كتاب : إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله وتعرف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله فعلموا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله بل هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به أحد من خلقه في إكثاره وإقلاله لا يحصي أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه على لسان من أكرمهم بإرساله الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والباطن الذي ليس دونه شيء ولا يحجب المخلوق عنه تستره بسر باله الحي القيوم الواحد الأحد الفرد الصمد المنفرد بالبقاء وكل مخلوق منتهى إلى زواله السميع الذي يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات فلا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين في سؤاله البصير الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء حيث كانت من سهله أو جباله وألطف من ذلك رؤيته لتقلب قلب عبده ومشاهدته لاختلاف أحواله فإن أقبل إليه تلقاه وإنما إقبال العبد عليه من إقباله وإن أعرض عنه لم يكله إلى عدوه ولم يدعه في إهماله بل يكون أرحم به من الوالدة بولدها الرفيقة به في حمله ورضاعه وفصاله فإن تاب فهو أفرح بتوبته من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدوية المهلكة إذا وجدها وقد تهيأ لموته وانقطاع أوصاله وإن أصر على الإعراض ولم يتعرض لأسباب الرحمة بل أصر على العصيان في إدباره وإقباله

وصالح عدو الله وقاطع سيده فقد استحق الهلاك ولا يهلك على الله إلا الشقى الهالك لعظيم رحمته وسعة إفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا فردا صمدا جل عن الأشباه والأمثال وتقدس عن الأضداد والأنداد والشركاء والأشكال لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لحكمه ولا معقب لأمره : وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال [ الرعد : ] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائم له بحقه وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه أرسله رحمة للعالمين إماما للمتقين وحسرة على الكافرين وحجة على العباد أجمعين بعثه على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعظيمه وتوقيره والقيام بحقوقه وسد إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فشرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره وجعل الذل والصغار على من خالف أمره وأقسم بحياته في كتابه المبين وقرن اسمه باسمه فلا يذكر إلا ذكر معه كما في التشهد والخطب والتأذين فلم يزل صلى الله عليه و سلم قائما بأمر الله لا يرده عنه راد مشمرا في مرضاة الله لا يصده عن ذلك صاد إلى أن أشرقت الدنيا برسالته ضياء وابتهاجا ودخل الناس في دين الله أفواجا أفواجا وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار ثم استأثر الله به لينجز له ما وعده به في كتابه المبين بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد وأقام الدين وترك أمته على البيضاء الواضحة البينة للسالكين وقال : هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [ يوسف : 108 ]

أما بعد : فإن الله سبحانه لم يخلق خلقه سدى هملا بل جعلهم موردا للتكليف ومحلا للأمر والنهي وألزمهم فهم ما أرشدهم إليه مجملا ومفصلا وقسمهم إلى شقي وسعيد وجعل لكل واحد من الفريقين منزلا وأعطاهم مواد العلم والعمل : من القلب والسمع والبصر والجوارح نعمة منه وتفضيلا فمن استعمل ذلك في طاعته وسلك به طريق معرفته على ما أرشد إليه ولم يبغ عنه عدولا فقد قام بشكر ما أوتيه من ذلك وسلك به إلى مرضاة الله سبيلا ومن استعمله في إرادته وشهواته ولم يرع حق خالقه فيه يخسر إذا سئل عن ذلك ويحزن حزنا طويلا فإنه لابد من الحساب على حق هذه الأعضاء لقوله تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الاسراء : 36 ]
ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود الذي تصدر كلها عن أمره ويستعملها فيما شاء فكلها تحت عبوديته وقهره وتكتسب منه الاستقامة والزيغ وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله قال النبيصلى الله عليه وسلم : ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله فهو ملكها وهي المنفذة لما يأمرها به القابلة لما يأتيها من هديته ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته وهو المسئول عنها كلها لأن كل راع مسئول عن رعيته : كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه أجلب عليه بالوساوس وأقبل بوجوه الشهوات إليه وزين له من الأحوال والأعمال ما يصده به عن الطريق وأمده من أسباب الغى بما يقطعه عن أسباب التوفيق ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق فلا نجاة من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى والتعرض لأسباب مرضاته والتجاء القلب إليه وإقباله عليه في حركاته وسكناته والتحقق بذل العبودية الذي هو أولى ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول ضمان إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [ الحجر : 42 ] فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين وحصولها سبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين وإشعار القلب

إخلاص العمل ودوام اليقين فإذا أشرب القلب العبودية والإخلاص صار عند الله من المقربين وشمله استثناء إلا عبادك منهم المخلصين [ الحجر : 40 ]
ولما من الله الكريم بلطفه بالاطلاع على ما اطلع عليه من أمراض القلوب وأدوائها وما يعرض لها من وساوس الشياطين أعدائها وما تثمر تلك الوساوس من الأعمال وما يكتسب القلب بعدها من الأحوال فإن العمل السيىء مصدره عن فساد قصد القلب ثم يعرض للقلب من فساد العمل قسوة فيزداد مرضا على مرضه حتى يموت ويبقى لا حياة فيه ولا نور له وكل ذلك من انفعاله بوسوسة الشيطان وركونه إلى عدوه الذي لا يفلح إلا من جاهره بالعصيان : أردت أن أقيد ذلك في هذا الكتاب لأستذكره معترفا فيه لله بالفضل والإحسان ولينتفع به من نظر فيه داعيا لمؤلفه بالمغفرة والرحمة والرضوان وسميته : إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ورتبته على ثلاثة عشر بابا : الباب الأول : في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت الباب الثاني : في ذكر حقيقة مرض القلب الباب الثالث : في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية الباب الرابع : في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه الباب الخامس : في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره الباب السادس : في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه الباب السابع : في أن القرا ن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه الباب الثامن : في زكاة القلب الباب التاسع : في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه الباب العاشر : في علامات مرض القلب وصحته

