كتاب : بهجة المجالس وأنس المجالس
المؤلف : ابن عبد البر

ثلاثة يفرح بهن الجسد ويربو: الطيب، والثوب اللين، وشرب العسل.
ثلاثة تورث الهزال: شرب الماء البارد على الريق، والنوم من غير وطاء، وكثرة الكلام برفع الصوت.
فال سليمان بن موسى: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليمٌ من سفيه، وبر من فاجر، وشريف من دنئ.
قال أبو الدرداء: ثلاث لا يحبهن غيري: أحب الموت اشتياقاً إلى ربي، وأحب المرض تكفيراً لخطيئتي، وأحب الفقر تواضعاً لربي، فذكر ذلك لابن شبرمة، فقال: ولكني لا أحب واحدة من الثلاث، أما الفقر فو الله للغني أحب إلى منه، لأن الغنى به توصل الرحم، ويحج البيت، وتعتق الرقاب، وتبسط اليد بالصدقة. وأما المرض فو الله لأن أعافي فأشكر أحب إلى من أن أبتلي فأصبر، وأما الموت فو الله ما يمنعنا من حبه إلا ما قدمناه وسلف من أعمالنا، فنستغفر الله.
يقال: ثلاث موبقات: الحرص، وهو أخرج آدم من الجنة: والحسد دعا ابن آدم إلى قتل أخيه، والكبر حط إبليس عن مرتبته.
قال سفيان الثوري: دخلت على جعفر بن محمد، فقال لي: يا سفيان! إذا أنعم الله عليك نعمةً فاحمد الله ، وإذا استبطأت رزقاً فاستغفر الله، وإذا حزبك أمر فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال لي: يا سفيان! ثلاث وأي ثلاث.
ثلاث خصال من حقائق الإيمان: الاقتصاد في الإنفاق، والإنصاف من نفسك، والابتداء بالسلام.
ثلاث من لم تكن فيه لم يطعم الإيمان: حلم يرد به جهل الجاهل، وورع يحجزه عن المحارم، وخلق يداري به الناس.
ثلاث لا يعرفون إلا في ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الحرب، والأخ عند الحاجة.
قال ابن مسعود: ثلاث من كن فيه، ملأ الله قلبه إيماناً: صحبة الفقيه، وتلاوة القرآن، والصيام.
قال عمر بن الخطاب: الرجال ثلاثة: رجل عاقل عفيف مسلم ينظر في الأمور فيوردها مواردها ويصدرها مصادرها إذا أشكلت على عجزة الرجال وضعفتهم، ورجل يلبس عليه رأيه، فيأتي ذوي الرأي والمقدرة فيستشيرهم، وينزل عند ما يأمرونه به، ورجل جاهل لا يهتدي لرشد، ولا يشاور مرشداً.
قال: والنساء ثلاث. وقد ذكرتها في باب النساء.
من فقد ثلاثاً ساء عيشه: النساء، والمال، والإخوان.
ثلاث لا يأنف الكريم من القيام عليهن: أبوه، وضيفه، ودابته.
ثلاث يسهرون: قرض فأر، وأنين مريض، ووكف بيت.
ثلاثة لا راحة منها إلا بالمفارقة لها: السن المتآكلة والمتحركة، العبد الفاسد على مولاه، والمرأة الناشز عن زوجها.
ثلاث إذا كن في الرجل لم يشك في عقله وفضله: إذا حمده جاره، ورفيقه، وقرابته.
كدر العيش في ثلاث: الجار السوء، والولد العاق، والمرأة السيئة الخلق.
ثلاث الإقدام عليهن غرر: شرب السم على التجربة، وركوب البحر للغناء، وإفشاء السر إلى النساء.
قال الشاعر:
ولن يشرب السم الزعاف أخو الحجا ... مدلا بترياقٍ لديه مجرب
ثلاثة من عازهم عادت عزته ذلة: السلطان، والوالد، والعالم. وقد قيل: السلطان والوالد، والغريم.
ثلاثة تبنو الموعظة عن قلوبهم كنبو الماء عن الصفاة: امرأة مغرمة برجل، وشيخ مغرم بشرب الخمر، وملك فاجر.
ثلاث لا يستحيا منهن: طلب العلم، ومرض البدن، وذو القرابة الفقير.
ثلاث من أحسن شيءٍ فيمن كن فيه: جود لغير ثواب، ونصب لغير دنيا، وتواضع لغير ذل.
قال سفيان الثوري: ما بقي لي من نعيم الدنيا إلا ثلاث: أخٌ ثقة في الله أكتسب في صحبته خيراً، إن رآني زائغاً قومني، أو مستقيماً رغبني، ورزق واسع حلال ليست لله على فيه تبعة، ولا لمخلوق على فيه منة، وصلاة في جماعة أكفى سهوها وأرزق أجرها.
قال بزر جمهر: ثلاث نواطق وإن كن خرسا: كسوف البال دليل على رقة الحال، وحسن البشر دليل على سلامة الصدر، والهمة الدنية دليل على العزيزة الردية.
قال الشاعر:
وما ضربوا لك الأمثال إلا ... لتحذو إن حذوت على مثال

باب أربعة
أربع خصال من السعادة، وأربع من الشقاوة، فأما التي من السعادة: فالمركب الهني. أو قال: الوطي، والزوجة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح. وأما التي من الشقاوة: فالمركب الصعب، والزوجة السوء، والمسكن الضيق، والجار السوء.
أربع تعرف بهن الأخوة: الصفح قبل الاستقالة، وتقدم حسن الظن قبل التهمة، ومخرج العذر قبل العتب، وبذل الود قبل المسألة.

وقال الحسن: أربع من كن فيه ألقى الله عليه محبته، ونشر عليه رحمته. من بر والديه، ورفق بمملوكه. وكفل اليتيم. وأغاث الضعيف.
أربع من سنن المرسلين: التعطر، والنكاح، والسواك، والختان.
أربع لا ينبغي للشريف أن يأنف منهن: قيامه عن مجلسه لأبيه، وحديثه ضيقه، وقيامه على فرسه - وإن كان له مائة عبد - ، وخدمته العالم ليأخذ من علمه.
ذكر بعض قريش عبد الملك بن مروان، فقال: كان آخذاً لأربع، تاركا لأربع: يأخذ بأحسن الحديث إذا حدث، وبأحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر المئونة إذا خولف، وبأحسن البشر إذا لقى، وكان تاركاً لمحادثة اللئيم، ومنازعة اللجوج، ومماراة السفية، ومصاحبة المأفون.
قال الحسن البصري: لما هبط آدم آوحى الله إليه: أربع فيهن جماع الأمر لك ولولدك من بعدك، أما واحدة فلى، والثانية فلك، وأما الثالثة فبيني وبينك، وأما الرابعة فبينك وبين الناس. أما التي لي: فتعبدني ولا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك فعملك أجزيكه أفقر ما تكون إليه، وأما الني بيني وبينك: فعليك الدعاء وعلى الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فتصاحبهم بما تحب أن يصاحبوك به.
أربعة تحتاج إلى أربعة: الحسب إلى الأدب، والسرور إلى الأمن، والقرابة إلى المودة، والعقل إلى التجربة.
أربعة لا بقاء لها: مودة الأشرار، والبيت الذي ليس فيه تقدير، والمال الحرام، والكسب الذي ليس معه تقدير.
أربع من حصل عليها واجتمعت عنده، اجتمع له خير الدنيا والآخرة: امرأة عفيفة، وخدين موافق، ومال واسع، وعمل صالح، قال منصور الفقيه:
أفضل ما نال الفتى ... بعد الهدى والعافية
امرأة جميلة ... عفيفة مواتية
قال عبد الله بن عمر: أربع من كن فيه بوئ بهن بيتاً في الجنة: شهادة ألا إله إلا الله، وإن أصاب ذنباً استغفر الله، وإن جرت عليه نعمة، قال: الحمد الله، وإن أصابته مصيبة استرجع فقال: إنا الله وإنا إليه راجعون.
أربع تفسد العقل وتؤثر فيه: الإكثار من أكل البصل، ومن أكل الباقلاء، ومن الجماع، ومن السكر.
أربع من كن فيه كان كاملا، ومن تعلق بواحدة منهن كان من صلحاء قومه: دين يرشده، وعقل يسدده، وحسب يصونه، وحياء يقوده.
قال منصور الفقيه:
فضل التقى افضل من ... فضل اليسار والحسب
إذا هما لم يجمعا ... إلى العفاف والأدب
أربع من سلم منهن سلم من مكاره الدنيا والآخرة في الأغلب: العجلة، والتواني، واللجاجة، والعجب.
أربعة تقبح وهي في أربعة أقبح البخل في الأغنياء والفحش في النساء والكذب في القضاة والظلم في الحكام.
أربعة قالها جعفر بن محمد، لا تستقل القليل منها: الدين، والنار، والعداوة، والمرض.
قال الشاعر:
أربعة يعجب منها النهي ... يجهلها ذو مرةٍ حاسره
فواحد دنياه قدامه ... ليست له من خلفه آخره
وآخر دنياه منقوصة ... من خلفه آخره وافره
وثالث فاز بكلتيهما ... قد جمع الدنيا مع الآخره
ورابع مطرح بينهم ... ليست له دنيا ولا آخره
الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والمديان، والفقير.
قالوا: أربعة تشتد معاشرتهم: الرجل المتواني، والرجل العالم، والفرس المرح، والملك الشديد المملكة.
أربعة تشتد مؤونتهم، النديم المعربد، والجليس الأحمق، والمغني التائه، والسفلة إذا أثرى.
أربعة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والذاكر حتى يفتر، والإمام العدل، ودعوة المظلوم.
أربعة لا يقدرن على أن يشبعن: النار من الحطب، والبحر من الماء، والموت من الأرواح، والشره من المال.
أربعة يهدمن الجسم وربما قتلن: دخول الحمام على البطنة، وأكل القديد الجاف، والغشيان على الامتلاء، ومجامعة العجوز.
أربع لا يشبعن من أربع: عينٌ من نظر، وأذن من خبر، وأنثى من ذكر، وأرض من مطر.
أربع إذا كن في الرجل أهلكنه: حب النساء، وحب الصيد، وحب الفخار، وحب الخمر.
قال عمر بن عبد العزيز: أحب الأشياء إلى الله أربعة: القصد عند الجدة، والعفو عند المقدرة، والحلم عند الغضب، والرفق بعباد الله في كل حال.

قال المأمون: الناس في تصرفهم ومعايشهم بين أربعة أمور، من لم يكن منها كان عيالا عليها وكلاّ: الإمارة، والتجارة، والزراعة، والصناعة.
أربعة لا يستحيا من الختم عليها: المال لنفي التهمة، والجوهر لأمن البدل، والدواء للاحتياط، والطبب للصيانة.
قال العتبي: اجتمعت الحكماء على أربع كلمات، وهي: لا تحملن على قلبك مالا تطيق، ولا تعمل عملا ليس لك فيه منفعة، ولا تثقن بامرأة، ولا تغتر بالمال وإن كثر.

باب خمسة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بُنى الإسلام على خمس... " الحديث.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: " يا عبد الله! اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " .
قال بعض الحكماء: خمسة أشياء من أعطيها فقد كمل عيشه: صحة البدن، وهو الجزء الأكبر، والسعة في الرزق، وهو الثاني، والأمن وهو الثالث، والأنيس الموافق وهو الرابع، والدعة، فمن حرمها فقد حرم العيش.
واجتمع الحكماء أنه لا ينبغي للمرء أن ينزل بلدةً ليس فيها خمسة أشياء: سلطان قاهر، وقاضٍ عادل، وسوق قائمة، وطبيب عالم، ونهر جارٍ.
روى الأصمعي، قال: حدثنا الفضل بن عبد الملك بن أبي شهبة، قال: قال الأحنف: لا ينبغي أن تنزل بلداً حتى يكون فيه خمس خصال، فذكرها سواء.
ذكر الشافعي عن مالك، عن الزهري، قال: الذل في خمسة أشياء: حضور المجلس بلا نسخة، وعبور المعبر بلا قطعة، ودخول الحمام بلا خادم، وتذلل الشريف للدنئ لينال منه، والتذلل للمرأة لينال من مالها.
خمسة لا يستحيا من خدمتهم: السلطان، والوالد، والعالم، والضيف، والدابة.
خمسة أشياء تقبح في خمسة أصناف: الحدة في السلطان، وقلة الحياء في ذوي الأحساب، والبخل في ذوي الأموال، والفتوة في الشيوخ، والحرض في العلماء والقراء.
قال وبرة بن خداش: أوصاني عبد الله بن عباس بخمس كلماتٍ هي أحب إلى من الدهم الموقوفة في السبيل، قال لي: إياك والكلام فيما لا يعنيك أو في غير موضعه، فرب متكلم فيما لا يعنيه أو في غير موضعه قد عنت، ولا تمار سفيهاً ولا فقيها، فإن الفقيه يغلبك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك أن يذكرك به، ودع ما تحب أن يدعه منك، واعمل بما تحب عمل رجل يعلم أنه يجازي بالإحسان ويكافى بالإجرام.
قال عمر بن الخطاب: من لم يكن فيه خمس فلا ترجوه لشيء من الدنيا والآخرة: من لم يعرف بالوثيقة في أرومته، والكرم في طبيعته، وبالدماثة في خلقه، وبالنبل في نفسه، وبالمخافة لربه.
خمس من طبيعة الجهال: الغضب في غير شيء، والإعطاء في غير حق، وإتعاب البدن في الباطل، وقلة معرفة الرجل لصديقه من عدوه، وتضييعه لسره.
خمسة أشياء أضيع شيءٍ في الدنيا: سراج يوقد في الشمس، ومطر وابل في أرض سبخة، وامرأة حسناء تزف إلى عنين، وطعام يستجاد ثم يقدم إلى سكران أو شبعان، ومعروف تصنعه عند من لا يشكرك.
خمس لا يشبعن من خمس: أذن من خبر، وعين من نظر، وأنثى من ذكر، وأرض من مطر، وعالم من أثر.
خمس يزدن في النسيان: إلقاء القملة، وأكل التفاح، والحجامة في النقرة، والبول في الماء الراكد، وأكل سؤر الفأرة.
ومما يدخل في هذا الباب قول الأحنف: لا راحة لحسود، ولا مروءة لبخيل، ولا إخاء لكذوب، ولا وفاء لملول، ولا سؤدد لسيء الخلق.
قال الأوزاعي: خمسة كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله.
باب نوادر من الرؤيا مختصرة
قال رسول الله صلى الله وسلم: " إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، رؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللبن فطرة، والقيد ثبات في الدين، والغرق نار؛ لقوله تعالى: " أغرقُوا فأُدخلُوا ناراً " ، ومن رآني فقد رآني، فإن الشيطان لا يتشبه بي.
قال أبو بكر: يا رسول الله! ما أزال أرى كأني أطأ في عذرات الناس، قال: لتلين أمور الناس قال: ورأيت في صدري كالرقمتين. قال: سنتين. قال: ورأيت كأن على حلة حبرة، قال: ولد تحبر به، وفي رواية أخرى: قال له: يا رسول اللهّ! ورأيت كأن في صدري كبتين، قال النبي عليه السلام: " على أمر الناس سنتين " .

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه: أنه دخل الجنة، وأنه رأى فيها عذقاً مدلى فأعجبه وقال: " لمن هذا! فقيل: لأبي جهل. فشق ذلك عليه صلى الله عليه وقال: ما لأبي جهل والجنة؟ والله لا يدخلها أبداً، فإنها لا يدخلها إلا نفس مؤمنة. فلما أتاه عكرمة بن أبي جهل مسلماً فرح به، وقام إليه، وتأول ذلك العذق عكرمة ابنه " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت أني دخلت الجنة فسقيت لبنا فشربت حتى رأيت الري - أو قال: اللبن - خرج من أظفاري، قالوا: فما تأولته يا رسول الله؟ قال: العلم " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت كأن يتبعني غنم سود يتبعها غنم عفر " قال أبو بكر: يا رسول الله تلك العرب تتبعها العجم، قال: " كذلك عبرها الملك " .
مر صهيب بأبي بكر الصديق، فأعرض عنه، فقال أبو بكر: مالك؟ أبلغك عني شيء؟ فقال: لا. إلا رؤيا رأيتها لك كرهتها. قال: وما هي؟ قال: رأيتك مجموع اليدين إلى عنقك على باب أبي الحشر الأنصاري. قال: نعم ما رأيت جمع لي ديني إلى الحشر.
قالت عائشة لأبي بكر الصديق: رأيت كأن ثلاثة أقمار سقطن في حجري، فقال لها: إن صدقت رؤياك دفن في بيتك ثلاثة من خير أهل الأرض، فلما دفن النبي عليه السلام في بيتها، قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك وهو خيرها.
جاء رجل إلى أبي بكر فقال: رأيت كأني أبول دماً، قال: أنت رجل تأتي امرأتك وهي حائض، فاتق الله ولا تفعل.
جاء رجل إلى أبو بكر الصديق رضى الله عنه، فقال: رأيت كأني أحدث ثعلباً، قال: أنت رجل كذاب، فاتق الله ولا تفعل.
رأي النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا، فقصها على أبي بكر، فقال: " يا أبا بكر! رأيت كأني أنا وأنت نرقي درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف " قال: يا رسول الله! يقبضك الله إلى مغفرته ورحمته فأعيش بعدك سنتين ونصفاً.
قالت عائشة لأبي بكر: رأيت كأن بقراً نحرن حولي. قال: إن صدقت رؤياك قتل حولك فئة.
قال رجل لأبي بكر الصديق: إني رأيت الليلة في المنام نوراً عظيماً يخرج من جحر صغير فجعلت أتعجب من صغر الجحر وعظم النور، ثم إن النور أراد أن يعود في الجحر فلم يقدر. فقال أبو بكر: هي الكلمة العظيمة تخرج من الرجل يريد أن يردها فلا يستطيع.
رأى رجل في المنام كأنه يطلب بطة معها ثلاثة فراخ، فأدرك البطة وفاتته الفراخ فسئل فقيل: هذا رجل صلى العتمة، ونام عن الوتر حتى أصبح، فقال الرجل: ما تركت الوتر منذ ثلاثين سنة إلا البارحة.
قام عمر بن الخطاب رضى الله عنه قبل أب يقتل بأيام، فقال: إني رأيت ديكاً نقرني نقرتين أو ثلاثا. فوجأه أبو لؤلؤه غلام المغيرة وجئتين أو ثلاثا فقتله.
قال بعض أمراء الشام لعمر: يا أمير المؤمنين! رأيت كأن الشمس والقمر اقتتلا ومع كل واحد منهما فريق من النجوم. قال: مع أيهما كنت؟ قال مع القمر. قال: مع الآية الممحوة، لا عملت لي أبداً. فعزله وقتل مع معاوية بصفين.
قال علي بن أبي طالب: لا رؤيا لخائف. إلا أن يرى ما يحب.
رأى عامر بن عبد الله بن الزبير في النوم، امرأةً ثائرة الشعر بين الركن والمقام، وهي تقول:
آذنت زينة الحياة ببينٍ ... وانقضاءٍ من أهلها وفناء
فتأول الناس من رؤيا عامر الدنيا.
قال رجل لابن سيرين: رأيت كأني آكل خبيصاً في الصلاة. قال: الخبيص حلال طيب، ولا يحل الأكل في الصلاة، أنت رجل تقبل امرأتك وأنت صائم. قال: نعم. قال: فلا تعد.
كان ابن سيرين يعبر الأذان في النوم عملاً صالحا فيه شهرة.
وقال ابن سيرين في جنازة يتبعها الناس: هذا قائد له أتباع.
أتى رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت البارحة امرأة من جيراني كأنها ذبحت في بيتٍ من دارها. فقال: هذه المرأة نكحت الليلة في ذلك البيت. فعز على السائل ما ذكره؛ لأن زوج المرأة كان غائباً عنها، فلما انصرف قال له أهله: رأيت فلاناً؟ - يعنون الغائب جاره - فقال: وهل أتى؟ قالوا: نعم. وفي داره بات البارحة. فقصده وسأله، فكان كما قال ابن سيرين.
قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأن قرداً يأكل معي على مائدة. فقال: هذا غلام أمرد اتخذه بعض نسائك.
قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأن في حجري صبياً يصيح. فقال له ابن سيرين: اتق الله ولا تضرب العود.
قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأني أطير بين السماء والأرض. فقال: أراك تكثر الأماني.

قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأن لحيتي بلغت سرتي، وأنا أنظر إليها. فقال له: أنت رجل مؤذن تنظر في دور الجيران.
كان ابن سيرين يستحب الطيب في النوم، يقول: هو ثناء حسن. وكان يعجبه الطيب الأسود كالمسك والغالية وشبه ذلك، ويقول: يتبعه عيش وثناء حسن.
سئل ابن سيرين عن الفيل في النوم، فقال: أمر جسيم قليل المنفعة.
قال رجل لابن سيرين: ما تقول يا أبا بكر في امرأة كانت ترى في المنام كأنها تأكل رأس جزور؟ فقال: تتقي الله ولا تبغض العرب.
كان ابن سيرين يستحب الزيت في النوم، ويقول: هو بركة كله، إن أكلته أو أدخلته بيتك أو شربته أو ادّهنت به أو تلطخت، لأنه من شجرةٍ مباركة.
كان ابن سيرين يقول: الماء في لا نوم فتنة، وبلاء في الدين، وأمر شديد؛ لأن الله تعالى يقول: " إنَّ الله مُبتلِيكم بنهرٍ " . وقال: " ماءً غدقاً، لنفتنهم فيه " .
قال ابن سيرين: ومن عبر نهراً، قطع بلاءً وفتنة ومشقة، ونجا من ذلك.
أتى رجل ابن سيرين، فقال له: خطبت امرأة فرأيتها في المنام. فقال له ابن سيرين: كيف رأيتها؟ قال: رأيتها سوداء قصيرة مكسورة الفم. فقال ابن سيرين: أما الذي رأيت من سوادها فإنها امرأة لها مال، وأما ما رأيت من كسر فمها فإنها امرأة فظيعة اللسان، وأما ما رأيت من قصرها، فإنها امرأة قصيرة العمر، وتوشك أن تموت عاجلاً، فذهب فتزوجها.
كان ابن سيرين يعبر الرجل إذا رأى أنه حل إزاره أو انحل، قال: هذا رجل يرزق امرأة.
وكان ابن سيرين لا يعبر الخاتم في المنام إلا امرأة يستفيدها. وكذلك كان هشام بن حسان: لا يعبر الفص في الخاتم: إلا أنه يقول: امرأة فيها قسوة.
قال هشام بن حسان: كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا، فلا يجيب فيها بشيء إلا أنه يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة، فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم، وكان يجيب في خلال ذلك، ويقول: إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب.
قيل لابن سيرين: إنك تستقبل الرجل بما يكره، قال: إنه علم أكره كتمانه.
رأى الرشيد رؤيا فهمته، فوجه في الكرماني بريداً، فلما أتاه ومثل بين يديه خلا به وقال: بعثت فيك لرؤيا رأيتها. فقال: وما هي؟ قال: رأيت كلبين ينهشان قبل جارية من جواري. فقال له الكرماني: ما رأيت إلا خيراً يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: قل ما تراه وهات ما عندك، فقال له: هذه جارية دعوتها لتجامعها، وكان لا عهد لك معها بذلك، وكانت ذات شعر، فكرهت أن تحلق فتجد أثر الموسي، وكرهت أن تبقى على هيئتها، فأخذت جلماً فحلقت بعض الشعر وتركت بعضه، فأشار الرشيد إليه بالقعود، وقام فدخل إلى نسائه، ودعا بتلك الجارية فسارها مستفهماً منها عن ذلك، فأقرت به وصدقت الكرماني، فخرج إليه الرشيد، فقال له: أصبت وسررتني، وأمر له بصلة سنية، ثم قال له: إياك أن تحدث بها ما كنت حياّ. قال: فو الله ما حدثت بها ما دام الرشيد حيا.
قال الزبير: حدثني أبو ضمرة أنس بن عياض، قال: قيل لجعفر بن محمد: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن كلباً أبقع يلغ في دمه، فكان شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين رضى الله عنه، وكان أبرص، فكان تأويل الرؤيا بعد خمسين سنة.
ذكر ابن المنتاب القاضي المالكي، قال: حدثنا بن أبي خيثمة، قال: حدثنا خالد بن خداش قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: وجه إلى جعفر بن سليمان ليلا، وهو أمير البصرة، فدخلت عليه، فقبلت يده فقبل يدي، وإذا هو مروع، فقال: رأيت البارحة مالك بن أنس في النوم وهو يقول: بيني وبينك الله. فقلت له: مالك بن أنس من العلم بمكان، وإنه لا يطالبك إلا بما بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرابة والنسب. قال: فما ترى؟ قلت له: تعتق. فأعتق عن كل سوط رقبة. قال القاضي ابن المنتاب: وكان عدد الأسواط نيفاً وثلاثين سوطاً.

باب من نوادر الأخبار

أخبرنا أحمد بن عمر، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا علي بن عمرو، حدثنا أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن إبراهيم الكاتب الحكمي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح، قال: حدثنا محمد ابن يزيد بن سنان الزيادي، قال: حدثنا شرقي بن قطامي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: فيكم أحد من إياد؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فهل لكم علم بقس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: هلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إليه بسوق عكاظ يخطب الناس على جمل أحمر، يقول: أيها الناس! اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، أما بعد: فإن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، نجوم تغور وتمور، ونجوم تغور ولا تمور، وسقف ومرفوع، ومهاد موضوع، أقسم قس قسما، ما كذب ولا أثم، لئن كان في الأمر رضا، ليكونن بعده سخط، وما هذا بلعب، وإن من وراء هذا لعجبا، أقسم قس قسما، فما كذب ولا أثم، إن لله ديناً هو أرضى من دين نحن عليه، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا. قال النبي عليه السلام: وسمعته ينشد شعراً فأيكم يحفظه؟ فقال بعضهم: أنا. فأنشده يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال:
في الذاهبين الأولي ... ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي إلى ... ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لامحا ... له حيث صار القوم صائر
بينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه جالس مع أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم علي بن أبي طالب وجماعة من المهاجرين، فالتفت إليهم، فقال: إني سائلكم عن خصال فأخبروني بها، أخبروني عن الرجل بينما هو يذكر الشيء إذ نسيه، وعن الرجل يحب الرجل ولم يلقه، وعن الرؤيين إحداهما حق، والأخرى أضغاث أحلام، وعن ساعة من الليل ليس أحد إلا وهو فيها مروع، وعن الرائحة الطيبة مع الفجر، فسكت القوم. فقال: ولا أنت يا أبا الحسن؟ فقال: بلى والله. إن عندي من ذلك لعلماً، أما الرجل بينما هو يذكر الشيء إذ نسيه، فإن على القلب طخاءً كطخاء القمر، فإذا سرى عنه ذكر، وإذ أعيد عليه نسى وغفل. وأما الرجل يحب الرجل ولم يلقه فإن الأرواح أجناد مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. وأما الرؤيا إحداهما حق والأخرى أضغاث؛ فإن في ابن آدم روحين، فإذا نام خرجت روح فأتت الحميم والصديق، والبعيد والقريب والعدو، فما كان منها في ملكون السموات فهي الرؤيا الصادقة، وما كان منها في الهواء فهي الأضغاث، وأما الروح الأخرى فللنفس والتقلب، وأما الساعة من الليل التي ليس أحد إلا وهو فيها مروع، فإن تلك هي الساعة التي يرتفع فيها البحر يستأذن في تغريق أهل الأرض، فتحسه الأرواح فترتاع له، وأما الرائحة الطيبة مع الفجر، فإن الفجر إذا طلع خرجت ريح من تحت العرش حركت الأشجار في الجنة فهي الرائحة الطيبة. خذها يا عمر، قال: صدقت.
قال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس: دخلت على عمر بن عبد العزيز، وعنده رجل من النصاري، فقال له: من تجدون الخليفة بعد سليمان قال النصراني: أنت. قال: فأقبل عمر بن عبد العزيز علي فقال: دمي في ثيابك يا أبا عبد الله، قال: فقلت: سبحان الله! المجالس بالأمانة. قال محمد بن علي: فلما كان بعد ذلك جعلت ذلك النصراني من بالي، فرأيته يوماً فأمرت غلامي أن يحبسه علي، وذهبت به إلى منزلي، وسألته عما يكون، وقلت: عد لي خلفاء بني مروان واحداً واحداً. فعد لي خلفاء بني مروان واحداً واحداً. وتجاوز عن مروان بن محمد، قال محمد بن علي، فقلت له: ثم من؟ قال: ثم ابنك من الحارثية، وهو اليوم حمل.

