراته دون لونه ... فرائصه من الموت ترعد
وقال آخر :
وكتيبةٍ لبستها بكتيبةٍ ... حتّى إذا التبست نفضت لها يدى
فتركتهم تقص الرّماح ظهورهم ... من بين منجدلٍ وآخر مسند
ما كان ينفعني مقال نسائهموقتلت دون رجالهملاتبعد
وروينا أن مروان بن الحكم ، دعا أيمن بن خريم إلى القتال بمرج راهط ، فقال له : إن أبى وعمى شهداء بدر ، وعهدوا إلى ألا أقاتل مسلما ، ثم أنشأ يقول
ولست بقاتلٍ رجلاً يصّلى ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلى أثمي ... معاذ اللّه من سفه وطيش
أأقتل مسلماً في غير جرمٍ ... فلست بنافعي ما عشت عيشى
وقد روى أن هذه القصة جرت لأيمن بن خريم مع عبد الملك بن مروان.
ولأبى الغمر كاتب الحسن بن زيد أمير المدينة :
لست غداة الكر بالكرّار ... ولا على الطّعان بالصّبّار
هانت علىّ سبلات العار ... وما أبالي قبلوا اعتذاري
أو وسموني سمة الغدّار ... أنا طليق الرّكض والفرار
فديت نفسي منه بالإضمار ... فلو تراني أو ترى إحضاري
لا أعرف اللّيل من النّهار ... لخلتني عجلان ذا انشمار
طرفاً نجا من وخزة البيطار ... أحكم منه الصنّع في المضمار
أو عدو عير غير ما عثار ... أو كنجاء النقنق الطّيّار
قيل لأسلم بن زرعة : إن انهزمت من أصحاب مرداس غضب عليك الأمير عبيد اللّه بن زياد فقال : لأن يغضب علىّ وأنا حىّ ، أحب إلىّ من أن يرضى عنى وأنا ميت.
وأسلم بن زرعة هذا هو القائل وقد عبأ جيشاً عظماً ليفزع به الخوارج ، فلما رآهم لم يفزعوا ، وجعلوا يقبلون إليه ، قال لهم : عزمتم خار اللّه لنا ولكم ثم ضرب وجوه أصحابه وانصرف عنهم ، ولما هزمه مرداس قال شاعرهم - وكانوا أربعين - وأسلم بن زرعة في ألفين :
أألفا مؤمنٍ منكم زعمتم ... ويهزمهم رجالٌ أربعونا
كذبتم ليس ذلكم كذا كم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
وجه أبو جعفر المنصور ، روح بن حاتم إلى قتال بعض الخوارج ، فلقيه أبو دلامة ، فقال له روح : يا أبا دلامة! لو خرجت معنا في هذا الوجه ، فقاتلت فأبليت ، فذكرت بالشجاعة كما ذكرت بالشعر ، فضحك ، وقال : اسمع أبا خالد ، قال : هات ، فأنشأ يقول :
آني أعوذ بروح أن يقربني ... إلى القتال فيشقى بي بنو أسد
إن الدّنوّ من الأعتداء تعلمه ... مما يفرّق بين الروح والجسد
قال : فضحك وأمر له بجائزة.
وقال أبو الغمر :
ظلّت تشجعني ضلاّ بتضليل ... وللشّجاعة خطبٌ غير مجهول
هل غير أن عذلوني أنني فشلٌ ... فكلّ هذا نعم فاغروا بتعذيلى
الحرب تعقب من يصلى بها حزناً ... يتم البنين وإرمال المثاكيل
واللّه ل أنّ جبريلاً تكفّل لي ... بالنّصر خفت على علمي بجبريل
اللّه خلصني منهم وفلسفتي ... حتّى تخلصت مخضوب السّراويل
وله أيضاً :
لست بداء الحرب بوقاف ... ولا على القرن بعطّاف
قد أمّن اللّه عدوّى فما ... يخاف رماحي وأسيافي
إذا رأيت الحرب من فرسخٍ ... خذرفت رجلي آي خذراف

باب الاعتذار
روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : " من اعتذر إليه أخوه المسلم فليقبل عذره ، مالم يعلم كذبه " قال عمر بن الخطّاب : لا تلم أخاك على ما يكون العذر في مثله قال الأحنف : إيّاك وما يعتذر منه ، فإنّه قلمّا اعتذر أحدٌ فسلم من كذب قال الحسن بن علىّ رضى اللّه عنهما : لو أنّ رجلا شتمني في آذني هذه ، واعتذر إلى في أذني هذه لقبلت عذره.
ومن النظم في معناه :
قيل لي قد أسا إليك فلانٌ ... وقعود الفتى على الضّيم عار

قلت : قد جاءنا فأحدث عذراً ... دية الذنب عندنا الآعتذار
وقال الأحنف :إذا اعتذر إليك معتذر ،فلتلقه بالبشر.
اعتذر إلى قتيبة بن مسلم رجل فقبل منه ،ثم قال :لا يدعونك أمرٌ قد تخلصت منه إلى الدخول فيما لعّلك لا تتخلص منه.
قال صالح بن أبى النجم :
ولربّما جاء الفتى بد نيّةٍ ... ووراءها عذرٌ له لم يفهم
وكان يقال :اعتذار بمنع خير من وعد ممطول وقال صالح بن عبد القدوس :
يلومني النّاس فيما لو أخبّرهم ... بالعذر منى فيه لم يلوموني
قال البحتري :
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن برّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلك من يعضيك مستترا
وله أيضاً :
إذا محاسني اللاتي أدل بها ... عدّت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر ؟
وقال محمود بن داود القياسي :
العذر يلحقه التخويف والكذب ... وليس في غير ما برضيك لي أرب
فإن أسأت فبالنعمى التي سلفت ... لمّا منيت بعفو ماله سبب
وقال أبو على البصير :
لم أجن ذنبا فإن زعمت بأن ... جنيت ذنباً فغير معتمد
قد تطرف الكف عين صاحبها ... فلا يرى قطعها من الرّشد
وقال عاىّ بن الجهم :
إنّ ذلّ السّؤال والإعتذار ... خطّةٌ صعبةٌ على الأحرار
ليس جهلاً بها تورّطها الحرّ ... ملكن سوابق الأقدار
ارض للسّائل الخضوع وللقا ... رف ذنباً مذلّة الإعتذار
وقال آخر :
وما كنت أخشى أن ترى لي زلّةٌ ... ولكن قضاء الله ما عنه مهرب
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكلّ امرئ لا يقبل العذر مذنب
كان يقال :من وفّق لحسن الاعتذار خرج من الذنب.
اعتذر رجلٌ إلى أبى عبيد الله الوزير الكاتب ،فأساء الاعتذار ،فقال أبو عبيد الله : ما رأيت اعتذاراً أشبه باستئناف ذنب من هذا.
وللشافعي رضى الله عنه ، وقد قيل :أنما تمثّل بها :
يالهف نفسي على مال أفرّقه ... على المقلّين من أهل المروءات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي من إحدى المصيبات
ومما ينشد للفراء من قوله :
أردت لكيما لا ترى لي عثرةٌ ... ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل
وقال محمود الوراق :
أراني إذا ما زدت مالاً ورفعةً ... وخيراً إلى خيرٍ تزيّدت في الشّرّ
فكيف بشكر اللّه إذ كنت إنما ... أقوم مقام الشكر للّه بالكفر
بآي اعتذار أم بأية حجةٍ ... يقول الذي يدرى من الأمر : ما أدرى
إذا كان وجه العذر ليس بواضحٍ ... فإنّ اطّراح العذر خيرٌ من العذر
قال أبو الصولى ، أخبرنى أبو بكر بن عبد اللّه ، قال : سألني أبو سليمان الشاشى حاجة فاعتذرت بشغل في تأخيرها ، فكتب إلىّ :
سكنت نفسي لمّا ال ... تف حبلى بحبالك
إنما أطلب من جا ... هك نفعاً لا بمالك
لا تصيّر شغلك اليو ... م اعتذاراً لطلابك
لو تفرغت من الشغ ... ل استوينا في المسالك
وهذا عندي مأخوذ من قول أبى العتاهية :
ليس ذا الشغل عاذرٌ لك عندي ... إنّما ترتجى إذا كان شغل
وقال آخر :
ولا تعتذر بالشغل عنّا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتّصل الشّغل
ولا ترتفع عنّا بشئ وليته ... كما لم يصغرّ عندنا شأنك العزل
وقال آخر :
وقد علمت لو انّ العلم ينفعني ... أنّ انطلاقي إلأى الحجاّج تغرير
لئن رحلت إلى الحجّاج معتذراً ... إنّي لأحمق من تجرى به العير
وقال آخر :
لا ترج توبة مذنب ... خلط احتجاجاً باعتذار
وقال ابن الدّمينة :
بنفسي ومالي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البرئ ولم يزل ... به سكتةٌ حتّى يقال مريب
وقال آخر :

فلا تعذراني في الإساءة إنّه ... شرار الرّجال من يسئ ويعذر
وقال آخر :
وما حسنٌ أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر النّاس عاذر
وقال آخر :
هي المقادير فلمنى أو فذر ... إن كنت أخطات فما أخطأ القدر
وقال آخر :
وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصه ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
وقال آخر :
إذا عيّروا قالوا مقادير قد جرت ... وما العار إلاّ ما تجرّ المقادر
قال بعض الحكماء : إياك وما يسبق للقلوب إنكاره ، وإن كان عندك اعتذاره.
قال محمود الوراق :
أراني مع الأحياء وأكثري ... على الدهر ميتٌ قد تخونّه الدّهر
فما لم يمت منّى لما مات ميّتٌ ... وبعض لبعض قبل قبر البلى قبر
فيا ربّ قد أحسنت بدءاً وعودةً ... إلىّ فلم ينهض بإحسانك الشّكر
فمن كان ذا عذر لديك وحجةٍ ... فعذري إقراري بأن ليس لي عذر
وفي الأشعار في الأعتذار من الفرار قال الأصمعي : أحسن ما قيل في الأعتذار من الفرار ، قول الحارث بن هشام المخزومى :
اللّه يعلم ما تركت قتالهم ... حتّى علوا مهرى بأشقر مزبد
وعلمت أنّى إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يحزن عدوّى مشهدي
فصدرت عنهم والأحبّة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
وقال خلف الأحمر : أحسن ما قيل في الأعتذار في الفرار ، قول هبيرة بن أبى وهب المخزومى :
لعمرك ما وليت ظهري محمداً ... وأصحابه جبناً ولا خفية القتل
ولكنني قّلبت آمري فلم أجد ... لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلى
وقفت فلما خفت ضيعة موقفي ... رجعت لعود كالهزبر أبى الشّبل
فر ابن مطيع يوم الحرّة ، وسار إلى ابن الزبير ، فلما قوتل ابن الزبير ، جعل يجتهد معه في القتال ، ويقول :
أنا الذي فررت يوم الحرّة ... والحرّ لا يفرّ إلا مرّة
فاليوم أجزى فرّة بكرّه ... يا حبّذا الكرّة بعد الفرّه
وقال أوس بن حجر :
أتونا فردوا حافتينا بزاعقٍ ... من الضّرب ضرم النّار في الحطب اليبس
وما بفرار اليوم عارٌ على الفتى ... إذا عرفت منه الشّجاعة بالأمس
قال الأحنف بن قيس : أسرع النّاس إلى الفتنة ، أقلّهم حياء من الفرار وقال آخر :
العبد يذيب والمولى يقوّمه ... والعبد يجهل والمولى يعلّمه
إنّي ندمت على ما كان من ذلل ... وزلّة المرء يمحوها تندّمه

باب المواعيد
أثنى اللّه عز وجل على إسماعيل عليه السّلام ، فقال : " إنّه كان صادق الوعد " ، وقال كعب : كان لا يعد أحداً إلا أنجزه ، وقال : انتظر رجلا وعده سنة كاملة.
ورى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم انتظر رجلاً وعده في موضع من طلوع الشمس إلى غروبها.
وروى عنه عليه السلام : أنه انتظره ثلاثاً ، والمنتظر عبد اللّه بن أبى الحمساء.
وروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، أنه قال : " من وعده اللّه على عمل ثواباً فهو منجز له ما وعده ، ومن أوعده على عمل عقاباً فإن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له " " ، وعن ابن عباس مثله.
وقال المثنى بن حارثة لشيباني : لأن أموت عطشاً أحبّ إلى من أن أخلف موعداً.
قال بعض الحكماء : وعد الكريم نقد ، ووعد اللئيم تسويف كان يحيى بن خالد يقول : المواعيد شباك الكرام يصيدون بها محامد الإخوان ، ألا تراهم يقولون : فلانٌ ينجز الوعد ، ويفي بالضمان ، ويصدق في المقال ، ولولا ما تقدم من حسن موقع الوعد ، لبطل حسن هذا المدح.
وكان يحيى بن خالد ، يقول : إنّ الحاجة إذا لم يتقدمها وعدٌ تنتظر نجحه ، لم تتجاوب الأنفس سرورها ، فدع الحاجة تختمر بالوعد ، ليكون لها عند المصطنع حسن موقع ولطف محل.
ومن كلام يحيى بن خالد بن برمك أيضاً : " لا " الكريم أنجح من " نعم " الئيم ، لأنّ " لا " الكريم ، ربما كانت في وقت غضب ، وإبّان سآمة ، " ونعم " الئيم تصدر عن تصنع وفساد نيّة وقبح مآل.
أنشد أبو عمرو بن العلاء :

ولا يرهب ابن العمّ ما عشت صولتى ... ويأمن منّى صولة المتهّد
وإنّي وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقال آخر :
لسانك أحلى من جنى النّحل وعده ... وكفّاك بالمعروف أضيق من نعل
تمنّى الذي يأتيك حتّى إذا انتهى ... إلى أملٍ ناولته طرف الحبل
وقال زياد الأعجم :
للّه درّك من فتى ... لو كنت تفعل ما تقول
لا خير في كذب الجلوا ... دو حبّذا صدق البخيل
وقال آخر :
وإن جميع الآفات فالبخيل شرها ... وشر من البخل المواعيد والمطل
قال ابن عيينة : وعد رجل ابن شبرمة عدة فمطله بها ، فكتب إليه ابن شبرمة :
الخير أنفعه للناس أعجله ... وليس ينفع خيرٌ فيه تطويل
ومثل هذا قول سابق :
وتأخير ما يرجى بلاء ٌمبرحٌ ... وأفضل ما يرجى من الخير عاجله
وقال كعب بن زهير :
كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلاً ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
وقال الأشجعى :
وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوبٍ أخاه بيتربٍ
قال ابن منبّه : هكذا قرأته على البصريين بيترب بالتاء ،وفتح الراء.
قال ابن الكلبي ، عن أبيه : كان عرقوبٌ رجلا من العماليق ، فأتاه أخ له يسأله شيئاً ،فقال له عرقوب : إذا طلع نخلى فلما طلع أتاه فقال له : إذا بلح ، فلما بلح أتاه ، فقال :إذا زهى ،فلما زهى أتاه ،فقال :إذا أرطب ،فلما أرطب أتاه ، فقال : إذا ثمر ، فلمّا ثمر جذّه ليلا ، ولم يعطيه شيئاً ، فضربت به العرب المثل في خلف الوعد.
وقال غيره : عرقوب جبل مكلّل بالسحاب أبداً ، ولايمطر شيئاً.
وقال الحكماء : من خاف الكذب ، أقل المواعيد.
وقالوا : أمران لا يسلمان من الكذب ، كثرة المواعيد ، وشدة الاعتذار.
قال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول : أنا والله منه في مواعيد ، تهيض العظم ،وخلفٍ يذكر العدم ، ولكنه إذا وعد الحريص علق نفسه لديه وأتعب رجليه ، وأنشد :
أمّلت منك نوالاً لست أدركه ... متى أقول الّذي أمّلت يأتينى
أفي حياتي فأرجوه وينفعني ... أم في مماتي فإنّ الموت يغنيني
وقال الشاعر :
فلا تعد عدةً إلا وفيت بها ... ولا تكن مخلفاً يوماً تعد
وأظن هذا من قول المثقب العبدي :
لا تقولنّ إذا ما لم ترد ... أن يتمّ الوعد في شئٍ نعم
وإذا قلت نعم فاصبر لها ... بنجاح الوعد إنّ الخلف ذم
وروى لعمار الكلبي ، وأظن من شعره هذا :
قم لوجه اللّه وكن ... صادق الوعد فمن يخلف يلم
وقال آخر :
إذا قلت في شئٍ نعم فأتمّه ... فإنّ نعم دين على الحرّ واجب
وإلا فقل لا واسترح وأرح بها ... لئلا يقول النّاس إنّك كاذب
وقال آخر :
إنّ الكريم إذا حباك بموعدٍ ... أطاكه سلساً بغير مطال
وقال عمر بن أبى ربيعة المخزومى :
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدّت مرّةً واحدةً ... إنّما العاجز من لا يستبد
وقال آخر :
تمنيت ما أرجوه من حسن وعدكم ... فكنت كمن يرجو منال الفراقد
هبونى لم أستأهل العرف منكم ... أما كنتم أهلاً لصدق المواعد
وقال عباس بن الأحنف :
ما ضرّ من قطع الرّجاء ببخله ... لو كان عللنى بوعد كاذب
وقال آخر :
إن لم يكن وصل لديك لما ... يشفي الصبّابة فليكن وعد
وقال آخر :
فإن تدعى نجداً أدعه ومن به ... وإن تسكني نجداً فيا حبّذا نجد
وإن كان يوم الوعد يوم لقائنا ... فلا تعذليني أن أقول متى الوعد
وقال محمد بن مناذر :
أنل المال ولا تبخل به ... فإذا اعسرت بالمال فعد
لا تعد شراً وعد خيراً ولا ... تخلف الوعد وأنجز ما
باب عيونٍ من المدح

قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " أرحم أمتي بأمّتي أبو بكر ، وأقواهم على دين اللّه عمرُ ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علىّ بن أبي طالب ، وأقرأهم أبىّ ابن كسب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجةٍ أصدق من أبى ذرّ ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح " .
مدح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأنصار ، فقال : " إنكم لتقلّون عند الطّمع ، وتكثرون عند الفزع " .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم : " خير دور الأنصار دور بنى عبد الأشهل ، وفي كل دور الأنصار خيرٌ " .
وقال عليه السلام : " إن اللّه اختارني ، واختار لي أصحاباً وأنصاراً ، وجعل لي منهم مزراء وأصهاراً " .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " خير نساء ركبن الإبل نساء قريش ، أحناهنّ على ولد في صغره ، وأرعاهن لبعلٍ في ذات يده " .
ذكر أبو بكر الصديق عند ابن عباس ، فقال : كان واللّه بالمسلم حفيا ، وعلى الكافر قسيا ، وعن اللذة سليا ، يتواضع حيث لا توهن نصرته ، ويعلو حين لا تخاف سطوته ، القرآن قائده ، الموت إمامه ، لأن الأمر بين عينيه ، وعاقبته بين يديه ، رحمه اللّه وأحسن عنا مجازاته.
ذكر ابن عباس أبا بكر رضى الله عنهما ،فقال :كان ثاني اثنين إذهما فى الغار ، وثاني اثنين في العريش ،وثاني اثنين في القبر.
قال الشّعبيّ : لما مات على بن أبي طالب رضى اللّه عنه ، قام ابنه الحسن على قبره ، فحمد اللّه وأثنى عليه وصلى على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، واستغفر اللّه لآيه ، ثم قال : نعم أخو الإسلام كنت يا أبي ، جواداً بالخلق ، بخيلا بالباطل عن جميع الخلق ، تغضب حين الغضب ، وترضى حين الرّضا ، عفيف النظر ، غضيض الطّرف ، لم تكن مداحاً ولا ستاماً ، تجود بنفسك في المواطن التي تبخل بها الرجال ، صبوراً على الضّراء ، مشاركاً في النّعماء ، ولذلك ثقلت على أكتاف قريش.
ذكر على بن أبي طالب عند ابن عباس رضى اللّه عنهما ، فقال : كان واللّه يسكنه الحلم ، وينطقه العلم.
ذكر علي بن أبي طالب عند صعصعة بن صوحان العبدىّ ، فقال : هو باللّه عليم ، واللّه في عينيه عظيم.
قال معاوية لضرار الصّدائي : صف لي علياً. قال : اعفني يا أمير المؤمنين. قال : لتصفنّه. قال : أما إذ لا بد من صفته ، فكان واللّه بعيدة المدى ، شديدة القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجرّ العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة عن نواحيه ،يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان واللّه غزير العبرة ،طويل الفكرة ، يقلب كفه ويحاسب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن ، يعظم أهل الدين ، ويقرب المساكين ، لا يطمع القوى في باطله ، ولا ييأس اللضعيف من عدله ، كان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، وينبئنا إذا استنبأناه ، ونحن واللّه مع تقريبه إيانا ، وقربه منا لا نكاد نكلمه لهيبته ، ولا نبتدئه لعظمته ، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وقد تمثل في محرابه قابضاً على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكى بكاء الحزين ، يقول : يا دينا! غرّى غيري ، إلىّ تعرضت ؟ أم إلىّ تشوقت ؟ هيهات هيهات ، فد باينتك ثلاثاً لا رجعة لى فيها ، فعمرك قصير ، وخطرك قليل ، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
فبكى معاوية ، وقال : رحم اللّه أبا حسن ، كان واللّه كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال حزن من ذبح واحدها في حجرها.
سئل عبد اللّه بن عباس عن علىّ بن أبى طالب ، فقال : ما شئت من ضرس قاطع في العلم بكتاب اللّه ، والفقه في سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانت له مصاهرة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والتبطن في العشيرة ، والنجدة في الحرب ، والبذل للماعون.
نظر علىّ بن أبي طالب رضى اللّه عنه ، إلى زيد بن صوخان مقتولا ، فقال : واللّه لقد كنت ما علمت : عظيم المعونة ، خفيف المؤونة.
وقف علىّ على قبر طلحة بن عبيد اللّه رضى اللّه عنهما ، فقال :
وما تدرى إذا أزمعت أمراً ... بآي الأرض يدركك المقيل
ثم قال :
فتى كان يدنبه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر

وقال أبو خراش في الذي ألقى على أبيه رداءه
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... ولكنه قد سلّ عن ماجد محض
ولأعرابي في يحيى بن خالد :
سألت النّدى هل انت حمٌّ فقال لا ... ولكنني عبدٌ ليحيي بن خالد
فقلت شراءً قال لا بل وراثةً ... توارثها عن والدٍ بعد والد
وقال آخر :
إنّ للنّاس غايةً في المعالي ... وقفوا عندها وأنت تزيد
قد تناهيت في الكلام والمج ... د وحزت العلى فأين تريد
ولحبيب ويروي لإسحاق الموصلى :
إن يكن شئٌ جميلٌ حسنٌ ... فهو في دور عبد الملك
عقدت ألسنتهم عن قول لا ... فهي لا تحسن إلاّ هو لك
ومن عيون ما قيل في المدح نظماً ، قول حسان بن ثابت في بني جفنة :
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل
بيض الوجوه أغفةٌ أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطراز الأول
قال جبلة بن الأيهم لحسان بن ثابت : أين أنا من النعمان ؟ فقال : واللّه لشمالك أندى من يمينه ، وقفاك أحسن من وجهه ، ولأمك أكرم من أبيه.
وقول الأعرابي في عمر بن عبد العزيز كأنه مأخوذ من قول حسان هذا ، وذلك قوله حين دخل عليه ، وهو خليفة ، فقال :
وأنت الذي كلتا يديك مفيدةٌ ... شمالك خيرٌ من يمين سواكبا
بلغت مدى الجارين قبلك إذ جروا ... ولم يبلغ الجارون بعد مداكما
فجدّاك لا جدّين أكرم منهما ... هناك تناهى المجد ثم هناكا
وقال لقيط بن زرارة :
وإني من القوم الذين عرفتهم ... إذا مات منهم سيّدٌ قام صاحبه
نجوم سماء كلّما غار كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوى إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى اللّيل حتّى نظّم الجزع ثاقبه
وقال ظفيل الغنوىّ :
نجوم ظلام كلّما غاب كوكب ... بدا ساطعاً في حندس اللّيل كوكب
وقال آخر :
درارى نجومٍ كلّما انقضّ كوكبٌ ... بدا كوكبٌ ترفضّ عنه الكواكب
وقال المريمي يمدح بنى خريم من آل شيبان بن حارثة :
بقيّة أقوامٍ من العزّ لو خبت ... لظلّت معدٌّ في العلا تتسكّع
إذا قمرٌ منها تغوّر أو كبا ... بدا قمرٌ في جانب الأفق يلمع
ومدح بعض بنى عمرو إخوته فقال :
خبّر ثناء بنى عمرٍو فإنّهم ... أولو فضول وأنفالٍ وأخطار
إن يسألوا الخير يعطوه وإن جهدوا ... فالجهد يخرج منهم طيب أخبار
هينون لينون أيسارٌ بنو يسرٍ ... سوّاس مكرمة أبناءٌ إيسار
من تاق منهم فقد لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يهدى بها السّارى
لا ينطقون عن العمياء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار
وقد قيل :إن هذا الشعر لبعض بنى كلاب يمدح بعض بنى غنىّ ،وكان أبو عبيدة ينكر هذا ،ويقول :محال يمدح كلابي غنوياً قالت الخنساء :
أشمّ أبلج يأتمّ الهداة به ... كأنّه علمٌ في رأسه نار
وقال آخر :
إذا قيل أىّ فتًى تعلمون ... أهشّ إلى الطّعن بالذّابل
وأضرب للقرن في مفرقٍ ... وأطعم في الزّمن الماحل
أشارت إليك أكفّ الورى ... إشارة غرقى إلى ساحل
ومن أحسن ما قيل في المدح أيضاً في النظم ،قول أبى الجهم العدوى في معاوية رضى اللهّ عنه :
تقلّبه لتخبر حالتيه ... فتخبر منهما كرماً ولينا
نميل على جوانبه كأنّا ... نميل إذا نميل على أبينا
وفى هذا الشأن قول زهير في هرم بن سنان :
إن تلق يوماً على علاته هرماً ... تلق السّماحة منه والنّدى خلقا
أغرّ أبيض فيّاض يفكّك عن ... أيدي العقاة وعن أعناقها الرّبعا
وقوله أيضاً :
أخو ثقة لا تذهب الخمر ماله ... ولكنّه قد يذهب المال نائله
تراه إذا ما جئته متهلّلاً ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
وقوله أيضاً :

على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلّين السّماحة والبذل
وقول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقول القاسم بن أمية بن أبى الصلت الثقفى :
قومٌ إذا نزل الغريب بدارهم ... ردّوه ربّ صواهل وقيان
وإذا دعوتهم ليوم كريهةٍ ... سدّوا شعاع الشّمس بالفرسان
لا ينقرون الأرض عند سوالهم ... لنطلب العلاّت بالعيدان
بل يبسطون وجوههم فترى لهم ... عند اللّقاء كأحسن الألوان
والجيّد من النظم لا يحصى كثرة ،وحسبنا أن نأتي منه بما يقرب حفظه للمذاكرة ، ويقوم ببهاء مورده في المجالسة.
قال عمر وبن أمية الضّمرىّ للنجاشى ،حين وجهّه إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :أيها الملك!كأنك في الرّأفة علينا منّا ،لم نرجك قطّ لأمر إلا نلناه ،ولم نخفك قطّ على أمر إلا أمنّاه.
ووقف حيّان بن مالك بن جعفر على قبر عامر بن الطّفيل ،فقال :كان واللّه لا يضل حتى يضل النّجم ،ولا يعطش حتى يعطش البعير ،ولا يهاب حتى يهاب السيل.
مدح أعرابىٌّ رجلا فقال :كان يغنى في طلب المكارم غير ضال في مصالح طريقها ولا متشاغل عنها بغيرها.
وذكر أعرابي جلد أخيه ،فقال :ما بعثته في سوادٍ إلاّ جلاّه ومحاه ،ولا في بياض إلا أزكاه وأضاءه.
وصف أبو مهديةّ الأعرابي قوماً ،فقال :أدبتهم الحكمة ،وأحكمتهم التجربة ،ولم تغررهم السلامة المنطوية على الهلكة ،ورحل عنهم التسويف الذى قطع الناس به مسافة آجالهم ،فذلت ألسنتهم بالوعد ،وأنبسطت أيديهم بالإنجاز ،فأحسنوا المقال وشفعوه بالفعال.
ومدح أعرابي رجلا فقال :كالمسك إن تركته عبق ،وإن خبّأته عبق.
قال محمد بن زياد الحارثي :
تخالهم للحلم صماً عن الخنا ... وخرساً عن الفحشاء عند التّفاخر
ومرضى إذا لاقوا حياءً وعفّةً ... وعند الحفاظ كاللّيوث الكواسر
لهم ذلّ إنصافٍ ولين تواضعٍ ... بهم ولهم ذلّت رقاب العشائر
كأنّ بهم وصماً يخافون عاره ... وما وصمهم إلا اتقّاء المعاير
وقال آخر :
لو قيل لا بن محمّد : ياذا النّدى ... قل لا ، وأنت مخلدٌ ما قالها
إنّ المكارم لم تزل معقولة ... حتّى حللت براحتيك عقالها
مدح أعرابي رجلاً ، فقال : كان إذا خرست الألسن عن الرأي حذق بالصواب كما يحذق الأريب.
أثنى عمرو بن زياد العتكىّ على الحجاج بن يوسف عند عبد الملك بن مروان فقال : يا أمير المؤمنين! هو سيفك الذي لاينبو ، وسهمك الذي لا يطيش ، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم. وكان الحجاج يقصيه فلما قال ذلك أدناه.
قال ابن شهاب : قال لي سعيد بن المسيب : ما مات من ترك مثلك.
ومن أحسن ما قيل في المدح نظماً ، وإن كان الحسن منه كثيراًَ جداً ، ما ذكره أو لي البندادي رواية عن شيخوخه : أن علىّ بن الحسين بن على بن أبي طالب رآه هشام بن عبد الملك وهو خليفة في حجة حجها ، وعلى يطوف بالبيت والناس يفرجون له عند الحجر تعظيما له ، وينظرون إليه مبجلين له ، فغاظ ذلك هشاماً ، فقال : من هذا ؟ كأنه لم يعرفه ، فقال الفرزدق منكراً لقول هشام ، ومادحاً لعلى بن حسين :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... بالبيت يعرفه والحلّ والحرم
هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم ... هذا التّقّى النّقّي الطّاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتمي الكرم
ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضى حياءً ويغضى من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم
بكفه خيزران ريحها عبقٌ ... من كف أروع في عرنينه شمم
مشتقّةٌ من رسول اللّه نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم
ينجاب ثوب الدجى عن نور غرّته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها الظّلم

