كتاب : الزواجر عن اقتراف الكبائر
المؤلف : أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 

{ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ( قُرْآنٌ كَرِيمٌ ) 

[ خُطْبَةُ الْكِتَابِ ] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَمَى مِنْ أَجْلِ رَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ وَغَيْرَتِهِ الْمُنَزَّهَةِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ قُدْرَتِهِ وَكَمَالِ عِزَّتِهِ حَمَى حَوْمَةَ الْكَبَائِرِ ، وَالْفَوَاحِشِ وَالْمَنَاهِي وَالْمَفَاسِدِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْمَلَاهِي وَالْأَهْوِيَةِ وَالْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي بِقَوَاطِعِ النُّصُوصِ الزَّوَاجِرِ ، وَآيَاتِ كُتُبِهِ الْبُحُورِ الزَّوَاخِرِ ، وَنَوَامِيسِ عَدْلِهِ الْقَوَاصِمِ الْقَوَاهِرِ ، عَنْ أَنْ يُلِمُّوا بِذَلِكَ الْحِمَى الْوَعِرَةِ سُبُلُهُ وَآثَارُهُ الْمُضْرَمَةِ جَحِيمُهُ وَنَارُهُ الْمُحْرِقَةُ وُرَّادَهُ وَزُوَّارَهُ ؛ إذَا لَمْ يَخْشَوْا مِنْ غَضَبِ رَبِّ الْأَرْبَابِ الْمُوجِبِ لِمُعَالَجَتِهِمْ بِعَظِيمِ الْعِقَابِ وَالْخُلُودِ فِي خِزْيِ الْهَوَانِ وَالْعَذَابِ ، وَلَمْ يَطْمَعُوا فِي الْمُسَارَعَةِ إلَى سَوَابِغِ رَحْمَتِهِ وَرِضَاهُ ، وَأَفْضَالِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاعَهُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَتَمَنَّاهُ ، وَتَوْفِيقِهِ إلَى مَا يُبَلِّغُ إلَى دَارِ كَرَامَتِهِ وَمَحْيَاهُ ، وَلَا آثَرُوا تَقْدِيمَ مُرَادِهِ ، وَلَا أَعْرَضُوا عَمَّا لَا يُرْضِيهِ فِي عِبَادِهِ ، وَلَا أَحْرَزُوا قَصَبَ السَّبْقِ فِي دَارَيْ مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً أَفُوزُ بِهَا بِالْحِفْظِ مِنْ مَعَاصِيهِ الْقَاطِعَةِ عَنْ عَلِيِّ جَنَابِهِ ، وَأَتَبَوَّأُ بِالْإِخْلَاصِ فِيهَا غُرَفَ قُرْبِهِ مَعَ الْكُمَّلِ مِنْ أَحْبَابِهِ .
وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ ، وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، الَّذِينَ صَانَهُمْ اللَّهُ عَنْ أَنْ يُدَنِّسُوا صَفَاءَ صِدْقِهِمْ بِدَنَسِ الْمُخَالَفَاتِ ، وَأَنْ يُؤْثِرُوا عَلَى رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا مِنْ قَوَاطِعِ الشَّهَوَاتِ ، وَأَنْ لَا يَتَطَلَّعُوا إلَّا إلَى

امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي فِي سَائِرِ الْحَالَاتِ ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ بِدَوَامِهِ الْأَقْدَسِ عَطِرَيْنِ بِعُبُوقِ شَذَاهُ الْأَطْيَبِ الْأَنْفَسِ ، وَكَذَا عَلَى تَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ الَّذِي كَمَا يَدِينُ كُلُّ أَحَدٍ بِهِ يُدَانُ ، وَيُقَالُ لِلْعَاصِي هَلْ جَزَاءُ الْعِصْيَانِ إلَّا الْخِزْيُ وَالْهَوَانُ ، وَلِلْمُحْسِنِ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ ؟ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ كَانَ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِي أَثْنَاءَ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ مُدَّةً مَدِيدَةً وَأَزْمِنَةً عَدِيدَةً ، أَنْ أُؤَلِّفَ كِتَابًا فِي بَيَانِ الْكَبَائِرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمًا وَزَجْرًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا ، وَأَنْ أَمُدَّ فِي تَهْذِيبِ ذَلِكَ وَتَنْقِيحِهِ وَتَوْضِيحِهِ بَاعًا طَوِيلًا مَدِيدًا ، وَأَنْ أَبْسُطَ فِيهِ بَسْطًا مُفِيدًا ، وَأَنْ أُطْنِبَ فِي أَدِلَّتِهِ إطْنَابًا حَمِيدًا ، لَكِنِّي كُنْت أُقَدِّمُ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى لِمَا أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مَوَادُّ ذَلِكَ بِأُمِّ الْقُرَى إلَى أَنْ ظَفِرْت بِكِتَابٍ مَنْسُوبٍ فِي ذَلِكَ لِإِمَامِ عَصْرِهِ وَأُسْتَاذِ أَهْلِ دَهْرِهِ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيِّ فَلَمْ يَشْفِ الْأُوَامَ ، وَلَا أَغْنَى عَنْ ذَلِكَ الْمَرَامِ ، لِمَا أَنَّهُ اسْتَرْوَحَ فِيهِ اسْتِرْوَاحًا تُجَلُّ مَرْتَبَتُهُ عَنْ مِثْلِهِ ، وَأَوْرَدَ فِيهِ أَحَادِيثَ وَحِكَايَاتٍ لَمْ يَعْزُ كُلًّا مِنْهَا إلَى مَحَلِّهِ مَعَ عَدَمِ إمْعَانِ نَظَرِهِ فِي تَتَبُّعِ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ وَعَدَمِ تَعْوِيلِهِ عَلَى كَلَامِ مَنْ سَبَقَهُ إلَى تِلْكَ الْمَسَالِكِ ، فَدَعَانِي ذَلِكَ مَعَ مَا تَفَاحَشَ مِنْ ظُهُورِ الْكَبَائِرِ وَعَدَمِ أَنَفَةِ الْأَكْثَرِ عَنْهَا فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، لِمَا أَنَّ أَبْنَاءَ الزَّمَانِ وَإِخْوَانَ اللَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ دَوَاعِي الْفُسُوقِ وَالْخُلُودِ إلَى أَرْضِ الشَّهَوَاتِ وَالْعُقُوقِ ، وَالرُّكُونِ إلَى دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ دَارِ الْخُلُودِ ، وَنِسْيَانِ الْعَوَاقِبِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْمَعَايِبِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَمِنُوا عِقَابَ

اللَّهِ وَمَكْرَهُ ، وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْإِمْهَالَ إنَّمَا هُوَ لِيَحِقَّ عَلَيْهِمْ قَهْرُهُ ، إلَى الشُّرُوعِ فِي تَأْلِيفٍ يَتَضَمَّنُ مَا قَصَدْته وَيَتَكَفَّلُ بِبَيَانِ جَمِيعِ مَا قَدَّمْته ، وَيَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ زَاجِرًا أَيَّ زَجْرٍ ، وَوَاعِظًا وَآمِرًا أَيَّ وَاعِظٍ وَآمِرٍ ، وَمِنْ ثَمَّ سَمَّيْته : ( الزَّوَاجِرَ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ ) وَأَرْجُو إنْ تَمَّ كَمَا ذَكَرْت أَنْ يَنْفَعَ اللَّهُ بِهِ الْبَادِيَ وَالْحَاضِرَ ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ سَبَبًا لِتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، فَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وَإِلَيْهِ أَفْزَعُ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ ، وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ، حَسْبِي اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
وَرَتَّبْته عَلَى مُقَدِّمَةٍ فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ وَمَا وَقَعَ لِلنَّاسِ فِيهِ وَفِي عَدِّهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ ، وَبَابَيْنِ : الْأَوَّلُ : فِي الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِمَّا لَيْسَ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِخُصُوصِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ .
وَالثَّانِي : فِي الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ .
وَأُرَتِّبُ هَذِهِ عَلَى تَرْتِيبِ أَبْوَابِ فِقْهِنَا مَعْشَرَ الشَّافِعِيَّةِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَيْسِيرِ الْكَشْفِ عَلَيْهَا فِي مَحَالِّهَا ؛ وَأَمَّا تَفَاصِيلُ مَرَاتِبِهَا فُحْشًا وَقُبْحًا فَأُشِيرُ إلَيْهِ فِي كُلٍّ مِنْهَا بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيَهْدِي إلَيْهِ .
وَخَاتِمَةٍ فِي ذِكْرِ فَضَائِلِ التَّوْبَةِ .
وَأَمَّا ذِكْرُ شُرُوطِهَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا فَأَذْكُرُهُ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ .
ثُمَّ فِي ذِكْرِ النَّارِ وَصِفَاتِهَا وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الزَّوَاجِرِ وَالْعِقَابِ الْأَلِيمِ .
ثُمَّ فِي ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَصِفَاتِهَا وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاخِرِ وَالثَّوَابِ وَالنَّضْرَةِ وَالنَّعِيمِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ آكِدِ الدَّوَاعِي إلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ الْمُؤَدِّي ارْتِكَابُ بَعْضِهَا بِحَسَبِ الْمَشِيئَةِ

الْإِلَهِيَّةِ إلَى الدُّخُولِ إلَى ذَلِكَ السَّعِيرِ ، وَمُقَاسَاةِ مَا لَهُ مِنْ الْحَمِيمِ وَالشَّهِيقِ وَالزَّفِيرِ ، وَاجْتِنَابُهَا إلَى الْفَوْزِ بِذَلِكَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، وَالْحُلُولِ فِي رِضْوَانِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .
جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأَدَامَ عَلَيْنَا هَوَاطِلَ جُودِهِ وَفَضْلِهِ ، وَخَتَمَ لَنَا بِالْحُسْنَى وَبَلَّغَنَا مِنْ فَضْلِهِ الْمَقَامَ الْأَرْفَعَ الْأَسْنَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ آمِينَ .

مُقَدِّمَةٌ [ فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ وَمَا وَقَعَ لِلنَّاسِ فِيهِ وَفِي عَدِّهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ ] اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْكَرُوا أَنَّ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةً وَقَالُوا بَلْ سَائِرُ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ ، مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْإِرْشَادِ " ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي " الْمُرْشِدِ " بَلْ حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنْ الْأَشَاعِرَةِ وَاخْتَارَهُ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ : مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا كُلُّهَا كَبَائِرُ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا ، ثُمَّ أَوَّلَ الْآيَةَ الْآتِيَةَ : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } بِمَا يَنْبُو عَنْهُ ظَاهِرُهَا .
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : الذُّنُوبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ انْتَهَى .
وَرُبَّمَا ادَّعَى فِي مَوْضِعٍ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَاعْتَمَدَ ذَلِكَ أَيْضًا التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ .
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ : لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي مَعْصِيَةٍ : إنَّهَا صَغِيرَةٌ ، إلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَصْغُرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ .
وَيُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، لَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْكَبَائِرُ فَقَالَ : كُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : كُلُّ شَيْءٍ عُصِيَ اللَّهُ فِيهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ .
وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَعْنَى ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْإِطْلَاقِ لِإِجْمَاعِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْمَعَاصِي مَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ وَمِنْهَا مَا لَا يَقْدَحُ فِيهَا ، وَإِنَّمَا الْأَوَّلُونَ فَرُّوا مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ فَكَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى صَغِيرَةً نَظَرًا إلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشِدَّةِ عِقَابِهِ وَإِجْلَالًا لَهُ عَزَّ

وَجَلَّ عَنْ تَسْمِيَةِ مَعْصِيَتِهِ صَغِيرَةً ، لِأَنَّهَا بِالنَّظَرِ إلَى بَاهِرِ عَظَمَتِهِ كَبِيرَةٌ أَيُّ كَبِيرَةٍ ، وَلَمْ يَنْظُرْ الْجُمْهُورُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ ، بَلْ قَسَّمُوهَا إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَرَّهَ إلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } فَجَعَلَهَا رُتَبًا ثَلَاثَةً ، وَسَمَّى بَعْضَ الْمَعَاصِي فُسُوقًا دُونَ بَعْضٍ وقَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ } .
وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ } وَفِي رِوَايَةٍ " تِسْعٌ " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا : { وَمِنْ كَذَا إلَى كَذَا كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } فَخَصَّ الْكَبَائِرَ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ ، وَلَوْ كَانَتْ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرَ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ مَا عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهُ أَحَقُّ بِاسْمِ الْكَبِيرَةِ ، عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْغَزَالِيُّ : لَا يَلِيقُ إنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ ، وَقَدْ عُرِفَا مِنْ مَدَارِكِ الشَّرْعِ .
ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي حَدِّهَا وُجُوهٌ .
أَحَدُهَا : أَنَّهَا مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ .
هَذِهِ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَغَيْرِهِمَا ، وَحَذَفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَقْيِيدَ الْوَعِيدِ بِكَوْنِهِ شَدِيدًا ، وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى أَنَّ كُلَّ وَعِيدٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا شَدِيدًا فَهُوَ مِنْ الْوَصْفِ اللَّازِمِ ، وَخَرَجَ بِالْخُصُوصِ مَا انْدَرَجَ تَحْتَ عُمُومٍ فَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً بِخُصُوصِهِ ، قِيلَ : وَلِكَوْنِ الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي الْحَدِّ .
انْتَهَى ، وَلَيْسَ

كَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ .
ثَانِيهَا : أَنَّهَا كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتْ الْحَدَّ ، وَبِهِ قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ لَهُمْ وَهُمْ إلَى تَرْجِيحِ هَذَا أَمْيَلُ ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْفَقُ بِمَا ذَكَرُوهُ فِي تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ : أَيْ لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى كَبَائِرَ كَثِيرَةٍ وَلَا حَدَّ فِيهَا ؛ كَآكِلِ الرِّبَا وَمَالِ الْيَتِيمِ وَالْعُقُوقِ وَقَطْعِ الرَّحِمِ وَالسِّحْرِ وَالنَّمِيمَةِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالسِّعَايَةِ وَالْقِوَادَةِ وَالدِّيَاثَةِ وَغَيْرِهَا .
وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْحَدَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ مِنْ الْحَدِّ الثَّانِي ، وَإِنْ قَالَ الرَّافِعِيُّ إنَّهُمْ إلَى تَرْجِيحِهِ أَمْيَلُ ؛ وَأَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ الْحَاوِي الصَّغِيرِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ الرَّاجِحُ فَجَزَمَ بِهِ ، ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْته فَقَالَ : عَجِيبٌ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ إنَّ الْأَصْحَابَ إلَى الثَّانِي أَمْيَلُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ .
انْتَهَى .
لَكِنْ إذَا أُوِّلَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ قَائِلِهِ مَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ خَفَّ بُعْدُهُ وَانْدَفَعَ الْإِيرَادُ عَلَيْهِ بِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ تَسْمِيَةَ الْعُقُوقِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ كَبِيرَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا بَعْضُ مَا يَأْتِي مِمَّا عُلِمَ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، وَسَيَأْتِي عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ذِكْرُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْكَبَائِرِ اتِّفَاقًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ بِذَلِكَ .
ثَالِثُهَا : أَنَّهَا كُلُّ مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، أَوْ وَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ ؛ وَتَرْكُ فَرِيضَةٍ تَجِبُ فَوْرًا ، وَالْكَذِبُ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالْيَمِينِ ، زَادَ الْهَرَوِيُّ فِي إشْرَافِهِ وَشُرَيْحٌ فِي رَوْضَتِهِ : وَكُلُّ قَوْلٍ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الْعَامَّ .
رَابِعُهَا : قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ : كُلُّ جَرِيمَةٍ عَلَى مَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَعِبَارَةُ إرْشَادِهِ

جَرِيرَةٍ وَهِيَ بِمَعْنَاهَا تُؤْذِنُ : أَيْ تُعْلِمُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ : أَيْ اعْتِنَاءِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ ، وَرِقَّةُ الدِّيَانَةِ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ ، وَكُلُّ جَرِيمَةٍ أَوْ جَرِيرَةٍ لَا تُؤْذِنُ بِذَلِكَ بَلْ يَبْقَى حُسْنُ الظَّنِّ ظَاهِرًا بِصَاحِبِهَا لَا تُحِيطُ الْعَدَالَةَ ، قَالَ : وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُمَيَّزُ بِهِ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ عَنْ الْآخَرِ انْتَهَى .
وَلِهَذَا تَابَعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي الْمُرْشِدِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِي نِهَايَتِهِ : الصَّادِرُ مِنْ الشَّخْصِ إنْ دَلَّ عَلَى الِاسْتِهَانَةِ لَا بِالدِّينِ وَلَكِنْ بِغَلَبَةِ التَّقْوَى وَتَمْرِينِ غَلَبَةِ رَجَاءِ الْعَفْوِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ ، وَإِنْ صَدَرَ عَنْ فَلْتَةِ خَاطِرٍ أَوْ لَفْتَةِ نَاظِرٍ فَصَغِيرَةٌ ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا بِالدِّينِ : أَيْ لَا بِأَصْلِهِ فَإِنَّ الِاسْتِهَانَةَ بِأَصْلِهِ كُفْرٌ ، وَمِنْ ثَمَّ عَبَّرَ فِي الْأُولَى بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ وَلَمْ يَقُلْ بِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ ، وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ فَالْمُرَادُ تَفْسِيرُ غَيْرِهِ مِمَّا يَصْدُرُ مِنْ الْمُسْلِمِ .
قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ : وَرَجَّحَ الْمُتَأَخِّرُونَ مَقَالَةَ الْإِمَامِ الْحَسَنِ : الضَّبْطَ بِهَا وَلَعَلَّهَا وَافِيَةٌ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ الْآتِي بَيَانُهَا وَمَا أُلْحِقَ بِهَا قِيَاسًا انْتَهَى ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ مُنَازَعَةَ الْأَذْرَعِيِّ فِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : وَإِذَا تَأَمَّلْت بَعْضَ مَا عُدَّ مِنْ الصَّغَائِرِ تَوَقَّفْت فِيمَا أَطْلَقَهُ انْتَهَى ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ اعْتِرَاضِ ابْنِ أَبِي الدَّمِ ضَابِطَ النِّهَايَةِ بِأَنَّهُ مَدْخُولٌ ، وَبَيَّنَهُ بِمَا بَسَطَهُ عَنْهُ فِي الْخَادِمِ .
عَلَى أَنَّك إذَا تَأَمَّلْتَ كَلَامَ الْإِمَامِ الْأَوَّلَ ظَهَرَ لَك أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَدًّا لِلْكَبِيرَةِ خِلَافًا لِمَنْ فَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ صَغَائِرَ الْخِسَّةِ وَلَيْسَتْ بِكَبَائِرَ ، وَإِنَّمَا ضَبْطُهُ بِهِ مَا يُبْطِلُ الْعَدَالَةَ مِنْ الْمَعَاصِي الشَّامِلُ لِصَغَائِرِ

الْخِسَّةِ ، نَعَمْ هَذَا الْحَدُّ أَشْمَلُ مِنْ التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِصِدْقِهِ عَلَى سَائِرِ مُفْرَدَاتِ الْكَبَائِرِ الْآتِيَةِ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِمَا عَلِمْت أَنَّهُ يَشْمَلُ صَغَائِرَ الْخِسَّةِ وَنَحْوَهَا كَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ ، وَلِمَا نَقَلَ الْبِرْمَاوِيُّ عَنْ الرَّافِعِيِّ الْأَوْجُهَ السَّابِقَةَ قَالَ : قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُجْمَعَ هَذِهِ التَّعَارِيفُ كُلُّهَا لِيَحْصُلَ اسْتِيعَابُ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصَةِ وَالْمَقِيسَةِ لِأَنَّ بَعْضَهَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا وَبَعْضَهَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْآخَرُ .
قُلْت : لَكِنَّ تَعْرِيفَ الْإِمَامِ لَا يَكَادُ يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهَا لِمَنْ تَأَمَّلَهُ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْخَادِمِ بَعْدَ إيرَادِهِ مَا مَرَّ عَنْ الرَّافِعِيِّ : التَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ الْكَبِيرَةِ ، وَأَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَوْجُهِ يَحْصُلُ بِهِ ضَابِطُ الْكَبِيرَةِ انْتَهَى ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْكَبِيرَةُ : مَا أَوْجَبَ الْحَدَّ أَوْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ الْوَعِيدُ .
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : كُلُّ مَا وَجَبَ فِيهِ حَدٌّ أَوْ وَرَدَ فِيهِ تَوَعُّدٌ بِالنَّارِ أَوْ جَاءَتْ فِيهِ لَعْنَةٌ ، وَسَيَأْتِي نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِ .
وَاعْتُرِضَ قَوْلُ الْإِمَامِ كُلُّ جَرِيمَةٍ لَا تُؤْذِنُ بِذَلِكَ ا هـ .
بِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى غَصْبِ مَا دُونَ نِصَابِ السَّرِقَةِ أَتَى بِصَغِيرَةٍ وَلَا يَحْسُنُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الظَّنُّ فَكَانَ الْقِيَاسُ ، أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً ، وَكَذَلِكَ قُبْلَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ صَغِيرَةٌ ، وَلَا يَحْسُنُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الظَّنُّ بِفَاعِلِهَا .
وَيُجَابُ بِأَنَّ كَوْنَ هَذَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ ، إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ جَمْعٍ كَمَا يَأْتِي فِيهِمَا ، وَأَمَّا عَلَى مُقَابِلِهِ الْآتِي أَنَّهُمَا كَبِيرَتَانِ فَلَا اعْتِرَاضَ ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ أَنْ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا صَغِيرَةٌ وَأَنَّهَا مِمَّا يَسُوءُ ظَنُّ أَكْثَرِ النَّاسِ بِفَاعِلِهَا .
خَامِسُهَا : أَنَّهَا مَا أَوْجَبَ الْحَدَّ أَوْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ

الْوَعِيدُ ، وَالصَّغِيرَةُ مَا قَلَّ فِيهِ الْإِثْمُ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي حَاوِيهِ .
سَادِسُهَا : أَنَّهَا كُلُّ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ ، فَإِنْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهًا مِنْ التَّحْرِيمِ كَانَ فَاحِشَةً ؛ فَالزِّنَا كَبِيرَةٌ ، وَبِحَلِيلَةِ الْجَارِ فَاحِشَةٌ ، وَالصَّغِيرَةُ تَعَاطِي مَا تَنْقُصُ رُتْبَتُهُ عَنْ رُتْبَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ تَعَاطِيهِ عَلَى وَجْهٍ دُونَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ تَعَاطَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهًا مِنْ التَّحْرِيمِ كَانَ كَبِيرَةً ، فَالْقُبْلَةُ وَاللَّمْسُ وَالْمُفَاخَذَةُ صَغِيرَةٌ وَمَعَ حَلِيلَةِ الْجَارِ كَبِيرَةٌ ، كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ عَنْ الْحَلِيمِيِّ ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ عِبَارَتِهِ فِي مَحَلِّهَا وَأَنَّهُ اخْتَارَ أَنَّهُ مَا مِنْ ذَنْبٍ إلَّا وَفِيهِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ وَقَدْ تَنْقَلِبُ الصَّغِيرَةُ كَبِيرَةً بِقَرِينَةٍ تُضَمُّ إلَيْهَا ، وَتَنْقَلِبُ الْكَبِيرَةُ فَاحِشَةً بِقَرِينَةٍ تُضَمُّ إلَيْهَا إلَّا الْكُفْرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ أَفْحَشُ الْكَبَائِرِ وَلَيْسَ مِنْ نَوْعِهِ صَغِيرَةٌ ، ثُمَّ مَثَّلَ لِذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ تَأْتِي فِي مَحَالِّهَا مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا .
سَابِعُهَا : أَنَّهَا كُلُّ فِعْلٍ نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ : أَيْ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : أَكْلُ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِهِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَرُدَّ بِمَنْعِ الْحَصْرِ فِي الْأَرْبَعَةِ .
ثَامِنُهَا : أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهَا بِحَصْرِهَا يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ وَاعْتَمَدَهُ الْوَاحِدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي بَسِيطِهِ فَقَالَ : الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ يَعْرِفُهَا الْعِبَادُ بِهِ ، وَإِلَّا لَاقْتَحَمَ النَّاسُ الصَّغَائِرَ وَاسْتَبَاحُوهَا ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْفَى ذَلِكَ عَنْ الْعِبَادِ لِيَجْتَهِدُوا فِي اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ رَجَاءَ أَنْ تُجْتَنَبَ الْكَبَائِرُ ، وَنَظَائِرُهُ إخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَلَيْلَةِ

الْقَدْرِ وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ .
بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا كَمَا مَرَّ ؛ ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ نَقَلَ عَنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَخِفُّ بِهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ فَقَالَ : قَالَ الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : الْكَبَائِرُ كُلُّهَا لَا تُعْرَفُ : أَيْ لَا تَنْحَصِرُ ، قَالُوا : لِأَنَّهُ وَرَدَ وَصْفُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَعَاصِي بِأَنَّهَا كَبَائِرُ ، وَأَنْوَاعٍ أَنَّهَا صَغَائِرُ ، وَأَنْوَاعٍ لَمْ تُوصَفْ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : إنَّهَا مَعْرُوفَةٌ .
وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُعْرَفُ بِحَدٍّ وَضَابِطٍ أَوْ بِالْعَدِّ ؟ انْتَهَى .
وَوَرَاءَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ عِبَارَاتٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ : مِنْهَا : قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ : كُلُّ ذَنْبٍ أُوعِدَ فَاعِلُهُ بِالنَّارِ .
وَمِنْهَا : قَوْلُ الْغَزَالِيِّ : كُلُّ مَعْصِيَةٍ يُقْدِمُ الْمَرْءُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِشْعَارِ خَوْفٍ وَوِجْدَانِ نَدَمٍ تَهَاوُنًا وَاسْتِجْرَاءً عَلَيْهَا فَهِيَ كَبِيرَةٌ ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَى فَلَتَاتِ النَّفْسِ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْ نَدَمٍ يَمْتَزِجُ بِهَا وَيُنَغِّصُ التَّلَذُّذَ بِهَا فَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ .
وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى : وَلَا مَطْمَعَ فِي مَعْرِفَةِ الْكَبَائِرِ مَعَ الْحَصْرِ ، إذْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّمْعِ وَلَمْ يَرِدْ .
وَاعْتَرَضَ الْعَلَائِيُّ مَا قَالَهُ أَوَّلًا بِأَنَّهُ بَسْطٌ لِعِبَارَةِ الْإِمَامِ وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا إنْ كَانَ ضَابِطًا لِلْكَبِيرَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ، إذْ يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْ ارْتَكَبَ نَحْوَ الزِّنَا نَادِمًا عَلَيْهِ ، فَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا تَنْخَرِمُ بِهِ عَدَالَتُهُ وَلَا يُسَمَّى كَبِيرَةً حِينَئِذٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اتِّفَاقًا وَإِنْ كَانَ ضَابِطًا لِمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَهُوَ قَرِيبٌ انْتَهَى .
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ : كَأَنَّ الْعَلَائِيَّ فَهِمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَذْكُرُ حَدًّا يُدْخِلُ الْمَنْصُوصَ وَهَذَا مَمْنُوعٌ : أَيْ فَضَابِطُ الْغَزَالِيِّ لِمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَهُوَ

قَرِيبٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعَلَائِيُّ نَفْسُهُ أَنَّ الْحُدُودَ إنَّمَا هِيَ لِمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ .
وَمِنْهَا : قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ : الْأَوْلَى ضَبْطُ الْكَبِيرَةِ بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا بِدِينِهِ إشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا .
قَالَ : وَإِذَا أَرَدْت الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ فَاعْرِضْ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ عَلَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ أَقَلِّ الْكَبَائِرِ فَهِيَ صَغِيرَةٌ وَإِلَّا فَكَبِيرَةٌ انْتَهَى ، وَاعْتَرَضَهُ الْأَذْرَعِيُّ فَقَالَ : وَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى الْإِحَاطَةِ بِالْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا حَتَّى يُنْظَرَ فِي أَقَلِّهَا مَفْسَدَةً وَنَقِيسَ بِهَا مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ الْوَاقِعِ هَذَا مُتَعَذَّرٌ انْتَهَى .
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ عَقِبَ نَقْلِهِ اعْتِرَاضَ الْأَذْرَعِيِّ هَذَا : وَلَا تَعَذُّرَ فِي ذَلِكَ إذَا جُمِعَ مَا صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ انْتَهَى .
وَالْحَقُّ تَعَذُّرُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَإِنْ فُرِضَ إمْكَانُ جَمْعِ مَا صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْإِحَاطَةَ بِمَفَاسِدِهَا كُلِّهَا حَتَّى نَعْلَمَ أَقَلَّهَا مَفْسَدَةً فِي غَايَةِ النُّدُورِ بَلْ التَّعَذُّرِ وَالِاسْتِحَالَةِ ، إذْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا هُوَ مُنْتَقَدٌ أَيْضًا قَوْلُهُ - أَعْنِي ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ - : مَنْ شَتَمَ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَوْ اسْتَهَانَ بِرَسُولِ مِنْ رُسُلِهِ أَوْ ضَمَّخَ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمُصْحَفَ بِالْقَذَرِ كَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، وَوَجْهُ رَدِّهِ أَنَّ هَذَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ الْمُرَادُ مِنْهُ مُطْلَقُ الْكُفْرِ إجْمَاعًا لَا خُصُوصُ الشِّرْكِ .
قَالَ الشَّمْسُ الْبِرْمَاوِيُّ : وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْكَبِيرَةِ بِالْأَعَمِّ مِنْ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ لَا عَلَى الْمَعْنَى

الَّذِي سَبَقَ مِنْ مُقْتَضَى كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ انْتَهَى ، وَقَدْ قَدَّمْت أَنَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحُدُودَ السَّابِقَةَ إنَّمَا هِيَ لِمَا عَدَا الْكُفْرَ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى كَبِيرَةً بَلْ هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بَعْدَ مَا ذُكِرَ : وَكَذَلِكَ مَنْ أَمْسَكَ امْرَأَةً مُحْصَنَةً لِمَنْ يَزْنِي بِهَا أَوْ أَمْسَكَ مُسْلِمًا لِمَنْ يَقْتُلُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَسْتَأْصِلُونَهُمْ بِدَلَالَتِهِ وَيَسْبُونَ حَرِيمَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ وَيَغْنَمُونَ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّ نِسْبَةَ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَعْظَمُ مِنْ التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَكَذَا لَوْ كَذَبَ عَلَى إنْسَانٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِسَبَبِ كَذِبِهِ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ : وَقَدْ ضَبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْكَبَائِرَ بِأَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ فَتَغْيِيرُ مَنَارِ الْأَرْضِ أَيْ طُرُقِهَا كَبِيرَةٌ لِاقْتِرَانِ اللَّعْنِ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ ذَنْبٍ يُعْلَمُ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ كَمَفْسَدَةِ مَا قُرِنَ بِهِ الْوَعِيدُ أَوْ اللَّعْنُ أَوْ الْحَدُّ أَوْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ مَفْسَدَتِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ انْتَهَى .
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَعَلَى هَذَا فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا تُؤْخَذَ الْمَفْسَدَةُ مُجَرَّدَةً عَمَّا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ أَمْرٍ آخَرَ فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي ذَلِكَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّابِقَ إلَى الذِّهْنِ فِي مَفْسَدَةِ الْخَمْرِ إنَّمَا هُوَ السُّكْرُ وَتَشْوِيشُ الْعَقْلِ فَإِنْ أَخَذْنَا بِمُجَرَّدِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ شُرْبُ الْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ كَبِيرَةً لِخُلُوِّهَا عَنْ الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ ، لَكِنَّهَا كَبِيرَةٌ لِمَفْسَدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّجَرُّؤ عَلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ الْمُوقِعِ فِي الْمَفْسَدَةِ فَهَذَا الِاقْتِرَانُ يُصَيِّرُهُ كَبِيرَةً انْتَهَى .
قَالَ

الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ : وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَطْرَةِ مِنْ الْخَمْرِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَبْلَهُ ، وَقَالَ فِي قَوَاعِدِهِ أَيْضًا بَعْدَ حِكَايَتِهِ مَا سَبَقَ : لَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَابِطِ ذَلِكَ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ ضَابِطًا يَسْلَمُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ أَوْ ضَابِطًا جَامِعًا مَانِعًا انْتَهَى .
وَمِنْهَا : قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ : قَالَ الْجَلَال الْبُلْقِينِيُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ : الْكَبِيرَةُ كُلُّ ذَنْبٍ عَظُمَ عِظَمًا يَصِحُّ مَعَهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَبِيرَةِ وَيُوصَفَ بِكَوْنِهِ عَظِيمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَلَهَا أَمَارَاتٌ : مِنْهَا : إيجَابُ الْحَدِّ ، وَمِنْهَا : الْإِيعَادُ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ ؛ وَمِنْهَا : وَصْفُ فَاعِلِهَا بِالْفِسْقِ ؛ وَمِنْهَا : اللَّعْنُ انْتَهَى .
وَلَخَّصَهُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْبَارِزِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الَّذِي عَلَى الْحَاوِي فَقَالَ : وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ كُلُّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ لَعْنٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ عُلِمَ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ كَمَفْسَدَةِ مَا قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ ، أَوْ أَشْعَرَ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهِ فِي دِينِهِ إشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ كَمَا لَوْ قَتَلَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ مَعْصُومًا فَظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِدَمِهِ ، أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ظَانًّا أَنَّهُ زَانٍ بِهَا فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ انْتَهَى ؛ وَمَا ذَكَرَهُ آخِرًا سَبَقَهُ إلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : الْكَبَائِرُ كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ مِنْ الْحُدُودِ إنَّمَا قَصَدُوا بِهِ التَّقْرِيبَ فَقَطْ ، وَإِلَّا فَهِيَ لَيْسَتْ بِحُدُودٍ جَامِعَةٍ وَكَيْفَ يُمْكِنُ ضَبْطُ مَا لَا طَمَعَ فِي ضَبْطِهِ .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَعْرِيفِهَا بِالْعَدِّ مِنْ

غَيْرِ ضَبْطِهَا بِحَدٍّ ؛ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إلَى قَوْله تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } وَقِيلَ هِيَ سَبْعٌ .
وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ : الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرَ ، وَقَتْلَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلَ الرِّبَا ، وَالتَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { الْكَبَائِرُ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ } زَادَ الْبُخَارِيُّ : { وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ } .
وَمُسْلِمٌ بَدَلَهَا : { وَقَوْلُ الزُّورِ } .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا ذَكَرَهُ كَذَلِكَ قَصْدًا لِبَيَانِ الْمُحْتَاجِ مِنْهَا وَقْتَ ذِكْرِهِ لَا لِحَصْرِ الْكَبَائِرِ فِي ذَلِكَ ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْكَبَائِرَ سَبْعٌ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَطَاءٌ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ ، وَقِيلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَقِيلَ أَرْبَعٌ ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْهُ أَنَّهَا ثَلَاثٌ ، وَعَنْهُ أَنَّهَا عَشَرَةٌ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ هِيَ إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ ، وَقَالَ أَكْبَرُ تَلَامِذَتِهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : هِيَ إلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ يَعْنِي بِاعْتِبَارِ أَصْنَافِ أَنْوَاعِهَا ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : كَمْ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ هِيَ ؟ قَالَ : هِيَ إلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى سَبْعٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ : أَيْ التَّوْبَةِ بِشُرُوطِهَا ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ .
قَالَ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : وَقَدْ ذَكَرْنَا عَدَدَهَا فِي تَأْلِيفٍ لَنَا بِاجْتِهَادِنَا

، فَزَادَتْ عَلَى أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً فَيُؤَوَّلُ إلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَلَائِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ : إنَّهُ صَنَّفَ جُزْءًا جَمَعَ فِيهِ مَا نَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَهُوَ : الشِّرْكُ ، وَالْقَتْلُ ، وَالزِّنَا وَأَفْحَشُهُ بِحَلِيلَةِ الْجَارِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ ، وَالسِّحْرُ ، وَالِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ ، وَالنَّمِيمَةُ ، وَالسَّرِقَةُ ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ ، وَاسْتِحْلَالُ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ ، وَمَنْعُ ابْنِ السَّبِيلِ مِنْ فَضْلِ الْمَاءِ ، وَعَدَمُ التَّنَزُّهِ مِنْ الْبَوْلِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَالتَّسَبُّبُ إلَى شَتْمِهِمَا ، وَالْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ ، فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ وَالْعِشْرُونَ هِيَ مَجْمُوعُ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ .
قُلْت : وَيُزَادُ عَلَيْهِ الْغُلُولُ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، وَمَنْعُ الْفَحْلِ ؛ بَلْ جَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَزَّارِ الْآتِي مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَالْإِلْحَادُ بِالْبَيْتِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيّ وَهَذَا غَيْرُ اسْتِحْلَالِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِصِدْقِهِ بِفِعْلِ مَعْصِيَةٍ فِيهِ وَلَوْ سِرًّا ، ثُمَّ رَأَيْت الْجَلَالَ الْبُلْقِينِيَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَا مَرَّ عَنْهُ : وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِمَّا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَشْيَاءُ وَهِيَ مَنْعُ الْفَحْلِ وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ ، وَطَلَبُ عَمَلِهِ ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْغُلُولُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَكِنَّ حَدِيثَهُ ضَعِيفٌ ، وَبِذَلِكَ يَبْلُغُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ كَبِيرَةً ، لَكِنَّ مَنْعَ الْفَحْلِ إسْنَادُ حَدِيثِهِ ضَعِيفٌ ، وَلَا يَبْلُغُ ضَرَرُهُ

ضَرَرَ غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ ، وَيُقَالُ عَلَيْهِ : السَّرِقَةُ لَمْ يَجِئْ فِي الْأَحَادِيثِ النَّصُّ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ إنَّمَا جَاءَ فِيهَا الْغُلُولُ وَهُوَ السَّرِقَةُ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ ، نَعَمْ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ : { وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ : { فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ لَمْ يَجِئْ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَإِنَّمَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، وَقَوْلُهُ : وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَمْ يَأْتِ أَيْضًا فِي الْأَحَادِيثِ النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، وَإِنَّمَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ { أَنَّ نَحْوَ الْمَكْتُوبَةِ وَالْجُمُعَةِ وَرَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : الْإِشْرَاكِ ، وَنَكْثِ الصَّفْقَةِ ، وَتَرْكِ السُّنَّةِ } وَفَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْثَ الصَّفْقَةِ بِأَنْ تُبَايِعَ رَجُلًا بِيَمِينِك ثُمَّ تُخَالِفَ إلَيْهِ فَتُقَاتِلَهُ بِسَيْفِك ، وَتَرْكَ السُّنَّةِ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْجَمَاعَةِ ، وَيُعَضِّدُهُ خَبَرُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : { مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ } وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ اتِّبَاعُ الْبِدَعِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا .
وَلَا بَأْسَ بِالْإِشَارَةِ إلَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَهِيَ نَوْعَانِ : مَا صُرِّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَوْ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ أَوْ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ أَوْ مُوبِقٌ أَوْ مُهْلِكٌ ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ نَحْوُ لَعْنٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ وَعِيدٍ شَدِيدٍ فَمِنْ الْأَوَّلِ خَبَرُ الشَّيْخَيْنِ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَقَوْلُ الزُّورِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا جَعَلَ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ

الْكَبَائِرِ وَضَمَّ الْقَتْلَ إلَيْهِمَا ، وَجَعَلَ قَوْلَ الزُّورِ وَشَهَادَتَهُ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ .
وَرَوَيَا أَيْضًا { أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك ، قُلْتُ : إنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ ، ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك } .
وَرَوَيَا أَيْضًا : { مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ ، قِيلَ : وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ وَأُمَّهُ ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْأَخِيرَةَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا عَدَّ الشِّرْكَ ، وَالْعُقُوقَ ، وَالْقَتْلَ ، وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَعَدَّ فِي أُخْرَى الشِّرْكَ ، وَالْقَتْلَ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالرِّبَا ، وَالتَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ مُوبِقَاتٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَدَّ هَذِهِ السَّبْعَ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَاسْتِحْلَالَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ كَبَائِرَ ، وَسَيَأْتِي رِوَايَاتٌ أَنَّ عَدَمَ التَّنَزُّهِ مِنْ الْبَوْلِ كَبِيرَةٌ ، وَفِي حَدِيثٍ لِلْبَزَّارِ فِيهِ مَنْ ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ زِيَادَةُ : وَالِانْتِقَالُ إلَى الْأَعْرَابِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ ، وَفِي أُخْرَى فِيهَا ابْنُ لَهِيعَةَ " وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ " ، وَفِي أُخْرَى فِيهَا ضَعِيفٌ " وَالرُّجُوعُ إلَى الْأَعْرَابِيَّةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ " وَفُسِّرَ بِأَنْ يُهَاجِرَ الرَّجُلُ حَتَّى إذَا وَقَعَ سَهْمُهُ فِي الْفَيْءِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ خَلَعَ ذَلِكَ مِنْ عُنُقِهِ فَرَجَعَ أَعْرَابِيًّا كَمَا كَانَ ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بَعْضُ السَّلَفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى } وَيُوَافِقُهُ نَقْلُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ أَنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُرْتَدَّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ

هِجْرَتِهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ فِيهَا رَجُلٌ مُنْكَرٌ { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَبِيًا فَحَلَّ حُبْوَتَهُ وَأَخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرَفِ لِسَانِهِ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ } .
وَفِي أُخْرَى فِيهَا مُدَلِّسٌ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا } وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك إلَيَّ الْمَصِيرُ } وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاحْتَفَزَ وَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعِيفٌ { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَمَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ وَمَنْعُ الْفَحْلِ } .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ أَيْضًا : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَاتِ ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ { هِيَ - أَيْ الْخَمْرُ - أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأَمُّ الْفَوَاحِشِ ، مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَوَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ } .
وَرُوِيَ أَيْضًا : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ : اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } وَيُوَافِقُهُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : { مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ } وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ : { مَنْ جَمَعَ بَيْنَ

صَلَاتَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ } .
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا الْكَبَائِرُ ؟ فَقَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَالْإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ ، وَهَذَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ } .
قِيلَ : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ { الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ } .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ .
وَمِنْ الثَّانِي خَبَرُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
قَالَ أَبُو ذَرٍّ : فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقُلْت : خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْمُسْبِلُ إزَارَهُ : - أَيْ خُيَلَاءَ كَمَا فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ - وَالْمَنَّانُ : الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إلَّا مِنَّةً ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ تَفْسِيرُهُمْ { بِشَيْخٍ زَانٍ ، وَمَلِكٍ كَذَّابٍ ، وَعَائِلٍ مُسْتَكْبِرٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ : { بِرَجُلٍ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ ، وَرَجُلٍ بَايَعَ رَجُلًا سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَرَجُلٍ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِلدُّنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ { إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادًا لَا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ قِيلَ وَمَنْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مُتَبَرِّئٌ مِنْ وَالِدَيْهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا أَوْ مُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَدِهِ ، وَرَجُلٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } : أَيْ أَنْعَمُوا عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ .
لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ

اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلًا وَلَا صَرْفًا } .
وَرَوَى الشَّيْخَانِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ } أَيْ نَمَّامٌ .
وَأَحْمَدُ { ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَقَاطِعُ رَحِمٍ ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ { ثَلَاثٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَلَا نَمَّامٌ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ خَمْسٍ : مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا مُؤْمِنٌ بِسِحْرٍ وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ وَلَا كَاهِنٌ وَلَا مَنَّانٌ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ أَيْ طُرُقَهَا } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَالدَّيُّوثُ ، وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ } .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ هِيَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْعَلَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ نُصَّ فِيهَا عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُهَا ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَوْنِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِتَفَاصِيلِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِكَثِيرٍ ، وَلَكِنْ قَدْ قَصَدْنَا بِتَقْدِيمِ هَذِهِ الْإِشَارَةَ إلَى بَيَانِ أَصْلِ مَا قَالَهُ الْعَلَائِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَأَمَّا تَحْقِيقُ كُلِّ كَبِيرَةٍ وَمَا جَاءَ فِيهَا فَسَنَبْسُطُهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا مُفَصَّلَةً مُسْتَوْفَاةً ، يَسَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ .
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ : الْكَبَائِرُ سَبْعَ عَشْرَةَ : أَرْبَعٌ فِي

الْقَلْبِ : الشِّرْكُ ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَالْقُنُوطُ ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ .
وَأَرْبَعٌ فِي اللِّسَانِ : الْقَذْفُ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، وَالسِّحْرُ - وَهُوَ كُلُّ كَلَامٍ يُغَيِّرُ الْإِنْسَانَ أَوْ شَيْئًا مِنْ أَعْضَائِهِ - ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ - وَهِيَ الَّتِي تُبْطِلُ بِهَا حَقًّا أَوْ تُثْبِتُ بِهَا بَاطِلًا ، وَثَلَاثٌ فِي الْبَطْنِ : أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَشُرْبُ كُلِّ مُسْكِرٍ ، وَاثْنَتَانِ فِي الْفَرْجِ : الزِّنَا ، وَاللِّوَاطُ ، وَاثْنَتَانِ فِي الْيَدِ : الْقَتْلُ وَالسَّرِقَةُ وَوَاحِدَةٌ فِي الرِّجْلِ : الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَوَاحِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ : عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ انْتَهَى .

[ خَاتِمَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا ] قَدَّمْتهَا هُنَا لِتَكُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ زَاجِرَةً عَنْ اقْتِحَامِ حِمَى الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ ، الْمُوجِبَةِ لِلْهَلَاكِ وَالْبُعْدِ وَالطَّرْدِ عَنْ دَارِ السَّلَامِ .
وَلِلْخِزْيِ وَالْهَوَانِ وَالذِّلَّةِ وَالْخُسْرَانِ وَالْبَوَارِ وَالدَّمَارِ وَالْوَبَالِ وَالْعِثَارِ لَا سِيَّمَا فِي دَارِ الْقَرَارِ .
اعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِطَاعَتِهِ ، وَأَنَالَنَا مِنْ سَوَابِغِ رِضَاهُ وَمَهَابَتِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَذَّرَ عِبَادَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ بِمَا أَعْلَمَهُمْ بِهِ مِنْ نَوَامِيسِ رُبُوبِيَّتِهِ وَأَقَامَهُ مِنْ سَطَوَاتِ قَهْرِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ .
قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا } أَيْ أَغْضَبُونَا { انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا ، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا ، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
وَفِيهِمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ فَلِذَا حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ

الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ } : أَيْ تُغَشِّيهِ وَتُغَطِّيهِ تِلْكَ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : { كَلًّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } .
وَعَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا قَالَتْ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي .
قَالَ : اُهْجُرِي الْمَعَاصِيَ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْهِجْرَةِ ، وَحَافِظِي عَلَى الْفَرَائِضِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْجِهَادِ ، وَأَكْثِرِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي الْعَبْدُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ } .
وَسَأَلَ أَبُو ذَرٍّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْهِجْرَةِ - أَيْ أَصْحَابِهَا - أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ } .
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ : وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : هَلْ تَرَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ دِينَهُمْ أَيْ حَتَّى عُذِّبُوا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ كَمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَأَمْرِهِمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ رَكِبُوهُ حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ دِينِهِمْ كَمَا يَنْسَلِخُ الرَّجُلُ مِنْ قَمِيصِهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لِمَا تَأْمَنُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَلِمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ ؟ ، وَقِلَّةُ حَيَائِك مِنْ مَلَكِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ

: - أَيْ بَقَاؤُك عَلَيْهِ بِلَا تَوْبَةٍ - أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي عَمِلْتَهُ ، وَفَرَحُك بِالذَّنْبِ إذَا ظَفِرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ بِك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ ، وَحُزْنُك عَلَى الذَّنْبِ إذَا فَاتَك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ ، وَخَوْفُك مِنْ الرِّيحِ إذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِك وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُك مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إلَيْك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ ، وَيْحَك هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ فِي جَسَدِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ ؟ إنَّمَا كَانَ ذَنْبُهُ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكِينٌ عَلَى ظَالِمٍ يَدْرَؤُهُ عَنْهُ فَلَمْ يُعِنْهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْهَ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِ هَذَا الْمِسْكِينِ فَابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ ، إذْ الْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - مَعْصُومُونَ عَنْ الذَّنْبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا عَمْدِهَا وَسَهْوِهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا عَلَى الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ فِي الْأُصُولِ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا سَكَتَ لِعَجْزِهِ عَنْ نُصْرَتِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ تَرَكَ الْأَكْمَلَ مِنْ نَصْرِهِ وَإِنْ ظَنَّ عَجْزَهُ عَنْهُ .
وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ : لَا تَنْظُرْ إلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنْ اُنْظُرْ إلَى مَنْ عَصَيْتَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يَا ابْنَ آدَمَ تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ : مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي .
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ } ، فَأَتَى بِالِاسْتِطَاعَةِ فِي جَانِبِ الْمَأْمُورَاتِ وَلَمْ يَأْتِ بِهَا فِي جَانِب الْمَنْهِيَّاتِ إشَارَةً إلَى عَظِيمِ خَطَرِهَا وَقَبِيحِ وَقْعِهَا ، وَأَنَّهُ

يَجِبُ بَذْلُ الْجَهْدِ وَالْوُسْعِ فِي الْمُبَاعَدَةِ عَنْهَا سَوَاءٌ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ أَمْ لَا ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورَاتِ فَإِنَّ الْعَجْزَ لَهُ مَدْخَلٌ فِيهَا تَرْكًا وَغَيْرَهُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بِقَدْرِ مَا يَصْغُرُ الذَّنْبُ عِنْدَك يَعْظُمُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَبِقَدْرِ مَا يَعْظُمُ عِنْدَك يَصْغُرُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى : يَا مُوسَى أَوَّلُ مَنْ مَاتَ ، أَيْ هَلَكَ وَخَسِرَ مِنْ خَلْقِي إبْلِيسُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَصَانِي وَإِنَّمَا أَعُدُّ مَنْ عَصَانِي مِنْ الْأَمْوَاتِ .
وَقَالَ حُذَيْفَةُ ، إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كُلُّهُ أَسْوَدَ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ السَّلَفِ : الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ أَيْ رَسُولُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا إذَا أَوْرَثَتْ الْقَلْبَ هَذَا السَّوَادَ وَعَمَّتْهُ لَمْ يَبْقَ يَقْبَلُ خَيْرًا قَطُّ ، فَحِينَئِذٍ يَقْسُو وَيَخْرُجُ مِنْهُ كُلُّ رَحْمَةٍ وَرَأْفَةٍ وَخَوْفٍ فَيَرْتَكِبُ مَا أَرَادَ وَيَفْعَلُ مَا أَحَبَّ ، وَيَتَّخِذُ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيُضِلُّهُ وَيُغْوِيهِ وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ ، وَلَا يَرْضَى مِنْهُ بِدُونِ الْكُفْرِ مَا وَجَدَ لَهُ إلَيْهِ سَبِيلًا .
قَالَ تَعَالَى : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا إنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِك نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ إنَّ

الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ وَهْبٍ قَالَ : " إنَّ الرَّبَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَالَ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ : إنِّي إذَا أَطَاعَنِي الْعَبْدُ رَضِيتُ عَنْهُ وَإِذَا رَضِيتُ عَنْهُ بَارَكْتُ فِيهِ .
وَفِي آثَارِهِ وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ ، وَإِذَا عَصَانِي الْعَبْدُ غَضِبْتُ عَلَيْهِ وَإِذَا غَضِبْتُ عَلَيْهِ لَعَنْتُهُ وَلَعْنَتِي تَبْلُغُ السَّابِعَ مِنْ وَلَدِهِ " انْتَهَى .
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } أَيْ الْجَزَاءِ .
وَفِي الْحَدِيثِ { كَمَا تَدِينُ تُدَانُ } أَيْ كَمَا تَفْعَلُ يُفْعَلُ مَعَك ، فَالْقِصَاصُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيك أُخِذَ مِنْ ذُرِّيَّتِك ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى : { خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } فَإِنْ كَانَ لَك خَوْفٌ عَلَى صِغَارِك وَأَوْلَادِك الْمَحَاوِيجِ الْمَسَاكِينِ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَعْمَالِك كُلِّهَا لَا سِيَّمَا فِي أَوْلَادِ غَيْرِك ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُك فِي ذُرِّيَّتِك وَيُيَسِّرُ لَهُمْ مِنْ الْحِفْظِ وَالْخَيْرِ وَالتَّوْفِيقِ بِبَرَكَةِ تَقْوَاك مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُك بَعْدَ مَوْتِك وَيَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُك ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فِي أَوْلَادِ النَّاسِ وَلَا فِي حُرُمِهِمْ ، فَاعْلَمْ أَنَّك مُؤَاخَذٌ فِي ذَلِكَ بِنَفْسِك وَذُرِّيَّتِك وَأَنَّ مَا فَعَلْتَهُ كُلَّهُ يُفْعَلُ بِهِمْ .
فَإِنْ قُلْت : هُمْ لَمْ يَفْعَلُوا فَكَيْفَ عُوقِبُوا بِزَلَّاتِ آبَائِهِمْ وَانْتُقِمَ مِنْهُمْ بِمَعَاصِي أُصُولِهِمْ ؟ قُلْت : لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأُولَئِكَ الْأُصُولِ وَنَاشِئُونَ عَنْهُمْ .
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَاَلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلَّا نَكِدًا } - { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ

أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّك أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّك وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } .
قِيلَ كَانَ ذَلِكَ الصَّالِحُ هُوَ الْجَدُّ السَّابِعُ لِأُمٍّ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ نَجِدُ فِي فَرْعِ الْعُصَاةِ صَالِحًا وَبِالْعَكْسِ ، أَلَا تَرَى ابْنَ نُوحٍ وَابْنَ آدَمَ الْقَاتِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى آدَمَ وَنُوحٍ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ .
قُلْت : هَذَا مَعَ قِلَّتِهِ لَأَمْرٌ بَاطِنٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مِنْهُ إلَّا الْإِعْلَامُ بِعَجْزِ الْخَلْقِ حَتَّى الْكُمَّلِ مِنْهُمْ عَنْ هِدَايَةِ أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِمْ { إنَّك لَا تَهْدِي } أَيْ لَا تُوصِلُ مَنْ أَحْبَبْتَ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَفَادَتْهُ آيَةُ { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ } إلَخْ أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِ رُبَّمَا عُوقِبَ بِهِ الْفُرُوعُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بِفَرْضِ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ ، إلَّا أَنَّ صَلَاحَ الْأُصُولِ رُبَّمَا انْتَفَعَ بِهِ الْفُرُوعُ فَلَيْسَ ذَلِكَ أَمْرًا كُلِّيًّا فِيهِمَا ، وَرُبَّمَا كَانَ لِلْفَاسِقِ ظَاهِرًا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ بَاطِنَةٌ يُثِيبُهُ اللَّهُ بِهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَيْضًا " كَتَبَتْ عَائِشَةُ إلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاسِ ذَامًّا " وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : احْذَرْ أَنْ تُبْغِضَك قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ .
قَالَ الْفُضَيْلُ : هُوَ الْعَبْدُ يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ فَيُلْقِي اللَّهُ بِغَضَبِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ .
وَلَمَّا ارْتَكَبَ الدَّيْنُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ وَحَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ غَمٌّ شَدِيدٌ قَالَ : إنِّي لَأَعْرِفُ سَبَبَ هَذَا الْغَمِّ أَصَبْتُ ذَنْبًا مِنْ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ : إنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ

الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّةٌ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : عَجِبْت مِنْ ذِي عَقْلٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ لَا تُشَمِّتْ بِي الْأَعْدَاءَ ثُمَّ هُوَ يُشَمِّتُ بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ ، قِيلَ لَهُ كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ يَعْصِي اللَّهَ فَيَشْمَتُ فِي الْقِيَامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ : أَوْحَى اللَّهُ إلَى نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ قُلْ لِقَوْمِك لَا يَدْخُلُوا مَدَاخِلَ أَعْدَائِي : وَلَا يَلْبَسُوا مَلَابِسَ أَعْدَائِي ، وَلَا يَرْكَبُوا مَرَاكِبَ أَعْدَائِي ، وَلَا يَطْعَمُوا مَطَاعِمَ أَعْدَائِي فَيَكُونُوا أَعْدَائِي كَمَا هُمْ أَعْدَائِي ، وَقَالَ الْحَسَنُ : هَانُوا عَلَى اللَّهِ فَعَصَوْهُ وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ .
وَقَالَ : إنَّ الرَّجُلَ أَيْ الْكَامِلَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَمَا يَنْسَاهُ وَلَا يَزَالُ مُتَخَوِّفًا مِنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ .
وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَصَابَ ذَنْبًا فَحَزِنَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَقُولُ بِمَ أُرْضِي رَبِّي فَكُتِبَ صِدِّيقًا .
وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ دَادَا قَالَ : قَالَ لِي كَهْمَسٌ : يَا أَبَا سَلَمَةَ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَأَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، قُلْت : مَا هُوَ ؟ قَالَ : زَارَنِي أَخٌ لِي فَاشْتَرَيْت لَهُ سَمَكًا بِدَانِقٍ فَلَمَّا أَكَلَ قُمْت إلَى حَائِطِ جَارٍ لِي فَأَخَذْت مِنْهُ قِطْعَةَ طِينٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ فَأَنَا أَبْكِي عَلَى ذَلِكَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ : أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا مَكَّنَك اللَّهُ الْقُدْرَةَ مِنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْك ، وَاعْلَمْ أَنَّك لَا تَفْعَلُ بِهِمْ أَمْرًا مِنْ الظُّلْمِ إلَّا كَانَ زَائِلًا عَنْهُمْ : أَيْ بِمَوْتِهِمْ

بَاقِيًا عَلَيْك أَيْ عَارُهُ وَنَارُهُ فِي الْآخِرَةِ .
وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ آخِذٌ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنْ الظَّالِمِ ، وَإِيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ تَظْلِمَ مَنْ لَا يَنْتَصِرُ عَلَيْك إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا عَلِمَ الْتِجَاءَ عَبْدٍ إلَيْهِ بِالصِّدْقِ وَالِاضْطِرَارِ انْتَصَرَ لَهُ عَلَى الْفَوْرِ .
{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْ رُءُوسهَا إلَى السَّمَاءِ فَقَالَتْ رَبَّنَا مَعَ مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : مَعَ الْمَظْلُومِ حَتَّى يُؤَدَّى إلَيْهِ حَقُّهُ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : يَا أَهْلَ الْمَعَاصِي لَا تَغْتَرُّوا بِطُولِ حِلْمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَاحْذَرُوا أَسَفَهُ أَيْ غَضَبَهُ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } .
وَقَالَ يَعْقُوبُ الْقَارِي : رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ رَجُلًا آدَمَ أَيْ أَسْمَرَ طِوَالًا ، وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ ، فَقُلْت مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ ، فَاتَّبَعْتُهُ فَقُلْت : أَوْصِنِي رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى ، فَكَلَحَ - أَيْ عَبَسَ فِي وَجْهِي - ، فَقُلْت مُسْتَرْشِدًا : فَأَرْشِدْنِي أَرْشَدَك اللَّهُ ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ : ابْتَغِ رَحْمَةَ اللَّهِ عِنْدَ طَاعَتِهِ ، وَاحْذَرْ نِقْمَتَهُ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ وَلَا تَقْطَعْ رَجَاءَك مِنْهُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ ، ثُمَّ وَلَّى وَتَرَكَنِي .
وَفِي التَّوْرَاةِ : يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي كُنْتُ أُحِبُّكُمْ فَلَمَّا عَصَيْتُمُونِي أَبْغَضْتُكُمْ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : غَرَّنِي الْقَمَرُ فَمَرَرْت فِي الْمَقَابِرِ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ قَدْ خَرَجَ مِنْ قَبْرٍ يَجُرُّ سِلْسِلَةً فَإِذَا رَجُلٌ آخِذٌ بِالسِّلْسِلَةِ فَجَذَبَهُ حَتَّى رَدَّهُ إلَى قَبْرِهِ قَالَ فَسَمِعْته يَضْرِبُهُ وَهُوَ يَقُولُ : أَلَمْ أَكُنْ أُصَلِّي أَلَمْ أَكُنْ أَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ أَلَمْ أَكُنْ أَصُومُ ؟ قَالَ : بَلَى ، وَلَكِنَّك كُنْت إذَا خَلَوْت بِالْمَعَاصِي لَمْ تُرَاقِبْ اللَّهَ تَعَالَى .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ :

كُنْت كَثِيرَ التَّرَدُّدِ إلَى الْمَقَابِرِ أَذْكُرُ الْمَوْتَ وَالْبِلَى فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ بِهَا إذْ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْت فَرَأَيْت قَبْرًا قَدْ انْشَقَّ وَسَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ : خُذُوا هَذِهِ السِّلْسِلَةَ فَاسْلُكُوهَا فِي فِيهِ وَأَخْرِجُوهَا مِنْ دُبُرِهِ ، وَإِذَا الْمَيِّتُ يَقُولُ : يَا رَبِّ أَلَمْ أَكُنْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَلَمْ أَحُجَّ بَيْتَك الْحَرَامَ ؟ وَجَعَلَ يُعَدِّدُ أَفْعَالَ الْبِرِّ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، وَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ كُنْت تَفْعَلُ ذَلِكَ ظَاهِرًا ، فَإِذَا خَلَوْت بَارَزْتَنِي بِالْمَعَاصِي وَلَمْ تُرَاقِبْنِي .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ : كَانَ لَنَا صَدِيقٌ فَقَالَ : خَرَجْت إلَى ضَيْعَتِي فَأَدْرَكَتْنِي صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَتَيْت إلَى جَنْبِ مَقْبَرَةٍ فَصَلَّيْت الْمَغْرِبَ قَرِيبًا مِنْهَا ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ إذْ سَمِعْت مِنْ جَانِبِ الْقُبُورِ أَنِينًا فَدَنَوْت إلَى الْقَبْرِ الَّذِي سَمِعْت مِنْهُ الْأَنِينَ وَهُوَ يَقُولُ : آهْ قَدْ كُنْت أَصُومُ قَدْ كُنْت أُصَلِّي فَأَصَابَنِي قُشَعْرِيرَةٌ ، فَدَعَوْت مَنْ حَضَرَنِي فَسَمِعَ مِثْلَ مَا سَمِعْت وَمَضَيْت إلَى ضَيْعَتِي ، وَرَجَعْتُ يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَصَلَّيْت فِي مَوْضِعِي الْأَوَّلِ وَصَبَرْت حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَصَلَّيْت الْمَغْرِبَ ثُمَّ اسْتَمَعْت إلَى ذَلِكَ الْقَبْرِ فَإِذَا هُوَ يَئِنُّ وَيَقُولُ : آهْ قَدْ كُنْت أُصَلِّي قَدْ كُنْت أَصُومُ ، فَرَجَعْتُ إلَى مَنْزِلِي وَمَرِضْتُ بِالْحُمَّى شَهْرَيْنِ .
وَأَقُولُ : قَدْ وَقَعَ لِي نَظِيرُ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت وَأَنَا صَغِيرٌ أَتَعَاهَدُ قَبْرَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ فَخَرَجْت يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِغَلَسٍ فِي رَمَضَانَ ، بَلْ أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ بَلْ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَلَمَّا جَلَسْتُ عَلَى قَبْرِهِ وَقَرَأْت شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَقْبَرَةِ أَحَدٌ غَيْرِي ، فَإِذَا أَنَا أَسْمَعُ التَّأَوُّهَ الْعَظِيمَ وَالْأَنِينَ الْفَظِيعَ بِآهْ آهْ آهْ وَهَكَذَا بِصَوْتٍ أَزْعَجَنِي مِنْ قَبْرٍ مَبْنِيٍّ بِالنُّورَةِ وَالْجِصِّ

لَهُ بَيَاضٌ عَظِيمٌ ، فَقَطَعْت الْقِرَاءَةَ وَاسْتَمَعْت فَسَمِعْت صَوْتَ ذَلِكَ الْعَذَابِ مِنْ دَاخِلِهِ وَذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُعَذَّبُ يَتَأَوَّهُ تَأَوُّهًا عَظِيمًا بِحَيْثُ يُقْلِقُ سَمَاعُهُ الْقَلْبَ وَيُفْزِعُهُ فَاسْتَمَعْتُ إلَيْهِ زَمَنًا ، فَلَمَّا وَقَعَ الْإِسْفَارُ خَفِيَ حِسُّهُ عَنِّي ، فَمَرَّ بِي إنْسَانٌ فَقُلْت قَبْرُ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ لِرَجُلٍ أَدْرَكْته وَأَنَا صَغِيرٌ ، وَكَانَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ مُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ وَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَالصَّمْتِ عَنْ الْكَلَامِ .
وَهَذَا كُلُّهُ شَاهَدْته وَعَرَفْته مِنْهُ فَكَبُرَ عَلَيَّ الْأَمْرُ جِدًّا لِمَا أَعْلَمُهُ مِنْ أَحْوَالِ الْخَيْرِ الَّتِي كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُتَلَبِّسًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ ، فَسَأَلْت وَاسْتَقْصَيْت الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الرِّبَا ، فَإِنَّهُ كَانَ تَاجِرًا ثُمَّ كَبِرَ وَبَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْحُطَامِ ، فَلَمْ تَرْضَ نَفْسُهُ الظَّالِمَةُ الْخَبِيثَةُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ جَنْبِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ بَلْ سَوَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَحَبَّةَ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا حَتَّى لَا يَنْقُصَ مَالُهُ فَأَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ حَتَّى فِي رَمَضَانَ حَتَّى فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَلَمَّا قُلْت ذَلِكَ لِبَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِ قَالَ لِي : أَعْجَبُ مِنْهُ عَبْدُ الْبَاسِطِ رَسُولُ الْقَاضِي فُلَانٍ وَهَذَا الرَّجُلُ أَعْرِفُهُ أَيْضًا كَانَ رَسُولًا لِلْقُضَاةِ أُولَى أَمْرِهِ ثُمَّ صَارَ ذَا ثَرْوَةٍ فَقُلْت : وَمَا شَأْنُهُ ؟ قَالَ : لَمَّا حَفَرْنَا قَبْرَهُ لِنُنْزِلَ عَلَيْهِ مَيِّتًا آخَرَ رَأَيْنَا فِي رَقَبَتِهِ سِلْسِلَةً عَظِيمَةً ، وَرَأَيْنَا فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ كَلْبًا أَسْوَدَ عَظِيمًا مَرْبُوطًا مَعَهُ فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ يُرِيدُ نَهْشَهُ بِأَنْيَابِهِ وَأَظْفَارِهِ فَخِفْنَاهُ خَوْفًا عَظِيمًا وَبَادَرْنَا بِرَدِّ التُّرَابِ فِي الْقَبْرِ .
قَالُوا : وَرَأَيْنَا فُلَانًا عَنْ رَجُلٍ آخَرَ لَمَّا حَفَرْنَا قَبْرَهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا جُمْجُمَةُ رَأْسِهِ فَإِذَا فِيهَا

مَسَامِيرُ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ عَرِيضَةُ الرُّءُوسِ مَدْقُوقَةٌ فِيهَا كَأَنَّهَا بَابٌ عَظِيمٌ ، فَتَعَجَّبْنَا مِنْهَا وَرَدَّيْنَا عَلَيْهَا التُّرَابَ ، قَالُوا : وَحَفَرْنَا عَنْ فُلَانٍ فَخَرَجَتْ لَنَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَبْرِهِ وَرَأَيْنَاهَا مُطَوِّقَةً بِهِ فَأَرَدْنَا دَفْعَهَا عَنْهُ فَتَنَفَّسَتْ عَلَيْنَا حَتَّى كِدْنَا كُلُّنَا نَهْلَكُ عَنْ آخِرِنَا .
فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ النَّاشِئِ عَنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ .

وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ : أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاحْتَقَرْته فَأُتِيتُ فِي مَنَامِي فَقِيلَ لِي : لَا تُحَقِّرَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا ، إنَّ الصَّغِيرَ عِنْدَك الْيَوْمَ يَكُونُ كَبِيرًا غَدًا عِنْدَ اللَّهِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَنْمَاطِيُّ : رَأَيْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَنَامِ عَلَى خِلْقَتِهِ الَّتِي وَصَفُوهُ بِهَا وَهُوَ يَقُولُ : لَوْلَا الَّذِينَ لَهُمْ وِرْدٌ يَقُومُونَا وَآخَرُونَ لَهُمْ سَرْدٌ يَصُومُونَا لَدُكْدِكَتْ أَرْضُكُمْ مِنْ تَحْتِكُمْ سَحَرًا لِأَنَّكُمْ قَوْمُ سُوءٍ لَا تُطِيعُونَا وَاعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ زَاجِرٍ عَنْ الذُّنُوبِ هُوَ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةُ انْتِقَامِهِ وَسَطْوَتِهِ ، وَحَذَرُ عِقَابِهِ وَغَضَبِهِ وَبَطْشِهِ { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
جَاءَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ : كَيْفَ تَجِدُك ؟ قَالَ : أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَخَاف ذُنُوبِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ } .
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ : كَانَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ يَقُولُ : حُبُّ الْفِرْدَوْسِ وَخَشْيَةُ جَهَنَّمَ يُورِثَانِ الصَّبْرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ وَيُبْعِدَانِ الْعَبْدَ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَمَعَاصِيهَا .
وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ مَضَى بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أَقْوَامٌ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمْ عَدَدَ الْحَصَى ذَهَبًا أَنْ لَا يَنْجُوَ لِعِظَمِ الذَّنْبِ فِي نَفْسِهِ .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ ؟ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إلَّا وَمَلَكٌ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى

أَوْ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَخَرَجْتُمْ أَوْ لَصَعِدْتُمْ إلَى الصُّعُدَاتِ - أَيْ الْجِبَالِ - تَجْأَرُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَوْفًا مِنْ عَظِيمِ سَطْوَتِهِ وَشِدَّةِ انْتِقَامِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { لَا تَدْرُونَ تَنْجُونَ أَوْ لَا تَنْجُونَ } .
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ : مَنْ أَتَى الْخَطِيئَةَ وَهُوَ يَضْحَكُ دَخَلَ النَّارَ وَهُوَ يَبْكِي .
وَفِي الْحَدِيثِ : { لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ النَّارَ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ } فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْت لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ { وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ ؟ قَالَ : لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : يَا أَبَا سَعِيدٍ كَيْفَ نَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ قَوْمٍ يُحَدِّثُونَا عَنْ الرَّجَاءِ حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ ؟ فَقَالَ لَهُ : إنَّك وَاَللَّهِ أَنْ تَصْحَبَ قَوْمًا يُخَوِّفُونَك حَتَّى تُدْرِكَ أَمْنًا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَك حَتَّى تَلْحَقَك الْمَخَاوِفُ .
وَلَمَّا طُعِنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُ وَقَرُبَتْ وَفَاتُهُ قَالَ لِابْنِهِ : وَيْلَك ضَعْ خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ لَا أُمَّ لَك وَوَيْلِي وَأَيُّ وَيْلِي إنْ لَمْ يَرْحَمْنِي ، وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا هَذَا الْخَوْفُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ بِك الْفُتُوحَ وَمَصَّرَ بِك الْأَمْصَارَ وَفَعَلَ بِك وَفَعَلَ ؟ قَالَ : وَدِدْت أَنْ أَنْجُوَ لَا عَلَيَّ وَلَا لِي .
وَفِي رِوَايَةٍ : لَا أَجْرًا وَلَا وِزْرًا .
وَكَانَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا تَوَضَّأَ وَفَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ أَخَذَتْهُ رَعْدَةٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ : وَيْحَكُمْ ، أَتَدْرُونَ إلَى مَنْ أَقُومُ وَلِمَنْ أُرِيدُ أَنْ أُنَاجِيَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : الْخَوْفُ يَمْنَعُنِي مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَمَا أَشْتَهِيهِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ مِنْ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ لَهُ إلَّا ظِلُّهُ رَجُلًا ذَكَرَ اللَّهَ أَيْ وَعِيدَهُ وَعِقَابَهُ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ : أَيْ خَوْفًا مِمَّا جَنَاهُ وَاقْتَرَفَهُ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ وَالذُّنُوبِ .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَعَيْنًا يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَلِجُ - أَيْ لَا يَدْخُلُ - النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي

سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ } وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لَأَنْ أَدْمَعَ دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ ، وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : بَلَغَنِي أَنَّهُ لَا تُصِيبُ دُمُوعُ الْإِنْسَانِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَكَانًا مِنْ جَسَدِهِ إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ عَلَى النَّارِ ، وَكَانَ لِصَدْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ أَيْ فَوَرَانٌ وَغَلَيَانٌ كَغَلَيَانِ الْقِدْرِ عَلَى النَّارِ .
وَقَالَ الْكِنْدِيُّ : الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تُطْفِئُ الدَّمْعَةُ مِنْهُ أَمْثَالَ الْبِحَارِ مِنْ النَّارِ .
وَكَانَ ابْنُ السِّمَاكِ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ لَهَا : تَقُولِينَ قَوْلَ الزَّاهِدِينَ وَتَعْمَلِينَ عَمَلَ الْمُنَافِقِينَ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجَنَّةَ تَطْلُبِينَ أَنْ تَدْخُلِيهَا ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِلْجَنَّةِ قَوْمٌ آخَرُونَ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ غَيْرُ مَا نَحْنُ عَامِلُونَ .
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ فَقُلْت لَهُ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَوْصِنِي ، قَالَ : يَا سُفْيَانُ لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبٍ وَلَا رَاحَةَ لِحَسُودٍ وَلَا إخَاءَ لِمَلُولٍ وَلَا سُؤْدُدَ لِسَيِّئِ الْخُلُقِ ، قُلْت : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : يَا سُفْيَانُ كُفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ .
تَكُنْ عَابِرًا وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَاصْحَبْ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَصْحَبُوك بِهِ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَلَا تَصْحَبْ الْفَاجِرَ فَيُعَلِّمَك مِنْ فُجُورِهِ ، أَيْ لِلْحَدِيثِ : { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ } ؛ وَشَاوِرْ فِي أَمْرِك الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ .
قُلْت : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : يَا سُفْيَانُ مَنْ أَرَادَ عِزًّا بِلَا عَشِيرَةٍ وَهَيْبَةً بِلَا سُلْطَانٍ فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، قُلْت : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : أَدَّبَنِي أَبِي بِثَلَاثٍ : قَالَ لِي : أَيْ بُنَيَّ

إنَّ مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السُّوءِ لَا يَسْلَمْ ، وَمَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السُّوءِ يُتَّهَمْ ، وَمَنْ لَا يَمْلِكْ لِسَانَهُ يَنْدَمْ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : سَأَلْتُ وُهَيْبَ بْنَ الْوَرْدِ أَيَجِدُ طَعْمَ الْعِبَادَةِ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى ؟ قَالَ لَا ، وَلَا مَنْ يَهُمُّ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَرْجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ : الْخَوْفُ هُوَ النَّارُ الْمُحْرِقَةُ لِلشَّهَوَاتِ ، فَإِذًا فَضِيلَتُهُ بِقَدْرِ مَا يَحْرُقُ مِنْ الشَّهْوَةِ وَبِقَدْرِ مَا يَكُفُّ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَيَحُثُّ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْخَوْفُ ذَا فَضِيلَةٍ وَبِهِ تَحْصُلُ الْعِفَّةُ وَالْوَرَعُ وَالتَّقْوَى وَالْمُجَاهَدَةُ وَالْأَعْمَالُ الْفَاضِلَةُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؟ كَمَا عُلِمَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } وقَوْله تَعَالَى : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } وقَوْله تَعَالَى : { وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } .
وَكُلُّ مَا دَلَّ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْخَوْفِ ، لِأَنَّ الْخَوْفَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا اقْشَعَرَّ جَسَدُ الْعَبْدِ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنْ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ ، إنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ : كُلُّ قَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ

خَوْفُ اللَّهِ فَهُوَ خَرَابٌ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ : الْبُكَاءُ عَلَى الْخَطِيئَةِ يَحُطُّ الذُّنُوبَ كَمَا يَحُطُّ الرِّيحُ الْوَرَقَ الْيَابِسَ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : لَوْ نُودِيَ لِيَدْخُلْ الْجَنَّةَ كُلُّ النَّاسِ إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا لَخَشِيتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ ، وَهَذَا عُمَرُ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ بَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ سَأَلَ حُذَيْفَةَ - صَاحِبَ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُنَافِقِينَ وَالْفِتَنِ - فَقَالَ لَهُ : يَا حُذَيْفَةُ هَلْ أَنَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ ؟ فَقَالَ لَا وَاَللَّهِ لَسْتَ مِنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَخَافَ عُمَرُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ قَدْ لَبَّسَتْ عَلَيْهِ وَسَتَرَتْ عُيُوبَهُ عَنْهُ ، وَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَعْدُ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ لَمْ تَحْصُلْ مِنْهُ فَلَمْ يَغْتَرَّ بِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : بَكَى أَبُونَا آدَم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ ثَلَاثَمِائَةِ عَامٍ حَتَّى جَرَتْ أَوْدِيَةُ سَرَنْدِيبَ مِنْ دُمُوعِهِ ، وَسَرَنْدِيبُ مَحَلٌّ مِنْ الْهِنْدِ أَعْدَلُ الْبِلَادِ مُطْلَقًا نَزَلَ بِهِ آدَم حَتَّى لَا يُؤَثِّرَ فِيهِ مُفَارَقَةُ الْجَنَّةِ إضْرَارًا بَيِّنًا ، وَلَوْ نَزَلَ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَعْتَدِلْ حَرُّهُ وَبَرْدُهُ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ لَأَضَرَّ بِهِ إضْرَارًا بَيِّنًا .
وَقَالَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ : لَمَّا عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِهِ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ { إنِّي أَعِظُك أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } بَكَى ثَلَاثَمِائَةِ عَامٍ حَتَّى صَارَ فِي خَدَّيْهِ أَمْثَالُ الْجَدَاوِلِ أَيْ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ مِنْ الْبُكَاءِ .
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : كَانَ دَاوُد يَبْكِي حَتَّى يَبِلَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ دُمُوعِهِ ، وَيَبْكِي حَتَّى يَنْبُتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِهِ ،

ثُمَّ يَبْكِي حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : كَانَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ يَبْكِي حَتَّى تَقَطَّعَ خَدَّاهُ وَبَدَتْ أَضْرَاسُهُ ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ : لَوْ أَذِنْتَ لِي يَا بُنَيَّ حَتَّى أَتَّخِذَ لَك قِطْعَتَيْنِ مِنْ لُبُودٍ تُوَارِي بِهِمَا أَضْرَاسَك عَنْ النَّاظِرِينَ ، فَأَذِنَ فَأَلْصَقَتْهُمَا بِخَدَّيْهِ فَكَانَ يَبْكِي فَكَانَتَا تَبْتَلَّانِ بِالدُّمُوعِ فَتَجِيءُ أُمُّهُ فَتَعْصِرُهُمَا فَتَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى ذِرَاعَيْهَا .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ : " وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ " .
وَفِيهِ أَيْضًا : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرِضَ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ : أَيْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحُزْنُ إذَا قَامَ مَقَامَك لَا يُسْمِعُ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى : كَانَ فِي وَجْهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنْ الْبُكَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِضِرَارٍ : صِفْ لِي عَلِيًّا ، قَالَ : أَلَا تُعْفِينِي ؟ قَالَ : بَلْ صِفْهُ ، قَالَ : أَوَ لَا تُعْفِينِي ؟ قَالَ : لَا أُعْفِيك ، قَالَ : أَمَّا إذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فَإِنَّهُ كَانَ بَعِيدَ الْمَدَى : أَيْ وَاسِعَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ لَا تُدْرَكُ غَايَتُهُ فِيهِمَا ، شَدِيدَ الْقُوَى : أَيْ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ ، يَقُولُ فَصْلًا وَيَحْكُمُ عَدْلًا ، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ ، يَسْتَوْحِشُ مِنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ ، كَانَ وَاَللَّهِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ طَوِيلَ الْفِكْرَةِ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ :

أَيْ تَأَسُّفًا وَحُزْنًا إذْ هَذَا فِعْلُ الْمُتَأَسِّفِ الْحَزِينِ ، وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ : أَيْ بِالْمُزْعِجَاتِ وَالْمُقَلْقِلَاتِ ، يُعْجِبُهُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا خَشُنَ وَمِنْ الطَّعَامِ مَا حَضَرَ ، كَانَ وَاَللَّهِ كَأَحَدِنَا يُجِيبُنَا إذَا سَأَلْنَاهُ وَيَأْتِينَا إذَا دَعَوْنَاهُ ، وَنَحْنُ وَاَللَّهِ مَعَ تَقْرِيبِهِ لَنَا وَقُرْبِهِ مِنَّا لَا نُكَلِّمُهُ هَيْبَةً لَهُ ، فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ ، يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ ، وَلَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ ، وَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَرَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُتُورَهُ وَغَارَتْ نُجُومُهُ ، وَقَدْ تَمَثَّلَ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ : أَيْ اللَّدِيغِ ، وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ وَكَأَنِّي أَسْمَعُهُ يَقُولُ : يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا يَتَضَرَّعُ إلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ : يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إلَيَّ تَعَرَّضْت أَمْ بِي تَشَوَّقْت ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي قَدْ بَتَتُّك ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ لِي فِيكِ ، فَعُمْرُك قَصِيرٌ وَعَيْشُك حَقِيرٌ وَخَطَرُك كَبِيرٌ ، آهٍ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ السَّفَرِ وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ ، فَذَرَفَتْ عُيُونُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا مَلَكَهَا وَهُوَ يُنَشِّفُهَا بِكُمِّهِ وَقَدْ اخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ ، قَالَ مُعَاوِيَةُ : رَحِمَ اللَّهُ أَبَا الْحَسَنِ ، كَانَ وَاَللَّهِ كَذَلِكَ ، فَكَيْفَ حُزْنُك عَلَيْهِ يَا ضِرَارُ ؟ قَالَ : حُزْنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُهَا فِي حِجْرِهَا فَلَا تَرْقَأُ عَبْرَتُهَا وَلَا يَسْكُنُ حُزْنُهَا .
وَبَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ الشَّنُّ الْبَالِي ، وَبَكَى تِلْمِيذُهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَتَّى عَمِشَتْ عَيْنَاهُ .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ : قُلْت لِيَزِيدَ بْنِ مَرْثَدٍ : مَالِي أَرَى عَيْنَك لَا تَجِفُّ ؟ قَالَ : وَمَا مَسْأَلَتُك عَنْهُ ؟ فَقُلْت لَهُ : عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ ، قَالَ : يَا أَخِي إنَّ اللَّهَ قَدْ تَوَعَّدَنِي إنْ

أَنَا عَصَيْتُهُ أَنْ يَسْجُنَنِي فِي النَّارِ ، وَاَللَّهُ لَوْ لَمْ يَتَوَعَّدْنِي أَنْ يَسْجُنَنِي إلَّا فِي حَمَّامٍ لَكُنْت حَرِيًّا أَنْ لَا تَجِفَّ لِي عَيْنٌ ، قَالَ : فَقُلْت لَهُ : فَهَكَذَا أَنْتَ فِي خَلَوَاتِك ، قَالَ : وَمَا مَسْأَلَتُك عَنْهُ ؟ قُلْت : عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَنِي بِذَلِكَ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنَّ ذَلِكَ لَيَعْرِضُ لِي حِينَ أَسْكُنُ إلَى أَهْلِي : أَيْ لِإِرَادَةِ وَطْئِهَا ، فَيَحُولُ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا أُرِيدُ ، وَإِنَّهُ لَيُوضَعُ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيَّ فَيَعْرِضُ لِي فَيَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَكْلِهِ حَتَّى تَبْكِيَ امْرَأَتِي وَيَبْكِيَ صِبْيَانُنَا لَا يَدْرُونَ مَا أَبْكَانَا ، وَلَرُبَّمَا أَضْجَرَ ذَلِكَ امْرَأَتِي فَتَقُولُ : يَا وَيْحَهَا مَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ طُولِ الْحُزْنِ مَعَك فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا تَقَرُّ لِي مَعَك عَيْنٌ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ : اشْتَكَى ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَيْنَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ : اضْمَنْ لِي خَصْلَةً تَبْرَأْ عَيْنُك ، فَقَالَ وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : لَا تَبْكِ .
قَالَ : وَأَيُّ خَيْرٍ فِي عَيْنٍ لَا تَبْكِي ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ : رَأَيْت يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ بِوَاسِطَ وَكَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ عَيْنَيْنِ ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَكْفُوفَ الْبَصَرِ ، فَقُلْت : يَا أَبَا خَالِدٍ مَا فَعَلَتْ الْعَيْنَانِ الْجَمِيلَتَانِ ؟ قَالَ : ذَهَبَ بِهِمَا بُكَاءُ الْأَسْحَارِ .
وَدَخَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ عَلَيْهِ فَرَآهُ يَبْكِي وَدُمُوعُهُ خَالَطَهَا صُفْرَةٌ ، فَقَالَ : بَكَيْتَ الدَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : عَلَى مَاذَا ؟ قَالَ : عَلَى تَخَلُّفِي عَنْ وَاجِبِ حَقِّ اللَّهِ ، ثُمَّ رَآهُ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك ؟ قَالَ : غَفَرَ لِي ، قَالَ : فَمَا صَنَعَ فِي دُمُوعِك ؟ قَالَ : قَرَّبَنِي ، فَقَالَ لِي : يَا فَتْحُ عَلَى مَاذَا بَكَيْتَ ؟ قُلْت يَا رَبِّ عَلَى تَخَلُّفِي عَنْ وَاجِبِ حَقِّك ، قَالَ فَالدَّمُ قُلْت خَوْفًا أَنْ لَا تَفْتَحَ لِي ، فَقَالَ يَا فَتْحُ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا كُلِّهِ ، وَعِزَّتِي لَقَدْ صَعِدَ حَافِظَاك أَرْبَعِينَ سَنَةً بِصَحِيفَتِك

مَا فِيهَا خَطِيئَةٌ .
وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَطَاءٍ .
قَالَ : { دَخَلْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَرَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَرَ : قَدْ آنَ لَك أَنْ تَزُورَنَا ؟ فَقَالَ أَقُولُ يَا أُمَّاهُ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ : زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا ، فَقَالَتْ دَعُونَا مِنْ بَطَالَتِكُمْ هَذِهِ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ : لَمَّا كَانَ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِيِ قَالَ يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي .
قُلْت وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَك وَأُحِبُّ مَا يَسُرُّك ، قَالَتْ : فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي ، قَالَتْ فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ ، قَالَتْ : وَكَانَ جَالِسًا فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ ، قَالَتْ ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ؟ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا .
{ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } الْآيَةَ كُلَّهَا } .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُكَاءَ إمَّا مِنْ حُزْنٍ وَإِمَّا مِنْ وَجَعٍ ، وَإِمَّا مِنْ فَزَعٍ وَإِمَّا مِنْ فَرَحٍ ، وَإِمَّا شُكْرًا وَإِمَّا خَشْيَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا هُوَ أَعْلَاهَا دَرَجَةً وَأَغْلَاهَا ثَمَنًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَأَمَّا الْبُكَاءُ لِلرِّيَاءِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَزْدَادُ صَاحِبُهُ إلَّا طَرْدًا وَبُعْدًا وَمَقْتًا ، وَحُقَّ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا جَرَى لَهُ بِهِ الْقَلَمُ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سَعَادَةٍ مُؤَبَّدَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ مُخَلَّدَةٍ ، وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ قَدْ رَكِبَ الْمُحَرَّمَاتِ وَخَالَفَ خَالِقَهُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ أَنْ يُكْثِرَ بُكَاءَهُ وَأَسَفَهُ وَحُزْنَهُ وَنَحِيبَهُ وَلَهَفَهُ ، وَأَنْ يَهْجُرَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَأَنْ يَجْأَرَ إلَى اللَّهِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ سَوَابِقِ مُخَالَفَاتِهِ وَقَبَائِحِ شَهَوَاتِهِ ، عَسَى أَنْ يُوَفِّقَهُ إلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْعِصْيَانِ إلَى الْعِلْمِ وَالطَّاعَةِ وَمَا لَهُمَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالْفُتُوحِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَقُّ النَّاسِ قُلُوبًا أَقَلُّهُمْ ذُنُوبًا .
وَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْك لِسَانَك وَلْيَسَعْك بَيْتُك وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِك } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً } وَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ الْخَوْفُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَغَلَبَ أَمْنُ الْمَكْرِ عَلَى الظَّلَمَةِ الْأَطْغِيَاءِ وَالْفَرَاعِنَةِ الْأَغْبِيَاءِ وَالْجَهَلَةِ وَالْعَوَامِّ وَالرَّعَاعِ وَالطَّغَامِ ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ حُوسِبُوا وَفُرِغَ مِنْهُمْ فَلَمْ يَخْشَوْا سَطْوَةَ الْعِقَابِ وَلَا نَارَ الْعَذَابِ وَلَا بُعْدَ الْحِجَابِ .
{ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ { أَنَّهُمْ اقْتَسَمُوا

الْمُهَاجِرِينَ أَوَّلَ مَا قَدِمُوا عَلَيْهِمْ بِالْقُرْعَةِ ، قَالَتْ ، فَطَارَ لَنَا : أَيْ وَقَعَ فِي سَهْمِنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ أَفْضَلِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَكَابِرِهِمْ وَمُتَعَبِّدِيهِمْ وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا ، فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ ، حَتَّى إذَا تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْت : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْك لَقَدْ أَكْرَمَك اللَّهُ تَعَالَى ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْت : لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ } : أَيْ فَالْإِنْكَارُ عَلَيْهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَبْرَزَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةَ جَازِمَةً بِهَا مُتَيَقِّنَةً لِمُقْتَضَاهَا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ قَطْعِيٍّ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَا أَنْ تُبْرِزَهَا فِي حَيِّزِ الرَّجَاءِ لَا الْجَزْمِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ : فَوَاَللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا } : أَيْ عَلَى جِهَةِ الْجَزْمِ وَالتَّيَقُّنِ ، بَلْ عَلَى جِهَةِ الرَّجَاءِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، قَالَتْ : وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ فَنِمْت فَرَأَيْت لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي ، فَجِئْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته فَقَالَ : ذَاكَ عَمَلُهُ .
وَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ هَذَا قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدَّهُ وَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ الْكَرِيمَةُ عَلَى خَدِّ عُثْمَانَ وَبَكَى الْقَوْمُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اذْهَبْ عَنْهَا أَيْ الدُّنْيَا أَبَا السَّائِبِ لَقَدْ خَرَجْت عَنْهَا وَلَمْ تَتَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ } وَسَمَّاهُ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَفَ الصَّالِحَ " ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قُبِرَ بِالْبَقِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَتَأَمَّلْ زَجْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَزْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ فِي عُثْمَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ شَهِدَ بَدْرًا ، وَقَوْلَهُ : { وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ، وَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } ، وَكَوْنَهُ قَبَّلَهُ وَبَكَى ، وَوَصْفَهُ لَهُ بِأَعْظَمِ الْأَوْصَافِ وَأَفْضَلِهَا ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَتَلَبَّسْ مِنْ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ ، وَبِأَنَّهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَك وَإِنْ عَمِلْتَ مِنْ الطَّاعَاتِ مَا عَمِلْتَ أَنْ تَكُونَ عَلَى حَيِّزِ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ .
{ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } .
وَنَظِيرُ إنْكَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ إنْكَارُهُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَنَّهَا قَالَتْ : { دُعِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جِنَازَةِ غُلَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يُدْرِكْ الشَّرَّ وَلَمْ يَعْمَلْهُ ، قَالَ : أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ ؟ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَفِي رِوَايَةٍ خَلَقَهُمْ لَهَا } .
وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُقْطَعُ بِدُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ ، وَاشْتَدَّ إنْكَارُ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنِيعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِقَوَاطِعِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَتَزْيِيفُهُمْ وَتَغْلِيطُهُمْ لِقَائِلِهَا ، وَلَا مُتَمَسَّكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ

إجْمَاعًا ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِأَنَّهُمْ يُقْطَعُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ ، فَحِينَئِذٍ كَانَ لَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجَزْمُ .
وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا شَهِدَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ فَلَا إنْكَارَ عَلَى مَنْ جَزَمَ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَطْفَالِ الْكُفَّارِ ، وَالْأَصَحُّ مِنْهُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَيْضًا ، وَرُبَّمَا يَأْتِي لَنَا عَوْدَةٌ إلَى ذَلِكَ ، وَكَيْفَ لَا يَخَافُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا الْحَاقَّةُ ، وَالْوَاقِعَةُ ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَالْغَاشِيَةُ } .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : لَعَلَّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِنَّ مِنْ التَّخْوِيفِ الْفَظِيعِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِنَّ مَعَ قِصَرِهِنَّ عَلَى حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَعَجَائِبِهَا وَفَظَائِعِهَا ، وَأَحْوَالِ الْهَالِكِينَ وَالْمُعَذَّبِينَ مَعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هُودٌ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ كَمَا أُمِرَ ، وَهَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْمَقَامَاتِ الَّذِي لَا يَتَأَهَّلُ لِلْقِيَامِ بِهِ إلَّا هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ كَمَقَامِ الشُّكْرِ إذْ هُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ وَنَفَسٍ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ حَوَاسِّهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ بِمَا يُنَاسِبُ كُلَّ جَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ ، وَلِذَا لَمَّا { قِيلَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُجَاهَدَتِهِ لِنَفْسِهِ وَكَثْرَةِ بُكَائِهِ وَخَوْفِهِ وَتَضَرُّعِهِ : أَتَفْعَلُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ؟ } .
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } رُبَّمَا فَهِمَ مِنْهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَأَمُّلَ لَهُ أَنَّ فِيهِ رَجَاءً

عَظِيمًا ، وَأَيُّ رَجَاءٍ عَظِيمٍ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ تَعَالَى شَرَطَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي مَغْفِرَتِهِ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ : التَّوْبَةَ وَالْإِيمَانَ الْكَامِلَ الْمُرَادَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ ، ثُمَّ سُلُوكَ سَبِيلِ الْمُهْتَدِينَ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُهُودِهِ ، وَإِدَامَةِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْإِقْبَالِ بِالْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَالِهِ وَحَالِهِ وَدُعَائِهِ وَإِخْلَاصِهِ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ } ، وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا قِيلَ : ( عَسَى ) : مِنْ اللَّهِ وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْثَرِيٌّ لَا كُلِّيٌّ .
قَالَ تَعَالَى : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } ، وَفِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَلَمْ يَخْشَ تَذَكُّرًا وَخَشْيَةً نَافِعَيْنِ لَهُ ، بَلْ نَبَّهَك اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّك إذَا تُبْت تَوْبَةً نَصُوحًا وَآمَنْت إيمَانًا كَامِلًا وَعَمِلْت صَالِحًا كُنْت عَلَى رَجَاءِ حُصُولِ الْفَلَاحِ لَك وَالْهِدَايَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ حَضْرَةِ الْحَقِّ ؛ فَإِيَّاكَ وَأَنْ تَأْمَنَ مَكْرَ اللَّهِ وَإِنْ وَصَلْتَ إلَى مَا وَصَلْتَ .
{ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } وَاسْتَحْضِرْ قَوْله تَعَالَى : { لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ } وَقَوْلَهُ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الْآيَةَ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّك حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ

الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } وَقَوْلَهُ : { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } وَقَوْلَهُ : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلَّا فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلَهُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَقَوْلَهُ : { وَالْعَصْرِ إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } .
فَانْظُرْ بِعَيْنِ بَصِيرَتِك وَنُورِ سَرِيرَتِك إلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ إذْ أَلْ فِيهِ لِلْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَنَّهُ خَاسِرٌ إلَّا مَنْ جَمَعَ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ فَإِنَّهُ الَّذِي يَنْجُو مِنْ الْخُسْرَانِ الْمُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ : الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ بِأَنْ يَتَلَبَّسُوا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْأَحْكَامِ وَالشُّرُوطِ فِي سَائِرِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَلَا يُوجَدُ مِنْهَا شَيْءٌ إلَّا وَقَدْ أَخْلَصُوا فِيهِ وَابْتَغَوْا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَحْدَهُ ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الطَّاعَاتِ وَمَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ الْمَكَارِهِ وَالْبَلِيَّاتِ ، وَعَنْ الْمَعَاصِي وَمَا لَهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا ذَكَرْنَا كَانَ عَلَى رَجَاءٍ عَظِيمٍ مِنْ السَّلَامَةِ مِنْ الْخَسَارِ وَالْعَارِ وَالشَّنَارِ وَالْبَوَارِ ، وَمِنْ الْوُصُولِ إلَى شُهُودِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ ، وَالْفَوْزِ بِرِضَاهُ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ ، حَقَّقَ اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
كَيْفَ يَصِحُّ لِعَاقِلٍ أَنْ يَأْمَنَ سَطَوَاتِ الْحَقِّ وَانْتِقَامَهُ ، وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ : أَيْ بَيْنَ إرَادَتِهِ تَعَالَى السَّعَادَةَ لِأَقْوَامٍ وَالشَّقَاوَةَ لِآخَرِينَ ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ قِدْرٍ أُغْلِيَ عَلَى مَا فِيهَا

بِأَعْظَمِ الْوَقُودِ ؛ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ { يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك } .
وَقَدْ قَالَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ : { إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى لَطَفَ بِعِبَادِهِ الْعَارِفِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْوَارِثِينَ فَرَوَّحَ قُلُوبَهُمْ بِرُوحِ الرَّجَاءِ لَاحْتَرَقَتْ أَكْبَادُهُمْ مِنْ نَارِ خَوْفِهِ الَّتِي سَعَّرَهَا بِمَا أَظْهَرَهُ مِنْ نَوَامِيسِ قَهْرِهِ وَعَدْلِهِ الَّتِي لَوْ انْكَشَفَتْ حَقَائِقُهَا لَزَهَقَتْ النُّفُوسُ وَتَقَطَّعَتْ الْقُلُوبُ .
وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ إنَّ مَنْ أَمِنَ السَّلْبَ عِنْدَ مَوْتِهِ سُلِبَ عِنْدَ مَوْتِهِ : أَيْ جَزَاءً لِأَمْنِهِ مَكْرَ اللَّهِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ : مَاتَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ جَعَلَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتُرَاكَ كَثِيرَ الذُّنُوبِ ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَذُنُوبِي أَهْوَنُ عِنْدِي مِنْ هَذَا ، إنِّي أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : لَمَّا اُحْتُضِرَ أَبِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ وَبِيَدِي الْخِرْقَةُ لِأَشَدَّ بِهَا لَحْيَيْهِ ، فَجَعَلَ يَغْرَقُ ثُمَّ يُفِيقُ وَيَقُولُ : أَلَا ابْعَدْ ، فَقُلْت : يَا أَبَتِ مَا هَذَا الَّذِي قَدْ لَهِجْتَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْلَمُ ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : إبْلِيسُ قَائِمٌ بِحِذَائِي يَقُولُ يَا أَحْمَدُ فُتَّنِي ، فَأَقُولُ أَلَا ابْعَدْ حَتَّى أَمُوتَ .
وَكَانَ سَهْلٌ يَقُولُ : الْمَرِيدُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْمَعَاصِي ، وَالْعَارِفُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكُفْرِ .
وَيُرْوَى أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَكَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْجُوعَ وَالْعُرْيَ ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ : عَبْدِي أَمَا رَضِيتَ أَنْ عَصَمْتُ قَلْبَك عَنْ أَنْ تَكْفُرَ

بِي حَتَّى تَسْأَلَنِي الدُّنْيَا ، فَأَخَذَ التُّرَابَ فَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ : بَلَى قَدْ رَضِيتُ يَا رَبِّ فَاعْصِمْنِي مِنْ الْكُفْرِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا خَوْفَ الْعَارِفِينَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ مَعَ رُسُوخِ أَقْدَامِهِمْ وَقُوَّةِ إيمَانِهِمْ ، فَكَيْفَ لَا يَخَافُ ذَلِكَ الضُّعَفَاءُ ؟ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَلِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَامَاتٌ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْتِ مِثْلُ الْبِدْعَةِ ؛ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَهْلُ الْبِدْعَةِ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ } .
وَمِثْلُ نِفَاقِ الْعَمَلِ ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } وَلِذَلِكَ اشْتَدَّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنْهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ النِّفَاقِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ ، قِيلَ : وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ ؟ قَالَ : أَنْ يُرَى الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ فَاجِرًا .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي عَيْنِكُمْ مِنْ الشَّعْرِ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُوبِقَاتِ .
وَرَوَى الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ إمَامُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَنِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَوْصَانِي حَبِيبِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ هُنَّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، قَالَ لِي : يَا أَبَا ذَرٍّ جَدِّدْ السَّفِينَةَ فَإِنَّ الْبَحْرَ عَمِيقٌ : يَعْنِي الدُّنْيَا ، وَخَفِّفْ الْحِمْلَ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعِيدٌ ، وَاحْمِلْ الزَّادَ فَإِنَّ الْعَقَبَةَ طَوِيلَةٌ ، وَأَخْلِصْ الْعَمَلَ فَإِنَّ النَّاقِدَ بَصِيرٌ } .
وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ

الْخَشْيَةِ فَقَالَ : هِيَ أَنْ تَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَحُولَ خَشْيَتُهُ بَيْنَك وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ ، فَهَذِهِ هِيَ خَشْيَتُهُ .
وَأَمَّا الْغِرَّةُ بِاَللَّهِ : فَهِيَ أَنْ يَتَمَادَى الرَّجُلُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَيَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْمَغْفِرَةَ .
وَدَخَلَ بَعْضُهُمْ مُتَنَزَّهًا فَخَطَرَ فِي سِرِّهِ أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ مَعْصِيَةً ، وَقَالَ مَنْ يَرَانِي ؟ فَسَمِعَ صَوْتًا مُزْعِجًا { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ؟ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ } وَهُوَ أَنْ يَدُومَ عَلَى الْمَعَاصِي وَيَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ .
وَقَالَ بِشْرٌ لِلْفُضَيْلِ : عِظْنِي يَرْحَمُك اللَّهُ ، فَقَالَ : مَنْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى دَلَّهُ الْخَوْفُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ .
وَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى طَاوُسٍ فَخَرَجَ لَهُ شَيْخٌ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ طَاوُسٌ ؟ قَالَ : لَا ، أَنَا ابْنُهُ ، قَالَ : إنْ كُنْتَ ابْنَهُ لَقَدْ خَرَّفَ أَبُوك ، فَقَالَ : إنَّ الْعَالِمَ لَا يُخَرِّفُ ، ثُمَّ قَالَ : إذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَأَوْجِزْ ، فَدَخَلَ فَقَالَ إذَا سَأَلْتَ فَأَوْجِزْ فَقَالَ : لَئِنْ أَوْجَزَ لِي أَوْجَزْتُ ، فَقَالَ إنِّي مُعَلِّمُك فِي مَجْلِسِي هَذَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ ، فَقَالَ لَئِنْ عَلَّمْتَنِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ لَا أَسْأَلُك عَنْ شَيْءٍ ، فَقَالَ : خِفْ اللَّهَ مَخَافَةً حَتَّى لَا يَكُونَ عِنْدَك شَيْءٌ أَخْوَفَ عِنْدَك مِنْهُ ، وَارْجُهُ رَجَاءً أَشَدَّ مِنْ خَوْفِك إيَّاهُ ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك .
وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ : - إنَّ الْعَالِمَ لَا يُخَرِّفُ - قَوْلُ عِكْرِمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ : - أَيْ بِحَقِّهِ - لَا يَصِلُ لِهَذِهِ الْحَالَةِ ، فَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْعَالِمِ لَا يُخَرِّفُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى خَرَفِ الْعَوَامّ مِنْ عَوْدِ الْكَبِيرِ كَالطِّفْلِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ ، بَلْ أَقْبَحَ مِنْهُ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي تُصَانُ عَنْهُ الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ .
وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ قَوْله تَعَالَى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ

جَنَّتَانِ } فَقَالَ : هُوَ الَّذِي يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فَيَدَعُهَا وَيَتْرُكُهَا خَوْفًا وَحَيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
وَرُوِيَ أَنَّ شَابًّا تَقِيًّا عَابِدًا مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ عُمَرَ أَحَبَّتْهُ امْرَأَةٌ فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا حَتَّى اخْتَلَى بِهَا ثُمَّ ذَكَرَ وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَأَخْرَجَتْهُ وَأَلْقَتْهُ عَلَى بَابِهَا فَجَاءَ أَبُوهُ وَحَمَلَهُ إلَى بَيْتِهِ فَاصْفَرَّ وَارْتَعَدَ حَتَّى مَاتَ فَجُهِّزَ وَدُفِنَ فَوَقَفَ عُمَرُ عَلَى شَفِيرِ قَبْرِهِ وَقَرَأَ : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } فَنُودِيَ مِنْ قَبْرِهِ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَانِيهِمَا يَا عُمَرُ وَأَعْطَانِي الرِّضَا .
عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ قَالَ : مِنْ أَعْظَمِ الِاغْتِرَارِ أَنَّ الْمُذْنِبَ يَرْجُو الْعَفْوَ مِنْ غَيْرِ نَدَامَةٍ ، وَيَتَوَقَّعُ الْقُرْبَ مِنْ اللَّهِ بِغَيْرِ طَاعَةٍ ، وَيَنْتَظِرُ الْجَزَاءَ بِلَا عَمَلٍ وَيَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ مَعَ الْإِفْرَاطِ

وَأَعْظَمُ حَامِلٍ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةِ سَطْوَتِهِ الْعِلْمُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ الْخَوْفُ عَلَى عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْتَنِي كُنْتُ شَعْرَةً فِي صَدْرِ مُؤْمِنٍ .
وَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ مَوْتِهِ : الْوَيْلُ لِعُمَرَ إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَيْتَنِي إذَا مِتُّ لَا أُبْعَثُ .
وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ هَذَا التَّمَنِّي بِمَا مَرَّ فِي الْمُكَفِّرَاتِ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّمَنِّي ، بَلْ إظْهَارَ أَنَّ لَهُ قَبَائِحَ يَخَافُ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا بَعْدَ الْبَعْثِ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِأُسَامَةَ حِبِّ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنِ حِبِّهِ حَيْثُ قَتَلَ مَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ظَنًّا أَنَّهُ إنَّمَا نَطَقَ بِهِمَا اتِّقَاءً لَا حَقِيقَةً فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَاتَبَهُ وَكَرَّرَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ : { هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ } قَالَ أُسَامَةُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ الْكُفْرَ وَلَا تَأْخِيرَ إسْلَامِهِ حَقِيقَةً إلَى بَعْدِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ ، وَإِنَّمَا تَمَنَّى سَبْقَ هَذِهِ الْفِعْلَةِ مِنْهُ لِإِسْلَامِهِ حَتَّى يُكَفِّرَهَا الْإِسْلَامُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
قِيلَ : وَلَمَّا بَعُدَ عَنْ الْعِلْمِ أَقْوَامٌ لَاحَظُوا أَعْمَالَهُمْ وَاتَّفَقَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ الْأَلْطَافِ مَا يُشْبِهُ الْكَرَامَاتِ انْبَسَطُوا بِالدَّعَاوَى ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا طَرِيقَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي تَرْكِ الدَّعَاوَى رَأْسًا حَتَّى نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : وَدِدْت أَنْ قَدْ قَامَتْ الْقِيَامَةُ حَتَّى أَنْصِبَ خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ : وَلِمَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : إنِّي أَعْلَمُ أَنَّ جَهَنَّمَ إذَا رَأَتْنِي تَخْمُدُ فَأَكُونُ رَحْمَةً لِلْخَلْقِ .
وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْكَلَامِ وَأَفْحَشِهِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحْقِيرَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهُ مِنْ أَمْرِ النَّارِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَالَغَ

فِي وَصْفِهَا فَقَالَ : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : { نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ جَهَنَّمَ قَالُوا وَاَللَّهِ إنْ كَانَتْ نَارُنَا لَكِفَايَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا : { يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا } .
وَلَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا وَعِنْدَهُ سِرَاجٌ فَخَطَرَتْ لَهُ مَعْصِيَةٌ فَقَالَ لِنَفْسِهِ : أَنَا أَجْعَلُ أُصْبُعِي فِي هَذِهِ الْفَتِيلَةِ فَإِنْ صَبَرْتِ عَلَيْهَا أَطَعْتُكِ فِي هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ ، ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي النَّارِ فَصَاحَ صَيْحَةً مُزْعِجَةً فَقَالَ : يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ إذَا لَمْ تَصْبِرِي عَلَى نَارِ الدُّنْيَا هَذِهِ الَّتِي طَفِئَتْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَكَيْفَ تَصْبِرِينَ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ ؟ وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ : خَوِّفْنَا يَا كَعْبُ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ وَافَيْتَ الْقِيَامَةَ بِعَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَازْدَرَيْت عَمَلَك مِمَّا تَرَى ، فَأَطْرَقَ عُمَرُ مَلِيًّا ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ : زِدْنَا يَا كَعْبُ .
قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ فُتِحَ مِنْ جَهَنَّمَ قَدْرُ مَنْخَرِ ثَوْرٍ بِالْمَشْرِقِ ، وَرَجُلٌ بِالْمَغْرِبِ لَغَلَى دِمَاغُهُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ حَرِّهَا ، فَأَطْرَقَ عُمَرُ مَلِيًّا ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ : زِدْنَا يَا كَعْبُ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ جَهَنَّمَ لَتَزْفِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إلَّا خَرَّ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَقُولُ : رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلُك الْيَوْمَ غَيْرَ نَفْسِي وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَيْضًا : إذَا كَانَ يَوْمُ

الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، وَنَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ فَصَارَتْ صُفُوفًا فَيَقُولُ يَا جِبْرِيلُ ائْتِنِي بِجَهَنَّمَ فَيَأْتِي بِهَا جِبْرِيلُ ، تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ حَتَّى إذَا كَانَتْ مِنْ الْخَلَائِقِ عَلَى قَدْرِ مِائَةِ عَامٍ زَفَرَتْ زَفْرَةً طَارَتْ لَهَا أَفْئِدَةُ الْخَلَائِقِ ثُمَّ زَفَرَتْ ثَانِيَةً فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ ، ثُمَّ تَزْفِرُ الثَّالِثَةَ فَتَبْلُغُ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ، وَتَفْزَعُ الْعُقُولُ فَيَفْزَعُ كُلُّ امْرِئٍ إلَى عَمَلِهِ ، حَتَّى إنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ يَقُولُ : بِخُلَّتِي لَا أَسْأَلُك إلَّا نَفْسِي ، وَيَقُولُ مُوسَى : بِمُنَاجَاتِي لَا أَسْأَلُك إلَّا نَفْسِي ، وَإِنَّ عِيسَى لَيَقُولُ : بِمَا أَكْرَمْتَنِي لَا أَسْأَلُك إلَّا نَفْسِي لَا أَسْأَلُك مَرْيَمَ الَّتِي وَلَدَتْنِي .
وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَا جِبْرِيلُ مَا لِي لَا أَرَى مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا ؟ قَالَ : مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتْ النَّارُ ، وَمَا جَفَّتْ لِي عَيْنٌ مُنْذُ خُلِقَتْ جَهَنَّمُ مَخَافَةَ أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَجْعَلَنِي فِيهَا } وَبَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيك ؟ قَالَ : أَنْبَأَنِي اللَّهُ أَنِّي وَارِدٌ النَّارَ وَلَمْ يُنْبِئْنِي أَنِّي خَارِجٌ مِنْهَا .
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَهُمْ الْمُطَهَّرُونَ مِنْ الْأَدْنَاسِ ، وَهَذَا انْزِعَاجَهُمْ مِنْ النَّارِ ، فَكَيْفَ هَانَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي الْمَغْرُورِ ، وَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ خَيْمَتَهُ تُطْفِئُ جَهَنَّمَ ، وَأَنَّهُ يَقْطَعُ لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ بِالنَّجَاةِ وَهِيَ لَيْسَتْ إلَّا لِلْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْخَوْفِ مَا اقْتَضَى أَنْ يَقُولَ الصِّدِّيقُ وَهُوَ أَكْبَرُهُمْ : لَيْتَنِي كُنْت شَعْرَةً فِي صَدْرِ مُؤْمِنٍ ، وَأَنْ يَقُولَ عُمَرُ : الْوَيْلُ لِعُمَرَ إنْ

لَمْ يُغْفَرْ لَهُ .
وَفِي حَدِيثٍ { مَنْ قَالَ : إنِّي فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ } وَلَسْنَا نَعْنِي بِالْخَوْفِ رِقَّةَ النِّسَاءِ فَتَبْكِي سَاعَةً ثُمَّ تَتْرُكُ الْعَمَلَ وَإِنَّمَا نُرِيدُ خَوْفًا يَسْكُنُ الْقَلْبَ حَتَّى يَمْنَعَ صَاحِبَهُ عَنْ الْمَعَاصِي وَيَحُثَّهُ عَلَى مُلَازَمَةِ الطَّاعَةِ ، فَهَذَا هُوَ الْخَوْفُ النَّافِعُ لَا خَوْفُ الْحَمْقَى الَّذِينَ إذَا سَمِعُوا مَا يَقْتَضِي الْخَوْفَ مِمَّا مَرَّ وَغَيْرِهِ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنْ يَقُولُوا : يَا رَبِّ سَلِّمْ نَعُوذُ بِاَللَّهِ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُصِرُّونَ عَلَى الْقَبَائِحِ ، وَالشَّيْطَانُ يَسْخَرُ بِهِمْ كَمَا تَسْخَرُ أَنْتَ بِمَنْ رَأَيْتَهُ وَقَدْ قَصَدَهُ سَبُعٌ ضَارٍ وَهُوَ إلَى جَانِبِ حِصْنٍ مَنِيعٍ ؛ بَابُهُ مَفْتُوحٌ لَهُ ؛ فَلَمْ يَفْزَعْ إلَيْهِ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى : رَبِّ سَلِّمْ حَتَّى جَاءَهُ السَّبُعُ فَأَكَلَهُ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ رَجُلٌ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ ، فَلَمَّا حَضَرَهُ قَالَ لِبَنِيهِ : إذَا أَنَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي وَاطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُونِي فِي الرِّيحِ ، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ ، أَيْ لَئِنْ أَرَادَ تَعْذِيبِي - وَالتَّعْبِيرُ بِالْقُدْرَةِ عَنْ الْإِرَادَةِ سَائِغٌ - لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا ، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ قَالَ مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْتَ ؟ قَالَ يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ " مَخَافَتُك " .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا قَالَ عُقْبَةُ لِحُذَيْفَةَ : أَلَا تُحَدِّثُنَا بِمَا سَمِعْتَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : { إنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إذَا مِتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا ثُمَّ أَوْقِدُوا نَارًا حَتَّى إذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إلَى عَظْمِي فَخُذُوهُ وَاطْحَنُوهُ فَذَرُّونِي فِي يَوْمٍ رَائِحٍ فَجَمَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ لِمَ فَعَلْتَ ؟

قَالَ خَشِيتُك فَغَفَرَ لَهُ } .
قَالَ عُقْبَةُ : وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَفِيهِ أَيْضًا : { إنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ : أَيُّ أَبٍ كُنْت لَكُمْ ؟ قَالُوا خَيْرُ أَبٍ قَالَ : فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ، فَإِذَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ، فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ مَخَافَتُك فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ } .

الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا .
وَقَدَّمْتُهَا لِأَنَّهَا أَخْطَرُ ، وَمُرْتَكِبَهَا أَذَلُّ الْعُصَاةِ وَأَحْقَرُ ، وَلِأَنَّ مُعْظَمَهَا أَعَمُّ وُقُوعًا وَأَسْهَلُ ارْتِكَابًا وَأَمَرُّ يَنْبُوعًا فَقَلَّمَا يَنْفَكُّ إنْسَانٌ عَنْ بَعْضِهَا لِلتَّهَاوُنِ فِي أَدَاءِ فَرْضِهَا ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ الْعِنَايَةُ بِهَذَا الْقِسْمِ أَوْلَى وَكَانَ صَرْفُ عِنَانِ الْفِكْرِ إلَى تَلْخِيصِهِ وَتَحْرِيرِهِ أَحَقَّ وَأَحْرَى .
وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : كَبَائِرُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ كَبَائِرِ الْجَوَارِحِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا تُوجِبُ الْفِسْقَ وَالظُّلْمَ ، وَتَزِيدُ كَبَائِرُ الْقُلُوبِ بِأَنَّهَا تَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ وَتُوَالِي شَدَائِدَ الْعُقُوبَاتِ .
وَلَمَّا ذَكَرَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الْكَبَائِرَ الْبَاطِنَةَ وَأَوْصَلَهَا إلَى أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ قَالَ : وَالذَّمُّ عَلَى هَذِهِ الْكَبَائِرِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّمِّ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهَا وَسُوءِ أَثَرِهَا وَدَوَامِهِ ، فَإِنَّ آثَارَهَا تَدُومُ بِحَيْثُ تَصِيرُ حَالًا لِلشَّخْصِ وَهَيْئَةً رَاسِخَةً فِي قَلْبِهِ بِخِلَافِ آثَارِ مَعَاصِي الْجَوَارِحِ فَإِنَّهَا سَرِيعَةُ الزَّوَالِ بِمُجَرَّدِ الْإِقْلَاعِ مَعَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } .
( الْكَبِيرَةُ الْأُولَى : الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ ) أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَخَتَمَ لَنَا بِالْحُسْنَى فِي عَافِيَةٍ بِلَا مِحْنَةٍ إنَّهُ أَكْرَمُ كَرِيمٍ وَأَرْحَمُ رَحِيمٍ .
اعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِمَرْضَاتِهِ وَأَجْزَلَ عَلَيْنَا هَوَاطِلَ جُودِهِ وَسَوَابِغَ هِبَاتِهِ أَنَّهُ مَرَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَعَارِيفِ الْكَبِيرَةِ السَّابِقَةِ ظَاهِرُهُ إنَّمَا هُوَ تَعْرِيفٌ لِلْكَبِيرَةِ الْمُصَاحِبَةِ لِلْإِيمَانِ ، فَلِذَلِكَ بَدَأَ كَثِيرُونَ فِي تَعْدَادِهَا بِمَا يَلِي الْكُفْرَ وَهُوَ الْقَتْلُ ، وَلَمْ نُجْرِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ

عَلَى سَائِرِ مَا قِيلَ : إنَّهُ كَبِيرَةٌ مَعَ بَيَانِ مَرَاتِبِهَا وَمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ .
وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ كَانَ أَحَقَّ بِأَنْ يُبْسَطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَحْكَامِهِ فَنَقُولَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ { الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ } الْحَدِيثَ .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ { الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَوْلُ الزُّورِ } ، وَكَوْنُهُ أَكْبَرَهُنَّ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهَا كَالشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ : { الْكَبَائِرُ تِسْعٌ وَأَعْظَمُهُنَّ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ .
وَالْبَزَّارُ : { إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَمَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ وَمَنْعُ الْفَحْلِ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ

وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَوْلُ الزُّورِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ .
وَذَكَرَ مِنْهَا الْأَعْرَابِيَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْبُخَارِيُّ : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ فَأَدْخَلَ فِيهَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ إلَّا جُعِلَتْ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ .
: { مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُصَلُّونَ وَمَنْ يُقِيمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ الَّتِي كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيَحْتَسِبُ صَوْمَهُ يَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ حَقٌّ ، وَيُؤْتِي زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ أَيَحْتَسِبُهَا وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا ؟ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : هِيَ تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَالسِّحْرُ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لَا يَمُوتُ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ هَؤُلَاءِ الْكَبَائِرَ ، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ إلَّا رَافَقَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُحْبُوحَةِ جَنَّةٍ ؛ أَبْوَابُهَا مَصَارِيعُ الذَّهَبِ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اذْهَبْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، وَفِي رِوَايَةٍ قُمْ يَا عُمَرُ فَنَادِ فِي النَّاسِ : إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا الْمُؤْمِنُونَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ

حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا ابْنَ عَوْفٍ ارْكَبْ فَرَسَك ثُمَّ نَادِ إنَّ الْجَنَّةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِمُؤْمِنٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ إنَّهُ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَالشَّيْخَانِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ { مَنْ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ { أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْت كَارِهًا } .
وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالضِّيَاءُ : { آمُرُكُمْ بِثَلَاثٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ : أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَتُطِيعُوا لِمَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ : قِيلَ وَقَالَ : وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ } .
وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ { أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ إلَيْهِ فَإِنْ تَابَ فَاقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا فَإِنْ تَابَتْ فَاقْبَلْ مِنْهَا وَإِنْ أَبَتْ فَاسْبِهَا } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا خِلَافُهُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ أَوْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ بِعَذَابِ اللَّهِ } يَعْنِي النَّارَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَةَ عَبْدٍ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ ،

أَيْ مَا دَامَ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ { مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا } يَعْنِي النَّارَ .
وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ { مَنْ خَالَفَ دِينُهُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ ، وَإِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ شَيْئًا فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّهُ } .

تَنْبِيهَاتٌ مِنْهَا : بَيَانُ الشِّرْكِ وَذِكْرُ جُمْلَةٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا فِي النَّاسِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا كَذَلِكَ ، فَإِذَا بَانَ لَهُمْ بَعْضُهَا فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَجْتَنِبُوهَا لِئَلَّا تَحْبَطَ أَعْمَالُهُمْ وَيُخَلَّدُوا فِي أَعْظَمِ الْعَذَابِ وَأَشَدِّ الْعِقَابِ ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ أَمْرٌ مُهِمٌّ جِدًّا ، فَإِنَّ مَنْ ارْتَكَبَ مُكَفِّرًا تَحْبَطُ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْوَاجِبِ مِنْهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَدْ تَوَسَّعَ أَصْحَابُهُ فِي الْمُكَفِّرَاتِ وَعَدُّوا مِنْهَا جُمَلًا مُسْتَكْثَرَةً ، جِدًّا وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ بَقِيَّةِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ وَبِأَنَّ مَنْ ارْتَدَّ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ ، فَمَعَ هَذَا التَّشْدِيدِ الْعَظِيمِ بَالَغُوا فِي الِاتِّسَاعِ فِي الْمُكَفِّرَاتِ فَتَعَيَّنَ عَلَى كُلِّ ذِي مُسْكَةٍ مِنْ دِينِهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَالُوهُ حَتَّى يَجْتَنِبَهُ .
وَلَا يَقَعَ فِيهِ فَيُحْبِطَ عَمَلَهُ ، وَيَلْزَمَهُ قَضَاؤُهُ ، وَتَبِينَ زَوْجَتُهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ ، بَلْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرِّدَّةَ وَإِنْ لَمْ تُحْبِطْ الْعَمَلَ لَكِنَّهَا تُحْبِطُ ثَوَابَهُ فَلَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ إلَّا فِي الْقَضَاءِ فَقَطْ ، وَالْأَكْثَرُونَ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدُوهُمْ لَكِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِلدِّينِ وَالنَّفْسِ الْمَأْمُورَ بِهِ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ وَمُرَاعَاةَ الْخِلَافِ مَا أَمْكَنَ سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ الضَّيِّقِ الشَّدِيدِ الْحَرَجِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ لَا أَشَدَّ مِنْهُ ، وَلِذَلِكَ اسْتَوْفَيْتُ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ مِمَّا هُوَ مُعْتَمَدٌ وَغَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَهُمْ ، وَمَا قَالَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي كِتَابِي الْآتِي ذِكْرُهُ أُشِيرُ هُنَا إلَى جُمْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ أَرَادَ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْفُرُوعِ فَعَلَيْهِ بِالْكِتَابِ الْمَذْكُورِ .

فَمِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ أَنْ يَعْزِمَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ فِي زَمَنٍ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِاللِّسَانِ أَوْ الْقَلْبِ عَلَى شَيْءٍ وَلَوْ مُحَالًا عَقْلِيًّا فِيمَا يَظْهَرُ فَيَكْفُرُ حَالًا أَوْ يَعْتَقِدُ مَا يُوجِبُهُ أَوْ يَفْعَلُ أَوْ يَتَلَفَّظُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَصَدَرَ عَنْ اعْتِقَادٍ أَوْ عِنَادٍ أَوْ اسْتِهْزَاءٍ كَأَنْ يَعْتَقِدَ قِدَمَ الْعَالَمِ وَلَوْ بِالنَّوْعِ .
أَوْ نَفْيَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَإِنْكَارِ أَصْلٍ نَحْوُ عِلْمِهِ أَوْ قُدْرَتِهِ أَوْ كَوْنِهِ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّ ، أَوْ إثْبَاتَ مَا هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ كَذَلِكَ كَاللَّوْنِ ، أَوْ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْعَالَمِ ، أَوْ خَارِجٌ عَنْهُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ نِزَاعٍ .
وَتَفْصِيلُ حَاصِلِهِ : أَنَّ النَّقْصَ إمَّا أَنْ يُعْتَقَدَ اتِّصَافُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ وَتَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ - بِهِ صَرِيحًا أَوْ لَازِمًا ، فَالْأَوَّلُ كُفْرٌ إجْمَاعًا ، وَالثَّانِي كَذَلِكَ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ ، الْأَصَحُّ مِنْهُ عِنْدَنَا عَدَمُ الْكُفْرِ ، فَعُلِمَ أَنَّ نَحْوَ الْمُجَسِّمِ أَوْ الْجَوْهَرِيِّ لَا يُكَفَّرُ بِمَا يَلْزَمُ مِنْ مَقَالَتِهِ مِنْ النَّقْصِ إلَّا إنْ اعْتَقَدَهُ أَوْ صَرَّحَ بِهِ ، وَكَأَنْ يَسْجُدَ لِمَخْلُوقٍ كَالشَّمْسِ إنْ لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عُذْرِهِ وَيَأْتِي هَذَا الْقَيْدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إلَّا مِنْ كَافِرٍ وَإِنْ كَانَ مُصَرِّحًا بِالْإِسْلَامِ : كَالْمَشْيِ إلَى الْكَنَائِسِ مَعَ أَهْلِهَا بِزِيِّهِمْ مِنْ الزَّنَانِيرِ وَغَيْرِهَا ، أَوْ يُلْقِي وَرَقَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ أَوْ اسْمُ نَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ فِي نَجَاسَةٍ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : أَوْ قَذَرٍ طَاهِرٍ كَمَنِيٍّ أَوْ مُخَاطٍ أَوْ بُصَاقٍ ، أَوْ يُلَطِّخَ ذَلِكَ أَوْ مَسْجِدًا بِنَجَسٍ وَلَوْ مَعْفُوًّا عَنْهُ أَوْ يَشُكُّ فِي نُبُوَّةِ نَبِيٍّ أُجْمِعَ عَلَيْهَا لَا

كَالْخَضِرِ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ أَوْ فِي إنْزَالِ كِتَابٍ كَذَلِكَ : كَالتَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ أَوْ زَبُورِ دَاوُد أَوْ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ فِي آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا كَالْمُعَوِّذَتَيْنِ ، أَوْ فِي تَكْفِيرِ كُلِّ قَائِلٍ قَوْلًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَضْلِيلِ الْأُمَّةِ ، أَوْ تَكْفِيرِ الصَّحَابَةِ .
أَوْ فِي مَكَّةَ أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ فِي صِفَةِ الْحَجِّ أَوْ هَيْئَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ وَكَذَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ ، أَوْ فِي حُكْمٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ مَعْلُومٍ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَتَحْرِيمِ الْمَكْسِ .
وَمَشْرُوعِيَّةِ السُّنَنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ ، أَوْ اسْتَحَلَّ مُحَرَّمًا كَذَلِكَ كَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ بِخِلَافِهَا مَعَ نَجَاسَةٍ لِلْخِلَافِ فِيهَا ، وَكَإِيذَاءِ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ ذِمِّيٍّ بِلَا مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ بِالنِّسْبَةِ لِاعْتِقَادِهِ ، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ أَوْ يَقُولُ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ كَانَ أَسْوَدَ ، أَوْ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِيَ ، أَوْ لَيْسَ بِقُرَشِيٍّ أَوْ عَرَبِيٍّ أَوْ إنْسِيٍّ ، لِأَنَّ وَصْفَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ ؛ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِهَا لَهُ يَكُونُ إنْكَارُهَا كُفْرًا كَمَا لَوْ جَوَّزَ بَعْثَةَ نَبِيٍّ بَعْدَهُ ، أَوْ قَالَ : لَا أَدْرِي أَهُوَ الَّذِي بُعِثَ بِمَكَّةَ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرُهُ ، أَوْ النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ ، أَوْ أَنَّ رُتْبَتَهَا يُوصَلُ إلَيْهَا بِصَفَاءِ الْقَلْبِ ، أَوْ الْوَلِيُّ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ ، أَوْ إنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ نُبُوَّةً أَوْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ مَوْتِهِ ، أَوْ يَعِيبُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِثْلُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ وَالْمَلَائِكَةِ .
أَوْ يَلْعَنُهُ أَوْ يَسُبُّهُ أَوْ يَسْتَخِفُّ أَوْ يَسْتَهْزِئُ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ كَلَحْسِ الْأَصَابِعِ ، أَوْ يُلْحِقُ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ أَوْ نَسَبِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ فِعْلِهِ ، أَوْ يُعَرِّضُ

ذَلِكَ أَوْ يُشَبِّهُهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ الْإِزْرَاءِ أَوْ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ أَوْ الْغَضِّ مِنْهُ ، أَوْ تَمَنَّى لَهُ مَضَرَّةً أَوْ نَسَبَ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ أَوْ عَبِثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنْ الْكَلَامِ وَهَجْرٍ وَمُنْكَرٍ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٍ أَوْ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنْ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ ، أَوْ غَمَصَهُ بِبَعْضِ الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ وَالْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِ فَيُكَفَّرُ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ إجْمَاعًا فَيُقْتَلُ .
وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ قَتَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ قَالَ : لَهُ عِنْدَ صَاحِبِكُمْ وَعَدَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَنْقِيصًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَوْ يَرْضَى بِالْكُفْرِ وَلَوْ ضِمْنًا كَأَنْ يُشِيرَ عَلَى كَافِرٍ بِأَنْ لَا يُسْلِمَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْهُ ؛ أَوْ يَقُولَ لَهُ : لَقِّنِّي كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ فَيُؤَخِّرَ ، كَأَنْ يَقُولَ خَطِيبٌ اصْبِرْ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِي ، بِخِلَافِ الدُّعَاءِ ، نَحْوُ لَا رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ أَوْ ثَبَّتَهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ سَلَبَهُ عَنْ فُلَانٍ الْمُسْلِمِ إنْ أَرَادَ بِتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ الرِّضَا أَوْ سُؤَالَ الْكُفْرِ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ رِضًا بِهِ ، أَوْ يَقُولُ لِمُسْلِمٍ : يَا كَافِرُ بِلَا تَأْوِيلٍ لِأَنَّهُ سَمَّى الْإِسْلَامَ كُفْرًا ، أَوْ يَسْخَرُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ نَبِيِّهِ كَأَنْ يُصَغِّرَهُ أَوْ بِأَمْرِهِ أَوْ نَهْيِهِ أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ كَأَنْ يَقُولَ لَوْ أَمَرَنِي بِكَذَا لَمْ أَفْعَلْهُ أَوْ لَوْ جَعَلَ الْقِبْلَةَ هُنَا مَا صَلَّيْتُ إلَيْهَا أَوْ لَوْ أَعْطَانِي الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا اسْتِخْفَافًا أَوْ عِنَادًا أَوْ لَوْ آخَذَنِي بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ مَا بِي مِنْ الشِّدَّةِ وَالْمَرَضِ ظَلَمَنِي .
أَوْ قَالَ ظَالِمٌ لِمَظْلُومِهِ الْقَائِلِ هَذَا الظُّلْمُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ : أَنَا أَفْعَلُ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ أَوْ لَوْ شَهِدَ عِنْدِي مَلَكٌ أَوْ نَبِيٌّ مَا صَدَّقْتُهُ أَوْ لَوْ كَانَ فُلَانٌ نَبِيًّا

مَا آمَنْتُ بِهِ أَوْ إنْ كَانَ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صِدْقًا نَجَوْنَا أَوْ كَفَّرَ مُكَذِّبَهُ لِأَنَّ فِيهِ تَنْقِيصًا لِمَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ .
أَوْ قِيلَ لَهُ قَلِّمْ أَظْفَارَك فَإِنَّهُ سُنَّةٌ ، فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ وَإِنْ كَانَ سُنَّةً اسْتِهْزَاءً أَوْ قَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ ، وَمِثْلُهَا فِي ذَلِكَ سَائِرُ الْأَذْكَارِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، أَوْ الْمُؤَذِّنُ يَكْذِبُ أَوْ : صَوْتُهُ كَالْجَرَسِ ، وَأَرَادَ تَشْبِيهَهُ بِنَاقُوسِ الْكُفْرِ أَوْ الِاسْتِخْفَافَ بِالْأَذَانِ ، .
أَوْ سَمَّى اللَّهَ عَلَى مُحَرَّمٍ كَخَمْرٍ اسْتِهْزَاءً أَوْ لَا أَخَافُ الْقِيَامَةَ اسْتِهْزَاءً أَيْضًا ، أَوْ قَالَ عَنْ اللَّهِ : إنَّهُ لَا يَتْبَعُ السَّارِقَ نَاسِبًا الْعَجْزَ إلَيْهِ ، أَوْ تَشَبَّهَ بِالْعُلَمَاءِ أَوْ الْوُعَّاظِ أَوْ الْمُعَلِّمِينَ عَلَى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ حَتَّى يَضْحَكُوا أَوْ يَلْعَبُوا اسْتِخْفَافًا ، أَوْ قَالَ قَصْعَةُ ثَرِيدٍ خَيْرٌ مِنْ الْعِلْمِ اسْتِخْفَافًا أَيْضًا ، أَوْ قَالَ مَنْ اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَوْ مَاتَ وَلَدُهُ إنْ شِئْت تَوَفَّنِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا أَوْ أَخَذْت وَلَدِي فَمَا بَقِيَ لَمْ تَفْعَلْهُ ، أَوْ قِيلَ لَهُ يَا كَافِرُ فَقَالَ نَعَمْ نَاوِيًا غَيْرَ مُجَرَّدِ الْإِجَابَةِ .
أَوْ تَمَنَّى كُفْرًا ثُمَّ إسْلَامًا حَتَّى يُعْطَى دَرَاهِمَ مَثَلًا أَوْ تَمَنَّى حِلَّ مَا لَمْ يَحِلَّ فِي زَمَنٍ قَطُّ كَالْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا أَوْ الظُّلْمِ .
أَوْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى إلَى جَوْرٍ فِي التَّحْرِيمِ ، أَوْ لَبِسَ زِيَّ كَافِرٍ مَيْلًا لِدِينِهِ .
أَوْ قَالَ : الْيَهُودُ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا : النَّصْرَانِيَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَجُوسِيَّةِ ، إلَّا إنْ أَرَادَ حَقِيقَتَهَا .
أَوْ قَالَ لِمَنْ شَمَّتَ كَبِيرًا يَرْحَمُك اللَّهُ : لَا تَقُلْ لَهُ هَكَذَا قَاصِدًا أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ الرَّحْمَةِ أَوْ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ ، أَوْ قَالَ قِنٌّ : لَا أُصَلِّي فَإِنَّ الثَّوَابَ يَكُونُ لِمَوْلَايَ عَلَى نَظَرٍ فِيهِ ، وَوَاضِحٌ جَهْلُ أَكْثَرِ الْأَرِقَّاءِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَحْظُورٍ فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِمْ بَلْ فِي

عَالِمٍ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ .
وَحِينَئِذٍ فَلَا نَظَرَ فِيهِ .
أَوْ قِيلَ لَهُ : مَا الْإِيمَانُ ؟ فَقَالَ : لَا أَدْرِي اسْتِخْفَافًا ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِ اللَّهِ ، وَأَرَادَ مَحَبَّةَ التَّعْظِيمِ لَا الْمَيْلِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ شُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ .
أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ ، أَوْ قَذْفَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا ، أَوْ قَالَ : إنَّهُ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ ، أَوْ قَالَ : أَنَا اللَّهُ وَلَوْ مَازِحًا أَوْ لَا أَدْرِي حَقَّهُ جَحْدًا لِلْوَاجِبَاتِ ، أَوْ قَالَ : اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ لِنِسْبَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إلَى الْجَهْلِ .
أَوْ قَالَ اسْتِخْفَافًا شَبِعْت مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ أَيُّ شَيْءٍ الْمَحْشَرُ أَوْ جَهَنَّمُ ، أَوْ أَيَّ شَيْءٍ عَمِلْتُ وَقَدْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً ، أَوْ أَيَّ شَيْءٍ أَعْمَلُ بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ وَقَدْ أُمِرَ بِحُضُورِهِ ، أَوْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ إنْ لَمْ يُرِدْ الِاسْتِغْرَاقَ ، وَإِلَّا لَمْ يُشْتَرَطْ اسْتِخْفَافٌ لِشُمُولِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ أَوْ أَلْقَى فَتْوَى عَالِمٍ أَوْ قَالَ أَيُّ شَيْءٍ هَذَا الشَّرْعُ ؟ وَقَصَدَ الِاسْتِخْفَافَ ، أَوْ قَالَ : فِي حَقِّ فَقِيهٍ : هَذَا هُوَ شَيْءٌ مُسْتَخِفًّا بِالْعِلْمِ ، أَوْ قَالَ الرُّوحُ قَدِيمٌ ، أَوْ قَالَ إذَا ظَهَرَتْ الرُّبُوبِيَّةُ زَالَتْ الْعُبُودِيَّةُ وَعَنَى بِذَلِكَ رَفْعَ الْأَحْكَامِ ، أَوْ أَنَّهُ فَنِيَ مِنْ صِفَاتِهِ النَّاسُوتِيَّةِ إلَى اللَّاهُوتِيَّةِ أَوْ أَنَّ صِفَاتِهِ تَبَدَّلَتْ بِصِفَاتِ الْحَقِّ ، أَوْ أَنَّهُ يُرَادُ عِيَانًا فِي الدُّنْيَا أَوْ يُكَلِّمُهُ شِفَاهًا ، أَوْ أَنَّهُ يَحِلُّ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ أَوْ أَنَّهُ أُسْقِطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ ، أَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ : دَعْ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةَ الشَّأْنِ فِي عَمَلِ الْأَسْرَارِ ، أَوْ سَمَاعُ الْغِنَاءِ مِنْ الدِّينِ أَوْ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ أَكْبَرَ مِنْ الْقُرْآنِ ،

أَوْ الْعَبْدُ يَصِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ ، أَوْ الرُّوحُ مِنْ نُورِ اللَّهِ فَإِذَا اتَّصَلَ النُّورُ بِالنُّورِ اتَّحَدَ .
وَبَقِيَتْ فُرُوعٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ بَيَّنْتُهَا مَعَ بَسْطِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا وَعَلَى جَمِيعِ مَا مَرَّ بِقُيُودِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالْبَحْثِ وَمَعَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ، بَلْ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَا قِيلَ بِأَنَّهُ كُفْرٌ وَلَوْ عَلَى الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ فِي كِتَابِي الْإِعْلَامِ بِمَا يَقْطَعُ الْإِسْلَامَ ] وَهُوَ كِتَاب حَافِلٌ لَا يَسْتَغْنِي طَالِبُ عِلْمٍ عَنْهُ

وَمَرَّ أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَا كَافِرُ كَفَرَ بِشَرْطِهِ ، وَكَذَا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا مَرِيدًا أَنَّ لِلنَّجْمِ تَأْثِيرًا .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ { إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ الَّذِي قِيلَ لَهُ كَافِرًا فَهُوَ كَافِرٌ وَإِلَّا رَجَعَ عَلَى مَنْ قَالَ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ : { مَا شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِكُفْرٍ إلَّا بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فَقَدْ كَفَرَ بِتَكْفِيرِهِ إيَّاهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ { مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا سِتْرٌ مِنْ اللَّهِ ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ هُجْرًا هَتَكَ سِتْرَ اللَّهِ ، وَإِذَا قَالَ : يَا كَافِرُ فَقَدْ كَفَرَ أَحَدُهُمَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَهُوَ كَقَتْلِهِ ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ } .
وَأَبُو دَاوُد { أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ كَفَّرَ رَجُلًا مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَإِلَّا كَانَ هُوَ الْكَافِرُ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ قَالَ : إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا } .
وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { كُفُّوا عَنْ أَهْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا تُكَفِّرُوهُمْ بِذَنْبٍ ، فَمَنْ كَفَّرَ أَهْلَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ } .
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ { أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ { مَا كَفَّرَ رَجُلٌ رَجُلًا قَطُّ إلَّا بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } .
وَمُسْلِمٌ { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إلَّا وَأَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ ، يُنْزِلُ اللَّهُ الْغَيْثَ فَيَقُولُونَ : مُطِرْنَا بِكَوْكَبِ كَذَا

وَكَذَا } .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { أَلَمْ تَرَوْا مَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالَ : مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ يَقُولُونَ الْكَوْكَبُ وَبِالْكَوْكَبِ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ : { هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ ؟ قَالَ اللَّهُ : أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ } .
وَالشِّيرَازِيُّ : { لَا تَزَالُ أُمَّتِي فِي مَسَكَةٍ مِنْ دِينِهَا مَا لَمْ تُضِلَّهُمْ النُّجُومُ } .
وَأَحْمَدُ : { أَصْبَحَ مِنْ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ فَقَالُوا : هَذِهِ رَحْمَةٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَقَدْ صَدَقَنَا نَوْءُ كَذَا وَكَذَا } وَمِنْهَا : مَرَّ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَبِهِ يُخَصُّ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وَبِالْآيَتَيْنِ جَمِيعًا يُعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ - مُؤْمِنًا فَاسِقًا - تَحْتَ الْمَشِيئَةِ ، فَإِنْ شَاءَ تَعَالَى عَذَّبَهُ كَمَا يُرِيدُ ، ثُمَّ مَآلُهُ إلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ فَيُخْرِجَهُ مِنْ النَّارِ وَقَدْ اسْوَدَّ فَيَنْغَمِسَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ ثُمَّ يَعُودَ لَهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ الْجَمَالِ وَالنَّضَارَةِ وَالْحُسْنِ ، ثُمَّ يُدْخِلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَيُعْطِيَهُ مَا أَعَدَّ لَهُ بِسَابِقِ إيمَانِهِ وَمَا قَدَّمَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ كَمَا صَحَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَفَا عَنْهُ ابْتِدَاءً فَسَامَحَهُ وَأَرْضَى عَنْهُ خُصَمَاءَهُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَ النَّاجِينَ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْخَوَارِجِ : إنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ كَافِرٌ .
وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ : إنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ

حَتْمًا ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ كَمَا لَا يَجُوزُ عِقَابُ الْمُطِيعِ ، فَهُوَ مِنْ تَقَوُّلِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ ؛ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } إمَّا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِمَا مَرَّ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْخُلُودِ حِينَئِذٍ التَّأْبِيدَ فِي النَّارِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْخُلُودُ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّأْبِيدَ كَمَا تَشْهَدُ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْمَوَادُّ اللُّغَوِيَّةُ : أَيْ فَهَذَا جَزَاؤُهُ إنْ عُذِّبَ ، وَإِلَّا فَقَدْ يَعْفُو تَعَالَى عَنْهُ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ ، مُرَادُهُمْ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّنْفِيرُ عَنْ الْقَتْلِ ، وَإِلَّا فَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَهُ تَوْبَةٌ كَالْكَافِرِ بَلْ أَوْلَى .
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ : لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ ، فَهُوَ مِنْ افْتِرَائِهِمْ أَيْضًا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَا وَرَدَ مِمَّا قَدْ يُؤَيِّدُهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ ظَاهِرُهُ بِدَلِيلِ نُصُوصٍ أُخَرَ قَاطِعٍ بُرْهَانُهَا وَاضِحٍ بَيَانُهَا ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ لِمَا أَنَّ إنْكَارَ ذَلِكَ كُفْرٌ ، إذْ هُوَ صَرِيحٌ فِي تَكْذِيبِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : نَقْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الرِّدَّةِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَضْمَرَ تَوْرِيَةً كُفِّرَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ وَسْوَسَةٌ فَتَرَدَّدَ فِي الْإِيمَانِ أَوْ الصَّانِعِ ، أَوْ تَعَرَّضَ بِقَلْبِهِ لِنَقْصٍ أَوْ سَبٍّ وَهُوَ كَارِهٌ لِذَلِكَ

كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا إثْمٌ ، بَلْ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى دَفْعِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ نَفْسِهِ لِمَا كَرِهَهُ .
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ .

وَمِنْهَا : لَا يَحْصُلُ الْإِسْلَامُ مِنْ كَافِرٍ أَصْلِيٍّ أَوْ مُرْتَدٍّ إلَّا بِنُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِإِحْدَاهُمَا ، وَلَوْ أَبْدَلَ الْإِلَهَ فِي : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ بِالْبَارِئِ أَوْ الرَّحْمَنِ أَوْ الْمَلِكِ أَوْ الرَّزَّاقِ جَازَ ، وَكَذَا لَوْ أَبْدَلَ لَا بِمَا مِنْ فَقَالَ : مَا مِنْ إلَهٍ ، أَوْ إلَّا بِغَيْرٍ أَوْ سِوَى أَوْ عَدَا ، أَوْ الْجَلَالَةَ بِالْمُحْيِي الْمُمِيتِ وَهُوَ غَيْرُ طَبَائِعِيٍّ أَوْ بِالرَّحْمَنِ أَوْ الْبَارِئِ ، أَوْ مَنْ آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ أَوْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَوْ الْمَلِكِ أَوْ الرَّزَّاقِ بِخِلَافِ سَاكِنِ السَّمَاءِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنَّ الْأَوَّلَ نَصٌّ فِي الْجِهَةِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا وَعَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، وَالْقَوْلُ بِالْجِهَةِ كُفْرٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْإِسْلَامُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْكُفْرِ ، بِخِلَافِ مَنْ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ ؛ إذْ الْمُرَادُ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ ، وَلِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ الْمُؤَوَّلِ عِنْدَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ .
فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لِفِرْقَةٍ ضَالَّةٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّا نُعَيِّنُ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ وَلَا نَصْرِفُ الظَّاهِرَ إلَيْهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَلَفِ أَوْ نُؤَوِّلُ إجْمَالًا وَلَا نُعَيِّنُ شَيْئًا ، بَلْ نُفَوِّضُ عِلْمَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ تَفْضِيلًا فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ تَعْيِينَ التَّأْوِيلِ بِأَنْ قَرُبَ مِنْ الظَّاهِرِ وَشَهِدَتْ لَهُ قَوَاعِدُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْقَبُولِ كَانَ أَوْلَى وَإِلَّا فَالتَّفْوِيضُ أَوْلَى ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ وَجَدَهَا شَاهِدَةً لِلتَّأْوِيلِ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا بِدُونِهِ يُوهِمُ التَّنَاقُضَ ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ

صَوْنًا عَنْ ذَلِكَ الْإِيهَامِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } مَعَ قَوْلِهِ : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ } وَمَعَ خَبَرِ : { لَوْ أَدْلَيْتُمْ حَبْلًا لَوَقَعَ عَلَى اللَّهِ } فَأَحَدُ تِلْكَ النُّصُوصِ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ ؛ إذْ لَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ بِظَوَاهِرِ تِلْكَ النُّصُوصِ جَمِيعِهَا ، وَإِذَا وَجَبَ تَأْوِيلُ بَعْضِهَا وَجَبَ تَأْوِيلُ كُلِّهَا .
إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ عَلَى أَنَّ الْخَلَفَ لَمْ يَنْفَرِدُوا بِذَلِكَ بَلْ أَوَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَمَالِكٍ وَجَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِمَا .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَرَّرْتُهُ ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ اعْتِقَادُهُ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ نَقْصٍ صَرِيحًا أَوْ اسْتِلْزَامًا ، بَلْ وَعَنْ كُلِّ مَا لَا نَقْصَ فِيهِ وَلَا كَمَالَ ، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا اتَّصَفَ بِأَكْمَلِ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ فِي ذَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ وَسَائِرِ شُؤُونِهِ وَأَفْعَالِهِ .
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ : فَيَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ مُحَمَّدًا فِيهَا بِأَحْمَدَ أَوْ أَبِي الْقَاسِمِ ، وَالرَّسُولَ بِالنَّبِيِّ ، وَيُشْتَرَطُ تَرْتِيبُ الشَّهَادَتَيْنِ .
فَلَوْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَمْ يَسْلَمْ إلَّا الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا وَلَا النُّطْقُ بِهِمَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فَهْمُ مَا تَلَفَّظَ بِهِ ، ثُمَّ مَنْ كَانَ كُفْرُهُ بِإِنْكَارِ أَصْلِ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَاهُ الشَّهَادَتَانِ أَوْ بِتَخْصِيصِهَا بِالْعَرَبِ ، كَالْعِيسَوِيَّةِ اُشْتُرِطَ أَنْ يَقُولَ : رَسُولُ اللَّهِ إلَى كَافَّةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، وَإِشَارَةُ الْأَخْرَسِ كَالنُّطْقِ ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِسْلَامُ بِغَيْرِ مَا مَرَّ كَقَوْلِهِ : آمَنْتُ فَقَطْ أَوْ آمَنْت بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ ، أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ أَنَا مِنْ

أُمَّةِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَنَا أُحِبُّهُ أَوْ أَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ مِثْلُهُمْ أَوْ دِينُهُمْ حَقٌّ ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَانَ بِشَيْءٍ آمَنْت بِاَللَّهِ أَوْ أَسْلَمْت لِلَّهِ أَوْ اللَّهُ خَالِقِي أَوْ رَبِّي ثُمَّ أَتَى بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا ؛ وَيُنْدَبُ أَمْرُ كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ بِالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ ، وَيُشْتَرَطُ لِنَفْعِ الْإِسْلَامِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ مَا مَرَّ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَإِنْ آمَنَ بِذَلِكَ بِأَنْ صَدَّقَ بِهِ بِقَلْبِهِ ، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِلِسَانِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ أَبَدًا ، كَمَا نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ ، لَكِنْ اُعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ قَوْلًا لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إنَّ إيمَانَهُ يَنْفَعُهُ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ عَاصٍ ، وَإِنْ تَلَفَّظَ بِهِمَا بِلِسَانِهِ ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ كَافِرٌ إجْمَاعًا ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا فَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمَةً ثُمَّ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يُجَدِّدَ النِّكَاحَ بَعْدَ إسْلَامِهِ .

