كتاب : الآداب الشرعية
المؤلف : شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ يَا كَرِيمُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَقْضَى الْقُضَاةِ ، شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَثَابَهُ الْجَنَّةَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
أَمَّا بَعْدُ .
.
فَهَذَا كِتَابٌ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْمِنَحِ الْمَرْعِيَّةِ ، يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَوْ مَعْرِفَةِ كَثِيرٍ مِنْهُ كُلُّ عَالِمٍ أَوْ عَابِدٍ وَكُلُّ مُسْلِمٍ ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا كَأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ صَاحِبِ السُّنَنِ ، وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ ، وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَأَبِي حَفْصٍ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى ، وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ ، وَصَنَّفَ فِي بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ - كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالدُّعَاءِ وَالطِّبِّ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ .
( ثَنَاءُ الْمُؤَلِّفِ عَلَى الْكِتَابِ ) وَقَدْ اشْتَمَلَ هَذَا الْكِتَابُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْمُصَنَّفَاتُ مِنْ الْمَسَائِلِ أَوْ عَلَى أَكْثَرِهَا ، وَتَضَمَّنَ مَعَ ذَلِكَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً نَافِعَةً حَسَنَةً غَرِيبَةً مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ ، فَمَنْ عَلِمَهُ عَلِمَ قَدْرَهُ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ الْفَوَائِدِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِغَيْرِهِ ، وَعِزَّةِ الْكُتُبِ الْجَامِعَةِ لِهَذَا الْفَنِّ .
وَاَللَّهَ أَسْأَلُ حُسْنَ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ مَنْ حَفِظَهُ وَقَرَأَهُ وَكَتَبَهُ ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ عَامَّ النَّفْعِ

وَالْبَرَكَةِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

فَصْلٌ ( فِي الْخَوْفِ وَالصَّبْرِ وَالرِّضَا ) يُسَنُّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ خَوْفُ السَّابِقَةِ ، وَالْخَاتِمَةِ وَالْمَكْرُبَةِ ، وَالْخَدِيعَةِ ، وَالْفَضِيحَةِ ، وَالصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالنِّعَمِ وَالْبَلَاءِ وَالنِّقَمِ فِي بَدَنِهِ وَعِرْضِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ ، وَعَنْ كُلِّ مَأْثَمٍ ، وَاسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ مِنْ الْهَفَوَاتِ ، وَقَصْدُ الْقُرَبِ وَالطَّاعَةِ بِنِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ ، كَقَوْلِهِ : وَسَائِرِ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْآخِرَةِ ، وَالنَّظَرُ فِي حَالِهِ وَمَالِهِ ، وَحَشْرِهِ وَنَشْرِهِ وَسُؤَالِهِ ، وَيُسَنُّ رَجَاءُ قَبُولِ الطَّاعَةِ ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْقَنَاعَةُ ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالْكِفَايَةِ الْمُعْتَادَةِ بِلَا إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهَا .
وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ : هَلْ يَجِبُ الرِّضَا بِالْمَرَضِ وَالسَّقَمِ وَالْفَقْرِ ، وَالْعَاهَةِ وَعَدَمِ الْعَقْلِ ؟ قَالَ الْقَاضِي : لَا يَلْزَمُ ، وَقِيل : بَلَى قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ تَعَالَى كَالْأَمْرَاضِ وَنَحْوِهَا قَالَ : فَأَمَّا مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ فَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا إذْ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كُفْرٌ وَعِصْيَانٌ .
وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا الْوَاجِبُ الصَّبْرُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } .
فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ رَيْبًا عِنْدَ الْمِحَنِ الَّتِي تُقَلْقِلُ الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ ، وَالرَّيْبُ يَكُونُ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ بِخِلَافِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعِلْمِ فَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ إلَّا مَنْ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا ، وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَوْ الْخَوْفَ أَوْرَثَهُ جَزَعًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ يَقِينٍ .

وَذَكَرَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ مِنْ نَدْبٍ وَنِيَاحَةٍ وَتَسَخُّطٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ الْمَحْتُومِ ، وَالْجَزَعُ الَّذِي يُنَاقِضُ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ لَهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } .
قَالَ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ فَجَزَعَ الْحَسَنُ جَزَعًا شَدِيدًا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : مَا سَمِعْت اللَّهَ عَابَ عَلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحُزْنَ حَيْثُ قَالَ { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي التُّحْفَةِ الْعِرَاقِيَّةِ أَنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ مُسْتَحَبٌّ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ بِخِلَافِ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ حَظِّهِ مِنْهُ ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَكَى عَلَى الْمَيِّتِ وَقَالَ { هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ } وَإِنَّ هَذَا لَيْسَ كَبُكَاءِ مَنْ يَبْكِي لِحَظِّهِ لَا لِرَحْمَةِ الْمَيِّتِ ، وَإِنَّ الْفُضَيْلَ لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ ضَحِكَ وَقَالَ : رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَرْضَى بِمَا قَضَى اللَّهُ بِهِ حَالُهُ حَالٌ حَسَنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْجَزَعِ ، فَأَمَّا رَحْمَةُ الْمَيِّتِ وَالرِّضَاءُ بِالْقَضَاءِ وَحَمْدُ اللَّهِ كَحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا أَكْمَلُ .
وَقَالَ فِي الْفُرْقَانِ : وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الرِّضَا قَوْلَيْنِ ثُمَّ قَالَ : وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى الْمُصِيبَةِ لِمَا يَرَى مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهَا ، وَلَا يَلْزَمُ الْعَاصِيَ الرِّضَا بِلَعْنِهِ وَلَا الْمُعَاقَبَ الرِّضَا بِعِقَابِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْعَافِيَةِ إلَّا صِدِّيقٌ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : اُبْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا

وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ .
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ : الرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْعَافِيَةِ وَهَذَا الصَّبْرُ مُتَّصِلٌ بِالشُّكْرِ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقِيَامِ بِحَقِّ الشُّكْرِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى السَّرَّاءِ شَدِيدًا لِأَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْقُدْرَةِ ، وَالْجَائِعُ عِنْدَ غَيْبَةِ الطَّعَامِ أَقْدَرُ مِنْهُ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ حُضُورِ الطَّعَامِ اللَّذِيذِ .

فَصْلٌ ( فِي الْبُهْتِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالنِّفَاقِ ) .
وَيَحْرُمُ الْبُهْتُ وَالْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَكَلَامُ ذِي الْوَجْهَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا ابْن الْمُصَفَّى حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَا ثنا صَفْوَانُ حَدَّثَنِي رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَنَسٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ عَنْ بَقِيَّةَ لَيْسَ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
وَرَوَى أَحْمَدُ حَدِيثَ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ صَفْوَانَ كَمَا سَبَقَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الْغِيبَةُ مَرْعَى اللِّئَامِ .
وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ : لَا يَذْكُرُ فِي النَّاسِ مَا يَكْرَهُونَهُ إلَّا سِفْلَةٌ لَا دِينَ لَهُ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زُهَيْرٍ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { : إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَمِنْ الْكَبَائِرِ السَّبَّتَانِ بِالسَّبَّةِ } حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَذَكَرَ الْقُرَظِيّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْغِيبَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الدِّينِ لَا فِي الْخِلْقَةِ وَالْحَسَبِ ، وَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا عَكْسَ هَذَا ، وَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ لَكِنْ قَيْدُ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَوَّلِ إذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَيْبِ ، وَأَنَّهُ لَا خِلَافُ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الْكَبَائِرِ .
وَفِي الْفُصُولِ

وَالْمُسْتَوْعِبِ أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ مِنْ الصَّغَائِرِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ قَوْلَ عَائِشَةَ عَنْ صَفِيَّةَ أَنَّهَا قَصِيرَةٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ } .
وَعَنْ هَمَّامٍ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ يَرْفَعُ إلَى عُثْمَانَ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ يَعْنِي : نَمَّامًا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ الْمُسْنَدُ مِنْهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَلَهُمَا { وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ } وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ { إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ } وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ نِفَاقٌ وَخِدَاعٌ وَكَذِبٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا ، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَعَهَا ، وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ قَالَ تَعَالَى : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } .
أَيْ : مَقْطُوعَةٌ مُمَالَةٌ إلَى الْحَائِطِ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا هِيَ ثَابِتَةٌ ، إنَّمَا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ إلَى مَنْ يَنْصُرُهُمْ ، وَإِلَى مَنْ يَتَظَاهَرُونَ بِهِ { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } لِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ { هُمْ الْعَدُوُّ } لِلتَّمَكُّنِ بَيْنَ الشَّرِّ بِالْمُخَاطَبَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ " قَالَ : قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَمِيرِنَا فَنَقُولُ الْقَوْلَ فَإِذَا خَرَجْنَا قُلْنَا غَيْرَهُ قَالَ : كُنَّا نَعُدُّ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النِّفَاقِ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا { مَثَلُ الْمُنَافِقِ

كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ { لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا تَتْبَعُ } .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ } زَادَ مُسْلِمٌ { وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَلَهُمَا أَيْضًا وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ، { وَالثَّالِثَةُ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ } .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا ائْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَهُمَا أَيْضًا وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ { وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ بَدَلُ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ نِفَاقُ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا كَانَ نِفَاقُ التَّكْذِيبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ " حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِيرُ بِهَا مُنَافِقًا وَإِنِّي لَأَسْمَعُهَا مِنْ أَحَدِكُمْ فِي الْمَجْلِسِ عَشْرَ مَرَّاتٍ " رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَفِي إسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ : حُسْنُ سَمْتٍ ، وَفِقْهٌ فِي الدِّينِ } .
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا { أَكْثَرُ مُنَافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَرَادَ بِالنِّفَاقِ هُنَا الرِّيَاءَ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا إظْهَارُ غَيْرِ مَا فِي الْبَاطِنِ .
وَعَنْ ابْن عُمَرَ مَرْفُوعًا { إنَّ اللَّهَ قَالَ لَقَدْ خَلَقْت خَلْقًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى

مِنْ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ ، فَبِي حَلَفْتُ لَأُتِيحَنَّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانَ فَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ يَتَجَرَّءُونَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَلَهُ مَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي أَوَّلِهِ { يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنْ اللِّينِ ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ } يُقَالُ : أَتَاحَ اللَّهُ لِفُلَانٍ كَذَا أَيْ : قَدَّرَهُ لَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ وَتَاحَ لَهُ الشَّيْءَ .
وَقَوْلُهُ : يَخْتِلُونَ أَيْ : يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ يُقَالُ : خَتَلَهُ يَخْتِلُهُ إذَا خَدَعَهُ وَرَاوَغَهُ ، وَخَتَلَ الذِّئْبُ الصَّيْدَ إذَا اخْتَفَى لَهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : قَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ شِعْرًا : لِي حِيلَةٌ فِيمَنْ يَنِمُّ وَلَيْسَ فِي الْكَذَّابِ حِيلَهْ مَنْ كَانَ يَخْلُقُ مَا يَقُولُ فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَهْ وَقَالَ مُوسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - يَا رَبِّ إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ فِي مَا لَيْسَ فِي فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ يَا مُوسَى لَمْ أَجْعَلْ ذَلِكَ لِنَفْسِي فَكَيْفَ أَجْعَلُهُ لَكَ ؟ وَقَالَ عِيسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - : لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُ النَّاسِ فِيكَ ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَتْ حَسَنَةً لَمْ تَعْمَلْهَا ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا كَانَتْ سَيِّئَةً عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهَا .
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فِي غَيْرِ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ { : قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : وَاَللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ { فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي مَلَإٍ فَسَارَرْتُهُ } ، وَفِي مُسْلِمٍ { قَالَ : قُلْتُ لَا جَرَمَ لَا أَرْفَعُ

إلَيْهِ حَدِيثًا بَعْدَهَا } ، تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ( مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ ) وَلِمُسْلِمٍ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا .
وَعِنْدَهُمَا وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا فِي أَوَّلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ } .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحَدِيثِ ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ { : دَعْنِي عَنْكَ فَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ } .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَصِفُ الرَّجُلَ بِالْعَوَرِ أَوْ الْعَرَجِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ شَيْنَهُ إلَّا إرَادَةَ أَنْ يُعْرَفَ ؟ قَالَ لَا أَدْرِي هَذَا غِيبَةً .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ " الْغِيبَةُ أَنْ تَقُولَ فِي الرَّجُلِ مَا فِيهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : وَإِنْ قَالَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَهَذَا بُهْتٌ " ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَحْمَدُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ السَّلَفِ وَبِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ مَا نَقَلَ عَنْ الْأَثْرَمِ ، وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُعْرَفُ بِلَقَبِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهِ فَقَالَ أَحْمَدُ الْأَعْمَشُ إنَّمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ هَكَذَا فَسَهْلٌ فِي مِثْل هَذَا إذَا كَانَ قَدْ شَهُرَ .
قَالَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ يَجُوزُ ذِكْرُ الرَّاوِي بِلَقَبِهِ وَصِفَتِهِ وَنَسَبِهِ الَّذِي يَكْرَهُهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ تَعْرِيفَهُ لَا تَنَقُّصَهُ لِلْحَاجَةِ كَمَا يَجُوزُ الْجَرْحُ لِلْحَاجَةِ ، كَذَا قَالَ وَيَمْتَازُ الْجَرْحُ بِالْوُجُوبِ فَإِنَّهُ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ تَأْتِي ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي فُصُولِ الْعِلْمِ وَفِي الْغِيبَةِ فِي فُصُولِ

الْهِجْرَةِ ، وَتُحَرَّمُ الْبِدَعُ الْمُحَرَّمَةُ وَإِفْشَاءُ السِّرِّ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى الْمُضِرُّ وَالتَّعَدِّي بِالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَالْفُحْشِ وَالْبَذَاءِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : غَرِيبٌ وَالْإِسْنَادُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا تَلْعَنْ الرِّيحَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتْ اللَّعْنَةُ إلَيْهِ } .
، وَلِأَبِي دَاوُد أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ نِمْرَانَ ، وَفِيهِ جَهَالَةٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ وَلَا لَعَّانٍ وَلَا فَاحِشٍ وَلَا بَذِيءٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ سُوَيْد بْنِ حَاتِمٍ بَيَّاعِ الطَّعَامِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَسُبُّ بُرْغُوثًا فَقَالَ لَا تَسُبَّهُ فَإِنَّهُ قَدْ نَبَّهَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ .
} قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : فِيهِ سُوَيْدٌ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الْأَثْبَاتِ وَهُوَ صَاحِبُ حَدِيثِ الْبُرْغُوثِ ثُمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِقَوِيٍّ انْفَرَدَ بِهِ سُوَيْدٌ وَقَالَ ابْن عَدِيٍّ فِي سُوَيْدٍ : هُوَ إلَى الضَّعْفِ أَقْرَبُ وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : لَيْسَ بِقَوِيٍّ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا إنْ لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَيَأْتِي فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي لَعْنَةِ الْمُعِينِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ { لَا تَكُونِي فَاحِشَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ }

، وَقَوْلُهُ : { يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْفُحْشَ وَالْعُنْفَ } وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا بَعْدَ فُصُولِ طَاعَةِ الْأَبِ بِالْقُرْبِ مِنْ ثُلُثِ الْكِتَابِ .
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مَوْقُوفًا .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مَرْفُوعًا .
وَلَهُ فِي لَفْظٍ آخَرَ { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ مِنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحِيمِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : عَبْدُ الرَّحِيمِ مَتْرُوكٌ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : مَجْهُولٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : رَوَى مَنَاكِيرَ عَنْ قَوْمٍ ثِقَاتٍ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : فِي الثِّقَاتِ يُعْتَدُّ بِحَدِيثِهِ إذَا رَوَى مِنْ كِتَابِهِ .

فَصْلٌ ( فِي الْمَكْرِ ، وَالْخَدِيعَةِ ، وَالسُّخْرِيَةِ ، وَالِاسْتِهْزَاءِ ) وَيُحَرَّمُ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ ، وَالسُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } .
وَفِي سَبَبِهَا وَتَفْسِيرِهَا كَلَامٌ طَوِيلٌ فِي التَّفْسِيرِ ، وَالْمُرَادُ بِأَنْفُسِكُمْ إخْوَانُكُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَأَنْفُسِكُمْ .
وَقَالَ تَعَالَى { : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ الْكِنْدِيِّ عَنْ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ } إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ .
وَعَنْ لُؤْلُؤَةَ عَنْ أَبِي صِرْمَةَ { مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحٌ إسْنَادٌ جَيِّدٌ مَعَ أَنَّ لُؤْلُؤَةَ تَفَرَّدَ عَنْهَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ .
وَيُحَرَّمُ الْكَذِبُ لِغَيْرِ إصْلَاحٍ وَحَرْبٍ وَزَوْجَةٍ ، وَيُحَرَّمُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ كَذَا قَالَ فِي الرِّعَايَةِ ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْكَذِبِ فَهُوَ مُبَاحٌ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ مُبَاحًا ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ وَاجِبٌ وَهُوَ مُرَادُ الْأَصْحَابِ وَمُرَادُهُمْ هُنَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْكَذِبُ إذَا كَانَ فِيهِ عِصْمَةُ مُسْلِمٍ مِنْ الْقَتْلِ وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ يَحْرُمُ أَيْضًا لَكِنْ يَسْلُكُ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا فَقَالَ فِي مُفَارَقَةِ أَرْضِ الْغَصْبِ : إنَّهُ فِي حَالِ الْمُفَارَقَةِ عَاصٍ وَلَهَذَا الْكَذِبُ مَعْصِيَةٌ ثُمَّ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا ظُلْمًا فَهَرَبَ مِنْهُ فَلَقِيَ

رَجُلًا فَقَالَ : رَأَيْتَ فُلَانًا ؟ كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ : لَمْ أَرَهُ فَيَدْفَعُ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِارْتِكَابِ أَدْنَاهُمَا .
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ إنَّهُ حَسَنٌ حَيْثُ جَازَ لَا إثْمَ فِيهِ وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ ، فَمَنْ نَفَاهُ ، وَقَالَ : لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ وَقَالَ : الْأَحْكَامُ لِذَاتِ الْفِعْلِ قَبَّحَهُ لِذَاتِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْمَعَارِيضُ حُرِّمَ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ وَصَرَّحَ بِهِ آخَرُونَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إذًا وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْخَطَّابِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ أَمْكَنَ الْمَعَارِيضُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرَادٌ تَشْبِيهًا بِالْإِنْشَاءِ مِنْ الْمَعْذُورِ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَمْ يَتَأَوَّلْ بِلَا عُذْرٍ وَفِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ ، وَمِنْ دَلِيلِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَحْضُرُهُ التَّأْوِيلُ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَتَفُوتُ الرُّخْصَةُ ، فَلَعَلَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ وَلَيْسَ بِالْوَاضِحِ وَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فِي التَّوْبَةِ مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ مَا يُوَافِقُ التَّرَدُّدَ وَالنَّظَرَ فِي ذَلِكَ ، وَجَزَمَ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي .
وَلَوْ احْتَاجَ إلَى الْيَمِينِ فِي إنْجَاءِ مَعْصُومٍ مِنْ هَلَكَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ قَالَ فِي الْمُغْنِي : لِأَنَّ إنْجَاءَ الْمَعْصُومِ وَاجِبٌ وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي الْيَمِينِ فَيَجِبُ ، وَذَكَرَ خَبَرَ سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ أَنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ أَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَحَلَفَ أَنَّهُ أَخُوهُ ثُمَّ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { صَدَقْتَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ } .
وَكَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ السَّابِقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْحَدِيثِ يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ هَلْ يُقَاسُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْقِيَاسِ إذَا فُهِمَ الْمَعْنَى ؟ وَيَأْتِي

فِعْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كِتَابِ الْهَدْيِ أَنَّهُ يَجُوزُ كَذِبُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرَ ذَلِكَ الْغَيْرِ إذَا كَانَ يَتَوَصَّلُ بِالْكَذِبِ إلَى حَقِّهِ كَمَا كَذَبَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ مِنْ مَكَّةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ لَحِقَتْ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ .
أَمَّا مَا نَالَ مَنْ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْحُزْنِ فَمَفْسَدَةٌ يَسِيرَةٌ فِي جَنْبِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالْكَذِبِ وَلَا سِيَّمَا تَكْمِيلَ الْفَرَحِ ، وَزِيَادَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ بَعْدَ هَذَا الْكَذِبِ وَكَانَ الْكَذِبُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ .
قَالَ وَنَظِيرُ هَذَا الْإِمَامُ وَالْحَاكِمُ يُوهِمُ الْخَصْمَ خِلَافَ الْحَقِّ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ كَمَا أَوْهَمَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِشَقِّ الْوَلَدِ نِصْفَيْنِ حَتَّى يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ أُمِّهِ .

فَصْلٌ ( فِي إبَاحَةِ الْمَعَارِيضِ وَمَحَلِّهَا ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَعَارِيضِ ، وَتُبَاحُ الْمَعَارِيضُ وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيُّ : عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا وَتُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ الْمَعَارِيضِ لِغَيْرِ الظَّالِمِ .
وَقِيلَ : يَحْرُمُ وَقِيلَ : لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْكَلَامِ دُونَ الْيَمِينِ بِلَا حَاجَةٍ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَذَكَرَ فِي بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
قَالَ مُثَنَّى لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ فِي الْكَلَامِ ؟ قَالَ : الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ ، وَتَصْلُحُ بَيْنَ النَّاسِ .
فَلَعَلَّ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَعَارِيضَ فِيمَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ مِنْ الْكَذِبِ وَلَا تَجُوزُ الْمَعَارِيضُ فِي غَيْرِهَا .
وَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ فَيَقُولُ : هُوَ اللَّهُ لَا أَزِيدُكَ يُوهِمُ الَّذِي يَشْرِي مِنْهُ قَالَ : هَذَا عِنْدِي يَحْنَثُ إنَّمَا الْمَعَارِيضُ فِي الرَّجُلِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ ، وَالْبَيْعِ لَا تَكُونُ مَعَارِيضَ قُلْتُ : أَوْ يَقُولُ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ فِي الْمَسَاكِينِ إنْ زِدْتُكَ قَالَ هُوَ عِنْدِي يَحْنَثُ .
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَام الرَّجُلِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ ؟ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ فَلَا بَأْسَ ، فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ .
وَهُوَ إذَا احْتَاجَ إلَى الْخِطَابِ ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ .
فَهَذَا النَّصُّ قَوْلٌ خَامِسٌ ، وَجَزَمَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ لَهُ تَأْوِيلُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ إجْمَاعًا وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِأَنَّ مُهَنَّا كَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَهُوَ وَالْمَرُّوذِيُّ وَجَمَاعَةٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ

الْمَرُّوذِيَّ وَلَمْ يُرِدْ الْمَرُّوذِيُّ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَوَضَعَ مُهَنَّا أُصْبُعَهُ فِي كَفِّهِ وَقَالَ لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ هَهُنَا يُرِيدُ لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ فِي كَفِّهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : جَاءَ مُهَنَّا إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ أَحَادِيثُ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَعِي هَذِهِ وَأُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ قَالَ مَتَى تُرِيدُ تَخْرُجُ ؟ قَالَ السَّاعَةَ أَخْرُجُ ، فَحَدَّثَهُ بِهَا وَخَرَجَ ، فَلَمَّا كَانَ مَنْ الْغَدِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَلَيْسَ قُلْتَ السَّاعَةَ أَخْرُجُ ؟ قَالَ : قُلْتُ أَخْرُجُ مِنْ بَغْدَادَ ؟ إنَّمَا قُلْتُ لَكَ أَخْرُجُ مِنْ زُقَاقِكَ قَالَ فِي الْمُغْنِي : وَقَدْ ذَكَرَهُ بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَهَذَانِ النَّصَّانِ لَا يَمِينَ فِيهِمَا .
وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِالْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ وَبِآثَارٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا يَمِينٌ كَقَوْلِهِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ } وَلِمَنْ اسْتَحْمَلَهُ { إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرَجُلٍ حُرٍّ { مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ } ، وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالَ : وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالْمَعَارِيضِ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا فَقَالَ : { لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا } وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْمِزَاحِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ إذَا جَازَ التَّعْرِيضُ فِي الْخَبَرِ بِغَيْرِ يَمِينٍ جَازَ بِالْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِالتَّعْرِيضِ كَذِبًا مُنِعَ مِنْهُ مُطْلَقًا وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَأْكِيدِ الصِّدْقِ بِالْيَمِينِ وَغَيْرِهَا وَغَايَةُ مَا فِيهِ إيهَامُ السَّامِعِ وَلَيْسَ بِمَانِعٍ ، وَلَا الْمَنْعُ بِغَيْرِ يَمِينٍ وَالْغَرَضُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَيْسَ بِظَالِمٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَا يُقَالُ : لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْإِيهَامِ بِغَيْرِ يَمِينٍ

جَوَازُهُ بِهَا لِأَنَّهُ مَعَهَا آكَدُ وَأَبْلَغُ لِأَنَّا نَقُولُ : لَمْ نَقِسْ بَلْ نَقُولُ : إنْ كَانَ الْإِيهَامُ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ فَلْيُطْرَدْ وَقَدْ جَاءَ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِيهَامَ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ، وَلَا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي كُلِّ يَمِينٍ عَقَدَهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ ، وَلَا دَلِيلَ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَقْدَهَا مَعَ التَّأْوِيلِ وَالتَّعْرِيضِ يَشْمَلُهَا الْقُرْآنُ ثُمَّ هِيَ يَمِينٌ صَادِقٌ فِيهَا بِدَلِيلِ صِدْقِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، يُؤَيِّدُهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ تَخْتَلِفُ بِالْيَمِينِ وَعَدَمِهَا فَمَا كَانَ صِدْقًا بِدُونِهَا كَانَ صِدْقًا مَعَهَا ، هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ ، وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ بِالْيَمِينِ فَمُدَّعِي خِلَافَهُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
وَقَدْ رُوِيَ { إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ } هَذَا ثَابِتٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ .
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَلَا الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَعَارِيضِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ عَنْ دَاوُد بْنِ الزِّبْرِقَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ } .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي زَيْدٍ النُّمَيْرِيِّ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مَحْبُورٍ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ ، وَدَاوُد وَالْعَبَّاسُ ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : مَعَ ضَعْفِهِمَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُمَا وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي هَذَا الْخَبَرَ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ مُحْتَجًّا بِهِ وَلَمْ يَعْزُهُ إلَى كِتَابٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا }

الْمَعَارِيضُ لَا تُذَمُّ خُصُوصًا إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا ثُمَّ ذَكَرَ خَبَرَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَلَمْ يَعْزُهُ قَالَ : وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِمَا أَعْلَمُ مِنْ مَعَارِيضِ الْقَوْلِ مِثْلَ أَهْلِي وَمَالِي .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : لَهُمْ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إذَا خَشَوْا مِنْ شَيْءٍ يَدْرَءُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : الْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كَلَامًا كَثِيرًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يَجُوزُ مَعَ الْيَمِينِ وَمِنْ غَيْرِ يَمِينٍ يَجُوزُ ، وَعَنْهُ لَا ، وَعَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ يُقَيِّدُونَ بِهِ الْجَوَازَ الْأَوْلَى بِالْمَصْلَحَةِ لَا مُطْلَقًا ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ .
وَأَمَّا الْأَصْحَابُ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمْ الْمَعَارِيضُ ، وَقِيلَ : تُكْرَهُ وَقِيلَ : تَحْرُمُ وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ صَرَّحَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا .

وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : التَّدْلِيسُ عَيْبٌ وَقَالَ : أَكْرَهُهُ قَالَ : لَا يُعْجِبُنِي وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَكَذَا اقْتَصَرَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَتِهِ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَقِيلَ : لَهُ كَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ : التَّدْلِيسُ كَذِبٌ فَقَالَ لَا قَدْ دَلَّسَ قَوْمٌ وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْهُمْ .
وَلَوْ كُرِهَ التَّعْرِيضُ مُطْلَقًا أَوْ حَرُمَ ، أَوْ كَانَ كَذِبًا لَعَلَّلَ بِهِ لِاطِّرَادِهِ وَعُمُومِ فَائِدَتِهِ ، بَلْ عَلَّلَ بِالتَّزَيُّنِ ، وَغَالِبُ صُوَرِ التَّعْرِيضِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ لَا تَزَيُّنَ فِيهَا ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ كَالْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهَا الشَّارِعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلِأَنَّهُ يُفْعَلُ ذَلِكَ كَرَاهَةَ الْوَضْعِ فِي الْحَدِيثِ لِرَاوِيهِ ، وَمَنْ كَرِهَ التَّوَاضُعَ فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ أَسَاءَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ يَتَزَيَّنُ انْتَهَى كَلَامُهُ ، فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالرِّوَايَةِ ، لَكِنْ لَا يُعَارِضُ هَذَا نَصَّهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : كُلُّ كَرَاهَتِهِ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَعَارِيضِ إذَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَا مَظْلُومًا وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ فَإِنَّ التَّدْلِيسَ فِي الرِّوَايَةِ وَالْحَدِيثِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ كَذَا قَالَ .
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ : وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ مَا كَذَبَ بَلْ صَدَقَ إلَّا أَنَّهُ أَوْهَمَ ، وَمَنْ أَوْهَمَ فِي خَبَرِهِ لَمْ يُرَدَّ خَبَرُهُ كَمَنْ قِيلَ لَهُ حَجَجْت ؟ فَقَالَ : لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ يُوهِمُ أَنَّهُ حَجَّ أَكْثَرُ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مَا حَجَّ أَصْلًا ، فَلَا يَكُونُ كَذِبًا انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ : لَيْسَ بِصَادِقٍ فِي

الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ فَيُقَالُ : قَدْ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَعَدَمُ فَهْمِ بَعْضِ النَّاسِ لَيْسَ بِحُجَّةِ فَقَدْ يَفْطِنُ لِلتَّعْرِيضِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَلِهَذَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ كَذِبًا ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ لُغَةً وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ وَحَقِيقَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا { يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِصَالِ كُلِّهَا إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَذِبِ .
لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي قَالَ الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ .
وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا { وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ } لَهُ طُرُقٌ إلَى بَهْزٍ وَهُوَ ثَابِتٌ إلَيْهِ وَبَهْزٌ حَدِيثُهُ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَلِأَحْمَدَ حَدِيثُ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا { لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحِ وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا } الْمِرَاءُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَالُ يُقَال : مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً ، أَيْ : جَادَلَ .
وَتَفْسِيرُ الْمِرَاءِ فِي اللُّغَةِ اسْتِخْرَاجُ غَضَبِ الْمُجَادِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ : مَرَيْتُ الشَّاةَ إذَا اسْتَخْرَجْتُ لَبَنَهَا .
وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْتَ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِينِي ، وَلَا تُمَارِينِي } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ : { كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ } .
وَتُدَارِينِي مِنْ الْمُدَارَاةِ بِلَا هَمْزٍ وَرُوِيَ بِالْهَمْزِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ .

وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ : لَا تُمَارِيَنَّ حَكِيمًا ، وَلَا تُجَادِلَنَّ لَجُوجًا ، وَلَا تُعَاشِرَنَّ ظَلُومًا ، وَلَا تُصَاحِبَنَّ مُتَّهَمًا .
وَقَالَ أَيْضًا يَا بُنَيَّ مَنْ قَصَّرَ فِي الْخُصُومَةِ خَصِمَ ، وَمَنْ بَالَغَ فِيهَا أَثِمَ ، فَقُلْ الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ فَلَا تُبَالِ مَنْ غَضِبَ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : كَفَى بِكَ ظَالِمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا ، وَكَفَى بِكَ آثِمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُمَارِيًا .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : مَا مَارَيْتُ أَخِي أَبَدًا ؛ لِأَنِّي إنْ مَارَيْتُهُ إمَّا أَنْ أَكْذِبَهُ ، وَإِمَّا أَنْ أُغْضِبَهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ : الْخُصُومَةُ تَمْحَقُ الدِّينَ وَتُثَبِّتُ الشَّحْنَاءَ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ .
يُقَالُ : لَا تُمَارِ حَكِيمًا وَلَا سَفِيهًا ، فَإِنَّ الْحَكِيمَ يَغْلِبُكَ ، وَالسَّفِيهَ يُؤْذِيكَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ : مَنْ لَاحَى الرِّجَالَ وَمَارَاهُمْ قَلَّتْ كَرَامَتُهُ ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ عُرِفَ بِهِ .
وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ ( الْإِمَامُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ وَمَحَلُّهُ بِالشَّامِ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِالْبَصْرَةِ ) قَالَ : إذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ لَجُوجًا مُمَارِيًا فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدٍ وَيُقَالُ أَسَدٌ مَرْفُوعًا { كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ بِهِ كَاذِبٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ عَنْ ضُبَارَةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَبَقِيَّةُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَأَبُو ضُبَارَةَ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُهُ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِي الْمَعَارِيضِ ) وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ هَارُونَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَثَمَّ الْمُرَادُ بِهَا الْكَذِبُ ، أَوْ التَّعْرِيضُ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ الْكَرَاهَةُ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَذَكَرَ ابْنُ

عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا أُسْرِيَ بِي كَانَ أَوَّلُ مَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَالَ إيَّاكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ ، وَشُرْبَ الْخُمُورِ وَمُلَاحَاةَ الرِّجَالِ } .
وَقَالَ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ يُوصِي ابْنَهُ كِدَامًا شِعْرًا : إنِّي مَنَحْتُكَ يَا كِدَامُ وَصِيَّتِي فَاسْمَعْ لِقَوْلِ أَبٍ عَلَيْكَ شَفِيقِ أَمَّا الْمُزَاحَةُ وَالْمِرَاءُ فَدَعْهُمَا خُلُقَانِ لَا أَرْضَاهُمَا لِصَدِيقِ إنِّي بَلَوْتُهُمَا فَلَمْ أَحْمَدْهُمَا لِمُجَاوِرٍ جَارٍ وَلَا لِرَفِيقِ وَالْجَهْلُ يُزْرِي بِالْفَتَى وَعُمُومُهُ وَعُرُوقُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ عُرُوقِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرِّيَاشِيُّ : وَإِذَا بُلِيتُ بِجَاهِلٍ مُتَجَاهِلٍ يَجِدُ الْمُحَالَ مِنْ الْأُمُورِ صَوَابَا أَوْلَيْتُهُ مِنِّي السُّكُوتَ وَرُبَّمَا كَانَ السُّكُوتُ عَنْ الْجَوَابِ جَوَابَا وَيَأْتِي بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا ، وَتَحْرِيمِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْعُجْبِ .

وَقَالَ مَنْصُورٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رُخِّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثٍ قَالَ : وَمَا بَأْسٌ عَلَى مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ .
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا بَأْسَ أَنْ يَكْذِبَ لَهُمْ لِيَنْجُوَ يَعْنِي الْأَسِيرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : الْكَذِبُ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جَدٌّ وَلَا هَزْلٌ قُلْتُ لَهُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إلَّا أَنْ يَكُونَ يُصَالِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ رَجُلٍ لِامْرَأَتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ رِضَاهَا } قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ، فَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْكَذِبِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَفِي الْحَرْبِ كَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا فِي الْحَرْبِ } .
فَأَمَّا الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ فَلَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْكَذِبُ مُجَانِبُ الْإِيمَانِ } كَذَا قَالَ ، وَرُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَوْقُوفًا وَقَالَ أَحْمَدُ : وَلَا يَصْلُحُ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي كَذَا وَكَذَا وَقَالَ : لَا يَزَالُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا فَهَذَا مَكْرُوهٌ فَقَدْ نَصَّ عَلَى إبَاحَةِ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَكِنْ هَلْ هُوَ التَّوْرِيَةُ أَوْ مُطْلَقًا ؟ وَرِوَايَةُ حَنْبَلٍ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْكَذِبِ ، وَرِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ ظَاهِرَةٌ فِي الْإِطْلَاقِ فَصَارَ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَالْإِطْلَاقُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلِهَذَا اسْتَثْنَوْهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ أَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابَ كَمَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّصْرِيحُ وَأَيْضًا التَّعْرِيضُ يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَا حَاجَةٍ فَلَا وَجْهَ إذًا لِاسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الثَّلَاثَة وَاخْتِصَاصِ التَّعْرِيضِ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ أَمِّ كُلْثُومٍ

بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مَرْفُوعًا { لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ قَالَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يُنْمِي خَيْرًا } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا إلَّا فِي ثَلَاثٍ يَعْنِي : الْحَرْبَ ، وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ وَحَدِيثَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا ، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا ، وَذَكَرَهُ ، وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ قَالَ مَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي ثَلَاثٍ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَعَنْ شَهْرٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا { كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ ، إلَّا رَجُلٌ كَذَبَ لِامْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا ، أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ فِي خَدِيعَةِ حَرْبٍ ، أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ { لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا ، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ } وَقَالَ : حَسَنٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شَهْرٍ مُرْسَلًا .
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ مُرْسَلًا { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْذِبُ لِامْرَأَتِي ؟ فَقَالَ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ : فَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا ؟ فَقَالَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } .
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ثُمَّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَتَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ .
فَقَالَ : إنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنِّي لَا أَدْخُلُ

عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُؤْوِيَنِي إلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ : نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ الثَّلَاثَ فَلَمْ أَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ تَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إلَّا خَيْرًا فَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ قُلْتُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ ، وَلَا هِجْرَةٌ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إلَيْكَ لِأَنْظُرَ عَمَلَكَ لِأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ ؟ قَالَ : مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا ، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ } .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ الْكَافِرِينَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ " بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ " فِي الْخَبَرِ إرْسَالٌ وَشَهْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى ثُمَّ ظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هُوَ مَفْهُومُ اسْمٍ وَفِيهِ خِلَافٌ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُسْلِمِينَ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَخَصُّ كَمَا يَخْتَصُّ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ لِلصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ إطْلَاقِ الْآيَةِ فِيهِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَلَعَلَّهُ مُتَعَيَّنٌ ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ إنَّمَا جَازَ لِمَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَفْتَقِرُ إلَى

دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ثُمَّ يُقَال : لَوْ كَانَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً لَجَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ فِي الْغُرْمِ فِيهِ كَالصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ دَرَجَةَ الْإِصْلَاحِ أَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالصَّدَقَةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الصُّلْحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّ الَّذِي رَغَّبَ فِيهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي أَجَازَ الْكَذِبَ لِأَجْلِهِ وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ إجَابَةُ دَعَوْتِهِمْ بَلْ تُسْتَحَبُّ أَوْ تَجُوزُ أَوْ تُكْرَهُ مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا عَامًّا وَأَجَابَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ فَالدَّلِيلُ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَهُوَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالْمَوَدَّةِ فَهُنَا مِثْلُهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ قُوَّةِ الدَّلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُبَاحُ أَوْ يُكْرَهُ ؟ يَخْرُجُ فِيهِ خِلَافٌ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ : اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ إلَّا فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ ، وَمُدَارَاةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ ، وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، وَدَفْعِ مَظْلَمَةٍ مُرَادَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، أَوْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ لِمَا سَبَقَ ، وَقَدْ عُرِفَ بِمَا سَبَقَ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ مَدْخُولٌ .
قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا بَلَى قَالَ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ } سَالِمٌ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ هَنَّادٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ الْحَالِقَةُ الْخَصْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْلِقَ أَيْ تُهْلِكَ ، وَتَسْتَأْصِلَ

الدِّينَ كَمَا يَسْتَأْصِلُ الْمُوسَى الشَّعْرَ .

وَقَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } يُحَدِّثُ الرَّجُلُ بِكُلِّ شَيْءٍ يُرِيدُ قَالَ أَبِي يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُحَدَّثُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا يُحَدَّثُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ فَإِنَّهُ كَانَتْ فِيهِمْ الْأَعَاجِيبُ } فَيَكُونُ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ ، وَلَا يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا يَرَى أَنَّهُ صِدْقٌ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ كَذِبٌ كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَدُّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَيُحَدِّثُ بِمَا يَشُكُّ فِيهِ كَذَا جُزِمَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَيَّدَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ يَأْثَمُ إلَّا بِرِوَايَةِ مَا يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّهُ كَذِبًا أَمَّا مَا لَا يَعْلَمُهُ ، أَوْ يَظُنُّهُ كَذِبًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ إذًا فَإِنَّكُمْ لَا تُحَدِّثُونَ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ إلَّا وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَعْجَبُ مِنْهُ وَإِنْ ظَنَّهُ غَيْرَ كَذِبٍ ، أَوْ عَلِمَهُ وَفِي رِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَبَاحَهُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَمَّنْ يُجْهَلُ صِدْقُهُ وَكَذِبُهُ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَضَبْطُ يَرَى فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَالْكَذَّابِينَ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالْخَبَرِ الثَّانِي فِي السُّنَنِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ

ثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثٍ حَسَنٍ جَيِّدِ الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُعَاذٌ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : { كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ حَتَّى نُصْبِحَ مَا نَقُومُ إلَّا إلَى عُظْمِ الصَّلَاةِ } حَدِيثٌ حَسَنٌ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ بَابُ رِوَايَةِ حَدِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثنا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ { بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْيَهُودِيُّ : إنَّهَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَابْنُ أَبِي نَمْلَةَ اسْمُهُ نَمْلَةُ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَلِأَحْمَدَ حَدَّثَنَا عَفَّانَ ثنا هِلَالُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا عَامَّةَ لَيْلِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا نَقُومُ إلَّا لِعُظْمِ صَلَاةٍ يَعْنِي : الْمَكْتُوبَةَ الْفَرِيضَةَ } أَبُو هِلَالٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ الرَّاسِبِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ

بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا } الْآيَةَ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ الْكَذِبُ هُوَ : إخْبَارُهُ عَنْ الشَّيْءِ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ هِيَ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا كَاذِبًا عَالِمًا بِكَذِبِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْأُصُولِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ ، وَغَيْرِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } فَقَيَّدَهُ بِالْعَمْدِ قِيلَ : هُوَ دُعَاءٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَيْ : بَوَّأَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ، وَقِيلَ : هُوَ خَبَرٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحِ أَوْ الصَّحِيحَيْنِ { يَلِجُ النَّارَ } وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ شَرْطُ الْكَذِبِ الْعَمْدِيَّةُ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَيْضًا يُعْتَبَرُ لِلصِّدْقِ وَالِاعْتِقَادِ وَإِلَّا فَهُوَ كَاذِبٌ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إنْ طَابَقَ الْحُكْمَ الْخَارِجِيَّ فَصِدْقٌ وَإِلَّا فَكَذِبٌ وَبَحَثَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأُصُولِ هَذَا فِي الْمَاضِيَ وَالْحَالَ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ الْمَذْكُورَةِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : سَمِعْتُ هَارُونَ الْمُسْتَمْلِيَّ يَقُولُ لِأَبِي : بِمَ تَعْرِفُ الْكَذَّابِينَ ؟ قَالَ بِالْمَوَاعِيدِ أَوْ بِخُلْفِ الْمَوَاعِيدِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَكْذَبُ النَّاسِ الصَّبَّاغُونَ وَالصَّوَّاغُونَ } وَقَالَ : هَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَعِدُ وَيُخْلِفُ ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ أَحْمَدُ : قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إذَا اسْتَثْنَى بَعْدَهُ فَلَهُ ثُنْيَاهُ لَيْسَ هُوَ فِي الْأَيْمَانِ إنَّمَا تَأْوِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } .
فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْكَذِبِ ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُكَفَّرُ وَالْكَذِبُ لَا يُكَفَّرُ قَالَ الْجُمْهُورُ : إنَّ الْمَعْنَى إذَا نَسِيتَ

الِاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ ذَكَرْتَ فَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ ، مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا : لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا مُتَّصِلًا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : الصَّوَابُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَلَوْ بَعْدَ حِنْثِهِ فِي يَمِينِهِ فَيَقُولُ : إنْ شَاءَ اللَّهُ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَرَجُ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ .
وَمَنْ قَالَ لَهُ ثُنْيَاهُ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ أَرَادَ سُقُوطَ الْحَرَجِ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ دُونَ الْكَفَّارَةِ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : فَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ خُرُوجُ الْحَالِفِ مِنْ الْكَذِبِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ .
قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } وَلَمْ يَصْبِرْ فَسَلِمَ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ .
وَفِي الْمُغْنِي فِي الطَّلَاقِ أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ كَاذِبٌ حَانِثٌ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } إلَى قَوْلِهِ { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا } إلَى قَوْلِهِ { وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ : نَظِيرُهَا { يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ } الْآيَةَ قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا } .
الْآيَةَ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ .
فَأَخْبَرَ أَبُو سُفْيَانَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَذَبَ سَعْدٌ وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو حَاطِبًا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ } قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثِ حَاطِبٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ لَفْظَ الْكَذِبِ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ ، وَهَذَا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَظُنُّهُ احْتَجَّ هُوَ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { آيَةُ الْمُنَافِق ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إخْلَافِ الْوَعْدِ لَيْسَ بِكَذِبٍ وَإِلَّا لَاقْتَصَرَ عَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ كَذِبًا وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظٍ خَاصٍّ صَرِيحٍ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ وَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي اللَّفْظِ ثُمَّ غَايَتُهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَذِبٌ بِاسْتِعْمَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَا تَعَارُضَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ : لَا يُسْتَعْمَلُ الْكَذِبُ إلَّا فِي إخْبَارٍ عَنْ الْمَاضِي بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ .
وَإِذَا قَدْ تَبَيَّنَ هَذَا فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ يَعْلَمُهُ ، أَوْ يَظُنُّهُ جَازَ وَإِنْ عَلِمَ عَدَمَهُ أَوْ ظَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ إنْ شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِلْإِخْبَارِ وَسَوَاءٌ طَابَقَ الْخَارِجَ مَعَ الظَّنِّ أَوْ الشَّكِّ أَوْ لَا .
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْقَسَامَةِ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَأَنَّهُ خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِالْيَمِينِ ، وَكَذَا لَغْوُ الْيَمِينِ يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِالظَّنِّ وَكَذَا مَا ظَنَّهُ بِخَطِّ أَبِيهِ مِنْ الدِّينِ يَعْمَلُ بِهِ وَيَحْلِفُ ، وَأَنَّهُ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالْمُلْكِ لِمَنْ بِيَدِهِ عَيْنٌ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي الْمَشْهُورِ كَمَا لَوْ شَاهَدَ سَبَبَ

الْيَدِ مَعَ بَيْعٍ ، أَوْ غَيْرِهِ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِ الْبَائِعِ غَيْرَ مَالِكٍ وَالشَّهَادَةُ آكَدُ مِنْ الْخَبَرِ ، وَأَنَّهُ يُخْبِرُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ بِعِلْمٍ ، أَوْ ظَنٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُخْبِرُ بِعِلْمٍ وَظَنٍّ خَاصَّةً وَهَذَا أَوْضَحُ وَدَلِيلُهُ مَشْهُورٌ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ الَّذِينَ قُتِلَ مِنْهُمْ الْقَتِيلُ بِخَيْبَرَ { يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ قَالُوا أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ فَكَيْفَ نَحْلِفُ ؟ } الْحَدِيثَ .
{ وَحَلَفَ جَابِرٌ بِاَللَّهِ إنَّ ابْنَ صَيَّادٍ الدَّجَّالَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ : أَتَحْلِفُ بِاَللَّهِ قَالَ : إنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِوُجُودِ شَيْءٍ يَظُنُّهُ فَلَمْ يَكُنْ جَازَ أَنَّهُ كَاذِبٌ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ يَظُنُّ عَدَمَهُ فَكَانَ لَمْ يَحْرُمْ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ ، وَأَنَّ قَوْلَ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَاللَّفْظُ لِلْمُغْنِي لَا كَفَّارَةَ فِي يَمِينٍ عَلَى مَاضٍ ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ إجْمَاعًا .
وَمَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِيهِ فَهُوَ يَمِينُ الْغَمُوسِ .
وَمَا يَظُنُّهُ حَقًّا فَيَتَبَيَّنُ بِخِلَافِهِ فَلَا كَفَّارَةَ .
وَذَكَرَ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ رِوَايَةً ظَهَرَ أَنَّهُ لَوْ شَكَّ أَوْ حَلَفَ عَلَى خِلَافِ مَا يَظُنُّهُ فَطَابَقَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إقْدَامُهُ عَلَى الْيَمِينِ لَكِنْ هَلْ يَدْخُلُ يَمِينُهُ فِي خِلَافِ ظَنِّهِ فِي الْغَمُوسِ ؟ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يَدْخُلُ وَقَدْ قَالَ فِي الْمُغْنِي فِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ : الظَّنُّ يُسَمَّى عِلْمًا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } .
وَخَرَجَ مِنْ كَلَامِهِمْ إذَا لَمْ يُطَابَقْ مَعَ الشَّكِّ فَإِنَّهُ

لَيْسَ بِصَادِقٍ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ فَلَا ظَنَّ لَهُ فَيُقَالُ إنْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِيمَا يَظُنُّهُ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَهُنَا أَوْلَى ، فَظَاهِرُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَدَمِ الْكَفَّارَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ الْوُجُوبِ وَإِلَّا لَوَجَبَتْ لِظَاهِرِ الْآيَةِ .
وَقَدْ عَلَّلَ فِي الْمُغْنِي عَدَمَ وُجُوبِهَا فِي الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْمُخَالَفَةَ كَالنَّاسِي وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ الْمُخَالَفَةَ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ : لَا كَفَّارَةَ فِي يَمِينٍ عَلَى مَاضٍ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْحَصْرَ ، وَوُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِيهَا لَقَالَ إنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا كَفَّارَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا فَإِنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوْ ظَنَّ شَيْئًا فَبَانَ بِخِلَافِهِ فَلَا كَفَّارَةَ وَإِلَّا وَجَبَتْ إلَّا أَنْ يَدُومَ شَكُّهُ فَلَا كَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَقَدْ جَزَمَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الطَّلَاقِ فَقَالَ : وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنَّ أَخَاك لَعَاقِلٌ وَكَانَ أَخُوهَا عَاقِلًا لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا حَنِثَ كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ إنَّ أَخَاك لَعَاقِلٌ ، وَإِنْ شُكَّ فِي عَقْلِهِ لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ فَلَا يُزَالُ بِالشَّكِّ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مَا أَكَلْتُ هَذَا الرَّغِيفَ لَمْ يَحْنَثْ إنْ كَانَ صَادِقًا وَيَحْنَثُ إنْ كَانَ كَاذِبًا كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَكَلْتُهُ .
وَقَالَ فِي الْمُغْنِي فِيمَا إذَا صَالَحَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُنْكِرِ أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَّعِي فِي جَوَازِ الدَّعْوَى عَلَى الْمُنْكِرِ قَالَ : وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الْمُدَّعِي فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى شَيْءٍ لَا يُعْلَمُ بِثُبُوتِهِ فَمُرَادُهُ بِالْعِلْمِ الظَّنُّ لِيَتَّفِقَ كَلَامُهُ أَوْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُ قَوْلَانِ ذَكَرَ فِي كُلِّ مَكَان قَوْلًا بِحَسَبِ مَا رَآهُ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَوْ مَا أَدَّاهُ

اجْتِهَادُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ وَفَرْعُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ دَعْوَى لَا تَجُوزُ لِأَصْلِهِ فَلَا يَدَّعِي إلَّا مَا يَعْلَمُهُ ، أَوْ يَظُنُّهُ حَقًّا كَمَا سَبَقَ ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَاصِمَ لِغَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حَقٍّ أَوْ نَفْيِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا وَلَمْ يُخَالِفْهُ فَدَلَّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : لَا تَصِحُّ وَكَالَةُ مَنْ عَلِمَ ظُلْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْخُصُومَةِ فَظَاهِرُهُ يَصِحُّ إذَا لَمْ يَعْلَمْ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْعِلْمِ أَيْضًا الظَّنُّ وَإِلَّا فَبَعِيدٌ جِدًّا الْقَوْلُ بِهِ مَعَ ظَنِّ ظُلْمِهِ .
فَإِنْ قِيلَ ظَنُّ التَّحْرِيمِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْعِلْمِ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُخَاصِمَ فِي بَاطِلٍ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ قِيلَ : لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ التَّوْكِيلِ وَصِحَّتِهِ إلَّا الْمُخَاصَمَةُ فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ مِمَّا يَعْلَمُهُ ، أَوْ يَظُنُّهُ بَاطِلًا وَإِلَّا فَكَانَ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ مَعَ الْعِلْمِ وَلَا يُخَاصِمُ فِي بَاطِلٍ فَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ دَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي ظُلْمِهِ صَحَّتْ وَخَاصَمَ فِيهِ وَعَلَى هَذَا عَمَلُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَيَدَّعُونَ مَعَ الشَّكِّ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى وَعَدَمِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْبِرٍ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُخْبِرُ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَيُبَلِّغُ كَلَامَهُ لِكَوْنِهِ لَا يَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَمَسُّ إلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَشَقَّتِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ لِخِبْرَتِهِ بِأَحْوَالِهِ وَقَضَايَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد بَابٌ فِيمَنْ يُعِينُ عَلَى خُصُومَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَمْرَهَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ثنا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ رَاشِدٍ قَالَ جَلَسْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَخَرَجَ إلَيْنَا فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ .
وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ } .
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يُونُسَ ثنا إبْرَاهِيمُ ثنا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعُمَرِيُّ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ يَزِيدَ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَاهُ قَالَ { وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَالتَّرْجَمَةُ تُوَافِقُ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي وَالْخَبَرُ قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِخِلَافِهِ فَهَلْ يَكُونُ مَذْهَبًا لَهُ ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُ .
وَالْخَبَرُ إنَّمَا يَدُلُّ لِمَا سَبَقَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ كَمَا تَرَاهُ وَالْإِسْنَادُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ وَالثَّانِي إنَّمَا فِيهِ الْمُثَنَّى بْن يَزِيدَ تَفَرَّدَ عَنْهُ عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورُ فَيَكُونُ مَجْهُولًا فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ لَكِنْ يُقَالُ : عَاصِمٌ كَبِيرٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي عَمَّنْ يَرْوِي عَنْ آبَائِهِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُعْرَفَ حَالُهُ مَعَ أَنَّهُ مُتَابِعٌ لِلْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ فَهَذِهِ حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَدْغَةُ الْخَبَالِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ

وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ : صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ اللَّهُمَّ أَجِرْنَا وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا .
أَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ } فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو ابْنِ أَبِي نِعْمَةَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : مَجْهُولٌ يُتْرَكُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَصِحُّ خَبَرُهُ وَأَمَّا إنْ تَعَلَّقَ الْإِخْبَارُ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَوَاضِحٌ كَمَا سَبَقَ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فَلَا يُخْبِرُ عَنْ شَيْءٍ سَيُوجَدُ أَوْ لَا إلَّا بِاعْتِقَادٍ جَازِمٍ أَوْ ظَنٍّ رَاجِحٍ ثُمَّ إنْ طَابَقِ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْإِخْبَارُ الْجَائِزُ وَالصِّدْقُ ، وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ لِغَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ فَكَذِبٌ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا فَكَذِبٌ لَا إثْمَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ الْإِخْبَارُ إلَيْهِ مَا لَمْ يَجُزْ ، ثُمَّ إنْ طَابَقَ فَصِدْقٌ ، وَإِنْ لَمْ يُطَابَقْ لِغَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ فَكَذِبٌ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا فَكَذِبٌ لَا إثْمَ فِيهِ .