حمال أثقال أقوام إذا قرحوا ... حلو الشّمائل تحلو عنده نعم
هذا ابن فاطمه إن كنت جاهله ... بجده أنبياء اللّه قد ختموا
فليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
اللّه فضّله قدماً وشرّفه ... جرى بذاك له في لوحة القلم
من جدّه دان فضل الأنبياءٍ له ... وفضل أمته دانت له الأمم
سهل الخليفة لا تخشى بوادره ... تزينه خلتان الحلم والكرم
مصدّق الوعد ميمون نقيبته ... رحب الفناء أريبٌ حين يعتزم
أىّ القبائل ليست في رقابهم ... لأوّلية هذا أو له نعم
من يعرف اللّه يعرف أولية ذا ... فالدّين من بيت هذا ناله الأمم
وفيها أبيات لم أذكرها لأني أظنها مضافة مفتعلة ،وقد أنشد بعض هذا الشعر حبيب في الحماسة للحر بن عبد اللّه الليثى في على بن الحسين بن على بن أبى طالب.
هذا وذكر الفاكهى في أخبار مكة ،وقال :حدثنى أبو سعيد عبد اللّه بن شبيب ، قال حدثني ابن عائشة ،قال :أخبرني أبى ،قال :دخل الفرزدق مكة ،فإذا هو بعلىّ بن عبيد اللّه بن جعفر يطوف بالكعبة في حلّةٍ وهو محرم ،فقال :ويحكم يا معشر أهل مكة ،من هذا الرجل الذي يطوف بالبيت ،فو اللّه ما رأيت أحسن من وجهه ، ولا من حلّته ،فقالوا :هذا على بن عبيد اللّه بن جعفر بن أبى طالب ،ولفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأنشأ يقول هذه الأبيات التي ينشدها الناس.
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم
فذكر هذه الأبيات ولم يتمهّا ،قال الفاكهىّ :ويقال إن الرجل الذي قال فيه الفرزدق هذا هو محمد بن علىّ بن حسين ،قال :وحدثني أبو سعيد ،قال :حدثني الزبير ،قال :قيل هذا الشعر فى قثم بن العباس ،قاله : بعض شعراء أهل المدينة ، وزاد في الشعر بيتين أو ثلاث منها قوله :
؟كم صارخٍ بك مكروبٍ وصارخةٍ ... يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم
وأما قوله في الخبر الأول : ولفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ، فإن علىّ بن عبد اللّه أمه زينب علىّ بن أبي طالب ، وأمّها فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقول من قال : إن هذا الشّعر قيل في علىّ بن عبيد اللّه بن جعفر ، أو في محمد بن علي بن حسين أصح عندي من قول من قال : إنه في علىّ بن حسين ، لأن على بن حسين توفي سنة ثلاث أو أربع وتسعين ، وهشام بن عبد الملك إنما ولى الخلافة سنة خمس ومائة ، وعاش خليفةً عشرين سنة ، وجائز أن يكون الشعر للحر بن عبد اللّه في محمد بن علي بن حسين ، وممكن أن يكون للفرزدق في محمد ابن علي بن حسين بن أبي جعفر - وإن كان له في أبيه علي بن حسين - فلم يكن هشام يومئذ خليفةً كما قال أبو علي في روايته ، وأما قول الزبير : إنه قيل في قثم ابن عباس ، فليس بشئ ، وإنما ذاك شعر قيل في قثم على قافية هذا الشعر وعروضه ليس هو هذا.
قال عبدة بن الطبيب في قيس بن عاصم المنقرى : ؟؟عليك سلام اللّه قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترّحما
تحيّة من أوليته منك نعمةً ... إذا زار عن شحط مزارك سلماً
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قومٍ تهدّماً
وقال آخر :
كريمٌ يغضّ الطّرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرّماح دوان
وكالسيف إن لاينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان
وللخريمي :
يلام أبو الفضل في جوده ... وهل يقدر البحر ألا يفيضا
وقال أبو جعفر محمد بن مناذر :
أتانا بنو الأملاك من آل برمك ... فيا طيب أخبار ويا حسن منظر
لهم رحلةٌ في كلّ عام إلى العدى ... وأخرى إلى البيت الحرام المستّر
إذا نزلوا بطحاء مكّة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فتظلم بغدادٌ ويجلو لنا الدّجى ... بمكّة ما حجوا ثلاثة أقمر
فما خلقت إلا لجود أكفهم ... وأقدامهم إلاّ لأعواد منير
إذا راض يحيى الأمر ذات صعابه ... وناهيك من راع له ومدبّر

ترى النّاس إجلالاً لهم وكأنّهم ... غرانيق ماءٍ تحت باز مصرصر
وقال آخر :
إذا سألت الناس أين المكروه ... والعزّ والجرثومة المقدّمه
وأين فاروق الأمور المحكمه ... تتابع النّاس على ابن شبرمه
وقال آخر :
ما لقينا من جود فضل بن يحيى ... صيّر النّاس كلّهم شعراء
أنشد الأصمعى : ؟كلّ يومٍ كأنّه يوم أضحى عند عبد العزيز أو يوم فطر وهذا عبد العزيز بن مروان بن الحكم ، وله يقول نصيب :
لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم نعمٌ غامره
فبابك ألين أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره
وكلبك آنس بالمعتفين ... من الأمّ بالأبنة الزّائره
وكفك حين ترى السّائلي ... ن أندى من اللّيلة الماطره
فمنك العطاء ومنّى الثناء ... بكلّ محبّرةٍ سائره
وذكر رجل عند الحسن ، فقال : كان له خشوع الصابرين وبهاء الملوك.
ومن المدح :
له خلقان لم يدعا ... له مالاً ولا نشبا
سخاءٌ ليس يملكه ... وحلمٌ يملك الغضبا
وقال آخر : ؟فل كنت يوماً كنت يوم سعادةٍ ترى شمسه والمزن تهضب بالقطر
ولو كنت ليلاً صيّبٍ ... من المشرقات البيض في وسط الشهر
وقال آخر :
بديهته وفكرته سواءٌ ... إذا ما نابه الحدث الكبير
وأحزم ما يكون الدّهر رأياً ... إذا عمى المشاور والمشير
وصدرٌ فيه للهمّ اتساعٌ ... إذا ضاقت عن الهمّ الصدّور
وقال حمزة بن بيض في مخلد بن يزيد بن المهلب :
بلغت لعشرٍ مضت من سنيّ ... ك ما يبلغ السّيد الأشيب
نهمّك فيها جسيم الأمور ... وهم لدارتك أن يلعبوا
وقال ذو الرمة :
عطاء فتى بنى وبنى أبوه ... فأعرض في المكارم واستطالا
قال أبو اليقظان : ولىّ الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم الثقفي ، قتال الأكراد فأبادهم ، ثم ولاه السند والهند ، وقاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة ، فقال فيه الشاعر :
إن السّماحة والمروءة والنّدى ... لمحمد بن القاسم بن محمّد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجّةً ... يا قرب سورة سؤدد من مولد
قال أبو اليقظان : وهو الذي جعل شيراز معسكرا ومنزلا لولاة فارس.
قال الحطيئة :
أولئك قومٌإن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم ... من اللّوم أوسدوا المكان الذي سدوا
وقال أبو الغول الطّهوىّ يمدح قومه :
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدّقوا فيهم ظنوني
معاشر لا يملوز المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبون
ولا يجزون من حسنٍ بشرّ ... ولا يجزون من غلظ بلين
ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين
هم منعوا حمى الوقبى بضربٍ ... يؤلف بين أشتات المنون
فنكب عنهم ظلم الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون
وقال آخر
بديهته مثل تدبيره ... متى رمته فهو مستجمع
وفي كفه للغنى مطلبٌ ... وللسّرّ في صدره موضع
وباب المديح أوسع الأبواب ، لا يحيط به كتاب ، والاختصار أولى بنا فيه على ما شرطنا من الإكثار.
قال عبد اللّه بن مسعود : لا تعجلن بمدح أحد ولا بذمه ، فإنه رب من يسرك اليوم يسوءك غدا.
قال النّجاشى الشاعر ، واسمه قيس بن عمرو الحارثي ، من بني الحارث ابن كعب.
إنّي امرؤٌ ما أثنى على أحد ... حتّى أرى بعض ما يأتى وما يذر
لا تحمدن امرءًا حتّى تجرّبه ... ولا تذمّنّ من لم تبله الخبر
قال عليّ بن حسين : إذا قال فيك رجلٌ مالا يعلم من الخير ، أوشك أن يقول فيك ما يعلم من الشّر.
باب عيون من الذّمّ

قالت عائشة رضى اللّه عنها :استأذن رجلٌ على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،وأنا معه في البيت :فقال : " ائذنوا له فبئس ابن العشيرة ،أو قال :بئس أخو العشيرة ،ثم قال :إنّ من شرار النّاس من اتقّاه الناس لشرهّ ،أو تركه الناس لشره " .هذا حديث ابن عيينة ،عن المنكدر ،عن عروة ،عن عائشة ،وليس بلفظ حديث مالك المرسل.
قال الحسن :ذمّ الرجل نفسه في العلانيه مدحٌ لها في السرّ.
كان يقال :من أظهر عيب نفسه فقد زكّاها.
ذمّ بعض البلغاء رجلا ،فقال :ما الحمام على الإصرار ، والدّين على الإقتار ، وشدة السّقم في الأسفار ،بآلم من فلان.
قيل لأعرابىّ :ما تنقم من أميرك ؟قال :يقضى بالعشوة ،ويأكل الرّشوة ،ويطيل النّشوة.
قال ثعلب :النّشوة بالفتح :السّكر ،والنّشوة بالكسر :الريح.
ذمّ رجلٌ رجلا ،فقال :كان واللّه سيىّ الرّوية ، قليل التقية ،شديد السعاية ،ضعيف النكاية.
ذم خالد بن صفوان شبيب بن شيبة ،فقال :أنت واللّه ممن إذا سأل ألحف ،إذا سئل سوّف ، وإذا حدّث حلف ،وإذا وعد أخلف ،تنظر نظر حسود ،وتعرض إعراض حقود.
قال حسان بن ثابت : ؟أبوك أبوك وأنت ابنه فبئس البنىّ وبئس الأب
وأمّك سوداء نوبيّةٌ ... كأنّ أناملها العنظب
يبيت أبوك بها معرساً ... كما ساور المهرة الثعلب
وقال أعرابىٌّ : ؟أكثر ما يأني على فيه الكذب وإنّما الشّاعر مجنون كلب
حيّاكم اللّه فإنىّ منقلب
مر سفيان الثّورىّ رضى اللّه عنه ،بقوم في السوق ،أو غيرها ، فقال لمن معه أما ترون النعمة عند غير أهلها ،كأنها مسخوط عليها ،أخذه الشاعر فقال : ؟يا حجة اللذه في الأرزاق والنّعم يا محنة لذوى الأخطار والهمم
ما نراك أصبحت في نعماء ظاهرةٍ ... إلاّ وربّك غضبانٌ على النّعم
قال بعض البلغاء :كفانى سقوط فلان إسقاكه.
ذم رجل رجلا فقال :ذلك أعيا ما يكون عند جلسائه ،ابلغ ما يكون عند نفسه.
لعمر بن سليمان البجلى ،في إسماعيل بن عبد اللّه أخى خالد بن عبد اللّه القسرى : ؟لو كنت ماء كنت ماء آسناً أو كنت مرعى لم يردك الورّد
أو كنت من شجرٍ لكنت إلاءةً ... أو كنت من ورقٍ نفاك النّاقد
قال الحرمازىّ : ؟قبّحتم آل فقيمٍ عدداً لو كنتم قولاً لكنتم فندا
أو كنتم ماء لكنتم زبداً ... أو كنتم شيئاً لكنتم نقدا
أو كنتم لحماً لكنتم غدداً
النّقد :المعز ،وفى المثل :لهو أدل من النّقد.
قال أبو عثمان العروضى :
لو كان حرفاً كان لا معنى له ... أو كان ظرفاً لم يكن إلاّ متى
وقال آخر : ؟لو كنت ماء كنت غير عذب أو كنت سيفاً كنت غير غضب
أو كنت لحماً كنت لحم كلب ... أو كنت عيراً كنت غير ندب
وقال آخر : ؟لو كنت برداً كنت زمهريرا أو كنت ريحاً كانت الدّبورا
أو كنت غيما لم تكن مطيرا ... أو كنت ماءً لم تكن طهورا
أو كنت مخّا كنت مخّاريرا
ومما أنشده ثعلب : ؟للّه درّك أيّما رجلٍ يبنى أبوك وشأنك الهدم
لو كنت تصعد في السماء كما ... تنحط قصّر دونك النجم
مر عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ،بقوم يتبعون رجلا أخذ في ريبة ،فقال :لا مرحباً بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في الشر.
قال القطامي :
ألا إنما نيران قيس إذا اشتووا ... لطارق ليلٍ مثل نار الحباحب
يقال : نار الحباحب ، ونار أبي الحباحب ، لكل نارٍ تراها العين ولا حقيقة لها قال دريد بن الصمّة :
ياآل سفيان ما بالى وبالكم ... أنتم كثير وفي الأحلام عصفور
وخير من هذا ، قول حسان بن ثابت يذم قوماً :
لاعيب في القوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير
وقال آخر :
قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لقبح المختبر
وقال آخر :
له صورة تعمى العيون سماجة ... وإن تختبر يوماً فأقبح مخبر
وقال محمد بن مناذر ،في خالد بن طليق قاضى البصرة : جعل الحاكم يا للناس من آل طليق
حاكمٌ يحكم في النا ... س بحكم الجاثليق
يدع الحقّ ويهوى ... في ثنّيات الطريق

أىّ قاضٍ أنت للنق ... ص وتعطيل الحقوق
يا أبا الهيثم ما أن ... ت لهذا بخليق
" لا ولا أنت بما حملت منه بمطيق
حبله حبل غرورٍ ... عقده غير وثيق
وله فيه أيضاً : ؟قل لأمير المؤمنين الذي في هاشم سرّها والّلباب
إن كنت للسّخطة عاقبتنا ... بخالدٍ فهو أشدّ العقاب
أصمّ أعمى عن طريق الهدى ... وقد ضرب النّوك عليه الحجاب
كان قضاء الله فيما مضى ... من رحمة الله وهذا عذاب
يا عجباً من خالدٍ كيف لا ... يخطئ فينا مرّةً بالصّواب
قال أبو العتاهية : ؟وليس بحاكم من لا يبالى أأخطأ في الحكومة أم أصابا وقال آخر : ؟؟؟؟؟؟؟؟فإن تصبك من الأيّام داهيةٌ لم نبك منك على دنيا ولا دين وقال آخر : ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟إذا ما لقيت بنى عامر لقيت جفاءً ونوكاً كثيراً
نعامٌ تجود بأعناقها ... ويمنعها نوكها أن تطيرا
وقال آخر : ؟وإنّك إن حللت بدار قومٍ رحلت بخزيةٍ وتركت عارا وقال آخر :
خنازير ناموا عن المكرمات ... فنبّههم قدر لم ينم
فيا قبحكم في الّذي خوَّلوا ... ويا حسنهم في زوال النّعم
وقال آخر :
فخير منك مالا خير فيه ... وخير من زيارتك القعود
وقال آخر : ؟وما ينفع الأصل من هاشمٍ إذا كانت النّفس من باهله وقال آخر :
كأنَّ ريحهم من قبح فعلهم ... ريح الكلاب إذا ما مسّها المطر
وقال خلف الأحمر :
إذا انتسبوا ففرعٌ من قريشٍ ... ولكنّ الفعال فعال عكل
وقال أبو على البصير :
لعمر أبيك ما نسب المعلّى ... إلى كرم وفي الدّنيا كريم
ولكنّ البلاد إذا اقشعرّت ... وصّح نبتها رعى الهشيم
وللحطيئة في أمة ، لا عفا اللّه عنه :
تنحّى فاقعدى منّى بعيداً ... أراح اللّه منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء منّى ... ولكن لا إخالك تعقلينا
أغربا لاً إذا استودعت سراً ... وكانوناً على المتحّدثينا
جزاك اللّه شراً من عجوزٍ ... ولقّاك العقوق من البنينا
وللفقيه أبى عمر بن عبد البر :
واصلت في شرب الشّمول سفاهةً ... حتّى غدوت كأنّ أنفك دمّل
قال أعرابيّ : أتيت بغداد فإذا ثياب أجواد على ألأم أجساد ، إقبال حظّهم إدبار حظوظ الكرام ، شجرٌ فروعه عند أصوله ، شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر.
قال أبو العتاهية :
أذمّ بغداد والمقام بها ... من بعد ما خبرةٍ وتجريب
ما عند أملاكها لمر تغبٍ ... رفدٌ ولا فرجةٌ لمكروب
خلّوا سبيل العلا لغيرهم ... ونازعوا في الفسوق والحوب
يحتاج راجي النّوال عندهم ... إلى ثلاث من غير تكذيب
كنوز قاروق أن تكون له ... وعمر نوحٍ وصبر أيوب
وقال آخر :
أما لو أنّ جهلك كان علماً ... إذا لنفذت في علم الغيوب
ومالك في الغريب يدٌ ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
وقال الناشئ :
لو كما تجهل تدري ... كنت للّه رسولا
وقال حماد بن الزبرقان في حمّاد عجرد :
نعم الفتى لو كان يعرف ربّه ... ويقيم وقت صلاته حمّاد
هدلت مشافره الشّمول فأنفه ... مثل القدوم يسنّها الحدّاد
وابيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد
وقال رافع بن إبراهيم اليربوعي :
ألستم أقلّ النّاس تحت لوائهم ... وأكثرهم عند الذبيحة والقدر
وأمساه بالشّئٍ المحقّر بينهم ... وأعجزهم عند الجسيم من الأمر
وقال أعرابي :
العبد يجتنب الهجاء لشينه ... ولك الهجاء إذا هجيت جمال
لم يبق عارٌ في البريّة كلّها ... إلا وأخبث منه فيك يقال
وقال أبو عيينة :
خالدٌ لولا أبوه ... كان والكلب سواء
لو كما ينقص يز ... داد إذا نال السّماء

