كتاب : الزواجر عن اقتراف الكبائر
المؤلف : أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي

وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : لَيْسَ لَنَا آيَةٌ جَمَعَتْ بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ سِوَاهَا ، وَقَالَ غَيْرُهُ : النَّاسِخُ إذَا اهْتَدَيْتُمْ إذْ الْهُدَى هُنَا هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُوَ صَرِيحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي ذَلِكَ ، فَأَمَّا الْأَخِيرَةُ فَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهَا وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ مُصَرِّحَةٌ بِهَا كَمَا تَقَرَّرَ .
وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ بِأَنَّهُ إنْ خَالَفَ بِفِعْلِ كَبِيرَةٍ فَالتَّشْدِيدُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ فِعْلِ الْكَبِيرَةِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ مُخَالَفَةِ الْقَوْلِ لِلْعَمَلِ أَوْ بِفِعْلِ صَغِيرَةٍ فَالْإِشْكَالُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ حِينَئِذٍ لَا مُقْتَضَى لَهَا .
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ لَنَا أَنْ نَلْتَزِمَ الْأَوَّلَ وَلَا نُسَلِّمَ أَنَّ التَّشْدِيدَ جَاءَ مِنْ فِعْلِ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ فَحَسْبُ ، وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ انْضِمَامِ مُخَالَفَةِ الْقَوْلِ الْعَمَلَ إلَيْهَا وَهَذَا ظَاهِرٌ فَحَسَنٌ حِينَئِذٍ الْعَدُّ لِأَنَّ هَذَا الِانْضِمَامَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ مَزِيدِ الْعِقَابِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى عَدَمِهِ ، وَأَنْ نَلْتَزِمَ الثَّانِي وَنَقُولَ لَمَّا أَنْ انْضَمَّ إلَى تِلْكَ الصَّغِيرَةِ التَّغْرِيرُ لِلنَّاسِ بِإِظْهَارِهِ لَهُمْ الْقِيَامَ بِوَظَائِفِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَنَّهُ جَارٍ عَلَى سَنَتِهِمْ وَمُهْتَدٍ بِهَدْيِهِمْ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَانَ هَذَا التَّغْرِيرُ الْعَظِيمُ الْمُؤَدِّي إلَى مَفَاسِدَ لَا تُحْصَى كَبِيرَةً .
ثُمَّ رَأَيْت مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَهُوَ مَا سَأَذْكُرُهُ فِي السِّعَايَةِ مِنْ قَوْلِ الْأَذْرَعِيِّ إطْلَاقُ كَوْنِ السِّعَايَةِ كَبِيرَةً مُشْكِلٌ إذَا كَانَ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا صَغِيرَةً إلَّا أَنْ يُقَالَ تَصِيرُ كَبِيرَةً بِمَا يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ الرُّعْبِ لِلْمَسْعِيِّ عَلَيْهِ وَإِرْجَافِ أَهْلِهِ وَتَرْوِيعِهِمْ

بِطَلَبِ السُّلْطَانِ .
انْتَهَى .
فَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ إلَخْ هُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرْته فَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْ كَلَامِهِمْ فَلْيُعْتَمَدْ .
وَأَمَّا الْأَوَّلَانِ فَعَدُّهُمَا هُوَ مَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ ثُمَّ تَوَقَّفَ فِيهِ وَأَقَرَّهُ النَّوَوِيُّ عَلَى تَوَقُّفِهِ وَاعْتَذَرَ عَنْهُ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَقْوَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد السَّابِقَةُ { ثُمَّ لَيَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ } لِمَا مَرَّ أَنَّ إحْدَى طَرِيقَيْهَا فِيهِ انْقِطَاعٌ وَالْأُخْرَى مُرْسَلَةٌ انْتَهَى .
وَيُرَدُّ بِأَنَّ خَبَرَ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي مَرَّ عَقِبَ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد السَّابِقَةِ وَالْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ بَعْدَهُ سِيَّمَا خَبَرُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَيْنِك مِنْ الْكَبَائِرِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، فَلَيْسَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَلَالُ مَلْحَظُ التَّوَقُّفِ ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ وَسَيُصَرِّحُ بِهِ الْجَلَالُ نَفْسُهُ كَمَا يَأْتِي عَنْهُ أَنَّ مَلْحَظَ مَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَنَقَلَهُ الْجَلَالُ عَنْهُ ، لَكِنَّهُ قَالَ : قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَيُقَالُ إنْ كَانَ كَبِيرَةً فَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ دَفْعِهِ كَبِيرَةٌ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرَةً فَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ صَغِيرَةٌ وَيُقَاسُ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهَا إذَا قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَاتِ تَتَفَاوَتُ وَهُوَ الظَّاهِرُ انْتَهَى كَلَامُ الْجَلَالِ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ ؛ وَبَقِيَ مِنْ كَلَامِهِ شَيْءٌ يَظْهَرُ بِهِ صِحَّةُ مَا فَصَّلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَلَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ إطْلَاقِ كَوْنِ تَرْكِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَبِيرَةً أَنَّ تَرْكَ النَّهْيِ عَنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَبِيرَةٌ ، وَقَدْ أَطْلَقَ قَائِلُ هَذَا وَهُوَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الصَّغَائِرِ .
انْتَهَى .
أَيْ فَكَيْفَ يُتَعَقَّلُ أَنَّ الْغِيبَةَ نَفْسَهَا صَغِيرَةٌ وَتَرْكَ النَّهْيِ عَنْهَا كَبِيرَةٌ فَاتَّضَحَ تَفْصِيلُهُ أَنَّ تَرْكَ النَّهْيِ عَنْ الْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ بِخِلَافِهِ عَنْ الصَّغِيرَةِ .
قَالَ

الْجَلَالُ : وَمَا ذَكَرَهُ أَيْ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْوَاجِبَاتِ : أَيْ مِنْ أَنَّهَا تَتَفَاوَتُ مَعْنَاهُ أَنَّ جَوَابَ السَّلَامِ مَثَلًا وَاجِبٌ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَاجِبَةٌ وَهُمَا دُونَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ ، فَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مَعَ الْإِمْكَانِ كَبِيرَةٌ ، وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِجَوَابٍ السَّلَامِ أَوْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ مَعَ الْإِمْكَانِ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ ؛ انْتَهَى .

قَالَ الْجَلَالُ أَيْضًا : وَأَمَّا الْمَنْدُوبَاتُ فَلَيْسَ تَرْكُ الْأَمْرِ بِهَا كَبِيرَةً قِيلَ وَلَا صَغِيرَةً لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَجِبُ الْأَمْرُ بِهِ مَا يَكُونُ فِعْلُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمُكَلَّفِ ، وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهَاتُ لَيْسَ إنْكَارُهَا وَاجِبًا كَمَا يَجِبُ إنْكَارُ الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ يُسْتَحَبُّ الْأَمْرُ بِالْمَنْدُوبَاتِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ .
وَحَكَى فِي الرَّوْضَةِ وَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ وَصَحَّحَ الْوُجُوبَ ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا سُنَّةٌ لِأَنَّهَا شِعَارٌ ظَاهِرٌ .
قُلْت : تَخْرِيجًا عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ ، وَإِنْ قُلْنَا هِيَ تَنْزِيهٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَحَرَّمَ بِهَا بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ عَلَى مَا عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ ، فَحِينَئِذٍ السُّكُوتُ عَنْ الْأَمْرِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ لَا يَلْحَقُ بِالْكَبَائِرِ وَلَا السُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ .
إذَا قُلْنَا إنَّ النَّهْيَ تَنْزِيهٌ لَا يَلْحَقُ بِالْكَبَائِرِ فَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ الرَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ وَلِلتَّوَقُّفِ مَجَالٌ فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى إطْلَاقِهِمَا .
انْتَهَى .
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ خَاصٌّ بِالْمُحْتَسِبِ ، وَبِهِ جُمِعَ بَيْنَ قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِوَاجِبَاتِ الشَّرْعِ وَالنَّهْيِ عَنْ مُحَرَّمَاتِهِ ، وَقَوْلُ الرَّوْضَةِ وَيَجِبُ الْأَمْرُ بِصَلَاةِ الْعِيدِ .
وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا سُنَّةٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَ شِعَارًا ظَاهِرًا ، فَالْأَوَّلُ فِي الْآحَادِ فَلَا يَلْزَمُهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إلَّا فِي الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ ، وَالثَّانِي فِي الْمُحْتَسِبِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الشِّعَارِ الظَّاهِرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا .
وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ ؛ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْمُسْتَحَبِّ مُسْتَحَبٌّ ، فَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَسِبِ فَقَدْ فَرَّقَ

الْأَئِمَّةُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ : مِنْهَا : قَوْلُهُمْ لَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ بِنَحْوِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ أَوْ صَوْمٍ صَارَ وَاجِبًا وَلَوْ أَمَرَ بِهِ بَعْضُ الْآحَادِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ أَحْكَامًا يَخْتَصُّ بِهَا قَوْلُهُمْ ، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ مُحْتَسِبًا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَإِنْ كَانَا لَا يَخْتَصَّانِ بِهِ لِأَنَّ كَلِمَتَهُ أَنْفَذُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِهِ إذْ لَا يَلْزَمُ النَّاسَ اتِّبَاعُ مَذْهَبِ غَيْرِ إمَامِهِمْ ، وَيَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ فِي التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ ، وَيَأْمُرُ بِمَا يَعُمُّ نَفْعُهُ كَعِمَارَةِ سُوَرِ الْبَلَدِ وَمُؤْنَةِ الْمُحْتَاجِينَ وَيَجِبُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ أَوْ مَنَعَ ظُلْمًا لَزِمَ كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَيَنْهَى الْمُوسِرَ عَنْ مَطْلِ دَائِنِهِ إنْ اسْتَعْدَاهُ الْغَرِيمُ عَلَيْهِ .
وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ وَقَفَ مَعَ امْرَأَةٍ بِطَرِيقٍ خَالٍ وَيَقُولُ لَهُ : إنْ كَانَتْ مَحْرَمًا لَك فَصُنْهَا عَنْ مَوَاقِفِ الرِّيبَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ الْخَلْوَةِ بِهَا فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَيَأْمُرُ الْأَوْلِيَاءَ بِإِنْكَاحِ الْأَكْفَاءِ ، وَالنِّسَاءَ بِإِيفَاءٍ الْعِدَدِ ، وَالسَّادَةَ بِالرِّفْقِ بِالْمَمَالِيكِ ، وَأَصْحَابَ الْبَهَائِمِ بِتَعَهُّدِهَا وَالرِّفْقِ بِهَا .
وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَسَرَّ فِي جَهْرِيَّةٍ أَوْ عَكَسَ أَوْ زَادَ فِي الْأَذَانِ أَوْ نَقَصَ وَلَا يُنْكِرُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ قَبْلَ اسْتِعْدَاءِ ذِي الْحَقِّ عَلَيْهِ وَلَا يَحْبِسُ وَلَا يَضْرِبُ لِلدَّيْنِ ، وَيُنْكِرُ عَلَى الْقُضَاةِ إنْ احْتَجَبُوا عَلَى الْخُصُومِ أَوْ قَصَّرُوا فِي النَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ ، وَعَلَى أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ الْمَطْرُوقَةِ إنْ طَوَّلُوا فِي الصَّلَاةِ لِلِاتِّبَاعِ ، وَيَمْنَعُ الْخَوَنَةَ مِنْ مُعَامَلَةِ

النِّسَاءِ .
قَالَ الْأَئِمَّةُ : وَيَجِبُ إنْكَارُ الصَّغِيرَةِ كَالْكَبِيرَةِ ، بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مَعْصِيَةً لِخُصُوصِ الْفَاعِلِ وَجَبَ الْإِنْكَارُ كَمَا لَوْ رَأَى غَيْرَ مُكَلَّفٍ يَزْنِي أَوْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمَعْصِيَةِ إلَّا الْوَعْظُ بَلْ يُسَنُّ السَّتْرُ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الْحُدُودِ بِتَفْصِيلِهِ .
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : مَنْ عُرِفَ بِالْفَسَادِ يُسَنُّ كَشْفُهُ وَرَفْعُهُ إلَى الْحَاكِمِ إنْ لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً ، وَمَنْ عَلِمَ بِمُنْكَرٍ سَيُوجَدُ كَأَنْ سَمِعَ مِنْ إنْسَانٍ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى نَحْوِ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ زِنًا غَدًا وَعَظَهُ فَقَطْ ، فَإِنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ بِقَرَائِنَ دُونَ السَّمَاعِ حَرُمَ وَعْظُهُ لِتَضَمُّنِهِ إسَاءَةَ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ .
كَذَا قِيلَ .
وَفِي إطْلَاقِ حُرْمَةِ الْوَعْظِ نَظَرٌ بَلْ إنَّمَا تَتَّجِهُ الْحُرْمَةُ إنْ سَجَّلَ عَلَيْهِ فِي وَعْظٍ بِفِسْقٍ أَوْ نَحْوِهِ .
وَمَنْ خَلَا بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ وَقَفَ ؛ لِيَنْظُرَ أَجْنَبِيَّةً يُنْكِرُ عَلَيْهِ بِالْيَدِ ثُمَّ اللِّسَانِ لِتَحَقُّقِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ .
قَالَ الْأَئِمَّةُ أَيْضًا : وَلَا يَخْتَصُّ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَسْمُوعِ الْقَوْلِ ، بَلْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى وَإِنْ عَلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ وَالنَّاهِي غَيْرَ مُمْتَثِلٍ وَلَا مَأْذُونٍ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ فَإِذَا اخْتَلَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يَسْقُطْ الْآخَرُ .
وَلَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى فِي دَقَائِقِ الْأُمُورِ إلَّا الْعُلَمَاءُ دُونَ الْعَامَّةِ لِجَهْلِهِمْ بِهَا وَمِنْ ثَمَّ اسْتَوَى الْكُلُّ فِي الظَّوَاهِرِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ .
وَلَا يُنْكِرُ الْعَالِمُ إلَّا مَجْمَعًا عَلَى إنْكَارِهِ أَوْ مَا يَرَى الْفَاعِلُ تَحْرِيمَهُ لَهُ دُونَ مَا عَدَا ذَلِكَ ، نَعَمْ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَنْدُبَهُ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ إنْ لَمْ يَقَعْ فِي خِلَافٍ آخَرَ وَتَرْكِ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ

لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ حِينَئِذٍ .
وَعُلِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ يَكُونُ بِالْيَدِ ثُمَّ إنْ عَجَزَ فَبِاللِّسَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِكُلِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ فَلَا يَكْفِي الْوَعْظُ مِمَّنْ أَمْكَنَهُ إزَالَتُهُ وَلَا كَرَاهَةُ الْقَلْبِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى النَّهْيِ بِاللِّسَانِ وَيَرْفُقُ فِي التَّغْيِيرِ بِمَنْ يَخَافُ شَرَّهُ وَبِالْجَاهِلِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَدَّى إلَى قَبُولِ قَوْلِهِ وَإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ إنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً مِنْ إظْهَارِ سِلَاحٍ وَحَرْبٍ وَلَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِقْلَالُ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ رَفَعَهُ لِلْوَالِي فَإِنْ عَجَزَ أَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ ، وَلَيْسَ لِآمِرٍ وَلَا نَاهٍ تَجَسُّسٌ وَلَا بَحْثٌ وَلَا اقْتِحَامُ دَارٍ بِظَنٍّ فَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِمَنْ اخْتَلَى بِمُحَرَّمٍ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ تَدَارُكُهَا كَأَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِامْرَأَةٍ ؛ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ بِشَخْصٍ لِيَقْتُلَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَقْتَحِمَ لَهُ الدَّارَ وَأَنْ يَتَجَسَّسَ وَلَوْ عَلِمَ بِهِ كَأَنْ سَمِعَ صَوْتَ الْمَلَاهِي أَوْ الْقَيْنَاتِ أَوْ السُّكَارَى دَخَلَ وَكَسَرَ الْمَلَاهِي وَأَخْرَجَ نَحْوَ الْقَيْنَاتِ .
وَلَا يَجُوزُ كَشْفُ ذَيْلِ فَاسِقٍ فَاحَتْ مِنْ تَحْتِهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ وَكَذَا لَوْ عَلِمَ تَحْتَهُ عُودًا وَنَحْوَهُ .
ا هـ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ تَحْتَهُ عُودًا أَخْرَجَهُ وَكَسَرَهُ بِشَرْطِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحَسُّسَ هُوَ كُلُّ أَمْرٍ إذَا فَتَّشْت عَنْهُ ثَقُلَ عَلَى صَاحِبِهِ عِلْمُك بِهِ وَلَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا إنْ خَافَ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ بُضْعِهِ أَوْ عُضْوِهِ أَوْ خَافَ مَفْسَدَةً عَلَى غَيْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمُنْكَرِ الْوَاقِعِ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُرْتَكِبَ يَزِيدُ فِيمَا هُوَ فِيهِ عِنَادًا .

فَائِدَةٌ : وُجُوبُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَعُمُّ كُلَّ مُكَلَّفٍ مِنْ حُرٍّ وَقِنٍّ وَذَكَرٍ وَأُنْثَى ، لَكِنَّهُ وُجُوبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ } إلَخْ ، إذْ لَوْ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ لَقَالَ وَلْتَكُونُوا ؛ نَعَمْ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ كَمَا إذَا كَانَ بِمَحَلٍّ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ .
ثُمَّ فَرْضُ الْكِفَايَةِ هُوَ الَّذِي إذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ حَازَ ثَوَابُهُ وَأَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ جَمْعٌ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ لِتَعَدِّي نَفْعَهُ ، نَعَمْ مَحَلُّ سُقُوطِهِ عَنْ الْغَيْرِ إنْ عَلِمَ بِقِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ وَإِلَّا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ كَتَرْكِهِ وَاجِبًا عَمْدًا بِالنِّسْبَةِ لِظَنِّهِ ، وَالْمَدَارُ فِي الْإِثْمِ عَلَيْهِ لَا عَلَى نَفْسِ الْأَمْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَثِمَ إثْمَ الزِّنَا وَفِي عَكْسِهِ لَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَحَلُّ اسْتِوَائِهِمْ أَيْضًا إنْ اسْتَوَوْا فِي الْقُدْرَةِ بِالْيَدِ وَبِاللِّسَانِ ، فَلَوْ قَدَرَ وَاحِدٌ بِالْيَدِ وَآخَرُونَ بِاللِّسَانِ تَعَيَّنَ عَلَى الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لِذِي اللِّسَانِ أَقْرَبَ أَوْ أَنَّهُ يَرْجِعُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا يَرْجِعُ لِذِي الْيَدِ إلَّا ظَاهِرًا فَقَطْ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى ذِي اللِّسَانِ حِينَئِذٍ وَلَا يَسْقُطُ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ عَنْ مُكَلَّفٍ أَصْلًا إذْ هُوَ كَرَاهَةُ الْمَعْصِيَةِ .
وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ ، بَلْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَحْمَدُ أَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ بِالْقَلْبِ كُفْرٌ لِخَبَرِ { وَهُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } .
وَمَنْ قَدِمَ عَلَى مُنْكَرٍ جَاهِلًا بِهِ وَلَوْ عَلِمَهُ رَجَعَ عَنْهُ يَجِبُ تَعْلِيمُهُ بِرِفْقٍ ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يُفِيدُ إسْمَاعُهُ مُخَاطَبَةَ الْغَيْرِ بِالتَّعْلِيمِ خُوطِبَ بِهِ الْغَيْرُ أَوْ عَالِمًا بِهِ ابْتِدَاءً أَوْ لِكَوْنِهِ عَرَفَهُ كَالْمُوَاظِبِ عَلَى نَحْوِ مَكْسٍ أَوْ غِيبَةٍ وَعَظَهُ وَخَوَّفَهُ بِذِكْرِ وَعِيدِ ذَنْبِهِ ثُمَّ يَتَدَرَّجُ مَعَهُ بِغَايَةِ

اللُّطْفِ وَالْبَشَاشَةِ إذْ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ وَيُلَاحِظُ لُطْفَ اللَّهِ بِهِ إذْ حَفِظَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ شَاءَ لَعَكَسَ ، بَلْ لَيْسَ هُوَ آمِنًا مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْإِنْكَارِ بِاللِّسَانِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ وَقَدَرَ عَلَى التَّعْبِيسِ وَالْهَجْرِ وَالنَّظَرِ شَزْرًا لَزِمَهُ ذَلِكَ وَلَا يَكْفِيهِ إنْكَارُ الْقَلْبِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَّعِظْ وَيَتَذَكَّرْ وَعَلِمَ مِنْهُ الْإِصْرَارَ خَشَّنَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ وَسَبَّهُ بِلَا فُحْشٍ كَيَا فَاسِقُ يَا جَاهِلُ يَا أَحْمَقُ يَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَغْضَبَ فَيَبْقَى إنْكَارُهُ ؛ لِنُصْرَةِ نَفْسِهِ أَوْ يَسْتَرْسِلَ لِمَا يَحْرُمُ فَيَنْقَلِبُ الثَّوَابُ عِقَابًا ، هَذَا كُلُّهُ فِيمَا لَا يُنْكَرُ بِالْيَدِ أَمَّا مَا يُنْكَرُ بِهَا كَخَمْرٍ غَيْرِ مُحْتَرَمَةٍ وَكَسْرِ آلَةِ اللَّهْوِ وَتَجْرِيدِهِ مِنْ حُلِيِّ ذَهَبٍ أَوْ حَرِيرٍ وَمَنَعَهُ مِنْ شَدْخِ نَحْوِ شَاةٍ وَإِخْرَاجِ نَحْوِ جُنُبٍ وَأَكْلِ مُنْتِنٍ وَذِي نَجَسٍ يَنْضَحُ مِنْ مَسْجِدٍ فَلَا يَكْفِي غَيْرُ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ فَيَجُرُّهُ بِرِجْلِهِ أَوْ بِمُعِينٍ إنْ عَجَزَ ، وَلْيَتَوَقَّ فِي نَحْوِ إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَكَسْرِ آلَةِ اللَّهْوِ الْكَسْرَ الْفَاحِشَ إلَّا إذَا لَمْ تُرَقْ إلَّا بِهِ أَوْ يَخْشَى أَنَّ الْفُسَّاقَ يُدْرِكُونَهُ وَيَمْنَعُونَهُ فَيَفْعَلُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَوْ بِحَرْقٍ وَغَرَقٍ .
وَلِلْإِمَامِ ذَلِكَ مُطْلَقًا زَجْرًا أَوْ تَعْزِيرًا وَلَهُ فِيمَنْ لَمْ يَنْكَفَّ بِخَشِنِ الْكَلَامِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِنَحْوِ يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَنْكَفَّ إلَّا بِشَهْرِ سِلَاحٍ مِنْهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ فَعَلُوا لَكِنْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ .
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : لَا يُحْتَاجُ لِإِذْنِهِ ، قِيلَ وَهُوَ الْأَقْيَسُ كَمَا يَجُوزُ قَتْلُ فَاسِقٍ يُنَاضِلُ عَنْ فِسْقِهِ ، وَإِذَا قُتِلَ الْمُنْكِرُ الْمُحِقُّ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَنَحْوُ السُّلْطَانِ يُوعَظُ ثُمَّ يُخَشَّنُ لَهُ إنْ لَمْ يَخْشَ ضَرَرَهُ وَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ

فَقَتَلَهُ } .

وَلَوْ رَأَى بَهِيمَةً تُتْلِفُ مَالَ غَيْرِهِ لَزِمَهُ كَفُّهَا إنْ لَمْ يَخَفْ ، وَمَنْ وَجَدَهُ يُرِيدُ قَطْعَ طَرَفِ نَفْسِهِ مَنَعَهُ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ حَسْمُ سَبِيلِ الْمَعَاصِي مَا أَمْكَنَ لَا حَظُّ نَفْسِهِ وَطَرَفُهُ ، وَكَذَا يَمْنَعُ - وَإِنْ أَدَّى إلَى الْقَتْلِ - مَنْ رَآهُ يُرِيدُ إتْلَافَ مَالِهِ أَوْ يُرِيدُ حَلِيلَتَهُ وَيُنْكِرُ عَلَى امْرَأَةٍ يَعْلَمُ فِسْقَهَا إذَا رَآهَا تَزَيَّنَتْ وَخَرَجَتْ لَيْلًا وَعَلَى مَنْ عُرِفَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ إذَا وَقَفَ فِيهِ بِسِلَاحِهِ وَيَأْمُرُ الْوَلَدُ أَبَوَيْهِ وَيَنْهَاهُمَا بِرِفْقٍ لَا بِتَخْوِيفٍ وَنَحْوِهِ إلَّا إنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ وَلَوْ مَنَعَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْإِنْكَارِ مِنْ كَسْبِ قُوتِهِ تَرَكَهُ حَتَّى يُحَصِّلَ قُوتَهُ وَقُوتَ مُمَوِّنِهِ وَدَيْنِهِ دُونَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ .

( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ : تَرْكُ رَدِّ السَّلَامِ ) .
كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ ذَلِكَ صَغِيرَةٌ وَهُوَ مُتَّجِهٌ نَعَمْ إنْ احْتَفَّ بِالتَّرْكِ قَرَائِنُ تُخِيفُ الْمُسْلِمَ إخَافَةً شَدِيدَةً وَتُؤْذِيهِ أَذًى شَدِيدًا لَمْ يَبْعُدْ حِينَئِذٍ أَنَّ التَّرْكَ كَبِيرَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَذَى الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ .

( الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ : مَحَبَّةُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ لَهُ افْتِخَارًا أَوْ تَعَاظُمًا ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا فَقُمْنَا إلَيْهِ فَقَالَ لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَمَحَلُّهُ مَا ذَكَرْته ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا يَحْرُمُ عَلَى الدَّاخِلِ مَحَبَّةُ الْقِيَامِ لَهُ وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ، وَالْمُرَادُ بِتَمَثُّلِهِمْ لَهُ قِيَامًا أَنْ يَقْعُدَ وَيَسْتَمِرُّوا لَهُ قِيَامًا كَعَادَةِ الْجَبَابِرَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ أَخَذَ مِنْهُ قَوْلَهُ فِي تَعْدَادِ الْكَبَائِرِ وَمَحَبَّةُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ ، وَمِثْلُهُ حُبُّ الْقِيَامِ لَهُ تَفَاخُرًا وَتَطَاوُلًا عَلَى الْأَقْرَانِ .
أَمَّا مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ إكْرَامًا لَهُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَلَا يُتَّجَهُ تَحْرِيمُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شِعَارًا فِي هَذَا الزَّمَانِ لِتَحْصِيلِ الْمَوَدَّةِ نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ الْعِمَادِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ ، وَلَا يُنَافِي الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلَ أَصْحَابِنَا يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِمَنْ فِيهِ عِلْمٌ أَوْ صَلَاحٌ أَوْ شَرَفٌ أَوْ وِلَادَةٌ أَوْ رَحِمٌ أَوْ وِلَايَةٌ مَصْحُوبَةٌ بِصِيَانَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوْ نَحْوِهَا لِأَنَّهُمْ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ بِرًّا وَاحْتِرَامًا وَإِكْرَامًا لَا رِيَاءً وَتَفْخِيمًا وَهَذَا الَّذِي نَفَوْهُ هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا } وَمِنْ ثَمَّ ثَبَتَ فِي نَدْبِ الْقِيَامِ بِقَيْدِهِ الْمَذْكُورِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ جَمَعَهَا النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جُزْءٍ صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَنْ أَطْلَقَ إنْكَارَ نَدْبِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : بَلْ يَظْهَرُ وُجُوبُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ دَفْعًا لِلْعَدَاوَةِ وَالتَّقَاطُعِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ : الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ : أَيْ مِنْ كَافِرٍ أَوْ كُفَّارٍ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الضِّعْفِ إلَّا لِتَحَرُّفٍ لِقِتَالٍ أَوْ لِتَحَيُّزٍ إلَى فِئَةٍ يَسْتَنْجِدُ بِهَا ) .
قَالَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ - أَيْ الْمُهْلِكَاتِ - قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ : { سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَبَائِرِ ؟ قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ ، وَفِرَارٌ يَوْمَ الزَّحْفِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ مَا الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : { الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ } .
وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ فِيهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ : { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ : أَوَّلُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَفِرَارٌ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ } .
الْحَدِيثَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ : { اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ : الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلَ النَّاسِ ، وَالْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ } الْحَدِيثَ .
وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّهُ سُئِلَ

عَنْ الْكَبَائِرِ ؟ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : هُنَّ سَبْعٌ .
قُلْت : وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَالسِّحْرُ } الْحَدِيثَ .
وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، قَالَ : وَكَانَ فِي الْكِتَابِ إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَنْفَعُ مَعَهُنَّ عَمَلٌ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ : { مَنْ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ مُحْتَسِبًا وَسَمِعَ وَأَطَاعَ فَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ .
وَخَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْطَعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ : لَا أُقْسِمُ لَا أُقْسِمُ ثُمَّ نَزَلَ ، وَقَالَ أَبْشِرُوا أَبْشِرُوا مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ ؛ قِيلَ : سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُهُنَّ ؟ قَالَ : نَعَمْ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَالشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ

، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُصَلُّونَ مَنْ يُقِيمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ الَّتِي كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيَحْتَسِبُ صَوْمَهُ ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ مُحْتَسِبًا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَمْ الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَالسِّحْرُ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لَا يَمُوتُ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ هَؤُلَاءِ الْكَبَائِرَ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ إلَّا رَافَقَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُحْبُوحَةِ جَنَّةٍ - أَيْ وَسَطِهَا - مَصَارِيعُ أَبْوَابِهَا الذَّهَبُ } .
تَنْبِيهٌ : عُدَّ هَذَا كَمَا ذَكَرْته فِي التَّرْجَمَةِ هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ فَلَقُوا ضِعْفَهُمْ مِنْ الْعَدُوِّ حَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا إلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إلَى فِئَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ لَمْ أُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُوَلُّوا وَلَا يَسْتَوْجِبُونَ السَّخَطَ عِنْدِي مِنْ اللَّهِ لَوْ وَلَّوْا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ أَوْ التَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ .

( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ : الْفِرَارُ مِنْ الطَّاعُونِ ) .
قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } اعْلَمْ أَنَّ عَادَتَهُ تَعَالَى أَنْ يَذْكُرَ الْقَصَصَ بَعْدَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ ؛ لِيُفِيدَ الِاعْتِبَارَ لِلسَّامِعِ ، وَالْهَمْزَةُ هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ لِدُخُولِهَا عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ بِنَاءً عَلَى عِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْقِصَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا أَنَّهَا لِلتَّنْبِيهِ وَلِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ وَالْمُخَاطَبُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كُلُّ سَامِعٍ ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : هِيَ قَرْيَةٌ قُرْبَ وَاسِطَ وَقَعَ بِهَا طَاعُونٌ فَخَرَجَ عَامَّةُ أَهْلِهَا وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلَّا قَلِيلٌ مَرْضَى فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعَ الْهَارِبُونَ سَالِمِينَ ، فَقَالَ الْمَرْضَى هَؤُلَاءِ أَحْزَمُ مِنَّا لَوْ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعُوا نَجَوْنَا وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيًا لَنَخْرُجَنَّ إلَى أَرْضٍ لَا وَبَاءَ فِيهَا فَوَقَعَ الطَّاعُونُ مِنْ قَابِلٍ فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا .
وَقِيلَ ؛ سَبْعُونَ أَلْفًا ، وَقِيلَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ .
قَالَ الْوَاحِدِيُّ : وَلَمْ يَقُولُوا دُونَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَلَا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا ، وَالْوَجْهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ جَمْعِ الْكَثْرَةِ إذْ لَا يُقَالُ فِي عَشَرَةٍ وَمَا دُونَهَا أُلُوفٌ : أَيْ إلَّا نَادِرًا حَتَّى نَزَلُوا وَادِيًا أَفْيَحَ وَظَنُّوا النَّجَاةَ فَنَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ أَنْ مُوتُوا فَمَاتُوا جَمِيعًا وَبَلِيَتْ أَجْسَامُهُمْ ، فَمَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ حِزْقِيلُ ثَالِثُ خُلَفَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ ، إذْ خَلِيفَتُهُ الْأَكْبَرُ يُوشَعُ ثُمَّ كَالِبُ وَحِزْقِيلُ هَذَا هُوَ خَلِيفَةُ كَالِبَ وَلِكَوْنِ أُمِّهِ سَأَلَتْ اللَّهَ

الْوَلَدَ بَعْدَ مَا كَبِرَتْ وَعَقِمَتْ سُمِّيَ ابْنَ الْعَجُوزِ ، قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ وَهُوَ ذُو الْكِفْلِ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ سَبْعِينَ نَبِيًّا وَأَنْجَاهُمْ مِنْ الْقَتْلِ ، فَلَمَّا مَرَّ حِزْقِيلُ بِأُولَئِكَ الْمَوْتَى وَقَفَ مُتَفَكِّرًا مُتَعَجِّبًا ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَتُرِيدُ أَنْ أُرِيَك آيَةً ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقِيلَ لَهُ نَادِ يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَجْتَمِعِي فَتَطَايَرَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ حَتَّى تَمَّتْ ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ نَادِهَا يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَكْتَسِي لَحْمًا وَدَمًا ثُمَّ نَادَى اللَّهُ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي فَقَامُوا أَحْيَاءَ قَائِلِينَ سُبْحَانَك رَبَّنَا وَحْدَك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ وَأَمَارَاتُ الْمَوْتِ ظَاهِرَةٌ عَلَيْهِمْ فِي وُجُوهِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ إلَى أَنْ مَاتُوا بَعْدُ بِحَسَبِ آجَالِهِمْ .
{ وَجَاءَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا خَرَجَ لِلشَّامِ وَبَلَغَ سَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاسْتَشَارَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عِلْمًا حَتَّى جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَوَى لَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ سَرْغَ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ : سَبَبُ مَوْتِ أُولَئِكَ أَنَّ مَلِكًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ أَمَرَ عَسْكَرَهُ بِالْقِتَالِ فَجَبُنُوا وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي نَذْهَبُ إلَيْهَا بِهَا الْوَبَاءُ فَلَا نَأْتِيهَا حَتَّى يَزُولَ ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْمَوْتَ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنْهُ ، فَلَمَّا رَأَى الْمَلِكُ ذَلِكَ قَالَ : اللَّهُمَّ رَبَّ يَعْقُوبَ وَإِلَهَ مُوسَى قَدْ تَرَى مَعْصِيَةَ عِبَادِك فَأَرِهِمْ آيَةً فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْفِرَارَ مِنْك ، فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمْ

اللَّهُ مُوتُوا أَمْرَ تَحْوِيلٍ فَمَاتُوا جَمِيعًا وَمَاتَتْ دَوَابُّهُمْ كَمَوْتِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَبَقُوا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حَتَّى انْتَفَخُوا وَأَرْوَحَتْ أَجْسَادُهُمْ وَبَلَغَ بَنِي إسْرَائِيلَ مَوْتُهُمْ فَخَرَجُوا لِدَفْنِهِمْ فَعَجَزُوا لِكَثْرَتِهِمْ فَحَظَرُوا عَلَيْهِمْ الْحَظَائِرَ دُونَ السِّبَاعِ فَأَحْيَاهُمْ اللَّهُ بَعْدَ الثَّمَانِيَةِ أَيَّامٍ وَبَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ النَّتْنِ وَفِي أَوْلَادِهِمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .
قَوْله تَعَالَى : { فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا } هُوَ مِنْ بَابِ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَالْمُرَادُ سُرْعَةُ وُقُوعِ الْمُرَادِ وَعَدَمُ تَخَلُّفِهِ عَنْ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ إذْ لَا قَوْلَ هُنَاكَ ، وَقِيلَ : أَمْرٌ لِلرَّسُولِ أَوْ الْمَلَكِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ صَرِيحٌ فِي حَيَاتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَهُوَ مُمْكِنٌ وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ .
وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ إحْيَاءُ الْمَيِّتِ ، أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَلَا يَجُوزُ إظْهَارُهُ إلَّا مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ رَدَّهُ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ بِأَنَّهُ خَرَقَهَا كَرَامَةً لِوَلِيٍّ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِنْ عُقُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ الضَّالَّةِ .
وَسَبَبُ الْإِحْيَاءِ اسْتِيفَاءُ بَقِيَّةِ آجَالِهِمْ ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْقِصَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمَوْتَ فَجَأَهُمْ بَغْتَةً كَالنَّوْمِ وَلَمْ يُعَايِنُوا شِدَّةً وَلَا هَوْلًا .
فَانْدَفَعَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا الْمَعَارِفُ تَصِيرُ ضَرُورِيَّةً عِنْدَ الْقُرْبِ مِنْ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ فَيَجِبُ إذَا عَاشُوا أَنْ يَبْقَوْا ذَاكِرِينَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ لَا تُنْسَى مَعَ كَمَالِ الْعَقْلِ فَتَبْقَى لَهُمْ تِلْكَ الْعُلُومُ وَمَعَ بَقَائِهَا يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ كَمَا فِي الْآخِرَةِ ، عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَلْتَزِمَ أَنَّهُمْ عَايَنُوهَا وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ لِجَوَازِ أَنَّ

اللَّهَ تَعَالَى يُلْقِي عَلَيْهِمْ بَعْدَ حَيَاتِهِمْ نِسْيَانَ مَا وَقَعَ لَهُمْ ابْتِلَاءً لَهُمْ حَتَّى يُتِمَّ تَكْلِيفَهُمْ فِي بَقِيَّةِ آجَالِهِمْ الَّتِي أُحْيُوا لِيَسْتَوْفُوهَا ، وَالطَّاعُونُ وَزْنُهُ فَاعُولٌ مِنْ الطَّعْنِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا عُدِلَ بِهِ عَنْ أَصْلِهِ وُضِعَ دَالًّا عَلَى الْمَوْتِ بِالْوَبَاءِ ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اتِّحَادِهِمَا ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ إذْ الْوَبَاءُ الْمَوْتُ الْعَامُّ بِسَبَبٍ بَاطِنٍ وَالطَّاعُونُ بَثَرَاتٌ صَغِيرَةٌ تَخْرُجُ فِي الْبَدَنِ يَغْلِبُ وُجُودُهَا فِي مُرَاقِهِ كَالْآبَاطِ .
وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَا فَمَا الطَّاعُونُ ؟ قَالَ : غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ تَخْرُجُ مِنْ الْمَرَاقِّ وَالْآبَاطِ } .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَهَذَا قَدْ يُرْسِلُهُ اللَّهُ نِقْمَةً وَعُقُوبَةً عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عُصَاةِ عَبِيدِهِ وَكَفَرَتِهِمْ ، وَقَدْ يُرْسِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى شَهَادَةً وَرَحْمَةً لِصَالِحِيهِمْ لِقَوْلِ مُعَاذٍ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ إنَّهُ شَهَادَةٌ وَرَحْمَةٌ لَكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ : وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذًا وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُمْ مِنْ رَحْمَتِك فَطُعِنَ فِي كَفِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَفْنَى أُمَّتِي إلَّا بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ ، قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ ؟ قَالَ : غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ ، الْمُقِيمُ بِهَا كَالشَّهِيدِ ، وَالْفَارُّ مِنْهُ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي يَعْلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَخْزَةٌ أَيْ طَعْنٌ تُصِيبُ أُمَّتِي مِنْ أَعْدَائِهِمْ مِنْ الْجِنِّ كَغُدَّةِ الْإِبِلِ مَنْ أَقَامَ عَلَيْهَا كَانَ مُرَابِطًا ، وَمَنْ

أُصِيبَ بِهِ كَانَ شَهِيدًا ، وَمَنْ فَرَّ مِنْهُ كَانَ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ } .
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَعِنْدَهُ : { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ ؟ قَالَ : يُشْبِهُ الدُّمَّلَ يَخْرُجُ مِنْ الْآبَاطِ وَالْمَرَاقِّ وَفِيهِ تَزْكِيَةُ أَعْمَالِهِمْ وَهُوَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ شَهَادَةٌ } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : أَسَانِيدُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا حِسَانٌ .
وَرَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الطَّاعُونِ : { الْفَارُّ مِنْهُ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ وَمَنْ صَبَرَ فِيهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَيْضًا ظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَهُ فِيهَا بِالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً وَإِنْ كَانَ التَّشْبِيهُ لَا يَقْتَضِي تَسَاوِيَ الْمُتَشَابِهَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا يَشْهَدُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي هَذَا الشَّيْءِ الْخَاصِّ وَهُوَ كَوْنُهُ كَبِيرَةً .
إذْ الْقَصْدُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ إنَّمَا هُوَ زَجْرُ الْفَارِّ وَالتَّغْلِيظُ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْزَجِرَ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا إنْ كَانَ كَبِيرَةً كَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ ، عَلَى أَنَّا لَوْ قُلْنَا بِذَلِكَ فَنَحْنُ عَالِمُونَ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَيْنِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كُلًّا ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً إلَّا أَنَّ إثْمَ الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ أَغْلَظُ وَأَعْظَمُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْعَامَّةِ الشَّدِيدَةِ الْقُبْحِ وَهِيَ كَسْرُ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ وَغَلَبَتُهُمْ وَهَذِهِ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ وَأَقْبَحُهَا .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ ذَكَرُوا الْوَبَاءَ : إنَّهُ رِجْزٌ وَعَذَابٌ

عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ ثُمَّ بَقِيَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ وَيَأْتِي الْأُخْرَى فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدُمْ عَلَيْهِ ، وَمَنْ كَانَ بِأَرْضٍ وَقَعَ بِهَا فَلَا يَخْرُجْ مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ } .
وَقَدْ عَمِلَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ سَرْغَ حِينَ أَخْبَرَهُمْ بِهِ ابْنُ عَوْفٍ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ تَوَقِّي الْمَكَارِهِ قَبْلَ نُزُولِهَا ، وَتَجَنُّبُ الْأَشْيَاءِ الْمَخُوفَةِ قَبْلَ هُجُومِهَا وَكَذَلِكَ كُلُّ مُشِقٍّ مِنْ غَوَائِلِ الْأُمُورِ سَبِيلُهُ سَبِيلُ الطَّاعُونِ فِي ذَلِكَ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا } .
وَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ الرُّجُوعَ لِمَا ذُكِرَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ غَيْرُك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ .
نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إلَى قَدَرِ اللَّهِ ؛ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لِلْإِنْسَانِ عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِالتَّحَرُّزِ مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْمُهْلِكَاتِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي التَّوَقِّي مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ ، ثُمَّ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَك إبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَتْ إنْ رَعَتْ الْخَصْبَةَ رَعَتْهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَتْ الْجَدْبَةَ رَعَتْهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ؟ فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ مَوْضِعِهِ ذَلِكَ إلَى الْمَدِينَةِ .

وَجَاءَ فِي كَوْنِ الطَّعْنِ شَهَادَةً أَحَادِيثُ أُخَرُ فِيهَا ذِكْرُ شُهَدَاءَ آخَرِينَ غَيْرِ الْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا تَعُدُّونَ الشُّهَدَاءَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ قَالَ وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ } .
وَالشَّيْخَانِ : { الشَّهِيدُ خَمْسَةٌ : الْمَطْعُونُ ، وَالْمَبْطُونُ ، وَالْغَرِيقُ ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { إنَّ فِي الْقَتْلِ شَهَادَةً ، وَفِي الطَّاعُونِ شَهَادَةً ، وَفِي الْبَطْنِ شَهَادَةً ، وَفِي الْغَرَقِ شَهَادَةً ، وَفِي النُّفَسَاءِ يَقْتُلُهَا وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا جُمْعًا - أَيْ بِتَثْلِيثِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بِأَنْ تَمُوتَ وَوَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا - شَهَادَةً } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ بَعْضَ الْأَنْصَارِ فَبَكَى أَهْلُهُ فَقَالَ عَمُّهُ : لَا تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْوَاتِكُمْ ، فَقَالَ : دَعْهُنَّ يَبْكِينَ مَا دَامَ حَيًّا فَإِذَا وَجَبَتْ - أَيْ مَاتَ - فَلْيَسْكُتْنَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلْمَرِيضِ : مَا كُنَّا نَرَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُك عَلَى فِرَاشِك حَتَّى تُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَمَا الشَّهِيدُ إلَّا الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ إنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إذَنْ لَقَلِيلٌ .
إنَّ الطَّعْنَ شَهَادَةٌ ، وَالْبَطْنَ شَهَادَةٌ ، وَالطَّاعُونَ شَهَادَةٌ ، وَالنُّفَسَاءَ بِجُمْعٍ شَهَادَةٌ ، وَالْحَرْقَ شَهَادَةٌ وَالْغَرَقَ شَهَادَةٌ ، وَذَاتَ الْجَنْبِ شَهَادَةٌ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَهَادَةٌ ، وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ ، وَالْغَرَقُ شَهَادَةٌ ، وَالْبَطْنُ شَهَادَةٌ ، وَالنُّفَسَاءُ

يَجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إلَى الْجَنَّةِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { وَسَادِنُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ - أَيْ خَادِمُهُ - وَالْحَرْقُ وَالسُّلُّ } : هُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ دَاءٌ يَحْدُثُ فِي الرِّئَةِ يَئُولُ إلَى ذَاتِ الْجَنْبِ ، وَقِيلَ زُكَامٌ أَوْ سُعَالٌ طَوِيلٌ مَعَ حُمَّى هَادِئَةٍ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { الشُّهَدَاءُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ ، وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ ، وَصَاحِبُ الْحَرْقِ شَهِيدٌ ، وَاَلَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ } .
وَالشَّيْخَانِ : { الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ } .
وَالْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَقَالَ : كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ فَيَكُونُ فِيهِ فَيَمْكُثُ لَا يَخْرُجُ صَابِرًا مُحْتَبِسًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ : { أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحُمَّى وَالطَّاعُونِ فَأَمْسَكْت الْحُمَّى بِالْمَدِينَةِ وَأَرْسَلْت الطَّاعُونَ إلَى الشَّامِ ، فَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي وَرِجْسٌ عَلَى الْكَافِرِ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : " خَطَبَ مُعَاذٌ بِالشَّامِ فَذَكَرَ الطَّاعُونَ فَقَالَ : إنَّهَا رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَقَبْضُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ ، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَى آلِ مُعَاذٍ نَصِيبَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : { الْحَقُّ مِنْ رَبِّك فَلَا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ } فَقَالَ مُعَاذٌ : { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ } .
وَأَحْمَدُ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سَمِعْت

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { سَتُهَاجِرُونَ إلَى أَرْضِ الشَّامِ فَتَكُونُ لَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ دَاءٌ كَالدُّمَّلِ أَوْ كَالْحُزَّةِ يَأْخُذُ بِمَرَاقِّ الرَّجُلِ يَسْتَشْهِدُ اللَّهُ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيُزَكِّي بِهِ أَعْمَالَهُمْ ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاذًا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطِهِ هُوَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْهُ فَأَصَابَهُمْ الطَّاعُونُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَطُعِنَ فِي أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ فَكَانَ يَقُولُ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا حُمُرَ النَّعَمِ } .
وَصَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ ؟ قَالَ : وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَفِي كُلٍّ شَهَادَةٌ } ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَهُوَ لَكُمْ شَهَادَةٌ } .
وَصَحَّ : { اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِك بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ } .
وَرَوَى النَّسَائِيُّ : { يَخْتَصِمُ الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمْ إلَى رَبِّنَا فِي الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ فِي الطَّاعُونِ فَيَقُولُ الشُّهَدَاءُ قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا ، وَيَقُولُ الْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمْ إخْوَانُنَا مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ كَمَا مُتْنَا فَيَقُولُ رَبُّنَا اُنْظُرُوا إلَى جِرَاحِهِمْ فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ فَإِذَا جِرَاحُهُمْ قَدْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَهُمْ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ : { يَأْتِي الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ بِالطَّاعُونِ ، فَيَقُولُ أَصْحَابُ الطَّاعُونِ نَحْنُ شُهَدَاءُ ، فَيَقُولُ اُنْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ جِرَاحَتُهُمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاءِ تَسِيلُ دَمًا كَرِيحِ الْمِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ } .
وَصَحَّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ : { مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ } .

( الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُمِائَةِ وَالْحَادِيَةُ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الْغُلُولُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَالسَّتْرُ عَلَيْهِ ) .
قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { كَانَ عَلَى نَفْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ غَنِيمَتِهِ - رَجُلٌ يُقَال لَهُ كِرْكِرَةُ - بِكَسْرِ الْكَافَيْنِ وَحُكِيَ فَتْحُهُمَا - مَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ فِي النَّارِ ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ اُسْتُشْهِدَ مَوْلَاك أَوْ غُلَامُك فُلَانٌ فَقَالَ بَلْ يُجَرُّ إلَى النَّارِ فِي عَبَاءَةٍ غَلَّهَا } .
وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ ، فَقَالَ إنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَفَتَّشُوا مَتَاعَهُ فَوَجَدُوا فِيهِ خَرَزًا مِنْ خَرَزِ الْيَهُودِ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : { لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ وَفُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَلًّا إنِّي رَأَيْته فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ غَلَّهَا .
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا الْمُؤْمِنُونَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ

جَيِّدٍ : { لَوْ لَمْ تَغُلَّ أُمَّتِي لَمْ يَقُمْ لَهُمْ عَدُوٌّ أَبَدًا } .
قَالَ أَبُو ذَرٍّ لِحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ : هَلْ يَثْبُتُ لَكُمْ الْعَدُوُّ حَلْبَ شَاةٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَثَلَاثَ شِيَاهٍ غُزُرٍ .
قَالَ أَبُو ذَرٍّ : غَلَلْتُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ .
وَالشَّيْخَانِ : { قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ حَتَّى قَالَ : لَا أُلْفِيَنَّ ، أَيْ أَجِدَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ - أَيْ هُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ صَوْتُ الْإِبِلِ وَذَوَاتِ الْخُفِّ - فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ - أَيْ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ صَوْتُ الْفَرَسِ - فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي ، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ - أَيْ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَبِالْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ صَوْتُ الْغَنَمِ - يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ - أَيْ جَمْعُ رُقْعَةٍ وَهِيَ مَا يُكْتَبُ فِيهِ الْحَقُّ - تَخْفِقُ - أَيْ تَتَحَرَّكُ وَتَضْطَرِبُ - فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك } .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ

فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمِّسُهُ وَيَقْسِمُهُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا بَعْدَ النِّدَاءِ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ فِيمَا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَقَالَ : أَسَمِعْت بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَمَا مَنَعَك أَنْ تَجِيءَ بِهِ ؟ فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ ، فَقَالَ : كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْك } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا وَرِقًا ، غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ ثُمَّ انْطَلَقْنَا إلَى الْوَادِي يَعْنِي وَادِيَ الْقُرَى وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدٌ لَهُ وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُزَامٍ يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ يَزِيدَ مِنْ بَنِي الضَّبِيبِ ، فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُلُّ رَحْلَهُ فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ فَقُلْنَا هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَلًّا وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ - أَيْ وَهُوَ كِسَاءٌ أَصْغَرُ مِنْ الْقَطِيفَةِ - لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا أَخَذَهَا مِنْ الْغَنَائِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ ، قَالَ فَفَزِعَ النَّاسُ فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ فَقَالَ أَصَبْت يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى الْعَصْرَ ذَهَبَ إلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَيَتَحَدَّثُ عِنْدَهُمْ حَتَّى يَنْحَدِرَ لِلْمَغْرِبِ ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ : فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْرِعُ إلَى الْمَغْرِبِ مَرَرْنَا بِالْبَقِيعِ - أَيْ بَقِيعِ

الْغَرْقَدِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ - فَقَالَ أُفٍّ لَك أُفٍّ لَك أُفٍّ لَك ، قَالَ : فَكَبُرَ ذَلِكَ فِي ذَرْعِي - أَيْ بِالْمُعْجَمَةِ عَظُمَ عِنْدِي مَوْقِعُهُ - فَاسْتَأْخَرْت وَظَنَنْت أَنَّهُ يُرِيدُنِي ، فَقَالَ : مَالَك ؟ امْشِ .
قُلْت : أَحَدَثَ حَدَثٌ ؟ فَقَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْت : أَفَفْتَ بِي ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ هَذَا فُلَانٌ بَعَثْته سَاعِيًا عَلَى بَنِي فُلَانٍ فَغَلَّ نَمِرَةً - أَيْ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ بُرْدَةٌ مِنْ صُوفٍ يَلْبَسُهَا الْأَعْرَابُ - فَدُرِّعَ مِثْلُهَا مِنْ نَارٍ - } أَيْ جُعِلَ لَهُ دِرْعٌ مِنْهَا مِنْ نَارٍ .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا : { مَنْ جَاءَ بَرِيئًا مِنْ ثَلَاثَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ : الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالطَّبَرَانِيُّ : { أُتِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِطَعٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَك تَسْتَظِلُّ بِهِ مِنْ الشَّمْسِ قَالَ : أَتُحِبُّونَ أَنْ يَسْتَظِلَّ نَبِيُّكُمْ بِظِلٍّ مِنْ نَارٍ } .
زَادَ الطَّبَرَانِيُّ : { يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ يَكْتُمُ غَالًّا - أَيْ يَسْتُرُ عَلَيْهِ - فَإِنَّهُ مِثْلُهُ } .
تَنْبِيهٌ : عُدَّ الْغُلُولِ هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَكَالْغَنِيمَةِ فِي ذَلِكَ الْغُلُولُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالزَّكَاةِ انْتَهَى .
وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا فَرْقَ فِي غَالِّ الزَّكَاةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُسْتَحِقِّيهَا وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ الظَّفَرَ مَمْنُوعٌ فِيهَا إذْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النِّيَّةِ بَلْ لَوْ أَفْرَزَ الْمَالِكُ قَدْرَهَا وَنَوَى لَمْ يَجُزْ الظَّفَرُ أَيْضًا لِتَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى إعْطَاءِ الْمَالِكِ ، فَعِنْدَ عَدَمِ إعْطَائِهِ يَتَعَذَّرُ الْمِلْكُ فَكَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ ، فَاتَّضَحَ امْتِنَاعُ الظَّفَرِ فِي مَالِ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا .
وَرَوَى

الطَّبَرَانِيُّ : أَنَّ { نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرُوا الْكَبَائِرَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ فَقَالُوا .
الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَوْلُ الزُّورِ ، وَالْغُلُولُ ، وَالسِّحْرُ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَأَيْنَ تَجْعَلُونَ { الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ } وَعُدَّ السَّتْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ " فَإِنَّهُ مِثْلُهُ " .
وَعُلِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الْغُلُولَ هُوَ اخْتِصَاصُ أَحَدِ الْغُزَاةِ سَوَاءٌ الْأَمِيرُ وَغَيْرُهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَهُ إلَى أَمِيرِ الْجُيُوشِ لِيُخَمِّسَهُ وَإِنْ قَلَّ الْمَأْخُوذُ ، نَعَمْ يَجُوزُ عِنْدَنَا التَّبَسُّطُ بِأَخْذِ بَعْضِ الْمَأْكُولِ لَهُ أَوْ لِدَابَّتِهِ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِشُرُوطٍ مَذْكُورَةٍ فِي مَحَلِّهَا .

بَابُ الْأَمَانِ ( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : قَتْلُ أَوْ غَدْرُ أَوْ ظُلْمُ مَنْ لَهُ أَمَانٌ أَوْ ذِمَّةٌ أَوْ عَهْدٌ ) .
قَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } .
وَقَالَ عَزَّ قَائِلًا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } أَيْ الْعُهُودِ ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { إذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يُعْرَفُ بِهِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا - أَيْ غَدَرَهُ وَنَقَضَ عَهْدَهُ - فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلًا وَلَا صَرْفًا } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَالَ : { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ لَكِنْ بِلَفْظِ :

خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : فَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : { مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلَّا كَانَ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ وَلَا ظَهَرَتْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْمَوْتَ ، وَلَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إلَّا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْقَطْرَ } .
وَأَبُو دَاوُد عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آبَائِهِمْ لَكِنَّ الْأَبْنَاءَ مَجْهُولُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { أَيُّمَا رَجُلٍ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى دَمِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَأَنَا مِنْ الْقَاتِلِ بَرِيءٌ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ : { فَإِنَّهُ يَحْمِلُ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا فِي عَهْدِهِ لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ } يُرِحْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَرَحْت الشَّيْءَ وَجَدْت رِيحَهُ وَبِفَتْحِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ رِحْت الرِّيحَ وَجَدْته وَبِفَتْحِ أَوَّلَيْهِ وَمَعْنَى الْكُلِّ شَمُّ الرَّائِحَةِ .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ مَاجَهْ : { أَلَا مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدْ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا يَرِيحُ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُوَ

صَرِيحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ فِي قَتْلِ الْمُعَاهِدِ وَفِي الْغَدْرِ لَكِنْ خَصَّهُ بِالْأَمِيرِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ عَدَّ مِنْ الْكَبَائِرِ نَكْثَ الصَّفْقَةِ : أَيْ الْغَدْرَ بِالْمَعَاهِدِ ، بَلْ صَرَّحَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَلَائِيُّ بِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمَّاهُ كَبِيرَةً لَكِنْ اعْتَرَضَهُ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ : أَيْ الَّتِي سَاقَهَا مَنْصُوصًا فِيهَا عَلَى الْكَبَائِرِ النَّصُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ، قَالَ وَإِنَّمَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
انْتَهَى .
وَالظَّاهِرُ ؛ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِمَا تَقَدَّمَ حَدِيثَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ الَّذِي قَدَّمْته فِيهِ : { ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ فَمَنْ أَمَّنَ كَافِرًا ثُمَّ غَدَرَ بِهِ فَقَدْ نَكَثَ أَمَانَهُ الَّذِي أَعْطَاهُ إيَّاهُ } وَكَأَنَّ وَجْهَ تَسْمِيَةِ الْأَمَانِ صَفْقَةً أَنَّهُ عَهْدٌ أَفَادَ الْأَمْنَ ، فَهُوَ كَعَقْدِ الْبَيْعِ الْمُفِيدِ لِلْمِلْكِ وَعَقْدُ الْبَيْعِ يُسَمَّى صَفْقَةً ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ الِاثْنَانِ مِنْهُمْ إذَا تَبَايَعَا صَفَقَ أَحَدُهُمَا عَلَى يَدِ الْآخَرِ فَسُمِّيَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ تَجَوُّزًا .

( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الدَّلَالَةُ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ ) دَلِيلُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِمَسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ فَأَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِذَلِكَ ، فَأَرْسَلَ إلَى حَامِلَةِ الْكِتَابِ عَلِيًّا وَالْمِقْدَادَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَخَذَاهُ مِنْهَا قَهْرًا بَعْدَ أَنْ بَالَغَتْ فِي إنْكَارِهِ وَإِخْفَائِهِ ، فَلَمَّا جَاءَا بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرِئَ عَلَيْهِ .
قَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ ، فَمَنَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَتْلِهِ لِكَوْنِهِ شَهِدَ بَدْرًا } .
فَإِنْ تَرَتَّبَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ وَهْنٌ لِلْإِسْلَامِ أَوْ لِأَهْلِهِ ، أَوْ قَتْلٌ أَوْ سَبْيٌ أَوْ نَهْبٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ وَأَقْبَحِهَا لِأَنَّهُ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَأَهْلَكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ فَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَيَتَعَيَّنُ قَتْلُ فَاعِلِ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ عَلَى إطْلَاقِهِ .

بَابُ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ ( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : اتِّخَاذُ نَحْوِ الْخَيْلِ تَكَبُّرًا أَوْ نَحْوَهُ أَوْ لِلْمُسَابَقَةِ عَلَيْهَا رِهَانًا أَوْ مُقَامَرَةً وَالْمُنَاضَلَةُ بِالسِّهَامِ كَذَلِكَ وَتَرْكُ الرَّمْيِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ رَغْبَةً عَنْهُ بِحَيْثُ يُؤَدِّي إلَى غَلَبَةِ الْعَدُوِّ وَاسْتِهْتَارِهِ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ) .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ أَجْرٌ ، فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً - أَيْ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِالْمَدِّ مُعَادَاةً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ - فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ } الْحَدِيثَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ : { وَأَمَّا الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَاَلَّذِي يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا وَبَذْخًا عَلَيْهِمْ } : أَيْ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ خَاءٌ مُعْجَمَةٌ كِبْرًا .
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ اتَّخَذَ الْخَيْلَ تَكَبُّرًا وَتَعَاظُمًا وَاسْتِعْلَاءً عَلَى ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَرَائِهِمْ .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ مَعْقُودٌ أَبَدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَمَنْ ارْتَبَطَهَا عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا احْتِسَابًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ شِبَعَهَا وَجُوعَهَا وَرِيَّهَا وَظَمَأَهَا وَأَرْوَاثَهَا وَأَبْوَالَهَا فَلَاحٌ فِي مَوَازِينِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ ارْتَبَطَهَا رِيَاءً وَسُمْعَةً وَمَرَحًا فَإِنَّ شِبَعَهَا وَجُوعَهَا وَرَيَّهَا وَظَمَأَهَا وَأَرْوَاثَهَا وَأَبْوَالَهَا خُسْرَانٌ فِي مَوَازِينِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ فَفَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ وَفَرَسٌ لِلْإِنْسَانِ وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ ، فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ فَمَا اُتُّخِذَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقُتِلَ عَلَيْهِ أَعْدَاءُ اللَّهِ ، وَأَمَّا فَرَسُ الْإِنْسَانِ فَمَا اسْتَبْطَنَ - أَيْ أَوْلَدَ وَحَمَلَ عَلَيْهِ - وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ فَمَا رُوهِنَ

وَقُومِرَ عَلَيْهِ } .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : بِمَعْنَاهُ ، وَفِيهِ : { وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ فَاَلَّذِي يُقَامَرُ عَلَيْهِ وَيُرَاهَنُ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ : { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ .
فَرَسُ يَرْتَبِطُهُ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَثَمَنُهُ أَجْرٌ وَرُكُوبُهُ أَجْرٌ وَعَارِيَّتُهُ أَجْرٌ ، وَفَرَسٌ يُقَامِرُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ وَيُرَاهِنُ فَثَمَنُهُ وِزْرٌ وَرُكُوبُهُ وِزْرٌ ، وَفَرَسٌ لِلْبِطْنَةِ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ سَدَادًا مِنْ الْفَقْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ } .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ } .
وَمُسْلِمٌ : { مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا ، أَوْ فَقَدْ عَصَى } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَقَدْ عَصَانِي } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ جَحَدَهَا } .
وَأَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهَا : { إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ صَانِعَهُ مُحْتَسِبًا فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِيَ بِهِ وَمُنَبِّلَهُ - أَيْ مُنَاوِلَهُ لِلرَّامِي لِيَرْمِيَ بِهِ أَيْ مُعْطِيَهُ لِلْمُجَاهِدِ مِنْ مَالِهِ إمْدَادًا وَتَقْوِيَةً - وَارْمُوا وَارْكَبُوا ، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا أَوْ قَالَ كَفَرَهَا } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ : { صَانِعَهُ الَّذِي يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَاَلَّذِي يُجَهِّزُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاَلَّذِي يَرْمِي بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، وَصَحَّ : { عَلَيْكُمْ بِالرَّمْيِ فَإِنَّهُ مِنْ خَيْرِ لَعِبِكُمْ } .
وَفِي رِوَايَةٍ

صَحِيحَةٍ أَيْضًا : { فَإِنَّهُ خَيْرٌ أَوْ مِنْ خَيْرِ لَهْوِكُمْ } ، وَصَحَّ أَيْضًا : { كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ لَهْوٌ أَوْ سَهْوٌ إلَّا أَرْبَعَ خِصَالٍ مَشْيَ الرَّجُلِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ } - أَيْ مُثَنَّى غَرَضٍ وَهُوَ مَا يَقْصِدُهُ الرُّمَاةُ بِالْإِصَابَةِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ - { وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ وَتَعَلُّمَ السِّبَاحَةِ } .
وَصَحَّ : { مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّه فَهُوَ لَهُ عِدْلُ مُحَرَّرَةٍ } : أَيْ رَقَبَةٍ مُعْتَقَةٍ .
وَصَحَّ : { مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَلَغَ الْعَدُوَّ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ لَهُ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ ، وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً كَانَتْ فِدَاءَهُ مِنْ النَّارِ عُضْوًا بِعُضْوٍ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ أَرَهُ لَكِنَّهُ فِي الْأَوَّلِ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ وَقِيَاسُهُ الثَّانِي ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقَضِيَّةُ لَيْسَ مِنَّا عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي نَظِيرِهِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ لِأَنَّ التَّبَرِّي وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، وَلِعَدَمِ كَوْنِ أَصْحَابِنَا لَا يَسْمَحُونَ بِالْحُرْمَةِ فِيهِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كَبِيرَةً أَوَّلْت ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْته فِي التَّرْجَمَةِ مِمَّا يُقَرِّبُهُ مِنْ الْكَبِيرَةِ لِأَنَّ فِي التَّرْكِ حِينَئِذٍ مَفَاسِدَ عَظِيمَةً عَامَّةً .