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَبِي النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ فَلَمْ يَفِ وَلَمْ يَجِئْ لِلْمِيعَادِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } .
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ : أَبُو وَقَّاصٍ مَجْهُولٌ .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ قَالَ وَلَا يُعْرَفُ أَبُو النُّعْمَانِ وَلَا أَبُو وَقَّاصٍ فَاعْتُبِرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ أَنْ يَفِيَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَهُوَ يُعَضَّدُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْنَى مَعَ أَنَّ فِيهَا كِفَايَةً ، وَتَعْلِيقُ الْخَبَرِ فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ مُسْتَحَبٌّ ، وَلَا يَجِبُ لِلْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فَيَتْرُكُهُ فِي الْخَبَرِ وَالْقَسَمِ ، وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي مَسْأَلَةِ الْفِرَارِ مِنْ الزَّكَاةِ لَمَّا قِيلَ : لَهُ إنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ عُوقِبُوا عَلَى تَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْقَسَمِ فَقَالَ : لَا ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَعَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ الْكَذِبِ إنْ أَتَى بِهِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا وَقَدْ نَسِيَهُ وَإِلَّا فَلَا .
هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ الْجُمْهُورِ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ السَّابِقِ وَحِكَايَتُهُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَسْلَمُ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقًا وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، أَمَّا مَنْ حَلَفَ وَحَنِثَ فَالْكَفَّارَةُ كَالْوَاجِبِ وَهِيَ مَاحِيَةٌ لِحُكْمِ مَا وَقَعَ .
وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ : الْيَمِينُ عَلَى الْمُبَاحِ الْإِقَامَةُ عَلَيْهَا وَحِلُّهَا مُبَاحٌ وَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تُغَيِّرُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا إذَا حَنِثَ سِوَى الْكَفَّارَةِ وَأَنَّهَا زَاجِرَةٌ مَاحِيَةٌ وَهَذَا ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ السَّابِقِ وَحِكَايَتُهُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِالِاسْتِثْنَاءِ لِيَسْلَمَ مِنْ الْكَذِبِ وَأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا

تُزِيلُهُ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ الْخَبَرُ لَا الْقَسَمُ وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي بَابِ الْكَذِبِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ هُوَ النَّمَرِيُّ عَنْ شُعْبَةَ ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ هُوَ ابْنُ إشْكَابَ ثنا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ ثنا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ } وَلَمْ يَذْكُرْ حَفْصٌ أَبَا هُرَيْرَةَ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَحَفْصٌ وَابْنُ إشْكَابَ ثَبْتَانِ .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا } وَذَكَرَهُ وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا { بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ } .
فَفِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ فَلَا يَفْعَلُ لِيَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَ فَيَكُونُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا قَدْ تَعَمَّدَ كَذِبًا .
وَقَالَ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَعْنَاهُ الزَّجْرُ عَنْ التَّحْدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِي الْعَادَةِ الصِّدْقَ ، وَالْكَذِبَ فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لِإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْكَذِبَ : الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ لَكِنَّ التَّعَمُّدَ شَرْطٌ لِكَوْنِهِ إثْمًا انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَلَعَلَّ ظَاهِرُهُ لَا يَحْرُمُ لِعَدَمِ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَلَمْ يَذْكُرْ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد الْمَذْكُورَةُ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَجِيئُونَنِي بِالطَّعَامِ فَإِنْ قُلْتُ لَا آكُلُهُ ثُمَّ أَكَلْت ؟ قَالَ هَذَا كَذِبٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَا يَكْتُبُ فَيَقُولُ اُكْتُبْ كِتَابًا فَيُمْلِي عَلَيْهِ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ لِيَكْتُبَ لَهُ قَالَ : لَا فَلَا يَكْتُبُ بِالْكَذِبِ .

فَصْلٌ ( فِي الزَّعْمِ وَكَوْنِ زَعَمُوا مَطِيَّةَ الْكَذِبِ ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ زَعَمُوا مَطِيَّةُ الْكَذِبِ وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : زَعَمَ فُلَانٌ اقْتَصَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : بَابٌ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ زَعَمُوا حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا وَكِيعٌ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَوْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِابْنِ مَسْعُودٍ : مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي زَعَمُوا ؟ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول { بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ } قَالَ أَبُو دَاوُد وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ حُذَيْفَةُ وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا .
وَقَالَ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ فِي أَطْرَافِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ بِخَطِّهِ لَمْ يَسْمَعْ أَبُو قِلَابَةَ مِنْهُمَا وَهُوَ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قَالَ قِيلَ لَهُ : مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي زَعَمُوا ؟ وَذَكَرَهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَرَادَ الْمَسِيرَ إلَى بَلَدٍ ، وَالظَّعْنَ فِي حَاجَةٍ رَكِبَ ، مَطِيَّتَهُ وَسَارَ حَتَّى يَقْضِيَ أَرَبَهُ فَشَبَّهَ مَا يُقَدِّمُهُ أَمَامَ كَلَامِهِ وَيَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَرَضِهِ ( زَعَمُوا كَذَا وَكَذَا ) بِالْمَطِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ زَعَمُوا فِي حَدِيثٍ لَا سَنَدَ لَهُ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَحْكِي عَنْ الْأَلْسُنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَلَاغِ قَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ مَا كَانَ سَبِيلُهُ وَالزَّعْمُ بِضَمِّ الزَّاي وَالْفَتْحِ قَرِيبٌ مِنْ الظَّنِّ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ الزَّعْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ ، وَعَلَى الْكَذِبِ ، وَعَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ ، وَيَنْزِلُ كُلُّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ وَقَالَ فِي أَوَّلِ

خُطْبَةِ مُسْلِمٍ كَثُرَ الزَّعْمُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ .
وَفِي الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَعَمَ جِبْرِيلُ ، وَفِي خَبَرِ ضَمْضَمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ زَعَمَ رَسُولُكَ ، وَأَكْثَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ : زَعَمَ الْخَلِيلُ كَذَا فِي أَشْيَاءَ يَرْتَضِيهَا سِيبَوَيْهِ ، وَقَالَ فِي بَابِ السُّؤَالِ أَوَائِلَ كِتَابِهِ الْإِيمَانُ وَنَقَلَهُ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي شَرْحِ الْفَصِيحِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٍ عَنْ الْعُلَمَاءِ بِاللُّغَةِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ .

فَصْلٌ ( فِي حِفْظِ اللِّسَانِ وَتَوَقِّي الْكَلَامِ ) قَالَ الْخَلَّالُ فِي تَوَقِّي اللِّسَانِ وَحِفْظِ الْكَلَامِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ الصَّائِغُ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَقَدْ شَيَّعْتُهُ وَهُوَ يَخْرُجُ إلَى الْمُتَوَكِّلِ فَلَمَّا رَكِبَ الْجَمَلَ الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ : انْصَرِفُوا مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ أَنْ نَقْرَأَهُ أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ أَنْ تَنْطِقَ فِي مَعِيشَتِكَ بِمَا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ثنا أَبُو دَاوُد ثنا شُعْبَةُ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ سَمِعْتُ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ وَمَعَهُ دِينُهُ فَيَلْقَى الرَّجُلَ إلَيْهِ حَاجَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إنَّكَ كَيْتَ إنَّكَ كَيْتَ يُثْنِي عَلَيْهِ وَعَسَى أَنْ لَا يَحْظَى مِنْ حَاجَتِهِ بِشَيْءٍ فَيُسْخِطَ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ دِينِهِ شَيْءٌ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ عَجِبْتُ مِنْ اتِّفَاقِ الْمُلُوكِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهِمْ عَلَى كَلِمَةٍ قَالَ كِسْرَى : إذَا قُلْتُ نَدِمْتُ وَإِذَا لَمْ أَقُلْ لَمْ أَنْدَمْ وَقَالَ قَيْصَرُ أَنَا عَلَى رَدِّ مَا لَمْ أَقُلْ أَقْدَرُ مِنِّي عَلَى رَدِّ مَا قُلْتُ وَقَالَ مَلِكُ الْهِنْدِ عَجِبْتُ لِمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ إنْ هِيَ رُفِعَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ ضَرَّتْهُ ، وَإِنْ هِيَ لَمْ تُرْفَعْ لَمْ تَنْفَعْهُ ، وَقَالَ مَلِكُ الصِّينِ : إنْ تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ مَلَكَتْنِي وَإِنْ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِهَا مَلَكْتُهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَعَنْ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { مَنْ صَمَتَ نَجَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا

مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : " إذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ قَالَتْ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا لِلِّسَانِ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا قَالَ وَهُوَ أَصَحُّ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَمَعْنَى مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا لَا يَتَأَمَّلُهَا وَيَجْتَهِدُ فِيهَا وَفِيمَا تَقْتَضِيهِ .
وَفِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا أَخَيْرٌ أَمْ لَا ؟ وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ مَعْنَاهُ لَا يَتَدَبَّرُهَا وَيُفَكِّرُ فِي قُبْحِهَا وَمَا يَخَافُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا .
وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ { إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ { إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ } فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إنْ صَحَّتْ مَعْنَاهَا لَا يَتَأَمَّلُهَا وَيَجْتَهِدُ فِيهَا وَفِيمَا تَقْتَضِيهِ بَلْ قَالَهَا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ وَفِيهِ { مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ } ، وَفِيهِ { يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، وَفِيهِ { يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : غَرِيبٌ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَلِلتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ مُرْسَلًا

وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ الْمَكِّيِّ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ حَسَّانَ الْمَخْزُومِيَّ حَدَّثَتْنِي أَمُّ صَالِحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أَمِّ حَبِيبَةَ مَرْفُوعًا .
{ كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ الْيَسَارِ .
أُمُّ صَالِحٍ تَفَرَّدَ عَنْهَا سَعِيدٌ وَبَاقِيهِ حَسَنٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خُنَيْسٍ .
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ عُمَرُ : مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَلْخٍ الْبَغْدَادِيُّ صَاحِبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَفْصٍ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْن عُمَرَ مَرْفُوعًا { لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْقَلْبُ الْقَاسِي } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ النَّضْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ الْفَضْلِ الْكُوفِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { كَفَى بِكَ إثْمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا } أَبُو وَهْبٍ لَا يُعْرَفُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ ابْنُ عَيَّاشٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : غَرِيب لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ

السَّلَامُ لَقِيَ خِنْزِيرًا عَلَى الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُ : اُنْفُذْ بِسَلَامٍ ، فَقِيلَ لَهُ أَتَقُولُ هَذَا لِلْخِنْزِيرِ ؟ فَقَالَ عِيسَى : إنِّي أَكْرَهُ وَأَخَافُ أَنْ أُعَوِّدَ لِسَانِي النُّطْقَ بِالسُّوءِ .
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ يَا وَيْلَهُ } الْحَدِيثَ فَهَذَا مِنْ آدَابِ الْكَلَامِ إذَا كَانَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ الْغَيْرِ سُوءٌ وَاقْتَضَى ذَلِكَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ لَمْ يَأْتِ الْحَاكِي بِالضَّمِيرِ عَنْ نَفْسِهِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ صُورَةِ إضَافَةِ السُّوءِ إلَيْهَا .
وَفِي رِوَايَةٍ يَا وَيْلِي يَجُوزُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَبِكَسْرِهَا ، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ يَا وَيْلَتِي وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَا خَيْرَ فِي فُضُولِ الْكَلَامِ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقْطُهُ .
وَقَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَنِيهِ يَا بَنِيَّ إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى السُّلْطَانِ فَأَقِلُّوا الْكَلَامَ .
وَقَالُوا أَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا كَانَ قَلِيلُهُ يُغْنِيكَ عَنْ كَثِيرِهِ وَمَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ فِي لَفْظِهِ ، وَقَالُوا الْعَيِيُّ النَّاطِقُ أَعْيَا مِنْ الْعَيِيِّ السَّاكِتِ ، أَوْصَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ : إيَّاكَ وَالْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَرُبَّ مُتَكَلِّم فِيمَا لَا يَعْنِيهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ قَدْ عَنَتَ ، وَلَا تُمَارِ سَفِيهًا وَلَا فَقِيهًا ، فَإِنَّ الْفَقِيهَ يَغْلِبُكَ وَالسَّفِيهَ يُؤْذِيكَ ، وَاذْكُرْ أَخَاكَ إذَا غَابَ عَنْكَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ تُذْكَرَ بِهِ ، وَدَعْ مَا تُحِبُّ أَنْ يَدَعَكَ مِنْهُ ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُجَازَى بِالْإِحْسَانِ وَيُكَافَأُ .
وَقَالَ بَعْضُ قُضَاةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ عَزَلَهُ لِمَ عَزَلْتَنِي ؟ فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّ كَلَامَكَ مَعَ الْخَصْمَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ ، وَتَكَلَّمَ رَبِيعَةُ يَوْمًا فَأَكْثَرَ الْكَلَامَ وَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وَإِلَى جَنْبِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ لَهُ : يَا أَعْرَابِيُّ مَا

تَعُدُّونَ الْبَلَاغَةَ ؟ قَالَ : قِلَّةُ الْكَلَامِ قَالَ : فَمَا تَعُدُّونَ السَّعْيَ فِيكُمْ ؟ قَالَ : مَا كُنْتَ فِيهِ مُنْذُ الْيَوْمِ قَالَ بَعْضُهُمْ .
عَجِبْتُ لِإِدْلَالِ الْعَيِيِّ بِنَفْسِهِ وَصَمْتِ الَّذِي قَدْ كَانَ بِالْقَوْلِ أَعْلَمَا وَفِي الصَّمْتِ سَتْرٌ لِلْعَيِيِّ وَإِنَّمَا صَحِيفَةُ لُبِّ الْمَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَعِيبُ كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَيَقُولُ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي النِّسَاءِ أَوْ الضُّعَفَاءِ ، وَذَمَّ أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا فَقَالَ هُوَ مِمَّنْ يَنْأَى الْمَجْلِسَ أَعْيَى مَا يَكُونُ عِنْدَ جُلَسَائِهِ ، وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ عِنْد نَفْسِهِ وَقَالَ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ لِأَعْرَابِيٍّ مَا الْبَلَاغَةُ ؟ فَقَالَ : الْإِيجَازُ فِي غَيْرِ عَجْزٍ ، وَالْإِطْنَابُ فِي غَيْرِ خَطَلٍ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ الْبَلَاغَةُ الْإِيجَازُ فِي اسْتِحْكَامِ الْحُجَّةِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ مَا يُكْتَفَى بِهِ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : لِرَجُلٍ كَثِيرٌ كَلَامُهُ : إنَّ الْبَلَاغَةَ لَيْسَتْ بِكَثْرَةِ الْكَلَامِ ، وَلَا بِخِفَّةِ اللِّسَانِ ، وَلَا بِكَثْرَةِ الْهَذَيَانِ ، وَلَكِنَّهُ إصَابَةُ الْمَعْنَى وَالْقَصْدُ إلَى الْحُجَّةِ ، وَسُئِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ مَا الْبَلَاغَةُ ؟ قَالَ : " الْقَصْدُ إلَى عَيْنِ الْحُجَّةِ بِقَلِيلِ اللَّفْظِ " ، وَقِيلَ لِبَعْضِ الْيُونَانِيَّةِ مَا الْبَلَاغَةُ ؟ قَالَ : " تَصْحِيحُ الْأَقْسَامِ ، وَاخْتِيَارُ الْكَلَامِ " ، وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ الرُّومِ مَا الْبَلَاغَةُ ؟ فَقَالَ : " حُسْنُ الِاقْتِصَادِ عِنْدَ الْبَدِيهَةِ ، وَإِيضَاحُ الدَّلَالَةِ ، وَالْبَصَرُ بِالْحُجَّةِ ، وَانْتِهَازُ مَوْضِعِ الْفُرْصَةِ " ، وَفِي الْخَبَرِ الْمَأْثُورِ " الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي ثَلَاثٍ : السُّكُوتِ ، وَالْكَلَامِ ، وَالنَّظَرِ ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ سُكُوتُهُ فِكْرَةً ، وَكَلَامُهُ حِكْمَةً ، وَنَظَرُهُ عِبْرَةً " .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ : لَا خَيْرَ فِي كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ .
أَعْمَالُهُمْ أَبَدًا يَتَكَلَّمُونَ وَلَا يَصْمُتُونَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَإِنَّ لِسَانَ

الْمَرْءِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَصَاةٌ عَلَى عَوْرَاتِهِ لَدَلِيلُ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ : إنَّمَا الْعَاقِلُ مَنْ أَلْجَمَ فَاهُ بِلِجَامِ مُتْ بِدَاءِ الصَّمْتِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ دَاءِ الْكَلَامِ وَقَالَهُ آخَرُ : يَمُوتُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ وَلَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بِرَأْسِهِ وَعَثْرَتُهُ بِالرِّجْلِ تَبْرَى عَلَى مَهْلِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَا أَنْشَدَهُ بَعْضُهُمْ : سَأَرْفُضُ مَا يُخَافُ عَلَيَّ مِنْهُ وَأَتْرُكُ مَا هَوِيتُ لِمَا خَشِيتُ لِسَانُ الْمَرْءِ يُنْبِئُ عَنْ حِجَاهُ وَعِيُّ الْمَرْءِ يَسْتُرُهُ السُّكُوتُ .

قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْوَعْدِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : { إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } .
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَانَى فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ مَا لَمْ يُعَانِهِ غَيْرُهُ وَعَدَ رَجُلًا فَانْتَظَرَهُ حَوْلًا ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقِيلَ انْتَظَرَهُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا ، وَقِيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ انْتَظَرَ رَجُلًا وَعَدَهُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا } .
قَالَ الشَّاعِرُ : لِسَانُكَ أَحْلَى مِنْ جَنَى النَّحْلِ وَعْدُهُ وَكَفَّاكَ بِالْمَعْرُوفِ أَضْيَقُ مِنْ قُفْلِ وَقَالَ آخَرُ : لِلَّهِ دَرُّكَ مِنْ فَتًى لَوْ كُنْتَ تَفْعَلُ مَا تَقُولْ وَقَالَ الْآخَرُ : لَا خَيْرَ فِي كَذِبِ الْجَوَادِ وَحَبَّذَا صِدْقُ الْبَخِيلْ وَقَالَ آخَرُ : الْخَيْرُ أَنْفَعُهُ لِلنَّاسِ أَعْجَلُهُ وَلَيْسَ يَنْفَعُ خَيْرٌ فِيهِ تَطْوِيلُ وَقَالَ آخَرُ : كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا وَمَا مَوَاعِيدُهَا إلَّا الْأَبَاطِيلُ وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ كَانَ عُرْقُوبُ رَجُلًا مِنْ الْعَمَالِيقِ فَآتَاهُ أَخٌ لَهُ يَسْأَلُ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ عُرْقُوبٌ إذَا أَطْلَعَ نَخْلِي .
فَلَمَّا أَطْلَعَ أَتَاهُ فَقَالَ : إذَا أَبْلَحَ ، فَلَمَّا أَبْلَحَ أَتَاهُ فَقَالَ : إذَا أَزْهَى ، فَلَمَّا أَزْهَى أَتَاهُ فَقَالَ : إذَا أَرْطَبَ ، فَلَمَّا أَرْطَبَ أَتَاهُ فَقَالَ : إذَا أَتْمَرَ ، فَلَمَّا أَتْمَرَ جَذَّهُ وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَضَرَبَ بِهِ الْعَرَبُ الْمَثَلَ فِي خُلْفِ الْوَعْدِ وَقَالَ غَيْرُهُ : كَانَ عُرْقُوبٌ جَبَلًا مُكَلَّلًا بِالسَّحَابِ أَبَدًا وَلَا يُمْطِرُ شَيْئًا قَالَتْ الْحُكَمَاءُ مَنْ خَافَ الْكَذِبَ أَقَلَّ الْمَوَاعِيدَ ، وَقَالُوا : أَمْرَانِ لَا يَسْلَمَانِ مِنْ الْكَذِبِ كَثْرَةُ الْمَوَاعِيدِ ، وَشِدَّةُ الِاعْتِذَارِ .
وَقَالَ آخَرُ : إنَّ الْكَرِيمَ إذَا حَبَاكَ بِمَوْعِدٍ أَعْطَاكَهُ سَلِسًا بِغَيْرِ مِطَالِ وَقَالَ آخَرُ : قُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَكُنْ

صَادِقَ الْوَعْدِ فَمَنْ يُخْلِفْ يُلَمْ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قُلْتُ { يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَ يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ ؟ قَالَ وَقَارُهُ ، وَلِينُ كَلَامِهِ ، وَصِدْقُ حَدِيثِهِ } وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ ثَلَاثٌ وَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ ثَلَاثٌ مَنْ إذَا حَدَّثَهُمْ صَدَقَهُمْ ، وَإِذَا ائْتَمَنُوهُ لَمْ يَخُنْهُمْ ، وَإِذَا وَعَدَهُمْ وَفَّى لَهُمْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ تُحِبَّهُ قُلُوبُهُمْ ، وَتَنْطِقَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَلْسِنَتُهُمْ ، وَتَظْهَرَ لَهُ مَعُونَتُهُمْ .
وَقَالَ سَعِيدٌ : كُلُّ الْخِصَالِ يُطْبَعُ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُ إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ قِيلَ لِلُقْمَانَ الْحَكِيمِ أَلَسْتَ عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ ؟ قَالَ بَلَى قِيلَ فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى قَالَ : تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي ، ثُمَّ قَالَ : أَلَا رُبَّ مَنْ تَغْتَشُّهُ لَكَ نَاصِحٌ وَمُؤْتَمَنٍ بِالْغَيْبِ غَيْرُ أَمِينِ وَقَالَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ : طَافَ ابْنُ عُمَرَ سَبْعًا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ : مَا أَسْرَعَ مَا طُفْتَ وَصَلَّيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، .
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَنْتُمْ أَكْثَرُ مِنَّا طَوَافًا وَصِيَامًا ، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ .
وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَإِنْجَازِ الْوَعْدِ .
أَنْشَدَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ : اُصْدُقْ حَدِيثَكَ إنَّ فِي الصِّدْقِ الْخَلَاصَ مِنْ الدَّنَسْ وَدَعْ الْكَذُوبَ لِشَانِهِ خَيْرٌ مِنْ الْكَذِبِ الْخَرَسْ وَقَالَ آخَرُ : مَا أَقْبَحَ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ صَاحِبُهُ وَأَحْسَنَ الصِّدْقَ عِنْدَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ : الصِّدْقُ أَوْلَى مَا بِهِ دَانَ امْرُؤٌ فَاجْعَلْهُ دِينَا وَدَعْ النِّفَاقَ فَمَا رَأَيْتُ مُنَافِقًا إلَّا مَهِينَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَا تَسْتَقِيمُ أَمَانَةُ رَجُلٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لِسَانُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ .
وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ كُنْتُ عِنْدَ الْأَوْزَاعِيِّ

إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَمْرٍو ، هَذَا كِتَابُ صَدِيقِكَ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ فَقَالَ مَتَى قَدِمْتَ ؟ قَالَ : أَمْسِ ، قَالَ ضَيَّعْت أَمَانَتَك لَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالَكَ قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا أَنْتَ حَمَّلْتَ الْأَمَانَةَ خَائِنًا فَإِنَّكَ قَدْ أَسْنَدْتَهَا شَرَّ مَسْنَدِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ عُرِفَ بِالصِّدْقِ جَازَ كَذِبُهُ ، وَمَنْ عُرِفَ بِالْكَذِبِ لَمْ يَجُزْ صِدْقُهُ ، قَالُوا وَالصِّدْقُ عِزٌّ وَالْكَذِبُ خُضُوعٌ .
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ : وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إلَى ذَمِّهِ ذَمُّوهُ بِالْحَقِّ وَبِالْبَاطِلِ مَقَالَةُ السُّوءِ إلَى أَهْلِهَا أَسْرَعُ مِنْ مُنْحَدَرِ السَّائِلِ وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ احْذَرْ الْكَذِبَ فَإِنَّهُ شَهِيٌّ كَلَحْمِ الْعُصْفُورِ مَنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَصْبِرْ عَنْهُ .
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : قِيلَ لِكَذَّابٍ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى الْكَذِبِ ؟ فَقَالَ أَمَا إنَّكَ لَوْ تَغَرْغَرْتَ مَاءَهُ مَا نَسِيتَ حَلَاوَتَهُ ، وَقِيلَ لِكَذَّابٍ هَلْ صَدَقْتَ قَطُّ قَالَ أَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ لَا فَأَصْدُقُ .

وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْحَقُّ ثَقِيلٌ فَمَنْ قَصُرَ عَنْهُ سَحَرَ ، وَمَنْ جَاوَزَهُ ظَلَمَ ، وَمَنْ انْتَهَى إلَيْهِ فَقَدْ اكْتَفَى } وَيُرْوَى هَذَا لِمُجَاشِعِ بْنِ نَهْشَلٍ .
وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْحَقُّ ثَقِيلٌ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَرَكَهُ الْحَقُّ لَيْسَ لَهُ صَدِيقٌ } .
لَمَّا اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لِمُعَيْقِيبٍ الدَّوْسِيِّ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي اسْتِخْلَافِي عُمَرَ قَالَ : كَرِهَهُ قَوْمٌ ، وَرَضِيَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ قَالَ فَاَلَّذِينَ كَرِهُوهُ أَكْثَرُ أَمْ الَّذِينَ رَضَوْهُ ؟ قَالَ : بَلْ الَّذِينَ كَرِهُوهُ قَالَ : إنَّ الْحَقَّ يَبْدُو كُرْهًا وَلَهُ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } وَقَالَ : الْحِكْمَةُ تَدْعُو إلَى الْحَقِّ ، وَالْجَهْلُ يَدْعُو إلَى السَّفَهِ ، كَمَا أَنَّ الْحُجَّةَ تَدْعُو إلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ ، وَالتَّشْبِيهُ يَدْعُو إلَى الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مِنْ جَهْلِكَ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَنْ تُرِيدَ إقَامَةَ الْبَاطِلِ بِإِبْطَالِ الْحَقِّ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا يُعَدُّ الرَّجُلُ عَاقِلًا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ ثَلَاثًا : إعْطَاءَ الْحَقِّ مِنْ نَفْسِهِ فِي حَالِ الرِّضَا وَالْغَضَبِ ، وَأَنْ يَرْضَى لِلنَّاسِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ ، وَأَنْ لَا يُرَى لَهُ زَلَّةٌ عِنْدَ صَحْوٍ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : وَمَنْ ضَاقَ عَنْهُ الْحَقُّ ضَاقَتْ مَذَاهِبُهْ لَمَّا اُحْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ أَرْسَلَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ : إنْ وَلَّيْتُكَ عَلَى النَّاسِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَالْزَمْ الْحَقَّ فَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ إذَا وُضِعَ فِيهِ الْحَقُّ غَدًا أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ .

وَحُقَّ لِمِيزَانٍ وُضِعَ فِيهِ الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَمَلًا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَعَمَلًا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ إنِّي لَخَائِفٌ أَنْ لَا أَلْحَقَ بِهِمْ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ حَسَنَهَا ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ إنِّي لَخَائِفٌ أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ آيَةَ الرَّحْمَةِ مَعَ آيَةِ الْعَذَابِ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاهِبًا رَاغِبًا ، لَا يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ، وَلَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنْ أَنْتَ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي فَلَا يَكُونَنَّ غَائِبٌ أَحَبَّ إلَيْكَ مِنْ الْمَوْتِ وَلَسْتَ بِمُعْجِزِهِ .
كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ الْزَمْ الْحَقَّ يُنْزِلْكَ الْحَقُّ فِي مَنَازِلِ أَهْلِ الْحَقِّ يَوْمَ لَا يُقْضَى إلَّا بِالْحَقِّ .
أَوَّلُ كِتَابٍ كَتَبَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا الْحَقَّ حَتَّى اُشْتُرِيَ ، وَبَسَطُوا الْبَاطِلَ حَتَّى اُقْتُنِيَ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ فَهُوَ جَمَاعَةٌ وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ : الْأَحْمَقُ يَغْضَبُ مِنْ الْحَقِّ وَالْعَاقِلُ يَغْضَبُ مِنْ الْبَاطِلِ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَكَلَّمُوا بِالْحَقِّ تُعْرَفُوا ، وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : وَلِلْحَقِّ بُرْهَانٌ وَلِلْمَوْتِ فِكْرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ لِلْعَالَمِينَ قَدِيمُ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا ظَهَرَ الْبَاطِلُ عَلَى الْحَقِّ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ ، وَقَالَ إنَّ لُزُومَ الْحَقِّ نَجَاةٌ ، وَإِنَّ قَلِيلَ الْبَاطِلِ وَكَثِيرَهُ

هَلَكَةٌ وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ لِسَلْمَانَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوْصِنِي قَالَ أَخْلِصْ الْحَقَّ يُخْلِصْكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَظُنُّ مِنْ هُنَا قَوْلُ الْقَائِلِ " أَعِزَّ الْحَقَّ يَذِلَّ لَكَ الْبَاطِلُ " .
يُقَالُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ مِنْ الْحَقِّ إلَّا بِمَا وَافَقَ هَوَاهُ وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْ الْبَاطِلِ إلَّا مَا خَفَّ عَلَيْهِ ، لَمْ يُؤْجَرْ فِيمَا أَصَابَ وَلَمْ يَفْلِتْ مِنْ إثْمِ الْبَاطِلِ وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ : فَاتَّقِ اللَّهَ إذَا مَا شُوِّرَتْ وَانْظُرْ مَا تَقُولُ لَا يَضُرَّنَّكَ إنْ قَالَ مِنْ النَّاسِ جَهُولُ إنَّ قَوْلَ الْمَرْءِ فِيمَا لَمْ يُسَلْ عَنْهُ فُضُولُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ قَوْلُ لَبِيدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ } وَقَالَ : أَصْدَقُ قَوْلٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ قَوْلُ الْقَائِلِ : وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ : وَإِنَّ أَشْعَرَ بَيْتٍ أَنْتَ قَائِلُهُ بَيْتٌ يُقَالُ إذَا أَنْشَدْتَهُ صَدَقَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : مَا نَاصَحَ اللَّهَ عَبْدٌ مُسْلِمٍ فِي نَفْسِهِ فَأَخَذَ الْحَقَّ لَهَا وَأَعْطَى الْحَقَّ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيَ خَصْلَتَيْنِ رِزْقٌ مِنْ اللَّهِ يَقْنَعُ بِهِ .
وَرِضًا مِنْ اللَّهِ عَنْهُ .

فَصْلٌ ( فِي السَّعَةِ فِي الْكَلَامِ وَأَلْفَاظِ النَّاسِ ) قَالَ الْخَلَّالُ فِي السَّعَةِ فِي الْكَلَامِ وَأَلْفَاظِ النَّاسِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ بَعَثَ أَبِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي حَاجَةٍ وَقَالَ : كُلُّ شَيْءٍ تَقُولُهُ عَلَى لِسَانِي فَأَنَا قُلْتُهُ وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ دَقَّتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ دَقًّا فِيهِ بَعْضُ الْعُنْفِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ ذَا دَقُّ الشُّرَطِ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ حَفْصٌ وَابْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَوَكِيعٌ قَالَ وَكِيعٌ أَطْيَبُ هَؤُلَاءِ قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَجَاءٍ وَأَبَا سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ فَقَالَ : وَلَكِنْ أَبُو سَعِيدٍ كَانَ أَيْقَظَهُمَا عَيْنًا .
وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا قَالَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَلَاوَةٌ وَقَالَ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ : مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَا شَيْئًا وَقَالَ الْخَلَّالُ : سَأَلْتُ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيَّ قُلْت لِمَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلشَّيْخِ يَا غُلَامُ ؟ قَالَ لَيْسَ الْعَرَبُ كُلُّهَا تَقُولُهُ ، قَيْسٌ تَقُولُهُ ؟ قُلْتُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِلشَّيْخِ يَا بُنَيَّ ؟ قَالَ نَعَمْ يَعْنِي : لَا بَأْسَ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُغِيرَةِ يَا بُنَيَّ وَالْمُغِيرَةُ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لَعَلَّهُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ لِأَنَسٍ يَا بُنَيَّ " إنَّمَا قَالَ يَا بُنَيَّ " أَيْ أَنْتَ ابْنٌ .

فَصْلٌ ( فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِأَهْلِ الدِّينِ ) .
قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ : حُسْنُ الظَّنِّ بِأَهْلِ الدِّينِ حَسَنٌ ، ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ ، ظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَهْلِ الشَّرِّ لَيْسَ بِحَسَنٍ ، فَظَاهِرُهُ لَا يَحْرُمُ ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } أَنَّ اسْتِمْرَاءَ ظَنِّ السُّوءِ وَتَحْقِيقَهُ لَا يَجُوزُ ، وَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ بِظَنٍّ مُجَرَّدٍ بِلَا دَلِيلٍ وَلَيْسَ بِمُتَّجِهٍ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُفْيَانَ : الظَّنُّ الَّذِي يَأْثَمُ بِهِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَمْ يَأْثَمْ .
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَوْلَ سُفْيَانَ هَذَا عَنْ الْمُفَسِّرِينَ ، ثُمَّ قَالَ : وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَأْثَمُ بِنَفْسِ الظَّنِّ وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ ، وَذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى : إنَّ الظَّنَّ مِنْهُ مَحْظُورٌ وَهُوَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ ، وَالْوَاجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَكَذَلِكَ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مَحْظُورٌ ، وَظَنٌّ مَأْمُورٌ بِهِ كَشَهَادَةِ الْعَدْلِ ، وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ ، وَتَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ ، وَالظَّنِّ الْمُبَاحِ كَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ إنْ شَاءَ عَمِلَ بِظَنِّهِ وَإِنْ شَاءَ بِالْيَقِينِ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا } وَهَذَا مِنْ الظَّنِّ الَّذِي يَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ فِي أَخِيهِ فِيمَا يُوجِبُ الرِّيبَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقَهُ الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ إحْسَانُ الظَّنِّ بِالْأَخِ الْمُسْلِمِ ، فَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ { احْتَرِسُوا مِنْ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ } فَالْمُرَادُ الِاحْتِرَاسُ بِحِفْظِ الْمَالِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنْ تَرَكْتُ بَابِي مَفْتُوحًا خَشِيتُ السُّرَّاقَ انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي .
ذَكَرَ الْبَغَوِيّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ سُوءُ الظَّنِّ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ سُفْيَانَ ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ مَا ذَكَرَهُ

الْمَهْدَوِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ظَنَّ الْقَبِيحِ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ لَا يَجُوزُ وَإِنَّهُ لَا حَرَجَ بِظَنِّ الْقَبِيحِ بِمَنْ ظَاهِرُهُ قَبِيحٌ .
وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ : لَا يَحِلُّ وَاَللَّهِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِمَنْ تَرْفُضُ وَلَا بِمَنْ يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِي حَالٍ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ( بَابُ مَا يَكُونُ مِنْ الظَّنِّ ) ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا } وَفِي لَفْظٍ " دِينِنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ " قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ .
{ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَنِي بِمَالٍ إلَى أَبِي سُفْيَانَ يَقْسِمُهُ فِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَالَ لِي الْتَمِسْ صَاحِبًا فَجَاءَنِي عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ فَقَالَ : بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ وَتَلْتَمِسُ صَاحِبًا قُلْتُ أَجَلْ قَالَ : فَأَنَا لَكَ صَاحِبٌ قَالَ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : قَدْ وَجَدْتُ صَاحِبًا فَقَالَ مَنْ ؟ قُلْتُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ فَقَالَ إذَا هَبَطْتَ بِلَادَ قَوْمِهِ فَاحْذَرْهُ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ الْقَائِلُ أَخُوكَ الْبِكْرِيُّ وَلَا تَأْمَنْهُ قَالَ : فَخَرَجْنَا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْأَبْوَاءِ قَالَ : لِي إنِّي أُرِيدُ حَاجَةً إلَى قَوْمِي بِوَدَّانَ فَتَلَبَّثْ لِي قَلِيلًا قُلْتُ رَاشِدًا ، فَلَمَّا وَلَّى ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَدْتُ عَلَى بَعِيرِي حَتَّى خَرَجْتُ أُوضِعُهُ ، حَتَّى إذَا كُنْتُ بِالْأَصَافِرِ إذَا هُوَ يُعَارِضُنِي فِي رَهْطٍ قَالَ : فَأَوْضَعْتُ فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا رَآنِي قَدْ فُتُّهُ انْصَرَفُوا ، وَجَاءَنِي فَقَالَ : كَانَتْ لِي إلَى قَوْمِي حَاجَةٌ قُلْتُ أَجَلْ قَالَ : وَمَضَيْنَا حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَدَفَعْنَا

الْمَالَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ .
} .
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَتَفَرَّدَ عَنْهُ عِيسَى بْنُ مَعْمَرٍ مَعَ ضَعْفِ عِيسَى وَرَوَاهُ عَنْ عِيسَى بْنِ إِسْحَاقَ بِصِيغَةِ عَنْ ، وَتَرْجَمَ أَبُو دَاوُد عَلَى هَذَا الْخَبَرِ ، وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ { لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ .
} بَابٌ ( فِي الْحَذَرِ مِنْ النَّاسِ ) وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ حُسْنِ الظَّنِّ : ثُمَّ رُوِيَ مِنْ رِوَايَةِ شُتَيْرٍ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ : عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { حُسْنُ الظَّنِّ حُسْنُ الْعِبَادَةِ } وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُد خَبَرَ صَفِيَّةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ وَأَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ رَأَيَاهُمَا فَأَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ : { عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا أَوْ قَالَ شَرًّا } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ يَسْمَعُ مِنْ أَخِيهِ كَلِمَةً يَظُنُّ بِهَا سُوءًا وَهُوَ يَجِدُ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ مَخْرَجًا .
وَقَالَ أَيْضًا : لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِظَنِّهِ .
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ : اتَّقُوا ظَنَّ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَوْلَهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ } وَسُئِلَ بَعْضُ الْعَرَبِ عَنْ الْعَقْلِ فَقَالَ :

الْإِصَابَةُ بِالظُّنُونِ وَمَعْرِفَةُ مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا كَانَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لِلَّهِ دَرُّ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّهُ لَيَنْظُرُ إلَى الْغَيْبِ مِنْ سِتْرٍ رَقِيقٍ قَالَ الشَّاعِرُ : وَأَبْغِي صَوَابَ الظَّنِّ أَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا طَاشَ ظَنُّ الْمَرْءِ طَاشَتْ مَعَاذِرُهْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْجُبْنُ وَالْبُخْلُ وَالْحِرْصُ غَرَائِزُ سُوءٍ يَجْمَعُهَا كُلُّهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَإِنِّي بِهَا فِي كُلِّ حَالٍ لَوَاثِقٌ وَلَكِنَّ سُوءَ الظَّنِّ مِنْ شِدَّةِ الْحُبِّ وَقَالَ الْمُتَنَبِّي : إذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : الْعَقْلُ التَّجَارِبُ .
وَالْحَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَوْ كَانَ الرَّجُلُ يُصِيبُ وَلَا يُخْطِئُ وَيُحْمَدُ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي دَاخَلَهُ الْعُجْبُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَفْرَسُ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِيمَا عَلِمْتُ ثَلَاثَةٌ : الْعَزِيزُ فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ حِينَ تَفَرَّسَ فِي يُوسُفَ { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } وَصَاحِبَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَتْ { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَفَرَّسَ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتَخْلَفَهُ .
نَظَرَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا وَهُوَ بِوَاسِطَ فِي الرَّحْبَةِ إلَى آجُرَّةٍ فَقَالَ : تَحْتَ هَذِهِ الْآجُرَّةِ دَابَّةٌ ، فَنَزَعُوا الْآجُرَّةَ فَإِذَا تَحْتَهَا حَيَّةٌ مُنْطَوِيَةٌ ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنِّي رَأَيْتُ مَا بَيْنَ الْآجُرَّتَيْنِ نَدِيًّا مِنْ بَيْنِ الرَّحْبَةِ فَعَلِمْتُ أَنْ تَحْتَهَا شَيْئًا يَتَنَفَّسُ ، وَنَظَرَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا إلَى صَدْعٍ فِي أَرْضٍ فَقَالَ فِي هَذَا الصَّدْعِ دَابَّةٌ ، فَنَظَرَ فَإِذَا فِيهِ دَابَّةٌ ، فَقَالَ : الْأَرْضُ لَا تَنْصَدِعُ إلَّا عَنْ دَابَّةٍ أَوْ نَبَاتٍ .
قَالَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ : مَا رَأَيْتُ قَفَا رَجُلٍ قَطُّ إلَّا

عَرَفْتُ عَقْلَهُ .
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ خَصْلَتَانِ إذَا كَانَتَا فِي الْغُلَامِ رُجِيَتْ نَجَابَتُهُ الرَّهْبَةُ ، وَالْحَيَاءُ ، وَمَرَّ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِمَاءٍ فَقَالَ أَسْمَعُ صَوْتَ كَلْبٍ غَرِيبٍ قِيلَ : لَهُ كَيْفَ عَرَفْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِخُضُوعِ صَوْتِهِ وَشِدَّةِ صِيَاحِ غَيْرِهِ مِنْ الْكِلَابِ ، قَالُوا فَإِذَا كَلْبٌ غَرِيبٌ مَرْبُوطٌ وَالْكِلَابُ تَنْبَحُهُ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَا لِلْبَدِيهَةِ وَمُعَاوِيَةُ لِلْإِنَاءَةِ ، وَالْمُغِيرَةُ لِلْمُعْضِلَاتِ وَزِيَادٌ لِصِغَارِ الْأُمُورِ وَكِبَارِهَا .
أَرَادَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنْ يُوَلِّيَ بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ الْقَضَاءَ فَاسْتَعْفَاهُ فَأَبَى أَنْ يُعْفِيَهُ فَقَالَ : أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ مَا أَحْسَنَ الْقَضَاءَ قَالَ كَذَبْتَ قَالَ : فَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَوَلِّيَ الْكَذَّابِينَ .
وَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَوَلِّيَ مَنْ لَا يُحْسِنُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِّرْ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَرَدْتَ إلَّا خِلَافِي ، فَقَالَ مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ .
فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } حَتَّى انْقَضَتْ فَمَا كَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ } .
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَعْنِي الْحَافِي قَالَ : صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ .
أَوْرَثَتْ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَخْيَارِ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ لَا يُعْتَدُّ بِعِبَادَةِ الْمُفْلِسِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى رَجَعَ .

فَصْلٌ ( وَيَجِبُ كَفُّ يَدِهِ وَفَمِهِ وَفَرْجِهِ وَبَقِيَّةِ أَعْضَائِهِ عَمَّا يَحْرُمُ ، وَيُسَنُّ عَمَّا يُكْرَهُ ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا جَازَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إنَّا لَنُكَشِّرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ .
وَمَتَى قَدَرَ أَنْ لَا يُظْهِرَ مُوَافَقَتَهُمْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَهُ ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ عَلَى مُحَرَّمٍ وَلَا فِي كَلَامٍ ، وَإِنَّمَا فِيهِ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ خَاصَّةً لِلْمَصْلَحَةِ وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ قَالَ يَا عَائِشَةُ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ النَّاسُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ .
} قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : فِيهِ مُدَارَاةُ مَنْ يُتَّقَى فُحْشُهُ وَلَمْ يَمْدَحْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَثْنَى عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَلَا فِي قَفَاهُ إنَّمَا تَأَلَّفَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا مَعَ لِينِ الْكَلَامِ ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَلَامَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي فَضْلِ حُسْنِ الْخُلُقِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَمَّا تَخَلَّفَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ يَجِيءُ وَيُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْهَدْيِ وَمِنْهَا : أَنَّ التَّبَسُّمَ يَكُونُ عَنْ الْغَضَبِ كَمَا يَكُونُ عَنْ التَّعَجُّبِ وَالسُّرُورِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوجِبُ انْبِسَاطَ دَمِ الْقَلْبِ وَثَوَرَانَهُ ، وَلِهَذَا تَظْهَرُ حُمْرَةُ الْوَجْهِ لِسُرْعَةِ فَوَرَانِ الدَّمِ فِيهِ فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ السُّرُورِ ،

وَالْغَضَبِ تَعَجُّبٌ يَتْبَعُهُ ضَحِكٌ أَوْ تَبَسُّمٌ فَلَا يَغْتَرُّ الْمُغْتَرُّ بِضَحِكِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ كَمَا قِيلَ إذَا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَةً فَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَّيْثَ يَبْتَسِمُ وَقِيلَ لِابْنِ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ : أَسْمَعُ وَصِيَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } وَأَسْمَعُ النَّاسَ يَعُدُّونَ مَنْ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ مُنَافِقًا ، فَكَيْفَ لِي بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّخَلُّصِ مِنْ النِّفَاقِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : النِّفَاقُ هُوَ : إظْهَارُ الْجَمِيلِ ، وَإِبْطَالُ الْقَبِيحِ ، وَإِضْمَارُ الشَّرِّ مَعَ إظْهَارِ الْخَيْرِ لِإِيقَاعِ الشَّرِّ ، وَاَلَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ إظْهَارُ الْحَسَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبِيحِ لِاسْتِدْعَاءِ الْحَسَنِ .
فَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ النِّفَاقَ إبْطَالُ الشَّرِّ وَإِظْهَارُ الْخَيْرِ لِإِيقَاعِ الشَّرِّ الْمُضْمَرِ ، وَمَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ وَالْحَسَنَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبِيحِ لِيَزُولَ الشَّرُّ فَلَيْسَ بِمُنَافِقٍ لَكِنَّهُ يَسْتَصْلِحُ أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } فَهَذَا اكْتِسَابُ اسْتِمَالَةٍ ، وَدَفْعُ عَدَاوَةٍ ، وَإِطْفَاءٌ لِنِيرَانِ الْحَقَائِدِ ، وَاسْتِنْمَاءُ الْوُدِّ وَإِصْلَاحُ الْعَقَائِدِ ، فَهَذَا طِبُّ الْمَوَدَّاتِ وَاكْتِسَابُ الرِّجَالِ .