الباب الحادي عشر : في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه الباب الثاني عشر : في علاج مرض القلب بالشيطان الباب الثالث عشر : في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن ا دم وهو الباب الذي لأجله وضع الكتاب وفيه فصول جمة الفوائد حسنة المقاصد والله تعالى يجعله خالصا لوجهه مؤمنا من الكرة الخاسرة وينفع به مصنفه وكاتبه والناظر فيه في الدنيا والا خرة إنه سميع عليم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

الباب الأول في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت لما كان
القلب يوصف بالحياة وضدها انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة فالقلب الصحيح : هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به كما قال تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ الشعراء : 88 ] والسليم هو السالم وجاء على هذا المثال لأنه للصفات كالطويل والقصير والظريف فالسليم القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له كالعليم والقدير وأيضا فإنه ضد المريض والسقيم والعليل
وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم والأمر الجامع لذلك : أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه وسلم من تحكيم غير رسوله فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والذل له وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده قالقلب السليم : هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما بل قد خلصت عبوديته لله تعالى : إرادة ومحبة وتوكلا وإنابة وإخباتا وخشية ورجاء وخلص عمله لله

فإن أحب أحب في الله وإن أبغض أبغض في الله وإن أعطى أعطى لله وإن منع منع لله ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسولهصلى الله عليه وسلم فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده دون كل أحد في الأقوال والأعمال من أقوال القلب وهي العقائد وأقوال اللسان وهي الخبر عما في القلب وأعمال القلب وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها وأعمال الجوارح فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دقعه وجله هو ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل كما قال تعالى : يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله [ الحجرات : 1 ] أي لا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر قال بعض السلف : ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان : لم وكيف أى لم فعلت وكيف فعلت فالأول سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه : هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم أو استجلاب محبوب عاجل أو دفع مكروه عاجل أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى وابتغاء الوسيلة إليه
ومحل هذا السؤال : أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك أم فعلته لحظك وهواك
والثاني : سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة و السلام في ذلك التعبد أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه
فالأول سؤال عن الإخلاص والثاني عن المتابعة فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما
فطريق التخلص من السؤال الأول : بتجريد الإخلاص وطريق التخلص من السؤال الثاني : بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص وهوى يعارض الاتباع فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضمنت له النجاة والسعادة

فصل في القلب الميت
والقلب الثاني : ضد هذا وهو القلب الميت الذي لا حياة به فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه بل هو واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه وغضبه فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط فهو متعبد لغير الله : حبا وخوفا ورجاء ورضا وسخطا وتعظيما وذلا إن أحب أحب لهواه وإن أبغض أبغض لهواه وإن أعطى أعطى لهواه وإن منع منع لهواه فهواه ا ثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه فالهوى إمامه والشهوة قائده والجهل سائقه والغفلة مركبه فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور ينادى إلى الله وإلى الدار الا خرة من مكان بعيد ولا يستجيب للناصح ويتبع كل شيطان مريد الدنيا تسخطه وترضيه والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه فهو في الدنيا كما قيل في ليلى :
عدو لمن عادت وسلم لأهلها ... ومن قربت ليلى أحب وأقربا فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سم ومجالسته هلاك
فصل في القلب المريض
والقلب الثالث : قلب له حياة وبه علة فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى وهو لما غلب عليه منهما ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه : ما هو مادة حياته وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها والحسد والكبر والعجب وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة : ما هو مادة هلاكه وعطبه وهو ممتحن بين داعبيين : داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة وداع يدعوه إلى العاجلة وهو إنما يجيب أقربهما منه بابا وأدناهما إليه جوارا قالقلب الأول حى مخبت لين واع والثاني يابس ميت والثالث مريض فإما إلى السلامة أدنى وإما إلى العطب أدنى
وقد جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة في قوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان

ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [ الحج : 52 54 ]
فجعل الله سبحانه وتعالى القلوب في هذه الا يات ثلاثة : قلبين مفتونين وقلبا ناجيا فالمفتونان : القلب الذي فيه مرض والقلب القاسي والناجي : القلب المؤمن المخبت إلى ربه وهو المطمئن إليه الخاضع له المستسلم المنقاد
وذلك : أن القلب وغيره من الأعضاء يراد منه أن يكون صحيحا سليما لا ا فة به يتأتى منه ما هيىء له وخلق لأجله وخروجه عن الاستقامة إما ليبسه وقساوته وعدم التأتي لما يراد منه كاليد الشلاء واللسان الأخرس والأنف الأخشم وذكر العنين والعين التي لا تبصر شيئا وإما بمرض وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال ووقوعها على السداد فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة
فالقلب الصحيح السليم : ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه فهو صحيح الإدراك للحق تام الانقياد والقبول له
والقلب الميت القاسي : لا يقبله ولا ينقاد له
والقلب المريض : إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم
فما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ وفي القلوب من الشبه والشكوك : فتنة لهذين القلبين وقوة للقلب الحي السليم لأنه يرد ذلك ويكرهه ويبغضه ويعلم أن الحق في خلافه فيخبت للحق ويطمئن وينقاد ويعلم بطلان ما ألقاه الشيطان فيزداد إيمانا بالحق ومحبة له وكفرا بالباطل وكراهة له فلا يزال القلب المفتون في مرية من إلقاء الشيطان وأما القلب الصحيح السليم فلا يضره ما يلقيه الشيطان أبدا
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وا له وسلم تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين : قلب

أسود مربادزا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض فشبه عرض الفتن على