كِتَابُ الْأَيْمَانِ ( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةَ وَالْعَاشِرَةَ وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَالْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَمُوسًا وَكَثْرَةُ الْأَيْمَانِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ) .
قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } نَزَلَتْ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ فَهَمَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ فَلَمَّا نَزَلَتْ نَكَلَ وَأَقَرَّ لِلْمُدَّعِي بِحِقِّهِ وَمَعْنَى { يَشْتَرُونَ } يَسْتَبْدِلُونَ وَيَأْخُذُونَ { بِعَهْدِ اللَّهِ } أَيْ بِمَا عَهِدَ إلَيْهِمْ { وَأَيْمَانِهِمْ } أَيْ الْكَاذِبَةِ { ثَمَنًا قَلِيلًا } : أَيْ عَرَضًا يَسِيرًا مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ مَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ كَاذِبِينَ { أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ } أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْ نَعِيمِهَا وَثَوَابِهَا .
{ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ } أَيْ بِكَلَامٍ يَسُرُّهُمْ { وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَيْ نَظَرَ رَحْمَةٍ { وَلَا يُزَكِّيهِمْ } أَيْ وَلَا يَزِيدُهُمْ خَيْرًا وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أَيْ مُؤْلِمٌ شَدِيدُ الْإِيلَامِ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : { ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ } .
زَادَ فِي رِوَايَةٍ قَالَ : { فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ فَقَالَ : مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ

الرَّحْمَنِ ؟ فَقُلْنَا كَذَا وَكَذَا فَقَالَ صَدَقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ ، قُلْتُ : إذَنْ يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ وَنَزَلَتْ : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي ، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ : هِيَ أَرْضٌ فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَك بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ فَلَكَ يَمِينُهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ ، فَقَالَ : لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَدْبَرَ : لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ } .
وَأَبُو دَاوُد : { إنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ وَآخَرَ مِنْ حَضْرَمَوْتَ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ بِالْيَمَنِ فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَرْضِي اغْتَصَبَنِيهَا أَبُو هَذَا وَهِيَ فِي يَدِهِ فَقَالَ : هَلْ لَك بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنْ أُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا أَرْضِي اغْتَصَبَنِيهَا أَبُوهُ فَتَهَيَّأَ الْكِنْدِيُّ لِلْيَمِينِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَقْتَطِعُ أَحَدٌ مَالًا بِيَمِينٍ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ ، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ هِيَ أَرْضُهُ

} .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ أَجْذَمَ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ أَحَدُهُمَا مِنْ حَضْرَمَوْتَ فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَ أَحَدِهِمَا فَضَجَّ الْآخَرُ فَقَالَ إذَنْ يَذْهَبُ بِأَرْضِي ، فَقَالَ إنْ هُوَ اقْتَطَعَهَا بِيَمِينِهِ ظُلْمًا كَانَ مِمَّنْ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَوَرِعَ الْآخَرُ فَرَدَّهَا } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ غَيْرِ مَا وُجِّهَ ، وَوَرِعَ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ تَحَرَّجَ مِنْ الْإِثْمِ وَكَفَّ عَمَّا هُوَ قَاصِدُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ جَبُنَ وَهُوَ مَعْنَى ضَمِّهَا أَيْضًا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : أَنَّ { أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ ؟ قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ قُلْت وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ ؟ قَالَ : الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ } يَعْنِي بِيَمِينٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ : { مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَحْلِفُ رَجُلٌ عَلَى مِثْلِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إلَّا كَانَتْ كَيَّةً فِي قَلْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ قِيلَ رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ ` } ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَقَالَ : { وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ بِيَمِينِ صَبْرٍ فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ

جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إلَّا جُعِلَتْ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا نَعُدُّ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كَفَّارَةٌ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ قِيلَ وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ ؟ قَالَ الرَّجُلُ يَقْتَطِعُ بِيَمِينِهِ مَالَ الرَّجُلِ .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ بَيْنَ الْجَمْرَتَيْنِ وَهُوَ يَقُولُ : { مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ أَخِيهِ بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ، لِيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْتًا مِنْ النَّارِ } .
وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ لَوْ صَحَّ سَمَاعُ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَاوِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ تُذْهِبُ الْمَالَ أَوْ تَذْهَبُ بِالْمَالِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ { لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ هُوَ أَعْجَلُ عِقَابًا مِنْ الْبَغْيِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللَّهُ بِهِ أَسْرَعُ ثَوَابًا مِنْ الصِّلَةِ ، وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ مُدَلِّسٌ لَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ : { مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ مُحْتَسِبًا وَسَمِعَ وَأَطَاعَ فَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ .
وَخَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ مَصْبُورَةٍ كَاذِبَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ كَانَتْ

نُكْتَةً سَوْدَاءَ فِي قَلْبِهِ لَا يُغَيِّرُهَا شَيْءٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { إنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ دِيكٍ قَدْ مَرَقَتْ رِجْلَاهُ الْأَرْضَ وَعُنُقُهُ مُنْثَنٍ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَقُولُ سُبْحَانَك مَا أَعْظَمَك رَبَّنَا ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ : مَا عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ حَلَفَ بِي كَاذِبًا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا ، قَالَ : وَإِنْ كَانَ شِرَاكًا } .
وَمَالِكٌ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ .
قَالُوا : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ } .
زَادَ مَالِكٌ : { وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ } .
وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { لَا يَحْلِفُ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ عَبْدٌ وَلَا أَمَةٌ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ رَطْبٍ إلَّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ } .
وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ وَمِمَّا قَبْلَهُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْخَطَّابِيُّ أَنَّ الْيَمِينَ كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ .
وَابْنَا مَاجَهْ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { إنَّمَا الْحَلِفُ حِنْثٌ أَوْ نَدَمٌ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ افْتَدَى يَمِينَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ : وَرَبِّ الْكَعْبَةِ لَوْ حَلَفْت حَلَفْت صَادِقًا وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ افْتَدَيْت بِهِ يَمِينِي .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ

الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اشْتَرَى يَمِينَهُ مَرَّةً بِسَبْعِينَ أَلْفًا .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ الْأُولَى هُوَ مَا صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لِلتَّصْرِيحِ فِيهَا تَارَةً بِأَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ، وَتَارَةً أُخْرَى بِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَبِذَلِكَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بَلْ الَّذِي لَا أَشَدَّ مِنْهُ ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ .
وَأَمَّا عَدُّ الثَّانِيَةِ فَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ : مَا عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ حَلَفَ بِي كَاذِبًا إذْ فِي هَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ ، ثُمَّ رَأَيْت مَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ وَهُوَ تَعْبِيرُ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا كَصَاحِبِ الْعُدَّةِ بِالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ ، وَفَسَّرَهَا الزَّرْكَشِيُّ بِمَا يَشْمَلُ الْكَاذِبَةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَمُوسًا بِالْمَعْنَى السَّابِقِ فَقَالَ : وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ ، وَهِيَ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا بَاطِلًا أَوْ يُبْطِلُ بِهَا حَقًّا ، سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ انْتَهَى ؛ فَقَوْلُهُ يَحْلِفُ بِهَا بَاطِلًا : أَيْ وَإِنْ لَمْ يُبْطِلْ بِهَا حَقًّا ، وَهَذِهِ لَا تُسَمَّى غَمُوسًا اصْطِلَاحًا خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الزَّرْكَشِيّ الْمَذْكُورُ ، وَيُؤَيِّدُ عَدَّهَا أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَى فِي بَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ الْبَابِ الْجَامِعِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ : إنِّي أَصَبْت ذُنُوبًا فَأُحِبُّ أَنْ تَعُدَّ عَلَيَّ الْكَبَائِرَ ، قَالَ : فَعَدَّ عَلَيْهِ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا : الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلَ النَّفْسِ وَأَكْلَ الرِّبَا وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ وَالْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ .
وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا بَلْ يُصَرِّحُ بِهِ خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قَالَ : فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقُلْت : خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ ؟ قَالَ الْمُسْبِلُ - أَيْ إزَارَهُ خُيَلَاءَ - وَالْمَنَّانُ ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } ، فَهَذَا هُوَ ظَاهِرٌ أَوْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ كَذِبًا كَبِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَمُوسًا بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرُوهُ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ إنْفَاقَ السِّلْعَةِ بِالْحَلِفِ الْكَذِبِ اقْتَطَعَ بِهِ مَالَ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ أَخْذُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِوَاسِطَةِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ إذْ لَوْلَاهَا لَمَا بَذَلَ لَهُ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ فَكَأَنَّهُ اقْتَطَعَ حَقَّهُ بِهَا .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ أَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ } .
وَالتَّقْيِيدُ بِبَعْدِ الْعَصْرِ لِأَنَّ الْحَلِفَ الْكَذِبَ فِيهِ أَقْبَحُ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خَبَرُ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورُ .
وَأَمَّا عَدُّ الثَّالِثَةِ فَهُوَ مَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ : فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَطْرُقُ الْبَحْثَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ : وَلِلتَّوَقُّفِ مَجَالٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ تَقْيِيدَ الْيَمِينِ بِالْفَاجِرَةِ ، وَيُقَالُ إنَّ كَثْرَةَ الْأَيْمَانِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا تَقْتَضِي ذَلِكَ : أَيْ الْفِسْقَ كَمَا قِيلَ بِهِ فِي كَثْرَةِ الْمُخَاصَمَةِ انْتَهَى وَهُوَ مُحْتَمَلٌ ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ وَهُوَ أَقْرَبُ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ كَثْرَةِ الْمُخَاصَمَةِ وَلَوْ بِحَقٍّ الْوُقُوعَ فِيمَا لَا يَنْبَغِي كَمَا يَأْتِي مَبْسُوطًا بِخِلَافِ مَا هُنَا .
وَعُلِمَ مِنْ تِلْكَ الْأَحْدَاثِ أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ هِيَ الَّتِي يَحْلِفُهَا الْإِنْسَانُ عَامِدًا

عَالِمًا أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لِيُلْحِقَ بِهَا بَاطِلًا أَوْ يُبْطِلَ بِهَا حَقًّا كَأَنْ يَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ مَعْصُومٍ وَلَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، وَمَنْ عَبَّرَ بِالْمُسْلِمِ فَقَدْ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ، وَسُمِّيَتْ غَمُوسًا بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ الْحَالِفَ فِي الْإِثْمِ فِي الدُّنْيَا وَفِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَالْيَمِينُ الصَّابِرَةُ وَالصَّبْرُ وَالْمَصْبُورُ السَّابِقَةُ فِي الْأَحَادِيثِ هِيَ اللَّازِمَةُ لِصَاحِبِهَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ فَيَصِيرُ مِنْ أَجْلِهَا أَنْ يُحْبَسَ وَأَصْلُ الصَّبْرِ الْحَبْسُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قُتِلَ فُلَانٌ صَبْرًا : أَيْ حَبْسًا عَلَى الْقَتْلِ وَقَهْرًا عَلَيْهِ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الْحَلِفُ بِالْأَمَانَةِ أَوْ بِالصَّنَمِ مَثَلًا ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُجَازِفِينَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا كَافِرٌ أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ النَّبِيِّ ) .
أَشَارَ إلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بَعْضُهُمْ لَكِنَّهُ تَوَسَّعَ فَقَالَ : وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَيْ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالسَّمَاءِ وَالْآبَاءِ وَالْحَيَاةِ وَالْأَمَانَةِ ، وَهِيَ مِنْ أَشَدِّهَا نَهْيًا وَالرُّوحِ وَالرَّأْسِ وَحَيَاةِ السُّلْطَانِ وَنِعْمَةِ السُّلْطَانِ وَتُرْبَةِ فُلَانٍ ، ثُمَّ سَاقَ أَدِلَّةً فِيهَا نَهْيٌ وَوَعِيدٌ عَنْ الْحَلِفِ بِذَلِكَ كَحَدِيثِ : { إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } ، وَكَحَدِيثِ مُسْلِمٍ : { لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلَا بِآبَائِكُمْ } وَالطَّوَاغِي جَمْعُ طَاغِيَةٍ وَهِيَ الصَّنَمُ ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { هَذِهِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ } أَيْ صَنَمُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ .
وَكَحَدِيثِ : { مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَكَحَدِيثِ : { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا } ، وَكَحَدِيثِ { ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَا وَالْكَعْبَةِ فَقَالَ لَا تَحْلِفْ بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ وَأَشْرَكَ } .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّغْلِيظِ كَحَدِيثِ : { الرِّيَاءُ شِرْكٌ } ؛ وَكَحَدِيثِ : { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْحَلِفِ بِذَلِكَ قَبْلَ إسْلَامِهِ فَرُبَّمَا سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى الْحَلِفِ بِهَا ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَادِرَ إلَى قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ لِيُكَفِّرَ بِذَلِكَ مَا سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ .
وَكَلَامُ أَئِمَّتِنَا لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَطْلَقُوا أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ مَكْرُوهٌ ، نَعَمْ .
إنْ اعْتَقَدَ لَهُ مِنْ الْعَظَمَةِ بِالْحَلِفِ بِهِ مَا يَعْتَقِدُهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ الْحَلِفُ حِينَئِذٍ كُفْرًا وَهُوَ مَحْمَلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ وَالْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ .
وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالصَّنَمِ وَنَحْوِهِ فَإِنْ قَصَدَ بِهِ نَوْعَ تَعْظِيمٍ لَهُ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا ، وَحِينَئِذٍ فَكَوْنُهُ كَبِيرَةً لَهُ نَوْعُ احْتِمَالٍ ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُجَازِفِينَ الْمَذْكُورُ فَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْكَبِيرَةِ غَيْرُ بَعِيدٍ لِمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَالْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، وَهُوَ إمَّا الْكُفْرُ إنْ كَذَبَ أَوْ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا إنْ صَدَقَ .
وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ مُخَرِّجِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا ذَلِكَ الْبَعْضُ عَرِيَّةً عَنْ الْإِسْنَادِ وَالتَّعَرُّضِ لِكَوْنِهَا صَحِيحَةً أَوْ لَا .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ : لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَرْضَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ وَأَشْرَكَ } .
وَالْحَاكِمُ : { كُلُّ يَمِينٍ يُحْلَفُ بِهَا دُونَ اللَّهِ شِرْكٌ } .
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ وَأَنَا صَادِقٌ " .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ

فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا : { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا } .
وَأَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَصَحَّحَهُ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَهُوَ كَمَا حَلَفَ إنْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ فَهُوَ يَهُودِيٌّ ، وَإِنْ قَالَ هُوَ نَصْرَانِيٌّ فَهُوَ نَصْرَانِيٌّ ، وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَذَلِكَ ، وَمَنْ ادَّعَى دُعَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِثِيِّ جَهَنَّمَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى ، قَالَ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى } .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقُول أَنَا إذًا يَهُودِيٌّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ } .
وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ : { مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ } .

( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الْحَلِفُ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا ) .
كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْجَهَلَةِ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَتَوَقَّفُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً عَلَى الْكَذِبِ بَلْ يُفَسَّقُ قَائِلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا لِأَنَّ التَّعَلُّقَ يَحْتَمِلُ الْكُفْرَ بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُرَادٍ .
وَفِي أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَإِذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ نَحْوُهُمَا إنْ أَرَادَ تَعْلِيقَ خُرُوجِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ بِمَا قَالَ صَارَ كَافِرًا فِي الْحَالِ وَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا فَتَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ حَقِيقَةً بِأَنْ يُقْلِعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَيَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهِ وَيَعْزِمَ عَلَى عَدَمِ عَوْدِهِ أَبَدًا وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ وَيَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ .
انْتَهَى وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّشَهُّدُ مُسْتَحَبَّانِ .

بَابُ النَّذْرِ ( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ سَوَاءٌ أَكَانَ نَذْرَ قُرْبَةٍ أَمْ نَذْرَ لَجَاجٍ ) وَعَدُّ هَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ لَزِمَهُ عَلَى الْفَوْرِ ، فَهُوَ كَالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ ، إذْ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ النَّذْرَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ فِي أَحْكَامِهِ فَكَذَلِكَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْوَاجِبِ فِي عَظِيمِ إثْمِ تَرْكِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ تَرْكَهُ كَبِيرَةٌ وَفِسْقٌ .

بَابُ الْقَضَاءِ ( الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةَ ، وَالثَّامِنَةَ وَالتَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَالْعِشْرُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : تَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ وَتَوَلِّيهِ وَسُؤَالُهُ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْخِيَانَةَ أَوْ الْجَوْرَ أَوْ نَحْوَهُمَا وَالْقَضَاءُ بِجَهْلٍ أَوْ جَوْرٍ ) .
قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } ثُمَّ قَالَ عَزَّ قَائِلًا : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } ثُمَّ قَالَ - جَلَّ عَلِيمًا حَكِيمًا - : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّ الذَّبْحَ بِالسِّكِّينِ يَحْصُلُ بِهِ رَاحَةُ الذَّبِيحَةِ بِتَعْجِيلِ إزْهَاقِ رُوحِهَا فَإِذَا ذُبِحَتْ بِغَيْرِ سِكِّينٍ كَانَ فِيهِ تَعْذِيبٌ لَهَا ، وَقِيلَ : إنَّ الذَّبْحَ لَمَّا كَانَ فِي ظَاهِرِ الْعُرْفِ وَغَالِبِ الْعَادَةِ بِالسِّكِّينِ عَدَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ظَاهِرِ الْعُرْفِ ، وَالْعَادَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِيُعْلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ هَلَاكِ دِينِهِ دُونَ هَلَاكِ بَدَنِهِ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ وَعَلَى كُلٍّ فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْكِنَايَةُ عَنْ أَنَّ الْقَاضِيَ عَرَّضَ نَفْسَهُ بِقَبُولِهِ الْقَضَاءَ إلَى حُصُولِ مَشَقَّةٍ لَا تُطَاقُ فِي الْعَادَةِ وَهِيَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ نَفَرَ السَّلَفُ عَنْ ذَلِكَ نُفُورًا عَظِيمًا وَلَمْ يُفَسَّقُ الْمُمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِهِ وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ بِخَوْفِهِ مِنْ وُقُوعِهِ فِي وَرَطَاتِهِ وَغَوَائِلِهِ الْكَثِيرَةِ الْقَبِيحَةِ الْغَالِبِ

حُصُولُهَا لِمَنْ دَخَلَ فِيهِ .
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَابْنُ مَاجَهْ : { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ } .
وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَفِيهِ أَيْضًا انْقِطَاعٌ { أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اذْهَبْ فَكُنْ قَاضِيًا .
قَالَ : أَوْ أَوَتُعْفِينِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : اذْهَبْ فَاقْضِ بَيْنَ النَّاسِ ، قَالَ : تُعْفِينِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : عَزَمْتُ عَلَيْكَ إلَّا ذَهَبْتَ فَقَضَيْتَ ، قَالَ : لَا تَعْجَلْ أَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ عَاذَ بِاَللَّهِ فَقَدْ عَاذَ بِمَعَاذٍ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ فَإِنِّي أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُونَ قَاضِيًا ، قَالَ : وَمَا يَمْنَعُك وَقَدْ كَانَ أَبُوك يَقْضِي ؟ قَالَ لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْجَهْلِ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَمَنْ كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْجَوْرِ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَمَنْ كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِحَقٍّ أَوْ بِعَدْلٍ سَأَلَ التَّفَلُّتَ كَفَافًا فَمَا أَرْجُو مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ } وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِاخْتِصَارٍ عَنْهُمَا وَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْعَدْلِ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْهُ كَفَافًا } ، فَمَا أَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ ؟ وَأَحْمَدُ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ قَطُّ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { يُدْعَى الْقَاضِي الْعَدْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَبْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي عُمُرِهِ } ، وَتَمْرَةٍ وَعُمُرِهِ قِيلَ مُتَقَارِبَانِ خَطًّا وَلَعَلَّ أَحَدَهُمَا تَصْحِيفٌ ، انْتَهَى ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي كِلَيْهِمَا فَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنَّهُمَا رِوَايَتَانِ ؟ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَجَا ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْخَرَقَ بِهِ الْجِسْرُ فَهَوَى فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا وَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ } .
وَأَحْمَدُ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةً فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَّا أَتَى اللَّهُ بِهِ مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ أَوْ أَوْثَقَهُ إثْمُهُ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَلِيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ } .
وَالشَّيْخَانِ : { يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا } .
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ : { مَنْ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ جُبِرَ عَلَيْهِ يَنْزِلُ مَلَكٌ فَيُسَدِّدُهُ } .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَإِنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنَا مَاجَهْ وَحِبَّانَ : { إنَّ

اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ } .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { فَإِذَا جَارَ تَبَرَّأَ اللَّهُ مِنْهُ } .
وَمَالِكٌ : إنَّ مُسْلِمًا وَيَهُودِيًّا اخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَأَى الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ فَقَضَى عُمَرُ لَهُ بِهِ ، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ وَاَللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ وَمَا يُدْرِيكَ ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَاَللَّهِ إنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ : لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ إلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَزَّارُ وَاللَّفْظُ لَهُ : { يُؤْتَى بِالْقَاضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ لِلْحِسَابِ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَإِنْ أُمِرَ بِهِ دُفِعَ فَهَوَى فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ : { لَا يَلِي أَحَدٌ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا إلَّا أَوْقَفَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ فَزُلْزِلَ بِهِ الْجِسْرُ زَلْزَلَةً فَنَاجٍ أَوْ غَيْرُ نَاجٍ لَا يَبْقَى مِنْهُ عَظْمٌ إلَّا فَارَقَ صَاحِبَهُ فَإِنْ هُوَ لَمْ يَنْجُ ذَهَبَ بِهِ فِي جُبٍّ مُظْلِمٍ كَالْقَبْرِ فِي جَهَنَّمَ لَا يَبْلُغُ قَعْرَهُ سَبْعِينَ خَرِيفًا } .
وَمُسْلِمٌ : { مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَمْ يَجْهَدْ لَهُمْ وَلَا يَنْصَحُ لَهُمْ إلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ الْجَنَّةَ } .
زَادَ الطَّبَرَانِيُّ : { كَنُصْحِهِ وَجُهْدِهِ لِنَفْسِهِ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَ الْمِسْكِينِ وَالْمَظْلُومِ وَذِي الْحَاجَةِ أَغْلَقَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ دُونَ حَاجَتِهِ وَفَقَّرَهُ أَفْقَرَ مَا يَكُونُ إلَيْهَا } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الْخَمْسَةِ لَمْ أَرَهُ لَكِنَّهُ صَرِيحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ .
أَمَّا الثَّانِيَةُ فَوَاضِحٌ لِأَنَّهَا صَرِيحَةُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْمَكْنِيِّ عَنْ

شِدَّةِ الْعَذَابِ وَالْوَعِيدِ فِيهِ بِالذَّبْحِ بِغَيْرِ سِكِّينٍ وَحَمْلُهَا عَلَى مَا ذَكَرْته فِي التَّرْجَمَةِ ظَاهِرٌ مُتَعَيَّنٌ ، وَصَرِيحَةُ الْحَدِيثِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْقَاضِيَيْنِ الْجَاهِلِ وَالْجَائِرِ بِكَوْنِهِمَا فِي النَّارِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ يَثْبُتُ فِي لَازِمِهَا مِنْ التَّوْلِيَةِ وَسَبَبِهَا مِنْ السُّؤَالِ فِي ذَلِكَ ؛ وَأَمَّا الْأَخِيرَتَانِ فَهُمَا صَرِيحُ الْحَدِيثِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ أَيْضًا فَيَنْتِجُ مِنْ ذَلِكَ اتِّضَاحُ عَدِّ هَذِهِ الْخَمْسَةِ .
قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ يَوْمًا فِي الْقَضَاءِ وَيَوْمًا فِي الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ : أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْحِسَابِ الْقُضَاةُ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَيْسَ مِنْ قَاضٍ وَلَا وَالٍ إلَّا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الصِّرَاطِ ثُمَّ تُنْشَرَ صَحِيفَةُ سِيرَتِهِ فَتُقْرَأَ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ فَإِنْ كَانَ عَدْلًا نَجَّاهُ اللَّهُ بِعَدْلِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ انْتَفَضَ بِهِ الْجِسْرُ انْتِفَاضَةً فَصَارَ بَيْنَ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ مَسِيرَةُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ يَنْخَرِقُ بِهِ الْجِسْرُ إلَى جَهَنَّمَ } .
وَقَالَ مَكْحُولٌ : لَوْ خُيِّرْت بَيْنَ الْقَضَاءِ وَضَرْبِ عُنُقِي لَاخْتَرْت ضَرْبَ عُنُقِي وَلَمْ أَخْتَرْ الْقَضَاءَ .
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ : إنِّي وَجَدْت أَعْلَمَ النَّاسِ أَشَدَّهُمْ هَرَبًا مِنْهُ ، وَدَعَا مَالِكُ بْنُ الْمُنْذِرِ مُحَمَّدَ بْنَ وَاسِعٍ لِيَجْعَلَهُ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ ، فَأَبَى فَعَاوَدَهُ وَقَالَ لِتَجْلِسْ وَإِلَّا جَلَدْتُك ، فَقَالَ إنْ تَفْعَلْ فَأَنْتَ سُلْطَانٌ ، وَإِنَّ ذَلِيلَ الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْ ذَلِيلِ الْآخِرَةِ .
وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ إنَّ شُرَيْحًا قَدْ اُسْتُقْضِيَ ، فَقَالَ أَيُّ رَجُلٍ قَدْ أَفْسَدُوهُ .
وَالْحَاصِلُ ، أَنَّ

هَذَا الْمَنْصِبَ أَخْطَرُ الْمَنَاصِبِ وَأَفْظَعُ الْمَتَاعِبِ وَالْمَثَالِبِ ، وَقَدْ أَفْرَدْتُ قُضَاةَ السُّوءِ بِتَأْلِيفٍ مُسْتَقِلٍّ سَمَّيْتُهُ [ جَمْرَ الْغَضَا لِمَنْ تَوَلَّى الْقَضَا ] وَذَكَرْتُ فِيهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الْفَظِيعَةِ الشَّنِيعَةِ مَا تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ وَتَسْتَنْكِرُهُ الطِّبَاعُ لِمَا أَنَّ الْجُرْأَةَ عَلَى فِعْلِهِ تُوجِبُ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُتَّقِينَ بَلْ وَلَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ آمِينَ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : إعَانَةُ الْمُبْطِلِ وَمُسَاعَدَتُهُ ) .
أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ } .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { مَثَلُ الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى الْحَقِّ كَمَثَلِ بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَهُوَ يَنْزِعُ مِنْهَا بِذَنَبِهِ } ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْإِثْمِ وَهَلَكَ كَالْبَعِيرِ إذَا تَرَدَّى فِي بِئْرٍ مُهْلِكَةٍ فَصَارَ يَنْزِعُ بِذَنَبِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَيُّمَا رَجُلٍ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ فِي غَضَبِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ شَدَّ غَضَبًا عَلَى مُسْلِمٍ فِي خُصُومَةٍ لَا عِلْمَ لَهُ بِهَا فَقَدْ عَانَدَ اللَّهَ حَقَّهُ وَحَرَصَ عَلَى سَخَطِهِ وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ تُتَابَعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يَشِينُهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُذِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَادِ مَا قَالَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي مُلْكِهِ ، وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ لَا يَعْلَمُ أَحَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ فَهُوَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ ، وَمَنْ مَشَى مَعَ قَوْمٍ يَرَى أَنَّهُ شَاهِدٌ وَلَيْسَ بِشَاهِدٍ فَهُوَ كَشَاهِدِ زُورٍ ، وَمَنْ تَحَلَّمَ كَاذِبًا كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ طَرَفَيْ شَعِيرَةٍ ، وَسِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْأَصْبَهَانِيّ : { مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بِبَاطِلٍ لِيُدْحِضَ بِهِ حَقًّا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ ، وَمَنْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيُعِينَهُ وَهُوَ

يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ صَرِيحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ لَمْ أَرَهُ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : إرْضَاءُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ بِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ تَعَالَى ) .
أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ : { مَنْ أَسْخَطَ اللَّهَ فِي رِضَا النَّاسِ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ مَنْ أَرْضَاهُ فِي سَخَطِهِ .
وَمَنْ أَرْضَى اللَّهَ فِي سَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ مَنْ أَسْخَطَهُ فِي رِضَاهُ حَتَّى يُزَيِّنَهُ وَيُزَيِّنَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ فِي عَيْنِهِ } .
وَالْحَاكِمُ : { مَنْ أَرْضَى سُلْطَانًا بِمَا يُسْخِطُ رَبَّهُ خَرَجَ مِنْ دِينِ اللَّهِ } .
وَالْبَزَّارُ : { مَنْ طَلَبَ مَحَامِدَ النَّاسِ بِمَعَاصِي اللَّهِ عَادَ حَامِدُهُ لَهُ ذَامًّا أَوْ قَالَ ذَامًّا لَهُ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ وَمَنْ أَسْخَطَ اللَّهَ بِرِضَا النَّاسِ وَكَّلَهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ أَرَادَ سَخَطَ اللَّهِ وَرِضَا النَّاسِ عَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاسِ ذَامًّا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ تَحَبَّبَ إلَى النَّاسِ بِمَا يُحِبُّوهُ وَبَارَزَ اللَّهَ تَعَالَى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } .
وَيُحِبُّوهُ كَذَا رَأَيْتُهُ وَهُوَ لُغَةٌ ، وَالْأَشْهَرُ يُحِبُّونَهُ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ صَرِيحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَهُ .

( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : أَخْذُ الرِّشْوَةِ وَلَوْ بِحَقٍّ وَإِعْطَاؤُهَا بِبَاطِلٍ وَالسَّعْيُ فِيهَا بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي وَأَخْذُ مَالٍ عَلَى تَوْلِيَةِ الْحُكْمِ وَدَفْعُهُ حَيْثُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْبَذْلُ ) .
قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْأَكْلَ خَاصَّةً ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ الْأَمْوَالِ وَصَارَ الْعُرْفُ فِيمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ أَنْ يُقَالَ أَكَلَهُ خُصَّ بِالذِّكْرِ .
وقَوْله تَعَالَى : { بِالْبَاطِلِ } يَشْمَلُ سَائِرَ وُجُوهِهِ وَيَجْمَعُهَا فِي كُلِّ مَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ كَالْمُسْكِرِ وَالْمُؤْذِي ، أَوْ لِخَلَلٍ فِي اكْتِسَابِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ أَوْ مَصْرِفِهِ كَأَنَّهُ يَصْرِفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ { وَتُدْلُوا بِهَا } عُطِفَ عَلَى الْمَجْزُومِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ أُبَيِّ وَلَا تُدْلُوا بِهَا .
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَالْإِدْلَاءُ إرْسَالُ الدَّلْوِ إلَى الْبِئْرِ لِلِاسْتِقَاءِ وَدَلَاهُ يَدْلُوهُ أَخْرَجَهُ ، ثُمَّ جُعِلَ إلْقَاءُ كُلِّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ إدْلَاءً ، وَمِنْهُ أَدْلَى بِحُجَّتِهِ كَأَنَّهُ يُرْسِلُهَا لِتَصِلَ إلَى مُرَادِهِ وَأَدْلَى إلَى الْمَيِّتِ بِقَرَابَتِهِ لِطَلَبِ الْمِيرَاثِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ ، وَبَاءَ بِهَا لِلتَّعْدِيَةِ وَقِيلَ لِلسَّبَبِيَّةِ .
فَالْمُرَادُ بِالْإِدْلَاءِ الْإِشْرَاعُ بِالْخُصُومَةِ فِي الْأَمْوَالِ ، وَبَاءَ بِالْإِثْمِ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ الْمُصَاحَبَةِ ، وَوَجْهُ تَشْبِيهِ الرِّشْوَةِ بِالْإِدْلَاءِ إمَّا كَوْنُهَا تُقَرِّبُ بَعِيدَ الْحَاجَةِ كَمَا أَنَّ الدَّلْوَ الْمَمْلُوءَةَ مَاءً تَصِلُ مِنْ الْبَعِيدِ إلَى الْقَرِيبِ بِوَاسِطَةِ الرِّشَاءِ فَالْبَعِيدُ يَصِيرُ قَرِيبًا بِسَبَبِ الرِّشْوَةِ ، وَإِمَّا كَوْنُ الْحَاكِمِ بِسَبَبِ الرِّشْوَةِ يُمْضِي

الْحُكْمَ وَيُثْبِتُهُ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ كَمُضِيِّ الدَّلْوِ فِي الرِّشَاءِ ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ الْوَدَائِعُ وَمَا لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَقِيلَ مَالُ الْيَتِيمِ فِي يَدِ وَصِيِّهِ يَدْفَعُ بَعْضَهُ لِلْحَاكِمِ لِيُبْقِيَهُ عَلَى وِصَايَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ الْفَاسِدِ ، وَقِيلَ شَهَادَةُ الزُّورِ ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهَا عَائِدٌ عَلَى مَذْكُورٍ لِلْعِلْمِ بِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ لِيُحِقَّ بَاطِلًا ، لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ { امْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ عَبَّاسٍ الْكِنْدِيَّ ادَّعَى عَلَيْهِ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدَانَ الْحَضْرَمِيُّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضًا أَنَّهُ غَلَبَهُ عَلَيْهَا فَالْتَمَسَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيِّنَةً فَلَمْ يَجِدْ ، فَقَالَ لَك يَمِينُهُ فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا إنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ فَنَزَلَتْ } : أَيْ لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ .
وَقِيلَ ؛ هُوَ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْحَاكِمِ رِشْوَةً .
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ : أَيْ لَا تُصَانِعُوا الْحُكَّامَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَا تَرْشُوهُمْ لِيَقْتَطِعُوا لَكُمْ حَقَّ غَيْرِكُمْ ، وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُهَا عَلَى كُلِّ مَا مَرَّ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ أَكْلٌ لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ .
{ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أَيْ بِكَوْنِهِ بَاطِلًا .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَبِيحِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُبْحِهِ أَقْبَحُ وَصَاحِبَهُ بِالتَّوْبِيخِ أَحَقُّ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ : { الرَّاشِي

وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ } .
وَأَحْمَدُ : { مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرِّبَا إلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ ، وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرُّشَا إلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ } .
وَالْحَاكِمُ عَنْهُ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ وَالرَّائِشَ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ } يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : { لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ } .
وَالْحَاكِمُ : { مَنْ وَلِيَ عَشَرَةً فَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَحَبُّوا أَوْ بِمَا كَرِهُوا جِيءَ بِهِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ فَإِنْ عَدَلَ وَلَمْ يَرْتَشِ وَلَمْ يَحِفْ فَكَّ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَارْتَشَى وَحَابَى فِيهِ شُدَّتْ يَسَارُهُ إلَى يَمِينِهِ ثُمَّ رُمِيَ بِهِ فِي جَهَنَّمَ فَلَمْ يَبْلُغْ قَعْرَهَا خَمْسَمِائَةِ عَامٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ كُفْرٌ وَهِيَ بَيْنَ النَّاسِ سُحْتٌ " .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ الْأُولَى هُوَ مَا ذَكَرُوهُ ، وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ هُوَ مَا ظَهَرَ لِي مِنْ صَرِيحِ الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ ، وَالْأَخِيرَتَيْنِ هُوَ مَا رَأَيْته بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْجَلَالِ الْبُلْقِينِيِّ ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ، وَعِبَارَتُهُ : أَخْذُ الرِّشْوَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ سَوَاءٌ أَخْذُهَا عَلَى الْحُكْمِ بِالْبَاطِلِ أَوْ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ ، وَفِي مَعْنَاهُ الْأَخْذُ عَلَى تَوْلِيَةِ الْحُكْمِ وَدَفْعِهِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْبَذْلُ .

انْتَهَتْ .
وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْتهَا صَرِيحَةٌ فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَاللَّعْنَةِ لِلرَّاشِي وَلِلْمُرْتَشِي وَلِلسَّفِيرِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنَّمَا قُلْتُ فِي الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِمْ قَدْ يَجُوزُ الْإِعْطَاءُ وَيَحْرُمُ الْأَخْذُ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَكَمَا يُعْطَاهُ الشَّاعِرُ خَوْفًا مِنْ هَجْوِهِ فَالْإِعْطَاءُ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ ، وَالْأَخْذُ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ وَلِأَنَّ الْمُعْطِيَ كَالْمُكْرَهِ عَلَى إعْطَائِهِ فَمَنْ أَعْطَى قَاضِيًا أَوْ حَاكِمًا رِشْوَةً أَوْ أَهْدَى إلَيْهِ هَدِيَّةً فَإِنْ كَانَ لِيَحْكُمَ لَهُ بِبَاطِلٍ أَوْ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى نَيْلِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ أَوْ إلَى أَذِيَّةِ مُسْلِمٍ فُسِّقَ الرَّاشِي وَالْمُهْدِي بِالْإِعْطَاءِ وَالْمُرْتَشِي وَالْمُهْدَى إلَيْهِ بِالْأَخْذِ وَالرَّائِشُ بِالسَّعْيِ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ حُكْمٌ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، أَوْ لِيَحْكُمَ لَهُ بِحَقٍّ أَوْ لِدَفْعِ ظُلْمٍ عَنْهُ أَوْ لِيَنَالَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فُسِّقَ الْآخِذُ فَقَطْ وَلَمْ يَأْثَمْ الْمُعْطِي لِاضْطِرَارِهِ إلَى التَّوَصُّلِ إلَى حَقِّهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ .
وَأَمَّا الرَّائِشُ هُنَا فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْآخِذِ فِسْقٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْآخِذَ يُفَسَّقُ مُطْلَقًا فَمُعِينُهُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُعْطِي فَإِنْ كُنَّا حَكَمْنَا بِفِسْقِهِ فُسِّقَ رَسُولُهُ وَإِلَّا فَلَا .
ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّائِشِ فَقَالَ : هُوَ تَابِعٌ لِلرَّاشِي فِي قَصْدِهِ إنْ قَصَدَ خَيْرًا لَمْ تَلْحَقْهُ اللَّعْنَةُ وَإِلَّا لَحِقَتْهُ .
وَلَا فَرْقَ فِي الرِّشْوَةِ الْمُقْتَضِي أَخْذُهَا الْفِسْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ أَطْلَقَ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَغَيْرِهِمْ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَكَذَا أَخْذُهَا رِشْوَةً وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رُبُعَ دِينَارٍ وَأَنْ لَا ، وَكَذَا أَطْلَقَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ أَكْلَ أَمْوَالِ

الْيَتَامَى وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ وَجَرَى عَلَى إطْلَاقِهِ فِيهَا وَفِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ الشَّيْخَانِ ، وَسَيَأْتِي عَنْ النَّصِّ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَذَلِكَ يُورِثُ تَضْعِيفَ التَّقْيِيدِ فِي الْمَغْصُوبِ بِرُبُعِ دِينَارٍ .
انْتَهَى .
وَمَرَّ فِي الْغَصْبِ وَغَيْرِهِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّشْوَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُضَاةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ خِلَافًا لِلْبَدْرِ بْنِ جَمَاعَةَ وَغَيْرِهِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ } .
وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ عَلَيْهَا هَدِيَّةً فَقَدْ أَتَى بَابًا كَبِيرًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا } .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : السُّحْتُ أَنْ تَطْلُبَ لِأَخِيك الْحَاجَةَ فَتُقْضَى فَيُهْدِيَ إلَيْك هَدِيَّةً فَتَقْبَلَهَا مِنْهُ .
وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَلَّمَ ابْنَ زِيَادٍ فِي مَظْلِمَةٍ فَرَدَّهَا فَأَهْدَى إلَيْهِ صَاحِبُ الْمَظْلَمَةِ وَصِيفًا فَرَدَّهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ .
وَقَالَ : يَعْنِي مَسْرُوقًا : سَمِعْت ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلِمَةً فَأَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا فَهُوَ سُحْتٌ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، مَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ السُّحْتَ إلَّا الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ فَقَالَ ذَلِكَ كُفْرٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
وَجَاءَ نَصْرَانِيٌّ إلَى الْإِمَامِ الْأَوْزَاعِيِّ وَكَانَ يَسْكُنُ بَيْرُوتَ فَقَالَ إنَّ وَالِيَ بَعْلَبَكَّ ظَلَمَنِي وَأُرِيدُ أَنْ تَكْتُبَ فِي إلَيْهِ وَأَتَاهُ بِقُلَّةِ عَسَلٍ فَقَالَ لَهُ إنْ شِئْتَ رَدَدْتَ عَلَيْكَ قُلَّتَكَ وَأَكْتُبُ إلَيْهِ وَإِنْ شِئْتَ أَخَذْتُهَا وَلَا أَكْتُبُ ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ بَلْ اُكْتُبْ لِي وَارْدُدْهَا فَكَتَبَ لَهُ أَنْ ضَعْ عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ فَشَفَعَهُ الْوَالِيَ فِيهِ وَحَطَّ عَنْهُ مِنْ جِزْيَتِهِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا .
قَالَ

الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا أَخَذَ الْقَاضِي رِشْوَةً عَلَى قَضَائِهِ فَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ وَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ وَالرِّشْوَةُ مَرْدُودَةٌ ، وَإِذَا أَعْطَى الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ رِشْوَةً فَوِلَايَتُهُ بَاطِلَةٌ وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ ، وَلَيْسَ مِنْ الرِّشْوَةِ بَذْلُ مَالٍ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ مَعَ السُّلْطَانِ مَثَلًا فِي جَائِزَةٍ فَإِنَّ هَذَا جَعَالَةٌ جَائِزَةٌ .

( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : قَبُولُ الْهَدِيَّةِ بِسَبَبِ شَفَاعَتِهِ ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ شَفَعَ شَفَاعَةً لِأَحَدٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ } .
وَمَرَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ ذَلِكَ سُحْتٌ وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكٍ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَافِقُ قَوَاعِدَنَا ، بَلْ مَذْهَبُنَا أَنَّ مَنْ حُبِسَ فَبَذَلَ لِغَيْرِهِ مَالًا لِيَشْفَعَ لَهُ وَيَتَكَلَّمَ فِي خَلَاصِهِ جَازَ وَكَانَتْ جَعَالَةً جَائِزَةً فَاَلَّذِي يُتَّجَهُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ شَفَاعَةٍ فِي مُحَرَّمٍ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّلَاثُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الْخُصُومَةُ بِبَاطِلٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَوُكَلَاءِ الْقَاضِي أَوْ لِطَلَبِ حَقٍّ لَكِنْ مَعَ إظْهَارِ لَدَدٍ وَكَذِبٍ لِإِيذَاءِ الْخَصْمِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ وَالْخُصُومَةُ لِمَحْضِ الْعِنَادِ بِقَصْدِ قَهْرِ الْخَصْمِ وَكَسْرِهِ وَالْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ الْمَذْمُومُ ) .
قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُك قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } .
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَفَى بِك أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا } .
وَالْبُخَارِيُّ : { أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ } أَيْ كَثِيرُ الْخُصُومَةِ .
وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : أَنَّهُ وُكِّلَ فِي خُصُومَةٍ وَهُوَ حَاضِرٌ قَالَ وَكَانَ يَقُولُ إنَّ الْخُصُومَةَ لَهَا قُحَمًا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُهَا ، وَقُحَمًا بِضَمِّ الْقَافِ وَبِالْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ شِدَّةً وَوَرْطَةً ، وَعَدَّ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ فَتْحَ الْحَاءِ خَطَأً .
وَوَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ جَادَلَ فِي خُصُومَةٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ } .
وَأَنَّهُ قَالَ : { مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا جَدَلًا ثُمَّ تَلَا : { مَا ضَرَبُوهُ لَك إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ هُوَ صَرِيحُ مَا مَرَّ عَنْ الْبُخَارِيِّ فِي الْأُولَى وَفِي مَعْنَاهَا مَا بَعْدَهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ .
ثُمَّ رَأَيْت مَنْ عَدَّ الْفُجُورَ فِي الْمُخَاصَمَةِ كَبِيرَةً وَأَطْلَقَ

فِي الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ أَنَّهُمَا كَبِيرَتَانِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَمِنْ ثَمَّ قَيَّدْتُ بِالْمَذْمُومِ .
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ عَدَّ ذَلِكَ قَوْلُ النَّوَوِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ إنَّهُ قَالَ : مَا رَأَيْت شَيْئًا أَذْهَبَ لِلدِّينِ وَلَا أَنْقَصَ لِلْمُرُوءَةِ وَلَا أَضْيَعَ لِلَّذَّةِ وَلَا أَشْغَلَ لِلْقَلْبِ مِنْ الْخُصُومَةِ .
وَفِي أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ فَإِنْ قُلْت : لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْخُصُومَةِ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ .
فَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَاصَمَ بِبَاطِلٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَوَكِيلِ الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ يَتَوَكَّلُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْحَقَّ فِي أَيِّ جَانِبٍ ، وَيَدْخُلُ فِي الذَّمِّ مَنْ طَلَبَ حَقًّا ، لَكِنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ بَلْ يُظْهِرُ اللَّدَدَ وَالْكَذِبَ لِلْإِيذَاءِ أَوْ التَّسْلِيطِ عَلَى خَصْمِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَحْضُ الْعِنَادِ لِقَهْرِ الْخَصْمِ وَكَسْرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ يَخْلِطُ الْخُصُومَةَ بِكَلِمَاتٍ تُؤْذِي وَلَيْسَ لَهُ إلَيْهَا ضَرُورَةٌ فِي التَّوَصُّلِ لَهُ إلَى غَرَضِهِ ، فَهَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ بِخِلَافِ الْمَظْلُومِ الَّذِي يَنْصُرُ حُجَّتَهُ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ لَدَدٍ وَإِسْرَافٍ وَزِيَادَةِ لَجَاجٍ عَلَى الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ عِنَادٍ وَلَا إيذَاءٍ فَفِعْلُهُ هَذَا لَيْسَ مَذْمُومًا وَلَا حَرَامًا ، لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ مَا وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا ؛ لِأَنَّ ضَبْطَ اللِّسَانِ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ مُتَعَذَّرٌ وَالْخُصُومَةُ تُوغِرُ الصُّدُورَ وَتُهَيِّجُ الْغَضَبَ ، فَإِذَا هَاجَ الْغَضَبُ حَصَلَ الْحِقْدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْرَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُسَاءَةِ الْآخَرِ وَيَحْزَنَ بِمَسَرَّتِهِ وَيُطْلِقَ اللِّسَانَ فِي عِرْضِهِ ، فَمَنْ خَاصَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْآفَاتِ وَأَقَلُّ مَا فِيهَا اشْتِغَالُ الْقَلْبِ حَتَّى إنَّهُ يَكُونُ فِي صَلَاتِهِ وَخَاطِرِهِ مُعَلَّقًا بِالْمُحَاجَجَةِ وَالْخُصُومَةِ ، فَلَا يَبْقَى حَالُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ ، وَالْخُصُومَةُ مَبْدَأُ الشَّرِّ وَكَذَا الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ ،

فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَفْتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْخُصُومَةِ إلَّا لِضَرُورَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْفَظُ لِسَانَهُ وَقَلْبَهُ عَنْ آفَاتِهَا .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَعَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ وُكَلَاءِ الْقَاضِي مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ ؛ انْتَهَى .
وَلَا غَرَابَةَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ لِأَكْثَرِ وُكَلَاءِ الْقُضَاةِ الْآنَ لِانْطِوَائِهِمْ فِي وَكَالَاتِهِمْ عَلَى مَفَاسِدَ قَبِيحَةٍ شَنِيعَةٍ وَكَبَائِرَ بَلْ فَوَاحِشَ فَظِيعَةٍ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَمِمَّا يُذَمُّ الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ وَالْخُصُومَةُ ، فَالْمِرَاءُ طَعْنُك فِي كَلَامٍ لِإِظْهَارِ خَلَلٍ فِيهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ سِوَى تَحْقِيرِ قَائِلِهِ وَإِظْهَارِ مَرْتَبَتِك عَلَيْهِ ، وَالْجِدَالُ هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمَذَاهِبِ وَتَقْرِيرِهَا ، وَالْخُصُومَةُ لَجَاجٌ فِي الْكَلَامِ ؛ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ مَالًا أَوْ غَيْرَهُ وَيَكُونُ تَارَةً ابْتِدَاءً وَتَارَةً اعْتِرَاضًا ، وَالْمِرَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا اعْتِرَاضًا .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : الْجِدَالُ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ بِأَنْ يَكُونَ لِلْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِّ وَإِظْهَارِهِ وَتَقْرِيرِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِبَاطِلٍ بِأَنْ يَكُونَ لِمُدَافَعَةِ حَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَقَالَ : { وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } .
وَعَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ تَتَنَزَّلُ هَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا مِمَّا وَرَدَ فِي مَدْحِهِ تَارَةً وَذَمِّهِ أُخْرَى .
فَائِدَةٌ : نَقَلَ الشَّيْخَانِ عَنْ صَاحِبِ الْعُدَّةِ أَنَّ مِنْ الصَّغَائِرِ كَثْرَةَ الْخُصُومَاتِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّخْصُ مُحِقًّا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَقَدْ فَهِمَا مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّغَائِرِ الْمَعَاصِيَ الَّتِي يَأْثَمُ فَاعِلُهَا كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ ، وَالْمَشْهُورُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُرِيدَ ذَلِكَ بَلْ أَرَادَ عَدَّ جُمْلَةٍ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِمَّا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ بِهِ ، وَسَيَأْتِي مَا

يُؤَيِّدُهُ إذْ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِتَأْثِيمِ الْمُحِقِّ فِي الْخُصُومَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَنْ أَكْثَرَ الْخُصُومَاتِ وَقَعَ فِي الْإِثْمِ .
انْتَهَى .
وَذَكَرَ تِلْمِيذُهُ فِي الْخَادِمِ نَحْوَهُ فَقَالَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ ، وَمِمَّا يَقْتَضِي رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ مُنْقَصِ الْمُرُوءَةِ ، وَلِهَذَا ذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْمُحِقَّ فِي الْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ أَحَدٌ بِتَأْثِيمِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمُرُوءَةِ وَكَذَا الضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ وَنَحْوِهِ .
فَإِنْ قُلْت : فَإِطْلَاقُ الصَّغِيرَةِ عَلَى مَا لَا إثْمَ فِيهِ خَارِجٌ عَنْ الِاصْطِلَاحِ .
قُلْت : الْمُرَادُ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الصَّغِيرَةِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهَا .
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُرُوءَةِ أَنَّ مَنْ اعْتَادَ تَرْكَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ؛ لِتَهَاوُنِهِ بِالسُّنَنِ ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى ارْتِكَابِ خِلَافِ الْمَسْنُونِ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ فِيهِ .
وَقَدْ أَطْلَقَ الْحَلِيمِيُّ أَنَّ رَدَّ السَّائِلِ صَغِيرَةٌ .
وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ : إنَّ الْمُبَاحَ يَصِيرُ صَغِيرَةً بِالْمُوَاظَبَةِ كَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَدْ أُطْلِقَ لَفْظُ الصَّغِيرَةِ عَلَى مَا لَا يَحْرُمُ .
انْتَهَى .
فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ مَا بَحَثَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْخُصُومَاتِ وَصَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ لَيْسَ كَمَا قَالَ وَأَنَّهُ لَا يُلَاقِي كَلَامَ صَاحِبِ الْعُدَّةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، كَمَا أَنَّ مُتَدَارِكَ السُّنَنِ لَيْسَ بِعَاصٍ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِلتَّهَاوُنِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَثْرَةَ الْخُصُومَاتِ وَعَدَمَ الْإِغْضَاءِ وَالتَّجَاوُزِ يُورِثُ ضَرَاوَةً وَجُرْأَةً وَفِي مَعْنَى الْإِكْثَارِ فِي الْخُصُومَةِ الْمُخَاصَمَةُ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَوُكَلَاءِ الْقَاضِي صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ .
انْتَهَى .

بَابُ الْقِسْمَةِ ( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : جَوْرُ الْقَاسِمِ فِي قِسْمَتِهِ وَالْمُقَوِّمِ فِي تَقْوِيمِهِ ) .
أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْتٍ فِيهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ الْبَابِ فَقَالَ هَلْ فِي الْبَيْتِ إلَّا قُرَشِيٌّ ؟ فَقَالُوا لَا إلَّا ابْنُ أُخْتٍ لَنَا فَقَالَ ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ مَا إذَا اُسْتُرْحِمُوا رَحِمُوا وَإِذَا حَكَمُوا عَدَلُوا وَإِذَا قَسَمُوا أَقْسَطُوا ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَيْنِ لَمْ أَرَهُ لَكِنَّهُ صَرِيحُ الْحَدِيثِ فِي الْأُولَى وَقِيَاسُهَا فِي الثَّانِيَةِ بَلْ هِيَ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ ؛ لِأَنَّ الْجَوْرَ فِي الْقِسْمَةِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ بِتِلْكَ اللَّعْنَةِ الْعَامَّةِ يَشْمَلُ الْجَوْرَ فِي الْأَنْصِبَاءِ وَفِي الْقِسْمَةِ .

كِتَابُ الشَّهَادَاتِ ( الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : شَهَادَةُ الزُّورِ وَقَبُولُهَا ) .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَاسْمُهُ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ } .
وَالْبُخَارِيُّ : { الْكَبَائِرُ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ } .
وَالشَّيْخَانِ : { ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَبَائِرَ فَقَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، فَقَالَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا فَقَالَ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَرَأَ : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } } .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ لَكِنَّ تَابِعِيَّهُ لَمْ يُسَمَّ : { مَنْ شَهِدَ عَلَى مُسْلِمٍ شَهَادَةً لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { لَنْ تَزُولَ قَدَمَا شَاهِدِ الزُّورِ حَتَّى يُوجِبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ الطَّيْرَ لَتَضْرِبُ بِمَنَاقِيرِهَا وَتُحَرِّكُ أَذْنَابَهَا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ شَاهِدُ الزُّورِ وَلَا يُفَارِقُ قَدَمَاهُ الْأَرْضَ حَتَّى يُقْذَفَ بِهِ فِي

النَّارِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ : { مَنْ كَتَمَ شَهَادَةً إذَا دُعِيَ إلَيْهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَ بِالزُّورِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مُنْكَرٌ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَبِيًا فَحَلَّ حَبْوَتَهُ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرَفِ لِسَانِهِ فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا } وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ثُمَّ قَرَأَ : { أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك إلَيَّ الْمَصِيرُ } وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَعَدَ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَيْنِ هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الْأُولَى وَقِيَاسُهَا الثَّانِيَةُ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ هِيَ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُهُ .
قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : وَعَدُّهَا كَبِيرَةً ظَاهِرٌ إنْ وَقَعَ فِي مَالٍ خَطِيرٍ ، فَإِنْ وَقَعَ فِي مَالٍ قَلِيلٍ كَزَبِيبَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ فَمُشْكِلٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مِنْ الْكَبَائِرِ فَطْمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كَمَا جُعِلَ شُرْبُ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمَفْسَدَةُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضْبَطَ ذَلِكَ الْمَالُ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ .
قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي مَا سَبَقَ عَنْ الْهَرَوِيِّ أَيْ وَهُوَ اشْتِرَاطُهُ فِي كَوْنِ الْغَصْبِ كَبِيرَةً أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ رُبُعَ دِينَارٍ ، لَكِنْ مَرَّ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ نَفْسِهِ أَنَّهُ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ غَصْبَ الْحَبَّةِ وَسَرِقَتَهَا كَبِيرَةٌ ، وَهَذَا مُؤَيِّدٌ لِلْأَوَّلِ أَعْنِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي كَوْنِ شَهَادَةِ الزُّورِ كَبِيرَةً بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ فَطْمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ جِدًّا وَمِنْ ثَمَّ جُعِلَتْ

عِدْلًا لِلشِّرْكِ ، وَوَقَعَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذِكْرِهَا مِنْ الْغَضَبِ وَالتَّكْرِيرِ مَا لَمْ يَقَعْ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهَا ، وَمِنْ ثَمَّ جُعِلَتْ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ .
قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ أَيْضًا وَإِذَا كَانَ الشَّاهِدُ بِهَا كَاذِبًا أَثِمَ ثَلَاثَةَ آثَامٍ .
إثْمَ الْمَعْصِيَةِ وَإِثْمَ إعَانَةِ الظَّالِمِ وَإِثْمَ خِذْلَانِ الْمَظْلُومِ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا أَثِمَ إثْمَ الْمَعْصِيَةِ لَا غَيْرُ لِتَسَبُّبِهِ إلَى إبْرَاءِ ذِمَّةِ الظَّالِمِ وَإِيصَالِ الْمَظْلُومِ إلَى حَقِّهِ .
قَالَ : وَمَنْ شَهِدَ بِحَقٍّ ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا أُجِرَ عَلَى قَصْدِهِ وَطَاعَتِهِ وَعَلَى إيصَالِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَعَلَى تَخْلِيصِ الظَّالِمِ مِنْ الظُّلْمِ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا بِسَبَبِ سُقُوطِ الْحَقِّ الَّذِي تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ بِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِسُقُوطِهِ أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ وَلَا يُثَابُ عَلَى شَهَادَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا مَضَرَّةٌ بِالْخَصْمَيْنِ .
قَالَ : وَفِي تَغْرِيمِهِ وَرُجُوعِهِ عَلَى الظَّالِمِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْ الْمَظْلُومِ نَظَرٌ .
إذْ الْخَطَأُ وَالْجَهْلُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُبَاشَرَاتِ سَوَاءٌ فِي بَابِ الضَّمَانِ ، انْتَهَى .
.

( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : كَتْمُ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ ) قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَتَمَ شَهَادَةً إذْ دُعِيَ إلَيْهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَ بِالزُّورِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ وَقَيَّدَهُ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ بِمَا إذَا دُعِيَ إلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } أَمَّا مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِرَجُلٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهَا أَوْ كَانَ شَاهِدًا فِي أَمْرٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّعْوَى بَلْ يَجُوزُ حِسْبَةً ، فَلَمْ يَشْهَدْ وَلَمْ يُعْلِمْ صَاحِبَ الْحَقِّ حَتَّى يَدَّعِيَ بِهِ هَلْ يُسَمَّى ذَلِكَ كَتْمًا ؟ فِيهِ نَظَرٌ .
وَكَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي الْأَدَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَادِحًا انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ لِمَا قَيَّدَ بِهِ فَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ .

( الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الْكَذِبُ الَّذِي فِيهِ حَدٌّ أَوْ ضَرَرٌ ) .
قَالَ تَعَالَى : { أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَالْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ مَعَ الْبِرِّ وَهُمَا فِي الْجَنَّةِ ؛ وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ وَهُمَا فِي النَّارِ } .
وَأَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَمَلُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : إذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ وَإِذَا بَرَّ آمَنَ وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَمَلُ النَّارِ ؟ قَالَ : الْكَذِبُ إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ فَجَرَ وَإِذَا فَجَرَ كَفَرَ وَإِذَا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ } .
وَالْبُخَارِيُّ : { رَأَيْت اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَقَالَا لِي : الَّذِي رَأَيْته يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَالشَّيْخَانِ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ } .
زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ : { وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .

وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ مُحْتَجٍّ بِهِ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَقَالَ إنِّي مُسْلِمٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحِ وَالْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا } .
وَأَبُو يَعْلَى : { لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ الْمُزَاحَ وَالْكَذِبَ وَيَدَعَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا } .
وَأَحْمَدُ { يُطْبَعُ الْمَرْءُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ : { وَيُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلَّةٍ غَيْرَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ } .
وَمَالِكٌ مُرْسَلًا : { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا ؟ قَالَ : لَا } .
وَأَحْمَدُ : { لَا يَجْتَمِعُ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ ، وَلَا يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعًا ، وَلَا تَجْتَمِعُ الْأَمَانَةُ وَالْخِيَانَةُ جَمِيعًا } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَأَبُو دَاوُد : { كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاك حَدِيثًا هُوَ لَك مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ كَاذِبٌ } .
وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد : { وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ } .
وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَلَا إنَّ الْكَذِبَ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ وَالنَّمِيمَةُ عَذَابُ الْقَبْرِ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { بِرُّ الْوَالِدَيْنِ يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ ، وَالْكَذِبُ يَنْقُصُ الرِّزْقَ ، وَالدُّعَاءُ يَرُدُّ الْقَضَاءَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ : { إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ الْمَلَكُ عَنْهُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَذِبِ مَا اطَّلَعَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَيَخْرُجُ مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ تَوْبَةً } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهَا قَالَتْ : { مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَذِبِ ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عَنْهُ الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ فِيهَا تَوْبَةً } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهَا قَالَتْ : { مَا كَانَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَذِبِ وَمَا جَرَّبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحَدٍ وَإِنْ قَلَّ فَيَخْرُجُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُجَدِّدَ لَهُ تَوْبَةً } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ لَا مَجْهُولَ فِيهِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قَالَتْ إحْدَانَا لِشَيْءٍ تَشْتَهِيهِ لَا أَشْتَهِيهِ أَيُعَدُّ ذَلِكَ كَذِبًا ؟ قَالَ إنَّ الْكَذِبَ يُكْتَبُ كَذِبًا حَتَّى تُكْتَبَ الْكُذَيْبَةُ كُذَيْبَةً } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ تَعَالَ هَاكَ أُعْطِيكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كَذِبَةٌ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَرَدْت أَنْ تُعْطِيهِ ؟ قَالَتْ أَرَدْت أَنْ أُعْطِيَهُ تَمْرًا ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا إنَّك لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْك كِذْبَةٌ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { وَيْلٌ

لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ - أَيْ فَقِيرٌ - مُسْتَكْبِرٌ } .
وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الشَّيْخُ الزَّانِي ، وَالْإِمَامُ أَوْ قَالَ وَالْمَلِكُ الْكَذَّابُ وَالْعَائِلُ الْمَزْهُوُّ } أَيْ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِهِ الْمُسْتَكْبِرُ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ قِيلَ لَكِنَّهُ مَعَ الضَّرَرِ لَيْسَ كَبِيرَةً مُطْلَقًا ، بَلْ قَدْ يَكُونُ كَبِيرَةً كَالْكَذِبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ لَا يَكُونُ ، انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ ، بَلْ الَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّهُ حَيْثُ اشْتَدَّ ضَرَرُهُ بِأَنْ لَا يُحْتَمَلَ عَادَةً كَانَ كَبِيرَةً ، بَلْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ فَقَالَ : مَنْ كَذَبَ قَصْدًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِغَيْرِهِ ، لِأَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ رَوَى فِيهِ حَدِيثًا ، وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَوْ صَرِيحُهَا يُوَافِقُهُ ، وَكَأَنَّ وَجْهَ عُدُولِهِمْ عَنْ ذَلِكَ ابْتِلَاءُ أَكْثَرِ النَّاسِ بِهِ فَكَانَ كَالْغِيبَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِيهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : قَدْ تَكُونُ الْكَذْبَةُ الْوَاحِدَةُ كَبِيرَةً ، وَفِي الْأُمِّ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلُّ مَنْ كَانَ مُنْكَشِفَ الْكَذِبِ مَظْهَرَهُ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ شَهَادَتُهُ ، ثُمَّ الْكَذِبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَعَلِمَ ذَلِكَ وَتَعَمَّدَهُ أَمْ لَا .
وَأَمَّا الْعِلْمُ وَالتَّعَمُّدُ فَإِنَّمَا هُمَا شَرْطَانِ لِلْإِثْمِ ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَيَّدُوهُ بِالْعِلْمِ بِهِ ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ أَخْبَرَ بِشَيْءٍ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَظُنُّهُ كَذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ فَلَيْسَ بِآثِمٍ فَيُقَيَّدُ كَوْنُهُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً

بِالْعِلْمِ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرِّسَالَةِ لَكِنَّ الْكَذْبَةَ الْوَاحِدَةَ أَيْ الْخَالِيَةَ عَمَّا مَرَّ مِنْ الْحَدِّ وَالضَّرَرِ لَا تُوجِبُ الْفِسْقَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ فِي بَابِ الرَّهْنِ ، وَلِهَذَا لَوْ تَخَاصَمَا فِي شَيْءٍ ثُمَّ شَهِدَا فِي حَادِثَةٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فِي ذَلِكَ التَّخَاصُمِ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ ، ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ تَعْلِيلِ وَمَحَلِّ ذَلِكَ إنْ خَلَتْ عَنْ الضَّرُورَةِ وَالْحَدِّ فَقَدْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : قَدْ تَكُونُ الْكَذْبَةُ الْوَاحِدَةُ كَبِيرَةً وَذَكَرَ فِي الْبَحْرِ حَدِيثًا مُرْسَلًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْطَلَ شَهَادَةَ رَجُلٍ فِي كَذِبَةٍ كَذَبَهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَذِبَ قَدْ يُبَاحُ وَقَدْ يَجِبُ ؛ وَالضَّابِطُ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ جَمِيعًا فَالْكَذِبُ فِيهِ حَرَامٌ ، وَإِنْ أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ بِالْكَذِبِ وَحْدَهُ فَمُبَاحٌ إنْ أُبِيحَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَوَاجِبٌ إنْ وَجَبَ تَحَصُّلُ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ رَأَى مَعْصُومًا اخْتَفَى مِنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ أَوْ إيذَاءَهُ فَالْكَذِبُ هُنَا وَاجِبٌ ؛ لِوُجُوبِ عِصْمَةِ دَمِ الْمَعْصُومِ ، وَكَذَا لَوْ سَأَلَ عَنْ وَدِيعَةٍ يُرِيدُ أَخْذَهَا فَيَجِبُ إنْكَارُهُ ، وَإِنْ كَذَبَ بَلْ لَوْ اُسْتُحْلِفَ لَزِمَهُ الْحَلِفُ وَيُوَرِّي وَإِلَّا حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَمَهْمَا كَانَ لَا يَتِمُّ مَقْصُودُ حَرْبٍ أَوْ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَوْ اسْتِمَالَةُ قَلْبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَّا بِالْكَذِبِ فَالْكَذِبُ فِيهِ مُبَاحٌ ، وَلَوْ سَأَلَهُ سُلْطَانٌ عَنْ فَاحِشَةٍ وَقَعَتْ مِنْهُ سِرًّا كَزِنًا أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ فَلَهُ أَنْ يَكْذِبَ وَيَقُولَ مَا فَعَلْت وَلَهُ أَيْضًا أَنْ يُنْكِرَ سِرَّ أَخِيهِ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَلِكَ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلَ مَفْسَدَةَ الْكَذِبِ بِالْمَفْسَدَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الصِّدْقِ فَإِنْ كَانَتْ مَفْسَدَةُ الصِّدْقِ

أَشَدَّ فَلَهُ الْكَذِبُ ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ أَوْ شَكَّ حَرُمَ الْكَذِبُ ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِنَفْسِهِ اُسْتُحِبَّ أَلَّا يَكْذِبَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ لَمْ تَجُزْ الْمُسَامَحَةُ لِحَقِّ غَيْرِهِ ، وَالْحَزْمُ تَرْكُهُ حَيْثُ أُبِيحَ ، وَلَيْسَ مِنْ الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ مَا اُعْتِيدَ مِنْ الْمُبَالَغَةِ كَجِئْتُك أَلْفَ مَرَّةٍ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَفْهِيمُ الْمُبَالَغَةِ لَا الْمَرَّاتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَاءَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ كَاذِبٌ ، انْتَهَى مُلَخَّصًا .
وَمَا قَالَهُ فِي الْمُبَالَغَةِ يَدُلُّ لَهُ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ : { وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَضَعُهَا كَثِيرًا ، وَمَا قَالَهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَلِفِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ ضَعِيفٌ وَالْأَصَحُّ عَدَمُ وُجُوبِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُبَاحِ يُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ اسْتِثْنَاءِ مَا فِيهِ صُلْحٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَوْ فِي الْحَرْبِ بِأَنْ يُوَرِّيَ بِغَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ قَاصِدُهَا أَوْ فِي الزَّوْجَةِ لِإِرَادَةِ إمْضَائِهَا بِهِ ، وَمِمَّا يُسْتَثْنَى أَيْضًا الْكَذِبُ فِي الشِّعْرِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فَلَا يُلْحَقُ بِالْكَذِبِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ ، قَالَ الْقَفَّالُ : وَالْكَذِبُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ الشُّعَرَاءِ وَالْكُتَّابِ فِي الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ : أَنَا أَدْعُو لَك لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا أُخَلِّي مَجْلِسًا عَنْ شُكْرِك ؛ لِأَنَّ الْكَاذِبَ يُظْهِرُ أَنَّ الْكَذِبَ صِدْقٌ وَيُرَوِّجُهُ ، وَلَيْسَ غَرَضُ الشَّاعِرِ الصِّدْقَ فِي شِعْرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ صِنَاعَةٌ وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ .
قَالَ الشَّيْخَانِ بَعْدَ نَقْلِهِمَا ذَلِكَ عَنْ الْقَفَّالِ وَالصَّيْدَلَانِيِّ : وَهَذَا حَسَنٌ بَالِغٌ .
انْتَهَى .
وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ تَتِمَّاتٌ فِي مَبْحَثِ الشِّعْرِ .
قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَحَيْثُ جَازَ الْكَذِبُ فَهَلْ تُشْتَرَطُ التَّوْرِيَةُ أَوْ تَجُوزُ مُطْلَقًا ؟ يُتَّجَهُ تَخْرِيجُ خِلَافٍ فِيهِ مِمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ ، وَقَدَرَ عَلَى

التَّوْرِيَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ ، وَالْأَصَحُّ لَا ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ ذَاكَ يَرْجِعُ إلَى النِّيَّةِ وَحْدَهَا ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ : أَيْ أَنَّ الْمُبَاحَ هَلْ هُوَ التَّصْرِيحُ أَوْ التَّعْرِيضُ فَإِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ .
انْتَهَى .
وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ عَدَمُ وُجُوبِ التَّوْرِيَةِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُجَوِّزَ لِلْكَذِبِ مُجَوِّزٌ لِتَرْكِ التَّوْرِيَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَرَجِ ، ثُمَّ رَأَيْت الْغَزَالِيَّ صَرَّحَ بِمَا قَدَّمْته عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْأَحْسَنُ أَنَّهُ يُوَرِّي وَهِيَ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظًا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنًى وَيُرِيدُ مَعْنًى آخَرَ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ ، لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ كَمَا قَالَ النَّخَعِيُّ : إذَا بَلَغَ إنْسَانًا عَنْك شَيْءٌ قُلْته فَقُلْ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا قُلْتَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا تُفْهِمُ السَّامِعَ النَّفْيَ وَمَقْصُودُك بِمَا أَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي ، وَهُوَ مُبَاحٌ إنْ دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ مَكْرُوهٌ إنْ لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ وَلَا يَحْرُمُ إلَّا إنْ تَوَصَّلَ بِهِ إلَى بَاطِلٍ أَوْ دَفْعِ حَقٍّ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرِّسَالَةِ ، وَمِنْ الْكَذِبِ الْكَذِبُ الْخَفِيُّ ، وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ الْإِنْسَانُ خَبَرًا عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ .
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ شَارِحُهَا : لِأَنَّ النَّفْسَ تَسْكُنُ إلَى خَبَرِ الثِّقَةِ فَيُصَدَّقُ فِي حَدِيثِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْخَبَرُ كَذِبًا فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْكَذِبِ قَالَ وَنَظِيرُهُ : { الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ } .
انْتَهَى .

( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الْجُلُوسُ مَعَ شَرَبَةِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُسَّاقِ إينَاسًا لَهُمْ ) .
وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ حَيْثُ قَالَ : أَقَرَّ الشَّيْخَانِ صَاحِبَ الْعُدَّةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الصَّغَائِرِ .
قُلْت : وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مَمْنُوعٌ ، بَلْ الْوَجْهُ أَنَّ جُلُوسَهُ مَعَ شَرَبَةِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّهْيِ أَوْ الْمُفَارَقَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا قَصَدَ اتِّبَاعَهُمْ بِجُلُوسِهِ مَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : مُجَالَسَةُ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ الْفَسَقَةِ ) .
وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ جُلُوسِهِ مَعَهُمْ حَالَ مُبَاشَرَتِهِمْ لِمَا فُسِّقُوا بِهِ وَمُجَانَبَتِهِمْ لَهُ ، وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّ أُولَئِكَ بِصُورَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ ، فَإِذَا كَانُوا مَعَ تِلْكَ الصُّوَرِ الظَّاهِرَةِ مُنْطَوِينَ عَلَى فِسْقٍ بَاطِنٍ مَثَلًا كَانَ فِي الْجُلُوسِ مَعَهُمْ خَطَرٌ كَبِيرٌ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ بِتَكْرِيرِ جُلُوسِهَا مَعَهُمْ تَأْلَفُهُمْ وَتَمِيلُ إلَى أَفْعَالِهِمْ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهَا مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الشَّرِّ وَكُلِّ مَا يَضُرُّهَا ، فَحِينَئِذٍ تَبْحَثُ عَنْ خِصَالِهِمْ وَتَتَأَسَّى بِهَا .
وَمِنْ جُمْلَتِهَا ذَلِكَ الْمُفَسِّقُ فَتَرْتَكِبُهُ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَلِمَا أَلِفَتْهُ مِنْ التَّأَسِّي بِأُولَئِكَ الْفَسَقَةِ ، فَكَانَ فِي مُجَالَسَتِهِمْ ذَلِكَ الضَّرَرُ الْعَظِيمُ .
هَذَا غَايَةُ مَا تُوَجَّهُ بِهِ هَذِهِ الْمَقَالَةُ ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ هَذَا لَا يُوَافِقُ مَذْهَبَنَا لِأَنَّهُمْ إذَا عَدُّوا الْجُلُوسَ مَعَ الْفَسَقَةِ فِي حَالِ فِسْقِهِمْ صَغِيرَةً عَلَى خِلَافِ مَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ فَأَوْلَى هَذَا ؛ وَأَمَّا عَلَى مَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا أَنَّ حَاضِرَ تَعَاطِي الْفِسْقِ قَادِرًا عَلَى إزَالَتِهِ مُخْتَارًا يُعَدُّ مُقَرِّرًا لَهُ رَاضِيًا بِهِ مُعِينًا عَلَيْهِ .
وَهَذِهِ قَبَائِحُ لَا يَبْعُدُ عَدُّ مَجْمُوعِهَا كَبِيرَةً ، وَبِهِ يُتَّجَهُ مَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْجُلُوسِ مَعَ فَاسِقٍ قَارِئٍ أَوْ فَقِيهٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مَعَ عَدَمِ مُبَاشَرَتِهِ لِمُفَسِّقٍ ، فَيَبْعُدُ عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً ، بَلْ الْكَلَامُ فِي حُرْمَتِهِ مِنْ أَصْلِهِ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُ إينَاسَهُ لِأَجْلِ فِسْقِهِ أَوْ مَعَ وَصْفِ فِسْقِهِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إينَاسَهُ لِنَحْوِ قَرَابَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مُبَاحَةٍ لَهُ عِنْدَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ لَا وَجْهَ لِلْحُرْمَةِ

مِنْ أَصْلِهَا ، فَإِنْ قَصَدَ إينَاسَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ فَاسِقًا فَلَا شَكَّ فِي حُرْمَةِ ذَلِكَ ، ثُمَّ رَأَيْت الْغَزَالِيَّ عَدَّ مِنْ الذُّنُوبِ مُصَادَقَةَ الْفُجَّارِ ، وَمُجَالَسَةَ الشُّرَّابِ وَقْتَ الشُّرْبِ ، وَالْأَوَّلُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُجَرَّدَ الْمُصَادَقَةِ حَرَامٌ وَإِنْ لَمْ يُجَالِسْهُمْ ، وَالثَّانِي صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُجَرَّدَ الْمُجَالَسَةِ مِنْ غَيْرِ مُصَادَقَةٍ وَلَا قَصْدِ إينَاسٍ لَا إثْمَ فِيهَا وَهُوَ يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْته .

( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الْقِمَارُ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَقِلًّا أَوْ مُقْتَرِنًا بِلَعِبٍ مَكْرُوهٍ كَالشِّطْرَنْجِ أَوْ مُحَرَّمٍ كَالنَّرْدِ ) .
قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } وَالْمَيْسِرُ الْقِمَارُ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ ، وَسَبَبُ النَّهْيِ عَنْهُ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ أَنَّهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } أَيْضًا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْك فَلْيَتَصَدَّقْ } ، فَإِذَا اقْتَضَى مُطْلَقُ الْقَوْلِ طَلَبَ الْكَفَّارَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ عَظِيمِ مَا وَجَبَتْ أَوْ سُنَّتْ فَمَا ظَنُّك بِالْفِعْلِ وَالْمُبَاشَرَةِ ؟ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا صَرِيحُ الْآيَةِ الْأُولَى وَهُوَ ظَاهِرٌ .

( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ ، وَقِيلَ فِيهِ انْقِطَاعٌ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَعِبَ بِنَرْدٍ أَوْ نَرْدَشِيرَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
وَمُسْلِمٌ : { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ - أَيْ بِفَتْحِ الدَّالِ - فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ بِدَمِ خِنْزِيرٍ } .
وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ : { فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَثَلُ الَّذِي يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ثُمَّ يَقُومُ يُصَلِّي مَثَلُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِالْقَيْحِ وَدَمِ الْخِنْزِيرِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي } .
أَيْ فَلَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ : { مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالنَّرْدِ فَقَالَ قُلُوبٌ لَاهِيَةٌ وَأَيْدٍ عَامِلَةٌ وَأَلْسِنَةٌ لَاغِيَةٌ } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ : { إيَّاكُمْ وَهَاتَانِ الْكَعْبَتَانِ الْمَرْسُومَتَانِ اللَّتَانِ يُزْجَرَانِ زَجْرًا فَإِنَّهُمَا مَيْسِرُ الْعَجَمِ } .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ : { اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكِعَابَ الْمَرْسُومَةَ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زَجْرًا فَإِنَّهَا مِنْ الْمَيْسِرِ } .
وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ : { إذَا مَرَرْتُمْ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَلْعَبُونَ بِهَذِهِ الْأَزْلَامِ وَالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ - أَيْ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ لَهْوٍ مُحَرَّمٍ - فَلَا تُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ وَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَلَا تَرُدُّوا } .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ : { اتَّقُوا هَذَيْنِ الْكَعْبَيْنِ الْمَرْسُومَيْنِ اللَّذَيْنِ يُزْجَرَانِ زَجْرًا فَإِنَّهُمَا مِنْ مَيْسِرِ الْعَجَمِ } .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ : { ثَلَاثٌ مِنْ

الْمَيْسِرِ : الْقِمَارُ وَالضَّرْبُ بِالْكِعَابِ وَالصَّفِيرُ بِالْحَمَامِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا سِيَّمَا الْخَبَرَ الثَّانِيَ وَالْخَبَرَ الثَّالِثَ ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ الَّذِي فِيهِمَا يُفِيدُ وَعِيدًا شَدِيدًا لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إلَّا عَدَمُ قَبُولِ الصَّلَاةِ ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ فِي الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا : يَحْرُمُ اللَّعِبُ بِهِ ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ وَيُفَسَّقُ بِهِ وَتُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ انْتَهَى ، وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ فَصَرَّحَ بِهِ فِي حَاوِيهِ ، وَعِبَارَتُهُ : الصَّحِيحُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ تَحْرِيمُ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَأَنَّهُ فِسْقٌ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ انْتَهَتْ ، وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ عَلَى عَادَتِهِ فَقَالَ : بَعْدَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَأَكْرَهُ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ لِلْخَبَرِ ؛ قَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا : يُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَتُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ وَالْكَرَاهَةُ لِلتَّحْرِيمِ .
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : هُوَ كَالشِّطْرَنْجِ سَوَاءٌ وَهَذَا غَلَطٌ .
انْتَهَى .
وَعِبَارَةُ تَجْرِبَةِ الرُّويَانِيِّ : وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فُسِّقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَعِبَارَةُ الْمَحَامِلِيِّ فِي مَجْمُوعِهِ : مَنْ لَعِبَ بِهِ فُسِّقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا إلَّا أَبَا إِسْحَاقَ .
قَالَ هُوَ كَالشِّطْرَنْجِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَذْهَبُ .
انْتَهَى .
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ فَقَالَ : مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ عَالِمًا بِمَا جَاءَ فِيهِ مُسْتَحْضِرًا لَهُ فُسِّقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي أَيِّ بَلَدٍ كَانَ لَا مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْمُرُوءَةِ بَلْ لِارْتِكَابِ النَّهْيِ الشَّدِيدِ .
انْتَهَى .
وَاَلَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ وَسَبَقَهُ إلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّهُ صَغِيرَةٌ ، وَعِبَارَةُ الرَّافِعِيِّ مَا حَكَمْنَا بِتَحْرِيمِهِ كَالنَّرْدِ .
فَهَلْ هُوَ مِنْ

الْكَبَائِرِ حَتَّى تُرَدَّ الشَّهَادَةُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ الصَّغَائِرِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِكْثَارُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : كَلَامُ الْإِمَامِ يَمِيلُ إلَى تَرْجِيحِ أَوَّلِهِمَا وَالْأَشْبَهُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ .
انْتَهَى .
وَاعْتَمَدَهُ الْإِسْنَوِيُّ فَقَالَ : وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ كَذَا رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ الْفَصْلِ ثُمَّ أَوْرَدَ كَلَامَهُ هَذَا ثُمَّ قَالَ : وَرَجَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ لَكِنْ اعْتَرَضَ الْبُلْقِينِيُّ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فَقَالَ : إنْ كَانَ مَوْرِدُ التَّصْحِيحِ مَا صَحَّحَهُ الْأَكْثَرُ فَقَدْ نَقَلَ الْمَحَامِلِيُّ فِي التَّجْرِيدِ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ مِثْلَ مَا صَحَّحَهُ الْإِمَامُ : أَيْ مِنْ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا ، وَذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَقَالَ إنَّهُ الصَّحِيحُ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُ الرَّافِعِيِّ : إنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الدَّلِيلَ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مُدَّعَاهُ ؟ .
انْتَهَى .
وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ صَغِيرَةٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَا مَرَّ مِنْ النَّقْلِ عَنْهُمْ ، وَلِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا لِمَا مَرَّ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِيهِ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ ؛ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : يُنْظَرُ إلَى عَادَةِ الْبَلَدِ فَحَيْثُ اسْتَعْظَمُوهُ رُدَّتْ الشَّهَادَةُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ ضَعِيفَةٌ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ صَغِيرَةٌ فَمَحَلُّهُ حَيْثُ خَلَا عَنْ الْقِمَارِ وَإِلَّا فَهُوَ كَبِيرَةٌ بِلَا نِزَاعٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ وَهُوَ وَاضِحٌ .
إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ فِي اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ أَرْبَعَةَ آرَاءٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَعَلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْإسْفَرايِينِيّ ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ خَيْرَانِ وَاخْتَارَهُ أَبُو الطَّيِّبِ وَمَرَّ

أَنَّهُ غَلَطٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِمُخَالَفَتِهِ الْمَنْقُولَ وَالدَّلِيلَ .
وَقَوْلُ جَمَاعَةٍ إنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَغَيْرِهَا مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّعَلُّقُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَثِيرًا مَا يُطْلِقُ الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُ بِهَا التَّحْرِيمَ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْبَيَانِ كَمَا مَرَّ إنَّ الْمَنْصُوصَ فِي الْأُمِّ التَّحْرِيمُ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ : أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَقَالُوا إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَمِمَّا يُزَيِّفُ الْقَوْلَ بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ نَقْلُ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِهِ مُطْلَقًا ، وَنَقْلُ الْمُوَفَّقِ الْحَنْبَلِيِّ فِي مُغْنِيهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِهِ .
ثَانِيهَا : أَنَّهُ حَرَامٌ صَغِيرَةً وَمَرَّ أَنَّ الرَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ رَجَّحُوهُ .
ثَالِثُهَا : أَنَّهُ حَرَامٌ كَبِيرَةٌ وَمَرَّ أَنَّهُ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْخَبَرُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِيهِ .
رَابِعُهَا : التَّفْصِيلُ بَيْنَ بَلَدٍ يَسْتَعْظِمُونَ ذَلِكَ فَتُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهِ وَبَلَدٍ لَا يَسْتَعْظِمُونَهُ فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ إلَّا إنْ كَثُرَ مِنْهُ ؛ وَسُمِّيَ نَرْدَشِيرَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ نِسْبَةً لِأَوَّلِ مُلُوكِ الْفُرْسِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَهُ ذَكَرَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ .
وَقَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ : يُقَالُ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ ثَانِي مُلُوكِ السَّاسَانِ وَلِأَجْلِهِ يُقَالُ لَهُ النَّرْدَشِيرُ ، وَشَبَّهَ رُقْعَتَهُ بِالْأَرْضِ وَقَسَّمَهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ تَشْبِيهًا بِالْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قِيلَ إنَّهُ عَلَى الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَالْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ لِأَنَّ بُيُوتَهُ اثْنَا عَشَرَ كَالْبُرُوجِ وَنَقَّطَهُ مِنْ جَانِبَيْ الْقَصْرِ سَبْعًا كَالْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ فَعَدَلَ بِهِ إلَى تَدْبِيرِ الْكَوَاكِبِ وَالْبُرُوجِ .

( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ وَهُمْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَكَذَا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِحِلِّهِ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ قِمَارٌ أَوْ إخْرَاجُ صَلَاةٍ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ سِبَابٍ أَوْ نَحْوُهَا ) .
أَخْرَجَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي جَامِعِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً إلَى خَلْقِهِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الشَّاهِ فِيهَا نَصِيبٌ } .
وَفُسِّرَ صَاحِبُ الشَّاهِ بِلَاعِبِ الشِّطْرَنْجِ لِأَنَّهُ يَقُولُ شَاهٍ .
وَأَبُو بَكْرٌ الْآجُرِّيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إذَا مَرَرْتُمْ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَلْعَبُونَ بِهَذِهِ الْأَزْلَامِ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَمَا كَانَ مِنْ اللَّهْوِ فَلَا تُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا وَأَكَبُّوا عَلَيْهَا جَاءَهُمْ الشَّيْطَانُ بِجُنُودِهِ فَمَا يَزَالُونَ يَلْعَبُونَ حَتَّى يَتَفَرَّقُوا كَالْكِلَابِ اجْتَمَعَتْ عَلَى جِيفَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا حَتَّى مَلَأَتْ بُطُونَهَا ثُمَّ تَفَرَّقَتْ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَاحِبُ الشَّاهِ - يَعْنِي صَاحِبَ الشِّطْرَنْجِ - أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ قَتَلْته وَاَللَّهِ مَاتَ وَاَللَّهِ افْتِرَاءً وَكَذِبًا عَلَى اللَّهِ } .
قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْأَعَاجِمِ ، وَمَرَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْمٍ يَلْعَبُونَ الشِّطْرَنْجَ فَقَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ لَأَنْ يَمَسَّ أَحَدُكُمْ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَأَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لِغَيْرِ هَذَا خُلِقْتُمْ .
وَقَالَ أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : صَاحِبُ الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ النَّاسِ كَذِبًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ قَتَلْت وَمَا قَتَلَ وَمَاتَ وَمَا مَاتَ .

وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ إلَّا خَاطِئٌ .
وَقِيلَ لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ : أَتَرَى فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ بَأْسًا ؟ فَقَالَ : الْبَأْسُ كُلُّهُ فِيهِ .
فَقِيلَ لَهُ أَهْلُ الثُّغُورِ يَلْعَبُونَ بِهَا لِأَجْلِ الْحَرْبِ فَقَالَ هُوَ فُجُورٌ .
وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : أَدْنَى مَا يَكُونُ فِيهَا أَنَّ اللَّاعِبَ بِهَا يُعْرَضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَوْ قَالَ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَصْحَابِ الْبَاطِلِ .
وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الشِّطْرَنْجِ فَقَالَ هِيَ شَرٌّ مِنْ الْمَيْسِرِ ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الشِّطْرَنْجِ : الشِّطْرَنْجُ مِنْ النَّرْدِ : أَيْ وَمَرَّ فِي النَّرْدِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ وَلِيَ مَالًا لِيَتِيمٍ فَوَجَدَهَا فِي تَرِكَةِ وَالِدِ الْيَتِيمِ فَأَحْرَقَهَا وَلَوْ كَانَ اللَّعِبُ بِهَا حَلَالًا لَمَا جَازَ إحْرَاقُهَا لِكَوْنِهَا مَالَ يَتِيمٍ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّعِبُ بِهَا حَرَامًا أَحْرَقَهَا فَتَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْخَمْرِ إذَا وُجِدَتْ فِي مَالِ يَتِيمٍ تَجِبُ إرَاقَتُهَا ، وَهَذَا مَذْهَبُ حَبْرِ الْأُمَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ : مَا تَقُولُ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ ؟ فَقَالَ : إنَّهُ مَلْعُونٌ .
وَقَالَ وَكِيعٌ الْجَرَّاحُ وَسُفْيَانُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ } هِيَ الشِّطْرَنْجُ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إلَّا مُثِّلَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ الَّذِي كَانَ يُجَالِسُهُمْ ، فَاحْتُضِرَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ فَقِيلَ لَهُ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَ شَاهَك ثُمَّ مَاتَ فَغَلَبَ عَلَى لِسَانِهِ مَا كَانَ يَعْتَادُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ مِنْ اللَّعِبِ بِهَا ، فَقَالَ ذَلِكَ اللَّغْوَ الْبَاطِلَ عِوَضَ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ الَّتِي أَخْبَرَ الصَّادِقُ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ آخِرَ كَلَامِهِ فِي الدُّنْيَا دَخَلَ الْجَنَّةَ أَيْ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ، وَإِنَّمَا أَوَّلْنَاهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَإِنْ عُذِّبَ ، فَلَيْسَ لِلْإِخْبَارِ فَائِدَةٌ بِأَنَّ خَتْمَ الْكَلَامِ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ يَقْتَضِي دُخُولَ الْجَنَّةِ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَزِيَّةً اقْتَضَتْ تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ ، وَتِلْكَ الْمَزِيَّةُ هِيَ إمَّا دُخُولُهُ لَهَا مَعَ النَّاجِينَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ أَوْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُخَفِّفُ عَنْهُ مِمَّا اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْعَذَابِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَوَانِ الَّذِي كَانَ يَسْتَحِقُّهُ لَوْ لَمْ يُخْتَمْ لَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ .
وَنَظِيرُ مَا ذُكِرَ عَنْ هَذَا الْمَخْتُومِ لَهُ بِقَوْلِهِ شَاهَكَ مَا جَاءَ عَنْ إنْسَانٍ كَانَ يُجَالِسُ شَرَبَةَ الْخَمْرِ ، فَلَمَّا اُحْتُضِرَ لُقِّنَ الشَّهَادَةَ فَقَالَ لِمَنْ يُلَقِّنُهُ اشْرَبْ وَاسْقِنِي ثُمَّ مَاتَ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ، وَهَذَا مِصْدَاقُ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : { يَمُوتُ كُلُّ إنْسَانٍ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ } .
فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْغَنِيَّ الْمَنَّانَ بِفَضْلِهِ أَنْ يَتَوَفَّانَا وَأَنْ يَبْعَثَنَا عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ إلَى أَنْ نَلْقَاهُ وَهُوَ رَاضٍ عَنَّا بِكَرْمِهِ هُوَ الْجَوَادُ الرَّحِيمُ آمِينَ .
وَفِي فَتَاوَى النَّوَوِيِّ : الشِّطْرَنْجُ حَرَامٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَكَذَا عِنْدَنَا إنْ فَوَّتَ بِهِ صَلَاةً عَنْ وَقْتِهَا أَوْ لَعِبَ بِهِ عَلَى عِوَضٍ ، فَإِنْ انْتَفَى ذَلِكَ كُرِهَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَحَرُمَ عِنْدَ غَيْرِهِ .
فَإِنْ قُلْت : كَوْنُ الشِّطْرَنْجِ كَبِيرَةً عِنْدَ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ وَإِنْ خَلَا عَنْ الْقِمَارِ وَتَضْيِيعِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَا مَرَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ ، لِأَنَّ إلْحَاقَهُ بِالْمَيْسِرِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِ مَالِكٍ وَكَوْنُهُ شَرًّا مِنْهُ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ ابْنِ