وَقَالَ أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِي الْعَصَبِيَّةِ ) ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ إلَى سِمَاكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا قَالَ { : مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الَّذِي رَدِيَ فَهُوَ يَنْزِعُ بِذَنَبِهِ } حَدِيثٌ حَسَنٌ وَيُقَالُ : رَدِيَ وَتَرَدَّى لُغَتَانِ كَأَنَّهُ تَفَعَّلَ مِنْ الرَّدَى ( الْهَلَاكُ ) أَرَادَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْإِثْمِ وَهَلَكَ كَالْبَعِيرِ إذَا تَرَدَّى فِي الْبِئْرِ وَأُرِيدَ أَنْ يَنْزِعَ بِذَنَبِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى خَلَاصِهِ .
وَعَنْ بِنْتِ وَاثِلَةَ سَمِعَتْ أَبَاهَا يَقُولُ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَصَبِيَّةُ قَالَ { أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ } حَدِيثٌ حُسْنَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ قَالَ لَا وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ } .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ مَرْفُوعًا { لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ : لَمْ يُسْمَعْ مِنْ جُبَيْرٍ .
وَعَنْ سُرَاقَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { خَيْرُكُمْ الْمُدَافِعُ عَنْ عَشِيرَتِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ } إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي هَذَا الْبَابِ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ عَنْ أَبِي عُقْبَةَ وَكَانَ مَوْلًى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ قَالَ { شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ أُحُدًا فَضَرَبْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْتُ : خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيُّ ، فَالْتَفَتَ إلَيَّ وَقَالَ فَهَلَّا قُلْتَ وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيُّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ تَفَرَّدَ عَنْهُ دَاوُد وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ

.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : فِي الْحَدِيثِ الْعَصَبِيُّ مَنْ يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ ، هُوَ الَّذِي يَغْضَبُ لِعَصَبَتِهِ وَيُحَامِي عَنْهُمْ ، وَالْعَصَبَةُ الْأَقَارِبُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ كَأَنَّهُمْ يَعْصِبُونَهُ وَيَتَعَصَّبُ بِهِمْ أَيْ : يُحِيطُونَ بِهِ وَيَشْتَدُّ بِهِمْ ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إلَى عَصَبِيَّةٍ أَوْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً } وَالتَّعَصُّبُ الْمُحَامَاةُ وَالْمُدَافَعَةُ .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ { مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ } .
قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَبِيهِ : وَسَأَلْتُهُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { إيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ } قَالَ أَبِي : لَا تَغْلُو فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُبُّ وَالْبُغْضُ قَالَ أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِي الْهَوَى ) حَدَّثَنَا حيوة بْنُ شُرَيْحٍ ثنا بَقِيَّةُ عَنْ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ : { حُبُّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ } ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْغَسَّانِيُّ الْحِمْصِيُّ عَالِمُ دِينٍ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَاهُ رَفَعَهُ قَالَ : { أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا ، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا } إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَالصَّحِيحُ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفٌ وَقَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ : وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ بُغْضًا رُوَيْدَا إذَا أَنْتَ حَاوَلْتَ أَنْ تَحْكُمَا وَأَحْبِبْ حَبِيبَكَ حُبًّا رُوَيْدَا فَلَيْسَ يَعُولُكَ أَنْ تَصْرِمَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : إذَا حَاوَلْتَ أَنْ تَكُونَ حَكِيمًا .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ

الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ ، وَالتَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ } .
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ } إسْنَادُ الْأَوَّلَيْنِ ضَعِيفٌ وَهَذَا فِيهِ لِينٌ وَيَأْتِي ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُخَالَطَةِ قَبْلَ فُصُولِ اللِّبَاسِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضُهُ كَأَنَّهُ قَدْ حَشَى قَلْبِي مَحَبَّاتِ وَلَسْتُ أَسْلَمُ مِمَّنْ لَسْتُ أَعْرِفُهُ فَكَيْفَ أَسْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْمَوَدَّاتِ النَّاسُ دَاءٌ وَدَاءُ النَّاسِ قُرْبُهُمْ وَفِي الْجَفَاءِ بِهِمْ قَطْعُ الْأُخُوَّاتِ فَجَامِلِ النَّاسَ وَاجْمُلْ مَا اسْتَطَعْتَ وَكُنْ أَصَمَّ أَبْكَمَ أَعْمَى ذَا تَقِيَّاتِ الْأَبْيَاتُ الْأَرْبَعَةُ الْأُولَى ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِهِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ وَقَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ زَمَنَ هَلَاكِ بَعْضِهِمْ : قَوْمٌ مَضَوْا كَانَتْ الدُّنْيَا بِهِمْ نُزَهًا وَالدَّهْرُ كَالْعِيدِ وَالْأَوْقَاتُ أَوْقَاتُ عَدْلٌ وَأَمْنٌ وَإِحْسَانٌ وَبَذْلُ نَدًى وَخَفْضُ عَيْشٍ نُقَضِّيهِ وَأَوْقَاتُ مَاتُوا وَعِشْنَا فَهُمْ عَاشُوا بِمَوْتِهِمْ وَنَحْنُ فِي صُوَرِ الْأَحْيَاءِ أَمْوَاتُ لِلَّهِ دَرُّ زَمَانٍ نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ أُوذِيَ بِنَا وَعَرَتْنَا فِيهِ نَكَبَاتُ جَوْرٌ وَخَوْفٌ وَذُلٌّ مَا لَهُ أَمَدٌ وَعِيشَةٌ كُلُّهَا هَمٌّ وَآفَاتُ وَقَدْ بُلِينَا بِقَوْمٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ إلَى مُدَارَاتِهِمْ تَدْعُو الضَّرُورَاتُ مَا فِيهِمْ مِنْ كَرِيمٍ يُرْتَجَى لِنَدًى كَلًّا وَلَا لَهُمْ ذِكْرٌ إذَا مَاتُوا عَزُّوا وَهُنَّا فَهَا نَحْنُ الْعَبِيدُ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا

مَلَكُوا لِلنَّاسِ سَادَاتُ لَا الدِّينُ يُوجَدُ فِيهِمْ لَا وَلَا لَهُمْ مِنْ الْمُرُوءَةِ مَا تَسْمُو بِهِ الذَّاتُ وَالصَّبْرُ قَدْ عَزَّ وَالْآمَالُ تُطْعِمُنَا وَالْعُمْرُ يَمْضِي فَتَارَاتٌ وَتَارَاتُ وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ زَالَتْ مِنْ النَّاسِ وَاَللَّهِ الْمُرُوآت يَا رَبِّ لُطْفَكَ قَدْ مَالَ الزَّمَانُ بِنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَبْلَتْنَا الْبَلِيَّاتُ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : مَا دُمْت حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمْ فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ الْمُدَارَاةِ مَنْ يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يُرَى عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ وَقَالَ زُهَيْرٌ : وَمَنْ لَمْ يُصَانِعْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوطَأْ بِمَنْسِمِ الْمَنْسِمُ لِلرَّجُلِ اسْتِعَارَةٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ لِلدَّوَابِّ ، فِي الزَّبُورِ : مَنْ كَثُرَ عَدُوُّهُ فَلْيَتَوَقَّعْ الصُّرَعَةَ .
حُكِيَ أَنَّ دَاوُد قَالَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ : لَا تَشْتَرِ عَدَاوَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِصَدَاقَةِ أَلْفٍ .

( فَصْلٌ فِي وُجُوبِ التَّوْبَةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا يُنَابُ مِنْهُ ) تَلْزَمُ التَّوْبَةُ شَرْعًا لَا عَقْلًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ ، كُلُّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَدْ أَثِمَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، وَقِيلَ : غَيْرُ مَظْنُونٍ .
قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ : تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ إثْمٌ ، وَقِيلَ لَا ، وَلَا تَجِبُ بِدُونِ تَحَقُّقِ إثْمٍ ، وَالْحَقُّ وُجُوبُ قَوْلِهِ : إنِّي تَائِبٌ إلَى اللَّهِ مِنْ كَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ ، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مَذْهَبًا ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَالنَّدَمُ لَا يُتَصَوَّرُ مَشْرُوطًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا حَصَلَ بَطَلَ النَّدَمُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَإِذَا شَكَّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ هَلْ هُوَ قَبِيحٌ أَمْ لَا ؟ فَهُوَ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِهِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ هَذَا التَّفْرِيطِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ قُبْحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ حُسْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ أُخِذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى فِعْلِ قَبِيحٍ ، وَلَا عَلَى مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَى فِعْلٍ يَشُكُّ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ وَذَلِكَ التَّفْرِيطُ ذَنْبٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ .
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي آخِرِ بَابِ الْأَمَانَةِ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ ، أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ ، وَتَصِحُّ مِنْ بَعْضِ ذُنُوبِهِ فِي الْأَصَحِّ .
وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ : أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاطِبِيُّ أَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ قَالَ : فِي رَجُلٍ قَالَ : لَوْ ضُرِبْتُ مَا زَنَيْتُ وَلَكِنْ لَا أَتْرُكُ النَّظَرَ فَقَالَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ فَسَلَبَهُ الِانْتِفَاعَ بِتَرْكِ الزِّنَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَهُوَ النَّظَرُ .

فَأَمَّا صِحَّةُ التَّوْبَةِ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ فَهِيَ أَصْلُ السُّنَّةِ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَائِلُونَ بِالِاحْتِيَاطِ وَأَنَّهُ لَا تَنْفَعُ طَاعَةٌ مَعَ مَعْصِيَةٍ ، فَأَمَّا مَنْ صَحَّحَ الطَّاعَةَ مَعَ الْمَعَاصِي صَحَّحَ التَّوْبَةَ مِنْ بَعْضِ الْمَعَاصِي انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْقَاضِي .
ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَلَفْظُهَا قَالَ : أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ ؟ وَصَرَّحَ أَنَّهَا اخْتِيَارُهُ وَأَنَّهَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي تَعَالِيقِ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ لَوْ كَانَ فِي الرَّجُلِ مِائَةُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَكَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ لَمَحَتْهَا كُلَّهَا ، وَهَذَا مِنْ أَغْلَظِ مَا يَكُونُ ، وَاحْتَجَّ لِاخْتِيَارِهِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : إنَّمَا أَرَادَ يَعْنِي أَحْمَدَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ تَوْبَةً عَامَّةً ، لَمْ يُرِدْ أَنَّ ذَنْبَ هَذَا كَذَنْبِ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ فَإِنَّ نُصُوصَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ تُنَافِي ذَلِكَ ، وَحَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مُبْتَدَعًا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ : قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ قَتَلَ لِإِنْسَانٍ وَلَدًا ، وَأَحْرَقَ لَهُ بَيْدَرًا ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْ إحْرَاقِ الْبَيْدَرِ دُونَ قَتْلِ الْوَلَدِ لَمْ يُعَدَّ اعْتِذَارًا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْهَبُ ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ تَكَاسُلًا كَفَرَ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَفِي مَأْخَذِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ : اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ هَلْ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ الْقَبِيحِ مَعَ الْمُقَامِ عَلَى قَبِيحٍ آخَرَ يَعْلَمُ التَّائِبُ بِقُبْحِهِ أَوْ لَا

يَعْلَمُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : ( إحْدَاهُمَا ) تَصِحُّ ، اخْتَارَهَا وَالِدِي وَشَيْخُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَرُّبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ بِفِعْلٍ وَاجِبٍ مَعَ تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْوُجُوبِ كَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا ( وَالثَّانِيَةُ ) لَا تَصِحُّ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } : فَوَعَدَ بِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ ، فَإِذَا ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ أُخِذَ بِالْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ شَاقِلَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } .
وَيَكُونُ فِي حَالِ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ يَفْعَلُ مَا هُوَ مَمْقُوتٌ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ الْأَغَرِّ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنِيّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنِّي أَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ : " سَبْعِينَ مَرَّةً " وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { وَاَللَّهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً } .
وَلِأَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ مِسْكِينٍ وَالْمُبَارَكُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَتُوبُ إلَيْكَ وَلَا أَتُوبُ إلَى مُحَمَّدٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ ، } مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ الْحَسَنُ مِنْ الْأَسْوَدِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَنَسٍ مَرْفُوعًا { لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا

مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَعْذَرَ اللَّهُ إلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً } وَإِنْ جَهِلَهُ تَابَ مُجْمَلًا ، وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَوْبَةٌ عَامَّةٌ وَإِلَّا فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ التَّوْبَةَ الْمُجْمَلَةَ لَا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَلَا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كَاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ بِخِلَافِ الْعَامِّ وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ ، وَعَنْهُ لَا تُقْبَلُ مِنْ الدَّاعِيَةِ إلَى بِدْعَتِهِ الْمُضِلَّةِ وَالْقَاتِلِ ، ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ .

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ التَّوْبَةُ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ مَقْبُولَةٌ خِلَافًا لِإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَلَا الزِّنْدِيقِ ثُمَّ بَحَثَ الْمَسْأَلَةَ وَقَالَ : الزِّنْدِيقُ إذَا ظَهَرَ لَنَا هَلْ يَجِبُ أَنْ نَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَافِرًا ؟ قَالَ وَلِأَنَّ الزَّنْدَقَةَ نَوْعُ كُفْرٍ فَجَازَ أَنْ تُحْبَطَ بِالتَّوْبَةِ كَسَائِرِ الْكُفْرِ مِنْ التَّوَثُّنِ ، وَالتَّمَجُّسِ وَالتَّهَوُّدِ ، وَالتَّنَصُّرِ وَكَمَنْ تَظَاهَرَ بِالصَّلَاحِ إذَا أَتَى مَعْصِيَةً وَتَابَ مِنْهَا وَقَالَ : وَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةَ الْبَاطِنِ جُمْلَةً وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ عَلَيْنَا حُكْمُ الظَّاهِرِ فَإِذَا كَانَ لَنَا فِي الظَّاهِرِ حُسْنُ طَرِيقَتِهِ ، وَتَوْبَتِهِ وَجَبَ قَبُولُهَا وَلَمْ يَجُزْ رَدُّهَا لِمَا بَيَّنَّا وَإِنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ تَتَعَلَّقُ بِهَا ، وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ شُبْهَةً أَوْرَدُوهَا إلَّا أَنَّهُمْ حَكَوْا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَتَلَ زِنْدِيقًا وَلَا أَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا رَأَى قَتْلَهُ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ .
فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ تَوْبَتُهُ لَمْ تُقْبَلْ بِدَلَالَةِ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ وَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَسْقُط الْقَتْلُ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ .
وَلَعَلَّ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنَى بِقَوْلِهِ : لَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِ إسْقَاطِ الْقَتْلِ فَيَكُونُ مَا قَبْلَهُ هُوَ مَذْهَبُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَقَالَ أَيْضًا : وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ لَعَلَّ أَحْمَدَ تَعَلَّقَ بِأَنَّ فِيهِ حَقَّ آدَمِيٍّ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْبَةِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ فَالتَّوْبَةُ تُسْقِطُ مَا يَثْبُتُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَيَبْقَى ظُلْمُ الْآدَمِيِّ وَمُطَالَبَتُهُ عَلَى حَالِهَا وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْبَةِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ هُوَ ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ

غَيْرِهِ كَمَنْ قَالَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُبْتَدِعِ .
نَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِمَظَالِمِ الْآدَمِيِّينَ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ هَذَا صِحَّةَ التَّوْبَةِ كَالتَّوْبَةِ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَقَتْلِ النَّفْسِ ، وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ صَحِيحَةً مَقْبُولَةً ، وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ لِلْآدَمِيِّ لَا تَسْقُطُ وَيَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ رَاجِعًا إلَى ذَلِكَ ، وَيَكُونُ نَفْيُ الْقَبُولِ عَائِدًا إلَى الْقَبُولِ الْكَامِلِ ، وَمِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَذَكَرَ أَنَّهُ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ أَخِيهِ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سُئِلَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ احْتَجَزَ التَّوْبَةَ عَنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ } .
وَحَجْزُ التَّوْبَةِ أَيُّ شَيْءٍ مَعْنَاهُ ؟ قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُوَفَّقُ وَلَا يُيَسَّرُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ لِتَوْبَةٍ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ } قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ لِذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ نَظَرًا تَامًّا إلَى دَلِيلِ خِلَافِهِ فَلَا يَعْرِفُ الْحَقَّ ، وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ إنَّ الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ .
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا يَرْجِعُ .
وَقَالَ أَيْضًا : التَّوْبَةُ مِنْ الِاعْتِقَادِ الَّذِي كَثُرَ مُلَازَمَةُ صَاحِبِهِ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِحُجَجِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ ، وَالْعِلْمِ ، وَالْأَدِلَّةِ ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَبَابَهُمْ } قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : لِأَنَّ الشَّيْخَ قَدْ عَسَا فِي الْكُفْرِ فَإِسْلَامُهُ بَعِيدٌ بِخِلَافِ الشَّابِّ فَإِنَّ قَلْبَهُ لَيِّنٌ فَهُوَ قَرِيبٌ إلَى الْإِسْلَامِ وَعَنْ

ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا وَقَالَ إنَّ آيَةَ الْفُرْقَانِ : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } .
وَقَالَ أَيْضًا عَنْ آيَةِ النِّسَاءِ : لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ وَإِنَّ آيَةَ الْفُرْقَانِ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ .
رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَفْيِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ يُشْبِهُ وَاَللَّه أَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ حَقَّ الْمَقْتُولِ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَظْلِمَةِ الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا حَقٌّ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ تَعْوِيضَ الْمَظْلُومِ فَيُمَكِّنُ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ وَإِذَا مَكَّنَهُمْ فَقَتَلُوهُ ، أَوْ عَفَوْا عَنْهُ ، أَوْ صَالَحُوهُ عَلَى الدِّيَةِ فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ .
وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ : لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ قَالَ : وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَيَأْخُذُ الْمَقْتُولُ مِنْ حَسَنَاتِ الْقَاتِلِ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِذَا اسْتَكْثَرَ الْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ التَّائِبِينَ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يُوَفِّي بِهِ غُرَمَاءَهُ ، وَيَبْقَى لَهُ فَضْلٌ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَاكْتَسَبَ أَمْوَالًا يُوَفِّي بِهَا دُيُونَهُ ، وَيَبْقَى لَهُ فَضْلٌ ، وَيَأْتِي كَلَامٌ فِي تَوْبَةِ الْمُبْتَدِعِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا .
وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ سَالِمٍ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا ، ثُمَّ تَابَ ، وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ، ثُمَّ اهْتَدَى قَالَ : وَيْحَكَ وَأَنَّى لَهُ الْهُدَى ؟ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يَجِيءُ الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ يَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي ؟ } وَاَللَّهِ لَقَدْ

أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ وَمَا نَسَخَهَا بَعْدَ إذْ أَنْزَلَهَا قَالَ : وَيْحَكَ وَأَنَّى لَهُ الْهُدَى ؟ عَمَّارٌ هُوَ الذَّهَبِيُّ وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَرَوْحٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُسْلِمٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَمُسْلِمٌ هُوَ ابْنُ مِخْرَاقٍ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : إذَا قِيلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ مَعْنَاهُ يُعَذَّبُ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ وَلَا بُدَّ ، ثُمَّ يَخْرُجُ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ إذَا لَمْ يَتُوبُوا ، لَا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ أَبَدًا وَلَمْ أَجِدْ هَذَا صَرِيحًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا عَنْ أَحْمَدَ ، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا فِي التَّفْسِيرِ ، وَلَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا وَجْهَ عِنْدَهُمْ لِتَخْلِيدِ مُسْلِمٍ فِي النَّارِ .

فَصْلٌ ( فِي عَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَةِ الْمُصِرِّ ، وَكَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ الذُّنُوبِ ) وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ أَصَرَّ عَلَى مِثْلِهِ .
وَلَا يُقَالُ لِلتَّائِبِ ظَالِمٌ وَلَا مُسْرِفٌ ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ ، ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالشَّرْحِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ .
وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ وَفِي الْفُصُولِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ اخْتَانَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا ، ثُمَّ أَنْفَقَهُ ، وَأَتْلَفَهُ ، ثُمَّ إنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ وَتَابَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي فَهَلْ يَكُونُ فِي نَدَمِهِ وَتَوْبَتِهِ مَا يُرْجَى لَهُ بِهِ إنْ مَاتَ عَلَى فَقْرِهِ خَلَاصٌ مِمَّا عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ أَبِي : لَا بُدَّ لِهَذَا الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَقَّ وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ فِيمَنْ غَصَبَ أَرْضًا : لَا يَكُونُ تَائِبًا حَتَّى يَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، إنْ عَلِمَ شَيْئًا بَاقِيًا مِنْ السَّرِقَةِ رَدَّهَا عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَقَالَ فِيمَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ : تَوْبَتُهُ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَ .
فَإِنْ وَرِثَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ عَدْلًا حَتَّى يَرُدَّ مَا أَخَذَ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : هَذَا أَهْوَنُ ، لَيْسَ هُوَ أَخْرَجَهُ ، وَأَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِيمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَسَأَلَهُ صَالِحٌ تَوْبَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَقِيلَ : بَلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى يُعَوِّضُ الْمَظْلُومَ قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ .
وَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمَنْ مَاتَ نَادِمًا عَلَيْهَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُجَازِي لِلْمَظْلُومِ عَنْهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ { لَا يَدْخُلُ النَّارَ تَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ } .
وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى فَعَلَى الْمَنْعِ يَرُدُّ مَا أَثِمَ بِهِ وَتَابَ

بِسَبَبِهِ ، أَوْ بَذَلَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ أَوْ يَنْوِي ذَلِكَ إذَا أَمْكَنَهُ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ فِي الْحَالِ وَأَخَّرَ ذَلِكَ بِرِضَاءِ مُسْتَحِقِّهِ ، وَأَنْ يَسْتَحِلَّ مِنْ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِهِمَا قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ الْحَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالْغِيبَةَ فَإِنَّ الْغِيبَةَ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَزْنِي فَيَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ } عَبَّادٌ ضَعِيفٌ وَأَبُو رَجَاءٍ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَهُ { مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ } .
وَقِيلَ إنْ عَلِمَ بِهِ الْمَظْلُومُ وَإِلَّا دَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ وَلَمْ يَعْلَمْهُ ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ : إنْ تَابَ مِنْ قَذْفِ إنْسَانٍ أَوْ غِيبَتِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ هَلْ يُشْتَرَطُ لِتَوْبَتِهِ إعْلَامُهُ وَالتَّحْلِيلُ مِنْهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِمَا رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { مَنْ اغْتَابَ رَجُلًا ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ مِنْ بَعْدُ غُفِرَ لَهُ غِيبَتُهُ } وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَابَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ } وَلِأَنَّ فِي إعْلَامِهِ إدْخَالَ غَمٍّ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي : فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ كَفَّارَةَ الِاغْتِيَابِ مَا رَوَى أَنَسٌ وَذَكَرَهُ ، وَخَبَرُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَفِيهِ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَتْرُوكٌ وَذَكَرَ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعِيدٍ وَفِيهِ سَلْمَانُ بْنُ عَمْرٍو كَذَّابٌ ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِ

حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْأَيْلِيُّ مَتْرُوكٌ .
وَذَكَرَ أَيْضًا حَدِيثَ أَنَسٍ فِي الْحَدَائِقِ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَذْكُرُ فِيهَا إلَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ : قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ : التَّوْبَةُ مِنْ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْتَهُ .
فَقَالَ سُفْيَانُ : بَلْ تَسْتَغْفِرُ مِمَّا قُلْتَ فِيهِ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : لَا تُؤْذُوهُ مَرَّتَيْنِ .
وَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْمُبَارَكِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الصَّلَاحِ الشَّافِعِيُّ فِي فَتَاوِيهِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ : فَكُلُّ مَظْلِمَةٍ فِي الْعِرْضِ مِنْ اغْتِيَابِ صَادِقٍ وَبَهْتِ كَاذِبٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ إذْ الْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا فَيَكُونُ فِي الْمَغِيبِ غِيبَةً وَقَدْ يَكُونُ كَذِبًا فَيَكُونُ بَهْتًا ، وَاخْتَارَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُعْلِمُهُ بَلْ يَدْعُو لَهُ دُعَاءً يَكُونُ إحْسَانًا إلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ مَظْلَمَتِهِ كَمَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ .
وَعَنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَتَمْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ ، أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ إلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَهَذَا صَحِيحُ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهٍ كَذَا قَالَ وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُسْنَدِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمْ وَفِيهِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّهِ وَفِيهِ { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ } .
وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَارِمٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا السُّمَيْطُ عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ عَنْ خَالِهِ قَالَ : { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُنَاسٌ يَتْبَعُونَهُ قَالَ فَاتَّبَعْتُهُ مَعَهُمْ قَالَ فَفَجَأَنِي الْقَوْمُ يَسْعَوْنَ وَأَتَى عَلَيَّ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَنِي ضَرْبَةً إمَّا بِعَسِيبٍ أَوْ قَضِيبٍ أَوْ سِوَاكٍ أَوْ شَيْءٍ كَانَ فَوَاَللَّهِ مَا أَوْجَعَنِي قَالَ : فَبِتُّ لَيْلَةً قُلْتُ مَا ضَرَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا لِشَيْءٍ عَلِمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ، وَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي أَنْ آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَصْبَحْتُ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّكَ دَاعٍ لَا تَكْسِرْ قَرْنَ رَعِيَّتِكَ ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ أَوْ قَالَ أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُنَاسًا يَتْبَعُونِي وَإِنِّي لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتْبَعُونِي ، اللَّهُمَّ فَمَنْ ضَرَبْتُ أَوْ سَبَبْتُ فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً وَأَجْرًا أَوْ قَالَ مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } أَوْ كَمَا قَالَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَلَعَلَّ مُرَادَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) الْمُرَادُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُسْتَوْجِبٌ لَهُ فَيُظْهِرُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِحْقَاقَهُ لِذَلِكَ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَيَكُونُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبِّهِ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي وَصْلِ كَلَامِهِمْ بِلَا نِيَّةٍ كَقَوْلِهِمْ : تَرِبَتْ يَمِينُكَ وَعَقْرَى وَحَلْقَى لَا يَقْصِدُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ فَخَافَ أَنْ يُصَادِفَ إجَابَةً فَسَأَلَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَرَغِبَ إلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً وَكَفَّارَةً وَقُرْبَةً وَطَهُورًا وَأَجْرًا ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ هَذَا مِنْهُ نَادِرًا وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا مُنْتَقِمًا لِنَفْسِهِ ، وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُمْ قَالُوا اُدْعُ عَلَى دَوْسٍ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ إنَّ الْمُرَادَ عِنْدَ فَوْرَةِ الْغَضَبِ لِأَمْرٍ يَخُصُّهُ ، أَوْ لِرَدْعٍ يَرْدَعُهُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ عَنْ التَّجَرُّؤِ إلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ لَا لَعْنِهِ فِي الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ فِي الزَّجْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ رَحْمَةً فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا حَسَنًا ؛ لِأَنَّ لَعْنَتَهُ عِنْدَ مَنْ لَعَنَهُ غَايَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ ارْتِكَابِ مَا لَعَنَهُ عَلَيْهِ وَتَوْبَتِهِ فَسَمَّى اللَّعْنَةَ رَحْمَةً حَيْثُ كَانَتْ آيِلَةً إلَى الرَّحْمَةِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ كَلَامُهُ الْمُتَقَدِّمُ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ { أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَضَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلَهُ فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ فَقَالَ دَعُوا الرَّجُلَ أَرِبَ مَا لَهُ } قِيلَ أَرِبَ بِوَزْنِ عَلِمَ ، وَمَعْنَاهَا الدُّعَاءُ عَلَيْهِ أَيْ : أُصِيبَتْ آرَابُهُ وَسَقَطَتْ وَهِيَ كَلِمَةٌ لَا يُرَادُ بِهَا وُقُوعُ الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ : تَرِبَتْ يَدَاكَ وَقَاتَلَكَ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ وَفِي هَذَا التَّعَجُّبِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا تَعَجُّبُهُ مِنْ حِرْصِ السَّائِلِ وَمُزَاحَمَتِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْحِرْصِ غَلَبَهُ طَبْعُ الْبَشَرِيَّةِ فَدَعَا عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ { اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَمَنْ دَعَوْتُ عَلَيْهِ فَاجْعَلْ دُعَائِي لَهُ رَحْمَةً } وَقِيلَ مَعْنَاهُ احْتَاجَ فَسَأَلَ مِنْ أَرِبَ الرَّجُلُ يَأْرَبُ إذَا احْتَاجَ .
ثُمَّ قَالَ " مَا لَهُ " ؟ أَيْ : أَيُّ شَيْءٍ بِهِ وَمَا يُرِيدُ ؟ ( وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ) أَرَبٌ بِوَزْنِ جَمَلٍ أَيْ : حَاجَةٌ لَهُ ، وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّقْلِيلِ أَيْ : لَهُ حَاجَةٌ يَسِيرَةٌ .
وَقِيلَ