كتب صاحب الروم إلى معاوية يسأله عن أفضل الكلام وما هو؟ والثاني والثالث والرابع؟ وكتب إليه يسأله عن أكرم الخلق على الله، وعن أكرم الإماء على الله، وعن أربعة من الخلق لم يركضوا في رحم، وعن قبر سار بصاحبه، وعن المجرة، وعن القوس، وعن مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع فيه قبل ذلك ولا بعده. فلما قرأ معاوية الكتاب قال: أخزاه الله! وما علمي بما ها هنا؟ فقيل: اكتب إلى ابن عباس، فكتب إليه ابن عباس: أفضل الكلام لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص لا عمل إلا بها، والتي تليها سبحان الله وبحمده، صلاة الخلق، والتي تليها الحمد الله، كلمة الشكر، والتي تليها الله أكبر، فاتحة الصلوات والركوع والسجود. وأكرم الخلق على الله آدم عليه السلام، وأكرم إماء الله مريم عليها السلام. وأما الأربعة الذين لم يركضوا في رحم: فآدم وحواء والكبش الذي فدى به إسماعيل، وعصا موسى حيث ألقاها فصارت ثعباناً مبيناً، وأما القبر الذي سار بصاحبه فالحوت الذي التقم يونس، وأما المجرة فباب السماء، وأما القوس فإنها أمان لأهل الأرض من الغرق بعد نوح، وأما المكان الذي طلعت عليه الشمس، لم تطلع فيه قبله ولا بعده، فالمكان الذي انفرج من البحر لبني إسرائيل مع موسى عليه السلام. فلما قدم عليه الكتاب أرسله إلى ملك الروم، فقال: لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم، وما أصاب هذا إلا من أهل بيت النبوة.
وجه ملك الروم إلى معاوية بقارورة، فقال: ابعث إلى فيها من كل شيء حي، فبعث بها إلى ابن عباس، فقال: تملأ له ماء. فلما ورد به على ملك الروم، قال له أخوه: ما أدهاه! فقيل لابن عباس: كيف اخترت ذلك؟ قال: يقول الله عز وجل: " وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي " .
قال المسيب بن واضح: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: حصر حصن بخراسان فأصابوا فيه رأس إنسان، فوزنوا سناً من أسنانه فوجدوها قدر منيين، فأنشأ عبد الله يقول:
أتيت بسنين قد رمتا ... من الحصن لما أثاروا الدفينا
على وزن منيين إحداهما ... تقل به الكف شيئاً رزينا
ثلاثون أخرى على قدرها ... تباركت يا أحسن الخالقينا
فماذا يقوم لأفواههم ... وما كان يملأ تلك البطونا
إذا ما تذكرت أجسامهم ... تقاصرت النفس حتى تهونا
وكل على ذاك ذاق الردى ... وبادوا جميعاً فهل خالدونا

روى أسامة بن زيد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: أخبرني عمر بن الخطاب قال: خرجت مع أناسٍ من قريش في الجاهلية في تجارة إلى الشام، فبينما أنا في سوق من أسواقها بدمشق إذ أنا ببطريق قد جاءني فأخذ بعنقي، فذهبت أنازعه نفسي، فقيل لي: لا تفعل فليس لك منه النصف، قال: فخرجت معه فأدخلني كنيسةً فإذا تراب كثير متراكم بعضه على بعض، فدفع إلى بمجرفة وفأساً وزنبيلا، فقال لي: انقل هذا التراب واحفر لي هاهنابئراً، قال: فجلست أفكر في أمري كيف أصنع، قال: فأتاني في الهاجرة وعليه سبنية قصب، أرى سائر جسده منها، ولم أحرك شيئاً، فقال لي: وإنك على ما أرى ما حركت شيئاً، ثم ضم كفه وأصابعه يضرب بها وسط رأسي، فقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا عمر، أو قد بلغت ما أرى! قال: فقمت إليه بالمجرفة فضربت بها رأسه فنثرت دماغه وخر ميتاً، وخرجت إلى الطريق، وأنا لا أدري أين أسلك من بلاد الله تعالى، فمشيت بقية يومي وليلتي من الغد حتى أصبحت، ثم انتهيت إلى ديرٍ فاستظللت بظله، فخرج إلى رجل من أهل الدير، فقال: يا عبد الله! ما يقعدك ها هنا؟: فقلت: أضللت أصحابي. قال: والله ما أنت على طريق، وإنك لتنظر بعين خائف، قم فادخل الدير فأصب من الطعام والشراب، وأقم ما بدا لك، قال: فدخلت فأتاني بطعام وشراب وألطف لي، ثم صعد في النظر وخفضه، ثم قال: يا هذا! لقد علم أهل الكتاب أنه لم يبق على وجه الأرض رجل أعلم مني اليوم، وإني أجد صفتك، إنك الذي تخرجنا من هذا الدير، وتغلب على هذا البلاد. فقلت: أيها الرجل! ذهبت من الأمر في غير مذهب. قال: ما اسمك؟ قلت: عمر بن الخطاب. قال: أنت والله الذي لا إله إلا هو صاحبنا من غير شك، فاكتب لي على ديري هذا وأهله وما فيه أماناً، قال: قلت: أيها الرجل! قد صنعت معروفاً فلا تكدره، قال: إنما هو كتاب في رق، وليس عليك فيه مؤونة ولا شيء، فإن كنت صاحبنا فهو الذي أريد، وإن تكن الأخرى فأي شيءٍ يضرك؟ قلت: هات، فكتبت له أماناً ثم ختمته ودفعته إليه. قال: فدعا بنفقة وثوب فدفعها إلي، ثم دعا بأتان قد أوكفت، فقال: أتسمع؟ قلت: نعم. قال: اخرج على هذه الأتان فإنها لا تمر بقوم ولا أهل دير إلا علفوها، حتى إذا بلغت مأمنك فخل عنها واضرب وجهها مدبرة، فإنها تعلف وتسقي حتى تصل. قال: فركبتها ثم سرت عليها حتى أدركت أصحابي وهم متوجهون، فلم أمر بقوم إلا سقوها وعلفوها حتى لحقت أصحابي، فنزلت عنها، وضربت وجهها مدبرة، ثم سرت معهم حتى قدمت على أهلي. قال أسلم: فلما قدم عمر بن الخطاب الشام أتاه ذلك الراهب في خلافته، وهو صاحب دير العدس بذلك الكتاب، فلما قرأه عمر عرفه، فقال له الراهب: فِ لي بشرطي، فقال له عمر: جاء أمر غير ذلك، جاء ما ليس لعمر ولا لأبي عمر فيه شيء، فاستشار فيه عمر المسلمين، فقالوا: نرى أن تفي له يا أمير المؤمنين، قال عمر: هل عندك للمسلمين منفعة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأنشأ عمر يحدثنا حديثه حتى أتى على آخره، ثم قال عمر للراهب: إن أضفتم المسلمين، وأرشدتموهم الطريق، وهديتم الضال، ومرضتم المرضى ممن يمر بكم من المسلمين فعلنا، قال: نعم يا أمير المؤمنين نفعل. قال: فوفي له عمر.

روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه، قال: خرجت في الجاهلية بتجارة إلى الشام فنزلت في بعض الطريق لقضاء حاجة، وتقدمتني القافلة، فإني لكذلك إذ أقبل إلى راهب على أتانٍ له قد خرج في بعض الزيارات يريد فلسطين وهو يذهب عطشاً، وكان يوماً صائفاً، فسلم على واستسقاني ماء. ولم يكن معي غير فضلة في إداوةٍ معلقة على كفل الفرس، فآثرته بها، وتبين له ذلك، فشكر لي فعلى، وشكا تعباً لحقه، وأنه يريد النزول والراحة قليلا، وهو خائف من الوحدة وفساد الطريق، وكأنه أراد الأنس بي. فقلت له: انزل فإني أونسك ولا أتركك. وكنت عارفاً بالطريق، فعرجنا إلى ظل شجرة أرزٍ فعرسنا تحتها، وقلت: أعينه، ثم ألحق القافلة بعد تعريسها بساعة، وكان له غلام ورحل قد تأخرا عنه، فكان مع ذلك ينتظر، فلما نزلنا استلقى على جنبه ونام، وركبت فرسي أطلب بعض الحياض التي كنت أعرفها لأملأ إداوتي منها، فوجدت واحداً منها فملأت الإداوة، ورجعت والراهب نائم بحاله، وإذا بثعبان عظيم يسير إليه لينهشه، فاخترطت سيفي ونزلت إليه فلحقته، وقد كاد ينقره فقتلته، وجلست أخفر الراهب إلى أن قام وقد استراح من تعبه، فعرضت عليه الماء فشرب، ونظر إلى الثعبان فهاله أمره، فعرفته أنه قصده وأني قتلته فشكر، وقال: قد أحييتني مرتين، ووجب حقك علي، قد حبست نفسك علي، ونزلت معي حتى استرحت، وآنستني من الوحدة ووحشة الطريق، وأنا مع ذلك في غربة. ولا أدري بماذا أكافئك، ثم ركبنا وسرنا فما لحقنا القافلة إلا مساء، وطلبت رحلي وغلاماً كان معي إلى أن وجدته، فأنزلت الراهب معي إلى أن أصبحنا، فجاءه غلامه ورحله، فقال لي: أين تريد؟ فعرفته أني أريد دمشق بتجارةٍ معي، فسألني عنها فأخبرته، فقال لي: أي تريد؟ تدخل معي إلى مصر فإن لي بها حالا جميلة وجاهاً عريضاً، ولعلي أكافئك على ما أوليتني، فإن يدي تقصر هاهناعن مكافأتك، وعلي أن أربحك في تجارتك ضعف ما تأمله من الربح منها، فوقع كلامه بقلبي، فقلت له: على أن تخرج معي من يكفلني ويحملني في طريقي، أو تضيفني إلى من يبلغني هذا هذا المكان، فإني إذا بلغته عرفت الطريق إلى موضعي. قال: بل أردك إليه من طريق هو أقرب من طريقك هذا. فسرت معه فرأيت رجلاً جميل الصحبة والمرافقة، وكان فيه مع ذلك فهم وعلم، وكان من أبناء القبط الأولين، وكان يخبرني عن مصر وأهلها في القديم، وعن عجائبها وطلسماتها وملوكها، وخبر بخت نصر وكيف دخل البلد وأخذه بالحيلة التي تمت له حتى وصل إليه وما كان بعد ذلك، ولم نزل في أنس إلى أن دخلنا مصر، فلم نكن نمر بموضع ولا ديرٍ إلا تلقونا بالإكرام والجميل، وعدينا النيل، وسرنا حتى دخلنا الإسكندرية، فأنزلني عنده وأتاه جماعة من أهله وذوي قرابته وجماعة من وجوه أهل البلد، وكان مقدماً عندهم، فسلموا عليه وهنأوه بالسلامة وقضوا حوائجه وأكرموه وأتحفوه، ولم يكن يدخل إليه أحد من أهله وغيرهم إلا أخبرهم بخبري، وأني خلصته من العطش بما كان معي من الماء، وأني آثرته على نفسي، وخبرهم بما كان من أمر الثعبان. فما منهم أحد إلا برني وأكرمني. واجتمعت لي دنانير كثيرة، ووجه أقاربه وباع منهم ومن غيرهم البضاعة التي كانت معي، وأفضلت فيها فضلاً كثيراً، وأقمت أكثر من شهر وأنا أطوف بالإسكندرية، وأنظر إلى عجائبها ومنارها ثم استأذنته للخروج، فقال لي: إن لنا عيداً وقد حضر، فأقم عندي حتى تشاهده وأوجه معك من يخفرك إلى حدود أرض الحجاز، فأجبته إلى ذلك، وحضر العمد، وزينت كنائس الإسكندرية، وخصوا منها كنيسة مرخمة عظيمة كانوا يجتمعون إليها بأحدث الزي، وكان خارج الكنيسة أسطوان كبير واسع مفروش بالبسط، وقد جلس عليه رؤساؤهم وبطارقتهم، وكان من عاداتهم أن يضربوا خارج الأسطوان في فسيح هناك بصولجان وكرةٍ تطير إلى ذلك الأسطوان، فمن وقعت في حجره الكرة من أولئك البطارقة والرؤساء، حكم له بولاية مصر، قال عمرو: فأجلسني وسط أولئك الوجوه والبطارقة فإني لمشغول بالنظر إليهم وإلى زيهم، وأولئك خارج الأسطوان يضربون تلك الكرة إذ طارت إلى فسقطت في حجري فأكبروا ذلك، وجعلوا يتأملوني ويعجبون مني، ومن سقوط الكرة في حجري، ثم ردوا الكرة إلى خارج، وضربوها أيضاً مرة أخرى، فطارت حتى سقطت ثانية، فازدادوا عجباً، وجعل بعضهم ينظر إلى بعضٍ ويزمزمون بكلامهم، وأنا لا أعرف ما يقولون. ثم

أخوجوا الكرة وضربوها مرة ثالثة فسقطت في حجري ودخلت في كمي، فزاد تعجبهم وقالوا: إن هذا الأمر يراد أو بطل فعل الكرة. وأقمت حتى انقضت أيام عيدهم، فسألته أن يأذن لي في الخروج إلى الحجاز، فأذن لي في ذلك، بعد أن شرط على أن لا أترك زيارته في كل وقتٍ يمكني، وأنفذني مع غلام له وجهزني بطريفٍ من ثياب الوشي التي كانت تعمل بالإسكندرية، وثياب من دبيق دمياط، وأكسية رقيقةً من صوف، وفصوص وغير ذلك، فانصرفت إلى أهل بوفر حال، وأخرجني الغلام من ناحية أستغني فيها عن الخفير، وكان الغلام الذي وجهه به معي يدري أمرهم، فسألته عن أمرة الكرة فعرفني أن من عاداتها ذلك اليوم، ألا يقع في حجر أحدٍ إلا ولي مصر، وأنهم عجبوا من ذلك، وقالوا: هذا رجل عربي وغريب. وكيف يلي هذا مصر؟! وصرفوا الأمر إلى فساد فعل الكرة، قال عمرو: فوقع في نفسي من ذلك أمر لم أعرف الوجه فيه، وسرت إلى منزلي وأنا أوفر التجار الذين خرجت معهم إلى الشام وأحسنهم حالا، وعرض في نفسي شيء من أمر مصر، فقلت: أحمل تجارة إلى بلد الروم، وأدخل إلى الملك ولعله أن يقلدني أمر مصر، ثم قلت: إن هذا النظر فاسد، وهل يترك الملك بطارقته وأصحابه ويوليني أنا وأنا عربي على غير دينه؟ فسمعت قائلاً يقول: لابد لفلان من ذلك ويصير منه إلى ما يحب. فزاد ذلك في قوة أملي في الولاية على مصر إلى أن كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان، وجاءته هدية المقوقس، وقال: " إنكم ستفتحون مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، وجازوا أهلها بالجميل، فإنهم خؤولة إبراهيم " ، فلما سمعت ذلك تحققت أنه سيكون لي يد على مصر.وا الكرة وضربوها مرة ثالثة فسقطت في حجري ودخلت في كمي، فزاد تعجبهم وقالوا: إن هذا الأمر يراد أو بطل فعل الكرة. وأقمت حتى انقضت أيام عيدهم، فسألته أن يأذن لي في الخروج إلى الحجاز، فأذن لي في ذلك، بعد أن شرط على أن لا أترك زيارته في كل وقتٍ يمكني، وأنفذني مع غلام له وجهزني بطريفٍ من ثياب الوشي التي كانت تعمل بالإسكندرية، وثياب من دبيق دمياط، وأكسية رقيقةً من صوف، وفصوص وغير ذلك، فانصرفت إلى أهل بوفر حال، وأخرجني الغلام من ناحية أستغني فيها عن الخفير، وكان الغلام الذي وجهه به معي يدري أمرهم، فسألته عن أمرة الكرة فعرفني أن من عاداتها ذلك اليوم، ألا يقع في حجر أحدٍ إلا ولي مصر، وأنهم عجبوا من ذلك، وقالوا: هذا رجل عربي وغريب. وكيف يلي هذا مصر؟! وصرفوا الأمر إلى فساد فعل الكرة، قال عمرو: فوقع في نفسي من ذلك أمر لم أعرف الوجه فيه، وسرت إلى منزلي وأنا أوفر التجار الذين خرجت معهم إلى الشام وأحسنهم حالا، وعرض في نفسي شيء من أمر مصر، فقلت: أحمل تجارة إلى بلد الروم، وأدخل إلى الملك ولعله أن يقلدني أمر مصر، ثم قلت: إن هذا النظر فاسد، وهل يترك الملك بطارقته وأصحابه ويوليني أنا وأنا عربي على غير دينه؟ فسمعت قائلاً يقول: لابد لفلان من ذلك ويصير منه إلى ما يحب. فزاد ذلك في قوة أملي في الولاية على مصر إلى أن كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان، وجاءته هدية المقوقس، وقال: " إنكم ستفتحون مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، وجازوا أهلها بالجميل، فإنهم خؤولة إبراهيم " ، فلما سمعت ذلك تحققت أنه سيكون لي يد على مصر.

روى ابن جريج، قال: حدثني يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير، أنه قال: سمعته يقول: كان رجل من بني إسرائيل يقرأ، فإذا بلغ " بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأسٍ شديد " بكى وفاضت عيناه، ثم يطبق المصحف. فعل ذلك ما شاء الله من الزمان، ثم قال: أي رب! أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه، فأرى في المنام مسكيناً سائلاً يقال له: بخت نصر ببابل، فانطلق بمال وأعبدٍ له، وكان رجلاً موسراً، فقيل له: أين تريد؟ فقال: أريد التجارة. فنهض حتى نزل ببابل فاكتري بها منزلاً ليس فيه أحد غيره، وجعل يدعو المساكين ويعطيهم ويلطف بهم حتى لم يبق أحد منهم إلا جاء، فقال: هل بقى مسكين غيركم؟ قالوا: نعم، مسكين بفج آل فلان مريض يقال له: بخت نصر. فقال لغلمته: انطلقوا وانطلق معهم حتى أتاه، فقال له: ما اسمك؟ قال: بخت نصر، قال لغلمته: احتملوه. فنقله إليه فمرضه حتى براً، وكساه وأعطاه نفقةً، ثم أذن الإسرائيلي بالرحيل، فبكى بخت نصر، فقال له الإسرائيلي: ما يبكيك؟ قال: أبكي أنك فعلت معي ما فعلت ولا أجد شيئاً أجزيك به. قال: بل شيئاً يسيراً إن ملكت أطعتني. فجعل بخت نصر يلتوي ويقول: تستهزئ بي؟ ولا يمنعه أن يعطيه ما سأل إلا أنه يستهزئ به، وأبي عليه. فبكى الإسرائيلي وقال: لقد علمت أنه ما يمنعك أن تعطيني ما سألت إلا أن الله تعالى يريد أن ينفذ ما قضى وما قد كتبه عنده في كتابه، ثم ضرب الدهر ضرباته، فقال سيحون وهو ملك فارس ببابل: إنا لو بعثنا طليعةً إلى الشام كان حسناً. قالوا: وما يمنعك؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. فبعث رجلاً وأعطاه مائة ألف، فخرج وخرج بخت نصر في مطبخه لا يخرج إلا أن يأكل، لا همة له غير شبع بطنه، فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أرضاً أكثر أرض الله خيلا ورجلا وسلاحاً، فكسر ذلك في ذرعه، فلم يسأل ولحقه جزع، وجعل بخت نصر يمشي في مجالس أهل الشام فلا يدع مجلساً إلا وهو يقول لأهله: ما يمنعكم أن تغزوا بابل مع كثرة ما أرى معكم من الخيل والرجل، فلو غزو تموها لأصبتم بها المال والعيال. قالوا: فلا نحسن القتال ولا نعرفه، حتى استنفد مجالس أهل الشام، ثم رجع إلى الطليعة ولم ينل منهم كثير نيلٍ لما رأى، وجعل بخت نصر يقول لمن يلج على الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما يخبره فلان - يعني الطليعة - فرفع ذلك إليه، فدعاه، فأخبره الخبر، وقال: إن فلاناً لما رآها أكثر أرض الله خيلا ورجلا حسبهم أجلد الناس، فكسر ذلك في ذرعه، ولم يسألهم عن شيء، وإن لم أدع مجلساً بالشام إلا جالست أهله، فقلت لهم كذا فقالوا لي كذا، فقال الطليعة لبخت نصر بعد خروجه من عند الملك: فضحتني أيها الرجل، فهل لك في مائة ألفٍ تأخذها وتنزع عما قلت؟ قال: لو أعطيتني بيت مال بابل لما نزعت. ثم أن الدهر ضرب ضربه، وقال الملك: لو بعثنا جريدة خيلٍ إلى الشام، فإن وجدوا مساغاً ساغوا، وإلا انهبوا ما قدروا عليه؟ قالوا: فما ضرك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان أو فلان. قال لهم: بل الرجل الذي أخبرني بما أخبر. فدعا بخت نصر، فأرسله وأرسل معه أربعة آلافٍ من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاءوا وخربوا ولم يقتلوا، ورمى في جنازة سيحون فمات، فقالوا: استخلفوا رجلا. فقالوا: على رسلكم حتى يأتي أصحابكم من وجهتهم، فأمهلوا حتى جاء بخت نصر فقسم ما جاء به في الناس، فقالوا: ما رأينا أحق بالملك من هذا؟ فملكوه. فلم ضرب له ملكه بجرانه، قال لهم يوماً: موعدكم ثالثة فمن استأخر بعدها منكم فليمش إلى خشبته، فغزا الشام، فذلك حين قتل، وخرب بيت المقدس وانتزع حليته وحملها، وجعل يشرب فيها الخمور وخواناً يأكل عليها الخنازير، وحمل التوراة معه ثم ألقاها في النار، وقدم فيما قدم بمائة وصيف منهم دانييل وعزير، وكان يقال له عزريا، وحنانيا وميشائيل، فقال لإنسان: أصلح لي أجسام هؤلاء، لعلي أختار منهم أربعة يخدمونني. فقال دانييل لأصحابه: اعلموا أنهم إنما نصروا عليكم بما غيرتم من دين آبائكم. لا تأكلوا لحم الخنزير، ولا تشربوا الخمور. فقالوا للذي يصلح أجسامهم: هل لك أن تطعمنا طعاماً هو أهون عليك في المؤونة مما تطعم أصحابنا، فإن لم نسمن قبلهم أكثر من سمنهم رأيت رأيك؟ قال: ماذا؟ قالوا: خبز الشعير والكراث. ففعل، فسمنوا قبل أصحابهم. فأخذهم بخت نصر يخدمونه. قال: فبينما

هو كذلك إذ رأى بخت نصر رؤيا، فجلس ثم نسيها، ثم عاد فرآها، ففزع فقام من نومه، ثم عاد فرقد فرآها، فخرج إلى الحجر فنسيها، فلما أصبح. دعا العلماء والكهان، فقال: أخبروني بشيءٍ رأيت البارحة، وإذا أخبرتموني بما رأيت. فأولوا لي رؤياي، وإلا فليمش كل رجل منكم إلى خشبته، موعدكم ثلاث. فقالوا: هذا خبر قد أظلنا منه بلاء، فكيف بالنجاة منه، فجعل دانييل يقول كلما مر به رجل من رجاله: لو دعاني الملك لأخبرته بما رأى وأولت ذلك. فجعلوا يقولون: ما أحمق هذا الغلام الإسرائيلي! إلى أن مر به كهل فقال ذلك له، فرفعه إلى الملك وقال له: ماذا رأيت؟ قال: رأيت تمثالا. قال: إيه. قال: ورأسه من ذهب. قال: إيه، قال: وعنقه من فضة، قال: إيه: قال وصدره من حديد. قال: إيه. قال وبطنه من صفر. قال: إيه: قال ورجلاه من آنك. قال: إيه. قال: وقدماه من فخار. قال: نعم، هذا الذي رأيت. قال: فجاءت حصاة فوقعت في رأسه ثم في عنقه ثم في صدره ثم في بطنه ثم في رجليه ثم في قدميه فأهلكته، قال: نعم، فما تأويل هذا؟ قال: أما الذهب فملكك، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك ثم ملك ابن ابنك، وأما الفخار فملك النساء. فكساه جبة سبنية وسوره وأجازه وأمر أن يطاف به في القرية، وأخبر أن خاتمة جائز على ما ختم، فلما رأت ذلك فارس، قالوا: ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيلي فكيف نهدمه؟ قالوا: ائتوه من نحو الفتية الثلاثة أصحابه، ولا تذكروا له دانييل فإنه لا يصدقكم عليه، فأتوه، فقالوا: إن هؤلاء الفتية الثلاثة ليسوا على دينك، وهم يكرهون ما تستحسنه، وآية ذلك أنك إذا قربت إليهم لحم الخنزير والخمر لم يأكلوا ولم يشربوا، فأمر بحطب كثير فوضع، ثم أوقدت النار ورماهم فيها، فلما كان من آخر الليل أمر بالنظر إليهم فإذا هم يتحدثون، وإذا معهم رابع يروح عليهم ودانييل يصلي، قال: من هذا يا دانييل؟ قال: هذا جبريل، ظلمت القوم. فأمر بهم فأنزلوا. قال: ومسخ الله عز وجل بخت نصر من الدواب كلها، فجعله من كل صنف من الدواب رأسه من السباع الأسد، ومن الطير النسر، وملك ابنه بعده، وكان دانييل يسدده، وكان معه ثم رماه عنه وأقصاه، ثم أنه رأى كفاً فرجت بين لوحين مكتوب فيها سطران، فدعا الكهان والعلماء، فلم يجد عندهم منه علماً، فقالت أمه: إنك لو دعوت دانييل وأعدت إليه منزلته ومنك ومن أبيك عرفك، فدعاه فقال: إني معيد إليك منزلتك من أبي، فأخبرني ما هذان السطران؟ قال: أما معيد لي منزلي من أبيك فلا حاجة لي بذلك، وأما السطران فإنك تقتل الليلة. فال: فأمر أن يخرج كل من في القصر، فأخرجوا أجمعين، وأمر بقفل أبوابه فغلقت الأبواب، وأدخل معه رجلا وضع بيده سيفاً، وقال له: كل من جاءك من خلق الله الليلة فاقتله، ولو قال: أنا فلان - يعني نفسه - وبعث الله عليه البطن، فجعل يمشي والآخر نائم، فبينما هو كذلك إذ استيقظ ونهض إليه، فقال: أنا فلان. فضربه بالسيف فقتله؟ قال الله تعالى: " وإن عدتم عدنا " . قال: فبعث الله عليهم العرب، فلم يزالوا يسومونهم سوء العذاب، ولا يزالون إلى يوم القيامة في ذلة وصغار. قال ابن جريج: فبلغني أن سعيد بن جبير كان يحدث بهذا الحديث، فلما بلغ هذا الموضع أخذه رسول الحجاج بن يوسف. كذلك إذ رأى بخت نصر رؤيا، فجلس ثم نسيها، ثم عاد فرآها، ففزع فقام من نومه، ثم عاد فرقد فرآها، فخرج إلى الحجر فنسيها، فلما أصبح. دعا العلماء والكهان، فقال: أخبروني بشيءٍ رأيت البارحة، وإذا أخبرتموني بما رأيت. فأولوا لي رؤياي، وإلا فليمش كل رجل منكم إلى خشبته، موعدكم ثلاث. فقالوا: هذا خبر قد أظلنا منه بلاء، فكيف بالنجاة منه، فجعل دانييل يقول كلما مر به رجل من رجاله: لو دعاني الملك لأخبرته بما رأى وأولت ذلك. فجعلوا يقولون: ما أحمق هذا الغلام الإسرائيلي! إلى أن مر به كهل فقال ذلك له، فرفعه إلى الملك وقال له: ماذا رأيت؟ قال: رأيت تمثالا. قال: إيه. قال: ورأسه من ذهب. قال: إيه، قال: وعنقه من فضة، قال: إيه: قال وصدره من حديد. قال: إيه. قال وبطنه من صفر. قال: إيه: قال ورجلاه من آنك. قال: إيه. قال: وقدماه من فخار. قال: نعم، هذا الذي رأيت. قال: فجاءت حصاة فوقعت في رأسه ثم في عنقه ثم في صدره ثم في بطنه ثم في رجليه ثم في قدميه فأهلكته، قال: نعم، فما تأويل هذا؟ قال: أما الذهب فملكك، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك ثم ملك ابن ابنك، وأما الفخار فملك النساء. فكساه جبة سبنية وسوره وأجازه وأمر أن يطاف به في القرية، وأخبر أن خاتمة جائز على ما ختم، فلما رأت ذلك فارس، قالوا: ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيلي فكيف نهدمه؟ قالوا: ائتوه من نحو الفتية الثلاثة أصحابه، ولا تذكروا له دانييل فإنه لا يصدقكم عليه، فأتوه، فقالوا: إن هؤلاء الفتية الثلاثة ليسوا على دينك، وهم يكرهون ما تستحسنه، وآية ذلك أنك إذا قربت إليهم لحم الخنزير والخمر لم يأكلوا ولم يشربوا، فأمر بحطب كثير فوضع، ثم أوقدت النار ورماهم فيها، فلما كان من آخر الليل أمر بالنظر إليهم فإذا هم يتحدثون، وإذا معهم رابع يروح عليهم ودانييل يصلي، قال: من هذا يا دانييل؟ قال: هذا جبريل، ظلمت القوم. فأمر بهم فأنزلوا. قال: ومسخ الله عز وجل بخت نصر من الدواب كلها، فجعله من كل صنف من الدواب رأسه من السباع الأسد، ومن الطير النسر، وملك ابنه بعده، وكان دانييل يسدده، وكان معه ثم رماه عنه وأقصاه، ثم أنه رأى كفاً فرجت بين لوحين مكتوب فيها سطران، فدعا الكهان والعلماء، فلم يجد عندهم منه علماً، فقالت أمه: إنك لو دعوت دانييل وأعدت إليه منزلته ومنك ومن أبيك عرفك، فدعاه فقال: إني معيد إليك منزلتك من أبي، فأخبرني ما هذان السطران؟ قال: أما معيد لي منزلي من أبيك فلا حاجة لي بذلك، وأما السطران فإنك تقتل الليلة. فال: فأمر أن يخرج كل من في القصر، فأخرجوا أجمعين، وأمر بقفل أبوابه فغلقت الأبواب، وأدخل معه رجلا وضع بيده سيفاً، وقال له: كل من جاءك من خلق الله الليلة فاقتله، ولو قال: أنا فلان - يعني نفسه - وبعث الله عليه البطن، فجعل يمشي والآخر نائم، فبينما هو كذلك إذ استيقظ ونهض إليه، فقال: أنا فلان. فضربه بالسيف فقتله؟ قال الله تعالى: " وإن عدتم عدنا " . قال: فبعث الله عليهم العرب، فلم يزالوا يسومونهم سوء العذاب، ولا يزالون إلى يوم القيامة في ذلة وصغار. قال ابن جريج: فبلغني أن سعيد بن جبير كان يحدث بهذا الحديث، فلما بلغ هذا الموضع أخذه رسول الحجاج بن يوسف.

وروى حماد، عن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن رجلاً من علماء أهل الشام وجد نعت بخت نصر وأنه غلام يتيم، وله والدة، وله ذؤابة في رأسه من أهل بابل، وأنه تقدم فسأل عنه وعن أمه حتى عرفهما بالنعت، فنزل عليهما وكان وهو غلام يسوق العجاجيل والدجاج، فقال له ذات يوم: إنك ستملك فارس والشام، فاكتب لي أماناً ولقومي. قال: ما أدري ما هذا الذي يذكر، فلم يزل به حتى قال له: اكتب أنت ما شئت، وكتب له ولقومه أماناً، فأراد أن يختمه، فلم يكن لبخت نصر خاتم فأخذ خاتم حديد من نطاق أمه فختمه، ثم أنه دخل الشام، فأتاه الرجل فحيل بينه وبينه، فقال لمقدمته: إن للملك ودخل عليه، فقال: ما تعرفني؟ قال: ما أعرفك. فقص عليه القصة وذكره، ودفع إليه الأمان. فقال: ما أدري ما هذا الذي تذكر، ورثث هذا كابراً عن كابر عن آبائي. فلم يزل به حتى أقر. فوفي له وأمنه، وقال: لا يسمع هذا منك أحد. ولما ظهر على الشام، إذ هو بدم يحيى بن زكريا يغلي، فقال: لأقتلن على هذا الدم حتى يسكن، فقتل عليه سبعين ألفاً، فجاء قاتله فقال: إن هذا الدم لا يسكن أبداً حتى تقتلني فأنا قتلته فقتله وسكن الدم، وظهر على الشام وخرب بيت المقدس وحرق التوراة، وجاء معه دانييل وميخائيل وعزير وحزقاييل ودفعهم إلى صاحب مطبخه، ثم ذكر الرؤيا وزاد فيها فيجىء بنيٌ من العرب فيغلب وينقض تلك الأوثان كلها ويكون الدين كله لله.
وقال ابن الكلبي: كان سنمار الرومي من أصنع الناس للبنيان، فبنى لبعض ملوك العرب بنياناً سر به وأعجبه، وخاف إن استبقى سنمار بني بعده مثل ذلك البنيان، لغيره من الملوك، فأمر به فرمى من فوق القصر فمات، فضربت به العرب الأمثال في سوء الجزاء، حتى قال بعضهم:
جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمارٍ وما كان عن ذنب
سوى رصه البنيان سبعين حجة ... يعلى عليه بالقراميد والسكب
فلما رأى البنيان تم سحوقه ... وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب
وظن سنمار به كل حظوةٍ ... وفاز لديه بالمودة والقرب
فقال اقذفوا بالعلج من رأس شاهقٍ ... فذاك لعمر الله من أعظم الخطب
كتب ملك الروم إلى معاوية: إن الملوك لم تزل تراسل بعضهم بعضاً، وتجتهد أن يغرب بعضهم على بعض، أفتأذن في ذلك؟ فأذن له. فوجه إليه رجلين أحدهما طويل والآخر أيد، فقال معاوية لعمرو: أما الطويل فقد أصبنا كفؤاً له وهو قيس بن سعد بن عبادة، وأما الآخر الأيد فقد احتجنا إلى رأيك فيه. فقال: هاهنا رجلان كلاهما إليك بغيض: محمد بن الحنفية، وعبد الله بن الزبير. قال معاوية: الذي هو أقرب إلينا منهما فلما دخل الرجلان وجه إلى قيس ابن سعد فدخل، فلما مثل بين يديه معاوية نزع سراويله فرمى بها إليه فلبسها فبلغت ثندوته، فأطرق مغلوباً. وقيل لقيس في ذلك: لم تبذلت في حضرة معاوية؟ هلا فعلت غير ذلك؟ فقال:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيسٍ والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عاديً نمته ثمود
وإني من القوم اليمانين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود
وبّ جميع الناس أصلي ومنصبي ... وجسم به أعلو الرجال مديد
ثم وجه إلى محمد بن الحنفية، فدخل فخبر بما دعى إليه، فقال: قولوا له: إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني، وإن شاء فليكن القائم وأنا القاعد، فاختار الرومي الجلوس، فأقامته، فانصرف الطويل والأيد مغلوبين.
قلت: أما هذا الخبر فمنكر ليس بصحيح، ولا له أصل لأنه يخالف أخلاق قيس ومحمد، وليس فيه كبير فائدة لمنزلتهما.