أنا ما عشت عليه ... أسوأ النّاس ثناء
إنّ من كان مسيئاً ... لحقيق أن يساء
وله أيضاً :
داود محمود وأنت مذمّمٌ ... عجباً لذاك وأنتما من عود
ولرب عودٍ قد يشقّ لسجدٍ ... نفصاً وسائره لحشّ يهود
وقال الفرزدق :
أترجو كليباً أن تجئ صغارها ... بخير وقد أعيا عليك كبارها
وقال أبو نواس :
لأبي نوحٍ رغيفٌ ... أبداً في حجر دايه
برّةٍ تمسحه الدّه ... ر بكم ووقاية
وله كاتب سوءٍ ... خطّ فيه بعنايه
فسيكفيكهم الل ... ه إلى آخر آلايه
وقال فيه أيضاً :
أبو نوحٍ دخلت عليه يوماً ... فغدّائي برائحة الطّعام
فكان كمن سقى الظمآن آلا ... وكنت كمن تغدى في المنام
قال رجل خياط أعور لبعض الشعراء : واللّه لأخيطن لك قباء لا تدري أقباءٌ هو أم دوّاج ، فقال : وأنا واللّه أقول فيك شعراً ، لا تدري أمدح هو أم هجاء ، فلما خاطه له قال فيه :
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
قل لمن يسمع هذا ... أمديح أم هجاء
فلم يدروا ما أراد : صحة عينيه أم عماه.
ولرجل من بني تميم :
أمن عوز الرّجال وهم كثيرٌ ... حبا نصرٌ بإمرته عقيلا
فلو بكت المنابر من لئيم ... سمعت لعود منبره عويلا
وقال آخر :
من دون سيبك لون ليل مظلم ... وحفيف رائحةٍ وكلبٌ مرصد
والضيف عندك مثل أسود سالخٍ ... لا بل أحبّهما إلأيك الأسود
وقال آخر :
ورثنا المجد عن آباء صدقٍ ... أسأنا في ديارهم الصّنيعاً
إذا الحسب الرفيع تعاورته ... بناة السّوء أوشك أن يضيعا
وأحسن من هذا :
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقال آخر :
إن تلق ريب المنايا أو تردّفها ... لم نبك منك على دين ولا حسب
وقال آخر :
وإن تصبك من الأيام قارعةٌ ... لم أبك منك على دنيا ولا دين
قيل لمسلمة : أجرير أشعر أم الفرزدق ؟ قال الفرذدق يبني ، وجرير يخرب ، وليس بقوّم الخراب شئ.
قال أعرابي في سعيد بن سلم :
مدحت ابن سلمٍ والمديح مهزّةٌ ... فكان كصفوانٍ عليه تراب
لكلّ أخي مدح ثوابٌ يعدّه ... وليس لمدح الباهلّي ثواب
قال أبو بكر السّامرى :
يا شاعراً يهتك من عقله ... أضعاف ما يهتك من عرضى
إذا هجاني جاءني شعره ... وبعضه يضحك من بعض
وهذا الباب أكثر من الحصى والتراب.

باب العقل والحمق
أما العقل فقد أوردت في معناه واشتقاقه والدّلالة عليه ، وما جاء في ذلك من النثر والنّظم كتاباً كافياً ، ونوردها هنا من صفات العاقل والأحمق ما تحسن به المذاكرة ، ويجعل إيراده في المجالسة إن شاء اللّه تعالى.
ومن حديث ابن عمر ، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : لا يعجبنكم إيمان الرجل حتى تعلموا ما عقدة عقله " وروى عن النبي عليه وسلّم ، أنه قال : " حقٌ على العاقل أن يكون له أربع ساعات ، ساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يفضى فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ، ويصدقونه عن نفسه ، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويجعل ، فإن هذه الساعة عونٌ له على هذه الساعات ، وإجمام للقلوب.
وحقٌ على العاقل ألا يظعن إلا في إحدى ثلاث : زادٌ لمعاده ، ومرمّة لمعاشه ، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون عارفاً بزمانه ، مالكاً للسانه ، مقبلاً على شانه " .
أوحى اللّه تعالى إلى موسى عليه السّلام : أتدرى لم رزقت الأحمق ؟ قال : لا قال : ليعلم العاقل أن الرزق ليس باحتيال.
قال النبي صلى اللّه عليه وسلّم : " ثلاثٌ من حرمهنّ فقد حرم خير الدنيا والآخرة : عقلٌ يداري به الناس ، وحلمٌ يردّ به السفيه ، وورعٌ يحجزه عن المحارم " .

افتخر رجلان عند عليّ بن أبي طالب رضى اللّه عنه ، فقال : أتفتخران بأجساد بالية ، وأرواح في النار ؟! إن يكن لكما عقلٌ فلكما أصل ، وإن لم يكن لكما خلق فلكما شرف ، وإن يكن لكما تقوى فلكما كرم ، وإلاّ فالحمار خير منكما ، ولستما خيراً من أحد.
وقال عليّ بن أبي طالب رضى اللّه عنه : العاقل من لم يحرمه نصيبه من الدنيا حظّه من الآخرة.
قال عليّ بن أبي طالب في وصيته لابنه : لا مال أعوذ من العقل ، ولا قفر أشدّ من الجهل ، ولا وحده أوحش من العجب ، ولا مظاهرة كالمشاورة ، ولا حسب كحسن الخلق.
كان يقال :إذا كان علم الرجل أكثر من عقله ،كان قميناً أن يضرّه علمه.
قال عمرو بن العاص :ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر ،ولكنه الذي يعرف خير الشرين.
قال العتبيّ :العقل نوعان ،فأحدهما ما تفرد الله بصنعته ،والآخر ما يستفيده المرء بأدبه وتجربته ،ولا سبيل إلى العقل المستفاد إلاّ بصحة العقل المركب ،فإنهما إذا اجتمعنا قوّى كلٌّ منهما صاحبه ،كما أن النار في الظلمة نور للبصر ،وأنشد :
إذا لم يكن للمرء عقلٌ يزينه ... مع النّاس لم يجعل له مشفقٌ عقلا
وقال آخر :
ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم يزن حسن الجسوم عقول
وقال أردشير بن بابك :نموّ العقل بالعلم.
وكتب عمر بن عبد العزيز رضى اللّه عنه ، إلى بعض عماله : أمّا بعد ، فإنّ العقل المفرد لا يقوى به على أمر العامّة ،ولا يكتفي به في أمر الخاصّة ،فأحي عقلك بعلم العلماء والأشراف من أهل التّجارب والمروءات ،والسّلام.
قال أيوب بن القرّيّة :الناس ثلاثة :عاقلٌ ،وأحمق ،وفاجرٌ ،فالعاقل :الدّين شريعته ،والحلم طبيعته ،والرأى الحسن سجيتّه ،إن نطق أصاب ،وإن سمع وعى ،وإن كلّم أجاب.والأحمق :إن تكلّم مجل ،وإن حدّث وهل ،وإن استنزل عن رأيه نزل.وأما الفاجر :فإن ائتمنته خانك ،وإن صحبنه شانك.
قال مطرّف بن الشّخّير :عقول كلّ قوم على قدر زمانهم.
كان يقال :ستّ خصال تعرف في الجاهل :الغضب في غير شئ ،والكلام في غير نفع ،والعطيّة في غير موضعها ،وإفشاء السّر ،والثقة بكلّ أحد ،ولا يعرف صديقه من عدوه.
قيل لابن شبرمة :ما حدّ الحمق ؟قال :لا جدّ له.
سئل بعض الحكماء عن العقل ،فقال :الإصابة بالظّنون ،ومعرفة ما لم يكن بما قد كان.
كان يحيى بن خالد ،يقول :ثلاثة أشياء تدلّ على عقول أربالها :الكتاب على مقدار عقل كاتبه ،والرسول على مقدار عقل مرسله ،والهديّة على مقدار عقل مهديها.
قال ابن الأعرابي :سمّى الرجل أحمق ،لأنه لا يميز كلامه من رعونته قال :والحمق أيضاً الكساد ،يقال :انحمقت السّوق إذا كسدت ،ومنه الرجل الأحمق لأنه كاسد العقل لا ينتفع برأيه ولا بعزمه.
والحمق أيضاً :الغرور ،يقال :سرنا في ليالٍ محمّقات ،إذا كان القمر فيهن يستتر بغيم أبيض رقيق ،فيغتّر الناس بذلك يظنون أن قد أصبحوا فيسيرون حتّى يملوا.
قال :ومنه أخذ اسم الأحمق لأنه يغرّك في أوّل مجلسه بتعاقله ،فإذا انتهى إلى آخر كلامه تبيّن حمقه.
وقيل للرّجلة البقلة الحمقاء ، لأنّها تنبت في مسيل الماء ،وفي طريق الإبل ،فهي أبداً مدوسة.
وفي الخبر المرفوع : " للعاقل خصال يعرف بها :يحلم عّمق ظلمه ،ويتواضع لمن هو مثله ،ويسابق بالبّر من هو فوقه ،وإذا رأى باب فرصة انتهزها ،لا يفارقه الخوف ،ولا يصحبه العنف ،يتدبرّ ثم يتكلم غنم ،وإن سكت سلم ، وإن عرضت له فتنة ،اعتصم بالله ثم تنكّبها ،وللجاهل خصالٌ يعرف بها :يظلم من خالطه ، ويتكلم بغير تدبّر فيندم ، فإن تكلّم أثم ، وإن سكت سها ، وإن عرضت له فتنةٌ أردته ، وإن رأى باب فضيلةٍ أعرض عنها.
ذكر المغيرة بن شعبة يوماً عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ، فقال : كان واللّه أفضل من أن يخدع ، وأعقل من أن يخدع.
في كتاب " كليلة ودمنة " : رأس العقل التمييز بين الكائن والممتنع.
قال الحجاج يوماً : العاقل من يعرف عيب نفسه ، قال عبد الملك : فما عيبك ؟ قال : أنا حسودٌ حقود ، قال عبد الملك : ما في إبليس شرٌ من هاتين.
قال الحسن البصرى : صلة العاقل إقامةٌ لدين اللّه ، وهجران الأحمق قربة إلى اللّه ، وإكرام المؤمن خدمةٌ للّه وتواضعٌ له.

قال عبد بن الحسن : حمق الرجل يفسد دينه ، ولا دين لمن لا عقل له. وكان لا يجيز شهادة الأحمق العفيف ، فكلّم في ذلك ، فقال : سأريكم. ودعا بحاجبه فقال : يا ممدود ، انظر لي ما الرّيح ؟ فخرج ثم رجع ، فقال : هي شمالٌ يشوبها شئٌ من الجنوب.فقال : أترون أن أجيز شهادة مثل هذا ؟! فقال أردشير : رضاء المرء عن نفسه دليل على عقله.
قال أنو شروان : ثقة الرجل برأيه ، وإقراره بتوفير عقله ، دليل على عقله ، قيل : هل ينتهي من أول الزّجر أحمق كان يقال : إذا تمّ العقل نقص الكلام.
قال على بن أبي طالب : لا تؤاخ الأحمق ، ولا الفاجر ، أمّا الأحمق فمدخله ومخرجه شين عليك ، وأما الفاجر : فيزيّن لك فعله ، ويود أنك مثله.
قال سابق :
المرء يجمع والزّمان يفرّق ... ويظلّ يرفع والخطوب تمزّق
ولئن يعادى عاقلاً خيرٌ له ... من أن يكون له صديقٌ أحمق
وقال آخر :
عدوّك ذو العقل أبقى عليك ... من الصّاحب الجاهل الأحمق
وذو العقل يأتى حسان الأمور ... ويعمد للأرشد الأوفق
وقال دعبل بن على الخزاعى :
عداوة العاقل خيرٌ إذا ... حصّلتها من خلةً الأحمق
لأنّ ذا العقل إذا لم يرع ... عن ظلمك استحيا فلم يخرق
ولن ترى الأحمق يبقى على ... دين ولا ودّ ولا يتّقى
وقال آخر :
عداوة العاقل خيرٌ لمن ... عاداه من ودّ امرئٍ جاهل
بوائق الجاهل مبثوثةٌ ... وليس تخشاها من العاقل
وقال صالح بن عبد القدوس :
ألا إنّما الإنسان غمدٌ لعقله ... ولا خير في غمدٍ إذا لم يكن نصل
فإن كان للإنسان عقلٌ فإنّه ... هو النّصل والإنسان من بعده فضل
وقال أيضاً :
وما المرء إلاّ اثنان عقلٌ ومنطقٌ ... فمن فاته هذا وذاك فقد دمر
ولا سيمّا إن كان ممّن نصيبه ... من الدّين والدّنيا قليلٌ إذا حضر
وقال ابن الرومى :
وليس عتاب المرء للمرء نافعاً ... إذا لم يكن للمرء عقل يعاتبه
وقال آخر :
زعمت أبا سهلٍ بأنّك جامعٌ ... فنوناً من الآداب يجمعها الكهل
فهبك تقول الحقّ أىّ فضيلةٍ ... تكون لذي علمٍ وليس له عقل
وقال آخر :
لكلّ امرئٍ شكلٌ من النّاس مثله ... فأكثرهم شكلاً أقلهم عقلاً
لأنّ صحيح العقل ليس بواجدٍ ... له في طريقٍ حين يسلكها مثلا
ولا خير في طول السّبال وعرضها ... إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا
وقال آخر :
قد عرفناك باختيارك إذ كان ... دليلاً على اللّبيب اختباره
وقال بشار بن برد :
وما أنا إلا كالزّمان إذا صحا ... صحوت وإن ماق الزّمان أموق
وقال آخر :
وأنزلني طول النّوى دار غربةٍ ... إذا شئت لاقيت امرءا لا أشاكله
تحامقته حتّى يقال سجيّةٌ ... ولو كان ذا عقلٍ لكنت أعاقله
وقال آخر :
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولا تلقهم بالعقل إن كنت ذا عقل
فإنّى رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل
وقال أبو يزيد البسطامى رحمه الله :
ياذا الذي ليس له والدٌ ... يسعى على الأرض ولا والده
قد مات من قبلهم آدم ... فأىّ نفس بعده خالده
إن جئت أرضاً أهلها كلّهم ... عورٌ فغمّض عينك الواحده
سمع عمر بن العزيز رجلا يكنى أبا العمرين ،فقال :لو كان لك عقل كفاك أحدهما.
قال الحسن :هجرة الأحمق قربة إلى الله تعالى.
قال منصور الفقيه :
أجالس كلاّ وإن لم يكن ... على ما أحبّ سوى الأموق
فإبّى أجالسه مرّةً ... وأنهض عنه فلا نلتقى
فما نعمةٌ بعد تقوى الإله ... أفضل من هجرة الأحمق
قال بعض الحكماء :ينبغي للعاقل أن يتمسك بستّ خصال :أن يحفظ دينه ،ويصون عرضه ،ويصل رحمه ،ويحفظ جاره ،ويرعى حقّ إخوانه ،ويحزن عن البذاء لسانه.

