الكتاب : الآداب الشرعية
المؤلف : شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ

الرِّبَا الصَّرِيحَ خَيْرٌ مِنْ التَّسَيُّبِ الْحَلَالِ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ اللَّحْمِ الَّذِي تُصَدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ : { هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ } طَرِيقٌ مُسْتَعْمَلٌ ، وَيَتَعَيَّنُ فِي كُلِّ عَيْنٍ تَحْرُمُ فِي حَقِّنَا لِمَعْنًى إذَا مَلَكَهَا مَنْ تُبَاحُ لَهُ لِمَعْنًى مُبِيحٍ وَنَقَلَهَا ذَلِكَ إلَيْنَا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مَلَكْنَاهَا ، وَالْعَامَّةُ لَا تَرْضَى ذَلِكَ ، وَتَذُمُّ الْعَالِمَ الَّذِي يَسْلُكُ هَذَا الْمَسْلَكَ .
وَسَمِعَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ كَلَامَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَحَرَكَتَهُمْ ، فَقَالَ : يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ مَا هَذِهِ الْحَرَكَةُ عَلَيْكُمْ بِالْوَقَارِ .
وَرَأَى الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِهِمْ بَعْضُ الْخِفَّةِ فَقَالَ : هَكَذَا تَكُونُونَ يَا وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ ؟ .

وَقَالَ سُفْيَانُ : سَمَاعُ الْحَدِيثِ عِزٌّ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا ، وَرَشَادٌ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ الْآخِرَةَ ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِلشَّعْبِيِّ : يَا شَعْبِيُّ عَهْدِي بِك وَإِنَّك لَغُلَامٌ فِي الْكُتَّابِ فَحَدِّثْنِي فَمَا بَقِيَ مَعِي شَيْءٌ إلَّا وَقَدْ مَلِلْته سِوَى الْحَدِيثِ الْحَسَنِ ، وَأَنْشَدَ : وَمَلِلْت إلَّا مِنْ لِقَاءِ مُحَدِّثٍ حَسَنِ الْحَدِيثِ يَزِيدُنِي تَعْلِيمَا وَقَالَ الْقَاضِي الْمُعَافِي بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ لِتَفَقُّهِهِ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ قَالَ : نَظِيرُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الرُّومِيِّ .
وَلَقَدْ سَئِمْت مَآرِبِي وَكَانَ أَطْيَبَهَا الْحَدِيثُ إلَّا الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ مِثْلُ اسْمِهِ أَبَدًا حَدِيثُ وَبَعْضُ النَّاسِ يَتْرُكُ الصِّفَاتِ الْمَطْلُوبَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرُّتَبِ الْعَالِيَةِ اتِّكَالًا عَلَى حَسَبِهِ وَنَسَبِهِ ، وَفِعْلِ آبَائِهِ فَهَذَا أَعْمَى فَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ : لَسْنَا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنَا أَبَدًا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ : يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ كُنْ أَخَا أَدَبِ مِنْ عَجَمٍ كُنْت أَوْ مِنْ الْعَرَبِ إنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَأَنَذَا لَيْسَ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي وَأَحْسَنَ ابْنُ الرُّومِيِّ فِي قَوْلِهِ : فَلَا تَفْتَخِرْ إلَّا بِمَا أَنْتَ فَاعِلٌ وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَجْدَ يُورَثُ بِالنَّسَبِ فَلَا لَا يَسُودُ الْمَرْءُ إلَّا بِفِعْلِهِ وَإِنْ عَدَّ آبَاءً كِرَامًا ذَوِي حَسَبِ إذَا الْعُودُ لَمْ يُثْمِرْ وَإِنْ كَانَ شُعْبَةً مِنْ الثَّمَرَاتِ اعْتَدَّهُ النَّاسُ فِي الْحَطَبِ وَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ فِي عَصَمَ : وَقَوْلُهُ : مَا وَرَاءَك يَا عِصَامُ ؟ هُوَ اسْمُ حَاجِبِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَفِي الْمَثَلِ كُنْ عِصَامِيًّا وَلَا تَكُنْ عِظَامِيًّا يُرِيدُونَ بِهِ قَوْلُهُ : نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ

عِصَامَا وَصَيَّرَتْهُ مَلِكًا هُمَامَا وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ وَالْإِقْدَامَا وَلِلْأَصْلِ تَأْثِيرٌ ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ : مَنْ طَابَ أَصْلُهُ حَسُنَ مَحْضَرُهُ ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَحْتَجُّ لِتَرْكِهِ بِكِبَرِ السِّنِّ ، أَوْ عَدَمِ الذَّكَاءِ ، أَوْ الْقِلَّةِ وَالْفَقْرِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَمِنْ ذَلِكَ وَسْوَاسُ الشَّيْطَانِ يُثَبِّطُونَ بِهَا .
وَمَنْ نَظَرَ فِي حَالِ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ وَجَدَهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إلَى هَذِهِ الْأَعْذَارِ ، وَلَا يُعَرِّجُونَ عَلَيْهَا ، وَقَدْ قِيلَ وَمَنْ يَجْتَهِدْ فِي نَيْلِ أَمْرٍ وَيَصْطَبِرْ يَنَلْهُ وَإِلَّا بَعْضَهُ إنْ تَعَسَّرَا فَمَا دُمْت حَيًّا فَاطْلُبْ الْعِلْمَ وَالْعُلَى وَلَا تَأْلُ جُهْدًا أَنْ تَمُوتَ فَتُعْذَرَا وَلَكِنْ يَنْبَغِي اغْتِنَامُ أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ النَّحَّاسُ قَوْلَ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ : بَادِرْ إذَا الْحَاجَاتُ يَوْمًا أَمْكَنَتْ بِوُرُودِهِنَّ مَوَارِدَ الْآفَاتِ كَمْ مِنْ مُؤَخِّرِ حَاجَةٍ قَدْ أَمْكَنَتْ لِغَدٍ وَلَيْسَ غَدٌ لَهُ بِمُوَاتِ تَأْتِي الْحَوَادِثُ حِينَ تَأْتِي جَمَّةً وَنَرَى السُّرُورَ يَجِيءُ فِي الْفَلَتَاتِ وَكَانَ الشَّاشِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يُنْشِدُ : تَعَلَّمْ يَا فَتَى وَالْعُودُ رَطْبٌ وَطِينُك لَيِّنٌ وَالطَّبْعُ قَابِلْ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيَّ الْحَنْبَلِيَّ تِلْمِيذَ أَبِي الْخَطَّابِ الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ قَالَ أَنْشَدَنِي : أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إلَّا بِسِتَّةٍ سَأُنْبِيكَ عَنْ مَكْنُونِهَا بِبَيَانِ ذَكَاءٍ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ وَبُلْغَةٍ وَإِرْشَادِ أُسْتَاذٍ وَطُولِ زَمَانِ قَالَ وَأَنْشَدَنِي رَحِمَهُ

اللَّهُ تَعَالَى : تَمَنَّيْت أَنْ تُمْسِي فَقِيهًا مُنَاظِرًا بِغَيْرِ عَنَاءٍ وَالْجُنُونُ فُنُونُ وَلَيْسَ اكْتِسَابُ الْمَالِ دُونَ مَشَقَّةٍ تَلَقَّيْتهَا فَالْعِلْمُ كَيْفَ يَكُونُ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : مَا يَتَنَاهَى فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا عَاشِقٌ ، وَالْعَاشِقُ يَنْبَغِي أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَكَارِهِ .
وَمِنْ ضَرُورَةِ الْمُتَشَاغِلِ بِهِ الْبُعْدُ عَنْ الْكَسْبِ ، وَقَدْ فُقِدَ التَّفَقُّدُ لَهُمْ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَمِنْ الْإِخْوَانِ ، وَلَازَمَهُمْ الْفَقْرُ ، وَالْفَضَائِلُ يُنَادَى عَلَيْهَا : { هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } فَلَمَّا أَجَابَتْ مَرَارَةُ الِابْتِلَاءِ قَالَتْ : لَا تَحْسَبْ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا ثُمَّ ذَكَرَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَشَأْنِهِ وَقَالَ : فَمَا شَاعَ لَهُ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ جُزَافًا ، وَلَا تَرَدَّدَتْ الْأَقْدَامُ إلَى قَبْرِهِ إلَّا لِمَعْنًى عَجِيبٍ ، فَيَا لَهُ ثَنَاءً مَلَأَ الْآفَاقَ وَجَمَالًا زَيَّنَ الْوُجُودَ ، وَعِزًّا نَسَخَ كُلَّ ذُلٍّ ، هَذَا فِي الْعَاجِلِ ، وَثَوَابُ الْآجِلِ لَا يُوصَفُ ، وَتَلْمَحُ قُبُورَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لَا تُعْرَفُ وَلَا تُزَارُ ، تَرَخَّصُوا وَتَأَوَّلُوا وَخَالَطُوا السَّلَاطِينَ فَذَهَبَتْ بَرَكَةُ الْعِلْمِ وَمُحِيَ الْجَاهُ ، وَوَرَدُوا عِنْدَ الْمَوْتِ حِيَاضَ النَّدَمِ ، فَيَالَهَا حَسَرَاتٍ لَا تَتَلَافَى ، وَخُسْرَانًا لَا يَنْجَبِرُ ، كَانَتْ صُحْبَةُ اللَّذَّاتِ كَطَرْفَةِ عَيْنٍ ، وَلَازَمَ الْأَسَفُ دَائِمًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَا نَفْسُ مَا هُوَ إلَّا صَبْرُ أَيَّامِ كَأَنَّ مُدَّتَهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامِ يَا نَفْسُ جُوزِي عَنْ الدُّنْيَا مُبَادِرَةً وَخَلِّ عَنْهَا فَإِنَّ الْعَيْشَ قُدَّامِي ثُمَّ أَيُّهَا الْعَالِمُ الْفَقِيرُ أَيَسُرُّك مُلْكُ سُلْطَانٍ مِنْ السَّلَاطِينِ ، وَأَنَّ مَا تَعْلَمُهُ مِنْ الْعِلْمِ لَا تَعْلَمُهُ ؟ كَلًّا مَا أَظُنُّ الْمُتَيَقِّظَ يُؤْثِرُ هَذَا ، ثُمَّ أَنْتَ إذَا وَقَعَ لَك خَاطِرٌ مُسْتَحْسَنٌ ، أَوْ مَعْنًى عَجِيبٌ تَجِدُ لَذَّةً لَا يَجِدُهَا مُلْتَذٌّ بِاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ ،

فَقَدْ حُرِمَ مِنْ رِزْقِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ مَا قَدْ رُزِقْت .
وَقَدْ شَارَكْتَهُمْ فِي قِوَامِ الْعَيْشِ ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْفُضُولُ الَّتِي إذَا حُذِفَتْ لَمْ تَكَدْ تَضُرُّ ، ثُمَّ هِيَ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ فِي بَابِ الْآخِرَةِ غَالِبًا وَأَنْتَ عَلَى السَّلَامَةِ فِي الْأَغْلَبِ ، فَتَلَمَّحْ يَا أَخِي عَوَاقِبَ الْأَحْوَالِ ، وَاقْمَعْ الْكَسَلَ الْمُثَبِّطَ عَنْ الْفَضَائِلِ .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَضَائِلَ لَا تُنَالُ بِالْهُوَيْنَا ، فَبَارَكَ اللَّهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ، فَنَحْنُ الْأَغْنِيَاءُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ ، فَإِنْ عَمَّرُوا دَارًا سَخَّرُوا الْفَعَلَةَ ، وَإِنْ جَمَعُوا مَالًا فَمِنْ وُجُوهٍ لَا تَصْلُحُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخَافُ أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُعْزَلَ أَوْ يُسَمَّ ، فَعَيْشُهُمْ نَغَصٌ ، الْعِزُّ فِي الدُّنْيَا لَنَا لَا لَهُمْ ، وَإِقْبَالُ الْخَلْقِ عَلَيْنَا ، وَفِي الْآخِرَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ تَفَاوُتٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْعَجَبُ لِمَنْ شَرُفَتْ نَفْسُهُ حَتَّى طَلَبَ الْعِلْمَ إذْ لَا تَطْلُبُهُ إلَّا نَفْسٌ شَرِيفَةٌ كَيْفَ يَذِلُّ لِنَذْلٍ ، مَا عِزُّهُ إلَّا بِالدُّنْيَا ، وَلَا فَخْرُهُ إلَّا بِالْمَسْكَنَةِ ، وَقَالَ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا عَيْشٌ إلَّا لِعَالِمٍ أَوْ زَاهِدٍ قَالَ وَإِذَا قَنَعَا بِمَا يَكُفُّ لَمْ يَتَمَنْدَلْ بِهِمَا سُلْطَانٌ ، وَلَمْ يُسْتَخْدَمَا بِالتَّرْدَادِ إلَى بَابِهِ ، وَلَمْ يَحْتَجْ الزَّاهِدُ إلَى تَصَنُّعٍ ، وَالْعَيْشُ اللَّذِيذُ الْمُنْقَطِعُ الَّذِي لَا يُتَمَنْدَلُ بِهِ وَلَا يُحْمَلُ مِنْهُ ، وَمَا أَكْثَرَ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْفَهْمِ حَتَّى الشُّعَرَاءُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : هَمُّهَا الْعِطْرُ وَالْفِرَاشُ وَيَعْلُو هَا لُجَيْنٌ وَلُؤْلُؤٌ مَنْظُومُ وَهَذَا قَاصِرٌ فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَتْ هَذَا سَوْدَاءُ لِحُسْنِهَا ، إنَّمَا الْمَادِحُ هُوَ الْقَائِلُ : أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْت زَائِرًا وَجَدْت بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبْ وَكَقَوْلِ الْآخَرِ : أَدْعُو إلَى هَجْرِهَا قَلْبِي فَيَتْبَعُنِي حَتَّى إذَا قُلْت هَذَا صَادِقٌ نَزَعَا وَلَوْ كَانَ صَادِقًا فِي الْمَحَبَّةِ لَمَا كَانَ لَهُ قَلْبٌ يُخَاطِبُهُ ، وَإِذَا خَاطَبَهُ فِي الْهَجْرِ .
لَمْ يُوَافِقْهُ ، إنَّمَا الْمُحِبُّ الصَّادِقُ هُوَ الْقَائِلُ : يَقُولُونَ لَوْ عَاتَبْت قَلْبَك لَارْعَوَى فَقُلْت وَهَلْ لِلْعَاشِقَيْنِ قُلُوبُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَالْبَيْتُ الثَّانِي لِامْرِئِ الْقَيْسِ قَالَهُ فِي أُمِّ جُنْدُبٍ .
وَقَالَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ السِّرُّ الْمَصُونُ : مِثْلُ الْمُحِبِّ لِلْعِلْمِ مِثْلُ الْعَاشِقِ ، فَإِنَّ الْعَاشِقَ يَهْتَمُّ

بِمَعْشُوقِهِ ، وَيَهِيمُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُحِبُّ لِلْعِلْمِ ، فَكَمَا أَنَّ الْعَاشِقَ يَبِيعُ أَمْلَاكَهُ ، وَيُنْفِقُهَا عَلَى مَعْشُوقِهِ فَيَفْتَقِرُ كَذَلِكَ مُحِبُّ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَسْتَغْرِقُ فِي طَلَبِهِ الْعُمُرَ فَيَذْهَبُ مَالُهُ ، وَلَا يَتَفَرَّغُ لِلْكَسْبِ ، فَإِذَا احْتَاجَ دَخَلَ فِي مُدَاخِلٍ صَعْبَةٍ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِالسَّلَاطِينِ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي أَشْغَالِهِمْ ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ الْعَوَامّ الْبُخَلَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْجِعُ عَنْ الْجِدِّ فِي الْعِلْمِ إلَى الْكَسْبِ .

وَقَدْ كَانَ لِلْعُلَمَاءِ قَدِيمًا حَظٌّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يُغْنِيهِمْ ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعِيشُ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ كَأَبِي عُبَيْدٍ مَعَ ابْنِ طَاهِرٍ ، وَالزَّجَّاجِ مَعَ ابْنِ وَهْبٍ ، ثُمَّ كَانَ لِلْعُلَمَاءِ مَنْ يُرَاعِيهِمْ مِنْ الْإِخْوَانِ حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : لَوْلَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ مَا اتَّجَرْت ، وَكَانَ يُبْعَثُ بِالْمَالِ إلَى الْفُضَيْلِ وَغَيْرِهِمْ ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَصَارَ أَقْوَامٌ مِنْ التُّجَّارِ يَفْتَقِدُونَ الْعُلَمَاءَ بِالزَّكَاةِ فَيَنْدَفِعُ الزَّمَانُ ، وَقَدْ وَصَلْنَا إلَى زَمَانٍ تَقَطَّعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَسْبَابُ حَتَّى لَوْ احْتَاجَ الْعَالِمُ فَطَلَبَ لَمْ يُعْطَ ، فَأَوْلَى النَّاسِ بِحِفْظِ الْمَالِ وَتَنْمِيَةِ الْيَسِيرِ مِنْهُ وَالْقَنَاعَةِ بِقَلِيلِهِ تَوْفِيرًا لِحِفْظِ الدِّينِ وَالْجَاهِ ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ مِنَنِ الْعَوَامّ الْأَرَاذِلِ الْعَالِمُ الَّذِي فِيهِ دِينٌ وَلَهُ أَنَفَةٌ مِنْ الذُّلِّ .
وَقَدْ قَالَ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ : إنَّ الرَّجُلَ لَيَسْقِينِي شُرْبَةً مِنْ مَاءٍ فَكَأَنَّهُ دَقَّ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِي ، وَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا افْتَقَرُوا لَا يَرَوْنَ سُؤَالَ النَّاسِ فَيَخْرُجُونَ إلَى جَبَلٍ فَيَمُوتُونَ فِيهِ .
فَإِذَا اتَّفَقَ لِلْعَالِمِ عَائِلَةٌ ، وَحَاجَاتٌ وَكَفَّتْ أَكُفُّ النَّاسِ عَنْهُ ، وَمَنَعَتْهُ أَنَفَتُهُ مِنْ الذُّلِّ هَلَكَ ، فَالْأَوْلَى لِمِثْلِ هَذَا ( الْعَالِمِ ) فِي هَذَا الزَّمَانِ الْمُظْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي كَسْبٍ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ نَسَخَ بِأُجْرَةٍ ، وَيُدَبِّرُ مَا يُحَصِّلُ لَهُ ، وَيَدَّخِرُ الشَّيْءَ لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى نَذْلٍ .
وَقَدْ يَتَّفِقُ لِلْعَالِمِ مِرْفَقٌ ، فَيُنْفِقُ ، وَلَا يَدَّخِرُ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْحَالِ وَنِسْيَانًا لِمَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنْ انْقِطَاعِ الْمِرْفَقِ وَطَبْعًا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْبَذْلِ وَالْكَرَمِ ، فَيُخْرِجُ مَا فِي يَدِهِ فَيَنْقَطِعُ مِرْفَقُهُ فَيُلَاقِي مِنْ الضَّرَرِ ، أَوْ مِنْ الذُّلِّ مَا يَكُونُ الْمَوْتُ دُونَهُ .
فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى الْحَالِ الْحَاضِرَةِ

، بَلْ يُصَوِّرُ كُلَّ مَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ .
وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَنْظُرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ ، فَكَمْ مِنْ مُخَاصِمٍ سَبَّ وَشَتَمَ وَطَلَّقَ ، فَلَمَّا أَفَاقَ نَدِمَ ، وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ يَزْهَدُ وَدَفَنَ كُتُبَهُ فَلَمْ يَصْبِرْ عَنْ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ فَغَلِطَ فَضَعَّفُوهُ ، وَقَدْ تَزَهَّدَ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، فَأَخْرَجُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ ، ثُمَّ احْتَاجُوا فَدَخَلُوا فِي مَكْرُوهَاتٍ ، وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يَقْدِرُ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفًا فَتَزَهَّدَ ، وَفَرَّقَهَا فَنَزَلَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فَبَعَثَ إلَى بَعْضِ أَرْبَابِ الدُّنْيَا يَطْلُبُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ يَا شِبْلِيُّ : اُطْلُبْ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ لَهُ : أَنَا أَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَطْلُبُ الدُّنْيَا مِنْ خَسِيسٍ مِثْلِك ، فَبَعَثَ إلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : إنْ كَانَ بَعَثَ إلَيْهِ اتِّقَاءَ ذَمِّهِ فَقَدْ أَكَلَ الشِّبْلِيُّ الْحَرَامَ ، وَقَدْ تَزَهَّدَ أَبُو حَامِدٍ الطُّوسِيُّ ، وَأَقَامَ سِنِينَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ عَادَ إلَى وَطَنِهِ فَبَنَى دَارًا كَبِيرَةً وَغَرَسَ بُسْتَانًا .
فَمِثْلُ هَذَا الْمُتَزَهِّدِ الْمُخْرِجِ لِمَالِهِ كَمُعِيرٍ لِبَاسَهُ ، كَمِثْلِ مَاءٍ عُمِلَ لَهُ سَكْرٌ فَإِنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْجَرَيَانِ ، ثُمَّ يُعْمَلُ فِي بَاطِنِ السَّكْرِ إلَى أَنْ يَنْقُبَ ، وَلِهَذَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى شُبَّانًا قَدْ تَنَسَّكُوا يَقُولُ : الْمَوْتُ الْمَوْتُ جَاءَهُمْ ، خَوْفًا مِنْ تَغْيِيرِ حَالِهِمْ .
وَكَذَلِكَ مُخْرِجُ الْمَالِ فِي حَالِ الْغِنَى إذَا لَمْ يَحْسِبْ وُقُوعَ الْفَقْرِ .
وَقَدْ رَأَيْنَا أَبَا الْحَسَنِ الْغَزْنَوِيَّ وَقَدْ بَنَى لَهُ رِبَاطًا بِبَغْدَادَ وَوُقِفَتْ عَلَيْهِ قَرْيَةٌ فَكَانَ يَقُولُ : يَدْخُلُ لِي فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّ مِائَةِ دِينَارٍ فَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِي وَلِأَوْلَادِي ، وَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِأَهْلِ الرِّبَاطِ ، وَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِلْمَجْلِسِ ، فَكَانَ يُعْطِي الْعُلَمَاءَ وَالْقُرَّاءَ وَالزُّهَّادَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ أَحَدٌ حَتَّى إنَّهُ أَفْطَرَ فِي

رَمَضَانَ عِنْدَ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ الزَّيْنِيِّ ، فَبَعَثَ إلَيْهِ خِلْعَةً قَبْلَ الْعِيدِ وَهَذِهِ عَادَتُهُمْ فِيمَنْ يُفْطِرُ عِنْدَهُمْ فَحَدَّثَنِي الْحَاجِبُ أَنَّهُ حَمَلَهَا إلَيْهِ فَقَالَ : لَا أَقْبَلُ ، قَالَ : فَقَبَّحْت لَهُ هَذَا وَبَالَغْت حَتَّى قَبِلَ عَلَى مَضَضٍ .
وَكَانَ يَقُولُ : عُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسَةُ آلَافِ دِينَارٍ فَدَفَعْتهَا بِهَذِهِ الْأَصَابِعِ الْخَمْسِ ، وَقُلْت : لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا ، وَكَانَ يَظُنُّ دَوَامَ مَا هُوَ فِيهِ فَاتَّفَقَ مَوْتُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ فَأُحْضِرَ بَابَ الْحَاكِمِ وَوُكِّلَ بِهِ وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْقَرْيَةُ فَافْتَقَرَ ، فَحَدَّثَنِي مَحَاسِنُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ : كَانَ بَيْنَ الْغَزْنَوِيِّ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمُلَقَّبِ شَيْخُ الشُّيُوخِ وَحْشَةٌ .
فَلَمَّا افْتَقَرَ الْغَزْنَوِيُّ بَعَثَ مَعِي إلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَرُقْعَةٍ بِكَارَاتِ دَقِيقٍ فَجِئْت بِهَا إلَيْهِ ، فَقَالَ : لَا أَقْبَلُ ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ لِانْبِسَاطٍ كَانَ بَيْنَنَا ، فَقَالَ لِي : أَغْنِنِي أَنْتَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَخَمْسِ كَارَاتٍ ، فَالصِّبْيَانُ جِيَاعٌ ، وَكَانَ يَقُولُ : مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحِبُّ الْمَوْتَ فَمَاتَ قَرِيبًا .
وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ دِجْلَةَ قُرًى .

وَالْحَازِمُ مَنْ يَحْفَظُ مَا فِي يَدِهِ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : مَنْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ فَلْيَجْعَلْهُ فِي قَرْنِ ثَوْرٍ فَإِنَّهُ زَمَانٌ مَنْ احْتَاجَ فِيهِ كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْذُلُ دِينَهُ .
وَقَدْ كَانَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِأَصْبَهَانَ فَلَمَّا قُرِئَ عَهْدُهُ بَكَى وَقَالَ ابْنُ عَيْنٍ أَبِي تَرَانِي وَعَلَيَّ السَّوَادُ ؟ وَلَكِنْ مَا تَوَلَّيْت حَتَّى رَكِبَنِي الدَّيْنُ وَكَثُرَ الْعِيَالُ ، وَكَذَلِكَ يُحْكَى عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُضَاةِ .
وَقَدْ كَانَ الْمُتَوَكِّلُ يَبْعَثُ إلَى أَوْلَادِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْأُلُوفَ ، وَإِنَّمَا كَانَ صَالِحٌ سَخِيًّا ، فَالسَّخِيُّ الَّذِي لَا يَحْسَبُ إلَّا خَيْرًا لَا يَفِي سَخَاؤُهُ بِمَا يَلْقَى إذَا افْتَقَرَ .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي حَقِّ الْكَرِيمِ جِهَادٌ لِأَنَّهُ قَدْ أَلِفَ الْكَرَمَ ، كَمَا أَنَّ إخْرَاجَ مَا فِي يَدِ الْبَخِيلِ جِهَادٌ .
فَإِنَّمَا يَسْتَعِينُ الْكَرِيمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ بِذِكْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَنْذَالِ قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : لِمَ حَفِظَتْ الْفَلَاسِفَةُ الْمَالَ ؟ فَقَالَ : لِئَلَّا يَقِفُوا مَوَاقِفَ لَا تَلِيقُ بِهِمْ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَقَدْ رَأَيْت أَنَا بِبَغْدَادَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَدَخَلَ فَكَانَ الْخَلْقُ يَتَقَرَّبُونَ إلَى السَّلَاطِينِ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ وَهُوَ لَا يُبَالِي فَكُنْت أَغْبِطُهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى السَّلَاطِينِ يُذِلُّونَهُ وَيَحْتَقِرُونَهُ وَرُبَّمَا مَنَعُوهُ ، فَإِنْ أَعْطَوْهُ أَخَذُوا مِنْ دِينِهِ أَكْثَرَ قَالَ الرَّشِيدُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : أَتَيْنَاك فَانْتَفَعْنَا وَأَتَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَلَمْ نَنْتَفِعْ بِهِ ، وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : قَدْ كُنْت أُوتِيت فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ فَلَمَّا أَخَذْت مِنْ مَالِ أَبِي جَعْفَرٍ حُرِمْت ذَلِكَ .
وَإِنْ احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إلَى الْعَوَامّ بَخِلُوا فَإِنْ أَعْطَوْا تَضَجَّرُوا وَمَنُّوا .
وَقَلَّ مَنْ رَأَيْنَاهُ يُنَافِقُ ، أَوْ يُرَائِي ، أَوْ يَتَوَاضَعُ لِصَاحِبِ دُنْيَا إلَّا لِأَجْلِ الدُّنْيَا .
وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى كُلِّ مِحْنَةٍ ، قَالَ بِشْرٌ الْحَافِيُّ : لَوْ أَنَّ لِي دَجَاجَةً أَعُولُهَا خِفْت أَنْ أَكُونَ عَشَّارًا عَلَى الْجِسْرِ : فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَجْمَعَ هَمُّهُ لِيُقْبِلَ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِقَلْبٍ فَارِغٍ مِنْ الْهَمِّ وَبَعْدُ فَإِذَا صَدَقَتْ نِيَّةُ الْعَبْدِ ، وَقَصْدُهُ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَحَفِظَهُ مِنْ الذُّلِّ وَدَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } .
وَيَأْتِي كَلَامُ ابْنُ عَقِيلٍ نَحْوَ ثُلُثَيْ الْكِتَابِ فِي إخْرَاجِ الْمَالِ وَالْكَرَمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ أَيْضًا فِي كِتَابِ السِّرُّ الْمَصُونُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ سِبَاقِ وَتَحْصِيلِ

الْفَضَائِلِ ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا عَلَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي عِلْمٍ وَعَمَلٍ زَادَتْ الْمَرْتَبَةُ فِي دَارِ الْجَزَاءِ ، انْتَهَبَ الزَّمَانَ ، وَلَمْ يُضَيِّعْ لَحْظَةً وَلَمْ يَتْرُكْ فَضِيلَةً تُمْكِنُهُ إلَّا حَصَّلَهَا ، وَمَنْ وُفِّقَ لِهَذَا فَلْيَبْتَكِرْ زَمَانَهُ بِالْعِلْمِ ، وَلْيُصَابِرْ كُلَّ مِحْنَةٍ وَفَقْرٍ ، إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا يُرِيدُ ، وَلْيَكُنْ مُخْلِصًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ عَامِلًا بِهِ حَافِظًا لَهُ ، فَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْإِخْلَاصُ فَذَاكَ تَضْيِيعُ زَمَانٍ وَخُسْرَانُ الْجَزَاءِ ، وَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْعَمَلُ بِهِ فَذَاكَ يُقَوِّي الْحُجَّةَ عَلَيْهِ وَالْعِقَابَ لَهُ ، وَإِمَّا جَمَعَهُ مِنْ غَيْرِ حِفْظٍ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ مَا كَانَ فِي الصُّدُورِ لَا فِي الْقِمْطَرِ .
وَمَتَى أَخْلَصَ فِي طَلَبِهِ دَلَّهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَى أَنْ قَالَ : وَلْيَبْعُدْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ مَهْمَا أَمْكَنَ خُصُوصًا الْعَوَامَّ ، وَلْيَصُنْ نَفْسَهُ مِنْ الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ فَرُبَّمَا وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى فِتْنَةٍ ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي مَكَان لَا يَسْمَعُ فِيهِ أَصْوَاتَ النَّاسِ ، وَلْيُزَاحِمْ الْقُدَمَاءَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ مُنْتَهِبًا الزَّمَانَ فِي كُلِّ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَارٌّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى الْعَيْشِ مَعَهُ ، وَعِنْدَهُ وَإِنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا أَيَّامُ سَفَرٍ صَبَرَ عَلَى تَفَثِ السَّفَرِ وَوَسَخِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ قَالَ أَيْضًا : لَوْ صَدَقْت فِي الطَّلَبِ ، ( لَوَقَعْتَ ) عَلَى كَنْزِ الذَّهَبِ ، وَلَوْ وَجَدُوك مُسْتَقِيمًا ، مَا تَرَكُوك سَقِيمًا شِعْرٌ : وَرُبَّمَا غُوفِصَ ذُو غَفْلَةٍ أَصَحُّ مَا كَانَ وَلَمْ يَسْقَمْ يَا وَاضِعَ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ خَاطَبَك الْقَبْرُ وَلَمْ تَفْهَمْ خَاضُوا أَمْرَ الْهَوَى فِي فُنُونٍ فَزَادَهُمْ فِي اسْمِ هَوَاهُمْ حَرْفَ نُونِ وَقَالَ أَيْضًا : اعْلَمْ أَنَّ الرَّاحِلَةَ لَا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ لَا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ ، فَمَنْ زَرَعَ حَصَدَ ، وَمَنْ جَدَّ وَجَدَ : تَفَانَى الرِّجَالُ عَلَى حُبِّهَا وَمَا يَحْصُلُونَ عَلَى طَائِلِ لَا