القلوب شيئا فشيئا كعرض عيدان الحصير وهي طاقاتها شيئا فشيئا وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين : قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها كما يشرب السفنج الماء فتنكت فيه نكتة سوداء فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس وهو معنى قوله كالكوز مجخيا أي مكبوبا منكوسا فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الا فتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك : أحدهما : اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا والسنة بدعة والبدعة سنة والحق باطلا والباطل حقا الثاني : تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وانقياده للهوى واتباعه له
وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر فيه مصباحه فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها فازداد نوره وإشراقه وقوته والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات فتن الغي والضلال فتن المعاصي والبدع فتن الظلم والجهل فالأولى توجب فساد القصد والإرادة والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد
وقد قسم الصحابة رضي الله تعالى عنهم القلوب إلى أربعة كما صح عن حذيفة بن اليمان : القلوب أربعة : قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أغلف فذلك قلب الكافر وقلب منكوس فذلك قلب المنافق عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمى وقلب تمده مادتان : مادة إيمان ومادة نفاق وهو لما غلب عليه منهما 1
فقوله : قلب أجرد أي متجرد مما سوى الله ورسوله فقد تجرد وسلم مما سوى الحق و فيه سراج يزهر وهو مصباح الإيمان : فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات

الباطل وشهوات الغى وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان وأشار بالقلب الأغلف إلى قلب الكافر لأنه داخل في غلافه وغشائه فلا يصل إليه نور العلم والإيمان كما قال تعالى حاكيا عن اليهود : وقالوا قلوبنا غلف [ البقره : 88 ] وهو جمع أغلف وهو الداخل في غلافه كقلف وأقلف وهذه الغشاوة هي الأكنة التي ضربها الله على قلوبهم عقوبة له على رد الحق والتكبر عن قبوله فهي أكنة على القلوب ووقر في الأسماع وعمى في الأبصار وهي الحجاب المستور عن العيون في قوله تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ الأنعام : 25 ] فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة ولى أصحابها على أدبارهم نفورا
وأشار بالقلب المنكوس وهو المكبوب إلى قلب المنافق كما قال تعالى : فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا [ النساء : 88 ] أي نكسهم وردهم في الباطل الذي كانوا فيه بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة وهذا شر القلوب وأخبثها فإنه يعتقد الباطل حقا ويوالي أصحابه والحق باطلا ويعادى أهله فالله المستعان
وأشار بالقلب الذي له مادتان إلى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيه سراجه حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله بل فيه مادة منه ومادة من خلافه فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر والحكم للغالب وإليه يرجع

الباب الثاني في ذكر حقيقة مرض القلب قال الله تعالى عن المنافقين
: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ البقره : 10 ] وقال تعالى : ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض [ الحج : 53 ] وقال تعالى : يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [ الأحزاب : 32 ] أمرهن أن لا يلن في كلامهن كما تلين المرأة المعطية الليان في منطقها فيطمع الذي في قلبه مرض الشهوة ومع ذلك فلا يخشن في القول بحيث يلتحق بالفحش بل يقلن قولا معروفا وقال تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغر ينك بهم [ الأحزاب : 60 ] وقال تعالى : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر : 31 ] أخبر الله سبحانه عن الحكمة التي جعل لأجلها عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر فذكر سبحانه خمس حكم : فتنة الكافرين فيكون ذلك زيادة في كفرهم وضلالهم وقوة يقين أهل الكتاب فيقوى يقينهم بموافقة الخبر بذلك لما عندهم عن أنبيائهم من غير تلق من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم فتقوم الحجة على معاندهم وينقاد للإيمان من يرد الله أن يهديه وزيادة إيمان الذين آمنوا بكمال تصديقهم بذلك والإقرار به وانتفاء الريب عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك وعن المؤمنين لكمال تصديقهم به فهذه أربعة حكم : فتنة الكفار ويقين أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين وانتفاء الريب عن المؤمنين وأهل الكتاب

والخامسة : حيرة الكافر ومن في قلبه مرض وعمى قلبه عن المراد بذلك فيقول : ماذا أراد الله بهذا مثلا [ البقره : 26 ] وهذا حال القلوب عند ورود الحق المنزل عليها : قلب يفتتن به كفرا وجحودا وقلب يزداد به إيمانا وتصديقا وقلب يتيقنه فتقوم عليه به الحجة وقلب يوجب له حيرة وعمى فلا يدري ما يراد به واليقين وعدم الريب في هذا الموضع إن رجعا إلى شيء واحد كان ذكر عدم الريب مقررا لليقين ومؤكدا له ونافيا عنه ما يضاده بوجه من الوجوه وإن رجعا إلى شيئين بأن يكون اليقين راجعا إلى الخبر المذكور عن عدة الملائكة وعدم الريب عائدا إلى عموم ما أخبر الرسول به لدلالة هذا الخبر الذي لا يعلم إلا من جهة الرسل على صدقه فلا يرتاب من قد عرف صحة هذا الخبر بعد صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ظهرت فائدة ذكره والمقصود : ذكر مرض القلب وحقيقته وقال تعالى : يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين [ يونس : 57 ] فهو شفاء لما في الصدور من مرض الجهل والغى فإ ن الجهل مرض شفاؤه العلم والهدى والغي مرض شفاؤه الرشد وقد نزه الله سبحانه نبيه عن هذين الداءين فقال : والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى [ النجم : 1 ] ووصف رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خلفاءه بضدهما فقال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وجعل كلامه سبحانه موعظة للناس عامة وهدى ورحمة لمن آمن به خاصة وشفاء تاما لما في الصدور فمن استشفى به صح وبرىء من مرضه ومن لم يستشف به فهو كما قيل :