كان الحسن البصرىّ إذا أخبر عن أحد بصلاح ،قال :كيف عقله ؟ثم يقول :ما يتم دين أمرئٍ حتّى يتم علقه.
روى أنه أهبط الله عزّ وجل آدم إلى الأرض ،أتاه جبريل ،فقال :ياآدم! إن الله تعالى قد أحضرك ثلاث خصالٍ لتختار منهنّ واحدة ،وتخلّى عن اثنتين.
قال :وما هنّ ؟قال :الحياء والدين والعقل :قال آدم :إنى اخترت العقل.
قال جبريل للحياء والدين :ارتفعا فقد اختار العقل ،قالا :لا نرتفع ،قال :ولم عصيتما ؟قالا :لا ،ولكنا أمرنا ألاّ نفارق العقل حيث كان.
كان يقال :لا تعتمدّ بمن ليس له عقدهٌ من عقل.
قال بعض الحكماء :وكّل الحرمان بالعقل ،والرزق بالجهل ،ليعتبر العاقل فيعلم أنّ الرزق ليس عن حيلة.
قيل لزرعة بن ضمرة :متى عقلت ؟قال :يوم ولدت.قيل :وكيف ذلك ؟ قال :منعت الثّدى فبكيت ،وأعطيتها فسكتّ.
قال الحسن :لأنا للعاقل المدبر ،أرجى منّى للأحمق المقبل.
قال الأوزاعى :قيل لعيسى عليه السلام يا روح الله!أنت تبرئ الأكمه والأبرص وتحيى الموتى بإذن الله ،فما دواء الأحمق ؟قال :ذلك أعيانى.
قال قيس بن الخطيم :
وبعض الداء ملتمسٌ دواه ... وداء النوّك ليس له دواء
وقال آخر :
جنونك مجنون ولست بواجدٍ ... طبيباً يداوى من جنون جنون
وقال آخر :
قالوا جننت بمن تهرى فقلت لهم ... ما لذّة العيش إلاّ للمجانين
الحبّ لا يستفيق الدّهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
كان يقال :الأحمق بشأنه أعلم من العاقل بشأن غيره.
قال زيد بن أسلم ، قال لقمان لا بنه : يا بنّي لئن يقصيك الحكيم خيرٌ من أن يدنيك الأحمق.
قال عمر بن عبد العزيز : خصلتان لا تعدمك إحداهما من الأحمق ، أو قال من الجاهل : كثرة الالتفاف ، وسرعة الجواب.
كانوا يعبّرون عن الأحمق بالجاهل ، ومن ثم قالوا : غضب كسرى على عاقل فسجنه مع جاهل. يريدون سجنه مع أحمق ، ويعبّرون أيضاً عن العاقل بالحلم ، قال الشاعر :
فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإيّاه
فكم من جاهلٍ أردى ... حليماً حين واخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه
قال سهل بن هارون : ثلاثة من المجانين وإن كانوا عقلاء : الغضبان : والغيران ، والسّكران. قيل : فما تقول في المنعظ ؟ قال :
وما شرّ الثّلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذّي لا تصبحينا
قال تمام بحيح : إذا قام ذكر الرجل ، ذهب ثلثا عقله قال محمود الوراق ، وقد نسب إلى ابن الزّيات :
ليس شئٌ مما يدبرّه العا ... قل إلاّ وفيه شئٌ يريبه
فأخو العقل ممسكٌ يتوقّى ... ويخاف الدّخول فيما يعيبه
وأخو الجهل لا يقدر في الأم ... ر وإن أشكلت عليه ضروبه
راكب ردعه كحاطب ليلٍ ... يخطئ الأمر كلّه أو يصيبه
تتأتّى له الأمور على الجه ... ل إذا ما أرادها وتحبيبه
وأخو العقل بعد ينتتج الرّأ ... ى فيرضى ومرّة يستريبه
وإذا صيّر البعيد قريباً ... عاد فيه فازداد بعداً قريبه
فهو الدّهر شاخص القلب فكراً ... ما تقضّى همومه وكروبه
وقال آخر :
ألا إنّ عقل المرء عينا فؤاده ... فإن لم يكن عقلٌ فلن يبصر القلب
وقال آخر :
أى زمناً نوكاه أسعد أهله ... ولكنّما يشقى به كلّ عاقل
مشى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكبّ الأعللى بارتفاع الأسافل
وقال آخر :
عذلوني على الحماقة جهلاً ... وهي من عقلهم ألذّ وأحلى
لو لقوا ما لقيت من حرفة العق ... ل لساروا إلى الحماقة رسلا
حمقى قائم بقوت عيالى ... ويموتون إن تعاقلت هزلا
قال هشام بن عبد الملك : يعرف حمق الرجل بأربع : بطول لحيته ، وشناعة كنيته ونقش خاتمه ، وإفراط شهوته. فدخل عليه ذات رجل طويل العثنون ، فقال هشام : أمّا هذا فقد جاء بواحدة ، فانظروا أين الثلاث ؟ قالوا : أنا أبو الياقوت الأحمر.قالوا : فما نقش خاتمك ؟ قال : " وجاءوا على قميصه بدمٍ كذب " .

وفي خبر آخر : أن معاوية جرت له مثل هذه الحكاية ، إلاّ أنّ في خبر معاوية ، قيل له : فما كنيتك ؟ قال : أنا أبو الكوكب الدرىّ. قيل له : فما نقش خاتمك ؟ قال : " وتفقد الطير فقال مالى لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " قال يحيى بن الحكم الغزال :
يعرف عقل المرء في أربع ... مشيته أوّلها والحرك
ودورعينيه وألفاظه ... بعد عليهنّ يدور الفلك
وقال آخر :
طلبت الرّزق بالعقل ... من الغرب إلى الشّرق
فلم يكسبنى العقل ... سوى البعد من الرّزق
فأدبرت عن العقل ... وأقبلت على الحمق
فلم أتعب ولم أنصب ... ولم أضرع إلى الخلق
قال بعض الحكماء : من الحمق التماس الإخوان بغير وفاء ، والتماس الآخرة بالرّياء. والتماس مودة النّساء بالغلظة ، والتماس العلم والفضل بالدّعة والخفض .
سمع الأنف رجلا يقول : ما أبالى أمدحت أم هجيت. فقال : استرحت من حيث تعب الكرام.
وقالت العرب : استراح من لا عقل له.
وقالت الفرس : مات من لا عقل له.
أنشدني بعض شيوخي رحمهم اللّه :
كم كافرٍ باللّه أمواله ... تزداد أضعافاً على كفره
ومؤمنٍ ليس له درهم ... يزداد إيماناً على فقره
لا خير فيمن لم يكن عاقلاً ... يمدّ رجليه على قدره
وقال آخر :
ما إن يزال يبغداد يزاحمنا ... على البراذين أشباه البراذين
أعطاهم اللّه أموالاً منزّلةً ... من الملوك بلا عقلٍ ولا دين
ما شئت من بغلةٍ شقراء ناجيةٍ ... أو من أتان وقول غير موزون

باب من أجوبة الحمقى
ومراجعة السّخفاء ، وألفاظ النّوكى والجهلاء استعمل معاوية رجلاً من كلب ، فذكر المجوس يوماً ، فقال : لعن اللّه المجوس ينكحون أمهاتهم ، واللّه لو أعطيت عشرة آلاف درهم ، ما نكحت أميّ فبلغ ذلك معاوية ، فقال : قبحه اللّه! أترونه لو زيد فعل ؟!! قال أبو عبيدة : أجريت الخيل فطلع منها فرسٌ سابق ، فإذا رجلٌ من النظّارة يكرّ ويثب من الفرح ، فقال له رجل إلى جنبه : يا فتى! هذا الفرس فرسك ؟ قال : لا ،ولكنّ اللجام لجامي.
أرسل رجلٌ من بنى عجل بن لجيم فرساً في الحلبة ،فجاء سابقاً ،فقال لابنه : يا بنىّ!بأىّ شئ أسميه ؟فقال :ياأبت افقأ عينه وسمه الأعور.قال الشاعر :
رمتنى بنو عجل بداء أبيهم ... وأىّ عباد الله أنوك من عجل
أليس أبوهم عار عين جواده ... فأضحت به الأمثال تضرب بالجهل
قال أبو كعب القاصّ في قصصه :إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كبد حمزة ما علمتم ، فادعوا الله أن يطعمنا من كبد حمزة.
وقال أيضاً في قصصه :إن اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا وكذا ،قالوا له :فإن يوسف لم يأكله الذئب ،قال :فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.
وتلا في قصصه يوماً قول الله عز وجل : " يتجرعه ولا يكاد يسيغه.
فقال :اللهم اجعلنا ممن يتجرعه ويسيغه.
قيل لبرذعة الموسوسر :أيّما أفضل غيلان أم معلّى ؟قال :معلّى ، قالوا : ومن أين ؟قال : لأنه لما مات غيلان ،ذهب معلّى إلى جنازته ، فلما مات معلّى لم يذهب غيلان إلى جنازته.
رفع رجلٌ من العامة ببغداد إلى بعض ولاتها على جار له أنّه يتزندق ،فسأله الوالي عن قوله الذي نسبه به إلى الزندق ،فقال :هو مرجى قدرىّ ناصبيّ رافضى ،من الخوارج ،يبغض معاوية بن الخطاّب الذي قتل علىّ بن العاص.فقال له ذلك الوالي :ما أدرى على أي شيء أحسدك ؟أعلى علمك بالمقالات ،أم على بصرك بالأنساب.
كان قوم من أهل العلم يتناظرون في أمر معاوية وعلّى ،ويذكرون أبا بكر وعمر ، وكان قريباً منهم رجل من العامة ،ينسب إلى أنه من أعقلهم ،وكان ذا سبلةٍ طويلة ،فقال لهم :كم تطنبون في أمر علىّ ومعاوية وفلان وفلان!!فقال له أحد القوم :وتعرف أنت من على ومعاوية وفلان وفلان ؟قال :نعم!أو ليس هو أبو فاطمة ؟قال :ومن كانت فاطمة ؟ قال :امرأة النبي صلى الله عليه وسلم بنت عائشة أخت معاوية.قال :فما كان قصة علىّ ؟قال :قتل في غزاة حنين مع النبي صلى الله عليه وسلّم.
دخل رجلٌ من العامة الجهلة الحمقاء على شيخ من شيوخ أهل العلم ،فقال :أصلح الله الشيخ ،لقد

سمعت في السوق الساعة شيئاً منكراً ،ولا ينكره أحد قال :وما سمعت ؟قال :سمعتهم يشتمون الأنبياء!قال :ومن المشتوم من الأنبياء ؟ قال :سمعتهم يشتمون معاوية.قال : يا أخي ليس معاوية بنبىّ.قال :فهبه نصف نبىّ لم يشتم.
قال عمرو بن بحر :ذكر لي شيخٌ من الإباضية أنه جرى عنده ذكر الشيعة يوماً فغضب وشتمهم ،وأنكر ذلك عليهم إنكاراً شديداً.قال فأتيته يوما فسألته عن سبب إنكاره على الشيعة ولعنه لهم فقال :لمكان الشين في أول الكلمة ،لأني لم أجد ذلك قطّ إلا في مسخوط ،مثل شومٍ وشرّ وشيطانٍ وشيصٍ وشحّ وشغبٍ وشعبٍ وشركٍ وشتمٍ وشقاقٍ وشطرنج وشينٍ وشانى وشحطٍ وشوصة وشوكٍ وشكوى وشنآن.فقلت له :إن هذا كثير ،ما أظنّ أن القوم تقيم لهم علماً مع هذا أبداً كان عندنا رجل شاهدناه ،وكان من جيراننا على غاية من الجهل والغباوة ،وكان إذا سلّم من صلاته في جماعة أو وحده ،يقول :السّلام على الملكين الكاتبين لأبي بكر وعمر ،وكان ألثغ يجعل مكان الكاف تاء.
اشترى باقل ،وهو رجل من قيس بن ثعلبة عنزاً بأحد عشر درهما ،فقالوا له :بكم اشتريت الغز ؟ففتح كفّيه وفرّق أصابعه ،وأخرج لسانه ،يريد أحد عشر درهماً ،فلما عيروه ،قال :
يلومون في حمقه باقلاً ... كأنّ الحماقة لم تخلق
فلا تكثروا العذل في عيّه ... فللعىّ أجمل بالأحمق
خروج اللسان وفتح البنان ... أحب إلينا من المنطق
ذكر الصّولى عن ابن الجوهريّ ضروباً من العىّ والحماقة والجهل ،وكان له تسبيح ظريف يسبحه بإثر كل صلاة :سبحانك يا عالمين ،والحمد لله الأكرمين ،ولا إله إلا الله الطيبين ،والصلاة على النبي المباركين ،وأزواجه أمهات المؤمنين ،ونسأل الله خير عوائق الأمور.
رأى معاوية بن مروان بن الحكم حمار طاحونةٍ في عنقه جلجل في حانوت طحان ،فقال له : ما بال هذا الحمار في عنقه جلجل ؟فقال :أنا مشتغل في علاجى وطلب معيشتى خارج الحانوت ،وبحركة الجلجل أعرف وقوف الحمار فأحرّكه للمشى ،فقال له معاوية له :أرأيت إن وقف الحمار وحرّك رأسه فتحرك الجلجل ؟قال الطحان :ومن لحمارى بمثل عقل الأمير ؟! ومعاوية هذا هو الذي أمر بغلق باب المدينة إذ انفلت له البازى.
قال طحطاح لابنه يوماً :ما الذي تشتهى ؟ قال : رأسي كبشٍ.
فقال له أبوه : لا يكون للكبش رأسان ، قال : فرأس كبشين ، فضحك منه.
قيل لمخنث : مالكم تحلقون لحاكم ؟ فقال : إن البرد لا تعرف إلا بحذف أذنابها.
دخل راكب البريد يوماً على المأمون ، فقال له : متى خرجت ، أو متى قدمت ؟ فقال له :بعد غد يا أمير المؤمنين. فقال له المأمون : فإذاً أتيتنا وبيننا وبينك مرحلتان.
مرض رجلٌ من الأعراب ، فعاده جاره ، وقال له : ماتجد ؟ قال : أشكو دمّلا أهلكني ، وزكاماً أضربى. قال له : فقد بلغنا أن إبليس لا يحسد على شئ من الأمراض إلاّ على هاتين العلتين لما فيهما من الأجر والمنفعة. فأنشأ الأعرابي يقول :
أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برأسي وإستى دملاً وزكاما
فليتهما كانا به وأزيده ... رخاوة زبّ لا يطيق قياما
وقال أبو نواس :
قد أضرت بي دمامي ... ل على الظّهر ملحّه
ليتها في عين من يح ... سبه مالاً وصحّه
سلم فزارة صاحب المظالم بالبصرة على يساره في الصلاة ، فقيل له في ذلك فقال : كان على يميني إنسان لا أكلمه.
وقال فزارة يوماً في مجلسه : لو غسلت يدى مائة مرة ما تنظفت ، أو أغسلها مرتين وفيه يقول ابن المعذّل :
ومن المظالم أن تكو ... ن على المظالم يا فزارة
تقديم رجل مع خصمه إلى قاض ، فقال : أصلح اللّه القاضى ، لي عند هذا الزاني ابن الزانية كذا وكذا. فقال القاضي لخصمه : ما تقول فيما سمعت من دعوى خصمك ؟ فقال : لا أعرف شيئاً فيما يقول ، وأنا منكر لما يدعيه. فقال للمدعى : هات بينه إن كان لك. فأتاه برجلين فجلسا بين يديه ، فقال لهما : بم تشهدان ؟ قالا : نشهد أن لهذا الرجل على هذا الزاني ابن الزانيه كذا وكذا لدعوى خصمه.
فقال لهما :قد قبلتكما.قم يازاني ابن الزانية ،فأد ما شهدا به. فقال المشهود عليه :