وَمِنْهَا : مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ ، وَلَا عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ .
قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } نَعَمْ .
يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ قَوْمُ يُونُسَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ } بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ ، وَأَنَّ إيمَانَهُمْ كَانَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ ، وَهُوَ قَوْلٌ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ اسْتِثْنَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ كَرَامَةً وَخُصُوصِيَّةً لِنَبِيِّهِمْ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِحَيَاةِ أَبَوَيْهِ لَهُ حَتَّى آمَنَا بِهِ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ حَافِظُ الشَّامِ وَغَيْرُهُمَا فَنَفَعَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ إكْرَامًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُصُوصِيَّاتُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي خَبَرِ إحْيَاءِ أَبَوَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطَالَ فِيهِ بِمَا رَدَدْته عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى ، وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ دِحْيَةَ وَغَيْرُهُمَا : لَمْ تَزَلْ فَضَائِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَصَائِصُهُ تَتَوَالَى وَتَتَتَابَعُ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ ، فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ ، وَلَيْسَ إحْيَاؤُهُمَا ، وَإِيمَانُهُمَا بِهِ مُمْتَنِعًا عَقْلًا ، وَلَا سَمْعًا فَقَدْ أَحْيَا قَتِيلَ بَنِي إسْرَائِيلَ حَتَّى أَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ ، وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ الْمَوْتَى ، وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ إحْيَائِهِمَا بَعْدَ

مَوْتِهِمَا زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَفَضِيلَتِهِ ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّمْسَ بَعْدَ مَغِيبِهَا حَتَّى صَلَّى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ الْعَصْرَ ، فَكَمَا أُكْرِمَ بِعَوْدِ الشَّمْسِ وَالْوَقْتِ بَعْدَ فَوَاتِهِ ، فَكَذَلِكَ أُكْرِمَ بِعَوْدِ الْحَيَاةِ وَوَقْتِ الْإِيمَانِ بَعْدَ فَوَاتِهِ إكْرَامًا لَهُ أَيْضًا ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ { وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } نَزَلَتْ فِي أَبَوَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْنِي سَبَبَ نُزُولِهَا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْمُرَادُ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لَوْلَا كَرَامَتُك .
وَخَبَرُ مُسْلِمٍ : { أَبِي وَأَبُوك فِي النَّارِ } .
إمَّا كَانَ قَبْلَ عِلْمِهِ أَوْ قَالَهُ تَطْمِينًا ، وَإِرْشَادًا لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ ، فَإِنَّهُ تَغَيَّرَ لَمَّا قَالَ أَبُوك فِي النَّارِ ، وَأَخَذَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَمُجْتَهِدُوهَا الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الْمُعَوَّلُ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى أَعْنِي قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } إجْمَاعَهُمْ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طَرِيقَيْنِ وَقَالَ فِي إحْدَاهُمَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَفِي الْأُخْرَى حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خَلَقَ اللَّهُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا وَخَلَقَ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا } .
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَزَّ قَائِلًا : { حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَهُوَ لَا يَنْفَعُهُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى عَقِبَ ذَلِكَ : { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } وَسَبَبُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ كَرَّرَ الْإِيمَانَ مَرَّتَيْنِ بِنَاءً عَلَى فَتْحِ أَنَّ وَثَلَاثًا بِنَاءً عَلَى كَسْرِهَا أَنَّهُ

إنَّمَا آمَنَ عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَهُ وَلِقَوْمِهِ ، وَالْإِيمَانُ حِينَئِذٍ غَيْرُ نَافِعٍ لِمَا تَقَرَّرَ ، وَأَيْضًا فَإِيمَانُهُ إنَّمَا كَانَ تَقْلِيدًا مَحْضًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } فَكَأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ ، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّ لِلْعَالَمِ إلَهًا فَآمَنَ بِذَلِكَ الْإِلَهِ الَّذِي سَمِعَ بَنِي إسْرَائِيلَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِهِ فَآمَنَ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا مُنْكِرًا لِوُجُودِ الصَّانِعِ ، وَمِثْلُ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْخَبِيثِ الْبَالِغِ نِهَايَةَ الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ لَا يَزُولُ بِتَقْيِيدٍ مَحْضٍ ، بَلْ لَا بُدَّ فِي مُزِيلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بُرْهَانًا قَطْعِيًّا وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَلَا بُدَّ فِي إسْلَامِ الدَّهْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ كَانَ قَدْ دَانَ بِشَيْءٍ أَنْ يُقِرَّ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ ، فَلَوْ قَالَ : آمَنْت بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُ مُسْلِمًا كَمَا مَرَّ وَفِرْعَوْنُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِبُطْلَانِ مَا كَانَ كَفَرَ بِهِ مِنْ نَفْيِ الصَّانِعِ ، وَإِلَهِيَّةِ نَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ : { إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } لَا يُدْرَى مَا الَّذِي أَرَادَ بِهِ ، فَإِذَا صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ فِي " آمَنْتُ بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ " بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ لِاحْتِمَالِهِ فَكَذَا فِيمَا قَالَهُ .
وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ ، فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ آمَنَ بِاَللَّهِ إيمَانًا صَحِيحًا هُوَ لَمْ يُؤْمِنُ بِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا تَعَرَّضَ لَهُ حِينَئِذٍ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ إيمَانُهُ نَافِعًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ قَالَ أُلُوفًا مِنْ الْمَرَّاتِ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ الَّذِي آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَقُولَ : وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
فَإِنْ قُلْت : السَّحَرَةُ لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي

إيمَانِهِمْ لِلْإِيمَانِ بِمُوسَى وَمَعَ ذَلِكَ قُبِلَ إيمَانُهُمْ .
قُلْت : مَمْنُوعٌ بَلْ تَعَرَّضُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } عَلَى أَنَّ إيمَانَهُمْ حِينَئِذٍ إيمَانٌ بِمُعْجِزَةِ مُوسَى وَهِيَ الْعَصَا الَّتِي تَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا ، وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِمُعْجِزَةِ الرَّسُولِ إيمَانٌ بِالرَّسُولِ فَهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى صَرِيحًا بِخِلَافِ فِرْعَوْنَ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ صَرِيحًا ، وَلَا إشَارَةً ، بَلْ ذِكْرُهُ بَنِي إسْرَائِيلَ دُونَ مُوسَى مَعَ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْحَقُّ الْعَارِفُ بِالْإِلَهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَالْهَادِي إلَى طَرِيقِهِ فِيهِ إشَارَةٌ مَا إلَى بَقَائِهِ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ الْقَاضِي عَبْدُ الصَّمَدِ الْحَنَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَلَوْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ قَدِيمٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوَائِلَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ : الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ رَأْسُ الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الثَّلَاثُمِائَةِ ، وَإِذَا كَانَ مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ ذَلِكَ ، فَكَيْفَ سَاغَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ ؟ .
قُلْت : لَوْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ ذَلِكَ عَنْ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا ، وَلَمْ يَخْتَلَّ بِهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ ، لِأَنَّا لَمْ نَحْكُمْ بِكُفْرِهِ لِأَجْلِ إيمَانِهِ عِنْدَ الْيَأْسِ فَحَسْبُ ، بَلْ لِمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ إيمَانًا صَحِيحًا ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهُوَ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُوسَى أَصْلًا فَلَا يَرُدُّ مَا حُكِيَ عَنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْعَارِفُ

الْمُحَقِّقُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي فُتُوحَاتِهِ الْمَكِّيَّةِ بِصِحَّةِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنٌ ، فَإِنَّهُ قَالَ : مَا حَاصِلُهُ لَمَّا حَالَ الْغَرَقُ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ أَطْمَاعِهِ لَجَأَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِلَى مَا أَعْطَاهُ بَاطِنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ ، فَقَالَ : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ ، كَمَا قَالَتْ السَّحَرَةُ لَمَّا آمَنَتْ : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } لِرَفْعِ الِارْتِيَابِ ، وَإِزَاحَةِ الْإِشْكَالِ ثُمَّ قَالَ : { وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَخَاطَبَهُ بِلِسَانِ الْعَتْبِ آلْآنَ أَظْهَرْتَ مَا كُنْتَ قَبْلُ عَلِمْتَهُ { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } فِي اتِّبَاعِك { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ } فَبَشَّرَهُ قَبْلَ قَبْضِ رُوحِهِ { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَك آيَةً } أَيْ لِتَكُونَ النَّجَاةُ عَلَامَةً لَهُ إذَا قَالَ مَا قُلْتَهُ كَانَتْ لَهُ النَّجَاةُ مِثْلَ مَا كَانَتْ لَك إذْ الْعَذَابُ مَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِظَاهِرِك ، وَقَدْ أَرَيْتُ الْخَلْقَ نَجَاتَهُ مِنْ الْعَذَابِ فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْغَرَقِ عَذَابًا وَصَارَ الْمَوْتُ فِيهِ شَهَادَةً خَالِصَةً ، كُلُّ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَيْأَسَ أَحَدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } فَكَلَامٌ مُحَقَّقٌ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ فَإِنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ فَمَا نَفَعَهُمْ إلَّا اللَّهُ ، وقَوْله تَعَالَى : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } يَعْنِي الْإِيمَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْيَأْسِ ، وَإِنَّمَا قَبَضَ فِرْعَوْنَ ، وَلَمْ يُؤَخِّرْ فِي أَجَلِهِ فِي حَالِ إيمَانِهِ لِئَلَّا يَرْجِعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّعْوَى .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ } فَمَا فِيهِ نَصٌّ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا مَعَهُمْ بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {

أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ } ، وَلَمْ يَقُلْ أَدْخِلُوا فِرْعَوْنَ ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ حَيْثُ أَنْ لَا يَقْبَلَ إيمَانَ الْمُضْطَرِّ ، وَأَيُّ اضْطِرَارٍ أَعْظَمَ مِنْ اضْطِرَارِ فِرْعَوْنَ فِي حَالِ الْغَرَقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } فَقَرَنَ لِلْمُضْطَرِّ إذَا دَعَاهُ الْإِجَابَةَ وَكَشْفَ السُّوءِ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْغَرَقِ فِي الْمَاءِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَهَلْ هَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرٌ أَوْ مَرْدُودٌ فَمَا وَجْهُ رَدِّهِ ؟ قُلْت : لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرًا ، وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ جَلَالَةَ قَائِلِهِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ لَيْسَتْ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ .
، وَلَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ : مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ إلَّا صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ كُتُبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ هَامَانَ وَقَارُونَ فِي النَّارِ ، ، وَإِذَا اخْتَلَفَ كَلَامُ إمَامٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِمَا يُوَافِقُ الْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ وَيُعْرَضُ عَمَّا خَالَفَهَا ، بَلْ قَدْ مَرَّ لَك أَنَّ الْآيَةَ وَحَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ الصَّحِيحَ صَرِيحَانِ فِي بُطْلَانِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْيَأْسِ فَلَا يُلْتَفَتُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا مَرَّ مِنْ تَأْوِيلِ { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ } بِأَنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ ، وَأَيْضًا فَمِمَّا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إضَافَةُ الْأَشْيَاءِ إلَى أَسْبَابِهَا .
فَإِذَا قِيلَ : لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ إلَّا الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ، وَأَيُّ مَعْنًى مُسَوِّغٍ لِهَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَخُصَّ نَفْعَ اللَّهِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ وُقُوعِ الْعَذَابِ مَعَ النَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ الْحَقُّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَلَوْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ لَمَا اسْتَأْصَلَهُمْ

بِالْعَذَابِ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ } أَنَّهُمْ بَاقُونَ مَعَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَكَفَى بِتَفْسِيرِ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ الْمُوَافِقِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِلْإِجْمَاعِ السَّابِقَيْنِ الْآيَةَ بِمَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ ؟ ، وَإِذَا ثَبَتَ وَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُ الْيَأْسِ ثَبَتَ أَنَّ إيمَانَ فِرْعَوْنَ لَا يَصِحُّ ، عَلَى أَنَّنَا قَدَّمْنَا أَنَّنَا لَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ إيمَانِ الْيَأْسِ ، فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ أَيْضًا لِعَدَمِ إيمَانِهِ بِمُوسَى وَهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ بِخِلَافِ السَّحَرَةِ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ صِيغَةَ إيمَانِهِمْ الْمَحْكِيَّتَيْنِ عَنْهُمَا فِي الْقُرْآنِ عَلِمَ اتِّضَاحَ مَا بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ فَلَا يَصْغَ إلَى قِيَاسِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَقَوْلُهُ : إنَّهُ لَجَأَ إلَى مَا أَعْطَاهُ بَاطِنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ عَجِيبٌ ، وَأَيُّ ذِلَّةٍ وَافْتِقَارٍ كَانَ عَلَيْهِمَا بَاطِنُهُ وَهُوَ يُنْكِرُ رُبُوبِيَّةَ رَبِّ الْأَرْبَابِ ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْإِلَهَ الْمُطْلَقَ وَالرَّبَّ الْأَكْبَرَ يُؤْذِي مُوسَى وَيُكَذِّبُهُ وَيُعَانِدُهُ ، فَهَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ إلَّا كَأَبِي جَهْلٍ .
وَمِنْ ثَمَّ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَبِتَسْلِيمِ أَنَّ بَاطِنَهُ كَانَ عَلَيْهِمَا فَأَيُّ نَفْعٍ لَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَحَمْلُ { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } عَلَى الْعَتْبِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ إذْ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ ، وَإِيمَانُهُ لَكَانَ الْأَنْسَبُ بِمَقَامِ الْفَضْلِ الَّذِي طَمَحَ إلَيْهِ نَظَرُ الشَّيْخِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : الْآنَ نَقْبَلُك وَنُكْرِمُك لِاسْتِلْزَامِ صِحَّةِ إيمَانِهِ رِضَا الْحَقِّ عَنْهُ .
وَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ الرِّضَا الْأَكْبَرُ لَا يُقَالُ لَهُ بِاعْتِبَارِ رِعَايَةِ مَقَامِ الْفَضْلِ جَوَابًا لِإِيمَانِهِ

الصَّحِيحِ { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَهُ أَدْنَى رَوِيَّةٍ وَسَلِيقَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ لَا الْمَرْضِيُّ عَنْهُ ، وَتَخْصِيصُ { وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } بِمَا مَرَّ يَأْبَاهُ هَذَا الْبَيَانُ الَّذِي تَقَرَّرَ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ إيمَانُهُ مُحِيَ عَنْهُ مَا عَصَاهُ وَأَفْسَدَهُ فِي أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ ، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ الْمَحْوِ الْعَظِيمِ يُعَاقَبُ وَيُخَاطَبُ بِذَلِكَ التَّأْنِيبِ الْمَحْضِ وَالتَّقْرِيعِ الصِّرْفِ وَالتَّوْبِيخِ الْحَقِّ ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إلَّا لِإِقَامَةِ أَعْظَمِ نَوَامِيسِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ ، وَتَذْكِيرِهِ بِقَبَائِحِهِ الَّتِي قَدَّمَهَا ، وَإِعْلَامِهِ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي مَنَعَتْهُ عَنْ النُّطْقِ بِالْإِيمَانِ إلَى آخِرِ رَمَقٍ مِنْهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ النُّطْقُ بِهَا حِينَئِذٍ .
سِيَّمَا وَهُوَ بَاقٍ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِرَسُولِهِ وَعِنَادِهِ لِآيَاتِهِ ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْ جَنَابِهِ ، وَتَخْصِيصُ النَّجَاةِ ، بِالْبَدَنِ أَعْظَمُ وَأَعْدَلُ شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهَا إلَّا مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُعْتَبِرُونَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِغَرَقِهِ سِيَّمَا مَعَ دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةَ ، وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَمُوتُ فَأُلْقِيَ بِنَجْوَةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَيْ رَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ ، وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ لِيُعْرَفَ بِهَا ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْبَدَنَ عَلَى الدِّرْعِ وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ يُعْرَفُ بِهَا ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ بِأَبْدَانِك أَيْ دُرُوعِك ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ كَثِيرًا مِنْهَا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَهُوَ عُرْيَانٌ لَا شَيْءَ يَسْتُرُهُ أَوْ أَنَّهُ بَدَنٌ بِلَا رُوحٍ ، وَلَا تُنَافِيهِ الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ لِأَنَّهُ عَلَيْهَا جُعِلَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بَدَنًا عَلَى حَدِّ : شَابَتْ مَفَارِقُهُ .
وَقُرِئَ شَاذًّا أَيْضًا نُنَحِّيكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ نُلْقِيك بِنَاحِيَةٍ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : رَمَاهُ إلَى جَانِبِ الْبَحْرِ كَالثَّوْرِ لِيَكُونَ لِمَنْ

خَلْفَهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ عَلَامَةً عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ مِمَّنْ تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقْصَمَ وَيُؤْخَذَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ ، لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْ طَرِيقَتِهِ مَعَ مَا فِي تَخْصِيصِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ قَوْمِهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى بَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِدْقِ مُوسَى فِيمَا جَاءَ بِهِ ، ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى هَذَا الْمَقَامَ عَزَّ قَائِلًا : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } زَجْرًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّلَائِلِ وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } .
وَمِنْهَا : دَلَّتْ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ فِي جَهَنَّمَ دَائِمٌ مُؤَبَّدٌ وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إلَّا مَا شَاءَ رَبُّك إنَّ رَبَّك فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } فَظَاهِرُهُ أَنَّ مُدَّةَ عِقَابِهِمْ مُسَاوِيَةٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا يَكُونُونَ فِيهِ خَالِدِينَ فِيهَا ، وَقَدْ أَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ بِنَحْوِ عِشْرِينَ وَجْهًا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى حِكْمَةِ التَّقْيِيدِ بِمُدَّةِ دَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَبَعْضُهَا إلَى حِكْمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَعْنَاهُ .
فَمِنْ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْمُرَادَ سَمَوَاتُ الْجَنَّةِ وَأَرْضُهَا ؛ إذْ السَّمَاءُ كُلُّ مَا عَلَاك ، وَالْأَرْضُ كُلُّ مَا اسْتَقْرَيْتَ عَلَيْهِ ، وَكَوْنُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَهُمَا سَمَاءٌ وَأَرْضٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، فَانْدَفَعَ التَّنْظِيرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِلْمُخَاطَبِينَ أَوْ سَمَوَاتِ الدُّنْيَا وَأَرْضِهَا ، وَأُجْرِيَ ذَلِكَ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ دَوَامِ

الشَّيْءِ وَتَأْبِيدِهِ بِذَلِكَ وَنَحْوِهِ كَقَوْلِهِمْ : لَا آتِيك مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ، أَوْ مَا جَنَّ لَيْلٌ وَسَالَ سَيْلٌ ، أَوْ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، أَوْ مَا طَمَا الْبَحْرُ ، أَوْ مَا قَامَ الْجَبَلُ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُ الْعَرَبَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ .
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي عُرْفِهِمْ تُفِيدُ الْأَبَدَ وَالدَّوَامَ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ أَصْلُهَا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ ، وَأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي الْآخِرَةِ يُرَدَّانِ إلَى النُّورِ الَّذِي خُلِقَا مِنْهُ وَهُمَا دَائِمَانِ أَبَدًا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ ، ثُمَّ هَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ التَّقْيِيدِ بِدَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ لَا يَبْقَوْنَ فِي النَّارِ إلَّا بِقَدْرِ مُدَّةِ دَوَامِهِمَا مِنْ حِينِ إيجَادِهِمَا إلَى إعْدَامِهِمَا ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّهُمَا مَتَى كَانَتَا دَائِمَتَيْنِ كَانَ كَوْنُهُمَا فِي النَّارِ بَاقِيًا ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا حَصَلَ الشَّرْطُ وَهُوَ دَوَامُهُمَا حَصَلَ الْمَشْرُوطُ وَهُوَ بَقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا عُدِمَ الشَّرْطُ يُعْدَمُ الْمَشْرُوطُ ، وَنَظِيرُهُ أَنَّك إذَا قُلْت : إنْ كَانَ هَذَا إنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ ، ثُمَّ قُلْت : لَكِنَّهُ إنْسَانٌ ، أَنْتَجَ أَنَّهُ حَيَوَانٌ ، أَوْ لَكِنَّهُ لَيْسَ هَذَا بِإِنْسَانٍ لَمْ يُنْتِجْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ عَقِيمٌ ، فَكَذَا هُنَا إذَا قُلْنَا : مَا دَامَتَا بَقِيَ عِقَابُهُمْ ، ثُمَّ قُلْنَا : لَكِنَّهُمَا دَائِمَتَانِ لَزِمَ دَوَامُ عِقَابِهِمْ .
أَوْ لَكِنَّهُمَا مَا بَقِيَتَا لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ دَوَامِ عِقَابِهِمْ .
لَا يُقَالُ : إذَا دَامَ عِقَابُهُمْ بَقِيَتَا أَوْ عُدِمَتَا فَلَا فَائِدَةَ لِلتَّقْيِيدِ بِدَوَامِهِمَا .
لِأَنَّا نَقُولُ : بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعَذَابِ دَهْرًا دَائِمًا طَوِيلًا لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِقَدْرِ طُولِهِ وَامْتِدَادِهِ ،

فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ لِذَلِكَ الْعَذَابِ آخِرٌ أَمْ لَا ؟ فَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَهُوَ الْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَأْبِيدِ خُلُودِهِمْ الْمُسْتَلْزِمِ أَنَّهُ لَا آخِرَ لَهُ .
وَمِنْ الثَّانِي : أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ مَنْ فِيهَا لِأَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ إلَى الزَّمْهَرِيرِ ، وَإِلَى شُرْبِ الْحَمِيمِ ثُمَّ يَعُودُونَ فِيهَا فَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا إلَّا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ ، فَإِنَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَوْقَاتَ عَذَابٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا حِينَئِذٍ فِيهَا حَقِيقَةً أَوْ أَنَّ مَا لِمَنْ يَعْقِلُ كَ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً لِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضَمِيرِ خَالِدِينَ مُتَّصِلًا بِنَاءً عَلَى شُمُولِ شَقُوا لَهُمْ أَوْ مُنْقَطِعًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ شُمُولِهِ لَهُمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَوْ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ ، وَإِلَّا بِمَعْنَى سِوَى : أَيْ مَا دَامَتَا سِوَى مَا شَاءَ رَبُّك زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ ، وَبَقِيَتْ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَعْرَضْتُ عَنْهَا لِبُعْدِهَا ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تَصْفِقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَذَلِكَ بَعْدَمَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا } .
لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ مَنْ قَالُوا فِيهِ : إنَّهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَصَاحِبُ أَكَاذِيبَ كَثِيرَةٍ عَظِيمَةٍ ، نَعَمْ نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٍ .
وَذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ انْتَهَى .
وَيَرُدُّ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْحَسَنِ قَوْلَ غَيْرِهِ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ ، قَالَ ثَابِتٌ : سَأَلْت الْحَسَنَ عَنْ هَذَا فَأَنْكَرَهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ .
وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَمَعْنَى كَلَامِهِمْ كَمَا

قَالَهُ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ .
أَمَّا مَوَاضِعُ الْكُفَّارِ فَهِيَ مُمْتَلِئَةٌ بِهِمْ لَا يُخْرَجُونَ عَنْهَا أَبَدًا ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَفِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ .
قَالَ قَوْمٌ : إنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعٌ ، وَلَهُ نِهَايَةٌ ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَبِ { لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } وَبِأَنَّ مَعْصِيَةَ الظُّلْمِ مُتَنَاهِيَةٌ ، فَالْعِقَابُ عَلَيْهَا بِمَا لَا يَتَنَاهَى ظُلْمٌ انْتَهَى .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ مَرَّ وقَوْله تَعَالَى : { أَحْقَابًا } لَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ نِهَايَةً لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ بِهِ وَبِنَحْوِهِ عَنْ الدَّوَامِ ، وَلَا ظُلْمَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ حَيًّا فَعُوقِبَ دَائِمًا فَهُوَ لَمْ يُعَاقَبْ بِالدَّائِمِ إلَّا عَلَى دَائِمٍ ، فَلَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ إلَّا جَزَاءً وِفَاقًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْيِيدَ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا ظَاهِرَهُمَا بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { غَيْرَ مَجْذُوذٍ } فَيُؤَوَّلُ بِنَظِيرِ مَا مَرَّ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا إذَا جَعَلْنَاهَا بِمَعْنًى مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوهَا إلَّا بَعْدُ ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاَلَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ : { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أَيْ مَقْطُوعٍ ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِاَلَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ النَّارِ .
[ خَاتِمَةٌ ] أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْكَعْبَةِ { مَا أَطْيَبَك وَأَطْيَبَ رِيحَك ، مَا أَعْظَمَك وَأَعْظَمَ حُرْمَتَك ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْك مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إلَّا خَيْرًا } .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ جَاءَ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيَتَّقِي الْكَبَائِرَ فَإِنَّ

لَهُ الْجَنَّةَ ، قَالُوا : وَمَا هِيَ الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ } الْحَدِيثَ .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ .
وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِي وَأَسْلَمَ وَهَاجَرَ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ - أَيْ أَسْفَلِهَا - وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا ، وَلَا مِنْ الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يَمُوتَ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ مَاتَ وَاَللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ } .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُعْطَى عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُعْطَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إذَا أَفْضَى إلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يُقْبَلُ إيمَانٌ بِلَا عَمَلٍ ، وَلَا عَمَلٌ بِلَا إيمَانٍ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ : { إنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا فَقَالَ اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُك وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ ، إنَّمَا مَثَلُك وَمَثَلُ أُمَّتِك كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إلَى طَعَامِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ ، فَاَللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ ، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ ، مَنْ أَجَابَك دَخَلَ الْإِسْلَامَ ، وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مَا فِيهَا } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْمُوَحِّدِينَ فِي جَهَنَّمَ بِقَدْرِ نُقْصَانِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يَرُدُّهُمْ إلَى الْجَنَّةِ خُلُودًا دَائِمًا أَبَدًا بِإِيمَانِهِمْ } .
وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : {

طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي مَرَّةً وَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي سَبْعَ مَرَّاتٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّيَالِسِيِّ : ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ بِهِ } .
وَمُسْلِمٌ : { أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } .

( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ : الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ وَهُوَ الرِّيَاءُ ) قَدْ شَهِدَ بِتَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ .
أَمَّا الْكِتَابُ : فَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ قَائِلًا : { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَاب شَدِيدٌ } قَالَ مُجَاهِدٌ : هُمْ أَهْلُ الرِّيَاءِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } أَيْ لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ وَمِنْ ثَمَّ نَزَلَتْ فِيمَنْ يَطْلُبُ الْأَجْرَ وَالْحَمْدَ بِعِبَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ : { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا جَزَى النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ : اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا اُنْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ أَدْنَى الرِّيَاءِ وَأَحَبَّ الْعَبِيدِ إلَى اللَّهِ الْأَتْقِيَاءُ الْأَسْخِيَاءُ الْأَخْفِيَاءُ } أَيْ الْمُبَالِغُونَ فِي سَتْرِ عِبَادَاتِهِمْ وَتَنْزِيهِهَا عَنْ شَوَائِبِ الْأَغْرَاضِ الْفَانِيَةِ وَالْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ { الَّذِينَ إذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا ، وَإِذَا شَهِدُوا - أَيْ حَضَرُوا - لَمْ يُعْرَفُوا أُولَئِكَ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ وَالرِّيَاءُ شِرْكٌ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ أَمَا إنِّي لَسْتُ أَقُولُ يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَشَهْوَةً خَفِيَّةً } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ : { الشِّرْكُ أَخْفَى فِي أُمَّتِي مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا } .
وَالْحَاكِمُ : { الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ لِمَكَانِ الرَّجُلِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ وَالْحَاكِمُ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { الشِّرْكُ أَخْفَى فِي أُمَّتِي مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى

الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْجَوْرِ أَوْ تُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعَدْلِ وَهَلْ الدِّينُ إلَّا الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ { إنَّ اللَّهَ إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إلَى الْعِبَادِ أَيْ يَتَجَلَّى لَهُمْ تَجَلِّيًا مُنَزَّهًا عَنْ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَسَائِرِ لَوَازِمِ الْجِهَاتِ وَالْأَجْسَامِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ ، فَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ : أَلَمْ أُعَلِّمْك مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ .
قَالَ : فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ ؟ قَالَ : كُنْتُ أَقُومُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ : لَهُ كَذَبْتَ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْك حَتَّى لَمْ أَدَعْك تَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُك ؟ قَالَ : كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ ، وَيُؤْتَى بِاَلَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : فِي مَاذَا قُتِلْتَ ؟ ، فَيَقُولُ : أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِك فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ ، فَيَقُولُ اللَّهُ : لَهُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ : لَهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ أَيْ شُجَاعٌ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ اُسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ - أَيْ اللَّهُ - نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا : قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا

؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اُسْتُشْهِدْتُ ، قَالَ : كَذَبْتَ وَلَكِنَّك قَاتَلْتَ لِيُقَالَ : جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ؛ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ .
قَالَ : كَذَبْتَ وَلَكِنَّك تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ ، فَقَالَ : فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا قَالَ : كَذَبْتَ وَلَكِنَّك فَعَلْتَهُ لِيُقَالَ : هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ } .
وَالْحَاكِمُ : { أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ ، فَيَقُولُ : رَبِّ عَلَّمْتَنِي الْكِتَابَ فَقَرَأْتُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَيْ سَاعَاتِهِمَا رَجَاءَ ثَوَابِك ، فَيَقُولُ : كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تُصَلِّي لِيُقَالَ : إنَّك قَارِئٌ مُصَلٍّ وَقَدْ قِيلَ ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ ؛ ثُمَّ يُؤْتَى بِآخَرَ ، فَيَقُولُ : رَبِّ رَزَقْتَنِي مَالًا فَوَصَلْتُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَحَمَّلْتُ بِهِ ابْنَ السَّبِيلِ رَجَاءَ ثَوَابِك وَجَنَّتِك ، فَيُقَالُ : كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تَتَصَدَّقُ وَتَصِلُ لِيُقَالَ : إنَّهُ سَمْحٌ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ ، ثُمَّ يُجَاءُ بِالثَّالِثِ فَيَقُولُ : رَبِّ خَرَجْتُ فِي سَبِيلِك فَقَاتَلْتُ فِيك غَيْرَ مُدْبِرٍ رَجَاءَ ثَوَابِك وَجَنَّتِك فَيُقَالُ : كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تُقَاتِلُ لِيُقَالَ : إنَّك جَرِيءٌ وَشُجَاعٌ فَقَدْ قِيلَ ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ } .
وَالْحَاكِمُ : { ثَلَاثَةٌ

مُهْلَكُونَ عِنْدَ الْحِسَابِ : جَوَّادٌ وَشُجَاعٌ وَعَالِمٌ } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { إذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ } .
وَالطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ : " إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي مَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا فَإِنَّ عَمَلَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِي ، أَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ } .
وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ، إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُتِيَ بِصُحُفٍ مُخْتَمَةٍ فَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : اقْبَلُوا هَذَا وَأَلْقُوا هَذَا ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : وَعِزَّتِك مَا رَأَيْنَا إلَّا خَيْرًا ، فَيَقُولُ : نَعَمْ لَكِنْ كَانَ لِغَيْرِي وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي } وَفِي رِوَايَةٍ : { إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُجَاءُ بِالْأَعْمَالِ فِي صُحُفٍ مُخْتَمَةٍ ، فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - اقْبَلُوا هَذَا وَرُدُّوا هَذَا ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ وَعِزَّتِك مَا كَتَبْنَا إلَّا مَا عَمِلَ ، فَيَقُولُ : إنَّ عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي ، وَإِنِّي لَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ إلَّا مَا كَانَ لِوَجْهِي } .
وَفِي أُخْرَى لِابْنِ عَسَاكِرَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ : { يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصُحُفٍ مَخْتُومَةٍ فَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ : أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ وَعِزَّتِك مَا رَأَيْنَا إلَّا خَيْرًا ، فَيَقُولُ - وَهُوَ أَعْلَمُ - : إنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِي لَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي } .
وَفِي أُخْرَى مُرْسَلَةٍ لِابْنِ الْمُبَارَكِ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ يَرْفَعُونَ عَمَلَ الْعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ

يَسْتَكْثِرُونَهُ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهِ إلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنْ سُلْطَانِهِ فَيُوحِي اللَّهُ إلَيْهِمْ : إنَّكُمْ حَفَظَةٌ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي وَأَنَا رَقِيبٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ ، إنَّ عَبْدِي هَذَا لَمْ يُخْلِصْ لِي فِي عَمَلِهِ فَاجْعَلُوهُ فِي سِجِّينٍ ، وَيَصْعَدُونَ بِعَمَلِ الْعَبْدِ يَسْتَقِلُّونَهُ وَيُحَقِّرُونَهُ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهِ إلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنْ سُلْطَانِهِ فَيُوحِي إلَيْهِمْ إنَّكُمْ حَفَظَةٌ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي وَأَنَا رَقِيبٌ عَلَى نَفْسِهِ ، إنَّ عَبْدِي هَذَا أَخْلَصَ لِي عَمَلَهُ فَاجْعَلُوهُ فِي عِلِّيِّينَ } .
وَابْنُ سَعْدٍ : { إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِمَّنْ عَمِلَ لَهُ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الَّذِينَ إذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا .
وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ } .
وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَتَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ يَدْخُلُهُ الْقُرَّاءُ الْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَإِنَّ أَبْغَضَ الْقُرَّاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ : { إنَّ فِي جَهَنَّمَ لَوَادِيًا تَسْتَعِيذُ جَهَنَّمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ أُعِدَّ ذَلِكَ الْوَادِي لِلْمُرَائِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ لِحَامِلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِلْمُتَصَدِّقِ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ وَلِلْحَاجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلِلْخَارِجِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ : { مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالْعُقَيْلِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ : { أَبْغَضُ الْعِبَادِ إلَى اللَّهِ مَنْ كَانَ ثَوْبَاهُ خَيْرًا مِنْ عَمَلِهِ أَنْ تَكُونَ ثِيَابُهُ ثِيَابَ الْأَنْبِيَاءِ

وَعَمَلُهُ عَمَلَ الْجَبَّارِينَ } .
وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي سِتْرِ الصُّوفِيَّةِ ، وَالدَّيْلَمِيُّ : { احْذَرُوا الشُّهْرَتَيْنِ : الصُّوفَ وَالْخَزَّ ، أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ أَنَّ فِيهِ خَيْرًا وَلَا خَيْرَ فِيهِ } وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ مُرَاءٍ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ الْأَرْضَ لَتَعِجُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ رِيَاءً } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلَّا السَّهَرُ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { رُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ، وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ .
{ رِيحُ الْجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَلَا يَجِدُهُ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ ثُمَّ أَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ تَزَيَّنَ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا وَلَا يَطْلُبُهَا لُعِنَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { إذَا تَزَيَّنَ الْقَوْمُ بِالْآخِرَةِ وَتَجَمَّلُوا لِلدُّنْيَا فَالنَّارُ مَأْوَاهُمْ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ رَاءَى بِاَللَّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ فَإِنَّهُ فِي مَقْتِ اللَّهِ حَتَّى يَجْلِسَ } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
{ مَنْ يُرَاءِ يُرَاءِ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعْ اللَّهُ بِهِ } .
وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ : أَيْ مَنْ يُظْهِرْ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ رِيَاءً يُسَمِّعْ اللَّهُ بِهِ أَيْ يَفْضَحْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَعْنَى مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ أَيْ مَنْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لِيَعْظُمَ عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ رَاءَى اللَّهُ بِهِ : أَيْ أَظْهَرَ

سَرِيرَتَهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد : { الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } .
وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ : { الشِّرْكُ فِي أُمَّتِي أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا } أَيْ عَلَى الْحَجَرِ الْأَمْلَسِ .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ، قَالُوا : وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك أَنْ نُشْرِكَ بِك شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا نَعْلَمُهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ وَسَأَدُلُّك عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتَهُ أَذْهَبَ عَنْك صِغَارَ الشِّرْكِ وَكِبَارَهُ تَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ ، تَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } .
وَفِي أُخْرَى عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ الْحَكِيمِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ بَلَاغًا : { يَا أَبَا بَكْرٍ الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ، إنَّ مِنْ الشِّرْكِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ ، وَمِنْ النِّدِّ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : لَوْلَا فُلَانٌ لَقَتَلَنِي فُلَانٌ ، أَفَلَا أَدُلُّك عَلَى مَا يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ عَنْك صِغَارَ الشِّرْكِ وَكِبَارَهُ ؛ تَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُشْرِكُ أُمَّتُك مِنْ بَعْدِك ؟ قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا إنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضَ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكَ صَوْمَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : {

يُصْبِحُ الْعَبْدُ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيُوَاقِعُهَا وَيَدَعُ صَوْمَهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلًا سِرًّا فَيَكْتُبُهُ اللَّهُ عِنْدَهُ سِرًّا ، فَلَا يَزَالُ بِهِ الشَّيْطَانُ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ فَيُمْحَى مِنْ السِّرِّ وَيُكْتَبَ عَلَانِيَةً فَإِنْ عَادَ تَكَلَّمَ الثَّانِيَةَ مُحِيَ مِنْ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَكُتِبَ رِيَاءً } .
وَالْخَطِيبُ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي شَيْئًا فَهُوَ لِشَرِيكِي ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا أُخْلِصَ لَهُ وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ فَإِنَّهُ لِلرَّحِمِ وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهُ شَيْءٌ } ، وَأَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَيْ رِيحَهَا الطَّيِّبَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ الرِّيَاءُ ، يُقَالُ : لِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا جَاءَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فَاطْلُبُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ } .
وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ ، الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِمَكَانِ الرَّجُلِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إيَّاكُمْ أَنْ تَخْلِطُوا طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِحُبِّ ثَنَاءِ الْعِبَادِ فَتَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ .
{ أَيُّهَا النَّاسُ إيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّيَ فَيُزَيِّنَ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إلَيْهِ فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : { إيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ أَنْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا لِمَا يَلْحَظُهُ مِنْ الْحَدَقِ وَالنَّظَرِ فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { الشِّرْكُ أَخْفَى

فِي أُمَّتِي مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا وَلَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْكُفْرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ } وَابْنُ جَرِيرٍ وَالنَّسَائِيُّ : { قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ وَأَنَا أَغْنَى عَنْ الشُّرَكَاءِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُومُ فِي الدُّنْيَا مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ إلَّا سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ الْأَعْظَمَ .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { مَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ شَنَأَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَالْحَاكِمُ : { مَنْ تَهَيَّأَ لِلنَّاسِ بِقَوْلِهِ وَلِبَاسِهِ وَخَالَفَ ذَلِكَ فِي أَعْمَالِهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } .
وَالطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ صَلَّى وَهُوَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ صَامَ وَهُوَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ سَعْدٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ السَّكَنِ وَالْبَاوَرْدِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ نَافِعٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : { مَنْ قَامَ بِخُطْبَةٍ لَا يَلْتَمِسُ بِهَا إلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً أَوْقَفَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَوْقِفَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعْ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ يُرَاءِ يُرَاءِ اللَّهُ بِهِ : وَمَنْ كَانَ ذَا لِسَانَيْنِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ النَّجَّارِ : { يُؤْمَرُ بِنَاسٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { بِفِئَةٍ } أَيْ جَمَاعَةٍ : { مِنْ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إذَا دَنَوْا مِنْهَا وَاسْتَنْشَقُوا رِيحَهَا وَنَظَرُوا إلَى قُصُورِهَا ، وَإِلَى مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا نُودُوا أَنْ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا

فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ مَا رَجَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بِمِثْلِهَا ، فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِك وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لِأَوْلِيَائِك كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا ، قَالَ : ذَاكَ أَرَدْتُ بِكُمْ يَا أَشْقِيَاءُ كُنْتُمْ إذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ ، وَإِذَا لَقِيتُمْ النَّاسَ لَقِيتُمُونِي مُخْبِتِينَ ، تُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِكُمْ خِلَافَ مَا تُعْطُونِي مِنْ قُلُوبِكُمْ .
هِبْتُمْ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي وَأَجْلَلْتُمْ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي وَتَرَكْتُمْ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوا لِي فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ الْعَذَابَ مَعَ مَا حُرِمْتُمْ مِنْ الثَّوَابِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ أَلِيمَ عَذَابِي مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِي } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { لَا يَسْمَعُ اللَّهُ مِنْ مُسَمِّعٍ وَلَا مِنْ مُرَاءٍ وَلَا لَاهٍ وَلَا لَاعِبٍ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ لِيَسْمَعَ أَهْلُ الْجَمْعِ : أَيْنَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النَّاسَ قُومُوا وَخُذُوا أُجُورَكُمْ مِمَّنْ عَمِلْتُمْ لَهُ فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ عَمَلًا خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا } .
وَالذَّهَبِيُّ : { سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا النَّجَاةُ غَدًا ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْ لَا تُخَادِعَ اللَّهَ .
قَالَ : وَكَيْفَ يُخَادَعُ اللَّهُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْمَلَ بِمَا أَمَرَك اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتُرِيدَ بِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ ، فَاتَّقُوا الرِّيَاءَ فَإِنَّهُ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَإِنَّ الْمُرَائِيَ يُنَادَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءَ : يَا كَافِرُ يَا فَاجِرُ يَا غَادِرُ يَا خَاسِرُ ضَلَّ عَمَلُك وَبَطَلَ أَجْرُك فَلَا خَلَاقَ } أَيْ نَصِيبَ { لَك الْيَوْمَ فَالْتَمِسْ أَجْرَك مِمَّنْ كُنْتَ لَهُ تَعْمَلُ يَا مُخَادِعُ } .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ : فَهُوَ وَاضِحٌ بَعْدَ أَنْ عَلِمْتَ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّنِيَّةِ

، وَمِنْ ثَمَّ تَطَابَقَتْ كَلِمَاتُ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَمِّهِ وَأَطْبَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَتَعْظِيمِ إثْمِهِ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَنْ رَآهُ يُطَأْطِئُ رَقَبَتَهُ : يَا صَاحِبَ الرَّقَبَةِ ارْفَعْ رَقَبَتَك ، لَيْسَ الْخُشُوعُ فِي الرِّقَابِ وَإِنَّمَا الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ .
وَرَأَى أَبُو أُمَامَةَ رَجُلًا يَبْكِي فِي الْمَسْجِدِ فِي سُجُودِهِ فَقَالَ : أَنْتَ أَنْتَ لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْتِك .
وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : لِلْمُرَائِي ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ : يَكْسَلُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ ، وَيَنْشَطُ إذَا كَانَ فِي النَّاسِ ، وَيَزِيدُ فِي الْعَمَلِ إذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ وَيَنْقُصُ إذَا ذُمَّ .
وَقَالَ : يُعْطَى الْعَبْدُ عَلَى نِيَّتِهِ مَا لَا يُعْطَى عَلَى عَمَلِهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا رِيَاءَ فِيهَا .
{ وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَنْ قَالَ : أُقَاتِلُ بِسَيْفِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَمَحْمَدَةَ النَّاسِ : لَا شَيْءَ لَك ، لَا شَيْءَ لَك ، لَا شَيْءَ لَك ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ } الْحَدِيثَ ، وَقَدْ ذَمَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مَنْ يَقُولُ : هَذِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ وَوَجْهِ فُلَانٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَقَالَ قَتَادَةُ : إذَا رَاءَى الْعَبْدُ يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - : عَبْدِي يَسْتَهْزِئُ بِي .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَهِرَ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مُرَاءٍ فَلْيَنْظُرْ إلَيَّ ، وَقَالَ أَيْضًا : تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَك اللَّهُ مِنْهُمَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَثَلُ مَنْ يَعْمَلُ رِيَاءً وَسُمْعَةً كَمَثَلِ مَنْ مَلَأَ كِيسَهُ حَصًى ثُمَّ دَخَلَ السُّوقَ لِيَشْتَرِيَ بِهِ ، فَإِذَا فَتَحَهُ بَيْنَ يَدَيْ الْبَائِعِ افْتَضَحَ ، وَضَرَبَ بِهِ وَجْهَهُ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِهِ مَنْفَعَةٌ سِوَى قَوْلِ النَّاسِ : مَا أَمْلَأَ

كِيسَهُ وَلَا يُعْطَى بِهِ شَيْئًا ، فَكَذَلِكَ مَنْ عَمِلَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي عَمَلِهِ سِوَى مَقَالَةِ النَّاسِ وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ .
قَالَ تَعَالَى : { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } أَيْ الْأَعْمَالُ الَّتِي قُصِدَ بِهَا غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَبْطُلُ ثَوَابُهَا صَارَتْ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ ، وَهُوَ الْغُبَارُ الَّذِي يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ .
( تَنْبِيهَاتٌ ) مِنْهَا : الرِّيَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَالسُّمْعَةُ مِنْ السَّمَاعِ .
وَحَدُّ الرِّيَاءِ الْمَذْمُومِ إرَادَةُ الْعَامِلِ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كَأَنْ يَقْصِدَ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى عِبَادَتِهِ وَكَمَالِهِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مِنْهُمْ نَحْوُ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ ثَنَاءٍ .
إمَّا بِإِظْهَارِ نُحُولٍ وَصُفْرَةٍ ، وَنَحْوِ تَشَعُّثِ شَعْرٍ ، وَبَذَاذَةِ هَيْئَةٍ ، وَخَفْضِ صَوْتٍ ، وَغَمْضِ جَفْنٍ إيهَامًا لِشِدَّةِ اجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَحُزْنِهِ وَقِلَّةِ أَكْلِهِ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ لِاشْتِغَالِهِ عَنْهَا بِالْأَهَمِّ ، وَتَوَالِي صَوْمِهِ وَسَهَرِهِ ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا ، وَمَا دَرَى الْمَخْذُولُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَقْبَحُ مِنْ أَرَاذِلِهِمْ كَالْمَكَّاسِينَ وَقُطَّاعِ السَّبِيلِ .
وَأَمْثَالِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِذُنُوبِهِمْ لَا غُرُورَ لَهُمْ فِي الدِّينِ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْمَخْذُولِ الْمَمْقُوتِ .
وَإِمَّا بِإِظْهَارِ زِيِّ الصَّالِحِينَ كَإِطْرَاقِ الرَّأْسِ فِي الْمَشْيِ وَالْهُدُوءِ فِي الْحَرَكَةِ ، وَإِبْقَاءِ أَثَرِ السُّجُودِ عَلَى الْوَجْهِ وَلُبْسِ الصُّوفِ وَخَشِنِ الثِّيَابِ وَتَقْصِيرِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ إيهَامًا أَنَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالسَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ - عَنْ مُحِقِّيهِمْ وَخَذَلَ مُبْطِلِيهِمْ مَعَ الْإِفْلَاسِ عَنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالتَّصَوُّفِ بِبَاطِنِهِ ، وَمَا دَرَى الْمُخَادِعُ أَنَّ كُلَّ مَا وَصَلَ إلَيْهِ لِأَجْلِ هَذَا التَّلْبِيسِ حَرَامٌ عَلَيْهِ قَبُولُهُ ، فَإِنْ قَبِلَهُ كَانَ فَاسِقًا لِأَكْلِهِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .
وَإِمَّا

بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ ، وَإِظْهَارِ حِفْظِ السُّنَنِ وَلِقَاءِ الْمَشَايِخِ وَإِتْقَانِ الْعُلُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطُّرُقِ الْكَثِيرَةِ ؛ إذْ الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ كَثِيرٌ وَأَنْوَاعُهُ لَا تَنْحَصِرُ .
وَإِمَّا بِنَحْوِ تَطْوِيلِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَتَحْسِينِهَا ، وَإِظْهَارِ التَّخَشُّعِ فِيهَا وَكَذَا الصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ .
وَأَنْوَاعُ الرِّيَاءِ بِالْأَعْمَالِ لَا تَنْحَصِرُ ، وَرُبَّمَا أَنَّ الْمُرَائِيَ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى إحْكَامِ الرِّيَاءِ ، وَإِتْقَانِهِ يَتَأَلَّفُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ فِي خَلَوَاتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ خُلُقًا لَهُ فِي الْمَلَإِ لَا لِلْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءِ مِنْهُ .
وَإِمَّا بِالْأَصْحَابِ وَالزَّائِرِينَ وَالْمُخَالِطِينَ كَمَنْ يَطْلُبُ مِنْ عَالِمٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ صَالِحٍ أَنْ يَأْتِيَ إلَيْهِ لِزِيَارَتِهِ إيهَامًا لِرِفْعَتِهِ وَتَبَرُّكِ الْأَكَابِرِ بِهِ ، وَكَمَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ لَقِيَ شُيُوخًا كَثِيرِينَ افْتِخَارًا بِهِمْ وَتَرَفُّعًا بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ .
فَهَذِهِ مَجَامِعُ أَبْوَابِ الرِّيَاءِ الْحَامِلِ إيثَارُهَا عَلَى طَلَبِ نَحْوِ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ وَاشْتِهَارِ الصِّيتِ حَتَّى تَنْطَلِقَ الْأَلْسُنُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَيُجْلَبَ الْحُطَامُ مِنْ سَائِرِ الْآفَاقِ إلَيْهِ .
وَمِنْهَا : حَيْثُ أُطْلِقَ الرِّيَاءُ عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَذْمُومُ الَّذِي مَرَّ حَدُّهُ ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ الرِّيَاءِ فَعِبَادَتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَلَيْتَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ السُّوءِ غَيْرُ ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ عَظِيمُ الْإِثْمِ وَقَبِيحُ الذَّمِّ ، كَمَا عُلِمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ ، وَالْمَعْنَى فِي تَحْرِيمِهِ وَكَوْنِهِ كَبِيرَةً وَشِرْكًا - مُقْتَضِيًا لِلَّعْنِ - أَنَّ فِيهِ اسْتِهْزَاءً بِالْحَقِّ تَعَالَى كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الْأَحَادِيثِ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَتَادَةُ كَمَا مَرَّ : إذَا رَاءَى الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : اُنْظُرُوا إلَيْهِ كَيْفَ يَسْتَهْزِئُ بِي ، وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ أَحَدَ خُدَّامِ الْمَلِكِ الْقَائِمِينَ فِي

خِدْمَتِهِ لَوْ كَانَ قَاصِدًا بِوُقُوفِهِ فِيهَا مُلَاحَظَةَ أَمَةٍ أَوْ أَمْرَدَ لِلْمَلِكِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ اسْتِهْزَاءً بِذَلِكَ الْمَلِكِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَقَرُّبًا إلَيْهِ بِوَجْهٍ مَعَ إيهَامِهِ أَنَّهُ عَلَى غَايَةٍ مِنْ التَّقَرُّبِ ، وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ اسْتِحْقَارٍ وَاسْتِهْزَاءٍ يَزِيدُ عَلَى قَصْدِك - بِعِبَادَةِ رَبِّك - مِثْلَك عَاجِزًا عَنْ نَفْسِهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ فَضْلًا عَنْك ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَصْدُك إيَّاهُ مُتَبَرِّعًا بِعِبَادَتِك يُنْبِئُ عَنْ اعْتِقَادِك فِيهِ أَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى تَحْصِيلِ أَغْرَاضِك مِنْ اللَّهِ فَرَفَعْتَ الْعَبْدَ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ عَلَى مَوْلَاك الْقَوِيِّ الْقَادِرِ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الرِّيَاءُ مِنْ كَبَائِرِ الْكَبَائِرِ الْمُهْلِكَةِ ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ " .
وَفِيهِ أَيْضًا تَلْبِيسٌ عَلَى الْخَلْقِ لِإِيهَامِهِ لَهُمْ أَنَّهُ مُخْلِصٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ بَلْ التَّلْبِيسُ فِي الدُّنْيَا حَرَامٌ أَيْضًا حَتَّى لَوْ قَضَى دَيْنَ إنْسَانٍ لِيُخَيِّلَ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ حَتَّى يَعْتَقِدُوا سَخَاوَتَهُ أَثِمَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّلْبِيسِ وَتَمَلُّكِ الْقُلُوبِ بِالْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ تَقَرَّرَ وَجْهُ كَوْنِ الرِّيَاءِ الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ ، فَمَا وَجْهُ افْتِرَاقِهِ مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ ؟ قُلْت : يَتَّضِحُ ذَلِكَ بِمِثَالٍ هُوَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ : إنَّهُ صَالِحٌ مَثَلًا يَكُونُ رِيَاؤُهُ سَبَبًا بَاعِثًا لَهُ عَلَى الْعَمَلِ ، لَكِنَّهُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ الْعَمَلِ تَارَةً يَقْصِدُ بِهِ تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَارَةً لَا يَقْصِدُ بِهِ شَيْئًا ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مُكَفِّرٌ بِخِلَافِ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي هَذَا إلَّا إذَا قَصَدَ بِالسُّجُودِ مَثَلًا تَعْظِيمَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَائِيَ إنَّمَا نَشَأَ لَهُ ذَلِكَ الشِّرْكُ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ عَظُمَ قَدْرُ الْمَخْلُوقِ

عِنْدَهُ حَتَّى حَمَلَهُ ذَلِكَ التَّعْظِيمُ عَلَى أَنْ يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ ، فَكَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْمُعَظَّمُ بِالسُّجُودِ مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ لَا الْجَلِيِّ وَذَلِكَ غَايَةُ الْجَهْلِ ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ خَدَعَهُ الشَّيْطَانُ وَأَوْهَمَ عِنْدَهُ أَنَّ الْعَبْدَ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يَمْلِكُ مِنْ مَعَايِشِهِ وَمَنَافِعِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَمْلِكُهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ بِوَجْهِهِ وَقَصْدِهِ إلَيْهِمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَقْبَلَ يَسْتَمِيلُ قَلْبَهُمْ فَيَكِلُهُ - تَعَالَى - إلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ : { اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فَاطْلُبُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ } ، وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا سِيَّمَا فِي الْآخِرَةِ : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } { يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ } .
وَقَدْ يُطْلَقُ الرِّيَاءُ عَلَى أَمْرٍ مُبَاحٍ وَهُوَ طَلَبُ نَحْوِ الْجَاهِ وَالتَّوْقِيرِ بِغَيْرِ عِبَادَةٍ كَأَنْ يَقْصِدَ بِزِينَةِ لِبَاسِهِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِالنَّظَافَةِ وَالْجَمَالَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ كُلِّ تَجَمُّلٍ وَتَزَيُّنٍ وَتَكَرُّمٍ لِأَجْلِ النَّاسِ .
كَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ لَا فِي مَعْرِضِ الْعِبَادَةِ وَالصَّدَقَةِ بَلْ لِيُقَالَ : إنَّهُ سَخِيٌّ .
وَوَجْهُ عَدَمِ حَرَكَةِ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا مَرَّ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ التَّلْبِيسِ بِالدِّينِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، { وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ سَوَّى عِمَامَتَهُ وَشَعْرَهُ وَنَظَرَ وَجْهَهُ فِي الْمِرْآةِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَوَتَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ الْعَبْدِ أَنْ يَتَزَيَّنَ لِإِخْوَانِهِ إذَا خَرَجَ

إلَيْهِمْ } .
نَعَمْ هَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِبَادَةٌ مُتَأَكِّدَةٌ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ وَاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِمْ مَا أَمْكَنَهُ .
إذْ لَوْ سَقَطَ مِنْ أَعْيُنِهِمْ لَأَعْرَضُوا عَنْهُ فَلَزِمَهُ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ مَحَاسِنَ أَحْوَالِهِ لِئَلَّا يَزْدَرُوهُ فَيُعْرِضُوا عَنْهُ لِامْتِدَادِ أَعْيُنِ عَامَّةِ الْخَلْقِ إلَى الظَّوَاهِرِ دُونَ السَّرَائِرِ ، فَهَذَا قَصْدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ قُرْبَةٌ أَيُّ قُرْبَةٍ ، وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ إذَا قَصَدُوا بِتَحْسِينِ هَيْئَاتِهِمْ نَحْوَ ذَلِكَ .

وَمِنْهَا : اخْتَلَفَ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِيمَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ الرِّيَاءَ وَالْعِبَادَةَ ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ : إنْ غَلَبَ بَاعِثُ الدُّنْيَا فَلَا ثَوَابَ لَهُ ، أَوْ بَاعِثُ الْآخِرَةِ فَلَهُ الثَّوَابُ وَإِنْ تَسَاوَيَا تَسَاقَطَا فَلَا ثَوَابَ أَيْضًا ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : لَا ثَوَابَ مُطْلَقًا لِلْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ كَخَبَرِ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ هُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ } .
وَأَوَّلَ الْغَزَالِيُّ الْحَدِيثَ عَلَى مَا إذَا اسْتَوَى الْقَصْدَانِ أَوْ كَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ أَرْجَحَ ، وَصَرِيحُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّ الرِّيَاءَ وَلَوْ مُحَرَّمًا لَا يَمْنَعُ أَصْلَ الثَّوَابِ عِنْدَهُ إذَا كَانَ بَاعِثُ الْعِبَادَةِ أَغْلَبَ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ : لَوْ كَانَ اطِّلَاعُ النَّاسِ مُرَجِّحًا وَمُقَوِّيًا نَشَاطَهُ ، وَلَوْ فُقِدَ لَمْ يَتْرُكْ الْعِبَادَةَ ، وَلَوْ انْفَرَدَ قَصْدُ الرِّيَاءِ لَمَا أَقْدَمَ ، فَاَلَّذِي نَظُنُّهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُحْبِطُ أَصْلَ الثَّوَابِ ، وَلَكِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الرِّيَاءِ وَيُثَابُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الثَّوَابِ انْتَهَى ، وَقَدْ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ : إذَا قَصَدَ الْأَجْرَ وَالْمَحْمَدَةَ جَمِيعًا فِي صَدَقَتِهِ وَصَلَاتِهِ فَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي يُنَاقِضُ الْإِخْلَاصَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي كِتَابِ الْإِخْلَاصِ ، وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ أَصْلًا انْتَهَى ، وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمُصَاحِبُ لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ رِيَاءً مُبَاحًا لَمْ يَقْتَضِ إسْقَاطَ ثَوَابِهَا مِنْ أَصْلِهِ بَلْ يُثَابُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِهِ الْعِبَادَةَ وَإِنْ ضَعُفَ ، أَوْ مُحَرَّمًا اقْتَضَى سُقُوطَهُ مِنْ أَصْلِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ السَّابِقَةُ ، قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ }

قَدْ لَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ تَقْصِيرَهُ بِقَصْدِهِ الْمُحَرَّمَ أَوْجَبَ سُقُوطَ الْأَجْرِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ ذَرَّةٌ مِنْ خَيْرٍ فَلَمْ تَشْمَلْهُ الْآيَةُ .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا عَقَدَ عِبَادَتَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ وَارِدُ الرِّيَاءِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ لِأَنَّهُ تَمَّ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَلَا يَنْعَطِفُ عَلَيْهِ أَثَرُ مَا طَرَأَ إنْ لَمْ يَتَكَلَّفْ إظْهَارَهُ وَالتَّحَدُّثَ بِهِ .
فَإِنْ تَكَلَّفَ ذَلِكَ قَصْدًا لِلرِّيَاءِ قَالَ الْغَزَالِيُّ : فَهَذَا مَخُوفٌ ؛ وَفِي الْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ ، وَسَاقَ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الطَّارِئُ مُبْطِلًا لِثَوَابِ الْعَمَلِ .
قَالَ : بَلْ الْأَقْيَسُ أَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى عَمَلِهِ الَّذِي انْقَضَى وَيُعَاقَبُ عَلَى مُرَاءَاتِهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَلَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَغَيَّرَ عَقْدُهُ إلَى الرِّيَاءِ فِي أَثْنَائِهَا فَإِنَّهُ يُحْبِطُهَا بَلْ يُفْسِدُهَا إنْ تَمَحَّضَ قَصْدُ الرِّيَاءِ فَإِنْ لَمْ يَتَمَحَّضْ لَكِنَّهُ غَلَبَ حَتَّى انْغَمَرَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ فِيهِ فَهَذَا يَتَرَدَّدُ فِي إفْسَادِهِ لِلْعِبَادَةِ ، وَمَيْلُ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ إلَى إفْسَادِهِ .
وَالْأَحْسَنُ عِنْدَنَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ إذَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ بَلْ بَقِيَ الْعَمَلُ صَادِرًا عَنْ بَاعِثِ الدِّينِ ، وَإِنَّمَا انْضَافَ إلَيْهِ سُرُورٌ بِاطِّلَاعٍ فَلَا يَفْسُدُ عَمَلُهُ لِبَقَاءِ أَصْلِ النِّيَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ وَالْحَامِلَةِ عَلَى إتْمَامِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَرَضَ لَهُ مَا لَوْلَا النَّاسُ لَقَطَعَ صَلَاتَهُ مَثَلًا فَإِنَّهُ يُفْسِدُهَا فَيُعِيدُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا .
وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الرِّيَاءِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُرِدْ بِالْعَمَلِ إلَّا الْخَلْقَ .
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الشَّرِكَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ مُسَاوِيًا لِقَصْدِ الثَّوَابِ أَوْ أَغْلَبَ مِنْهُ ، أَمَّا إذَا كَانَ ضَعِيفًا بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ فَلَا يُحْبِطُ بِالْكُلِّيَّةِ ثَوَابَ الْعَمَلِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ الصَّلَاةُ ، وَلَوْ قَارَنَ الرِّيَاءُ ابْتِدَاءَ عَقْدِ الصَّلَاةِ مَثَلًا وَاسْتَمَرَّ إلَى أَنْ سَلَّمَ فَلَا خِلَافَ

أَنَّهُ يَقْضِي وَلَا يَعْتَدُّ بِصَلَاتِهِ فَإِنْ نَدِمَ عَلَيْهِ أَثْنَاءَهَا وَاسْتَغْفَرَ ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ : هِيَ لَمْ تَنْعَقِدْ ، فَيَسْتَأْنِفُهَا ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ : يَلْغُو جَمِيعُ مَا فَعَلَهُ إلَّا التَّحْرِيمَ فَيُتِمُّ عَلَيْهِ ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ : لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بَلْ يُتِمُّهَا لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْخَوَاتِيمِ ، كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ بِالْإِخْلَاصِ وَخَتَمَ بِالرِّيَاءِ فَإِنَّ عَمَلَهُ يَفْسُدُ ، وَالْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ خَارِجَانِ عَنْ قِيَاسِ الْفِقْهِ جِدًّا خُصُوصًا أَوَّلَهُمَا ، وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ إذَا خَتَمَ بِالْإِخْلَاصِ صَحَّ لِأَنَّ الرِّيَاءَ يَقْدَحُ فِي النِّيَّةِ ، وَاَلَّذِي يَسْتَقِيمُ عَلَى قِيَاسِ الْفِقْهِ أَنْ يُقَالَ : إنْ كَانَ بَاعِثُهُ هُوَ مُجَرَّدُ الرِّيَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دُونَ طَلَبِ الثَّوَابِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ لَمْ يَنْعَقِدْ افْتِتَاحُهُ ، وَلَمْ يَصِحَّ مَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَحْرُمُ لِأَجْلِ النَّاسِ ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبُهُ نَجِسًا وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ لَمْ يُصَلِّ أَصْلًا ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ إنَّهُمْ لَوْ فُقِدُوا صَلَّى أَيْضًا صَلَاةً صَحِيحَةً إلَّا أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ الرَّغْبَةُ فِي الْمَحْمَدَةِ أَيْضًا فَاجْتَمَعَ الْبَاعِثَانِ ، فَإِنْ كَانَ فِي نَحْوِ صَدَقَةٍ فَقَدْ عَصَى بِإِجَابَةِ بَاعِثِ الرِّيَاءِ وَأَطَاعَ بِإِجَابَةِ بَاعِثِ الثَّوَابِ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } فَلَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ قَصْدِهِ الصَّحِيحِ ، وَعِقَابٌ بِقَدْرِ قَصْدِهِ الْفَاسِدِ وَلَا يُحْبِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، وَصَلَاةُ النَّافِلَةِ كَالصَّدَقَةِ فِيمَا ذُكِرَ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ وَلَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ قَصْدَهُ الرِّيَاءُ وَإِظْهَارُ حُسْنِ قِرَاءَتِهِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَقْصِدُ الثَّوَابَ أَيْضًا بِتَطَوُّعِهِ فَتَصِحُّ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْقَصْدِ صَلَاتُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ .
وَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ قَصْدٌ آخَرُ هُوَ عَاصٍ بِهِ ، فَإِنْ اجْتَمَعَ الْبَاعِثَانِ

فِي فَرْضٍ ، وَكُلٌّ لَا يَسْتَقِلُّ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الِانْبِعَاثُ بِمَجْمُوعِهِمَا فَهَذَا لَا يُسْقِطُ الْوَاجِبَ عَنْهُ ، فَإِنْ اسْتَقَلَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِحَيْثُ لَوْ عُدِمَ بَاعِثُ الرِّيَاءِ أَدَّى الْفَرْضَ وَلَوْ عُدِمَ بَاعِثُ الْفَرْضِ أَنْشَأَ صَلَاةً لِلرِّيَاءِ فَهَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ جِدًّا ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : الْوَاجِبُ صَلَاةٌ خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ تُوجَدْ ، وَأَنْ يُقَالَ : الْوَاجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ بِبَاعِثٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَقَدْ وُجِدَ فَاقْتِرَانُ غَيْرِهِ بِهِ لَا يُسِيغُ سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْهُ كَمَا لَوْ صَلَّى فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ ، وَلَوْ كَانَ الرِّيَاءُ فِي نَحْوِ الْمُبَادَرَةِ إلَى الصَّلَاةِ دُونَ ذَاتِهَا قُطِعَ بِصِحَّتِهَا لِأَنَّ بَاعِثَ أَصْلِ الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ .
هَذَا فِي رِيَاءٍ بَاعِثٍ عَلَى الْعَمَلِ .
فَأَمَّا مُجَرَّدُ السُّرُورِ بِإِطْلَاعِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ أَثَرُهُ بِحَيْثُ يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ فَبَعِيدٌ أَنْ يُفْسِدَ الصَّلَاةَ فَهَذَا مَا تَرَاهُ لَائِقًا بِقَانُونِ الْفِقْهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ غَامِضَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهَا فِي الْفِقْهِ ، وَاَلَّذِينَ خَاضُوا فِيهَا لَمْ يُلَاحِظُوا قَوَانِينَ الْفُقَهَاءِ بَلْ حَمَلَهُمْ الْحِرْصُ عَلَى تَصْفِيَةِ الْقُلُوبِ وَطَلَبِ الْإِخْلَاصِ عَلَى إفْسَادِ الْعِبَادَاتِ بِأَدْنَى الْخَوَاطِرِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْقَصْدُ فِيمَا نَرَاهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ انْتَهَى .
وَمَرَّ آنِفًا مَا يُعْلَمُ بِهِ مَا فِي بَعْضِهِ .