إذا بل من داء به ظن أنه ... نجا وبه الداء الذي هو قاتله
وقال تعالى : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنن ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ الإسراء : 82 ] والأظهر أن من ههنا لبيان الجنس فالقرآن جميعه شفاء ورحمة للمؤمنين

فصل في أسباب ومشخصات مرض البدن والقلب
ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي لفساد يعرض له يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل وإما أن ينقص إداركه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرا والخبيث طيبا والطيب خبيثا
وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد الموت والهلاك بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة
وسبب هذا الخروج عن الاعتدال : إما فساد في الكمية أو في الكيفية
فالأول : إما لنقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها وإما لزيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها
والثاني : إما بزيادة الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي فيداوي بمقتضى ذلك ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذى واستفراغ المواد الفاسدة ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة وقد تضمنها الكتاب العزيز وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة

فأما حفظ القوة : فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان ويقضي المسافر إذا قدم والمريض إذا برىء حفظا لقوتهما عليهما فإن الصوم يزيد المريض ضعفا والمسافر يحتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر والصوم يضعفها وأما الحمية عن المؤذي : فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره وأمره بالعدول إلى التيمم حمية له عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه فكيف بالمؤذي له في باطنه
وأما استفراغ المادة الفاسدة : فإنه سبحانه أباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه فيستفرغ بالحلق الأبخرة المؤذية له وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفها فنبه به على ما هو أحوج إليه منه
وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال : والله لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة لكان سفرا قليلا أو كما قال
وإذا عرف هذا فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته وهو الإيمان وأوراد الطاعات وإلى حمية عن المؤذي الضار وذلك باجتناب الا ثام والمعاصي وأنواع المخالفات وإلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له وذلك بالتوبة النصوح واستغفار غافر الخطيئات ومرضه هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره للحق وإرادته له فلا يرى الحق حقا أو يراه على خلاف ما هو عليه أو ينقص إدراكه له وتفسد به إرادته له فيبغض الحق النافع أو يحب الباطل الضار أو يجتمعان له وهو الغالب ولهذا يفسر المرض الذي يعرض له تارة بالشك والريب كما قال مجاهد وقتادة في قوله تعالى في قلوبهم مرض [ البقره : 10 ] أي شك وتارة بشهوة الزنا كما فسر به قوله تعالى : فيطمع الذي في قلبه

مرض  فالأول مرض الشبهة والثاني مرض الشهوة
والصحة تحفظ بالمثل والشبه والمرض يدفع بالضد والخلاف وهو يقوى بمثل سببه ويزول بضده والصحة تحفظ بمثل سببها وتضعف أو تزول بضده ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح : من يسير الحر والبرد والحركة ونحو ذلك فكذلك القلب إذا كان فيه مرض ا ذاه أدنى شيء : من الشبهة أو الشهوة حيث لا يقوى على دفعهما إذا وردا عليه والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته
وبالجملة فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وضعفت قوته وترامى إلى التلف ما لم يتدارك ذلك بأن يحصل له ما يقوى قوته ويزيل مرضه
الباب الثالث في انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين : طبيعية وشرعية
مرض القلب نوعان : نوع لا يتألم به صاحبه في الحال : وهو النوع المتقدم كمرض الجهل ومرض الشبهات والشكوك ومرض الشهوات وهذا النوع هو أعظم النوعين ألما ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له وهو متوار عنه باشتغاله بضده وهذا أخطر المرضين وأصعبهما وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم فهم أطباء هذا المرض
والنوع الثاني : مرض مؤلم له في الحال كالهم والغم والغيظ وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب وما يدفع موجبها مع قيامها وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى به البدن فكذلك البدن يتألم كثيرا بما يتألم به القلب ويشقيه ما يشقيه

أمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت وأما أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الايمانية النبوية فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء ولهذا يقال شفى غيظه فإذا استولى عليه عدوه آلمه ذلك فإذا انتصف منه اشتفى قلبه قال تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء [ التوبه : 14 ] فأمر بقتال عدوهم وأعلمهم أن فيه ست فوائد
فالغيظ يؤلم القلب ودواؤه في شفاء غيظه فإن شفاه بحق اشتفى وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضا من حيث ظن أنه يشفيه وهو كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق فإن ذلك يزيد مرضه ويوجب له أمراضا أخر أصعب من مرض العشق كما سيأتى إن شاء الله تعالى وكذلك الغم والهم والحزن أمراض للقلب وشفاؤها بأضدادها : من الفرح والسرور فإن كان ذلك بحق اشتفى القلب وصح وبرىء من مرضه وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر ولم يزل وأعقب أمراضا هي أصعب وأخطر
وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع ويعتقد أنه قد صح من مرضه بتلك العلوم وهي في الحقيقة إنما تزيده مرضا إلى مرضه لكن اشتغل القلب بها عن إدراك الألم الكامن فيه بسبب جهله بالعلوم النافعة التي هي شرط في صحته وبرئه قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الذين أفتوا بالجهل فهلك المستفتي بفتواهم : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال فجعل الجهل مرضا وشفاءه سؤال أهل العلم
وكذلك الشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين ولما كان

ذلك يوجب له حرارة قيل لمن حصل له اليقين : ثلج صدره وحصل له برد اليقين وهو كذلك يضيق بالجهل والضلال عن طريق رشده وينشرح بالهدى والعلم قال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ الأنعام : 125 ]
وسيأتي ذكر مرض ضيق الصدر وسببه وعلاجه إن شاء الله تعالى والمقصود : أن من أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية ومنها مالا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية والقلب له حياة وموت ومرض وشفاء وذلك أعظم مما للبدن