باب جامع من المذكرات
مما لم يذكر في الأبواب المتقدمات
كان يقال: المتقون سادة، والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة - يعني في الخير.
قال عبد الله بن عباس رضى الله عنه: حلق القفا مما يزيد في الحفظ.
وقال عبد الله بن عباس أيضاً: حلق الرأس لا يصح في العقوبة، لأن الله عز وجل جعل حلق الرأس نسكاً لمرضاته.
قال عمر بن عبد العزيز: إياكم والمثلة في العقوبة: حز الرأس واللحية.

وقال عبد الله بن عباس: إني لأسمع بالحكم من حكام المسلمين يعدل فأفرح به، ولعلي لا أتحاكم أبداً، وإني لأسمع بالغيث يصيب البلدان فأفرح ومالي فيها سائمة، وإني لآتي على الآية فأود أن الناس يعملون بها، ويعلمون منها ما أعلم.
سأل رجل مطرف بن الشخير عن شيء، فقال: يا ابن أخي لا تحمل سعة الإسلام على ضيق صدرك.
كان يقال: لكل شيءٍ آفة، وآفة العلم النسيان، وآفة العبادة الرياء، وآفة الحياء الضعف، وآفة اللب العجب، وآفة الظرف الصلف، وآفة الجود الشرف، وآفة الجمال التيه، وآفة السؤدد الكبر، وآفة الحلم الذل.
كان يقال: العجب ممن يخاف العقاب ولم يكفن ورجا الثواب ولم يعمل.
قال حارثة بن بدر الغداني:
طربت بقانونٍ وما كنت أطرب ... سفاها وقد جربت فيمن يجرب
وما اليوم إلا مثل أمس الذي مضى ... ومثل الغد الجائي وكل سيذهب
ومن وصايا إبليس، من النوادر أبيات أنس بن إياس يخاطب حارثة بن بدر الغداني هذا:
أحار بن بدرٍ قد وليت ولايةً ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئاً وجدته ... فحظك من ملك العراقين سرق
وباه تميماً بالغني إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق
فإن جميع الناس إما مكذب ... يقول بما يهوى وإما مصدق
يقولون أقوالاً ولا يعرفونها ... فإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
فأجابه حارثة:
جزاك إله الناس خير جزائه ... فقد قلت معروفاً وأوصيت كافيا
أشرت بشيءٍ لو أشرت بغيره ... لألفيتني فيه لذلك عاصيا
امتحن يحيى بن أكثم رجلا أراده للقضاء، فقال: ما تقول في رجلين أنكح كل واحدٍ منهما الآخر أمه، فولد لكل واحد منهما ولد، فما قرابة ما بين الولدين؟ فلم يعرف. فسئل عن ذلك، فقال: كل واحدٍ منهما عم الآخر لأمه.
دخل رجل على عبد الملك بن مروان فقال له: إني تزوجت امرأة وزوجت ابني أمها، ولا غناء بنا عن رفدك، فقال له عبد الملك: إن أخبرتني ما قرابة أولادكما إذا ولدتما، فعلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين! هذا حميد بن بحدل، قد قلدته سيفك ووليته ما وراء بابك، سله عنهما، فإن أصاب لزمني الحرمان، وإن أخطأ اتسع لي العذر. فدعا به فسأله، فقال: يا أمير المؤمنين! إنك ما قدمتني على العلم بالأنساب، ولكن على الطعن بالرماح. أحدهما عم الآخر والآخر خاله.
لو تزوج رجل امرأة، وزوج ابنه ابنتها، ثم ولد لهما، كان أحد المولودين عم الآخر، والآخر ابن أخيه.
كان يقال: ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم؛ الذاهب إلى مائدة لم يدع إليها، وطالب الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين في حديثهما من غير أن يدخلاه فيه، والمستخف بالسلطان، والجالس مجلساً ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمع منه ولا يصغي إليه.
ذكر الخشني عن أبي حاتم عن الأصمعي، قال: تذاكر نفر من الجن عيافة بني أسد، فقالوا: لو نظرنا إلى بعض ذلك فأتوهم، وقالوا: إنا ضلت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا بعض من يقفو لنا أثرها، فقالوا لغليم منهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم ثم ساروا، فلقيهم عقاب كاسر إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام فبكى، فقالوا: ما بالك؟ فقال: كسرت جناحاً ورفعت جناحاً، حلفت بالله صراحاً ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحاً.
قال الخشني: الجناح يؤنث ويذكر.
نذرت امرأة أن تكسو ثوباً غزلته فأتقنته أفضل رجل بالبصرة، فقيل لها: الحسن، فأتت به الحسن فأرسل بها إلى أبي قلابة، فردها أبو قلابة، وقال: إن الناس أصابوا فيك وأخطأت في.
قال أبو عبيد: العارضة كناية عن الندى، فإذا قيل: فلان شديد العارضة فذاك كناية عن سفه الكف بالعطاء. وإذا قيل: فلان يقتصد، فذلك كناية عن البخل. وإذا قيل العامل مستقص، فذلك كناية عن الجور. وأما قولهم في المثل: هذا أجل من الحرش، فإن الأصمعي ذكر في تفسيره ذلك، أن الضب قال لابنه: إذا سمعت صوت الحرش فلا تخرجن، قال: وذلك أنهم يزعمون: أن الحرش تحريك اليد عند حجر الضب ليخرج إذا ظن أنها حية. قال: وسمع ابنه يوماً صوت الحفر، فقال: يا أبت! هذا الحرش؟ فقال: يا بني! هذا أجل من الحرش، فأرسلهما مثلا وأنشد:

وأفطن من ضب إذا خاف حارشاً ... أعد له عند الناس عقربا
وفي المثل: تعلمني بالضب وأنا حرشته.
لأبي البلاد الطهوي، وكان من شياطين العرب:
لهان على جهينة ما ألاقى ... من الروعات يوم رحى بطان
لقيت الغول تسري في ظلامٍ ... بسهبٍ كالعباية صحصحان
فقلت لها: كلانا نقض أرضٍ ... أخو سفرٍ فصدي عن مكاني
فصدت وانتحيت لها بعضبٍ ... حسامٍ غير مؤتشبٍ يماني
فقد سراتها والبرك منها ... فخرت لليدين وللجران
فقالت: زد، فقلت: رويد إني ... على أمثالها ثبت الجنان
شددت عقالها وحططت عنها ... لأنظر غدوةً ماذا دهاني
إذا عينان في وجهٍ قبيحٍ ... كوجه الهر، مشقوق اللسان
ورجلا مخدجٍ ولسان كلبٍ ... وجلدٍ من فراءٍ أو شنان
أما قوله: فقالت: زد. فإنهم يزعمون - فيما ذكر عمرو بن بحر الجاحظ - : إن الغول يستزيد بعد الضربة الأولى، لأنها تموت من ضربة وتعيش من ضربتين إلى ألف، يقول: إذا ضربت ضربة ماتت، إلا أن يعيد عليها الضارب قبل أن تقضي ضربة أخرى، فإنه إن فعل ذلك لم تمت، ولذلك قال شاعرهم:
فثنيت والمقدار يحرس أهله ... فليت يميني قبل ذلك شلت
وهذا عندي من أكاذيب الأعراب، وحماقات عمرو بن بحر ومجونه.
ومن ذلك قول مدرج الريح، وهو عامر المجنون، وإنما قيل له مدرج الريح بشعر قاله في امرأة من الجن، زعم أنه كان يهواها وتتراءى له، فمن شعره يقول:
لابنة الجني في الجو طلل ... دارس الآيات عافٍ كالخلل
درسته الريح من بين صبا ... وجنوبٍ درجت حيناً وطل
وكان مدرج الريح محمقاً، وأما قول عبيد بن أيوب العنبري:
فلله در الغول أي رفيقةٍ ... لصاحب قفرٍ خائفٍ يتقفر
أرنت بلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت ... حوالي نيراناً تبوخ وتزهر
فإن العرب تذكر أن الغيلان توقد النيران بالليل للعب والتخييل وإضلال أبناء السبيل.
قلت: والدليل على أن الشياطين تضل الناس في الطريق، وتحيدهم عن سبيلهم، قوله الله تعالى: " كالذي استهوتهُ الشياطينُ في الأرض حيرانَ " ومن الدليل على صحة الغيلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشده كعب بن زهير قصيدته اللامية التي يقول فيها:
كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلاً ... وما مواعيده إلا الأباطيل
فما تدوم على حالٍ تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول
فلم ينكره.
قال أبو عمر: وكان عبيد بن أيوب هذا جوالا في مجهول الأرض، فلما اشتد خوفه وطال تردده، أمعن في الهرب، فقال:
لقد خفت حتى لو تمر حمامة ... لقلت عدو أو طليعة معشر
فإن قيل: أمن قلت: هذي خديعة ... وإن قيل: خوف قلت حق فشمر
وخفت خليلي ذا الصفاء ورابني ... وقيل فلان أو فلانة فاحذر
فلله در الغول أي رفيقةٍ ... لصاحب قفرٍ خائفٍ متنفر
في أبيات كثيرة، وأما قول أمية بن أبي الصلت:
والحية الذكر الرقشاء أخرجها ... من جحرها أمنات الله والقسم
إذا دعا باسمها الإنسان أو سمعت ... ذات الإله أتت في مشيها رزم
من خلفها حمة لولا الذي سمعت ... قد كان بيتها في جحرها الحمم
ناب حديد وكف غير وادعةٍ ... والخلق مختلف واللون والشيم
إذا دعين بأسماءٍ أجبن لها ... لنافثٍ يفتديه الله والكلم
لولا مخافة لابً كان عذبها ... عرجاء تظلع في أنيابها عسم
وقد بلته فذاقت بعض مصدقه ... فليس في سمعها من رهبةٍ صمم
فكيف يأمنها أم كيف تألفه ... وليس بينهما قربى ولا رحم
فإنه يقول: إنها خرجت لاستحلافه إياها، لا لرحمٍ بينها ولا نسب، وقد أوضحنا في كتاب " التمهيد " أن من الحيات صنفان من الجن، وأن منهم من أسلم، فغير نكير أن يخضع لذكر الله وأسمائه.

ومن عجائب الدنيا، صنم قادس في غرب الأندلس على البحر من كورة شذونة، وقد ذكره الأوائل، ونقل أهل الأخبار خبره، ومن أحسن ما قيل في وصفه من النظم ما أنشده غير واحد لأبي عثمان الشذوني العروضي، يخاطب بعض قواد شذونة، إذ أدخله إليه فرآه على قرب في تلك الجزيرة، فقال:
يا سيدا أبصرت عيني به عجباً ... فما أبالي يقول الناس عن رهبي
لله ما أبصرته في شذونة من ... عجائب كنت في إبصارها سببا
آثار مملكةٍ دلت على ملكٍ ... أذل بالملك أعناق الورى حقبا
وأسودٍ واقفٍ في رأس صومعةٍ ... كأنه فوقها بالروح قد صلبا
مقدماً رجله اليمنى ليرفعها ... كأنه يشتكي من طول ما تعبا
يمد يمناه بالمفتاح تحسبه ... مناولا غيره عجلان مكتئبا
وصكه في اليد اليسرى قد انقبضت ... كأنه ساتر عنا لما كتبا
يومي إلى البحر نحو الغرب وجهته ... مستقبلاً لغروب الشمس منتصبا
لابد والله من قفلٍ سيفتحه ... مفتاحه بعد الميقات أو قربا
وسائلٍ لي عما ضل جوهره ... والذهن في فك معناه قد انتشبا
أجبته إن في أخباره عجباً ... فلا تسل عنه صفراً كان أو ذهبا
قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: ما خلق الله خلقاً أشر من الخزر، ما بعث منهم نبي ولا صديق.
قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه لابنه الحسن: يا بني! كم بين الإيمان واليقين؟ قال: أربع أصابع. قال: وكيف؟ قال: الإيمان ما سمعناه بآذاننا وصدقناه بقلوبنا، واليقين ما رأيناه بأعيننا فتيقنا، وبين السمع والبصر أربع أصابع. قال: أشهد أنك ابن رسول الله.
قال الحكماء: شيئان أعيت الحكماء الحيلة فيهما، إذا أقبل الأمر أعيت الحيلة فيه أن يدبر، وإذا أدبر أعيت الحيلة فيه أن يقبل.
قال خالد بن صفوان: احترس من العين فو الله لهي أنم من اللسان.
كان يقال: من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك.
كان يقال: مثلت الدنيا بطائر، فالبصرة ومصر جناحان، والشام والعراق والجزيرة وما والاها الجوف، واليمن الذنب.
تقول العرب: مضر رحاها خندف، وهامتها تميم، وفرسانها قيس، وأئمتها كنانة، ولسانها أسد.
قال الخشني: لا تكرم ولا تعظم إلا من يرجى خيره، أو يخاف شره، أو يقتبس من علمه، أو من بركة دعائه.
خطب أرسطو طاليس يوماً فأطال، وعنده شاب مطرق، فقال له: مالك لا تتكلم؟ قال: إن الله خلق الإنسان أذنين اثنين ولساناً واحداً ليسمع أكثر مما يقول.
من أمثال العرب: من يجمع بين الأروى والنعام! لأن الأروى لا تسهل، وإنما تسكن الجبال، والنعام يسكن السهل، ولا ترقى الجبال.
ومن قولهم: بيضة البلد؛ فمدح وذم، فمن المدح قول علي رضى الله عنه: أنا بيضة الإسلام، ومن المدح قول حسان:
وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
يعني نفسه. وأما الذم فقول الراعي في عدي بن الرقاع:
لو كنت من أحدٍ يهجي هجوتكم ... يا ابن الرقاع ولكن لست من أحد
تأبى قضاعة أن تدري لكم نسباً ... وابنا نزارٍ فأنتم بيضة البلد
ابنا نزارٍ: ربيعة ومضر.
قال قبيصة بن جابر الأسدي، يوم صفين:
قد حافظت في حربها بنو أسد ... ما مثلها تحت العجاج من أحد
لسنا بأوباشٍ ولا بيض البلد قيل للأموية: أي شيءٍ أحسن؟ قالت: القصور والبيض في الحدائق الخضر.
قال أبو لبيد الرياحي: سألت شيخاً لنا: أي شيء أحسن؟ قال: بيضة في روضة.
تقول العرب: لا شيء أظل من حجر، ولا أفيأ من شجر.
قال الشاعر:
إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات
وقال آخر:
فلا تجزعن على أيكةٍ ... أبت أن تظلك أغصانها
وقال آخر، هو الحسن بن هانئ:
لا أذود الطير عن شجرٍ ... قد بلوت المر من ثمره
كلم الحجاج امرأة من الخوارج، وهي معرضة عنه، فقيل لها: يكلمك الأمير وأنت معرضة عنه؟ فقالت: إني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه.
قال رجل من بني كلاب من الخوارج، يخاطب معاوية بن أبي سفيان رحمه الله:

قد سرت سير كليب في عشيرته ... لو كان فيهم غلام مثل جساس
الطاعن الطعنة النجلاء عاندها ... كطرة البرد أعيا فتقها الآسى
قال عمر بن الخطاب: ما أبالي على أي حال أصبحت؟ أعلى ما أحب أم على ما أكره، لأني لا أدري فيم الخيرة، أفيما أحب أم فيما أكره. وما أبالي إذا استخرت الله في الأمر أكان أو لم يكن.
وأما قول الشاعر:
طلب الأبلق العقوق فلما ... لم ينله أراد بيض الأنوق
فالأبلق لا يكون عقوقاً أبداً، يقال: أعقت الدابة إذا عظم بطنها للحمل، والذكر لا يكون عقوقاً، والأنوق الرخم لا يكاد يرى بيضة ولا يوجد لأنه في صدوع الصخر من الجبال الشامخة، ولا منفعة فيه، ولا يصاب إلا بمشقة ونيل مكروه.
وأما الزجر بالغراب عندهم فلاشتقاق اسمه من الغربة والاغتراب، ومنه أخذ الغريب. وقيل له: حاتم بن بحير لهذا، ويشتقون من الصرد: التصريد والصرد، والصرد هو البرد، قال الشاعر:
دعا صرد يوماً على غصن شوحطٍ ... وصاح بذات البين فيها غرابها
فقلت: أتصريد وشحط وغربة ... فهذا لعمري نأيها واغترابها
وقال آخر:
تغني الطائران ببين سلمى ... على غصنين من غرب وبان
فكان البين أن بانت سليمى ... وبالغرب اغتراب غير دان
وقال سلامة بن جندل:
ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لابد مشئوم
وقال آخر:
ولست أبالي حين أغدو مسافراً ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب
وقد أوضحنا هذا المعنى بالآثار المرفوعة، والأخبار والأشعار في كتاب " التمهيد " ، والحمد الله تعالى.

باب من منثور الحكم والأمثال
منتقى من نتائج عقول الرجال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة " .
خير المقال ما صدقه الفعال.
رأس الدين صحة اليقين.
كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم.
من الفساد إضاعة الزاد.
امحض أخاك النصيحة، وإن كانت عنده قبيحة.
التجارب ليس لها غاية، والعاقل يستزيد منها إلى غير نهاية.
من بذل لك مودته، أجزل لك عطيته.
الأحمق لا يبالي ما قال، والعاقل يتعاهد المقال.
من غلب عليه العجب، ترك مشورة الرجال.
جانب مودة الحسود، وإن زعم أنه ودود.
إذا جهل عليك الأحمق، فالبس له سلاح الرفق.
من طلب إلى لئيمٍ حاجةً، فهو كمن طلب صيد السمك في المفاوز.
مؤمل النفع من اللئام، كزارع السمسم في الحمام.
إذا صادقت الوزير، لم تخف الأمير.
لا تثق بالأمير إذا خانك الوزير.
من كان السلطان يطلبه، ضاق عليه بلده.
الزائر لمن يستثقله مذل لنفسه.
صديقي درهمي، إذا سرحته فرج همي وقضى حاجتي.
من جالس عدوه فليحترس من منطقه.
من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه.
من عرف من نفسه الكذب، لم يصدق الصادق.
كثرة الذنوب مفسدة للقلوب.
من بذل لك نصحه، فاحتمل غضبه.
من بذل لك ماله، فاصبر على ما يأتي منه.
لن يذهب من مالك ما وعظك.
من قل خيره على أهله، فلا ترج خيره.
قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها.
الإكثار من الملامة يولد القطيعة.
صاحب الزلل موكل به الندم.
الشجاعة لمن كانت له الدولة.
لا ترسل الكسلان في حاجتك فيتكاهن عليك.
عناء في غير منفعة خسارة حاضرة.
من ألح في المسألة على غير الله، استحق الحرمان.
صحبة الفاسق شين، وصحبة الفاضل زين.
من أكثر الكلام على المائدة غش بطنه، واستثقله إخوانه.
الكريم يواسي إخوانه في دولته.
من حفظ سره ركب أمره.
من جرى في ميدان أمله، عثر في عنان أجله.
من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك.
من لم تقدر على مكافأته، فانصح له.
من لم يصبر على البلاء، لم يرض بالقضاء.
من استهوته الخمر والنساء، أسرع إليه البلاء.
إذا احترق الفؤاد، ذهب الرقاد.
من تسلط على الناس بغير سلطان، لم يسلم ممن الهوان.
الغريب الناصح خير من القريب الغاش.
من نسى إخوانه في الولاية، أسلموه في العزل والشدة.
من لم ينلك البر في حياته، لم تبك عيناك على وفاته.
من لم يقنع برزقه، عذب نفسه.
من اجترأ على السلطان، تعرض للهوان.
إذا لم يواتك البازي في صيده، فاتنف ريشه.
الهم ظلمة جلاؤها الفرج.

فقد الصبر، أعظم مصائب الدهر.
ساعات السرور جالبة للمحذور.
فكر في المعاد، تنس أمور العباد.
الصعود إلى السماء، أيسر من صرف القضاء.
من مدحك بما لا يعلم منك جهراً، ذمك بما لا يعلم منك سرا.
أمسك لسانك يسلم جنانك.
الحجة تدعو إلى المذهب الصحيح، والشبهة تدعو إلى المذهب الفاسد.
إن قدرت ألا تسمع أذنك سرك فافعل؛ فإن الدهر إذا عرف لذة كذرها.
لقاء الأحبة مسلاة للهموم.
حسن التدبير مع الكفاف، خير من التبذير مع الإيسار.
أشد الأشياء تأييداً للعقل مشاورة العلماء، والأناة في الأمور، والاعتبار بالتجارب. وأشدها إضراراً بالعقل الاستبداد والتهاون والعجلة.
أصعب من السلو التذلل للعدو قليل مهنً، خير من كثير مكدر.
كلب شاكر، خير من صاحبٍ غادر.
روضة العلم أزين من روضة الرياحين.
الكتاب مفيد علم من سلف، باقٍ لمن خلف.
القلم لسان الغائب.
رب خيرٍ جديد ألذ من مالٍ عتيد.
السلام وحسن البشر، ربما زرعا المودة في القلوب.
الحسود مغتاظ على من لا ذنب له عنده.
المرأة العفيفة الجميلة المواتية جنة الدنيا.
موت الولد العاق والزوجة المهارشة نعمة سابغة.
في الوجوه تظهر المودات.
القلوب تجازي، وبضميرك تستدل.
من الآفات كثرة الالتفات.
ومن كلام أكثر بن صيفي: مع كل حبرة عبرة، مع كل فرحة ترحة.
لا جماعة لمن اختلف عليه.
الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والإفراط في الأنس مكسبة لقرناء السوء.
رب عجلة تعقب ريثاً.
العجز والتواني سبب الفاقة.
من مأمنه يؤتى الحذر.
اسع بجدً أو فذر.
جدك لا كدك.
ستساق إلى ما أنت لاق.
من جهل شيئاً عاداه، ومن أحب شيئاً استعبده.
ويل عالم من امرىءٍ جاهل.
إن قدرت أن ترى عدوك أنك صديقه فافعل.
كم بين روعة الفراق، وفرح التلاق.
من أشد العذاب فرقه الأحباب.
احذر من وترته وإن أحسنت إليه.
سوقي نفيس، خير من قرشي خسيس.
العقل كالزجاج إن يصدع لم يرقع.
موت مريح خير من فقرٍ صريح.
خير القريض والكلام ما إذا فرغ منشده وقائله، أحب إعادته سامعه.
إذا لم تقبل الحجة منك فالسكوت أولى بك.
من وعظه اليسير استغنى عن الكثير.
إذا جاء القدر عمى البصر.
إذا جاء الحين غطى العين.
إن غلبت على القول لم تغلب على السكوت.
في الإنصاف للعلماء زيادة، وفي الإنصاف للجهال سلامة.
من نظر أبصر، ومن فكر اعتبر.
العيال سوس المال.
حسبك من المال ما نفعك، ومن الدين ما ورعك.
لا ينطق لسانك إلا على ما يتسع به بنانك.
من حكم فليعدل، ومن قضى فليفصل.
إذا صدق العيان لم يحتج إلى برهان.
إذا خان البرهان فزعت إلى العيال.
شفاء الصدور في التسليم للمقدور.
شدة الحاجة ربما بعثت الحيلة.
ويح ابن آدم كيف ينهي ولا يرعوي، أم كيف يأمر ولا ينتهي.
الكذب عار وربما نفع.
الحلف لؤم، وربما افتقر إليه.
العذر قبيح، وربما حسن.
البخل مذموم وربما حمد.
لا شيء تراه العين، أحلى من اجتماع إلفين.
حفظك ما في يدك خير من طلبك ما في يد غيرك.
من التواني ما يكون سبباً للحرمان.
من حلم ساد، ومن تعلم ازداد.
العجب من ورثة الموتى، كيف لا يزهدون في الدنيا؟!.
من أيقن بالأجر، رغب في الصبر.
الإفراط في العتاب، يدعو إلى الاجتناب.
من نم عندك، نم بك.
من سعى إليك سعى عليك.
رب أخ لك لم تجمعك به ولادة.
لا يرتفع الرجل فوق قدره إلا لذلً يجده في نفسه.
مدح الغائب تعريض بالحاضر.
أخر الشر إذا شئت تعجيله.
ما أحق من غدر بألا يوفى له.
الحق أبلج، والباطل لجلج.
الخط صورة فأحسنها أبينها.
ذم الإنسان لنفسه في الملاء، مدح منه لها في الخلاء.
بطن جائع خير من ظلم شائع.
الثقيل عذاب وبيل.
رب بزة ظاهرة، تحتها خلة باطنة.
علم الرجل، ابنه الباقي بعده.
من عالته امرأة، لم يفقد ذلا.
شهود الزور كلاب القبور.
العيان رائد الاستحسان.
الاشتياق يذهب بالعناق.
ليس بالتحفظ في الأمور يسلم من المقدور.
من تردى بثوب السخاء غاب عن الناس عيبه.
من يفرغ للشر يطلبه، أتيح له من يغلبه.
من أمل أحداً هابه، ومن لم يدرك الشيء عابه.
لا يضر السحاب نباح الكلاب.
قال حسان:
ما أبالي أنب بالحزن تيسٌ ... أم لحاني بظهر غيب لئيمُ
وقال الأخطل:

ما ضر تغلب وائلٍ أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران
وقال آخر:
ما يضر البحر أمسى زاخراً ... أن رمى فيه غلام بحجر
وقال جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع
وقال آخر:
تهددني لتقتلني نمير ... متى قتلت نمير من هجاها

باب من نوادر الفلاسفة مختصرة
قيل لأرسطو طاليس: ما الفلسفة؟ قال: فقر وصبر، وعفاف وكفاف، وهمة وفكرة.
قيل لسقراط: بم فضلت أهل زمانك؟ قال: لأن غرضي في الأكل الحياة، وغرضهم في الحياة أن يأكلوا.
قيل لسقراط: ما أتعب فلاناً بخضاب لحيته؟ فقال: لخوف المطالبة بالحكمة، ولا تطلب إلا من المشايخ.
قال بقراط: أعظم آفة الحيوان الصامت من صممته، وأعظم آفة الحيوان الناطق من نطقه.
قيل لجالينوس: بم فقت أصحابك في علم الطب؟ فقال: لأني أنفقت في زيت السراج لدرس الكتب مثل ما أنفقوا في شرب الخمر.
كتب فيلسوف إلى طبيب: صناعتي أقرب الصناعات من صناعتك؛ لأنك تصلح الأبدان وأنا أصلح النفوس.
قيل لفيلسوف: أين بلغت بك الحكمة؟ قال: إلى الوقوف على القصور عنها.
قال أنوشروان لبزر جمهر: من أدبك؟ قال: قريحتيٍ، نظرت إلى ما استحسنت من غيري فاستعملته، وما استقبحته اجتنبته، ولقد تفقدت من كل شيء محاسنه، فأخذت من الخنزير قناعته، ومن الكلب محافظته، ومن القرد مساعدته، ومن الحمار صبره، ومن الغراب بكوره، ومن السنور لطافة المسألة عند الخوان.
قيل لرجل من الحكماء: لمن أنت أرحم؟ قال: لعالمٍ جاز عليه حكم جاهل.
وقيل له: متى يكون البليغ عييا، والعيُّ بليغاً؟ فقال: إذا وصف حبيباً، وإذا احتج البليغ على محبوب.
قيل للإسكندر: رأيناك تعظم معلمك، أكثر من تعظيمك لأبيك؟ فقال: لأن أبي سبب موتى، ومعلمي سبب حياتي.
نظر حكيم إلى قوم يرمون ولا يصيبون ويسبون الرمى، فجلس في الهدف إلى الغرض، فقيل له: جلست هناك! قال: لأني لم أر موضعا أوقى من هذا.
قيل لبعض الحكماء: متى أثرت فيك الحكمة؟ قال: مذ بدا لي عيب نفسي.
رأى أفلاطون رجلاً معجباً بنفسه، فقال: وددت أن أعدائي مثلك في الحقيقة، وأنا مثلك في ظنك.
كان رجل مصوراً فترك التصوير وتتطبب، فقيل له في ذلك، فقال: الخطأ في التصوير تدركه العيون، وخطأ الطبيب تواريه القبور.
سعى إلى الإسكندر بعض رجاله برجل من أصحابه فقال له: أتحب أن أقبل قولك فيه، على أن أقبل قوله فيك؟ قال: لا. قال: فكف إذاً عن الشر ليكف الشر عنك.
قال الإسكندر لجلسائه: ينبغي للرجل أن يستحي من أن يأتي قبيحاً في منزله من أهله؛ وفي غير منزله ممن يلقاه.
أتى الإسكندر يوماً جاسوس يخبره عن عسكر دارا الفارسي، وأخبره أن فيه خلقاً كثيراً، فقال له: إن الذئب وإن كان واحداً لا تهو له كثرة الغنم.
كان في أصحاب الإسكندر رجل يسمى الإسكندر لا يزال ينهزم في الحرب، فقال له: إما غيرت اسمك، وإما غيرت فعلك.
قيل للإسكندر: قد بسط الله لك في الملك، فأكثر من النساء ليكثر ولدك ونسلك، فقال لا يصح لمن غلب الرجال أن تغلب عليه النساء.
سأل الإسكندر رجلان من خاصته أن يحكم بينهما، فقال: الحكم يرضي أحدكما ويسخط الآخر، فاستعملا الحق ليرضيكما جميعاً.
وقال له أصحابه: قد بسط الله ملكك وعظم سلطانك، فبأي الأشياء أنت أسر: بما نلت من أعدائك، أم بما بلغت من سلطانك؟ قال: كلاهما يسير، وأعظم ما أسر به ما سننت في الرعية من السنن الجميلة والشرائع الحسنة.
قال الإسكندر: ينبغي للرجل إذا صافى مصافياً أن يتوقى مباشرته، ولا يسترسل إليه فيما يشينه.
قال بعض الحكماء لتلاميذه: استعملوا الكذب عند الضرورة كما تستعملون الدواء.
ولما مات الإسكندر قال نادبه: حركنا الإسكندر بسكونه.
أخذه أبو العتاهية فقال:
يا علي بن ثابتٍِ بان مني ... صاحب جل فقده يوم بنتا
قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا
قال الموبذ بوم مات قباذ: كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس.
أخذ أبو العتاهية هذا المعني، فقال:
وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا

يقال: إن الإسكندر مات وكان عمره ستاً وثلاثين سنة، هذا قول الفرس ومنهم من يقول: كان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وفي قول الفرس: إنه ملك أربع عشرة سنة. وأن قتله لدارا كان في السنة الثالثة من ملكه، وزعم الروم أن ملكه كان ثلاثاً وعشرين سنة وأنه مات وعمره ثلاث وأربعون سنة وهم أعلم به، وزعموا أنه مات بشهرزور، وأنه حمل إلى الإسكندرية ودفن بها، وأقامت عليه النوائح شهوراً. وقيل: بل مات بالإسكندرية.
قال بعض الحكماء: لا تغترن بحسن الكلام وطيبه إذا كان الغرض المقصود منه ضاراً؛ فإن الذين يخدعون الناس إنما يخلطون السم بالحلو من الأطعمة والأشربة، ولا يصعبن عليك الكلام الغليظ، إذا كان الغرض المقصود إليه نافعاً؛ فإن أكثر الأدوية الجالبة للصحة مرة مستبشعة.
قيل لبعض الحكماء: أي شيءٍ أنفع الأشياء؟ قال: الاعتدال. قيل: وما الاعتدال؟ قال: هو الشيء الذي الزيادة فيه والنقص منه ضرر.
يروى أن المسيح عليه السلام قال: أمر لا تعلم متى يغشاك، ينبغي أن تستعد له قبل أن يفجأك.