أيها القاضي! إن كان هؤلاء استحلوا قذفى وقذف أمي بجهلهم ، فما الذي استحللت به أنت ذلك منى ؟ فقال : واللّه يا ابن أخي ما حسبت إلا أنه اسمك واسم أمك ، لأنك لم تنكر ذلك على خصمك ولا على شاهديه.
مر قاض بواسط أو بحمص على السوق في يوم رمضان ، فرأى رجلا قد صنع معزفاً ، فوقف عليه وقال : أيها الفاسق في الشهر المبارك تعمل آلات اللهو وظروف الشرّ فقال : أصلح اللّه القاضي ، إنما هي مقلاة قال : لعن اللّه الشيطان ما حسبتها إلا معزفا ،فنهض شيئاً ثم عاد إليه ، فقال له :يا فاسق ؟؟؟؟؟؟؟؟وكيف تكون مقلاة من خشب ؟هذا محال. فقال له :يا قاضي إني أطليها بالقار ، فلا تؤثر فيها النار. قال :صدقت ، ثم انصرف عنه.
وُلّى رجلٌ مقلّ قضاء الأهواز ، فأبطأ عليه رزقه ، وحضر عيد الأضحى وليس عنده ما يضحى به ولا ما ينفق ، فشكا ذلك إلى زوجته ، فقالت له : لا تغتم ، فإن عندي ديكاً جليلا قد سمنته ، فإذا كان عيد الأضحى ذبحناه. فلما كان يوم الأضحى ، وأرادوا الديك للذبح ، طار على سقوف الجيران ، فطلبوه وفشا الخبر في الجيران ، وكانوا مياسير ، فرقوا للقاضي ، ورثوا لقلة ذات يده ،فأهدى إليه كلّ واحد منهم كبشاً ، فاجتمعت في داره أكبش كثيرة ، وهو في المصلى لا يعلم ، فلما صار إلى منزله ، ورأى ما فيه من الأضاحي قال لامرأته :من أين هذا ؟ قالت أهدى إلينا فلان وفلان - حتى سمَّت جماعتهم - ما ترى. قال : ويحك احتفظي بديكنا هذا فما فدى إسح اق بن إبراهيم إلا بكبش واحد ،وقد فدى ديكنا بهذا العدد.
باب الملح وما به النّفس ترتاح

من مباح المزاح
قال الأصمعىّ : وصلت بالعلم ، وكسبت بالملح.
قال عبد الرحمن بن أبي الزّناد : قلت لأشعب : أنت شيخ كبير ، فهل رويت شيئاً من الحديث ؟ قال : بلى! حدثني عكرمة عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ، أنه قال : خصلتان من حافظ عليهما دخل الجنة. قلت : وما هما ؟ قال : نسيت أنا واحدة ، ونسى عكرمه الأخرى.
كان أشعب الطّمع كثير الإلمام بسالم بن عبد اللّه بن عمر ، فأتاه يوماً وهو في حائط مع أهله ، فمنعه البواب من الدخول عليه من أجل عياله ، وقال : إنّهم يأكلون. فمال عن الباب ، وتسوّر عليهم الحائط ، فلمّا رآه سالم ، قال : سبحان اللّه يا أشعب! على عيالى وبناتي تتسوّر. فقال له " لقد علمت مالنا في بناتك من حقّ ، وإنك لتعلم ما نريد " . فقال له : انزل يأتك من الطّعام ما تريد.
أخذ قومٌ في قطع ، فقدّموا لضرب أعناقهم ، فقام منهم واحدٌ ، وقال : اللّه اللّه فيّ ، فو اللّه ما كنت في شئٍ مما كانوا فيه ، وإنما كنت أشرب معهم وأغنّى لهم ، فقالوا : هات فغنّ لنا ، فارتجت عليه الأشعار إلاّ قول الشاعر :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرينٍ بالمقارن مقتدى
فقالوا : صدق. اضربوا عنقه.
كان بعض أمراء خراسان يتشاءم بالحول ، فمتى رأى أحول ضربه بالسّياط ، وربما ضرب بعضهم خمسائة سوط ، وحدث أنه ركب في بعض الأيام ، فرأى أحول فأمر بضربه ، وكان الأحول جلداً ، فلما فرغ من ضربه ، قال له : أيها الأمير! أصلحك اللّه ، لم ضربتني ؟ قال : لأني أتشاءم بالحول. قال : فأينا أشدّ شؤماً على صاحبه ، أنت رأيتني ولم يصبك إلاّ خير ، وأنا رأيتك فضربتني خمسائة سوط ، فأنت إذا أشد شؤماً. فاستحيا منه ولم يضرب بعده أحداً.
كانت في سعيد بن فروخ بن القطان ، والد يحيى سعيد الفقيه ، غفلة شديدة مشهورة ، فخرج يوم الجمعة وقد تهيأ للصلاة ، فلقى رجلا من أهل البصرة كثير المزاح ، فقال له : قد أخروا الجمعة إلى غد ، فقال : حسن. ورجع إلى منزله.
كان إسماعيل بن يسار الشاعر قد خفّ على عروة بن الزبير حتى زامله مرّةً بعض أسفاره ، فقال ليلةً في سفره ذلك لغلامه : انظر هل اعتدل المحمل ؟ فقال الغلام : ما هو إلاّ معتدل ، فقال إسماعيل : واللّه ما اعتدل الحقّ والباطل قبل هذه الليلة ، فمحك عروة.
قال الأصمعىّ : قدم تاجرٌ من أهل الكوفوفة المدينة بأحمزة فباعها كلها إلاّ السّود منها ، فلم تنفق ، وكان صديقاً للدرامىّ الشاعر ، فشكا ذلك إليه ، وقد كان الدرامىّ تنسّك ، وترك الشعر والغناء. فقال له : لا تهتمّ بذلك فإنّي سأنفقها لك حتى تبيع جميعها إن شاء اللّه تعالى ، ثم قال :

قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا صنعت بزاهدٍ متعبّد
قد كان شمر للصلاة ثيابه ... حتّى عرضت له بباب المسجد
ردّى عليه صيامه وصلاته ... لا تقليه بحقّ دين محّمد
فشاع قول الدرامىّ هذا في الناس : وقالوا : رجع الدرامىّ عن نسكه ، وعاد إلى فتكه ، فلم يبق في المدينة امرأة ظريفة إلا ابتاعت خماراً أسود حتى نفد ما كان منها مع العراقي ، فلما علم الدراميّ ذلك ، رجع إلى نسكه ولزم المسجد. والدراميّ هذا أصله مكىّ ، ثم انتقل إلى المدينة زمن عمر بن عبد العزيز ، وعاش إلى خلافة بني العباس ، وانقطع إلى عبد الصمد بن على وكان شاعراً مطبوعاً ، ترك ذلك وتنسك ، وهو القائل :
ولما رأيتك أوليتني ال ... قبيح وباعدت عنّي الجميلا
تركت وصالك في جانب ... وصادفت في النّاس خلاّ بديلا
طويسٌ الذي تضرب به العرب المثل في الشّؤم ، هو رجلٌ من أهل المدينة مولى لبني مخزوم ، واسمه عيسى بن عبد اللّه ، وهو أول من أظهر الخنا والمجون بالمدينة ، وكان مغنيا يضرب الدف ، وسئل عن والده ، فقال : ولده ، فقال ، ولدت يوم مات النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وفطمت يوم مات أبو بكر ، وختنت يوم قتل عمر ، وتزوجت يوم قتل عثمان ، وولد لي يوم قتل على بن أبي طالب فيقولون في أمثالهم السّائرة. أشأم من طويس.
كان الشّعبي يوماً جالساً في مجلسه ، والناس يتناظرون في الفقه عنده ، معه شيخ يطيل السكوت ، فقيل له يوماً : لو سألت عن مسألة تنتفع بها ، فقال : إني لأجد في قفاي حكّة ، أفترى لي أن أحتجم ؟فقال الشعبي :الحمد لله الذي صرنا من الفقه إلى الحجامة.
مر بالشعبي يوماً رجل يقود حماراً ،فقال له :ما اسمك ؟قال :وردان.قال :وما اسم حمارك ؟قال :عمران.قال الشعبي :واخلافاه!! مر رجل معه كلب بابن أبي عتيق ،فقال له :ما اسمك ؟قال :وثاّب.
قال :وما اسم كلبك ؟قال :عمروزفقال ابن أبى عتيق :واخلافاه ،وأنشد :
ولو هيّا له الله ... من التّوفيق أسبابا
لسمّى نفسه عمراً ... وسمّى الكلب وثاّبا
أنشد رجل زبّان السّوّاق ،قول إسماعيل بن يسار :
ما ضرّ أهلك لو تطوّف عاشقٌ ... بفناء بيتك أو ألمّ فسلّها
فبكى زبّان ،وقال :لاشئ والله ،إلا الضّجر وسوء الخلق وضيق الصدر ،وجعل يبكي ويمسح عينيه.
قيل لمدنّى :أما تتقى الله ،تؤذي جيرانك ؟!قال :فمن أوذى إذاً ؟ أوذى من لا أعرفه ؟! كان الفرزدق جالساً في حلقة الحسن رحمه الله ،فقال رجل :يا أبا سعيد!ما تقول في الرجل يحكي عن غيره ،يقول :قال فلانٌ طلقت امرأتى ،وأعتقت عبدي ،وفعلت وفعلت ولانّية له في ذلك.فقال الفرزدق :ياأبا سعيد :قد قلت أنا في ذلك.فقال :وما قلت يا أبا فراس ؟فليس كلّ قول يؤخذ به.
قال :قلت :
ولست بمأخوذٍ بشئ تقوله ... إذا لم تعمّد عاقدات العزائم
قال الحسن :صدق أبو فراس ،القول ما قال.
اعترض الإسكندر جيشه يوماً ،فرأى فيهم رجلا أعرج ،فأمر بإسقاطه ،فضحك الأعرج.فقال له الإسكندر :مم ضحكك ؟وقد أسقطتك.فقال :تعجبا منك لحبك آلة الهروب ،وكراهتك آلة الوقوف ،لأن معى آلة الوقوف في الحرب وتسقطني ،فأمر بإثباته في خاصته ،وأسنى رزقه.
سمع ابن أبي عتيق يوما نصيباً الشاعر ،وكان أسود ،ينشد لنفسه :
وددت ولم أخلق من الطّير أنّني ... أعار جناحي طائر فأطي
فقال له ابن أبي عتيق :يا ابن أخي!قل :غاق تطر.شبهه بالغراب لشدة سواده.هاج بأبي علقمة الأعرابيّ الدّم ،فأتوه بحجّام ،قال له :يا حجّام!اشدد قصبة الملزم ،وأرهف ظبة المشرط ، وأسرع الوضع ، وأسرع الوضع ، وعجل النّزع ، وليكن شرطك وخزاً ، ومصّك نهزاً. فقام الحجام ناهضاً ، وقال : انتظر حتى يأتيك ابن القريّة فيحجمك.

قال الهيثم بن عدىّ : كنت يوماً بكناسة الكوفة إذ أنا برجل قد وقف على نخّاس الدّواب ، فقال له : اطلب لي حماراً ليس بالصغير المحتقر ، ولا بالكبير المشتهر ، إن خلا الطريق تدفق ، وإن كثر الزحام ترفق ، لا يصادم في السّوارى ، ولا يدخل تحت البواري ، إن أقللت علفه صبر ، وإن أكثرت له شكر ، وإن ركبته هام ، وإن ركبه غيري نام. فقال له النخاس : اصبر يا عبد اللّه ، فإذا مسخ القاضي حماراً ، أصبت حاجتك إن شاء اللّه تعالى.
خطب أبو القطوف إلى قوم وليةً لهم ، فأجابوه ، وقالوا لها من الضياع والمال كذا وكذا ، فما مالك أنت ؟ قال : إن كنتم صادقين فإن مالها يكفيني وإياها ما عشنا ، فما سؤالكم عن مالى ؟! وقال عبد الملك بن عبد الحميد الحارثي :
يا أخت كندة عافي شرب عثمان ... وأزمعى لبنى عوف بهجران
يا أخت كنده سيرى سير ساخطةٍ ... كي تنتوي غضبي وغضبان
يا أخت كنده ليس الرّزق في يده ... الرّزق قي يد من لو شاء أغناني
الماء في دار عثمان له ثمن ... والخبز فيها له شانٌ من الشّان
عثمان يعلم أنّ الحمد ذو ثمن ... لكنّه يشتهى حمداً بمجّان
والناس أكيس من أن يمدحوا أحداً ... حتّى يروا عنده آثاره إحسان
اغسل يديك بأشنانٍ وأنقهما ... غسل الجنانة من معروف عثمان
واسلح على كلّ عثمان مررت به ... إلاّ الخليفة عثمان بن عفّاف
وقال الليث الحجام :
حلقت بموسي الهجر ناصية الصّدّ ... وأخريت مشط الصّدّ في طرّة الودّ
قصصت بمقراض القلا حجّة الوفا ... فجبهة رأس الودّ مكشوفة الجلد
وشعر سبال الوصل صرت منتفاً ... ظلوماً بمنقاش القطيعة والصَّدَّ
وما زلت مصَّاصاً بغير إساءةٍ ... بمحجمة الخلف القبيح دم الوعد
وذكروا أن إبليس قال :ماذا ألقى من أصحاب البلغم ؟ ينسون ويلعنونني.
قال حسين المعروف بالجمل الشاعر : كان أحمد بن المدبر بدمشق يقصده الشعراءفمن مدحه بشعر جيد أثابه ، ومن مدحه بشعر رديء وكل به من يحمله إلى الجامع فلا يفارقه حتى يصلى مائة ركعة. قال فدخلت عليه ، فقلت :
أردنا في أبى حسن مديحاً ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهن الصلاة
فقلت لهم : وما يغنى عيالي ... صلاتى إنما الشأن الزكاة
ليأمر لي بكسر الصاد منها ... فتضحى لي الصلاة هي الصلات
قال ،فقال لي : أخذت هذا من قول أبى تمام :
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام
قال الرياشي : خرج الناس بالبصرة ينظرون هلال رمضان ، فرآه رجل منهم ،ولم يزل يومئ إليه حتى رآه غيره وعاينوه ، فلما كان هلال الفطر ، جاء الجار إلى ذلك الرجل ، فدق عليه الباب ، وقال له : تعال أخرجنا مما أدخلتنا فيه.

باب المزاح إباحة وكراهة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأمزح ولا أقول إلا حقَّا.
قال ابن عباس : المزاح بما يحسن مباح ، وقد مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يقل إلاّ حقا.
قال غالب القطان : أتيت محمد بن سيرين ، وكان مزاحاً فسألته عن هشام ابن حسان ، فقال لي : توفى البارحة ، أما شعرت ؟ فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون. فضحك وقال : ؟ " الله يتوفى الأنفس حين موتها ، والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " .
جاءت إمرأة إلى الحسن ، فقالت : إني نذرت أن أهدي البصرة إلى مكة ،فقال :ويحك إن أهل البصرة لا يدعونك تهدى بصرتهم ، ولو تركوك ما قدرت ، كفري عن يمينك.
وفي الحديث المأثور : " أنّ عيسى عليه السلام كان يبكي ويضحك ، وكان يحيى عليه السلام يبكي ولا يضحك ، فكان خيرهما المسيح عليه السلام " .
قال خليفة بن زيد : كان خليفة الأقطع مزاحاً ، وكان يقف على أيوب السختياني فيمازحه.
قال حماد : وجاء خليفة الأقطع يوماً إلى أيوب ، وأنا غلام بين يديه ، فقال له :يا أبا بكر متى استحدث هذا ؟ يعنى متى طلب هذا الحديث.