يُعْجِبَنَّك لِينُهَا فَجِلْدُ الْحَيَّةِ كَالْحَرِيرِ ، وَلَقَدْ رَأَيْت كَيْفَ غَرَّتْ غَيْرَك وَالْعَاقِلُ بَصِيرٌ .
أَتَرَى يَنْفَعُ هَذَا الْعِتَابُ ؟ أَتَرَى يُسْمَعُ لِهَذَا الْعَذَلِ جَوَابٌ ؟ إذَا أَقْلَقَهُمْ الْخَوْفُ نَاحُوا ، وَإِذَا أَزْعَجَهُمْ الْوَجْدُ صَاحُوا ، وَإِذَا غَلَبَهُمْ الشَّوْقُ بَاحُوا .
شِعْرٌ : وَحُرْمَةِ الْوُدِّ مَا لِي عَنْكُمْ عِوَضُ وَلَيْسَ وَاَللَّهِ لِي فِي غَيْرِكُمْ غَرَضُ وَمِنْ حَدِيثِي بِكُمْ قَالُوا بِهِ مَرَضُ فَقُلْت لَا زَالَ عَنِّي ذَلِكَ الْمَرَضُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ بَعْدَ جَمْعِهِ لِطُرُقٍ وَأَسَانِيدَ أَظُنُّهُ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَهُوَ تَابِعِيٌّ إمَامٌ عَابِدٌ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ وَقَدْ قِيلَ .
لَيْسَ الْيَتِيمُ الَّذِي قَدْ مَاتَ وَالِدُهُ إنَّ الْيَتِيمَ يَتِيمُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ فَيَنْبَغِي لِلْمَشَايِخِ الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمْ وَاللُّطْفُ بِهِمْ ، لِئَلَّا يَتَضَاعَفَ أَلَمُهُمْ وَهَمُّهُمْ ، فَيَضْعُفَ الصَّبْرُ ، وَتَحْصُلَ النَّفْرَةُ عَنْ الْعِلْمِ ، وَاسْتِحْبَابُ ذَلِكَ مِنْ الطَّلَبَةِ أَوْلَى بِهِمْ وَالْأَدَبُ وَالتَّلَطُّفُ وَمَا يُعِينُهُمْ عَلَى الْمَقْصُودِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا ، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا } .
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ } وَقَدْ ذَكَرْت قَوْلَهُ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ { : بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا ، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا } ، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ : مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ أَبِي سُوَيْدٍ عَنْ

عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ { : عَلِّمُوا وَلَا تُعَنِّفُوا فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ خَيْرٌ مِنْ الْمُعَنِّفِ } .
حُمَيْدٌ لَهُ مَنَاكِيرُ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ ، وَيَأْتِي قَبْلَ ذِكْرِ الْكَرَمِ وَالْبُخْلِ فِي فُضُولِ الْكَسْبِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي الْحَنْبَلِيِّ : يَجِبُ عَلَى الْمُعَلِّمِ أَنْ لَا يُعَنِّفَ ، وَعَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ لَا يَأْنَفَ .
وَقَالَ الْأَعْمَشُ : كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا جَاءَهُ أَصْحَابُهُ قَالَ : أَنْتُمْ جَلَاءُ قَلْبِي .
وَيَأْتِي فِي أَوَّلِ فُصُولِ الْعِلْمِ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَوَاضَعُوا لِمَنْ عَلَّمَكُمْ ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَّارِي الْعُلَمَاءِ ، وَيَأْتِي بَعْدَهُ فِي فَصْلٍ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قَوْلُ عُمَرَ لَا تَعْلَمْ الْعِلْمَ لِتُمَارِيَ بِهِ ، وَلَا لِتُرَائِيَ بِهِ ، وَلَا لِتُبَاهِيَ بِهِ ، وَلَا تَتْرُكْهُ حَيَاءً مِنْ طَلَبِهِ وَلَا زَهَادَةً فِيهِ ، وَلَا رِضَاءً بِالْجَهَالَةِ ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ : مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِحَلْقَةٍ قَدْ جَلَسُوا إلَى جَانِبِ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا قَضَى طَوَافُهُ جَلَسَ إلَيْهِمْ ، وَقَدْ نَحَّوْا الْفِتْيَانَ عَنْ مَجْلِسِهِمْ ، فَقَالَ : لَا تَفْعَلُوا أَوْسِعُوا لَهُمْ وَأَدْنُوهُمْ وَأَلْهِمُوهُمْ ، فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ صِغَارُ قَوْمٍ يُوشِكُ أَنْ يَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ آخَرِينَ قَدْ كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ أَصْبَحْنَا كِبَارَ آخَرِينَ .
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَالْعِلْمُ فِي الصِّغَرِ أَثْبَتُ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِصِغَارِ الطَّلَبَةِ لَا سِيَّمَا الْأَذْكِيَاءِ الْمُتَيَقِّظِينَ الْحَرِيصِينَ عَلَى أَخْذِ الْعِلْمِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عَلَى ذَلِكَ صِغَرُهُمْ أَوْ فَقْرُهُمْ وَضَعْفُهُمْ مَانِعًا مِنْ مُرَاعَاتِهِمْ ، وَالِاعْتِنَاءِ بِهِمْ ، وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَرِيبًا كَلَامُ الشَّاشِيِّ .
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ ( طَرِيقَيْنِ ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { : مَنْ تَعَلَّمَ

الْقُرْآنَ فِي شَبِيبَتِهِ اخْتَلَطَ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ ، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ فِي كِبَرِهِ فَهُوَ يَتَفَلَّتُ مِنْهُ وَلَا يَتْرُكْهُ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ } ، وَلِآخِرِهِ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ فَهُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا .
وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مَرْفُوعًا .
وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : الْعِلْمُ فِي الصِّغَرِ ، كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ مُرْسَلًا " مَنْ تَعَلَّمَ وَهُوَ شَابٌّ كَانَ كَرَسْمٍ فِي حَجَرٍ ، وَمَنْ تَعَلَّمَ فِي الْكِبَرِ كَانَ كَالْكَاتِبِ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ " وَقَالَ عَلْقَمَةُ : مَا تَعَلَّمْته وَأَنَا شَابٌّ فَكَأَنَّمَا أَقْرَأهُ مِنْ دَفْتَرٍ .
وَقَدْ تَوَاتَرَ تَعْظِيمُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَايَةً حَتَّى بُهِرَ الْأَعْدَاءُ كَمَا فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَغَيْرِهِ ، وقَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } .
وَقَوْلُ عُمَرَ { جَلَسْنَا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ } { وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَعُونَ بَابَهُ بِالْأَظَافِيرِ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَاكِمِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ الْحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الزَّبْيَقِيِّ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْمُنْقِرِيِّ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ حَدَّثَنَا كَيْسَانُ مَوْلَى هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرَوَيْنَاهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : " مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ أَرْبَعَةٌ : الْعَالِمُ ، وَذُو الشَّيْبَةِ ، وَالسُّلْطَانُ ، وَالْوَالِدُ ، وَمِنْ الْجَفَاءِ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ وَالِدَهُ بِاسْمِهِ " .
وَرَوَى

الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا { ثَلَاثٌ مِنْ تَوْقِيرِ جَلَالِ اللَّهِ ذُو الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَحَامِلُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَحَامِلُ الْعِلْمِ مَنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } خَالِدٌ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَالْأَكْثَرُ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَقَالَ : هَكَذَا يُصْنَعُ بِالْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخَذَ لَهُ بِالرِّكَابِ ، وَأَخَذَ اللَّيْثُ بِرِكَابِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُغِيرَةَ : كُنَّا نَهَابُ إبْرَاهِيمَ كَمَا نَهَابُ الْأَمِيرَ ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ مَعَ مَالِكٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ : يَأْبَى الْجَوَابَ فَمَا يُرَاجَعُ هَيْبَةً وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ أَدَبُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى فَهُوَ الْأَمِيرُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ وَقَالَ الرَّبِيعُ وَاَللَّهِ مَا اجْتَرَأْت أَنْ أَشْرَبَ الْمَاءَ وَالشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ هَيْبَةً لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَكَأَنَّمَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ ارْحَمُوا عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ ، وَغَنِيَّ قَوْمٍ افْتَقَرَ ، وَعَالِمًا بَيْنَ جُهَّالٍ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ .
وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ : سَمِعْت أَبَا إسْمَاعِيلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ سَمِعْت أَبَا الْفَضْلِ الْجَارُودِيَّ يَقُولُ : رَحَلْت إلَى أَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ إلَى أَصْبَهَانَ فَلَمَّا دَخَلْت عَلَيْهِ قَرَّبَنِي وَأَدْنَانِي ، وَكَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَيَّ فِي الْأَخْذِ فَقُلْت لَهُ يَوْمًا : أَيُّهَا الشَّيْخُ لِمَ تَتَعَسَّرُ عَلَيَّ وَتَبْذُلُ لِلْآخَرِينَ قَالَ : لِأَنَّك تَعْرِفُ قَدْرَ هَذَا الشَّأْنِ وَهَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَهُ .
قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ :

سَمِعْت أَبَا إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيَّ الْحَافِظَ يَقُولُ : رَأَيْت فِي حَضَرِي وَسَفَرِي حَافِظًا وَنِصْفَ حَافِظٍ ، فَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ ، وَالْآخَرُ أَبُو الْفَضْلِ الْجَارُودِيُّ ، وَكَانَ إذَا حَدَّثَ عَنْ الْجَارُودِيِّ يَقُولُ : حَدَّثَنَا إمَامُ الْمَشْرِقِ .
وَفِي تَارِيخِ الْمَادِحِ وَالْمَمْدُوحِ لِلْحَافِظِ عَبْدِ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيِّ أَنَّ الْجَارُودِيَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ، وَإِنَّ أَبَا إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ إذَا حَدَّثَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ وَكَانَ أَحْفَظُ الْبَشَرِ .
قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ رَحَلْت مِنْ مِصْرَ إلَى نَيْسَابُورَ لِأَجْلِ أَبِي الْقَاسِمِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُحِبِّ صَاحِبِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْخَفَّافِ ، فَلَمَّا دَخَلْت عَلَيْهِ قَرَأْت فِي أَوَّلِ مَجْلِسٍ جُزْأَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّرَّاجِ فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ حَلَاوَةً وَاعْتَقَدْت أَنِّي نِلْته بِغَيْرِ تَعَبٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيَّ وَلَا طَالَبَنِي بِشَيْءٍ هُوَ كُلُّ حَدِيثٍ مِنْ الْجُزْأَيْنِ يَسْوَى رِحْلَةً ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي فُصُولِ الْقِيَامِ وَبَعْدَهَا قَبْلَ فُصُولِ الْعِلْمِ وَفِي فُصُولِ الْعِلْمِ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ قِيلَ : وَلَقَدْ ضَرَبْنَا فِي الْبِلَادِ فَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا سِوَاك إلَى الْمَكَارِمِ يُنْسَبُ فَاصْبِرْ لِعَادَتِنَا الَّتِي عَوَّدْتَنَا أَوْ لَا فَأَرْشِدْنَا إلَى مَنْ نَذْهَبُ وَقَالَ آخَرُ : لَا تَلْحَقَنَّك ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلٍ فَلَخَيْرُ يَوْمِك أَنْ تُرَى مَسْئُولَا لَا تَجْبَهَنْ بِالْمَنْعِ وَجْهَ مُؤَمِّلِ فَبَقَاءُ عِزِّك أَنْ تُرَى مَأْمُولَا وَاعْلَمْ بِأَنَّك صَائِرٌ مَثَلًا فَكُنْ مَثَلًا يَرُوقُ السَّامِعِينَ جَمِيلَا وَقَالَ آخَرُ : وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا : وَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إلَى مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبُ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الدَّجَاجِيُّ

الْحَنْبَلِيُّ فِي آخِرِ أَبْيَاتٍ لَهُ : فَجُدْ بِلُطْفِ عَطْفِك وَأَغْنِهِ بِجَمَالِ وَجْهِك عَنْ سُؤَالِ شَفِيعِ .

فَصْلٌ ( حُكْمُ هَجْرِ أَهْلِ الْمَعَاصِي ) .
يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّة قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لَمْ يَأْثَمْ إنْ هُوَ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ ، وَإِلَّا كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُلِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرَ مُنْكِرًا وَلَا جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ ؟ وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ : يَكُونُ فِي سَقْفِ الْبَيْتِ الذَّهَبُ يُجَانَبُ صَاحِبُهُ ؟ يُجْفَى صَاحِبُهُ وَقَدْ اُشْتُهِرَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي هَجْرِهِ مَنْ أَجَابَ فِي الْمِحْنَةِ إلَى أَنْ مَاتَ ، وَقِيلَ : يَجِبُ أَنْ ارْتَدَعَ بِهِ وَإِلَّا كَانَ مُسْتَحَبًّا ، وَقِيلَ : يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إلَّا مِنْ السَّلَامِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَقِيلَ : تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَيُكْرَهُ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ تَرْكُهُ ، وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ مُطْلَقًا .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ وَقِيلَ لَهُ : يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَحَدًا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ إذَا عَرَفْت مِنْ أَحَدٍ نِفَاقًا فَلَا تُكَلِّمْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يُكَلِّمُوهُمْ قُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ يُصْنَعُ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَالَ أَمَّا الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ فَلَا ، قِيلَ لَهُ : فَالْمُرْجِئَةُ قَالَ : هَؤُلَاءِ أَسْهَلُ إلَّا الْمُخَاصِمَ مِنْهُمْ فَلَا تُكَلِّمْهُ ، وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِالْمَدِينَةِ حِينَ خَافَ عَلَيْهِمْ النِّفَاقَ ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ خِفْنَا عَلَيْهِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ بِالنِّفَاقِ ، وَكَذَا مَنْ اُتُّهِمَ بِالْكُفْرِ لَا بَأْسَ أَنْ يُتْرَكَ كَلَامُهُ .
قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ أَخَذَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهَا فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ فِي رِوَايَةِ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيِّ ، وَقَدْ سَأَلَهُ أَكْثَرَ مَا يُعْرَفُ فِي الْمُجَانَبَةِ فَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي تَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهَا ، وَالسَّلَامَ عَلَيْهَا حِينَ ذُكِرَ مَا ذُكِرَ كَذَا حَكَاهُ ، وَلَمْ أَجِدْ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ هَذَا بَلْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تَذْهَبَ إلَى بَيْتِ أَبِيهَا إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ : " كَيْفَ تِيكُمْ ؟ " فَفِي هَذَا تَرْكُ اللُّطْفِ فَقَطْ ، وَأَمَّا قِصَّةُ كَعْبٍ فَفِيهَا تَرْكُ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ ، وَلِهَذَا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَأَقُولُ : هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ ؟ وَإِنَّهُ سَلَّمَ عَلَى أَبِي قَتَادَةَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ شَرَحَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي هَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي بِتَرْكِ الْكَلَامِ ، وَالسَّلَامِ بِخَوْفِ الْمَعْصِيَةِ .
وَفِي رِوَايَةِ مُثَنَّى الْمَذْكُورَةِ وَاَلَّتِي قَبْلهَا إبَاحَةُ الْهَجْرِ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ بِخَوْفِ الْمَعْصِيَةِ ، وَرِوَايَةُ الْمَيْمُونِيِّ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ صَرِيحَةٌ فِي النُّشُوزِ عَلَى تَحْرِيمِهِ .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ قِصَّةِ الْإِفْكِ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِهِ فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَذْهَبَ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ فَذَهَبَ فَوَجَدَهُ يَغْتَسِلُ فِي رَكِيٍّ وَهِيَ الْبِئْرُ فَرَآهُ مَجْبُوبًا فَتَرَكَهُ } فَلَعَلَّ مَعْنَاهُ : اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ .
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قِيلَ : لَعَلَّهُ مُسْتَحِقُّ الْقَتْلِ بِغَيْرِ الزِّنَا وَحَرَكَةِ الزِّنَا ، وَكَفَّ عَنْهُ عَلِيٌّ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالزِّنَا ، وَقَدْ عَلِمَ انْتِفَاءَ الزِّنَا .
قَالَ الْقَاضِي : وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ فِي هِجْرَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَجْرِهِ ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْآجُرِّيِّ ، وَلَمْ أَجِدْ هَذَا فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ بَلْ فِيهَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَدَقَ وَلَا تَقُولُوا لَهُ إلَّا خَيْرًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ : يَا عُمَرُ وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ } ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ " فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ " كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ فِي قَتْلِهِ مَرَّتَيْنِ .
قَالَ الْقَاضِي وَرَوَى الْآجُرِّيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { : لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَإِنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَدَرِيَّةُ فَلَا تَعُودُوهُمْ إذَا مَرِضُوا وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ إذَا مَاتُوا } .
قَالَ الْقَاضِي هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْهَجْرِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا مَعْنَاهُ ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مَعْنَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ " لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ " ، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ وَلَا تُنَاكِحُوهُمْ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَفِيهِ حَكِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الْهُذَلِيُّ تَفَرَّدَ عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
قَالَ الْقَاضِي : وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَضْحَكُ فِي جِنَازَةٍ .
فَقَالَ : أَتَضْحَكُ مَعَ الْجِنَازَةِ ؟ لَا أُكَلِّمُك أَبَدًا .
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : كَانَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ امْرَأَةٌ فِي خُلُقِهَا سُوءٌ ، فَكَانَ يَهْجُرُهَا السَّنَةَ وَالْأَشْهُرَ ، فَتَتَعَلَّقُ بِثَوْبِهِ فَتَقُولُ : أَنْشُدُك بِاَللَّهِ يَا ابْنَ مَالِكٍ أَنْشُدُك

بِاَللَّهِ يَا ابْنَ مَالِكٍ فَمَا يُكَلِّمُهَا .
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ وَقِيلَ لَهُ : إنَّ قَوْمًا يُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَقَوْمًا يُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ ، قَالَ : لَا تُجَالِسُوهُمْ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ جَعَلَ فِي عَضُدِهِ خَيْطًا مِنْ الْحُمَّى : لَوْ مِتَّ وَهَذَا عَلَيْك لَمْ أُصَلِّ عَلَيْك ، وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ قِيلَ لِسَمُرَةَ : إنَّ ابْنَك أَكَلَ طَعَامًا حَتَّى كَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ ، قَالَ : لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْت عَلَيْهِ ، وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنْ لَا تُجَالِسُوا صَبِيغًا .
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنْ أَتَيْتُك بِرَجُلٍ يَتَكَلَّمُ فِي الْقَدَرِ ؟ فَقَالَ : لَوْ أَتَيْتَنِي بِهِ لَأَوْجَعْت رَأْسَك ، ثُمَّ قَالَ : لَا تُكَلِّمْهُمْ وَلَا تُجَالِسْهُمْ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِأَيُّوبَ : لَا تُجَالِسْ طَلْقَ بْنَ حَبِيبٍ فَإِنَّهُ مُرْجِئٌ ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِرَجُلٍ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ فِي الْإِرْجَاءِ : إذَا قُمْت مِنْ عِنْدِنَا فَلَا تَعُدْ إلَيْنَا .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ : لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْقَدَرِ وَلَا تُمَارُوهُمْ ، وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ إذَا جَلَسَ يَقُولُ : مَنْ كَانَ قَدَرِيًّا فَلْيَقُمْ ، وَعَنْ طَاوُسٍ وَأَيُّوبَ ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَبِي السُّوَارِ وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ مَعْنَى ذَلِكَ ، قَالَ الْقَاضِي هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ .
وَقَالَ وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ حَلَّ بِهَا الْهَجْرُ لَمْ تَتَقَدَّرْ بِالثَّلَاثِ ، أَوْ نَقُولُ جَازَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ دَلِيلُهُ هَجْرُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ عِنْدَ إظْهَارِ النُّشُوزِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } .
قَالَ وَإِنَّمَا لَمْ يُهْجَرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ لِأَنَّا عَقَدْنَاهَا مَعَهُمْ لِمَصْلَحَتِنَا بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ ، فَلَوْ قُلْنَا : يُهْجَرُونَ زَالَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَفِي الِامْتِنَاعِ مِنْ كَلَامِهِمْ ضَرَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ مُبَايَعَتِهِمْ وَشِرَائِهِمْ ،

وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَايَنَتْهُمْ بِالْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ ، وَأَيُّ هَجْرٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ؟ وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ النَّظَرِ فِي كُتُبِ الْمُبْتَدِعَةِ قَالَ : كَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِهِمْ وَالِاسْتِمَاعِ لِكَلَامِهِمْ إلَى أَنْ قَالَ : وَإِذَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ وَمَنْ اتَّبَعَ سُنَّتَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ مُتَّفِقِينَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَتَرْكِ عِلْمِ الْكَلَامِ ، وَتَبْدِيعِ أَهْلِهِ وَهِجْرَانِهِمْ ، وَالْخَبَرِ بِزَنْدَقَتِهِمْ ، وَبِدْعَتِهِمْ ، فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِهِ وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إلَيْهِ مُلْتَفِتٌ ، وَلَا يَغْتَرَّ بِهِ أَحَدٌ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : أَرَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ أَتْرُكُ كَلَامَهُ قَالَ : لَا أَوْ تُعْلِمُهُ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي رَأَيْته مَعَهُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ فَإِنْ تَرَكَ كَلَامَهُ فَكَلِّمْهُ ، وَإِلَّا فَأَلْحِقْهُ بِهِ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْمَرْءُ بِخِدْنِهِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الصَّيْدَاوِيُّ : قَالَ لِي أَحْمَدُ إذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ فَهُوَ يُحِبُّهُ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ } وَيَجِبُ الْإِغْضَاءُ عَمَّنْ سَتَرَهَا وَكَتَمَهَا .
زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَشَقَّ عَلَيْهِ إشَاعَتُهَا عَنْهُ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت : لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ اطَّلَعْنَا مِنْ رَجُلٍ عَلَى فُجُورٍ ، وَهُوَ يَتَقَدَّمُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ أَخْرُجُ مِنْ خَلْفِهِ قَالَ : اُخْرُجْ مِنْ خَلْفِهِ خُرُوجًا لَا تَفْحُشْ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إذَا عُلِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْفُجُورُ أَنُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ ؟ قَالَ : لَا بَلْ يُسْتَرُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَاعِيَةً ، وَيَتَوَجَّهُ أَنَّ

فِي مَعْنَى الدَّاعِيَةِ مَنْ اُشْتُهِرَ وَعُرِفَ بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَسَرَّ الْمَعْصِيَةَ ، وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ الْقَاضِي فِيمَنْ أَتَى مَا يُوجِبُ حَدًّا إنْ شَاعَ مِنْهُ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَذْهَبَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ لِيَأْخُذَهُ بِهِ ، وَإِلَّا سَتَرَ نَفْسَهُ .
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي : فَإِنْ كَانَ يَسْتَتِرُ بِالْمَعَاصِي فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُهْجَرُ ، قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : لَيْسَ لِمَنْ يَسْكَرُ وَيُقَارِفُ شَيْئًا مِنْ الْفَوَاحِشِ حُرْمَةٌ وَلَا صِلَةٌ إذَا كَانَ مُعْلِنًا بِذَلِكَ مُكَاشِفًا .
قَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الْمُجَانَبَةِ : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَهْجُرُ أَهْلَ الْمَعَاصِي وَمَنْ قَارَفَ الْأَعْمَالَ الرَّدِيَّةَ ، أَوْ تَعَدَّى حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى الْإِقَامَةِ عَلَيْهِ ، أَوْ الْإِضْرَارِ ، وَأَمَّا مَنْ سَكِرَ أَوْ شَرِبَ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْظُورَةِ ، ثُمَّ لَمْ يُكَاشِفْ بِهَا ، وَلَمْ يُلْقِ فِيهَا جِلْبَابَ الْحَيَاءِ ، فَالْكَفُّ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ ، وَعَنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْإِمْسَاكُ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ ، وَعَنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ .
وَكَلَامُ الشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ السَّابِقُ يَقْتَضِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدْعَةِ وَغَيْرِهِ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إجْمَاعُ السَّلَفِ ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي عِيَادَةِ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِيَةِ رِوَايَتَيْنِ ، وَتَرْكُ الْعِيَادَةِ مِنْ الْهَجْرِ ، وَاعْتَبَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمَصْلَحَةَ ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ الْمُسْتَتِرَ بِالْمُنْكَرِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ ، وَيُسْتَرُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فُعِلَ مَا يَنْكَفُّ بِهِ إذَا كَانَ أَنْفَعَ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّ الْمُظْهِرَ لِلْمُنْكَرِ يَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَانِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَهْجُرُوهُ مَيِّتًا إذَا كَانَ فِيهِ كَفٌّ لِأَمْثَالِهِ فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ وُجُوبُ الْإِغْضَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْإِنْكَارِ سِرًّا

جَمْعًا بَيْنَ الْمَصَالِحِ ، وَكَلَامُهُمْ ظَاهِرٌ ، أَوْ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ السَّتْرِ عَلَى هَذَا ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخَلَّالِ السَّابِقِ يُسْتَحَبُّ ، وَلَمْ أَجِدْ بَيْنَ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ خِلَافًا فِي أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا لَهُ أَنْ يُقِيمَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُقِيمَهَا لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ سَتْرَهُ لَا يَجِبُ ، وَأَنَّهُ يُنْكَرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقَةٍ ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَشْهُورًا بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ أَمْ لَا ، وَلَا يَتَوَجَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي فِي الْمُقِرِّ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ نَشِيطٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً } حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ نَشِيطٍ عَنْ { كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْهَيْثَمِ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ دُحَيْنًا كَاتِبَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : كَانَ لِي جِيرَانٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَنَهَيْتهمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا ، فَقُلْت لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ : إنَّ جِيرَانَنَا هَؤُلَاءِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ، وَإِنِّي نَهَيْتهمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ ، فَقَالَ : دَعْهُمْ ، ثُمَّ رَجَعْت إلَى عُقْبَةَ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْت : إنَّ جِيرَانَنَا قَدْ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ ، فَقَالَ : وَيْحَك دَعْهُمْ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مَعْنَى حَدِيثِ مُسْلِمٍ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : قَالَ هِشَامُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ لَيْثٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ : لَا تَفْعَلْ ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ

وَتَهَدَّدْهُمْ } كَعْبٌ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ لَمْ يَرْوِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ غَيْرُهُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي أَبِي الْهَيْثَمِ لَا يُعْرَفُ .
وَقَدْ رَوَى خَبَرَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ آثَرُوا فِرَاقَ نُفُوسِهِمْ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهَا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَهَذَا يَقُولُ : زَنَيْت فَطَهِّرْنِي ، وَنَحْنُ لَا نَسْخُو أَنْ نُقَاطِعَ أَحَدًا فِيهِ لِمَكَانِ الْمُخَالَفَةِ .
وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قَالَ : وَأَمَّا السَّتْرُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَادُ بِهِ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ ، وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُسْتَرَ عَلَيْهِ ، بَلْ تُرْفَعُ قِصَّتُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطَمِّعُهُ فِي الْإِيذَاءِ وَالْفَسَادِ وَانْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ وَانْقَضَتْ ، أَمَّا مَعْصِيَةٌ رَآهُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ بَعْدُ مُتَلَبِّسٌ ، فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ وَمَنْعُهُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا ، فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ .
وَأَمَّا جَرْحُ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْأُمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَلَا يَحِلُّ السَّتْرُ عَلَيْهِمْ إذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِمْ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ ، بَلْ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُسْتَرُ فِيهِ : هَذَا السَّتْرُ مَنْدُوبٌ فَلَوْ رَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَأْثَمْ بِالْإِجْمَاعِ ،

لَكِنْ هَذَا الْأَوْلَى وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَإِذَا لَمْ يَأْثَمْ بِرَفْعِ فَاعِلِ مَعْصِيَةٍ انْقَضَتْ فَرَفَعَ مَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهَا ابْتِدَاءً مِثْلَهُ ، أَوْ أَوْلَى وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ وَلِمَا يَأْتِي .
وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فِيهَا هَتْكُ سَتْرِ الْمَفْسَدَةِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ، أَوْ كَانَ فِي السَّتْرِ مَفْسَدَةٌ ، وَإِنَّ الْأَحَادِيثَ فِي السُّنَنِ تُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ ، وَلَا تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ : فَإِنْ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى رِيبَةٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتُرَهَا وَيَعِظُهُ مَعَ ذَلِكَ وَيُخَوِّفُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنْ الْإِجْهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحُ ، وَقَدْ سَتَرَهُ عَلَيْهِ اللَّهُ ، فَيَقُولُ : يَا فُلَانُ عَمِلْت الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ } .
فِي نُسَخٍ مُعْتَمَدَةٍ أَوْ مُعْظَمِ النُّسَخِ { مُعَافَاةً } يَعُودُ إلَى الْأُمَّةِ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ { وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ } وَفِي بَعْضِهَا { وَإِنَّ مِنْ الْجِهَارِ } يُقَالُ : جَهَرَ بِأَمْرِهِ وَأَجْهَرَ وَجَاهَرَ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : سُؤَالٌ عَنْ قَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَجَبَتْ } ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ذَلِكَ مِمَّا أُلْقِيَ إلَيْهِ مِنْ الْوَحْيِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا ظَهَرَ لَهُ حِينَ غُفِرَ شَرُّهُ لِخَيْرِهِ ( وَالثَّالِثُ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِسْرَارُهُ بِالشَّرِّ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ : مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ

بِسَتْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَوَجَبَتْ لَهُ الْمَغْفِرَةُ بِطَاعَةِ الشَّرْعِ بِاسْتِسْرَارِهِ لِسَتْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَجَازَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَا سَتَرَهُ عَنْ الْخَلْقِ طَاعَةً لِلْحَقِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ( فِي هَجْرِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ وَالدَّاعِي إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ ) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْهَجْرِ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَكَان آخَرَ : وَيَجِبُ هَجْرُ مَنْ كَفَرَ ، أَوْ فَسَقَ بِبِدْعَةٍ ، أَوْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ ، أَوْ مُفَسِّقَةٍ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ ، أَوْ خَافَ الِاغْتِرَارَ بِهِ ، وَالتَّأَذِّي دُونَ غَيْرِهِ وَقِيلَ : يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ السَّابِقِ ، وَقَطَعَ ابْنُ عَقِيلٍ بِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ قَالَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَسْرًا لَهُ وَاسْتِصْلَاحًا وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَيْضًا : إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ مَحَلَّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ فَلَا تَنْظُرْ إلَى زِحَامِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ ، وَلَا ضَجِيجِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ بِلَبَّيْكَ ، وَإِنَّمَا اُنْظُرْ إلَى مُوَاطَأَتِهِمْ أَعْدَاءَ الشَّرِيعَةِ ، عَاشَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمَعَرِّيُّ عَلَيْهِمَا لَعَائِنُ اللَّهِ يَنْظِمُونَ وَيَنْثِرُونَ ، هَذَا يَقُولُ : حَدِيثُ خُرَافَةَ وَالْمَعَرِّيُّ يَقُولُ : تَلَوْا بَاطِلًا وَجَلَوْا صَارِمًا وَقَالُوا صَدَقْنَا فَقُلْنَا نَعَمْ يَعْنِي بِالْبَاطِلِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَعَاشُوا سِنِينَ وَعُظِّمَتْ قُبُورُهُمْ وَاشْتُرِيَتْ تَصَانِيفُهُمْ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُرُودَةِ الدِّينِ فِي الْقَلْبِ .
وَهَذَا الْمَعْنَى قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الْخَلَّالُ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ رَافِضِيُّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ .
قَالَ : لَا وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ ، وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يَجِبُ عَلَى الْخَامِلِ ، وَمَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى خُلْطَتِهِمْ ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى خُلْطَتِهِمْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ : وَهِجْرَانُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَافِرِهِمْ وَفَاسِقِهِمْ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي ، وَتَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَمَكْرُوهٌ لِسَائِرِ النَّاسِ ، وَقِيلَ : لَا

يُسَلِّمُ أَحَدٌ عَلَى فَاسِقٍ مُعْلِنٍ وَلَا مُبْتَدِعٍ مُعْلِنٍ دَاعِيَةٍ ، وَلَا يَهْجُرُ مُسْلِمًا مَسْتُورًا غَيْرَهُمَا مِنْ السَّلَامِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي التَّمَامِ : لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ وَفِي وُجُوبِ هَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَفُسَّاقِ الْمِلَّةِ أَطْلَقَ كَمَا تَرَى ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُجَاهِرِ ، وَغَيْرِهِ فِي الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ قَالَ : وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ ذِي الرَّحِمِ ، وَالْأَجْنَبِيِّ إذَا كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَقُّ لِآدَمِيٍّ كَالْقَذْفِ وَالسَّبِّ وَالْغِيبَةِ وَأَخْذِ مَالِهِ غَصْبًا وَنَحْوِ ذَلِكَ نَظَرْت ، فَإِنْ كَانَ الْمُهَاجِرُ وَالْفَاعِلُ لِذَلِكَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَرْحَامِهِ لَمْ تَجُزْ هِجْرَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ ، فَهَلْ تَجُوزُ هِجْرَتُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَهَذَا لَفْظُ وَالِدِهِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ مَعْنَاهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ غَيْرَهُ ، فَهَلْ تَجُوزُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَقَالَ : قَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَعْنَى هَذَا التَّفْصِيلِ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ابْنَةِ عَمٍّ لَهُ تَنَالُ مِنْهُ وَتَظْلِمُهُ وَتَشْتُمُهُ وَتَقْذِفُهُ فَقَالَ : سَلِّمْ عَلَيْهَا إذَا لَقِيتهَا اقْطَعْ الْمُصَارَمَةَ ، الْمُصَارَمَةُ شَدِيدَةٌ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْهَجْرِ لِأَقَارِبِهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ قَدْ تَرَكْت كَلَامَهُ لِأَنَّهُ قَذَفَ مَسْتُورًا بِمَا لَيْسَ مِنْهُ وَلِي قَرَابَةٌ يَسْكَرُونَ ، فَقَالَ : اذْهَبْ إلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ حَتَّى تُكَلِّمَهُ وَدَعْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْكَرُونَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِكَلَامِ الْقَاذِفِ ، وَمَنَعَهُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِبِ مَعَ كَوْنِهِ قَرَابَةً لَهُ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ ذُكِرَ الطُّوسِيُّ ،

فَقَالَ : صَاحِبُ صَلَاةٍ وَخَيْرٍ ، فَقِيلَ : لَهُ تُكَلِّمُهُ ؟ فَنَفَضَ يَدَهُ .
وَقَالَ : إنَّمَا أَنْكَرْت عَلَيْهِ كَلَامَهُ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ يَعْنِي بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَقَالَ : إنَّهُ قِيلَ : مِنْ أُمِّ جَعْفَرٍ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ هَجَرَ الطُّوسِيَّ مَعَ صَلَاحِهِ لِكَلَامِهِ فِي بِشْرٍ وَذَلِكَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ .
قَالَ الْقَاضِي : وَإِنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ هِجْرَةَ الْأَقَارِبِ لِحَقِّ نَفْسِهِ لِلْأَخْبَارِ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَإِنَّمَا أَجَازَهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَنَعَهَا فِي حَقِّ الْغَيْرِ عَلَى رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَضْيَقُ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الْعَفْوُ وَحَقُّ الْآدَمِيِّ أَخَفُّ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ الْعَفْوُ ، وَيُبَيِّنُ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَدَيْنُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى .
} وَكَلَامُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ ، وَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَخْبَارُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ تُخَصُّ بِأَدِلَّةِ الْهَجْرِ ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ بِخِلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّ .

فَصْلٌ ( لَا تَجُوزُ الْهِجْرَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهِجْرَةَ ) .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَا تَجُوزُ الْهِجْرَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِمَا تُوجِبُ الْهِجْرَةَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُزَاحِمٍ مُوسَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ فَقَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ مُكْرَمٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ الْأَنْبَارِيُّ قَالَ : ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي حَدِيثَ الْمُثَنَّى { كَانَ لَا يَأْخُذُ بِالْقِرْفِ وَلَا يُصَدِّقُ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ } فَقَالَ : إلَى هَذَا أَذْهَبُ أَنَا أَوْ هَذَا مَذْهَبِي ابْنُ مُكْرَمٍ يَشُكُّ وَرَوَى أَبُو مُزَاحِمٍ حَدَّثَنِي ابْنُ مُكْرَمٍ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْخُذُ بِالْقِرْفِ وَلَا يُصَدِّقُ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ } .
فَإِنْ قِيلَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُهْجَرَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِبُ التُّهْمَةَ كَمَا يَجُوزُ الْحَبْسُ بِالتُّهْمَةِ لِخَبَرِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ } .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَحَنْبَلٍ { : حَبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تُهْمَةٍ } .
قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ حَقًّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَبِالْبَدَنِ ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ ظَاهِرُهُمَا الْعَدَالَةُ ، وَلَمْ يَعْرِفْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَالَتَهُمَا فِي الْبَاطِنِ فَحَبَسَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ لِيَسْأَلَ عَنْ عَدَالَتِهِمَا فِي الْبَاطِنِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا تُهْمَةٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي مَسْأَلَتِنَا انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي .
وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْحَبْسِ فِي تُهْمَةٍ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْهَجْرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَفِي

الْمَسْأَلَتَيْنِ نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْقِرْفُ التُّهْمَةُ يُقَالُ : قَرِفْته بِكَذَا إذَا أَضَفْته إلَيْهِ وَعِبْته وَاتَّهَمْته .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الْغِيبَةِ إخْبَارُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلَّذِي قَالَ مِنْ الْأَنْصَارِ : إنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، أَظُنُّهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَظِيرُهُ إخْبَارُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لِلنَّبِيِّ عَنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَفِيهِ أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : إذَا كَانَ لَك أَخٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُمَارِهِ وَلَا تَسْمَعْ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ ، فَرُبَّمَا قَالَ لَك مَا لَيْسَ فِيهِ فَحَالَ بَيْنَك وَبَيْنَهُ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْوُشَاةَ كَثِيرٌ إنْ أَطَعْتَهُمْ لَا يَرْقُبُونَ بِنَا إلًّا وَلَا ذِمَمَا الْإِلُّ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِهَذَا الْبَيْتِ عَلَى أَنَّهُ الْقَرَابَةُ وَقِيلَ أَيْضًا : لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْت عِنْدَهُمْ بِسِرٍّ وَلَا رَاسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ أَيْ : بِرِسَالَةٍ اسْتَشْهَدَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } الْمَعْنَى إنَّا رِسَالَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَيْ : ذَوُو رِسَالَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ .
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الرَّسُولُ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَؤُلَاءِ ضَيْفِي } وقَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا } وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ رَجُلًا ذُكِرَ فِي مَجْلِسِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ ، فَتَنَاوَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَجْلِسِ ، فَقَالَ لَهُ سَلْمُ يَا هَذَا أَوْحَشْتنَا مِنْ نَفْسِك ، وَآيَسْتَنَا مِنْ مَوَدَّتِك ، وَدَلَلْتنَا عَلَى عَوْرَتِك سَلْمٌ ثِقَةٌ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ .
فَصْلٌ مَنْ عِنْدَهُ سَمَّاعٌ لِمُبْتَدِعٍ فَطَلَبَهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ لَعَلَّ اللَّهَ

يُنْقِذُ بِهِ .
نَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ ، وَحَضَرَ زِنْدِيقٌ مَجْلِسَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ : هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ كَبْشُ الزَّنَادِقَةِ ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مَنْ أَمَرَكُمْ بِهَذَا عَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا ؟ دَعُوا النَّاسَ يَأْخُذُونَ الْعِلْمَ وَيَنْصَرِفُونَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُخَالِفُ هَذَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ .

فَأَمَّا هَجْرُ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ فِي اعْتِقَادِهِ وَأَفْعَالِهِ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُكْرَهُ وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ خِلَافُهُ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ : اقْتِصَارُهُ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلْ مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ الْكَبِيرَةُ مَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا ، أَوْ وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ .
وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ } .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَكْثَرِ هُنَا ، لَا فَرْقَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَأَكْثَرَ وَكَلَامُهُمْ فِي النُّشُوزِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَذَلِكَ لِظَاهِرِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ .
التَّقْوَى هَهُنَا وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } ، وَفِيهِمَا أَوْ فِي مُسْلِمٍ { وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَهْجُرُوا } .
وَفِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ { وَلَا تُهَاجِرُوا وَلَا تُقَاطِعُوا ، إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } التَّدَابُرُ الْمُعَادَاةُ وَالْمُقَاطَعَةُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُوَلِّي صَاحِبَهُ دُبُرَهُ ، وَالتَّحَسُّسُ بِالْحَاءِ قِيلَ : الِاسْتِمَاعُ لِحَدِيثِ قَوْمٍ وَبِالْجِيمِ التَّفْتِيشُ عَنْ الْعَوْرَاتِ ، وَقِيلَ : بِالْحَاءِ تَطْلُبُهُ لِنَفْسِك وَبِالْجِيمِ لِغَيْرِك ، وَقِيلَ : هُمَا بِمَعْنًى ، وَهُوَ طَلَبُ مَعْرِفَةِ مَا غَابَ ، وَحَالَ وَلَا تَهْجُرُوا وَلَا تُهَاجِرُوا بِمَعْنًى ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ الْهِجْرَةِ ، وَقَطْعِ الْكَلَامِ ، وَقِيلَ : يَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ " لَا تَهْجُرُوا " أَيْ : لَا تَتَكَلَّمُوا بِالْهُجْرِ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْقَبِيحُ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ } ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ } .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ } ، وَفِي لَفْظٍ { تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ ، فَيُقَالُ : أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا } وَفِي رِوَايَةٍ { إلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ الشَّحْنَاءُ الْعَدَاوَةُ كَأَنَّهُ شَحَنَ قَلْبَهُ بُغْضًا أَيْ : مَلَأَهُ ، وَكَلَامُهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ فِي الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلْخَبَرِ { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ } .
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّمَا عُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ مِنْ الْغَضَبِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَعُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلَاثِ لِيَزُولَ ذَلِكَ الْعَارِضُ وَسَيَأْتِي كَلَامُ أَبِي دَاوُد بَعْدَ هَذَا الْخَبَرِ يُوَافِق هَذَا ، وَقِيلَ : إنَّ الْخَبَر لَا يَدُلُّ عَلَى الْهِجْرَةِ فِي الثَّلَاثَةِ .
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِالْمَفْهُومِ : وَيَتَوَجَّهُ أَوَّلًا أَنَّ الْخَبَرَ فِي الْهَجْرِ بِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ .
وَاَلَّذِي ذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُمَا اسْتِحْبَابُ هِجْرَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْفُسَّاقِ أَطْلَقُوا وَلَمْ يُفَرِّقُوا .

فَصْلٌ ( فِي زَوَالِ الْهَجْرِ وَمَسَائِلُ فِي الْغِيبَةِ وَمَتَى تُبَاحُ بِالسَّلَامِ ) .
وَالْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ يَزُولُ بِالسَّلَامِ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَالْمُسْتَوْعِبِ ، وَزَادَ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ كَلَامَهُ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ : وَالْهِجْرَانُ الْجَائِزُ هَجْرُ ذَوِي الْبِدَعِ أَوْ مُجَاهِرٍ بِالْكَبَائِرِ وَلَا يَصِلُ إلَى عُقُوبَتِهِ ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى مَوْعِظَتِهِ ، أَوْ لَا يَقْبَلُهَا ، وَلَا غِيبَةَ فِي هَذَيْنِ فِي ذِكْرِ حَالِهِمَا قَالَ فِي الْفُصُولِ لِيَحْذَرْ مِنْهُ ، أَوْ يَكْسِرْهُ عَنْ الْفِسْقِ وَلَا يَقْصِدُ بِهِ الْإِزْرَاءَ عَلَى الْمَذْكُورِ ، وَالطَّعْنَ فِيهِ وَلَا فِيمَا يُشَاوَرُ فِيهِ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ الْمُخَاطَبَةِ .
قَالَ أَبُو طَالِبٍ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَسْأَلُ الرَّجُلَ يَخْطُبُ إلَيْهِ فَيَسْأَلُ عَنْهُ فَيَكُونُ رَجُلَ سَوْءٍ ، فَيُخْبِرُهُ { مِثْلَ مَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لِفَاطِمَةَ : مُعَاوِيَةُ عَائِلٌ ، وَأَبُو جَهْمٍ عَصَاهُ عَلَى عَاتِقِهِ } .
يَكُونُ غِيبَةً إنْ أَخْبَرَهُ قَالَ : { الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ } يُخْبِرُهُ بِمَا فِيهِ وَهُوَ أَظْهَرُ ، وَلَكِنْ يَقُولُ : مَا أَرْضَاهُ لَك وَنَحْوُ هَذَا حَسَنٌ .
وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَ ، أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَعْنَى الْغِيبَةِ يَعْنِي فِي النَّصِيحَةِ قَالَ : إذَا لَمْ تُرِدْ عَيْبَ الرَّجُلِ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ : أَخْبَرَنِي حَرْبٌ سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ أَخْبَرَنَا أَبُو عُتْبَةَ ثَنَا ضَمْرَةُ أَنْبَأَنَا ابْنُ شَوْذَبٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : لَيْسَ لِلْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ بِفِسْقِهِ غِيبَةٌ .
أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ : إنَّمَا الْغِيبَةُ لِمَنْ لَمْ يُعْلِنْ بِالْمَعَاصِي وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ فِي رَجُلٍ صَاحِبِ قَيْنَاتٍ وَمَعَازِفَ يُؤْذِي أَهْلَ الْمَسْجِدِ إذَا ذَكَرَ مَا فِيهِ لَا يَضُرُّ ؛ لِأَنَّهُ

قَدْ أَعْلَنَ لَا يَضُرّهُ إذَا حَدَّثَ النَّاسَ عَنْهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الْغِيبَةُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجُلِ مَا فِيهِ قَالَ : نَعَمْ .
قُلْت : حَدِيثُ بَهْزٍ قَالَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَلَفْظُهُ { أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاسِقِ كَيْ يَعْرِفَهُ النَّاسُ ؟ اُذْكُرُوهُ } ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَخَبَرُ بَهْزٍ هَذَا لَهُ طُرُقٌ عَنْهُ ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَأَمْثَلُهَا الْجَارُودُ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةُ الْمَجَالِسِ عَنْ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثَةٌ لَا غِيبَةَ فِيهِمْ الْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ ، وَشَارِبُ الْخَمْرِ ، وَالسُّلْطَانُ الْجَائِرُ } قَالَ : وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ : مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ فِيهِ .
وَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ فُرَافِصَةَ قُلْت لِمُجَاهِدٍ : الرَّجُلُ يَكُونُ وَقَّاعًا فِي النَّاسِ فَأَقَعُ فِيهِ أَلَهُ غِيبَةٌ قَالَ : لَا قُلْت : مَنْ ذَا الَّذِي تَحْرُمُ غِيبَتُهُ قَالَ : رَجُلٌ خَفِيفُ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، خَفِيفُ الْبَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، أَخْرَسُ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ ، فَهَذَا حَرَامُ الْغِيبَةِ ، وَمَنْ كَانَ سِوَى ذَلِكَ فَلَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا غِيبَةَ فِيهِ ، فَهَذِهِ فِي غَيْرِ النَّصِيحَةِ .
وَرِوَايَةُ الْكَحَّالِ تَحْرِيمُ الْغِيبَةِ مُطْلَقًا ، وَالْأَشْهَرُ عَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْلِنِ وَغَيْرِهِ ، وَظَاهِرُ الْفُصُولِ وَالْمُسْتَوْعِبِ أَنَّ مَنْ جَازَ هَجْرُهُ جَازَتْ غِيبَتُهُ ، وَمُرَادُهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَنْ لَا فَلَا ، وَرِوَايَةُ الْكَحَّالِ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ لَقَبٍ كَالْأَعْمَشِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ ، وَأَنَّ رِوَايَةَ الْأَثْرَمِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهِ .
وَقَدْ احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ عَلَى غِيبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي { عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ : بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ } وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا خَبَرُ

عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ الْمَظْنُونِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ تَخَلَّفَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِتَبُوكَ { : مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِئْسَ مَا قُلْت ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ } ، فَفِيهِ الطَّعْنُ بِالِاجْتِهَادِ وَالظَّنِّ ، وَأَنَّ مَنْ ظَنَّ غَلَطَ الطَّاعِنِ رَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمِنْ الْغِيبَةِ لِلتَّظَلُّمِ قَوْله تَعَالَى : { لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ } .
وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ { : وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ؛ } لِقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ قَالَ : وَعَلَى هَذَا أَرَى قَوْله تَعَالَى : { لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ } .
أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْجِنْسِ لَيْسَ بِمُنْقَطِعٍ كَمَا كَانَ يَقُولُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الزُّبَيْدِيُّ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْمَظْلُومَ إذَا شَكَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى اقْتَضَى عَدْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْإِيقَاعَ بِظَالِمِهِ فَيُحِبُّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَجْهَرَ الْمَظْلُومُ بِالشَّكْوَى لِيَكُونَ الْمُقَدَّرُ وَالْإِيقَاعُ بِالظَّالِمِ مَبْسُوطَ الْعُذْرِ عِنْدَ الْخَلْقِ ، وَزَاجِرًا لِأَمْثَالِهِ عَنْ أَمْثَالِ فَاعِلِهِ ، وَإِنَّمَا يُمْهِلُ الظَّالِمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَلْقَ إذَا مَلَكَ أَحَدُهُمْ مَمْلُوكِينَ فَجَنَى عَلَى أَحَدِهِمْ جِنَايَةً ، فَإِنَّ أَرْشَهَا لِسَيِّدِهِ ، فَالْخَلْقُ مِلْكٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ ، فَلَوْلَا هَذِهِ الْحَالَةُ لَمَا كُنْت أَطْمَعُ لِلظَّالِمِ أَنْ يُؤَخَّرَ الْإِيقَاعُ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ : إلَّا أَنْ يَدْعُوَ الْمَظْلُومُ

عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرْخَصَ لَهُ .
وَعَنْ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ إلَّا أَنْ يَنْتَصِرَ الْمَظْلُومُ مِنْ ظَالِمِهِ .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنْ يُخْبِرَ الْمَظْلُومُ بِظُلْمِ مَنْ ظَلَمَهُ .
وَعَنْهُ أَيْضًا إلَّا أَنْ يَجْهَرَ الضَّيْفُ بِذَمِّ مَنْ يَضِيفُهُ .
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ بِفَتْحِ الظَّاءِ قَالَ ثَعْلَبُ : هِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ } ؟ { إلَّا مَنْ ظُلِمَ } وَقِيلَ : الْمَعْنَى إلَّا أَنْ يَجْهَرَ الظَّالِمُ بِالسُّوءِ ظُلْمًا ، وَقِيلَ : إلَّا أَنْ يَجْهَرُوا بِالسُّوءِ لِلظَّالِمِ .
فَعَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ ، وَمَعْنَاهُ لَكِنْ الْمَظْلُومُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ لِظَالِمِهِ بِالسُّوءِ ، وَلَكِنْ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ وَاجْهَرُوا لَهُ بِالسُّوءِ .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ { مَنْ ظُلِمَ } أَيْ : أَقَامَ عَلَى النِّفَاقِ فَيُجْهَرُ لَهُ بِالسُّوءِ حَتَّى يَنْزِعَ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ هِنْدٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ } ، وَقَوْلُ الْحَضْرَمِيِّ أَوْ الْكِنْدِيِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ : { لَك يَمِينُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّهُ رَجُلٌ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي } قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَفِيهِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ : إنَّهُ ظَالِمٌ ، أَوْ فَاجِرٌ أَوْ نَحْوُهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ وَيَتَأَوَّلُ الْخَبَرَ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ الشَّرِيدِ مَرْفُوعًا { لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } قَالَ أَحْمَدُ : قَالَ وَكِيعٌ عِرْضُهُ شِكَايَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ ، وَلَعَلَّ مِنْ هَذَا مَا جَرَى بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ لَمَّا تَحَاكَمَا فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَأَوِّلًا مَعْذُورًا فِي قَوْلِهِ لِلْآخَرِ ، فَإِنَّهُ أُشْكِلَ عَلَى جَمَاعَةٍ حَتَّى أَسْقَطَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْحَدِيثِ ،

وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَسَعْدٌ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا قِيلَ ، لَكِنْ كَانَ الْقَوْلُ فِي الْوَجْهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِالْجِيرَانِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى إزَالَةِ الْمُنْكَرِ ، وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ { خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو فُلَانٍ } الْحَدِيثُ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : فِيهِ جَوَازُ تَفْضِيلِ الْقَبَائِلِ وَالْأَشْخَاصِ بِغَيْرِ مُجَازَفَةٍ وَلَا هَوًى وَلَا يَكُونُ هَذَا غِيبَةً .
وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ .

وَلَيْسَتْ الْغَيْرَةُ عُذْرًا فِي غِيبَةٍ وَنَحْوِهَا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ، وَالْأَصْحَابِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ ، وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ فَإِنَّهُ قَالَ : قَلَّ أَنْ يَصِحَّ رَأْيٌ مَعَ فَوْرَةِ طَبْعٍ ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ إلَى حِينِ الِاعْتِدَالِ ، وَهُوَ أَيْضًا مَعْنَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقٌ مِنْ غَضَبٍ حَتَّى تَغَيَّرَ ، وَلَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ كَالْمُكْرَهِ ، وَذَلِكَ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ لِذَلِكَ فَقَالَ : اللَّهُمَّ هَالَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ ، فَقُلْت : وَمَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءُ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ فَأَبْدَلَك اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا } ؟ الْغَيْرَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ مَصْدَرُ غَارَ الرَّجُلُ يَغَارُ غَيْرَةً وَغَيْرًا وَغَارًا .
وَالْغِيرَةُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمِيرَةُ وَالنَّفْعُ .
.
وَقَوْلُهَا : حَمْرَاءُ الشِّدْقَيْنِ أَيْ : لَمْ يَبْقَ بِشِدْقِهَا بَيَاضُ شَيْءٍ مِنْ الْأَسْنَانِ قَدْ سَقَطَتْ مِنْ الْكِبَرِ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الْغَيْرَةُ مُسَامَحٌ لِلنِّسَاءِ فِيهَا لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِنَّ فِيهَا لِمَا جُبِلْنَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَمْ يَزْجُرْ عَائِشَةَ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ جَرَى مِنْ عَائِشَةَ لِصِغَرِ سِنِّهَا ، وَأَوَّلِ شُبَيْبِهَا ، وَلَعَلَّهَا لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْ حِينَئِذٍ ، كَذَا قَالَ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْإِنْكَارَ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي أَعْرِفُ إذَا كُنْت رَاضِيَةً عَنِّي وَإِذَا كُنْت عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ : فَقُلْت : وَمِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَمَّا إذَا كُنْت عَنِّي رَاضِيَةً

فَإِنَّك تَقُولِينَ : لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ ، وَإِذَا كُنْت غَضْبَى قُلْت : لَا وَرَبِّ إبْرَاهِيمَ قُلْت : أَجَلْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إلَّا اسْمَك } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : مُغَاضَبَةُ عَائِشَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مِمَّا سَبَقَ مِنْ الْغَيْرَةِ الَّتِي عُفِيَ عَنْهَا لِلنِّسَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لِعَدَمِ انْفِكَاكِهِنَّ مِنْهَا حَتَّى قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ : يَسْقُطُ عَنْهَا الْحَدُّ إذَا قَذَفَتْ زَوْجَهَا بِالْفَاحِشَةِ عَلَى جِهَةِ الْغَيْرَةِ قَالَ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا تَدْرِي الْغَيْرَاءُ أَعْلَى الْوَادِي مِنْ أَسْفَلِهِ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَلَوْلَا ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ مَا فِيهِ ، لِأَنَّ الْغَضَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَجْرَهُ كَبِيرَةٌ .
عَظِيمَةٌ وَلِهَذَا قَالَتْ لَا أَهْجُرُ إلَّا اسْمَك .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَلْبَهَا وَحُبَّهَا كَمَا كَانَ ، وَإِنَّمَا الْغَيْرَةُ فِي النِّسَاءِ لِفَرْطِ الْمَحَبَّةِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَطَارَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَخَرَجْنَا مَعَهُ جَمِيعًا ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ اللَّيْلُ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ مَعَهَا فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ : أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَك فَتَنْظُرِينَ ، وَأَنْظُرُ قُلْت : بَلَى فَرَكِبَتْ حَفْصَةُ عَلَى بَعِيرِ عَائِشَةَ وَرَكِبَتْ عَائِشَةُ عَلَى بَعِيرِ حَفْصَةَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ سَارَ مَعَهَا حَتَّى نَزَلُوا ، فَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ فَغَارَتْ فَلَمَّا نَزَلَتْ جَعَلَتْ تَجْعَلُ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الْإِذْخِرِ وَتَقُولُ يَا رَبِّ

سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي ، رَسُولُك وَلَا أَسْتَطِيعُ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا } .
قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ ، وَقَالَتْهُ حَمَلَهَا عَلَيْهِ فَرْطُ الْغَيْرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ أَمْرَ الْغَيْرَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَمَا قَالَهُ لَا يُوَافِقُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ .
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْأَزْرَقَ عَنْ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا { : غَيْرَتَانِ إحْدَاهُمَا يُحِبُّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْأُخْرَى يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : الْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ يُحِبُّهَا اللَّهُ ، وَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِهَا يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْمَخِيلَةُ إذَا تَصَدَّقَ الرَّجُلُ يُحِبُّهَا ، وَالْمَخِيلَةُ فِي الْكِبْرِ يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ : ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ } .
وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ الْغَيْرَةَ فَقَطْ .
قِيلَ : يَحْيَى لَمْ يَسْمَعْ مِنْ زَيْدٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْغَيْرَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا ، وَيُوَافِقهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَوْصِنِي قَالَ : لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ عَلَيْهِ قَالَ : لَا تَغْضَبْ } وَرَوَى أَحْمَدُ غَيْرَ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَفِي بَعْضِهَا مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ : فَفَكَّرْت حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ ، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا ، وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ ثَلَاثًا } .
وَرُوِيَ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ لَا تَغْضَبْ } .
فَنَهْيُهُ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِهِ تَحْتَ الْوُسْعِ وَإِلَّا لَمْ يَنْهَ عَنْ الْمُحَالِ ، وَمَا كَانَ سَبَبُهُ مُحَرَّمًا أَوْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ مَعَ وُجُودِ الْعَقْلِ إلَّا الْمُكْرَهَ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ ، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذَا السَّبَب إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِيهِ ، وَزَالَ عَقْلُهُ كَانَ كَزَوَالِهِ بِبَنْجٍ وَنَحْوِهِ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ عِنْدَنَا ، وَإِلَّا كَانَ كَسُكْرٍ مَعْذُورٍ فِيهِ ، وَنَوْمٍ وَنَحْوِهِ ، وَقَدْ { أَتَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحْمِلُهُ فَوَجَدَهُ غَضْبَانَ ، وَحَلَفَ لَا يَحْمِلُهُمْ وَكَفَّرَ } .
الْحَدِيثَ .
{ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ ، وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ : مَا لَكَ وَلَهَا ؟ دَعْهَا } الْحَدِيثُ وَهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ .
{ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَهْدَى بَعْضُهُنَّ إلَيْهِ طَعَامًا فَضَرَبَتْ يَدَ الْخَادِمِ ، فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ الطَّعَامَ وَيَقُولُ : غَارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ أَتَى بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَهَا إلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا ، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ ، فَصَارَتْ قَضِيَّةً مَنْ كَسَرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ .
وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْرَةِ ، فَكَسَرْتُ الْإِنَاءَ ، ثُمَّ نَدِمْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ ؟ فَقَالَ : إنَاءٌ مِثْلُ إنَاءٍ ، وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي بَابِ تَرْكِ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ سُمَيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ { اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ

بِنْتِ حُيَيٍّ ، وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبِ : أَعْطِيهَا بَعِيرَكِ فَقَالَتْ : أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ .
} سُمَيَّةُ تَفَرَّدَ عَنْهَا ثَابِتٌ ؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجَوَابُ عَمَّا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْإِنْكَارَ اخْتَصَرَهُ الرَّاوِي ، وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ النَّبِيِّ فَاكْتَفَى بِهِ .
وَالْحَدِيثُ الْأَخِيرُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِذَلِكَ ، وَظَهَرَ أَيْضًا الْجَوَابُ عَمَّا قَالَ الْبُخَارِيُّ : بَابُ إذَا لَطَمَ الْمُسْلِمُ يَهُودِيًّا عِنْدَ الْغَضَبِ ، ثُمَّ رَوَى قِصَّةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمَّا سَمِعَ الْيَهُودِيَّ يَقُولُ : وَاَلَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ ، فَغَضِبَ فَلَطَمَهُ ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ مَعَ وُجُودِ الْعَقْلِ لَا يُسَامَحُ بِسَبَبِهِ فِي الْأَفْعَالِ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ جَزَاءُ هَذَا الْفِعْلِ اخْتَصَرَهُ الرَّاوِي مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَوُضُوحِهِ ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَلِهَذَا فَهِمَ الْبُخَارِيُّ خِلَافَهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ { ابْن عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَذَكَرَ الْقِصَّةَ ، { وَدُخُولَ عُمَرَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلَهُ : لَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ ، فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا ، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي فَقَالَتْ : مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ ، فَقُلْتُ : قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ أَفَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ .
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ : لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْسَمَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكِ فَتَبَسَّمَ أُخْرَى فَقُلْتُ : أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " فَجَلَسْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً فَقُلْتُ : اُدْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِك ، فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، فَاسْتَوَى جَالِسًا ثُمَّ قَالَ : أَوَ فِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَانَ قَدْ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ ، حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَوْجِدَتِهِ أَيْ : غَضَبِهِ } .

وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَيُكْرَهُ هَجْرُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالْفُسَّاقِ الْمُدْمِنِينَ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَالْأَوْلَى التَّحْرِيمُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا ، وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ } وَفِي رِوَايَةٍ " فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا " .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ " يَصُدُّ " بِضَمِّ الصَّادِ يُعْرِضُ أَيْ : يُوَلِّيهِ عُرْضَهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ : جَانِبَهُ .
وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلَاثٍ فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنْ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى إصْرَارِهِمَا ، وَأَوَّلُهُمَا فَيْئًا يَكُونُ سَبْقُهُ بِالْفَيْءِ كَفَّارَةً لَهُ ، فَإِنْ سَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلْ وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلَامَهُ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ ، وَإِنْ مَاتَا عَلَى إصْرَارِهِمَا لَمْ يَدْخُلَا الْجَنَّةَ جَمِيعًا أَبَدًا } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ ، فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْهِجْرَةِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ أَبَا عَامِرٍ أَخْبَرَهُمْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنِ هِلَالٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ ، وَقَالَ : " إذَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ غَطَّى وَجْهَهُ عَنْ رَجُلٍ انْتَهَى كَلَامُهُ " .

أَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو وَهِلَالٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَبَاقِيهِ جَيِّدٌ .
وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " فَإِنْ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا فَذَكَرَهُ وَفِيهِ " فَإِذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ بَاءَ بِإِثْمِهِ " حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { السَّلَامُ يَقْطَعُ الْهِجْرَانَ } وَذَكَرَ النَّوَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا يَزُولُ الْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ بِالسَّلَامِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْقَاسِمِ الْمَالِكِيِّ إنْ كَانَ يُؤَدِّيهِ لَمْ يَقْطَعْ السَّلَامُ هِجْرَتَهُ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ السَّلَامِ يَقْطَعُ الْهِجْرَانَ ؟ فَقَالَ : قَدْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَقَدْ صَدَّ عَنْهُ ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا } فَإِذَا كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ ، وَأَنْ يُصَافِحَهُ ، ثُمَّ قَالَ : إلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ هِجْرَانٍ فِي شَيْءٍ يُخَالَفُ عَلَيْهِ فِيهِ الْكُفْرُ فَهُوَ جَائِزٌ ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ حِين خَافَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهِمْ : " لَا تُكَلِّمُوهُمْ " قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : عُمَرُ قَالَ فِي صَبِيغٍ : لَا تُجَالِسُوهُ ، قَالَ : الْمُجَالَسَةُ الْآنَ غَيْرُ الْكَلَامِ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : كَانَ لِي جَارٌ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ ؟ فَسَكَتَ ، وَقَدْ قَالَ لِي فِي بَعْضِ هَذَا الْكَلَامِ : لَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ وَلَا تُجَالِسْهُ .

قَالَ الْقَاضِي : فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ بَلْ يَعُودُ إلَى حَالِهِ مَعَ الْمَهْجُورِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْأَثْرَمِ وَقَوْلَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ لَا يُكَلِّمُ الرَّجُلَ أَيُجَرِّبُهُ السَّلَامَ مِنْ الصَّرْم ؟ فَقَالَ : أَتَخَوَّفُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَصُدُّ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ، وَقَدْ كَانَا مُتَآنِسَيْنِ يَلْقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِالْبِشْرِ إلَّا أَنْ يَتَخَوَّفَ مِنْهُ نِفَاقًا قَالَ : وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ أَحْمَدُ خَارِجًا مِنْ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ حَتَّى يَعُودَ إلَى عَادَتِهِ مَعَهُ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْمُؤَانَسَةِ ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ لَا تَزُولُ إلَّا بِعَوْدِهِ إلَى عَادَتِهِ مَعَهُ انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي وَتَقَدَّمَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي الَّذِي تَشْتُمُهُ ابْنَةُ عَمِّهِ إذَا لَقِيَهَا : سَلِّمْ عَلَيْهَا اقْطَعْ الْمُصَارَمَةَ ؟ فَظَاهِرُهُ أَنَّ السَّلَامَ يَقْطَعُهَا مُطْلَقًا ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْهَجْرَ مُحَرَّمٌ لَا يَزُولُ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيّ ، وَيَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْكِتَابَةَ وَالْمُرَاسَلَةَ كَلَامًا أَنْ يَزُولَ الْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ بِهَا .
ثُمَّ وَجَدْت ابْنَ عَقِيلٍ ذَكَرَهُ وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَاوِيُّ : وَأَصَحُّهُمَا يَزُولُ لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ : لَا تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا فَيَكْشِفَ اللَّهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَا وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إذَا ذُكِرُوا وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا وَاسْتَغْنِ بِاَللَّهِ عَنْ كُلٍّ فَإِنَّ بِهِ غِنًى لِكُلٍّ وَثِقْ بِاَللَّهِ يَكْفِيكَا وَقَالَ صَاحِبُ الْمُخْتَارِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : وَلَا غِيبَةَ لِظَالِمٍ وَلَا لِفَاسِقٍ وَلَا إثْمَ فِي السَّعْيِ بِهِ وَلَا غِيبَةَ إلَّا لِمَعْلُومٍ وَلَا غِيبَةَ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ ،

وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ ، وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ ذَكَرَهُ النَّوَاوِيُّ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ ، وَالْأَوَّلُ مَأْثُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ ، وَلَمْ يَذْكُر أَصْحَابُنَا هَذَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ هَذَا فَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ إنْ عَرَفَ بَعْدَ الْبَحْثِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِلَّا جَازَ فَلَيْسَ هَذَا بِبَعِيدٍ ، وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ الْغِيبَةَ حَرَامٌ إلَّا فِي حَالٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا يَضُرُّ النَّاسَ بِاللِّسَانِ ، وَالْيَدِ فَلَا غِيبَةَ فِي ذِكْرِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { اُذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ } وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إنَّ الْمُظْهِرَ لِلْمُحَرَّمَاتِ تَجُوزُ غِيبَتُهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، قَالَ : وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ } .
وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ بَدْرٍ عَنْ أَبَانَ ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ ، وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَسُئِلَ أَيْضًا عَنْ غِيبَةِ تَارِكِ الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : إذَا قِيلَ عَنْهُ : إنَّهُ تَارِكٌ الصَّلَاةَ وَكَانَ تَارِكَهَا فَهَذَا جَائِزٌ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُشَاعَ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَيُهْجَرَ حَتَّى يُصَلِّيَ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْمُسْتَتِرِ : وَيُذْكَرُ أَمْرُهُ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ ، وَقَالَ أَيْضًا : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ ، وَابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِعِرْضِهِ عَلَى مَنْ اغْتَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَابَهُ ، فَإِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ ، وَحَدِيثُ أَبِي ضَمْضَمٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِعِرْضِهِ إذَا أَصْبَحَ لَعَلَّ الْمُرَادُ مِنْ غِيبَتِهِ وَقَعَتْ مَعَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِحَّتَهُ .

فَصْلٌ ( فِي الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّوْلَةِ ) .
قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ الْبَلْخِيّ دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ ، فَجَاءَهُ رَسُولُ الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُهُ عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ .
فَقَالَ أَحْمَدُ : لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ قَالَ : يُسْتَعَانُ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ قَالَ : إنَّ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ لَا يَدْعُونَ إلَى أَدْيَانِهِمْ ، وَأَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ دَاعِيَةٌ .
عَزَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إلَى مَنَاقِبِ الْبَيْهَقِيّ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ يَعْنِي لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَقَالَ : فَالنَّهْيُ عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالدَّاعِيَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْأُمَّةِ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرَ .
وَفِي جَامِعِ الْخِلَالِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ أَصْحَابَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ ، وَأَهْلُ الْبِدَع وَالْأَهْوَاءِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ .
فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ الضَّرَرِ عَلَى الدِّينِ وَالْمُسْلِمِينَ وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي مَنَاقِبِ أَحْمَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَرُّوذِيِّ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، فَأَذِنَ فَجَاءَ أَرْبَعَةُ رُسُلِ الْمُتَوَكِّلَ يَسْأَلُونَهُ فَقَالُوا : الْجَهْمِيَّةُ يُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى أُمُورِ السُّلْطَانِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا أَوْلَى أَمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ : أَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَلَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى أُمُورِ السُّلْطَانِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ، وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُسَلَّطُونَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَكُونُوا تَحْتِ أَيْدِيهمْ ، قَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ السَّلَفُ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرُّوذِيُّ أَيُسْتَعَانُ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمَا مُشْرِكَانِ ، وَلَا يُسْتَعَانُ بِالْجَهْمِيِّ ؟ قَالَ : يَا بُنَيَّ يَغْتَرُّ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَأُولَئِكَ لَا يَغْتَرُّ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ .

فَصْل ( فِي حَظْرِ حَبْسِ أَهْلِ الْبِدَعِ لِبِدْعَتِهِمْ ) .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ يَتَعَرَّضُونَ وَيَكْفُرُونَ قَالَ : لَا تَتَعَرَّضُوا لَهُمْ قُلْتُ : وَأَيُّ شَيْءٍ تَكْرَهُ مِنْ أَنْ يُحْبَسُوا ؟ قَالَ : لَهُمْ وَالِدَاتٌ وَأَخَوَاتٌ ، قُلْت : فَإِنَّهُمْ قَدْ حَبَسُوا رَجُلًا وَظَلَمُوهُ ، وَقَدْ سَأَلُونِي أَنْ أَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ يُحْبَسُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَلَا ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا جَارُنَا حَبَسَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَمَاتَ فِي السِّجْنِ ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ غَيْرَ مَرَّةٍ كَيْف حَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ فَقُلْتُ لَهُ .
قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَاعِدًا فَجَاءَ الْفُضَيْلُ فَقَالَ : لَا تُجَالِسُوهُ يَعْنِي لِابْنِ عُيَيْنَةَ تَحْبِسُ رَجُلًا فِي السِّجْنِ ؟ مَا يُؤْمِنُكَ أَنْ يَقَعَ السِّجْنُ عَلَيْهِ قُمْ فَأَخْرِجْهُ فَعَجِبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَجَعَلَ يَسْتَحْسِنُهُ .

فَصْلٌ ( فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ الْخَفِيِّ وَالْبَعِيدِ وَالْمَاضِي ) .
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ : وَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لِمُنْكَرِ فِعْلٍ خَفِيٍّ عَلَى الْأَشْهَرِ ، أَوْ مَسْتُورٍ ، أَوْ مَاضٍ ، أَوْ بَعِيدٍ ، وَقِيلَ : يُجْهَلُ فَاعِلُهُ ، وَمَحَلُّهُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ أَيْضًا ، وَالْإِنْكَارُ فِيمَا فَاتَ وَمَضَى إلَّا فِي الْعَقَائِدِ وَالْآرَاءِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَاضِي يُشْتَرَطُ أَنْ يُعْلَمَ اسْتِمْرَارُ الْفَاعِلِ عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَرِ ، فَإِنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ تَرْكُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْفِعْل لَمْ يَجُزْ إنْكَارُ مَا وَقَعَ عَلَى الْفِعْلِ ، كَذَا قَالَ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ نَدِمَ ، وَأَقْلَعَ وَتَابَ ، فَصَحِيحٌ ، لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَيَرْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ لِيُقِيمَ الْحَدَّ ؟ يَنْبَنِي عَلَى سُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ فَإِنْ اعْتَقَدَ الشَّاهِدُ سُقُوطَهُ لَمْ يَرْفَعْهُ وَإِلَّا رَفَعَهُ ، وَبَيَّنَ الْحَالَ كَمَا قَالَهُ فِي الْمُغْنِي فِيمَنْ شَهِدَ بِرَهْنِ الرَّهْنِ ثَانِيًا عَلَى دَيْنٍ أَخَذَهُ الرَّاهِنُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ ، وَجَعَلَهُ الرَّاهِنُ رَهْنًا بِهِمَا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْمُحَرَّمِ وَلَمْ يَتُبْ ، فَهَذَا يَجِبُ إنْكَارُ الْفِعْلِ الْمَاضِي وَإِصْرَارُهُ ، وَهَلْ يَرْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ؟ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ السَّتْرِ وَاسْتِحْبَابِهِ ، وَالتَّفْرِقَةِ فِيهِ ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عِنْدَنَا بِسَبَبٍ قَدِيمٍ يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ ، فَهَذَا إنْكَارٌ ، وَإِقَامَةُ شَهَادَةٍ ، وَعُلِّلَ الْمَنْعُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ : إنَّمَا شَهِدَ لِضِغْنٍ وَلَمْ يُعَلَّلْ بِأَنَّ الشَّاهِدَ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { احْتَجَّ آدَم وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى : يَا آدَم خَيَّبْتنَا وَأَخْرَجْتنَا مِنْ الْجَنَّةِ } وَفِي لَفْظٍ : { تَحَاجَّ آدَم وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى : أَنْتَ آدَم الَّذِي أَغْوَيْت النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ

مِنْ الْجَنَّةِ } .
وَفِي لَفْظٍ { احْتَجَّ آدَم وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ مُوسَى : أَنْتَ آدَم خَلَقَك اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ وَأَسْكَنَك فِي جَنَّتِهِ ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِك إلَى الْأَرْضِ قَالَ آدَم : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ ، وَأَعْطَاك الْأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَرَّبَك نَجِيًّا ، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؟ قَالَ مُوسَى : بِأَرْبَعِينَ عَامًا قَالَ آدَم : فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا : { وَعَصَى آدَم رَبَّهُ فَغَوَى } قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ ؟ } هُوَ فِي الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَحَجَّ آدَم مُوسَى } وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ { فَحَجَّ آدَم مُوسَى ثَلَاثًا } وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ ؟ هَذِهِ الْكِتَابَةُ فِي التَّوْرَاةِ كَتَصْرِيحِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا قَدَّرَهُ وَأَرَادَهُ قَدِيمٌ ، وَآدَمُ مَرْفُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ أَيْ : غَلَبَ فَظَهَرَ بِالْحُجَّةِ .
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَمَعْنَى كَلَامِ آدَمَ إنَّك يَا مُوسَى تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كُتِبَ وَقُدِّرَ عَلَيَّ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَلَا تَلُومَنِّي عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّوْمَ عَلَى الذَّنْبِ شَرْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ ، وَإِذْ تَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى آدَمَ ، وَغَفَرَ لَهُ زَالَ عَنْهُ اللَّوْمُ ، فَمَنْ لَامَهُ كَانَ مَحْجُوجًا بِالشَّرْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْعَاصِي مِنَّا لَوْ قَالَ : هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ قَدَّرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ اللَّوْمُ وَالْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ .
( فَالْجَوَابُ ) أَنَّ هَذَا الْعَاصِي بَاقٍ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ جَارٍ

عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَاللَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا ، وَفِي زَجْرٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الزَّجْرِ مَا لَمْ يَمُتْ ، فَأَمَّا آدَم فَمَيِّتٌ خَارِجٌ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ ، وَعَنْ الْحَاجَةِ إلَى الزَّجْرِ ، فَفِي الْقَوْلِ إيذَاءٌ لَهُ ، وَتَخْجِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى قَالَ : لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَلَامَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِسَبَبِ فِعْلِهِ لَا لِأَجْلِ كَوْنِهَا ذَنْبًا ، وَلِهَذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقَدَرِ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لِأَجْلِ الذَّنْبِ كَمَا يَظُنُّهُ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ فَلَيْسَ مُرَادًا بِالْحَدِيثِ ، فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ ، وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَلَا يَجُوزُ لَوْمُ التَّائِبِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَجَّ بِالْقَدْرِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدْرِ عَلَى الذَّنْبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَسَائِرِ الْعُقَلَاءِ .
وَقَالَ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْفُرْقَانِ : وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَلَّتْ بِهِ طَائِفَتَانِ طَائِفَةٌ كَذَّبَتْ بِهِ لِمَا ظَنُّوا أَنَّهُ يَقْتَضِي رَفَعَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَمَّنْ عَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لِأَجْلِ الْقَدَرِ ، وَطَائِفَةٌ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ جَعَلُوهُ حُجَّةً لِأَهْلِ الْحَقِيقَةِ الَّذِينَ شَهِدُوهُ أَوْ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ أَنَّ لَهُمْ فِعْلًا .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّمَا حَجَّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ تَابَ أَوْ لِأَنَّ الذَّنْبَ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ ، وَاللَّوْمَ فِي أُخْرَى ، أَوْ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ ، وَلَكِنْ وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلُمْ إيَّاهُ إلَّا لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ ، فَقَالَ : لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا

وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ ، لَمْ يَلُمْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا ، وَتَابَ مِنْهُ فَإِنَّ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ لَا يُلَامُ ، وَلَوْ كَانَ آدَم يَعْتَقِدُ رَفْعَ الْمُلَامَ عَنْهُ لِأَجْلِ الْقَدَرِ لَمْ يَقُلْ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } .
وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَنْ يَصْبِرَ وَيُسَلِّمَ ، وَعِنْدَ الذُّنُوبِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك } : فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ ، وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ الْمَعَائِبِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَهُوَ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ الْمَاضِي يُلَامُ صَاحِبُهُ وَيُنْكَرُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتُبْ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الَّذِي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ .
وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمَرُّوذِيِّ وَأَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمْ فِي الطُّنْبُورِ وَوِعَاءِ الْخَمْرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ يَكُونُ مُغَطًّى لَا نَعْرِضُ لَهُ ، وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يُنْكِرُهُ وَيُتْلِفُهُ .
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ : هَلْ يَجِبُ إنْكَارُ الْمُغَطَّى ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَصَحُّهُمَا : يَجِبُ ؛ لِأَنَّا تَحَقَّقْنَا الْمُنْكَرَ .
( الثَّانِيَةُ ) : لَا يَجِبُ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا أَظْهَرُوا الْخَمْرَ أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ ، وَإِذَا سَتَرُوهُ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ ، وَكَذَا فِي التَّرْغِيبِ أَنَّهُ يَجِبُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَفِي مُعْتَقَدِ ابْنِ عَقِيلٍ : وَلَا يُكْشَفُ مِنْ الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَظْهَرْ ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : مَنْ تَسَتَّرَ بِالْمَعْصِيَةِ فِي دَارِهِ ، وَأَغْلَقَ بَابَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَجَسَّسَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مَا يَعْرِفُهُ كَأَصْوَاتِ الْمَزَامِيرِ وَالْعِيدَانِ فَلِمَنْ سَمِعَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ وَيُكَسِّرَ الْمَلَاهِيَ ، وَإِنْ فَاحَتْ رَوَائِحُ الْخَمْرِ ، فَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الْإِنْكَارِ وَسَيَأْتِي كَلَامُ ابْنُ عَقِيلٍ

فِيهِ فِي فُصُولِ اللِّبَاسِ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالتَّجَسُّسُ الْبَحْثُ عَنْ عَيْبِ الْمُسْلِمِينَ وَعَوْرَاتِهِمْ ، فَالْمَعْنَى لَا يَبْحَثُ أَحَدُكُمْ عَنْ عَيْبِ أَخِيهِ لِيَطَّلِعَ عَلَيْهِ إذَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : هَذَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا قَالَ : إنَّا نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّسِ ، فَإِنْ يَظْهَرُ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذُ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ الْعَاقُولِيِّ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَسْمَعُ صَوْتَ الطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ ، فَقَالَ : وَمَا عَلَيْكَ وَمَا غَابَ عَنْكَ ؟ فَلَا تُفَتِّشْ .
وَنَقَلَ يُوسُفُ وَغَيْرُهُ وَمَا عَلَيْكَ إذَا لَمْ تَعْرِفْ مَكَانَهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْبٍ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ ، قَالَ : يَأْمُرُهُ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ يَجْمَعُ عَلَيْهِ وَيُهَوِّلُ عَلَيْهِ .
وَنَقَلَ جَعْفَرٌ فِيمَنْ يَسْمَعُ صَوْتَ الْغِنَاءِ فِي الطَّرِيقِ .
قَالَ : هَذَا قَدْ ظَهَرَ ، عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَاهُمْ وَرَأْي أَنْ يُنْكِرَ الطَّبْلَ يَعْنِي إذَا سَمِعَ صَوْتَهُ .
وَقِيلَ لَهُ : مَرَرْنَا بِقَوْمٍ قَدْ أَشْرَفُوا مِنْ عِلِّيَّةٍ لَهُمْ يُغَنُّونَ فَجِئْنَا صَاحِبَ الْخَبَرِ أَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ : لَمْ تَكَلَّمُوا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَمِعْتُمْ ؟ فَقِيلَ : لَا ، قَالَ : كَانَ يُعْجِبُنِي أَنْ تَكَلَّمُوا ، ثُمَّ قَالَ : لَعَلَّ النَّاسَ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ وَكَانُوا يُشْهِرُونَ .
وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ أَنَّهُ لَزِمَ الْقَادِرَ الْحُضُورُ وَالْإِنْكَارُ ، وَإِلَّا لَمْ يَحْضُرْ وَانْصَرَفَ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ : وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ وَالْعَامِّيِّ أَنْ يَكْشِفَ مُنْكَرًا قَدْ سُتِرَ ، بَلْ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ كَشْفُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَجَسَّسُوا } .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ إرَاقَتُهَا ، وَلَا ضَمَانَ

عَلَيْهِ ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا أَظْهَرُوا الْخَمْرَ ، فَإِنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِإِرَاقَتِهَا ، وَشَقِّ ظُرُوفِهَا وَكَسْرِ دِنَانِهَا ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ إذَا أَسَرُّوا ذَلِكَ بَيْنَهُمْ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ الْمَسْتُورِ ، وَلَمْ نَجِدْ فِيهِ خِلَافًا ، وَمَعْنَاهُ كَلَامُ صَاحِبِ النَّظْمِ ، قَالَ فِي الرِّعَايَةِ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ : وَقِيلَ : مَنْ عَلِمَ مُنْكَرًا قَرِيبًا مِنْهُ فِي دَارٍ وَنَحْوِهَا دَخَلَهَا ، وَأَنْكَرَهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ : الْمُسْتَتِرُ مَنْ فَعَلَهُ بِمَوْضِعٍ لَا يُعْلَمُ بِهِ غَالِبًا إمَّا لِبُعْدِهِ أَوْ نَحْوِهِ غَيْرُ مَنْ حَضَرَهُ وَيَكْتُمُهُ ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ بِمَوْضِعٍ يُعْلَمُ بِهِ جِيرَانُهُ ، وَلَوْ فِي دَارِهِ فَإِنَّ هَذَا مُعْلِنٌ مُجَاهِرٌ غَيْرُ مُسْتَتِرٍ .

فَصْلٌ ( يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ غَيْر الْمَشْرُوعِ وَإِنْ كَثُرَ فَاعِلُوهُ ) .
يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ يَفْعَلُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ خِلَافَ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ ، وَيَشْتَهِرُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَيَقْتَدِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِهِمْ فِي فِعْلِهِمْ .
وَاَلَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَارِفِ مُخَالَفَتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلًا وَفِعْلًا ، وَلَا يُثَبِّطُهُ عَنْ ذَلِكَ وَحْدَتُهُ وَقِلَّةُ الرَّفِيقِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ : وَلَا يَغْتَرُّ الْإِنْسَانُ بِكَثْرَةِ الْفَاعِلِينَ لِهَذَا الَّذِي نَهَيْنَا عَنْهُ مِمَّنْ لَا يُرَاعِي هَذِهِ الْآدَابَ ، وَامْتَثِلْ مَا قَالَهُ السَّيِّدُ الْجَلِيلُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : لَا تَسْتَوْحِشْ طُرُقَ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهَا ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ .
وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : مَنْ صَدَرَ اعْتِقَادُهُ عَنْ بُرْهَانٍ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ تَلَوُّنٌ يُرَاعِي بِهِ أَحْوَالَ الرِّجَالِ .
{ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } .
كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ يَثْبُتُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَلَمْ تَتَقَلَّبْ بِهِ الْأَحْوَالُ فِي كُلِّ مَقَامٍ زَلَّتْ بِهِ الْأَقْدَامُ إلَى أَنْ قَالَ : وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُسْلِمًا إلَى أَنْ يَضِيقَ بِهِ عَيْشٌ ، وَإِنَّمَا دِينُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى شَعْثِ الدُّنْيَا وَصَلَاحِ الْآخِرَةِ فَمَنْ طَلَبَ بِهِ الْعَاجِلَةَ أَخْطَأَ .

فَصْلٌ ( فِي تَمْيِيزِ الْأَعْمَالِ وَانْقِسَامِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ إلَى طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ بِالنِّيَّةِ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَاعِدَةٌ نَافِعَةٌ عَامَّةٌ فِي الْأَعْمَالِ ) وَذَلِكَ أَنَّهَا تَشْتَبِهُ دَائِمًا فِي الظَّاهِرِ ، مَعَ افْتِرَاقِهَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْبَاطِنِ حَتَّى تَكُونَ صُورَةُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا الْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الْبَاطِنُ ذَلِكَ إلَى فِعْلِ مَا هُوَ شَرٌّ بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ مَعَ ظَنِّ الْفَاعِلِ ، أَوْ غَيْرِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ ، وَإِلَى تَرْكِ مَا هُوَ خَيْرٌ مَعَ ظَنِّ التَّارِكِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ تَرَكَ شَرًّا ، إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهِدَايَةِ ، وَحُسْنِ النِّيَّةِ ، وَأَكْثَرُ مَا يُبْتَلَى النَّاسُ بِذَلِكَ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ ، وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ إنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ بِالنَّوْعِ يَنْقَسِمُ إلَى طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ ، هَلْ تَجْتَمِعُ فِيهِ الْجِهَتَانِ ؟ وَخَالَفَ أَبُو هَاشِمٍ فِي الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ أَيْضًا .
وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ النَّوْعَ الْوَاحِدَ مِنْ أَنَّ الْحَيَوَانَ كَالْآدَمِيِّ يَنْقَسِمُ إلَى مُطِيعٍ وَعَاصٍ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ هَلْ يَجْتَمِعُ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ ؟ فَذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمَانِعُونَ مِنْ تَخَلُّدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لِجَوَازِ ذَلِكَ ، وَأَبَاهُ الْمُخَلِّدَةُ ، وَأَنَا أَذْكُرُ لِذَلِكَ أَمْثَالًا يَتَفَطَّنُ لَهَا اللَّبِيبُ حَتَّى تَحَقُّق النِّيَّةُ فِي الْعَمَلِ ، فَإِنَّهَا هِيَ الْفَارِقَةُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ ، عَظِيمَةُ الْقَدْرِ .
فَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الظَّاهِرَةِ فِي الْأَعْمَالِ : الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْجِهَادُ وَالْحُكْمُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ الصَّادِرُ مِنْ الْمُرَائِي الَّذِي يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي

الْأَرْضِ ، وَرِيَاءَ النَّاسِ ، وَمِنْ الْمُخْلِصِ الَّذِي يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةِ ، وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ فِي التَّرْكِ أَنَّ التَّقْوَى وَالْوَرَعَ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَالشُّبُهَاتِ مِنْ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ ، وَفُرُوعِ ذَلِكَ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ تَشْتَبِهُ بِالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْكِبْرِ فَقَدْ يَتْرُكُ الرَّجُلُ مِنْ شَهَادَةِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ إظْهَارُهَا مَا يُظَنُّ أَنْ يَتْرُكَهُ خَوْفًا مِنْ الْكَذِبِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ جُبْنًا عَنْ الْحَقِّ ، وَيَتْرُكُ الْجِهَادَ ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ ظَنَّا أَنَّهُ يَتْرُكُهُ خَوْفًا مِنْ الظُّلْمِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ جُبْنًا وَيَتْرُكُ فِعْلَ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ ظَنًّا أَنَّهُ تَرَكَهُ وَرَعًا مِنْ الظُّلْمِ إذَا كَانَ الْمُحْسِنُ إلَيْهِ يُخَافُ مِنْهُ الظُّلْمَ ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ بُخْلًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الظُّلْمِ ، وَقَدْ يَتْرُكُ قَضَاءَ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، وَشُهُودِ الْجَنَائِزِ وَالتَّوَاضُعِ فِي الْأَخْلَاقِ ، وَتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ظَنَّا مِنْهُ أَنَّهُ تَرَكَهُ لِئَلَّا يُفْضِي إلَى مُخَالَطَةِ الظَّلَمَةِ وَالْخَوَنَةِ وَالْكَذَبَةِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ كِبْرًا وَتَرَأُّسًا عَلَيْهِمْ ، كَمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ظَنًّا أَنَّهُ فَعَلَهُ لِأَجْلِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ رَغْبَةً إلَيْهِمْ حِرْصًا وَطَمَعًا أَوْ رَهْبَةً مِنْهُمْ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } ثُمَّ قَسَّمَ الْهِجْرَةَ الْوَاحِدَةَ بِالنَّوْعِ إلَى قِسْمَيْنِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ .

فَصْلٌ ( لَا يَنْبَغِي تَرْكُ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ خَوْفَ الرِّيَاءِ ) .
مِمَّا يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ أَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ طَاعَةٍ يَقُومُ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِهَا خَوْفَ وُقُوعِهَا عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى ذَلِكَ ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ وَرَغَّبَهُ فِيهِ ، وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الرِّيَاءُ بَلْ يَذْكُرُ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَيَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَذَكَرَ قَوْلَ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ قَالَ : فَلَوْ فَتَحَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ بَابَ مُلَاحَظَةِ النَّاسِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْ تَطَرُّقِ ظُنُونِهِمْ الْبَاطِلَةِ لَانْسَدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فَأَمَّا تَرْكُ الطَّاعَاتِ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ غَيْرَ الدِّينِ فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ الدِّينَ وَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُخْلِصًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ ؛ لِأَنَّ الْبَاعِثَ الدِّينُ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُقَالَ : مُرَاءٍ ، فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : إذَا أَتَاك الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ ، فَقَالَ : إنَّك مُرَاءٍ فَزِدْهَا طُولًا ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ تَرَكَ الْعِبَادَةَ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ ، فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ أَحَسُّوا مِنْ نُفُوسِهِمْ بِنَوْعِ تَزَيُّنٍ فَقَطَعُوا ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَمِنْ هَذَا قَوْلِ الْأَعْمَشِ كُنْتُ عِنْدَ

إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ فَغَطَّى الْمُصْحَفَ ، وَقَالَ : لَا يَظُنُّ أَنِّي أَقْرَأُ فِيهِ كُلَّ سَاعَةٍ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَتْرُكُ الْعِبَادَةَ خَوْفَ وُقُوعِهَا عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتْرُكَ خَوْفَ عُجْبٍ يَطْرَأُ بَعْدَهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ فِي الْعُجْبِ قَبْل فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَيَأْتِي قَبْلَ فُصُولِ اللِّبَاسِ فِي الدُّخُولِ عَلَى السُّلْطَانِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ قَوْلُ دَاوُد الطَّائِيِّ أَخَافُ عَلَيْهِ السَّوْطَ ، قَالَ : إنَّهُ يَقْوَى قَالَ : أَخَافُ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ : إنَّهُ يَقْوَى قَالَ : أَخَافُ عَلَيْهِ الدَّاءَ الدَّفِينَ : الْعُجْبَ .

