كتاب : الزواجر عن اقتراف الكبائر
المؤلف : أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي

ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُمْ صَلَاةً : إمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا غَضْبَانُ ، وَأَخَوَانِ مُتَصَارِمَانِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ مَعَ الْجَزْمِ بِهِ وَقَعَ لِبَعْضِ أَئِمَّتِنَا وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا إنْ كَرِهَهُ أَكْثَرُ الْقَوْمِ لِأَمْرٍ مَذْمُومٍ فِيهِ شَرْعًا مِمَّا لَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تُكْرَهُ الْإِمَامَةُ وَالِاقْتِدَاءُ مَعَهُ وَلَيْسَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ مَكْرُوهًا مُطْلَقًا ، وَلَا إمَامَتُهُ بِمُحَرَّمَةٍ مُطْلَقًا .
فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كَبِيرَةً ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ بِمُجْبِرٍ لِأَحَدٍ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ إذْ هُمْ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ لَا يُصَلُّوا وَرَاءَهُ فَهُمْ الْمُقَصِّرُونَ دُونَهُ ، نَعَمْ .
إنْ حُمِلَتْ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ عَلَى مَنْ تَعَدَّى عَلَى وَظِيفَةِ إمَامٍ رَاتِبٍ فَصَلَّى فِيهَا قَهْرًا عَلَى صَاحِبِهَا وَعَلَى الْمَأْمُومِينَ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ حِينَئِذٍ : إنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ، لِأَنَّ غَصْبَ الْمَنَاصِبِ أَوْلَى بِالْكَبِيرَةِ مِنْ غَصْبِ الْأَمْوَالِ الْمُصَرَّحِ فِيهِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ .
خَاتِمَةٌ : صَحَّ عِنْدَ ابْنَيْ خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ : { مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَأَصَابَ الْوَقْتَ وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ فَلَهُ وَلَهُمْ وَمَنْ انْتَقَصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ } .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ ضَامِنٌ مَسْئُولٌ لِمَا ضَمِنَ ، وَإِنْ أَحْسَنَ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَهُوَ عَلَيْهِ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِذَا أَصَابُوا فَلَكُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } .
وَفِي حَدِيثٍ حَسَنٍ : { ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ أُرَاهُ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ ، وَرَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ ، وَرَجُلٌ يُنَادِي

بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ } .
وَفِي أُخْرَى بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَهُولُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَلَا يَنَالُهُمْ الْحِسَابُ - هُمْ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ مِسْكٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حِسَابِ الْخَلَائِقِ : رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ، وَأَمَّ بِهِ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ } الْحَدِيثَ .

( الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ وَالْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ : قَطْعُ الصَّفِّ وَعَدَمُ تَسْوِيَتِهِ ) أَخْرَجَ جَمَاعَةٌ وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : { مَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ } .
وَأَيْضًا : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ } .
وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَوِّيهِمْ فِي صُفُوفِهِمْ بِيَدِهِ ، وَيَقُولُ : لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ .
وَيَقُولُ : إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ فِي سَنَدِهَا مَتْرُوكٌ : { مَنْ سَدَّ فُرْجَةً رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } .
وَفِي أُخْرَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { مَنْ سَدَّ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ غُفِرَ لَهُ } .
وَفِي أُخْرَى بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ ، وَلَا يَصِلُ عَبْدٌ صَفًّا إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً وَدَرَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ الْبِرِّ } .
وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } .
وَفِي أُخْرَى لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : { لَتُسَوُّنَّ الصُّفُوفَ أَوْ لَيُطْمَسَنَّ الْوُجُوهُ وَلَيُغْمَضَنَّ أَبْصَارُكُمْ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُكُمْ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ قَضِيَّةُ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ } إذْ هُوَ بِمَعْنَى : لَعَنَهُ اللَّهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ ، وَمَرَّ أَنَّ مِنْ أَمَارَاتِ الْكَبِيرَةِ اللَّعْنَ وَنَحْوَهُ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ أَوْ قُلُوبِكُمْ } ؛ إذْ هُوَ تَهْدِيدُ الطَّمْسِ أَوْ

الْمَسْخِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي اسْتَحْسَنَ سَنَدَهَا بَعْضُهُمْ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، لَكِنْ لَمْ أَرَ أَحَدًا عَدَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الصَّفِّ أَوْ عَدَمَ تَسْوِيَتِهِ عِنْدَنَا إنَّمَا هُوَ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كَبِيرَةً ، نَعَمْ يَلْزَمُ مَنْ عَدَّ إمَامَةَ مَنْ يَكْرَهُونَهُ ، وَالنَّوْمَ عَلَى سَطْحٍ غَيْرِ مَحُوطٍ ، وَتَرْكَ الْجَمَاعَةِ كَبَائِرَ مَعَ أَنَّهَا إنَّمَا هِيَ مَكْرُوهَاتٌ أَنْ يَعُدَّ هَذَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ بِالْأَوْلَى لِأَنَّ الْوَعِيدَ هُنَا أَشَدُّ مِنْهُ فِي أُولَئِكَ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد : { لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنِ حِبَّانَ { حَتَّى يُخَلِّفَهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ } وَكَأَنَّ الْأَئِمَّةَ فَهِمُوا مِنْ هَذِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا ظَاهِرَهَا إجْمَاعًا أَنَّ التَّغْلِيظَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا ظَوَاهِرُهَا ، بَلْ الزَّجْرُ عَنْ خَلَلِ الصُّفُوفِ وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَى إكْمَالِهَا وَتَسْوِيَتِهَا مَا أَمْكَنَ .

( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّمَانُونَ : مُسَابَقَةُ الْإِمَامِ ) أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ } .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ بِلَفْظِ : { مَا يَأْمَنُ أَحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ كَلْبٍ } .
وَصَحَّ وَقْفُهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ : { أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ كَلْبٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا حَسَنٌ : { الَّذِي يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ إنَّمَا نَاصِيَتُهُ بِيَدِ الشَّيْطَانِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ صَرِيحُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَإِنَّمَا يَتَّضِحُ بِنَاءً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا صَلَاةَ لَهُ } .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَأَمَّا عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا قَدْ أَسَاءَ ، وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ ، غَيْرَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَأْمُرُونَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى السُّجُودِ وَيَمْكُثَ فِي سُجُودِهِ بَعْدَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ بِقَدْرِ مَا كَانَ تَرَكَ انْتَهَى .
وَمَذْهَبُنَا أَنَّ مُجَرَّدَ رَفْعِ الرَّأْسِ قَبْلَ الْإِمَامِ أَوْ الْقِيَامِ أَوْ الْهُوِيِّ قَبْلَهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ ، وَأَنْ يُسَنَّ لَهُ الْعَوْدُ إلَى الْإِمَامِ إنْ كَانَ بَاقِيًا فِي ذَلِكَ الرُّكْنِ ، فَإِنْ سَبَقَهُ بِرُكْنٍ كَأَنْ رَكَعَ وَاعْتَدَلَ - وَالْإِمَامُ قَائِمٌ لَمْ يَرْكَعْ - حَرُمَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَتَكُونَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ كَبِيرَةً ، أَوْ بِرُكْنَيْنِ كَأَنْ هَوَى إلَى السُّجُودِ ، وَالْإِمَامُ

لَمْ يَرْكَعْ ، وَكَانَ رَكَعَ وَاعْتَدَلَ وَالْإِمَامُ لَمْ يَرْكَعْ ، فَلَمَّا أَرَادَ الْإِمَامُ الِاعْتِدَالَ هَوَى الْمَأْمُومُ لِلسُّجُودِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَيَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ تَسْمِيَتُهُ كَبِيرَةً ظَاهِرَةٌ .

( الْكَبِيرَةُ التِّسْعُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالتِّسْعُونَ وَالثَّانِيَةُ وَالتِّسْعُونَ : رَفْعُ الْبَصَرِ إلَى السَّمَاءِ ، وَالِالْتِفَاتُ فِي الصَّلَاةِ ، وَالِاخْتِصَارُ ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { لَا تَرْفَعُوا أَبْصَارَكُمْ إلَى السَّمَاءِ فَتَلْتَمِعَ ، يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ ، أَيْ يُذْهَبَ بِهَا } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ } .
وَأَبُو دَاوُد : { دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى فِيهِ نَاسًا يُصَلُّونَ رَافِعِي أَيْدِيهِمْ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ : لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ يَشْخَصُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ أَبْصَارُهُمْ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّلَفُّتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : { اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَفِي سَنَدِهِ مَنْ صَحَّحَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا : { لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ ، وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ ، وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ : نَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ } وَالْإِقْعَاءُ

بِكَسْرِ أَوَّلِهِ : أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَيْهِ نَاصِبًا فَخِذَيْهِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : وَاضِعًا يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ ، وَخَرَجَ بِهِ الْجُلُوسُ عَلَى عَقِبَيْهِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَقَطْ كَمَا فِي مُسْلِمٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ الِافْتِرَاشُ أَفْضَلُ مِنْهُ .
وَالْبَزَّارُ : { إذَا أَقْبَلَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ - أَيْ رَحْمَتِهِ - فَإِذَا الْتَفَتَ قَالَ يَا ابْنَ آدَمَ إلَى مَنْ تَلْتَفِتُ ؟ إلَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَك مِنِّي ؟ أَقْبِلْ إلَيَّ ، فَإِذَا الْتَفَتَ الثَّانِيَةَ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَإِذَا الْتَفَتَ الثَّالِثَةَ صَرَفَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَجْهَهُ عَنْهُ أَيْ رَحْمَتَهُ عَنْهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَالِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ هَلَكَةٌ } الْحَدِيثَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ قَامَ فِي الصَّلَاةِ فَالْتَفَتَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ } .
وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { نُهِيَ عَنْ الْخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ } .
وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا } .
زَادَ أَبُو دَاوُد " يَعْنِي يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى خَاصِرَتِهِ " .
وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا : { الِاخْتِصَارُ فِي الصَّلَاةِ رَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ خَطْفِ الْبَصَرِ فِي الْأَوَّلِ ، وَانْصِرَافِ الرَّحْمَةِ فِي الثَّانِي ، وَكَوْنِ ذَلِكَ رَاحَةَ أَهْلِ النَّارِ فِي الثَّالِثَةِ ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا مَرَّ فِي إمَامَةِ الْكَارِهِينَ لَهُ وَفِي غَيْرِ مُسَابَقَةِ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِمَا وَمَا يَأْتِي فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ ، لِأَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا مِنْ مَنْعِ لُبْسِهِ فِي الْآخِرَةِ ذَلِكَ فَأَخْذُ ذَلِكَ مِمَّا هُنَا أَوْلَى ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا حُرْمَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كَبِيرَةً ، وَإِنَّمَا هِيَ مَكْرُوهَاتٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُونَ : اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ ، وَإِيقَادُ السُّرُجِ عَلَيْهَا ، وَاِتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا ، وَالطَّوَافُ بِهَا ، وَاسْتِلَامُهَا ، وَالصَّلَاةُ إلَيْهَا ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { عَهْدِي بِنَبِيِّكُمْ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِخَمْسِ لَيَالٍ فَسَمِعْته يَقُولُ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إلَّا وَلَهُ خَلِيلٌ مِنْ أُمَّتِهِ وَإِنَّ خَلِيلِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ ، وَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا ، أَلَا وَإِنَّ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ وَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ ، اللَّهُمَّ إنِّي بَلَّغْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } الْحَدِيثَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ { لَا تُصَلُّوا إلَى قَبْرٍ ، وَلَا تُصَلُّوا عَلَى قَبْرٍ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } .
وَمُسْلِمٌ : { أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } .
وَأَحْمَدُ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ ، وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } .
وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } .
وَأَحْمَدُ عَنْ أُسَامَةَ ، وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } .
وَأَحْمَدُ

وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ : { أُولَئِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ : { نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ إلَى الْقُبُورِ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ ، وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } .
وَابْنُ سَعْدٍ : { أَلَا إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } .
وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ { إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } .
وَأَيْضًا : { كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ فَلَعَنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ السِّتَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْته مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، وَوَجْهُ أَخْذِ اتِّخَاذِ الْقَبْرِ مَسْجِدًا مِنْهَا وَاضِحٌ ، لِأَنَّهُ لُعِنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِ وَجُعِلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقُبُورِ صُلَحَائِهِ شَرَّ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَفِيهِ تَحْذِيرٌ لَنَا كَمَا فِي رِوَايَةِ : { يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا } : أَيْ يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ بِقَوْلِهِ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَصْنَعُوا كَصُنْعِ أُولَئِكَ فَيُلْعَنُوا كَمَا لُعِنُوا ؛ وَاِتِّخَاذُ الْقَبْرِ مَسْجِدًا مَعْنَاهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَوْ إلَيْهِ ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ " وَالصَّلَاةُ إلَيْهَا " مُكَرَّرٌ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِاِتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا فَقَطْ ، نَعَمْ إنَّمَا يُتَّجَهُ هَذَا الْأَخْذُ إنْ كَانَ الْقَبْرُ قَبْرَ مُعَظَّمٍ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ كَمَا أَشَارَتْ إلَيْهِ رِوَايَةُ : { إذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ } وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا : { تَحْرُمُ الصَّلَاةُ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ تَبَرُّكًا

وَإِعْظَامًا } فَاشْتَرَطُوا شَيْئَيْنِ أَنْ يَكُونَ قَبْرَ مُعَظَّمٍ وَأَنْ يَقْصِدَ بِالصَّلَاةِ إلَيْهِ - وَمِثْلُهَا الصَّلَاةُ - عَلَيْهِ التَّبَرُّكَ وَالْإِعْظَامَ ، وَكَوْنُ هَذَا الْفِعْلِ كَبِيرَةً ظَاهِرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ لِمَا عَلِمْت ، وَكَأَنَّهُ قَاسَ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ تَعْظِيمٍ لِلْقَبْرِ كَإِيقَادِ السُّرُجِ عَلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَبَرُّكًا بِهِ ، وَالطَّوَافُ بِهِ كَذَلِكَ وَهُوَ أَخْذٌ غَيْرُ بَعِيدٍ ، سِيَّمَا وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِلَعْنِ مَنْ اتَّخَذَ عَلَى الْقَبْرِ سُرُجًا ، فَيُحْمَلُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ تَعْظِيمًا وَتَبَرُّكًا بِذِي الْقَبْرِ .
وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا فَجَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ بَعْدِي } أَيْ لَا تُعَظِّمُوهُ تَعْظِيمَ غَيْرِكُمْ لِأَوْثَانِهِمْ بِالسُّجُودِ لَهُ أَوْ نَحْوِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ : { وَاِتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا } هَذَا الْمَعْنَى اُتُّجِهَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ بَلْ كُفْرٌ بِشَرْطِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْظِيمِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ كَبِيرَةٌ فَفِيهِ بُعْدٌ ، نَعَمْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ : قَصْدُ الرَّجُلِ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْقَبْرِ مُتَبَرِّكًا بِهَا عَيْنُ الْمُحَادَّةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِبْدَاعُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ لِلنَّهْيِ عَنْهَا ثُمَّ إجْمَاعًا ، فَإِنَّ أَعْظَمَ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ أَوْ بِنَاؤُهَا عَلَيْهَا .
وَالْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ إذْ لَا يُظَنُّ بِالْعُلَمَاءِ تَجْوِيزُ فِعْلٍ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنُ فَاعِلِهِ ، وَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِهَدْمِهَا وَهَدْمِ الْقِبَابِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ إذْ هِيَ أَضَرُّ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ لِأَنَّهَا أُسِّسَتْ عَلَى مَعْصِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَدْمِ الْقُبُورِ الْمُشْرِفَةِ ، وَتَجِبُ إزَالَةُ كُلِّ قِنْدِيلٍ أَوْ سِرَاجٍ عَلَى قَبْرٍ وَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَنَذْرُهُ انْتَهَى .

( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالتِّسْعُونَ : سَفَرُ الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ ) أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ الطَّيِّبِ بْنِ مُحَمَّدٍ - وَبَقِيَّةُ رُوَاتِهِ رُوَاةُ الصَّحِيحِ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثِي الرِّجَالِ الَّذِينَ يَتَشَبَّهُونَ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَرَجِّلَات مِنْ النِّسَاءِ الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ وَرَاكِبَ الْفَلَاةِ وَحْدَهُ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { لَوْ أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : أَنَّ { رَجُلًا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَحِبْتَ ؟ قَالَ مَا صَحِبْتُ أَحَدًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ } .
وَرَوَى الْمَرْفُوعَ مِنْهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ بَابَ النَّهْيِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ عُصَاةٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْلَمَ أَنَّ الْوَاحِدَ شَيْطَانٌ ، وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ } ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ " شَيْطَانٌ " - أَيْ عَاصٍ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ } أَيْ عُصَاتَهُمْ انْتَهَى .
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : { الْوَاحِدُ شَيْطَانٌ وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ، وَظَاهِرُهُ مَا بَعْدَهُ ، لَكِنَّهُ لَا يُوَافِقُ كَلَامَ أَئِمَّتِنَا فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ ، فَلْيُحْمَلْ كَقَوْلِ ابْنِ خُزَيْمَةَ السَّابِقِ بِالْعِصْيَانِ عَلَى مَنْ عَلِمَ حُصُولَ ضَرَرٍ عَظِيمٍ لَهُ بِسَفَرِهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ آخَرَ فَقَطْ كَأَنْ كَانَ بِتِلْكَ الطَّرِيقِ سَبُعٌ ضَارٍ أَوْ نَحْوُهُ .

( الْكَبِيرَةُ الْمِائَةُ : سَفَرُ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا بِطَرِيقٍ تَخَافُ فِيهَا عَلَى بُضْعِهَا ) أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا إلَّا وَمَعَهَا أَبُوهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ ابْنُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا : " يَوْمَيْنِ " .
وَفِي أُخْرَى لَهُمَا : " مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ " .
وَفِي أُخْرَى لَهُمَا : " مَسِيرَةَ يَوْمٍ " .
وَفِي أُخْرَى لَهُمَا : " مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ " .
وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُد وَابْنِ خُزَيْمَةَ : " أَنْ تُسَافِرَ بَرِيدًا " .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا بِالْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرْته ظَاهِرٌ لِعَظِيمِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ غَالِبًا ، وَهِيَ اسْتِيلَاءُ الْفَجَرَةِ ، وَفُسُوقُهُمْ بِهَا ، فَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الزِّنَا وَلِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ ، وَأَمَّا الْحُرْمَةُ فَلَا تَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا السَّفَرُ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ وَإِنْ قَصُرَ السَّفَرُ وَكَانَ أَمْنًا وَلَوْ لِطَاعَةٍ كَنَفْلِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَلَوْ مَعَ النِّسَاءِ مِنْ التَّنْعِيمِ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ عَدُّهُمْ ذَلِكَ مِنْ الصَّغَائِرِ .

( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ : تَرْكُ السَّفَرِ ، وَالرُّجُوعُ مِنْهُ تَطَيُّرًا ) عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ، وَمَا مِنَّا إلَّا ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي صَحِيحِهِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ : فِي الْحَدِيثِ إضْمَارٌ وَالتَّقْدِيرُ : مَا مِنَّا إلَّا وَقَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَعْنِي قُلُوبَ أُمَّتِهِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُذْهِبُ ذَلِكَ عَنْ قَلْبِ كُلِّ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَثْبُتُ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى .
وَاعْتَرَضَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ لِأَنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَمَا مِنَّا إلَخْ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُدْرَجٌ غَيْرُ مَرْفُوعٍ .
وَنَقَلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ رَفْعَ ذَلِكَ ، وَيَقُولُ : كَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { الْعِيَافَةُ - أَيْ الْخَطُّ - وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ - أَيْ الزَّجْرُ - مِنْ الْجِبْتِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : { لَنْ يَنَالَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ اسْتَقْسَمَ أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ تَطَيُّرًا } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُعْتَقِدًا حُدُوثَ تَأْثِيرٍ لِلتَّطَيُّرِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي إسْلَامِ مِثْلِ هَذَا .

( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ : تَرْكُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَعَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَإِنْ قَالَ إنَّهُ يُصَلِّيهَا ظُهْرًا وَحْدَهُ ) .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ : { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَيْضًا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالَا : سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ : { لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَةَ - أَيْ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ تَرْكِهِمْ إيَّاهَا - أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ } .
وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : { مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنَيْ خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ : { مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مُنَافِقٌ } .
وَفِي أُخْرَى لِرَزِينٍ { فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
{ مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ } .
زَادَ الْبَيْهَقِيُّ : { وَجَعَلَ قَلْبَهُ قَلْبَ مُنَافِقٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهَا شَوَاهِدُ : { كُتِبَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ } .
وَفِي أُخْرَى - سَنَدُهَا صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - مَوْقُوفَةٍ : { فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ لَا يَأْتُونَهَا أَوْ لَيَطْبَعَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ } .
وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
{ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا ، وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَغِلُوا ، وَصِلُوا الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ ، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ تُرْزَقُوا وَتُنْصَرُوا وَتُجْبَرُوا ؛ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا فِي يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي عَامِي هَذَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدِي وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ اسْتِخْفَافًا بِهَا وَجُحُودًا بِهَا فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ ، وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ ، أَلَا وَلَا صَلَاةَ لَهُ وَلَا زَكَاةَ لَهُ وَلَا حَجَّ لَهُ وَلَا صَوْمَ لَهُ وَلَا بِرَّ لَهُ حَتَّى يَتُوبَ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَاضِحٌ مِمَّا ذَكَرْته فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبِهِ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْجَمَاعَةِ - عَلَى غَيْرِ ذَوِي الْأَعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفِقْهِ - فَرْضُ عَيْنٍ إجْمَاعًا ، بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، فَمَنْ اسْتَحَلَّهُ وَهُوَ مُخَالِطٌ الْمُسْلِمِينَ كَفَرَ فِيمَا يَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ قَالَ إنْسَانٌ : أُصَلِّي ظُهْرًا لَا جُمُعَةً قُتِلَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِهَا مِنْ أَصْلِهَا ، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ : إنَّ تَرْكَ الْجُمُعَةِ لِغَيْرِهَا صَغِيرَةٌ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِغَيْرِهَا : أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ الْجُمُعَةِ وَقَصَدَ صَلَاةَ الظُّهْرِ بَدَلَهَا وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ صَغِيرَةٌ حِينَئِذٍ فِيهِ نَظَرٌ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ أَنَّ مَنْ قَالَ أُصَلِّي الظُّهْرَ وَلَا أُصَلِّي الْجُمُعَةَ لَا يُقْتَلُ بِنَاءً عَلَى الضَّعِيفِ أَيْضًا أَنَّ الْجُمُعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ ، أَمَّا عَلَى الْأَصَحِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّهَا صَلَاةٌ

مُسْتَقِلَّةٌ وَلَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ الظُّهْرِ ؛ فَتَرْكُهَا كَبِيرَةٌ وَإِنْ قَالَ أُصَلِّي الظُّهْرَ كَمَا تَقَرَّرَ .
فَائِدَةٌ : أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفِ دِينَارٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ : { بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ أَوْ صَاعٍ أَوْ مُدٍّ } .
وَفِي أُخْرَى لِابْنِ مَاجَهْ مُرْسَلَةٍ : { أَوْ صَاعِ حِنْطَةٍ أَوْ نِصْفِ صَاعٍ } .

( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ : تَخَطِّي الرِّقَابِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ) أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اتَّخَذَ جِسْرًا إلَى جَهَنَّمَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : { بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ إذْ جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى جَلَسَ قَرِيبًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ : مَا مَنَعَك يَا فُلَانُ أَنْ تُجَمِّعَ مَعَنَا ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ حَرَصْت أَنْ أَضَعَ نَفْسِي بِالْمَكَانِ الَّذِي تَرَى ، قَالَ قَدْ رَأَيْتُك تَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَتُؤْذِيهِمْ ، مَنْ آذَى مُسْلِمًا فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْحَاكِمُ : { إنَّ الَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ كَجَارِّ قُصْبِهِ أَيْ أَمْعَائِهِ فِي النَّارِ } ، قِيلَ وَالتَّقْيِيدُ بِالْجُمُعَةِ لِلْغَالِبِ .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْت } .
زَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ : " وَأُوذِيتَ " .
وَزَادَ أَيْضًا كَأَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ : " وَآنَيْتَ " أَيْ بِالْمَدِّ أَخَّرْت الْمَجِيءَ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَخْذًا قَرِيبًا إلَّا أَنَّ الْأَصَحَّ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ

مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِهَا عَلَى مَنْ آذَى بِهِ النَّاسَ أَذًى شَدِيدًا عُرْفًا ، وَحَمْلُ الْكَرَاهَةِ عَلَى مَا إذَا خَفَّ ذَلِكَ الْأَذَى ، وَيَأْتِي عَلَى الْأَثَرِ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْجُلُوسِ وَسْطَ الْحَلْقَةِ .

( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ الْجُلُوسُ وَسْطُ الْحَلْقَةِ ) : أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ : { أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ وَسْطَ حَلْقَةٍ فَقَالَ حُذَيْفَةُ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، أَوْ : { لَعَنَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ : { مَنْ تَخَطَّى حَلْقَةَ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَهُوَ عَاصٍ } .
وَأَبُو دَاوُد : { لَا تَجْلِسْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ : { لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا } .
وَالْبَغَوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { إذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ الْمَجْلِسَ فَإِنْ وَسِعَ لَهُ فَلْيَجْلِسْ وَإِلَّا فَلْيَنْظُرْ إلَى أَوْسَعِ مَكَان يَرَاهُ فَلْيَجْلِسْ فِيهِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ اللَّعْنِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَخْذٌ ظَاهِرٌ إنْ آذَى بِهِ غَيْرَهُ إيذَاءً لَا يُحْتَمَلُ عُرْفًا ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ أَيْضًا .
وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا بِكَرَاهَتِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا خَفَّ الْإِيذَاءُ بِهِ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْصِيلَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كُتُبِنَا الْفِقْهِيَّةِ فِي حَمْلِ السِّلَاحِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ، وَتَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ الزَّحْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الْإِيذَاءَ إنْ خَفَّ كُرِهَ وَإِلَّا حَرُمَ ، وَبِهَذَا اتَّضَحَ أَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا وَالْحَدِيثِ ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ تَنَبَّهَ لَهُ .

الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ ) : لُبْسُ الذَّكَرِ أَوْ الْخُنْثَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الْحَرِيرَ الصِّرْفَ أَوْ الَّذِي أَكْثَرُهُ حَرِيرٌ وَزْنًا لَا ظُهُورًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَدَفْعِ قَمْلٍ أَوْ حَكَّةٍ .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } .
زَادَ النَّسَائِيُّ وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ } .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ } .
زَادَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ : { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ } .
وَالشَّيْخَانِ : { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : رَأَيْت { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ ، وَذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي يَسَارِهِ ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَمَنْ شَرِبَ فِي آنِيَةٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَمْ يَشْرَبْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ ، ثُمَّ قَالَ : لِبَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ - أَيْ الْحَرِيرُ - وَشَرَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ - أَيْ الْخَمْرُ - وَآنِيَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ - أَيْ الذَّهَبُ } .
وَالشَّيْخَانِ : سَمِعْت ابْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ وَيَقُولُ : لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } .
زَادَ النَّسَائِيُّ : { وَمَنْ لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } } وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ الْحِلْيَةَ وَالْحَرِيرَ وَيَقُولُ : إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ حِلْيَةَ الْجَنَّةِ وَحَرِيرَهَا فَلَا تَلْبَسُوهُمَا فِي الدُّنْيَا .
وَفَهِمَهُ هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ بِعَدَمِ لُبْسِهِ فِي الْآخِرَةِ يَجْرِي فِي النِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ مِمَّنْ أُبِيحَ لَهُ لُبْسُهُ إنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ احْتِيَاطٍ ، وَإِلَّا فَتَجْوِيزُ لُبْسِهِ لَهُنَّ : الظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ لُبْسَهُ فِي الْآخِرَةِ .
وَالشَّيْخَانِ : { أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُّوجُ حَرِيرٍ - أَيْ بِفَتْحِ الْفَاءِ فَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ مُشَدَّدَةٍ فَجِيمٍ : قَبَاءٌ شُقَّ مِنْ خَلْفِهِ - فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ ، ثُمَّ قَالَ لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا حُرِمَهُ فِي الْآخِرَةِ } .
وَالْبُخَارِيُّ : { نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ } .
وَأَحْمَدُ : { لَا يَسْتَمْتِعُ بِالْحَرِيرِ مَنْ يَرْجُو أَيَّامَ اللَّهِ } أَيْ لِقَاءَ اللَّهِ وَحِسَابَهُ .
وَأَحْمَدُ : { إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا يَرْجُو أَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ } .
قَالَ الْحَسَنُ

: فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَبْلُغُهُمْ هَذَا عَنْ نَبِيِّهِمْ فَيَجْعَلُونَ حَرِيرًا فِي ثِيَابِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ .
وَأَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى طُعْمٍ وَشُرْبٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ ، فَيُصْبِحُوا قَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، وَلَيُصِيبَنَّهُمْ خَسْفٌ وَقَذْفٌ حَتَّى يُصْبِحَ النَّاسُ ، فَيَقُولُونَ : خُسِفَ اللَّيْلَةَ بِبَنِي فُلَانٍ ، خُسِفَ اللَّيْلَةَ بِدَارِ فُلَانٍ ، وَلَتُرْسَلَنَّ عَلَيْهِنَّ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ كَمَا أُرْسِلَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ عَلَى قَبَائِلَ فِيهَا وَعَلَى دُورٍ ، وَلَتُرْسَلَنَّ عَلَيْهِمْ الرِّيحُ الْعَقِيمُ كَمَا أُرْسِلَتْ إلَى عَادٍ عَلَى قَبَائِلَ فِيهَا وَعَلَى دُورٍ بِشُرْبِهِمْ الْخَمْرَ وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ وَأَكْلِهِمْ الرِّبَا وَقَطِيعَتِهِمْ الرَّحِمَ } .
وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَأَبُو دَاوُد : { لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ يُمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَوَّاهُ : { إذَا اسْتَحَلَّتْ أُمَّتِي خَمْسًا فَعَلَيْهِمْ الدَّمَارُ } أَيْ الْهَلَاكُ { إذَا ظَهَرَ التَّلَاعُنُ ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ ، وَلَبِسُوا الْحَرِيرَ ، وَاِتَّخَذُوا الْقَيْنَاتِ ، وَاكْتَفَى الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ } .
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَكَانَ مُتَّكِئًا عَلَى شِبْهِ مِخَدَّةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَأَزَالَهَا فَأُخْبِرَ أَنَّهُ أَزَالَهَا لِأَجْلِهِ } { نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ إنْ لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهِمْ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } وَاَللَّهِ لَأَنْ أَضْطَجِعَ عَلَى جَمْرِ الْغَضَى أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَضْطَجِعَ عَلَيْهَا } .
وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةً مُجَيَّبَةً بِحَرِيرٍ : أَيْ لَهَا جَيْبٌ أَيْ طَوْقٌ مِنْهُ ، فَقَالَ طَوْقٌ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَهُوَ مَحْمُولٌ

عَلَى غَيْرِ التَّسْجِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ جُبَّةٌ .
مَكْفُوفَةٌ - أَيْ مُسَجَّفَةٌ - بِالدِّيبَاجِ .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَقَدْ وَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ : { مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ حَرِيرٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمًا أَوْ ثَوْبًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ حَرِيرٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - ثَوْبَ مَذَلَّةٍ مِنْ النَّارِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ النَّارِ } .
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ حُذَيْفَةَ مَوْقُوفًا : { مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ حَرِيرٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - يَوْمًا مِنْ نَارٍ لَيْسَ مِنْ أَيَّامِكُمْ وَلَكِنْ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ - تَعَالَى - الطِّوَالِ } .

( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ ) : تَحَلِّي الذَّكَرِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ بِذَهَبٍ كَخَاتَمٍ أَوْ فِضَّةٍ غَيْرِ خَاتَمٍ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَلَا يَلْبَسْ حَرِيرًا وَلَا ذَهَبًا } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ أَيْضًا وَالطَّبَرَانِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ شُرْبَهَا فِي الْجَنَّةِ ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي وَهُوَ يَتَحَلَّى بِالذَّهَبِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ لُبْسَهُ فِي الْجَنَّةِ } .
وَمُسْلِمٌ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ وَطَرَحَهُ وَقَالَ يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَطْرَحُهَا فِي يَدِهِ ، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذْ خَاتَمَك انْتَفِعْ بِهِ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا آخُذُهُ وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَالنَّسَائِيُّ : { إنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ نَجْرَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : إنَّك جِئْتنِي وَفِي يَدِك جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { وَيْلٌ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْأَحْمَرَيْنِ : الذَّهَبِ وَالْمُعَصْفَرِ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ وَغَيْرُهُ : { أُرِيتُ أَنِّي دَخَلْت الْجَنَّةَ فَإِذَا أَعَالِي أَهْلِ الْجَنَّةِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَذَرَارِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ أَقَلُّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالنِّسَاءِ ، فَقِيلَ لِي : أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَإِنَّهُمْ عَلَى الْبَابِ يُحَاسَبُونَ وَيُمَحَّصُونَ ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَأَلْهَاهُنَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ } الْحَدِيثَ ، وَبِهِ يُعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ { وَيْلٌ لِلنِّسَاءِ } فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ : أَيْ أَنَّ هَذَيْنِ سَبَبٌ

لِلَهْوِهِنَّ وَإِعْرَاضِهِنَّ عَنْ الْخَيْرِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرَهُ لِأَنَّهُمَا حَلَالَانِ لَهُنَّ إجْمَاعًا .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ لُبْسِ الْحَرِيرِ كَبِيرَةً هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحَادِيثِهِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ فِيهِ لِمَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، لَكِنَّ جُمْهُورَ أَئِمَّتِنَا عَلَى أَنَّهُ صَغِيرَةٌ ، وَلَعَلَّهُمْ نَظَرُوا إلَى اخْتِصَاصِ الْكَبِيرَةِ بِمَا فِيهِ حَدٌّ ، وَمَرَّ أَنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ .
فَالْوَجْهُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ عِنْدَ النَّظَرِ إلَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ - وَحَدُّهَا بِأَنَّهَا مَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ - الْجَزْمُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ، وَمِمَّنْ اخْتَارَ ذَلِكَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ ، وَغَيْرُهُ إلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ، وَأَمَّا عَدُّ لُبْسِ الذَّهَبِ الَّذِي ذَكَرْته - بَحْثًا - كَبِيرَةً فَهُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْحَرِيرِ مَعَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ الَّذِي فِي أَحَادِيثِهِ الصَّحِيحَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَإِلْحَاقُ حِلْيَةِ الْفِضَّةِ بِهِ الَّذِي ذَكَرْته مُحْتَمَلٌ وَإِنْ أَمْكَنَ الْفَرْقُ بِأَنَّ الذَّهَبَ أَغْلَظُ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا يَحِلُّ لُبْسُ بَعْضِ حِلْيَةِ الْفِضَّةِ غَيْرِ الْخَاتَمِ لِلرَّجُلِ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى حِلِّ بَلْ نَدْبِ لُبْسِ خَاتَمِهَا لَهُ وَتَحْرِيمِ خَاتَمِ الذَّهَبِ لَهُ .
فَوَائِدُ : يَحِلُّ نَحْوُ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ بِحَائِلٍ وَلَوْ رَقِيقًا وَمُهَلْهَلًا بِخِلَافِ الْمُخَرَّقِ ، وَمِنْ اسْتِعْمَالِهِ الْمُحَرَّمِ التَّدَثُّرُ بِهِ وَاِتِّخَاذُهُ سِتْرًا ، وَيَحِلُّ التَّسْجِيفُ بِهِ بِقَدْرِ الْعَادَةِ ، وَجَعْلُ الطِّرَازِ مِنْهُ عَلَى الْكُمِّ إذَا كَانَ بِقَدْرِ أَرْبَعِ أَصَابِعَ ، وَخَيْطِ السُّبْحَةِ ، وَعَلَمِ الرُّمْحِ ، وَكِيسِ الْمُصْحَفِ ، وَإِلْبَاسُهُ كَحُلِيِّ النَّقْدَيْنِ لِلْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ إلَى الْبُلُوغِ .
وَأَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِتَأْثِيمِ مُتَّخِذِ الْحَرِيرِ لَكِنَّهُ دُونَ إثْمِ اللُّبْسِ ، وَالنَّوَوِيُّ بِتَحْرِيمِ كِتَابَةِ الصَّدَاقِ فِيهِ لِلرَّجُلِ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِمَنْ نَازَعَ فِيهِ ، وَتَزْيِينُ الْبُيُوتِ وَالْمَسَاجِدِ

بِحَرِيرٍ أَوْ بِصُوَرٍ حَرَامٌ ، وَلَوْ لِامْرَأَةٍ وَبِغَيْرِهِمَا مَكْرُوهٌ وَكَالْحَرِيرِ مَا صُبِغَ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ عُصْفُرٍ أَوْ وَرْسٍ عَلَى كَلَامٍ فِيهِ بَيَّنْتُهُ كَفَوَائِدَ غَزِيرَةٍ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ .

الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ ) : تَشَبُّهُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ فِيمَا يَخْتَصِصْنَ بِهِ عُرْفًا غَالِبًا مِنْ لِبَاسٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ نَحْوِهَا وَعَكْسِهِ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَنَّ امْرَأَةً مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَلِّدَةً قَوْسًا فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } .
وَالْبُخَارِيُّ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ } : وَالْأَوَّلُ جَمْعُ مُخَنَّثٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ مَنْ فِيهِ انْخِنَاثٌ ، وَهُوَ التَّكَسُّرُ وَالتَّثَنِّي كَمَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى ، وَالثَّانِي الْمُتَشَبِّهَاتُ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ - وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ - : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَةَ الْمَرْأَةِ ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَ الرَّجُلِ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثِي الرِّجَالِ الَّذِينَ يَتَشَبَّهُونَ بِالنِّسَاءِ ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ ، وَرَاكِبَ الْفَلَاةِ وَحْدَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ : { أَرْبَعَةٌ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَأَمَّنَتْ الْمَلَائِكَةُ : رَجُلٌ جَعَلَهُ اللَّهُ ذَكَرًا فَأَنَّثَ نَفْسَهُ وَتَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ ، وَامْرَأَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ أُنْثَى فَتَذَكَّرَتْ وَتَشَبَّهَتْ بِالرِّجَالِ ، وَاَلَّذِي يُضِلُّ الْأَعْمَى ، وَرَجُلٌ حَصُورٌ وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ حَصُورًا إلَّا يَحْيَى

بْنَ زَكَرِيَّا } .
وَأَبُو دَاوُد : { أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُخَنَّثٍ قَدْ خَضَّبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا بَالُ هَذَا ؟ قَالُوا يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إلَى النَّقِيعِ } ، أَيْ بِالنُّونِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْمَدِينَةِ .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : فِي مَتْنِهِ نَكَارَةٌ وَلَيْسَ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ .
وَصَحَّ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَالدَّيُّوثُ ، وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ لَا أَعْلَمُ فِي رُوَاتِهَا مَجْرُوحًا : { ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَبَدًا : الدَّيُّوثُ وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا مُدْمِنُ الْخَمْرِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الدَّيُّوثُ ؟ قَالَ : الَّذِي لَا يُبَالِي بِمَنْ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ ، قُلْنَا : فَمَا الرَّجُلَةُ مِنْ النِّسَاءِ ؟ قَالَ الَّتِي تَتَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَاضِحٌ لِمَا عَرَفْت مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَاَلَّذِي رَأَيْته لِأَئِمَّتِنَا أَنَّ ذَلِكَ التَّشَبُّهَ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَرَامٌ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ بَلْ صَوَّبَهُ .
وَثَانِيهِمَا : أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ .
وَالصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ الْحُرْمَةِ بَلْ مَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْكَبَائِرِ عَدَّهُ مِنْهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَعُلِمَ مِنْ خَبَرِ الْمُخَنَّثِ الْمَخْضُوبِ الَّذِي نَفَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ تَشَبُّهِهِ بِالنِّسَاءِ بِخَضْبِهِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَنَّ خَضْبَ الرَّجُلِ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ حَرَامٌ ، بَلْ كَبِيرَةٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ

قَرِيبًا مِنْ الْيَمَنِ فَاخْتَلَفَ فِيهَا عُلَمَاؤُهَا وَصَنَّفُوا فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ثُمَّ أَرْسَلُوا إلَيَّ بِمَكَّةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ ثَلَاثَ مُصَنَّفَاتٍ ، اثْنَيْنِ فِي حِلِّهِ مُطْلَقًا ، وَوَاحِدًا فِي حُرْمَتِهِ ، وَطَلَبُوا مِنِّي إبَانَةَ الْحَقِّ فِي الْمَسْأَلَةِ فَأَلَّفْت فِيهَا كِتَابًا حَافِلًا سَمَّيْته شَنُّ الْغَارَةِ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ مَعَرَّةَ تَقَوُّلِهِ فِي الْحِنَّاءِ ، وَعَوَارَهُ وَإِنَّمَا سَمَّيْته بِذَلِكَ لِيُطَابِقَ اسْمُهُ مُسَمَّاهُ ، فَإِنَّ بَعْضَ الْقَائِلِينَ بِالْحِلِّ تَعَدَّى طَوْرَهُ إلَى أَنْ ادَّعَى فِيهِ الِاجْتِهَادَ ، وَزَعَمَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْحُرْمَةِ - أَيْ وَهُمْ الْأَصْحَابُ قَاطِبَةً بَلْ وَالشَّافِعِيُّ كَمَا بَيَّنْته ثَمَّ - اسْتَرْوَحُوا وَلَمْ يَتَأَمَّلُوهُ فَغَلَّطُوا فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ أَكْثَرُوا فِي الْكَلَامِ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ وَالْمُجَازَفَاتِ ، وَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّهُ أَبْرَزَ أَدِلَّةً خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّ تَقْلِيدَهُ أَوْ تَقْلِيدَ شَيْخِهِ التَّابِعِ لَهُ فِي الْحِلِّ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِهِمْ ، فَلِعَظِيمِ ضَرَرِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَسُوءِ صَنِيعِ وَطَوِيَّةِ هَذَا الْمُجَازِفِ جَرَّدْت صَارِمَ الْعَزْمِ وَبَاتِرَ التَّنْقِيبِ وَالْفَحْصِ وَالْفَهْمِ ، وَأَوْرَيْت زَنْدَ الْفِكْرِ حَمِيَّةً لِأَئِمَّتِنَا غُيُوثِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى ، وَانْتِصَارًا لِإِيضَاحِ الْحَقِّ الصُّرَاحِ ، وَإِدْحَاضِ ذَلِكَ الْبَاطِلِ الْبَرَاحِ ، فَلِذَلِكَ اتَّسَعَ مَجَالُ ذَلِكَ الْكِتَابِ ، وَتَعَيَّنَ فِيهِ إيثَارُ جَادَّةِ الْإِطْنَابِ ، وَظَهَرَتْ بِهِ سُبُلُ الصَّوَابِ بِحَمْدِ رَبِّنَا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ مَتَابٌ .
خَاتِمَةٌ : يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِمَّا تَقَعُ فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ فِي مِشْيَةٍ أَوْ لُبْسَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ اللَّعْنَةِ بَلْ وَعَلَيْهِ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّهَا أَصَابَهُ مَا أَصَابَهَا وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } أَيْ بِتَعْلِيمِهِمْ

وَتَأْدِيبِهِمْ وَأَمْرِهِمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَنَهْيِهِمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَلِقَوْلِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ هَلَاكَ الرِّجَالِ طَاعَتُهُمْ لِنِسَائِهِمْ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْحَسَنُ : وَاَللَّهِ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ رَجُلٌ يُطِيعُ امْرَأَتَهُ فِيمَا تَهْوَى إلَّا كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ } .

( الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ ) : لُبْسُ الْمَرْأَةِ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُ بَشَرَتَهَا ، وَمَيْلُهَا ، وَإِمَالَتُهَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا : قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا } .
وَكَاسِيَاتٌ ، أَيْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَعَارِيَّاتٌ أَيْ مِنْ شُكْرِهَا ؛ وَالْمُرَادُ كَاسِيَاتٌ صُورَةً عَارِيَّاتٌ مَعْنًى بِأَنْ تَلْبَسَ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُ لَوْنَ أَبْدَانِهِنَّ ، وَمَائِلَاتٌ أَيْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا يَلْزَمُهُنَّ فِعْلُهُ وَحِفْظُهُ ، وَمُمِيلَاتٌ ، أَيْ لِغَيْرِهِنَّ إلَى فِعْلِهِنَّ الْمَذْمُومِ بِتَعْلِيمِهِنَّ إيَّاهُنَّ ذَلِكَ ، أَوْ مَائِلَاتٌ يَمْشِينَ مُتَبَخْتِرَاتٍ مُمِيلَاتٍ لِأَكْتَافِهِنَّ ، أَوْ مَائِلَاتٌ تُمْشَطْنَ الْمِشْطَةَ الْمَيْلَاءَ وَهِيَ مِشْطَةُ الْبَغَايَا .
مُمِيلَاتٌ : أَيْ يُمَشِّطْنَ غَيْرَهُنَّ تِلْكَ الْمِشْطَةَ .
رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ : أَيْ يُكَبِّرْنَهَا وَيُعَظِّمْنَهَا بِلَفِّ نَحْوِ عِمَامَةٍ أَوْ عِصَابَةٍ .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : { يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي رِجَالٌ يَرْكَبُونَ عَلَى سُرُوجٍ كَأَشْبَاهِ الرِّحَالِ يَنْزِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ ، نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ ، لَوْ كَانَ وَرَاءَكُمْ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ خَدَمَتْهُنَّ نِسَاؤُكُمْ كَمَا خَدَمَتْكُمْ نِسَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ } .
وَأَبُو دَاوُد مُرْسَلًا عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ أُخْتَهَا { أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : يَا أَسْمَاءُ إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا

بَلَغَتْ زَمَنَ الْحَيْضِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا هَذَا وَأَشَارَ إلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ } .
تَنْبِيهٌ : ذِكْرُ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْأَوْلَى مِمَّا مَرَّ فِي تَشَبُّهِهِنَّ بِالرِّجَالِ .
قَالَ الذَّهَبِيُّ : وَمِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُلْعَنُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا إظْهَارُ زِينَتِهَا كَذَهَبٍ أَوْ لُؤْلُؤٍ مِنْ تَحْتِ نِقَابِهَا ، وَتَطَيُّبُهَا بِطِيبٍ كَمِسْكٍ إذَا خَرَجَتْ .
وَكَذَا لُبْسُهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا كُلَّ مَا يُؤَدِّي إلَى التَّبَهْرُجِ كَمَصُوغٍ بَرَّاقٍ وَإِزَارِ حَرِيرٍ وَتَوْسِعَةِ كُمٍّ وَتَطْوِيلِهِ ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ التَّبَهْرُجِ الَّذِي يَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَاعِلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَلِهَذِهِ الْقَبَائِحِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِنَّ قَالَ عَنْهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ } .

( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ : طُولُ الْإِزَارِ أَوْ الثَّوْبِ أَوْ الْكُمِّ أَوْ الْعَذَبَةِ خُيَلَاءَ ) ( الْكَبِيرَةُ الْعَاشِرَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ : التَّبَخْتُرُ فِي الْمَشْيِ ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ : { إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى عَضَلَةِ سَاقِهِ ثُمَّ إلَى نِصْفِ سَاقِهِ ثُمَّ إلَى كَعْبَيْهِ وَمَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ } .
وَأَيْضًا : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } .
وَأَيْضًا : { مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ إزَارِي يَسْتَرْخِي إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّك لَسْت مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ يَقُولُ : { مَنْ جَرَّ إزَارَهُ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إلَّا الْمَخِيلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالْخُيَلَاءُ بِضَمٍّ أَوْ كَسْرٍ فَفَتْحٍ وَمَدٍّ : الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ ، وَالْمَخِيلَةُ مِنْ الِاخْتِيَالِ وَهُوَ الْكِبْرُ وَاسْتِحْقَارُ النَّاسِ .
وَأَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِزَارِ فَهُوَ فِي الْقُمُصِ } .
وَمَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَأَلْت أَبَا سَعِيدٍ عَنْ الْإِزَارِ فَقَالَ عَلَى الْخَبِيرِ بِهَا سَقَطْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى نِصْفِ السَّاقِ وَلَا حَرَجَ أَوْ قَالَ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ ، مَا كَانَ

أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَمَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { دَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيَّ إزَارٌ يَتَقَعْقَعُ فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قُلْت : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، قَالَ : إنْ كُنْت عَبْدَ اللَّهِ فَارْفَعْ إزَارَك ، فَرَفَعْت إزَارِي إلَى نِصْفِ السَّاقَيْنِ فَلَمْ تَزَلْ إزْرَتَهُ حَتَّى مَاتَ } .
وَمُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قَالَ : فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
قَالَ أَبُو ذَرٍّ : خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْمُسْبِلُ إزَارَهُ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ وَثَّقَهُ الْجُمْهُورُ { وَالْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مَنْ جَرَّ شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَخِيلَةِ وَلَا يُحِبُّهَا اللَّهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ : { يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اتَّقُوا اللَّهَ وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ثَوَابٍ أَسْرَعَ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْبَغْيَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ أَسْرَعَ مِنْ عُقُوبَةِ الْبَغْيِ ، وَإِيَّاكُمْ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ ، وَاَللَّهِ لَا يَجِدُهَا عَاقٌّ وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ وَلَا شَيْخٌ زَانٍ وَلَا جَارُّ إزَارِهِ خُيَلَاءَ ، إنَّمَا الْكِبْرِيَاءُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } الْحَدِيثَ .
وَأَيْضًا : { مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَى اللَّهِ كَرِيمًا } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ

فَقَالَ لِي : هَذِهِ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَلِلَّهِ فِيهَا عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ بِعَدَدِ شُعُورِ غَنَمِ بَنِي كَلْبٍ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ فِيهَا إلَى مُشْرِكٍ وَلَا إلَى سَاحِرٍ وَلَا إلَى قَاطِعِ رَحِمٍ وَلَا إلَى مُسْبِلٍ وَلَا إلَى عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ وَلَا إلَى مُدْمِنِ خَمْرٍ } .
وَالْبَزَّارُ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ : { كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَخْطِرُ فِي حُلَّةٍ لَهُ ، فَلَمَّا قَامَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا بُرَيْدَةُ هَذَا لَا يُقِيمُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } وَمَرَّتْ بَقِيَّةُ أَحَادِيثِ التَّبَخْتُرِ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ فِي بَحْثِ الْكِبْرِ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ مَا صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِمَا ، وَتَقْرِيرُ الشَّيْخَيْنِ صَاحِبَ الْعُدَّةِ عَلَى أَنَّ التَّبَخْتُرَ فِي الْمَشْيِ مِنْ الصَّغَائِرِ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَنْتَهِ بِهِ الْحَالُ إلَى أَنْ يَقْصِدَ بِهِ التَّكَبُّرَ الْمُنْضَمَّ إلَيْهِ نَحْوُ اسْتِحْقَارِ الْخَلْقِ ، وَإِلَّا فَهُوَ كَبِيرَةٌ إذْ التَّكَبُّرُ مِنْ الْكَبَائِرِ كَمَا مَرَّ وَصَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا ، وَمِنْ ثَمَّ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّيْخَيْنِ جَمْعٌ بِأَنَّ تَقْرِيرَهُمَا لَهُ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ نَظَرٌ إذَا تَعَمَّدَهُ تَكَبُّرًا وَفَخْرًا وَإِكْثَارًا قَالَ - تَعَالَى - : { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إنَّك لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا } وَالْمَرَحُ : التَّبَخْتُرُ كَمَا فِي رِيَاضِ النَّوَوِيِّ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ } وَفِيهِمَا : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ بَطَرًا } .
وَفِيهِمَا أَيْضًا : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجَّلَةً

رَأْسُهُ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ } .
وَيَتَجَلْجَلُ بِالْجِيمِ : أَيْ يَغُوصُ وَيَنْزِلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْمِائَةِ خَضْبُ نَحْوِ اللِّحْيَةِ بِالسَّوَادِ لِغَيْرِ غَرَضٍ نَحْوِ جِهَادٍ ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَزَعْمُ ضَعْفِهِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَكُونُ قَوْمٌ يُخَضِّبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ عَدَّهُ مِنْهَا ، وَكَانَ الْأَنْسَبُ ذِكْرَ هَذَا مَعَ مُلَائِمِهِ السَّابِقِ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ لَهُ مُنَاسَبَةَ مَا بِهَذَا الْبَابِ أَيْضًا .

( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْمِائَةِ : قَوْلُ الْإِنْسَانِ إثْرَ الْمَطَرِ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ نَجْمِ كَذَا أَيْ وَقْتِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا ) أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدِ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إثْرَ سَمَاءِ أَيْ مَطَرٍ مِنْ اللَّيْلِ { هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ ؛ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا مَا ذُكِرَ كَافِرٌ حَقِيقَةً وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الْكَبَائِرِ الَّتِي لَا تُزِيلُ الْإِسْلَامَ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ النَّوْءَ نَزَلَ بِالْمَاءِ فَهُوَ كَافِرٌ حَلَالٌ دَمُهُ إنْ لَمْ يَتُبْ .
وَفِي الرَّوْضَةِ : إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ النَّوْءَ مُمْطِرٌ حَقِيقَةً كَفَرَ وَصَارَ مُرْتَدًّا .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ النَّوْءَ سَبَبٌ يُنْزِلُ اللَّهُ بِهِ الْمَاءَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَقَدْ كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَجَهِلَ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ وَالرَّابِعَةَ عَشْرَةَ وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ وَالسَّادِسَةَ عَشْرَةَ وَالسَّابِعَةَ عَشْرَةَ وَالثَّامِنَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْمِائَةِ : خَمْشُ أَوْ لَطْمُ نَحْوِ الْخَدِّ ، وَشَقُّ نَحْوِ الْجَيْبِ ، وَالنِّيَاحَةُ وَسَمَاعُهَا ، وَحَلْقٌ أَوْ نَتْفُ الشَّعَرِ ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ( أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } .
وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ { أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ - أَيْ الرَّافِعَةِ صَوْتَهَا بِالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ ، وَالْحَالِقَةِ - أَيْ لِرَأْسِهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ، وَالشَّاقَّةِ : أَيْ لِثَوْبِهَا } وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ : { أَبْرَأُ إلَيْكُمْ كَمَا بَرِئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ وَلَا خَرَقَ وَلَا صَلَقَ } .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ { اثْنَتَانِ مِنْ النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { ثَلَاثَةٌ مِنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ : شَقُّ الْجَيْبِ : أَيْ طَوْقِ الْقَمِيصِ ، وَالنِّيَاحَةُ ، وَالطَّعْنُ فِي النَّسَبِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ : { ثَلَاثٌ هِيَ الْكُفْرُ } وَفِي أُخْرَى : { ثَلَاثٌ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ رَنَّ إبْلِيسُ رَنَّةً اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ جُنُودُهُ فَقَالَ : ايْأَسُوا أَنْ تَرُدُّوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا ، وَلَكِنْ افْتِنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ وَأَفْشُوا فِيهِمْ النَّوْحَ } .
وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِزْمَارٌ عِنْدَ نِعْمَةٍ وَرَنَّةٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ }

وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { لَا تُصَلِّي الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَائِحَةٍ وَلَا مُرِنَّةٍ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ : الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ } .
وَقَالَ : { النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ } أَيْ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ : نُحَاسٌ مُذَابٌ أَوْ مَا تُدَاوَى بِهِ الْإِبِلُ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ { وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { النِّيَاحَةُ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَإِنَّ النَّائِحَةَ إذَا مَاتَتْ وَلَمْ تَتُبْ قَطَعَ اللَّهُ لَهَا ثِيَابًا مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعًا مِنْ لَهَبِ النَّارِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ : { إنَّ هَذِهِ النَّوَائِحَ لَيُجْعَلْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَّيْنِ فِي جَهَنَّمَ صَفٌّ عَنْ يَمِينِهِمْ وَصَفٌّ عَنْ يَسَارِهِمْ فَيَنْبَحْنَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ كَمَا تَنْبَحُ الْكِلَابُ } وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَلَيْسَ فِي إسْنَادِهِ مَنْ تُرِكَ .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ } .
وَالشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { لَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ قَالَتْ وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ شَقِّ الْبَابِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ إنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنِي أَوْ غَلَبْنَنَا فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ فَقُلْتُ وَأَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ فَوَاَللَّهِ مَا أَنْتَ

بِفَاعِلٍ وَلَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَنَاءِ } .
وَأَبُو دَاوُد عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ الْمُبَايِعَاتِ قَالَتْ : { كَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَعْرُوفِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَخْمُشَ وَجْهًا وَلَا نَدْعُوَ وَيْلًا وَلَا نَشُقَّ جَيْبًا وَلَا نَنْتِفَ شَعَرًا } .
وَابْنَا مَاجَهْ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْخَامِشَةَ وَجْهَهَا وَالشَّاقَّةَ جَيْبَهَا وَالدَّاعِيَةَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ } .
وَالشَّيْخَانِ : { الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { مَا نِيحَ عَلَيْهِ } .
وَرَوَيَا أَيْضًا : { مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالْبُخَارِيُّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ تَبْكِي وَا جَبَلَاهُ وَا كَذَا وَا كَذَا تُعَدِّدُ عَلَيْهِ فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ مَا قُلْتِ لِي شَيْئًا إلَّا قِيلَ لِي أَنْتَ كَذَلِكَ ، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ } وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ { فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَصَاحَتْ النِّسَاءُ وَا عِزَّاهُ وَا جَبَلَاهُ فَقَامَ مَلَكٌ وَمَعَهُ مِرْزَبَّةٌ فَجَعَلَهَا بَيْنَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَنْتَ كَمَا تَقُولُهُ ؟ قُلْت : لَا ، وَلَوْ قُلْت نَعَمْ ضَرَبَنِي بِهَا } .
وَرُوِيَ أَيْضًا : { أَنَّ مُعَاذًا وَقَعَ لَهُ نَظِيرُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ قَالَ مَا زَالَ مَلَكٌ شَدِيدُ الِانْتِهَارِ كُلَّمَا قُلْت وَا كَذَا وَا كَذَا قَالَ أَكَذَلِكَ أَنْتَ ؟ فَأَقُولُ لَا } وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ : { مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ وَا جَبَلَاهُ وَا سَنَدَاهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ أَهَكَذَا كُنْتَ } ، وَاللَّهْزُ الدَّفْعُ بِجُمْعِ الْيَدِ إلَى الصَّدْرِ .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ إذَا

قَالَتْ وَا عَضُدَاهُ وَا مَانِعَاهُ وَا كَاسِيَاهُ حَبَّذَا الْمَيِّتُ ، فَقِيلَ أَنَاصِرُهَا أَنْتَ أَكَاسِيهَا أَنْتَ } .
وَحَكَى الْأَوْزَاعِيُّ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ صَوْتَ بُكَاءٍ فَدَخَلَ وَمَعَهُ غَيْرُهُ فَمَالَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا حَتَّى بَلَغَ النَّائِحَةَ فَضَرَبَهَا حَتَّى سَقَطَ خِمَارُهَا فَقَالَ اضْرِبْ فَإِنَّهَا نَائِحَةٌ وَلَا حُرْمَةَ لَهَا ، إنَّهَا لَا تَبْكِي لِشَجْوِكُمْ إنَّهَا تُهْرِيقُ دُمُوعَهَا عَلَى أَخْذِ دَرَاهِمِكُمْ وَإِنَّهَا تُؤْذِي مَوْتَاكُمْ فِي قُبُورِهِمْ وَأَحْيَاءَكُمْ فِي دُورِهِمْ إنَّهَا تَنْهَى عَنْ الصَّبْرِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَتَأْمُرُ بِالْجَزَعِ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ .
تَنْبِيهٌ : قَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّعْنِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ أَيْ يُؤَدِّي إلَيْهِ ، أَوْ لِمَنْ اسْتَحَلَّ ، أَوْ بِالنِّعَمِ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ صِحَّةُ مَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَنَّ تِلْكَ كُلَّهَا كَبَائِرُ وَيَلْحَقُ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا .
وَأَمَّا تَقْرِيرُ الشَّيْخَيْنِ لِصَاحِبِ الْعُدَّةِ عَلَى أَنَّ النِّيَاحَةَ وَالصِّيَاحَ وَشَقَّ الْجَيْبِ فِي الْمَصَائِبِ مِنْ الصَّغَائِرِ فَمَرْدُودٌ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : لَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرَّأَ مِنْ فَاعِلِ ذَلِكَ وَقَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ } الْحَدِيثَ .
وَقَالَ : { اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الطَّعْنِ فِي النَّسَبِ ، وَالنِّيَاحَةِ ، قِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ : أَصَحُّهَا : أَنَّهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ وَأَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ كُفْرُ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ ، وَالرَّابِعُ : أَنَّ ذَلِكَ

فِي الْمُسْتَحِلِّ انْتَهَى .
فَيَجِبُ الْجَزْمُ بِأَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ النِّيَاحَةِ وَشَقِّ الْجَيْبِ وَالصِّيَاحِ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ وَاسْتِحْضَارِ النَّهْيِ عَنْهُ وَالتَّشْدِيدَاتِ فِيهِ ، وَتَعَمَّدَ ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ الْعَدَالَةِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَإِيذَاءِ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ السُّنَّةُ .
انْتَهَى كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَأَمَّا النِّيَاحَةُ وَمَا بَعْدَهَا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَسَخُّطًا بِالْقَضَاءِ ، وَعَدَمَ رِضًا بِالْمَقْضِيِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، وَإِنْ كَانَ لِفَرْطِ الْجَزَعِ وَالضَّعْفِ عَنْ حَمْلِ الْمُصِيبَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارِ سَخَطٍ وَنَحْوِهِ فَمُحْتَمَلٌ .
وَهَلْ يُعْذَرُ الْجَاهِلُ ؟ فِيهِ نَظَرٌ .
وَقَالَ فِي الْخَادِمِ : وَأَمَّا النِّيَاحَةُ وَمَا بَعْدَهَا فَقَضِيَّةُ الْخَبَرِ بِالتَّوَعُّدِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً انْتَهَى .
فَيَحْرُمُ النَّدْبُ - وَهُوَ تَعْدِيدُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ كَوَا جَبَلَاهُ - ، وَالنَّوْحُ - وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ وَمِثْلُهُ إفْرَاطُ رَفْعِهِ بِالْبُكَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِنَدْبٍ وَلَا نَوْحٍ - وَضَرْبُ نَحْوِ الْخَدِّ ، وَشَقُّ نَحْوِ الْجَيْبِ ، وَنَشْرُ الشَّعَرِ ، وَحَلْقُهُ ، وَنَتْفُهُ ، وَتَسْوِيدُ الْوَجْهِ ، وَإِلْقَاءُ الرَّمَادِ عَلَى الرَّأْسِ ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ : أَيْ الْهَلَاكِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِلزِّيِّ كَلُبْسِ مَا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ أَصْلًا أَوْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَكَتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِ وَالْخُرُوجِ بِدُونِهِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ ، وَقَدْ اُبْتُلِيَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِتَغْيِيرِ الزِّيِّ مَعَ مَا تَقَرَّرَ مِنْ حُرْمَتِهِ بَلْ كَوْنِهِ كَبِيرَةً وَفِسْقًا قِيَاسًا عَلَى تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ وَإِنْ كَانَتْ أَفْحَشَ مِنْهُ ، لِأَنَّهُمْ عَلَّلُوهَا بِمَا يَعُمُّ الْكُلَّ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ إشْعَارًا ظَاهِرًا بِالسَّخَطِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ ، أَمَّا الْبُكَاءُ السَّالِمُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ بَعْدَهُ إنْ

أَمْكَنَ ، وَقَالَ جَمْعٌ إنَّهُ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { فَإِذَا وَجَبَتْ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ } .
وَقَدْ بَكَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَهُ عَلَى وَلَدِهِ وَغَيْرِهِ .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَادَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ فَبَكَى فَلَمَّا رَأَوْهُ بَكَوْا فَقَالَ : أَلَا تَسْمَعُونَ ، إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا أَوْ يَرْحَمُ وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ } .
وَأَخْرَجَا أَيْضًا : أَنَّهُ { رُفِعَ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنٌ لِبِنْتِهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ : مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ } .
وَالْبُخَارِيُّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : يَا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى ، فَقَالَ : إنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ } .
وَأَخَذَ أَصْحَابُنَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلَهُمْ : دَمْعُ الْعَيْنِ بِلَا بُكَاءٍ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ ، وَمَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ اخْتَلَفُوا فِي مَاذَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَتَ فَلَمْ يَأْمُرْ وَلَمْ يَنْهَ أَوْ أَمَرَ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِسَبَبِ أَمْرِهِ وَامْتِثَالِهِمْ لَهُ ، لِأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا ، فَالْإِثْمُ يَزِيدُ عَلَيْهِ

بِالِامْتِثَالِ بِمَا لَا يُوجَدُ لَوْ لَمْ يُمْتَثَلْ ، وَقِيلَ : إنَّهُ إذَا سَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ نَحْوِ النَّوْحِ يُعَذَّبُ بِذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ نَهْيِهِمْ رِضًا مِنْهُ بِهِ فَعُذِّبَ بِهِ كَمَا لَوْ أَمَرَ ، فَمَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ وَرْطَةِ هَذَا الْقَوْلِ يَنْبَغِي لَهُ إذَا نَزَلَ بِهِ مَرَضٌ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ بِدَعِ الْجَنَائِزِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الشَّنِيعَةِ وَالْقَبَائِحِ الْفَظِيعَةِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ : وَيَتَأَكَّدُ لِمَنْ اُبْتُلِيَ بِمُصِيبَةٍ بِمَيِّتٍ أَوْ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ وَإِنْ خَفَّتْ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ : إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
اللَّهُمَّ اجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا .
لِخَبَرِ مُسْلِمٍ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَجَرَهُ اللَّهُ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا ، وَلِأَنَّهُ - تَعَالَى - وَعَدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِأَنَّ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةً وَأَنَّهُمْ الْمُهْتَدُونَ ، أَيْ لِلتَّرْجِيعِ أَوْ لِلْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ .
قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ : لَقَدْ أُعْطِيت هَذِهِ الْأُمَّةُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُمْ { إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } .
وَلَوْ أُوتُوهُ لَقَالَهُ يَعْقُوبُ وَلَمْ يَقُلْ { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { مَا أُصِيبَ عَبْدٌ بِمُصِيبَةٍ إلَّا لِذَنْبٍ لَمْ يَكُنْ يُغْفَرُ إلَّا بِهَا أَوْ دَرَجَةٍ لَمْ يَكُنْ يَبْلُغُهَا إلَّا بِهَا } .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِلَفْظِ : { مَا أَصَابَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا حَتَّى الشَّوْكَةُ إلَّا لِإِحْدَى خَصْلَتَيْنِ ، إمَّا لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الذُّنُوبِ ذَنْبًا لَمْ يَكُنْ لِيُغْفَرَ لَهُ إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ ، أَوْ يَبْلُغَ بِهِ مِنْ الْكَرَامَةِ كَرَامَةً لَمْ يَكُنْ يَبْلُغُهَا إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ } .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { أَنَّ بِنْتًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إلَيْهِ تُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَهَا فِي الْمَوْتِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّسُولِ ارْجِعْ إلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ

لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ } .
قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مُهِمَّاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَالْأَدَبِ وَالصَّبْرِ عَلَى النَّوَازِلِ كُلِّهَا وَالْهُمُومِ وَالْأَسْقَامِ وَسَائِرِ الْأَعْرَاضِ ، وَمَعْنَى ( أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ ) أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ مُلْكُهُ فَلَمْ يَأْخُذْ إلَّا مَا هُوَ لَهُ عِنْدَكُمْ فِي مَعْنَى الْعَارِيَّةِ ( وَلَهُ مَا أَعْطَى ) أَيْ مَا وَهَبَهُ لَكُمْ إذْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مُلْكِهِ فَيَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ) أَيْ فَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ .
فَمَنْ عَلِمَ هَذَا أَدَّاهُ إلَى أَنْ يَصْبِرَ وَيَحْتَسِبَ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ مَوْتُ ابْنِهِ { أَيُّمَا كَانَ أَحَبَّ إلَيْك أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَك أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَك إلَيْهِ فَيَفْتَحُهُ لَك ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَحَبُّ إلَيَّ ، قَالَ هُوَ لَك ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ؟ فَقَالَ بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً } .
وَفِي خَبَرِ مُسْلِمٍ : { مَا مِنْ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُؤْمِنُ إلَّا كُفِّرَ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا } .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ } .
وَكَأَنَّ الْقَاضِيَ حُسَيْنًا - مِنْ أَكَابِرِ أَئِمَّتِنَا - أَخَذَ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ الَّذِي أَقَرُّوهُ عَلَيْهِ : يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ حُزْنُهُ عَلَى فِرَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى فِرَاقِ أَبَوَيْهِ ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ .
وَفِي حَدِيثٍ { إنَّ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَاسْتَرْجَعَ عِنْدَ مَوْتِ

وَلَدِهِ أَمَرَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ أَنْ يَبْنُوا لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَيُسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ } .
وَفِي أُخْرَى عِنْدَ الْبُخَارِيِّ : { مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ جَزَاءٌ إذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الْجَنَّةُ } .
وَفِي أُخْرَى : { إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى } أَيْ إنَّمَا يُحْمَدُ الصَّبْرُ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ الْمُصِيبَةِ وَأَمَّا فِيمَا بَعْدُ فَيَقَعُ السُّلُوُّ طَبْعًا .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ أَوَّلَ أَيَّامِ الْمُصِيبَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْأَحْمَقُ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا مِنْ النَّارِ ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَدَّمْت اثْنَيْنِ قَالَ وَاثْنَيْنِ ، قَالَ آخَرُ : قَدَّمْت وَاحِدًا قَالَ وَوَاحِدًا ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ صَدْمَةٍ } .
وَفِي أُخْرَى { مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ أَيْ وَلَدَانِ مِنْ أُمَّتِي دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : وَمَنْ لَهُ فَرَطٌ ؟ قَالَ وَمَنْ لَهُ فَرَطٌ } الْحَدِيثَ .
وَفِي خَبَرِ مُسْلِمٍ : { أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ لِأَهْلِهَا لَا يُحَدِّثُهُ إلَّا أَنَا ، فَلَمَّا جَاءَتْ قَرَّبَتْ إلَيْهِ عَشَاءَهُ فَأَكَلَ وَشَرِبَ ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ تَتَصَنَّعُ لَهُ قَبْلُ فَغَشِيَهَا ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وَأَصَابَ قَالَتْ : يَا أَبَا طَلْحَةَ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا عَارِيَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ فَطَلَبُوا عَارِيَّتَهُمْ أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ ؟ قَالَ لَا ، قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فَاحْتَسِبْ ابْنَك فَغَضِبَ ، ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا } الْحَدِيثَ .
وَفِي حَدِيثٍ : { مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ } .
وَقَالَ عَلِيٌّ لِلْأَشْعَثِ : إنَّك إنْ صَبَرْت صَبَرْت إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَإِلَّا سَلَوْت كَمَا تَسْلُو الْبَهَائِمُ : أَيْ

لِأَنَّهُ بِطُولِ الزَّمَنِ يَقَعُ السُّلُوُّ طَبْعًا ، وَقِيلَ لِمُصَابٍ : لَا تَجْمَعْ بَيْنَ مُصِيبَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ ذَهَابِ الْوَلَدِ وَالْأَجْرِ .
وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ : { إنَّ الْأَطْفَالَ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ أَيْ حُجَّابُ أَبْوَابِهَا يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ أَوْ قَالَ بِيَدِهِ فَلَا يَنْتَهِي حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ } .
وَضَحِكَ ابْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَفْنِهِ لِابْنِهِ فَقِيلَ لَهُ ؟ فَقَالَ : أَرَدْت أَنْ أُرْغِمَ الشَّيْطَانَ .
وَرَأَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَدَهُ فِي الْمَوْتِ ، فَقَالَ : يَا بُنَيَّ لَأَنْ تَكُونَ فِي مِيزَانِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ فِي مِيزَانِك ، وَلَمَّا أُسِيلَ دَمُ عُثْمَانَ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ قَتْلِهِ قَالَ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَعِينُ بِك عَلَيْهِمْ وَأَسْتَعِينُك عَلَى جَمِيعِ أُمُورِي وَأَسْأَلُك الصَّبْرَ عَلَى مَا أَبْلَيْتَنِي وَلَمَّا قُطِعَتْ رِجْلُ عُرْوَةَ لِأَكِلَةٍ بِهَا لَمْ يَتَأَوَّهْ وَإِنَّمَا قَالَ : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } وَلَمْ يَدَعْ وِرْدَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ؛ وَقَدِمَ فِيهَا عَلَى الْوَلِيدِ أَعْمَى فَسَأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَأَوْلَادٌ وَأَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فَجَاءَهُمْ سَيْلٌ فَأَهْلَكَهُمْ إلَّا بَعِيرًا وَصَبِيًّا فَنَدَّ الْبَعِيرُ فَاتَّبَعَهُ ، فَجَاءَ الذِّئْبُ فَأَكَلَ صَبِيَّهُ وَلَمَّا لَحِقَ الْبَعِيرَ رُمْحُهُ فَأَذْهَبَ عَيْنَيْهِ وَذَهَبَ فَأَصْبَحَ لَا مَالَ وَلَا وَلَدَ فَقَالَ الْوَلِيدُ : انْطَلِقُوا بِهِ إلَى عُرْوَةَ لِيَعْلَمَ أَنَّ فِي الْأَرْضِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ بَلَاءً مِنْهُ .
وَرَأَى الْمَدَائِنِيُّ امْرَأَةً بِالْبَادِيَةِ فِي غَايَةِ الْجَمَالِ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا نَضْرَةُ السُّرُورِ فَبَيَّنَتْ لَهُ أَنَّهَا قَرِيبَةُ أَحْزَانٍ وَهُمُومٍ ، وَأَنَّ زَوْجَهَا ذَبَحَ شَاةً ، فَأَرَادَ أَحَدُ ابْنَيْهَا أَنْ يَفْعَلَ بِأَخِيهِ كَذَلِكَ فَذَبَحَهُ فَخَافَ فَفَرَّ إلَى الْجَبَلِ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَفَرَّ أَبُوهُ خَلْفَهُ فَتَاهَ وَمَاتَ عَطَشًا ، فَقَالَ : لَهَا

كَيْفَ أَنْتِ وَالصَّبْرُ ؟ قَالَتْ كَانَ جُرْحًا فَانْدَمَلَ .
قِيلَ : وَسَبَبُ تَوْبَةِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ كَانَ سِكِّيرًا فَمَاتَتْ لَهُ بِنْتٌ كَانَ يُحِبُّهَا ، فَرَأَى لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ ، وَحَيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَتْبَعُهُ كُلَّمَا أَسْرَعَ أَسْرَعَتْ ، فَمَرَّ بِشَيْخٍ ضَعِيفٍ فَسَأَلَهُ أَنْ يُنْقِذَهُ مِنْهَا ، فَقَالَ : أَنَا عَاجِزٌ ، مُرَّ وَأَسْرِعْ لَعَلَّك تَنْجُو مِنْهَا فَأَسْرَعَ وَهِيَ خَلْفَهُ حَتَّى مَرَّ عَلَى طَبَقَاتِ النَّارِ وَهِيَ تَفُورُ ، وَكَادَ أَنْ يَهْوِيَ فِيهَا ، وَإِذَا بِصَوْتٍ لَسْتَ مِنْ أَهْلِي ، فَمَرَّ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى جَبَلٍ بِهِ طَاقَاتٌ وَسُتُورٌ ، وَإِذَا بِصَوْتٍ أَدْرِكُوا هَذَا الْيَائِسَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ عَدُوُّهُ ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ أَطْفَالٌ فِيهِمْ بِنْتُهُ فَنَزَلَتْ إلَيْهِ ، وَضَرَبَتْ بِيَدِهَا الْيُمْنَى إلَى الْحَيَّةِ فَوَلَّتْ هَارِبَةً ، وَجَلَسَتْ فِي حِجْرِهِ قَائِلَةً : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ } فَقُلْت أَتَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ؟ قَالَتْ : نَحْنُ أَعْرَفُ بِهِ مِنْكُمْ ، ثُمَّ سَأَلَهَا مَا مُقَامُهُمْ هُنَا ؟ ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ أُسْكِنُوا هُنَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَنْتَظِرُونَ آبَاءَهُمْ يَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ تِلْكَ الْحَيَّةِ ؟ فَقَالَتْ عَمَلُك السُّوءُ ، وَعَنْ الشَّيْخِ ؟ فَقَالَتْ عَمَلُك الصَّالِحُ أَضْعَفْتَهُ حَتَّى لَمْ تَكُنْ لَهُ طَاقَةٌ بِعَمَلِك السُّوءِ فَتُبْ إلَى اللَّهِ وَلَا تَكُنْ مِنْ الْهَالِكِينَ ، ثُمَّ ارْتَفَعَتْ عَنْهُ وَاسْتَيْقَظَ فَتَابَ تَوْبَةَ النَّصُوحِ لِوَقْتِهِ ، فَتَأَمَّلْ نَفْعَ الذُّرِّيَّةِ لَكِنْ إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ رَضِيَ أَوْ صَبَرَ ، وَأَمَّا مَنْ سَخِطَ فَدَعَا بِوَيْلٍ أَوْ لَطْمٍ أَوْ شَقٍّ أَوْ حَلْقٍ مَثَلًا فَعَلَيْهِ سَخَطُ اللَّهِ وَلَعَنَتُهُ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً .
وَرُوِيَ أَنَّ الضَّرْبَ عَلَى الْفَخِذِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُحْبِطُ الْأَجْرَ .
وَرُوِيَ أَيْضًا : { مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَخَرَقَ عَلَيْهَا ثَوْبًا أَوْ لَطَمَ خَدًّا أَوْ شَقَّ جَيْبًا أَوْ

نَتَفَ شَعَرًا فَكَأَنَّمَا أَخَذَ رُمْحًا يُرِيدُ أَنْ يُحَارِبَ بِهِ رَبَّهُ } .
قَالَ صَالِحٌ الْمُزَنِيّ : نِمْت لَيْلَةَ جُمُعَةٍ بِمَقْبَرَةٍ فَرَأَيْت الْأَمْوَاتَ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ وَتَحَلَّقُوا ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ أَطْبَاقٌ مُغَطَّاةٌ وَفِيهِمْ شَابٌّ يُعَذَّبُ فَتَقَدَّمْتُ وَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي : وَالِدَتِي جَمَعَتْ النَّوَادِبَ فَأَنَا مُعَذَّبٌ بِذَلِكَ فَلَا جَزَاهَا اللَّهُ عَنِّي خَيْرًا وَبَكَى ، ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَذْهَبَ إلَيْهَا ، وَأَعْلَمَنِي مَحَلَّهَا وَأَنْ أُنَاشِدَهَا بِتَرْكِ هَذَا الْعَذَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَسَبَّبَتْ لَهُ فِيهِ ، فَلَمَّا أَصْبَحْت ذَهَبْت إلَيْهَا وَرَأَيْت عِنْدَهَا تِلْكَ النَّوَادِبَ ، وَوَجْهُهَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ كَثْرَةِ اللَّطْمِ وَالْبُكَاءِ فَذَكَرْت لَهَا ذَلِكَ الْمَنَامَ فَتَابَتْ وَأَخْرَجَتْ النَّوَادِبَ وَأَعْطَتْنِي دَرَاهِمَ أَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُ ، فَأَتَيْت الْمَقْبَرَةَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَادَتِي وَتَصَدَّقْت عَنْهُ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ فَنِمْت فَرَأَيْته وَهُوَ يَقُولُ لِي جَزَاك اللَّهُ عَنِّي خَيْرًا ، أَذْهَبَ اللَّهُ عَنِّي الْعَذَابَ وَوَصَلَتْنِي الصَّدَقَةُ فَأَخْبِرْ أُمِّي بِذَلِكَ ، فَاسْتَيْقَظْت وَذَهَبْت إلَيْهَا فَوَجَدْتهَا مَاتَتْ فَحَضَرْت الصَّلَاةَ عَلَيْهَا ، وَدُفِنَتْ بِجَنْبِ وَلَدِهَا .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : { يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ وُثِقَ بِهِ : { يُؤْتَى بِالشَّهِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ لِلْحِسَابِ ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمُتَصَدِّقِ فَيُنْصَبُ لِلْحِسَابِ ، ثُمَّ يُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلَاءِ فَلَا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ وَلَا يُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ الْأَجْرُ صَبًّا حَتَّى إنَّ أَهْلَ الْعَافِيَةِ لَيَتَمَنَّوْنَ فِي الْمَوْقِفِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ مِنْ حُسْنِ ثَوَابِ اللَّهِ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ } أَيْ يُوَجِّهْ إلَيْهِ مُصِيبَةً أَوْ

بَلَاءً ، وَصَحَّ : { إذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ } .
وَصَحَّ أَيْضًا : { إنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَنْزِلَةُ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ فَمَا يَزَالُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ إيَّاهَا } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ فَلَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلٍ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبَلِّغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ اللَّهَ لَيُجَرِّبُ أَحَدَكُمْ بِالْبَلَاءِ كَمَا يُجَرِّبُ أَحَدُكُمْ ذَهَبَهُ بِالنَّارِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرُجُ كَالذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ فَذَلِكَ الَّذِي حَمَاهُ اللَّهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرُجُ دُونَ ذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي يَشُكُّ بَعْضَ الشَّكِّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرُجُ كَالذَّهَبِ الْأَسْوَدِ فَذَلِكَ الَّذِي اُفْتُتِنَ } .
وَالشَّيْخَانِ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ أَيْ تَعَبٍ وَلَا وَصَبٍ أَيْ مَرَضٍ وَلَا هَمٍّ أَيْ وَلَا حُزْنٍ وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا : { مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا } .
وَلِمُسْلِمٍ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ الشَّوْكَةَ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا كُتِبَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ } .
وَصَحَّ : { مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } .
وَصَحَّ أَيْضًا : { مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ فَكَتَمَهَا وَلَمْ يَشْكُهَا إلَى النَّاسِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ } .
وَصَحَّ : { وَصَبُ الْمُؤْمِنِ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَاهُ .
إذَا اشْتَكَى الْمُؤْمِنُ أَخْلَصَهُ اللَّهُ مِنْ الذُّنُوبِ كَمَا يُخْلِصُ الْكِيرُ

خَبَثَ الْحَدِيدِ } .
سَأَلَتْ امْرَأَةٌ بِهَا لَمَمٌ أَيْ ، جُنُونٌ ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا فَقَالَ : { إنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكِ وَإِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَا حِسَابَ عَلَيْك ، قَالَتْ بَلْ أَصْبِرُ وَلَا حِسَابَ عَلَيَّ } .
{ مَا ضَرَبَ عَلَى مُؤْمِنٍ عِرْقٌ قَطُّ إلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً وَرَفَعَ لَهُ دَرَجَةً } .
{ إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا } .
{ إنَّ الْمَرِيضَ تَتَحَاتُّ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ } .
{ صُدَاعُ الْمُؤْمِنِ وَشَوْكَةٌ يُشَاكُهَا أَوْ شَيْءٌ يُؤْذِيهِ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ دَرَجَتَهُ وَيُكَفِّرُ عَنْهُ بِهَا ذُنُوبَهُ } .
{ إنَّ اللَّهَ لَيَبْتَلِي عَبْدَهُ بِالسَّقَمِ حَتَّى يُكَفِّرَ ذَلِكَ عَنْهُ كُلَّ ذَنْبٍ } .
{ لَا تَسُبُّنَّ الْحُمَّى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } .
{ إنَّ اللَّهَ لَيُكَفِّرُ عَنْ الْمُؤْمِنِ خَطَايَاهُ كُلَّهَا بِحُمَّى لَيْلَةٍ } .
{ الْحُمَّى حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْ النَّارِ } .
وَصَحَّ أَيْضًا { لَمَّا نَزَلَ { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } شَقَّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً شَدِيدَةً فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ يُجْزَى بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُصِيبَةٍ فِي جَسَدِهِ مِمَّا يُؤْذِيهِ } .
وَسَأَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غَفَرَ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَمْرَضُ أَلَسْت تَحْزَنُ أَلَسْتَ تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ : أَيْ شِدَّةُ الضِّيقِ ، قَالَ : قُلْت بَلَى ، قَالَ هُوَ الَّذِي تُجْزَوْنَ بِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : إنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَوَتْ نَظِيرَ ذَلِكَ فِي { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } .

( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ ، وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ ) كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ ، وَالْجُلُوسُ عَلَى الْقُبُورِ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ } .
وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { لَأَنْ أَمْشِيَ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ أَخْصِفَ نَعْلِي بِرِجْلِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى قَبْرٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَأَنْ أَطَأَ عَلَى جَمْرَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَطَأَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا لَكِنْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ قَالَ : { رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ انْزِلْ مِنْ عَلَى الْقَبْرِ لَا تُؤْذِي صَاحِبَ الْقَبْرِ وَلَا يُؤْذِيكَ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ لَمْ أَرَهُ لَكِنْ قَدْ تُفْهِمُهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ ، لِأَنَّ الْوَعِيدَ الَّذِي فِيهَا شَدِيدٌ وَلَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ فِي كَسْرِ عَظْمِهِ لِمَا عَلِمْت مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ .
وَأَمَّا الْجُلُوسُ ؛ فَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى حُرْمَتِهِ وَتَبِعَهُمْ النَّوَوِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَخْذًا مِنْ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِيهِ ، فَكَمَا أَنَّهُمْ أَخَذُوا حُرْمَتَهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ نَأْخُذُ كَوْنَهُ كَبِيرَةً مِنْهُ لِصِدْقِ حَدِّهَا السَّابِقِ عَلَيْهِ إذْ هُوَ مِمَّا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ .

( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ أَوْ السُّرُجِ عَلَى الْقُبُورِ ، وَزِيَارَةُ النِّسَاءِ لَهَا ، وَتَشْيِيعُهُنَّ الْجَنَائِزَ ( أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنَا مَاجَهْ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ مُخْتَلَفٍ فِي اتِّصَالِهِ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } .
وَأَبُو دَاوُد عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَبَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي مَيِّتًا ، فَلَمَّا فَرَغْنَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرَفْنَا ، فَلَمَّا حَاذَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَابَهُ وَقَفَ فَإِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ مُقْبِلَةٍ قَالَ أَظُنُّهُ عَرَفَهَا ، فَلَمَّا ذَهَبَتْ فَإِذَا هِيَ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَخْرَجَك يَا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِك ؟ قَالَتْ : أَتَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلَ هَذَا الْمَيِّتِ فَرَحِمْتُ إلَيْهِمْ مَيِّتَهُمْ أَوْ قَالَتْ عَزَّيْتُهُمْ بِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّك بَلَغْتِ مَعَهُمْ الْكُدَى بِكَافٍ مَضْمُومَةٍ : أَيْ الْمَقَابِرَ ، فَقَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ فِيهَا مَا تَذْكُرُ ، فَقَالَ لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمْ الْكُدَى فَذَكَرَ تَشْدِيدًا فِي ذَلِكَ } .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ : { لَوْ بَلَغْتِهَا مَعَهُمْ مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ : { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَإِذَا نِسْوَةٌ جُلُوسٌ قَالَ : مَا يُجْلِسُكُنَّ ، قُلْنَ نَنْتَظِرُ الْجِنَازَةَ ، قَالَ هَلْ تَغْسِلْنَ ؟ قُلْنَ لَا ، قَالَ هَلْ تَحْمِلْنَ ؟ قُلْنَ لَا ، قَالَ هَلْ تُدْلِينَ فِيمَنْ يُدْلِي ؟ قُلْنَ لَا ، قَالَ فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُوَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي الْأَوَّلَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ لَعْنِ فَاعِلِهِمَا ، وَصَرِيحُ الْحَدِيثِ الثَّانِي فِي الثَّانِيَةِ ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ فَاطِمَةَ فِي الثَّالِثَةِ بَلْ صَرِيحُ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ : " مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ " إلَى آخِرِهَا ، وَلَمْ أَرَ مَنْ عَدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، بَلْ كَلَامُ أَصْحَابِنَا فِي الثَّلَاثَةِ مُصَرِّحٌ بِكَرَاهَتِهَا دُونَ حُرْمَتِهَا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا كَبِيرَةً ، فَلْيُحْمَلْ كَوْنُ هَذِهِ كَبَائِرَ عَلَى مَا إذَا عَظُمَتْ مَفَاسِدُهَا كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنْ النِّسَاءِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْمَقَابِرِ وَخَلْفَ الْجَنَائِزِ بِهَيْئَةٍ قَبِيحَةٍ جِدًّا ، إمَّا لِاقْتِرَانِهَا بِالنِّيَاحَةِ وَنَحْوِهَا أَوْ بِالزِّينَةِ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ بِحَيْثُ يُخْشَى مِنْهَا الْفِتْنَةُ خَشْيَةً قَوِيَّةً ، وَكَأَنْ بُنِيَ الْمَسْجِدُ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ لِأَنَّهُ مِنْ حَيِّزِ الْغَصْبِ حِينَئِذٍ وَكَأَنْ يُسْرَفَ فِي الْإِيقَادِ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ مِنْ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ، فَحِينَئِذٍ يَتَّضِحُ عَدُّ هَذِهِ كَبَائِرَ ، نَعَمْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِحُرْمَةِ السِّرَاجِ عَلَى الْقَبْرِ وَإِنْ قَلَّ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ مُقِيمٌ وَلَا زَائِرٌ وَعَلَّلُوهُ بِالْإِسْرَافِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْمَجُوسِ ، فَلَا يَبْعُدُ فِي هَذَا حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً .

( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الرُّقَى ، وَتَعْلِيقُ التَّمَائِمِ ، وَالْحُرُوزِ الْآتِي بَيَانُهَا ) أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ ، وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَالْحَاكِمُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا : { أَنَّهُ جَاءَ فِي رَكْبٍ عَشَرَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَقَالُوا مَا شَأْنُهُ ؟ فَقَالَ إنَّ فِي عَضُدِهِ تَمِيمَةً فَفَصَّى الرَّجُلُ التَّمِيمَةَ فَبَايَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ مَنْ عَلَّقَ فَقَدْ أَشْرَكَ } .
وَصَحَّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً أَرَاهُ قَالَ مِنْ صُفْرٍ فَقَالَ : وَيْحَك مَا هَذِهِ ؟ قَالَ : مِنْ الْوَاهِنَةِ .
قَالَ : أَمَا إنَّهَا لَا تَزِيدُك إلَّا وَهَنًا انْبِذْهَا عَنْك فَإِنَّك لَوْ مِتّ وَهِيَ عَلَيْك مَا أَفْلَحْت أَبَدًا } .
وَصَحَّ : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَفِي عُنُقِهَا شَيْءٌ تَتَعَوَّذُ بِهِ فَجَذَبَهُ فَقَطَعَهُ ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ أَصْبَحَ آلُ عَبْدِ اللَّهِ أَغْنِيَاءَ عَنْ أَنْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ثُمَّ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ قَالُوا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذِهِ الرُّقَى وَالتَّمَائِمُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا التُّوَلَةُ ؟ قَالَ شَيْءٌ تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ يَتَحَبَّبْنَ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ } ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ التُّوَلَةَ بِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ أَنَّهُ شَيْءٌ يُشْبِهُ السِّحْرَ أَوْ مِنْ أَنْوَاعِهِ تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ لِتَحَبُّبِهَا إلَى زَوْجِهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ : { أَنَّ زَوْجَتَهُ قَالَتْ

لَهُ إنِّي خَرَجْت يَوْمًا فَأَبْصَرَنِي فُلَانٌ فَدَمَعَتْ عَيْنِي الَّتِي تَلِيهِ فَإِذَا رَقَيْتُهَا سَكَنَتْ دَمْعَتُهَا ، وَإِذَا تَرَكْتُهَا دَمَعَتْ قَالَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ إذَا أَطَعْتِهِ تَرَكَكِ وَإِذَا عَصَيْتِهِ طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي عَيْنِك ، وَلَكِنْ لَوْ فَعَلْتِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خَيْرًا لَكِ وَأَجْدَرَ أَنْ تُشْفَى تَنْضَحِي فِي عَيْنِكِ الْمَاءَ وَتَقُولِي : أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا } .
وَصَحَّ : { لَيْسَتْ التَّمِيمَةُ مَا يُعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ الْبَلَاءِ إنَّمَا التَّمِيمَةُ مَا يُعَلَّقُ بِهِ قَبْلَ الْبَلَاءِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الْوَعِيدُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا سِيَّمَا تَسْمِيَتُهُ شِرْكًا ، لَكِنْ لَمْ أَرَ أَحَدًا صَرَّحَ بِذَلِكَ بِخُصُوصِهِ ، وَلَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِمَا يُفْهَمُ جَرَيَانُ ذَلِكَ فِيهِ بِالْأَوْلَى ، نَعَمْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ خَرَزَةٍ - يُسَمُّونَهَا تَمِيمَةً - أَوْ نَحْوِهَا يَرَوْنَ أَنَّهَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ الْآفَاتِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِقَادَ هَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ وَأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ شِرْكًا فَهُوَ يُؤَدِّي إلَيْهِ إذْ لَا يَنْفَعُ وَيَضُرُّ وَيَمْنَعُ وَيَدْفَعُ إلَّا اللَّهُ - تَعَالَى - .
وَأَمَّا الرُّقَى فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَوْ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يُعْرَفْ مَعْنَاهَا فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ حَرَامٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : { اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ } ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَجْهُولَ قَدْ يَكُونُ سِحْرًا أَوْ كُفْرًا .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَلِكَ : فَأَمَّا إذَا كَانَ مَفْهُومَ الْمَعْنَى وَكَانَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّهُ

مُسْتَحَبٌّ مُتَبَرَّكٌ بِهِ .

الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : كَرَاهَةُ لِقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - ( أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، فَقُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَمَّا كَرَاهَةُ الْمَوْتِ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ، فَقَالَ لَيْسَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَنْ أَنَسٍ : { مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ .
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ، قَالَ لَيْسَ ذَاكَ كَرَاهَةَ الْمَوْتِ ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا اُحْتُضِرَ جَاءَهُ الْمُبَشِّرُ مِنْ اللَّهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَإِنَّ الْكَافِرَ أَوْ الْفَاجِرَ إذَا اُحْتُضِرَ جَاءَهُ مَا هُوَ صَائِرٌ إلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ أَوْ مَا يَلْقَى مِنْ الشَّرِّ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ فَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْضًا : { لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ لِلِقَائِهِ أَحَبَّ ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إذَا جَاءَهُ مَا يَكْرَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ لِلِقَائِهِ أَكْرَهَ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اللَّهُمَّ مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَعَلِمَ أَنَّ مَا جِئْت بِهِ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِك فَأَقْلِلْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَحَبِّبْ إلَيْهِ لِقَاءَك وَعَجِّلْ لَهُ الْقَضَاءَ ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي وَلَمْ يُصَدِّقْنِي وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا جِئْت بِهِ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِك فَأَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ

عُمْرَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيِّ : { اللَّهُمَّ مَنْ آمَنَ بِك وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُك فَحَبِّبْ إلَيْهِ لِقَاءَك وَسَهِّلْ عَلَيْهِ قَضَاءَك وَأَقْلِلْ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِك وَلَمْ يَشْهَدْ أَنِّي رَسُولُك فَلَا تُحَبِّبْ إلَيْهِ لِقَاءَك وَلَا تُسَهِّلْ عَلَيْهِ قَضَاءَك وَأَكْثِرْ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ إذْ كَرَاهَةُ اللَّهِ لِلِقَاءِ مَنْ كَرِهَ لِقَاءَهُ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَلَيْسَ مُجَرَّدُ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لِلنَّفْسِ فَلَمْ تَكُنْ كَرَاهَتُهُ مُقْتَضِيَةً لِلْإِثْمِ بِخِلَافِ كَرَاهَتِهِ مِنْ حَيْثُ كَرَاهَةُ لِقَاءِ اللَّهِ ، فَإِنَّهَا تُنْبِي عَنْ الْيَأْسِ مِنْ الرَّحْمَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْحَدِيثُ الثَّانِي ، وَمَرَّ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، فَكَذَا هَذَا الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ ، ثُمَّ رَأَيْت غَيْرَ وَاحِدٍ عَدُّوا مِنْ الْكَبَائِرِ سُوءَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته إذْ هُوَ عَيْنُ كَرَاهَةِ لِقَائِهِ - تَعَالَى - .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ } .

الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : تَرْكُ الزَّكَاةِ ، وَتَأْخِيرُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ) قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } سَمَّاهُمْ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَالَ - تَعَالَى - : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ، وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إلَّا إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ } أَيْ وَيُوَسَّعُ جِسْمُهُ لَهَا كُلِّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ .
كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : { كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْإِبِلُ ؟ قَالَ وَلَا صَاحِبُ إبِلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وُرُودِهَا إلَّا إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ : أَيْ مَكَان أَمْلَسَ ، أَوْفَرَ : أَيْ أَسْمَنَ مَا كَانَتْ لَا يَفْقِدُ فَصِيلًا وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ ،

قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ؟ قَالَ : وَلَا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إلَّا إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ مِنْهَا عَقْصَاءُ : أَيْ مُلْتَوِيَةُ قَرْنٍ ، وَلَا جَلْحَاءُ : أَيْ لَا قَرْنَ لَهَا ، وَلَا عَضْبَاءُ : أَيْ بِالْمُعْجَمَةِ مَكْسُورَةُ قَرْنٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا أَيْ هِيَ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ لِلْفَرَسِ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ .
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْخَيْلُ ؟ قَالَ : الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ : هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً : أَيْ بِكَسْرِ النُّونِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَيْ مُعَادَاةً لَهُمْ فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَلَا رِقَابِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إلَّا كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٌ وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ وَلَا يُقْطَعُ طِوَلُهَا أَيْ بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ : حَبْلٌ تُشَدُّ بِهِ قَائِمَتُهَا وَتُرْسَلُ لِتَرْعَى أَوْ يُمْسَكُ طَرَفُهُ وَتُرْسَلُ ، فَاسْتَنَّتْ أَيْ بِالتَّشْدِيدِ : جَرَتْ بِقُوَّةٍ شَرَفًا أَيْ بِالْمُعْجَمَةِ فَرَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ : شَوْطًا ، وَقِيلَ نَحْوُ مِيلٍ ، أَوْ شَرَفَيْنِ إلَّا كُتِبَ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا وَأَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٌ وَلَا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا إلَّا كَتَبَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ

قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْحُمُرُ ؟ قَالَ مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ : { لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ : أَيْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ : صَوْتُ الْبَعِيرِ ، يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ، أَيْ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَبِالْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ صَوْتُ الْغَنَمِ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَقَرَةٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ الْأَكْثَرُونَ إلَّا مَنْ قَالَ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ غَنَمًا أَوْ إبِلًا أَوْ بَقَرًا لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا إلَّا جَاءَتْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ حَتَّى تَطَأَهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحَهُ بِقُرُونِهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَ عَلَيْهِ أُولَاهَا } .
وَالنَّسَائِيُّ : {

مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا مِنْ نَارٍ أَيْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ الْمُعْجَمِ أَوْ كَسْرِهِ : حَيَّةٌ ، وَقِيلَ الذَّكَرُ خَاصَّةً ، وَقِيلَ نَوْعٌ مِنْ الْحَيَّاتِ ، فَتُكْوَى بِهَا جَبْهَتُهُ وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ } .
وَمُسْلِمٌ : { مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ لَا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ بِقَوَائِمِهَا وَأَخْفَافِهَا ، وَلَا صَاحِبِ بَقَرٍ لَا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا لَيْسَ فِيهَا جَمَّاءُ وَلَا مُنْكَسِرٌ قَرْنُهَا ، وَلَا صَاحِبُ كَنْزٍ لَا يَفْعَلُ فِيهِ حَقَّهُ إلَّا جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ فَيُنَادِيهِ خُذْ كَنْزَك الَّذِي خَبَّأْتَهُ فَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ ، فَإِذَا رَأَى أَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ سَلَكَ : أَيْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضِمَهَا قَضْمَ الْفَحْلِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ أَحَدٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ حَتَّى يُطَوَّقَ بِهِ عُنُقُهُ ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ ثَابِتٌ أَيْ وَهُوَ ثِقَةٌ ، وَبَقِيَّةُ رُوَاتِهِ لَا بَأْسَ بِهِمْ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَهُوَ أَشْبَهُ : { إنَّ اللَّهَ

عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ الَّذِي يَسَعُ فُقَرَاءَهُمْ وَلَنْ يُجْهَدَ الْفُقَرَاءُ إنْ جَاعُوا وَعَرُوا إلَّا بِمَا يُضَيِّعُ أَغْنِيَاؤُهُمْ ؛ أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُمْ حِسَابًا شَدِيدًا وَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنِ حِبَّانَ وَخُزَيْمَةَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : { آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدُهُ إذَا عَلِمَا ، وَالْوَاشِمَةُ ، وَالْمُسْتَوْشِمَةُ وَلَاوِي الصَّدَقَةِ أَيْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ أَدَائِهَا ، أَوْ الْمُمَاطِلُ بِهَا وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ وَالْوَاشِمَةَ ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ فِيهِ مَطْعُونٌ فِيهِ : { وَيْلٌ لِلْأَغْنِيَاءِ مِنْ الْفُقَرَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ ظَلَمُونَا حُقُوقَنَا الَّتِي فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ ، فَيَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُدْنِيَنَّكُمْ ، وَلِأُبَاعِدَنهُمْ ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } } .
وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا : { عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَأَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ ، فَأَمَّا أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَالشَّهِيدُ وَمَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ } وَفِي لَفْظٍ : { وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَمْ يَشْغَلْهُ رِقُّ الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ وَفَقِيرٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ .
وَأَمَّا أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَأَمِيرٌ مُسَلَّطٌ وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي مَالِهِ

وَفَقِيرٌ فَخُورٌ } .
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : { أُمِرْنَا بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ } .
وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا : { مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنْزًا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يَتْبَعُهُ فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُولُ أَنَا كَنْزُك الَّذِي خَلَّفْت فَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَقْضِمَهَا ثُمَّ يَتْبَعُهُ سَائِرُ جَسَدِهِ } .
وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ { إنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُخَيَّلُ إلَيْهِ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ : أَيْ الزَّبِيبَتَانِ فِي شِدْقَيْهِ ، وَقِيلَ هُمَا النُّكْتَتَانِ السَّوْدَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ ، قَالَ فَيَلْزَمُهُ أَوْ يُطَوِّقُهُ يَقُولُ أَنَا كَنْزُك أَنَا كَنْزُك } .
وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ : { مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي شِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُك أَنَا كَنْزُك ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } الْآيَةَ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مُرْسَلًا : { أَرْبَعٌ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ فَمَنْ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ لَمْ يُغْنِينَ عَنْهُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِنَّ جَمِيعًا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ } .
وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِفَرَسٍ يَجْعَلُ كُلَّ خُطْوَةٍ مِنْهُ أَقْصَى بَصَرِهِ فَسَارَ وَسَارَ مَعَهُ جِبْرِيلُ فَأَتَى عَلَى قَوْمٍ يَزْرَعُونَ فِي يَوْمٍ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمٍ كُلَّمَا حَصَدُوا عَادَ كَمَا كَانَ ، قَالَ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدُونَ فِي

سَبِيلِ اللَّهِ تُضَاعَفُ لَهُمْ الْحَسَنَةُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَمَا أَنْفَقُوا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ تُرْضَخُ رُءُوسُهُمْ بِالصَّخْرِ كُلَّمَا رُضِخَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ وَلَا يَفْتُرُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ قَالَ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : الَّذِينَ تَثَاقَلَتْ رُءُوسُهُمْ عَنْ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ عَلَى أَدْبَارِهِمْ رِقَاعٌ وَعَلَى أَقْبَالِهِمْ رِقَاعٌ يَسْرَحُونَ كَمَا تَسْرَحُ الْأَنْعَامُ إلَى الضَّرِيعِ وَالزَّقُّومِ وَرَضْفِ جَهَنَّمَ ، قَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ .
} وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَا تَلِفَ مَالٌ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إلَّا بِحَبْسِ الزَّكَاةِ مَانِعُ الزَّكَاةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ } .
وَالْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَا خَالَطَتْ الصَّدَقَةُ أَوْ قَالَ الزَّكَاةُ مَالًا إلَّا أَفْسَدَتْهُ } أَيْ مَا تُرِكَتْ فِي مَالٍ وَلَمْ تُخْرَجْ مِنْهُ إلَّا أَهْلَكَتْهُ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ ، أَوْ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ أَخَذَهَا وَهُوَ غَنِيٌّ فَوَضَعَهَا مَعَ مَالِهِ أَهْلَكَتْهُ وَهَذَا تَفْسِيرُ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالْبَزَّارُ : { ظَهَرَتْ لَهُمْ الصَّلَاةُ فَقَبِلُوهَا وَخَفِيَتْ لَهُمْ الزَّكَاةُ فَأَكَلُوهَا أُولَئِكَ هُمْ الْمُنَافِقُونَ } .
وَصَحَّ : { مَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إلَّا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْقَطْرَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ { إلَّا ابْتَلَاهُمْ اللَّهُ بِالسِّنِينَ } .
وَفِي أُخْرَى عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرِهِ : { يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خِصَالٌ خَمْسٌ ، إنْ اُبْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَنَزَلَتْ بِكُمْ أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ : لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إلَّا فَشَتْ فِيهِمْ الْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمْ ، وَلَمْ يُنْقِصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إلَّا مُنِعُوا

الْمَطَرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَا نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إلَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَأْخُذُ بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ يَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ قَرِيبٍ مِنْ الْحَسَنِ وَلَهُ خَمْسُ شَوَاهِدَ : { خَمْسٌ بِخَمْسٍ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خَمْسٌ بِخَمْسٍ ؟ قَالَ : مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ ، وَمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَّا فَشَا فِيهِمْ الْمَوْتُ ، وَلَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ إلَّا حُبِسَ عَنْهُمْ الْقَطْرُ ، وَلَا طَفَّفُوا الْمِكْيَالَ إلَّا حُبِسَ عَنْهُمْ النَّبَاتُ وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ } ، وَهِيَ جَمْعُ سَنَةٍ ، وَهُوَ الْعَامُ الْمُقْحَطُ الَّذِي لَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ فِيهِ شَيْئًا وَقَعَ مَطَرٌ أَوْ لَا .
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } قَالَ : لَا يُكْوَى رَجُلٌ يَكْنِزُ فَيَمَسُّ دِرْهَمٌ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارٌ دِينَارًا ، يُوَسَّعُ جِلْدُهُ حَتَّى يُوضَعَ كُلُّ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ عَلَى حِدَتِهِ ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ - تَعَالَى - الْجِبَاهَ وَالْجُنُوبَ وَالظُّهُورَ بِالْكَيِّ ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ الْبَخِيلَ إذَا رَأَى الْفَقِيرَ عَبَسَ وَجْهُهُ وَزَوَى مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَأَعْرَضَ لِجَنْبِهِ ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْهُ وَلَّاهُ ظَهْرَهُ فَعُوقِبَ بِكَيِّ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لِيَكُونَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ .
وَعَنْهُ قَالَ : " مَنْ كَسَبَ طَيِّبًا خُبْثُهُ مَنْعُ الزَّكَاةِ ، وَمَنْ كَسَبَ خَبِيثًا لَمْ تُطَيِّبْهُ الزَّكَاةُ " .
وَالشَّيْخَانِ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : { جَلَسْت فِي مَلَإٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ } أَيْ بِفَتْحٍ فَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ : حِجَارَةٌ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي

نَارِ جَهَنَّمَ { ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضٍ } أَيْ بِضَمِّ النُّونِ فَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ : غُضْرُوفُ كَتِفِهِ { وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ فَيَتَزَلْزَلُ ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إلَى سَارِيَةٍ وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إلَيْهِ وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ ، فَقُلْت لَا أَرَى الْقَوْمَ إلَّا قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْت ، قَالَ إنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ، قَالَ لِي خَلِيلِي ، قُلْت مَنْ خَلِيلُك ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَتُبْصِرُ أَحَدًا .
قَالَ فَنَظَرْتُ إلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ وَأَنَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْت نَعَمْ ، قَالَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ إنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا ، لَا وَاَللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ فِي دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ : { بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أَقْفَائِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ قَالَ ثُمَّ تَنَحَّى فَقَعَدَ ، قَالَ قُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا هَذَا أَبُو ذَرٍّ ، قَالَ فَقُمْت إلَيْهِ فَقُلْت مَا شَيْءٌ سَمِعْتُك تَقُولُ قُبَيْلُ ؟ قَالَ مَا قُلْت إلَّا شَيْئًا سَمِعْته مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ قُلْت : مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْعَطَاءِ ؟ قَالَ خُذْهُ فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِك فَدَعْهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { الزَّكَاةُ قَنْطَرَةُ الْإِسْلَامِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْخَطِيبُ : { حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَأَعِدُّوا لِلْبَلَاءِ الدُّعَاءَ } .
التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : { إذَا أَدَّيْت زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَدَّيْت مَا عَلَيْك } .
وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ : { إذَا أَدَّيْت زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْت

عَنْك شَرَّهُ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَزِيدُ الْمَالَ إلَّا كَثْرَةً } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { كُلُّ مَا أَدَّيْت زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَكُلُّ مَا لَا تُؤَدِّي زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا } .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَلَفْظُهُمَا : { أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَيْدِيهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهُمَا أَتُؤَدِّيَانِ زَكَاتَهُ ؟ فَقَالَتَا لَا ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ قَالَتَا لَا قَالَ فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا حَسَنٌ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَفِي آخِرِهَا : { أَمَا تَخَافَانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ أَسْوِرَةً مِنْ نَارٍ أَدِّيَا زَكَاتَهُ } وَهَذَا كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } الْآيَةَ .
وَصَحَّ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَى فِي يَدِ عَائِشَةَ حَلَقَاتٍ مِنْ وَرِقٍ فَقَالَ مَا هَذَا ؟ قَالَتْ أَتَزَيَّنُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ قَالَتْ لَا ، قَالَ هِيَ حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ } .
وَصَحَّ أَيْضًا : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَقَلَّدَتْ قِلَادَةً مِنْ ذَهَبٍ قُلِّدَتْ فِي عُنُقِهَا مِثْلَهَا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ جَعَلَتْ فِي أُذُنِهَا خُرْصًا مِنْ ذَهَبٍ جُعِلَ فِي أُذُنِهَا مِثْلُهُ مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَصَحَّ أَيْضًا : { مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ جَنْبَيْهِ حَلْقَةً مِنْ نَارٍ فَلْيُحَلِّقْهُ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ جَنْبَيْهِ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مِنْ

ذَهَبٍ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ جَنْبَيْهِ بِسِوَارٍ مِنْ نَارٍ فَلْيُسَوِّرْهُ بِسِوَارٍ مِنْ ذَهَبٍ ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا } .
وَهَذِهِ كَأَحَادِيثَ أُخَرَ بِمَعْنَاهَا مَحْمُولَةٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْحُلِيَّ لِلنِّسَاءِ كَانَ مُحَرَّمًا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ فَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ أَوْ عَلَى أَنَّهُنَّ كُنَّ أَسْرَفْنَ فِيهِ ، وَالْحُلِيُّ إذَا أَسْرَفْنَ فِيهِ يَلْزَمُهُنَّ زَكَاتُهُ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا كَالضَّبَّةِ الصَّغِيرَةِ لِزِينَةٍ وَالْكَبِيرَةِ لِحَاجَةٍ .
وَفِي حَدِيثٍ : { أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ أَمِيرٌ مُسَلَّطٌ وَذُو ثَرْوَةٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ مِنْ مَالِهِ وَفَقِيرٌ فَخُورٌ } .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ : مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَحُجَّ أَوْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَمْ يُزَكِّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ اتَّقِ اللَّهَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَأَتْلُو عَلَيْك بِذَلِكَ قُرْآنًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } أَيْ أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ { وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ } أَيْ أَحُجَّ .
وَحُكِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ التَّابِعِينَ خَرَجُوا لِزِيَارَةِ أَبِي سِنَانٍ ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ وَجَلَسُوا عِنْدَهُ قَالَ قُومُوا بِنَا نَزُورُ جَارًا لَنَا مَاتَ أَخُوهُ وَنُعَزِّيهِ فِيهِ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ : فَقُمْنَا مَعَهُ وَدَخَلْنَا عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَوَجَدْنَاهُ كَثِيرَ الْبُكَاءِ وَالْجَزَعِ عَلَى أَخِيهِ فَجَعَلْنَا نُعَزِّيهِ وَنُسَلِّيهِ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ تَسْلِيَةً وَلَا عَزَاءً ، فَقُلْنَا لَهُ : أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ سَبِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ ؟ قَالَ : بَلَى وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى مَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى فِيهِ أَخِي مِنْ الْعَذَابِ ؛ فَقُلْنَا لَهُ قَدْ أَطْلَعَك اللَّهُ عَلَى الْغَيْبِ ؟ قَالَ : لَا ،