وروى هارون بن موسى الأعور عن سالم العلوى ، قال : قال لي الحسن : خلّ بين الناس وبين هلالهم حتى يراه معك غيرك.
وكان شعبة يقول : سالم العلوي يرى الهلال قبل الناس بليلتين.
قال الخليل بن أحمد : الناس في سجن ما لم يمازحوا.
مزح الشعبي يوماً ، فقيل له : يا أبا عمرو أفتمزح ؟ قال : إن لم يكن هذا متنا من الغم ، داخل ، وهواء خارج.
كان محمد بن سيرين يداعب ويضحك حتى يسيل لعابه ، فإذا أردته على شئ من دينه كانت الثريا أقرب إليك من ذلك.
أتت ابن سيرين امرأة الفرزدق شاكية ، فلما خرجت تمثل :
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزاً ... ولو رضيت زب استه لاستقرت
قيل لابن سيرين : إن قوماً يقولون من الشعر ما يوجب الوضوء ، فعجب من جهلهم ، وكان في المسجد ، فتمثل :
نبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
ثم قام فاستقبل القبلة وكبر مفتتحا لصلاته.
وقال شعبة : أقيمت الصلاة فأنشدنا عمرو بن مرة بيت شعر غزل ، ثم افتتح الصلاة ، وكان إمامهم.
وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة ، ومن التوصل إلى الأعراض ، واستجلاب الضغائن ، وإفساد الإخاء.
كان يقال : لكل شئ بدء ، وبدء العداوة المزاح.
كان يقال : لو كان المزاح فحلاً ، ما ألقح إلا الشر.
قال سعيد بن العاص : لا تمازح الشريف فيحقد ، ولا الدنيء فيجترئ عليك.
قال ميمون بن مهران : إذا كان المزاح أمام الكلام فآخره الشتم واللطام.
قال جعفر بن محمد : إياكم والمزاح ، فإنه يذهب بماء الوجه.
كان خالد صفوان يكره المزاح ، ويقول : يسعط أحدهم أخاه بأحر من الخردل ويضحكه بأصلب من الجندل ، ويفرغ عليه أشد من إلى المرجل ، ويقول : مازحته.
قال إبراهيم ال نخعي : لا يكون المزاح إلا في سخف أو بطر.
قال أبو هفان :
مازح صديقك ما أحب مزاحاً ... وتوق منه في المزاح جماحاً
فلربما مزح الصديق بمزحةٍ ... كانت لباب عداوةٍ مفتاحاً
وقال ابن وكيع :
لا تمزحنَّ فإن مزحت فلا يكن ... مزحاً تضاف به إلى سوء الأدب
واحذر ممازحةً تعود عداوةً ... إن المزاح على مقدمة الغضب
ولأبي جعفر محمد بن جرير الطبري :
لي صاحب ليس يخلو ... لسانه عن جراح
يجيد تمزيق عرضي ... على سبيل المزاح
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إياكم وكثرة الضحك ، فإنه يميت القلب ، ويذهب بنور الوجه " .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من كثر ضحكه استخف به وذهب بهاؤه.
وقال غيره من الحكماء : إياك والمشي في غير أرب ، والضحك من غير سبب.
قال قتيبة بن مسلم لبنيه : لا تمازحوا فيستخف بكم ، ولا تدخلوا الأسواق فترقَّ أخلافكم ، ولا تبخلوا فيزدريكم أكفاؤكم.
قال أبو موسى بن الحسن بن عبد الصمد بن علي بن المعتصم :
الكبر ذل والتواضع رفعة ... والمزح والضحك الكثير سقوط
والحرص ذل والقناعة عزة ... واليأس من صنع الإله قنوط
وقال آخر :
فإياك إياك المزاح فإنه ... يجرى عليك الطفل والدنس النذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورثه من بعد عزته ذلاَّ
وقال آخر :
ما أقبح الكذب المذموم صاحبه ... وأحسن الصدق عند الله والناس
وقال آخر :
للجد ما خلق الإنسان فالتمسن ... بالجدّ حظك لا بالهزل واللعب
لا يلبث الهزل أن يجنى لصاحبه ... ذما ، ويذهب عنه بهجة الأدب
لا خير في الهزل فاتركه لقائله ... واهرب بعرضك منهم أوشك الهرب
وقال محمود الوراق :
تلقى الفتى يلقى أخاه وخدنه ... في لحن منطقه بما لا يغفر
ويقول كنت ممازحاً وملاعباً ... هيهات نارك في الحشا تتسعر
ألهيتنا وطفقت تضحك لاهياً ... عما به وفؤاده يتفطر
أو ما علمت ومثل جهلك غالب ... أن المزاح هو السباب الأكبر
فهؤلاء كرهوا المزاح وذموه ، ولم يستثنوا منه قليلا من كثير ، وأما منصور الفقيه فنهى عن الإكثار منه ، فقال :

لا تكثرن من الفكا ... هة في حديثك والدعابه
ودع الغريب من الكلا ... م لأهله عند الخطابه
وإذا أصبت فكل ما ... أغفلته دون الإصابه
وقد أكثر أهل الأدب في المزاح من النظم ،وختلق ابن وكيع أكثر ذلك ، ورأيت الأقتصار فيه على الأختصار أولى من الإكثار.كان المأمون يعجبه القائل :
أخو الجدي إن لاقاك أرضاك جده ... وذو باطل إن شئتألهاك باطله

باب مدح الصدق والأمانه ذم الكذب والخيانه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن إذا حدث صدق ،وإذ وعد انجز ، وأذا اؤتمن وفى ، والمنافق إذا حدث كذب ،وإذا واعد أخلف ،وإذا اؤتمن خان " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لاتزال أمتي بخير مااتخذو الأمانه مغناً والصدق مغرماً قالت عائشة رضى الله عنها ،قالت : يارسول الله بم يعرف المؤمن ؟ قال " بوقاره ولين كلامه ، وصدق حديثه " وقال صلى الله عليه وسلم : " أد الأمانه إلى من أئتمنك ،ولاتخن من خانك " وقال سعد :كلا لخصال يطبع عليها المؤمن ، إلا الخيانه والكذب.
وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه :من كانت له عند الناس ثلاثة وجبت له عليهم ثلاث : من إذا حدثهم صدقهم ،وإذا ائتمنوه لم يخنهم ،وإذا وعدهم وفى لهم ، وجب له عليهم أن تحبه قلوبهم ، وتنطق بالثناء عليهم ألسنتهم ،وتظهر له معونتهم.
قيل للقمان الحكيم : ألست عبد بن فلان ؟ قال : بلى. قيل : فما بلغ بك ما نرى ؟قال :تقوى الله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانه وترك ما لا يعنينى.
قال نافع : طاف ابن عمر سبعاً ،وصلى ركعتين ،فقال له رجل من قريش : ما أسرع ما طفت وصليت يا أبا عبد الرحمن وخرجت فقال أبن عمر :أنتم أكثر منا طوافاً وصياماً ،نحن نلتزم صدق الحديث ،وأداء الأمانة ، وإنجاز الوعد.
قتل محمود الوراق : اصدق حديثك إن في الصدق الخلاص من الدنس
ودع الكذب لشأنه ... خير من الكذب ، الخرس
وقال منصور الفقيه :
الصدق أولى ما به ... دان امرؤ فاجعله دينا
ودع النفاق فما رأي ... ت منافقا إلا أهينا
وله أيضاً :
الحمد الله شكراً ... فالشكر أيسر حقه
أمسى الصدوق كثير ال ... عدو من اجل صدقه
وقال أبو العتاهية :
الحمد لله كل ذو مكاذبهٍ ... أمسى التصادق لايسقى به الماء
قال الحسن البصري :لا تستقيم أمانة رجل حتى يستقيم لسانه ، و لا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه.
كان يقال :كفى بالمرء خيانه أن يكون أمينا للخونه قال الشاعر :
إن الأميرإذا استعان بخائنٍ ... كان الأمير شريكه المأثم
قال الفارابي :كنت على الأوزعى إذ جاءه رجل فقال :يا ابا عمرو هذا كتاب صديقك فلان من بلاد كذا ،وهو يقرأ عليك السلام. فقال له : متى قدمت ؟ قال أمس.قال :ضيعت أمانتك لا كثر الله في المسلمين أمثالك.
قال الشاعر :
إذا أنت حملت الخئون أمانة ... فإنك قد أسندتها شر مسند
وقال محمود الورق :
تصنّع كي يقال له أمينٌ ... وما معني التّصنّع للأمانه
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطّريق إلى الخيانة
وقال آخر :
هو الذّئب أو للذّئب أوفى أمانة ... وما منهما إلا أذلّ خئون
أستراح رجل إلى جليس له في السلطان ،فرفع ذلك عليه ،فلما أوقف السلطان ذلك القائل على قوله ،أنكر أن يكون أحد سمع ذلك منه ، فقال : بل فلان سمع ذلك منك ، فهل ترضى به ؟ قال : نعم. فكشف الستر عن الرجل ، فقال : بلى. أنت قلت ذلك لي ، فسكت المرفوع عليه ساعة ، ثم أنشأ يقول :
أنت امرؤٌ إمّا ائمنتك خالياً ... فخنت وإمّا قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذّي قلت بيننا ... بمنزلةٍ بين الخيانة والإثم
أنشدني على بن إسماعيل لنفسه :
لا يرى إلا لدينا ... طالباً فيها ديانه
وإذا قيل أمينٌ ... قد تحلّى بالأمانه
وقع التحصيل منه ... بين غدر وخيانه
وقال آخر :
لايخون الأمين شيئاً ولكن ... ربّما تحسب الخؤون أمينا
وقال آخر :

ألا ربّ من تعتده لك ناصحاً ... ومؤتمناً بالغيب غير أمين
وقال أبو يعقوب الخريمي :
يا للرجال لقومٍ قد بلوتهم ... أرى جوارهم إحدى البليّات
ماذا تظنّ بقوم خبر كسبهم ... مصرّح السّحت سمّوه الامانات
وفي الحديث المرفوع : " الصدق يهدي إلى البرّ ، والبرّ يهدي إلى الجنّة ، والكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النّار " .
يقال : صدق وبرّ ، وكذب وفجر.
قال بعض الحكماء : من عرف بالصدق جاز كذبه ، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه.
وقال محمود الوراق :
إذا عرف الكذاب بالكذب لم يكن ... لدي النّاس ذا صدقٍ وإن كان صادقا
ومن آفة الكذّاب نسيان كذبه ... وتلقاه ذا حفظ إذا كان حاذقاً
وقال آخر :
لا يكذب المرء إلاّ من مهانته ... أو عادة السّوء او من قلّة الأدب
قال بغضهم : ما أراني أوجر في ترك الكذب. قيل له : ولم ؟ قال : لأني أدعه اتقاء.
قالوا : الصدق عز ، والكذب خضوع.
قال الحسن : خرج عندنا رجل بالبصرة ، فقال : لأ كذبن كذبه يتحدث بها الوليد ، قال الرجل : فما رجعت إلى منزلي حتّى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها.
وقال كعب بن زهير :
ومن دعا النّاس إلى دمّه ... ذموه بالحقّ وبالباطل
مقالة السّوء إلى أهليها ... أسرع من منحدرٍ سائل
قال لقمان لابنه : يا بني! احذر الكذب فإنه شهى كلحم العصفور ، من أكل شيئا منه لم يصبر عنه.
عوتب بعض الأعراب على الكذب ، فقال للذي عاتبه : واللّه لو غرغرت به لهاتك ما صبرت عنه.
وقال الأصمعي : قيل لكذّاب : ما يحملك على الكذب ؟ فقال : أما إنك لو تغرغرت به مرة ما نسيت حلاوته.
قيل لكذاب : هل صدقت قط ؟ قال : أكره أن أقول لا فأصدق.
قال جميل العذرى :
لحا اللّه من لا ينفع الودّ عنده ... ومن حبله إن مد غير متين
ومن هو ذو لو نين ليس بدائم ... على خلق خوّان كلّ أمين
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " أد الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك " .
باب الحقّ والباطل
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : " الحق ثقيلٌ ، فمن قصّر عنه عجز ، ومن جاوزه ظلم ، ومن انتهى إليه فقد اكتفى " . ويروي هذا لمجاشع بن نهشل.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " لا يبطل حق امرئ وإن قدم " .
وقال عليه السّلام : " رحم اللّه عمر بن الخطّاب ، تركه الحقّ ليس له صديق " .
لما استخلف أبو بكر عمر ، قال لمعيقيب الدّوسى : ما يقول النّاس في استخلافي عمر ؟ قال : كرهه قومٌ ، ورضيه آخرون. قال : فالذين كرهوه أكثر أم الذين رضوه ؟ قال : بل الذين كرهوه. قال : إن الحقّ يبدو كريها وله تكون العاقبة ، والعاقبة للتقوى.
قالوا : من قصد إلى الحقّ اتسمت له المذاهب حجة ، ومن تعداه ضاق به أمره ، وما هلك امرؤٌ عرف قدره.
قالوا : الحكمة تدعو إلى الحقّ ، والجهل يدعو إلى السّفه ، كما أنّ الحجة تدعو إلى المذهب الصّحيح ، والشبهة تدعو إلى المذهب الفاسد.
قال بعض الحكماء : من جهلك بالحق والباطل ، أن تريد إقامة الباطل بإبطال الحق.
قال الأعرابي ، وقد ذكر عنده الإصلاح والإفساد ، فقال : لاتمنعن كثيراً من حقّ ، ولا تضعنّ قليلاً في الباطل ، فما حرّك حقّ وباطلّ إلا كان لهما شهود. قال بعض الحكماء : لها يعيد الرجل عاقلا ، حتى يستكمل ثلاثاً : إعطاء الحق من نفسه في حال الرّضا والغضب ، وأن يرضى للناس ما يرضى لنفسه ، وألاّ ترى له زلّة عند ضجره. وقد تقدّم قول أبي العتاهية في باب الرّجاء والخوف :
ومن ضاق عنه الحقّ ضاقت مذاهبه
ولأبي العتاهية أيضاً :
الباطل الدّهر يلفي لا ضياء له ... والحقّ أبلج فيه النور يأتلق