فَصْلٌ ( فِي تَفَاوُتِ الْأَجْرِ لِمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَمَنْ لَا يَشُقُّ ) .
قَالَ الْخَلَّالُ : كَتَبَ إلَيَّ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْإِسْكَافِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَشْرَعُ لَهُ وَجْهُ بِرٍّ ، فَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، وَآخَرُ يَشْرَعُ لَهُ فَيُسَرُّ بِذَلِكَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ قَالَ : أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ، وَهُوَ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا { الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ ، وَاَلَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ لَهُ أَجْرَانِ } .
السَّفَرَةُ الرُّسُلُ لِأَنَّهُمْ يُسْفِرُونَ إلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقِيلَ : الْكَتَبَةُ ، وَالْبَرَرَةُ الْمُطِيعُونَ ، وَاَلَّذِي يَتَتَعْتَعُ فِيهِ لَهُ أَجْرٌ بِالْقِرَاءَةِ ، وَأَجْرٌ بِتَعَبِهِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ : وَالْمَاهِرُ أَفْضَلُ ، وَأَكْثَرُ أَجْرًا فَإِنَّهُ مَعَ السَّفْرَةِ ، وَلَهُ أُجُورٌ كَثِيرَةٌ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ لِغَيْرِهِ ، وَكَيْف يَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْتَنِ بِكِتَابِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ وَكَثْرَةِ تِلَاوَتِهِ وَدِرَاسَتِهِ كَاعْتِنَائِهِ حَتَّى مَهَرَ فِيهِ ، فَظَاهِرُ هَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } .
وَقَدْ يُقَالُ : مُرَادُ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا اعْتَنَى جُهْدَهُ ، وَهُوَ يَشُقُّ عَلَيْهِ ، وَمُرَادُ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ إذَا حَصَلَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

حُكْمُ اللَّعْنِ ، وَلَعْنِ الْمُعَيَّنِ ) .
وَيَجُوزُ لَعْنُ الْكُفَّارِ عَامًّا ، وَهَلْ يَجُوزُ لَعْنُ كَافِرٍ مُعَيَّنٍ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَلَعْنُ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ جَائِزٌ ، وَأَمَّا لَعْنُهُ الْمُعَيَّنَ ، فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتُوبَ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : قِيلَ : لِأَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ أَيُؤْخَذُ الْحَدِيثُ عَنْ يَزِيدَ فَقَالَ : لَا وَلَا كَرَامَةَ أَوَ لَيْسَ هُوَ فَعَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ ؟ وَقِيلَ لَهُ : إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ : إنَّا نُحِبُّ يَزِيدَ فَقَالَ : وَهَلْ يُحِبُّ يَزِيدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؟ فَقِيلَ لَهُ : أَوَ لَا تَلْعَنُهُ ؟ فَقَالَ : مَتَى رَأَيْتَ أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي لَعْنِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَمِنْ الْفُسَّاقِ بِالِاعْتِقَادِ ، أَوْ بِالْعَمَلِ : لِأَصْحَابِنَا فِيهَا أَقْوَالٌ ( أَحَدُهَا : ) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ ، وَهُوَ قَوْلَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ ( وَالثَّانِي : ) يَجُوزُ فِي الْكَافِرِ دُون الْفَاسِقِ ( وَالثَّالِثُ ) يَجُوزُ مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : فِي لَعْنَةِ يَزِيدَ أَجَازَهَا الْعُلَمَاءُ الْوَرِعُونَ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْمُغِيثِ الْحَرْبِيِّ ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُ ، وَكَلَامُ عَبْدِ الْمُغِيثِ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَفِيهِ نَوْعُ انْتِصَارٍ ضَعِيفٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنْ لَا يُلْعَنَ الْفَاسِقَ الْمُعَيَّنَ ، وَشَنَّعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ اسْتِجَازَةَ ذَمِّ الْمَذْمُومِ ، وَلَعْنَ الْمَلْعُونِ كَيَزِيدَ .
قَالَ : وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ فِي حَقِّ يَزِيدَ مَا يَزِيدُ عَلَى اللَّعْنَةِ ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ مُهَنَّا سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ يَزِيدَ ، فَقَالَ : هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ .
قُلْتُ : فَيُذْكَرُ عَنْهُ الْحَدِيثُ ؟ قَالَ

: لَا يُذْكَرُ عَنْهُ الْحَدِيثُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ عَنْهُ حَدِيثًا .
قُلْتُ : وَمَنْ كَانَ مَعَهُ حِينَ فَعَلَ ؟ فَقَالَ : أَهْلُ الشَّامِ ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : هَذَا أَكْثَرُ مَا يَدُلّ عَلَى الْفِسْقِ لَا عَلَى لَعْنَةِ الْمُعَيَّنِ .
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ .
إِن صَحَّتْ الرِّوَايَةُ قَالَ : وَقَدْ صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ كِتَابًا فِي بَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ ، وَذَكَرَ فِيهِمْ يَزِيدَ قَالَ : وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَعْنُ مَنْ فَعَلَ مَا لَا يُقَارِبُ مِعْشَارَ عُشْرِ مَا فَعَلَ يَزِيدُ ، وَذَكَرَ الْفِعْلَ الْعَامَّ كَلَعْنِ الْوَامِصَةِ وَأَمْثَالِهِ ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي طَالِبٍ سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَمَّنْ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ .
فَقَالَ : لَا تَكَلَّمْ فِي هَذَا ، الْإِمْسَاكُ أَحَبُّ إلَيَّ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى اشْتِغَالِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ عَنْ لَعْنِ غَيْرِهِ .
وَالْأَوْلَى عَلَى جَوَازِ اللَّعْنَةِ كَمَا قُلْنَا فِي تَقْدِيمِ التَّسْبِيحِ عَلَى لَعْنَةِ إبْلِيسَ ، وَسَلَّمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ تَرْكَ اللَّعْنِ أَوْلَى ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ : { إنِّي لَمْ أُبْعَثُ لَعَّانًا ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً } قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَقَدْ لَعَنَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ .
فَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ : قَالَتْ الْوَاقِفِيَّةُ الْمَلْعُونَةُ ، وَالْمُعْتَزِلَةُ الْمَلْعُونَةُ .
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَنْبَلِيِّ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ : لَعْنَةُ اللَّهِ ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَلْعَنُ الْحَجَّاجَ ، وَأَحْمَدُ يَقُولُ : الْحَجَّاجُ رَجُلُ سُوءٍ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : لَيْسَ فِي هَذَا عَنْ أَحْمَدَ لَعْنَةُ مُعَيَّنٍ ، لَكِنَّ قَوْلَ الْحَسَنِ نَعَمْ .
وَقَالَ ابْنُ

الْجَوْزِيِّ قَالَ الْفُقَهَاءُ : لَا تَجُوزُ وِلَايَةُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ إمَّا خَوْفُ فِتْنَةٍ ، أَوْ يَكُونَ الْفَاضِلُ غَيْرَ عَالَمٍ بِالسِّيَاسَةِ لِحَدِيثِ عُمَرَ فِي السَّقِيفَةِ ، وَحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ فِي تَوْلِيَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَجَابَ مَنْ قَالَ : كَانَ خَارِجِيًّا بِأَنَّ الْخَارِجِيَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى مُسْتَحِقٍّ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِدَفْعِ الْبَاطِلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ ابْنِ عَقِيلٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : كَانَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَارِجِيًّا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي ، فَقُلْتُ : لَوْ عَاشَ إبْرَاهِيمُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا ، فَهَبْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ نَزَلَا عَنْ رُتْبَةِ إبْرَاهِيمَ مَعَ كَوْنِهِ سَمَّاهُمَا ابْنَيْهِ ، أَوَ لَا يُصِيبُ وَلَدُ وَلَدِهِ أَنْ يَكُونَ إمَامًا بَعْدَهُ ؟ فَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ خَارِجِيًّا وَإِخْرَاجُهُ عَنْ الْإِمَامَةِ لِأَجْلِ صَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ هَذَا مَا لَا يَقْتَضِيه عَقْلٌ وَلَا دِينٌ ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَمَتَى حَدَّثَتْكَ نَفْسُكَ وَفَاءَ النَّاسِ فَلَا تُصَدِّقْ ، هَذَا ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ النَّاسِ حُقُوقًا عَلَى الْخَلْقِ إلَى أَنْ قَالَ : { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } .
فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ وَأَهْلَكُوا أَوْلَادَهُ ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : فَقَدْ جَوَّزَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْخُرُوجَ عَلَى غَيْرِ الْعَادِلِ ، وَفَسَّرَ ابْنُ عَقِيلٍ الْآيَةَ بِالتَّفْسِيرِ الْمَرْجُوحِ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ أَوَّلَ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسْطَنْطِينِيَّة مَغْفُورٌ لَهُمْ } وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُمْ يَزِيدُ فِي خِلَافَةِ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ ، وَكَانَ فِي الْجَيْشِ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَالْجَيْشُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ لَا مُطْلَقٌ ، وَشُمُولُ الْمَغْفِرَةِ

لِآحَادِ هَذَا الْجَيْشِ أَقْوَى مِنْ شُمُولِ اللَّعْنَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ الظَّالِمِينَ ، فَإِنَّ هَذَا حَصْرٌ ، وَالْجَيْشُ مُعَيَّنُونَ وَيُقَالُ : إنَّ يَزِيدَ إنَّمَا غَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّة لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ : مَنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ وَغَيْرِهِمْ ، فَجَائِزٌ لَعْنَتُهُمْ نَصَّ عَلَيْهِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي اللَّفْظِيَّةِ عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَذَا : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، غَضَبُ اللَّهِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ عَنْ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ : هَتَكَ اللَّهُ الْخَبِيثَ ، وَعَنْ قَوْمٍ : أَخْزَاهُ اللَّهُ .
وَقَالَ فِي آخَرَ : مَلَأَ اللَّهُ قَبْرَهُ نَارًا .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : لَمْ أَرَهُ نَقَلَ لَعْنَةً مُعَيَّنَةً إلَّا لَعْنَةَ نَوْعٍ ، أَوْ دُعَاءٍ عَلَى مُعَيَّنٍ بِالْعَذَابِ ، أَوْ سَبًّا لَهُ لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي : لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُطْلَقِ ، وَالْمُعَيَّنِ ، وَكَذَلِكَ جَدُّنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ .
قَالَ الْقَاضِي : فَأَمَّا فُسَّاقُ أَهْلِ الْمِلَّةِ بِالْأَفْعَالِ كَالزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَقَتْلِ النَّفْسِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَهَلْ يَجُوزُ لَعْنُهُمْ أَمْ لَا ؟ فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ قُلْت لِأَبِي : الرَّجُلُ يُذْكَرُ عِنْدَهُ الْحَجَّاجُ أَوْ غَيْرُهُ يَلْعَنُهُ ؟ فَقَالَ : لَا يُعْجِبُنِي لَوْ عَمَّ فَقَالَ : أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ .
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ مَنْ نَالَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ قَالَ : لَا تَكَلَّمْ فِي هَذَا ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ } قَالَ فَقَدْ تَوَقَّفَ عَنْ لَعْنَةِ الْحَجَّاجِ مَعَ مَا فَعَلَهُ ، وَمَعَ قَوْلِهِ : الْحَجَّاجُ رَجُلُ سُوءٍ ، وَتَوَقَّفَ عَنْ لَعْنَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَعَ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ : هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِالْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ قَتَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَبَهَا لَا يَنْبَغِي

لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ حَدِيثَهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي التَّوَقُّفِ فِي اللَّعْنَةِ فَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَا تَخْفَيْ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَيَتْبَعُ قَوْلَ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ فَهُمَا الْإِمَامَانِ فِي زَمَانِهِمَا ، وَيَقُولُ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ عَلِيًّا ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ، وَنَقُولُ : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ إذَا ذُكِرَ لَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْفِتَنِ عَلَى مَا تَقَلَّدَهُ أَحْمَدُ .
قَالَ الْقَاضِي فَقَدْ صَرَّحَ الْخَلَّالُ بِاللَّعْنَةِ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِيمَا وَجَدْته فِي تَعَالِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ : لَيْسَ لَنَا أَنْ نَلْعَنَ إلَّا مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْخَلَّالُ اللَّعْنُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ لَا الْمُعَيَّنُ كَمَا قُلْنَا فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ ، وَكَمَا نَقُولُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، فَإِنَّا نَشْهَدُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ وَنَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَلَا نَشْهَدُ بِذَلِكَ لِمُعَيَّنٍ إلَّا مَنْ شَهِدَ لَهُ النَّصُّ ، أَوْ شَهِدَ لَهُ الِاسْتِفَاضَةُ عَلَى قَوْلٍ ، فَالشَّهَادَةُ فِي الْخَبَرِ كَاللَّعْنِ فِي الطَّلَبِ ، وَالْخَبَرُ وَالطَّلَبُ نَوْعَا الْكَلَامِ ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الطَّعَّانِينَ وَاللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، فَالشَّفَاعَةُ ضِدُّ اللَّعْنِ كَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ ضِدُّ اللَّعْنَ وَكَلَامُ الْخَلَّالِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَلْعَنُ الْمُعَيَّنِينَ مِنْ الْكُفَّارِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَاتِلَ عُمَرَ ، وَكَانَ كَافِرًا ، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُلْعَنُ الْمُعَيَّنُ

مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَاتِلَ عَلِيٍّ ، وَكَانَ خَارِجِيًّا .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْقَاضِي لِلْمَنْعِ بِمَا جَاءَ مِنْ ذَمِّ اللَّعْنِ ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ تُرْجَى لَهُمْ الْمَغْفِرَةُ ، وَلَا تَجُوزُ لَعْنَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّعْنَ يَقْتَضِي الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ بِخِلَافِ مَنْ حُكِمَ بِكُفْرِهِ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ ، فَإِنَّهُمْ مُبْعَدُونَ مِنْ الرَّحْمَةِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ ، وَإِطْلَاقِهِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي جَاءَتْ فِي اللَّعْنِ وَجَمِيعُهَا مُطْلَقَةٌ كَالرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي ، وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوَكِّلُهُ ، وَشَاهِدِيهِ ، وَكَاتِبِيهِ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : فَصَارَ لِلْأَصْحَابِ فِي الْفُسَّاقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ( أَحَدُهَا : ) الْمَنْعُ عُمُومًا وَتَعَيُّنًا إلَّا بِرِوَايَةِ النَّصِّ .
( وَالثَّانِي ) : إجَازَتُهَا .
( وَالثَّالِثُ : ) التَّفْرِيقُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ ، لَكِنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْمُعَيَّنِ هَلْ هُوَ مَنْعُ كَرَاهَةٍ أَوْ مَنْعُ تَحْرِيمٍ ؟ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضِيِّ لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ لَعْنَةِ الرَّجُلِ الَّذِي يُدْعَى حِمَارًا .
وَقَالَ هُنَا ظَاهِرُ كَلَامِهِ الْكَرَاهَةُ ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْقَاضِي فِيمَا بَعْدُ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ : لَا تُعْجِبُنِي لَعْنَةُ الْحَجَّاجِ وَنَحْوِهِ لَوْ عَمَّ فَقَالَ : أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ .
قَالَ الْقَاضِي : فَقَدْ كَرِهَ أَحْمَدُ لَعْنَ الْحَجَّاجِ قَالَ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَأَوَّلَ تَوَقُّفُ أَحْمَدَ عَنْ لَعْنَةِ الْحَجَّاجِ وَنُظَرَائِهِ ( أَنَّهُ ) كَانَ مِنْ الْأُمَرَاءِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا : ) نَهْيٌ جَاءَ عَنْ لَعْنَةِ الْوُلَاةَ خُصُوصًا ( الثَّانِي : ) أَنَّ لَعْنَ الْأُمَرَاءِ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْهَرْجِ ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفِتَنِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي غَيْرِهِمْ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَاَلَّذِينَ اُتُّخِذُوا أَئِمَّةً فِي الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ الْأُمَرَاءِ عِنْد أَصْحَابِهِمْ ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ

إلَى الْفِتَنِ .
وَذَكَرَ يَعْنِي الْقَاضِي مَا نَقَلَهُ مِنْ خَطِّ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ أَسْنَدَهُ إلَى صَالِحٍ بْنِ أَحْمَدَ قُلْتُ لِأَبِي : إنَّ قَوْمًا يَنْسُبُونَ إلَيَّ تَوَلِّي يَزِيدَ ، فَقَالَ : يَا بُنَيَّ وَهَلْ يَتَوَلَّى يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؟ فَقُلْتُ : وَلِمَ لَا تَلْعَنُهُ ؟ فَقَالَ : وَمَتَى رَأَيْتنِي أَلْعَنُ شَيْئًا ؟ لِمَ لَا نَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ ؟ فَقُلْتُ : وَأَيْنَ لَعَنَ اللَّهُ يَزِيدَ فِي كِتَابِهِ ؟ فَقَرَأَ : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } .
فَهَلْ يَكُونُ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ أَعْظَمُ مِنْ الْقَتْلِ ؟ قَالَ الْقَاضِي : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إنْ صَحَّتْ فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي مَعْنَى لَعْنِ يَزِيدَ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : الدَّلَالَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اسْتِلْزَامِ الْمُطْلَقِ لِلْمُعَيَّنِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ : وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ لَعْنَةُ أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ مِنْ دُعَاةِ أَهْلِ الْبِدَعِ ، وَلِهَذَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ مِنْ الْأَصْحَابِ بَيْنَ لَعْنَةِ الْفَاسِقِ بِالْفِعْلِ ، وَبَيْنَ دُعَاةِ أَهْلِ الضَّلَالِ إمَّا بِنَاءً عَلَى تَكْفِيرِهِمْ ، وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ ضَرَرَهُمْ أَشَدُّ ، وَمَنْ جَوَّزَ لَعْنَةَ الْمُبْتَدِعِ الْمُكَفِّرِ مُعَيَّنًا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَعْنَةُ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ أَنْ يُلْعَنَ إلَّا مَنْ ثَبَتَ لَعْنُهُ بِالنَّصِّ ، فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ لَعْنَةَ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ ، فَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ إلَّا لَعْنَ الْمَنْصُوصِ يَرَى أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الِانْتِصَارِ وَلَا عَلَى وَجْهِ الْجِهَادِ ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ كَالْهِجْرَةِ ، وَالتَّعْزِيرِ وَالتَّحْذِيرِ .
وَهَذَا مُقْتَضَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ ، أَوْ عَلَى أَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ

الرُّكُوعِ .
وَقَالَ فِيهِ : اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا لِأَحْيَاءٍ مِنْ الْعَرَبِ } حَتَّى نَزَلَتْ : { لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ } .
قَالَ : وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَلْعَنْ الْمُعَيَّنَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، أَوْ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ لَعْنَةَ الْفَاسِقِ الْمُعَيَّنِ عَلَى وَجْهِ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالتَّعْزِيرِ ، فَقَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِانْتِصَارِ أَيْضًا ، وَمَنْ يُرَجِّحُ الْمَنْعَ مِنْ لَعْنِ الْمُعَيَّنِ ، فَقَدْ يُجِيبُ عَمَّا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحَدِ أَجْوِبَةٍ ثَلَاثَةٍ إمَّا بِأَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ كَلَعْنِ مَنْ لَعَنَ فِي الْقُنُوتِ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَإِمَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ، فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَرَحْمَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعْنَةِ ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بِاجْتِهَادِهِ بِالتَّعْزِيرِ فَجَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ دَافِعًا عَمَّنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : اللَّعْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَقَدْ يَكُونُ اطَّلَعَ عَلَى عَاقِبَةِ الْمَلْعُونِ ، وَقَدْ يُقَالُ : الْأَصْلُ مُشَارَكَتُهُ فِي الْفِعْلِ ، وَلَوْ كَانَ لَا يَلْعَنُ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِمَا قَالَ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ، فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ ، أَوْ شَتَمْتُهُ ، أَوْ لَعَنْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَكُونَ لَعَنَهُ بِمَا يَحْتَاجُ أَنْ يُسْتَدْرَكَ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ ، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ ، وَالِاسْتِدْرَاكُ بِهَذَا الدُّعَاءِ يَدْفَعُ مَا يَخَافُهُ

مِنْ إصَابَةِ دُعَائِهِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ ، إذْ هُوَ بِاجْتِهَادِهِ الشَّرْعِيِّ مَعْصُومٌ لِأَجْلِ التَّأَسِّي بِهِ .
وَقَدْ يُقَالُ : نُصُوصُ الْفِعْلِ تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لِلظَّالِمِ كَمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْقِيَاسُ ، فَإِنَّ اللَّعْنَةَ هِيَ الْبُعْدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ مِنْ الْعَذَابِ بِمَا يَكُونُ مُبْعِدًا عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَاللَّعْنَةُ أَوْلَى أَنْ تَجُوزَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ لَعْنِ مَنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يُلْعَنُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَرْحُومٌ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكُمْ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ .
فَقَالَ : يَا عَائِشَةَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ قَالَتْ : أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : قَدْ قُلْتِ : وَعَلَيْكُمْ } وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ { : إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ } ، وَفِيهِمَا أَيْضًا { أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُّ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ لَا تَكُونِي فَاحِشَةً .
فَقُلْتُ : مَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا ؟ فَقَالَ : أَوَلَيْسَ قَدْ رَدَدْت عَلَيْهِمْ الَّذِي قَالُوا ؟ قُلْت : وَعَلَيْكُمْ } .
وَفِي لَفْظٍ { مَهْ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ } وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ } .
الذَّامُّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ، وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ الذَّمُّ رُوِيَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ، وَمَعْنَاهُ الدَّائِمُ .
وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ يَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا :

السَّامُ عَلَيْكُمْ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ .
قَالَ : مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ } وَلَهُمَا أَوْ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { إنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ ، وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا } قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ الِانْتِصَارُ مِنْ الظَّالِمِ ، وَفِيهِ الِانْتِصَارُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ مِمَّنْ يُؤْذِيهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي جَوَازِ لَعْنَةِ الْمُعَيَّنِ وَعَدَمِهِ مُحْتَمَلٌ .
وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا ، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجَلَدَهُ .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الْخَمْرِ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ الْمِلَّةِ ، فَهَذَا ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ { أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لَمَّا رَمَى الْمَرْجُومَةَ بِحَجَرٍ ، فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ فَسَبَّهَا ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إيَّاهَا فَقَالَ مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ } .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : اللَّعْنُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ وَمِنْ الْخَلْقِ السَّبُّ وَالدُّعَاءُ انْتَهَى كَلَامُهُ ، فَظَاهِرُهُ جَوَازُ السَّبِّ لَوْلَا التَّوْبَةُ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ ، وَمِنَّا

مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ } ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ { قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : أَخْزَاك اللَّهُ قَالَ : لَا تَقُولُوا هَكَذَا ، وَلَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ } ، وَفِي النِّهَايَةِ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ أَيْ : قَتَلَهُمْ ، وَقِيلَ : لَعَنَهُمْ قِيلَ : عَادَاهُمْ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ بَلَغَهُ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّهُ بَاعَ خَمْرًا ، فَقَالَ : قَاتَلَهُ اللَّهُ .
لَكِنْ ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي لَا يُقْصَدُ كَقَوْلِهِ : تَرِبَتْ يَدَاك .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قُنُوتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلنَّازِلَةِ { اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ } .
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ جَوَازُ لَعْنِ الْكُفَّارِ ، وَطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ .
وَفِي فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ حَلَفَ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثَ أَنَّ الْحَجَّاجَ فِي النَّارِ فَسَأَلَ فَقِيهًا فَقَالَ الْفَقِيهُ أَمْسِكْ زَوْجَتَك ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ أَفْعَالِهِ فِي النَّارِ ، فَلَا يَضُرُّك الزِّنَا .
وَيَجُوزُ لَعْنُ مَنْ وَرَدَ النَّصُّ بِلَعْنِهِ ، وَلَا يَأْثَمُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ ، وَيَجِبُ إنْكَارُ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى إبْطَالِهَا سَوَاءٌ قَبِلَهَا قَائِلُهَا ، أَوْ رَدَّهَا ، ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ ، وَقَدْ مَرَّ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ لَا يَصِحُّ ابْتِيَاعُ الْخَمْرِ لِيُرِيقَهَا ، وَيَصِحُّ ابْتِيَاعُ كُتُبِ الزَّنْدَقَةِ لِيُحْرِقَهَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي مُسَوَّدَةِ شَرْحِ الْمُحَرَّرِ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي الْفُنُونِ قَالَ : لِأَنَّ فِي الْكُتُبِ مَالِيَّةَ الْوَرَقِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَيَتَوَجَّه قَوْلُ : أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ اسْتِنْقَاذٌ كَشِرَاءِ الْأَسِيرِ .
وَكَأَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ إنَّمَا حَكَى

ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ ، فَإِنَّ لَفْظَهُ قِيلَ لِحَنْبَلِيٍّ : أَيَجُوزُ شِرَاءُ الْخَمْرِ لِإِرَاقَتِهِ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَكُتُبِ الزَّنْدَقَةِ لِلتَّمْزِيقِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : فَمَا الْفَرْقُ ؟ قَالَ : فِي الْكُتُبِ مَالِيَّةُ الْوَرَقِ .
قَالَ حَنْبَلِيٌّ جَيِّدُ الْفَهْمِ : هَذَا بَاطِلٌ بِآلَةِ اللَّهْوِ ، فَإِنَّ فِيهَا أَخْشَابًا وَوَتَرًا ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا بِمَا فِيهَا مِنْ التَّأْلِيفِ الَّذِي أَسْقَطَ حُكْمَ مَالِيَّةِ الْآلَةِ حَتَّى لَوْ أُحْرِقَتْ لَمْ يُضْمَنْ فَهَلَّا أَسْقَطْت حُكْمَ مَالِيَّةِ الْوَرَقِ كَمَا أَسْقَطْتَ حُكْمَ مَالِيَّةِ الْخَشَبِ ؟ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ : وَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِي كُتُبَ الزَّنْدَقَةِ ، وَنَحْوِهَا لِيُتْلِفَهَا فَقَطْ .

( فَصْلٌ ) : قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : يَخْطُرُ بِقُلُوبِ الْعُلَمَاءِ نَوْعُ يَقَظَةٍ ، فَإِذَا نَطَقُوا بِهَا وَبِحُكْمِهَا نَفَرَتْ مِنْهَا قُلُوبُ غَيْرِهِمْ ، وَلَوْ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا أَقُولُ الْعَوَامُّ ، وَمَثَّلَ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْت يَقِينًا .
وَأَنَّ رَجُلًا لَوْ صَحَا ، فَقَالَ كَلِمَةً ظَاهِرُهَا يُوجِبُ عِنْدَ الْعَوَامّ الْكُفْرَ فَقَالَ : لَسْتُ أَجِدُ لِلرَّقِيبِ ، وَالْعَتِيدِ حِشْمَةً وَلَا هَيْبَةً حَتَّى لَوْ اُسْتُفْتِيَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَقَالُوا كَافِرٌ ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ مُصَدِّقًا بِهِمَا ، وَهُوَ يُهَوِّنُ بِحَفَظَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ وَمَلَائِكَتِهِ ، فَلَوْ كَانَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ ، فَكَشَفَ عَنْ سِرِّ وَاقِعِهِ لَاسْتَحْيَا مِنْ جَهْلِهِ ، أَوْ كُفْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ ، وَكَشْفُ السِّرِّ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : غَلَبَتْ عَلَيَّ هَيْبَةُ رَبِّي وَحِشْمَةُ مَنْ يَشْهَدُنِي فَسَقَطَ مِنْ عَيْنَيَّ حِشْمَةُ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ ، وَكُنْت أَجِدُ الْحِشْمَةَ لَهُمَا الْغَفْلَةُ عَقِبَهَا صَحْوٌ ، وَمُوجِبُ الْيَقَظَةِ وَالصَّحْوِ وَزَوَالِ الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ السَّمْعُ { أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكِ } { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ } وَالْعَقْلُ ، فَإِنَّ مَنْ شَهِدَ الْحَقَّ كَانَ كَمَنْ شَهِدَ الْمَلِكَ ، وَمَعَهُ أَصْحَابُ أَخْبَارِهِ فَلَا يَبْقَى لِأَصْحَابِهِ حُكْمٌ فِي قَلْبِ مَنْ شَهِدَ الْمَلِكَ ، وَإِلَّا لَكَانَ وَهْنًا فِي مَعْرِفَتِهِ بِحُكْمِ الْمَلِك وَسُلْطَانِهِ .
فَاحْذَرْ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الطَّعْنِ عَلَى الْعُلَمَاءِ مَعَ عَدَمِ بُلُوغِك إلَى مَقَامَاتِهِمْ ، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى أَنَّهُمْ فِي حَالٍ كَشَخْصٍ ، وَفِي حَالٍ آخَرَ كَشَخْصٍ آخَرَ ، فَإِنَّ لِلْعَبْدِ عِنْدَ كَشْفِ الْحَقِّ مَحْوًا عَنْ نَفْسِهِ ، وَالْعَالَمُ يَتَلَاشَى فِي عَيْنِهِ ، وَلِهَذَا قَالَتْ الْمُتَصَوِّفَةُ لِلصِّغَارِ : يُسَلَّمُ لِلْمَشَايِخِ الْكِبَارِ حَالُهُمْ ، وَكَلَامُهُمْ سُمٌّ قَاتِلٌ لَهُمْ أَوَّلَا ، ثُمَّ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ مَا

تَحْتَ كَلَامِهِمْ ، وَالْقَاتِلُ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا ، وَالْمَقْتُولُ شَهِيدًا ، أَمَّا الْمُنْكِرُ فَإِنَّهُ جَارٍ عَلَى الظَّاهِرِ .
وَأَمَّا الْقَائِلُ فَقَالَ بِحُكْمِ حَالٍ كُشِفَتْ لَهُ خَاصَّةً وَحُجِبَ عَنْهَا السَّامِعُ ، وَمِنْ هُنَا " كَلِّمُوا النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ " .
فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَسْتَوُونَ فِي الْمَقَالِ ، وَلَا فِي الْأَحْوَال لَا يَعْقِدُ الظُّنُونَ بِبَادِرَةِ الْوَاقِعِ ، فَيَقَعُ نَاقِصًا .

فَصْلٌ ( الْإِنْكَارُ عَلَى النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ كَشْفَ وُجُوهِهِنَّ ) .
هَلْ يَسُوغُ الْإِنْكَارُ عَلَى النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ إذَا كَشَفْنَ وُجُوهَهُنَّ فِي الطَّرِيقِ ؟ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ وَجْهِهَا ، أَوْ يَجِبُ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا ، أَوْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ ؟ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ { فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتُرَ وَجْهَهَا فِي طَرِيقِهَا ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَهَا ، وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ .
ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَاوِيُّ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي عَقِيبَ إنْكَارِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْأَمَةِ التَّسَتُّرَ : وَقَوْلُهُ : إنَّمَا الْقِنَاعُ لِلْحَرَائِرِ قَالَ : وَلَوْ كَانَ نَظَرُ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لَمَا مَنَعَ مِنْ سَتْرِهِ ، بَلْ أَمَرَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ احْتَجَّ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى الْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ } .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَكَشْفُ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ بِحَيْثُ يَرَاهُنَّ الْأَجَانِبُ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَلِمَنْ اخْتَارَ هَذَا أَنْ يَقُولَ : حَدِيثُ جَرِيرٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فِيهِ وُقُوعُهُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُهُ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَشْرَعُ الْإِنْكَارُ ؟ يَنْبَنِي عَلَى الْإِنْكَارِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ .
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا وَقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَا خَلْوَةٍ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسُوغَ الْإِنْكَارُ .