وَلَكِنْ لَمَّا دَفَنْته وَسَوَّيْت عَلَيْهِ التُّرَابَ وَانْصَرَفَ النَّاسُ جَلَسْتُ عِنْدَ قَبْرِهِ وَإِذَا صَوْتٌ مِنْ قَبْرِهِ يَقُولُ آهْ أَفْرَدُونِي وَحِيدًا أُقَاسِي الْعَذَابَ قَدْ كُنْت أَصُومُ قَدْ كُنْت أُصَلِّي ، قَالَ فَأَبْكَانِي كَلَامُهُ فَنَبَشْت عَنْهُ التُّرَابَ لِأَنْظُرَ مَا حَالُهُ وَإِذَا الْقَبْرُ يَلْمَعُ عَلَيْهِ نَارًا وَفِي عُنُقِهِ طَوْقٌ مِنْ نَارٍ فَحَمَلَتْنِي شَفَقَةُ الْأُخُوَّةِ وَمَدَدْت يَدِي لِأَرْفَعَ الطَّوْقَ مِنْ رَقَبَتِهِ فَاحْتَرَقَتْ أَصَابِعِي وَيَدِي ثُمَّ أَخْرَجَ إلَيْنَا يَدَهُ فَإِذَا هِيَ سَوْدَاءُ مُحْتَرِقَةٌ ، قَالَ فَرَدَدْت عَلَيْهِ التُّرَابَ وَانْصَرَفْت فَكَيْفَ لَا أَبْكِي عَلَى حَالِهِ وَأَحْزَنُ عَلَيْهِ ؟ فَقُلْنَا فَمَا كَانَ أَخُوك يَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا ؟ قَالَ كَانَ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ ، قَالَ فَقُلْنَا هَذَا تَصْدِيقُ قَوْلِهِ : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَأَخُوك عُجِّلَ لَهُ الْعَذَابُ فِي قَبْرِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالَ : ثُمَّ خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ وَأَتَيْنَا أَبَا ذَرٍّ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْنَا لَهُ قَضِيَّةَ الرَّجُلِ وَقُلْنَا لَهُ يَمُوتُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَلَا نَرَى فِيهِمْ ذَلِكَ ، فَقَالَ أُولَئِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ وَإِنَّمَا يُرِيكُمْ اللَّهُ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ لِتَعْتَبِرُوا .
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } .
وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ : { إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُبْغِضُ الْبَخِيلَ فِي حَيَاتِهِ السَّخِيَّ عِنْدَ مَوْتِهِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ : { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا ، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا } .
وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَالتِّرْمِذِيُّ : { خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ

الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ } .
وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ : { شِرَارُ النَّاسِ الَّذِي يُسْأَلُ بِاَللَّهِ وَلَا يُعْطِي } .
وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَأَبُو دَاوُد : { شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } .
وَالْخَطِيبُ : { الشَّحِيحُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { صَلَاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ وَيَهْلَكُ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ } .
وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ : { طَعَامُ السَّخِيِّ دَوَاءٌ وَطَعَامُ الشَّحِيحِ دَاءٌ } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { أَقْسَمَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيلٌ } .
وَأَبُو يَعْلَى : { مَا مَحَقَ الْإِسْلَامَ مَحْقَ الشُّحِّ شَيْءٌ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ : { مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ ، أَيْ مِنْ أَجَنَّ بِمَعْنَى سَتَرَ .
وَفِي رِوَايَةٍ بِالْبَاءِ ، وَالْمُرَادُ دِرْعَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إلَى تَرَاقِيِهِمَا ، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إلَّا سَبَغَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُجِنَّ أَيْ تَسْتُرَ بَنَانَهُ وَتَقْفُوَ أَثَرَهُ ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا بِالْإِنْفَاقِ تَطُولُ حَتَّى تَسْتُرَ بَنَانَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَبِعَدَمِهِ تَلْزَقُ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ .
كَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُنَّةِ أَوْ الْجُبَّةِ عَنْ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَرِزْقِهِ ، فَالْمُنْفِقُ كُلَّمَا أَنْفَقَ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ وَسَبَغَتْ حَتَّى تَسْتُرَ جَمِيعَهُ سَتْرًا كَامِلًا ، وَالْبَخِيلُ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يُنْفِقَ مَنَعَهُ حِرْصُهُ وَشُحُّهُ وَخَوْفُ نَقْصِ مَالِهِ فَهُوَ بِمَنْعِهِ يَطْلُبُ أَنْ تَزِيدَ نِعَمُهُ وَمَالُهُ فَهِيَ لَا تَزْدَادُ إلَّا ضِيقًا وَلَا تَسْتُرُ مِنْهُ شَيْئًا يَرُومُ سَتْرَهُ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { نَجَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْيَقِينِ وَالزُّهْدِ ، وَيَهْلَكُ

آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { الْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ تَرَكَ عِيَالَهُ بِخَيْرٍ وَقَدِمَ عَلَى رَبِّهِ بِشَرٍّ } .
وَسَمَّوَيْةِ : { لَا تَجْتَمِعُ خَصْلَتَانِ فِي مُؤْمِنٍ الْبُخْلُ وَالْكَذِبُ } .
وَالْخَطِيبُ : { إنَّ السَّيِّدَ لَا يَكُونُ بَخِيلًا } .
وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ : { بَرِئَ مِنْ الشُّحِّ مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ وَقَرَى الضَّيْفَ وَأَعْطَى فِي النَّائِبَةِ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ مَعَهُ خَصْلَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ .
قَلْبُ الشَّيْخِ شَابَ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ حُبِّ الْعَيْشِ وَالْمَالِ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَغْضَبُ لِلسَّائِلِ الصَّدُوقِ كَمَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ } .
وَابْنُ جَرِيرٍ : { إيَّاكُمْ وَالْبُخْلَ فَإِنَّ الْبُخْلَ دَعَا قَوْمًا فَمَنَعُوا زَكَاتَهُمْ وَدَعَاهُمْ فَقَطَعُوا أَرْحَامَهُمْ وَدَعَاهُمْ فَسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ } .
وَأَيْضًا : { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الشُّحُّ ، أَمَرَهُمْ بِالْكَذِبِ فَكَذَبُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا } .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطِيبُ : { الْبُخْلُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ فِي فَارِسَ وَوَاحِدٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ } .
وَالْخَطِيبُ : { يَقُولُونَ أَوْ يَقُولُ قَائِلُكُمْ : الشَّحِيحُ أَغْدَرُ مِنْ الظَّالِمِ وَأَيُّ ظُلْمٍ أَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الشُّحِّ ، يَحْلِفُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِعِزَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ شَحِيحٌ وَلَا بَخِيلٌ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ : { خَلَقَ اللَّهُ اللُّؤْمَ فَحَفَّهُ بِالْبُخْلِ وَالْمَالِ } .
وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَالْبُخْلُ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ أَبَدًا } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { يَا ابْنَ آدَمَ كُنْت بَخِيلًا مَا

دُمْت حَيًّا فَلَمَّا حَضَرَتْك الْوَفَاةُ عَمَدْت إلَى مَالِكَ تُبَدِّدُهُ فَلَا تَجْمَعْ خَصْلَتَيْنِ إسَاءَةً فِي الْحَيَاةِ وَإِسَاءَةً عِنْدَ الْمَوْتِ اُنْظُرْ إلَى قَرَابَتِك الَّذِينَ يُحْرَمُونَ وَلَا يَرِثُونَ فَأَوْصِ لَهُمْ بِمَعْرُوفٍ } .
تَنْبِيهَاتٌ : مِنْهَا : عَدُّ مَنْعِ الزَّكَاةِ كَبِيرَةً هُوَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لِمَا عَلِمْت مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَوْ صَرِيحُهُ أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مَنْعِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ، لَكِنْ سَيَأْتِي فِي الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ تَقْيِيدُهُ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ .
قِيلَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ يَأْتِي هُنَا لَكِنَّهُ تَحْدِيدٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ .
انْتَهَى .
وَأَقُولُ : لَوْ سَلَّمْنَا مَا يَأْتِي فِي نَحْوِ الْغَصْبِ لَا نَقُولُ بِهِ هُنَا لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُفَوَّضَةٌ إلَى الْمَالِكِ ، فَلَوْ سُومِحَ فِي مَنْعِ الْبَعْضِ بِالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ كَبِيرَةٍ أَدَّاهُ ذَلِكَ إلَى مَنْعِ الْكُلِّ كَمَا قَالُوهُ فِي أَنَّ شُرْبَ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ كَبِيرَةٌ مَعَ تَحَقُّقِ عَدَمِ الْإِسْكَارِ فِيهَا ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ قَلِيلَهَا يُؤَدِّي إلَى كَثِيرِهَا فَفُطِمَ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ إذْ مَحَبَّةُ النَّفْسِ لِتَكْثِيرِهِ تَدْعُو إلَى أَنَّهُ لَوْ سُهِّلَ لَهَا فِي قَلِيلِهِ اتَّخَذَتْهُ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ كَثِيرِهِ .
فَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ هُنَا بَيْنَ مَنْعِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَأَمَّا عَدُّ تَأْخِيرِهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا بِشَرْطِهِ فَهُوَ صَرِيحُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : { إنَّ لَاوِيَ الصَّدَقَةِ } أَيْ مُؤَخِّرَهَا { مِنْ جُمْلَةِ الْمَلْعُونِينَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَمِنْ ثَمَّ جَزَمَ بَعْضُهُمْ بِعَدِّهِ كَبِيرَةً .

وَمِنْهَا : مَرَّ فِي أَحَادِيثَ تَوَعُّدٌ شَدِيدٌ عَلَى تَحَلِّي النِّسَاءِ بِالذَّهَبِ وَقَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إلَى الْجَوَابِ عَنْهَا ، وَنَزِيدُهُ هُنَا بَسْطًا ، وَهُوَ أَنَّهُ أُجِيبَ عَنْهَا بِأَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ لِثُبُوتِ إبَاحَةِ تَحْلِيَتِهِنَّ بِالذَّهَبِ .
ثَانِيهَا : أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ دُونَ مَنْ أَدَّاهَا بِنَاءً عَلَى وُجُوبِهَا فِيهِ ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَبِعَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بِعَدَمِ وُجُوبِهَا فِيهِ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَالظَّاهِرُ مِنْ الْآيَاتِ يَشْهَدُ لِلْأَوَّلِينَ الَّذِينَ أَوْجَبُوهَا ، وَالْأَثَرُ يُؤَيِّدُهُ .
وَمَنْ أَسْقَطَهَا ذَهَبَ إلَى النَّظَرِ ، وَمَعَهُ طَرَفٌ مِنْ الْأَثَرِ .
وَالِاحْتِيَاطُ أَدَاؤُهَا انْتَهَى .
ثَالِثُهَا : حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ تَزَيَّنَتْ بِهِ وَأَظْهَرَتْهُ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ : { أَمَا إنَّهُ لَيْسَ مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تَتَحَلَّى ذَهَبًا وَتُظْهِرُهُ إلَّا عُذِّبَتْ بِهِ } نَعَمْ صَحَّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ الْحِلْيَةَ وَالْحَرِيرَ ، وَيَقُولُ : إنْ كُنْتُنَّ تُحْبِبْنَ حِلْيَةَ الْجَنَّةِ وَحَرِيرَهَا فَلَا تَلْبَسْنَهُمَا فِي الدُّنْيَا } .
رَابِعُهَا : أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ مَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ الْغِلْظَةِ - كَمَا مَرَّ - الْمُؤَدِّي إلَى الْإِسْرَافِ وَهُوَ فِي حُلِيِّ النَّقْدِ يُحَرِّمُهُ .
وَمِنْهَا : سَبَقَ فِي الْأَحَادِيثِ ذَمُّ الْبُخْلِ ، وَالْإِشَارَةُ إلَى آفَاتِهِ وَغَوَائِلِهِ ؛ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْبُخْلَ - شَرْعًا - هُوَ مَنْعُ الزَّكَاةِ وَأُلْحِقَ بِهَا كُلُّ وَاجِبٍ ، فَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ كَانَ بَخِيلًا ، وَعُوقِبَ بِمَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَحَدَّهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ، فَمَنْ أَدَّى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ بَخِيلٍ ، وَهَذَا غَيْرُ كَافٍ ، إذْ مَنْ يَرُدُّ اللَّحْمَ أَوْ الْخُبْزَ إلَى قَصَّابٍ أَوْ

خَبَّازٍ لِنَقْصِ حَبَّةٍ يُعَدُّ بَخِيلًا اتِّفَاقًا ، وَكَذَا مَنْ يُضَايِقُ عِيَالَهُ فِي لُقْمَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ أَكَلُوهَا مِنْ مَالِهِ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَهُمْ مَا فَرَضَ لَهُمْ الْقَاضِي ، وَمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ رَغِيفٌ فَحَضَرَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيهِ فَأَخْفَاهُ عَنْهُ عُدَّ بَخِيلًا .
وَقَالَ آخَرُونَ : الْبَخِيلُ الَّذِي يَسْتَصْعِبُ كُلَّ الْعَطِيَّةِ ، وَهُوَ قَاصِرٌ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَسْتَصْعِبُ كُلَّ عَطِيَّةٍ وَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْبُخَلَاءِ لَا يَسْتَصْعِبُ نَحْوَ الْحَبَّةِ ، أَوْ الْكَثِيرَ فَقَطْ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الْبُخْلِ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْجُودِ مَا هُوَ ؟ فَقِيلَ هُوَ عَطَاءٌ بِلَا مَنٍّ ، وَإِسْعَافٌ عَلَى غَيْرِ رَوِيَّةٍ ، وَقِيلَ : عَطَاءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ ، وَقِيلَ السُّرُورُ بِالسَّائِلِ ، وَالْفَرَحُ بِعَطَاءِ مَا أَمْكَنَ ، وَقِيلَ عَطَاءٌ عَلَى رَوِيَّةِ أَنَّهُ وَمَالَهُ لِلَّهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ مُحِيطٍ بِحَقِيقَةِ الْبُخْلِ وَالْجُودِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِمْسَاكَ حَيْثُ وَجَبَ الْبَذْلُ بُخْلٌ وَالْبَذْلَ حَيْثُ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ تَبْذِيرٌ ، وَبَيْنَهُمَا وَسَطٌ هُوَ الْمَحْمُودُ ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّخَاءِ وَالْجُودِ ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْمَرْ إلَّا بِالسَّخَاءِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَك مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِك وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا } أَيْ بِالْغَلِّ { مَحْسُورًا } أَيْ بِالْبَسْطِ .
وَقَالَ - تَعَالَى - : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } فَالْجُودُ وَسَطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ وَبَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ ؛ وَكَمَالُهُ أَنْ لَا يَكُونَ نَاظِرًا بِقَلْبِهِ إلَى مَا أَعْطَاهُ بِوَجْهٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْلَقَ قَلْبُهُ مِنْ الْمَالِ إلَّا بِصَرْفِهِ فِيمَا يُحْمَدُ صَرْفُهُ ؛ ثُمَّ الْوَاجِبُ بَذْلُهُ فِيهِ إمَّا شَرْعًا وَإِمَّا مُرُوءَةً وَعَادَةً ، فَالسَّخِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعُهَا وَإِلَّا فَهُوَ الْبَخِيلُ ، لَكِنَّ مَانِعَ وَاجِبِ الشَّرْعِ

كَالزَّكَاةِ وَنَفَقَةِ الْعِيَالِ أَبْخَلُ وَأَقْبَحُ مِنْ مَانِعِ وَاجِبِ الْمُرُوءَةِ كَالْمُضَايَقَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي الْمُحَقَّرَاتِ ، وَاسْتِقْبَاحُ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ فَيُسْتَقْبَحُ مِنْ ذَوِي الْمَالِ وَمَعَ الْجَارِ وَالْأَهْلِ وَالصَّدِيقِ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مَعَ أَضْدَادِهِمْ .
وَلِلْبُخْلِ دَرَجَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ مَا لَوْ كَثُرَ مَالُهُ وَهُوَ قَائِمٌ بِوَاجِبَيْ الشَّرْعِ وَالْمُرُوءَةِ ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ فِي وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ لِيَكُونَ عُدَّةً لَهُ عَلَى النَّوَائِبِ ، وَإِيثَارًا لِهَذَا الْغَرَضِ الْفَانِي عَلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ لَوْ أَنْفَقَ مِنْ الثَّوَابِ الْبَاقِي ، وَالدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّةِ ، وَالْمَرَاتِبِ الْمُرْضِيَةِ فَهَذَا بَخِيلٌ أَيُّ بَخِيلٍ ، لَكِنْ عِنْدَ الْأَكْيَاسِ دُونَ عَامَّةِ الْخَلْقِ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ إمْسَاكَهُ لِلنَّوَائِبِ مُهِمًّا ، عَلَى أَنَّهُمْ رُبَّمَا اسْتَقْبَحُوا مِنْهُ حِرْمَانَهُ لِفَقِيرٍ بِجِوَارِهِ وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ ، وَيَخْتَلِفُ اسْتِقْبَاحُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مِقْدَارِ مَالِهِ وَشِدَّةِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَصَلَاحِهِ ، ثُمَّ إنَّهُ هُوَ بِأَدَاءِ ذَيْنِكَ الْوَاجِبَيْنِ يَبْرَأُ مِنْ الْبُخْلِ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْجُودُ مَا لَمْ يَبْذُلْ زِيَادَةً عَلَيْهِمَا لِنَيْلِ الْفَضِيلَةِ لَا لِطَمَعٍ فِي ثَنَاءٍ أَوْ خِدْمَةٍ أَوْ مُكَافَأَةٍ ، وَيَكُونُ وُجُودُهُ بِحَسَبِ مَا اتَّسَعَتْ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ قَلِيلِ الْبَذْلِ وَكَثِيرِهِ .
وَمِنْهَا : يَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَرَادَ الْبَرَاءَةَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ التَّنَصُّلُ مِنْ دَاءِ الْبُخْلِ حَذَرًا مِمَّا فِيهِ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِمَعْرِفَةِ سَبَبِهِ وَعِلَاجِهِ ، فَسَبَبُهُ حُبُّ الْمَالِ : إمَّا لِحُبِّ الشَّهَوَاتِ الَّتِي لَا وُصُولَ إلَيْهَا إلَّا بِهِ مَعَ طُولِ الْأَمَلِ ، إذْ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ بَعْدَ يَوْمٍ لَا يَبْقَى عِنْدَهُ مِنْ أَثَرِ الْبُخْلِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ ، وَإِمَّا لِحُبِّ ذَاتِ الْمَالِ وَلِذَلِكَ تَرَى مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّ مَعَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا يَزِيدُ عَلَى كِفَايَتِهِ لَوْ

عَاشَ الْعُمُرَ الطَّبِيعِيَّ ، وَأَنْفَقَ نَفَقَةَ الْمُلُوكِ وَلَا وَارِثَ لَهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مِنْ الْبُخْلِ وَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا بِمَكَانٍ فَيَكْنِزُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ عَالِمًا بِأَنَّهُ يَمُوتُ بَلْ رُبَّمَا عِنْدَ مَوْتِهِ يَبْتَلِعُهُ ، وَمَرَضُ مِثْلِ هَذَا عَسِرٌ عِلَاجُهُ بَلْ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَحُبُّ الشَّهَوَاتِ يُعَالَجُ بِالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ وَبِالصَّبْرِ ، وَيُعَالَجُ طُولُ الْأَمَلِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ ، وَالنَّظَرِ فِي مَوْتِ الْأَقْرَانِ وَطُولِ تَعَبِهِمْ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَضَيَاعِهِ بَعْدَهُمْ فِي أَقْبَحِ الْمَعَاصِي وَأَقْرَبِ زَمَنٍ .
وَيُعَالَجُ الِالْتِفَاتُ إلَى الْوَلَدِ بِاسْتِحْضَارِ الْخَيْرِ السَّابِقِ : { إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ وَرَثَتَهُ فِي خَيْرٍ وَقَدِمَ عَلَى اللَّهِ بِشَرٍّ } وَبِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْوَلَدِ رِزْقًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ، وَكَمْ مِمَّنْ لَمْ يُخَلِّفْ لَهُ أَبُوهُ فَلْسًا صَارَ غَنِيًّا وَمَنْ خَلَّفَ لَهُ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ صَارَ فَقِيرًا فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ ، وَبِأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِ الْبُخَلَاءِ وَأَنَّهُمْ عَلَى مُدْرَجَةِ الْمَقْتِ وَالْبُعْدِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَلِذَلِكَ تَجِدُ النُّفُوسَ تَنْفِرُ عَنْهُمْ بِالطَّبْعِ وَتَسْتَقْبِحُهُمْ ، حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْبُخَلَاءِ يَسْتَقْبِحُ كَثِيرَ الْبُخْلِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَسْتَثْقِلُ كُلَّ بَخِيلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَيَغْفُلُ عَنْ أَنَّهُ مُسْتَثْقَلٌ وَمُسْتَقْذَرٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ كَمَا أَنَّ الْبُخَلَاءَ عِنْدَهُ كَذَلِكَ ، وَيَتَأَمَّلُ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي يُقْصَدُ لَهَا الْمَالُ فَلَا يَحْفَظُ مِنْهُ إلَّا مَا يَحْتَاجُهُ وَمَا زَادَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَّخِرَ ثَوَابَهُ وَبِرَّهُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِإِخْرَاجِهِ فِي مَرْضَاتِهِ .
وَمَنْ أَمْعَنَ تَأَمُّلَهُ فِي هَذِهِ الْأَدْوِيَةِ انْصَقَلَ فِكْرُهُ وَانْشَرَحَ قَلْبُهُ فَيُجَانِبُ الْبُخْلَ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ أَوْ بَعْضِهَا بِحَسَبِ كَمَالِ اسْتِعْدَادِهِ وَنَقْصِهِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُجِيبَ أَوَّلَ خَاطِرِ الْإِنْفَاقِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رُبَّمَا زَيَّنَ لِلنَّفْسِ

الرُّجُوعَ عَنْهُ وَلِذَلِكَ خَطَرَ لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ ، - قِيلَ أَبُو بَكْرٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : التَّصَدُّقُ بِثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الْخَلَاءِ فَخَرَجَ فَوْرًا وَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ ، فَلَمَّا خَرَجَ سُئِلَ فَقَالَ خَشِيت أَنَّ الشَّيْطَانَ يُثْنِي عِنَانَ عَزْمِي ، وَلَا تَزُولُ صِفَةُ الْبُخْلِ إلَّا بِالْبَذْلِ تَكَلُّفًا كَمَا لَا يَزُولُ الْعِشْقُ إلَّا بِالسَّفَرِ عَنْ مَحَلِّ الْمَعْشُوقِ .
وَمِنْهَا : لِلْمَالِ فَوَائِدُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - سَمَّاهُ خَيْرًا فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : { إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ } وَامْتَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ ، وَفِي حَدِيثٍ : { كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا } ، أَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَظَاهِرَةٌ ، وَأَمَّا الدِّينِيَّةُ فَمِنْ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَاتِ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بِهِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَبِهِ يُتَقَوَّى عَلَى الْعِبَادَاتِ كَالْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَنْكَحِ وَضَرُورَاتِ الْمَعِيشَةِ إذْ لَا يَتَفَرَّغُ لِلدِّينِ إلَّا مَنْ كُفِيَ ذَلِكَ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ لِلْعِبَادَةِ إلَّا بِهِ عِبَادَةٌ ، بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ فَإِنَّهُ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا .
وَمِنْ فَوَائِدِهِ الدِّينِيَّةِ مَا يَصْرِفُهُ مِنْ صَدَقَةٍ - وَفَضَائِلُهَا مَشْهُورَةٌ ، وَقَدْ أَلَّفْتُ فِيهَا كِتَابًا حَافِلًا - ، أَوْ هَدَايَا وَضِيَافَاتٍ وَنَحْوِهِمَا لِلْأَغْنِيَاءِ - وَفِيهِمَا فَضَائِلُ مَعَ أَنَّهُ يَكْتَسِبُ بِهِمَا الْأَصْدِقَاءَ وَصِفَةَ السَّخَاءِ أَوْ - ، وِقَايَةِ عِرْضٍ مِنْ نَحْوِ شَاعِرٍ أَوْ مَارِقٍ ، وَفِي خَبَرٍ : { إنَّ مَا وُقِيَ بِهِ الْعِرْضُ صَدَقَةٌ } - أَوْ أُجْرَةِ مَنْ يَقُومُ بِأَشْغَالِك إذْ لَوْ بَاشَرْتهَا فَاتَتْ مَصَالِحُك الْأُخْرَوِيَّةُ ، إذْ عَلَيْك مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُومَ بِهِ غَيْرُك فَتَضْيِيعُك الْوَقْتَ فِي غَيْرِهِ خُسْرَانٌ ، أَوْ فِي خَيْرٍ عَامٍّ : كَبِنَاءِ مَسَاجِدَ ، أَوْ رُبُطٍ ، أَوْ قَنَاطِرَ ، أَوْ سِقَايَاتٍ بِالطُّرُقِ ، أَوْ دُورٍ لِلْمَرْضَى ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَافِ الْمُرْصَدَةِ

لِلْخَيْرَاتِ ، وَهَذِهِ مِنْ الْخَيْرَاتِ الْمُؤَبَّدَةِ الدَّائِمَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ الْمُسْتَجْلِبَةِ بَرَكَةَ أَدْعِيَةِ الصَّالِحِينَ إلَى أَوْقَاتٍ مُتَمَادِيَةٍ ، وَنَاهِيكَ بِذَلِكَ خَيْرًا .
فَهَذِهِ جُمْلَةُ فَوَائِدِ الْمَالِ فِي الدِّينِ سِوَى مَا فِيهِ مِنْ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ كَالْعِزِّ ، وَكَثْرَةِ الْخَدَمِ ، وَالْأَصْدِقَاءِ ، وَتَعْظِيمِ النَّاسِ لَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْمَالُ مِنْ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ .
وَكَذَلِكَ لِلْمَالِ آفَاتٌ كَثِيرَةٌ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ ، فَالدِّينِيَّةُ أَنَّهُ يَجُرُّ إلَى الْمَعَاصِي لِلتَّمَكُّنِ بِهِ مِنْهَا ، إذْ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ ، وَمَتَى اسْتَشْعَرَتْ النَّفْسُ الْقُدْرَةَ عَلَى مَعْصِيَةٍ انْبَعَثَتْ دَاعِيَتُهَا إلَيْهَا فَلَا تَسْتَقِرُّ حَتَّى تَرْتَكِبَهَا ، وَيَجُرُّ أَيْضًا ابْتِدَاءً إلَى التَّنَعُّمِ بِالْمُبَاحَاتِ حَتَّى يَصِيرَ إلْفًا لَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَوَصَّلْ إلَيْهِ إلَّا بِسَعْيٍ أَوْ كَسْبٍ حَرَامٍ لَاقْتَرَفَهُ تَحْصِيلًا لِمَأْلُوفَاتِهِ إذْ مَنْ كَثُرَ مَالُهُ كَثُرَ احْتِيَاجُهُ إلَى مُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَمُخَالَطَتِهِمْ ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ أَنَّهُ يُنَافِقُهُمْ وَيَعْصِي اللَّهَ فِي طَلَبِ رِضَاهُمْ أَوْ سَخَطِهِمْ ، فَتَثُورُ الْعَدَاوَةُ وَالْحِقْدُ ، وَالْحَسَدُ ، وَالرِّيَاءُ ، وَالْكِبْرُ ، وَالْكَذِبُ ، وَالْغِيبَةُ ، وَالنَّمِيمَةُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ السَّيِّئَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَقْتِ وَاللَّعْنِ ، وَيَجُرُّ أَيْضًا إلَى مَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِإِصْلَاحِ مَالِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ ، وَكُلُّ مَا شَغَلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ شُؤْمٌ وَخُسْرَانٌ مُبِينٌ ، وَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ فَإِنَّ أَصْلَ الْعِبَادَاتِ وَسِرَّهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَالتَّفَكُّرُ فِي جَلَالِهِ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي قَلْبًا فَارِغًا ، وَمُحَالٌ فَرَاغُهُ مَعَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ إصْلَاحِ الْمَالِ وَالِاعْتِنَاءِ بِتَحْصِيلِهِ وَدَفْعِ مَضَارِّهِ وَذَلِكَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ ، فَهَذِهِ جُمَلُ

الْآفَاتِ الدِّينِيَّةِ ؛ سِوَى مَا يُقَاسِيهِ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ مِنْ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ الدَّائِمِ وَالتَّعَبِ فِي دَفْعِ الْخَسَارِ وَتَجَشُّمِ الْمَصَاعِبِ وَالْمَشَاقِّ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَكَسْبِهَا ، فَإِذًا تِرْيَاقُ الْمَالِ أَخْذُ نَحْوِ الْقُوتِ مِنْهُ ، وَصَرْفُ الْبَاقِي إلَى وُجُوهِ الْخَيْرِ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ سُمُومٌ وَآفَاتٌ .
إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْمَالُ لَيْسَ بِخَيْرٍ مَحْضٍ وَلَا شَرٍّ مَحْضٍ ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا يُمْتَدَحُ تَارَةً لَا مَحَالَةَ وَيُذَمُّ أُخْرَى ، لَكِنْ مَنْ أَخَذَ مِنْ الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِمَّا يَكْفِيهِ فَقَدْ أَخَذَ حَتْفَهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ كَمَا وَرَدَ ، وَلَمَّا مَالَتْ الطِّبَاعُ إلَى الشَّهَوَاتِ الْقَاطِعَةِ عَنْ الْهُدَى ، وَكَانَ الْمَالُ آلَةً فِيهَا عَظُمَ الْخَطَرُ فِيمَا يَزِيدُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَاسْتَعَاذَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ شَرِّهِ حَتَّى قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُوتَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافًا } فَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا تَمَحَّضَ خَيْرُهُ .
وَقَالَ : { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا } ، وَقَالَ : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ } .

( خَاتِمَةٌ : فِي مَدْحِ السَّخَاءِ وَالْجُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إذْ بِهِ تُعْرَفُ غَوَائِلُ الْبُخْلِ وَمَا فِيهِ مِنْ الِانْحِطَاطِ عَنْ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّةِ ، إذْ الشَّيْءُ إنَّمَا يَتِمُّ انْكِشَافُهُ بِمَعْرِفَةِ ضِدِّهِ ) أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ : { إنَّ مَلَكًا بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ : { مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يَقُولُ : مَنْ يُقْرِضُ الْيَوْمَ يُجْزَ غَدًا ، وَمَلَكٌ بِبَابٍ آخَرَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا } ، وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { أَنْفِقْ أُنْفِقُ عَلَيْك } .
وَقَالَ : { يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا بِيَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ : أَيْ الْعَدْلُ ، يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك إنْ تَبْذُلْ الْفَضْلَ : } أَيْ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ ، { خَيْرٌ وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لَك وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ } : أَيْ إمْسَاكِ قَدْرِ الْكِفَايَةِ ، { وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ .
وَالْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ وَصَحَّحَهُ : { مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إلَّا وَبِجَنْبَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ : اللَّهُمَّ مَنْ أَنْفَقَ فَأَعْقِبْهُ خَلَفًا وَمَنْ أَمْسَكَ فَأَعْقِبْهُ تَلَفًا } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ : { إنَّهُ لَيَسْمَعُ نِدَاءَهُمَا مَا خَلَقَ اللَّهُ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ وَإِنَّهُ يُنَادِي يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى } ، وَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ فِي قَوْلِهِمَا هَلُمُّوا قَوْلَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ { وَاَللَّهُ يَدْعُو إلَى

دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَفِي دُعَائِهِمَا قَوْله تَعَالَى : { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى } إلَى { لِلْعُسْرَى } .
، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِهِمَا : { الْأَخِلَّاءُ ثَلَاثَةٌ ، فَإِمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ أَنَا مَعَك حَتَّى تَأْتِيَ قَبْرَك ، وَإِمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ أَنَا لَك مَا أَعْطَيْت وَمَا أَمْسَكْت فَلَيْسَ لَك فَذَلِكَ مَالُك ، وَإِمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ أَنَا مَعَك حَيْثُ دَخَلْت وَحَيْثُ خَرَجْت فَذَلِكَ عَمَلُك ، فَيَقُولُ وَاَللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَهْوَنِ الثَّلَاثَةِ عَلَيَّ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ ، قَالَ : فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ } .
وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى بِلَالٍ وَعِنْدَهُ صُبَرٌ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا بِلَالُ ؟ قَالَ أُعِدُّ ذَلِكَ لِأَضْيَافِكُمْ ، قَالَ : أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ لَك دُخَانٌ فِي جَهَنَّمَ أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ ، { أَمَا تَخْشَى أَنْ يَثُورَ لَهُ بُخَارٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } .
وَالشَّيْخَانِ : { لَا تُوكِي فَيُوكَأُ عَلَيْك } أَيْ لَا تَدَّخِرِي وَتَمْنَعِي مَا فِي يَدِك فَتُقْطَعُ مَادَّةُ بَرَكَةِ الرِّزْقِ عَنْك .
وَصَحَّ : { يَا بِلَالُ الْقَ اللَّهَ فَقِيرًا وَلَا تَلْقَهُ غَنِيًّا ، فَقَالَ وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ ؟ قَالَ : مَا رُزِقْت فَلَا تُخَبِّئْ وَمَا سُئِلْت فَلَا تَمْنَعْ ، قَالَ وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ ؟ قَالَ : هُوَ أَوْ النَّارُ } .
وَجَاءَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : أَنَّ زَوْجَةَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَتْ مِنْهُ ثِقَلًا فَقَالَتْ لَهُ مَا لَك لَعَلَّهُ رَابَك مِنَّا شَيْءٌ فَنَعْتِبُكُ ، قَالَ لَا وَلَنِعْمَ حَلِيلَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْتِ وَلَكِنْ اجْتَمَعَ عِنْدِي مَالٌ وَلَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ .
قَالَتْ وَمَا يَغُمُّك مِنْهُ اُدْعُ قَوْمَك فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ ، فَقَالَ يَا

غُلَامُ عَلَيَّ بِقَوْمِي فَكَانَ جُمْلَةُ مَا قَسَمَ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ : { وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِهِ أَكْثَرَ لَهُمَا مِنْ الْمَالِ وَالْوَلَدِ ، فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا : أَيْ فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ ، قَالَ لَبَّيْكَ رَبِّ وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ أَلَمْ أُكْثِرْ لَك مِنْ الْمَالِ وَالْوَلَدِ ؟ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ ، قَالَ وَكَيْفَ صَنَعْتَ فِيمَا آتَيْتُك ؟ قَالَ تَرَكْتُهُ لِوَلَدِي مَخَافَةَ الْعَيْلَةِ ، أَيْ الْفَقْرِ ، قَالَ أَمَا إنَّك لَوْ تَعْلَمُ الْعِلْمَ لَضَحِكْتَ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتَ كَثِيرًا ، أَمَا إنَّ الَّذِي قَدْ تَخَوَّفْتَ عَلَيْهِمْ قَدْ أَنْزَلْتُ بِهِمْ .
وَيَقُولُ لِلْآخَرِ أَيْ فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ أَيْ رَبِّ وَسَعْدَيْكَ .
قَالَ أَلَمْ أُكْثِرْ لَك الْمَالَ وَالْوَلَدَ ؟ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَكَيْفَ صَنَعْتَ فِيمَا آتَيْتُك ؟ قَالَ أَنْفَقْتُهُ فِي طَاعَتِك وَوَثِقْتُ لِوَلَدِي مِنْ بَعْدِي بِحُسْنِ طَوْلِك أَيْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ، فَضْلِك وَقُدْرَتِك وَغِنَاك ، قَالَ أَمَا إنَّك لَوْ تَعْلَمُ الْعِلْمَ لَضَحِكْتَ كَثِيرًا وَلَبَكَيْتَ قَلِيلًا ، أَمَا إنَّ الَّذِي قَدْ وَثِقْتَ بِهِ قَدْ أَنْزَلْتُ بِهِمْ } .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ : أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْسَلَ مَعَ غُلَامِهِ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَمَرَهُ بِالتَّأَنِّي لِيَرَى مَا يَصْنَعُ فِيهَا ، فَذَهَبَ بِهَا إلَيْهِ وَأَعْطَاهَا لَهُ وَتَأَنَّى يَسِيرًا فَفَرَّقَهَا كُلَّهَا فَرَجَعَ الْغُلَامُ لِعُمَرَ وَأَخْبَرَهُ فَوَجَدَهُ قَدْ أَعَدَّ مِثْلَهَا لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَرْسَلَهَا مَعَهُ إلَيْهِ ، وَأَمَرَهُ بِالتَّأَنِّي كَذَلِكَ فَفَعَلَ فَفَرَّقَهَا فَاطَّلَعَتْ زَوْجَتُهُ وَقَالَتْ نَحْنُ وَاَللَّهِ مَسَاكِينُ فَأَعْطِنَا فَلَمْ يَبْقَ بِالْخِرْقَةِ إلَّا دِينَارَانِ فَأَعْطَاهُمَا لَهَا فَرَجَعَ الْغُلَامُ لِعُمَرَ وَأَخْبَرَهُ فَسُرَّ بِذَلِكَ وَقَالَ إنَّهُمْ إخْوَةٌ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ .
وَصَحَّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَمَّا مَرِضَ كَانَ عِنْدَهُ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ فَأَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُعْطِيَهَا لِعَلِيٍّ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا فَاشْتَغَلَتْ بِإِغْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ كُلَّمَا أَفَاقَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ حَتَّى أَعْطَتْهَا لِعَلِيٍّ فَأَمْسَتْ لَيْلَةَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ عِنْدَهَا شَيْءٌ فَاحْتَاجَتْ لِمِصْبَاحٍ فَأَرْسَلَتْ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ تَطْلُبُ مِنْهَا مَا تُسْرِجُهُ } .
وَصَحَّ { أَنَّ أَبَا ذَرٍّ خَرَجَ عَطَاؤُهُ فَأَنْفَقَهُ فِي حَوَائِجِهِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلَّا سَبْعَةُ دَنَانِيرَ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا أَيْضًا فَقِيلَ لَهُ ، فَقَالَ إنَّ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إلَيَّ أَيُّمَا ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أُوكِيَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَمْرٌ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُفْرِغَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَنْهُ أَيْضًا : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ أَوْكَى عَلَى ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَلَمْ يُنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ جَمْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُكْوَى بِهِ } .
وَوَرَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَلَهُ شَوَاهِدُ : { مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا أَبْقَى صُبْحَ ثَالِثَةٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا شَيْئًا أُعِدُّهُ لِدَيْنٍ } .
وَصَحَّ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدًا تَحَوَّلَ لِآلِ مُحَمَّدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ أَدَعُ مِنْهُ دِينَارَيْنِ إلَّا دِينَارَيْنِ أُعِدُّهُمَا لِدَيْنٍ إنْ كَانَ } .
وَكَتَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : يَا أَخِي إيَّاكَ أَنْ تَجْمَعَ مِنْ الدُّنْيَا مَا لَا تُؤَدِّي شُكْرَهُ ، فَإِنِّي سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يُجَاءُ بِصَاحِبِ الدُّنْيَا الَّذِي أَطَاعَ اللَّهَ فِيهَا وَمَالُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كُلَّمَا تَكَفَّأَ بِهِ الصِّرَاطُ أَيْ مَالَ قَالَ لَهُ امْضِ فَقَدْ أَدَّيْتَ حَقَّ اللَّهِ فِي ، ثُمَّ يُجَاءُ بِصَاحِبِ الدُّنْيَا الَّذِي لَمْ يُطِعْ اللَّهَ فِيهَا وَمَالُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كُلَّمَا تَكَفَّأَ بِهِ

الصِّرَاطُ قَالَ لَهُ مَالُهُ وَيْلَك أَلَا أَدَّيْتَ حَقَّ اللَّهِ فِي ، فَمَا يَزَالُ ذَلِكَ حَتَّى يَدْعُوَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ } .
وَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِعَطَائِهَا فَقَسَمَتْهُ كُلَّهُ لِوَقْتِهِ فِي أَرْحَامِهَا وَأَيْتَامِهَا وَقَالَتْ : اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكُنِي عَطَاءُ عُمَرَ بَعْدَ عَامِي هَذَا فَكَانَتْ أَوَّلَ نِسَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُوقًا بِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : وَاَللَّهِ مَا أَعَزَّ الدَّرَاهِمَ أَحَدٌ إلَّا أَذَلَّهُ اللَّهُ - تَعَالَى - ، وَقِيلَ : أَوَّلُ مَا ضُرِبَتْ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ رَفَعَهُمَا إبْلِيسُ إلَى جَبْهَتِهِ وَقَبَّلَهُمَا وَقَالَ مَنْ أَحَبَّكُمَا فَهُوَ عَبْدِي حَقًّا ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُمَا أَزِمَّةُ الْمُنَافِقِينَ يُقَادُونَ بِهَا إلَى النَّارِ .
وَقَالَ ابْنُ مُعَاذٍ : الدِّرْهَمُ عَقْرَبٌ فَإِنْ أَخَذْتَهُ بِغَيْرِ رُقْيَةٍ قَتَلَك بِسُمِّهِ ، قِيلَ مَا رُقْيَتُهُ ؟ قَالَ أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْ حِلِّهِ وَتَضَعَهُ فِي حَقِّهِ .
وَلَمَّا قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمَرَضِهِ تَرَكْتَ أَوْلَادَك الثَّلَاثَةَ عَشَرَ فُقَرَاءَ لَا دِينَارَ لَهُمْ وَلَا دِرْهَمَ ، قَالَ لَمْ أَمْنَعْهُمْ حَقًّا لَهُمْ وَلَمْ أُعْطِهِمْ حَقًّا لِغَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا وَلَدِي أَحَدُ رَجُلَيْنِ إمَّا مُطِيعٌ لِلَّهِ فَاَللَّهُ يَكْفِيهِ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ، وَإِمَّا عَاصٍ لِلَّهِ فَلَا أُبَالِي عَلَامَ وَقَعَ .
وَقِيلَ لِمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ الْكَثِيرَ : لَوْ ادَّخَرْته لِوَلَدِك ؟ فَقَالَ بَلْ أَدَّخِرُهُ لِنَفْسِي عِنْدَ رَبِّي وَأَدَّخِرُ رَبِّي لِوَلَدِي .
وَقَالَ ابْنُ مُعَاذٍ : مُصِيبَتَانِ لَمْ يَسْمَعْ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بِمِثْلِهِمَا تُصِيبَانِ الْعَبْدَ عِنْدَ مَوْتِهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَالُهُ كُلُّهُ وَيُسْأَلُ عَنْهُ كُلِّهِ .

( شُحُّ الدَّائِنِ عَلَى مَدِينِهِ الْمُعْسِرِ مَعَ عِلْمِهِ بِإِعْسَارِهِ بِالْمُلَازَمَةِ أَوْ الْحَبْسِ ) أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ هَكَذَا وَأَوْمَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إلَى الْأَرْضِ : مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ : أَيْ حَطَّ عَنْهُ دَيْنَهُ أَوْ بَعْضَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ ، وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْهُ قَالَ : { دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَقُولُ : أَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَقِيَهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ؟ قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا يَسُرُّهُ أَنْ يَقِيَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ، قَالَ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } .
أَوْ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ : { مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَجَاءَ فِي تَظْلِيلِهِ بِظِلِّ الْعَرْشِ إذَا أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ .
مِنْهَا : { مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ } .
{ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ } .
{ إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَسْتَظِلُّ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ أَنْظَرَ مُعْسِرًا حَتَّى يَجِدَ شَيْئًا ، أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِمَا يَطْلُبُهُ يَقُولُ مَالِي عَلَيْك صَدَقَةٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَيَخْرِقُ صَحِيفَتَهُ } أَيْ كِتَابَ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ .
الْأَوَّلَانِ صَحِيحَانِ وَالثَّالِثُ حَسَنٌ .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً جَعَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُعْبَتَيْنِ مِنْ نُورٍ عَلَى الصِّرَاطِ يَسْتَضِيءُ بِضَوْئِهِمَا عَالَمٌ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا رَبُّ الْعِزَّةِ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { مَنْ أَرَادَ أَنْ تُسْتَجَابَ دَعْوَتُهُ وَأَنْ

تُكْشَفَ كُرْبَتُهُ فَلْيُفَرِّجْ عَنْ مُعْسِرٍ } .
وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِهِمَا : { مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } .
وَصَحَّ : { مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ } .
وَالشَّيْخَانِ : { إنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ ، قَالَ هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالَ مَا أَعْلَمُ ، قِيلَ لَهُ اُنْظُرْ ، قَالَ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّي كُنْت أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا : { كُنْت أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُوسِرَ وَيَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُعْسِرِ ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - تَجَاوَزُوا عَنْهُ } .
وَفِي أُخْرَى لِمُسْلِمٍ : { أُتِيَ اللَّهَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لَهُ مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا ؟ قَالَ : { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } قَالَ يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالًا فَكُنْت أُبَايِعُ النَّاسَ وَكَانَ مِنْ خُلُقِي التَّجَاوُزُ فَكُنْت أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ .
فَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : أَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْك تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي } .
وَفِي أُخْرَى لَهُمَا : { كَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ

عَنَّا فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ } .
وَفِي أُخْرَى لِلنَّسَائِيِّ : { فَإِذَا بَعَثْتُهُ يَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا تَعَسَّرَ وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْك } .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ فِعْلَ الدَّائِنِ بِمَدِينِهِ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةٌ ظَاهِرٌ جِدًّا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ ، إلَّا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي إيذَاءِ الْمُسْلِمِ الشَّدِيدِ الَّذِي لَا يُطَاقُ عَادَةً ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْظِرْ مَدِينَهُ الْمُعْسِرَ لَا يُوقَى فَيْحَ جَهَنَّمَ وَذَلِكَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، وَبِهِ يَتَأَكَّدُ عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً .

( الْخِيَانَةُ فِي الصَّدَقَةِ ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَامَ إلَيْهِ أَنْصَارِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ مِنِّي عَمَلَك ، قَالَ وَمَالَك ؟ قَالَ سَمِعْتُك تَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى } .
وَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { يَا أَبَا الْوَلِيدِ اتَّقِ اللَّهَ لَا تَأْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِبَعِيرٍ تَحْمِلُهُ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٍ لَهَا ثُغَاءٌ ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ ؟ قَالَ : إي وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، قَالَ فَوَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَعْمَلُ لَك عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا } .
وَأَحْمَدُ : { سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا وَإِنَّ عُمَّالَهَا فِي النَّارِ إلَّا مَنْ اتَّقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ } .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ : أَنَّهُ { كَانَ مَاشِيًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَقِيعِ فَسَمِعَهُ يَقُولُ : أُفٍّ لَك أُفٍّ لَك فَتَأَخَّرَ وَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُهُ ، فَقَالَ لَهُ مَا لَك امْشِ ، قَالَ أَحْدَثْت حَدَثًا ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ وَمَا لَك أَفَفْتَ بِي ، قَالَ لَا وَلَكِنْ هَذَا فُلَانٌ بَعَثْتُهُ سَاعِيًا عَلَى بَنِي فُلَانٍ فَغَلَّ نَمِرَةً - أَيْ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ : كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ مُخَطَّطٌ - فَدُرِّعَ مِثْلَهَا مِنْ النَّارِ } .
وَصَحَّ : { الْمُتَعَدِّي فِي الصَّدَقَةِ كَمَانِعِهَا } أَيْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ كَمَا عَلَى الْمَانِعِ إذَا مَنَعَ قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ : وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { إنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ : أَيْ جَمْعُ حُجْزَةٍ وَهِيَ مَعْقِدُ الْإِزَارِ ، عَنْ النَّارِ : هَلُمَّ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ

النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ وَتَغْلِبُونَنِي ، تُقَاحِمُونَ تَقَاحُمَ الْفَرَاشِ أَوْ الْجَنَادِبَةِ فَأُوشِكُ أَنْ أُرْسِلَ بِحُجَزِكُمْ وَأَنَا فَرَطُكُمْ : أَيْ بِفَتَحَاتٍ هُوَ مَنْ يَتَقَدَّمُ الْقَوْمَ إلَى الْمَنْزِلِ لِيُهَيِّئَ مَصَالِحَهُمْ فِيهِ ، عَلَى الْحَوْضِ فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا فَأَعْرِفُكُمْ بِسِيمَاكُمْ وَأَسْمَائِكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْغَرِيبَةَ مِنْ الْإِبِلِ فِي إبِلِهِ وَيَذْهَبُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَأُنَاشِدُ فِيكُمْ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَأَقُولُ أَيْ رَبِّ قَوْمِي أَيْ رَبِّ أُمَّتِي ، فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ إنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَك كَانُوا يَمْشُونَ بَعْدَك الْقَهْقَرَى عَلَى أَعْقَابِهِمْ ، فَلَا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ فَيُنَادِي يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُك ، فَلَا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ فَيُنَادِي يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ ، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُك ، فَلَا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ فَرَسًا لَهَا حَمْحَمَةٌ : أَيْ بِمُهْمَلَتَيْنِ اسْمٌ لِصَوْتِهَا ، فَيُنَادِي يَا مُحَمَّدُ يَا مِحْصَدُ ، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُك ، فَلَا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ سِقَاءً مِنْ أَدَمٍ يُنَادِي يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ ، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُك } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي أَمَاكِنَ صَرِيحٌ فِيهِ ، وَقَدْ عَدُّوا مُطْلَقَ الْخِيَانَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهُوَ شَامِلٌ لِهَذِهِ وَغَيْرِهِ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ .

( جِبَايَةُ الْمُكُوسِ ، وَالدُّخُولُ فِي شَيْءٍ مِنْ تَوَابِعِهَا كَالْكِتَابَةِ عَلَيْهَا لَا بِقَصْدِ حِفْظِ حُقُوقِ النَّاسِ إلَى أَنْ تُرَدَّ إلَيْهِمْ إنْ تَيَسَّرَ ) وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وَالْمِكَاسُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ : مِنْ جَابِي الْمَكْسِ وَكَاتِبِهِ وَشَاهِدِهِ وَوَازِنِهِ وَكَائِلِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَكْبَرِ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ بَلْ هُمْ مِنْ الظَّلَمَةِ بِأَنْفُسِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَيَدْفَعُونَهُ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ صَاحِبُ مَكْسٍ الْجَنَّةَ لِأَنَّ لَحْمَهُ يَنْبُتُ مِنْ حَرَامٍ كَمَا يَأْتِي .
وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُمْ تَقَلَّدُوا بِمَظَالِمِ الْعِبَادِ ، وَمِنْ أَيْنَ لِلْمَكَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُؤَدِّيَ النَّاسَ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ إنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْ حَسَنَاتِهِ إنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، قَالَ : إنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَخَذَ مَالَ هَذَا فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ } .
أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ الْحَسَنِ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ : قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { كَانَ لِدَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةٌ يُوقِظُ فِيهَا أَهْلَهُ يَقُولُ : يَا آلَ دَاوُد قُومُوا فَصَلُّوا فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ فِيهَا الدُّعَاءَ إلَّا لِسَاحِرٍ أَوْ عَشَّارٍ } .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ

وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ ثِقَةٌ .
وَقَوْلُ الْحَاكِمِ إنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مُعْتَرَضٌ بِأَنَّ مُسْلِمًا إنَّمَا أَخْرَجَ لِابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمُتَابَعَاتِ .
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ } .
قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ يَعْنِي الْعَشَّارَ ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ : يُرِيدُ بِصَاحِبِ الْمَكْسِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْ التُّجَّارِ إذَا مَرُّوا عَلَيْهِ مَكْسًا بِاسْمِ الْعُشْرِ أَيْ الزَّكَاةِ .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : أَمَّا الْآنَ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَكْسًا بِاسْمِ الْعُشْرِ وَمَكْسًا آخَرَ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ بَلْ شَيْءٌ يَأْخُذُونَهُ حَرَامًا وَسُحْتًا وَيَأْكُلُونَهُ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ، حُجَّتُهُمْ فِيهِ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ .
وَسُئِلَ السِّرَاجُ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنَّهُ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ } الْحَدِيثَ هَلْ الْمَكَّاسُ الْمَعْلُومُ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الْمُرَتَّبَ عَلَى الْبَضَائِعِ أَوْ غَيْرُهُ ؟ فَأَجَابَ : الْمَكَّاسُ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ أَحْدَثَ الْمَكْسَ وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَجْرِي عَلَى طَرِيقَتِهِ الرَّدِيئَةِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَكَّاسُ الَّذِي ذَنْبُهُ عَظِيمٌ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَيْضًا صَاحِبُ مَكْسٍ وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْجَارِي عَلَى طَرِيقَتِهِ ، وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي أَحْدَثَ الْمَكْسَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَأَنَّ الَّذِي اسْتَنَّ السَّيِّئَةَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا إذَا لَمْ يَتُبْ فَإِذَا تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وِزْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا .
انْتَهَى .
وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَنْ اُخْتُلِفَ فِي تَوْثِيقِهِ ، وَبَقِيَّةُ رُوَاتِهِ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ الْحَسَنِ ، قَالَ : " مَرَّ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ

عَلَى كِلَابِ بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مَجْلِسِ الْعَاشِرِ بِالْبَصْرَةِ ، فَقَالَ مَا يُجْلِسُك هَا هُنَا ؟ قَالَ اسْتَعْمَلَنِي عَلَى هَذَا الْمَكَانِ : يَعْنِي زِيَادًا ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ : أَلَا أُحَدِّثُك حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ بَلَى ، فَقَالَ عُثْمَانُ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : كَانَ لِدَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ سَاعَةٌ يُوقِظُ فِيهَا أَهْلَهُ يَقُولُ : يَا آلَ دَاوُد قُومُوا فَصَلُّوا فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ فِيهَا الدُّعَاءَ إلَّا لِسَاحِرٍ أَوْ عَاشِرٍ } .
فَرَكِبَ كِلَابُ بْنُ أُمَيَّةَ بِنَفْسِهِ فَأَتَى زِيَادًا فَاسْتَعْفَاهُ فَأَعْفَاهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ عُثْمَانَ ؛ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَلَفْظُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ فَيُنَادِي مُنَادٍ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَيُعْطَى ؟ هَلْ مِنْ مَكْرُوبٍ فَيُفَرَّجُ عَنْهُ ؟ فَلَا يَبْقَى مُسْلِمٌ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ إلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ إلَّا زَانِيَةً تَسْعَى بِفَرْجِهَا أَوْ عَشَّارًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي الْكَبِيرِ أَيْضًا : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يَدْنُو مِنْ خَلْقِهِ أَيْ بِرَحْمَتِهِ وُجُودِهِ وَفَضْلِهِ فَيَغْفِرُ لِمَنْ اسْتَغْفَرَ إلَّا لِبَغِيَّةٍ بِفَرْجِهَا أَوْ عَشَّارٍ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ قَالَ : عَرَضَ مَسْلَمَةُ بْنُ مَخْلَدٍ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ عَلَى رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْعُشُورَ ، فَقَالَ : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ صَاحِبَ الْمَكْسِ فِي النَّارِ } .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِنَحْوِهِ وَزَادَ يَعْنِي الْعَاشِرَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي

الصَّحْرَاءِ فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْتَفَتَ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا ظَبْيَةٌ مُوثَقَةٌ ، فَقَالَتْ اُدْنُ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَنَا مِنْهَا فَقَالَ مَا حَاجَتُك ؟ فَقَالَتْ إنَّ لِي خِشْفَيْنِ فِي هَذَا الْجَبَلِ فَحُلَّنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُرْضِعَهُمَا ثُمَّ أَرْجِعَ إلَيْك ، قَالَ وَتَفْعَلِينَ ؟ قَالَتْ : عَذَّبَنِي اللَّهُ عَذَابَ الْعَشَّارِ إنْ لَمْ أَفْعَلْ ، فَأَطْلَقَهَا فَذَهَبَتْ فَأَرْضَعَتْ خِشْفَيْهَا ثُمَّ رَجَعَتْ فَأَوْثَقَهَا وَانْتَبَهَ الْأَعْرَابِيُّ ، فَقَالَ أَلَك حَاجَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ نَعَمْ تُطْلِقُ هَذِهِ ؛ فَأَطْلَقَهَا فَخَرَجَتْ تَعْدُو وَهِيَ تَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ ، وَقَالَ بَعْضُ حُفَّاظِ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّ هَذَا وَرَدَ فِي الْجُمْلَةِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ يَتَقَوَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَرَدَّهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمُخْتَصَرِ انْتَهَى .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّهُ وَإِنْ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَكِنَّ طُرُقَهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا وَبِذَلِكَ يُرَدُّ قَوْلُ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ لَا أَصْلَ لَهُ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ .
وَقَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ : هُوَ وَتَسْبِيحُ الْحَصَى وَإِنْ لَمْ يَتَوَاتَرَا فَلَعَلَّهُمَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُمَا بِنَقْلِ غَيْرِهِمَا أَوْ لَعَلَّهُمَا تَوَاتَرَا إذْ ذَاكَ .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { أَلَا أُنَبِّئُك بِشَرِّ النَّاسِ ؟ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ وَمَنَعَ رِفْدَهُ وَسَافَرَ وَحْدَهُ وَضَرَبَ عَبْدَهُ ، أَلَا أُنَبِّئُك بِشَرٍّ مِنْ هَذَا ؟ مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغِضُونَهُ ، أَلَا أُنَبِّئُك بِشَرٍّ مِنْ هَذَا ؟ مَنْ يُخْشَى شَرُّهُ وَلَا يُرْجَى خَيْرُهُ ، أَلَا أُنَبِّئُك بِشَرٍّ مِنْ هَذَا ؟ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ أَلَا أُنَبِّئُك بِشَرٍّ مِنْ هَذَا ؟ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ } .
وَأَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ رُوَاةُ بَعْضِهَا

ثِقَاتٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ وَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ ، لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ ذَوَائِبَهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالثُّرَيَّا يَتَدَلَّوْنَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى شَيْءٍ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَصَحَّحَهُ : { وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ ، وَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ ذَوَائِبَهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالثُّرَيَّا يُدْلَوْنَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلُوا عَمَلًا } .
وَالْبَزَّارُ : { إنَّ فِي النَّارِ حَجَرًا يُقَالُ لَهُ وَيْلٌ يَصْعَدُ عَلَيْهِ الْعُرَفَاءُ وَيَنْزِلُونَ } .
وَأَبُو يَعْلَى قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَالَ طُوبَى لَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَرِيفًا } .
وَأَبُو دَاوُد عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ : أَفْلَحْتَ يَا قَدِيمُ إنْ مِتَّ وَلَمْ تَكُنْ أَمِيرًا وَلَا كَاتِبًا وَلَا عَرِيفًا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ عَمَّنْ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِيهِ إنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ : إنَّ جَدَّهُ { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ذَهَبَ بِمَالِي كُلِّهِ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مَا أُعْطِيكَهُ ثُمَّ قَالَ هَلْ لَك أَنْ تُعَرِّفَ عَلَى قَوْمِك أَوْ أَلَا أُعَرِّفُك عَلَى قَوْمِك ؟ قُلْت لَا ، قَالَ : أَمَا إنَّ الْعَرِيفَ يُدْفَعُ فِي النَّار دَفْعًا } .
وَأَبُو دَاوُد : { إنَّ قَوْمًا كَانُوا عَلَى مَنْهَلٍ مِنْ الْمَنَاهِلِ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ الْإِسْلَامُ جَعَلَ صَاحِبُ الْمَاءِ لِقَوْمِهِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا فَأَسْلَمُوا وَقَسَمَ الْإِبِلَ بَيْنَهُمْ

وَبَدَا لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فَأَرْسَلَ ابْنَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ } وَفِي آخِرِهِ { ثُمَّ قَالَ : إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ وَهُوَ عَرِيفُ الْمَاءِ وَإِنَّهُ يَسْأَلُك أَنْ تَجْعَلَ لِي هَذِهِ الْعِرَافَةَ بَعْدَهُ قَالَ : إنَّ الْعِرَافَةَ حَقٌّ وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ عِرَافَةٍ وَلَكِنَّ الْعُرَفَاءَ فِي النَّارِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُقَرِّبُونَ شِرَارَ النَّاسِ وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلَا يَكُونَنَّ عَرِيفًا وَلَا شُرْطِيًّا وَلَا جَابِيًا وَلَا خَازِنًا } .
وَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ النَّارُ أَوْلَى بِهِ } وَالْمَكْسُ مِنْ أَقْبَحِ السُّحْتِ وَأَفْحَشِهِ .
وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ تِجَارَتِي وَإِنِّي جَمَعْت مِنْ بَيْعِهَا مَالًا فَهَلْ يَنْفَعُنِي ذَلِكَ الْمَالُ إنْ عَمِلْت فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ أَنْفَقْتَهُ فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ أَوْ صَدَقَةٍ لَمْ يَعْدِلْ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إلَّا الطَّيِّبَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } } .
قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ : هُوَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ .
وَفِي حَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي طَهَّرَتْ نَفْسَهَا بِالرَّجْمِ : { لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ أَوْ لَقُبِلَتْ مِنْهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { سِتَّةُ أَشْيَاءَ تُحْبِطُ الْعَمَلَ الِاشْتِغَالُ بِعُيُوبِ الْخَلْقِ ، وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ ، وَحُبُّ الدُّنْيَا ، وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ ، وَطُولُ الْأَمَلِ ، وَظَالِمٌ لَا يَنْتَهِي } .
وَابْنُ حِبَّانَ مُرْسَلًا : { الْبِرُّ لَا يَبْلَى ، وَالذَّنْبُ لَا

يُنْسَى ، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ ، اعْمَلْ مَا شِئْت كَمَا تَدِينُ تُدَانُ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ وَبِهِ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ ، وَالْأَحَادِيثُ فِي وَعِيدِهِ كَثِيرَةٌ ، صَحِيحَةٌ لَا تُحْصَى وَسَيَأْتِي جُمْلَةٌ مِنْهَا فِي الظُّلْمِ ، وَكُلُّهَا يَدْخُلُ الْمَكَّاسُونَ وَأَعْوَانُهُمْ فِي وَعِيدِهَا ، وَمَا ذَكَرْته فِي كَاتِبِ الْمَكْسِ فِي التَّرْجَمَةِ هُوَ مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ الْفَرْضَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَحْضُرُ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْمَكْسِ بَلْ لِمُجَرَّدِ ضَبْطِ مَا يُؤْخَذُ وَيُعْطَى فَحَسْبُ ، وَلَوْ جَعَلَ لَهُ السُّلْطَانُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْحُضُورِ فَحَضَرَ بِقَصْدِ الضَّبْطِ جَازَ ، ثُمَّ رَأَيْت كَلَامَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ .
وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ بِنِيَّةِ رَدِّهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَكْسِ وَأَخْذِ الظَّلَمَةِ الْأَمْوَالَ ، فَقَالَ إنْ قَصَدَ الشَّاهِدُ بِذَلِكَ حِفْظَ الْمَالِ عَلَى أَرْبَابِهِ ، وَالشَّهَادَةَ لَهُمْ لِيَرْجِعُوا بِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ عِنْدَ إمْكَانِهِ بِرُجُوعِ السُّلْطَانِ إلَى الْعَدْلِ أَوْ تَوْلِيَةِ عَدْلٍ جَازَ ، وَإِنْ قَصَدُوا إعَانَةَ الظَّلَمَةِ لَمْ يَجُزْ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا الْأُجْرَةَ بِنِيَّةِ رَدِّهَا عَلَى أَرْبَابِهَا إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَقْتَدِي بِهِمْ النَّاسُ لِأَنَّهُمْ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ .
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ فَسَقَةِ التُّجَّارِ يَظُنُّ أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَكْسِ يُحْسَبُ عَنْهُ إذَا نَوَى بِهِ الزَّكَاةَ وَهَذَا ظَنٌّ بَاطِلٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُنَصِّبْ الْمَكَّاسِينَ لِقَبْضِ الزَّكَاةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا نَصَّبَهُمْ لِأَخْذِ عُشُورِ أَيِّ مَالٍ وَجَدُوهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةٌ أَوْ لَا ، وَزَعَمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِأَخْذِ ذَلِكَ لِيَصْرِفَهُ عَلَى الْجُنْدِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُفِيدُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
لِأَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ

ذَلِكَ سَائِغٌ بِشَرْطِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ .
وَاضْطُرَّ الْإِمَامُ إلَى الْأَخْذِ مِنْ مَالِ الْأَغْنِيَاءِ لَكَانَ أَخْذُهُ غَيْرَ مُسْقِطٍ لِلزَّكَاةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ بِاسْمِهَا .
وَذَكَرَ لِي بَعْضُ التُّجَّارِ أَنَّهُ إذَا أَعْطَى الْمَكَّاسَ نَوَى بِهِ أَنَّهُ مِنْ الزَّكَاةِ فَيَكُونُ الْمَكَّاسُ قَدْ مَلَكَهُ زَكَاةً ، وَأَنَّهُ ضَيَّعَهُ هُوَ بِإِعْطَائِهِ لِلْغَيْرِ وَهَذَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا لِأَنَّ الْمَكَسَةَ وَأَعْوَانَهُمْ عَزَّ أَنْ تَجِدَ فِيهِمْ مُسْتَحِقًّا لِلزَّكَاةِ ، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى صَنْعَةٍ وَكَسْبٍ ، وَلَهُمْ قُوَّةٌ وَتَجَبُّرٌ لَوْ صَرَفُوهُ فِي تَحْصِيلِ مُؤْنَتِهِمْ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ لَاسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْقَبِيحَةِ .
وَمَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ كَيْفَ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ ، لَكِنَّ مَحَبَّةَ التُّجَّارِ لِأَمْوَالِهِمْ أَعْمَتْهُمْ عَنْ أَنْ يُبْصِرُوا الْحَقَّ وَأَصَمَّتْهُمْ عَنْ أَنْ يَسْمَعُوا مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ اتِّبَاعًا لِلشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلِهِ لَهُمْ أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَأْخُوذٌ مِنْهُمْ قَهْرًا وَظُلْمًا ، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ فَلَا يَبْرَءُونَ مِنْهَا إلَّا بِدَفْعِهَا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ جَائِزٍ ، وَأَمَّا مَا ظُلِمُوا بِهِ فَكَيْفَ يُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَيُرْفَعُ لَهُمْ بِهِ دَرَجَاتٌ ، وَقَدْ جَعَلَ الْعُلَمَاءُ الْمَكَّاسِينَ مِنْ جُمْلَةِ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ بَلْ أَشَرُّ وَأَقْبَحُ ، وَلَوْ أَخَذَ مِنْك قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مَالًا فَنَوَيْت بِهِ الزَّكَاةَ فَهَلْ يَنْفَعُ ذَلِكَ مُطْلَقًا ؟ فَكَمَا أَنَّ ذَاكَ لَا يَنْفَعُك فَكَذَا هَذَا لَا يَنْفَعُك وَلَا يُجْدِيك شَيْئًا فَاحْذَرْ ذَلِكَ .
وَلَقَدْ شَنَّعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى بَعْضِ الْجُهَّالِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْمَكَّاسِينَ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ يُجْدِيهِمْ وَأَطَالُوا فِي رَدِّ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَتَسْفِيهِهَا ، وَأَنَّ قَائِلَهَا جَاهِلٌ لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاعْمَلْ بِهِ

تَغْنَمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - .

( سُؤَالُ الْغَنِيِّ بِمَالٍ أَوْ كَسْبِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ طَمَعًا وَتَكَثُّرًا ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { مَنْ سَأَلَ مِنْ فَقْرٍ فَكَأَنَّمَا يَأْكُلُ الْجَمْرَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ : { الَّذِي يَسْأَلُ النَّاسَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ كَمَثَلِ الَّذِي يَلْتَقِطُ الْجَمْرَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ حَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ وَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَخَذَ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَسَأَلَهُ إيَّاهُ فَأَعْطَاهُ وَذَهَبَ فَعِنْدَ ذَلِكَ حَرُمَتْ الْمَسْأَلَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ } : أَيْ بِكَسْرٍ فَشَدَّةٍ أَيْ قُوَّةٍ ، { سَوِيٍّ تَامِّ الْخَلْقِ سَالِمٍ مِنْ مَوَانِعِ الِاكْتِسَابِ إلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ } : أَيْ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ لِلْمُهْمَلَةِ فَكَسْرٍ وَهُوَ الشَّدِيدُ الْمُلْصِقُ صَاحِبَهُ بِالدَّقْعَاءِ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا { أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ } : أَيْ بِالْمُثَلَّثَةِ { يَزِيدُ مِنْ مَالِهِ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَضْفًا } : أَيْ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ لِلْمُعْجَمَةِ فَفَاءٍ حِجَارَةٌ مُحْمَاةٌ تَأْكُلُهُ مِنْ جَهَنَّمَ { .
فَمَنْ شَاءَ فَلْيُقْلِلْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ } زَادَ رَزِينٌ { وَإِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ الْعَطِيَّةَ فَيَنْطَلِقُ بِهَا تَحْتَ إبِطِهِ وَمَا هِيَ إلَّا النَّارُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : وَلِمَ تُعْطِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هُوَ نَارٌ ؟ فَقَالَ : يَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ وَأَبَوْا إلَّا مَسْأَلَتِي ؟ قَالُوا وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا يَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ ؟ قَالَ قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعَشِّيهِ } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ وَأَحْمَدَ .
وَالْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ أَوْ خُدُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ ، قِيلَ وَمَا الْغِنَى ؟ قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ : { مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ } .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ يَتَقَبَّلُ لِي بِوَاحِدَةٍ وَأَتَقَبَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا } .
وَابْنُ حِبَّانَ : { مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ } .
وَالنَّسَائِيُّ : { مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَهُوَ الْمُلْحِفُ } .
وَأَحْمَدُ : { مَنْ اسْتَعَفَّ عَفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ عِدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ فَقَدْ أَلْحَفَ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ } .
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ مَسْأَلَةً عَنْ ظَهْرِ غِنًى اسْتَكْثَرَ بِهَا مِنْ رَضْفِ جَهَنَّمَ ، قَالُوا وَمَا ظَهْرُ غِنًى ؟ قَالَ عَشَاءُ لَيْلَةٍ } .
وَالشَّيْخَانِ : { لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ - تَعَالَى - وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ } : أَيْ بِضَمٍّ فَسُكُونِ الزَّايِ فَمُهْمَلَةٍ قِطْعَةٌ .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ : { الْمَسْأَلَةُ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ .
" كُدُوحٌ " ، أَيْ بِضَمِّ الْكَافِ آثَارُ خُمُوشٍ يَكُدُّ ، وَفِي رِوَايَةٍ : { يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَى وَجْهِهِ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ إلَّا أَنْ يَسْأَلَ ذَا سُلْطَانٍ أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا } ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى رُوَاتُهَا ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ وَالْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ : { لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَسْأَلُ وَهُوَ غَنِيٌّ حَتَّى يَخْلَقَ وَجْهُهُ فَمَا يَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَجْهٌ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ فِي الشَّوَاهِدِ : { مَنْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ مِنْ

غَيْرِ فَاقَةٍ تَنَزَّلَتْ بِهِ أَوْ عِيَالٍ لَا يُطِيقُهُمْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَاقَةٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } .
وَصَحَّ : { مَسْأَلَةُ الْغَنِيِّ شَيْنٌ فِي وَجْهِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
زَادَ الْبَزَّارُ : { وَمَسْأَلَةُ الْغَنِيِّ نَارٌ إنْ أُعْطِيَ قَلِيلًا فَقَلِيلٌ ، وَإِنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا فَكَثِيرٌ } .
وَصَحَّ : { مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً وَهُوَ عَنْهَا غَنِيٌّ كَانَتْ شَيْنًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ قَالَ كَمْ تَرَكَ : قَالُوا دِينَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ، قَالَ تَرَكَ كَيَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ كَيَّاتٍ } ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْقَاسِمِ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ ذَاكَ رَجُلٌ كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ تَكَثُّرًا " .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، وَمَرَّ تَقْيِيدُ الْحُرْمَةِ بِالْغِنَى .
وَفِي خَبَرِ أَبِي دَاوُد : { مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ النَّارِ } ، قَالَ أَحَدُ رُوَاتِهِ { قَالُوا وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا تَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ ؟ قَالَ بِقَدْرِ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ فِيهِ : { مَنْ سَأَلَ شَيْئًا وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ ؟ قَالَ مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعَشِّيهِ كَذَا عِنْدَهُ أَوْ يُعَشِّيهِ بِأَلْفٍ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِاخْتِصَارٍ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا تَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ ؟ قَالَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبَعُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ } .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ وَجَدَ غَدَاءَ يَوْمٍ وَعَشَاءً لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ وَجَدَ غَدَاءً

وَعَشَاءً عَلَى دَائِمِ الْأَوْقَاتِ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ لِقُوتِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هَذَا مَنْسُوخٌ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَقْدِيرُ الْغِنَى بِمِلْكِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتِهَا وَبِمِلْكِ أُوقِيَّةٍ أَوْ قِيمَتِهَا انْتَهَى .
وَالرَّاجِحُ عِنْدَنَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ يَسْأَلُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ ، فَإِنْ كَانَ يَسْأَلُ الزَّكَاةَ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ إلَّا إنْ كَانَ عِنْدَهُ كِفَايَةُ بَقِيَّةِ الْعُمُرِ الْغَالِبِ ، وَادِّعَاءُ النَّسْخِ مَمْنُوعٌ إذْ شَرْطُهُ عِلْمُ التَّارِيخِ وَتَأَخُّرُ النَّاسِخِ عَنْ الْمَنْسُوخِ وَلَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ بِالدِّرْهَمِ غَنِيًّا مَعَ كَسْبِهِ وَلَا تُغْنِيهِ الْأَلْفُ مَعَ ضَعْفِهِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ .
وَذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إلَى أَنَّ مَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولَانِ : مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ غَنِيٌّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَمْلِكُ دُونَ النِّصَابِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا مَعَ قَوْلِهِمْ مَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ يَوْمٍ لَا يَحِلُّ لَهُ السُّؤَالُ اسْتِدْلَالًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
{ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ قَالَ أَمَا فِي بَيْتِك شَيْءٌ ؟ قَالَ بَلَى حِلْسٌ } : أَيْ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ فَسُكُونٍ فَمُهْمَلَةٍ كِسَاءٌ غَلِيظٌ يَكُونُ بِظَهْرِ الْبَعِيرِ ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُدَاسُ مِنْ الْأَكْسِيَةِ وَنَحْوِهَا يُلْبَسُ بَعْضُهُ وَيُبْسَطُ بَعْضُهُ وَقَعْبٌ يُشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ ، { قَالَ ائْتِنِي بِهِمَا فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ ؟ قَالَ رَجُلٌ

أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ ، فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إلَى أَهْلِك وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ ، فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَفَعَلَ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِثَلَاثٍ : لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ } : أَيْ وَهُوَ مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ تَكَلُّفًا لَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ مُفْظِعٍ أَيْ شَدِيدٍ شَنِيعٍ ، { أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ } : أَيْ وَهُوَ مَنْ يَتَحَمَّلُ دِيَةً عَنْ قَاتِلٍ لِيَعْفُوَ عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ خَشْيَةً مِنْ أَنْ يَقْتُلُوهُ فَيَتَوَجَّعَ لِنَحْوِ قَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ .
وَصَحَّ : { طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا : أَيْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ، وَقَنِعَ } وَصَحَّ أَيْضًا : { يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى ؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ أَفَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرَ ؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ إنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ } .
وَرَوَى الشَّيْخَانِ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ أَوْ اللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ .
لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ } ، وَصَحَّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : { أَوْصِنِي يَا

رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْجِزْ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْك بِالْإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ ، فَإِنَّهُ فَقْرٌ حَاضِرٌ ، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ } ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ : { الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى } ، وَرَفْعُهُ غَرِيبٌ .

الْإِلْحَاحُ فِي السُّؤَالِ الْمُؤْذِي لِلْمَسْئُولِ إيذَاءً شَدِيدًا أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ } أَيْ الْمُلِحَّ .
وَالْبَزَّارُ : { لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ .
مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ .
إنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يُحِبُّ الْغَنِيَّ الْحَلِيمَ الْمُتَعَفِّفَ وَيُبْغِضُ الْبَذِيءَ الْفَاجِرَ السَّائِلَ الْمُلِحَّ } .
وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ : { إنَّ الرَّجُلَ يَأْتِينِي فَيَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ فَيَنْطَلِقُ وَمَا يَحْمِلُ فِي حِضْنِهِ إلَّا النَّارَ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْسِمُ ذَهَبًا إذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي فَأَعْطَاهُ ، ثُمَّ قَالَ زِدْنِي فَزَادَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ ثُمَّ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا وَقَدْ جَعَلَ فِي ثَوْبِهِ نَارًا إذَا انْقَلَبَ إلَى أَهْلِهِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ { دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت فُلَانًا يَشْكُرُ ، يَذْكُرُ أَنَّك أَعْطَيْته دِينَارَيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ فُلَانٌ قَدْ أَعْطَيْته مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إلَى الْمِائَةِ فَمَا شُكْرُهُ وَمَا يَقُولُهُ .
إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِي بِحَاجَتِهِ مُتَأَبِّطَهَا ، أَيْ جَاعِلَهَا تَحْتَ إبِطِهِ وَمَا هِيَ إلَّا النَّارُ ، قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تُعْطِيهِمْ ؟ قَالَ يَأْبَوْنَ إلَّا

مَسْأَلَتِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ } .
وَصَحَّ { لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَخْرِجْ مِنَّا بِهَا شَيْئًا لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ } .
وَصَحَّ أَيْضًا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : { لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ ، فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْته } .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الْإِلْحَاحَ بِقَيْدِهِ الْمَذْكُورِ كَبِيرَةٌ هُوَ ظَاهِرٌ وَكَلَامُهُمْ لَا يَأْبَاهُ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، لِأَنَّ الْبُغْضَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ يَقْرُبُ مِنْ اللَّعْنِ الَّذِي مِنْ أَمَارَاتِ الْكَبِيرَةِ .
وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ جَعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ نَارًا ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ .
نَعَمْ لَوْ كَانَ السَّائِلُ مُضْطَرًّا ، وَالْمَسْئُولُ مَانِعٌ لَهُ ظُلْمًا فَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِلْحَاحُ حِينَئِذٍ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ كَوْنَ الْإِلْحَاحِ كَبِيرَةً لَا يَتَقَيَّدُ بِتَكْرِيرِ السُّؤَالِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، بَلْ يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا يُؤْذِي وَيُضْجِرُ عُرْفًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْمِلُ الْمَسْئُولَ عَلَى غَايَةِ الْغَضَبِ وَيُخْرِجُهُ عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِدَالِ وَيُوقِعُهُ فِي أَشَرِّ السَّبِّ وَالشَّتْمِ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا أَذًى شَدِيدٌ وَخُلُقٌ قَبِيحٌ ، وَمَعَاصٍ مُتَعَدِّدَةٌ جَرَّ إلَيْهَا الْإِلْحَاحُ وَحَمَلَ عَلَيْهَا وَكَانَ سَبَبًا فِيهَا ، فَظَهَرَ مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّهُ حِينَئِذٍ كَبِيرَةٌ .
خَاتِمَةٌ : أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إلَيْهِ مِنِّي ، قَالَ فَقَالَ خُذْهُ ؛ إذَا جَاءَك مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ ، فَإِنْ شِئْت كُلْهُ وَإِنْ شِئْت تَصَدَّقْ بِهِ وَمَا لَا لَا تُتْبِعْهُ

نَفْسَك } .
قَالَ وَلَدُهُ سَالِمٌ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيَهُ .
وَرَوَى مَالِكٌ مُرْسَلًا وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْصُولًا : أَنَّ { عُمَرَ أَرْسَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَطَاءٍ فَرَدَّهُ ، فَقَالَ لَهُ : لِمَ رَدَدْته ؟ فَقَالَ أَلَيْسَ أَخْبَرْتنَا أَنَّ خَيْرًا لِأَحَدٍ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّمَا ذَلِكَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَإِنَّمَا ذَلِكَ رِزْقٌ يَرْزُقُهُ اللَّهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : أَمَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا يَأْتِينِي بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إلَّا أَخَذْته } .
وَصَحَّ : { مَنْ بَلَغَهُ عَنْ أَخِيهِ مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافِ نَفْسٍ فَلْيَقْبَلْهُ وَلَا يَرُدَّهُ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقُهُ سَاقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ .
} وَصَحَّ أَيْضًا { مَنْ آتَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهُ فَلْيَقْبَلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقُهُ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } .
وَصَحَّ أَيْضًا : { مَنْ عُرِضَ لَهُ مِنْ هَذَا الرِّزْقِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَإِشْرَافِ نَفْسٍ فَلْيَتَوَسَّعْ بِهِ فِي رِزْقِهِ ، فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيُوَجِّهْهُ إلَى مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنْهُ } .
وَسَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ أَبَاهُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْإِشْرَافِ فَقَالَ : " تَقُولُ فِي نَفْسِك سَيَبْعَثُ إلَيَّ فُلَانٌ سَيَصِلُنِي فُلَانٌ " وَوَرَدَ : { مَا الَّذِي يُعْطِي بِسَعَةٍ بِأَفْضَلَ مِنْ الَّذِي يَقْبَلُ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا } .

مَنْعُ الْإِنْسَانِ لِقَرِيبِهِ أَوْ مَوْلَاهُ مِمَّا سَأَلَهُ فِيهِ لِاضْطِرَارِهِ إلَيْهِ مَعَ قُدْرَةِ الْمَانِعِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ عُذْرٍ لَهُ فِي الْمَنْعِ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذُو رَحِمِهِ فَيَسْأَلُهُ فَضْلًا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ إلَّا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْ جَهَنَّمَ حَيَّةً يُقَالُ لَهَا شُجَاعٌ يَتَلَمَّظُ فَيُطَوَّقُ بِهِ } وَالتَّلَمُّظُ تَطَعُّمُ مَا يَبْقَى فِي الْفَمِ مِنْ آثَارِ الطَّعَامِ .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ رَحِمَ الْيَتِيمَ وَأَلَانَ لَهُ فِي الْكَلَامِ وَرَحِمَ يُتْمَهُ وَضَعْفَهُ وَلَمْ يَتَطَاوَلْ عَلَى جَارِهِ بِفَضْلِ مَا آتَاهُ اللَّهُ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ رَجُلٍ وَلَهُ قَرَابَةٌ مُحْتَاجُونَ إلَى صِلَتِهِ وَيَصْرِفُهَا إلَى غَيْرِهِمْ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَنْ أَبَرُّ ؟ قَالَ أُمَّك ثُمَّ أُمَّك ثُمَّ أَبَاك ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ } .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَسْأَلُ رَجُلٌ مَوْلَاهُ مِنْ فَضْلِ مَا هُوَ عِنْدَهُ فَيَمْنَعُهُ إيَّاهُ إلَّا دَعَا لَهُ فَضْلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي مَنَعَهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ } .
قَالَ أَبُو دَاوُد : الْأَقْرَعُ الَّذِي ذَهَبَ شَعَرُ رَأْسِهِ مِنْ السُّمِّ .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَهُوَ غَرِيبٌ : { أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَاهُ ابْنُ عَمِّهِ يَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَمَنَعَهُ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الْحَدِيثَ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذَكَرْته فِي

التَّرْجَمَةِ بِشُرُوطِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَاضِحٌ جَلِيٌّ وَعَلَيْهِ تُجْرَى هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِذَلِكَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ إذْ لَا تُعْلِمُ أَحَدًا ، قَالَ بِظَاهِرِهَا عَلَى إطْلَاقِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُطَاقُ ، بَلْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا عَلَى الْقَرِيبِ لِصَلَاحِ الْأَجْنَبِيِّ وَفِسْقِ الْقَرِيبِ وَلِتَحَقُّقِ أَنَّ ذَاكَ يَصْرِفُهَا فِي طَاعَةٍ وَهَذَا يَصْرِفُهَا فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
فَإِنْ قُلْت : إذَا فَرَضْت الْمَنْعَ لِمُضْطَرٍّ فَلَا فَرْقَ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْقَرِيبِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ؟ قُلْت : هُوَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ وَجْهُ الْفَرْقِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِمَّا مَرَّ أَنَّ الْكَبَائِرَ بَعْضُهَا أَقْبَحُ مِنْ بَعْضٍ ، فَالْمَنْعُ لِلْمُضْطَرِّ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ إلَّا أَنَّ لِمَوْلَاهُ وَقَرِيبِهِ الَّذِي تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ مُطْلَقِ الْقَرِيبِ ، وَهُوَ مِنْ سَائِرِ الْأَجَانِبِ لِأُمُورٍ : مِنْهَا : وُجُوبُ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا : شِدَّةُ تَعَلُّقِهِ بِهِ ، وَمِنْهَا : قَطْعُهُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُوَالَاةِ وَالْقَرَابَةِ ، وَمِنْهَا : سَعْيُهُ فِي إهْلَاكِهِ أَوْ نَحْوِهِ وَلَيْسَ فِي الْأَجْنَبِيِّ إلَّا هَذِهِ الْأَخِيرَةُ ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ أُولَئِكَ عَنْهُ بِذَلِكَ التَّغْلِيظِ الشَّدِيدِ الْفَظِيعِ ، فَهَذَا هُوَ حِكْمَةُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ ، وَهِيَ حِكْمَةٌ جَلِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَمِنْهَا أَيْضًا : التَّنْبِيهُ عَلَى تَأَكُّدِ مُرَاعَاةِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ ، ثُمَّ بَقِيَّةِ الْأَقَارِبِ وَأَنَّ قَطْعَ وُصْلَتِهِمَا لَيْسَ كَقَطْعِ وُصْلَةِ غَيْرِهِمَا ، وَمِنْ ثَمَّ { جَعَلَ اللَّهُ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةً بِسَاقِ الْعَرْشِ تَقُولُ : اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي ، وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي ، فَيُجِيبُهَا اللَّهُ - تَعَالَى - : وَعِزَّتِي لَأَصِلَنَّ مَنْ وَصَلَكِ ، وَلَأَقْطَعَنَّ مَنْ قَطَعَكِ } ، وَسَيَأْتِي فِي بَحْثِ كَوْنِ الْعُقُوقِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يُعْلِمُك بِخَطَرِ هَذَيْنِ

وَأَكِيدِ حُقُوقِهِمَا الْكَثِيرَةِ .
ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ ذَكَرَ نَحْوَ مَا ذَكَرْته فِي التَّرْجَمَةِ فَعَدَّ مِنْ الْكَبَائِرِ مَنْعَ إنْسَانٍ مَوْلَاهُ أَوْ ذَا رَحِمِهِ فَضْلًا عِنْدَهُ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمَا إلَيْهِ .

( الْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ ) قَالَ - تَعَالَى - : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَاَلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } .
وَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالْمَنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الشُّكْرَ ، وَيَمْحَقُ الْأَجْرَ ، ثُمَّ تَلَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } } .
بَيَّنَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِالْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ شَيْئًا فِي وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ كَالْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ .
وَبِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ اُشْتُرِطَ لِنَيْلِهِ ذَلِكَ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِلْمُنْفِقِينَ وَالْمُتَصَدِّقِينَ أَنْ يَسْلَمَ إنْفَاقُهُ وَصَدَقَتُهُ مِنْ الْمَنِّ بِهَا عَلَى الْمُعْطَى فِي الثَّانِي ، وَعَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَوَّلِ ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْقَفَّالُ بِقَوْلِهِ : وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الشَّرْطُ ، أَيْ عَدَمُ الْمَنِّ وَالْأَذَى مُعْتَبَرًا أَيْضًا فِيمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَنْ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجِهَادِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَلَا يَمُنُّ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : لَوْ لَمْ أَحْضُرْ لَمَا تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ ، أَوْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ : أَنْتَ ضَعِيفٌ لَا مَنْفَعَةَ بِك فِي الْجِهَادِ .
ثُمَّ إنَّ الْمَنَّ هُوَ أَنْ يُعَدِّدَ نِعْمَتَهُ عَلَى الْآخِذِ أَوْ

يَذْكُرَهَا لِمَنْ لَا يُحِبُّ الْآخِذُ اطِّلَاعَهُ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَرَى أَنَّ لِنَفْسِهِ مَزِيَّةً عَلَى الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ وَلِذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ دُعَاءً وَلَا يَطْمَعَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانِهِ فَيَسْقُطُ أَجْرُهُ ، وَأَصْلُ الْمَنِّ الْقَطْعُ وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى النِّعْمَةِ ، لِأَنَّ الْمُنْعِمَ يَقْطَعُ مِنْ مَالِهِ قِطْعَةً لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ .
وَالْمِنَّةُ النِّعْمَةُ أَوْ النِّعْمَةُ الثَّقِيلَةُ وَمِنْهُ وَصْفُهُ - تَعَالَى - بِالْمَنَّانِ : أَيْ الْمُنْعِمِ ، وَمِنْهُ : { وَإِنَّ لَك لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ } أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ .
وَتَسْمِيَةُ الْمَوْتِ مَنُونًا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْحَيَاةَ ، وَالْأَذَى هُوَ أَنْ يَنْهَرَهُ أَوْ يُعَيِّرَهُ أَوْ يَشْتُمَهُ ، فَهَذَا كَالْمَنِّ مُسْقِطٌ لِثَوَابِهِ وَأَجْرِهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَنُّ مِنْ صِفَاتِهِ - تَعَالَى - الْعَلِيَّةِ وَمِنْ صِفَاتِنَا الْمَذْمُومَةِ لِأَنَّهُ مِنْهُ - تَعَالَى - إفْضَالٌ وَتَذْكِيرٌ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أَدَاءِ وَاجِبِ شُكْرِهِ وَمِنَّا تَعْيِيرٌ وَتَكْدِيرٌ ، إذْ آخِذُ الصَّدَقَةِ مَثَلًا مُنْكَسِرُ الْقَلْبِ لِأَجْلِ حَاجَتِهِ إلَى غَيْرِهِ مُعْتَرِفٌ لَهُ بِالْيَدِ الْعُلْيَا ؛ فَإِذَا أَضَافَ الْمُعْطِي إلَى ذَلِكَ إظْهَارَ إنْعَامِهِ تَعْدِيدًا عَلَيْهِ أَوْ تَرَفُّعًا أَوْ طَلَبًا لِمُقَابَلَتِهِ عَلَيْهِ بِخِدْمَةٍ أَوْ شُكْرٍ زَادَ ذَلِكَ فِي مَضَرَّةِ الْآخِذِ وَانْكِسَارِ قَلْبِهِ وَإِلْحَاقِ الْعَارِ وَالنَّقْصِ بِهِ وَهَذِهِ قَبَائِحُ عَظِيمَةٌ ؛ عَلَى أَنَّ فِيهِ أَيْضًا النَّظَرَ إلَى أَنَّ لَهُ مِلْكًا وَفَضْلًا وَغَفْلَةً عَنْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ الَّذِي يَسَّرَ الْإِعْطَاءَ وَأَقْدَرَ عَلَيْهِ .
فَوَجَبَ النَّظَرُ إلَى جَنَابِ الْحَقِّ ، وَالْقِيَامُ بِشُكْرِهِ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا يُؤَدِّي إلَى مُنَازَعَةِ الْحَقِّ فِي فَضْلِهِ وَوُجُودِهِ إذْ لَا يَمُنُّ إلَّا مَنْ غَفَلَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُعْطِي وَالْمُتَفَضِّلُ .
وَ { مَنًّا } فِي

الْآيَةِ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ وَ { أَذًى } عُطِفَ عَلَيْهِ ، وَأَبْعَدَ بَعْضُهُمْ فَجَعَلَهُ اسْمَ ( لَا ) ، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ .
وَالْمَعْنَى ( وَلَا أَذًى ) حَاصِلٌ لَهُ بِالْإِنْفَاقِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْمُنْفِقِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَأَذَّى بِالْإِخْرَاجِ ، وَمِمَّا يَرُدُّ هَذَا التَّكَلُّفَ الْبَعِيدَ تَنْوِينُ ( أَذًى ) إذْ الْمَشْهُورُ فِي اسْمِ ( لَا ) عَدَمُ تَنْوِينِهِ لِبِنَائِهِ عَلَى الْفَتْحِ ، وَلَيْسَ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْأَجْرَ إلَّا وُجُودُ الْمَنِّ وَالْأَذَى مَعًا دُونَ أَحَدِهِمَا ، لِأَنَّ مَدْلُولَ ( مَنًّا وَلَا أَذًى ) أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ انْتِفَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، عَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ سُفْيَانَ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّهُ قَالَ : هُمَا أَنْ يَقُولَ قَدْ أَعْطَيْتُك فَمَا شَكَرْت .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : كَانَ أَبِي يَقُولُ : إذَا أَعْطَيْت رَجُلًا شَيْئًا وَرَأَيْت أَنَّ سَلَامَك يَثْقُلُ عَلَيْهِ أَيْ لِكَوْنِهِ يَتَكَلَّفُ لَك قِيَامًا وَنَحْوَهُ لِأَجْلِ إحْسَانِك عَلَيْهِ فَكُفَّ سَلَامَك عَنْهُ " وَسَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا يَقُولُ لِآخَرَ : أَحْسَنْتُ إلَيْك وَفَعَلْتُ وَفَعَلْتُ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سِيرِينَ : اُسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْرُوفِ إذَا أُحْصِيَ .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقُلْت : خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إلَّا مَنَّهُ } .
وَفِي أُخْرَى : { الْمُسْبِلُ إزَارَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ : { أَرْبَعَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : عَاقٌّ وَمَنَّانٌ

وَمُدْمِنُ خَمْرٍ وَمُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ } .
وَالنَّسَائِيُّ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْمَنَّانُ عَطَاءَهُ وَالْمُسْبِلُ إزَارَهُ وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ } .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ وَالدَّيُّوثُ ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى } .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : الْمُسْبِلُ إزَارَهُ وَالْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إلَّا مَنَّهُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } .
وَالْحَاكِمُ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا : عَاقٌّ وَمَنَّانٌ وَمُكَذِّبٌ بِالْقَدَرِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُحْجَبُونَ عَنْ النَّارِ : الْمَنَّانُ وَعَاقُّ وَالِدَيْهِ وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ } .
وَالنَّسَائِيُّ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ أَيْ ذُو مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ وَلَا بَخِيلٌ وَلَا مَنَّانٌ } .
وَأَحْمَدُ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ خَمْسٍ : مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا مُؤْمِنٌ بِسِحْرٍ وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ وَلَا كَاهِنٌ وَلَا مَنَّانٌ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ ذَلِكَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ .
خَاتِمَةٌ : مِمَّا أُنْشِدَ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : لَا تَحْمِلَنَّ مِنْ الْأَنَامِ عَلَيْك إحْسَانًا وَمِنَّهْ وَاخْتَرْ لِنَفْسِك حَظَّهَا وَاصْبِرْ فَإِنَّ الصَّبْرَ جُنَّهْ مِنَنُ الرِّجَالِ عَلَى الْقُلُوبِ أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ الْأَسِنَّهِ وَكَذَا لِبَعْضِهِمْ : وَصَاحِبٍ سَلَفَتْ مِنْهُ إلَيَّ يَدٌ أَبْطَا عَلَيْهِ مُكَافَأَتِي فَعَادَانِي لَمَّا

تَيَقَّنَ أَنَّ الدَّهْرَ حَاوَلَنِي أَبْدَى النَّدَامَةَ مِمَّا كَانَ أَوْلَانِي أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ حُسْنٍ لَيْسَ الْكَرِيمُ إذَا أَعْطَى بِمَنَّانِ .

مَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ بِشَرْطِ الِاحْتِيَاجِ أَوْ الِاضْطِرَارِ إلَيْهِ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ } .
زَادَ فِي رِوَايَةٍ : { يَقُولُ اللَّهُ لَهُ : الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاك } ، الْحَدِيثَ .
وَأَبُو دَاوُد : { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : الْمَاءُ ، قَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : الْمِلْحُ ، قَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَك } .
وَأَبُو دَاوُد : { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : فِي الْكَلَأِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : الْمَاءُ وَالْمِلْحُ وَالنَّارُ ، قَالَتْ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْمَاءُ قَدْ عَرَفْنَا فَمَا بَالُ الْمِلْحِ وَالنَّارِ ؟ قَالَ : يَا حُمَيْرَاءُ مَنْ أَعْطَى نَارًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا أَنْضَجَتْ تِلْكَ النَّارُ ، وَمَنْ أَعْطَى مِلْحًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طَيَّبَتْ تِلْكَ الْمِلْحُ ، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً ، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا .
} وَابْنُ مَاجَهْ : { الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ } .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : يَعْنِي الْمَاءَ الْجَارِيَ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ صَرِيحُ حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ ، الْأَوَّلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، وَبِهِ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ : بِشَرْطِهِ

الْمُعْتَبَرِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْته فِي التَّرْجَمَةِ .

كُفْرَانُ نِعْمَةِ الْخَلْقِ الْمُسْتَلْزِمُ لِكُفْرَانِ نِعْمَةِ الْحَقِّ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ ، وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ ، وَمَنْ اسْتَجَارَ بِاَللَّهِ فَأَجِيرُوهُ ، وَمَنْ آتَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ مُجَازَاتِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ شَكَرْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ : { مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجْزِ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَ وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ } .
وَابْنُ حِبَّانَ : { مَنْ أُولِيَ مَعْرُوفًا فَلَمْ يَجِدْ لَهُ جَزَاءً إلَّا الثَّنَاءَ فَقَدْ شَكَرَهُ ، وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ وَمَنْ تَحَلَّى بِبَاطِلٍ فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ جَيِّدَةٍ لِأَبِي دَاوُد : { مَنْ أُبْلِيَ أَيْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ - إذْ الْإِبْلَاءُ الْإِنْعَامُ - فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { إنَّ أَشْكَرَ النَّاسِ لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ } .
صَحَّحَهَا التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَهِيَ بِرَفْعِهِمَا وَنَصْبِهِمَا وَرَفْعِ الْأَوَّلِ وَنَصْبِ الثَّانِي وَعَكْسِهِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَنْ أُولِيَ مَعْرُوفًا فَلْيَذْكُرْهُ فَمَنْ ذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ } .
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ : { مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ ،

وَتَرْكُ التَّحَدُّثِ كُفْرٌ ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ : { مَنْ صُنِعَ إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ : جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ ، أَيْ يَجُرُّ إلَى كُفْرِ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَكِنْ لَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِذَلِكَ ، وَكَأَنَّ عُذْرَهُمْ أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ الْمُحْسِنِ ، وَمُجَرَّدُ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَبِيرَةٌ .

الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ أَنْ يَسْأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ غَيْرَ الْجَنَّةِ وَأَنْ يَمْنَعَ الْمَسْئُولُ سَائِلَهُ بِوَجْهِ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَ السَّائِلُ بِوَجْهِ اللَّهِ غَيْرَ الْجَنَّةِ ، وَأَنْ يَمْنَعَ الْمَسْئُولُ سَائِلَهُ بِوَجْهِ اللَّهِ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إلَّا شَيْخَهُ ، وَهُوَ ثِقَةٌ عَلَى كَلَامٍ فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَلْعُونٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ ، وَمَلْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللَّهِ ثُمَّ مَنَعَ سَائِلَهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ هُجْرًا } .
وَهُوَ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ لِلْجِيمِ أَيْ مَا لَمْ يَسْأَلْ أَمْرًا قَبِيحًا لَا يَلِيقُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا لَمْ يَسْأَلْ سُؤَالًا قَبِيحًا بِكَلَامٍ قَبِيحٍ .
وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ : { لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ إلَّا الْجَنَّةُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَلْعُونٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ ، وَمَلْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللَّهِ فَمَنَعَ سَائِلَهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ .
{ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ الْبَلِيَّةِ ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : الَّذِي يُسْأَلُ بِاَللَّهِ وَلَا يُعْطِي } .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ : { مَنْ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ ، وَمَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَحَسَّنَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إسْنَادَهُ ، وَفِيهِ بُعْدٌ : { أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ الْخَضِرِ ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ يَمْشِي فِي سُوقِ بَنِي إسْرَائِيلَ أَبْصَرَهُ رَجُلٌ مُكَاتَبٌ فَقَالَ : تَصَدَّقْ عَلَيَّ

بَارَكَ اللَّهُ فِيك ، فَقَالَ الْخَضِرُ : آمَنْت بِاَللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَمْرٍ يَكُونُ مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيكَهُ .
فَقَالَ الْمِسْكِينُ : أَسْأَلُك بِوَجْهِ اللَّهِ لَمَا تَصَدَّقْت عَلَيَّ فَإِنِّي نَظَرْت السَّمَاحَةَ فِي وَجْهِك وَرَجَوْت الْبَرَكَةَ عِنْدَك ، فَقَالَ الْخَضِرُ : آمَنْت بِاَللَّهِ مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيكَهُ إلَّا أَنْ تَأْخُذَنِي فَتَبِيعَنِي ، فَقَالَ الْمِسْكِينُ : وَهَلْ يَسْتَقِيمُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ أَقُولُ لَقَدْ سَأَلْتنِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَا إنِّي لَا أُخَيِّبُك بِوَجْهِ رَبِّي بِعْنِي ، قَالَ : فَقَدَّمَهُ إلَى السُّوقِ فَبَاعَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَمَكَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي زَمَانًا لَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي شَيْءٍ ، فَقَالَ : إنَّمَا اشْتَرَيْتنِي الْتِمَاسَ خَيْرٍ عِنْدِي فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ ، قَالَ : أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْك إنَّك شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعِيفٌ قَالَ : لَيْسَ يَشُقُّ عَلَيَّ ، قَالَ : قُمْ فَانْقُلْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ ، وَكَانَ لَا يَنْقُلُهَا دُونَ سِتَّةِ نَفَرٍ فِي يَوْمٍ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ نَقَلَ الْحِجَارَةَ فِي سَاعَةٍ ، قَالَ : أَحْسَنْت وَأَجْمَلْت وَأَطَقْت مَا لَمْ أَرَك تُطِيقُهُ ، ثُمَّ عَرَضَ لِلرَّجُلِ سَفَرٌ فَقَالَ : إنِّي أَحْسَبُك أَمِينًا فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي خِلَافَةً حَسَنَةً .
قَالَ : وَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ ، قَالَ : إنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْك ، قَالَ : لَيْسَ يَشُقُّ عَلَيَّ ، قَالَ : فَاضْرِبْ مِنْ اللَّبِنِ لِبَيْتِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْك ، قَالَ : فَمَرَّ الرَّجُلُ لِسَفَرِهِ ، قَالَ : فَرَجَعَ وَقَدْ شَيَّدَ بِنَاءَهُ ، قَالَ : أَسْأَلُك بِوَجْهِ اللَّهِ مَا سَبَبُك وَمَا أَمْرُك ؟ قَالَ ، سَأَلْتنِي بِوَجْهِ اللَّهِ ، وَوَجْهُ اللَّهِ أَوْقَعَنِي فِي هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ ، فَقَالَ الْخَضِرُ : سَأُحَدِّثُك مَنْ أَنَا ؟ أَنَا الْخَضِرُ الَّذِي سَمِعْت بِهِ سَأَلَنِي مِسْكِينٌ صَدَقَةً فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيهِ فَسَأَلَنِي بِوَجْهِ اللَّهِ فَأَمْكَنْتُهُ مِنْ رَقَبَتِي فَبَاعَنِي ، وَأُخْبِرُكَ أَنَّهُ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللَّهِ فَرَدَّ سَائِلَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ وَقَفَ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ جِلْدُهُ وَلَا لَحْمَ لَهُ يَتَقَعْقَعُ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : آمَنْت بِاَللَّهِ شَقَقْت عَلَيْك يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَمْ أَعْلَمْ .
قَالَ : لَا بَأْسَ أَحْسَنْتَ وَأَتْقَنْتَ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ اُحْكُمْ فِي أَهْلِي وَمَالِي بِمَا شِئْت أَوْ اخْتَرْ فَأُخَلِّيَ سَبِيلَك ، قَالَ : أُحِبُّ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلِي فَأَعْبُدَ رَبِّي فَخَلَّى سَبِيلَهُ ، فَقَالَ الْخَضِرُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْثَقَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ ثُمَّ نَجَّانِي مِنْهَا .
} تَنْبِيهٌ : عَدُّ كُلِّ مِنْ هَذَيْنِ كَبِيرَةً وَهُوَ صَرِيحُ اللَّعْنِ عَلَيْهِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَأَنَّ مَنْ سُئِلَ بِاَللَّهِ وَلَا يُعْطِي شَرُّ النَّاسِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ ، لَكِنْ لَمْ يَأْخُذْ بِذَلِكَ أَئِمَّتُنَا فَجَعَلُوا كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ مَكْرُوهًا وَلَمْ يَقُولُوا بِالْحُرْمَةِ فَضْلًا عَنْ الْكَبِيرَةِ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ فِي الْمَنْعِ عَلَى مَا إذَا كَانَ لِمُضْطَرٍّ وَتَكُونُ حِكْمَةُ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْعَهُ مَعَ اضْطِرَارِهِ ، وَسُؤَالِهِ بِاَللَّهِ أَقْبَحُ وَأَفْظَعُ ، وَحَمْلُهُ فِي السُّؤَالِ عَلَى مَا إذَا أَلَحَّ وَكَرَّرَ السُّؤَالَ بِوَجْهِ اللَّهِ حَتَّى أَضْجَرَ الْمَسْئُولَ وَأَضَرَّهُ ، وَحِينَئِذٍ فَاللَّعْنُ عَلَى هَذَيْنِ ، وَكَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا كَبِيرَةً ظَاهِرٌ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ أَصْحَابُنَا ، وَكَلَامُهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي مُجَرَّدِ السُّؤَالِ بِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَفِي مَنْعِ السَّائِلِ بِذَلِكَ لَا عَنْ اضْطِرَارِهِ ، وَبِهَذَا اتَّضَحَ الْجَمْعُ بَيْنَ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا وَتِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا ، ثُمَّ رَأَيْت فِي كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ فِي مِنْهَاجِهِ مَا يُصَرِّحُ بِمَا ذَكَرْته .
فَإِنَّهُ قَالَ : مَا مِنْ ذَنْبٍ إلَّا وَفِيهِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ وَقَدْ تَنْقَلِبُ الصَّغِيرَةُ كَبِيرَةً بِقَرِينَةٍ تُضَمُّ إلَيْهَا ، وَتَنْقَلِبُ الْكَبِيرَةُ فَاحِشَةً بِانْضِمَامِ قَرِينَةٍ إلَيْهَا إلَّا الْكُفْرَ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّهُ أَفْحَشُ الْكَبَائِرِ وَلَيْسَ مِنْ نَوْعِهِ صَغِيرَةٌ وَأَمَّا مَا

عَدَاهُ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْت ، ثُمَّ قَالَ : وَمَنْعُ الزَّكَاةِ كَبِيرَةٌ وَرَدُّ السَّائِلِ صَغِيرَةٌ ، فَإِنْ أَجْمَعَ عَلَى مَنْعِهِ ، أَوْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ وَاحِدٍ إلَّا أَنَّهُ زَادَ عَلَى الْمَنْعِ الِانْتِهَارَ وَالْإِغْلَاظَ فَذَاكَ كَبِيرَةٌ ، وَهَكَذَا إنْ رَأَى مُحْتَاجٌ رَجُلًا مُوَسَّعًا عَلَيْهِ عَلَى طَعَامٍ فَتَاقَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ وَسَأَلَهُ مِنْهُ فَرَدَّهُ فَذَلِكَ كَبِيرَةٌ .
انْتَهَى .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ بِأَنَّ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ رَدَّ السَّائِلِ صَغِيرَةٌ وَأَنَّ رَدَّ الْمُحْتَاجِ - الَّذِي تَاقَتْ نَفْسُهُ وَسَأَلَ مِنْ الْمُوسِرِ فَرَدَّهُ - كَبِيرَةٌ مُشْكِلَانِ إلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ ، وَكَلَامُهُ بَعِيدٌ مِنْ التَّأْوِيلِ انْتَهَى .
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ .
قُلْت : يُحْمَلُ كَلَامُهُ الثَّانِي عَلَى الْمُضْطَرِّ وَالْأَوَّلُ عَلَى سَائِلٍ لِمَنْ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ فِي بَلَدٍ فُقَرَاؤُهُ مَحْصُورُونَ انْتَهَى .
فَمَا ذَكَرَهُ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ تَأْوِيلًا لِكَلَامِ الْحَلِيمِيِّ صَرِيحٌ فِي تَأْيِيدِ مَا ذَكَرْته .
نَعَمْ إطْلَاقُ الْجَلَالِ بِأَنَّ مَا ذُكِرَ آخِرًا صَغِيرَةٌ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُمْ إذَا انْحَصَرُوا فِي ثَلَاثَةٍ فَأَقَلَّ مِنْ صِنْفٍ مَلَكُوا الزَّكَاةَ مِلْكًا تَامًّا مُسْتَقِرًّا ، فَمَنْعُ أَحَدِهِمْ حِينَئِذٍ كَبِيرَةٌ بِلَا شَكٍّ ، فَإِنْ انْحَصَرُوا حَصْرًا يَقْتَضِي وُجُوبَ اسْتِيعَابِهِمْ عَلَى الْمَالِكِ بِأَنْ سَهُلَ ضَبْطُهُمْ عَلَيْهِ عَادَةً وَوَفَّى الْمَالُ بِهِمْ اُتُّجِهَ أَنَّ الرَّدَّ حِينَئِذٍ صَغِيرَةٌ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ فَكَانَ الرَّدُّ صَغِيرَةً لَا كَبِيرَةً ، وَعَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ يُحْمَلُ كَلَامُ الْجَلَالِ .

خَاتِمَةٌ : فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الصَّدَقَةِ وَأَحْكَامِهَا وَأَنْوَاعِهَا : وَقَدْ أَلَّفْت فِيهَا كِتَابًا حَافِلًا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ مِثْلِهِ فَضَائِلَ وَأَحْكَامًا وَفَوَائِدَ وَفُرُوعًا فَعَلَيْك بِهِ .
اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَسْرُدُهُ فِي هَذِهِ الْخَاتِمَةِ مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ إلَّا قَلِيلًا مِنْهَا فَإِنَّهُ حَسَنٌ فَلَمْ أَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ مُخَرِّجِيهَا .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا طَيِّبًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ } - أَيْ مُلْتَبِسَةً بِيَمِينِهِ وَبَرَكَتِهِ - { ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ } - بِفَتْحٍ فَضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ : مُهْرَهُ أَوَّلَ مَا يُولَدُ - { حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ حَتَّى إنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ } ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } .
{ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ : { مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا مَدَّ عَبْدٌ يَدَهُ لِصَدَقَةٍ إلَّا أُلْقِيَتْ فِي يَدِ اللَّهِ } : أَيْ إلَّا قَبِلَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - وَرَضِيَ بِهَا { قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ } ، { وَمَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ لَهُ عَنْهَا غِنًى إلَّا فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابَ فَقْرٍ } .
{ يَقُولُ الْعَبْدُ : مَالِي مَالِي وَإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ : مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى ، مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ } .
{ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ

أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ } .
{ لِيَقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ مِنْ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ } .
{ الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ } .
{ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ وَدَمٌ نَبَتَا عَلَى سُحْتٍ ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ .
يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ النَّاسُ غَادِيَانِ فَغَادٍ فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ فَمُعْتِقُهَا وَغَادٍ مُوبِقُهَا .
يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ الصَّلَاةُ قُرُبَاتٌ وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يَذْهَبُ الْجَلِيدُ عَلَى الصَّفَا } ، وَفِي رِوَايَةٍ : { كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ } .
{ إنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ اللَّهَ لَيَدْرَأُ } أَيْ يَدْفَعُ { بِالصَّدَقَةِ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ مِيتَةِ السُّوءِ } .
{ كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ ، لَا يُخْرِجُ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُكَّ عَنْهَا لَحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا } .
{ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ جُهْدُ الْمُقِلِّ ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ } .
{ سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ رَجُلٌ : كَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَخَذَ مِنْ عُرْضِهِ - أَيْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ الْمُهْمَلِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ جَانِبُهُ - مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَصَدَّقَ بِهَا ، وَرَجُلٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ } .
{ لَا تَرُدَّ سَائِلَك وَلَوْ بِظِلْفٍ } ، هُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ الْمُعْجَمِ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ لِلْفَرَسِ .
{ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ إلَى أَنْ قَالَ : وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ } .
{ صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ

تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ : { صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ ، وَالصَّدَقَةُ خُفْيًا تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ ، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ } .
وَفِي أُخْرَى لَهُ وَلِأَحْمَدَ : { مَا الصَّدَقَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ وَعِنْدَ اللَّهِ الْمَزِيدُ ، ثُمَّ قَرَأَ : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : سِرٌّ إلَى فَقِيرٍ أَوْ جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ ، ثُمَّ قَرَأَ : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } } .
{ مَنْ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا لَمْ يَزَلْ فِي سَتْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَا دَامَ عَلَيْهِ مِنْهُ خَيْطٌ أَوْ سِلْكٌ } .
{ أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ } .
{ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي رَحِمٍ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ } .
{ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ } أَيْ الْمُضْمِرِ لِعَدَاوَتِك فِي كَشْحِهِ أَيْ خَصْرِهِ ، كِنَايَةً عَنْ بَاطِنِهِ .
{ مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أَيْ بِأَنْ أَعْطَى لَبُونًا لِمَنْ يَأْكُلُ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا ، أَوْ وَرِقٍ أَيْ بِأَنْ أَقْرَضَ دَرَاهِمَ ، أَوْ هَدَى رِفَاقًا ، أَيْ إلَى الطَّرِيقِ كَانَ لَهُ مِثْلُ عِتْقِ رَقَبَةٍ } .
{ كُلُّ قَرْضٍ صَدَقَةٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ جَمَاعَةٍ : { رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12