لما احتضر أبو بكر الصّدّيق ، أرسل إلى عمر ، فقال : ياعمر! إن ولّيت على النّاس فاتق اللّه ، والزم الحق ، فإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم ، وحقّ لميزان إذا وضع فيه الحقّ غداً أن يكون ثقيلاً ، وإنما خفت موازين من خفت يوم القيامة ، باتباعهم الباطل في الدّنيا وخفّته عليهم ، وحقّ لميزان وضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً ، واعلم أن اللّه عملاً بالليل لا يقبله بالنهار لا يقبله بالليل ، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة ، وأن اللّه عز وجل ذكر أهل الجّنة بأحسن أعمالهم ، وتجاوز عن سيئاتهم ، فإذا كوتهم قلت : إنّي الخائف ألا ألحق بهم ، وأن اللّه عز وجل ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم ، وردّ عليهم أحسنها ، فإذا ذكرتهم ، قلت : إني لخائف أن أكون مع هؤلاء ، وأن اللّه عزّ وجل ذكر آية الرّحمة مع آية العذاب ، ليكون المؤمن راغباً راهباً لا يتمنى على اللّه ولا يقنط من رحمة اللّه فإن أنت حفظت وصيّتي ، فلا يكوننّ غائبٌ أحب إليك من الموت وهو أيتك ، وإن ضيعت وصيتي فلا يكوننّ غائبٌ أبغض إليك من الموت ولست بمعجزه.
كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية : أن الزم الحقّ ، ينزلك الحقّ في منازل أهل الحقّ ، يوم لا يقضى إلا بالحقّ ، أول كتاب كتبه علىّ بن أبي طالب في خلافته : أمّا بعد ، فإنّما هلك من كان قبلكم ، أنّهم منعوا الحق حتى اشترى ، وبسطوا الباطل حتى اقتدى.
وقال علىّ بن أبي طالب لرجل من الخوارج : واللّه ما عرفت حتى ظهر الباطل قال وبرة المكىّ : سمعت عن ابن عباس كلمات لهى أحبّ إلى من الدّهم الموقفة ، قال : لا تتكلمن فبما لا يعينك حتى ترى له موضعاً ، فرب متكلم بالحقّ في غير موضعه قد غيب ، لا تمارينّ سفيهاً ولا حليماً ، فإنّ السّفسه يؤذيك ، والحلم يقليك ، ولا تذكرنّ أخاك إذا غاب عنك إلاّ بمثل ما تحبّ أن ذكرك به إذا غبت عنه ، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجزىٌّ بالإحسان ، ومأخوذٌ بالأجرام ، فقال : رجل عنده : يا ابن عباس! لهذه خير من عشرة آلاف. قال : كلمة منها خير من عشرة آلاف.
قال ابن مسعود : من كان على الحقّ ، فهو جماعةٌ وإن كان وحده.
قال غيره : الحقّ ثقيل ، وطلابه قليل.
وقال غيره : الحق كثير ، والقائلون به يسير.
وقال غيره : الأحمق يغضب من الحق ، والعاقل يغضب من الباطل وكان يقال : من هلك في دولة الباطل ، أكثر ممن حيى بالباطل.
قال أنو شروان : إذا اشتبهت الأمور فالحق بين التقصير والإفراط.
قال عبد اللّه بن مسعود : تكلّموا بالحق تعرفوا به ، واعملوا به تكونوا من أهله.
قال أبو العتاهية :
وللحقّ برهانٌ وللموت فكرةٌ ... ومعتبرٌ للعالمين قديم
قال مالك ابن أنس : إذا ظهر الباطل على الحقّ ظهر الفساد في الأرض.
وقال : إن لزوم الحق نجاة ، وإن قليل الباطل وكثيره هلكة.
قال سعد بن أبي وقاص لسلمان : أوصني. قال : أخلص الحقّ يخلّصك. وأظنّ هذا من قول القائل : أعزّ الحق يذلّ لك الباطل.
كان يقال : من لم يعمل من الحق إلاّ بما وافق هواه ، ولم يترك من الباطل إلا ما خف عليه لم يؤجر فيما أصاب ، ولم يفلت من إثم الباطل.
قال العتابي :
وما كلّ موصوف له الحقّ يهتدي ... ولا كلّ من أمّ الصوى يستبينها
الصّوى : جمع صوّة ، وهي حجارة تجعل أعلاماً في الطريق.
قال رجل لخصمه : لئن هملجت إلى الباطل إنك لقطوف على الحق وقال بعض الحكماء : المنعة نفور ، ولقلما اقشعت نافرة فرجعت في نصابها ، فاستدع شاردها بالتوبة ، واستدم والرّاهن منها بكرم الجوار ، واستفتح باب المزيد بحسن التوكل ، فقد أعرب لك الحقّ عن نفسه ، وصدقك عن أمره.
قال منصور الفقيه : ؟إن بين الحقّ والب - طل فرقاً لا يحيل
وعلى نيّة ذي القو ... ل من القول دليل
فقل الحقّ وإن قي ... ل لك الحقّ ثقيل
فاتق اللّه إذا ... شوورت وانظر ما تقول
لا يضرنّك إن قا ... ل من النّاس جهول
إن قول المرء فيما ... لم يسل عنه فضول
وقال الصّلتان العبدى : ؟؟؟؟؟؟؟وللحقّ بين النّاس راضٍ وجازع وللأذناب فيه للرّءوس توابع

وليس الذنابي كالقدامي وريشه ... وما تستوي في الرّاحتين الأصابع
روى عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : " أصدق كلمة قالها الشاعر ، قول لبيد : ألا كلّ شئٍ ما خلا اللّه باطل " قالوا : أصدق بيت قالته العرب ، قول القائل : ؟؟وما حملت من ناقةٍ فوق ظهرها أبرّ وأوفى ذمّةً من محمّد قال الحاتمي : أشعر بيت قالته العرب ، قول امرئ القيس بن عانس لا ابن حجر.
؟اللّه أنجح ما طلبت به والبرّ خير حقيبة الرّحل وأنشد ثعلب :
وإنّ أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
قال جعفر بن محمد : ما ناصح اللّه عبدٌ مسلم في نفسه فأخذ الحق لها ، وأعطى الحق منها ، إلا أعطي خصلتان : رزق من اللّه يقنع به ، ورضى من اللّه عنه.
كان بعض الصالحين يقول : اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع.
قال عبد الحميد بن يحيى الكاتب :
ترحّل ما ليس بالقافل ... وأعقب ما ليس بالآفل
فلهفي على السّلف الراحل ... ولهفي من الخلف النّازل
أبكّى على ذا وأبكى لذا ... بكاء المولّهة الثّاكل
تبكّى على ابن لها قاطع ... وتبكى على ابن لها واصل
تقضّت غوايات سكر الصّبا ... وردّ التقى عنت الباطل
بسم اللّه الرحمن الرحيم

باب الحياء والوقار
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " لكلّ دين خلق ، وخلق الإسلام الحياء " .
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " الحياء خيرٌ كلّه " .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : " المؤمن حيّى كريم ، الفاجر خبّ لئيم " .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " إن اللّه يحب الحيّى الحليم المتعفّف ، ويبغض الفاحش البذئ السائل الملحف " .
قال سليمان عليه السلام : الحياء نظام الإيمان ، فإذا نحل النظام ذهب ما فيه.
وفي التفسير : " ولباس التقوى " . قالوا : الحياء.
وقالوا : الوقار من اللّه ، فمن رزقه اللّه الوقار فقد وسمه بسيماء الخير.
وقالوا : من تكلّم بالحكمة لا حظته العيون بالوقار.
قال الحسن : أربع من كنّ فيه كان كاملا ، ومن تعلّق بواحدة منهن كان من صالحي قومه : دين يرشده ، عقل يسدّده ، وحسب يصونه ، وحياء يقوده.
قالت عائشة رضى اللّه عنها : رحم اللّه نساء الأمصار ، لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن.
وقالت عائشة أيضاً : رأس مكارم الأخلاق الحياء.
قال الشاعر :
ما إن دعاني الهوى تفاحشةٍ ... إلا نهاني الحياء والكرم
ولا إلى محرم مددت يدى ... ولا مشت بي لريبةٍ قدم
وروى عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : " إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوّة الأولى ، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " .
وقال حبيب بن أوس :
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا واللّه ما في العيش خيرٌ ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقى اللحاء
وقال أبو دلف العجلى :
إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً ... ولم ترع مخلوقاً فما شئت فاصنع
وقال صالح بن جناح :
إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
وقال آخر :
إذا رزق الفتى وجها وقاحا ... تقلب في الأمور كما يشاء
ورب دينّةٍ ما حال بيني ... وبين ركوبها إلاّ الحياء
وقال الحزين بن عبد اللّه اللّيثي ، وتنسب إلى الفرزدق :
يغضى حياءً ويغضى من مهابته ... فلا يكلّم إلاّ حين يبتسم
وقال آخر :
كريمٌ يغضّ الطّرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرّماح دواني
وكالسيف إن لا ينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان
وقالت ليلى الأخيليّه :
ومخزّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما
وقال أمية بن أبي الصّلت في ابن جد عان التيمى :

أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
كريمٌ لا يغيّره صباحٌ ... عن الفعل الجميل ولا مساء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
قال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول : من كساه الحياء ثوبه ، خفي عن الناس عبيه.
أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا العباس بن محمد ، حدثنا يحيى بن معين ، قال ابن كناسة :
فيّ اقباض وحشمةٌ فإذا ... لاقيت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم

باب حسن الخلق وسوئه
قال رسول اللّه عليه وسلم : " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا " .
قال معاذ بن جبل : آخر ما أرضاني به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين وضعت رجلى في الغرز أن قال : " حسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل " .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " أثقل شئ في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن " قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " حسن الخلق يمن ، وسوء الخلق شؤم " .
قال كعب الأحبار : إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل ، الصائم بالنهار ، الظامئ بالهواجر.
وفي الخبر المرفوع أيضاً : " من سعادة المرء حسن خلقه ، ومن شقائه سوء خلقه " .
مكتوب في الحكمة ، الرفيق خير قائد ، وحسن الخلق خير رفيق ، والوحدة خير من جليس السوء ، والجليس الصالح حير من الوحدة.
كان يقال : من ساء خلقه قلّ صديقه.
وروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : " يا بني عبد المطلب! إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ، فليسعهم منكم حسن الخلق ، والقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر " .
قال أبو الدراء : إنا لنكثر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم.
روى في قول اللّه تبارك وتعالى : " " وثيابك فطهرّ " ، قالوا : وخلقك فحسّن.
قال سفيان بن عيينة : من حسن خلقه ساء خلق خادمه.
كان يقال : حسن الخلق يكسب حسن الذكر.
قال أبو العتاهية :
عامل الناس بوجهٍ طليق ... والق من تلقى ببشر رفيق
فإذا أنت جميل الثنا ... وإذا أنت كثير الصّديق
وقال محمد بن حازم :
وما اكتسب المحامد طالبوها ... بمثل البشر والوجه الطليق
وقال آخر :
خالق الناس بخلق حسن ... لاتكن كلباً على الناس يهرّ
وقال أخر هو المغيرة بن حبناء :
وما حسنٌ أن يمدح المرء نفسه ... ولكن أخلاقاً تذمّ وتمدح
وقال ابن وكيع :
لاق بالبشر من لقيت من النا ... س وعاشر بأحسن الإنصاف
لا تخالف وإن أتوا بخلافٍ ... تستدم ودهم بترك الخلاف
وإذا خفت فرط غيظك فانهض ... مسرعاً عنهم إلى الإنصراف
إنما الناس إن تأملت داءٌ ... ماله غير أن تداويه شافي
وقال آخر :
قد يمكث الناس دهراً ليس بينهم ... ودٌ فيزرعه التسليم واللّطف
وقال العتّابي يذم رجلا :
فكم نعمةٍ آتاكها اللّه جزلة ... مترّأةً من كل خلق يذيمها
فسلطت أخلاقاً عليها دميمةً ... تعاورنها حتى تفرّى أديمها
وكنت امرءًا لو شئت أن تبلغ المدى ... بلغت بأدنى نعمةٍ تستديمها
ولكن فطام النفس أثقل محملا ... من الصّخرة الصّماء حين ترومها
باب مكارم الأخلاق والسّؤدد
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " . ويروى " محاسن الأخلاق " .
أخذه أبو العتاهية فقال
ليس دينا بغير دين وليس الد ... ين إلاّ مكارم الأخلاق
إنّما المكر والخديعة في النا ... س هما من فروع أهل النّفاق
ولإبراهيم بن المهدىّ :
لا خير في الدّنيا بلا دين ولا ... في المال إلاّ منه فيما يبذل
فأصب وأتلف واستفد وأفد وعش ... فيما اشتهت ممّا يحلّ ويجمل
وقال آخر :
وما المرء إلاّ حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
وقال آخر :

تزين الفتى أخلاقه وتشينه ... وتذكر أفعال الفتى حيث لا يدري
خطب ثلاثة إخوة من العرب إلى عمّهم ثلاث بنات له ، فقال : مرحباً بكم ، لا أذم عهدكم ، ولا أستطيع ردّكم ، خبّروني عن مكارم الأخلاق. فقال الأكبر : الصّون العرض ، والجزاء بالقرض. قال الأوسط : النهوض بالثقل ، والأخذ بالفضل. قال الأصغر : الوفاء بالعهد ، والإنجاز للوعد. قال : أحسنتم في الجواب ، ووفقتم إلى الصواب.
وقال صلى اللّه عليه وسلم : " إن اللّه يحبّ معالى الأخلاق وأشرفها ، ويكره سفسافها " قال الحسن : مكارم الأخلاق للمؤمن : قوة في لين ، وحزم في دين ، وإيمانٌ في يقين ، وحرصٌ على العالم ، واقتصاد في النفقة ، وبذلٌ في السّعة ، وقناعة في الفاقة ، ورحمةٌ للمجهود ، وإعطاءٌ في حقّ ، وبرّ في استقامة.
قالت عائشة رضي اللّه عنها : خلال المكارم عشر ، تكون في الرّجل ولا تكون في أبيه ولا في ابنه ، وقد تكون في العبد ولا تكون في سيّده ، يقسمها اللّه لمن أحبّ : صدق الحديث ، ومداراة النّاس ، وصلة الرحم ، وحفظ الأمانة ، والتذمّم للجار ،وإعطاء السّئل ،والمكافأة بالصنّائع ، وقرى الضّيف ،والوفاء بالعهد ،ورأسهنّ كلهنّ الحياء.
قيل لبزر جمهر :أي شئ أنت به أسرّ ؟قال :قدرتي على مكافأة من أحسن إلى.
قال مصقلة بن هبيرة الشّبياني :سمعت صعصعة بن صوحان ،وقد سأله ابن عباس ما السؤدد فيكم ؟قال :إطعام الطعام ،ولين الكلام ،وبذل النّوال ،وكفّ المرء نفسه عن السؤال ،والتودّد للصّغير والكبير ،وأن يكون النّاس عندك في الحق شرعا.
سئل عبد الله بن عمر عن السّؤدد ،فقال :الحلم والجود.
كان يقال :خير أيام المرء ما أغاث فيه المضطر ،واكتسب فيه الأجر ،وارتهن فيه الشكر ،واسترقّ فيه الحّر.
قال الأحنف بن قيس يوماً لقومه :إنّما أنا رجل منكم ليس لي فضل عليكم ،ولكني أبسط لكم وجهي ،وأبذل لكم مالي ،وأفضى حقوقكم ،وأحفظ حرمتكم ،فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي، ومن زاد علىّ فهو خير مني ،ومن زدت عليه فأنا خير منه.قيل له :يا أبا محمد!ما يدعوك إلى هذا الكلام ؟قال :أحضّنهم على مكارم الأخلاق.
وقال عبد الله بن عمر :نحن معشر قريش نعدّ الحلم والجود الؤدد ،ونعدّ العفاف وإصلاح المال المروءة.
قال أسد بن عبد الله لرجل من بني شيبان :إن السؤدد فيكم لرخيص.
فقال له :أمّا نحن فما نسّود إلا فتى يوطئنا رحله ،ويفرشنا عرضه ،وببذل لنا ماله.
قال :أشهد أن السؤود فيكم لغالٍ.
قيل لبعض العرب :من السيد فيكم ؟قال :الأحمق في ماله ،الذليل في عرضه ، المطّرح لحقده ،المعتنى بأمر عامته.
ورويت هذه القصة للأحنف ،أنه سئل :من أسود الناس فيكم ؟فقال :الأخرق في ماله ثم ذكر مثله.
قال أبو عمرو بن العلاء :كان أهل الجاهلية لا يسوّدون إلاّ من كانت فيه ست خصال وتمامها في الإسلام سابة :السّخاء والنجدة ،والصّبر والحلم ،البيان والحسب.وفي الإسلام زيادة العفاف.
ذكر لعبد الله بن عمر أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية.فقال :كان معاوية أسود منهم ،وكانوا خيراً منه.
روى عن النّبي صلىّ الله عليه وسلّم أنه قال : " من رزقه الله مالاً فبذل معروفه وكفّ أذاه ،فذلك السّيد " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار يوماً : " من سيّدكم ؟ " فقالوا :الجدّ بن قيس على بخل فيه.فقال عليه الّلام : " أيّ داءٍ أدوأ من البخل ؟!بل سيّدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح " .فقال شاعرهم في ذلك :
وقال رسول الله والحقّ قوله ... لمن قال منا من تسمون سيّدا
فقالوا له الجدّ بن قيس على التي ... نبخّله فيها وإن كان أسودا
فتىً ما تخطّى خطوةً لدنّيةٍ ... ولا مدّ في يوم إلى سوءٍة يداً
فسوّد عمر بن الجموح بجوده ... وحق لعمر بالندى أن يسوّدا
قال بكر بن وائل :ما كان فينا أسود من ثعلبة بن أوس ،كان يحلم عن جاهلنا ويعطى سائلنا.
كان سالم بن نوفل سيد بني كنانة في زمانه ، فوثب رجل على ابنه وابن أخيه فجرحهما ، فأتى به سالم ، فقال له : ما أمنك من انتقامي ؟ قال : فلم سوّدناك إذاً ؟ إلا لتكظم الغيظ وتحلم عن الجاهل ، وتحتمل المكروه. وفي سالم هذا يقول الشاعر :

أقسام الكتاب
1 2 3 4