الباب الرابع في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته
مادة كل شر فيه
أصل كل خير وسعادة للعبد بل لكل حي ناطق : كمال حياته ونوره فالحياة
والنور مادة الخير كله قال الله تعالى : أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [ الأنعام : 122 ] فجمع بين الأصلين : الحياة والنور فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته وشجاعته وصبره وسائر أخلاقه الفاضلة ومحبته للحسن وبغضه للقبيح فكلما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه فالقلب الصحيح الحى إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر

وكذلك القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه
وكذلك إذا قوى نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الأصلين في مواضع من كتابه فقال تعالى : وكذلك أو حينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ الشورى : 52 ] فجمع بين الروح الذي يحصل به الحياة والنور الذي يحصل به الإضاءة والإشراق وأخبر أن كتابه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم متضمن للأمرين فهو روح تحيا به القلوب ونور تستضىء وتشرق به كما قال تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [ الأنعام : 122 ] أي أومن كان كافرا ميت القلب مغمورا في ظلمة الجهل : فهديناه لرشده ووفقناه للإيمان وجعلنا قلبه حيا بعد موته مشرقا مستنيرا بعد ظلمته فجعل الكافر لانصرافه عن طاعته وجهله بمعرفته وتوحيده وشرائع دينه وترك الأخذ بنصيبه من رضاه والعمل بما يؤديه إلى نجاته وسعادته : بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها من مكروه فهديناه للإسلام وأنعشناه به فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها ويعمل في خلاصها من سخط الله تعالى وعقابه فأبصر الحق بعد عماه عنه وعرفه بعد جهله به واتبعه بعد إعراضه عنه وحصل له نور وضياء يستضىء به فيمشي بنوره بين الناس وهم في سدف الظلام كما قيل :
ليلى بوجهك مشرق ... وظلامه في الناس ساري
الناس في سدف الظلام ... ونحن في ضوء النهار
ولهذا يضرب الله سبحانه وتعالى المثلين المائي والنارى لوحيه ولعباده أما الأول فكما قال في سورة الرعد : أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليه أو متاع زبد مثله كذكلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال

فضرب لوحيه المثل بالماء لما يحصل به من الحياة وبالنار لما يحصل بها من الاضاءة والإشراق وأخبر سبحانه أن الأودية تسيل بقدرها فواد كبير يسع ماء كثيرا وواد صغير يسع ماء قليلا كذلك القلوب مشبهة بالأودية فقلب كبير يسع علما كثيرا وقلب صغير إنما يسع بقدره وشبه ما تحمله القلوب من الشبهات والشهوات بسبب مخالطة الوحي لها وإمازته لما فيها من ذلك بما يحتمله السيل من الزبد وشبه بطلان تلك الشبهات باستقرار العلم النافع فيها بذهاب ذلك الزبد وإلقاء الوادى له وإنما يستقر فيه الماء الذي به النفع وكذلك في المثل الذي بعده : يذهب الخبث الذي في ذلك الجوهر ويستقر صفوه وأما ضرب هذين المثلين للعباد فكما قال في سورة البقرة : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمى فهم لا يرجعون 2 فهذا المثل الناري ثم قال : أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت 1 فهذا المثل المائي
وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمناه من الحكم في كتاب المعالم وغيره
والمقصود : أن صلاح القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين قال تعالى إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيزا 2 فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حي القلب كما قال في موضع آخر إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب 3 وقال تعالى يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم 4 فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي باستجابتنا لما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان فعلم أن موت القلب وهلاكه بفقد ذلك
وشبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور وهذا من أحسن التشبيه فإن أبدانهم قبور لقلوبهم فقد ماتت قلوبهم وقبرت في أبدانهم فقال الله تعالى إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور 5 ولقد أحسن القائل :

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور ولهذا جعل سبحانه وحيه الذي يلقيه إلى الأنبياء روحا كما قال تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده 1 في موضعين من كتابه وقال : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا 2 لأن حياة الأرواح والقلوب به وهذه الحياة الطيبة هي التي خص بها سبحانه من قبل وحيه وعمل به فقال : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون 3 فخصهم سبحانه وتعالى بالحياة الطيبة في الدارين ومثله قوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله 4 ومثله قوله تعالى : للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير وزيادة ولنعم دار المتقين 5 ومثله قوله تعالى للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة فبين سبحانه أنه يسعد المحسن بإحسانه في الدنيا وفي الآخرة كما أخبر أنه يشقى المسيء بإساءته في الدنيا والآخرة قال تعالى : ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى 6 وقال تعالى وقد جمع بين النوعين : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأ نما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون 7
فأهل الهدى والإيمان لهم شرح الصدر واتساعه وانفساحه وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج
وقال تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه 8
فأهل الإيمان في النور وانشراح الصدر وأهل الضلال في الظلمة وضيق الصدر
وسيأتي في باب طهارة القلب مزيد تقرير لهذا إن شاء تعالى
والمقصود : أن حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه وموته وظلمته مادة كل شر فيه

الباب الخامس في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا
للحق مريدا له مؤثرا له على غيره
لما كان في القلب قوتان : قوة العلم والتمييز وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل فمن لم يعرف الحق فهو ضال ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه
وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ولهذا كان النصاري أخص بالضلال لأنهم أمة جهل واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد وهذه الأمة هم المنعم عليهم ولهذا قال سفيان ابن عيينة من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصاري ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود لأن النصاري عبدوا بغير علم واليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه
وفي المسند والترمذي من حديث عدي بن حاتم عن النبيصلى الله عليه وسلمقال : اليهود مغضوب عليهم والنصاري ضالون
وقد جمع الله سبحانه بين الأصلين في غير موضع من كتابه فمنها قوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون 1 فجمع سبحانه بين الاستجابة له والإيمان به ومنها قوله عن رسولهصلى الله عليه وسلم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون 2 وقال تعالى : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على

هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون 3 وقال الله تعالى في وسط السورة : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيعين وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة إلى آخر الآية 4 وقال تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر 5
فأقسم سبحانه وتعالى بالدهر الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة على أن كل واحد في خسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله وقوته العملية بالعمل بطاعته فهذا كماله في نفسه ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره إياه به وبملاك ذلك وهو الصبر فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وكمل غيره بتعليمه إياه ذلك ووصيته له بالصبر عليه ولهذا قال الشافعي رحمه الله لو فكر الناس في سورة : والعصر لكفتهم
وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة : يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره
وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به وإلا استعملها في ضده فالإنسان حارث همام بالطبع كما قال النبيصلى الله عليه وسلم أصدق الأسماء : حارث وهمام
فالحارث الكاسب العامل والهمام المريد فإن النفس متحركة بالإرادة وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها والإرادة تستلزم مرادا يكون متصورا لها متميزا عندها فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولابد وهذا يتبين بالباب الذي بعده فنقول :

الباب السادس في أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح
إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده وهو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه
معلوم أن كل حي سوى الله سبحانه : من ملك أو إنس أو جن أو حيوان فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ولا يتم ذلك إلا بتصوره للنافع والضار والمنفعة من جنس النعيم واللذة والمضرة من جنس الألم والعذاب
فلابد له من أمرين : أحدهما معرفة ما هو المحبوب المطلوب الذي ينتفع به ويلتذ بإدراكه والثاني : معرفة المعين الموصل المحصعل لذلك المقصود وبإزاء ذلك أمران آخران أحدهما : مكروه بغيض ضار والثاني : معين دافع له عنه فهذه أربعة أشياء :
أحدهما : أمر هو محبوب مطلوب الوجود الثاني : أمر مكروه مطلوب العدم الثالث : الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب الرابع : الوسيلة إلى دفع المكروه فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد بل ولكل حيوان لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها
فإذا تقرر ذلك فالله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب الذي يراد وجهه ويبتغى قربه ويطلب رضاه وهو المعين على حصول ذلك وعبودية ما سواه والالتفات إليه والتعلق به : هو المكروه الضار والله هو المعين على دفعه فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه فهو المعبود المحبوب المراد وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدرته وهو المعين لعبده على دفعه عنه كما قال أعرف الخلق به : أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من

عقوبتك وأعوذ بك منك وقال : اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك فمنه المنجي وإليه الملجأ وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته فالإعاذة فعله والمستعاذ منه فعله أو مفعوله الذي خلقه بمشيئته
فالأمر كله له والحمد كله له والملك كله له والخير كله في يديه لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بل هو كما أثني على نفسه وفوق ما يثني عليه كل أحد من خلقه ولهذا كان صلاح العبد وسعادته في تحقيق معنى قوله : إياك نعبد وإياك نستعين [ الفاتحه : 4 ] فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب لكن على أكمل الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب فالأول : من معنى ألوهيته والثاني : من معنى ربوبيته فإن الإله هو الذي تألهه القلوب : محبة وإنابة وإجلالا وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا والرب هو الذي يربى عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى مصالحه فلا إله إلا هو ولا رب إلا هو فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل فكذلك إلهية ما سواه
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه كقوله : فاعبده وتوكل عليه [ هود : 123 ] وقوله عن نبيه شعيب : وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [ هود : 88 ] وقوله : وتوكل على الحىالذي لا يموت وسبح بحمده [ الفرقان : 58 ] وقوله : وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [ المزمل : 8 ] وقوله : قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب [ الرعد : 30 ] وقوله عن الحنفاء أتباع إبراهيم عليه السلام : ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير [ الممتحنة : 4 ]

فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيى التوحيد اللذين لا سعادة للعبد بدونهما ألبتة
الوجه الثاني : أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والانابة إليه ومحبته والاخلاص له فبذكره تطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم ويتم نعيمهم فلا يعطيهم في الآخرة شيئا هو أحب إليهم ولا أقر لعيونهم ولا أنعم لقلوبهم : من النظر اليه وسماع كلامه منه بلا واسطة ولم يعطهم في الدنيا شيئا خيرا لهم ولا أحب إليهم ولا أقر لعيونهم من الإيمان به ومحبته والشوق إلى لقائه والأنس بقربه والتنعم بذكره وقد جمع النبي صلى الله عليه و سلم بين هذين الأمرين في الدعاء الذي رواه النسائي والإمام أحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهم من حديث عمار بن ياسر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدعو به : اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى وأسلك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لاتنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين
فجمع في هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شىء في الدنيا وهو الشوق إلى لقائه سبحانه وأطيب شىء في الآخرة وهو النظر إلى وجهه سبحانه ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفا على عدم ما يضر في الدنيا ويفتن في الدين قال : في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة
ولما كان كمال العبد في أن يكون عالما بالحق متبعا له معلما لغيره مرشدا له قال : واجعلنا هداة مهتدين
ولما كان الرضى النافع المحصل للمقصود هو الرضى بعد وقوع القضاء لاقبله فإن ذلك عزم على الرضى فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم سأل الرضى بعده فإن المقدور يكتنفه أمران : الاستخارة قبل وقوعه والرضى بعد وقوعه فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما كما في المسند وغيره عنهصلى الله عليه وسلمإن من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه

بما قضى الله وإن من شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله وسخطه بما قضى الله تعالى
ولما كانت خشية الله عز و جل رأس كل خير في المشهد والمغيب سأله خشيته في الغيب والشهادة
ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق في رضاه فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل وقد يدخله أيضا رضاه في الباطل سأل الله عز و جل أن يوفقه لكلمة الحق في الغضب والرضى ولهذا قال بعض السلف : لا تكن ممن إذا رضي أدخله رضاه في الباطل وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق
ولما كان الفقر والغنى بليتين ومحنتين يبتلي الله بهما عبده ففي الغنى يبسط يده وفي الفقر يقبضها سأل الله عز و جل القصد في الحالتين وهو التوسط الذي ليس معه إسراف ولا تقتير
ولما كان النعيم نوعين : نوعا للبدن ونوعا للقلب وهو قرة العين وكماله بدوامه واستمراره جمع بينهما في قوله : أسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع ولما كانت الزينة زينتين : زينة البدن وزينة القلب وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا وأجلهما خطرا وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه في العقبى سأل ربه الزينة الباطنة فقال زينا بزينة الإيمان
ولما كان العيش في هذه الدار لا يبرد لأحد كائنا من كان بل هو محشو بالغصص والنكد ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة سأل برد العيش بعد الموت
والمقصود : أنه جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا وأطيب ما في الآخرة فإن حاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إياه وتأليههم له كحاجتهم إليه في خلقه لهم ورزقه إياهم

ومعافاة أبدانهم وستر عوراتهم وتأمين روعاتهم بل حاجتهم إلى تأليهه ومحبته وعبوديته أعظم فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم ولا صلاح لهم ولا نعيم ولا فلاح ولا لذة ولا سعادة بدون ذلك بحال ولهذا كانت لا اله إلا الله أحسن الحسنات وكان توحيد الإلهية رأس الأمر وأما توحيد الربوبية الذي أقر به المسلم والكافر وقرره أهل الكلام في كتبهم فلا يكفي وحده بل هو الحجة عليهم كما بين ذلك سبحانه في كتابه الكريم في عدة مواضع ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلمقال : أتدري ما حق الله على عباده قلت : الله ورسوله أعلم قال : حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت : الله ورسوله أعلم قال : حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار ولذلك يحب سبحانه عباده المؤمنين الموحدين ويفرح بتوبتهم كما أن في ذلك أعظم لذة فليس في الكائنات شيء غير الله عز و جل يسكن القلب إليه ويطمئن به ويأنس به ويتنعم بالتوجه إليه ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ وكما أن السموات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا كما قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فسادا لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود منه ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه الوجه الثالث : أن فقر العبد إلى أن يعبد الله سبحانه وحده لا يشرك به شيئا ليس له نظير فيقاس به لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس فيقاس بها لكن بينهما فروق كثيرة فإن حقيقة العبد قلبه وروحه ولا صلاح له إلا بالهه الحق الذي لا إله إلا هو فلا يطمئن إلا بذكره ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه وهو كادح إليه كدحا فملاقيه ولا بد له من لقائه ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في حال وبهذا في حال وكثيرا ما يكون ذلك

الذي يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته وأما إلهه الحق فلا بد له منه في كل وقت وفي كل حال وأينما كان فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان ودلت عليه السنة والقرآن وشهدت به الفطرة والجنان لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان وبخس حظه من الإحسان : إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة لمجرد الابتلاء والامتحان أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان كما هي مقالات من بخس حظه من معرفة الرحمن وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان وفرح بما عنده من زبد الأفكار وزبالة الأذهان بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان وأفضل لذة للروح والقلب والجنان وأطيب نعيم ناله من كان أهلا لهذا الشان والله المستعان وعليه التكلان
وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول وإن وقع ذلك ضمنا وتبعا في بعضها لأسباب اقتضته لابد منها هي من لوازم هذه النشأة
فأوامراه سبحانه وحقه الذي أوجبه على عباده وشرائعه التي شرعها لهم هي قرة العيون ولذة القلوب ونعيم الأرواح وسرورها وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها وكمالها في معاشها ومعادها بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك كما قال تعالى : يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ يونس : 57 ] قال أبو سعيد الخدري : فضل الله : القرآن ورحمته : أن جعلكم من أهله وقال هلال بن يساف : بالإسلام الذي هداكم إليه وبالقرآن الذي علمكم إياه هو خير مما تجمعون : من الذهب والفضة وكذلك قال : ابن عباس والحسن وقتادة : فضله : الإسلام ورحمته : القرآن وقالت طائفة من السلف : فضله القرآن ورحمته الإسلام
والتحقيق : أن كلا منهما فيه الوصفان الفضل والرحمة وهما الأمران اللذان امتن الله بهما على رسوله عليه الصلاة و السلام فقال : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ الشورى : 52 ] والله سبحانه إنما رفع من رفع بالكتاب والإيمان ووضع من وضع بعدمها