وَمِنْهَا : الرِّيَاءُ يَنْقَسِمُ إلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي الْقُبْحِ ، فَأَقْبَحُهَا الرِّيَاءُ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنْ ذَمِّهِمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَتَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ - عَزَّ قَائِلًا - : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ } ، وَهَؤُلَاءِ قَلُّوا مِنْ بَعْدِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ ، نَعَمْ كَثُرَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي الْقُبْحِ كَالْمُعْتَقِدِينَ لِلْبِدَعِ الْمُكَفِّرَةِ كَإِنْكَارِ الْحَشْرِ أَوْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ ، وَاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ مَعَ إظْهَارِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ فَلَيْسَ وَرَاءَ قَبِيحِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ ، وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِأُصُولِ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ كَأَنْ يَعْتَادَ تَرْكَهَا فِي الْخَلْوَةِ وَيَفْعَلَهَا فِي الْمَلَأِ خَوْفَ الْمَذَمَّةِ ، وَهَذَا أَيْضًا عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِإِنْبَائِهِ عَلَى غَايَةِ الْجَهْلِ وَأَدَائِهِ إلَى أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمَقْتِ ، وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِالنَّوَافِلِ كَأَنْ يَعْتَادَ ذَلِكَ فِيهَا وَحْدَهَا خَوْفَ الِاسْتِنْقَاصِ بِعَدَمِ فِعْلِهَا فِي الْمَلَإِ ، وَإِيثَارًا لِلْكَسَلِ وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهَا فِي الْخَلْوَةِ ، وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِأَوْصَافِ الْعِبَادَاتِ كَتَحْسِينِهَا وَإِطَالَةِ أَرْكَانِهَا ، وَإِظْهَارِ التَّخَشُّعِ فِيهَا ، وَاسْتِكْمَالِ سَائِرِ مُكَمِّلَاتِهَا فِي الْمَلَإِ ، وَالِاقْتِصَارِ فِي الْخَلْوَةِ عَلَى أَدْنَى وَاجِبَاتِهَا خَوْفَ إيثَارِ مَا ذُكِرَ فِي النَّوَافِلِ ، فَهَذَا مَحْظُورٌ أَيْضًا لِأَنَّ فِيهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ تَقْدِيمَ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ ، وَقَدْ يَكِيدُ الشَّيْطَانُ فَاعِلَهُ فَيُزَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ صِيَانَةً لَهُمْ عَنْ الْوُقُوعِ فِيهِ ، وَلَوْ صَدَقَ لَصَانَ نَفْسَهُ عَنْ فَوَاتِ تِلْكَ الْكِمَالَاتِ بِمَا يَفْعَلُهُ فِي خَلَوَاتِهِ ؛ فَدَلَّتْ قَرَائِنُ أَحْوَالِهِ عَلَى أَنَّ بَاعِثَ ذَلِكَ لَيْسَ إلَّا النَّظَرَ إلَى الْخَلْقِ رَجَاءَ مَحْمَدَتِهِمْ لَا صِيَانَتِهِمْ .
وَلِلْمُرَائِي لِأَجْلِهِ دَرَجَاتٌ أَيْضًا ،

فَأَقْبَحُهَا أَنْ يَقْصِدَ التَّمَكُّنَ مِنْ مَعْصِيَةٍ كَمَنْ يُظْهِرُ الْوَرَعَ وَالزُّهْدَ حَتَّى يُعْرَفَ بِهِ فَيُوَلَّى الْمَنَاصِبَ وَالْوَصَايَا ، وَتُودَعَ عِنْدَهُ الْأَمْوَالُ ، أَوْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ تَفْرِقَةُ الصَّدَقَاتِ وَقَصْدُهُ بِكُلِّ ذَلِكَ الْخِيَانَةُ فِيهِ ، وَكَمَنْ يُذَكِّرُ أَوْ يَعِظُ أَوْ يُعَلِّمُ أَوْ يَتَعَلَّمُ لِلظَّفَرِ بِامْرَأَةٍ أَوْ غُلَامٍ ، ثَمَّ فَهَؤُلَاءِ أَقْبَحُ الْمُرَائِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا طَاعَةَ رَبِّهِمْ سُلَّمًا إلَى مَعْصِيَتِهِ وَوَصْلَةً إلَى فِسْقِهِمْ وَتَسُوءُ عَاقِبَتُهُمْ .
وَيَلِيهَا مَنْ يُتَّهَمُ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ فَيُظْهِرُ الطَّاعَةَ وَالصَّدَقَةَ قَصْدًا لِدَفْعِ تِلْكَ التُّهْمَةِ .
وَيَلِيهَا أَنْ يَقْصِدَ نَيْلَ حَظٍّ مُبَاحٍ مِنْ نَحْوِ مَالٍ أَوْ نِكَاحٍ ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا .
وَيَلِيهَا أَنْ يَقْصِدَ بِإِظْهَارِ عِبَادَتِهِ وَوَرَعِهِ وَتَخَشُّعِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنْ لَا يُحْتَقَرَ وَيُنْظَرَ إلَيْهِ بِعَيْنِ النَّقْصِ ، أَوْ أَنْ يُعَدَّ مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ وَفِي الْخَلْوَةِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ إظْهَارَ النَّظَرِ فِي يَوْمٍ يُسَنُّ صَوْمُهُ خَشْيَةَ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ لَا اعْتِنَاءَ لَهُ بِالنَّوَافِلِ ، فَهَذِهِ أُصُولُ دَرَجَاتِ الرِّيَاءِ وَمَرَاتِبُ أَصْنَافِ الْمُرَائِينَ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَجَمِيعُهُمْ تَحْتَ مَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَضَبِهِ وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ الْمُهْلِكَاتِ .

وَمِنْهَا : مَرَّ فِي الْخَبَرِ { أَنَّ مِنْ الرِّيَاءِ مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ } .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَزِلُّ فِيهِ فُحُولُ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ الْعِبَادِ الْجُهَلَاءِ بِآفَاتِ النُّفُوسِ وَغَوَائِلِ الْقُلُوبِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الرِّيَاءَ إمَّا جَلِيٌّ وَهُوَ مَا يَحْمِلُ عَلَى الْعَمَلِ وَيَبْعَثُ عَلَيْهِ .
وَإِمَّا خَفِيٌّ وَهُوَ مَا لَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يُخَفِّفُ مَشَقَّتَهُ كَمَنْ يَعْتَادُ التَّهَجُّدَ كُلَّ لَيْلَةٍ وَيَثْقُلُ عَلَيْهِ ، لَكِنَّهُ إذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ أَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ نَشِطَ لَهُ وَخُفِّفَ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ إنَّمَا يَعْمَلُ لِلَّهِ ، وَلَوْلَا رَجَاءُ الثَّوَابِ لَمَا صَلَّى .
وَأَمَارَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَهَجَّدُ ، وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؛ وَأَخْفَى مِنْ هَذَا مَا لَا يَحْمِلُ عَلَى تَسْهِيلٍ ، وَتَخْفِيفٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ عِنْدَهُ رِيَاءٌ كَامِنٌ فِي قَلْبِهِ كَكُمُونِ النَّارِ فِي الْحَجَرِ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْعَلَامَاتِ ، وَأَجْلَى عَلَامَاتِهِ أَنَّهُ يَسُرُّهُ اطِّلَاعُ النَّاسِ عَلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ ، فَرُبَّ عَبْدٍ مُخْلِصٍ فِي عَمَلِهِ يَكْرَهُ الرِّيَاءَ وَيَذُمُّهُ فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْهُ شَيْءٌ يَحْمِلُ عَلَى الْعَمَلِ ابْتِدَاءً وَلَا دَوَامًا ، وَلَكِنَّهُ إذَا اطَّلَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ سَرَّهُ ذَلِكَ وَارْتَاحَ لَهُ وَرَوَّحَ ذَلِكَ عَنْ قَلْبِهِ شِدَّةَ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا السُّرُورُ يَدُلُّ عَلَى رِيَاءٍ خَفِيٍّ إذْ لَوْلَا الْتِفَاتُ الْقَلْبِ لِلنَّاسِ لَمَا ظَهَرَ سُرُورُهُ عِنْدَ اطِّلَاعِهِمْ ، فَاطِّلَاعُهُمْ مَعَ عَدَمِ كَرَاهَتِهِ لَهُ حَرَّكَ مَا كَانَ سَاكِنًا ، وَصَارَ غِذَاءً لِلْعِرْقِ الْخَفِيِّ مِنْ الرِّيَاءِ ، وَحِينَئِذٍ يَحْمِلُ عَلَى تَكَلُّفِ سَبَبِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ أَوْ نَحْوِهِ كَإِظْهَارِ النُّحُولِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ وَيُبْسِ الشَّفَتَيْنِ وَغَلَبَةِ النُّعَاسِ الدَّالِّ عَلَى طُولِ التَّهَجُّدِ .
وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَخْتَفِيَ بِحَيْثُ لَا يُرِيدُ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ وَلَا يَسُرُّهُ ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُبْدَأَ بِالسَّلَامِ

وَالتَّعْظِيمِ وَأَنْ يُقَابَلَ بِمَزِيدِ الثَّنَاءِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَى حَوَائِجِهِ وَأَنْ يُسَامَحَ فِي مُعَامَلَتِهِ ، وَأَنْ يُوَسَّعَ لَهُ الْمَكَانُ إذَا أَقْبَلَ ، وَمَتَى قَصَّرَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى قَلْبِهِ لِعَظَمَةِ طَاعَتِهِ الَّتِي أَخْفَاهَا عِنْدَ نَفْسِهِ فَكَأَنَّ نَفْسَهُ تَطْلُبُ أَنْ يُحْتَرَمَ فِي مُقَابَلَتِهَا ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ تِلْكَ الطَّاعَاتِ لَمَا كَانَتْ تَطْلُبُ ذَلِكَ الِاحْتِرَامَ ، وَمَهْمَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ الطَّاعَةِ كَعَدَمِهَا فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَنِعَ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَمْ يَكُنْ خَالِيًا عَنْ شَوْبٍ خَفِيٍّ مِنْ الرِّيَاءِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَكُلُّ ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يُحْبِطَ الْأَجْرَ وَلَا يَسْلَمُ مِنْهُ إلَّا الصِّدِّيقُونَ .
وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْقُرَّاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَلَمْ يَكُنْ يُرَخَّصُ عَلَيْكُمْ السِّعْرُ أَلَمْ تَكُونُوا تُبْدَءُونَ بِالسَّلَامِ أَلَمْ تَكُنْ تُقْضَى لَكُمْ الْحَوَائِجُ ؟ وَفِي الْحَدِيثِ : { لَا أَجْرَ لَكُمْ قَدْ اسْتَوْفَيْتُمْ أُجُورَكُمْ } وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَزَلْ الْمُخْلِصُونَ خَائِفِينَ مِنْ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ يَشْهَدُونَ ذَلِكَ فِي مُخَادَعَةِ النَّاسِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ يَحْرِصُونَ عَلَى إخْفَائِهَا أَعْظَمَ مَا يَحْرِصُ النَّاسُ عَلَى إخْفَاءِ فَوَاحِشِهِمْ .
كُلُّ ذَلِكَ رَجَاءُ أَنْ يَخْلُصَ عَمَلُهُمْ فَيُجَازِيَهُمْ اللَّهُ فِي الْقِيَامَةِ عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْخَلَائِقِ إذْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ فِي الْقِيَامَةِ إلَّا الْخَالِصَ ، وَعَلِمُوا شِدَّةَ حَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ وَأَنْ لَا يَنْفَعَ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، وَلَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَنْ وَالِدِهِ ، وَيَشْتَغِلُ الصِّدِّيقُونَ بِأَنْفُسِهِمْ ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : نَفْسِي نَفْسِي ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَرْقًا بَيْنَ اطِّلَاعِ الصِّغَارِ

وَالْمَجَانِينِ وَاطِّلَاعِ غَيْرِهِمْ عَلَى عِبَادَاتِهِ فَعِنْدَهُ شَوْبٌ مِنْ الرِّيَاءِ .
إذْ لَوْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ الضَّارُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَغَيْرَهُ هُوَ الْعَاجِزُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لَاسْتَوَى عِنْدَهُ الصِّغَارُ وَغَيْرُهُمْ ، وَلَمْ تَتَأَثَّرْ نَفْسُهُ بِحُضُورِ كَبِيرِهِمْ وَلَا صَغِيرِهِمْ ، وَلَيْسَ كُلُّ شَوْبٍ مِنْ الرِّيَاءِ مُفْسِدًا لِلْعَمَلِ وَمُحْبِطًا لَهُ ، بَلْ السُّرُورُ إمَّا مَحْمُودٌ بِأَنْ يَشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ إظْهَارًا لِجَمِيلِ أَحْوَالِهِ وَلُطْفِهِ بِهِ ، فَإِنَّهُ فِي نَفْسِهِ يَسْتُرُ طَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ ، ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى يَسْتُرُ مَعْصِيَتَهُ وَيُظْهِرُ طَاعَتَهُ وَلَا لُطْفَ أَعْظَمَ مِنْ سَتْرِ الْقَبِيحِ ، وَإِظْهَارِ الْجَمِيلِ فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِجَمِيلِ نَظَرِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ بِهِ لَا بِحَمْدِ النَّاسِ وَقِيَامِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } .
أَوْ يَشْهَدَ أَنَّهُ لَمَّا سَتَرَ قَبِيحَهُ وَأَظْهَرَ جَمِيلَهُ فِي الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ يَفْعَلُ مَعَهُ فِي الْآخِرَةِ .
لِخَبَرِ : { مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا إلَّا سَتَرَهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ } أَوْ بِأَنْ يَظُنَّ رَغْبَةَ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الطَّاعَةِ فَيَتَضَاعَفَ بِذَلِكَ أَجْرُهُ فَيَكُونَ لَهُ أَجْرُ الْعَلَانِيَةِ بِمَا ظَهَرَ آخِرًا وَأَجْرُ السِّرِّ بِمَا قَصَدَهُ أَوَّلًا ، إذْ مَنْ اُقْتُدِيَ بِهِ فِي طَاعَةٍ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ، وَتَوَقُّعُ ذَلِكَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ السُّرُورُ ، فَإِنَّ ظُهُورَ مَخَايِلِ الرِّبْحِ لَذِيذٌ يُوجِبُ السُّرُورَ لَا مَحَالَةَ ، أَوْ بِأَنْ يَفْرَحَ بِكَوْنِهِ - تَعَالَى - وَفَّقَهُ إلَى سَبَبٍ يَحْمَدُونَهُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّونَهُ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كَجَمَاعَةٍ آخَرِينَ مُذْنِبِينَ يَهْزَئُونَ بِالْمُطِيعِينَ وَيُؤْذُونَهُمْ ، وَعَلَامَةُ هَذَا الْفَرَحِ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ بِحَمْدِهِمْ غَيْرَهُ كَفَرَحِهِ بِحَمْدِهِمْ لَهُ .
وَإِمَّا

مَذْمُومٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ لِقِيَامِ مَنْزِلَتِهِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يُعَظِّمُوهُ وَيُكْرِمُوهُ وَيَقُومُوا لَهُ بِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَهَذَا مَكْرُوهٌ ، وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ فِي كَتْمِ الْعَمَلِ فَائِدَةَ الْإِخْلَاصِ وَالنَّجَاةَ مِنْ الرِّيَاءِ وَفِي إظْهَارِهِ فَائِدَةَ الِاقْتِدَاءِ وَتَرْغِيبَ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ وَلَكِنْ فِيهِ آفَةُ الرِّيَاءِ ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْقِسْمَيْنِ فَقَالَ - عَزَّ قَائِلًا - : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } لَكِنَّهُ مَدَحَ الْإِسْرَارَ لِسَلَامَتِهِ مِنْ تِلْكَ الْآفَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهَا .
وَقَدْ يُمْدَحُ الْإِظْهَارُ فِيمَا يَتَعَذَّرُ الْإِسْرَارُ فِيهِ كَالْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ، فَالْإِظْهَارُ الْمُبَادَرَةُ إلَيْهِ ، وَإِظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِيهِ لِلتَّحْرِيضِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شَائِبَةُ رِيَاءٍ .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّهُ مَتَى خَلَصَ الْعَمَلُ مِنْ تِلْكَ الشَّوَائِبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي إظْهَارِهِ إيذَاءٌ لِأَحَدٍ فَإِنْ كَانَ فِيهِ حَمْلٌ لِلنَّاسِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ وَالتَّأَسِّي بِهِ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالْمُبَادَرَةِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الصُّلَحَاءِ الَّذِينَ تُبَادِرُ الْكَافَّةُ إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ، فَالْإِظْهَارُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَوُرَّاثِهِمْ وَلَا يُخَصُّونَ إلَّا بِالْأَكْمَلِ ، وَلِأَنَّ نَفْعَهُ مُتَعَدٍّ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ فَالْإِسْرَارُ أَفْضَلُ .
وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَ أَفْضَلِيَّةَ الْإِسْرَارِ .
نَعَمْ مَرْتَبَةُ الْإِظْهَارِ الْفَاضِلِ مَزَلَّةُ قَدَمٍ لِلْعِبَادِ وَالْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يَتَشَبَّهُونَ بِالْأَقْوِيَاءِ فِي الْإِظْهَارِ وَلَا تَقْوَى قُلُوبُهُمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَتَحْبَطُ أُجُورُهُمْ بِالرِّيَاءِ ، وَالتَّفَطُّنُ لِذَلِكَ

غَامِضٌ وَعَلَامَةُ الْحَقِّ فِيهِ أَنَّ مَنْ قَامَ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ غَيْرَهُ لَوْ قَامَ بِهِ مِثْلُهُ مِنْ أَقْرَانِهِ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ كَانَ مُخْلِصًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ كَانَ مُرَائِيًا ، إذْ لَوْلَا مُلَاحَظَةُ نَظَرِهِ لِلْخَلْقِ لَمَا آثَرَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكِفَايَةِ غَيْرِهِ ، فَلْيَحْذَرْ الْعَبْدُ خُدَعَ النَّفْسِ فَإِنَّهَا خَدُوعٌ ، وَالشَّيْطَانُ مُتَرَصِّدٌ ، وَحُبُّ الْجَاهِ عَلَى الْقَلْبِ غَالِبٌ وَقَلَّمَا تَسْلَمُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ عَنْ الْآفَاتِ وَالْأَخْطَارِ .
فَالسَّلَامَةُ الْإِخْفَاءُ ، وَمِنْ الْإِظْهَارِ التَّحَدُّثُ بِالْعَمَلِ بَعْدَ فَرَاغِهِ ، بَلْ هَذَا أَشَدُّ خَطَرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ زِيَادَةٌ أَوْ مُبَالَغَةٌ وَلِلنَّفْسِ لَذَّةٌ فِي إظْهَارِ الدَّعَاوَى ، وَأَهْوَنُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرِّيَاءَ بِهِ لَا يُحْبِطُ مَا مَضَى خَالِصًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرِينَ رُبَّمَا يَتْرُكُونَ الطَّاعَاتِ خَوْفَ الرِّيَاءِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْمُودٍ مُطْلَقًا ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ إمَّا لَازِمَةٌ لِلْبَدَنِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرِ وَلَا لَذَّةَ فِي عَيْنِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ ، فَإِنْ كَانَ بَاعِثُ الِابْتِدَاءِ فِيهَا رُؤْيَةَ النَّاسِ وَحْدَهَا فَهَذَا مَحْضُ مَعْصِيَةٍ فَيَجِبُ تَرْكُهُ وَلَا رُخْصَةَ فِيهَا عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لَكِنْ عَرَضَ الرِّيَاءُ عِنْدَ عَقْدِهَا شَرَعَ فِيهَا وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ الْعَارِضِ ، وَكَذَا لَوْ عَرَضَ فِي أَثْنَائِهَا فَيَرُدُّ نَفْسَهُ لِلْإِخْلَاصِ قَهْرًا حَتَّى يُتِمَّهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُوك أَوَّلًا إلَى التَّرْكِ ، فَإِذَا عَصَيْتَهُ وَعَزَمْتَ وَشَرَعْتَ دَعَاك لِلرِّيَاءِ ، فَإِذَا أَعْرَضْتَ عَنْهُ وَجَاهَدْتَهُ إلَى أَنْ فَرَغْتَ نَدَمَكَ حِينَئِذٍ ، وَقَالَ : لَك أَنْتَ مُرَاءٍ ، وَلَا يَنْفَعُك اللَّهُ بِهَذَا الْعَمَلِ شَيْئًا حَتَّى تَتْرُكَ الْعَوْدَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فَيَحْصُلَ غَرَضُهُ مِنْك فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ فَإِنَّهُ لَا

أَمْكَرَ مِنْهُ ، وَأَلْزِمْ قَلْبَك الْحَيَاءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ أَوْجَدَ فِيك بَاعِثًا دِينِيًّا عَلَى الْعَمَلِ فَلَمْ تَتْرُكْهُ بَلْ جَاهَدْتَ نَفْسَك فِي الْإِخْلَاصِ فِيهِ وَلَمْ تَغْتَرَّ بِمَكَائِدِ عَدُوِّك وَعَدُوِّ أَبِيك آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَلْقِ وَهَذِهِ تَعْظُمُ فِيهَا الْآفَاتُ وَالْأَخْطَارُ فَأَعْظَمُهَا الْخِلَافَةُ ، ثُمَّ الْقَضَاءُ ، ثُمَّ التَّذْكِيرُ وَالتَّدْرِيسُ وَالْإِفْتَاءُ ، ثُمَّ إنْفَاقُ الْمَالِ فَمَنْ لَا تَسْتَمِيلُهُ الدُّنْيَا وَلَا يَسْتَفِزُّهُ الطَّمَعُ وَلَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَأَعْرَضَ عَنْ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا جُمْلَةً وَلَا يَتَحَرَّكُ إلَّا لِلْحَقِّ وَلَا يَسْكُنُ إلَّا لَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ ، وَمَنْ فُقِدَ فِيهِ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ فَالْوِلَايَاتُ بِأَقْسَامِهَا الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ أَيُّ ضَرَرٍ فَلْيُمْسِكْ عَنْهَا وَلَا يَغْتَرَّ ، فَإِنَّ نَفْسَهُ تُسَوِّلُ لَهُ الْعَدْلَ فِيهَا وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهَا وَعَدَمَ الْمَيْلِ إلَى شَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالطَّمَعِ فَإِنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا أَلَذَّ عِنْدَهَا مِنْ الْجَاهِ وَالْوِلَايَاتِ فَرُبَّمَا حَمَلَتْهَا مَحَبَّةُ ذَلِكَ عَلَى هَلَاكِهَا .
وَمِنْ ثَمَّ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَعِظَ النَّاسَ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَمَنَعَهُ ، فَقَالَ : تَمْنَعُنِي مِنْ نُصْحِ النَّاسِ ؟ فَقَالَ : أَخْشَى أَنْ نَنْتَفِخَ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّرَيَّا ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَغْتَرَّ الْإِنْسَانُ بِمَا جَاءَ فِي فَضَائِلِ التَّذْكِيرِ بِاَللَّهِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّ خَطَرَهُ عَظِيمٌ ، وَلَسْنَا نَأْمُرُ أَحَدًا بِتَرْكِهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ نَفْسِهِ آفَةٌ إنَّمَا الْآفَةُ فِي إظْهَارِهِ بِالتَّصَدِّي لَهُ وَعْظًا ، وَإِقْرَاءً وَإِفْتَاءً وَرِوَايَةً ، وَلَا يَتْرُكُ التَّصَدِّي لَهُ مَا دَامَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ بَاعِثًا دِينِيًّا ، وَإِنْ مُزِجَ بِشَيْءٍ مِنْ رِيَاءٍ بَلْ نَأْمُرُهُ بِهِ مَعَ مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ عَلَى الْإِخْلَاصِ

وَالتَّنَزُّهِ عَنْ خَطَرَاتِ الرِّيَاءِ فَضْلًا عَنْ شَوَائِبِهِ .
فَالْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ : الْوِلَايَاتُ وَهِيَ أَعْظَمُهَا آفَةً فَلْيَتْرُكْهَا الضُّعَفَاءُ رَأْسًا ، وَالصَّلَوَاتُ وَنَحْوُهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَهَا الضُّعَفَاءُ وَلَا الْأَقْوِيَاءُ ، وَلَكِنْ يُجَاهِدُونَ فِي دَفْعِ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ عَنْهَا ، وَالتَّصَدِّي لِلْعُلُومِ ، وَهِيَ مَرْتَبَةٌ وُسْطَى بَيْنَ تَيْنِكَ الْمَرْتَبَتَيْنِ لَكِنَّهَا بِالْوِلَايَاتِ أَشْبَهُ ، وَإِلَى الْآفَاتِ أَقْرَبُ فَالْحَذَرُ مِنْهَا فِي حَقِّ الضَّعِيفِ أَسْلَمُ .
وَبَقِيَتْ مَرْتَبَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ جَمْعُ الْمَالِ ، وَإِنْفَاقُهُ ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَضَّلَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ وَالنَّوَافِلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ ؛ وَالْحَقُّ أَنَّ فِيهِ آفَاتٍ عَظِيمَةً كَطَلَبِ الثَّنَاءِ ، وَاسْتِجْلَابِ الْقُلُوبِ وَتَمَيُّزِ النَّفْسِ بِالْإِعْطَاءِ ، فَمَنْ خَلَصَ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ فَالْجَمْعُ وَالْإِنْفَاقُ لَهُ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْلِ الْمُنْقَطِعِينَ وَكِفَايَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ وَالتَّقَرُّبِ بِبِرِّهِمْ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَمَنْ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهَا فَالْأَوْلَى لَهُ مُلَازَمَةُ الْعِبَادَاتِ ، وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِيمَا لَهَا مِنْ الْأَدَبِ وَالْمُكَمِّلَاتِ .
وَمِنْ عَلَامَاتِ إخْلَاصِ الْعَالِمِ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ وَعْظًا وَأَغْزَرُ مِنْهُ عِلْمًا وَالنَّاسُ لَهُ أَشَدُّ قَبُولًا فَرِحَ بِهِ وَلَمْ يَحْسُدْهُ ، نَعَمْ لَا بَأْسَ بِالْغِبْطَةِ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى لِنَفْسِهِ مِثْلَ عِلْمِهِ ؛ وَأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ الْأَكَابِرُ مَجْلِسَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ كَلَامُهُ بَلْ يَكُونُ نَاظِرًا لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَأَنْ لَا يُحِبَّ اتِّبَاعَ النَّاسِ لَهُ فِي الطُّرُقَاتِ .
وَمِنْهَا : قَدْ بَانَ لَك بِمَا سَبَقَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الرِّيَاءَ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ ، وَسَبَبٌ لِلْمَقْتِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَاللَّعْنِ وَالطَّرْدِ وَأَنَّهُ مِنْ كَبَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ .
وَمَا هَذَا وَصْفُهُ فَجَدِيرٌ بِأَنْ يُشَمِّرَ كُلُّ مُوَفَّقٍ عَنْ سَاقِ الْجِدِّ فِي

إزَالَتِهِ بِالْمُجَاهَدَةِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ الشَّدِيدَةِ وَالْمُكَابَدَةِ لِقُوَّةِ الشَّهَوَاتِ ، إذْ لَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ عَنْ الِاحْتِيَاجِ لِذَلِكَ إلَّا مَنْ رُزِقَ قَلْبًا سَلِيمًا نَقِيًّا خَالِصًا عَنْ شَوَائِبِ مُلَاحَظَةِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَخْلُوقِينَ ، وَمُسْتَغْرِقًا دَائِمًا فِي شُهُودِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .
وَإِلَّا فَغَالِبُ الْخَلْقِ إنَّمَا طُبِعَ عَلَيْهِ ، إذْ الصَّبِيُّ يُخْلَقُ ضَعِيفَ الْعَقْلِ ، مُمْتَدَّ الْعَيْنِ لِلْخَلْقِ ، كَثِيرَ الطَّمَعِ فِيهِمْ ، فَيَرَى بَعْضَهُمْ يَتَصَنَّعُ لِبَعْضٍ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ حُبُّ التَّصَنُّعِ بِالضَّرُورَةِ وَيَتَرَسَّخُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ؛ فَإِذَا كَمُلَ عَقْلُهُ وَوُفِّقَ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ رَأَى ذَلِكَ مَرَضًا مُهْلِكًا فَاحْتَاجَ إلَى دَوَاءٍ يُزِيلُهُ وَيَقْطَعُ عُرُوقَهُ بِاسْتِئْصَالِ أُصُولِهِ مِنْ حُبِّ لَذَّةِ الْمَحْمَدَةِ وَالْجَاهِ وَالطَّمَعِ فِيمَا بِأَيْدِي النَّاسِ ، وَذَلِكَ الدَّوَاءُ النَّافِعُ هُوَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ رَغْبَتِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ ، وَفَوَاتِ صَلَاحِ الْقَلْبِ ، وَحِرْمَانِ التَّوْفِيقِ فِي الْحَالِ وَالْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْعِقَابِ الْعَظِيمِ وَالْمَقْتِ الشَّدِيدِ وَالْخِزْيِ الظَّاهِرِ ، حَيْثُ يُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ وَيُقَالُ لِلْمُرَائِي : يَا فَاجِرُ ، يَا غَادِرُ ، يَا مُرَائِي أَمَا اسْتَحْيَيْتَ إذَا اشْتَرَيْتَ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، رَاقَبْتَ قُلُوبَ الْعِبَادِ وَاسْتَهْزَأْتَ بِنَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ ، وَتَحَبَّبْتَ إلَى الْعِبَادِ بِالتَّبْغِيضِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَتَزَيَّنْتَ لَهُمْ بِالشَّيْنِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَقَرَّبْتَ إلَيْهِمْ بِالْبُعْدِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الرِّيَاءِ إلَّا إحْبَاطُ عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ لَكَفَى فِي شُؤْمِهِ وَضَرَرِهِ ، فَقَدْ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ فِي الْآخِرَةِ إلَى عِبَادَةٍ تَرْجَحُ بِهَا كِفَّةُ حَسَنَاتِهِ ، وَإِلَّا ذُهِبَ بِهِ إلَى النَّارِ ، وَمَنْ طَلَبَ رِضَا الْخَلْقِ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى سَخِطَ عَلَيْهِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12