باب الرياء
جاء رجل إلى البني صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أحب الجهاد في سبيل الله، وأحب أن يرى مكاني وموضعي، وإني أتصدق وأعمل العمل وأحب أن يراه الناس. فأنزل الله عز وجل: " فمنْ كان يرجو لقاءَ ربهِ فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادةِ ربهِ أحداً " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من راءى بعمله، راءى الله به، ومن سمع بعمله سمع الله به بين خلقه وحقره وصغره " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فهو إلى غيري، ليس لي منه شيء، وأنا منه برئ " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة، يوم يجازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون فيهم خيراً " .
وروى في الحديث المرفوع: " الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل " .
روى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، قال: إن الملك ليصعد بعمل العبد مستفتحاً به، حتى إذا انتهى إلى ربه قال: اجعلوه في سجين، إني لم أرد بهذا. قال الأوزاعي: فما ظنك بما قد خفي عن الملك.
وروى عن النبي عليه السلام أنه قال: " أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية، حبك أن تحمد بما لم تفعل " وقيل: بما عملت من الخير. والأول أجود. لأنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: يا رسول الله! أني أعمل العمل أريد به وجه الله، ثم يبلغني أن الناس يتحدثون به فيسرني. قال: " ذلك عاجل بشري المؤمن " .
قال الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
لهونا عن الأعمال حتى تتابع ... علينا ذنوب بعدهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ... ويأذن لي في توبةٍ فأتوب
وقال آخر:
كم من مصل لا يطي ... ل صلاته لسوى الطمع
متلهيا إما خلا ... وإذا بصرت به ركع
يدعو وجل دعائه: ... ما للفريسة لا تقع
وقال الغزال:
ومراء أخذ النا ... س بسمتٍ وقطوب
وخشوع يشبه السق ... م وضعف في الدبيب
قلت: هل تألم شيئاً ... قال أثقال الذنوب
قلت: لا تعن بشيءٍ ... أنت في قالب ذيب
إنما تنبي عن الوث ... بة في حال الوثوب
ليس من يخفى عليه ... منك هذا بلبيب
قال محمود الوراق:
أيها المغرور مهلا ... فلقد أوتيت جهلا
كم إلى كم تحسن القو ... ل ولا تحسن فعلا
ظاهر يجعل والباطن لا ... يخفى على ربك كلا
وقال محمود الوراق:
تصنع كي يقال له أمين ... وما يغني التصنع للأمانة
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانة
باب في الشيب ومدحه

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة " .
قال جعفر الخواص: رأيت يحيى بن أكثم في النوم، فقلت ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه فسألني وناقشني، وقال: يا شيخ السوء! لولا شيبتك لأدخلتك النار - رددها ثلاثاً - فقلت: يا رب! ما هكذا حدثني عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري عن أنس، عن نبيك، عن جبريل، عنك. قال: وما هو؟ قلت: " حدث أنه من شاب شيبةً في الإسلام لم تحرقه بالنار " ، فقال الله عز وجل: " صدق عبد الرزاق، وصدق معمر، وصدق الزهري، وصدق أنس، وصدق نبي، وصدق جبريل؟ انطلقوا به إلى الجنة " .
وقال أبو موسى الزمن: رأيت أبا الوليد الطيالسي في النوم فقلت: يا أبا الوليد، أليس قدمت؟ قال: بلى. قلت: فما فعل الله بك. قال: غفر لي ورحمني وطيبني بيده، وقال: هكذا أفعل بأبناء الخمسين والسبعين.
وممن مدح الشيب من الشعراء الفرزدق، حيث يقول:
تفاريق شيب في السواد لوامع ... وما خير ليلٍ ليس فيه نجوم
وقال أبو هفان:
تعجبت هند من شيبي فقلت لها ... لا تعجبي فبياض الصبح في السدف
وزادها عجباً أن رحت في سملٍ ... وما درت هند أن الدر في الصدف
وقال دعبل:
أهلاً وسهلاً بالمشيب فإنه ... سمة العفيف وحلية المتحرج
وكأن شيبي نظم درً زاهرٍ ... في تاج ذي ملكٍ أغر متوج
وقال أيضاً:
أحب الشيب لما قيل ضيف ... لحبي للصيوف النازلينا
لمحمد بن عبد الملك الزيات:
وعائبٍ عابني بشيبي ... لم يعد لما ألم وقته
فقلت غذ عابني بشيبي ... يا عائب الشيب لا بلغته
وقال آخر:
لا يرعك المشيب يا بنة عبد الله ... فالشيب جلة ووقار
إنما تحسن الرياض إذا ما ... ضحكت في خلالها الأنوار
ولأبي الفتح البستي:
ما استقامت قناة رأيي إلا ... بعدما عوج المشيب قناتي
ولدعبل بن علي:
تعجبت أن رأت شيبي فقلت لها: ... لا تعجبي من يطل عمر به يشب
شيب الرجال لهم زين وتكرمة ... وشيبكن لكن الويل فاكتئبي
فينا لكن وإن شيب بدا أرب ... وليس فيكن بعد الشيب من أرب
وقال أبو الحسن علي بن محمد السهواجي، وسهواج بلدة من أعمال مصر:
ومما زاد في طول اكتئابي ... طلائع شيبتين ألمتابي
فأما شيبة ففزعت منها ... إلى المقراض من حب التصابي
وأما أختها فكففت عنها ... لتشهد بالبراء من الخضاب
فيا عجباً لذلك من مشيبٍ ... أقمت به الدليل على الشباب
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وأقلهم من تجاوز ذلك " . قال أبو هريرة: وأنا من أقلهم، وقاله أبو سلمة ومحمد بن عمرو.
ومن حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من تعظيم خلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم " .
رأى إياس بن قتادة شعرةً بيضاء في لحيته، فقال: أرى الموت يطلبني، وأراني لا أفوته، أعوذ بك يا رب من فجأة الموت. يا بني سعد! قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبي.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " خير شبابكم من تشبه بكهولكم، وشر كهولكم من تشبه بشبابكم " . من حديث أنس.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن الله عز وجل ليكرم أبناء السبعين ويستحي من أبناء الثمانين أن يعذبهم " .

باب في خضاب الشيب ونتفه
قال محمود الوراق:
إذا ما الشيب جار على الشباب ... فعاجله وغالط في الحساب
وقل لا مرحباً بك من نزيلٍ ... وعذبه بأنواع العذاب
بنتفٍ أو بقص كل يومٍ ... وأحياناً بمكروه الخضاب
فإن هو لم يحر وأتى لوقته ... فقل في رحب دار واقتراب
ولا تعرض له إلا بخيرٍ ... وإن عدي على شرخ الشباب
وخذ للشيب أهبته وبادر ... وخل عنان رحلك للذهاب

فقد جد الرحيل وأنت ممن ... يسير على مقدمة الركاب
وقال محمود الوراق:
وذي حيلةٍ في الشيب ظل يحوطه ... فيخضبه طوراً وطوراً ينتف
وما لطفت للشيب حيلة عالمٍ ... على الدهر إلا حيلة الشيب ألطف
وقال محمود أيضاً:
اشتعل الشيب فأفنيته ... وكل مقراضي فأعتقته
كنت إذا استقصيت قصي له ... وقلت في نفسي أفنيته
عارضني من جانبٍ آخرٍ ... كأنني قد كنت زملته
الشيب ما ليست له حيلة ... أعياني الشيب فخليته
وله أيضاً:
يا خاضب الشيبة نح فقدها ... فإنما تدرجها في كفن
أما تراها منذ عاينتها ... تزيد في الرأس بنقص البدن
أنشدني بعض شيوخي لابن محاسن في الخضاب:
يا من يغير شببه بخضابه ... ليكون عند الغانيات وجيها
هبك المشيب أحلته عن حاله ... فغضون وجهك كيف تصنع فيها
هيهات توهمها بأنك تربها ... فإذا خلت بك كنت صنو أبيها
ولمنصور الفقيه:
هبني سترت مشيبي ... تستراً عن حبيبي
فهل أروح وأغدو ... إلا بوجه مريبٍ
وقال آخر:
صبغت الرأس ختلاً للغواني ... كما غطى على الريب المريب
أعلل مرةً وأساء أخرى ... ولا تحصى على الكبر العيوب
يقوم بالثقاف العود لدناً ... ولا يتقوم العود الصليب
وقال آخر:
فما منك الشباب ولست منه ... إذا سألتك لحيتك الخضابا
ولابن المعتز:
ماذا تريدين من جهلي وقد سلفت ... سنو شبابي وهذا الشيب قد وخطا
أروح للشعرة البيضاء ملتقطاً ... فيصبح الشيب للسوداء ملتقطا
وقد مدح ابن المعتز الخضاب فقال:
وقالوا: النصول مشيب جديد ... فقلت: الخضاب شباب جديد
إساءة هذا بإحسان ذا ... فإن عاد هذا فهذا يعود
ولمحمود الوراق:
أتفرح أن ترى حسن الخضاب ... وقد واريت بعضك في التراب
ألم تعلم وفرط الجهل أولىبمثلك أنه كفن الشباب
لقد ألزمت لهزمتيك هوناً ... وذلا لم يكن لك في الحساب
أحين رمى سواد الرأس شيب ... فغيره فزعت إلى الخضاب
فكنت كمن أطل على عذابٍ ... ففر من العذاب إلى العذاب
تهي لنقلة لابد منها ... فقد أثبت رجلك في الركاب
وقال آخر:
يا أيها الرجل المسود شيبه ... كيما يعد به من الشبان
أقصر فلو سودت كل حمامةٍ ... بيضاء ما عدت من الغربان
وقال ابن الرومي:
رأيت خضاب المرء عند مشيبه ... حداداً على شرخ الشبيبة يلبس
وإلا فما يغني الفتى من خضابه ... أيطمع أن يخفي شباب مدلس
فكيف بأن يخفي المشيب لخاضب ... وكل ثلاثٍ صبحه يتنفس
وهبه يواري شيبه أين ماؤه ... وأين أديم للشبيبة أملس
وقال محمود الوراق:
طويت عوار الشيب من فرطٍ قبحه ... بأقبح منه فافتضحت وما انطوى
وأصبحت مرتاداً لنفسك ضلةً ... وقبلك ما أعيا الفلاسفة الألى
وله أيضاً، ويروي لغيره:
يا خاضب الشيب الذي ... في كل ثالثةٍ يعود
إن النصول إذا بدا ... فكأنه شيب جديد
هذي بديهة روعةٍ ... مكروهها أبداً عتيد
فدع المشيب لما أرا ... د فلن يعود كما تريد
كان عقبة بن عامر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب بالسواد، ويتمثل:
اسود أعلاها وتأبى أصولها ... فياليت ما يسود منها هو الأصل
وقال آخر:
نصول الشيب طوقني بطوق ... يلوح على من تحت السواد
إذا أبصرته فكأن وخزاً ... بأطراف الأسنة في فؤادي

باب جامع مختصر في الشيب والبكاء
على فقد الشباب
قال منصور النمري:

ما واجه الشيب من عين وإن ومقت ... إلا لها نبوة عنه ومرتدع
أبكي شباباً سلبناه وكان وما ... توفي بقيمته الدنيا ولا تسع
قد كدت تقضي على فوت الشباب أسًى ... لولا يعزيك أن العيش منقطع
ما كدت أوفي شبابي كنه عزته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
قال المبرد: هذا من الشعر البديع في معناه، الذي ليس لأحد من المحدثين مثله، وقد أخذه الباهلي في قوله:
اذهب إليك فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيومٍ واحدٍ بدل
قال الفرزدق:
وتقول كيف يميل مثلك للصبا ... وعليك من سمة الكبير عذار
والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
وقال الأخطل:
هل الشباب الذي قد فات مردود ... أم هل دواء يرد الشيب موجود
لن يرجع الشيب شباناً ولن يجدوا ... عدل الشباب له ما أورق العود
وقال أيضاً:
لقد لبست لهذا الدهر أعصره ... حتى تخلل رأسي الشيب واشتعلا
وبان مني شبابي بعد لذته ... كأنما ضيفا نازلا رحلا
وقال منصور الفقيه:
من شاب قد مات وهو حي ... يمشي على الأرض مشي هالك
لو أن عمر الفتى حساب ... كان له شيبه فذلك
وقال محمود الوراق:
مني السلام على الدنيا وبهجتها ... فقد نعاها إلى الشيب والكبر
لم يبق لي لذة إلا التعجب من ... صرف الزمان وما يأتي به القدر
إحدى وسبعون لو مرت على حجر ... لكان من حكمه أن يفلق الحجر
وقال نفطويه:
شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى بؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحباب
وقال آخر:
كان الشباب رداءً قد بهجت به ... فقد تطاول فيه للبلى خرق
وبان منشمراً عني ومنقبضاً ... كالليلِ ينهض في أعجازه الفلق
وقال يوسف بن هارون:
نظرت إلى بعين من لم يعدل ... لما تمكن طرفها من مقتلي
فجعلت أطلب وصلها بتلطفٍ ... والشيب يغمزها بألا تفعلي
وقال محمود الوراق:
أمن بعد ستين تبكي الطلولا ... وتندب رسماً وانياً محيلا
وقد نجم الشيب في عارضيك ... وجر على مفرقك الذيولا
وله أيضاً:
أليس عجيباً بأن الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه
فمن بين باكٍ له موجع ... وبين معزٍ معذٍ إليه
ويسلبه الشيب شرخ الشباب ... وليس يعزيه خلق عليه
وقال سهل الوراق:
أرى الشيب مذ جاوزت خمسين حجةً ... يدب دبيب الصبح في غسق الظلم
هو السقم إلا أنه غير مؤلمٍ ... ولم أر مثل الشيب سقماً بلا ألم
وقال آخر:
والشيب أعظم جرماً عند غانيةٍ ... من ابن ملجم عند الفاطميينا
وقال علي بن جبلة:
جلال مشيبٍ نزل ... وأنس شبابٍ رحل
طوى صاحب صاحباً ... كذاك اختلاف الدول
أعاذلتي أقصري ... كفي بالمشيب العذل
جلال ولكنه ... تحاماه حور المقل
وقال ابن مقبل:
قالت سليمى وقد كانت على مقةٍ ... لا خير في المرء بعد الشيب والكبر
قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: للموت تقحم على الشيب كتقحم الشيب على الشباب.
وقال مسلم بن الوليد:
الشيب كره وكره أن يفارقني ... أعجب بشيءٍ على البغضاء مردود
وقال آخر:
جانبك النوم والقرار ... أن منعت وصلها نوار
رأت مشيباً وفي الغواني ... عمن بدا شيبه ازورار
حتى إذا استيقنت بأني ... قد شاب صدغاي والعذار
ألوت بخدً إلى اللواتي ... زعمن أن المشيب عار
تمسح رأسي وهي تنادي ... أحتى على رأسك الغبار

نظر كسرى إلى رجلين من مرازبته أحدهما قد شاب رأسه قبل لحيته، والآخر قد شابت لحيته قبل رأسه، فأراد أن يعرف جواب كل واحد منهما عن حاله تلك. فقال لأحدهما: لم شاب رأسك قبل لحيتك؟ قال: لأن شعر رأسي خلق قبل شعر لحيتي، والكبير يشيب قبل الصغير. وقال للآخر: لم شابت لحيتك قبل رأسك؟ قال: لأنها أقرب إلى الصدر موضع الهم والغم.
قال حبيب:
شاب رأسي وما رأيت مشيب ال ... رأس إلا من فضل شيب الفؤاد
قيل لعبد الملك بن مروان: أسرع إليك المشيب. قال: فكيف لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس في كل أسبوع - يعني الخطبة.
روى عن ابن عباس رحمه الله، قال: شيب الناصية من الكرم، وشيب الصدغين من الروع، وشيب الشارب من الفحش، وشيب القفا من اللؤم.
قال مكي بن إبراهيم:
مشيب لئام الناس في ذروة القفا ... وشيب كبار الناس فوق المفارق
قال قيس بن عاصم: الشيب خضاب المنية.
قال بعض الحكماء: الشيب موت الشعر.
قال معمر بن سليمان: الشيب مراحل الموت.
نظر بعض الأعاجم إلى شيبٍ في رأسه أو لحيته، فجمع نساءه وقال: تعالين فاندبنني إذا مات بعضي، لأبصر كيف تندبنني إذا مات كلي.

باب الكبر والهرم
قال الله تعالى: " ومن نعمره ننكسه في الخلق " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك أن أرد إلى أرذل عمر " .
وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الغم والهم والكسل والهرم.
وفد عمرو بن مسعود السلمي على معاوية بن أبي سفيان، وكان صديقاً لأبي سفيان، فلما مثل بين يدي معاوية عرفه، فقال له: كيف أنت وحالك؟ فقال: ما يسأل أمير المؤمنين عمن سقطت ثمرته، وذبلت بشرته، وابيض شعره، وانخني ظهره، وكثر منه ما يحب أن يقل، وصعب منه ما كان يحب أن يذل، وترك المطعم وكان المنعم، وهجر النساء وكن الشفاء، وقصر خطوه، وذهب لهوه، وكثر سهوه، وثقل على الأرض، وقرب بعضه من بعض، فقل إيحاشه، وكثر ارتعاشه، فنومه سبات، وهمه تارات، وأنشد شعراً حسناً في معناه، تركته لطوله.
وقال أبو عبيدة: عاش أنس بن مدرك الخثعمي مائة سنة وأربعا وخمسين سنة، وكان سيد خثعم في الجاهلية، وفارسها. وأدرك الإسلام فأسلم، وقال في كبره:
إذا ما امرؤ عاش الهنيدة سالماً ... وخمسين عاماً بعد ذاك وأربعا
تبدل مر العيش من بعد عذبه ... وأوشك أن يبلي وأن يتسعسعا
ونادي به الأدني وترضى به العدا ... إذا صار مثل الدال أحدب أخضعا
رهينة قعر البيت ليس يريمه ... لقىً ثاوياً لا يبرح البيت مضجعا
يخبر عمن مات حتى كأنما ... رأى الصعب ذا القرنين أو راء تبعا
قال أبو عبيدة: عمر نصر بن دهمان الأشجعي مائة وتسعين سنة، واعتدل بعد ذلك وصار شاباً، واسود شعره، وكان أعجوبة غطفان في سائر العرب وفيه قال الشاعر:
ونصر بن دهمان الهنيدة عاشها ... وتسعين حولاً ثم قوم فانصاتا
وعاد سواد الرأس بعد بياضه ... ولكنه من بعد ذا كله ماتا
روى سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، قال: دخل عمرو بن حريث على أبي العريان الهيثم بن الاسود النخعي يعوده ويزوره، فقال: كيف تجدك يا أبا العريان؟ قال أجدني قد ابيض مني ما كنت أحب أن يسود، واسود مني ما كنت أحب أن يبيض، ولأن مني ما كنت أحب أن يشتد، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين. وزاد غيره في هذا الخبر: وأجدني يسبقني من بين يدي، ويدركني من خلفي، وأنسي الحديث، وأذكر القديم، وأنعس في الملاء، وأسهر في الخلاء، وإذا قمت قربت الأرض مني، وإذا قعدت بعدت عني. ثم اتفقت الرواية:
فاسمع أنبئك بآيات الكبر
تقارب الخطو وضعف في البصر
وقلة الطعم إذا الزاد حضر
وكثرة النسيان ما بي مدكر
وقلة النوم إذا الليل اعتكر
أوله نوم وثلثاه سهر
وسعلة تعتادني مع السحر
وتركي الحسناء في حين الطهر
وحذراً أزداده إلى حذر
والناس يبلون كما يبلي الشجر
وقال يحيى بن الحكم الغزال:
تسألني عن حالتي أم عمر ... وهي ترى ما حل بي من الغير

وما الذي تسأل عنه من خبر ... وقد كفاها الكشف عن ذاك النظر
وما تكون حالتي مع الكبر ... اربد مني الوجه وابيض الشعر
وصار رأسي شهرة من الشهر ... ويبست نضرة وجهي واقشعر
ونقص السمع بنقصان البصر ... وصرت لا أنهض إلا بعد شر
لو ضامني من ضامني لم أنتصر ... فانظر إلى واعتبر ثم اعتبر
فإن للحلوم في معتبر
قال معاوية بن أبي سفيان: من أخطأه سهم المنية قيده الهرم.
مر شيخ قد انحنى بفتى شاب، فقال له: أتبيع القوس يا شيخ؟ فقال له: إن كبرت أخذتها بلا ثمن.
لأعرابي في الصلع:
قد ترك الدهر صفاتي صفصفا
فصار رأسي جبهةً إلى القفا
كأنه قد كان ربعاً فعفا
أمسى وأضحى للمنايا هدفا
وقال تميم بن مقبل العجلاني:
كان الشباب لحاجاتٍ وكن له ... فقد فرغت إلى حاجاتي الأخر
يا حر أمست بشاشات الصبا ذهبت ... فلست منها على عينٍ ولا أثر
يا حر أمسى سواد الرأس خالطه ... شيب القذال اختلاط الصفو بالكدر
يا حر من يعتذر من أن يلم به ... ريب الزمات فإني غير معتذر
قد كنت أهدي ولا أهدي فعلمني ... حسن المقادة أني فاتني بصري
قالت سليمى لأختيها وقد صدقت ... لا خير في العيش بعد الشيب والكبر
قالت امرأة لرجل عهدته شابا ثم رأته شاخ: أين شبابك؟ قال: أودى به خصال من طال أمده، وكثر ولده، وضعف جلده، وذهب عدده.
قال منصور الفقيه:
يا من دعته الغواني ... عماً وقد كان شبا
قد كنت ورداً جنيناً ... فصرت ورداً مربا
مر أعرابي وهو شيخ كبير ببعض الغلمان، فقال له: من قيدك أيها الشيخ؟ قال: الذي هو دائب في فتل قيدك، وأنشده:
الدهر أبلاني وما أبليته ... والدهر غيرني وما يتغير
والدهر قيدني بقيد مبرمٍ ... فمشيت فيه وكل يوم يقصر
وقال آخر:
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل أدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيداً أني بقيد
قال عبد الرحمن بن أبي بكرة: من طالت أيامه، كانت مصيبته في أحبابه، ومن قصرت أيامه كانت مصيبته في نفسه.
قال محمود الوراق:
ألا رب ذي أملٍ كاذب ... بعيد الرجاء قوي الطمع
تمني البقاء تمادي به ... أجاب القضاء فماذا صنع
تجرد أكثر جثمانه ... وفرق ما كان منه جمع
ودل المشيب على رأسه ... وأعقب من بعد شيبٍ صلع
وقوس متنيه بعد اعتدالٍ ... وأثبت في الرجل منه الظلع
فمن ذا يسر بطول البقاء ... إذا كان يبدع هذي البدع
سأل الحجاج رجلاً من بني ليث، قد بلغ سناً كبيرة، قال: كيف طعمك؟ قال: إذا أكلت ثقلت، وإذا تركت ضعفت. قال: فكيف نكاحك؟ قال: إذا بذل لي عجزت، وإذا منعت شرهت. قال: كيف نومك؟ قال أنام في المجمع، وأسهر في المضجع. قال: كيف قيامك وقعودك؟ قال: إذا أردت الأرض تباعدت مني، وإذا أردت القيام لزمتني. قال: فكيف مشيتك؟ قال: تعقلني الشعرة، وأعثر بالبعرة.
وذكر المبرد قال: نظر محمد بن عبد الله بن طاهر إلى حاجب له قد رفع حاجبه عن عينيه بعصابةٍ من الكبر، فقال له: كم أتى لك من السنين يا أبا المجد؟ فقال مجيباً له:
يا ابن الذي دان له المشرقا ... ن من بعد أن دان له المغربان
إن الثمانين وبلغتهاقد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدلتني بالشطاط انحنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان
وقاربت مني خطاً لم تكن ... مقاربات وثنت لي العنان
وأنشأت بيني وبين الورى ... عيابة من غير نسج العيان
لم تبق لي عظماً ولا مفصلاً ... إلا لساني وكفاني اللسان
أدعو به الله وأثنى به ... على الأمير الطاهري الجنان
فقرباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان

وقبل منعاي إلى نسوةٍ ... أوطانها حران والرقتان
قال عبد الرحمن بن أبي بكرة: من تمنى طول العمر، فليوطن نفسه على المصائب، وأقلها فقد الأحبة والقرابات.
قال لبيد:
المرء يأمل أن يعي ... ش وطول عيشٍ قد يضره
تفني بشاشته ويبقى ... بعد حلو العيش مره
وتخونه الأيام حتى ... لا يرى شيئاً يسره
قال التيمي:
إذا كانت السبعون سنك لم يكن ... لدائك إلا أن تموت طبيب
وإن امرءاً قد سار سبعين حجةً ... إلى منهلٍ من ورده لقريب
إذا ما مضى القرن الذي كنت فيهم ... وخلفت في قرنٍ فأنت غريب
قام أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب، فوجد في ظهره ما يجد الكبير، فأنشأ يقول:
ولقد كنت كالقناة قديماً ... ثم نادت بي الحوادث طاط
فتضويت للحوادث رغماً ... بعد تعديل قامةٍ وشطاط
وأديم قد كان يبرق حسناً ... فتغشى الأديم بعد انبساط
قال محمود الوراق:
ابيض مني الرأس بعد سواده ... ودعا المشيب شبيبتي لنفاد
واستحصد القوم الذي أنا منهم ... وكفى بذاك علامة لحصادي
كان أبو بكر بن عياش قد بلغ ثمانين سنة، فكان يتمثل:
بلغت ثمانين أو جزتها ... فماذا أؤمل أو أنتظر
ومما ينسب إلى بلعام بن راشد السكسكي:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود
ولما رأيك الشيب أيقنت أنه ... رجوع غضارات الشباب بعيد
وقال منصور النمري:
ما تنقضي خسرة مني ولا جزع ... إذا ادكرت شباباً ليس يرتجع
ما كدت أوفي شبابي كنه عزته ... حتى مضى فإذا الدنيا له تبع
وقال محمود الوراق:
أيها النادب الشباب الذي قد ... كنت تجفوه مرةً وتعقه
لو بكيت الشباب عمر الليالي ... لم تكن باكياً بما يستحقه
قال أبو العتاهية:
مضى عني الشباب بغير أمري ... فعند الله أحتسب الشبابا
فزعت إلى خضاب الشيب منه ... وإن نصوله فضح الخضابا
وما من غايةٍ إلا المنايا ... لمن خلقت شبيبته وشابا
وقال محمود الوراق:
سقياً لأيامٍ تولت بها ... أحسن ما كانت صروف الزمن
إذ أنت في شرخ الشباب الذي ... يحسن فيه منك غير الحسن
ولي وما الدنيا بأقطارها ... لليوم والساعة منه ثمن
ولمحمود الوراق أيضاً:
إذا ما دعوت الشيخ شيخاً هجوته ... وحسبك مدحا للفتى قول يا فتى
أشبه أيام الشباب التي مضت ... وأيامنا في الشيب بالفقر والغنى
وقال آخر:
إذا رأيت صلعاً في الهامه ... وحدباً بعد اعتدال القامه
وصار شعر الرأس كالثغامه ... فايئس من الصحة والسلامه
وقال النمر بن تولب:
يحب الفنى طول السلامة والبقا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل
يرد الفنى بعد اعتدالٍ وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل
وكان النضر بن شميل ينشد:
يحب بقائي المشفقون ومدتيإلى أجل لو يعلمونقريب
وما إن أرى في أرذل العمر بعدما ... لبست شبابي كله ومشيبي
وأصبحت في قومٍ كأن لست منهم ... وبانت لداتي منهم وضروبي
وقال رجل ليزيد بن هرون: يا أبا خالد! كيف أصبحت؟ فقال:
أصبحت لا يحمل بعضي بعضا
كأنما كان شبابي قرضا
فاستؤدي القرض فكان فرضا
وصرت عوداً نخراً مرفضاً
وقال حميد بن ثور:
أرى بصري قد رابني بعد صحةٍ ... وحسبك داءً أن تصح وتسلما
ولن يلبث العصران يوماً وليلةً ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وقال لبيد بن ربيعة:
كانت قناتي لا تلين لعامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي في السلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء
وقال لبيد أيضاً:

أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدب كأبي كلما قمت راكع
وقال أبو النجم العجلي:
إن الفتى يصبح للأسقام
كالغرضٍ المنصوب للسهام
أخطأ رامٍ وأصاب رام
وأظنه أخذه من قول زهير:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
وقال آخر:
من عاش أخلقت الأيام جدته ... وخانه ثقتاه السمع والبصر
وقال أعرابي:
إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبرٍ أعضادها
وجعلت أسقامها تعتادها ... فهي زروع قددنا حصادها
وقال عروة بن الورد:
أليس ورائي أن أدب على العصا ... فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي
رهينة قعر البيت كل عشيةٍ ... يطيف بي الوالدان أهدج كالرأل
شبه هدجان الشيخ الضعيف في مشيه بهدجان الرأل، والرأل: ولد النعام والجميع: رئال ورئلان.
قال أبو الرجف:
أشكو إليك وجعاً بركبتي
وهدجاناً لم يكن بمشيتي
كهدجان الرأل خلف الهيقت
وقال أبو حية النميري:
وقد جعلت إذا ما قمت يوجعني ... ظهري فقمت قيام الشارب السكر
وكنت أمشي على رجلي معتدلاً ... فصرت أمشي على أخرى من الشجرٍ
وقال آخر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ يرى في بعضها الخلل
وإن أتت للشباب الغر نادرةً ... فإن أكثر ما يأتي لها الخطل
قال أبو العتاهية:
أسرع في نقصٍ امرىءٍ تمامه
وقال أيضاً:
من يعش يكبر ومن يكبر يمت ... والمنايا لا تبالي من أتت
وقال محمود الوراق:
يحب الفتى طول البقاء وإنه ... على ثقةٍ أن البقاء فناء
زيادته في الجسم نقص حياته ... وليس على نقص الحياة نماء
إذا ما طوى يوماً اليوم بعضه ... ويطويه إن جن المساء مساء
جديدان لا يبقى الجميع عليهما ... ولا لهما بعد الجميع بقاء
قال محمد بن نصر: كنت بأرض الطفاوة، إذ سمعت امرأةً تكلم أخرى من طاقٍ إلى طاقٍ فقالت لها: ما تقولين في ابن العشرين؟ قالت ريحانة تشمين. قالت فما تقولين في ابن الثلاثين؟ قالت قرة عين الناظرين. قالت فما تقولين في ابن الأربعين؟ قالت: قوى الظهر في ماء مكين. قالت: فما تقولين في ابن الخمسين؟ قالت: تعرفين وتنكرين. قالت: فما تقولين في ابن الستين؟ قالت: كثير السعال والأنين. قالت: فما تقولين في ابن السبعين؟ قالت: اكتبيه في الضارطين.
ذكر ابن الأنباري، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: كان العرب تقول: الرجل يزداد قوةً إلى الأربعين، فإذا بلغ الأربعين اصلهب إلى الستين، فإذا جاوز الستين أدبر. وقال: اصلهب بقي على حال واحدة. وأنشد:
وفيت ستين واستكملت عدتها ... فما بقاؤك إذ وفيت ستينا
فاحتل لنفسك يا حسان في مهلٍ ... فكل يوم ترى ناساً يموتونا
وذكر أبو الحسن الأخفش، قال: أنشدني أبو العباس ثعلب لبعض حكماء العرب:
ابن عشرٍ من السنين غلام ... همه اللعب مولع بالغرام
وابن عشرين مولع بالغواني ... لا يبالي ملامةً اللوام
والذي يبلغ الثلاثين عاماً ... فضروب لدى الوغى بالحسام
فإذا جازها بعشر سنينٍ ... كان أقوى من كل قرن مسام
وابن خمسين للنوائب يرجى ولنقض الأمور والإبرام
وابن ستين حازم الرأي طب ... كامل العقل ضابط للكلام
وابن سبعين قد تولى وأودى ... وتثنى فما له من قوام
والذي يبلغ الثمانين عاماً ... ذاهب الذهن دائب الأسقام
وابن تسعين تائه قد تناهى ... إن تسعين غاية الأعوام
فإذا جازها بعشرٍ فحي ... مثل ميتٍ مودع بالسلام

باب الوصايا الموجزة
قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بأيام يقول: " لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله " .

قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني يا رسول الله، وأقلل في القول لعلي أحفظه. قال: " لا تغضب " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، أو تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمةٍ طيبة " .
أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقال: " هيئ جهازك وقدم زادك، وكن وصي نفسك؛ فإنه لا خلف من التقوى، ولا عوض من الله عز وجل " .
قال أبو هريرة: أوصاني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بثلاثٍ لا أدعهن أبداً؛ بالوتر قبل النوم، وبصيام ثلاثة أيام في كل شهر، وركعتي الضحى.
وقال لي: أحبب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً.
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني. فقال: " أوصيك بالدعاء؛ فإن معه الإجابة، وعليك بالشكر؛ فإن معه الزيادة، وأنهاك عن المكر؛ فإنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وعن البغي؛ فإنه من بغي عليه نصره الله، وإياك أن تبغض مؤمناً أو تعين عليه " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم بالله فأجيبوه، ومن استغاثكم بالله فأغيثوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فأثنوا عليه " .
أوصى النبي عليه السلام رجلا، فقال: " عليك بذكر الموت؛ فإنه يشغلك عما سواه، وعليك بكثرة الدعاء؛ فإنك لا تدري متى يستجاب لك، وأكثر من الشكر؛ فإنه زيادة " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم والفحش؛ فإن الله لا يحب الفاحش المتفحش؛ وإياكم والشح؛ فإنه دعا من قبلكم فقطعوا أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وإياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " .
قال عبد الله بن عباس: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: " يا غلام، احفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت استعن فالله... " .
وذكر الحديث.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوصاني ربي بتسع بالإخلاص في السر والعلانية، وبالعدل في الرضا والغضب، وبالقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة " .
قال الأعشى:
أجدك لم تسمع وصاة محمدٍ ... نبي الهدى في حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله ... وترصد للموت الذي كان أرصدا
قال موسى بن عمران للخضر عليهما السلام: إني قد حرمت صحبتك؛ فأوصني. قال: إياك واللجاجة، والمشي في غير حاجة، والضحك من غير عجب.
قال أبو بكر لعمر رضى اله عنهما في وصيته إياه: إذا جنيت جنيً فكف يدك، أو يشبع من جنيت له. من نازعتك نفسك إلى شركتهم، فكن فيهم كأحدهم، ولا تستأثر عليهم، وأعلم أن ذخيرة الإمام تهلك دينه وتسفك دمه.
وأوصى أبو الدرداء رجلاً، فقال له: اعتقد لنفسك ما يدوم، واستدل بما كان على ما يكون.
كان جندب بن عبد الله الأنصاري صديقاً لعبد الله بن عباس، فقال له حين ودعه: أوصني يا ابن عباس، فإني لا أدري أنجتمع بعدها أم لا. فقال: أوصيك يا جندب ونفسي بتوحيد الله، وإخلاص العمل لله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ فإن كل خير أتيت بعد هذه الخصال مقبول، وإلى الله مرفوع، ومن لم يكمل هذه الأعمال رد عليه ما سواها. وكن في الدنيا كالغريب المسافر، واذكر الموت، ولتهن الدنيا عليك، فكأنك قد فارقتها وصرت إلى غيرها، واحتجت إلى ما قدمت، ولم تنتفع بشيء مما خلقت. فم افترقا.
كتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله: أوصيك بتقوى الله، فإنه من اتقاه كفاه ووقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، فاجعل التقوى عماد بصرك، ونور قلبك، واعلم أنه لا عمل لمن لا نية له، ولا جديد لمن لا خلق له، ولا إيمان لمن لا أمانة له، ولا مال لمن لا رفق له، ولا أجر لمن لا حسنة له.

كان علي بن أبي طالب إذا أراد أن يستعمل رجلا دعاه فأوصاه، وقال: عليك بتقوى الله الذي لابد من لقائه، ولا منتهى لك دونه، فإنه يملك الدنيا والآخرة، وعليك فيما أمرك به بما يقربك من الله، فإن ما عنده خلف من الدنيا.
دخل عثمان بن عفاف على العباس بن عبد المطلب في مرضه الذي مات فيه، فقال: أوصني. قال: أوصيك بالصدق؛ فإنه يعرف في ثلاث: في حفظ اللسان، وترك المصانعة، واستواء السر والعلانية.
وروى عاصم بن بهدلة، عن أبي العدبس الأسدي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: فرقوا بين المنية؛ واجعلوا الرأس رأسين، ولا تلبثوا بدار معجزة، وأصلحوا مثاويكم، وأخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم، واخشوشنوا وتمعددوا وانتعلوا.
أوصى أعرابي انبه فقال: يا بني؟ اغتنم مسالمة من لا يدان لك بمحاربته، وليكن هربك من السلطان إلى الوحش في الفيافي وأطراف البلدان، حيث تأمن سعاية الساعي، وطمع الطامع منك، ولا تغرنك بشاشة امرئٍ حتى تعلم ما وراءها؛ فإن دفائن الناس في صدورهم، وخدعهم في وجوههم، ولتكن شكاتك الدهر، إلى رب الدهر، واعلم أن الله إذا أراد بك خيراً أو شراً أمضاه فيك على ما أحب العباد أو كرهوا، وأرح نفسك من التعب بقبول القيل والقال، فإن كلمة السوء حبة القلب، كما أن الحنطة حبة الأرض، إذا أصابها الماء نبتت، وكذلك الكلمة السوء إذا زرعت في صدرك نبتت منها الضغائن والبغضاء والعداوة.
قال أبو العتاهية:
رضيت ببعض الذل خوف جميعه ... وليس لمثلي بالملوك يدان
قال شبيب بن شيبة: قال لي أبو جعفر المنصور - وكنت من سماره - عظني وأوجز. قال: فقلت يا أمير المؤمنين! إن الله لم يجعل فوقك أحداً من خلقه؛ فلا ترض من نفسك بأن يكون عبد هو أشكر منك. قال: والله لقد أوجزت وما قصرت. قلت: والله لئن كنت قصرت فما بلغت كنه النعمة فيك.
قال سعد بن أبي وقاص لسلمان: أوصني. فقال له: اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند لسانك إذا تكلمت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدل إذا بطشت.
دخل محمد بن علي بن حسين على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أوصني. فقال: أوصيك أن تتخذ صغار المسلمين ولدا، وأوسطهم أخاً، وأكبرهم أباً، فارحم ولدك، وصل أخاك، وبر أباك.
أوصى رجل ابنه، فقال: أوصيك يا بني بتقوى الله عز وجل؛ فإنه جنب أولياء الله محارمه، وألزم قلوبهم طاعته، فكذب الأمل، ولاحظ الأجل.
لما التقى هرم بن حيان بأويس القرني، كان فيما أوصاه ووعظه به أن قال: يا هرم! توسد الموت إذا بت، واجعله أمامك إذا قمت، ولا تنظر إلى صغر ذنبك، ولكن انظر من عصيت، ومن عظم أمر الله فقد عظم الله. يا هرم! ادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك، فإنك لم تعالج شيئاً هو أشد عليك منهما، بينما قلبك مقبل إذ أدبر، فاغتنم إقباله قبل إداره.
قال وبرة: أوصاني عبد الله بن عباس بكلماتٍ لهي أحب إلى من الدهم الموقفة في سبيل الله. قال: إياك والكلام فيما لا يعنيك، فإنه إثم ولا آمن عليك فيه الوزر، وإياك والكلام فيما يعنيك في غير موضعه، فرب مسلم تقي تكلم بما يعنيه في غير موضعه فعنت. فلا تمار سفيهاً ولا فقيهاً. فأما السفيه فيوذيك، وأما الفقيه فيغلبك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن تذكر به، واعمل عمل رجلٍ يعلم أنه مكافأ بالإحسان، مجازيً بالإجرام.
أوصى صالح بن علي بن عبد الله بن عباس أمير سرية أتت، فقال: تاجر الله بعباده، فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحاً تجر، وإلا احتفظ برأس المال، لا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة، وكن من احتيالك على عدوك، أشد حذراً من احتيال عدوك عليك.
كان المهلب بن أبي صفرة يقول لبنيه: إياكم أن تروا في الأسواق: فإن كنتم لابد فاعلين، ففي سوق الدواب والسلاح، فإنها من صناعة الفرسان.
قال زياد بن ظبيان لابنه عبد الله وهو يجود بنفسه: ألا أوصى بك الأمير؟ قال: إذا لم تكن للحي إلا وصية الميت، فالحن هو الميت أخذه الشاعر فقال:
إذا ما الحي عاش بعظم ميتٍ ... فذاك العظم حي وهو ميت
قال نافع بن خليفة العبدي: جمعنا أبونا فقال: يا بني! اتقوا الله بتقاته، واتقوا السلطان بحقه، واتقوا الناس بالمعروف. فقام وقد جمع لنا أمر الدنيا والآخرة.

قال عمر بن عبد العزيز لمؤدبه وهو خليفة، كيف كانت طاعتي لك؟ قال: ما كان أطوعك! فقال: فقد وجببت طاعتي عليك، خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، ومن قميصك حتى يبدو كعباك.
أوصى رجل بنيه فقال: يا بني! عليكم بالنسك، فإنه إذا ابتلى أحدكم بالبخل.. قيل: مقتصد لا يرى الإسراف، وإن ابتلى بالعي، قيل: يكره الكلام فيما لا يعينه، وإن ابتلى بالجبن، قيل: لا يقدم على شبهة.
قال محمد بن علي لابنه: أد النوائب ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى ما مضرته عليك أكثر من منفعته.
قال معاوية بن أبي سفيان لسفيان بن عوف الأزدي: كل قليلا، تعمل طويلا، والزم العفاف تسلم من القول، واجتنب الرياء يشتد ظهرك عند الخصوم.
قال يوسف بن أسباط: أتيت سفيان الثوري رحمه الله، فقلت: يا أبا عبد الله! أوصني. قال: أقلل من معرفة الناس. قلت: زدني يرحمك الله، قال: أنكر من عرفت. قلت: زدني يرحمك الله. قال:
ابلُ الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن أمورهم وتفقد
وإذا ظفرت بذي الأمانة والتقى ... فبه اليدين قرير عينٍ فاشدد
قال عبد الملك بن مروان لمؤدب بنيه: إنه - والله - ما يخفى علي ما تعلمهم وتلقيه إليهم، فاحفظ عني ما أوصيك به: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وعلمهم الشعر يسمحوا ويمجدوا وينجدوا، وجنبهم شعر عروة بن الورد، فإنه يحمل على البخل، وأطعمهم اللحم يقووا ويشجعوا، وجز شعورهم تغلظ رقابهم، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس أدباً وهدياً، ومرهم فليستا كوا، وليمصوا الماء مصاً، ولا يعبوه عباً، ووقرهم في العلانية، وأدبهم في السر، واضربهم على الكذب كما تضربهم على القرآن، فإن الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار، وجنبهم شتم أعراض الرجال، فإن الحر لا يجد من شتم عرضه عوضاً، وإذا ولوا أمراً فامنعهم من ضرب الأبشار؛ فإنه على صاحبه عار باق ووتر مطلوب، واحثثهم على صلة الرحم. واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب.
كان يقال: صن عقلك بالحلم، ودينك بالعلم، ومروءتك بالعفاف، وجمالك بترك الخيلاء، ووجهك بالإجمال في الطلب.
أوصى معروف الكرخي رجلا فقال: توكل على الله حتى يكون أنسك وموضع شكواك، واجعل ذكر الموت جليسك، واعلم أن الفرج من كل بلاء كتمانه، فإن الناس لن يعطوك ولن يمنعوك، ولن ينفعوك، ولن يضروك إلا بما شاء الله لك، وقضاه عليك.
أوصى بعض الأكاسرة رجلاً وجهه أميراً، فكان فيما قال: واعلم أنه ليس من العدو أحد مكالبة ولا أصدق مخالبةً من مستنصرٍ في ملة، أو غيران على حرمة، أو ممتعضٍ من ذلة.
ومن قضاياهم: اخلع سربال الاتكال، وتنكب عثرات الاسترسال، وتدرع جلباب الاجتهاد، وتحرز من نكبات الانقياد.
ومما خرج من أشعار الحكماء مخرج الوصايا الموجزة، ما أنشدني أبو القاسم محمد بن نصير الكاتب - رحمه الله - لنفسه:
تخير سبيل الهدى جاهداً ... ودع عنك مشتبهات السبل
وأصبح من الناس مستوفزاً ... فأكثرهم راصد للزلل
وأجبن من قد ترى منهم ... لعمرك يردي الشجاع البطل
وتصمي المقاتل أقوالهم ... بألسنةٍ وقعها كالأسل
ولا تحسبن إن تكن عاقلاً ... مريدك بالضر حيناً عقل
ومن حكم الناس في عرضه ... فمن جار أكثر ممن عدل
وقال أبو العتاهية:
كن في أمورك ساكناً ... فالمرء يدرك في سكونه
وألن جناحك تعتقد ... في الناس محمدةً بلينه
واعمد إلى صدق الحدي ... ث فإنه أزكى فنونه
والصمت أجمل بالفتى ... من منطقٍ في غير حينه
لا خير في حشو الكلام ... إذا اهتديت إلى عيونه
رب امرئ متيقنٍ ... غلب الشقاء على يقينه
فأزاله عن رأيه ... فاتباع ديناه بدينه
وقال أبو العتاهية أيضاً:
خفف على إخوانك المؤنا ... أولا فلست إذاً لهم سكنا
لا تغترر بدنو ذي لطفٍ ... يوماً إليك وإن دنا ودنا
واعلم جزاك الله صالحةً ... أن ابن آدم لم يزل أذنا

مستسرفاً شرس الطباع له ... نفس تريه قبيحة حسنا
وقال أيضاً:
اكره لغيرك ما لنفسك تكره ... وافعل بنفسك فعل من يتنزه
وكل السفيه إلى السفاهة وانتصف ... بالحلم أو بالصمت ممن يسفه
ودع الفكاهة بالمزاح فإنها ... تزري وتسخف من بها يتفكه
وقال محمود الوراق:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا ... فيهتك الله ستراً عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحداً منهم بما فيكا
وقال آخر:
تصاون عن الأنذال ما عشت واكتسب ... لنفسك كسباً من خلال تصونها
وما للفتى بر كمثل عفافه ... إذا نفسه اختارت لها ما يزينها
إذا النفس لم تقنع يكسب مليكها ... على ما أتى منه، فما تم دينها
ولأبي العتاهية في ابن السماك الواعظ:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً ... إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها
كالملبس الثوب من عريٍ وعورته ... للناس بادية ما إن يواريها
وأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه ... في كل نفسٍ عماها عن مساويها
عرفانها بعيوب الناس تبصرها ... منهم، ولا تبصر العيب الذي فيها
وقال أمية بن أبي الصلت:
خصال إذا لم يحوها المرء لم ينل ... منالاً من الدنيا ينال به حمدا
يكون له جاه وعز وثروة ... وحسن فعال حيث أحضر أو أبدى
وتقوى فإن الفوز يدرك بالتقى ... ويورث في الدارين صاحبه مجدا
وقال آخر:
من طالب الناس طالبوه ... واعتقب الحزن والندامه
من سالم الناس سالموه ... وكان في حيز السلامه
وقال منصور الفقيه:
نفسك رأس الغني فصنها ... من لم يصن نفسه يهنها
إن صعبت حالة فدعها ... فاليأس منها غناك عنها
وقال محمود الوراق:
كن مع الله يكن لك ... واتق الله لعلك
لا تكن إلا معداً ... للمنايا فكأنك
إن للموت لسهماً ... واقعاً دونك أو بك
وقال منصور الفقيه:
يا أخا الدهر إن وفى ... وأخا الدهر إن غدر
كن من الدهر كيف شي ... ت على غاية الحذر
وقال آخر:
تغنم كل ما ياتك ... ولا تأس لما فاتك
ولا نغتر بالدنيا ... أما تذكر أمواتك
وقال آخر:
اسعد بمالك في الحياة فإنما ... يبقى خلافك مصلح أو مفسد
فإذا تركت لمفسدٍ لم يبقه ... وأخو الصلاح قليله يتزيد
فإن استطعت فكن لنفسك وارثاً ... إن المورث نفسه لمسدد
وقال منصور الفقيه:
تخل عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسناً فزده
ستكفي من عدوك كل كيدٍ ... إذا كاد العدو ولم تكده
وقال آخر:
أحسن الظن بمن قد عودك ... حسناً أمس وسوى أودك
إن رباً كان يكفيك الذي ... كان بالأمس سيكفيك غدك
وقال محمود الوراق:
قدم لنفسك توبةً مرجوةً ... قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها علق النفوس فإنها ... ذخر وغنم للمنيب المحسن
وقال منصور الفقيه:
لا تلفين خليطاً ... لفاسقٍ أو كفورٍ
فالقرب من ذين عار ... على الفتى المستور
وقال محمود الوراق:
لا تسألن المرء عما عنده ... واستمل ما في قلبه من قلبكا
إن كان بغضاً كان عندك مثله ... أو كان حباً فاز منك بحبكا
وقال منصور الفقيه:
اسمع فهذا كلام ... ما فيه والله عله
أقل من كل شيءٍ ... من لا يرى الناس قله
وقال آخر:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ ... فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ... ذهبت نفسه العزيزة فلته
وقال محمود الوراق:
قل لهرون إن حلل ... ت به قول ذي مقه

أطبق الموت والنفو ... س على اللهو مطبقه
كيف يلهو من ليس من ... عشر يوم على ثقه
وقال منصور الفقيه:
خذ من زمانك ما صفا ... ودع الذي فيه الكدر
فالعمر أقصر من معا ... تبة الزمان على الغير
وقال محمود الوراق:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم داء الفساد إذا فسد
ويشرف في الدنيا بفضل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
وقال منصور الفقيه:
لا تعرضن عن النصي ... ح للؤمه يا ابن الكريمه
فالنصح أولى ما قبل ... ت وإن أتاك به بهيمه
وقال محمود الوراق:
إن القلوب على القلوب شواهد ... فبغيضها لك بين وحبيبها
وإذا تلاحظت العيون تفاوضت ... وتحادثت عما تجن قلوبها
ينطقن والأفواه صامتة فما ... يخفي عليك صحيحها ومريبها
وقال منصور الفقيه:
هبك نلت المنى وفوق الأماني ... وتجاوزت حالة الإنسان
هل ترى ذاك باقياً لك والده ... ر سريع الهجوم بالحدثان
وقال صالح بن عبد القدوس:
إذا وترت امرءاً فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا
إن العدو وإن أبدي مسالمةً ... إذا رأى منك يوماً فرصةً وثبا
وقال آخر:
جالس كهول الناس واحفظ حديثهم ... ولا تك للأحداث خدناً محادثا
وقال سهل الوراق، وتنسب إلى الشافعي رحمه الله ولا تصح له:
إذا لم تكن تاركاً زينةً ... إذا المرء جاء بها يستراب
تقع في مواقع تردي بها ... وتهوي إليك السهام الصياب
تبين زمانك ذا واقتصد ... فإن زمانك هذا عذاب
وأقلل عتاباً فما فيه من ... يعاتب حين يحق العتاب
مضى الناس طرا وبادوا سوى ... أراذل عنهم تجل الكلاب
يلاقيك بالبشر دهماؤهم ... وتسليم من رق منهم سباب
فأحسن وما الحر مستحسن ... صيان له عنهم واجتناب
فإن يغنه الله عنهم يفر ... وإلا فذاك البلاء العجاب
إذا حار أمرك في معنيين ... ولم تدر فيما الخطا والصواب
فدع ما هويت فإن الهوى ... يقود النفوس إلى ما يعاب
وقال آخر:
وإياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائرٍ الناس عاذر
وقال آخر:
فلا تقنطن من عظيم الذنوب ... فرب العباد رحيم رءوف
ولا تمضين على غير زادٍ ... فإن الطريق مخوف مخوف
وقال عدي بن زيد:
إذا ما رأيت الشر يبعث أهله ... وقام بناة الشر للشر فاقعدٍ
وقال يزيد بن الحكم:
يا بدر والأمثال يض ... ربها لذي اللب الحكيم
دم للخليل بوده ... ما خير ود لا يدوم
واعرف لجارك حقه ... والحق يعرفه الكريم
واعلم بأن الضيف يو ... ماً سوف يحمد أو يلوم
والناس مبتنيان مح ... مود البناية أو ذميم
واعلم بني فإنه ... بالعلم ينتفع العليم
أن الأمور دقيقها ... مما يهاج به العظيم
والتبل مثل الدين تق ... ضاه وقد يلوي العزيم
والبغي يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم
ولقد يكون لك الغري ... ب أخاً ويقطعك الحميم
والمرء يكرم للغنى ... ويهان للعدم العديم
قد يقتر الحول التقى ... ويكثر الحمق الأثيم
يملي لذاك ويبتلي ... هذا فأيهما المضيم
ما بخل من هو للمنو ... ن وريبها غرض رجيم
ويرى القرون أمامه ... همدوا كما همد الهشيم
وستخرب الدنيا فلا ... بؤس يدوم ولا نعيم

كل امرئ ستئيم من ... ه العرس أو منها يثيم
ما علم ذي ولد أيث ... كله أم الولد اليتيم
والحرب صاحبها الصلي ... ب على تلاتلها العزوم
من لا يمل ضراسها ... ولدى الحقيقة لا يخيم
واعلم بأن الحرب لا ... يسطيعها المرح السؤوم
وقال منصور الفقيه:
توكل على الله فيما اعتراك ... ولا تشركن سواه معه
فما في سواه تعالى اسمه ... لراج ولا خائفٍ منفعه

باب لمع من الدعاء
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني ما ينفعني. فقال: " عليك بالدعاء فإنك لا تدري متى يستجاب لك، وأكثر من ذكر الموت يشغلك عما سواه " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدعاء هو العبادة، ثم تلا: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي... " . الآية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من دعاءٍ لا يسمع، وعلم لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ونفسٍ لا تشبع، أعوذ بك من شر هؤلاء الأربع " .
ومن دعائه عليه السلام: " اللهم إني أعوذ بك من الفقر والفاقة، والقلة والذلة، ومن موقف الخزي في الدنيا والآخرة " .
ومن دعائه عليه السلام: " اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعافية والغنى، وأعوذ بك من درك الشقاء، ومن جهد البلاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء " .
ودعاؤه صلى الله عليه وسلم كثير قد جمعه جماعة من العلماء.
دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من الفقر والفاقة، والقلة والذلة، ومن مواقف الخزي في الدنيا والآخرة، قال: بينا أنا أصلى إذ سمعت متكلما يقول: اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير وكله، وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره، أهل الحمد أنت، لا إله إلا أنت، إنك على كل شيء قدير. اللهم اغفر لي جميع ما سلف من ذنوبي، واعصمني فيما بقى من عمري، وأعني على عمل ترضى به عني. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ملك أتاك يعلمك تحميد ربك " .
كان رجل مظلوم في سجن الحجاج مغموماً، فأتاه آتٍ، فقال له: ادع الله. قال: وبم أدعو؟ قال: يا من لا يعلم كيف هو إلا هو، ولا يعلم قدرته إلا هو، فرج عني ما أنا فيه. فقالها فأطلق الله سبيله.
ومن الدعاء الحسن المرجوة إجابته: يا من لا يشغله شيء عن سماع الدعاء، يا فعال لما يشاء، يا من لا يغالطه السائلون، ولا يبرمه لملحون، اغفر لي وارحمني، يا من لا يغفر الذنوب غيره.
ومثله: يا سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، ويا من لا تغيبه الظلمات، ولا تشتبه عليه الأصوات، يا عظيم الشان، يا واضح البرهان، يا شديد السلطان، يا من هو كل يوم في شان، اغفر لي ذنوبي. وادع بهذا الدعاء فيما شئت: من دين أو دنيا، يستجب لك إن شاء الله تعالى.
ومثله من الدعاء: يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لي العافية في الدنيا والآخرة.
ومن الدعاء الحسن: اللهم فرغني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما قد تكفلت لي به، ولا تحرمني وأنا أسألك، ولا تعذبني وأنا أستغفرك.
قال أعرابي في دعائه: تظاهرت يا رب على منك النعم، وتكاثفت مني عندك الذنوب، فأحمدك على النعم التي لا يحصيها أحد غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها ألا عفوك.
قال سفيان، قال مسعر: كنا إذا لقينا طلق بن حبيب، لا نكاد نفترق حتى يقول: اللهم أبرم للمسلمين أمراً رشداً، يعز فيه وليك، ويذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك، ويتناهى فيه عن سخطك.
ومن دعاء بعض الأعراب: اللهم إني أعوذ بك من شهادة الزور، وركوب الفجور، وعذاب القبور، ومنكر ونكير.
كان من دعاء شريح: اللهم إني أسألك الجنة بلا عملٍ عملته، وأعوذ بك من النار بلا ذنب ركبته.
سأل أعرابي رجلاً فأعطاه، فقال: جعل الله المعروف عليك دليلا، والخير شاهداً، ولا جعل حظ السائل منك عذراً صادقاً.
من دعاء معروف الكرخي: اللهم اجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطاياك، ويخشاك حق خشيتك.
كان عمر بن هبيرة أمير العراق يدعو فيقول: اللهم إني أعوذ بك من صديق يطري، وجليس يغدي، وعدوً يسري.
دعا أعرابي لرجل فقال: جنبك الله الأمرين، وكفاك شر الأجوفين.

الأمران: الجوع والعرى، والأجوفان: الفم والفرج.
دعا أعرابي فقال: اللهم أمسك قلبي عن كل شيءٍ لا أتزود به إليك ولا أنتفع به يوم ألقاك.
دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من الذل إلا لك، ومن الفقر إلا إليك.
دعا أعرابي فقال: اللهم اجعل رزقي رغدا، ولا تشمت بي أحدا.
دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من السلطان والشيطان والإنسان.
دعا علي بن أبي طالب يوماً فقال: يا خير من رفعت إليه الأيدي، وسمت إليه الأبصار، وتحاكم إليه العباد، نشكو إليك فقد نبينا، واختلافنا بيننا.
وقف شيخ أعرابي عند باب الكعبة، فقال: يا رب! سائلك عند بابك، مضت أيامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهوته، وبقيت تبعته، فارض عنه يا رب، وإن لم ترض عنه فاعف عنه، فقد يعفو السيد عن عبده وهو عنه غير راضٍ، اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا، اللهم هب لي حقك، وأرض عني خلقك.
وقف محمد بن سليمان عند قبر أبيه، فقال: اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه، فحقق رجائي له، وآمن خوفي عليه.
قال سعيد بن المسيب لصلة بن أشيم: ادع الله لي. فقال: رغبك الله فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه.
وقف أعرابي بالموسم فقال: اللهم إن لك حقوقاً فتصدق بها علي، وللناس عندي تبعات فتحملها عني، وقد أوجبت لكل ضيفٍ قرى، وأنا ضيفك، فاجعل قراي في هذه الليلة الجنة.
قال الأصمعي: سمعت أعرابية تقول في دعائها: يا من ليس له رب يدعى، ويا من ليس فوقه خالق يخشى، ويا من ليس دونه إله يبقى، ويا من ليس له وزير يؤتى، ويا من ليس له صاحب يرشي، ولا بواب ينادي، ويا من لا يزداد على كثرة السؤال إلا كرماً وجودا، وعلى كثرة الذنوب إلا رحمة وعفواً.
قال العتبي: سمعت أعرابياً وهو يدعو في الصلاة ويقول: اللهم ارزقني عمل الخائفين، وخوف العاملين، وحتى أنعم بترك النعيم طمعاً فيما وعدت، وخوفاً مما أوعدت.
هنأ رجل رجلاً بولاية فقال: إن النعم ثلاث، فنعمة هي في حال كونها، ونعمة ترجى مستقبلة، ونعمة تأتي غير محتسبة، فأبقى الله لك ما أنت فيه، وحقق طمعك فيما ترجوه، وتفضل عليك بما لم تحتسبه.
ويروى عن الأحنف، أنه كتب بذلك إلى صديق له.
دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من حلول النقم، وزوال النعم، وتحول العافية، اللهم هب لي بنين أتقوى بهم على عشيرتي، ومالاً أرغم به حسادي، واجعلني ملياً من العقل والدين، يا أرحم الراحمين.
أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم عليه السلام: هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينك الدموع، وادعني فإني قريب مجيب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة مخلصون، فإن الله لا يقبل دعاءً من قلبٍ لاهٍ " .
كان يقال: إنما يستجاب لمخلص أو مظلوم.
ولامرئ القيس بن عانس الكندي:
الله أنحج ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل
ذكر الحميدي، عن سفيان، قال: سمعت أعرابياً يقول عند مقام إبراهيم عليه السلام: اللهم لا تحرمني خير ما عندك لشر ما عندي، اللهم إن كنت لا تقبل تعبي ولا نصبي، فأعطني أجر المصاب على مصيبته. اللهم إن لك عندي حقوقاً فلتهبها لي، وللناس على تبعات، فأسألك أن تحملها لهم، وقد أوجبت لكل ضيف قري، وأنا ضيفك، فاجعل قراي في هذه العشية الجنة.
قال سفيان بن عيينة: وسمعت أعرابياً يقول في الموقف: اللهم إن ذنوبي لن تضرك، ورحمتك إياي لن تنقصك، فلا تمنعني مالا ينقصك، واغفر لي مالا يضرك.
قال: وسمعت إعرابياً في الموقف جاثياً على ركبتيه يقول: يا رب! عجت إليك الأصوات بأنواع اللغات لطلب الحاجات، وحاجتي أن تذكرني بعد طول البلاء إذ نسيني أهل الأرض.
قال بعض أهل العلم: بينا أنا أمشي بين منى وعرفات ليلاً، إذ أنا بأعرابي قد أقبل على قعود له، رافعاً صوته، يقول:
يا ذا المعارج أنت الله أسأله ... وأنت يا رب مدعو ومسؤول
أدعوك في ليلةٍ حرم وفي حرمٍ ... وكل داعٍ بحلو النوم مشغول
تعطي إذا شئت من يسألك من سعةٍ ... والخير منك لمن ناداك مبذول
فاجمع بعفوك شملاً أنت جامعه ... إن شئت ذاك وما حاولت مفعول

قيل لعلي: كم بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مستجابة. قيل: فكم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم للشمس. من قال غير هذا فقد كذب.
سألت هند بنت النعمان سعيد بن العاص حاجةً فقضاها، فدعت له فقالت: لا أزال الله عنك نعمةً، ولا أحوجك إلى لئام الناس عند حاجة، وإذا زالت عن كريمٍ نعمة يجعلك الله سبباً لردها عليه.
ودعا رجل لرجل فقال: لا جعلك الله آخراً تتكل على أول.
كان يقال: أربعة لا ترد لهم دعوة: الصائم حتى يفطر، والذاكر حتى يفتر، والإمام العدل، ودعوة المظلوم.
دعاء لي: اللهم اجعلني مكثراً لذكرك، مؤدياً لحقك، حافظاً لأمرك، راجياً لوعدك، راضياً في كل حالاتي عنك، راغباً في كل أموري إليك، مؤملاً لفضلك، شاكراً لنعمك، يا من تحب العفو والإحسان وتأمر بهما، اعف عني وأحسن إلي، فإنك بالذي أنت له أهل من عفوك، أحق مني بالذي أنا له أهل من عقوبتك، اللهم ثبت رجاءك في قلبي، واقطعه عمن سواك حتى لا أرجو غيرك، ولا أستعين إلا إياك.
ودعاء لي أيضاً: اللهم هب لي اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عليك، والاستغناء عن خلقك، واجعل خير عملي ما قارب أجلي، رب! ظلمت نفسي فاغفر لي يا خير الغافرين، ويا أرحم الراحمين.
قال بعض الأعراب، في وصف دعوة:
وساريةٍ لم تسر في الليل تبتغي ... محلاً ولم يقطع بها البيد قاطع
سرت حيث لم تسر الركاب ولم تنخ ... لوردٍ ولم يقصر لها القيد مانع
تحل وراء الليل والليل ساقط ... بأرواقه فيه سمير وهاجع
تفتح أبواب السماوات دونها ... إذا قرع الأبواب منهن قارع
إذا أوفدت لم يردد الله وفدها ... على أهلها والله راءٍ وسامع
وإني لأرجو الله حتى كأنما ... أرى بجميل الظن ما الله صانع
أمر المنصور أبو جعفر بأشخاص سوار بن عبد الله القاضي إليه من البصرة بعد قتل إبراهيم ابن عبد الله بن حسن، فلما قدم عليه قال له: يا سوار! ضربني أهل البصرة بمائة ألف سيف من غير جناية، لأفعلن بهم ولأفعلن. فقال له سوار: يا أمير المؤمنين! إن لأهل البصرة سلاحاً لا تطيقه. قال: أبسلاحهم تخوفني لا أم لك يا أمير المؤمنين: إنه دعاء بالأسحار.
ووقف أعرابي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أوصيتنا فقبلنا منك، وحفظنا عنك مما وعيت عن ربك: " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما " ، وقد ظلمنا أنفسنا فاستغفر الله لذنوبنا، وقد أتيناك فاستغفر لنا. ثم بكى.
ومما جاء من الدعاء منظوماً عن الحكماء، قال محمود الوراق:
يا رب كن لي ولياً ... بالحفظ حتى أطيعك
فإن ذممت صنيعي ... فقد حمدت صنيعك
أو كنت أعصيك إني ... أحب فيك مطيعك
قال منصور الفقيه:
أصلح الله كل من ... يتولى أمورنا
ووقانا شرورهم ... ووقاهم شرورنا
وقال آخر:
وإني لأدعو الله والأمر ضيق ... على فما ينفك أن يتفرجا
ورب فتىً سدت عليه وجوهه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا
وقال آخر:
بالله تتسع الفجا ... ج إذا تضايقت المذاهب
وقال آخر:
أيا من لا يخيب لديه راجٍ ... ولم يبرمه إلحاح المناجي
ويا ثقتي على ظلمي وجرمي ... وإيثاري التمادي في اللجاج
أقلني عثرتي وتلاف أمري ... وهب لي منك عفواً واقض حاجي
فما لي غير إقراري بذنبي ... لنفسي دون عذرٍ واحتجاج
قال صحار بن عابد، رأيت حسن البصري بطريق مكة، وهو يحدو:
يا فالق الإصباح أنت ربي
وأنت مولاي وأنت حسبي
فأصلحن باليقين قلبي
ونجني من كرب يوم الكرب
كان يقال: عليكم بالدعاء في أوقات الصلوات، فإنها اختيرت في أفضل الأوقات.
ولمنصور الفقيه أو الشافعي:
يا سميع الدعاء كن عند ظني ... واكفني من كفيته الشر مني
وأعني على رضاك وخر لي ... في أموري، وعافني واعف عني

باب ذكر الدنيا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر " .

قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته احبني الله وأحبني الناس. قال: " ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: " يا عبد الله! كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك من أهل القبور " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع إليه " .
وقال عليه السلام: " مثل الدنيا كركبٍ رفعت لهم شجرة في يوم صائف، فقالوا تحتها ساعةً من نهار ثم راحوا " .
وقال عليه السلام: " إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخفلكم فيها، فانظروا كيف تعملون، ألا فاتقوا الهوى، واتقوا النساء " .
ذكر المبرد أن علي بن أبي طالب رضى الله عنه سئل عن الدنيا والآخرة، فقال: هما كالمشرق والمغرب، بقدر ما تقرب من أحدهما تبعد عن الآخر.
وروى عبد خير عن علي رضى الله عنه قال: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، وإن أحسنت حمدت الله عز وجل، وإن أسأت استغفرت، ولا خير في الدنيا إلا لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتدارك ذلك بتوبته، ورجل يسارع في الخيرات ولا يقل عمل مع تقوى الله وكيف يقل ما يتقبل.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ومن أخذها بغير حقها كان كالذي يأكل ولا يشبع، ورب منحوضٍ من مال الله ورسوله له النار يوم القيامة " .
وروى عنه عليه السلام أنه قال: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " . وروى أن ذلك من كلام المسيح عليه السلام.
قال الأصمعي: ذكر لنا أن أنوشروان لما ضرب عنق بزرجمهر، وجد في منطقته كتاباً لطيفاً فيه ثلاث كلمات: إن كان القدر حقاً فالحرص باطل، وإن كان الغدر في الناس طباعاً فالثقة بكل أحدٍ عجز، وإن كان الموت لكل أحد راصداً، فالطمأنينة إلى الدنيا حمق.
ووعظ أعرابي ابنه، فقال: يا بني! إن الدنيا تسعى على من يسعى لها، فالهرب قبل العطب.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الدنيا؛ فنعم مطية المؤمن يبلغ عليها الخير، وبها ينجو من الشر " .
قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: الدنيا دار صدقٍ لمن صدقها، ودار نجاةٍ لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزود منها، مهبط وحي الله، ومصلى ملائكته، ومساجد أنبيائه، ومتاجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها، وقد أذنت ببينها، ونادت بفراقها، فيا أيها الذام لها، بم خدعتك الدنيا؟ أم بماذا استذمت إليك؟ أبمصارع أمهاتك في الثرى؟ أم بمضاجع آبائك للبلى، لقد تطلب علينا الشفاء، واستوصف الأطباء حين لا يغني عنه دواؤه، ولا ينفعه بكاؤه.
قيل لنوح عليه السلام - حين حضرته الوفاة - : يا نبي الله! لقد بلغت من العمر ما بلغت، فصف لنا الدنيا. فقال: ما وجدت الدنيا مع طول عمري فيها إلا كبيتٍ له بابان، دخلت من أحدهما، وخرجت من الآخر.
قال المسيح عليه السلام: حلو الدنيا مر الآخرة، ومر الدنيا حلو الآخرة، ومن حزن على دنياه سخط على الله.
وعن المسيح عليه السلام أنه قال: الدنيا لإبليس مزرعة، وأهلها لها حراث.
كان يقال: مثل صاحب الدنيا كخائض الماء، هل يستطيع ألا تبتل قدماه.
قال عمر بن الخطاب: يا معشر القراء! لا تلقوا كلكم على إخوانكم، ولا تدعوا دنياكم لآخرتكم، ولا آخرتكم لدنياكم، واستعينوا بهذه على هذه.
قال علي بن أبي طالب: الدنيا دار ممرً إلى دار قرار، والناس فيها رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها، ورجل ابتاعها فأعتقها.
وعن علي رضى الله عنه، أنه قال: إن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب، وقد يجمعهما الله لأقوام. وقد روى هذا الكلام مرفوعاً عن النبي عليه السلام.
أكثر قوم من ذم الدنيا عند رابعة القيسية، فقال: من أحب شيئاً أكثر من ذكره.
وقال سفيان الثوري: من أحب الدنيا وسرته، نزع خوف الآخرة من قلبه.
قال أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصي إلا فيها، ولا ينال ما عند إلا بتركها.
قال حذيفة بن اليمان: ليس خياركم الذين تركوا الدنيا للآخرة، ولا الذين تركوا الآخرة للدنيا، ولكن خياركم الذين أخذوا من هذه وهذه.
قال الشاعر:

إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فمهما زوت عنه فليس بضائر
فما تعدل الدنيا جناح بعوضةٍ ... لدى الله أو مقدار زغبة طائر
فما رضى الدنيا ثواباً لمؤمنٍ ... ولا رضى الدنيا عقاباً لكافر
قال أبو العتاهية:
ويا دنياي مالي لا أراني ... أسومك منزلاً إلا نبا بي
وما لي لا ألح عليك إلا ... نصبت الهم لي من كل باب
أراك وإن طلبت بكل وجهٍ ... كحلم النوم أو ظل السحاب
وكالأمس الذي ولى مريراً ... وكالحدثان أو لمع السراب
وهذا الخلق منك على مسيرٍ ... وأرجلهم جميعاً في الركاب
وموعد كل ذي سعىٍ وفعلٍ ... بما يبدو غداً يوم الحساب
قال ابن مسعود: الدنيا كلها غموم، فما كان منها سرور فهو ربح.
وقال الشاعر:
ومن يحمد الدنيا لعيشٍ يسره ... فسوف لعمري عن قليلٍ يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرةً ... وإن أقبلت كانت قليلاً نعيمها
وقال آخر:
إنما الدنيا وإن سر ... ت قليل من قليل
لبس يخلو أن تراءى ... لك في زيً جميل
ثم ترميك من المأ ... من بالخطب الجليل
قال بعض الحكماء: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها.
قال الخليل بن أحمد: الدنيا أمد، والآخرة أبد.
وصف الحسن البصري الدنيا، فقال: أما اليوم فعمل، وأما أمس فأجل، وأما غد فأمل.
قال محمود الوراق:
تلذذت في الدنيا بك لطريفة ... على أنها أيضاً حرام محرم
وتأمل جنات الخلود لبئسما ... تقدر، من يقضي بهذا ويحكم؟
لئن كان حكم الله يخرج هكذا ... فإنك من يحيي على الله أكرم
إذا قيل: من يقضي بهذا فقل له ... ومد له في الصوت: يحلم يحلم
وقال منصور الفقيه:
دنيا تروح بأهلها ... في كل يومٍ مرتين
فغدوها لتجمعٍ ... ورواحها لشتات بين
وقال آخر:
إنما الدنيا شتات ... فتأهب لشتاتك
واجعل الدنيا كيومٍ ... صمته عن شهواتك
واجعل الفطر إذا ما ... صمته يوم وفاتك
وقال آخر:
أنت في دار شتاتٍ ... فاغتنم وقت حياتك
اترك الدنيا وما ... فيها ودعها لعداتك
تجمع المال وتوعي ... ه لأزواج بناتك
أو لكناتٍ قريرا ... ت عيونٍ بوفاتك
أو لبعل العرس من ... بعدك تحبوه بذاتك
إنما الدنيا كحلم ... فانتبه من غفلاتك
وقال آخر:
نراع لذكر الموت ساعة ذكره ... وتعترض الدنيا فنلهو ونلعب
ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها ... وما كنت فيها فهو شيء محبب
قال الخاسر: أشعر الجن والإنس أبو العتاهية في قوله:
سكن يبقى له سكن ... ما بهذا يؤذن الزمن
نحن في دارٍ يخبرنا ... عن بلاها ناطق لسن
دار سوءٍ لم يدم فرح ... لامرئ فيها ولا حزن
في سبيل الله أنفسنا ... كلنا بالموت مرتهن
كل نفسٍ عند ميتتها ... حظها من مالها الكفن
إن مال المرء ليس له ... منه إلا ذكره الحسن
كان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يتمثل:
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له ... من الله في دار الحياة نصيب
فإن تعجب الدنيا أناساً فإنها ... متاع قليل والزوال قريب
وقال الغزال:
لقد فسدت فما تلقى ... بها من ليس ذا شجن
وصار الحي منا يغ ... بط الملفوف في الكفن
وقال سابق البربري:
لسانك للدنيا عدو مشاحن ... وقلبك فيها للسان مباين
وما ضرها ما قلت فيها وقد صفا ... لها منك ود في فؤادك كامن
قال ابن الحنفية: من كرمت عليه نفسه، هانت عليه الدنيا.
قال الشعبي: ما أعلم لنا وللدنيا مثلا إلا كما قال كثير عزة:

أسيئي بنا أو أحسن لا ملومةً ... لدنيا ولا مقليةً إن تقلت
وقال أبو العتاهية:
أصبحت الدنيا لنا عبرةً ... والحمد الله على ذلكا
قد أجمع الناس على ذمها ... وما أرى منهم لها تاركا
وقال لسابق البربري:
جمعنا لها أكلاً وذماً بألسنٍ ... أليس عجيباً ذمها واحنلاتها
قال أبو الطيب:
تفاني الرجال على حبها ... ولا يحصلون على طائلٍ
وقال أيضاً:
ومن لم يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
وقال آخر:
يذمون دنياهم وهم يحلبونها ... ولم أر كالدنيا تذم وتحلب
وقال سعيد بن حميد:
ولم أر كالدنيا تذم صروفها ... ونوسعها شتماً ونحن عبيدها
وقال منصور الفقيه:
ضحكت دنياك يا إن ... سان من نهيك عنها
مع تمنيك على ربك ... ما لم تؤت منها
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، في خطبة له: أيها الناس! إنما الدنيا أجل محترم، وأمل منتقص، وبلاغ إلى دارٍ غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله من فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه. أيها الناس! قد علمتم أن أباكم أخرج من الجنة بذنبٍ واحد، وأن ربكم وعد على التوبة خيراً، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل، ومن ربه على أمل.
قال بعض الحكماء. إنما الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر.
قال محمود الوراق:
ما أفضح الموت للدنيا وزينتها ... جداً، وما أفضح الدنيا لأهليها
لا ترجعن على الدنيا بلائمةٍ ... فعذرها لك بادٍ في مساويها
لم تبق في غيبها شيئاً لصاحبها ... إلا وقد بينته في معانيها
تفني البنين وتفني الأهل دائبةً ... ونستنيم إليها لا نعاديها
فما يزيدكم قتل الذي قتلت ... ولا العداوة إلا رغبةً فيها
قال أبو حفص عمر بن علي الفلاس: كتبت إلى صديق لي أشاوره في شيءٍ من أمر الدنيا، فكتب إلى رقعة فيها سطران، أحدهما: بسم الله الرحمن الرحيم، والآخر: اطلب الدنيا على قدر مكثك فيها، واطلب الآخرة على قد حاجتك إليها.
كان صالح المري يتمثل:
مؤمل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمل قبل الأمل
وبات يروي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل
وقال آخر:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فطوبى لعبدٍ آثر الله ربه ... وجاد بدنياه لما يتوقع
وقال آخر:
لقد غرت الدنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلةٍ ما بعدها متحول
فساخط أمرٍ لا يبدل غيره ... وراضٍ بأمرٍ غيره سيبدل
وبالغ أمرٍ كان يأمل غيره ... ومختلج من دون ما كان يأمل
وقال آخر:
ويح دنيا غرورها يضنيني ... كم إلى كم غررتني فدعيني
كم تسومينني خداعاً عن الرش ... دٍ وكم ذا الخداع ويك ذريني
أملي زائد وعمري يفني ... ويح نفسي عن رأيها المغبون
همتي تعتلي السماء وسعيي ... كسلاً سعي عاجزٍ مأفون
ويح نفسي أما كفاها من العي ... ش تقضى سنين بعد سنين
ليت شعري وما انتظاري وقد ... لاح شيب بعارضي وقروني
ويا ابن ستين ما اعتذارك من بع ... د بلوغ الأشد والستين
قيل لراهب: كيف سخت نفسك بالخروج عن الدنيا؟ قال: أيقنت أني خارجها منها كارهاً، فأحببت أن أخرج منها طائعاً.
قال بزرجمهر: من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحداً ما يستحق، إما زادته وإما نقصته.

لما قدم سعد بن أي وقاص القادسية أميراً عليها من عند عمر بن الخطاب أتته حرقة بنت النعمان بن المنذر في خدمها ووصائفها، فلما وقفن بين يديه قال: أيكن حرقة بنت النعمان؟ قالت: هأناذه، فما أردت بتكرارك الاستفهام، إن الدنيا دار زوال لا تدوم لأهلها على حال، تنتقل بهم انتقال الظلال، وتعقبهم حالاً بعد حال، إنا كنا ملوك هذا المصر قبلك، يجبي إلينا خراجة ويطيعنا أهله مدة من الدهر، فلما أدبر عنا الأمر صاح بنا صائح الأيام، فصدع شملنا، وشتت ملأنا، وكذلك الدهر يا سعد، فلا تغتر بحال الدنيا، فإنها زائلة عنك كما زالت إليك. ثم سألته حوائجها فقضاها، فدعت: لا أزال الله عنك نعمة أتمها عليك.
كتب أبي بن كعب إلى أخٍ له: أما بعد، فإن الدنيا دار فناء، ومنزل قطيعة، رغب عنها السعداء، وانتزعت من أيدي الأشقياء، فغناها فقر، والعلم بها جهل.
كان يقال: الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
كان يقال: مثل الذي يريد أن تجتمع له الدنيا والآخرة، مثل عبدٍ له ربان فلا يدري أيهما يطيع.
حج سليمان بن عبد الملك فلما أشرف في انصرفه على قديد، نظر من عسكره فأعجبه ما رأى من كثرته، ومعه عمر بن عبد العزيز، فقال له: كيف ترى يا أبا حفص؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين دنيا تأكل بعضها، أنت المبتلي بها والمسؤول عنها.
وروى عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه، أو عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال: الدنيا دول، ليس إلى أحد دون الله إدالتها، فما كان منها لأحد أتاه على ضعفه، وما كان منها على أحد لم يدفعه بقوته.
قال أبو حازم: وجدت الدنيا شيئين: شيئاً لي وشيئاً لغيري، فما كان لي منها لم ينله غيري، ولو رامه بحيلة السموات والأرض، ففيم العناء والغم والتعب.
ذكرت الدنيا لأبي حازم فقال أبو حازم: الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئاً فليصبر على مهارشة الكلاب.
قال أبو حازم: تكدرت الدنيا وتعذرت، ما تمد يدك إلى شيءٍ منها إلا وجدت فاسقاً قد سبقك إليه.
كان سفيان الثوري يقول: الدنيا داء التواءٍ لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح برخائها، ولم يحزن لشقائها.
قال وهيب بن الورد: من أراد الدنيا فليتهيأ للذل.
سمع المسعودي رجلا يقول: أين الزاهدون في الدنيا، الراغبون فيما عند الله. قال: اقلب المعنى وضع يدك على من شئت.
كان سفيان الثوري يتمثل:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ... على أنهم فيها عراةٌ وجوع
أراها وإن كانت تحب فإنها ... سحابة صيفٍ عن قليل تقشع
وقال أبو العتاهية:
يا ساكن الدنيا لقد أوطنتها ... وأمنتها عجباً وكيف أمنتها
وشغلت قلبك عن معادك بالمنى ... وشغلت نفسك بالهوى وفتنتها
وأشعار أبي العتاهية في ذم الدنيا كثيرة جداً، وقد جمعتها شعراً على حروف العجم مما قاله في المواعظ والحكم.
وقال آخر:
ما أعجب الدهر في تصرفه ... والدهر لا تنقضي عجائبه
كم رأينا للدهر من أسدٍ ... بالت على رأسه ثعالبه
قال محمد بن عبد الملك الزيات:
هي السبيل فمن يوم إلى يومٍ ... كأنه ما تريك العين في النوم
لا تعجلن رويداً إنها دول ... دنيا تنقل من قومٍ إلى قوم
إن المنايا وإن أصبحت في شغلٍ ... تحوم حولك حوماً أيما حوم
وقال آخر:
تقنع بالذي قاتك ... ولا تأس لما فاتك
ولا تغتر بالدنيا ... أما تذكر أمواتك
قال بعض الحكماء: استودقت الدنيا فأنعظ الناس.
لأيوب بن حول الشاربي:
فلم أر كالدنيا بها اغتر أهلها ... ولا كاليقين استوحش الدهر صاحبه
وقال محمود الوراق:
أيها الشيخ كم تروم وتبني ... ليس منك الدنيا ولا أنت منها
لا تروميها؛ فأنت وإن كن ... ت مقيماً بها كمن زال عنها
قيل لعامر بن عبد قيس: لقد رضيت من الدنيا باليسير. قال: أخبرك بمن رضى بدون ما رضيت. قيل: من؟ قال: من رضى بالدنيا حظاً عن الآخرة.
قال المأمون: لو سئلت الدنيا عن نفسها ما زادت في وصفها عن وصف أبي نواس حيث يقول:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق

قلت: وأظنه أخذه من قول أبو العتاهية:
ولم أر كالدنيا وكشفي لأهلها ... فما انكشفوا لي عن صفاءٍ وعن صدق
وأول هذا:
طلبت أخاً في الله في الغرب والشرق ... فأعوزني هذا على كثرة الخلق
وقلت أنا: ولأبي نواس في صفة الدنيا بيت غاية أيضاً وهو قوله:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابضٍ ... على الماء خانته فروج الأصابع
قال عمر بن الخطاب: والله ما الدنيا في الآخرة إلا كنفخة أرنب، وتمثل:
لاشيء فيما ترى إلا بشاشته ... يبقى الإله ويفنى الأهل والولد
وقال آخر:
وإن امرءاً دنياه أكثر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور
وقال أبو العتاهية:
يا من ترفع بالدنيا وزينتها ... ليس الترفع رفع الطين بالطين
إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملكٍ في زي مسكين
ذاك الذي شرفت في الناس همته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين
وقال أبو العتاهية:
كفاك عن الدنيا الدنية مخبراً ... غنى باخليها وافتقار كرامها
وأن رجال النفع تحت مداسها ... وأن رجال الضر فوق سنامها
وقال آخر:
الفقر في زمن اللئا ... م لكل ذي كرمٍ علامه
قال نفطويه: يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال، قرضاً أو تمثلاً:
ولا خير في عيشٍ إذا لم يكن له ... من الله في يوم الحساب نصيب
قال الفتح بن شخرف:
كم يكون الشتاء ثم المصيف ... وربيع يمضي ويأتي خريف
وانتقال من الحرور إلى الظ ... ل وسيف الردى عليك منيف
يا قليل البقاء في هذه الدا ... ر إلى كم يغرك التسويف
قال أبو العتاهية:
إن الشقي لمن غرته دنياه
وقال محمد بن عبد الملك الزيات:
سل ديار الحي من غيرها ... وعفاها وعفى منظرها
وكذا الدنيا إذا ما انقلبت ... جعلت معروفها منكرها
إنما الدنيا كظل زائل ... أحمد الله كذا قدرها
وقال محمود الوراق:
كفلت لطالب الدنيا بهم ... طويلٍ لا يؤول إلى انقطاع
وذلً في الحياة بغير عز ... وفقرٍ لا يدل على اتساع
وشغلٍ ليس يعقبه فراغ ... وسعىٍ دائمٍ مع كل ساعي
وحرصٍ لا يزال عليه عبدا ... وعبد الحرص ليس بذي ارتفاع
قال الحسن البصري، لست أعجب ممن هلك كيف هلك، إنما أعجب ممن نجا كيف ونجا، شيطان مريد يحرس منه السماء، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا مزينة.
قال عبد الله بن الأرقم لعمر بن الخطاب: قد اجتمع عندي في بيت المال حلي كثير ومناطق من أموال فارس أفلا تقسمه؟ قال: بلى، فأتني به، فنقلته إليه في القفاف، فلما نظر إليه رأى شيئاً عجباً، فقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نحب ما حببت إلينا، ثم تلا هذه الآية: " زين للناس حب الشهوات من النساء " .
الآية. ثم قال: اللهم قني شره، وارزقني أن أنفقه في حقه.
قال يحيى بن خالد بن برمك: دخلنا في الدنيا دخولاً أخرجنا عنها.
قال منصور الفقيه:
قد صرف البواب والحاجب ... وقهرمان الدار والكاتب
وأصبح الصاحب من بينهم ... بحيث لا جار ولا صاحب
واعتاضت الناهد من بعده ... إلفاً سواه وكذا الكاعب
وجد في تفريق ما لم يزل ... يجمعه وارثه اللاعب
فكن من الدنيا على أهبةٍ ... يا زاهداً فيها ويا راغب
فإنها أم لأبنائها ... منها عدو قاتل سالب
وقال محمد بن أبي حازم الباهلي:
ألا إنما الدنيا على المرء فتنة ... على كل حالٍ أقبلت أو تولت
قال رجل لداود الطائي: عظني. فقال له: أرض من الدنيا إذا سلم لك دينك بما رضى به أهل الدنيا من الآخرة حين سلمت لهم دنياهم، وأنشد في ذلك شعراً، ذكر أن سليمان الأعمش تمثل به:
أرى رجالاً بدون الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدين

لابن أبي عيينة، أو لمحمد بن يسير:
ما راح يوم على حيً ولا ابتكرا ... إلا رأى عبرةً فيه إن اعتبرا
ولا أتت ساعة في الدهر وانصرمت ... حتى تؤثر في قوم لها أثرا
وأن الليالي والأيام أنفسها ... عن عيب أنفسها لم تكتم الخبرا
قال بكر بن حماد:
الناس حرصي على الدنيا وقد فسدت ... فصفوها لك ممزوج بتكدير
فمن مكب عليها لا تساعده ... وعاجزٍ نال دبياه بتقصير
لم يدركوها بعقلٍ عندما قسمت ... وإنما أدركوها بالمقادير
لو كان عن قوةٍ أو عن مغالبة ... طار البزاة بأرزاق العصافير
ويقال: إنها مكتوبة على قائم سيف الإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه.

باب الزهد والقناعة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قل وكفي، خير مما كثر وألهي " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القناعة مال لا ينفد، وما عال من اقتصد " .
وقال عليه السلام: " خير الرزق ما يكفي، وأفضل الذكر الخفي " .
وقال عليه السلام: " إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم " .
قال أبو هريرة، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقنع بما رزقت تكن أغنى الناس " .
قال علي بن أبي طالب: الزاهدون في الدنيا قوم وعظوا فاتعظوا، وأيقنوا فعملوا، إن نالهم يسر شكروا، وإن نالهم عسر صبروا.
وفي الخبر المرفوع: " عز المؤمن استغناؤه بربه عن الناس " .
قال سعيد بن المسيب: من استغنى بالله افتقر الناس إليه.
قال الحطيئة:
استغن عن كل ذي قربى وذي رحم ... إن الغنى من استغنى عن الناس
قال أوس بن حارثة لابنه: يا بني! خير الغنى القناعة، وشر الفقر الخضوع.
قال الحسن وعكرمة في قول الله عز وجل: " فلنحيينه حياة طيبةً " ، قالا: القناعة.
أبلغ شيءٍ جاء في القناعة، قول علي رضى الله عنه: لا تحمل قوت غدك الذي لم يأت، على يومك الذي قد أتى، فإنه إن يكن من أيام حياتك جاءك وفيه رزقك، وأعلم أنك لم تدخر أكثر من قوت يومك إلا كنت فيه خازناً لغيرك.
قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين! بحقً ما أقول لكم: ما زهد في الدنيا من جزع على المصيبة فيها.
وقيل له: يا روح الله! لو اتخذت حماراً تركبه؟ قال: أنا أعز على الله من أن يجعل لي شيئاً يشغلني به.
قال أكثم بن صيفي: من لم يأس على ما فاته أراح نفسه.
سئل ابن شهاب عن الزهد في الدنيا، فقال: الزهد ألا يغلب الحرام صبرك، ولا الحلال شكرك.
قال مالك بن أنس، وسفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل.
قال بعض الحكماء: إذا كان سعيك إنما هو لطلب الراحة في الدنيا، ثم سعيت لأكثر مما يكفيك لم تزدد من الراحة والدعة إلا بعداً.
قال سفيان أو إبراهيم بن أدهم: الزهد زهدان؛ فزهد فرضٍ، وزهد فضل. فالزهد في الحرام فرض، و الزهد في الحلال فضل. والورع ورعان، فالورع عن المعاصي فرض، والورع عن الشبهات حذر وفضل.
سئل الخليل بن أحمد عن الزهد في الدنيا، فقال: الزهد ألا تطلب المفقود حتى تفقد الموجود.
قال إبراهيم بن أدهم: إذا بات الملوك على اختيارهم لأنفسهم، فبت على اختيار الله لك وارض به.
أصيب مكتوباً على صخرة: لست مدركاً أملك، ولا فائتاً أجلك، ولا آخذاً ما ليس لك.
وفي موضع آخر: القضاء غالب، والأجل طالب، والمقدور كائن، والهم فضل.
قال بعض الحكماء: القفاعة. ثوب لا يبلى، وهي شعار الأنبياء.
ولابن المبارك:
لله در القنوع من خلقٍ ... كم من وضيعٍ به قد ارتفعا
يضيق صدر الفتى بحاجته ... ومن تأسى بدونه اتسعا
قال بعض الحكماء لبنيه: يا بني! أظهروا الزهد والنسك، فإن رأى الناس أحدكم بخيلا قالوا: مقتصد لا يحب الإسراف، وإن رأوه عييا قالوا: يكره الكلام فيما لا يعنيه، ويؤثر الصمت خير من مقال يرديه، وإن رأوه جباناً قالوا: لا يقدم على الشبهات.
قال العتبي، كان يقال: من عدم القناعة، لم تزده الثروة إلا عناءً.
قال أبو العتاهية:
تبغي من الدنيا الكثير وإنما ... يكفيك منها مثل زاد الراكب

لا تعجبن بما ترى فكأنه ... قد زال عنك زوال أمس الذاهب
قال منصور الفقيه:
كل من في هذه الدن ... يا من الناس ذليل
وأذل الناس من لم ... يرضه منها القليل
وقال آخر:
كم كافرٍ بالله أمواله ... تزداد أضعافاً على كفره
ومؤمن ليس له درهم ... يزداد إيماناً على فقره
لا خير فيمن لم يكن عاقلاً ... يمد رجليه على قدره
وقال منصور الفقيه:
منافسة الفتى فيما يزول ... على نقصان همته دليل
ومختار القليل أقل منه ... وكل فوائد الدنيا قليل
وله أيضاً:
إذا قال لي قائل كيف أن ... ت أقول له: أنا في عافيه
لأشياء منها الرضى بالكفاف ... وما كل نفسٍ به راضيه
وقال أيضاً:
ألا إن رزق الله ليس يفوت ... فلا ترعن إن القليل يقوت
رضيت بقسم الله حظاً لأنه ... تكفل رزقي من له الملكوت
سأقنع بالمال القليل لأنني ... رأيت أخا المال الكثير يموت
وقال الحسين بن الضحاك:
يا روح من حسمت قناعته ... سبب المطامع من غدٍ وغد
من لم يكن لله متهماً ... لم يمس محتاجاً إلى أحد
ويروى لأبي العتاهية أو العطوي:
عندي من الناس أنباء وتجربة ... على اختلافهم في العقل والشيم
حسبي بظل جدارٍ من مهادهم ... ومن مياههم ما أستقي بفم
كم قد أهابت بي الدنيا فقلت لها: إليك عني ففي أذني كالصمم
إني قنعت بقوتٍ لا أجاوزه ... وصون وجهي عن لالا وعن نعم
ولست أذخر فضل القوت عن أحدٍ ... في كل يوم يجىء الله بالطعم
لعبد الله بن المبارك وقيل إنها لغيره:
ومن البلاء وللبلاء علامة ... ألا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع مرة ويجوع
وقال آخر:
إذا لم يهن عرضي على ولم يكن ... بوجهي من ذل السؤال كدوح
فقوت بلا ذمً وبيت يكنني ... وطمران أغدو فيهما وأروح
هو العيش لا ظل انتظار لموعدٍ ... ولا مالك أمري على شحيح
ولي أمل في الناس ليس شقاوةً ... سوى دين سياح عليه مسوح
وقال آخر:
يا رب ساع له في سعيه أمل ... أودى ولم يقض من لذاته الوطرا
ما ذاق طعم الغني من لا قنوع له ... ولا ترى قانعاً ما عشت مفتقرا
وقال منصور الفقيه:
إذا شئت أن تحيا بلا عائبٍ أصلا ... فكن راضياً بالقوت واجتنب الفضلا
وكاف ذوي الإجرام بالصفح عنهم ... وقل لهم إما لقيتهم أهلا
ولا تلق خلقاً سائلا وزن ذرةٍ ... ولو جاد بالدنيا نسائله بذلا
فما وضع المرء الحسيب ولا ارتقى ... بأدنى الورى بيتاً إلى المنزل الأعلى
سوى صبر هذا عن سواه وحرص ذا ... فبع بالغني فقراً وبالعزة الذلا
وقال آخر:
ما سرني أن نفسي غير قانعةٍ ... وأن أرزاق هذا الخلق تحت يدي
وقف أعرابي على الحسن، وهو يعظ جلساءه، فقال: يا أعرابي! ما أظنك تعلم شيئاً مما نحن فيه، فأنشأ يقول:
مهما جهلت فقد علم ... ت بأنني بشر أموت
والناس في طلب الغنى ... وغناهم من ذاك قوت
شادوا لغيرهم وبا ... دوا والقبور هي البيوت
وقال أبو العتاهية:
طال همي بغير ما يعنيني ... واشتغالي بكل ما يلهيني
ولو أني قنعت لم أبغ رزقي ... كان رزقي هو الذي يبغيني
ولعمري إن الطريق إلى الحق ... منير لناظر المستبين
أحمد الله حمد عبد شكور ... ما عليها إلا ضعيف اليقين
وقول أبي العتاهية: كان رزقي هو الذي يبغيني، مأخوذ - والله أعلم - من قول ابن أذينة:
أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني
وقد ذكرت هذه الأبيات في باب الرزق.
قال العطوي:

إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يلق في دهره هماً يؤرقه
قال الأضبط بن قريع:
اقنع من الدهر ما أتاك به ... من قر عيناً بعيشه نفعه
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
قال سليمان بن داود عليه السلام: كل العيش قد جربناه، لينه وشديده، وبلوناه فوجدناه يكفي منه أدناه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسمه، معه قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا " .
قال منصور الفقيه:
إذا القوت تأتي لك ... والصحة والأمن
وعف الفم والفرج ... تقي لله والبطن
وأصبحت أخا حزنٍ ... فلا فارقك الحزن
وقال آخر:
إذا ما كساك الله سربال صحةٍ ... ولم تخل من قوتٍ يحل ويعذب
فلا تحسدن الكمثرين فإنهم ... على قدر ما يكسوهم الدهر يسلب
وقال هلال بن خثعم في أبيات له، ونسبت إلى بشار بن بشر المجاشعي:
إن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمورٍ اجتنابها
قال يحيى بن خالد: دخلت على الرشيد يوماً فأصبته متكئاً يسطر في ورقةٍ فيها كتابة بالذهب، فلما رآني تبسم، فقلت: فائدة أصلح الله أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية، وقد أضفت إليهما ثالثاً، وأنشدني:
إذا سد باب عنك من دون حاجةٍ ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها
فإن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
ولا تك مبذالا لعرضك واجتنب ... ركوب المعاصي يجتنبك عقابها
وعن أبي محمد اليزيدي، قال: دخلت على الرشيد.. فذكر مثله حرفاً بحرف.
روى أبو خليفة الفضل بن حباب، عن محمد بن سلام، قال: قال حماد الراوية: أفضل بيت روى من أشعار العرب، قول الحطئية:
يقولون يستغني ووالله ما الغنى ... من المال إلا ما يكف وما يكفي
وقال محمود الوراق:
إن القناعة ما علمت غنىً ... والحرص يورث ذا الغنى فقرا
وقال منصور الفقيه:
إذا قنعت بقوتٍ ... ولبس ثوبٍ مرقع
ولم يكن لي عيال ... نفسي لهم تتفجع
ولا بنون صغار ... قلبي لهم يتقطع
ولا صديق مصافٍ ... فراقه أتوقع
وقد عزفت عن الله ... و والغنى والتمتع
وكان لله نسكي ... فما بي الدهر يصنع
وقال آخر:
قنع النفس بالكفاف وإلا ... طلبت منك فوق ما يكفيها
قال الأصمعي: أحكم بيتٍ قالته العرب، بيت أبي ذؤيب الهذلي:
والنفس راغبةً إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليلٍ تقنع
وقال محمد بن أبي حازم:
لعمرك للقليل أصون وجهي ... به في الأوحدين وفي الجميع
أحب إلى من طلبي كثيراً ... تمد إليه أعناق الخضوع
فعش بالقوت يوماً بعد يومٍ ... كمص الطفل فيقات الضروع
ولا ترغب إلى أحدٍ بحرصٍ ... رفيعٍ في الأمور ولا وضيع
قال الخليل بن أحمد:
إن لم يكن لك لحم ... كفاك خبز وزيت
أو لم يكن لك هذا ... فكسرة ثم بيت
تظل فيه وتأوى ... حتى يجيئك موت
هذا كفاف وأمن ... فلا تغرنك ليت
وقال ابن بسام أو غيره:
رضيت بالقوت من زماني ... وصنت عرضي عن الهوان
مخافةً أن يقول قوم ... فضل فلانٍ على فلان
من كنت عن ماله غنياً ... رأيته مثل ما يراني
أزوره إن أراد وصلي ... وأقطع الوصل إن جفاني
فاستغن بالله عن فلانٍ ... وعن فلان وعن فلان
ولعبد الله بن المبارك:
أرى رجالاً بدون الذين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدين
لعمر بن محمد بن عبد الملك الزيات:

شره النفوس على النفوس بلية ... فتعوذوا من كل نفسٍ تشره
ما من فتى شرهت له نفس وإن ... نال الغنى إلا رأى ما يكره
وقال آخر:
إذا ما شئت أن تعر ... ف يوماً كذب الشهوه
فكل ما شئت يغنيك ... عن المرةٍ والحلوه
وطا ما شيت يغنيك ... عن الحسناء والذروه
فكم أسلاك ما تهوا ... ه فعل الشيء لم تهوه
وقال منصور الفقيه:
من كفاه من مساعي ... ه رغيف يغتذيه
وله بيت يواري ... ه وثوب يكتسيه
فلماذا يبذل العر ... ض لنذلٍ أو سفيه
كل مالٍ منعته ال ... بر أيدي باذليه
فهو للوارث والوز ... ر على مكتسبيه
وقال محمود الوراق:
مروءة معسر عف قنوعٍ ... يقدر في معيشته ويمسك
تزيد على مروءة كل مثرٍ ... يروح ويغتدى جم التملك
وأكثر من سخاتك بالعطايا ... سخاء النفس عما ليس تملك
وقال سهل الوراق:
ترى المرء مشغوفاً بدنياه متعبا ... وراحته لو صح فيها يقينه
صباحاً مساءً في طلاب وماله ... من الرزق إلا ما الإله ضمينه
وقال كعب بن زهير:
إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا ... ومن سوانا، فلسنا نحن نرتزق
وقد مضى في باب الرزق أشياء من معاني هذا الباب.
وقال محمود الوراق:
غنى النفس يغنيها إذا كنت قانعاً ... وليس بمغنيك الكثير من الحرص
وإن اعتقاد الهم للمرء جامع ... وقلة هم المرء يدعو إلى النغص
ولمحمود الوراق أيضاً:
من كان ذا مالٍ كثير ولم ... يقنع فذاك الموسر المعسر
وكل من كان قنوعاً وإن ... كان مقلا فهو المكثر
الفقر في النفس وفيها الغنى ... وفي غنى النفس الغنى الأكبر
وقال منصور الفقيه:
ليس هذا زمان قولك ما الحك ... م على من يقول: أنت حرام؟
والحقى بائناً بأهلك أو أن ... ت عتيق محرر يا غلام
ومتى تنكح المصانة في العد ... ةٍ عن شبهةٍ، وكيف الكلام؟
في حرامٍ أصاب سن غزالٍ ... فتولى وللغزال بغام
إنما ذا زمان كدً إلى المو ... ت، وقوتٍ مبلغٍ والسلام
لأبي العتاهية رحمه الله:
أتدري أي ذل في السؤال ... وفي بذل الوجوه إلى الرجال
يعز على التنزه من بغاه ... ويستغنى العفيف بغير مال
إذا كان النوال ببذل وجهي ... فلا قربت من ذاك النوال
معاذ الله من خلق دنىً ... يكون الفضل فيه على لالي
توق يداً تكون عليك فضلا ... فصانعها إليك عليك غال
يد تعلو يداً بجميل فعلٍ ... كما علت اليمين على الشمال
وجوه العيش في سعةٍ وضيقٍ ... وحسبك والتوسع في الحلال
أتنكر أن تكون أخا نعيمٍ ... وأنت تصيف في الظل الظلال
وأنت تصيب قوتك في عفافٍ ... ورياً إن ظمئت من الزلال
متى تمسى وتصبح مستريحاً ... وأنت الدهر لا ترضى بحال
تكابد جمع شيءٍ بعد شيءٍ ... وتبغي أن تكون رخي بال
وقد يجري قليل المال مجرى ... كثير المال في سد الخلال
إذا كان القليل بسد فقرى ... ولم أجد الكثير فلا أبالي
هي الدنيا رأيت الحب فيها ... عواقبه التفرق عن تقال
تسر إذا نظرت إلى هلالٍ ... ونقصك إن نظرت إلى الهلال
تعالى الله يا سلم بن عمروٍ ... أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى زوال
فما ترجو بشيءٍ ليس يبقى ... وشيكاً ما تفرقه الليالي
فلما اتصل بسلم الخاسر، وهو سلم بن عمرو، قول أبي العتاهية، كتبت إليه:
ما قبح التزهيد من واعظٍ ... يزهد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقاً ... أضحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الدنيا فما باله ... يستكثر المال ويسترفد
يخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا ينفد
الرزق مقسوم على من ترى ... يسعى له الأبيض والأسود
وقد قيل: إن الأبيات التي فيها ذكر سلم بن عمرو، ليست في الشعر المذكور، وإنما هي في قول أبي العتاهية:
نعى نفسي إلى من الليالي ... تصرفهن حالاً بعد حال
فما لي لست مشغولا بنفسي ... ومالي لا أخاف الموت مالي
لقد أيقنت أني غير باقٍ ... ولكني أراني لا أبالي
تعالى الله يا سلم بن عمروٍ ... أذل الحرص أعناق الرجال

باب من المواعظ الموجزة
قال ر سول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب " .
قال عليه السلام لعبد الله بن مسعود: " يا عبد الله! لا تكثر همك ما يقدر يكن، وما ترزق يأتك " .
قال عليه السلام لعبد الله بن عمر يعظه: " يا عبد الله! اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " . أخذه محمود الوراق، والله أعلم، فقال:
بادر شبابك أن تهرما ... وصحة جسمك أن تسقما
وأيام عيشك قبل الممات ... فما قصر من عاش أن يسلما
ووقت فراغك بادر به ... ليالي شغلك في بعض ما
فقدر فكل امرئٍ قادم ... على علم ما كان قد قدما
سئل علي عليه السلام: من الزاهد في الدنيا؟ قال: من لم ينس المقابر والبلى وترك فضل زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، وعد نفسه في الموتى.
قال عليه السلام: " ما ينتظر أحدكم إلا غنى مطغياً، أو فقراً منسياً، أو مرضاً مفسدا، أو هرماً مقيداً، أو موتاً مجهزاً، والدجال شر غائب، تنتظره الساعة، والساعة أدهى وأمر " .
قال ر سول الله صلى الله عليه وسلم: " لم أر كالنار نام هاربها، ولم أر كالجنة نام طالبها " .
قال جعفر بن محمد: الناقص من الناس من لا ينتفع من المواعظ إلا بما آلمه أو لزمه.
كان يقال: اجعل عمرك كنفقةٍ رفعت إليك، فأنت لا تحب أن يذهب ما ينفق منها ضياعا، فلا يذهب عمرك ضياعاً.
قال أبو عمرو بن العلاء: أول شعر قيل في ذم الدنيا، قول يزيد بن خذاق العبدي:
هل للفتى من بنات الدهر من راق ... أم هل له من حسام الموت من واق
قد رجلوني وما بالشعر من شعث ... وألبسوني ثياباً غير أخلاق
ورفعوني وقالوا أيما رجلٍ ... وأدرجوني كأني طي مخراق
وأرسلوا فتيةً من خيرهم حسباً ... ليسندوا في ضريح القبر أطباقي
وقسموا المال وارفضت عوائدهم ... وقال قائلهم مات ابن خذاق
هون عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنما مالنا للوارث الباقي
قال ابن عباس: ما انتفعت بشيءٍ بعد وعظ ر سول الله صلى الله عليه وسلم منفعتي بشيءٍ كتب به إلى علي بن أبي طالب رضى الله عنه: أما بعد، فإن المرء يسره درك ما لم يدركه، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فات منها، وليكن همك لما بعد الموت.
قال أبو سليمان الداراني: رأيت على باب دمشق:
وكم من فتىً يمسي ويصبح لاهياً ... وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
قال أعرابي لابنه: يا بني! من خاف الموت بادر الفوت، ومن لم يصبر على الشهوات، أسرعت به إلى الهلكات.
ووعظ أعرابي أخاه فقال: يا أخي! أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلب ما قد كفيته، فكأن ما قد غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه، يا أخي! كأنك لم تر حريصاً محروماً، ولا زاهداً مرزوقاً.
كتب علي بن الحسين إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك أعز ما تكون بالله، أحوج ما تكون إليه، فإذا عززت به فاعف له، فإنك به تقدر، وإليه ترجع والسلام.
وفي الحديث المرفوع: " عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه " .

كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء: أما بعد، فإنك لا تنال ما تريد إلا بترك ما تشتهي، ولن تبلغ ما تأمل، إلا بالصبر على ما تكره، فليكن قولك ذكراً، وصمتك فكراً، ونظرك عبرة، واعلم أن أعجز الناس من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله، وأن أكيسهم من أتعب نفسه وعمل لما بعد الموت.
قال الحسن البصري: يا معشر الشيوخ! الزرع إذا بلغ ما يصنع به؟ قالوا: يحصد. قال: يا معشر الشباب! كم زرع لم يبلغ قد أدركته آفة.
قال مسلم بن الوليد:
كم رأينا من أناسٍ هلكوا ... فبكى أحبابهم ثم بكوا
تركوا الدنيا لمن بعدهم ... ودهم لو قدموا ما تركوا
كم رأينا من ملوكٍ سوقةٍ ... ورأينا سوقةً قد ملكوا
وقال آخر:
رب قومٍ غبروا من عيشهم ... في نعيمٍ وسرورٍ وغدق
سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دماً حين نطق
وقال آخر:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تمنعهم القلل
وقال محمود الوراق:
أبقيت مالك ميراثاً لوارثه ... فليت شعري ما أبقى لك المال؟
القوم بعدك في حال تسرهم ... فكيف بعدهم دارت بك الحال
ملوا البكاء فما يبكيك من أحدٍ ... واستحكم القيل في الميراث والقال
مالت بهم عنك دنيا أقبلت لهم ... وأدبرت عنك والأيام أحوال
وقال تميم بن مقبل:
ما أنعم العيش لو أن الفتى حجر ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
وكل حصن وإن طالت سلامته ... على دعائمه لابد مهدوم
ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لابد مشئوم
وقال كعب بن زهير:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوماً على آلةٍ حدباء محمول
كان عمر بن عبد العزيز يتمثل:
من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا
في قعرٍ مظلمةٍ غبراء موحشةٍيطيل فيها ولا يختارها اللبثا
تجهزي بجهازٍ تبلغين به ... يا نفس واقتصدي لم تخلقي عبثا
وكان يتمثل أيضاً - رحمه الله - :
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم ... وكيف يطيق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لحرقت ... مدامع عينيك الدموع السواجم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... ونومك ليل والردى لك لازم
يغرك ما يفني وتشغل بالمنى ... كما غر باللذات في النوم حالم
وتشغل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
وقال محمود الوراق:
أيها الشيخ المعل ... ل نفسه والشيب شامل
والليل يطوي لا يفتر ... والنهار بك المنازل
اعلم بأنك نائم ... فوق الفراش وأنت راحل
يتعاقبان بك الردى ... لا يغفلان وأنت غافل
وقال ابن الكلبي، عن أبيه: خرج النعمان بن المنذر إلى الصيد، ومعه عدي بن زيد، فمر بشجرة، فقال له: أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: لا. قال: تقول:
رب ركبٍ قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذاك الدهر حالاً بعد حال
قال: ثم مر بمقبرة، فقال له عدي: أتدري أيها الملك ما تقول هذه المقبرة؟ قال: لا. قال: تقول:
أيها الركب المخبون ... على الأرض المجدون
كما أنتم كنا ... كما نحن تكونون
فقال النعمان: قد علمت أن الشجرة والمقبرة لم يتكلما، وإنما أردت موعظتي، فما السبيل الذي تدرك به النجاة؟ قال: تدع عبادة الأوثان، وتعبد الله، وتدين بدين المسيح. قال: فتنصر يومئذ.
ولعدي بن زيد:
كفى واعظاً للمرء أيام دهره ... تروج له بالواعظات وتغتدي
قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم المدني: عظني. فقال: عظم ربك أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك.

ومن مواعظ بعض العرب: كل من ازداد نقص، وكل من أقام ظعن وشخص، ولو كان يميت الناس الداء أعاشهم الدواء.
وأنشد أبو العباس المبرد:
تصرفت طورا كي أرى كل عبرةٍ ... وكان الصبا مني جديداً فأخلقا
فما ازداد شيء قط إلا لنقصه ... وما اجتمع الإلفان إلا تفرقا
وقال محمود الوراق:
أراني في انتقاصٍ كل يومٍ ... ولا يبقى مع النقصان شيء
طوى العصران ما نشراه مني ... فأخلق جدتي نشر وطي
فإن أك قد فنيت ومات بعضي ... فإن الحرص باقٍ في حي
عصيت الرشد إذ أدعى إليه ... وملك طاعتي ضعف وعي
وقال عمرو بن هند:
نعلل والأيام تنقص عمرنا ... كما تنقص النيران من طرف الوقد
وقال محمود الوراق:
إن عيشاً إلى الممات مصيره ... لحقيق ألا يدوم سروره
وسرور يكون آخره المو ... ت سواء قليله وكثيره
ويروي: طويلة وقصيرة.
كان يزيد الرقاشي يتمثل كثيراً بهذا البيت:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى يدني من الأجل
روى من حديث مالك، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: ما من أهل بيتٍ إلا وملك الموت يأتيهم، فمن وجده قد انقضى أجله قبض روحه، فإذا بكى أهله قال: لم تبكون، ولم تجزعون؟ والله ما نقصت لكم عمرا، ولا حبست عنكم رزقاً، ومالي ذنب، وإن لي فيكم لعودة ثم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد.
قال أبو الدرداء في خطبة خطبها بدمشق: مالي أراكم تجمعون مالا تأكلون، وتبنون مالا تسكنون، وتأملون مالا تدركون، إن من كان قبلكم جمعوا كثيراً وبنوا شديداً وأملوا بعيداً، فأصبح جميعهم بوراً ومنازلهم قبوراً، وأملهم غروراً، هذه منازل عاد وثمود بين قطري الأرض ما يسرني أنها لي بدرهمين.
وجد مكتوباً في حجر: ابن آدم! لو رأيت يسير ما بقى من أجلك؛ لزهدت في طول ما ترجوه من أملك، وإنما يلقاك ندمك، لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك القريب وودعك الحبيب، ثم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت في عملك بزائد، ولا إلى أهلك بعائد؛ فاعمل لنفسك قبل يوم القيامة، وقبل الحسرة والندامة.
قال محمود الوراق:
يا ناظراً يرنو يعيني رافد ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد
منتك نفسك ضلة فأجبتها ... طرق السفاهة فعل غير الراشد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى ... فوز الجنان ونيل أجر العابد
ونسيت أن الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنبٍ واحد
وجد حجر في بئر باليمامة، وهي بئر طسم وجديس، في قرية يقال لها معتق مكتوب فيه:
يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يومٍ لا تسيرونا
حثوا المطى وأرخوا في أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناساً كما كنتم فغيرنا ... دهر، فأنتم كما كنا تكونونا
قال عبد الله بن ثعلبة: أمسك مذموم منك، ويومك غير محمودٍ لك، وغدك غير مأمون عليك.
ومما أنشده ابن أبي الدنيا - رحمه الله - :
قل للمؤمل إن الموت في أثرك ... وليس يخفي عليك الموت في نظرك
فيمن مضى لك إن فكرت معتبر ... ومن يمت كل يوم فهو من نذرك
دار تسافر منها في غدٍ سفراً ... ولا تؤوب إذا سافرت من سفرك
تضحى غدا سمراً للذاكرين كما ... كان الذين مضوا بالأمس من سمرك
قال علي بن أبي طالب: يا ابن آدم! لا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي قد أنى، فإنه إن يكن من أجلك أتى الله فيه برزقك، واعلم أنك إن تكسب شيئاً فوق قوتك إلا كنت خازناً لغيرك.
قال بعض الحكماء: الأيام ثلاثة، فأمس صديق مؤدب، أبقى لك عظةً وترك فيك عبرة، واليوم صديق مودع، أتاك ولم تأته، كان عنك طويل الغيبة، وهو عنك سريع الظعن، فخذ لنفسك فيه، وغد لا تدري ما يحدث الله فيه، أمن أهله أنت أم لا.
لأسقف نجران، ويروى لتبع الحميري:
منع البقاء تصرف الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسى
وطلوعها بيضاء صافيةً ... وغروبها صفراء كالورس

اليوم تعلم ما يجئ به ... ومضى بفصل قضائه أمس
وقال أبو العتاهية:
الشمس تنعي ساكن الدنيا ... ويسعدها القمر
أين الذين عهدتهم ... لهم المهابة والأثر
أودوا وصار عليهم ... ركم الجنادل والمدر
أفناهم غلس العشا ... ء وهز أجنحة السحر
ما للقلوب رقيقةً ... وكأن قلبك من حجر
ولقلما تبقى وعو ... دك كل يومٍ يعتصر
وقال أبو العتاهية:
سبحان ذي الملكوت أية ليلةٍ ... مخضت صبيحتها بيوم الموقف
لو أن عيناً أوهمتها نفسها ... يوم الحساب تمثلاً لم تطرف
وقال أبو العتاهية أيضاً:
أيا عجباً كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
والله في كل تحريكةٍ ... وفي كل تسكينةٍ شاهد
وفي كل شيءٍ له آية ... تدل على أنه الواحد
وقال آخر:
ومنتظرٍ للموت في كل ساعةٍ ... يشيد ويبني دائباً ويحصن
له حين تبلوه حقيقة موقنٍ ... وأفعاله أفعال من ليس يوقن
عيان كإنكارٍ وكالجهلٍ علمه ... لمذهبه في كل ما يتيقن
وقال العطوي:
نحن أهل اليقين بالموت والبع ... ث وعرض الأقوال والأعمال
ثم لا نرعوي وقد أمهل الل ... ه بطول الإيقاظ والإمهال
أي شيءٍ تركت يا عارفاً ... بالله للممترين والجهال
مكتوب في التوراة: البر لا يبلي، والذنب لا ينسى، والمال يفنى، والخير يبقى، والديان حي لا يموت، فكن كما شئت، كما تدين تدان.
وجد حجر مكتوب فيه: ما أكلنا نلنا، وما قدمنا وجدنا، وما تركنا ندمنا.
وخير من هذا قول ر سول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس للإنسان من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى، وغير ذلك فإلى وارثه " .
ولأعرابي من بني أسد:
يقولون ثمر ما استطعت وإنما ... لوارثه ما ثمر المال كاسبه
فكله وأطعمه وجنبه وارثا ... شحيحا ودهراً تعتريك نوائبه
وقال آخر:
وللمنايا تربى كل مرضعةٍ ... وللخراب يجد الناس عمرانا
وقال آخر:
فإن يكن الموت أفناهم ... فللموت ما تلد الوالده
وقال أبو العتاهية:
لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى تباب
لمن نبني ونحن إلى ترابٍ ... نصير كما خلقنا للتراب
ألا يا موت لم تقبل فداءً ... أتيت فما تحيف ولا تحابي
كأنك قد هجمت على مشيبي ... كما هجم المشيب على شبابي
وقال آخر:
كم من مصيخٍ إلى أوتار مسمعةٍ ... ناحت عليه وقد كانت تغنيه
وقال منصور الفقيه:
تراوح ما ليس يرضى الإله ... وتغدو عليه وتخشى البلاء
كفعل النساء إذا ما أسأن ... فعاتبتهن أطلن البكاء
ولو كنت داويت قرح الذنوب ... بترك الذنوب جمعت الدواء
وقال عروة بن أذينة:
نراع إذا الجنائز قابلتنا ... ويحزننا بكاء الباكيات
كروعة ثلةٍ لمغار سبعٍ ... فلما غاب عادت راتعات
وقال أبو العتاهية:
إذا ما رأيتم ميتين جزعتم ... وإن لم تروا ملتم إلى صبواتها
قال علي بن أبي طالب: لا وجع إلا وجع القلوب من الذنوب، ولا شيء أشد من الموت، وكفى بما سلف تفكرا، وكفى بالموت واعظاً.
قال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها
وهل بدل الدين غير الملوك ... وأحبار سوءٍ ورهبانها
قال أبو العتاهية:
مالي أراك بغير نفسك لا أبالك تشتغل
خذ للوفاة من الحيا ... ة بحظها قبل الأجل
واعلم بأن الموت ... ليس بغافلٍ عمن غفل
أين المرازبة الجحا ... جحة البطارقة الأول

وذوو التفاضل في المجا ... لس والترفل في الحلل
قال عمر بن عبيد للمنصور: إن الله قد وهب لك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها.
كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: خف ما خوفك الله يكفك ما خوفك الناس، وخذ مما في يديك لما بين يديك، فعند الموت يأتيك الخبر اليقين.
قال الحسن بن أبي الحسن، وقد نظر إلى الناس يلعبون ويضحكون في يوم العيد: إن الله قد جعل شهر رمضان مضمار الخلق، يستبقون فيه لطاعته إلى مرضاته، فالعجب من الضاحك واللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته عن تجديد ثوب أو ترجيل شعر.
وقال منصور الفقيه:
أتلهو وقد ذهب الأطيبان ... وأنذرك الشيب قرب الأجل
كأنك لم تر حياً يموت ... ولم تر ميتاً على مغتسل
كان بعض الحكماء يقول: لئن كانت الحظوظ بالجدود فما الحرص، وإن كانت الأيام ليست بدائمةٍ فما السرور، وإن كانت الدنيا غرارة فما الطمأنينة.
قال أحمد بن زهير: سمعت مصعب بن عبد الله الزبيري يقول: أبو العتاهية أشعر الناس، فقلت: بأي شيءٍ استحق ذلك عندك؟ فقال: بقوله:
تعلقت بآمالٍ ... طوالٍ أي آمال
وأقبلت على الدنيا ... ملحاً أي إقبال
أيا هذا تجهز ل ... فراق الأهل والمال
فلابد من الموت ... على حالٍ من الحال
ثم قال مصعب: هذا كلام حق لا حشو فيه ولا نقصان، يعرفه العاقل، ويقر به الجاهل.
قال عمر بن عبد العزيز: خلقنا لأمر إن كنا نؤمن به إنا لحمقى، وإن كنا تكفر به إنا لهلكي.
قال أبو العتاهية:
أتطمع أن تخلد لا أبا لك ... أمنت قوى المنية أن تنالك
أما والله إن لها رسولا ... أقسم لو أتاك لما أقالك
توقع حيث كنت نزول يومٍ ... يشتت بعد جمعهم عيالك
كأني بالتراب عليك يحثى ... وبالباكين يقتسمون مالك
ولست بحاملٍ منه نقيراً ... ولا متزوداً إلا فعالك
قال داود الطائي: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله قصر عمله.
وقال سابق البربري:
أين الملوك التي عن خطبها غفلت ... حتى سقاها بكاس الموت ساقيها
نرجو ونأمل أياماً تعد لنا ... سريعو المر تطوينا ونطويها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودارنا لخراب الدهر نبنيها
قال ميمون بن مهران: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً، وعنده سابق البربري ينشده شعراً، فكان مما حفظت منه:
فكم من صحيحٍ بات للموت آمناً ... أتته المنايا بغتةً بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتةً ... فراراً ولا منه بحيلةٍ امتنع
ولا يترك الموت الغنى لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجةٍ يدع
وقال مصبح الأسدي:
كفى خيبةً بالمرء يا أم مالكٍ ... ركوب المعاصي عامداً واحتقارها
وقال محمود الوراق:
دب في السقام سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضواً فعضوا
لهف نفسي على ليال وأيا ... مٍ تمليتهن لعباً ولهوا
بليت جدتي بطاعة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا
ويروى لمنصور الفقيه:
إذا لم يكن لك في المحكمات ... وفي الموت ناه عن المنكرات
فلا تغدون إلى واعظٍ ... فلست بمنتفع بالعظات
وقال أيضاً:
من لم تعظه المنايا ... ولم يعظه الكتاب
فليس ينجع فيه ... فلا تعن عتاب
الحسن بن هانئ، ويروى لأبي العتاهية:
وعظتك أجداث صمت ... ونعتك أزمنة خفت
وأرتك قبرك في القبو ... ر وأنت حي لم تمت
وتكلمت عن أوجهٍ ... تبلي وعن صورٍ شتت
وقال محمود الوراق:
حياتك أنفاس تعد وكلما ... مضى نفس منها انتقصت به جزءا
فتصبح في نقصٍ وتمسى بمثله ... وما لك معقول تحس به رزءا

يميتك ما يحييك في كل ساعةٍ ... ويحدوك حادٍ ما يريد بك الهزءا
وقال منصور الفقيه:
يا رسوم الجدث المه ... جور قولي لابن سعد
لو رأت عيناك عيني ... كيف سالت فوق خدي
بعد دفني بثلاثٍ ... ما هناك العيش بعدي
وقال آخر:
من كان لا يطأ التراب بنعله ... وطئ التراب بصفحة الخد
من كان بينك في التراب وبينه ... شبران فهو بغاية البعد
لو كشفت للناس أغطية الثرى ... لم يعرف المولى من العبد
خرج النعمان بن المنذر يتنزه بظاهر الحيرة ومعه عدي بن زيد العبادي، فمرا على المقابر فقال له عدي: أبيت اللعن! أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا. قال: فإنها تقول:
من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موفٍ على قرن الزوال
وصروف الدهر لا تبقى لها ... ولما تأتي به صم الجبال
رب ركبٍ قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
والأباريق عليها فدم ... وجياد الخيل تردي في الجلال
عمروا الدهر بعيشٍ حسنٍ ... آمني دهرهم غير عجال
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالاً بعد حال
كان عمر بن الخطاب يتمثل:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمزٍ يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوبٍ إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذبٍ ... لابد من ورده يوماً كما وردوا
وقال آخر:
وإذا مضت للمرء من أعوامه ... خمسون وهو إلى التقى لم يجنح
عقدت عليه النابحات وقلن قد ... أرضيتنا فأقم كذا لا تبرح
وإذا رأى الشيطان غرة وجهه ... حياً، وقال: فديت من لم يفلح
نظر مالك من ملوك الفرس يوماً إلى ملكه فأعجبه، فقال: إن هذا لهو الملك لو لم يكن بعده هلك، وإنه لسرور لولا أنه غرور، وإنه ليوم، لو كان يوثق له بغد.
قال مالك بن أنس: سكن القبور رجل مجاوراً لها ملازماً، فعوتب في ذلك، فقال: إنهم جيران صدق لا يؤذونني، ولي فيهم عبرة.
قال ابن المعتز:
وجيران صدق لا تزاور بينهم ... على قرب بعض في التجاور من بعض
كأن خواتيماً من الطين فوقهم ... فليس لها حتى القيامة من فض
وقال الخليل بن أحمد:
كن كيف شئت فقصرك الموت ... لا مزحل عنه ولا فوت
بينا غنى بيتٍ وبهجته ... زال الغنى وتقوض البيت
وقال آخر:
اسمع فقد أسمعك الصوت ... إن لم تبادر فهو الفوت
كل كل ما شئت وعش ناعماً ... آخر هذا كله الموت
وقال آخر:
إذا ما وعظت الجاهلين بحكمةٍ ... فلم يعرفوها أنزلوها على هجر
فعظ كل ذي عقلٍ على قدر عقله ... ولا تعظ الحمقى على ذلك القدر

باب العمل
قال ر سول الله صلى الله عليه وسلم: " اعملوا، وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن " .
وقال عليه السلام: " لا تعمل شيئاً رياءً ولا تتركه حياء " .
قال أبو ذر: قلت يا رسول الله! الرجل يعمل العمل لنفسه ويحبه الناس عليه؟ قال: " ذلك عاجل بشري المؤمن " .
قال أبو الدرداء: اعملوا ما شئتم أن تعملوا، فإنه لن يأجركم الله حتى تعملوا.
قال القاسم بن محمد: أدركت الناس وما يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل.
قيل لمحمد بن المنكدر: أي الأعمال أفضل؟ قال: إدخال السرور على المؤمن.
قال بعض العلماء: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط " .
لما قدم عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون من العراق، وسئل عن أهلها، قال:

بها ما شئت من رجلٍ نبيلٍ ... ولكن الوفاء بها قليل
يقول فلا ترى إلا جميلا ... ولكن ليس يفعل ما يقول
وقال دعبل:
ولي صاحب أسترزق الله قوته ... خفيف عليه قول ما ليس يفعل
قيل لسفيان الثوري: ما العمل الصالح؟ قال: مالا تحب أن يحمدك عليه أحد.
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. قال: " ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس " .
قال المأمون: نحن إلى أن نوعظ بالأعمال، أحوج منا إلى أن نوعظ بالأقوال.
كان أبو معاوية الأسود يقول: الله أكرم من أن ينعم بنعمةٍ إلا يتمها، ويستعمل بعمل إلا يقبله.
قال بعض الحكماء: لو ثقل الكلام على الواعظين كما ثقل على العاملين، قل كلامهم.
قال ابن السماك: قليل من توفيق، أحب إلى من كثير من عمل.
كان يقال: العمل قرين لا يستطاع فراقه، فمن استطاع أن يكون قرينه صالحا فليعمل، فإنه لا يصحبه في آخرته غير عمله.
قال الشاعر:
الموت داء لا دواء له ... إلا التقى والعمل الصالح
رأى أعرابي جنازة حمزة الزيات وقد حشد لها الناس، فقال: ما رأيت أرفع لخساسة من عمل صالح.
قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك عمل من يعيش أبداً، واعمل لآخرتك عمل من يموت غداً.
كان يقال: اعمل وأنت مشفق، ودع العمل وأنت تحبه.
قيل لرابعة القيسية: هل عملت عملاً ترين أنه يقبل منك؟ قالت: إن كان فمخافة أن يرد علي.
قال أبو بكر المزني: رحم الله من كان قوياً فأعمل قوته في طاعة، أو كان ضعيفاً فكف عن معصية الله.
كان أبو حنيفة رحمة الله يتمثل:
كفى حزناً ألا حياة هنيةً ... ولا عمل يرضى به الله صالح
وقال آخر:
يا أيها الناس كان لي أمل ... أعجلني من بلوغه الأجل
فليتق الله ربه رجل ... أمكنه في حياته العمل
وقال محمود الوراق:
لقد رأيت الصغير من عمل الخي ... ر ثواباً عجبت من كبره حذ
وقد رأيت الحقير من عمل الشر ... جزاء أشفقت من خدره
وقال أيضاً:
قطع الدهر بأسباب العلل ... وأعار السهو أيام الأجل
ألف اللذة حتى اعتادها ... واشتهى الراحة واستوطا الكسل
فهو الدهر يقضي أملاً ... ولعل الموت في طى الأمل
يحسن القول إذ قال ولا ... يتحرى حسناً فيما فعل
صير القول بجهلٍ عملاً ... ثم أجراه على مجرى العمل
ليته كان كما قال ولا ... يقطع الأيام إلا بالجدل

باب مختصر من التعازي في المصائب
والصبر على النوائب
روى عن النبي عليه السلام، من حديث ابن عمر، أنه قال: " من كنوز البر كتمان المصائب " .
قال ر سول الله صلى الله عليه وسلم: " ليعز المسلمين في مصائبهم المصيبة بي " .
وفي حديث آخر: " من عظمت مصيبته فليذكر مصيبتي، فإنها ستهون عليه مصيبته " .
كان أبو بكر الصديق رضى الله عنه إذا عزى قوماً، قال: ليس مع العزاء مصيبة، وليس مع الجزع فائدة، والموت أشد مما قبله، وأهون مما بعده، اذكروا فقد ر سول الله صلى الله عليه وسلم تسهل عليكم مصيبتكم.
قال أبو العتاهية:
اصبر لكل مصيبةٍ وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد
أو ما ترى أن المصائب جمة ... وترى المنية للعباد بمرصد
من لم يصب ممن ترى بمصيبةٍ؟ ... هذا قبيل لست فيه بأوحد
وإذا أتتك مصيبة تشجي بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد
وقال منصور الفقيه:
ألا أيها النفس السئوم تنبهي ... وألقى إلى السمع إلقاء حازمه
ضلال لأذهان وظن مكذب ... رجاؤك أن تبقى على الدهر سالمه
وقد غص بالكأس الكريهة أحمد ... ومات فمات الحق إلا معالمه
عليه سلام الله ما فصل الندى ... وصدق ذو الشح المطاع لوائمه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تنزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر المصيبة " .