فِي الْإِنْكَارِ بِدَاعِي الرِّيبَةِ وَظَنِّ الْمُنْكَرِ وَالتَّجَسُّسِ لِذَلِكَ ) .
نَصَّ أَحْمَدُ فِيمَنْ رَأْيَ إنَاءً يَرَى أَنَّ فِيهِ مُسْكِرًا أَنَّهُ يَدَعُهُ يَعْنِي لَا يُفَتِّشُهُ ، تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَلَّالُ ( مَا يُكْرَهُ أَنْ يُفَتَّشَ إذَا اسْتَرَابَ بِهِ ) وَقَطَعَ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ إذَا ظُنَّ وُقُوعُهُ ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ إذَا لَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِ ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِهِ النَّوْحُ ، وَهَذَا مَعْنَى اخْتِيَارِ الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ فِي التَّلْخِيصِ قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ : وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِعْلُهُمْ لَهُ وَلَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَصَارَ كَتَارِكِ النَّهْيِ عَلَى الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَقَدْ جَعَلَ ظَنَّ وُقُوعِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْكَرِ الْمَوْجُودِ فِي وُجُوبِ الْإِنْكَارِ ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْحَالِ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ : إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِالْمَعْصِيَةِ لِأَمَارَةٍ دَلَّتْ ، وَآثَارِ ظَهَرَتْ ، فَإِنْ كَانَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا ، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا جَازَ أَنْ يَتَجَسَّسَ ، وَيُقْدِمُ عَلَى الْبَحْثِ وَالْكَشْفِ هَذَا فِي الْمُحْتَسِبِ وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ ، وَالْإِنْكَارِ كَاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ وَشُهُودِهِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُجُومَهُمْ ، وَإِنْ حَدَّهُمْ لِلْقَذْفِ عِنْدَ قُصُورِ الشَّهَادَةِ .
وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ لَمْ يَجُزْ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ ، وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ ، وَكَذَا ذَكَرَ

الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي مَوْضِعٍ جَوَازُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَعَمَلًا بِالظَّنِّ ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ : نَصُّ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي ظَنِّ وُقُوعِ مُنْكَرٍ مَسْتُورٍ ، وَنَصُّهُ فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ فِي ظَنِّ وُقُوعِ مُنْكَرٍ ظَاهِرٍ ، فَيُنْكِرُ الظَّاهِرَ لَا الْمَسْتُورَ .
وَقَوْلُ الْقَاضِي فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوت اسْتِدْرَاكُهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْكَرَ الْمَسْتُورَ إذَا زَالَ لَا تَجُوزُ الْمُجَاوَزَةُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَالْمَكَانِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ زَوَالُ الْمُنْكَرِ ، وَقَدْ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قَرَأْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الرَّبِيعِ الصُّوفِيِّ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى سُفْيَانَ بِالْبَصْرَةِ فَقُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أَكُونُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَسِبَةِ ، فَنَدْخُلُ عَلَى هَؤُلَاءِ ، وَنَتَسَلَّقُ عَلَى الْحِيطَانِ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ لَهُمْ أَبْوَابٌ ؟ قُلْتُ : بَلَى وَلَكِنْ نَدْخُلُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَفِرُّوا ، فَأَنْكَرَهُ إنْكَارًا شَدِيدًا وَعَابَ فِعْلَنَا ، فَقَالَ رَجُلٌ : مَنْ أَدْخَلَ ذَا ؟ قُلْتُ : إنَّمَا دَخَلْتُ إلَى الطَّبِيبِ لِأُخْبِرَهُ بِدَائِي ، فَانْتَفَضَ سُفْيَانُ .
وَقَالَ : إنَّمَا أَهْلَكَنَا أَنَّا نَحْنُ سُقْمَى ، وَنُسَمَّى أَطِبَّاءً ، ثُمَّ قَالَ : لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا مَنْ كُنَّ فِيهِ خِصَالُ ثَلَاثُ : رَفِيقٌ بِمَا يَأْمُرُ ، رَفِيقٌ بِمَا يَنْهَى عَدْلٌ بِمَا يَأْمُرُ ، عَدْلٌ بِمَا يَنْهَى ، عَالِمٌ بِمَا يَأْمُرُ ، عَالِمٌ بِمَا يَنْهَى .
فَإِقْرَارُ أَحْمَدَ هَذَا وَلَمْ يُخَالِفْهُ دَلَّ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَزُلْ الْمُنْكَرُ إلَّا بِذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ الْمَسْتُورِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ عَمِيَ فَبَعَثَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَنْزِلِي فَأَتَّخِذَهُ

مُصَلًّى ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ قَوْمُهُ ، وَتَغَيَّبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ : مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ ، وَهُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ، وَبَعْدَهَا مِيمٌ ، وَقِيلَ : بِزِيَادَةِ يَاءٍ بَعْدَ الْخَاءِ عَلَى التَّصْغِيرِ .
وَوَرَدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي أَوَّلِهِ وَبِدُونِهِمَا وَرُوِيَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمِيمِ مُكَبَّرًا وَمُصَغَّرًا وَيُقَالُ أَيْضًا الدِّخْشِنُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَالشِّينِ وَفِي الْخَبَرِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ وَهُوَ يُصَلِّي فِي مَنْزِلِهِ وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ وَدُّوا أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ ، فَهَلَكَ وَوَدُّوا أَنَّهُ أَصَابَهُ شَيْءٌ ، فَقَضَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ : أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَقَالُوا : إنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ وَمَا هُوَ فِي قَلْبِهِ : قَالَ إنَّهُ لَا يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ أَوْ تَطْعَمُهُ } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا تَرَاهُ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْمَشَاهِدِ قَالَ : وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ النِّفَاقُ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ عَلَى دَارِ غَيْرِهِ لِيَسْمَعَ صَوْتَ الْأَوْتَارِ ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلشَّمِّ لِيُدْرِكَ رَائِحَةَ الْخَمْرِ ، وَلَا يَمَسُّ مَا قَدْ سُتِرَ بِثَوْبٍ لِيَعْرِفَ شَكْلَ الْمِزْمَارِ ، وَلَا أَنْ يَسْتَخْبِرَ جِيرَانَهُ لِيُخْبَرَ بِمَا جَرَى ، بَلْ لَوْ أَخَبَرَهُ عَدْلَانِ ابْتِدَاءً أَنَّ فُلَانًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَلَهُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَدْخُلَ ، وَيُنْكِرَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ : أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقِيلَ لَهُ : هَذَا فُلَانٌ يَعْنِي الْوَلِيدَ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا ، فَقَالَ : عَبْدُ

اللَّهِ إنَّا قَدْ انْتَهَيْنَا عَنْ التَّجَسُّسِ ، وَلَكِنْ إنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدٍ فَذَكَرَهُ ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ يَعْنِي الْوَلِيدَ .
وَالْأَعْمَشُ مُدَلِّسٌ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمُدَلِّسَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ حَمْلًا عَلَى السَّمَاعِ ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ ، غَايَتُهُ ظَنُّ صَحَابِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ التَّجَسُّسِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقِيلَ لَهُ : هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْآنَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ شَأْنِهِ وَعَادَتِهِ ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ النَّهْيِ عَنْ التَّجَسُّسِ وَرَوَى فِيهِ بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ : { إنَّك إنْ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْت أَنْ تُفْسِدَهُمْ } فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْحِمْصِيُّ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا ضَمْضَمُ بْنُ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ وَعَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ وَالْمِقْدَادِ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ وَأَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ الْأَمِيرَ إذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ } ضَمْضَمٌ حِمْصِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ .
وَرَوَى فِي بَابِ الْغِيبَةِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا مَعْشَرَ مَنْ

آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ } سَعِيدٌ رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ مَجْهُولٌ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِهِ ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَعْنَاهُ وَفِيهِ : { لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ } ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ وَلِأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ { لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ } وَسَاقَهُ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ .

فَصْلٌ ( الْإِنْكَارُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي مَوْقِفِ الرِّيبَةِ كَخَلْوَةٍ وَنَحْوِهَا ) .
فَإِنْ رَأْي رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ فَهَلْ يَسُوغُ الْإِنْكَارُ ؟ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ قَرِينَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْوَاقِفِ ، أَوْ قَرِينَةُ زَمَانٍ ، أَوْ مَكَان ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ سَاغَ الْإِنْكَارُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَعَلَى هَذَا كَلَامُ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْقَاضِي قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ : الرَّجُلُ السُّوءُ يُرَى مَعَ الْمَرْأَةِ قَالَ : صِحْ بِهِ .
وَقَالَ أَيْضًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الْغُلَامُ يَرْكَبُ خَلْفَ الْمَرْأَةِ ، قَالَ : يُنْهَى ، وَيُقَالُ لَهُ إلَّا أَنْ يَقُولَ : إنَّهَا لَهُ مَحْرَمٌ تَرْجَمَ عَلَيْهِمَا الْخَلَّالُ ( بَابُ الرَّجُلِ يَرَى الْمَرْأَةَ مَعَ الرَّجُلِ السُّوءِ وَيَرَاهَا مَعَهُ رَاكِبَةً ) وَذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، وَقِيلَ لَهُ : امْرَأَةٌ أَرَادَتْ أَنْ تَسْقُطَ عَنْ الدَّابَّةِ يُمْسِكُهَا الرَّجُلُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ الْقَاضِي : فَصْلٌ : وَمَنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ مُنِعَ مِنْ الْخَلْوَةِ بِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ لِمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الرِّيبَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا } ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ بْنِ يَحْيَى الثَّانِيَةَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ الْقَاضِي : فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُحْتَسِبِ ، وَإِذَا رَأَى وُقُوفَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ فِي طَرِيقٍ سَالِكٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمَا أَمَارَاتُ الرَّيْبِ لَمْ يَتَعَرَّضْ عَلَيْهِمَا بِزَجْرٍ وَلَا إنْكَارٍ ، وَإِنْ كَانَ الْوُقُوفُ فِي طَرِيقٍ خَالٍ فَخَلَوْا بِمَكَانِ رِيبَةٍ فَيُنْكِرُهَا ، وَلَا يُعَجِّلْ فِي التَّأْدِيبِ عَلَيْهِمَا حَذَرًا مِنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ مَحْرَمٍ وَلِيَقُلْ : إنْ كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ فَصُنْهَا عَنْ مَوْقِفِ الرَّيْبِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَاحْذَرْ مِنْ خَلْوَةٍ تُؤَدِّيكَ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلِيَكُنْ زَجْرُهُ بِحَسَبِ

الْأَمَارَاتِ ، وَإِذَا رَأَى الْمُحْتَسِبُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَارَاتِ مَا يُنْكِرُهَا تَأَنَّى وَفَحَصَ وَرَاعَى شَوَاهِدَ الْحَالِ ، وَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْإِنْكَارِ قَبْلَ الِاسْتِخْبَارِ .
وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الْقَاضِي أَنَّهُ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ اجْتِهَادُهُ كَمَا يُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ ، أَوْ طَعَامَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عُذْرٌ ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ : مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ أَمْ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ وَلَا يَنْهَى فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا إنْكَارَ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ بِالظَّنِّ إذَا انْبَنَى عَلَى أَصْلٍ ، وَمَسْأَلَةُ النِّيَاحَةِ كَهَذَا ، وَالْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ بِأَمَارَةٍ ، وَقَرِينَةٍ تُفِيدُ الظَّنَّ ، فَهَذِهِ أَقْوَالٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذُكِرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحُكْمَ بِالظَّاهِرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ لِإِنْكَارِ مُوسَى ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْوَهْمِ وَالشَّكِّ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ بِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ ، وَالِاقْتِحَامِ بِهِ عَلَى الدِّيَارِ ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ { أَنَّهُ نَهَى الْمُسَافِرَ عَنْ قُدُومِهِ عَلَى أَهْلِهِ لَيْلًا } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِمْ ، وَالْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ وَهُمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

فَصْلٌ ( فِي نَشْرِ السُّنَّةَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِغَيْرِ خُصُومَةٍ وَلَا عُنْفٍ ) .
سَأَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَجُلٌ فَقَالَ : أَكُونُ فِي الْمَجْلِسِ فَتُذْكَرُ فِيهِ السُّنَّةُ لَا يَعْرِفهَا غَيْرِي أَفَأَتَكَلَّمُ بِهَا ؟ فَقَالَ : أَخْبِرْ بِالسُّنَّةِ ، وَلَا تُخَاصِمْ عَلَيْهَا فَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ فَقَالَ : مَا أَرَاك إلَّا رَجُلًا مُخَاصِمًا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ كَذَلِكَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَالَهُ مَالِكٌ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالْإِخْبَارِ بِالسُّنَّةِ قَالَ : فَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْك فَاسْكُتْ .
وَسَبَقَ فِي فُصُولِ الْكَذِبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَفِي مَسَائِلِ صَالِحِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : وَسَأَلْته عَنْ رَجُلٍ يُبْلَى بِأَرْضٍ يُنْكِرُونَ فِيهَا رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ ، وَيَنْسُبُونَهُ إلَى الرَّفْضِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الرَّفْعِ قَالَ أَبِي : لَا يَتْرُكُ ، وَلَكِنْ يُدَارِيهِمْ .
وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : مَا أَغْضَبْتَ رَجُلًا قَطُّ فَسَمِعَ مِنْك .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ .
وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ بِالْعَلَانِيَةِ فَقَدْ شَانَهُ ، وَمَنْ وَعَظَهُ سِرًّا فَقَدْ زَانَهُ .
وَلَعَلَّهُ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَ الْخَلَّالُ : رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ زَانَهُ ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ شَانَهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ تَأْخِيرُ عُثْمَانَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَجَاءَ وَعُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ : أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ ؟ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَهُ تَوْبِيخًا وَإِنْكَارًا لِتَوْبِيخِهِ لَا لِتَأْخِيرِهِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ ، فَفِيهِ تَفَقُّدُ الْإِمَامِ رَعِيَّتَهُ ، وَأَمْرُهُمْ بِصَلَاحِ دِينِهِمْ ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى مُخَالِفِ السُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرَ الْقَدْرِ .
وَفِيهِ جَوَازُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْكِبَارِ فِي مَجْمَعِ النَّاسِ ، وَفِي قَوْلِ عُثْمَانَ

شُغِلْتُ الْيَوْمَ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ فِيهِ الِاعْتِذَارُ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ : فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفَعْهُ أَظْهَرَ حِينَئِذٍ ذَلِكَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَبِأَصْحَابِ السُّلْطَانِ ، وَتَقَدَّمَ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ { كَفَى بِك إثْمًا أَنْ لَا تَزَال مُخَاصِمًا } .

فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ مَدَاخِلِ السُّوءِ قَالَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَكْرَهُ الْمَدْخَلَ السُّوءَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ : أَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى صَيْحَةٍ بِاللَّيْلِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَكُونُ ؟ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَلَّالُ ( مَا يُكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى صَيْحَةٍ بِاللَّيْلِ ) وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ : أَكْرَهُ مُمَاشَاةَ الْمُرِيبِ كَرَاهَةَ أَنْ أَعِيبَ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَ الْخِيَارُ بِيَدِهِ ، وَمَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهَمَةِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلِ فِي الْفُنُونِ : قَالَ الْحَسَنُ مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ التُّهَمَةِ لَمْ يَكُنْ أَجْرُ لِلْغِيبَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ سَقَطَ حَقُّهُ وَحَرَّمْتُهُ ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا : تَسْقُطُ حُرْمَةُ الدَّاعِي إلَى وَلِيمَةٍ بِفِعْلِهِ مَا لَا يَنْبَغِي ، وَحُرْمَةُ مَنْ سَلَّمَ فِي مَوْضِعٍ ، لَا يَنْبَغِي وَحُرْمَةُ مَنْ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ يَمُرُّ فِيهِ النَّاس ، فَلَا يَرُدُّ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَيَأْتِي كَلَامُهُ فِي الْغِيبَةِ فِي لِبَاسِ الشُّهْرَة .

فَصْلٌ ( فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ ) .
ومما لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ ، وَيَغْفِرَ زَلَّتَهُ ، وَيَرْحَمَ عَبْرَتَهُ ، وَيُقِيلَ عَثْرَتَهُ ، وَيَقْبَلَ مَعْذِرَتَهُ ، وَيَرُدَّ غِيبَتَهُ ، وَيُدِيمَ نَصِيحَتَهُ ، وَيَحْفَظَ خِلَّتَهُ ، وَيَرْعَى ذِمَّتَهُ ، وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ ، وَيَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ ، وَيُكَافِئَ صِلَتَهُ ، وَيَشْكُرَ نِعْمَتَهُ ، وَيُحْسِنَ نُصْرَتَهُ ، وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ ، وَيَشْفَعَ مَسْأَلَتَهُ ، وَيُشَمِّتَ عَطْسَتَهُ ، وَيَرُدَّ ضَالَّتَهُ ، وَيُوَالِيَهُ ، وَلَا يُعَادِيَهُ ، وَيَنْصُرَهُ عَلَى ظَالِمِهِ ، وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ غَيْرِهِ ، وَلَا يُسْلِمَهُ ، وَلَا يَخْذُلَهُ ، وَيُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ، وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الرِّعَايَةِ .
قَالَ حَنْبَلٌ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ نُصْحُ الذِّمِّيِّ ، وَعَلَيْهِ نُصْحُ الْمُسْلِمِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَالنُّصْحُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ } وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : قَالَ رَجُلٌ لِمِسْعَرٍ : تُحِبُّ أَنْ تُنْصَحَ ؟ قَالَ : أَمَّا مِنْ نَاصِحٍ فَنَعَمْ ، وَأَمَّا مِنْ شَامِتٍ فَلَا .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ : رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إلَيَّ عُيُوبِي فِي سِرٍّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، فَإِنَّ النَّصِيحَةَ فِي الْمَلَأِ تَقْرِيعٌ .
وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوعًا : { إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ قُلْنَا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } وَلَيْسَ فِي مُسْلِمٍ فِي أَوَّلِهِ " إنَّ " وَلِأَبِي دَاوُد { إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ } وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَذَكَرَهُ .
وَلِلنَّسَائِيِّ { وَإِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ } وَذَكَرَهُ .
فَظَاهِرُهُ أَنَّ مَدَارَ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ .
وَقَالَهُ بَعْضُهُمْ ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ أَحَدُ

الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَجْمَعُ أَمْرَ الْإِسْلَامِ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَى الْحَدِيثِ قِوَامُ الدِّينِ وَعِمَادُهُ النَّصِيحَةُ كَقَوْلِهِ { الْحَجُّ عَرَفَةَ } وَلِأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَحَبُّ مَا تَعَبَّدَ لِي بِهِ عَبْدِي النُّصْحُ لِي } وَقَالَ جَرِيرٌ : { بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ : وَالطَّاعَةِ فَلَقَّنَنِي " فِيمَا اسْتَطَعْت " وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ كَأَحْمَدَ وَزَادَ وَعَلَى فِرَاقِ الشِّرْكِ .
قِيلَ : النَّصِيحَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصَحَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ إذَا خَاطَهُ فَشَبَّهُوا فِعْلَ النَّاصِحِ فِيمَا يَتَحَرَّاهُ مِنْ صَلَاحِ الْمَنْسُوجِ لَهُ بِمَا يَسُدُّهُ مِنْ خَلَلِ الثَّوْبِ ، وَقِيلَ : مِنْ نَصَحْت الْعَسَلَ إذَا صَفَّيْته مِنْ الشَّمْع ، شَبَّهُوا تَخْلِيصَ الْقَوْلِ مِنْ الْغِشِّ بِتَخْلِيصِ الْعَسَلِ مِنْ الْخَلْطِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ وُجُوبُ النُّصْحِ لِلْمُسْلِمِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْإِخْبَارِ وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا { مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَجْتَهِدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إلَّا لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ } فَقَدْ يُقَالُ : ظَاهِرُهُ أَنَّ وُجُوبَ النُّصْحِ يَتَوَقَّفُ عَلَى السُّؤَالِ ، وَقَدْ يُقَالُ : لَا بَلْ خَصَّ الْأَمِيرَ هَذَا لِأَنَّهُ أَخَصُّ .
لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا { حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ وَفِيهِ فَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ } وَهَذَا أَوْلَى وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ عَلَى مُحَرَّمٍ وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِ بِخِلَافِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ .
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : التَّاجِرُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ رَجُلٌ مُفْلِسٌ وَأَنَا أَعْرِفُهُ ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَسْكُتُ أَمْ أُخْبِرُهُ ، قَالَ لَوْ أَنَّ خَنَّاقًا صَحِبَك ، وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ وَأَنَا أَعْرِفُهُ

أَأَسْكُتُ حَتَّى يَقْتُلَك ؟ وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ ظَنَّ أَنْ لَا يَقْبَلَ نُصْحَهُ أَوْ خَافَ أَذًى مِنْهُ فَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي بَابِ النَّصِيحَةِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ } كَثِيرٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ { مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى } .
وَلِمُسْلِمٍ { الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إذَا اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ ، وَإِذَا اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى : { الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ } وَفِي لَفْظٍ { كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } .
وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ابْنُ مَاجَهْ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { وَإِذَا اسْتَشَارَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُشِرْ عَلَيْهِ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ } وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَالَ لِوَلَدَيْهِ : اُكْتُبَا مَنْ سَلَّمَ عَلَيْنَا مِمَّنْ حَجَّ فَإِذَا قَدِمَ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : هَذَا

مَحْمُولٌ مِنْهُ عَلَى صِيَانَةِ الْعِلْمِ لَا عَلَى الْكِبْرِ .
وَقَالَ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي النَّوَادِرِ نَقَلَ عَنْهُ وَلَدُهُ صَالِحُ أَنَّهُ قَالَ : اُنْظُرُوا إلَى الَّذِينَ جَاءُوا مُسَلِّمِينَ عَلَيْنَا فَنَمْضِي بَعْدُ نُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْقَاضِي وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ مُضِيَّهُ إلَيْهِمْ فِي مُقَابَلَةِ مُضِيِّهِمْ إلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِالْمُضِيِّ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ الْحِمَّانِيُّ الرَّجُلُ يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ لَا يَجِيءُ يُسَلِّمُ عَلَيَّ أَمْضِي أُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَالَ : لَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا عِلْمٍ أَوْ هَاشِمِيًّا أَوْ إنْسَانًا يُخَافُ شَرُّهُ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ : قُلْ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رِقَّ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ وَاجْعَلْهُمْ فِي حِلٍّ فَقَدْ وَجَبَتْ نُصْرَتُك فَقُلْتُ : لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَجَعَلَ يَقُولُ : هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ ، مَعْنَى كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَسْتَحِلَّنِي أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ غَيْرُهُ .
وَفِي مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ أَحَادِيثُ مَشْهُورَةٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي ( بَابِ مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ غِيبَةً ) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُشَمِيِّ حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ قَالَ : { جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ثُمَّ عَقَلَهَا ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثَارَ رَاحِلَتَهُ ، فَأَطْلَقَهَا ، ثُمَّ رَكِبَ ، ثُمَّ نَادَى اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تُشْرِكْ فِي رَحْمَتِنَا أَحَدًا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَقُولُونَ هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ ؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى مَا قَالَ ؟ الْجُشَمِيُّ } تَفَرَّدَ عَنْهُ الْجَرِيرِيُّ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ وَإِنَّ ظُلْمَهُ فِي شَيْءٍ لَا يَمْنَعُ

نَصْرَهُ عَلَى ظَالِمِهِ فِي شَيْءٍ آخَرَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ : بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ مُعَاوَنَةِ الظَّالِمِ قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ جَحَدَ آخَرَ مِيرَاثًا لَهُ فِي يَدَيْهِ ثُمَّ عَدَا عَلَيْهِ رَجُلٌ آخِر وَظَلَمَهُ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا الْمِيرَاثِ وَلَهُ قَرَابَةٌ فَاسْتَغَاثَهُمْ عَلَى ظَالِمِهِ فَقَالُوا : إنَّا نَخَافُ أَنْ نُعِينَك عَلَى ظُلَامَتِك هَذِهِ فَلَسْنَا بِفَاعِلِينَ حَتَّى تَرُدَّ إلَى أُخْتِكَ مِيرَاثَهَا ، فَإِنْ فَعَلْتَ أَعَنَّاك عَلَى هَذَا الَّذِي ظَلَمَك قَالَ : مَا أَعْرِفُ مَا تَقُولُونَ وَمَا لِهَذِهِ عِنْدِي مِيرَاثٌ .
فَقَالَ : لَا .
مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُعِينُوهُ ، أَخْشَى أَنْ يَجْتَرِئَ ، لَا ، وَلَكِنْ يَدَعُوهُ حَتَّى يَنْكَسِرَ فَيَرُدَّ عَلَى هَذِهِ قِيلَ لَهُ وَهُمْ قَرَابَتُهُ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ هَذَا قَدْ ظَلَمَهُ قَالَ : لَا يُعِينُوهُ حَتَّى يُؤَدِّي إلَى تِلْكَ لَعَلَّهُ أَنْ يَنْتَهِي بِهَذَا .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْبٍ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ ظَالِمٍ ظَلَمَهُ رَجُلٌ أُعِينُهُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : لَا حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ ظُلْمِهِ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمَّادٍ الْمُنْقِرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو ثَابِتٍ الْخَطَّابُ قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ يَا أَبَا ثَابِتٍ ؟ قُلْتُ : أَشْتَرِي دَقِيقًا لِأَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ ، فَقَالَ : تَشْتَرِي لِأَبِي سُلَيْمَانَ دَقِيقًا ؟ فَقُلْتُ : وَمَا بَأْسٌ ؟ فَقَالَ : مَا يَحِلُّ لَك قَالَ : فَقُلْتُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ يَا أَبَا عَبْد اللَّه ؟ قَالَ : لَا يَحِلُّ ، تَشْتَرِي دَقِيقًا لِرَجُلٍ يَرُدُّ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ : وَيُكْرَهُ لِأَهْلِ الْمُرُوآتِ وَالْفَضَائِلِ التَّسَرُّعُ إلَى إجَابَةِ الطَّعَامِ وَالتَّسَامُحُ بِحُضُورِ الْوَلَائِمِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ يُورِثُ دَنَاءَةً وَإِسْقَاطَ الْهَيْبَةِ مِنْ نُفُوسِ

النَّاسِ ، وَسَلَامُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَشْهُورُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُنْبِطَ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ تَغَافُلِ أَهْلِ الْفَضْلِ عَنْ سَفَهِ الْمُبْطِلِينَ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ ، هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : وَإِنِّي لَأَعْفُو عَنْ ذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ وَفِي دُونِهَا قَطْعُ الْحَبِيبِ الْمُوَاصِلِ وَأُعْرِضُ عَنْ ذِي الذَّنْبِ حَتَّى كَأَنَّنِي جَهِلْتُ الَّذِي يَأْتِي وَلَسْتُ بِجَاهِلِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ قَالَ : صَدِيقُكَ حِينَ تَسْتَغْنِي كَثِيرٌ وَمَا لَكَ عِنْدَ فَقْرِك مِنْ صَدِيقِ وَكُنْتُ إذَا الصَّدِيقُ أَرَادَ غَيْظِي عَلَى حَنَقٍ وَأَشْرَقَنِي بِرِيقِي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُ وَصَفَحْتُ عَنْهُ مَخَافَةَ أَنْ أَكُونَ بِلَا صَدِيقِ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَأَنْشَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى : وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ وَقَالَ أَبُو فِرَاسٍ : لَمْ أُؤَاخِذْكَ بِالْجَفَاءِ لِأَنِّي وَاثِقٌ مِنْك بِالْإِخَاءِ الصَّحِيحِ وَجَمِيلُ الْعَدُوِّ غَيْرُ جَمِيلٍ وَقَبِيحُ الصَّدِيقِ غَيْرُ قَبِيحِ وَقَدْ قِيلَ : لَا تَرْجُ شَيْئًا خَالِصًا نَفْعُهُ فَالْغَيْثُ لَا يَخْلُو مِنْ الْغُثَاءِ وَقَالَ أَبُو شُعَيْبٍ صَالِحُ بْنُ عِمْرَانَ دَعَا رَجُلٌ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقَالَ : تَرَى أَنْ تَعْصِيَنِي بَعْدَ الْإِجَابَةِ قَالَ : لَا .
فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَأَقْعَدَ مَعَ أَحْمَدَ مَنْ لَمْ يَشْتَهِ أَحْمَدُ أَنْ يَقْعُدَ ، فَقَالَ أَحْمَدُ عِنْدَ ذَلِكَ رَحِمَ اللَّهُ ابْنَ سِيرِينَ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا تُكْرِمْ أَخَاكَ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ هَذَا أَخِي أَكْرَمَنِي بِمَا يَشُقُّ عَلَيَّ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : لَا نَدْعُو مَنْ تَشُقُّ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَإِذَا حَضَرَ تَأَذَّى الْحَاضِرُونَ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ ، وَقَالَ : إنْ كَانَ الطَّعَامُ حَرَامًا فَلِيَمْتَنِعْ مِنْ الْإِجَابَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ

مُنْكَرٌ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الدَّاعِي ظَالِمًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُبْتَدِعًا أَوْ مُفَاخِرًا بِدَعْوَتِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الضِّيَافَةِ مُبْتَدِعٌ يَتَكَلَّمُ بِبِدْعَتِهِ لَمْ يَجُزْ الْحُضُورُ مَعَهُ إلَّا لِمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُبْتَدِعُ جَازَ الْحُضُورُ مَعَهُ مَعَ إظْهَارِ الْكَرَاهَةِ لَهُ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُضْحِكٌ بِالْفُحْشِ وَالْكَذِبِ لَمْ يَجُزْ الْحُضُورُ ، وَيَجِبُ الْإِنْكَارُ فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مَزْحٌ لَا كَذِبَ فِيهِ ، وَلَا فُحْشَ أُبِيحَ مَا يَقِلُّ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَمَّا اتِّخَاذُهُ صِنَاعَةً وَعَادَةً فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد بَابٌ فِي طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّرْقَاءِ أَنْبَأْنَا أَبِي حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الزُّبَيْرِ أَبِي الْحَارِثِ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ } .
إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
قَالَ أَبُو دَاوُد أَكْثَرُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ جَرِيرٍ لَا يَذْكُرُ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ .
وَهَارُونُ النَّحْوِيُّ ذَكَرَ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ لَمْ يَذْكُرْ ابْنَ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ الْمُتَبَارِيَيْنِ هُمَا الْمُتَعَارِضَانِ ، فَفِعْلُهُمَا لِيُعْجِزَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِصَنِيعِهِ .
وَإِنَّهُ إنَّمَا كَرِهَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَاهَاةِ وَالرِّيَاءِ .
فَهَذَا يَدُلُّ لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيُّ فِي الْمُفَاخِرِ بِدَعْوَتِهِ ، وَذِكْرُ أَبُو دَاوُد لِذَلِكَ يُوَافِقُهُ ، ثُمَّ هَلْ يَحْرُمُ أَكْلُ هَذَا الطَّعَامِ أَوْ يُكْرَهُ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ نَظَرًا إلَى ظَاهِر النَّهْيِ وَالْمَعْنَى .

وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي فَتَاوِيهِ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَا يُصَلِّي وَلَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُ ، انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَقَطَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ يَجُوزُ هَجْرُهُ .
وَقَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا تَجِبُ إجَابَتُهُ ، وَحَكَاهُ فِي الْمُغْنِي عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَأْمَنُ اخْتِلَاطَ طَعَامِهِمْ بِالْحَرَامِ وَالنَّجَاسَةِ فَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَا تَجِبُ إجَابَةُ مُسْلِمٍ فِي مَا لَهُ شُبْهَةٌ وَلَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَتْ ، وَلَا مَنْ لَا يَتَحَرَّزُ مِنْ النَّجَاسَةِ ، وَيُلَابِسُهَا كَثِيرًا ، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يُدْعَى إلَى الْخِتَانِ أَوْ الْعُرْسِ وَعِنْدَهُ الْمُخَنَّثُونَ ، فَيَدْعُوهُ بَعْد ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أُولَئِكَ ؟ فَقَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَأْثَمَ إنْ لَمْ يُجِبْ ، وَإِنْ أَجَابَ فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا .
وَقَالَ فِي الْمُغْنِي بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذَا النَّصِّ : فَأُسْقِطَ الْوُجُوبُ لِإِسْقَاطِ الدَّاعِي حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِاِتِّخَاذِ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْإِجَابَةِ لِكَوْنِ الْمُجِيبِ لَا يَرَى مُنْكَرًا وَلَا يَسْمَعُهُ وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا : إنَّمَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إذَا كَانَ الْمُكْتَسِبُ طَيِّبًا وَلَمْ يَرَ مُنْكَرًا ، وَهَذَا يُؤَيِّد مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُقْتَضَى كَلَامِهِ فِي الْمُغْنِي وَقَالَ فِي الْمُغْنِي بَعْد ذِكْرِهِ لِهَذَا النَّصِّ : فَعَلَى هَذَا لَا تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ طَعَامُهُ مِنْ مُكْتَسَبٍ خَبِيثٍ ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَهُ مُنْكَرٌ وَالْأَكْلُ مِنْهُ مُنْكَرٌ ، فَهُوَ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ ، وَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَأْكُلْ .
وَقَالَ صَالِحُ لِأَبِيهِ : مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ شَرِبَ الْخَمْرَ يَدْعُونِي إلَى غِذَائِهِ وَعَشَائِهِ أُجِيبُهُ ، وَأُجَالِسُهُ قَالَ : تَأْمُرُهُ وَتَنْهَاهُ فَإِنْ كَانَ كَسْبُهُ كَسْبًا طَيِّبًا وَعَصَى اللَّه فِي بَعْضِ أَمْرِهِ يَدْعُو لَا يُجَابُ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَا شَاهِدٌ : الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَرْيَةِ أَوْ الرُّسْتَاقِ وَسُئِلَ عَنْ الشَّيْءِ

مِنْ الْعِلْمِ فَأُهْدِيَ لَهُ الثِّمَارُ وَرُبَّمَا اسْتَعَانَ بِقَوْمٍ يَعْمَلُونَ فِي أَرْضِهِ فَقَالَ : إنْ كَانَ يُكَافِئُ وَإِلَّا فَلَا يَقْبَلُ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عَنْ الرَّجُلِ يُهْدَى إلَيْهِ الشَّيْءُ أَفَتَرَى أَنْ يَقْبَلَ ؟ فَقَالَ : قَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ } ، أَرَى لَهُ إنْ هُوَ قَبِلَ أَنْ يُثِيبَ .
وَذَكَرَ إِسْحَاقُ فِي الْأَدَب مِنْ مَسَائِلِهِ أَنَّ إنْسَانًا أَهْدَى لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَرَّةً شَيْئًا مَا يُسَاوِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قَالَ : فَأَعْطَانِي دِينَارًا .
فَقَالَ : اذْهَبْ فَاشْتَرِ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ سُكَّرًا وَبِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ تَمْرًا بَرْنِيًّا وَاذْهَبْ بِهِ إلَيْهِ ، فَفَعَلْتُ ، فَقَالَ اذْهَبْ بِهِ إلَيْهِ بِاللَّيْلِ .
وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي قَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَقَدْ ذَكَرْتُهُ وَبَعْضَ الْأَخْبَارِ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : نِعْمَ الشَّيْءُ الْهَدِيَّةُ أَمَامَ الْحَاجَةِ .
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَ الْعَوْنُ الْهَدِيَّةُ عَلَى طَلَبِ الْحَاجَةِ وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَذَّابًا مَتْرُوكًا فَإِنَّهُ إخْبَارِيٌّ عَلَّامَةٌ فَقَالَ : يُقَالُ : مَا اُرْتُضِيَ الْغَضْبَانُ ، وَلَا اُسْتُعْطِفَ السُّلْطَانُ ، وَلَا سُلَّتْ السَّخَائِمُ ، وَلَا دُفِعَتْ الْمَغَارِمُ ، وَلَا تُوُقِّيَ الْمَحْذُورُ ، وَلَا اُسْتُمِيلَ الْمَهْجُورُ ، بِمِثْلِ الْهَدِيَّةِ وَالْبِرِّ وَقَالَ ابْنُ عَبْد الْبَرِّ : وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَجَاوَزُوا وَتَزَاوَرُوا وَتَهَادَوْا ، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُثْبِتُ الْمَوَدَّةَ وَتَسُلُّ السَّخِيمَةَ } قَالَ الشَّاعِرُ : هَدَايَا النَّاسِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضِ تُوَلِّدُ فِي قُلُوبِهِمْ الْوِصَالَا وَتَزْرَعُ فِي الضَّمِيرِ هَوًى وَوُدَّا وَتُلْبِسُهُمْ إذَا حَضَرُوا جَمَالَا .

فَصْلٌ ( الْهَدِيَّةُ لِمَنْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ لَا لِمَنْ حَضَرَ ) .
الْهَدِيَّةُ إنْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ يَخُصُّ بِهَا مَنْ شَاءَ ، وَلَا يَصِحُّ الْخَبَرُ إنَّهَا لِمَنْ حَضَرَ ، وَمِمَّا يُسْتَحَبُّ شَرْعًا وَعُرْفًا الْهَدِيَّةُ أَوَائِلُ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْهَا لَا سِيَّمَا إلَى الْكَبِيرِ الصَّالِحِ وَدُعَائِهِ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْبَرَكَةِ ، وَأَنَّهُ يُخَصِّصُ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ بَعْضَ مَنْ يُحْضِرُهُ مِنْ الصِّغَارِ ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ لِذَلِكَ مَوْقِعًا عَظِيمًا بِخِلَافِ الْكِبَار .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِأَوَّلِ الثَّمَرِ فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَفِي مُدِّنَا وَفِي صَاعِنَا وَفِي ثِمَارِنَا بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يُحْضِرُهُ مِنْ الْوِلْدَانِ } .

فَصْلٌ ( قَبُولُ الْهَدِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى عَمَلِ الْبِرِّ ) .
قَالَ أَبُو الْحَارِثِ : إنَّ أَبَا عَبْدَ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَسْأَلهُ الرَّجُلُ الْحَاجَةَ فَيَسْعَى مَعَهُ فِيهَا فَيُكَافِئُهُ عَلَى ذَلِكَ بِلُطْفِهِ يُهْدِي لَهُ تَرَى لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا ؟ قَالَ إنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْبِرِّ وَطَلَبِ الثَّوَابِ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ ، فَهَذَا النَّصُّ إنَّمَا فِيهِ الْكَرَاهَةُ لِمَنْ طَلَبَ الْبِرَّ وَالثَّوَابَ ، وَظَاهِرُهُ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي الْمُعَلِّمِ إنْ أُعْطِيَ شَيْئًا بِلَا شَرْطٍ جَازَ ، وَإِنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، وَكَرِهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِحَدِيثِ الْقَوْسَيْنِ .
قَالَ فِي الْمُغْنِي : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ فَكَرِهَهُ لَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَقَالَ صَالِحٌ وُلِدَ لِي مَوْلُودٌ فَأَهْدَى إلَيَّ صَدِيقٌ لِي شَيْئًا ، فَمَكَثْت عَلَى ذَلِكَ أَشْهُرًا ، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الْبَصْرَةِ فَقَالَ لِي : كَلِّمْ لِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَكْتُبُ لِي إلَى الْمَشَايِخِ بِالْبَصْرَةِ فَكَلَّمْته ، فَقَالَ : لَوْلَا أَنَّهُ أَهْدَى إلَيْك كَتَبْتُ فَلَسْتُ أَكْتُبُ لَهُ .
وَقَالَ صَالِحٌ قُلْتُ لِأَبِي : رَجُلٌ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً فَسَلَّمَهَا إلَى الَّذِي أَوْدَعَهُ فَأَهْدَى إلَيْهِ شَيْئًا يَقْبَلُهُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَبِي : إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَهْدَى إلَيْهِ لِأَدَاءِ أَمَانَتِهِ فَلَا يَقْبَلْ الْهَدِيَّةَ إلَّا أَنْ يُكَافِئ بِمِثْلِهَا ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ السَّابِقَةِ .
وَقَالَ يَعْقُوبُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي لِلْخَاطِبِ إذَا خَطَبَ لِقَوْمٍ أَنْ يَقْبَلَ لَهُمْ هَدِيَّةً .
وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا أَوْ الْكَرَاهَةُ ، وَاخْتَارَ التَّحْرِيمَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ فِي كُلِّ شَفَاعَةٍ فِيهَا إعَانَةٌ عَلَى فِعْلٍ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكُ مُحَرَّمٍ وَفِي شَفَاعَةٍ عِنْدَ وَلِيِّ أَمْرٍ لِيُوَلِّيَهُ وِلَايَةً أَوْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْمُقَاتَلَةِ ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ أَوْ لِيُعْطِيَهُ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، أَوْ الْقُرَّاءِ

وَالْفُقَهَاءِ ، أَوْ غَيْرِهِمْ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَالَ هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ ، وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ الْجَعَالَةِ يَعْنِي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ : وَهَذَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ فَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي الْقِيَامُ بِهَا فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ ، فَيَلْزَمُ مِنْ أَخْذِ الْجُعْلِ فِيهِ تَرْكُ الْأَحَقِّ ، وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ لِلْبَاذِلِ بَلْ لِلنَّاسِ ، وَطَلَبِ الْوِلَايَةِ مَنْهِيُّ عَنْهُ فَكَيْفَ ؟ بِالْعِوَضِ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْفَسَادِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي احْتَجَّ بِهِ خَاصٌّ ، وَيُتَوَجَّه لِأَجْلِهِ قَوْلٌ ثَالِثُ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الْآتِي ، وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ فَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ : بَابُ الْهَدِيَّةِ لِلْحَاجَةِ ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا : { مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا } مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْعِجْلِيُّ وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ وَالنَّسَوِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ كَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا وَتَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ ، وَقَالَ ابْنُ حِرَاشٍ ضَعِيفٌ جِدًّا وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَضُعْفُهُ مَشْهُورٌ ، وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ ، وَكَيْف يَكُونُ هَذَا بَابًا عَظِيمًا مِنْ الرِّبَا ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَى شَفَاعَةٍ مُتَعَيَّنَةٍ لَا سِيَّمَا فِي وِلَايَةٍ ، أَوْ عَلَى قَصْدِ الْقُرْبَةِ ، وَلِهَذَا رَتَّبَ الْهَدِيَّةَ عَلَى الشَّفَاعَةِ .
وَرَأَيْتُ تَعْلِيقًا عَلَى كَلَامِ الْقَاضِي عَلَى النُّسْخَةِ الْعَتِيقَةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ ، وَعَلَيْهَا خَطُّ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الْحَسَنُ بْنُ

أَحْمَدَ ابْنِ الْبَنَّا نَسَخَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ رَأَيْت عَلَى الْمُجَلَّدَةِ الْأَخِيرَةِ : لَا يَجُوزُ أَخَذُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ الدَّفْعِ عَنْ الْمَظْلُومِ .
ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي الْحَارِثِ السَّابِقَةِ وَقَالَ : فَإِذَا كَرِهَ ذَلِكَ فِيمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَأَوْلَى أَنْ يَكْرَهَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ دَفْعِ الْمَظَالِمِ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ابْنَ بَطَّةَ وَصَاحِبَهُ أَبَا حَفْصٍ رَوَيَا خَبَرَ أَبِي أُمَامَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَرَوَى ابْن عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ زَاذَانَ { أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ لِمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ : إيَّاكَ وَالْهَدِيَّةَ فِي سَبَبِ الشَّفَاعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ السُّحْتِ } ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ يَعْقُوبَ السَّابِقَةِ ، ثُمَّ قَالَ : وَذَكَرَ ابْنُ حَفْصٍ فِي كِتَابِ الْهِبَاتِ بَابَ كَرَاهَةِ الْهَدِيَّةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ قَالَ الْأَثْرَمُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الرَّجُلُ يُعْطَى عِنْدَ الْمُفَصَّلِ قَالَ : لَا يُعْجِبُنِي .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَتَكَلَّمَ أَبُو مَسْعُودٍ لِرَجُلٍ فِي حَاجَةٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةَ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا وَقَالَ : آخُذُ أَجْرَ شَفَاعَتِي فِي الدُّنْيَا ، رَوَاهُ صَالِحُ عَنْ أَبِيهِ إسْمَاعِيلَ عَنْ ابْنِ عَوْفٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْهُ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ رَدَّهَا وَقَالَ إنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَأْخُذُ عَلَى مَعْرُوفِنَا ثَمَنًا .
رَوَاهُ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْن عَاصِمٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْهُ .
وَقَدْ كَانَ إبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْحِسَانِ وَمِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ مَعَ حُسْنِ الِاعْتِقَادِ أَدَّبَ الْقَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّه فَلَمَّا تَوَلَّى الْقَاسِمُ الْوَزَارَةَ كَانَ وَظِيفَةُ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْده أَنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقَصَصَ وَيَقْضِي عِنْده الْأَشْغَالَ وَيُشَارِطُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَأْخُذُ مَا أَمْكَنَهُ

وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ .
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظِمِ بَعْدَ أَنْ تَرْجَمَ أَبَا إِسْحَاقَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ ، وَذَكَرَ قِصَّتَهُ قَالَ : رَأَيْتُ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ يَقْرَءُونَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ وَيَتَعَجَّبُونَ ، مُسْتَحْسِنِينَ لِهَذَا الْفِعْلِ ، غَافِلِينَ عَمَّا تَحْتَهُ مِنْ الْقَبِيحِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوُلَاةِ إيصَالُ قَصَصِ الْمَظْلُومِينَ وَأَهْلِ الْحَوَائِجِ ، فَإِقَامَةُ مَنْ يَأْخُذُ الْأَجْعَالَ عَلَى هَذَا الْقَبِيحِ حَرَامٌ ، وَهَذَا مِمَّا وَهِيَ بِهِ الزَّجَّاجُ وَهْيًا عَظِيمًا ، وَلَا يَرْتَفِعُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا فِي بَاطِنِ مَا قَدْ حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا جَهْلٌ بِمَعْرِفَةِ حُكْمِ الشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ فَحِكَايَتُهُ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ ، فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ قِلَّةِ الْفِقْهِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَلَنَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَالْجَعَالَةِ عَلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا وَالتَّفْرِقَةِ ، فَغَايَةُ الشَّفَاعَةِ كَذَلِكَ .
وَنَصَّ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنْ لَوْ قَالَ : اقْتَرِضْ لِي مِائَةً وَلَك عَشَرَةً .
أَنَّهُ يَصِحُّ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ ، قَالُوا : يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْذُلَ جُعْلًا لِمَنْ يَدُلُّ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّ الْمَجْعُولَ لَهُ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا .
وَقَاسُوهُ عَلَى أُجْرَةِ الدَّلِيلِ .
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسُئِلَ عَنْ السُّحْتِ فَقَالَ : أَنْ تَشْفَعَ لِأَخِيكَ شَفَاعَةً فَيَهْدِي لَك هَدِيَّةً فَتَقْبَلُهَا ، فَقِيلَ لَهُ : أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ هَدِيَّةً فِي بَاطِلٍ قَالَ : ذَلِكَ كُفْرٌ { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } .
فَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ : وَإِنَّمَا السُّحْتُ أَنْ يَسْتَعِينَكَ عَلَى مَظْلِمَةٍ ، فَيَهْدِي لَك فَلَا تَقْبَلُ ثُمَّ يُجَابُ عَنْهُ بِمَا سَبَقَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ ( حَمْلُ مَا جَاءَ عَنْ الْإِخْوَانِ عَلَى أَحْسَنِ الْمَحَامِلِ ) .
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ : إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ { إذَا بَلَغَكَ شَيْءٌ عَنْ أَخِيكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى لَا تَجِدَ لَهُ مَحْمَلًا } مَا يَعْنِي بِهِ ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : يَقُولُ تَعْذُرُهُ ، تَقُولُ : لَعَلَّهُ كَذَا ، لَعَلَّهُ كَذَا .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ أَبَا مُوسَى هَارُونَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ جَاءَ إلَى رَجُلٍ شَتَمَهُ لَعَلَّهُ يَعْتَذِرُ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِ وَشَقَّ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ ؛ فَعَجِبَ وَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَمَا إنَّهُ قَدْ بَغَى عَلَيْهِ سَيُنْصَرُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : رَجُلٌ نَقَلَ قَدَمَهُ وَيَجِيءُ إلَيْهِ يَعْتَذِرُ لَا يَخْرُجُ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْن مِينَاءَ عَنْ جُوذَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اعْتَذَرَ إلَى أَخِيهِ بِمَعْذِرَةٍ لَمْ يَقْبَلْهَا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ خَطِيئَةِ صَاحِبِ مَكْسٍ } .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ وَكِيعٍ ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مِينَاءَ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ وَكِيعٍ .
وَقَالَ عَنْ ابْنِ جُوذَانَ : وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ ، وَلَمْ أَرَ فِي الْعَبَّاسِ ضَعْفًا .
وَمُرَادُ هَذَا الْخَبَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَذِبُهُ .
وَلِهَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ اعْتَذَرَ إلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَلْيَقْبَلْ عُذْرَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَذِبَهُ .
} وَقَالَ عُمَرُ : لَا تَلُمْ أَخَاكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعُذْرُ فِي مِثْلِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا شَتَمَنِي فِي أُذُنِي هَذِهِ وَاعْتَذَرَ إلَيَّ فِي أُذُنِي الْأُخْرَى لَقَبِلْتُ عُذْرَهُ .
وَمِنْ النَّظْمِ فِي مَعْنَاهُ

: قِيلَ لِي قَدْ أَسَاءَ إلَيْكَ فُلَانُ وَقُعُودُ الْفَتَى عَلَى الضَّيْمِ عَارُ قُلْتُ قَدْ جَاءَنَا فَأَحْدَثَ عُذْرَا دِيَةُ الذَّنْبِ عِنْدَنَا الِاعْتِذَارُ وَقَالَ الْأَحْنَفُ : إنْ اعْتَذَرَ إلَيْكَ مُعْتَذِرٌ تَلَقَّهُ بِالْبِشْرِ وَقَالَ الشَّاعِرُ : يَلُومُنِي النَّاسُ فِيمَا لَوْ أُخَبِّرُهُمْ بِالْعُذْرِ مِنِّي فِيهِ لَمْ يَلُومُونِي وَقَالَ آخَرُ : اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ يَأْتِيكَ مُعْتَذِرَا إنْ بَرَّ عِنْدَكَ فِيمَا قَالَ أَوْ فَجَرَا فَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيكَ ظَاهِرُهُ وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا وَكَانَ يُقَالُ : مَنْ وُفِّقَ لِحُسْنِ الِاعْتِذَارِ خَرَجَ مِنْ الذَّنْبِ .
وَكَانَ يُقَالُ : اعْتِذَارُ مَنْ يَمْنَعُ خَيْرٌ مِنْ وَعْدٍ مَمْطُولٍ .
وَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى مَالٍ أُفَرِّقُهُ عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوآت إنَّ اعْتِذَارِي إلَى مَنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي مَا لَيْسَ عِنْدِي مِنْ إحْدَى الْمُصِيبَاتِ وَقَالَ آخَرُ : هِيَ الْمَقَادِيرُ فَلُمْنِي أَوْ فَذَرْ إنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَمَا أَخْطَأَ الْقَدَرْ وَقَالَ آخَرُ : وَإِذَا عُيِّرُوا قَالُوا مَقَادِيرُ قُدِّرَتْ وَمَا الْعَارُ إلَّا مَا تَجُرُّ الْمَقَادِيرُ وَقَالَ الْأَحْنَفُ : إيَّاكَ وَمَا تَعْتَذِرُ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَلَّمَا اعْتَذَرَ أَحَدٌ فَيَسْلَمُ مِنْ الْكَذِبِ .
وَقَالَ أَيْضًا : أَسْرَعُ النَّاسِ فِي الْفِتْنَةِ أَقَلُّهُمْ حَيَاءً مِنْ الْفِرَارِ .
قَالَ الشَّاعِرُ : الْعَبْدُ يُذْنِبُ وَالْمَوْلَى يُقَوِّمُهُ وَالْعَبْدُ يَجْهَلُ وَالْمَوْلَى يُعَلِّمُهُ إنِّي نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ زَلَلِي وَزَلَّةُ الْمَرْءِ يَمْحُوهَا تَنَدُّمُهُ وَقَدْ قِيلَ : عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْكِي عَلَى فَقْدِ غَيْرِهِ زَمَانًا وَلَا يَبْكِي عَلَى فَقْدِهِ دَمَا وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى وَقِيلَ أَيْضًا : عَجِبْتُ مِنْ الدُّنْيَا سَلَامَةَ ظَالِمِ وَعِزَّةَ ذِي بُخْلٍ وَذُلَّ كَرِيمِ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كَرِيمٌ أَصَابَهُ قَضَاءٌ فَأَضْحَى تَحْتَ حُكْمِ لَئِيمِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ مِنْ كَلَامِ أَبِي الدَّرْدَاءِ : مُعَاتَبَةُ الْأَخِ

أَهْوَنُ مِنْ فَقْدِهِ ، وَمَنْ لَكَ بِأَخِيكَ كُلِّهِ ، فَأَعْطِ أَخَاكَ وَهَبْ لَهُ ، وَلَا تُطِعْ فِيهِ كَاشِحًا فَتَكُونَ مِثْلَهُ .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ : مَنْ لَكَ بِأَخِيكَ كُلِّهِ ؟ لَا تَسْتَقْصِ عَلَيْهِ فَتَبْقَى بِلَا أَخٍ ، وَقَالَ عَمْرٌو : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْقَلُ النَّاسِ أَعْذَرُهُمْ لَهُمْ .
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : قَالَ أَعْرَابِيٌّ : عَاتِبْ مَنْ تَرْجُو رُجُوعَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعِتَابُ الْوَفَاءُ ، وَسِلَاحُ الْأَكْفَاءِ ، وَحَاصِلُ الْجَفَاءِ ، وَقَالَ ( الْعَتَّابِيُّ ) : ظَاهِرُ الْعِتَابِ خَيْرٌ مِنْ مَكْنُونِ الْحِقْدِ ، وَصِرْفَةُ النَّاصِحِ خَيْرٌ مِنْ تَحِيَّةِ الشَّانِي ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كَثُرَ حِقْدُهُ قَلَّ عِتَابُهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد : مَنْ لَمْ يُعَاتِبْ عَلَى الزَّلَّةِ ، فَلَيْسَ بِحَافِظٍ لِلْخُلَّةِ وَقَالَ أَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ : الْإِكْثَارُ مِنْ الْعِتَابِ دَاعِيَةٌ إلَى الْمَلَالِ ، وَسَبَقَ قَرِيبًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ ، هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ " وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ : أُعَاتِبُ مَنْ يَحْلُو بِقَلْبِي عِتَابُهُ وَأَتْرُكُ مَنْ لَا أَشْتَهِي أَنْ أُعَاتِبَهْ وَلَيْسَ عِتَابُ الْمَرْءِ لِلْمَرْءِ نَافِعًا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ لُبٌّ يُعَاتِبُهْ وَقَالَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ : إنْ كَانَ لَفْظِي كَرِيهًا فَاصْبِرَا فَعَلَى كُرْهِ الْعِلَاجِ يُصِحُّ اللَّهُ أَبْدَانَا لَوْلَا الْعَوَارِضُ مَا طَابَ الشَّبَابُ كَذَا لَوْلَا قِصَارَتُنَا لِلثَّوْبِ مَا لَانَا إنِّي أُعَاتِبُ إخْوَانِي وَهُمْ ثِقَتِي طَوْرًا وَقَدْ يُصْقَلُ السَّيْفُ أَحْيَانَا هِيَ الذُّنُوبُ إذَا مَا كُشِفَتْ دَرَسَتْ مِنْ الْقُلُوبِ وَإِلَّا صِرْنَ أَضْغَانَا وَقَالَ آخَرُ : خُذْ مِنْ صَدِيقِكِ مَا صَفَا لَكَ لَا تَكُنْ جَمَّ الْمَعَائِبْ إنَّ الْكَثِيرَ عِتَابُهُ الْإِخْوَانَ لَيْسَ لَهُمْ بِصَاحِبْ وَقَالَ آخَرُ : إنَّ الظَّنِينَ مِنْ الْإِخْوَانِ يُبْرِمُهُ طُولُ الْعِتَابِ وَتُغْنِيهِ الْمَعَاذِيرُ وَذُو الصَّفَاءِ إذَا مَسَّتْهُ مَعْذِرَةٌ كَانَتْ لَهُ عِظَةٌ فِيهَا وَتَذْكِيرُ وَقَالَ آخَرُ : وَلَسْتُ مُعَاتِبًا

خِلًّا لِأَنِّي رَأَيْتُ الْعَتْبَ يُغْرِي بِالْعُقُولِ وَقَالَ آخَرُ : وَلَوْ أَنِّي أُوَقِّفُ لِي صَدِيقَا عَلَى ذَنْبٍ بَقِيتُ بِلَا صَدِيقِ وَقَالَ آخَرُ : إنِّي لَيَهْجُرُنِي الصَّدِيقُ تَجَنُّبَا فَأُرِيهِ أَنَّ لِهَجْرِهِ أَسْبَابَا وَأَخَافُ إنْ عَاتَبْتُهُ أَغْرَيْتُهُ فَأَرَى لَهُ تَرْكَ الْعِتَابِ عِتَابَا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ .
أَقْمَاعُ الْقَوْلِ : هُمْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يَفْهَمُونَهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ { : مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ } وَهُوَ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ .
وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا زِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا أَوْ قَالَ : إنِّي أَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا قَالَ : وَالشَّاةُ إنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ } إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ } .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ { لَا حَلِيمَ إلَّا ذُو عَثْرَةٍ ، وَلَا حَكِيمَ إلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ } وَلَهُ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا .
{ لَا تَكُونُوا إمَّعَةً تَقُولُونَ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا } الْإِمَّعَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ مَعَ أَحَدٍ وَلَا عَلَى رَأْيٍ لِضَعْفِ رَأْيِهِ ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَيُقَالُ فِيهِ إمَّعٌ أَيْضًا وَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ إمَّعَةٌ وَهَمْزَتُهُ أَصْلِيَّةٌ

لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إفَّعَلُ وَصْفًا ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَا مَعَكَ ، قَالَ : وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ { لَا يَكُونُ أَحَدُكُمْ إمَّعَةً ، قِيلَ وَمَا الْإِمَّعَةُ ؟ قَالَ : الَّذِي يَقُولُ وَأَنَا مَعَ النَّاسِ } وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ السَّرَّاجُ : هُوَ فِعْلٌ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إفَّعَلُ وَصْفًا ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : امْرَأَةٌ إمَّعَةٌ غَلَطٌ ، لَا يُقَالُ لِلنِّسَاءِ ذَلِكَ ، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ .
وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ سَلْمٍ الْعَلَوِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّمَا يُوَاجِهُ رَجُلًا بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ : لَوْ أَمَرْتُمْ أَنْ يَغْسِلَ ذِرَاعَيْهِ } وَرَوَوْا أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ رَافِعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ فُرَافِصَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ ، وَيُرْوَى بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِهَا فَالضَّمُّ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الْكَيِّسُ الْحَازِمُ الَّذِي لَا يُؤْتَى مِنْ جِهَةِ الْغَفْلَةِ فَيُخْدَعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَا يَفْطَنُ ، وَالْمُرَادُ فِي أَمْرِ الدِّينِ ، وَأَمَّا الْكَسْرُ فَعَلَى

وَجْهِ النَّهْيِ يَقُولُ لَا يُخْدَعَنَّ الْمُؤْمِنُ وَلَا يَقْرَبَنَّ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَفْلَةِ فَيَقَعُ فِي مَكْرُوهٍ أَوْ شَرٍّ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ، وَلْيَكُنْ فَطِنًا حَذِرًا ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِأَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا .
ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ : إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ذَكَرَ إبْلِيسَ وَقَالَ : إنَّمَا أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ فَالِاسْتِكْبَارُ كُفْرٌ .
وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ مَرْفُوعًا { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ } إسْنَادُهُ صَحِيحٌ ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
وَعَنْهُ مَرْفُوعًا { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْجَوَّاظُ وَلَا الْجَعْظَرِيُّ } إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْعَتَلَةُ عَمُودُ حَدِيدٍ يُهْدَمُ بِهَا الْحِيطَانُ وَمِنْهُ اُشْتُقَّ الْعُتُلُّ وَهُوَ الشَّدِيدُ الْجَافِي وَالْفَظُّ الْغَلِيظُ مِنْ النَّاسِ وَالْجَوَّاظُ الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ ، وَقِيلَ : الْكَثِيرُ اللَّحْمِ الْمُخْتَالُ فِي مَشْيَتِهِ ، وَقِيلَ : الْقَصِيرُ الْبَطِينُ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد هُوَ الْغَلِيظُ الْفَظُّ وَالْجَعْظَرِيُّ الْفَظُّ الْغَلِيظُ الْمُتَكَبِّرُ ، وَقِيلَ الَّذِي يَتَنَفَّجُ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ فِي أَهْلِ النَّارِ " الْجَعْظُ " وَهُوَ الْعَظِيمُ فِي نَفْسِهِ ، وَقِيلَ : السَّيِّئُ الْخُلُقِ الَّذِي يَتَسَخَّطُ عِنْدَ الطَّعَامِ .

فَصْلٌ ( فِي احْتِرَامِ الْجَلِيسِ وَإِكْرَامِ الصَّدِيقِ وَالْمُكَافَأَةِ عَلَى الْمَعْرُوفِ ) .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ ( بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيَّ جَلِيسِي الَّذِي يَتَخَطَّى النَّاسَ إلَيَّ ، أَمَا وَاَللَّهِ إنَّ الذُّبَابَ يَقَعُ عَلَيْهِ فَيَشُقُّ عَلَيَّ .
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ عَلَيْكَ ؟ قَالَ : جَلِيسِي حَتَّى يُفَارِقَنِي .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : ثَلَاثَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ وَرَابِعٌ لَا يُكَافِئُهُ عَنِّي إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَمَّا الَّذِينَ لَا أَقْدِرُ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ : فَرَجُلٌ أَوْسَعَ لِي فِي مَجْلِسِهِ ، وَرَجُلٌ سَقَانِي عَلَى ظَمَإٍ ، وَرَجُلٌ أُغْبِرَتْ قَدَمَاهُ فِي الِاخْتِلَافِ إلَى بَابِي ، وَأَمَّا الرَّابِعُ الَّذِي لَا يُكَافِئُهُ عَنِّي إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرَجُلٌ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَظَلَّ سَاهِرًا مُتَفَكِّرًا بِمَنْ يُنْزِلُ حَاجَتَهُ وَأَصْبَحَ فَرَآنِي مَوْضِعًا لِحَاجَتِهِ ، فَهَذَا لَا يُكَافِئُهُ عَنِّي إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ الرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ بِسَاطِي ثَلَاثًا لَا يَرَى عَلَيْهِ أَثَرًا مِنْ أَثَرِي .

فَصْلٌ ( إجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَهَلْ يَمْنَعُ وُجُوبَهَا الْأَسْتَارُ ذَاتُ التَّصَاوِيرِ ) .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلُ يُدْعَى فَيَرَى سِتْرًا عَلَيْهِ تَصَاوِيرُ ؟ قَالَ : لَا تَنْظُرْ إلَيْهِ ، قُلْتُ قَدْ نَظَرْتُ إلَيْهِ كَيْف أَصْنَعُ ؟ أَهْتِكْهُ ؟ قَالَ : تَخْرِقُ شَيْءَ النَّاسِ وَلَكِنْ إنْ أَمْكَنَكَ خَلْعُهُ خَلَعْتَهُ .
وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطَ قَالَ : قُلْتُ لِسُفْيَانَ مَنْ أُجِيبُ وَمَنْ لَا أُجِيبُ ؟ قَالَ : لَا تَدْخُلْ عَلَى رَجُلٍ إذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ أَفْسَدَ عَلَيْك ، قَدْ كَانَ يُكْرَهُ الدُّخُولُ عَلَى أَهْلِ الْبَسْطَةِ يَعْنِي الْأَغْنِيَاءَ .