عُمَرَ وَإِحْرَاقُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً ، وَكَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ إنَّ الْبَأْسَ كُلَّهُ فِيهِ وَإِنَّهُ فُجُورٌ ، وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ وَكِيعٍ وَسُفْيَانَ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ فِي الْآيَةِ بِاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا ظَوَاهِرُ فِي أَنَّهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِهِ كَبِيرَةٌ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ كَبِيرَةً عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِحِلِّهِ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا مَرَّ فَالْكَبِيرَةُ إنَّمَا جَاءَتْ الْمُنْضَمَّ إلَيْهِ لَا مِنْ ذَاتِهِ .
قُلْت : نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ ، لَكِنْ قَدْ يُفِيدُ الِانْضِمَامُ مِنْ الْقَبِيحِ مَا لَمْ يُفِدْهُ الِانْفِرَادُ فَلَا يَبْعُدُ جَعْلُ هَذَا الِانْضِمَامِ مُقْتَضِيًا لِمَزِيدِ التَّغْلِيظِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ بِتَسْمِيَتِهِ كَبِيرَةً نَظَرًا لِذَلِكَ .
فَإِنْ قُلْت : لَوْ اسْتَغْرَقَهُ اللَّعِبُ بِهِ حَتَّى أَخْرَجَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لِذَلِكَ ، فَمَا وَجْهُ تَأْثِيمِهِ مَعَ أَنَّهُ الْآنَ غَافِلٌ وَالْغَافِلُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَيَسْتَحِيلُ تَأْثِيمُهُ ؟ .
قُلْت : مَحَلُّ عَدَمِ تَكْلِيفِ النَّاسِي وَالْغَافِلِ حَيْثُ لَمْ يَنْشَأْ النِّسْيَانُ وَالْغَفْلَةُ وَالْجَهْلُ عَنْ تَقْصِيرِهِ وَإِلَّا كَانَ مُكَلَّفًا آثِمًا ؛ أَمَّا فِي الْغَفْلَةِ فَلِمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الشِّطْرَنْجِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِاسْتِغْرَاقِهِ فِي اللَّعِبِ بِهِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ؛ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْغَفْلَةَ نَشَأَتْ عَنْ تَقْصِيرِهِ بِمَزِيدِ إكْبَابِهِ وَمُلَازَمَتِهِ عَلَى هَذَا الْمَكْرُوهِ حَتَّى ضَيَّعَ بِسَبَبِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا فِي الْجَهْلِ فَلِمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ إنْسَانٌ فَمَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ وَلَمْ يُجَهَّزْ وَلَا صُلِّيَ عَلَيْهِ أَثِمَ جَارُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ ، لِأَنَّ تَرْكَهُ الْبَحْثَ عَنْ أَحْوَالِ جَارِهِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ تَقْصِيرٌ شَدِيدٌ فَلَمْ يَبْعُدْ الْقَوْلُ بِعِصْيَانِهِ وَتَأْثِيمِهِ .
فَإِنْ قُلْت : مَا الْفَرْقُ عِنْدَنَا بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ ؟ قُلْت : فَرَّقَ أَئِمَّتُنَا بِأَنَّ التَّعْوِيلَ فِي

النَّرْدِ مَا يُخْرِجُهُ الْكَعْبَانِ فَهُوَ كَالْأَزْلَامِ ، وَفِي الشِّطْرَنْجِ عَلَى الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ وَأَنَّهُ يَنْفَعُ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَأَكْرَهُ اللَّعِبَ بِالْحُزَّةِ وَالْقِرْقِ انْتَهَى ، وَالْحُزَّةُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَزَايٍ مُشَدَّدَةٍ قِطْعَةُ خَشَبٍ يُحْفَرُ فِيهَا حُفَرُ ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ وَيُجْعَلُ فِيهَا حَصًى صِغَارٌ يُلْعَبُ بِهَا وَقَدْ تُسَمَّى الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ فِي مِصْرَ الْمِنْقَلَةُ ، وَفَسَّرَهَا سُلَيْمٌ فِي تَقْرِيبِهِ بِأَنَّهَا خَشَبَةٌ يُحْفَرُ فِيهَا ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ حُفْرَةً أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ جَانِبٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَيُلْعَبُ بِهَا وَلَعَلَّهَا نَوْعَانِ فَلَا تَخَالُفَ ، وَالْقِرْقُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ خَطِّ الْقَاضِي الرُّويَانِيِّ فَتْحَهُمَا وَتُسَمَّى شِطْرَنْجَ الْمَغَارِبَةِ أَنْ يُخَطَّ عَلَى الْأَرْضِ خَطٌّ مُرَبَّعٌ وَيُجْعَلَ فِي وَسَطِهِ خَطَّانِ كَالصَّلِيبِ وَيُجْعَلَ عَلَى رَأْسِ الْخُطُوطِ حَصًى صِغَارٌ يُلْعَبُ بِهَا .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَفِي الشَّامِلِ أَنَّ اللَّعِبَ بِهِمَا كَهُوَ بِالنَّرْدِ .
وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ كَالشِّطْرَنْجِ وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ مَا يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى إخْرَاجِ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ كَالنَّرْدِ وَمَا يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى الْفِكْرِ فَهُوَ كَالشِّطْرَنْجِ : قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ مَلِيحٌ مُوَافِقٌ لِفَرْقِ الْجُمْهُورِ بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ ؛ ثُمَّ نَازَعَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ بِأَنَّ الْمَحَامِلِيَّ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّ الْحُزَّةَ كَالنَّرْدِ ، وَسُلَيْمًا نَقَلَ عَنْهُ أَنَّ الْحُزَّةَ وَالْقِرْقَ كَالنَّرْدِ وَبِأَنَّ الْبَنْدَنِيجِيَّ صَرَّحَ بِأَنَّهَا كَالنَّرْدِ ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ رُوَاةُ طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَتَعْلِيقُهُ وَهُوَ مَا أَوْرَدَهُ الرُّويَانِيُّ وَالْعِمْرَانِيُّ .
وَنَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ أَنَّ تَحْرِيمَهَا هُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ

الْبَنْدَنِيجِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةَ الرَّافِعِيِّ عَنْ تَعْلِيقِ أَبِي حَامِدٍ وَمَا بَحَثَهُ وَأَقَرَّهُ .
وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ : يُؤْخَذُ مِنْ بَحْثِ الرَّافِعِيِّ الْقِرْقُ السَّابِقُ حِلُّهُمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى الْفِكْرِ لَا عَلَى شَيْءٍ يُرْمَى وَأَسْقَطَ مِنْ الرَّوْضَةِ هَذَا الْبَحْثَ .
انْتَهَى .
وَاعْتَرَضَ الْأَذْرَعِيُّ مَا ذَكَرَهُ بِمَا مَرَّ عَنْ سُلَيْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّهُمَا فِي مَعْنَى النَّرْدِ سَوَاءٌ ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُعْتَمَدُ فِيهِمَا الْفِكْرَ لَمْ يَكُونَا كَالنَّرْدِ سَوَاءٌ ، ثُمَّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ الْبِلَادِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، انْتَهَى .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ جَدْوَى لِأَنَّ الضَّابِطَ إذَا عُرِفَ وَتَقَرَّرَ أُدِيرَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ ، فَمَتَى كَانَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى الْفِكْرِ وَالْحِسَابِ فَلَا وَجْهَ إلَّا الْحِلَّ كَالشِّطْرَنْجِ ، وَمَتَى كَانَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ فَلَا وَجْهَ إلَّا الْحُرْمَةُ كَالنَّرْدِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَقَضِيَّةُ مَا مَرَّ عَنْ الرَّافِعِيِّ وَقَوْلِ الْمَاوَرْدِيِّ الصَّحِيحُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ تَحْرِيمُ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ ، وَأَنَّهُ فِسْقٌ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، وَهَكَذَا اللَّعِبُ بِالْأَرْبَعَةِ عَشَرَ الْمُفَوِّضَةَ إلَى الْكِعَابِ وَمَا ضَاهَاهَا فَهِيَ فِي حُكْمِ النَّرْدِ فِي التَّحْرِيمِ .
ا هـ .
وَتَحْرِيمُ اللَّعِبِ بِمَا تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ الطَّابُ وَالدَّكُّ فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ فِيهِ عَلَى مَا تُخْرِجُهُ الْقَصَبَاتُ الْأَرْبَعُ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ إذَا خَلَا عَنْ الْقِمَارِ وَالسُّخْفِ ، لَكِنَّهُ قَدْ يَجُرُّ إلَيْهِمَا .
وَذَكَرَ نَحْوَهُ فِي الْخَادِمِ قَالَ وَمِثْلُهُ الْكُنْحُفَةُ وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالْخَاتَمِ فَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْمُسَابَقَةِ يَقْتَضِي أَيْضًا وَيُلْحَقُ بِاللَّعِبِ بِالنَّرْدِ اللَّعِبُ بِالْأَرْبَعَةِ عَشَرَ وَبِالصَّدْرِ وَالسُّلْفَةِ وَالثَّوَاقِيلِ وَالْكِعَابِ وَالرَّبَارِيبِ وَالذَّرَّافَاتِ .
قَالَ : وَكُلُّ مَنْ

لَعِبَ بِهَذَا الْجِنْسِ فَسَخِيفٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ قِمَارًا أَوْ غَيْرَهُ انْتَهَى .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَبَعْضُ مَا ذَكَرَ لَا أَعْرِفُهُ .

( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْخَمْسُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : ضَرْبُ وَتَرٍ وَاسْتِمَاعُهُ وَزَمْرٌ بِمِزْمَارٍ وَاسْتِمَاعُهُ وَضَرْبٌ بِكُوبَةٍ وَاسْتِمَاعُهُ ) قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَهْوَ الْحَدِيثِ بِالْمَلَاهِي وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْت مِنْهُمْ بِصَوْتِك } فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ بِالْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ ، وَسَيَأْتِي حَدِيثٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِكُلِّ مُذْنِبٍ إلَّا لِصَاحِبِ عَرْطَبَةٍ أَوْ عَرْطَابَةٍ أَوْ كُوبَةٍ ، وَالْأُولَى الْعُودُ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ السِّتِّ تَبِعْت فِيهِ الْأَكْثَرِينَ فِي بَعْضِهَا وَقِيَاسُهُ الْبَاقِي ، بَلْ فِي الشَّامِلِ كَمَا يَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي الْكُلِّ .
قَالَ الْإِمَامُ : قَالَ شَيْخِي أَبُو مُحَمَّدٍ : سَمَاعُ الْأَوْتَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا تُرَدُّ بِالْإِصْرَارِ .
وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَمُعْظَمُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ هَذَا لَفْظُهُ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ ، قَالَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَمَاعِ الْأَوْتَارِ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا مَرَّةً يُشْعِرُ بِالِانْحِلَالِ وَإِلَّا فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ ، وَطَرَدَ الْإِمَامُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا يُجَانِسُهُ .
وَتَوَقَّفَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فِيمَا نَسَبَهُ الْإِمَامُ لِلْعِرَاقِيِّينَ وَقَالَ : لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ صَرَّحَ بِهِ بَلْ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ مِنْهُمْ بِنَقِيضِ مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ فَقَالَ : إذَا قُلْنَا بِتَحْرِيمِ الْأَغَانِي وَالْمَلَاهِي فَهِيَ مِنْ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ تَفْتَقِرُ إلَى الِاسْتِغْفَارِ وَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ إلَّا بِالْإِصْرَارِ ، وَمَتَى قُلْنَا

بِكَرَاهَةِ شَيْءٍ مِنْهَا فَهِيَ مِنْ الْخَلَاعَةِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الِاسْتِغْفَارِ وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهَا إلَّا مَعَ الْإِكْثَارِ انْتَهَى .
وَتَابَعَهُ فِي ( الْمُهَذَّبِ ) وَكَذَلِكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيقِهِ : قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَوْ جَلَسَ عَلَى الدِّيبَاجِ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ يَنْعَقِدْ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الشَّهَادَةِ فِيهِ كَالْأَدَاءِ ، وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ الْمُحَصِّلُونَ أَنَّ هَذَا مِنْ الصَّغَائِرِ وَمَا يَنْدُرُ مِنْهُ لَا يُوجِبُ الْفِسْقَ وَتَابَعَهُ الْفُورَانِيُّ فِي الْإِنَابَةِ وَرَدَّ إنْكَارَ ابْنِ أَبِي الدَّمِ عَلَى الْإِمَامِ مَا ذَكَرَ بِأَنَّ الْمَحَلِّيَّ صَرَّحَ فِي ذَخَائِرِهِ بِمَا يُوَافِقُهُ ، فَقَالَ إنَّ كَوْنَ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّامِلِ حَيْثُ قَالَ : مَنْ اسْتَمَعَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فَسَقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ تَكْرَارَ السَّمَاعِ .
انْتَهَى .
هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الْقَائِلِينَ بِالْحُرْمَةِ ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَقَالَاتٌ لَا بَأْسَ بِبَيَانِهَا فَنَقُولُ : يَحْرُمُ ضَرْبُ وَاسْتِمَاعُ كُلِّ مُطْرِبٍ كَطُنْبُورٍ وَعُودٍ وَرَبَابٍ وَجُنْكٍ وَكَمَنْجَةٍ وَدِرِّيجٍ وَصَنْجٍ وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ وَيَرَاعٍ وَهُوَ الشَّبَّابَةُ وَكُوبَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْتَارِ وَالْمَعَازِفِ جَمْعُ مِعْزَفَةٍ ، قِيلَ هِيَ أَصْوَاتُ الْقَيَانِ إذَا كَانَتْ مَعَ الْعُودِ وَإِلَّا فَلَا يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ ، وَقِيلَ هِيَ كُلُّ ذِي وَتَرٍ لِأَنَّهَا آلَاتُ الشُّرْبِ فَتَدْعُو إلَيْهِ ، وَفِيهَا تَشَبُّهٌ بِأَهْلِهِ وَهُوَ حَرَامٌ وَلِذَلِكَ لَوْ رَتَّبَ جَمَاعَةٌ مَجْلِسًا وَأَحْضَرُوا لَهُ آلَةَ الشُّرْبِ وَأَقْدَاحَهُ وَصَبُّوا فِيهِ السَّكَنْجَبِين وَنَصَبُوا سَاقِيًّا يَدُورُ عَلَيْهِمْ وَيَسْقِيهِمْ وَيُجِيبُ بَعْضُهُمْ بِكَلِمَاتِهِمْ الْمُعْتَادَةِ مِنْهُمْ حَرُمَ ذَلِكَ ، وَصَحَّ مِنْ طُرُقٍ خِلَافًا لِمَا وَهَمَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ فَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ وَوَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو دَاوُد بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ لَا مَطْعَنَ فِيهَا

وَصَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ .
عَلَى أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ الْعَدْلَ الرَّاوِيَ إذَا رَوَى عَمَّنْ أَدْرَكَهُ مِنْ الْعُدُولِ فَهُوَ عَلَى اللِّقَاءِ وَالسَّمَاعِ سَوَاءٌ .
قَالَ أَخْبَرَنَا أَمْ حَدَّثَنَا أَوْ عَنْ فُلَانٍ أَوْ قَالَ فُلَانٌ فَكُلُّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُ عَلَى السَّمَاعِ .
انْتَهَى .
فَتَأَمَّلْ تَنَاقُضَهُ لِنَفْسِهِ حَيْثُ حَكَمَ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ .
قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ : حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ وَسَاقَ سَنَدَهُ إلَى أَبِي عَامِرٍ وَأَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيَكُونُ فِي أُمَّتِي قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ } - أَيْ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مَعَ التَّخْفِيفِ : وَهُوَ الْفَرْجُ أَيْ الزِّنَا - { وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ } وَهَذَا صَرِيحٌ ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ آلَاتِ اللَّهْوِ الْمُطْرِبَةِ ، وَقَدْ حَكَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الْمِزْمَارِ الْعِرَاقِيِّ وَمَا يُضْرَبُ بِهِ مِنْ الْأَوْتَارِ .
وَمِنْ عَجِيبِ تَسَاهُلِ ابْنِ حَزْمٍ وَاتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ أَنَّهُ بَلَغَ مِنْ التَّعَصُّبِ إلَى أَنْ حَكَمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَكُلِّ مَا وَرَدَ فِي الْبَابِ بِالْوَضْعِ وَهُوَ كَذِبٌ صُرَاحٌ مِنْهُ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : أَمَّا الْمَزَامِيرُ وَالْأَوْتَارُ وَالْكُوبَةُ فَلَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِ اسْتِمَاعِهَا وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مِنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ مَنْ يُبِيحُ ذَلِكَ ، وَكَيْفَ لَا يَحْرُمُ وَهُوَ شِعَارُ أَهْلِ الْخُمُورِ وَالْفُسُوقِ وَمُهَيِّجُ الشَّهَوَاتِ وَالْفَسَادِ وَالْمُجُونِ ؟ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَشُكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَا تَفْسِيقَ فَاعِلِهِ وَتَأْثِيمَهُ انْتَهَى وَقَوْلُ بَعْضِ شُرَّاحِ الْمِنْهَاجِ : كَوْنُ الْمِزْمَارِ مِنْ شِعَارِ الشَّرَبَةِ قَدْ يُمْنَعُ وَالْغَالِبُ

أَنَّهُمْ لَا يُحْضِرُونَهُ ، فَإِنَّ فِيهِ إظْهَارًا لِحَالِهِمْ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : بَاطِلٌ بَلْ يُحْضِرُونَهُ فِي مَكَانِهِمْ الَّذِي لَا تَظْهَرُ فِيهِ أَصْوَاتُ الْمَعَازِفِ وَيُظْهِرُهُ أَرْبَابُ الْوِلَايَاتِ الْمُجَاهِرُونَ بِالْفِسْقِ .
وَفِي الْإِحْيَاءِ الْمَنْعُ مِنْ الْأَوْتَارِ كُلِّهَا لِثَلَاثِ عِلَلٍ : كَوْنُهَا تَدْعُو إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّ اللَّذَّاتِ الْحَاصِلَةَ تَدْعُو إلَيْهَا فَلِهَذَا حَرُمَ شُرْبُ قَلِيلِهَا .
وَكَوْنُهَا فِي قَرِيبِ الْعَهْدِ يَشْرَبُهَا تُذَكِّرُهُ مَجَالِسِ الشُّرْبِ وَالذِّكْرِ سَبَبُ انْبِعَاثِ الْفُسُوقِ وَانْبِعَاثُهُ سَبَبٌ لِلْإِقْدَامِ .
وَكَوْنُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْأَوْتَارِ صَارَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْفِسْقِ مَعَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ .
انْتَهَى .
إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ حُكِيَتْ آرَاءٌ بَاطِلَةٌ وَآرَاءٌ ضَعِيفَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلِاتِّفَاقِ الْمَذْكُورِ : مِنْهَا : قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ لَمْ يَصِحَّ فِي تَحْرِيمِ الْعُودِ حَدِيثٌ وَقَدْ سَمِعَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَهُوَ مِنْ جُمُودِهِ عَلَى ظَاهِرِيَّتِهِ الشَّنِيعَةِ الْقَبِيحَةِ كَيْفَ وَالْعُودُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَازِفِ ؟ وَقَدْ صَحَّ فِي تَحْرِيمِهَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ آنِفًا ، وَمَا زَعَمَهُ عَنْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ مَمْنُوعٌ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ عَنْهُمَا وَحَاشَاهُمَا مِنْ ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ وَرَعِهِمَا وَتَحْرِيمِهِمَا وَاتِّبَاعِهِمَا وَبُعْدِهِمَا مِنْ اللَّهْوِ .
وَلَئِنْ سَلِمَ مَا زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَفِي عُمُومِ الْأَحَادِيثِ النَّاصَّةِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ وَإِنْكَارِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ دَلَالَةً لَا مَدْفَعَ لَهَا .
وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَجَلَّةِ أَصْحَابِنَا : كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَخُصُّ الْعُودَ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ بَيْنِ الْأَوْتَارِ وَلَا يُحَرِّمُهُ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى حَرَكَاتٍ تَنْفِي الْهَمَّ وَتُقَوِّي الْهِمَّةَ وَتَزِيدُ فِي النَّشَاطِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ انْتَهَى .
وَتَقَوَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي رَدِّ هَذَا

الْوَجْهِ لَا وَجْهَ لَهُ تَنْدَفِعُ مُنَازَعَةُ الْإِسْنَوِيِّ الشَّيْخَيْنِ فِي نَفْيِهِمَا الْخِلَافَ فِي الْأَوْتَارِ .
وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ أَنَّهُ شَاذٌّ مُنَافٍ لِلدَّلِيلِ ، فَكَانَ فِي حَيِّزِ الطَّرْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْإِسْنَوِيِّ فِي حِكَايَةِ هَذَا الْوَجْهِ إطْلَاقُ الشَّيْخَيْنِ نَفْيَ الْخِلَافِ فِي الْأَوْتَارِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي ( الْبَحْرِ ) وَجْهًا أَنَّ الْعُودَ بِخُصُوصِهِ حَلَالٌ لِمَا يُقَالُ إنَّهُ يَنْفَعُ مِنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ مُعْتَرِضٌ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُعَلِّلًا بِنَفْعِهِ لِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ فَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْإِبَاحَةِ بِمَنْ بِهِ ذَلِكَ الْمَرَضُ دُونَ غَيْرِهِ .
وَأَيْضًا فَإِذَا أُبِيحَ لِحَاجَةِ الْمَرَضِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى حِكَايَتِهِ وَجْهًا بَلْ يَجْزِمُ بِجَوَازِهِ إذَا انْحَصَرَ التَّدَاوِي فِيهِ كَمَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ حِينَئِذٍ ، وَقَدْ جَزَمَ الْحَلِيمِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ بِأَنَّ آلَاتِ اللَّهْوِ إذَا كَانَتْ تَنْفَعُ مِنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ أُبِيحَ سَمَاعُهَا .
قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ وَمَا قَالَهُ مُتَعَيِّنٌ .
انْتَهَى وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا حَقِيقَةَ لِهَذَا الْوَجْهِ ، فَاتَّضَحَ نَفْيُ الشَّيْخَيْنِ الْخِلَافَ فِي الْأَوْتَارِ وَأَنَّهَا كُلُّهَا حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا حِكَايَةُ ابْنِ طَاهِرٍ عَنْ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُبِيحُ سَمَاعَ الْعُودِ وَيَسْمَعُهُ وَأَنَّهُ مَشْهُورٌ عَنْهُ وَأَنَّ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ حِلَّهُ هُوَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، فَقَدْ رَدُّوهُ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ بِأَنَّهُ مُجَازِفٌ إبَاحِيٌّ كَذَّابٌ رِجْسُ الْعَقِيدَةِ نَجَسُهَا ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ عَقِبَ كَلَامِهِ هَذَا : وَهَذِهِ مُجَازَفَةٌ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ الْمَجَانَةِ وَالْبَطَالَةِ وَنِسْبَتُهُ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِ التَّنْبِيهِ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ فِي السَّمَاعِ نِسْبَةٌ بَاطِلَةٌ قَطْعًا ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مُهَذَّبِهِ هُنَا وَفِي

الْوَصَايَا بِتَحْرِيمِ الْعُودِ وَهُوَ قَضِيَّةُ مَا فِي تَنَبُّهِهِ .
وَمَنْ عُرِفَ حَالُهُ وَشِدَّةُ وَرَعِهِ وَمَتِينُ تَقْوَاهُ جَزَمَ بِبُعْدِهِ عَنْهُ وَطَهَارَةِ سَاحَتِهِ مِنْهُ ، وَكَيْفَ يَظُنُّ ذُو لُبٍّ فِي هَذَا الْعَبْدِ الْقَانِتِ أَنَّهُ يَقُولُ فِي دِينِ اللَّهِ مَا يَفْعَلُ ضِدَّهُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ غَلِيظِ الذَّمِّ وَالْمَقْتِ ؟ .
وَكُلُّ مَنْ تَرْجَمَ لَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ هَذَا فِيمَا نَعْلَمُ .
وَمِنْ مُجَازَفَةِ ابْنِ طَاهِرٍ أَيْضًا قَوْلُهُ وَأَنَّهُ مَشْهُورٌ عَنْهُ ، وَدَعْوَى ابْنِ طَاهِرٍ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى إبَاحَةِ الْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ تُعْمِي وَتُصِمُّ انْتَهَى كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ ، وَبِهِ يُرَدُّ نَقْلُ الْإِسْنَوِيِّ عَنْ ابْنِ طَاهِرٍ مَا ذُكِرَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَهَذَا تَلْبِيسٌ مِنْ الْإِسْنَوِيِّ قَلَّدَ فِيهِ صَاحِبَهُ الْكَمَالَ الْأُدْفَوِيَّ فِي كِتَابِهِ الْإِمْتَاعِ ، وَلَا يَجُوزُ حِكَايَةُ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فَإِنَّ ابْنَ طَاهِرٍ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِسَبَبِ الْإِبَاحَةِ وَغَيْرِهَا ، وَقَوْلُ الْخَادِمِ اعْتِرَاضًا عَلَى قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ ، بَلْ الْمِزْمَارُ الْعِرَاقِيُّ وَمَا يُضْرَبُ بِهِ الْأَوْتَارُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ .
إذْ لَا مُنَاسَبَةَ لِذِكْرِ ذِي الْأَوْتَارِ مَعَ مَزَامِيرِ الْقَصَبِ يُرَدُّ بِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةً تَامَّةً لِمَا بَيْنَ الْمَزَامِيرِ وَذَوَاتِ الْأَوْتَارِ مِنْ التَّجَانُسِ .
وَمِنْهَا : قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الصَّنْجِ : يُكْرَهُ مَعَ الْغِنَاءِ وَلَا يُكْرَهُ مُنْفَرِدًا لِأَنَّهُ بِانْفِرَادِهِ غَيْرُ مُطْرِبٍ وَهُوَ شَاذٌّ ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا نَقَلَهُ عَنْهُ فِي الْبَحْرِ زَيَّفَهُ مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الْبَحْرِ كَثِيرُ الْمُتَابَعَةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ بَلْ أَكْثَرُ بَحْرِهِ مِنْ حَاوِيهِ .
قَالَ أَبُو حَامِدٍ : وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ : أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ فِي الْعِرَاقِ حَتَّى يَلْهُوَا النَّاسُ عَنْ الصَّلَاةِ

وَعَنْ الذِّكْرِ .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ : وَالصَّنْجُ هُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ صُفْرٍ يُضْرَبُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ مُخْتَصٌّ بِالْعَرَبِ وَذُو الْأَوْتَارِ مُخْتَصٌّ بِالْعَجَمِ وَهُمَا مُعَرَّبَانِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَزَعَمَ قَاضِي حَمَاةَ الْبَارِزِيُّ أَنَّ مُرَادَ الرَّافِعِيِّ الثَّانِي وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُ ، وَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ مِنْ بَعْدُ : إنَّ الضَّرْبَ بِالصَّفَاقَتَيْنِ حَرَامٌ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ ، وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ الْكُوبَةِ .
انْتَهَى .
ثُمَّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالصَّنْجُ الْعَرَبِيُّ كَالصَّفَاقَتَيْنِ أَوْ هُوَ هِيَ ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ ابْنِ مُعِينٍ الْجَزَرِيِّ فِي تَنْقِيبِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ : مِنْ الْآلَاتِ الْمُحَرَّمَةِ الْمُطْرِبَةِ مِنْ غَيْرِ غِنَاءٍ الصِّلِّيلِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ وَهُوَ الصَّنْجُ مِنْ الصُّلُولِ وَهُوَ صَوْتُ الْحَدِيدِ إذَا وَقَعَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ .
انْتَهَى .
وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُحْكَمِ أَنَّ الصَّنْجَ يُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الدُّفُوفِ وَهُوَ عَرَبِيٌّ وَعَلَى ذِي الْأَوْتَارِ ، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي الصَّنْجِ عَلَى النَّوْعَيْنِ لَا كَمَا ظَنَّهُ الْبَارِزِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي الْبَحْرِ نَقْلُ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِالصَّفَاقَتَيْنِ عَنْ الْأَصْحَابِ مُطْلَقًا ، وَفِي الْخَادِمِ لَمْ يُبِنْ الرَّافِعِيُّ الْمُرَادَ بِالضَّرْبِ بِالصَّفَاقَتَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ هُوَ الشِّيزَاتُ وَيُعَضِّدُهُ التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الشُّرْبِ ، وَبَعْضُهُمْ يُفَسِّرُهُ بِالصُّنُوجِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الصُّفْرِ الَّتِي تُضْرَبُ مَعَ الطُّبُولِ وَالرَّبَابِ وَالنَّقَّارَاتِ ؛ وَهَذَا يُضْعِفُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُطْرِبٍ وَلَا يَحْدُثُ بِسَمَاعِهِ لَذَّةٌ لِذِي لُبٍّ سَلِيمٍ وَعَقْلٍ صَحِيحٍ .