وقال عليه السلام: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " .
وقال عليه السلام: " ثلاث من رزقهن فقد رزق خير الدنيا والآخرة؛ الدعاء في الرخاء، والرضا بالقضاء، والصبر عند البلاء " .
قال علي رضى الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له.
قال محمد بن علي بن الحسين: الصبر صبران؛ فصبر عند المصيبة حسن جميل، والصبر عما حرم الله أفضل.
مات ابن لداود عليه السلام، فجزع عليه جزعاً شديداً، فأوحى الله إليه: أتفرح إذ جعلته فتنة، وتجزع إذ جعلته صلاة ورحمة.
مات ابن لخالد بن عبد الله القسري، فقامت الخطباء تعزيه فأطنبت، فقام دهقان فقال: أيها الأمير! إن رأيت أن تقدم ما أخرت من الصبر، وتؤخر ما قدمت من الجزع فافعل. فلم يحفظ إلا كلامه.
مات ابن لعمر بن عبد العزيز، فكتب إليه بعض إخوانه يعزيه عنه، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإن هذا أمر كنا نعرفه، فلما وقع لم ننكره، والسلام.
عزى ابن عباس عمر عن ابن له، فقال له: عوضك الله منه ما عوضه منك.
عزى عبد الله بن عباس عبد الله بن جعفر، فقال: لا أعدمك الله الأجر على الرزية، ولا الخلف من الفقيد، وثقل به ميزانك.
قال العتبي:
كل حزن يبلي على قدم الدهر ... وحزني يجده الأبد
فجعت باثنين ليس بينهما ... إلا ليالٍ ليست لها عدد
ما عالج الحزن والحرارة في الأح ... شاء من لم يمت له ولد
قال سهم بن عبد الحميد: شهدت يونس بن عبيد وقد عزاه عمرو بن عبيد على ابنٍ له هلك، فقال: إن أباك كان أصلك، وإن ابنك كان فرعك، وإن امرءاً ذهب أصله وفرعه لحرى أن يقل بقاؤه.
قال عمر بن عبد العزيز: ما أحسن تعزية أهل اليمن، فكانت تعزيتهم: لا يحزنكم الله ولا يفتنكم، وأثابكم ما أثاب المتقين، وأوجب لكم الصلاة والرحمة.
عزت امرأة المنصور عن أخيه أبي العباس، فقالت: أعظم الله أجرك، فلا مصيبة أعظم من مصيبتك، وبارك الله لك فيما أتاك، فلا عوض أحسن من خلافتك.
كتب بعض العلماء إلى المنصور يعزيه: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإن أحق الناس بالرضا والتسليم لأمر الله من كان إماماً بعد الله، ولم يكن له إمام إلا الله.
عزى الزبير عبد الرحمن بن عوف عن بعض نسائه فقام على قبرها، فقال: لا اصفر الله ربعك، ولا أوحش بيتك، ولا أضاع أجرك، رحم الله متوفاك، وأحسن الخلافة عليك.
مات لرجل بنون فترك كلام الناس حيناً ثم انبسط وضحك، فقيل له في ذلك، فقال: كان قرحاً فبرأ.
قال حذيفة: إن الله لم يخلق شيئاً قط إلا صغيراً ثم يكبر، إلا المصيبة فإنه خلقها كبيرةً ثم تصغر.
قال الطائي:
ومهما يدم فالوجد ليس بدائم
وقال آخر:
وكما تبلى وجوه في الثرى ... فكذا يبلى عليهن الحزن
خرجت امرأة من العرب تريد المقابر حتى جلست على قبر ابنها، فقالت بصوتٍ لها ضعيف: هذا والله المنزل الحق، والوعد الصدق، والوعيد الشديد، والمسكن الذي ليس لأهل الدنيا عنه محيد، هذا والله المفرق بين الأحباب، والمقرب من الحساب، وبه يعرف الفريقان منازلهم، أهل السعادة وأهل الشقاء، لا أقول هجراً، ولكني أحتسب على الله مصابي بك يا بني، ففسح الله لك في ضريحك، وجمع بينك وبين نبيك، أما إني أقول علمي بك، كنت - والله عليم بباطنك - جواداً، إن أتيت أتيت رشاداً، وإن اعتمدت وجدت عماداً. ثم أنشأت تقول:
يا ليت شعري كيف غيرك الردى ... أم كيف صار جمال وجهك في الثرى
لله درك أي كهلٍ غيبوا ... تحت الجنادل لا يحس ولا يرى
لباً وحلماً بعد حزمٍ زانه ... بأس وجود حين يطرق للقرى
لما نقلت إلى المقابر والبلى ... دنت الهموم فغاب عن عيني الكرى
قال: ثم لم تزل تبكي وتشهق وتضرب على قرنيها حتى ماتت.
كان خالد بن برمك يقول: التعزية بعد ثلاث تجديد للمصيبة، والتهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة.

دخل عبد الله بن عمر بن عتبة على المهدي يعزيه بالمنصور، فقال: آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين، وبارك له فيما خلفه فيه، فلا مصيبة أعظم من المصيبة بإمام، ولا عقبي أفضل من خلافة الله على أمة نبيه عليه السلام، فاقبل يا أمير المؤمنين من الله أفضل العطية، واحتسب عنده أفضل الرزية.
قال عبد الصمد بن المعذل، أو صالح بن عبد القدوس:
إن يكن ما به أصبت جليلا ... فذهاب العزاء فيه أجل
وقال محمود الوراق:
تعز بحسن الصبر عن كل هالك ... ففي الصبر مسلاة الهموم اللوازم
إذا أنت لم تسل اصطباراً وحسبة ... سلوت على الأيام مثل البهائم
وليس يذود النفس عن شهواتها ... من الناس إلا كل ماضي العزائم
وقال أيضاً:
يمثل ذو العقل في نفسه ... مصائبه قبل أن تنزلا
فإن نزلت لم تكن بغتة ... لما كان في نفسه مثلا
رأى الهم يفضي إلى آخرٍ ... فصير آخره أولا
وذو الجهل يأمن أيامه ... وينسى مصارع من قد خلا
فإن بدهته صروف الزمان ... ببعض مصائبه أعولا
ولو قدم الحزم في رأيه ... لعلمه الصبر عند البلا
وقال أبو تمام الطائي:
أتصبر في البلوى عزاءً وحسبةً ... فتؤجر أم تسلو سلو البهائم
كتب رجل إلى صديق: أما بعد، فإن الصبر سجية المؤمن، وعزيمة المتوكل، وسبب درك النجح في الحوائج، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب: أصيب الأحنف بمصيبةٍ فلم يجزع لها، فقيل له: إنك لصبور! فقال: الجزع شر الحالين، يباعد المطلوب، ويورث الحسرة، ويوقع على صاحبه العار.
وقيل لامرأة أصيبت بولدها: كيف أنت والجزع؟ فقالت: لو رأيت فيه دركاً ما اخترت عليه، ولو دام لي لدمت عليه.
جزع أعرابي على موت ابنه؟ فليم على ذلك، فقال: أعلى قدر الله أتجلد؟ والله للجزع من قدر الله أحب إلي، لأن الجزع استكانة، والصبر قساوة.
سئل محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن الرجل المسلم تموت له أم نصرانية كيف يعزى فيها؟ فقال: تقول: الحمد الله على ما قضى، قد كنا نحب أن تموت على الإسلام ويسرك الله بذلك.
وسئل أيضاً عن الجار النصراني يموت وله ولي من النصارى، كيف نعزيه؟ قال: تقول: إن الله كتب الموت على خلقه، والموت حتم على الخلق كلهم.
عزى أعرابي عمر بن عبد العزيز في ابنه، فقال:
تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذى الصغير ويولد
لما قطعت رجل عروة بن الزبير تمثل بأبيات معن بن أوس:
لعمرك ما أهديت كفى لريبة ... ولا حملتني فوق فاحشةٍ رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتىً قبلي
قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك حين دويت رجله، فقيل له: اقطعها. فقال: إني لأكره أن أقطع مني طائفة، فارتفعت إلى الركبة، فقيل: إن وقعت في ركبتك قتلنك فقطعها، فلم يقبض وجهه ولا تأوه. ويقال: إنه لم يترك حزبه في تلك الليلة. وقيل له قبل أن يقطعها: نسقيك دواءً لا تجد لها ألما؟ قال: ما يسرني أن هذا الحائط وقاني أذاها. فلما كان بعد أيام قام ابنه محمد بن عروة ليلا فسقط من أحد الأسطح في اصطبل دواب الوليد، فضربته بقوائمها حتى قتلته. فأتى رجل عروة يعزيه، فقال له عروة: إن كنت جئت تعزي برجلي فقد احتسبتها. فقال: بل أعزيك في محمد ابنك. قال: وماله؟ فخبره بشأنه، فقال:
وكنت إذا الأيام أحدثن نكبة ... أقول شوى، ما لم يصبن صميمي
اللهم أخذت عضواً وتركت أعضاء، وأخذت ابناً وتركت أبناء، ولئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت.
ولما قدم المدينة نزل قصره بالعقيق، فأتاه محمد بن المنكدر، فقال له: كيف كنت؟ قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. وجاءه عيسى بن طلحة، فقال لبعض بنيه: اكشف لعمك عن رجلي ينظر إليها، ففعل. فقال عيسى بن طلحة: أما والله يا أبا عبد الله ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا ما كنا نحتاج إليه منك، رأيك وعلمك، فقال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك.

قال سهل بن هارون: التهنئة على آجل الثواب أولى من التعرية على عاجل المصيبة.
قال عيينة بن حصن الفزاري، وقد قدم من سفر، وقد أصابه مصيبة، فأتاه قومه فقال لهم: اجعلوا لقاءكم سلاماً، ولا يأتي أحدكم معزياً، فإن التعزية تهيج التذكرة، ومن أراد أن يدعو بخير في الرزية فليظهر العتب.
أصيب محمود الوراق بجارية يقال لها نشوى، كان علمها وخرجها وأعطى فيها مالا كثيراً فأبى، فأتى بعض إخوانه يعزيه عنها، وهو عنده أنه شامت، فجعل يعذله على ما كان يحمل إليه من ثمنها ويذكر حاله، ويطنب في وصفها، فأنشأ محمود يقول:
ومنتصح يكرر ذكر نشوى ... على عمدٍ ليبعث لي اكتئابا
فقلت وعد ما كانت تساوي سيحسب ذاك من خلق الحسابا
عطيته إذا أعطى سرور ... وإن أخذ الذي أعطى أثابا
فأي النعمتين أعم فضلا ... وأحمد في عواقبها إيابا
أنعمته التي أهدت سروراً ... أم الأخرى التي أهدت ثوابا
بل الأخرى وإن نزلت بكرهٍ ... أحق بشكر من صبر احتسابا
وقال محمود أيضاً في نشوى:
لعمري لئن غال صرف الزمان ... نشوى لقد غال نفساً حبيبه
ولكن علمي بما في الثواب ... عند المصيبة ينسى المصيبة
روى يحيى القطان، عن خالد بن أبي عثمان، قال: أتاني سعيد بن جبير يعزيني عن أبي، فرآني مستكيناً، فقال لي: أما علمت أن الاستكانة من الجزع.
كان علي رحمه الله إذا عزى قوماً قال: عليكم بالصبر؛ فبه يأخذ الحازم، وإليه منصرف الجازع.
ولما دفن علي فاطمة رضى الله عنهما تمثل على قبرها بهذين البيتين:
لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحدٍ ... دليل على ألا يدوم خليل
يقال: إنها له، وقال ابن الأعرابي: هي أبيات لسقران السلاماني.
كان يقال: جزعك على مصيبة أخيك أحمد من صبرك، وصبرك على مصيبتك أحمد من جزعك.
ومن أبيات لضابئ بن الحارث البرجمي:
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
عزى رجل رجلاً فقال: لا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها.
قال بعض تميم:
لقد عزى ربيعة أن يوماً ... عليها مثل يومك لا يعود
ومن عجبٍ قصدن له المنايا ... على عمدٍ، وهن له جنود
أخذه يعقوب بن الربيع في رثائه جاريته، فقال:
لئن كان قربك لي نافعاً ... لبعدك أصبح لي أنفعا
لأني أمنت رزايا الدهور ... وإن جل خطب فلن أجزعا
وقال محمود الوراق:
لا تطل الحزن على فائتٍ ... فقلما يجدي عليك الحزن
سيان محزون لما قد مضى ... ومظهر حزنٍ لما لم يكن
وقال أخو ذي الرمة:
تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاءً وجفن العين ملآن مترع
ولم تنسني أوفى المصائب بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع
وقال آخر:
أترجو البقاء وهذا محال ... ولله عز وجل البقاء
فلو كان للفضل يبقى كريم ... لما مات من خلقه الأنبياء
تموت النفوس وتبقى الشخوص ... وعند الحساب يكون الجزاء
دخل أبو العتاهية على الفضل بن الربيع يعريه بابنه العباس، فقال: الحمد الله الذي جعلنا نعريك عنه، ولم يجعلنا نعزيه عنك. فدعا الفضل بالطعام فأكل، وقد كان قبل ذلك امتنع من الأكل.
ومن أحسن ما قيل في رثاء البنين قول العتبي:
ألا يزجر الدهر عنا المنونا ... يبقى البنات ويفنى البنينا
وأخنى على بلا رحمةٍ ... فلم يبق لي فوق جفنٍ جفونا
وكنت أبا صبية كالبدور ... أفقي بهم أعين الكاشحينا
فمروا على حادثات الزمان ... كمر الدراهم بالناقدينا
وما زال ذلك دأب الزمان ... حتى أماتهم أجمعينا
وحتى بكى لي حسادهم ... وقد أقرحوا بالدموع العيونا
وحسبك من حادثٍ بامرئٍ ... ترى حاسديه له راحمينا

رأيت بني على ظهرها ... فصاروا إلى بطنها ينقلونا
فمن كان يسليه مر الزمان ... فحرني تجدده لي السنونا
ومما يسكن وجدي بهم ... بأن المنون ستلقى المنونا
وقال آخر:
فإن تصبرا فالصبر خير مغبةٍ ... وإن تجرعا فالأمر ما تريان
قال يونس بن حبيب: أشعر بيت قالته العرب، قول دريد بن الصمة:
قليل التشكي للمصيبات ذاكر ... من اليوم أعقاب الأحاديث من غد
وقال آخر:
وما كثرة الشكوى بأمرٍ حزامة ... ولا بد من شكوى إذا لم يكن حرم
وقال منصور الفقيه:
ماذا جنته الليالي ... فيما جلبن إلينا
وفي كل يوم نعزى ... فيمن يعز علينا
وقال آخر:
غز امرؤ منته نف ... س أن تدوم له السلامه
هيهات أعيا الأولي ... ن دواء دائك يا دعامه
عرى رجل رجلاً ماتت امرأته من نفاسها، فقال: أعظم الله أجرك فيما أباد، وبارك لك فيما أفاد.
قال جرير:
وأهون مفقودٍ إذا الموت غاله ... على المرء من أحبابه من تقنعا
وقال آخر:
ولم أر نعمةً شملت كريماً ... كنعمة عورةٍ سترت بقبر
وقد مضى من هذا المعنى ذكر في باب الولد.
ومن شعر جرير في رثاء امرأته:
لن يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار
صلى الملائكة الذين تخيروا ... والطيبون عليك والأبرار
قال عمر بن الخطاب: أفضل الصبر التصبر.
قال يونس بن عبيد: لو أمرنا بالجزع لصبرنا.
قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: اصبر إذا عضك الزمان، ومن أصبر عند الزمان.
وقال محمود الوراق:
أئن فات ما كنت أملته ... جزعت وماذا يرد الجزع
ففوض إلى الله كل الأمور ... فليس يكون سوى ما صنع
ولا يخدعنك صرف الرمان ... فإن الرمان كثير الخدع
وقال آخر:
إذا ضيقت أمراً زاد ضيقاً ... وإن هونت ما قد عز هانا
فلا تهلك لشيءٍ فات حرناً ... فكم أمرٍ تصعب ثم لانا
وقال آخر:
فإذا أتتك مصيبة فاصبر لها ... عظمت مصيبة مبتلىّ لا يصبر
وأنشد ابن عائشة:
يعزى المعزى ساعةً ثم ينقضى ... ونفس المعزى في أحر من الجمر
لأن المعزى إلفه في مكانه ... وإلف المعزى في ضريحٍ من القبر
وأنشد ابن عائشة أيضاً:
خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على صرف الزمان لواجد
أيجمع منها شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد
وقال ربيعة الرقي:
أليس الزمان كما قد علمت ... فمالك تجزع من صرفه
وعندك علم به ثاقب ... وعين تدل على وصفه
وأيامه دول والنفوس ... رهون الحوادث من حتفه
فأين المعافى من النائبات ... ومن صاحب الدهر لم يعفه
ومن صاحب الدهر لاقى الذي ... يخاف على الرغم من أنفه
فكن حازم الرأي واصبر له ... فللحر صبر على ضعفه
وقال أبو العتاهية:
ليس لمن ليست له حيلة ... موجودة خير من الصبر
وقال آخر:
رمن لم يسلم للنوائب أصبحت ... خلائقه طراً عليه نوائبا
وقال آخر:
لعمرك ما يدري الفتى كيف يتقى ... نوائب هذا الدهر أم كيف يحذر
يرى الشيء مما يتقى فيخافه ... وما لا يرى مما يقي الله أكثر
وقال أبو العتاهية:
حيلة من ليست له حيلة ... حسن عزاء النفس بالصبر
لضابئ بن الحارث البرجمي:
وما عاجلات الطير تدنى من الفتى ... رشاداً ولا عن ريثهن يخيب
ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ... وللقلب من مخشاتهن وجيب
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطىء في الظن الفتى ويصيب
وقال آخر:
كم نعمةٍ مطويةٍ ... لك بين أثواب النوائب

ومسرةٍ قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب
وقال آخر:
كم نعمةٍ لا يستقل بشكرها ... لله في طى المكاره كامنه

باب من كلام المحتضرين
روى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله البهمي مولى الزبير، عن عائشة رحمها الله، قالت: لما احتضر أبو بكر قالت:
لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال: يا بنية! لا تقولي هكذا، ولكن قولي: " وجاءت سكرة الحق بالموت، ذلك ما كنت منه تحيد " . وكذلك كان يقرأها فيما زعموا. ثم قال: انظروا إلى ثوبي هذين، فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت. وقد روى من وجوه في هذا الخبر أن أبا بكر - رحمه الله - قال لها: قولي: " وجاءت سكرة الموت بالحق " على ما في مصحف عثمان.
قيل لبعض الصالحين - وهو يجود بنفسه - : كيف تجدك؟ وكيف حالك؟ فقال: كيف حال من يريد سفراً بعيداً بلا زاد، ويدخل قبراً موحشاً بلا مؤنس، وينطلق إلى رب ملك بلا حجة.
لما احتضر عمر بن الخطاب بكي، فكلمه ابن عباس أو غيره بكلام فيه ثناء عليه، فقال: المغرور من غررتموه، ليت أمي لم تلدني. ثم أوصى بوصايا حسان.
لما احتضر معاوية، قيل له: قل: لا إله إلا الله، فضعف عنها حتى كررت عليه ثلاثاً، كل ذلك لا يقدر يقولها، ثم قال في آخر ذلك: أولست من أهلها؟!.
وفي خبر آخر: أن معاوية لما احتضر، قال لابنه: يا بني! كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أخذت من شعره بمشقص، وهو عندي في موضع كذا، فإذا أنا مت فخذوا ذلك الشعر واحشوا فمي ومنخري، ثم قال:
إن تناقش يكن نقاشك يا رب ... عذاباً لا حاق لي بالعذاب
أو تجاوز وأنت رب رحيم ... عن مسىءٍ ذنوبه كالتراب
ثم أغمى عليه، ثم أفاق فقال:
فهل من خالدٍ إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
ثم قال لأهله الذين حضروا: اتقوا الله؛ فإن الله يقى من اتقاه. ثم قضى.
وفي خبر آخر: أن معاوية لما حضرته الوفاة احتوشه أهله، فجعلوا يقبلوا به. فقال: إنكم لتقبلون حولاً قلبا إن نجا من النار. ثم قال: لا يدفع ريب المنية الحيل.
وفي خبر آخر: أنه لما احتضر معاوية، رفع يديه؛ وهو يجود بنفسه، وقال متمثلا:
هو الموت لا منجى من الموت والذي ... أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وجد بحلمك على من لا يرجو غيرك، ولا يثق إلا بك، فإنك واسع الرحمة، نعفو بقدرة، وما وراءك مذهب لذي خطيئة موبقة، يا أرحم الراحمين.
وفي خبرٍ آخر عن سعيد بن المسيب، قال: لما احتضر معاوية قال: أقعدوني. فأقعد. فجعل يذكر الله، وقال: يا رب! ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، وعزتك إن لم تغفر لي فقد هلكت، ثم غشى عليه فبكى أهله، ثم أفاق، فأنشأ يقول متمثلاً:
لعمري لقد عمرت في الملك برهةً ... ودنت لي الدنيا بوقع البواتر
وأضحى الذي قد كان منى يسرني ... كلمحٍ مضى في السالفات الغوابر
فاليتني لم أغن في الملك ساعةً ... ولم أغن في لذات عيشٍ نواضر
وكنت كذي طمرين عاش ببلغةٍ ... من الدهر حتى زار ضيق المقابر
ثم مات رحمه الله: لما احتضر عمرو بن العاص قال: اللهم أمرتني فلم ائتمر، وزجرتني فلم أزدجر، ووضع يده في موضع الغل، فقال: اللهم لا قوى فأنتصر، ولا برئ فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت. فلم يزل يرددها حتى مات. رحمه الله.
وفي خبر آخر، قيل لعمرو بن العاص في مرضه الذي مات فيه: كيف تجدك؟ قال: أجدني أذوب ولا أثوب. فلما قربت نفسه من أن تفيض قال له ابنه: قد كنت تحب أن ترى عاقلاً فطناً قد احتضر؛ فتسأله عما يجد المحتضر وقد احتضرت، وأنا أحب أن تصف لي الموت. فقال: أجد كأن المساء منطبقة على الأرض، وكأني أتنفس من خرم إبرة.
لما نزل بهشام بن عبد الملك الموت، نظر إلى ولده يبكون حوله، فقال لهم: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما اكتسب، ما أعظم منقلبه إن لم يغفر الله له.

وقال معمر المتكلم صاحب المعاني: حضرت الوفاة رجلاً كان معي في الحبس، وكان داؤه البطن، فقلت له: كيف تجدك؟ قال: أجد تحرري أكثر من تبردي، وأجد روحي قد خرج من نصفي الأسفل، وكأن السماء قد دنت مني فلو شئت أن ألمسها بيدي لفعلت، ومهما شككت في شيءٍ فلا تشك أن الموت برد ويبس، وأن الحياة رطوبة وحرارة.
ليعقوب بن الربيع يرثي جاريته:
حتى إذا فتر اللسان وأصبحت ... للموت قد ذبلت ذبول النرجس
وتسهلت منها محاسن وجهها ... وغدا الأنين تحثه بتنفسٍ
رجع اليقين مطامعي يأساً كما ... رجع اليقين مطامع المتلمسٍ
لما احتضر سعيد بن المسيب، وجه إلى القبلة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: وجهناك إلى القبلة. فقال: أولست على القبلة؛ أليس وجهي إلى الله حيث كان.
قال عطاء بن يسار: تبدي إبليس لرجل عند موته، فقال: نجوت قال ما أمنتك بعد.
لما احتضر عمرو بن عبيد، قال: جاءني الموت ولم أتأهب له، اللهم إنك تعلم أنه لم يسنح لي أمران لك في أحدهما رضى، ولي في الآخرة هوىً، إلا اخترت رضاك على هواي، اللهم فاغفر لي.
قيل لبعضهم، وقد احتضر: أي شيءٍ تشتكي؟ قال: تمام العدة، وانقضاء المدة.
قيل لأعرابي في مرضه: ما الذي تجدٍ؟ قال: أجد مالا أشتهي، وأشتهي مالا أجد.
قال: لما احتضر الحجاج قال: والله لئن كنت على سبيل هدىً فليس حين جزع، وإن كنت على سبيل ضلالة فليس حين فزع.
قال عبد الأعلى بن حماد البرقي: دخلت على بشر بن منصور، وهو في الموت: فرأيته مستبشراً، فقلت له: ما هذا السرور؟ قال: أخرج من بين الحاسدين والباغين والمغتابين، وأقدم على رب العالمين، ولا أفرح.
لما مرض أمية بن أبي الصلت - اسم أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف من ثقيف - مرضه الذي مات فيه، جعل يقول: قد دنا أجلي، وهذه المرضة منيتي، وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد، فلما دنت وفاته أغمى عليه قليلاً، ثم أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما. لا مال فيقذيني ولا عشيرة فتنجيني. ثم أغمى عليه أيضاً بعد ساعة حتى ظن من حضر من أهله أنه قد مضى، ثم أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما، لا برئ فأعتذر، ولا قوى فأنتصر. ثم إنه بقى يحدث من حضره ساعة، ثم أغمى عليه مثل المرتين الأوليين، حتى يئسوا من حياته، وأفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما محفوف بالنعم، محفوظ من الريب:
إن تغفر الله تغفر جما ... وأي عبدٍ لك لا ألما
ثم أقبل على القوم، فقال: قد جاء وقتي، فكونوا في أهبتي، وحدثهم قليلا، ثم يئس القوم من موته، وأنشأ يقول:
كل عيشٍ وإن تطاول دهراً ... قصره مرةً إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما إن بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
اجعل الموت نصب عينيك واحذر ... غولة الدهر إن للدهر غولا
ثم قضى نحبه، ولم يؤمن بالنبي عليه السلام.
لما احتضر سيبويه، جعل رأسه في حجر أخيه، فقطرت قطرة من دموع أخيه على وجهه، فأفاق من غشيته، وقال:
أخيين كنا فرق الدهر بيننا ... إلى المنزل الأقصى ومن يأمن الدهرا
قال محمد بن إبراهيم الكاتب، دخلنا على أبي نواس نعوده في مرضه الذي مات فيه، ومعنا صالح بن علي الهاشمي، فقال له صالح: تب إلى الله يا أبا علي؛ فإنك في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وبينك وبين الله هنات. فقال: أسندوني. فأسندوه، فقال: إياي تخوف الله؟ قد حدثني حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " ، أتراني لا أكون منهم؟ وقد حدثني حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله، فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة " . ورآه بعض إخوانه بعد موته بأيام في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها، وهي الآن تحت وسادتي. فنظروا وإذا برقعة تحت وسادته في بيته فيها مكتوب:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو إليه المجرم

أدعوك رب كما أمرت تضرعاً ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل ظني ثم أني مسلم
حدث محمد بن يعقوب البزاز: كنت جارا لأبي نواس، فعدته في مرضه الذي مات فيه، ودخل عليه طبيب نصراني اسمه سعيد، فنظر إليه ووصف له دواء يعلله به، ثم خرج وخرجت بخروجه، فغمزني وقال: مرهم لا يعذبوه بالدواء؛ فإنه الساعة يموت، فرجعت إليه فقال: سألتك بالله ما قال لك النصراني، فإني رأيته قد غمزك؟ فقلت: ما عسى أن يقول؟! فقال: أقسمت عليك لما أخبرتني. فأخبرته، فرفع عينيه إلى السماء، وسالت دموعه على خديه، وقال:
يا رب إني لم أزل ... في مثل حال السحره
حين استلاذوا بعرى ... الدين وكانوا كفره
فآمنوا يوماً ففا ... زوا بثواب البرره
ولم أزل مستشعر ال ... إيمان ياذا المقدره
فاغفر فإني منك أو ... لي منهم بالمغفره
ويروى أن آخر بيت قاله محمود الوراق في مرضه الذي مات فيه:
إن ظني بحسن عفوك يا رب ... جميل وأنت مالك أمري
صنت سري عن القرابة والأهل ... جميعاً وأنت موضع سري
ثقة بالذي لديك من السر ... فلا تخزني به يوم نشري
يوم هتك الستور عن حجب الغيب ... فلا تهتكن للناس ستري
لمحمد بن مناذر من شعره المطول:
نحن للآفات أغراض فإن
إنما أنفسنا عارية

أقسام الكتاب
1 2 3 4