فَصْلٌ ( فِي الْهَدِيَّةِ لِذِي الْقُرْبَى فِي الْوَلِيمَةِ ) .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } قَالَ : نَعَمْ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ الْقَصِيرُ : قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَلَهُ قَرَابَةٌ لَهُمْ وَلِيمَةٌ تَرَى أَنْ يَسْتَقْرِضَ وَيُهْدِيَ لَهُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ .

فَصْلٌ ( مَا صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي اتِّقَاءِ النَّارِ بِاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَةِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ) .
قَدْ ذَكَرْتُ مَا صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لِكُلِّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَوْلَيْتُهُ مَعْرُوفًا إلَّا أَضَاءَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنِي ، وَلَا رَأَيْتُ رَجُلًا فُرِّطَ إلَيْهِ مِنِّي شَيْءٌ إلَّا أَظْلَمَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا : الْمَعْرُوفُ أَمْيَزُ زَرْعٍ ، وَأَفْضَلُ كَنْزٍ ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ : بِتَعْجِيلِهِ وَتَصْغِيرِهِ وَسَتْرِهِ ، فَإِذَا عُجِّلَ فَقَدْ هَنَأَ وَإِذَا صَغُرَ فَقَدْ عَظُمَ ، وَإِذَا سُتِرَ فَقَدْ تَمَمَ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ : مَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ الْمَعْرُوفِ إلَّا ثَوَابَهُ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَرْغَبُ فِيهِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الرَّغْبَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِذْنُ تَمَّتْ السَّعَادَةُ لِلطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ مِنْهُ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ زُهَيْرٌ : وَمَنْ يَجْعَلْ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ يَقِيهِ وَمَنْ لَا يَتَّقِي الشَّتْمَ يُشْتَمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ كُفْرُ مَنْ كَفَرَهُ فَإِنَّهُ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لَا تَصْنَعُهُ إلَيْهِ ، وَكَانَ يُقَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إسْرَافٌ إلَّا فِي الْمَعْرُوفِ وَكَانَ يُقَالُ لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ دَمَامَةُ مَنْ تُسْدِيهِ إلَيْهِ ، وَلَا مَنْ يَنْبُو بَصَرُكَ عَنْهُ ، فَإِنَّ حَاجَتَكَ فِي شُكْرِهِ وَوَفَائِهِ لَا فِي مَنْظَرِهِ ، وَكَانَ يُقَالُ : اصْنَعْ الْمَعْرُوفَ إلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ فَقَدْ وَضَعْتَهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ كُنْتَ أَنْتَ مِنْ أَهْلِهِ ، قَالَ الشَّاعِرُ : وَلَمْ أَرَ كَالْمَعْرُوفِ أَمَّا مَذَاقُهُ فَحُلْوٌ وَأَمَّا وَجْهُهُ

فَجَمِيلُ كَانَ يُقَالُ : مَنْ أَسْلَفَ الْمَعْرُوفَ كَانَ رِبْحُهُ الْحَمْدَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ سَرَفٌ إلَّا فِي إتْيَانِ مَكْرُمَةٍ أَوْ اصْطِنَاعِ مَعْرُوفٍ أَوْ إظْهَارِ مُرُوءَةٍ ، وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا : كَانَ يُقَالُ كَمَا يُتَوَخَّى لِلْوَدِيعَةِ أَهْلُ الْأَمَانَةِ وَالثِّقَةِ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَخَّى بِالْمَعْرُوفِ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالشُّكْرِ ، وَكَانَ يُقَالُ : إعْطَاءُ الْفَاجِرِ يُقَوِّيهِ عَلَى فُجُورِهِ ، وَمَسْأَلَةُ اللَّئِيمِ إهَانَةٌ لِلْعِرْضِ ، وَتَعْلِيمُ الْجَاهِلِ زِيَادَةٌ فِي الْجَهْلِ ، وَالصَّنِيعَةُ عِنْدَ الْكَفُورِ إضَاعَةٌ لِلنِّعْمَةِ ، فَإِذَا هَمَمْتَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فَارْتَدِ الْمَوْضِعَ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى الْفِعْلِ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي ذِي حَسَبٍ أَوْ دِينٍ كَمَا أَنَّ الرِّيَاضَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي نَجِيبٍ } .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مَكَان آخَرَ : خَمْسَةُ أَشْيَاءَ أَضْيَعُ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا : سِرَاجٌ يُوقَدُ فِي الشَّمْسِ ، وَمَطَرٌ وَابِلٌ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ ، وَامْرَأَةٌ حَسْنَاءُ تُزَفُّ إلَى عِنِّينٍ ، وَطَعَامٌ يُسْتَجَادُ ثُمَّ يُقَدَّمُ إلَى سَكْرَانَ أَوْ شَبْعَانَ ، وَمَعْرُوفٌ تَصْنَعُهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَشْكُرُكَ ، وَفِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ : افْعَلْ إلَى امْرِئِ السُّوءِ يَجْزِيكَ شَرًّا وَكَانَ يُقَالُ : صَاحِبُ الْمَعْرُوفِ لَا يَقَعُ فَإِذَا وَقَعَ أَصَابَ مُتَّكِئًا .
وَكَتَبَ أَرِسْطُوطَالِيسُ إلَى الْإِسْكَنْدَرِ : امْلِكْ الرَّعِيَّةَ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهَا تَظْفَرْ بِالْمَحَبَّةِ مِنْهَا ، وَطَلَبُكَ ذَلِكَ مِنْهَا بِإِحْسَانِكَ أَدْوَمُ بَقَاءً مِنْهُ بِاعْتِسَافِكَ ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إنَّمَا تَمْلِكُ الْأَبْدَانَ فَتَخَطَّاهَا إلَى الْقُلُوبِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ إذَا قَدَرَتْ عَلَى أَنْ تَقُولَ قَدَرَتْ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ ، فَاجْتَهِدْ أَنْ لَا تَقُولَ ، تَسْلَمْ مِنْ أَنْ تَفْعَلَ .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ ابْنِهِ : يَا بُنَيَّ

اتَّخِذْ الْمَعْرُوفَ مَنَالًا عِنْدَ ذَوِي الْأَحْسَابِ تَسْتَمِلْ بِهِ مَوَدَّتَهُمْ وَتَعْظُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ، وَإِيَّاكَ وَالْمَنْعَ فَإِنَّهُ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يُقَالُ حَصَادُ مَنْ يَزْرَعُ الْمَعْرُوفَ فِي الدُّنْيَا اغْتِبَاطٌ فِي الْآخِرَةِ .
ذَمَّ أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا فَقَالَ : كَانَ سَمِينَ الْمَالِ مَهْزُولَ الْمَعْرُوفِ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ أَوْ الزُّبَيْرِيُّ : مَنْ زَرَعَ مَعْرُوفًا حَصَدَ خَيْرًا ، وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا حَصَدَ نَدَامَةً .
قَالَ الشَّاعِرُ : مَنْ يَزْرَعْ الْخَيْرَ يَحْصُدْ مَا يُسَرُّ بِهِ وَزَارِعُ الشَّرِّ مَنْكُوسٌ عَلَى الرَّاسِ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : يَدُ الْمَعْرُوفِ غُنْمٌ حَيْثُ كَانَتْ تَحَمَّلَهَا شَكُورٌ أَوْ كَفُورُ فَفِي شُكْرِ الشَّكُورِ لَهَا جَزَاءٌ وَعِنْدَ اللَّهِ مَا كَفَرَ الْكَفُورُ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ أَسْرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً كُفْرُ الْمَعْرُوفِ .
وَلِابْنِ دُرَيْدٍ وَقِيلَ : إنَّهُ أَنْشَدَهُمَا وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إلَّا مُعَارَةٌ فَمَا اسْطَعْتَ مِنْ مَعْرُوفِهَا فَتَزَوَّدْ فَإِنَّك لَا تَدْرِي بِأَيَّةِ بَلْدَةٍ تَمُوتُ وَلَا مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِي غَدِ وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرْ : خَيْرُ أَيَّامِ الْمَرْءِ مَا أَغَاثَ فِيهِ الْمُضْطَرَّ ، وَارْتَهَنَ فِيهِ الشُّكْرَ ، وَاسْتَرَقَّ فِيهِ الْحُرَّ .
جَمَعَ كِسْرَى مَرَازِبَتَهُ وَعُيُونَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ : عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتُمْ أَشَدُّ نَدَامَةً ؟ فَقَالُوا عَلَى وَضْعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ ، وَطَلَبِ الشُّكْرِ مِمَّنْ لَا شُكْرَ لَهُ .
قَالَ الشَّاعِرُ : وَزَهَّدَنِي فِي كُلِّ خَيْرٍ صَنَعْتُهُ إلَى النَّاسِ مَا جَرَّبْتُ مِنْ قِلَّةِ الشُّكْرِ وَقَالَ : وَمَنْ يَجْعَلْ الْمَعْرُوفَ مَعْ غَيْرِ أَهْلِهِ يُلَاقِ الَّذِي لَاقَى مُجِيرُ أُمِّ عَامِرِ قَالَ الْمُهَلَّبُ : عَجِبْتُ لِمَنْ يَشْتَرِي الْمَمَالِيكَ بِمَالِهِ وَلَا يَشْتَرِي الْأَحْرَارَ بِمَعْرُوفِهِ وَقَالَ : لَيْسَ لِلْأَحْرَارِ ثَمَنٌ إلَّا الْإِكْرَامَ فَأَكْرِمْ حُرًّا تَمْلِكْهُ .
وَقَالَ الْمُتَنَبِّي : إذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا

وَقَالَ عَبْدُ مَنَافٍ : دَوَاءُ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ الْإِكْرَامُ الْهَوَانُ .
قَالَ الشَّاعِرُ : مَنْ لَمْ يُؤَدِّبْهُ الْجَمِيلُ فَفِي عُقُوبَتِهِ صَلَاحُهْ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : فِعْلُ الْخَيْرِ مَعَ الْأَشْرَارِ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ عَلَى الْأَخْيَارِ ، كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرَمَ الْخَيْرُ أَهْلَهُ ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرَمَ الْخَيْرَ حَقَّهُ ، فَإِنَّ وَضْعَ الْخَيْرِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ ظُلْمٌ لِلْخَيْرِ كَمَا قِيلَ : لَا تَمْنَعُوا الْحِكْمَةَ أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ ، وَلَا تَضَعُوهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا ، كَذَلِكَ الْبِرُّ وَالْإِنْعَامُ مُفْسِدٌ لِقَوْمٍ حَسَبُ مَا يُفْسِدُ الْحِرْمَانُ قَوْمًا ، قَالَ : فَهُوَ كَالنَّارِ كُلَّمَا أُطِيبَ لَهَا مَأْكَلًا سَطَتْ فَأَفْسَدَتْ قَالَ فَرْقَدٌ قَالَ الْمُتَنَبِّي : وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلَا مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى فَالسِّيَاسَةُ الْكُلِّيَّةُ افْتِقَادُ مَحَالِّ الْإِنْعَامِ قَبْلَ الْإِنْعَامِ ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنْ مِنْ خَمْسَةٍ عَلَى حَذَرٍ مِنْ لَئِيمٍ إذَا أَكْرَمْتَهُ ، وَكَرِيمٍ إذَا أَهَنْتَهُ ، وَعَاقِلٍ إذَا أَحْرَجْتَهُ ، وَأَحْمَقَ إذَا مَازَحْتَهُ ، وَفَاجِرٍ إذَا مَازَجْتَهُ .
انْتَهَى كَلَامُهُ وَيَأْتِي فِي آخِرِ كُرَّاسَةٍ فِي الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا .

فَصْلٌ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ } إسْنَادٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ شُكْرَ الْعَبْدِ عَلَى إحْسَانِهِ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَشْكُرُ إحْسَانَ النَّاسِ وَيَكْفُرُ أَمْرَهُمْ ؛ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ : أَنَّ مَنْ كَانَ عَادَتُهُ وَطَبْعُهُ كُفْرَانَ نِعْمَةِ النَّاسِ وَتَرْكَ شُكْرِهِ لَهُمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ كُفْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْكُ الشُّكْرِ لَهُ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ كَانَ كَمَنْ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ شُكْرَهُ كَمَا تَقُولُ لَا يُحِبُّنِي مَنْ لَا يُحِبُّكَ أَيْ : أَنَّ مَحَبَّتَكَ مَقْرُونَةٌ بِمَحَبَّتِي فَمَنْ أَحَبَّنِي يُحِبّكَ ، وَمَنْ لَا يُحِبُّكَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّنِي .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى رَفْعِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَصْبِهِ .
وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ أَيْضًا بِلَفْظٍ آخَرَ { إنَّ أَشْكَرَ النَّاسِ لِلَّهِ تَعَالَى أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا { مَنْ أَتَى إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيُكَافِئْ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَذْكُرْهُ فَمَنْ ذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ .
} رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { الْأَمْرُ بِالْمُكَافَأَةِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَدْعُ لَهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَظُنُّهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .
وَعَنْ أُسَامَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ صُنِعَ إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
قَالَ : قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ عَنْ الْأَعْمَشِ

عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : مَنْ أَبْلَى بَلَاءً فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ } وَرَوَاهُ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ لِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ : غَرِيبٌ وَلَفْظُهُ { مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَلْيَجْزِ بِهِ إنْ وَجَدَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَهُ وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ ، وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطِ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } أَيْ : ذِي زُورٍ وَهُوَ الَّذِي يُزَوِّرُ عَلَى النَّاسِ يَتَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ الزُّهْدِ رِيَاءً أَوْ يُظْهِرُ أَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ .
وَعَنْ النُّعْمَانِ مَرْفُوعًا { مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْجَرَّاحَ بْنَ مَلِيحٍ وَالِدَ وَكِيعٍ ، وَأَكْثَرُهُمْ قَوَّاهُ فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ .
} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : { إنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَتْ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ قَالَ لَا مَا دَعَوْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ " مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ : إنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَذْكُرُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ تَرْكُ الْمُكَافَأَةِ مِنْ التَّطْفِيفِ " وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَهْبٍ مِنْ السَّلَفِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٌ وَأَيَادٍ مَا أَحْسَنَ أَنْ يُخْبِرَ بِفِعَالِهِ بِهِ لِيَشْكُرَهُ النَّاسُ وَيَدْعُونَ لَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {

مَنْ لَا يَشْكُرْ النَّاسَ لَا يَشْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ } وَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ وَيُحْمَدَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ الشُّكْرَ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : { يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ : وَمَا لَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ : تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ } جَزْلَةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ أَيْ : ذَاتُ عَقْلٍ وَرَأْيٍ ، وَالْجَزَالَةُ : الْعَقْلُ وَالْوَقَارُ فَقَدْ تَوَعَّدَ عَلَى كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْمُعَاشَرُ وَالْمُرَادُ هُنَا الزَّوْجُ ، تَوَعَّدَ عَلَى كَفْرَانِ الْعَشِيرِ وَالْإِحْسَانِ بِالنَّارِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِخِلَافِ اللَّعْنِ فَإِنَّهُ قَالَ : " تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ " وَالصَّغِيرَةُ تَصِيرُ كَبِيرَةً بِالْكَثْرَةِ .
وَلِأَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ } أَيْضًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ { أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادًا لَا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ قِيلَ مَنْ أُولَئِكَ ؟ قَالَ : مُتَبَرٍّ مِنْ وَالِدَيْهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا مُتَبَرٍّ مِنْ وَلَدِهِ وَرَجُلٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْشِدِينِي شِعْرَ ابْنِ الْعَرِيضِ الْيَهُودِيِّ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْكَرِيمَ فَأَنْشَدَتْ : إنَّ الْكَرِيمَ إذَا أَرَادَ وِصَالَنَا لَمْ يُلْفِ حَبْلًا وَاهِيًا رَثَّ الْقُوَى أَرْعَى أَمَانَتَهُ وَأَحْفَظُ غَيْبَهُ جَهْدِي فَيَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَتَى أَجْزِيهِ أَوْ أُثْنِي عَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْتَ فَقَدْ جَزَى }

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا الشِّعْرُ مَا يَصِحُّ فِيهِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ لِلْعَرِيضِ الْيَهُودِيِّ وَهُوَ الْعَرِيضُ بْنُ السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَا الْيَهُودِيُّ مِنْ وَلَدِ الْكَاهِنِ بْنِ هَارُونَ ، شَاعِرٌ ابْنُ شَاعِرٍ وَأَمَّا أَهْلُ الْأَخْبَارِ فَاخْتَلَفُوا فِي قَائِلِهِ فَقِيلَ لِوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلٍ وَقِيلَ ( لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ ) الْكَلْبِيِّ وَقِيلَ لِعَامِرِ بْنِ الْمَجْنُونِ ، وَقِيلَ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهَا لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو ، وَلِوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلٍ الْبَيْتَانِ وَلَمْ أَذْكُرْهُمَا أَنَا هُنَا ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَالصَّحِيحُ فِيهِمَا وَفِي الْأَبْيَاتِ غَيْرِهِمَا أَنَّهُمَا لِلْعَرِيضِ الْيَهُودِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : أَنْشَدَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : لَوْ كُنْتُ أَعْرِفُ فَوْقَ الشُّكْرِ مَنْزِلَةً أَعْلَى مِنْ الشُّكْرِ عِنْدَ اللَّهِ فِي الثَّمَنِ إذًا مَنَحْتُكَهَا مِنِّي مُهَذَّبَةً حَذْوًا عَلَى حَذْوِ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ حَسَنِ وَمِمَّا أَنْشَدَهُ الرِّيَاشِيُّ : شُكْرِي كَفِعْلِكَ فَانْظُرْ فِي عَوَاقِبِهِ تَعْرِفْ بِفِعْلِكَ مَا عِنْدِي مِنْ الشُّكْرِ وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْمَجُوسِيِّ يُولِينِي خَيْرًا فَأَشْكُرُهُ قَالَ : نَعَمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّنِي أُثْنِي بِمَا أَوْلَيْتَنِي لَمْ يُضِعْ حُسْنَ بَلَاءٍ مَنْ شَكَرِ إنَّنِي وَاَللَّهِ لَا أَكْفُرُكُمْ أَبَدًا مَا صَاحَ عُصْفُورُ الشَّجَرْ وَقَالَ آخَرُ : فَلَوْ كَانَ يَسْتَغْنِي عَنْ الشُّكْرِ مَاجِدٌ لِعِزَّةِ مُلْكٍ أَوْ عُلُوِّ مَكَانِ لَمَا نَدَبَ اللَّهُ الْعِبَادَ لِشُكْرِهِ فَقَالَ اُشْكُرُونِي أَيُّهَا الثَّقَلَانِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : ذِكْرُ النِّعَمِ شُكْرٌ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْجَفْوَةَ لَمْ يَشْكُرْ النِّعْمَةَ ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ فَإِنْ صَحَّ فَفِيهِ نَظَرٌ ، قَالَ الشَّاعِرُ : وَمَا تَخْفَى الصَّنِيعَةُ حَيْثُ كَانَتْ وَلَا الشُّكْرُ الصَّحِيحُ مِنْ السَّقِيمِ وَقَالَ

سُلَيْمَانُ التَّمِيمِيُّ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِقَدْرِ طَاعَتِهِمْ وَكَلَّفَهُمْ مِنْ الشُّكْرِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ ، فَقَالُوا : كُلُّ شُكْرٍ وَإِنْ قَلَّ : ثَمَنٌ لِكُلِّ نَوَالٍ وَإِنْ جَلَّ .
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَشْعَبَ : الطَّمَعُ يَا أَشْعَبُ ، أَحْسَنْتُ إلَيْكَ فَلَمْ تَشْكُرْ ، فَقَالَ : إنَّ مَعْرُوفَكَ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ مُحْتَسِبٍ إلَى غَيْرِ شَاكِرٍ ، وَقَالُوا : لَا تَثِقْ بِشُكْرِ مَنْ تُعْطِيهِ حَتَّى تَمْنَعَهُ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا مِنْ شَيْءٍ أَسَرُّ إلَيَّ مِنْ يَدٍ أُتْبِعُهَا أُخْرَى ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْأَوَاخِرِ ، يَقْطَعُ لِسَانَ شُكْرِ الْأَوَائِلِ .
وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ عَبْد الْبَرِّ قَوْلَ ابْنِ شُبْرُمَةَ : مَا أَعْرَفَنِي بِجَيِّدِ الشِّعْرِ : أُولَئِكَ قَوْمٌ إنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنَا وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا وَإِنْ كَانَتْ النَّعْمَاءُ فِيهِمْ جَزَوْا بِهَا وَإِنْ أَنْعَمُوا لَا كَدَّرُوهَا وَلَا كَدُّوا وَإِنْ قَالَ مَوْلَاهُمْ عَلَى حَمْلِ حَادِثِ مِنْ الْأَمْرِ رُدُّوا فَضْلَ أَحْلَامِكُمْ رَدُّوا وَسَأَلَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ الْأَصْمَعِيَّ كَيْفَ تُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ يَعْنِي الْبَيْتَ الْأَوَّلَ فَأَنْشَدَهُ وَقَالَ : الْبِنَاءُ بِكَسْرِ الْبَاءِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ : اُلْبُنَا بِضَمِّ الْبَاءِ .
وَقَالَ : إنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا بَنَوْا الْمَكَارِمَ لَا اللَّبِنَ وَالطِّينَ ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَسْرَ الْبَاءِ وَضَمَّهَا ، فَالْكَسْرُ جَمْعُ بِنْيَةٍ نَحْوَ كِسْرَةٍ وَكِسَرٍ ، وَالضَّمُّ جَمْعُ بُنْيَةٍ نَحْوَ ظُلْمَةٍ وَظُلَمٍ ، قَالُوا : وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ رَأَى الضَّمَّ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ بِالْبِنَاءِ بِمَعْنَى الْعِمَارَةِ بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّمَا يُبَالَغُ فِي التَّوَسُّلِ إلَى الْبَخِيلِ لَا إلَى الْكَرِيمِ كَمَا قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : وَإِذَا امْرُؤٌ مَدَحَ امْرَأً لِنَوَالِهِ وَأَطَالَ فِيهِ فَقَدْ أَسَرَّ هِجَاءَهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ بُعْدَ الْمُسْتَقَى

عِنْدَ الْوُرُودِ لَمَا أَطَالَ رِشَاءَهُ .

فَصْلٌ ( فِي تَحْرِيمِ الْمَنِّ عَلَى الْعَطَاءِ ) .
وَيَحْرُمُ الْمَنُّ بِمَا أَعْطَى بَلْ هُوَ كَبِيرَةٌ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ رَوَى هُوَ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } وَلِأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ { وَالْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إلَّا مِنَّةً } .
وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ } وَهُوَ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ .
وَلَهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى } .
( فَصْلٌ ) .
قَالَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَبِيهِ قُلْتُ : حَدِيثٌ يُحَدِّثُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد أَنَّ الْهَدِيَّةَ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَلْ تَعْرِفُهُ ؟ قَالَ : لَا أَعْرِفُهُ ، وَأَنْكَرَهُ وَقَالَ : إنَّمَا رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ : { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قَالَ الضَّحَّاكُ : إنَّمَا هَذِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةٌ لَا يُهْدَى إلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ .

فَصْلٌ ( فِي الشَّمَاتَةِ وَاسْتِعَاذَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَمِنْ أُمُورٍ أُخْرَى ) .
عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ ، فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَبْتَلِيكَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُجَالِدٍ وَهُوَ رَوَاهُ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ شَبِيبٍ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ حَفْصٍ عَنْ بُرْدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ مَكْحُولٍ .
أُمَيَّةُ تَفَرَّدَ عَنْ سَلَمَةَ ، وَبُرْدٌ حَدِيثُهُ حَسَنٌ .
الشَّمَاتَةُ : الْفَرَحُ بِبَلِيَّةِ الْعَدُوِّ ، يُقَالُ شَمِتَ بِهِ بِالْكَسْرِ يَشْمَتُ شَمَاتَةً ، وَأَشْمَتَهُ غَيْرَهُ وَبَاتَ فُلَانٌ بِلَيْلَةِ الشَّوَامِتِ أَيْ : شَمِتَ الشَّوَامِتُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ ، وَدَرْكِ الشَّقَاءِ ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ } جَهْدٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا لُغَةٌ ، دَرْكٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ الِاسْمُ وَبِسُكُونِهَا الْمَصْدَرُ فَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ شَيْءٍ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { إذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا } وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ وَلْيَنْتَهِ } وَحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَيَأْتِي فِي الرُّؤْيَا وَلَا فِي أَحَدِهِمَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ ، يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } .

وَحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : { بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ ، فَقَالَ : مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا ، فَقَالَ : مَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ قَالَ : مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ ، فَقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَلَوْلَا أَنْ تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسْمِعَكُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالُوا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالُوا : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالُوا : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالَ : تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ قَالُوا : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ } وَيَأْتِي حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الرُّؤْيَا .
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُ عَلَيَّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا ، قَالَ : فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِّي } .
رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ .
خَنْزَبٌ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ زَايٍ مَكْسُورَةٍ وَمَفْتُوحَةٍ ، وَيُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالزَّايِ ، وَيُقَالُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ { وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو اللَّهُمَّ لَا تُشَمِّتْ بِي عَدُوًّا حَاسِدًا } رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ

حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَقِيلَ لِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَيُّ شَيْءٍ مِنْ بَلَائِكَ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكَ قَالَ : شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ وَقَالَ : الْكَلْبِيُّ : لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَمِتَ بِهِ نِسَاءُ كِنْدَةَ وَحَضْرَمَوْتَ وَخَضَّبْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَأَظْهَرْنَ السُّرُورَ لِمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَرَبْنَ بِالدُّفِّ ، فَقَالَ الشَّاعِرُ : بَلِّغْ أَبَا بَكْرٍ إذَا مَا جِئْتَهُ أَنَّ الْبَغَايَا رُمْنَ كُلَّ مَرَامِ أَظْهَرْنَ مِنْ مَوْتِ النَّبِيِّ شَمَاتَةً وَخَضَّبْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِالْعَنَامِ فَاقْطَعْ هُدِيتَ أَكُفَّهُنَّ بِصَارِمٍ كَالْبَرْقِ أَوْمَضَ فِي مُتُونِ غَمَامِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ : سَمِعْتُ أَشْهَبَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَدْعُو عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ بِالْمَوْتِ أَظُنُّهُ قَالَ فِي سُجُودِهِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَمَثَّلَ يَقُولُ : تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : فَمَاتَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاشْتَرَى أَشْهَبُ مِنْ تَرِكَتِهِ مَمْلُوكًا ، ثُمَّ مَاتَ أَشْهَبُ بَعْدَهُ بِنَحْوٍ مِنْ شَهْرٍ أَوْ قَالَ : خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَاشْتَرَيْتُ أَنَا ذَلِكَ الْمَمْلُوكَ مِنْ تَرِكَةِ أَشْهَبَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
الْبَيْتُ الْأَوَّلُ لِطَرَفَةَ ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى } .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْأَشْقَى بِمَعْنَى الشَّقِيِّ وَالْعَرَبُ تَضَعُ أَفْعَلَ فِي مَوْضِعِ فَاعِلٍ ، قَالَ طَرَفَةُ : فَذَكَرَهُ ، وَأَمَّا الْبَيْتُ الثَّانِي فَفِي تَرْجَمَةِ خَالِدِ

بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا أَشْعَرَهُ حَيْثُ يَقُولُ ، فَذَكَرَهُ وَذَكَرَ بَعْدَهُ بَيْتًا آخَرَ وَهُوَ : فَمَا عَيْشُ مَنْ قَدْ عَاشَ بَعْدِي بِنَافِعِي وَلَا مَوْتُ مَنْ قَدْ مَاتَ قَبْلِي بِمُخْلِدِي وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ قَرْضَةَ : إذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ حَوَادِثَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ مَا لَقِينَا وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ : كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى فَتَهُونُ غَيْرَ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَلِلْمُبَارَكِ بْنِ الطَّبَرِيِّ : لَوْلَا شَمَاتَةُ أَعْدَاءٍ ذَوِي حَسَدِ أَوْ اغْتِمَامُ صَدِيقٍ كَانَ يَرْجُونِي لَمَا طَلَبْتُ مِنْ الدُّنْيَا مَرَاتِبَهَا وَلَا بَذَلْتُ لَهَا عِرْضِي وَلَا دِينِي وَلِعَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ : فَهَلْ مِنْ خُلْدٍ إنَّا هَلَكْنَا وَهَلْ بِالْمَوْتِ يَا لَلنَّاسِ عَارُ وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ } .
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ : قَالُوا مِنْ ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ فِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ الْهَمْدَانِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ .
خَالِدٌ لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُحِدَّهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا .
} قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى : مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَى لَا يُثَرِّبْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى التَّثْرِيبِ وَهُوَ التَّعْيِيرُ وَالتَّوْبِيخُ وَاللَّوْمُ وَالتَّقْرِيعُ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ : لَا يُوَبِّخُهَا بِالزِّنَا بَعْدَ الضَّرْبِ ، قَالَ : وَقِيلَ : لَا يَقْنَعُ فِي عُقُوبَتِهَا بِالتَّثْرِيبِ بَلْ يَضْرِبُهَا الْحَدَّ فَإِنَّ زِنَا الْإِمَاءِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ مَكْرُوهًا وَلَا مُنْكَرًا فَأَمَرَهُمْ بِحَدِّ الْإِمَاءِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِحَدِّ الْحَرَائِرِ .
نَظَرَ بَعْضُ الْعُبَّادِ

شَخْصًا مُسْتَحْسَنًا فَقَالَ لَهُ شَيْخُهُ : سَتَجِدُ غِبَّهُ فَنَسِيَ الْقُرْآنَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَقَالَ آخَرُ : عِبْتُ شَخْصًا قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَسْنَانِهِ فَذَهَبَتْ أَسْنَانِي ، وَنَظَرْتُ إلَى امْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لِي فَنَظَرَ زَوْجَتِي مَنْ لَا أُرِيدُ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : عَيَّرْتُ رَجُلًا بِالْإِفْلَاسِ فَأَفْلَسْتُ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ وَمَا نَزَلَتْ بِي آفَةٌ وَلَا غَمٌّ وَلَا ضِيقُ صَدْرٍ إلَّا بِزَلَلٍ أَعْرِفُهُ حَتَّى يُمْكِنَنِي أَنْ أَقُولَ هَذَا بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ ، وَرُبَّمَا تَأَوَّلْتُ تَأْوِيلًا فِيهِ بُعْدٌ فَأَرَى الْعُقُوبَةَ .
فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَرَقَّبَ جَزَاءَ الذَّنْبِ فَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي التَّوْبَةِ وَقَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ : رَأَيْتُ صَلَاحَ الْمَرْءِ يُصْلِحُ أَهْلَهُ وَيُعْدِيهِمْ دَاءُ الْفَسَادِ إذَا فَسَدْ وَيَشْرُفُ فِي الدُّنْيَا بِفَضْلِ صَلَاحِهِ وَيُحْفَظُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْأَهْلِ وَالْوَلَدْ كَذَا قَالَ .
وَمُرَادُهُ كَثْرَةُ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ مُطَّرِدٌ عَلَى مَا لَا يَخْفَى .


أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14