: مَعْنَاهُ حَاجَةٌ جَاءَتْ بِهِ ، فَحَذَفَ ثُمَّ سَأَلَ فَقَالَ " مَا لَهُ " .
( وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ ) أَرِبٌ بِوَزْنِ كَتِفٍ ، وَالْأَرِبُ الْحَاذِقُ الْكَامِلُ أَيْ : هُوَ أَرِبٌ فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ ثُمَّ سَأَلَ فَقَالَ " مَا لَهُ " أَيْ : مَا شَأْنُهُ .
وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ إعْلَامِهِ فَإِنَّ فِي إعْلَامِهِ زِيَادَةَ إيذَاءٍ لَهُ فَإِنَّ تَضَرُّرَ الْإِنْسَانِ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ شَتْمِهِ أَبْلَغُ مِنْ تَضَرُّرِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ .
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الْعُدْوَانِ عَلَى الظَّالِمِ أَوَّلًا إذْ النُّفُوسُ لَا تَقِفُ غَالِبًا عِنْدَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، فَتَبَصَّرْ هَذَا فَفِي إعْلَامِهِ هَذَانِ الْفَسَادَانِ .
وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ ثَالِثَةٌ وَلَوْ كَانَتْ بِحَقٍّ وَهُوَ زَوَالُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ كَمَالِ الْأُلْفِ وَالْمَحَبَّةِ ، أَوْ تَجَدُّدُ الْقَطِيعَةِ وَالْبِغْضَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ .
وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ قَدْ تَعْظُمُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ وَلَيْسَ فِي إعْلَامِهِ فَائِدَةٌ إلَّا تَمْكِينُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَمَا لَوْ عَلِمَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ إمَّا بِالْمِثْلِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ بِالتَّعْزِيرِ أَوْ بِالْحَدِّ وَإِذَا كَانَ فِي الْإِيفَاءِ مِنْ الْجِنْسِ مَفْسَدَةٌ عُدِلَ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْقَذْفِ .
وَفِي الْفِدْيَةِ وَفِي الْجِرَاحِ إذَا خِيفَ الْحَيْفُ ، وَهُنَا قَدْ لَا يَكُونُ حَيْفٌ إلَّا فِي غَيْرِ الْجِنْسِ أَمَّا الْعُقُوبَةُ أَوْ الْأَخْذُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَلْيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ فَأُعْطِيَهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَأُلْقِيَتْ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ } .
وَإِذَا كَانَ فَيُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً بَدَلَ الْحَسَنَةِ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ

السَّيِّئَاتِ فَالدُّعَاءُ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارُ إحْسَانٌ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بَدَلَ الذَّمِّ لَهُ وَهَذَا عَامٌّ فِيمَنْ طَعَنَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ لَعَنَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا يُؤْذِيهِ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا بِطَرِيقِ الْإِفْتَاءِ أَوْ التَّحْضِيضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ أَعْمَالَ اللِّسَانِ أَعْظَمُ مِنْ أَعْمَالِ الْيَدِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ ، أَوْ شُبْهَةٍ ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فَإِنَّ كَفَّارَةَ ذَلِكَ أَنْ يُقَابِلَ الْإِسَاءَةَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ بِالدُّعَاءِ فَيَكُونُ الثَّنَاءُ وَالدُّعَاءُ بَدَلَ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا أَنْوَاعُ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ الْجَارِي بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ كَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ أَصْنَافِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنُّهَى مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ تَارَةً بِتَأْوِيلٍ مُجَرَّدٍ ، وَتَارَةً بِتَأْوِيلٍ مَشُوبٍ بِهَوًى ، وَتَارَةً بِهَوًى مَحْضٍ ، بَلْ تَخَاصُمُ هَذَا الضَّرْبِ بِالْكَلَامِ وَالْكُتُبِ كَتَخَاصُمِ غَيْرِهِمْ بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ ، وَالطَّائِفَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ ، الْعَادِلَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ وَالْبَاغِيَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ .
وَهَذَا بَابٌ نَافِعٌ جِدًّا وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةٌ جِدًّا فَعَلَى هَذَا لَوْ سَأَلَ الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْبُوبُ لِقَاذِفِهِ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ إذْ تَوْبَتُهُ صَحَّتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِهِ ، وَهَلْ يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ ، أَوْ يُسْتَحَبُّ ، أَوْ يُكْرَهُ ، أَوْ يَحْرُمُ ؟ الْأَشْبَهُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَقَدْ

يَكُونُ الِاعْتِرَافُ أَصْفَى لِلْقُلُوبِ كَمَا يَجْرِي بَيْنَ الْأَوِدَّاءِ مِنْ ذَوِي الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَقَدْ تَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةُ الْعُدْوَانِ عَلَى النَّاسِ أَوْ رُكُوبُ كَبِيرَةٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ قَالَ : وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ بِالْجُحُودِ الصَّرِيحِ ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ مُحَرَّمٌ وَالْمُبَاحُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ هَلْ هُوَ التَّعْرِيضُ أَوْ الصَّرِيحُ ؟ فِيهِ خِلَافٌ ، فَمَنْ جَوَّزَ الصَّرِيحَ هُنَاكَ فَهَلْ يُجَوِّزُهُ هُنَا ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَلَكِنْ يُعَرِّضُ فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ بَلَغَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْءٌ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بِالْمَعَارِيضِ وَقَالَ : أُرَقِّعُ دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا اُسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيُعَرِّضَ ؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالِاسْتِحْلَافِ ، فَإِذَا كَانَ قَدْ تَابَ وَصَحَّتْ تَوْبَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِذَلِكَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، لَكِنْ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْمَظْلُومِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَظُلْمِهِ فَإِذَا أَنْكَرَ بِالتَّعْرِيضِ كَانَ كَاذِبًا فَإِذَا حَلَفَ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا : سُئِلْتُ عَنْ نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ رَجُلٌ تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ غَيْرِهِ فَزَنَى بِهَا ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ زَوْجُهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ فَطَلَبَ اسْتِحْلَافَهُ ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ ، وَإِنْ أَقَرَّ جَرَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا مِنْ الشَّرِّ أَمْرٌ عَظِيمٌ ؟ فَأَفْتَيْتُهُ أَنَّهُ يَضُمُّ إلَى التَّوْبَةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِحْسَانَ إلَى الزَّوْجِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ ، وَالصَّدَقَةِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ بِإِزَاءِ إيذَائِهِ لَهُ فِي أَهْلِهِ ، فَإِنَّ الزِّنَا

بِهَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَقُّ زَوْجِهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فِي عِرْضِهِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَنْجَبِرُ بِالْمِثْلِ كَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقَذْفِ الَّذِي جَزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، فَتَكُونُ تَوْبَةُ هَذَا كَتَوْبَةِ الْقَاذِفِ ، وَتَعْرِيضُهُ كَتَعْرِيضِهِ ، وَحَلْفُهُ عَلَى التَّعْرِيضِ كَحَلْفِهِ .
وَأَمَّا لَوْ ظَلَمَهُ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيفَاءِ الْحَقِّ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَبَيْنَ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ .
وَهَذَا الْبَابُ وَنَحْوُهُ فِيهِ خَلَاصٌ عَظِيمٌ وَتَفْرِيجُ كُرُبَاتٍ لِلنُّفُوسِ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي وَالْمَظَالِمِ فَإِنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤْيِسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى .
وَجَمِيعُ النُّفُوسِ لَا بُدَّ أَنْ تُذْنِبَ فَتَعْرِيفُ النُّفُوسِ مَا يُخَلِّصُهَا مِنْ الذُّنُوبِ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَاتِ كَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الشَّرِيعَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فَإِنْ كَانَتْ الْمَظْلِمَةُ فَسَادَ زَوْجَةِ جَارِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَهَتْكِ فِرَاشِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : اُحْتُمِلَ أَنْ لَا يَصِحَّ إحْلَالُهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ ابْتِدَاءً فَلَا يَبْرَأُ بِإِحْلَالِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَعِنْدِي أَنَّهُ يَبْرَأُ بِالْإِحْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِلَّهُ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ بِالْإِحْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الْمَظْلِمَةِ وَلَا يَمْلِكُ إبَاحَتَهَا ابْتِدَاءً كَالدَّمِ وَالْقَذْفِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ أَنَّهُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ وَيَفْسَخُ نِكَاحَهَا لِأَجْلِ التُّهْمَةِ بِهِ وَغَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ وَإِنَّمَا يُتَحَالَفُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ وَفِي مَنْعِهِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ خِلَافٌ

وَذَلِكَ سَبَبُ فِعْلِ الزَّانِي لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ كَرِهَهَا فَقَدْ ظَلَمَهَا وَظَلَمَ الزَّوْجَ .
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَفِيهِ { أَلَا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَإِنَّ لِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قِيلَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قِيلَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ } قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الزِّنَا وَإِفْسَادَهَا عَلَى زَوْجِهَا وَاسْتِمَالَةَ قَلْبِهَا إلَى الزَّانِي وَهُوَ مَعَ امْرَأَةِ الْجَارِ أَشَدُّ قُبْحًا وَجُرْمًا ؛ لِأَنَّ الْجَارَ يَتَوَقَّعُ مِنْ جَارِهِ الذَّبَّ عَنْهُ وَعَنْ حَرِيمِهِ وَيَأْمَنُ بَوَائِقَهُ ، وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَقَدْ أَمَرَ بِإِكْرَامِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ ، فَإِذَا قَابَلَ هَذَا بِالزِّنَا بِامْرَأَتِهِ وَأَفْسَدَهَا عَلَيْهِ مَعَ تُمَكِّنُهُ مِنْهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ غَيْرُهُ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنْ الْقُبْحِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ أَيْ فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَلِهَذَا لَوْ اُقْتُصَّ مِنْ الْقَاتِلِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّ الْآدَمِيِّ هُنَا ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُخْتَصَّ بِعُقُوبَةٍ فِي

الدُّنْيَا سِوَى الْحَدِّ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقِصَاصِ ، وَقَذْفِ الْآدَمِيِّ بِالزِّنَا ، أَوْ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ( فِيمَا عَلَى التَّائِبِ مِنْ قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَمُفَارَقَةِ قَرِينِ السُّوءِ وَمَوَاضِعِ الذُّنُوبِ ) قَالَ فِي الرِّعَايَةِ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ : وَأَنْ يَفْعَلَ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَيُبَاعِدَ قُرَنَاءَ السُّوءِ وَأَسْبَابِهِ ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ أَنَّ مُجَانَبَةَ خُلَطَاءِ السُّوءِ لَا تُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَجَعَلَهُ أَصْلًا لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ التَّفَرُّقَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَطِئَ فِيهِ لَا يَجِبُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { فِي الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ وَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ الْعَالِمُ : مَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ انْطَلِقْ إلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَاعْبُدْ اللَّهَ تَعَالَى مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ } .
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ : فِي هَذَا اسْتِحْبَابُ مُفَارِقَةِ التَّائِبِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي أَصَابَ فِيهَا الذُّنُوبَ وَالْإِخْوَانَ الْمُسَاعِدِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُقَاطَعَتِهِمْ مَا دَامُوا عَلَى حَالِهِمْ ، وَأَنْ يَسْتَبْدِلَهُمْ بِصُحْبَتِهِ أَهْلَ الْخَيْرِ وَتَتَأَكَّدُ بِذَلِكَ تَوْبَتُهُ فَإِنْ اقْتَصَّ مِنْ الْقَاتِلِ أَوْ عَفَا عَنْهُ فَهَلْ يُطَالِبُهُ الْمَقْتُولُ فِي الْآخِرَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَتَوْبَةُ الْمُرَابِي بِأَخْذِ رَأْسِ مَالِهِ ، وَيَرُدُّ رِبْحَهُ إنْ أَخَذَهُ .

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ حَدِيثِ صَاحِبِ التِّسْعَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَمَا تُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قَتْلَ الْقِصَاصِ لَا يُكَفِّرُ ذَنْبَ الْقَاتِلِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَإِنْ كَفَّرَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَيَبْقَى حَقُّ الْمَقْتُولِ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ مَا يُرْجَى فِي الْقَتْلِ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ .

فَصْلٌ ( فِي الْعَفْوِ عَمَّنْ ظَلَمَ وَجَعْلِهِ فِي حِلٍّ ) .
قَالَ صَالِحٌ : دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يَوْمًا فَقُلْتُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى فَضْلٍ الْأَنْمَاطِيِّ فَقَالَ لَهُ : اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ إذَا لَمْ أَقُمْ بِنُصْرَتِكَ ، فَقَالَ فَضْلٌ : لَا جَعَلْتُ أَحَدًا فِي حِلٍّ ، فَتَبَسَّمَ أَبِي وَسَكَتَ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ قَالَ لِي مَرَرْتُ بِهَذِهِ الْآيَةِ : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } فَنَظَرْتُ فِي تَفْسِيرِهَا فَإِذَا هُوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي الْمُبَارَكُ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ : إذَا جَثَتْ الْأُمَمُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُودُوا : لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا فِي الدُّنْيَا قَالَ أَبِي : فَجَعَلْتُ الْمَيِّتَ فِي حِلٍّ مِنْ ضَرْبِهِ إيَّايَ ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ : وَمَا عَلَى رَجُلٍ أَنْ لَا يُعَذِّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِسَبَبِهِ أَحَدًا .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : وَهُوَ يُدَاوِي اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْهُمْ : فَلَمَّا بَرِئَ ذَكَرَهُ حَنْبَلٌ لَهُ فَقَالَ : نَعَمْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ قَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ ، وَقَدْ جَعَلْتُهُ فِي حِلٍّ إلَّا ابْنَ أَبِي دَاوُد وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُ فَإِنِّي لَا أَجْعَلُهُمْ فِي حِلٍّ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْبَرْدَعِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ : قَالَ لِي حَنْبَلٌ فَذَكَرَهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَبِي : وَجَّهَ إلَيَّ الْوَاثِقُ أَنْ اجْعَلْ الْمُعْتَصِمَ فِي حِلٍّ مِنْ ضَرْبِهِ إيَّاكَ ، فَقُلْتُ مَا خَرَجْتُ مِنْ دَارِهِ حَتَّى جَعَلْتُهُ فِي حِلٍّ ، وَذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ عَفَا } فَعَفَوْتُ عَنْهُ .
وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ قَوْلَ الشَّعْبِيِّ ، إنْ تَعْفُ عَنْهُ مَرَّةً يَكُنْ لَكَ مِنْ الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ فِي حِلٍّ

وَقَالَ لَوْلَا أَنَّ ابْنَ أَبِي دَاوُد دَاعِيَةٌ لَأَحْلَلْتُهُ .
وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ أَحَلَّ ابْنَ أَبِي دَاوُد وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ إِسْحَاقَ فِيمَا بَعْدُ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : أَفْضَلُ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ الْعَفْوُ .
وَرَوَى أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ : كُلُّ النَّاسِ مِنِّي فِي حِلٍّ .

فَصْلٌ ( فِي الْإِبْرَاءِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ ) نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ : إنْ مِتَّ " بِفَتْحِ التَّاءِ " فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ دَيْنِي ، إنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ : إنِّي كُنْتُ شَارِبًا مُسْكِرًا فَتَكَلَّمْتُ فِيكَ بِشَيْءٍ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ فِي حِلٍّ إنْ لَمْ تَعُدْ ، فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لِمَ قُلْتَ ؟ لَعَلَّهُ يَعُودُ ، قَالَ أَلَمْ تَرَ مَا قُلْتُ لَهُ : إنْ لَمْ تَعُدْ فَقَدْ اشْتَرَطْتُ عَلَيْهِ .
ثُمَّ قَالَ مَا أَحْسَنَ الشَّرْطَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلَا يَعُودُ إنْ كَانَ لَهُ دِينٌ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ قَالَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ قَالَ كُنْتَ أَذْكُرُكَ أَيْ : أَتَكَلَّمُ فِيكَ فَقَالَ لَهُ : وَلِمَ أَرَدْتَ أَنْ تَذْكُرَنِي ؟ فَجَعَلَ يَعْتَرِفُ بِالْخَطَإِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : عَلَى أَنْ لَا تَعُودَ إلَى هَذَا قَالَ لَهُ نَعَمْ قَالَ قُمْ .
ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ وَهُوَ يَبْتَسِمُ فَقَالَ : لَا أَعْلَمُ أَنِّي شَدَّدْتُ عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى رَجُلٍ جَاءَنِي فَدَقَّ عَلَيَّ الْبَابَ وَقَالَ اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ فَإِنِّي كُنْتُ أَذْكُرُكَ ، فَقُلْتُ : وَلِمَ أَرَدْتَ أَنْ تَذْكُرَنِي أَيْ هَذَا الرَّجُلُ ؟ كَأَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُمَا التَّوْبَةَ وَأَنْ لَا يَعُودَا رَوَاهُمَا الْخَلَّالُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مِنْ الْأَدَبِ .
وَرَأَيْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَخْتَارُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَنَّ فِيهِمَا رِوَايَتَيْنِ فَقَدْ يُقَالُ : هَذَا وَقَدْ يُقَالُ : بِالتَّفْرِقَةِ ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ لِرِعَايَةِ حُصُولِهَا وَتَأَكُّدِهَا صَحَّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ الصَّحَابِيِّ الْبَدْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَقَالَ لَهُ ، إنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِ وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ دَيْنِي .

فَصْلٌ ( فِيمَنْ اسْتَدَانَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ وَهُوَ يَنْوِيهِ ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ ثنا جَعْفَرُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ حَسِبْتُهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ { مَيْمُونَةَ أَنَّهَا اسْتَدَانَتْ دَيْنًا فَقِيلَ لَهَا : تَسْتَدِينِينَ وَلَيْسَ عِنْدَكِ وَفَاءٌ ؟ قَالَتْ : إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَسْتَدِينُ دَيْنًا يَعْلَمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يُرِيدُ أَدَاءَهُ إلَّا أَدَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ } إسْنَادُهُ حَسَنٌ .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ : كَانَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَدَّانُ وَتُكْثِرُ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ { إلَّا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مَنْصُورٍ فَذَكَرَهُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ جَرِيرٍ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ ذِكْرَ قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا دَيْنَ مَنْ نَوَى الْأَدَاءَ فِيهِ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ إلَّا أَنَّ زِيَادًا لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ مَنْصُورٍ ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَلَمْ يَرْوِ عَنْ عِمْرَانَ غَيْرُ زِيَادٍ وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا .
وَرَوَى النَّسَائِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ { أَنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدَانَتْ فَقِيلَ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَسْتَدِينِينَ وَلَيْسَ عِنْدَكِ وَفَاءٌ ؟ فَقَالَتْ : إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ أَخَذَ دَيْنًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ أَعَانَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
وَعَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ

أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
كَانَ شَيْخُنَا الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا فَقِيلَ : هُوَ دُعَاءٌ ، وَقِيلَ : هُوَ خَبَرٌ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَأَيُّمَا كَانَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مُصَدَّقٌ وَحَقٌّ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ فِي مَسْأَلَةِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ : وَدَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ وَزِيَادَةُ لَفْظَةِ " فِي الدُّنْيَا " تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ لَكِنْ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ نَظَرٌ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ : التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِهَؤُلَاءِ السَّلَاطِينِ ، وَمِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فِي ضَيْعَةٍ ، وَمِنْ أَنْ يَسْتَدِينَ وَيَتَّجِرَ لَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ فَيَلْقَى اللَّهَ عَنْ رَجُلٍ بِأَمَانَاتِ النَّاسِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ اسْتَدَانَ دَيْنًا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ فَتَلِفَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ وَأَصَابَهُ بَعْضُ حَوَادِثِ الدُّنْيَا فَصَارَ مُعْدِمًا لَا شَيْءَ لَهُ فَهَلْ يُرْجَى لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرٌ وَخَلَاصٌ مِنْ دَيْنِهِ ، إنْ مَاتَ عَلَى عَدَمِهِ وَلَمْ يَقْضِ دَيْنَهُ ؟ فَقَالَ : إنَّ هَذَا عِنْدِي أَسْهَلُ مِنْ الَّذِي اخْتَانَ ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى عَدَمِهِ فَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَحْتَمِلُ الْعِقَابَ وَالتَّرْكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُعَوِّضُ الْمَظْلُومَ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَوِّضُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا } .

وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ كَوْنِ سَبَبِهِ مُحَرَّمًا أَوْ لَا ، وَبَيْنَ التَّائِبِ وَغَيْرِهِ لِامْتِنَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَمَّنْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَلَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً حَتَّى ضَمِنَهَا أَبُو قَتَادَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَامْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دِينَارَانِ حَتَّى ضَمِنَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَمِنَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا وَقَائِعُ ، وَالظَّاهِرُ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَصْدُ الْخَيْرِ وَنِيَّةُ الْأَدَاءِ وَأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي قَتَادَةَ { الْآنَ بَرَّدْتَ عَلَيْهِ جِلْدَهُ } لَمَّا وَفَّى عَنْهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَجَمَاعَةٌ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ ، وَعِنْدَنَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ وَذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي إجْمَاعًا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ مَعَ الْحَدِّ كَفَّارَةً لِإِثْمِ ذَلِكَ الذَّنْبِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ ، وَمَعَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّائِبِ وَغَيْرِهِ ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ التَّوْبَةُ مُؤَثِّرَةً فِي إسْقَاطِ حَدِّ ذَلِكَ ذَكَرُوهَا وَلَمَّا لَمْ تُؤَثِّرْ لَمْ يَذْكُرُوهَا .

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ الْفُنُونِ فِي حِلِّ الدَّيْنِ بِالْمَوْتِ : وَأَنَا أَقُولُ : الْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ فَرْعٌ عَلَى مُطَالَبَةِ الدُّنْيَا وَكُلُّ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ فِي الدُّنْيَا فَلَا ثَبَاتَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَمَنْ خَلَّفَ مَالًا وَوَرَثَةً فَكَأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي الْقَضَاءِ ، وَالدَّيْنُ كَانَ مُؤَجَّلًا فَالنَّائِبُ عَنْهُ يَقْضِي مُؤَجَّلًا ، وَالذِّمَّةُ عِنْدِي بَاقِيَةٌ ، وَلَا أَقُولُ : الْحَقُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَعْيَانِ ، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ وَيَصِحُّ ضَمَانُ دَيْنِ الْمَيِّتِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الذِّمَّةِ فَلَا وَجْهَ لِمُطَالَبَةِ الْآخِرَةِ ، فَقِيلَ : لَهُ الَّذِي امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَانَ مُعْسِرًا ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ " هَلْ خَلَّفَ وَفَاءً ؟ " فَقِيلَ : لَا ، وَقَدْ أَجَّلَ الشَّرْعُ دَيْنَ الْمُعْسِرِ أَجَلًا حُكْمِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } .
ثُمَّ أَجَّلَهُ حَالَ الْحَيَاةِ لَمْ يُوجِبْ بَقَاءَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى شَهِدَ الشَّرْعُ بِارْتِهَانِهِ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : تِلْكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمٌ بِأَنْ كَانَ مُمَاطِلًا بِالدَّيْنِ ثُمَّ افْتَقَرَ بَعْدَ الْمَطْلِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي عُرِفَ مِنْهُ وَقَضِيَّةُ الْأَعْيَانِ إذَا اُحْتُمِلَتْ وُقِفَتْ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْأَصْلِ الْمُسْتَقِرِّ لِأَجْلِهَا ، وَالْأَصْلُ الْمُسْتَقِرُّ هُوَ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ مُوَسَّعٍ لَا يَحْصُلُ بِتَأْخِيرِهِ فِي زَمَانِ السَّعَةِ وَالْمُهْلَةُ نَوْعُ مَأْثَمٍ بِدَلِيلِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا يَأْثَمُ بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ التَّأْخِيرِ وَالْإِمْكَانِ مِنْ الْأَدَاءِ ، وَلِلْقَاضِي فِي الْخِلَافِ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ فِيمَنْ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ فَمَاتَ قَبْلَ الْفِعْلِ : لَمْ يَأْثَمْ وَتَسْقُطْ بِمَوْتِهِ قَالَ : لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فَلَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهَا فِي الذِّمَّةِ

بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَأْثَمَ ، وَالْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ كَدَيْنِ مُعْسِرٍ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ ، وَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ لِدُخُولِ النِّيَابَةِ لِجَوَازِ الْإِبْرَاءِ وَقَضَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ .
وَقِيلَ لَهُ : لَوْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ لَطُولِبَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَلَحِقَهُ الْمَأْثَمُ كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ .
فَقَالَ : هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ .

وَقَالَ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ : قَالَ شَافِعِيٌّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ لِوَارِثٍ يُفْضِي إلَى سَدِّ بَابِ الْخُرُوجِ عَنْ الدَّيْنِ : وَمُحَالٌ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى حَقًّا وَلَا يَجْعَلُ لِلْمُكَلَّفِ مِنْهُ مَخْرَجًا ، قَالَ حَنْبَلِيٌّ إذَا أَقَرَّ وَرَدَّ الْحَاكِمُ الْحَنْبَلِيُّ أَوْ الْحَنَفِيُّ قَوْلَهُ فَقَدْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا عَجَزَ عَنْ قَضَائِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرِيمِ ، وَمَنْ بَلَغَ جَهْدَهُ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ فِي تَعْوِيقِ الْحُقُوقِ بِدَلِيلِ الْمُعْسِرِ الْعَازِمِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مَتَى اسْتَطَاعَ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْيَسَارِ فَعَزْمُهُ عَلَى الْقَضَاءِ قَامَ الْعَزْمُ فِي دَفْعِ مَأْثَمِهِ مَقَامَ الْقَضَاءِ فَلَا مَأْثَمَ .
وَكَذَلِكَ مَنْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ عَبْدَيْنِ فَلَمَّا أَقَامَ الْغَرِيمُ الشَّهَادَةَ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا ، وَلَا يُقَالُ بِأَنَّهُ مَأْثُومٌ فِي تَعْوِيقِ الْحَقِّ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ رَضِيَ بِشَهَادَتِهِمَا وَمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا لَا تُقْبَلُ فَكُلُّ عُذْرٍ لَكَ فِي رَدِّ فِي الشَّهَادَةِ ، وَكَوْنُ الْحَقِّ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ هُوَ جَوَابُنَا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَظَاهِرُهُ وَلَوْ فَرَّطَ فِي تَأْخِيرِ الْإِقْرَارِ إلَى الْمَرَضِ وَلَعَلَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ كَمُعْسِرٍ قَدَرَ عَلَى الْوَفَاءِ فِي وَقْتٍ وَطُولِبَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ قَبْلَ الطَّلَبِ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ فَأَخَّرَ حَتَّى افْتَقَرَ ثُمَّ نَدِمَ وَتَابَ .
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ فِي مَسْأَلَةِ حَلِّ الدَّيْنِ بِالْمَوْتِ : مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْخَبَرَ إنَّ الشَّهَادَةَ تُكَفِّرُ غَيْرَ الدَّيْنِ قَالَ : هَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ تَهَاوَنَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ ، وَأَمَّا مَنْ اسْتَدَانَ دَيْنًا وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَبْذِيرٍ ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْهُ قَضَاؤُهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِيهِ عَنْهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَإِنْ حُمِلَ كَلَامُ ابْنِ

عَقِيلٍ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ مُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَمْلِهِ قَضِيَّةَ الَّذِي ضَمِنَ عَلَى الْمَطْلِ لَا عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَفَاءِ صَارَ فِيمَنْ تَهَاوَنَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ مِنْهُ وَلَمْ يُطْلَبْ ذَلِكَ مِنْهُ وَجْهَانِ .

وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ فِي مَسْأَلَةِ صَرْفِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ : الْغَارِمُ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ غَيْرُ مُطَالَبٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ .
فَاعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ لَا الْمُطَالَبَةَ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الْآجُرِّيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ حَفِيدُهُ : تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَظْلِمَةِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِالتَّوْبَةِ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْمَظْلُومِينَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُوَفِّيهِمْ إيَّاهَا إمَّا مِنْ حَسَنَاتِ الْمَظَالِمِ أَوْ مِنْ عِنْدِهِ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حِكَايَةً عَنْ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ ، وَالْخُرُوجِ عَنْهُ عَيْنًا كَانَ ، أَوْ غَيْرَهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ فَالْعَزْمُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ إذَا قَدَرَ فِي أَعْجَلِ وَقْتٍ وَأَسْرَعِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا وَأَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ وَالْعَجْزِ ، وَقَدْ أَفْتَى بِهَذَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَصْحَابِنَا ، وَشَرَطَ الْمَالِكِيُّ فِي جَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اسْتَدَانَ لِمَصْلَحَةٍ لَا سَفَهًا .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ مَا مَعْنَاهُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَاقِبْهُ فِي الدُّنْيَا بَلْ أَمَرَ بِإِنْظَارِهِ إلَى الْمَيْسَرَةِ فَكَذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ الْمُتَقَدِّمُ إنْ كَانَ الْمَالُ مُرَادًا مِنْهُ عَلَى الْعَاجِزِ فَيَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ أَنَّ مَنْ نَظَرَ فِيهِ لَا يَتَوَجَّهُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَالِ وَلَا يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ ذَلِكَ لِيَتَّفِقَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِهِ ، وَلْيَتَّفِقْ كَلَامُهُ وَكَلَامُ غَيْرِهِ .
أَمَّا حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ مَا فَهِمَهُ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ فَفِيهِ نَظَرٌ وَبُعْدٌ

ظَاهِرٌ ، وَلِهَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ الِانْتِصَارِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّوْبَةِ ، وَإِخْرَاجِ الْمَظْلِمَةِ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ بَعْدَ هَذَا : وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهَا ، وَمَنْ مَاتَ نَادِمًا عَلَيْهَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُجَازِي لِلْمَظْلُومِ عَنْهُ كَمَا وَرَدَ الْخَبَرُ { لَا يَدْخُلُ النَّارَ تَائِبٌ مِنْ ذُنُوبِهِ } وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا رَدُّ الْمَظْلِمَةِ إلَى مَالِكِهَا إنْ كَانَ بَاقِيًا ، أَوْ التَّصَدُّقُ بِهَا إنْ كَانَ مَعْدُومًا وَلَيْسَ لَهُ وَرَثَةٌ .

وَتَلْخِيصُ مَا سَبَقَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَالًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَرَّمٍ يَقْصِدُ الْأَدَاءَ وَعَجَزَ إلَى أَنْ مَاتَ فَإِنَّهُ يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ ، وَفِي كَوْنِهِ صَرِيحًا ، أَوْ ظَاهِرًا نَظَرٌ ، وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْحَابِ وَسَبَقَ كَلَامُ الْقَاضِي وَالْآجُرِّيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي يَعْلَى الصَّغِيرِ وَصَاحِبِ الْمُحَرَّرِ : لَا يُطَالَبُ وَلَيْسَ إنْفَاقُهُ فِي إسْرَافٍ وَتَبْذِيرٍ سَبَبًا فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ خِلَافًا لِلْآجُرِّيِّ مَعَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِنْفَاقِهِ فِي وَجْهٍ غَيْرِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ .
وَأَمَّا مَنْ أَخَذَهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ وَعَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ وَنَدِمَ وَتَابَ فَهَذَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ أَجِدْ مَنْ ذَكَرَ خِلَافَ هَذَا مِنْ الْأَصْحَابِ إلَّا مَا فَهِمَهُ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ مَعَ أَنَّهُ فَهِمَ مَعَ الْقُدْرَةِ أَيْضًا وَهَذَا غَرِيبٌ بَعِيدٌ لَمْ أَجِدْ بِهِ قَائِلًا ، وَإِنْ احْتَجَّ أَحَدٌ لِذَلِكَ بِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى أَدَاءِ الْحَقِّ تَابَ إذَا لَمْ يُؤَدِّهِ ؛ وَلِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ كَذَا فَأَقَرَّ بِهِ أُلْزِمَ بِأَدَائِهِ وَأَنَّهُ لَوْ أَجَابَ : تُبْتُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُنِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ وَأَنَّهُ لَوْ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ لَتَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ وَبَطَلَتْ الْحُقُوقُ .
وَلِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ .
وَمَنْ أَخَذَهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ طَلَبِهِ بِهِ وَإِلْزَامِهِ بِهِ إجْمَاعًا فَهَذَا أَوْلَى لِظُلْمِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ لَا تَمْنَعُ الْقَوَدَ إجْمَاعًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَالْمَالُ أَوْلَى ، وَإِنْ اُحْتُجَّ بِهِ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ الْمُفَرِّطِ فِي الْأَدَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْمَالِ بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ وَمَا يَأْتِي وَلَكِنْ يَدُلُّ لِلْقَوْلِ فِيمَنْ أَخَذَ مَالًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَرَّمٍ مَا سَبَقَ مِنْ خَبَرِ مَيْمُونَةَ وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُمَا

خَاصَّانِ أَخَصُّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِمَا فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُمَا ، وَإِنْ خَالَفَهُمَا ظَاهِرٌ حُمِلَ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِمَا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَوْفِيقًا وَجَمْعًا وَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُسْنَدِ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَنْبَأَنَا صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ قَاضِي الْمِصْرَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَدْعُو بِصَاحِبِ الدَّيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقِيمُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ أَيْ عَبْدِي فِيمَ أَذْهَبْتَ مَالَ النَّاسِ ؟ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي لَمْ أُفْسِدْهُ إنَّمَا ذَهَبَ فِي غَرَقٍ ، أَوْ حَرَقٍ ، أَوْ سَرِقَةٍ ، أَوْ وَضِيعَةٍ ، فَيَدْعُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ فَيَضَعُهُ فِي مِيزَانِهِ فَتَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ } .
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ثنا صَدَقَةُ ثنا أَبُو عِمْرَانَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ قَاضِي الْمِصْرَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : يَدْعُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِصَاحِبِ الدَّيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ فِيمَ أَخَذْتَ هَذَا الدَّيْنَ ؟ وَفِيمَ ضَيَّعْتَ حُقُوقَ النَّاسِ ؟ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَخَذْتُهُ فَلَمْ آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ وَلَمْ أَلْبَسْ وَلَكِنْ أَتَى عَلَيَّ هَكَذَا ، إمَّا حَرَقٌ ، وَإِمَّا سَرَقٌ ، وَإِمَّا وَضِيعَةٌ .
فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَحَقُّ مَنْ قَضَى عَنْكَ الْيَوْمَ ، فَيَدْعُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ فَيَضَعُهُ فِي كِفَّةِ مِيزَانِهِ فَتَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ } وَلَوْ عُوقِبَ وَعُذِّبَ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ لَكُلِّفَ بِالْمُحَالِ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ وَتَعَدِّيهِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَلِأَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ لِمَا تَقَدَّمَ وَكُلُّ

مَنْ كَانَ غَيْرَ آثِمٍ كَانَ غَيْرَ مُعَذَّبٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الضَّمَانِ غَيْرُ قِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهَا تَعَدُّدُ الشَّخْصِ وَهِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ مُحْتَمِلَةٍ وَسَبَقَ فِي الْقِصَّةِ قَوْلُهُ لِأَبِي قَتَادَةَ { الْآنَ بَرَّدْتَ عَلَيْهِ جِلْدَهُ } .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يُعَاقَبُ وَقَدْ يُعَوِّضُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَظْلُومَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَبَرِ وَحَدِيثِ الدَّوَاوِينِ { دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا وَهُوَ مَظَالِمُ الْعِبَادِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَحَدِيثُ { مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عَرَضِ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ } وَهَذَا الْعَاجِزُ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ وَلَمْ يُحَلِّلْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ .
وَحَدِيثُ { الشَّهِيدُ يُكَفَّرُ عَنْهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنَ } وَمَا وَرَدَ فِي شَهِيدِ الْبَحْرِ مِنْ زِيَادَةٍ وَالدَّيْنِ فَضَعِيفٌ ، وَحَدِيثُ غُفْرَانِ ذَنْبِ الْحَاجِّ بِعَرَفَةَ إلَّا التَّبَعَاتِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ وَمَا وَرَدَ مِنْ غُفْرَانِ التَّبَعَاتِ وَتَعْوِيضِ أَصْحَابِهَا فَضَعِيفٌ ، وَحَدِيثُ { نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ } .

وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ التَّشْدِيدِ فِي الدَّيْنِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمَهْرِيُّ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيَّ سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَا عَبْدٌ بَعْدَ الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَدَعُ لَهُ قَضَاءً } .
كَذَا فِي نُسْخَةٍ " إنَّ أَعْظَمَ " وَفِي نُسْخَةٍ " إنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ تَفَرَّدَ عَنْهُ سَعِيدٌ فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُعْرَفُ لَكِنْ سَعِيدُ مِنْ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رَوَى لَهُمْ الْجَمَاعَةُ .
وَاَللَّه أَعْلَمُ ، وَقَدْ يُقَالُ : وَالْأَخْبَارُ السَّابِقَةُ عَامَّةٌ وَإِخْرَاجُ هَذَا الْفَرْدِ مِنْهَا يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ، وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُسْقِطُهُ بِدَلِيلِ صِحَّةِ ضَمَانِهِ ، وَلَوْ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَائِهِ جَازَ لِرَبِّ الدَّيْنِ قَبْضُهُ ، وَلِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ مُفْلِسًا حَيًّا لَا يَبْرَأُ بِمَوْتِهِ وَلَوْ بَرِئَ الْمَضْمُونُ بَرِئَ الضَّامِنُ وَمَا ثَبَتَ الْأَصْلُ دَوَامُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ وَلَمْ يَزُلْ إلَّا بِمُزِيلٍ .
وَزَوَالُهُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ وَلَا تَعْوِيضٍ إجْحَافٌ بِصَاحِبِ الْحَقِّ وَإِضْرَارٌ بِهِ فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا ، وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَعِينٍ وَأَبَا دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ وَغَيْرَهُمْ ضَعَّفُوا صَدَقَةَ بْنَ مُوسَى وَهُوَ الدَّقِيقِيُّ وَقَيْسُ بْنُ زَيْدٍ لَمْ أَجِدْ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ غَيْرَ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ .
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَقَاضِي الْمِصْرَيْنِ وَهُمَا الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ هُوَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ ، وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ أُصِيبَ

فِي مَالِهِ فَقَابَلَ ثَوَابُ الْمُصِيبَةِ حَقَّ صَاحِبِ الْمَالِ فَلِهَذَا خَلَصَ مِنْ تَبِعَتِهِ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا : { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } .
مِنْ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ سُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ عَنْ كُلِّ مَدِينٍ وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِمَا شَاءَ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَلِأَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ مُوسِرٌ مُكَلَّفٌ فَكُلِّفَ بِالْخَلَاصِ مِنْ الْحَقِّ كَمَا لَوْ أَيْسَرَ فِي الدُّنْيَا ، وَيَسَارُهُ إمَّا بِحَسَنَاتِهِ ، وَإِمَّا بِأَنْ يُحْمَلَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ .
وَبِهَذَا يُعْرَفُ ضَعْفُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَهُوَ أَيْضًا لَزِمَهُ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ .
وَدَعْوَى أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ إنْ أُرِيدَ بِوَجْهٍ مَا فَمَمْنُوعٌ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ فَيُسَلَّمُ ، وَلَكِنْ لَا يَنْتُجُ الدَّلِيلُ ، وَبَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يَطُولُ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، أَمَّا إنْ أَنْفَقَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَمَاتَ مُعْسِرًا غَيْرَ مُكَلَّفٍ لَمْ يُمْكِنْ الْقَوْلُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُجَازَى عَلَيْهِ وَلَا أَنَّهُ يَتَّبِعُ بِهِ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَكْلِيفِهِ وَدُخُولِهِ النَّارَ بِتَحْمِيلِهِ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِ الْمَالِ .
وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا صَغِيرًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حَرَقِهِ ، وَغَرَقِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ( فِي بَرَاءَةِ مَنْ رَدَّ مَا غَصَبَهُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَبَقَاءِ إثْمِ الْغَصْبِ ) .
قَالَ حَرْبٌ : سُئِلَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ غَصَبَ رَجُلًا شَيْئًا فَمَاتَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَهُ وَرَثَةٌ وَنَدِمَ الْغَاصِبُ فَرَدَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَلَى وَرَثَتِهِ فَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ إثْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ إثْمِ الْغَصْبِ الَّذِي غَصَبَ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ : أَمَّا إثْمُ الْغَصْبِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ أَخَذَ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ الَّذِي أُخِذَ مَالُهُ وَأُعِيدَ إلَى وَرَثَتِهِ ، بَلْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الظَّالِمَ بِمَا حَرَمَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ .

( فَصْلٌ ) قَالَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى قَوْمٍ مَالٌ أَوْ أَوْدَعَهُمْ مَالًا ثُمَّ مَاتَ فَجَحَدَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ الْأَمْوَالُ ، لِمَنْ ثَوَابُ ذَلِكَ الْمَالِ قَالَ : إنْ كَانَ أَحَدٌ مِمَّنْ عَلَيْهِ أَوْ فِي يَدِهِ الْوَدِيعَةُ كَانَ قَدْ نَوَى فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَهَا إلَيْهِ فَأَجْرُهَا لِلْمَيِّتِ ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ جَحَدُوا الْوَرَثَةَ فَأَجْرُهَا لِلْوَرَثَةِ فِيمَا نَرَى .

فَصْلٌ ( فِي وُجُوب اتِّقَاءِ الصَّغَائِرِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ) كَانَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمْشِي فِي الْوَحْلِ وَيَتَوَقَّى فَغَاصَتْ رِجْلُهُ فَخَاضَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : هَكَذَا الْعَبْدُ لَا يَزَالُ يَتَوَقَّى الذُّنُوبَ فَإِذَا وَاقَعَهَا خَاضَهَا .
ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ { يَا عَائِشَةُ إيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ طَالِبًا .
} وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { إيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ } مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ وَقَالَ أَنَسٌ إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُوبِقَاتِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
وَلَهُمَا وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا " إنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا " أَيْ بِيَدِهِ فَذَبَّهُ عَنْهُ .

فَصْلٌ ( فِي التَّصَدُّقِ بِالْمَظَالِمِ ) قَالَ الْخَلَّالُ : بَابُ إذَا تَصَدَّقَ بِالْمَظَالِمِ فَلَا يُحَابِيَنَّ فِيهِ أَحَدًا قَالَ حَرْبٌ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظَالِمُ لِقَوْمٍ فَمَاتُوا وَأَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْهُمْ وَلَهُ إخْوَانٌ مَحَاوِيجُ وَقَدْ كَانَ يَصِلُهُمْ قَبْلَ هَذَا أَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ ؟ فَكَأَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُمْ قَالَ : لَا يُحَابِي فِيهَا أَحَدًا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَرَى كَأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُحَابَاةِ ، أَنْ يُحَابِيَهُمْ فَلَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُحَابِهِمْ فَقَدْ تَصَدَّقَ ، كَأَنَّهُ عِنْدَهُ قَدْ أَجَازَ مَا فَعَلَ .

فَصْلٌ ( فِيمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ حَلَالٌ وَشُبْهَةٌ ) فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ حَلَالٌ وَشُبْهَةٌ فَلْيَخُصَّ بِالْحَلَالِ نَفْسَهُ وَلْيُقَدِّمْ قُوتَهُ وَكُسْوَتَهُ عَلَى أُجْرَةِ الْحَجَّامِ وَالزَّيْتِ وَأَشْجَارِ التَّنُّورِ ، وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ : { أَعْلِفْهُ نَاضِحَكَ } ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : الشُّبُهَاتُ يَنْبَغِي صَرْفُهَا فِي الْأَبْعَدِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ فَالْأَبْعَدُ كَحَدِيثِ كَسْبِ الْحَجَّامِ ، وَالْأَقْرَبُ مَا دَخَلَ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِ ، ثُمَّ مَا وَلِيَ الظَّاهِرَ مِنْ اللِّبَاسِ ، ثُمَّ مَا سَتَرَ مَعَ الِانْفِصَالِ مِنْ الْبِنَاءِ ، ثُمَّ مَا عَرَضَ مِنْ الْمَرْكُوبِ وَنَحْوِهِ .

فَصْلٌ ( فِي حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا ) وَالتَّوْبَةُ هِيَ : النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهَا دَائِمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِأَجْلِ نَفْعِ الدُّنْيَا أَوْ أَذًى ، وَأَنْ لَا تَكُونَ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ إلْجَاءٍ ، بَلْ اخْتِيَارًا حَالَ التَّكْلِيفِ ، وَقِيلَ : يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ : اللَّهُمَّ إنِّي تَائِبٌ إلَيْكَ مِنْ كَذَا ، وَكَذَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ ، فَظَاهِرُ هَذَا اعْتِبَارُ التَّوْبَةِ بِالتَّلَفُّظِ وَالِاسْتِغْفَارِ ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَلَا أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً } فَقَوْلُهُ : ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَّقَ الْغُفْرَانَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ مِنْ ذُنُوبِهِ تَوْبَةً وَإِلَّا فَالِاسْتِغْفَارُ بِلَا تَوْبَةٍ لَا يُوجِبُ الْغُفْرَانَ قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ : وَهُوَ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : ( بَابُ سُقُوطِ الذُّنُوبِ بِالِاسْتِغْفَارِ تَوْبَةً ) يُرِيدُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَغْفِرُ لَهُمْ } لَكِنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِلَا تَوْبَةٍ فِيهِ أَجْرٌ كَغَيْرِهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ

يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } .
وَالْأَوْلَى وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ وَزَادَ : وَأَنْ يَكُونَ إذَا ذَكَرَهَا انْزَعَجَ قَلْبُهُ ، وَتَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ وَلَمْ يَرْتَحْ لِذِكْرِهَا وَلَا يُنَمِّقُ فِي الْمَجَالِسِ صِفَتَهَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ تَوْبَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَذِرَ إلَى الْمَظْلُومِ مِنْ ظُلْمِهِ مَتَى كَانَ ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا مُطْمَئِنًّا عِنْدَ ذِكْرِهِ الظُّلْمَ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ ، وَقِلَّةِ الْفِكْرَةِ بِالْجُرْمِ السَّابِقِ ، وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِخِدْمَةِ الْمُعْتَذِرِ إلَيْهِ وَيُجْعَلُ كَالْمُسْتَهْزِئِ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْ لَا ، كَذَا قَالَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تَمَكُّنَ الْمُنَازَعَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ وَقْتَ النَّدَمِ .
وَالْغَرَضُ النَّدَمُ الْمُعْتَبَرُ وَقَدْ وُجِدَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ تَكَرُّرِهِ كُلَّمَا ذَكَرَ الذَّنْبَ ؟ وَإِنَّ عَدَمَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ ، وَعَدَمُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ تَجْدِيدُ النَّدَمِ إذَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ ، مَعَ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ تَوْبَتَهُ السَّابِقَةَ لَا تَبْطُلُ بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي بُطْلَانِهَا بِالْمُعَاوَدَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّدَمَ تَوْبَةٌ مَعَ شَرْطِ الْعَزْمِ أَنْ لَا يَعُودَ ، وَرَدِّ الْمَظْلِمَةِ مِنْ يَدِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ : النَّدَمُ مَعَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ هُوَ التَّوْبَةُ ، وَلَيْسَ فِيهَا شَرْطٌ بَلْ هِيَ بِمَجْمُوعِهَا تَوْبَةٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ

{ : النَّدَمُ تَوْبَةٌ } وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : أَجْمَعْنَا عَلَى احْتِيَاجِهَا إلَى الْعَزْمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْبَةُ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ شَرْطِهَا الطَّهَارَةُ ، وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا وَلَيْسَتْ هِيَ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ الذَّنْبِ فَمَنْ ادَّعَى الزِّيَادَةَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ اللُّغَةُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ السَّابِقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ رُكْنٌ ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُمْ .
وَإِنْ كَفَّ حَيَاءً مِنْ النَّاسِ لَمْ تَصِحَّ ، وَلَا تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً ، وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ : نَدَمٌ بِالْقَلْبِ وَاسْتِغْفَارٌ بِاللِّسَانِ ، وَتَرْكٌ بِالْجَوَارِحِ ، وَإِضْمَارُ أَنْ لَا يَعُودَ .
وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ : قَالَ عُمَرُ ، وَأُبَيُّ وَمُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إلَى الذَّنْبِ كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إلَى الضَّرْعِ كَذَا قَالَ وَالْكَلَامُ فِي صِحَّتِهِ عَنْهُمْ ، ثُمَّ لَعَلَّ الْمُرَادَ التَّوْبَةُ الْكَامِلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهَا .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : هِيَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ ، وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ ، وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إضْرَارٌ أَنْ لَا يَعُودَ ، وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ عُمَرَ أَلَا إنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنْ الذَّنْبِ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَعُودَ .
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ : نُصُوحًا بِضَمِّ النُّونِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْقُعُودِ يُقَالُ : نَصَحْتُ لَهُ نُصْحًا وَنَصَاحَةً ، وَنُصُوحًا وَقِيلَ : أَرَادَ تَوْبَةَ نُصْحٍ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا قِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ ، وَقِيلَ : هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ : نَاصِحَةً عَلَى الْمَجَازِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { التَّوْبَةُ مِنْ

الذَّنْبِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ ثُمَّ لَا يَعُودَ فِيهِ } وَلَعَلَّ الْمُرَادَ إنْ صَحَّ الْخَبَرُ ثُمَّ يَنْوِي أَنْ لَا يَعُودَ فِيهِ .
وَقَالَ فِي الشَّرْحِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } قِيلَ : التَّوْبَةُ النَّصُوحُ تَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ : النَّدَمُ بِالْقَلْبِ ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ ، وَإِضْمَارُ أَنْ لَا يَعُودَ ، وَمُجَانَبَةُ خُلَطَاءِ السُّوءِ ، قَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ فَصْلٍ ، وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ كَلَامِهِ فِي الرِّعَايَةِ ، وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ فِي مَكَان آخَرَ أَوْ غَيْرِهَا فِيهِ رِوَايَتَيْنِ وَلَعَلَّ مَنْ اعْتَبَرَهُ يَقُولُ : مَعَ عَدَمِ الْمُجَانَبَةِ يَخْتَلُّ الْعَزْمُ ، أَوْ يَقُولُ : الْمُخَالَطَةُ ذَرِيعَةٌ ، وَوَسِيلَةٌ إلَى مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ وَالذَّرَائِعُ مُعْتَبَرَةٌ ، وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ تُشْبِهُ التَّفَرُّقَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ الْفَاسِدِ وَلِهَذَا جَعَلَهَا ابْنُ عَقِيلٍ أَصْلًا لِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ الْفَاسِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ } كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ هُوَ الْجَزَرِيُّ بِلَا شَكٍّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ : دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

مَسْعُودٍ قَالَ : أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } قَالَ : نَعَمْ وَقَالَ مَرَّةً نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ : { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ ، كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَزِيَادٌ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُجَيْلِيُّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ زِيَادِ بْنِ الْجَرَّاحِ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : أَنْبَأَنَا أَبُو عَرُوبَةَ حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ خَيْثَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا مَحْفُوظُ بْنُ أَبِي ثَوْبَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ وُهَيْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ سَمِعْتُ حُمَيْدًا الطَّوِيلَ يَقُولُ : قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } قَالَ : نَعَمْ مَحْفُوظٌ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَلَعَلَّ حَدِيثَهُ حَسَنٌ .
وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { كَفَّارَةُ الذَّنْبِ النَّدَامَةُ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ } .
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ مَوْلًى لِأَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَرْفُوعًا { مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي لَفْظٍ { وَلَوْ فَعَلَهُ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً } وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ كَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمَوْلَى أَبِي بَكْرٍ لَمْ يُسَمَّ وَالْمُتَقَدِّمُونَ حَالُهُمْ حَسَنٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ { إذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا عَبْدِي فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ .
ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ : أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ .
ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ : أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ } لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ { اعْمَلْ مَا شِئْتَ وَلَا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ } وَمَعْنَاهُ مَا دُمْتَ تُذْنِبُ ثُمَّ تَتُوبُ غَفَرْتُ لَكَ وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ : التَّوْبَةُ نَدَمُ الْعَبْدِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ كُلَّمَا ذَكَرَهُ ، وَتَكْرَارُ فِعْلِ التَّوْبَةِ كُلَّمَا خَطَرَتْ مَعْصِيَتُهُ بِبَالِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَادَ مُصِرًّا نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ .
وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ السَّابِقِ لَكِنْ أَبُو الْحُسَيْنِ يَقُولُ : يَكُونُ نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ ، وَعِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ فَلَمْ تُوجَدْ عِنْدَهُ تَوْبَةٌ شَرْعِيَّةٌ .
وَبُطْلَانُهَا بِالْمُعَاوَدَةِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالْأَظْهَرُ مَذْهَبًا وَدَلِيلًا أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ لِمَا سَبَقَ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ أَنَّ الْمُظَاهِرَ إذَا عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ رَجَعَ عَنْ تَحْرِيمِهَا بِعَزْمِهِ قَالَ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ مَعَ التَّصْمِيمِ عَلَى التَّوْبَةِ نَقْضٌ لِلتَّوْبَةِ .
فَجَعَلَهُ نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ بِالْعَزْمِ لَا بِغَيْرِهِ وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ السَّابِقِ وَكَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ

ثُمَّ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِالذَّنْبِ السَّابِقِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فَضَعِيفٌ .
وَإِنْ أَرَادَ انْتِقَاضَ التَّوْبَةِ وَقْتَ الْعَزْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنْ يُؤَاخَذَ بِالْعَزْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ أَوْ الَّذِي يَلِيهِ .
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْمُظَاهِرِ قَالَ : فَإِنْ وَطِئَ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى عَائِدًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ آكَدُ مِنْ الْعَزْمِ عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَزْمِ هَلْ يُؤَاخَذُ بِهِ الْعَازِمُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْأَفْعَالَ يُؤَاخَذُ بِهَا ، وَهَذَا مِنْ ابْنِ عَقِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبْطَالَ عِنْدَهُ بِالْمُعَاوَدَةِ كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَذَا قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ لَا تَصِحُّ تَوْبَةُ مَنْ نَقَضَ تَوْبَتَهُ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى مِثْلِ مَا تَابَ مِنْهُ أَوْ فَعَلَهُ ، وَالْأَجْوَدُ فِي الْعِبَارَةِ نَقْضُهَا بِعَزْمِهِ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ فِعْلِهِ .
وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى : تَصِحُّ تَوْبَةُ مَنْ نَقَضَ تَوْبَتَهُ عَلَى الْأَقْيَسِ .
وَيُعْتَبَرُ لِلتَّوْبَةِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ فَيَرُدَّ الْمَغْصُوبَ أَوْ بَدَلَهُ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ ، وَيُمَكِّنُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ قَوَدٍ عَلَيْهِ وَكَذَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ ، وَالْمُرَادُ إنْ قُلْنَا لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَيُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسَبَ إمْكَانِهِ .
وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ .
وَالْأَوْلَى لَهُ سَتْرُ نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ وَكَذَا إنْ اشْتَهَرَ عِنْدَ الشَّيْخِ وَعِنْدَ الْقَاضِي الْأَوْلَى الْإِقْرَارُ بِهِ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَلَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ الشِّرْكِ إصْلَاحُ الْعَمَلِ وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ الْمَعَاصِي فِي

حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ وَكَذَا فِي أَحْكَامِ التَّوْبَةِ فِي قَبُولُ الشَّهَادَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَعَنْهُ يُعْتَبَرُ سُنَّةً قَالَ بَعْضُهُمْ : إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَنْبُهُ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا وَلَمْ يَكْمُلْ عَدَدُ الشُّهُودِ فَإِنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ وَقِيلَ : إنْ فَسَقَ بِفِعْلِهِ وَإِلَّا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَقِيلَ : يُعْتَبَرُ مَدَى مُدَّةٍ يُعْلَمُ مِنْهَا حَالُهُ بِذَلِكَ وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } .
أَيْ فِي التَّوْبَةِ ، فَيَكُونُ الْإِصْلَاحُ مِنْ التَّوْبَةِ ، وَالْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي .
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَظْهِرُوا التَّوْبَةَ وَإِنَّ غَيْرَهُ قَالَ : لَمْ يَعُودُوا إلَى قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ .
وَقَالَ أَيْضًا : الْإِصْلَاحُ مِنْ التَّوْبَةِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ .
{ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } ، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا } وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ : { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا } جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَغْفِرَةِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالنَّدَمِ وَقَوْلُهُ { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَامِدٍ فِي كِتَاب الْأُصُولِ : إنَّهُ يَجِيءُ عَلَى مَقَالَةِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا وُجُودُ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ ، وَلِظَاهِرِ الْآيَةِ { إلَّا مَنْ تَابَ } وَقَوْلُهُ : { مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ } كَذَا قَالَ وَهُوَ غَرِيبٌ .
وَمَنْ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فَهَلْ تُغْفَرُ خَطِيئَتُهُ فَقَطْ أَمْ تُغْفَرُ وَيُعْطَى بَدَلَهَا حَسَنَةً ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْأَوَّلُ وَهُوَ حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ خَاصَّةً وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ .
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ { يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى } وَمَعْنَاهُ يَضَعُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ فَيُدْخِلُهُمْ النَّارَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَقَوْلُهُ { وَيَضَعُهَا } أَيْ يَضَعُ عَلَيْهِمْ مِثْلَهَا بِذُنُوبِهِمْ ، وَقَدْ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى الْكُفَّارِ مِثْلَهَا لِكَوْنِهِمْ سَنُّوهَا { وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا } .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ : كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ { إنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ وَيَقُولُ : أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ أَيْ رَبِّ ، حَتَّى إذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ : { هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قِيلَ كَنَفُهُ هُوَ سَتْرُهُ وَعَفْوُهُ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } الْآيَةَ فَقِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ ؟ فَقَالَ أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } الْآيَةَ } وَقِيلَ : { إنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا

فَأَكْثَرُوا ثُمَّ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : إنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إلَى قَوْلِهِ : { غَفُورًا رَحِيمًا } } رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : اخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّبْدِيلِ وَفِي زَمَانِ كَوْنِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُبَدِّلُ اللَّهُ شِرْكَهُمْ إيمَانًا ، وَقَتْلَهُمْ إمْسَاكًا ، وَزِنَاهُمْ إحْصَانًا قَالَ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ ذَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ قَالَهُ سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ يُبَدِّلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِ إذَا غَفَرَهَا لَهُ حَسَنَاتٍ حَتَّى إنَّ الْعَبْدَ يَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِمَّا هِيَ .
وَعَنْ الْحَسَنِ كَالْقَوْلَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : وَدَّ قَوْمٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا اسْتَكْثَرُوا يَعْنِي : الذُّنُوبَ فَقِيلَ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : هُمْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ : اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ فَيُقَالُ : عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ : نَعَمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ

عَلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ : إنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فَيَقُولُ : رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَهُنَا فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ } .
فَهَذَا الْحَدِيثُ فِي رَجُلٍ خَاصٍّ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ لِلتَّوْبَةِ فَيَجُوزُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ هَذَا بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا بِسَبَبٍ مِنْهُ بِتَوْبَتِهِ وَلَا غَيْرِهَا كَمَا يُنْشِئُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْقَوْلَيْنِ وَالْأَوَّلُ تُوَافِقُهُ ظَوَاهِرُ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ وَلَا ظُهُورَ فِيهَا لِلْقَوْلِ الثَّانِي فَكَيْفَ يُقَالُ تَبْدِيلٌ خَاصٌّ بِلَا دَلِيلٍ خَاصٍّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلظَّوَاهِرِ ؟ وَلَا يُقَالُ كِلَاهُمَا تَبْدِيلٌ فَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي فَقَدْ قَالَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ لَا عُمُومَ فِيهِ ، فَإِذَا قِيلَ فِيهِ بِتَبْدِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ تُوَافِقُهُ ظَوَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ أَوَّلَ وَعَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ أَوْ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا ، فَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ لِكُلِّ تَائِبٍ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ .
وَفِي الْآيَةِ وَظَوَاهِرِ الْأَدِلَّةِ مَا يُخَالِفُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَالنَّوَاجِذُ هُنَا الْأَنْيَابُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ : الضَّوَاحِكُ وَالضَّاحِكَةُ السِّنُّ بَيْنَ الْأَنْيَابِ وَالْأَضْرَاسِ وَهِيَ أَرْبَعُ ضَوَاحِكَ .
وَقِيلَ : الْأَضْرَاسُ كَمَا هُوَ الْأَشْهَرُ فِي إطْلَاقِ النَّوَاجِذِ فِي اللُّغَةِ ، وَلِلْإِنْسَانِ أَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ فِي أَقْصَى الْأَسْنَانِ بَعْدَ الْأَرْحَاءِ ، وَيُقَالُ : ضِرْسُ الْحُلُمِ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَكَمَالِ الْعَقْلِ .

فَصْلٌ ( حُكْمُ تَوْبَةِ الْكَافِرِ مِنْ الْمَعَاصِي دُونَ الْكُفْرِ وَالْعَكْسِ ) .
وَلَا تَصِحُّ تَوْبَةُ كَافِرٍ مِنْ مَعْصِيَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلًا .
وَقِيلَ : تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْكُفْرِ بِالْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ ، وَمِنْهُ بِالْإِسْلَامِ ، وَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ ، وَهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ( أَحَدُهُمَا ) يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } أَيْ : يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ انْدَرَجَ فِي ضِمْنِ الْمُحَرَّمِ الْأَكْبَرِ فَسَقَطَ بِسُقُوطِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَرِجُ وَيَسْقُطُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ تَوْبَتِهِ مِنْهُ ؟ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَلَمْ أَجِدْهُ صَرِيحًا فِي كَلَامِهِمْ ، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ ابْنِ حَامِدٍ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْغُفْرَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْخَبَرَ إلَّا حُجَّةً لِمَنْ اعْتَبَرَ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ أَعْمَالًا صَالِحَةً ، وَإِنَّهُ يَجِيءُ عَلَى مَقَالَةِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَشْهَرَ خِلَافُهُ .
( وَالثَّانِي ) : لَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ عَنْ أَحْمَدَ رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّقُولُ وَالنُّصُوصُ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، إنَّهُ إنْ تَابَ مِنْ جَمِيعِ مَعَاصِيهِ غُفِرَ لَهُ ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ .
وَإِنْ كَانَ ذَاهِلًا عَنْ الْإِصْرَارِ وَالْإِقْلَاعِ إمَّا نَاسِيًا ، أَوْ ذَاكِرًا غَيْرَ مُرِيدٍ لِلْفِعْلِ وَلَا لِلتَّرْكِ غُفِرَ لَهُ أَيْضًا وَالْحَدِيثَانِ يَأْتَلِفَانِ عَلَى هَذَا يَعْنِي حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ

الْعَاصِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ يَا عَمْرُو { أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أُنَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ : أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا ، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ } قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : فَالْإِسْلَامُ لِتَضَمُّنِهِ التَّوْبَةَ الْمُطْلَقَةَ يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُنَافِي هَذَا الِاقْتِضَاءَ وَهُوَ الْإِصْرَارُ كَمَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مَا لَمْ يُنَاقِضْهُ كُفْرٌ مُتَّصِلٌ ، فَالْإِصْرَارُ فِي الذُّنُوبِ كَالِاعْتِقَادِ فِي التَّصْدِيقِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ بَلْ الْإِسْلَامُ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِنْ نَقِيضِهِ وَهُوَ الشِّرْكُ ، وَالْكُفْرُ لَا تَوْبَةً مُطْلَقَةً ، حَتَّى يُوجِبَ مَغْفِرَةً مُطْلَقَةً وَلَوْ تَضَمَّنَ تَوْبَةً مُطْلَقَةً فَإِنَّمَا يُوجِبُ مَغْفِرَةً مُطْلَقَةً ، إذَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْمُحَرَّمُ ، أَمَّا إذَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ بَلْ تَوَقَّفَ فِيهِ فَلَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ فَكَيْفَ يَسْقُطُ ؟ يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ قَالَ : كَمَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ .
وَهَذَا يَكْفِي إذَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَلَوْ ذَكَرَهُ وَتَوَقَّفَ فِيهِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا عَنْ عَمَلِ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ ، فَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ بِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَا رَفَعَ عَمَلَ الْمُقْتَضِي بِالْكُلِّيَّةِ وَهُنَاكَ لَمْ يَرْفَعْهُ مُطْلَقًا فَلَيْسَ هُوَ نَظِيرُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْثِيرُ التَّوَقُّفِ فِي الْأَمْرِ الْخَاصِّ وَهَذَا

حَاصِلٌ ، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : فَالْإِسْلَامُ لِتَضَمُّنِهِ التَّوْبَةَ الْمُطْلَقَةَ يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يُنَافِي هَذَا الِاقْتِضَاءَ وَهُوَ تَوَقُّفُهُ فِي بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ ذِكْرِهَا فَلَمْ يَنْدَمْ وَلَمْ يُقْلِعْ ، كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يُوجِبُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مَا لَمْ يُنَاقِضْهُ تَوَقُّفٌ فِي بَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فَلَمْ يَنْدَمْ وَلَمْ يُقْلِعْ ، وَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا لِلْقَوْلِ الثَّانِي وَمُوَافِقًا لِقَوْلِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ إنَّهُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ .
هَذَا إنْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَتَضَمَّنُ تَوْبَةً مُطْلَقَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ، وَلِمَنْ قَالَ بِالْغُفْرَانِ أَنْ يَحْمِلَ خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى النِّفَاقِ فَيُسْلِمُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا ، وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَكَانَ قَدْ فَعَلَ خَيْرًا وَإِحْسَانًا فَهَلْ يُكْتَبُ لَهُ فِي إسْلَامِهِ مَا عَمِلَهُ فِي كُفْرِهِ ؟ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ إنْ قُلْنَا : يُخَفَّفُ عَنْ الْكَافِرِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِمَا عَمِلَهُ فِي كُفْرِهِ ، أَوْ ثَبَتَ خَبَرُ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي كُتِبَ لَهُ ذَلِكَ فِي إسْلَامِهِ وَإِلَّا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ .
وَحَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ حَكِيمٍ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّهُ { سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمُورٍ كَانَ يَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ لَهُ : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ } وَإِنْ لَمْ يُكْتَبْ لَهُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْخَيْرِ وَإِسْلَامِهِ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا ، وَمَحَا عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا ، وَكَانَ عَمَلُهُ بَعْدُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ .
وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ

اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرِيبِ حَدِيثِ مَالِكٍ وَرَوَاهُ عَنْهُ مِنْ تِسْعِ طُرُقٍ ، وَثَبَتَ فِيهَا كُلِّهَا أَنَّ الْكَافِرَ إذَا حَسُنَ إسْلَامُهُ يُكْتَبُ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ كُلُّ حَسَنَةٍ عَمِلَهَا فِي الشِّرْكِ ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَصِلْ سَنَدَهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ { كَتَبَ اللَّهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا } وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ } وَقَدْ فُسِّرَ حُسْنُ الْإِسْلَامِ هُنَا بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا ، وَبَاطِنًا لَا يَكُونُ مُنَافِقًا وَلَعَلَّ يُؤَيِّدُ مَنْ قَالَ بِمِثْلِهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَقَدْ يَقُولُ مَنْ قَالَ بِحُسْنِ الْإِسْلَامِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْكُفْرِ أَنْ يَقُولَ : حُسْنُ الْإِسْلَامِ هُنَا أَخَصُّ وَأَيْضًا بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ وَيَقُولُ : هَذَا أَخَصُّ مِنْ الظَّوَاهِرِ فِي الْمُضَاعَفَةِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَهُوَ أَوْلَى لَكِنْ لَا أَعْرِفُهُ قِيلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَلَا يَجُوزُ لَوْمُ التَّائِبِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ قَالَ وَإِذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ أَظْهِرْ لَهُ الْخَيْرَ .

فَصْلٌ ( فِي مَيْلِ الطَّبْعِ إلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَالنِّيَّةِ ، وَالْعَزْمِ ، وَالْإِرَادَةِ لَهَا وَمَا يُعْفَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ ) .
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَمَيْلُ الطَّبْعِ إلَى الْمَعْصِيَةِ بِدُونِ قَصْدِهَا لَيْسَ إثْمًا فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ الْمَعْصِيَةَ أَثِمَ ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِعْلٌ ، وَلَا قَوْلٌ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : حَدِيثُ النَّفْسِ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ فَهُوَ إذَا صَارَ نِيَّةً وَعَزْمًا وَقَصْدًا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ لِلْفِعْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ تُوجِبُ وُقُوعَ الْمَقْدُورِ فَإِذَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتًا اسْتَلْزَمَ مُوَالَاةَ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةَ أَعْدَائِهِ { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
{ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } .
فَهَذَا الِالْتِزَامُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ .
وَمِنْ جِهَةِ ظَنِّ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ غَلِطَ غَالِطُونَ كَمَا غَلِطَ آخَرُونَ فِي جَوَازِ وُجُودِ إرَادَةٍ جَازِمَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ بِدُونِ الْفِعْلِ حَتَّى تَنَازَعُوا هَلْ يُعَاقَبُ عَلَى الْإِرَادَةِ بِلَا عَمَلٍ ؟ قَالَ : وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْهِمَّةَ الَّتِي لَمْ يُقْرَنْ بِهَا فِعْلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْهَامُّ لَيْسَتْ إرَادَةً جَازِمَةً وَأَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَعَهَا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَالْعَفْوُ وَقَعَ عَمَّنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ ، وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَا عَمَّنْ أَرَادَ ، وَفَعَلَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ قِيَامِ مُرَادِهِ كَاَلَّذِي أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ فَقَاتَلَهُ حَتَّى قُتِلَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ هَذَا يُعَاقَبُ ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ ، وَفَعَلَ الْمَقْدُورَ مِنْ الْمُرَادِ .
هَذَا كَلَامُهُ .
وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ لِابْنِ شِهَابٍ الْعُكْبَرِيِّ الْعَوْدُ الْمُوجِبُ

لِلْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْعَزْمُ هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا } قِيلَ : لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِحَدِيثِ النَّفْسِ بِانْفِرَادِهِ وَإِنَّمَا يُوجِبُهَا بِالظِّهَارِ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْخِلَافُ فِي الصَّبِيِّ الشَّهِيدِ : نِيَّةُ الْمَعْصِيَةِ وَاعْتِقَادُهَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَا لَمْ يَفْعَلْهَا ، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ فِيمَا إذَا فَكَّرَ الصَّائِمُ فَأَنْزَلَ أَنَّهُ يَأْثَمُ عَلَى النِّيَّةِ وَيُثَابُ عَلَيْهَا ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ .
وَجَاءَ النَّهْيُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْأَمْرُ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْآيَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَلَيْهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا ذَلِكَ ، وَأَمَّا هَلْ يُفْطِرُ بِذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ ؟ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَوْ أَمْذَى الْأَشْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ عَمَلًا بِالْأَصْلِ وَلَا نَصَّ فِيهِ ، وَلَا إجْمَاعَ ، وَهُوَ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ وَتَكْرَارِ النَّظَرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى فَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمَا .
زَادَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ وَيُخَالِفُ ذَلِكَ فِي التَّحْرِيمِ إنْ تَعَلَّقَ بِأَجْنَبِيَّةٍ ، زَادَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَوْ الْكَرَاهَةُ إنْ كَانَ فِي زَوْجَةٍ ، كَذَا قَالَا ، وَلَا أَظُنُّ مَنْ قَالَ يُفْطِرُ بِذَلِكَ كَأَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَسْلَمُ ذَلِكَ .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجَزَمَ بِهِ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى أَظُنُّهُ أَوَّلَ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَحْضَرَ عِنْدَ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ صُورَةَ أَجْنَبِيَّةٍ مُحَرَّمَةٍ أَنَّهُ يَأْثَمُ وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ صَاحِبِ الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ نِيَّةً مُحَرَّمَةً

تَعَلَّقَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ عَارِيَّةً عَنْ فِعْلٍ مَعَ أَنَّ فِيهِ نَظَرًا .
وَأَمَّا فِي الْمُغْنِي فَاحْتَجَّ أَوَّلًا عَلَى عَدَمِ الْفِطْرِ بِقَوْلِهِ { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْخَبَرِ الْعَفْوَ فِي عَدَمِ الْفِطْرِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ ، وَالصَّوَابِ وَقَدْ لَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : يُخَالِفُهُ فِي التَّحْرِيمِ إنْ تَعَلَّقَ بِأَجْنَبِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمُحَرَّرِ قَدْ وَافَقَهُ فِي هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذَا الْخَبَرِ ، وَلَا مَنَعَ التَّأْثِيمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْفِكْرَةُ الْغَالِبَةُ فَلَا إثْمَ بِهَا وَلَا فِطْرَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } فَإِنْ قِيلَ هَلْ يُؤَاخَذُ الْإِنْسَانُ إنْ أَرَادَ الظُّلْمَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا هَمَّ بِذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ خَاصَّةً عُوقِبَ .
هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ بِقَتْلِ مُؤْمِنٍ عِنْدَ الْبَيْتِ وَهُوَ بِعَدَنَ أَبْيَنَ أَذَاقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : إنَّ الرَّجُلَ يَهُمُّ بِالْخَطِيئَةِ بِمَكَّةَ وَهُوَ بِأَرْضٍ أُخْرَى فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ تُكْتَبُ السَّيِّئَةُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا إلَّا بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ ، وَأَحْمَدُ عَلَى هَذَا يَرَى فَضِيلَةَ الْمُجَاوَرَة بِهَا .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ مَعْنَى { وَمَنْ يُرِدْ } مَنْ يَعْمَلُ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ : هَذَا قَوْلُ سَائِرِ مَنْ حَفِظْنَا عَنْهُ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ .

وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إذَا نَوَى الْخِيَانَةَ فِي الْوَدِيعَةِ لَا يَضْمَنُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ } وَلِأَنَّهُ لَمْ يَخُنْ فِيهَا بِقَوْلٍ ، وَلَا فِعْلٍ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ ، وَالْمُرَادُ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الضَّمَانُ ، وَفِيهِ وَجْهٌ يَضْمَنُ بِذَلِكَ ، وَمِثْلُهُ نِيَّةُ الْمُلْتَقِطِ الْخِيَانَةَ .
أَمَّا لَوْ نَوَى حَالَ الِالْتِقَاطِ بِأَنْ الْتَقَطَ قَاصِدًا لِلتَّمْلِيكِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ نِيَّةً مُجَرَّدَةً لِاقْتِرَانِهَا بِالْفِعْلِ .

وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ بِقَلْبِهِ لَمْ يَقَعْ وَلَوْ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ لِعَدَمِ اللَّفْظِ ، وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِابْنِ سِيرِينَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْمُعْتَمَدِ وَقَالَهُ غَيْرُهُ : وَلِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ عَلَى مَسَاعِي قَلْبِهِ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ إذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ صَرَفَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَصَرْفُهُ عَنْ نَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ قَالَ : الْقَاضِي وَلِلْقَلْبِ أَفْعَالٌ سِوَى حَدِيثِ النَّفْسِ بِالْفِعْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } .

قَالَ وَقَدْ يُؤَاخَذُ الْإِنْسَانُ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ نَحْوِ إرَادَةِ الْعَزْمِ وَالرِّضَى بِالْفِعْلِ ، وَالسُّخْطِ بِهِ ، وَالِاخْتِيَارِ لَهُ ، وَالنِّيَّةِ عَلَيْهِ ، وَمِثْلِ الْحَسَدِ ، وَالطَّمَعِ ، وَتَعْلِيقِ الْقَلْبِ بِمَا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ ، وَأَمَّا مَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فَهُوَ كَالْخَوَاطِرِ وَارِدَةً عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَيَأْتِي قَرِيبًا كَلَامُ الشَّيْخِ ، عَبْدِ الْقَادِرِ فِي رُكُونِ الْقَلْبِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَاسْتَعَانَ بِمَخْلُوقٍ أَيْ بِعَدَدِ السِّنِينَ الَّتِي كَانَ لَبِثَهَا ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، وَمَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا أَثِمَ فِي اعْتِقَادِهِ وَعَزْمِهِ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْهَمِّ ، وَالْعَزْمِ قَالَ الْمَازِرِيُّ : وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : مَذْهَبُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَكِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ هَذَا الْعَزْمَ يُكْتَبُ سَيِّئَةً ، وَلَيْسَتْ السَّيِّئَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلْهَا ، وَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْرُ خَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِنَابَةِ لَكِنَّ نَفْسَ الْإِصْرَارِ وَالْعَزْمِ مَعْصِيَةٌ فَكُتِبَتْ مَعْصِيَةً فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ مَعْصِيَةً ثَانِيَةً ، فَإِنْ تَرَكَهَا خَشْيَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كُتِبَتْ حَسَنَةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ { إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي } فَصَارَ تَرْكُهُ لَهَا

لِخَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُجَاهَدَتُهُ نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ فِي ذَلِكَ وَعِصْيَانُهُ هَوَاهُ حَسَنَةً ، فَأَمَّا الْهَمُّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ فَهِيَ الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا تُوَطَّنُ النَّفْسُ عَلَيْهَا وَلَا يَصْحَبُهَا عَقْدٌ وَلَا نِيَّةٌ وَلَا عَزْمٌ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ خِلَافًا فِيمَا إذَا تَرَكَهَا لِغَيْرِ خَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ لِخَوْفِ النَّاسِ هَلْ تُكْتَبْ حَسَنَةً ؟ قَالَ : لَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى تَرْكِهَا الْحَيَاءُ وَهَذَا ضَعِيفٌ .
هَذَا كَلَامُهُ .
( وَجَرَّائِي ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ مَعْنَاهُ مِنْ أَجْلِي .
وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ عَرَفَ دَلِيلَ الْقَوْلَيْنِ مَنْ يَرَى الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَمَنْ يَرَى عَدَمَهَا مِمَّا سَبَقَ مَنْ لَا يَرَى الْمُؤَاخَذَةَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي الْخَبَرَ } وَبِحَدِيثِ الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ .
وَقَدْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ الْحَرَمِ : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
فَخَصَّهُ بِذَلِكَ .
وَمَنْ يَرَى الْمُؤَاخَذَةَ فَقَدْ يُجِيبُ عَنْ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ إمَّا بِأَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ عَمَلٌ فَيَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ ، أَوْ يَقُولُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَحِلِّ النِّزَاعِ بِعُمُومِهِ فَيُخَصُّ بِأَدِلَّتِنَا .
وَعَنْ الْخَبَرِ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ ، وَإِنْ سُلِّمَ بِظُهُورِهِ تُرِكَ بِأَدِلَّتِنَا .
وَعَنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إمَّا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ { وَمَنْ يُرِدْ } أَيْ يَعْمَلُ كَمَا سَبَقَ أَوْ بِأَنَّهُ خَصَّهُ لِلْعَذَابِ الْخَاصِّ وَهُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ لَا أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُؤَاخَذَةِ الْمُطْلَقَةِ بَلْ خَصَّهُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُؤَاخَذَةِ الْخَاصَّةِ .
وَمَنْ يَرَى الْمُؤَاخَذَةَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14