وَفِي الْحَاوِي : الْمَلَاهِي إمَّا حَرَامٌ كَعُودٍ وَطُنْبُورٍ وَمِعْزَفَةٍ وَطَبْلٍ وَمِزْمَارٍ وَمَا أَلْهَى بِصَوْتٍ مُطْرِبٍ إذَا انْفَرَدَ ، أَوْ مَكْرُوهٌ وَهُوَ مَا يَزِيدُ الْغِنَاءَ طَرِبًا وَلَمْ يُطْرِبْ مُنْفَرِدًا كَالصَّنْجِ وَالْقَصَبِ فَيُكْرَهُ مَعَ الْغِنَاءِ لَا وَحْدَهُ ، أَوْ مُبَاحٌ وَهُوَ مَا خَرَجَ عَنْ آلَةِ الطَّرَبِ إلَى إنْذَارٍ كَالْبُوقِ وَطَبْلِ الْحَرْبِ أَوْ لِمِجْمَعَةٍ وَإِعْلَانٍ كَالدُّفِّ فِي النِّكَاحِ انْتَهَى ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الصَّنْجِ شَاذٌّ كَمَا مَرَّ وَمَحَلُّهُ إنْ فُسِّرَ بِغَيْرِ الصَّفَاقَتَيْنِ .
أَمَّا هُمَا فَلَا طَرَبَ فِيهِمَا كَمَا مَرَّ ، نَعَمْ الْمُخَنَّثُونَ يَتَعَاطَوْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَحِينَئِذٍ تَتَّجِهُ الْحُرْمَةُ لِمَا يَأْتِي فِي الْكُوبَةِ .
وَالطُّنْبُورُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ غَيْرُ الْعُودِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ ، وَقَالَ اللُّغَوِيُّونَ : هُوَ الْعُودُ ، قِيلَ وَكَأَنَّ كُلًّا مِنْ الْعُودِ وَالطُّنْبُورِ وَغَيْرِهِمَا اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ ، وَقَدْ يَشْمَلُ اسْمُ الْعُودِ سَائِرَ الْأَوْتَارِ : وَعِبَارَةُ الْعُمْرَانِيِّ وَخَلَائِقَ مِنْ الْأَصْحَابِ الْأَصْوَاتُ الْمُكْتَسَبَةُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : مُحَرَّمٌ وَهُوَ مَا يُطْرِبُ مِنْ غَيْرِ غِنَاءٍ كَعُودٍ وَطُنْبُورٍ وَطَبْلٍ وَمَزَامِيرَ وَمَعَازِفَ وَنَايَاتٍ وَأَكْبَارٍ وَرَبَابٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا انْتَهَى .
وَالْمَزَامِيرُ تَشْمَلُ الصُّرْنَايَ ؛ وَهِيَ قَصَبَةٌ ضَيِّقَةُ الرَّأْسِ مُتَّسَعَةُ الْآخِرِ يُزَمِّرُ بِهَا فِي الْمَوَاكِبِ وَالْحَرْبِ وَعَلَى النَّقَّارَاتِ ، وَيَشْمَلُ الْكِرْجَةَ وَهِيَ مِثْلُ الصُّرْنَايِ إلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ فِي أَسْفَلِ الْقَصَبَةِ قِطْعَةَ نُحَاسٍ مُعْوَجَّةً يُزَمِّرُ بِهَا فِي أَعْرَاسِ الْبَوَادِي وَغَيْرِهَا ، وَيَشْمَلُ النَّايَ وَهُوَ أَطْرَبُ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ وَالْمَقْرُونَةُ وَهِيَ قَصَبَتَانِ مُلْتَقِيَتَانِ ، قِيلَ وَأَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ الْمَزَامِيرَ بَنُو إسْرَائِيلَ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَفِي ضَرْبِ الْقَضِيبِ عَلَى الْوَسَائِدِ وَجْهَانِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ يُكْرَهُ ، وَأَشَارَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ إلَى

تَرْجِيحِ التَّحْرِيمِ انْتَهَى ، وَفِي ( الْكَافِي ) عَنْ الْمَرَاوِزَةِ التَّحْرِيمُ أَيْضًا ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ مِنْ أَكَابِرِهِمْ جَزَمَ بِالْكَرَاهَةِ ، وَأَلْحَقَ صَاحِبُ الْكَافِي بِالضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ فِيمَا ذُكِرَ التَّصْفِيقَ بِالْيَدِ فِي السَّمَاعِ .
وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ : يُكْرَهُ التَّصْفِيقُ لِلرِّجَالِ لِأَنَّهُ مِمَّا خُصَّ بِهِ النِّسَاءُ وَقَدْ مُنِعَ الرِّجَالُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِنَّ كَمَا مُنِعُوا مِنْ لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ انْتَهَى .
وَقَضِيَّتُهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ؛ لِأَنَّ التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ حَرَامٌ بَلْ كَبِيرَةٌ عَلَى مَا مَرَّ .
وَمِنْهَا قَوْلُ الرَّافِعِيِّ : كَالْمَاوَرْدِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ وَالرُّويَانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَصَاحِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَالْبَاجَرِمِيُّ يَحِلُّ الْيَرَاعُ وَهُوَ الشَّبَّابَةُ لِأَنَّهَا تَنْشَطُ عَلَى السَّيْرِ فِي السَّفَرِ فَأَشْبَهَتْ الْحُدَاءَ ، وَهَذِهِ مَقَالَةٌ شَاذَّةٌ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، فَقَدْ حَرَّمَهَا جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَصَوَّبَهُ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ ، قَالَ : بَلْ أَجْدَرُ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ سَائِرِ الْمَزَامِيرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهَا ؛ لِشِدَّةِ طَرَبِهَا وَهِيَ شِعَارُ الشَّرَبَةِ وَأَهْلِ الْفِسْقِ .
إذْ هِيَ آلَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمُوسِيقَى وَافِيَةٌ بِجَمِيعِ النَّغَمَاتِ ، وَقِيلَ تَنْقُصُ قِيرَاطًا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ مِنْ أَعْلَى الْمَزَامِيرِ فَكُلُّ مَا لِأَجْلِهِ حَرُمَتْ الْمَزَامِيرُ مَوْجُودٌ فِيهَا وَزِيَادَةٌ فَتَكُونُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ ، وَالْمُنَازَعَةُ فِي هَذَا مُكَابَرَةٌ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ ، وَأَيْضًا فَقَدْ حَرَّمَ الشَّافِعِيُّ مَا دُونَهَا فِي الْإِطْرَابِ بِكَثِيرٍ كَالْكُوبَةِ وَطَبْلِ اللَّهْوِ وَهُوَ الطَّبْلُ الْكَبِيرُ وَالدُّفُّ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانُ وَمَا حَرَّمَهُ إلَّا لِأَنَّهُ لَهْوٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِيمَا يَجُوزُ ، فَفِي الشَّبَّابَةِ مَعَ كَوْنِهَا لَهْوًا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ

الصَّلَاةِ الْمَيْلُ إلَى أَوْطَارِ النُّفُوسِ وَلَذَّاتِهَا فَهِيَ بِالتَّحْرِيمِ أَحَقُّ وَأَوْلَى .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمُخَالَفَةُ النَّوَوِيِّ الرَّافِعِيَّ فِي الشَّبَّابَةِ هِيَ الْمَذْهَبُ ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَأَحْسَنَ فِي الذَّخَائِرِ بِنَقْلِهِ عَنْ الْأَصْحَابِ تَحْرِيمَ الْمَزَامِيرِ مُطْلَقًا .
انْتَهَى .
وَحَرَّمَ الْعِرَاقِيُّونَ الْمَزَامِيرَ كُلَّهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، فَإِذَا الْمَذْهَبُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ تَحْرِيمُ الشَّبَّابَةِ ، وَقَدْ أَطْنَبَ الْإِمَامُ مَجْزَأَةَ فِي دَلِيلِ تَحْرِيمِهَا وَقَالَ الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْعُمُ أَنَّ الشَّبَّابَةَ حَلَالٌ وَيَحْكِيهِ وَجْهًا لَا مُسْتَنَدَ لَهُ إلَّا خَبَالٌ وَلَا أَصْلَ لَهُ وَيَنْسُبُهُ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ التَّعْوِيلُ فِي عِلْمِ مَذْهَبِهِ وَالِانْتِمَاءِ إلَيْهِ .
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّمَ سَائِرَ أَنْوَاعِ الزَّمْرِ وَالشَّبَّابَةِ مِنْ جُمْلَةِ الزَّمْرِ وَأَحَدِ أَنْوَاعِهِ ، بَلْ هِيَ أَحَقُّ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ التَّأْثِيرِ فَوْقَ مَا فِي نَايٍ وَصُرْنَايٍ ، وَمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لِأَسْمَائِهَا وَأَلْقَابِهَا ، بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَمُفَارَقَةِ التَّقْوَى وَالْمَيْلِ إلَى الْهَوَى وَالِانْغِمَاسِ فِي الْمَعَاصِي وَأَطَالَ النَّفَسَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا التَّحْرِيمِ ، وَأَنَّهُ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ مِنْ لَدُنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى آخِرِ وَقْتٍ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ وَالْبَغْدَادِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالْخَزَرِيِّينَ وَمَنْ سَكَنَ الْجِبَالَ وَالْحِجَازَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَالْيَمَنِ كُلُّهُمْ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا انْتَهَى ، وَكَأَنَّهُ يُعَرِّضُ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ بِالْغَزَالِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ كَالْمَعَاصِرِ لَهُ

لِوِلَادَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِنَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ .
وَقَالَ الْإِمَامُ جَمَالُ الْإِسْلَامِ بْنُ الْبِزْرِيُّ بِكَسْرِ الْبَاءِ فَزَايٍ فَرَاءٍ نِسْبَةً إلَى الْبِزْرِ وَهُوَ حَبُّ الْكَتَّانِ فِي فَتَاوِيهِ : الشَّبَّابَةُ زَمْرٌ لَا مَحَالَةَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ ، وَالْمَشْهُورُ تَحْرِيمُهَا وَيَجِبُ إنْكَارُهَا وَتَحْرِيمُ اسْتِمَاعِهَا ، وَلَمْ يَقُلْ الْعُلَمَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ بِحِلِّهَا وَجَوَازِ اسْتِمَاعِهَا ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى حِلِّهَا وَاسْتِمَاعِهَا فَهُوَ مُخْطِئٌ .
انْتَهَى .
وَقَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ تُكْرَهُ فِي مِصْرَ لِاسْتِعْمَالِهَا فِي السُّخْفِ وَتُبَاحُ فِي السَّفَرِ وَالْمَرْعَى ؛ لِأَنَّهَا تَحُثُّ السَّيْرَ وَتَجْمَعُ الْبَهَائِمَ إذَا سَرَحَتْ ضَعِيفٌ ، بَلْ شَاذٌّ أَيْضًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَالْقَوْلِ بِالْحِلِّ مُطْلَقًا عَلَى مَا إذَا كَانَ يُصَفِّرُ فِيهَا كَالْأَطْفَالِ وَالرِّعَاءِ عَلَى غَيْرِ قَانُونٍ بَلْ صَفِيرًا مُجَرَّدًا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ حِينَئِذٍ قَرِيبٌ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، قَالَ : أَمَّا لَوْ صَفَّرَ بِهَا عَلَى الْقَانُونِ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْإِطْرَابِ فَهِيَ حَرَامٌ مُطْلَقًا بَلْ هِيَ أَجْدَرُ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ سَائِرِ الْمَزَامِيرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهَا ؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ إطْرَابًا وَهِيَ شِعَارُ الشَّرَبَةِ وَأَهْلِ الْفُسُوقِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ : هِيَ آلَةٌ كَامِلَةٌ وَافِيَةٌ بِجَمِيعِ النَّغَمَاتِ ، وَقَالَ الْآخَرُونَ تَنْقُصُ قِيرَاطًا .
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : هِيَ مِنْ أَعْلَى الْمَزَامِيرِ وَكُلُّ مَا لِأَجْلِهِ حَرُمَتْ الْمَزَامِيرُ مَوْجُودٌ فِيهَا وَزِيَادَةٌ فَتَكُونُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَمَا قَالَهُ حَقٌّ وَاضِحٌ وَالْمُنَازَعَةُ فِيهِ مُكَابَرَةٌ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْحُفَّاظُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْهُ : { أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ فَجَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ .
وَعَدَلَ عَنْ الطَّرِيقِ وَجَعَلَ يَقُولُ يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ ؟ فَأَقُولُ : نَعَمْ ، فَلَمَّا قُلْت

لَا رَجَعَ إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ إنَّهُ مُنْكَرٌ ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ .
وَسُئِلَ عَنْهُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ السَّلَامِيُّ فَقَالَ : إنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، قَالَ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَالِغًا إذْ ذَاكَ عُمُرُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، قَالَ : وَهَذَا مِنْ الشَّارِعِ لِيُعَرِّفَ أُمَّتَهُ أَنَّ اسْتِمَاعَ الزَّمَّارَةِ وَالشَّبَّابَةِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ اسْتِمَاعُهُ ، وَرَخَّصَ لِابْنِ عُمَرَ لِأَنَّهُ حَالَةُ ضَرُورَةٍ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا ذَلِكَ وَقَدْ يُبَاحُ الْمَحْظُورُ لِلضَّرُورَةِ ، قَالَ : وَمَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ انْتَهَى .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : بِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى تَحْرِيمِ الْمَزَامِيرِ وَعَلَيْهِ بَنَوْا التَّحْرِيمَ فِي الشَّبَّابَةِ .
وَأَمَّا مَنْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إبَاحَتِهَا تَمَسُّكًا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِسَدِّ أُذُنَيْهِ وَلَا نَهَى الرَّاعِيَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ تَنْزِيهًا أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ ذِكْرٍ أَوْ فِكْرٍ وَكَانَ السَّمَاعُ يَشْغَلُهُ فَسَدَّ أُذُنَيْهِ لِذَلِكَ فَرَدُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ : مِنْهَا : أَنَّ تِلْكَ الزَّمَّارَةَ لَمْ تَكُنْ مِمَّا يَتَّخِذُهُ أَهْلُ هَذَا الْفَنِّ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ مِنْ الشَّبَّابَاتِ الَّتِي يُتْقِنُونَهَا وَتَحْتَهَا أَنْوَاعٌ كُلُّهَا مُطْرِبَةٌ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَمْرَ الرَّاعِي فِي قَصَبَةٍ لَيْسَ كَزَمْرِ مَنْ جَعَلَهُ صَنْعَةً وَتَأَنَّقَ فِيهِ وَفِي طَرَائِقِهِ الَّتِي اخْتَرَعُوا فِيهَا نَغَمَاتٌ تُحَرِّكُ إلَى الشَّهَوَاتِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِسَدِّ أُذُنَيْهِ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ كَأَقْوَالِهِ فَحِينَ فَعَلَ ذَلِكَ بَادَرَ ابْنُ عُمَرَ إلَى التَّأَسِّي بِهِ ، وَكَيْفَ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ

تَرَكَ التَّأَسِّي وَهُوَ أَشَدُّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَأَسِّيًا ؟ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَجْزَأَةَ : هَذَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ مُحَصِّلٍ قَطُّ عَرَفَ قَدْرَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاطَّلَعَ عَلَى سَبِيلِهِمْ ، قَالَ : وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلْ تَسْمَعُ مَعْنَاهُ تَسْمَعُ هَلْ تَسْمَعُ ؟ وَإِنَّمَا أَسْقَطَ تَسْمَعُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إذْ مَنْ وَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لَا يَسْمَعُ وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْمَمْنُوعَ هُوَ الِاسْتِمَاعُ لَا السَّمَاعُ لَا عَنْ قَصْدٍ اتِّفَاقًا ، وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا أَنَّ مَنْ بِجِوَارِهِ سَمَاعُ آلَاتِ لَهْوٍ مُحَرَّمَةٍ وَلَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهَا لَا تَلْزَمُهُ النَّقْلَةُ وَلَا يَأْثَمُ بِسَمَاعِهَا لَا عَنْ قَصْدٍ وَإِصْغَاءٍ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْجَوَابُ بِأَنَّ قَوْلَهُ زَمَّارَةُ رَاعٍ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهَا الشَّبَّابَةُ فَإِنَّ الرُّعَاةَ يَضْرِبُونَ بِالشُّعَيْبَةِ وَغَيْرِهَا يُوهِمُ أَنْ يُسَمَّى شُعَيْبَةُ مُبَاحٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ وَهَذَا لَمْ أَرَهُ لِأَحَدٍ ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قَصَبَاتٍ عِدَّةٍ صِغَارٍ تُجْعَلُ صَفًّا وَلَهَا إطْرَابٌ بِحَسَبِ حِذْقِ مُتَعَاطِيهَا وَهِيَ شَبَّابَةٌ أَوْ مِزْمَارٌ لَا مَحَالَةَ .
انْتَهَى .
وَبِمَا تَقَرَّرَ فِي الدَّلِيلِ انْدَفَعَ قَوْلُ الْبُلْقِينِيِّ مَيْلًا لِإِبَاحَةِ الشَّبَّابَةِ لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ وَلَمْ يُقِمْ النَّوَوِيُّ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ فَهُنَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَهُوَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ الْقِيَاسُ عَلَى الْآلَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهَا لِاشْتِرَاكِهَا مَعَهَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مُطْرِبًا بَلْ رُبَّمَا كَانَ الطَّرَبُ الَّذِي فِي الشَّبَّابَةِ أَشَدَّ مِنْهُ فِي نَحْوِ الْكَمَنْجَةِ وَالرَّبَابَةِ فَهُوَ إمَّا قِيَاسٌ أَوْلَى أَوْ مُسَاوَاةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَذْكُورِينَ وَهُمَا حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ ، فَكَذَا هِيَ وَسُمِّيَتْ

يَرَاعًا بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ لِخُلُوِّ جَوْفِهَا ، وَمِنْهُ رَجُلٌ يَرَاعُ لَا قَلْبَ لَهُ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ يَرَاعَةٌ كَمَا فِي تَهْذِيبِ النَّوَوِيِّ .
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْيَرَاعُ الْقَصَبُ وَالْيَرَاعَةُ الْقَصَبَةُ ، وَحِينَئِذٍ فَتَفْسِيرُ الْيَرَاعِ بِالشَّبَّابَةِ فِيهِ تَجَوُّزٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ جَمْعُ يَرَاعَةٍ فَكَيْفَ يُفَسَّرُ بِالْمُفْرَدِ ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَلَيْسَ مِنْ مَحَلِّ اخْتِلَافِ الشَّيْخَيْنِ الْقَصَبُ الْمُسَمَّى بِالْمَوْصُولِ ؛ لِأَنَّهُ يُضْرَبُ بِهِ مَعَ الْأَوْتَارِ وَهُوَ مِنْ شِعَارِ شَارِبِي الْخَمْرِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَرَاعِ كُلَّ قَصَبٍ بَلْ الْمِزْمَارُ الْعِرَاقِيُّ ، وَمَا يُضْرَبُ بِهِ مَعَ الْأَوْتَارِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَفْظَةُ مَعَ هُوَ مَا فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ الْعَزِيزِ ، وَالْمَوْجُودُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ وَمَا تُضْرَبُ بِهِ الْأَوْتَارُ ، وَبِمَا تَقَرَّرَ قَرِيبًا فِي رَدِّ كَلَامِ الْبُلْقِينِيِّ يُرَدُّ أَيْضًا قَوْلُ التَّاجِ السُّبْكِيّ فِي تَوْشِيحِهِ : لَمْ يَقُمْ عِنْدِي دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْيَرَاعِ مَعَ كَثْرَةِ التَّتَبُّعِ ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ الْحِلَّ فَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهِ مُحَرَّمٌ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حُكْمُهُ ، ثُمَّ الْأَوْلَى عِنْدِي لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الذَّوْقِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ حُصُولُ لَذَّةٍ نَفْسَانِيَّةٍ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْمَطَالِبِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَأَمَّا أَهْلُ الذَّوْقِ فَحَالُهُمْ مُسَلَّمٌ إلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ .
وَنَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ قَالَ : النَّاسُ فِي السَّمَاعِ إمَّا عَوَامُّ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ لِبَقَاءِ نُفُوسِهِمْ ، وَإِمَّا زُهَّادٌ وَهُوَ مُبَاحٌ لَهُمْ لِحُصُولِ مُجَاهَدَتِهِمْ ، وَإِمَّا عَارِفُونَ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لَهُمْ لِحَيَاةِ قُلُوبِهِمْ ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَصَحَّحَهُ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي عَوَارِفِهِ ،

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُنَيْدَ لَمْ يُرِدْ التَّحْرِيمَ الِاصْطِلَاحِيَّ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي ثُمَّ نَقَلَ عَنْ وَالِدِهِ إفْتَاءً نَظْمًا حَاصِلُهُ أَنَّ نَحْوَ الرَّقْصِ وَالدُّفِّ فِيهِ خِلَافٌ وَأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ شَرِيعَةٌ قَطُّ بِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَأَنَّ مَنْ قَالَ بِحِلِّهِ إنَّمَا جَعَلَهُ مُبَاحًا وَأَنَّ مَنْ اصْطَفَاهُ لِدِينِهِ مُتَعَبِّدًا بِحُضُورِهِ فَقَدْ بَاءَ بِحَسْرَةٍ وَخَسَارٍ ، وَأَنَّ الْعَارِفَ الْمُشْتَاقَ إذَا هَزَّهُ وَجْدٌ فَهَامَ فِي سَكَرَاتِهِ لَا يَلْحَقُهُ لَوْمٌ بَلْ يُحْمَدُ حَالُهُ لِطِيبِ مَا يَلْقَاهُ مِنْ اللَّذَّاتِ انْتَهَى .
قَالَ غَيْرُهُ : أَمَّا سَمَاعُ أَهْلِ الْوَقْتِ فَحَرَامٌ بِلَا شَكٍّ فَفِيهِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ كَاخْتِلَاطِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَافْتِتَانِ الْعَامَّةِ بِاللَّهْوِ مَا لَا يُحْصَى ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ قَصْرُهُمْ عَنْهُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ مَنْ تَعَوَّدَ السَّمَاعَ مِرَارًا فِي كُلِّ شَهْرٍ فَسَقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ أَوْ مَرَّةً فَسَقَ وَلَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ ، وَرَدَّهُ الْأَذْرَعِيُّ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : السَّمَاعُ إمَّا مَحْبُوبٌ بِأَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ اللَّهِ وَلِقَائِهِ فَيَسْتَخْرِجُ بِهِ أَحْوَالًا مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُلَاطَفَاتِ ، وَإِمَّا مُبَاحٌ بِأَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِشْقٌ مُبَاحٌ لِحَلِيلَتِهِ ، أَوْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ حُبُّ اللَّهِ وَلَا الْهَوَى ، وَإِمَّا مُحَرَّمٌ بِأَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوًى مُحَرَّمٌ .
وَسُئِلَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ اسْتِمَاعِ الْإِنْشَادِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالرَّقْصِ فَقَالَ : الرَّقْصُ بِدْعَةٌ وَلَا يَتَعَاطَاهُ إلَّا نَاقِصُ الْعَقْلِ فَلَا يَصْلُحُ إلَّا لِلنِّسَاءِ ، وَأَمَّا سَمَاعُ الْإِنْشَادِ الْمُحَرِّكِ لِلْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ الْمُذَكِّرِ لِأُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، بَلْ يُنْدَبُ عِنْدَ الْفُتُورِ وَسَآمَةِ الْقَلْبِ ، وَلَا يَحْضُرُ السَّمَاعَ مَنْ فِي قَلْبِهِ هَوًى خَبِيثٌ فَإِنَّهُ يُحَرِّكُ مَا فِي الْقَلْبِ .
وَقَالَ أَيْضًا : السَّمَاعُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السَّامِعِينَ وَالْمَسْمُوعِ

مِنْهُمْ ، وَهُمْ إمَّا عَارِفُونَ بِاَللَّهِ ، وَيَخْتَلِفُ سَمَاعُهُمْ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ أَثَّرَ فِيهِ السَّمَاعُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُخَوِّفَاتِ بِنَحْوِ حُزْنٍ وَبُكَاءٍ وَتَغَيُّرِ لَوْنٍ ، وَهُوَ إمَّا خَوْفُ عِقَابٍ أَوْ فَوَاتُ ثَوَابٍ أَوْ أُنْسٌ وَقُرْبٌ وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَائِفِينَ وَالسَّامِعِينَ وَتَأْثِيرُ الْقُرْآنِ فِيهِ أَشَدُّ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ أَثَّرَ فِيهِ السَّمَاعُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُرَجَّيَاتِ ، وَسَمَاعُ مَنْ رَجَاؤُهُ لِلْأُنْسِ وَالْقُرْبِ أَفْضَلُ مِنْ سَمَاعِ مَنْ رَجَاؤُهُ الثَّوَابُ .
وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ اللَّهِ لِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ سَمَاعُ الْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ ، أَوْ لِكَمَالِهِ الْمُطْلَقِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ ذِكْرُ شَرَفِ الذَّاتِ وَكَمَالِ الصِّفَاتِ ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ وَيَخْتَلِفُ هَؤُلَاءِ فِي الْمَسْمُوعِ مِنْهُ ، فَالسَّمَاعُ مِنْ الْوَلِيِّ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ السَّمَاعِ مِنْ عَامِّيٍّ ، وَمِنْ نَبِيٍّ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْهُ مِنْ وَلِيٍّ ، وَمِنْ الرَّبِّ تَعَالَى أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْهُ مِنْ النَّبِيِّ ، وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَأَصْحَابُهُمْ بِسَمَاعِ الْمَلَاهِي وَالْغِنَاءِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى سَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِمْ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوًى مُبَاحٌ كَمَنْ يَعْشَقُ حَلِيلَتَهُ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ آثَارُ الشَّوْقِ وَخَوْفُ الْفِرَاقِ وَرَجَاءُ التَّلَاقِ فَسَمَاعُهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوًى مُحَرَّمٌ كَعِشْقِ أَمْرَدَ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ السَّعْيُ إلَى الْحَرَامِ وَمَا أَدَّى إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ ؛ أَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ فَيُكْرَهُ سَمَاعُهُ ، وَمَرَّ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ مُبَاحٌ ، وَقَدْ يَحْضُرُ السَّمَاعَ فَجَرَةٌ يَبْكُونَ وَيَنْزَعِجُونَ لِأَغْرَاضٍ خَبِيثَةٍ أَبْطَنُوهَا يُرَاءُونَ بِأَنَّهُ لِشَيْءٍ مَحْمُودٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ السَّمَاعُ الْمَحْمُودُ إلَّا عِنْدَ ذِكْرِ الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ

وَالصِّفَاتِ الْمَرَضِيَّةِ .
انْتَهَى كَلَامُ الشَّيْخِ مُلَخَّصًا .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلِأَبِي قَاسِمٍ الْقُشَيْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ مُؤَلَّفٌ فِي السَّمَاعِ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِهِ مَعْرِفَةَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِيَعْلَمَ صِفَاتِ الذَّاتِ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَالْمَخْلُوقَاتِ وَمَا الْمُمْتَنِعُ فِي نَعْتِ الْحَقِّ وَمَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِهِ وَمَا يَجِبُ وَمَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَمَا يُمْتَنَعُ ، فَهَذِهِ شَرَائِطُ صِحَّةِ السَّمَاعِ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ التَّحْصِيلِ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقَائِقِ فَالشَّرْطُ فَنَاءُ النَّفْسِ بِصِدْقِ الْمُجَاهَدَةِ ثُمَّ حَيَاةُ الْقَلْبِ بِرُوحِ الْمُشَاهَدَةِ فَمَنْ لَمْ تَتَقَدَّمْ بِالصِّحَّةِ مُعَامَلَتُهُ ، وَلَمْ تَحْصُلْ بِالصِّدْقِ مُنَازَلَتُهُ فَسَمَاعُهُ ضَيَاعٌ وَتَوَاجُدُهُ طِبَاعٌ وَالسَّمَاعُ فِتْنَةٌ يَدْعُو إلَيْهَا اسْتِيلَاءُ الْفِسْقِ إلَّا عِنْدَ سُقُوطِ الشَّهْوَةِ وَحُصُولِ الصَّفْوَةِ ، وَأَطَالَ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَبِمَا ذَكَرَهُ يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُ السَّمَاعِ وَالرَّقْصِ عَلَى أَكْثَرِ مُتَصَوِّفَةِ الزَّمَانِ لِفَقْدِ شُرُوطِ الْقِيَامِ بِآدَابِهِ .
انْتَهَى .
وَمِنْهَا قَوْلُ الْإِمَامِ فِي الْكُوبَةِ : لَوْ رَدَدْنَا إلَى مَسْلَكِ الْمَعْنَى فَهِيَ فِي مَعْنَى الدُّفِّ ، وَلَسْت أَرَى فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا إلَّا أَنَّ الْمُخَنَّثِينَ يُولَعُونَ بِهَا وَيَعْتَادُونَ ضَرْبَهَا ، وَقَوْلُهُ أَيْضًا الَّذِي يَقْتَضِيهِ الرَّأْيُ أَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ أَلْحَانٌ مُسْتَلَذَّةٌ تُهَيِّجُ الْإِنْسَانَ وَتَسْتَحِثُّهُ عَلَى الطَّرَبِ وَمُجَالَسَةِ أَحْدَاثِهِ فَهُوَ الْمُحَرَّمُ وَالْمَعَازِفُ وَالْمَزَامِيرُ كَذَلِكَ ، وَمَا لَيْسَ لَهُ صَوْتٌ مُسْتَلَذٌّ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ لِأَنْغَامٍ قَدْ تُطْرِبُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُسْتَلَذُّ فَجَمِيعُهَا فِي مَعْنَى الدُّفِّ .
وَالْكُوبَةُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ كَالدُّفِّ فَإِنْ صَحَّ فِيهَا تَحْرِيمٌ حَرَّمْنَاهَا وَإِلَّا تَوَقَّفْنَا فِيهَا ، وَقَوْلُهُ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَا

يُمَيِّزُهُ مِنْ سَائِرِ الطُّبُوعِ إلَّا أَنَّ الْمُخَنَّثِينَ يَعْتَادُونَ ضَرْبَهُ وَيَتَوَلَّعُونَ بِهِ فَإِنْ صَحَّ حَدِيثٌ عَمِلْنَا بِهِ .
انْتَهَى .
وَيَرُدُّهُ مَا يَأْتِي أَنَّ هَذَا بَحْثٌ مِنْهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا نُعَوِّلُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَلَا نَظَرَ إلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَضَعْفِهِ ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ نَفْسُهُ عَنْ أَبِيهِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ مَا يُوَافِقُ الْإِجْمَالَ ، فَقَالَ : كَانَ شَيْخِي يَقْطَعُ بِتَحْرِيمِهَا ، وَيَقُولُ فِيهَا أَخْبَارٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى ضَارِبِهَا وَالْمُسْتَمِعِ إلَى صَوْتِهَا .
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِطَبْلِ اللَّهْوِ بَاطِلَةٌ وَلَا نَعْرِفُ طَبْلَ لَهْوٍ يَلْتَحِقُ بِالْمَعَازِفِ حَتَّى تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ بِهِ إلَّا الْكُوبَةَ وَتَبِعَهُ فِي الْبَسِيطِ فَقَطَعَ بِتَحْرِيمِهَا وَأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْ الطُّبُولِ إلَّا هِيَ ، لَكِنْ اعْتَرَضَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْكَافِي الْكُوبَةُ حَرَامٌ وَطَبْلُ اللَّهْوِ فِي مَعْنَاهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهَا ، وَبِأَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ حَرَّمُوا الطُّبُولَ كُلَّهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ .
وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ ضَعِيفَةٌ .
وَالْأَصَحُّ حِلُّ مَا عَدَا الْكُوبَةَ مِنْ الطُّبُولِ ، وَقِيلَ أَرَادَ الْعِرَاقِيُّونَ طُبُولَ اللَّهْوِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَمِمَّنْ أَطْلَقَ تَحْرِيمَ طُبُولِ اللَّهْوِ الْعُمْرَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الِانْتِصَارِ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَقَضِيَّةُ مَا فِي الْحَاوِي وَالْمُقَنَّعِ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَعِبَارَةُ الْقَاضِي : أَمَّا ضَرْبُ الطُّبُولِ فَإِنْ كَانَ طَبْلَ لَهْوٍ فَلَا يَجُوزُ .
وَاسْتَثْنَى الْحَلِيمِيُّ مِنْ الطُّبُولِ طَبْلَ الْحَرْبِ وَالْعِيدِ وَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ سَائِرِ الطُّبُولِ وَخَصَّ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْعِيدِ بِالرِّجَالِ خَاصَّةً ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا .
وَعَدَّ جَمْعٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْأَكْبَارِ ، وَأَمَّا قَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ عَقِبَ كَلَامِ الْإِمَامِ الثَّانِي إنَّهُ بَحْثٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ

فَغَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ كَلَامِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَقِبَهُ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي الْكُوبَةِ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُ .
وَمِمَّا يَرُدُّهُ أَيْضًا قَوْلُ سُلَيْمٍ فِي تَقْرِيبِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَحْرِيمَ الْكُوبَةِ ، وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِكُلِّ مُذْنِبٍ إلَّا صَاحِبَ عَرْطَابَةٍ أَوْ كُوبَةٍ } وَالْأَوْلَى الْعُودُ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ إجْمَاعٌ انْتَهَى .
فَتَأَمَّلْ نَقْلَهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْكُوبَةِ ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِنَا وَمُتَقَدِّمِيهِمْ يَتَّضِحُ لَك أَنَّ بَحْثَ الْإِمَامِ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ الْأَذْرَعِيُّ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ وَأَنْ لَا وَهُوَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ وَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِخِلَافِهِ .
إذْ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ سَالِمٍ مِنْ الطَّعْنِ وَالْمُعَارِضِ فَكَانَ أَقْوَى ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ الْكُوبَةِ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ فَقَالَ كَمَا مَرَّ عَنْهُ : لَا يَخْتَلِفُ فِي تَحْرِيمِ اسْتِمَاعِهَا وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مِنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ مَنْ يُبِيحُ ذَلِكَ ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ : إنَّ الْمُخَنَّثِينَ يَعْتَادُونَ ضَرْبَ الْكُوبَةِ وَيَتَوَلَّعُونَ بِهِ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى تَحْرِيمِهَا ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شِعَارِ الْمُخَنَّثِينَ يَحْرُمُ فِعْلُهُ لِحُرْمَةِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ .
قَالَ الْإِمَامُ : وَالطُّبُولُ الَّتِي تُهَيَّأُ لِمَلَاعِبِ الصِّبْيَانِ إنْ لَمْ تَلْحَقْ بِالطُّبُولِ الْكِبَارِ فَهِيَ كَالدُّفِّ وَلَيْسَتْ كَالْكُوبَةِ بِحَالٍ ا هـ .
وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ عَلَى صُورَةِ الْكُوبَةِ حَرُمَ تَمْكِينُ الصَّبِيِّ مِنْهَا أَوْ عَلَى صُورَةِ بَقِيَّةِ الطُّبُولِ لَمْ تَحْرُمْ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْ الطُّبُولِ إلَّا الْكُوبَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا .
وَعِبَارَةُ الرَّافِعِيِّ : وَفِي الْإِحْيَاءِ وَلَا يَحْرُمُ صَوْتُ طَبْلٍ

إلَّا الطَّبْلُ الَّذِي يُسَمَّى الْكُوبَةُ فَإِنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ وَهُوَ طَبْلٌ طَوِيلٌ مُتَّسَعُ الطَّرَفَيْنِ ضَيِّقُ الْوَسَطِ انْتَهَى .
وَتَفْسِيرُهُ ؛ الْكُوبَةُ بِمَا ذُكِرَ تَبِعَ فِيهِ الْإِمَامَ وَالْغَزَالِيَّ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِسْنَوِيِّ تَفَرَّدَ هَؤُلَاءِ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَمِمَّنْ فَسَّرَهَا بِالطَّبْلِ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ عَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْهُ ، وَتَفْسِيرُ الرَّاوِي مُقَدَّمٌ عَلَى تَفْسِيرِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَرْوِيِّهِ ، وَكَذَا الْجَوْهَرِيُّ فَقَالَ هِيَ الطَّبْلُ الصَّغِيرُ الْمُخَصَّرُ ، وَكَذَا عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ فِي لُغَةِ الْحَدِيثِ وَكَذَا الْمَاوَرْدِيُّ ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيبِ : الصَّحِيحُ أَنَّهَا الطَّبْلُ الْمَذْكُورُ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ شَبَابُ قُرَيْشٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ النَّرْدُ مِنْهُمْ الْخَطَّابِيُّ ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ إنَّهَا الطَّبْلُ ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَفِيمَا سَبَقَ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ مَا يَدْفَعُ التَّغْلِيظَ نَعَمْ إطْلَاقُهَا عَلَى كُلِّ مَا يُسَمَّى طَبْلًا لَيْسَ بِجَيِّدٍ انْتَهَى .
وَالْحَاصِلُ ؛ أَنَّ الْكُوبَةَ تُطْلَقُ عَلَى الطَّبْلِ السَّابِقِ وَهُوَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ السَّابِقَ : { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِكُلِّ مُذْنِبٍ إلَّا صَاحِبَ عَرْطَابَةٍ أَوْ كُوبَةٍ } عَلَيْهِ وَعَلَى النَّرْدِ وَهُوَ لُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ وَعَلَى الشِّطْرَنْجِ ؛ وَأَمَّا زَعْمُ الْإِسْنَوِيِّ أَنَّ تَفْسِيرَهَا بِالطَّبْلِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ فَيَرُدُّهُ مَا مَرَّ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ بَلْ الصَّوَابُ إطْلَاقُهَا لُغَةً عَلَى الطَّبْلِ السَّابِقِ وَعَلَى النَّرْدِ وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ الْأَوَّلُ ، لَكِنَّ الْمَوْجُودَةَ الْآنَ لَيْسَ اتِّسَاعُ طَرَفَيْهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ، وَأَيْضًا فَأَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمُتَّسَعُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ

الْجِلْدُ الَّذِي يُضْرَبُ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ ضَيِّقٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي تَفْسِيرَ الْفُقَهَاءِ الْمَذْكُورَ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ فِيهِ مِمَّنْ لَا يَعْتَدُّ بِهِ .

( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ .
التَّشْبِيبُ بِغُلَامٍ وَلَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مَعَ ذِكْرِ أَنَّهُ يَعْشَقُهُ أَوْ بِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا بِفُحْشٍ أَوْ بِامْرَأَةٍ مُبْهَمَةٍ مَعَ ذِكْرِهَا بِالْفُحْشِ وَإِنْشَادِ هَذَا التَّشْبِيبِ ) .
وَكَوْنُ الْأَوَّلِ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ كَانَ يُشَبِّبُ بِغُلَامٍ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ يَعْشَقُهُ فَسَقَ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الذُّكُورِ بِالشَّهْوَةِ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ انْتَهَى .
وَاَلَّذِي فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ اعْتِبَارُ التَّعْيِينِ فِي الْغُلَامِ كَالْمَرْأَةِ ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَهُوَ الْأَقْرَبُ وَالْأَوَّلُ ضَعِيفٌ جِدًّا إذْ لَيْسَ فِي التَّشْبِيبِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّظَرِ بِشَهْوَةٍ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الشَّاعِرَ إنَّمَا يَقُولُهُ تَرْقِيقًا لِشِعْرِهِ وَإِظْهَارًا لِصُنْعِهِ لَا أَنَّهُ عَاشِقٌ حَقِيقَةً ، فَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِمُجَرَّدِ التَّشْبِيبِ بِمَجْهُولٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَزَلًا مِنْ جُمْلَتِهِ : لَوْ أَنَّ عَيْنَيَّ إلَيْك الدَّهْرَ نَاظِرَةٌ جَاءَتْ وَفَاتِي وَلَمْ أَشْبَعْ مِنْ النَّظَرِ ثُمَّ قَالَ لَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ غُلَامٌ لِجَوَازِ كَوْنِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَهُ فِي زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ .
وَكَوْنُ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ كَبِيرَتَيْنِ أَيْضًا هُوَ مَا ذَكَرَهُ شُرَيْحٌ فِي رَوْضَةِ الْحُكَّامِ حَيْثُ قَالَ : إذَا شَبَّبَ بِامْرَأَةٍ وَذَكَرَهَا بِفُحْشٍ فَهُوَ فَاسِقٌ ، وَإِنْ ذَكَرَهَا بِطُولٍ أَوْ قِصَرٍ ، فَإِنْ عَيَّنَهَا وَكَانَتْ أَمَتَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ لَمْ يَفْسُقْ ؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ يَسِيرٌ .
وَقِيلَ : تُرَدُّ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً مُعَيَّنَةً فَسَقَ أَوْ مُبْهَمَةً لَمْ يَفْسُقْ ، وَقِيلَ يَفْسُقُ لِأَنَّهُ سَفَهٌ .
انْتَهَى .
وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ إنْ قِيلَ بِهِ إنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الْمُرُوءَةِ لَا لِلْفِسْقِ .

وَحَاصِلُ عِبَارَةِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي التَّشْبِيبِ بِالنِّسَاءِ وَالْغِلْمَانِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ وَإِنْ أَكْثَرَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيبَ صَنْعَةٌ وَغَرَضُ الشَّاعِرِ تَحْسِينُ الْكَلَامِ لَا تَحْقِيقُ الْمَذْكُورِ ، قَالَا : وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لَوْ سَمَّى امْرَأَةً لَا يَدْرِي مَنْ هِيَ ، وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ إذَا كَانَ يَفْحُشُ أَوْ يُشَبِّبُ بِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ يَصِفَ أَعْضَاءً بَاطِنَةً فَإِنْ شَبَّبَ بِجَارِيَتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ فَوَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَجُوزُ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ ، وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ : إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مُعَيَّنَةً لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ تَحِلُّ لَهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذَا ذَكَرَ حَلِيلَتَهُ بِمَا حَقُّهُ الْإِخْفَاءُ لِسُقُوطِ مُرُوءَتِهِ انْتَهَتْ ، وَنَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ دَعْوَى سُقُوطِ الْمُرُوءَةِ بِكُلِّ مَا حَقُّهُ الْإِخْفَاءُ مَمْنُوعَةٌ وَبِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ بِذَلِكَ .
وَيُجَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ هَذَا انْضَمَّ إلَيْهِ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِمَا فِيهِ مِنْ نَوْعِ فَضِيحَةٍ لِعِيَالِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الْمُبَالَاةِ بِذَلِكَ يُنَافِي الْمُرُوءَةَ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصَّيْنِ لِلشَّافِعِيِّ رَجَّحَ الشَّيْخَانِ أَحَدَهُمَا لِظُهُورِ مُدْرِكِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ قِيلَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ ، ثُمَّ رَأَيْت الْبُلْقِينِيَّ وَغَيْرَهُ أَجْمَعُوا فَقَالُوا : لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا رَجَّحَاهُ وَالنَّصَّ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ لِأَنَّ مَا ذَكَرَاهُ فِيمَا إذَا ذَكَرَ حَلِيلَتَهُ بِمَا يَخْفَى كَالْأَحْوَالِ الَّتِي تَتَّفِقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْجِمَاعِ وَالْخَلْوَةِ ، وَمُقَابِلُهُ فِيمَا إذَا شَبَّبَ بِغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ أَوْ بِحَلِيلَتِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُخْفِي مُرُوءَةً .
ا هـ .
وَالْحَمْلُ الْأَوَّلُ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته ، وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ التَّحْرِيمِ أَنَّ كَعْبَ بْنَ

زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَبَّبَ بِسُعَادَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ ، وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَتَهُ وَابْنَةَ عَمِّهِ وَطَالَ عَهْدُهُ بِهَا وَغَيْبَتُهُ عَنْهَا .
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الرَّوْضَةِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ فَقَالَ : مِمَّا يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ أَنْ يُقَبِّلَ حَلِيلَتَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ أَوْ يَحْكِي مَا جَرَى بَيْنَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ .
وَفِي الرَّوْضَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ حُرْمَتُهُ وَلَا تَنَافِيَ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي غَيْرِ ذِكْرِ الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ وَالثَّانِي فِي ذِكْرِهِمَا .
لَا يُقَالُ يَنْبَغِي رَدُّ شَهَادَةِ الْمُشَبِّبِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ حَلِيلَتَهُ فَقَدْ ذَكَرَ مَا حَقُّهُ الْإِخْفَاءُ أَوْ أَجْنَبِيَّةً فَأَشَدُّ .
لِأَنَّا نَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يُسَامَحَ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْيِينِ بِذَلِكَ وَالتَّنْظِيرُ فِي ذَلِكَ مَمْنُوعٌ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ : يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ إذَا شَبَّبَ بِحَلِيلَتِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ أَوْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ التَّشْبِيهَاتِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ ، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ امْرَأَةً مَجْهُولَةً وَلَمْ يَذْكُرْ سُوءًا .
انْتَهَى .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّ تَسْمِيَتَهُ مَنْ لَا يَدْرِي مَنْ هِيَ وَذِكْرَ مَحَاسِنَهَا الظَّاهِرَةَ وَالشَّوْقَ وَالْمَحَبَّةَ مِنْ غَيْرِ فُحْشٍ وَلَا رِيبَةَ لَا يَقْدَحُ فِي قَائِلِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ خِلَافٌ ، وَمِنْ ذَلِكَ تَوَارَدَ الشُّعَرَاءُ عَلَى ذِكْرِ لَيْلَى وَسُعْدَى وَدَعْدٍ وَهِنْدٍ وَسَلْمَى وَلُبْنَى ، وَكَيْفَ وَقَدْ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَبْتُولٌ وَفِيهَا مِنْ الْأَشْعَارِ كُلُّ بَدِيعٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ فَلَا يُنْكِرُ مِنْهَا شَيْئًا .
وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ أَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ وَابْنَةَ عَمِّهِ وَطَالَتْ غَيْبَتُهُ

عَنْهَا فِي هَرَبِهِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَلَا يُنْكِرُ الْحَسَنَ مِنْ الشِّعْرِ أَحَدٌ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ وَلَا مِنْ أُولِي النُّهَى ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَمَوَاضِعِ الْقُدْوَةِ إلَّا وَقَدْ قَالَ الشَّعْرَ أَوْ تَمَثَّلَ بِهِ أَوْ سَمِعَهُ فَرَضِيَهُ مَا كَانَ حِكْمَةً أَوْ مُبَاحًا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فُحْشٌ وَلَا خَنَا وَلَا لِمُسْلِمٍ أَذًى .
؛ وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْعَشَرَةِ ثُمَّ الْمَشْيَخَةُ السَّبْعَةُ شَاعِرًا مُجِيدًا انْتَهَى .
وَفِي الْإِحْيَاءِ فِي التَّشْبِيبِ بِنَحْوِ وَصْفِ الْخُدُودِ وَالْأَصْدَاغِ وَسَائِرِ أَوْصَافِ النِّسَاءِ نَظَرٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ نَظْمُهُ وَلَا إنْشَادُهُ بِصَوْتٍ وَغَيْرِ صَوْتٍ ، وَعَلَى الْمُسْتَمِعِ أَنْ لَا يُنْزِلَهُ عَلَى امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، فَإِنْ نَزَّلَهُ عَلَى حَلِيلَتِهِ جَازَ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ الْعَاصِي بِالتَّنْزِيلِ ، وَمَنْ هَذَا وَصْفُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ السَّمَاعَ .
انْتَهَى .

( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الشِّعْرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَجْوِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ بِصِدْقٍ ، وَكَذَا إنْ اشْتَمَلَ عَلَى فُحْشٍ أَوْ كَذِبٍ فَاحِشٍ وَإِنْشَادِ هَذَا الْهَجْوِ وَإِذَاعَتِهِ ) وَعَدُّ هَذِهِ كَبَائِرَ هُوَ مَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُ الْجُرْجَانِيِّ فِي شَافِيهِ : وَلَا تُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ يُنْشِدُ الشِّعْرَ وَيُنْشِئُهُ مَا لَمْ يَكُنْ هَجْوَ مُسْلِمٍ أَوْ فُحْشًا أَوْ كَذِبًا فَاحِشًا انْتَهَى ؛ أَيْ فَإِنْ كَانَ هَجْوَ مُسْلِمٍ أَوْ فُحْشًا أَوْ كَذِبًا فَاحِشًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ لِغَيْرِ نَحْوِ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ وَالتُّهْمَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْفِسْقِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا خَرْمُ مُرُوءَةٍ وَلَا نَحْوُهُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الرَّدَّ هُنَا إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِسْقًا ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ هَجْوَ الْمُسْلِمِ فِسْقٌ الْعِمْرَانِيُّ فِي الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ : إنْ هَجَا مُسْلِمًا فَسَقَ أَوْ ذِمِّيًّا فَلَا بَأْسَ ، وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ حَيْثُ قَالَ : أَمَّا إذَا آذَى فِي شَعْرِهِ بِأَنْ هَجَا الْمُسْلِمِينَ أَوْ رَجُلًا مُسْلِمًا فَسَقَ بِهِ لِأَنَّ إيذَاءَ الْمُسْلِمِ مُحَرَّمٌ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَهَذَا إذَا كَثُرَ وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي ا هـ .
وَكَأَنَّ الشَّيْخَيْنِ تَبِعَاهُ حَيْثُ أَطْلَقَا رَدَّ الشَّهَادَةَ بِالْهَجْوِ سَوَاءٌ أَصَدَقَ أَمْ كَذَبَ ، وَقَوْلُ الْبُلْقِينِيِّ فِي تَصْحِيحِ الْمِنْهَاجِ : لَا يَلْزَمُ مِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ التَّحْرِيمُ : فَقَدْ يَكُونُ الرَّدُّ لِخَرْمِ الْمُرُوءَةِ - رَدَّهُ تِلْمِيذُهُ أَبُو زُرْعَةَ - بِأَنْ لَا خَرْمَ فِيهِ قَالَ : وَإِنَّمَا سَبَبُ رَدِّهَا التَّحْرِيمُ ، أَيْ وَإِذَا كَانَ سَبَبُ رَدِّهَا التَّحْرِيمَ لَزِمَهُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً إذْ الصَّغِيرَةُ لَا تَقْتَضِي رَدَّ الشَّهَادَةِ ، فَتَعَيَّنَ كَوْنُ ذَلِكَ كَبِيرَةً ، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ يُنْظَرُ فِي قَوْلِ شَيْخِنَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا - سَقَى اللَّهُ مَهْدَهُ - : قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فَإِنْ هَجَا فِي شِعْرِهِ رُدَّتْ

شَهَادَتُهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا هَجَا بِمَا يَفْسُقُ بِهِ كَأَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ وَلَمْ تَغْلِبْ طَاعَاتُهُ بِقَرِينَةِ مَا ذَكَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
ا هـ .
وَوَجْهُ التَّنْظِيرِ فِيهِ أَنَّهُ إذَا أَكْثَرَ مِنْهُ فَسَقَ كَمَا مَرَّ عَنْ الرُّويَانِيِّ عَنْ الْأَصْحَابِ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يُكْثِرْ كَمَا مَرَّ عَنْ اخْتِيَارِ الرُّويَانِيِّ ، وَإِذَا فَسَقَ بِالْإِكْثَارِ لَزِمَ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَارْتِكَابُ الْكَبِيرَةِ مُفَسِّقٌ وَإِنْ غَلَبَتْ الطَّاعَاتُ الْمَعَاصِيَ ، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ غَلَبَةِ الطَّاعَاتِ وَغَلَبَةِ الْمَعَاصِي إنَّمَا هُوَ عِنْدَ ارْتِكَابِ الصَّغَائِرِ ، أَمَّا عِنْدَ ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ فَيَفْسُقُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا ، وَصَوَّبَ الزَّرْكَشِيُّ مَا مَرَّ عَنْ الْأَصْحَابِ مِنْ التَّقْيِيدِ بِالْإِكْثَارِ ، فَقَالَ : وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِمُطْلَقِ الْهَجْوِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، لَكِنْ اغْتَفَرَ الدَّارِمِيُّ يَسِيرَهُ وَهُوَ مُقْتَضَى تَقْيِيدِهِ الْأُمَّ بِالْإِكْثَارِ وَهُوَ الصَّوَابُ .
ا هـ .
وَلَخَصَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ شَيْخِهِ الْأَذْرَعِيِّ : إطْلَاقُ رَدِّ الشَّهَادَةِ بِالْهَجْوِ بَعِيدٌ إذْ النَّظْمُ كَالنَّثْرِ ، وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ أَنَّ الشَّاعِرَ حَيْثُ لَمْ يَمْدَحْ بِالْكَذِبِ وَلَمْ يَذُمَّ بِهِ إلَّا يَسِيرًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْأُمِّ : وَمَنْ أَكْثَرَ الْوَقِيعَةَ فِي النَّاسِ عَلَى الْغَضَبِ أَوْ الْحِرْمَانِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ فِيهِ ظَاهِرًا كَثِيرًا مُسْتَعْلِنًا كَذِبًا مَحْضًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَبِأَحَدِهِمَا لَوْ انْفَرَدَ هَذَا نَصُّهُ ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ إنْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ عُرِفَ بِهِ أَوْ هَجَا بِمَا يَفْسُقُ بِهِ لِكَوْنِ التَّلَفُّظِ بِهِ كَبِيرَةً رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لَا مَحَالَةَ ، أَمَّا لَوْ لَمْ يُكْثِرْ وَلَمْ يُعْرَفْ بِهِ وَلَا كَانَ التَّلَفُّظُ بِهِ كَبِيرَةً فَلَا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْغِيبَةُ كَبِيرَةٌ أَوْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ شَيْئًا مُؤْذِيًا يُحْفَظُ عَنْهُ وَيُنْشَدُ كُلَّ وَقْتٍ فَيَتَأَذَّى بِهِ الْمَهْجُوُّ وَوَلَدُهُ ، فَهَذَا

مُحْتَمَلٌ بِخِلَافِ النَّثْرِ ؛ لِأَنَّ النَّظْمَ يُحْفَظُ وَيَعْلَقُ بِالْأَذْهَانِ وَيُعَاوَدُ ، قَالَ فِي الْبَحْرِ : الشِّعْرُ يُحْفَظُ نَظْمُهُ فَيَسِيرُ وَيَبْقَى عَلَى الْأَعْصَارِ وَالدُّهُورِ بِخِلَافِ النَّثْرِ .
وَفِيهِ أَيْضًا أَمَّا إذَا آذَى فِي شِعْرِهِ بِأَنْ هَجَا الْمُسْلِمِينَ أَوْ رَجُلًا مُسْلِمًا فَسَقَ بِهِ ؛ لِأَنَّ إيذَاءَ الْمُسْلِمِ مُحَرَّمٌ قَالَ أَصْحَابُنَا وَهَذَا إذَا أَكْثَرَ وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي .
ا هـ كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ مُلَخَّصًا ، وَقَالَ أَيْضًا : قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمِنْهَاجِ حُرْمَةُ إنْشَاءِ الْهَجْوِ وَالتَّشْبِيبِ الْمُحَرَّمِ كَمَا يَحْرُمُ إنْشَاؤُهُمَا وَلَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ ؛ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ حَيْثُ قَالَ : ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ التَّشْبِيبَ بِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا بِالْإِفْرَاطِ فِي وَصْفِهَا مُحَرَّمٌ ، وَهَذَا إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى قَائِلِهِ فَصَحِيحٌ .
وَأَمَّا عَلَى رَاوِيهِ فَلَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْمَغَازِيَ رُوِيَ فِيهَا قَصَائِدُ الْكُفَّارِ الَّتِي هَجَوْا فِيهَا الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي الشِّعْرِ الَّذِي تَقَاوَلَتْ بِهِ الشُّعَرَاءُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَغَيْرِهِمَا إلَّا قَصِيدَةَ ابْنِ أَبِي الصَّلْتِ الْحَائِيَّةِ ، وَقَدْ سَمِعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصِيدَةَ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَرْوُونَ أَمْثَالَ هَذَا وَلَا يُنْكِرُ .
ا هـ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَلَا شَكَّ فِيمَا قَالَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فُحْشٌ وَلَا أَذًى لِحَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إلَيْهِ ، وَقَدْ ذَمَّ الْعُلَمَاءُ جَرِيرًا وَالْفَرَزْدَقَ فِي تَهَاجِيهِمَا وَلَمْ يَذُمُّوا مَنْ اسْتَشْهَدَ بِذَلِكَ عَلَى إعْرَابٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ .
وَيَجِبُ حَمْلُ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ اللَّعِبِ وَالْبَطَالَةِ ، وَعَلَى إنْشَادِ شَعْرِ شُعَرَاءِ الْعَصْرِ إذَا كَانَ إنْشَاؤُهُ حَرَامًا .
إذْ لَيْسَ فِيهِ أَذًى أَوْ وَقِيعَةٌ فِي

الْأَحْيَاءِ أَوْ إسَاءَةُ الْأَحْيَاءِ فِي أَمْوَاتِهِمْ أَوْ ذِكْرُ مَسَاوِئِ الْأَمْوَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَلَيْسُوا مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ فِي لُغَةٍ وَلَا غَيْرِهَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا التَّفَكُّهُ بِالْأَعْرَاضِ .
ا هـ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيضُ هَجْوًا كَالتَّصْرِيحِ وَقَدْ يَزِيدُ بَعْضُ التَّعْرِيضِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ، وَاسْتَحْسَنَ الْأَذْرَعِيُّ قَوْلَهُ وَقَدْ يَزِيدُ إلَخْ وَهُوَ كَمَا قَالَ ، فَقَوْلُ ابْنِ كَجٍّ لَيْسَ التَّعْرِيضُ هَجْوًا ضَعِيفٌ .
وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته قَوْلَ الْحَلِيمِيِّ وَكُلُّ مَا حَرُمَ التَّصْرِيحُ بِهِ لِعَيْنِهِ فَالتَّعْرِيضُ بِهِ حَرَامٌ أَيْضًا وَمَا حَرُمَ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِعَارِضٍ فَالتَّعْرِيضُ بِهِ جَائِزٌ كَخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ ، وَأَمَّا قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ مَا قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ أَقْيَسُ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا التَّعْرِيضَ فِي بَابِ الْقَذْفِ مُلْحَقًا بِالْكِنَايَةِ فَكَيْفَ يَلْتَحِقُ بِالتَّصْرِيحِ ، فَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي عَدَمِ الْإِلْحَاقِ فِي الْحَدِّ ، وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الْحُرْمَةِ وَلِكُلٍّ مَلْحَظٌ وَمَدْرَكٌ فَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي مَبْحَثِ الْقَذْفِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ إثْمُ حَاكِي الْهَجْوِ كَإِثْمِ مُنْشِدِهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إذَا اسْتَوَيَا أَمَّا إذَا أَنْشَأَهُ وَلَمْ يُذِعْهُ فَأَذَاعَهُ الْحَاكِي فَإِثْمُهُ أَشَدُّ بِلَا شَكٍّ .
ا هـ .
وَنَازَعَ الْبُلْقِينِيُّ فِيمَا مَرَّ عَنْ الشَّيْخَيْنِ مِنْ أَنَّ الصَّادِقَ فِي الْهَجْوِ كَالْكَاذِبِ فِيهِ ، فَقَالَ قَضِيَّةُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الشِّعْرَ كَلَامٌ حَسَنُهُ كَحَسَنِهِ وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ الْهَجْوَ الصَّادِقَ حَيْثُ لَا يُحَرِّمُ الْكَلَامَ بِذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ إشَاعَةُ فَاحِشَةٍ فَهُوَ حَرَامٌ .
ا هـ .
وَلَهُ وَجْهٌ لَكِنْ يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ قَوْلُ الرُّويَانِيِّ يَحْرُمُ الْهَجْوُ وَلَوْ

كَانَ صَادِقًا .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ زَادَ الْقَمُولِيُّ فِي جَوَاهِرِهِ وَإِثْمُ الصَّادِقِ أَخَفُّ مِنْ إثْمِ الْكَاذِبِ .
وَاحْتَرَزْت بِالتَّقْيِيدِ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْمُسْلِمِ عَنْ الْكَافِرِ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا وَتَفْصِيلًا بَلْ فِي الْمُسْلِمِ تَفْصِيلٌ أَيْضًا .
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ أَطْلَقُوا جَوَازَ هَجْوِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ الرُّويَانِيُّ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ وَأَصْحَابُ الْكَافِي وَالْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ ، وَجَرَى عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَجْوِ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } فَكَانَ يَهْجُو قُرَيْشًا وَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ فِيهِمْ أَشَدُّ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ } .
وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ عَلَى الْعُمُومِ ، وَفِي الْمُعَيَّنِ الْحَرْبِيِّ مَيِّتًا كَانَ أَوْ حَيًّا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِيبٌ مَعْصُومٌ يَتَأَذَّى بِهِ ، أَمَّا الذِّمِّيُّ أَوْ الْمُعَاهَدُ وَالْحَرْبِيُّ الَّذِي لَهُ قَرِيبٌ ذِمِّيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ يَتَأَذَّى بِهِ فَلَا يَجُوزُ هَجْوُهُ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ الْأَذْرَعِيُّ وَكَذَا ابْنُ الْعِمَادِ وَزَادَ : إنَّ الْمُؤْمِنَ كَالذِّمِّيِّ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ يَلْزَمَنَا الْكَفُّ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَكَذَا الزَّرْكَشِيُّ وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْوَجْهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَجْوِ حَسَّانَ وَغَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُفَّارَ قُرَيْشٍ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي مُعَيَّنٍ لَكِنَّهُ فِي حَرْبِيٍّ ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهُوَ ذَبٌّ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مِنْ الْقُرَبِ فَضْلًا عَنْ الْمُبَاحَاتِ ، وَلِذَلِكَ أَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَدَعَا لَهُ بِمَا مَرَّ ، وَأَلْحَقَ الْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ الْمُبْتَدِعَ بِالْحَرْبِيِّ فَيَجُوزُ هَجْوُهُ

بِبِدْعَتِهِ ، لَكِنْ لِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ كَالتَّحْذِيرِ مِنْ بِدْعَتِهِ .
قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ : وَيَجُوزُ هَجْوُ الْمُرْتَدِّ دُونَ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ ا هـ .
وَمَا قَالَهُ فِي الْمُرْتَدِّ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ كَالْحَرْبِيِّ بَلْ أَقْبَحُ وَفِي الْآخَرِينَ مَحَلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَتَجَاهَرَا .
أَمَّا الْمُتَجَاهِرُ بِفِسْقِهِ فَيَجُوزُ هَجْوُهُ بِمَا تَجَاهَرَ بِهِ فَقَطْ لِجَوَازِ غِيبَتِهِ بِهِ فَقَطْ كَمَا مَرَّ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ إطْلَاقُ جَمْعٍ جَوَازَ هَجْوِ الْفَاسِقِ الْمُجَاهِرِ ، وَقَوْلُ الْبُلْقِينِيِّ الْأَرْجَحُ تَحْرِيمُ هَجْوِهِ إلَّا لِقَصْدِ زَجْرِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَتُوبُ وَتَبْقَى وَصْمَةُ الشِّعْرِ السَّائِرِ عَلَيْهِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ يُرَدُّ بِأَنَّ مُجَاهَرَتَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَعَدَمَ مُبَالَاتِهِ بِالنَّاسِ وَكَلَامِهِمْ فِيهِ صَيَّرَاهُ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ وَلَا مُرَاعًى ، فَهُوَ الْمُهْدِرُ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَجَاهَرَ بِهِ فَلَمْ يُبَالِ بِبَقَاءِ تِلْكَ الْوَصْمَةِ عَلَيْهِ .

( الْكَبِيرَةُ السِّتُّونَ وَالْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ .
الْإِطْرَاءُ فِي الشِّعْرِ بِمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ كَأَنْ يَجْعَلَ الْجَاهِلَ أَوْ الْفَاسِقَ مَرَّةً عَالِمًا أَوْ عَدْلًا وَالتَّكَسُّبَ بِهِ مَعَ صَرْفِ أَكْثَرِ وَقْتِهِ وَبِمُبَالَغَتِهِ فِي الذَّمِّ وَالْفُحْشِ إذَا مَنَعَ مَطْلُوبَهُ ) وَكَوْنُ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا يَأْتِي عِنْدَ الْمَاوَرْدِيِّ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ الْفُورَانِيِّ فِي الْعُمْدَةِ : وَلَوْ بَالَغَ فِي مَدْحِ رَجُلٍ فَقَالَ : مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ فَهُوَ كَذِبٌ صَرِيحٌ وَسَفَهٌ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَتَقْيِيدُهُ بِالْعَادَةِ حَسَنٌ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ : إنْ لَمْ يُكْثِرْ الْكَذِبَ الْمَحْضَ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ ، ثُمَّ قَالَ فِي الْعُمْدَةِ : إنْ ذَكَرَ مِثْلَ تَشْبِيهِهِ الرَّجُلَ بِالْأَسَدِ وَبِالْبَدْرِ فَلَا يَقْدَحُ ، وَكَذَلِكَ الْكَاتِبُ إذَا ذَكَرَ مَا تَجْرِي بِهِ الْعَادَةُ كَقَوْلِهِ أَنَا فِي ذِكْرِك آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَلَا أُخَلِّي مَجْلِسًا عَنْ ذِكْرِك ، وَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، فَهَذَا لَا يَقْدَحُ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ الْكَذِبَ وَلَكِنَّهُ تَزْيِينٌ لِلْكَلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ لَغْوِ الْيَمِينِ ، وَمَا ذَكَرَهُ حَسَنٌ بَالِغٌ وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ مَا ذُكِرَ عَنْ شَيْخِهِ الْقَفَّالِ وَالصَّيْدَلَانِيِّ وَقَدْ مَرَّ فِي مَبْحَثِ الْكَذِبِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَمْدُوحٍ وَمَمْدُوحٍ ، فَإِذَا بَالَغَ فِي وَصْفِ مَنْ عِنْدَهُ نَحْوُ كَرَمٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ شَجَاعَةٍ مِمَّا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ وَأَغْرَقَ فِيهِ لَمْ يَضُرَّ وَإِنْ عَرِيَ عَنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ بِالْكُلِّيَّةِ بِأَنْ جَعَلَ فَاسِقًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ شَحِيحًا أَعْلَمَ النَّاسِ أَوْ أَعْدَلَهُمْ أَوْ أَكْرَمَهُمْ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ الْحِسُّ ، فَهَذَا مُطْرِحٌ لِجِلْبَابِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّخَذَ الْمَدْحَ حِرْفَةً وَأَنْفَقَ فِيهِ غَالِبَ أَوْقَاتِهِ بِخِلَافِ مَنْ مَدَحَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَفْرَادًا لِمَعْرُوفٍ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12