فإن قيل : فقد وقع تسمية ذلك تكليفا في القرآن كقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقره : 286 ] وقوله : لا نكلف نفسا إلا وسعها [ الأنعام : 152 ]
قيل : نعم إنما جاء ذلك في جانب النفي ولم يسم سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفا قط بل سماها روحا ونورا وشفاء وهدى ورحمة وحياة وعهدا ووصية ونحو ذلك
الوجه الرابع : أن أفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب عز و جل وسماع خطابه كما في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون : ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وفي حديث آخر : فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه فبين عليه الصلاة و السلام أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم في الجنة لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين ألبتة ولهذا قال سبحانه وتعالى في حق الكفار : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم [ المطففين : 15 ] فجمع عليهم نوعي العذاب : عذاب النار وعذاب الحجاب عنه سبحانه كما جمع لأوليائه نوعي النعيم : نعيم التمتع بما في الجنة ونعيم التمتع برؤيته وذكر سبحانه هذه الأنواع الأربعة في هذه السورة فقال في حق الأبرار : إن الأبرار لفي نعيم على الارائك ينظرون [ المطففين : 23 ] ولقد هضم معنى الآية من قال : ينظرون إلى أعدائهم يعذبون أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم أو ينظر بعضهم إلى بعض وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره وإنما المعنى ينظرون إلى وجه ربهم ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم لمحجوبون : ثم إنهم لصالوا الجحيم [ المطففين : 32 ] وتأمل كيف قابل سبحانه ما قاله الكفار في أعدائهم في الدنيا وسخروا به منهم بضده في القيامة فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون يتغامزون ويضحكون منهم و إذا رأوهم قالوا إن هؤلآء لضالون [ المطففين : 32 ] فقال تعالى :

فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون [ المطففين : 34 ] مقابلة لتغامزهم وضحكهم منهم ثم قال : على الأرائك ينظرون [ المطففين : 23 ] فأطلق النظر ولم يقيده بمنظور دون منظور وأعلى ما نظروا إليه وأجله وأعظمه هو الله سبحانه والنظر إليه أجل أنواع النظر وأفضلها وهو أعلى مراتب الهداية فقابل بذلك قولهم إن هؤلاء لضالون فالنظر إلى الرب سبحانه مراد من هذين الموضعين ولا بد إما بخصوصه وإما بالعموم والإطلاق ومن تأمل السياق لم يجد الآيتين تحتملان غير إرادة ذلك خصوصا أو عموما

فصل في أن لذة النظر إلى وجه الله يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته
ومحبته في الدنيا وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجهه الأعلى سبحانه فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم
الوجه الخامس أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع ولا هدى ولا ضلال ولا نصر ولا خذلان ولا خفض ولا رفع ولا عز ولا ذل بل الله وحده هو الذي يملك له ذلك كله قال الله تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم وقال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم وقال تعالى إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده الآية وقال تعالى عن صاحب يس أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون وقال تعالى يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وقال تعالى أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا

في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجو في عتو ونفور فجمع سبحانه بين النصر والرزق فإن العبد مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره ويجلب له منافعه برزقه فلا بد له من ناصر ورازق والله وحده هو الذي ينصر ويرزق فهو الرزاق ذو القوة المتين ومن كمال فطنة العبد ومعرفته أن يعلم أنه إذا مسه الله بسوء لم يرفعه عنه غيره وإذا ناله بنعمة لم يرزقه إياها سواه ويذكر أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه أدرك لي لطيف الفطنة وخفي اللطف فإني أحب ذلك قال : يا رب وما لطيف الفطنة قال : إن وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أنا أوقعتها فاسألني أرفعها قال : وما خفي اللطف قال : إذا أتتك حبة فاعلم أني أنا ذكرتك بها وقد قال تعالى عن السحرة : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ البقره : 102 ] فهو سبحانه وحده الذي يكفي عبده وينصره ويرزقه ويكلؤه
قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر قال : سمعت وهبا يقول : قال الله تعالى في بعض كتبه : بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن فإني أجعل له من ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفى لعبدي ملآي إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني وأستجيب له قبل أن يدعوني فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه قال أحمد : وحدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال : لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت له : حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز قال : نعم أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود : يا داود أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبيدي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجا أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي واد هلك وهذا الوجه أظهر للعامة من الذي قبله ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول ومنه دعت الرسل إلى الوجه الأول وإذا تدبر اللبيب القرآن وجد الله سبحانه يدعو عباده

بهذا الوجه إلى الوجه الأول وهذا الوجه يقتضي التوكل على الله تعالى والاستعانة به ودعاءه ومسألته دون ما سواه ويقتضي أيضا : محبته وعبادته لإحسانه إلى عبده وإسباغ نعمه عليه فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا منه إلى الوجه الأول
ونظير ذلك : من ينزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق فجعل يدعو الله سبحانه ويتضرع إليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته وعظيم الإيمان به والإنابة إليه ما هو أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه وفي نحو ذلك قال القائل :
جزى الله يوم الروع خيرا ... فإنه أرانا على علاته أم ثابت
أرانا مصونات الحجال ولم نكن ... نراهن إلا عند نعت النواعت
الوجه السادس : أن تعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته غير مستعين به على طاعته فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك ولو أحب سوى الله ما أحب فلا بد أن يسلبه ويفارقه فإن أحبه لغير الله فلابد أن تضره محبته ويعذب بمحبوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة والغالب أنه يعذب به في الدارين قال تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون [ التوبه : 34 ] وقال تعالى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [ التوبه : 55 ] ولم يصب من قال : إن الآية على التقديم والتأخير كالجرجاني حيث قال : ينتظم قوله في الحياة الدنيا بعد فصل آخر ليس بموضعه على تأويل فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وهذا القول يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو منقطع واختاره قتادة وجماعة وكأنهم لما أشكل عليهم وجه تعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا وأن سرورهم ولذتهم ونعيمهم بذلك فروا إلى التقديم والتأخير
وأما الذين رأوا أن الآية على وجهها ونظمها فاختلفوا في هذا التعذيب فقال الحسن البصري : يعذبهم بأخذ الزكاة منها والإنفاق في الجهاد واختاره ابن جرير وأوضحه فقال : العذاب بها إلزامهم بما أوجب الله عليهم فيها من حقوقه وفرائضه إذ كان يؤخذ منه ذلك

وهو غير طيب النفس ولا راج من الله جزاء ولا من الآخذ منه حمدا ولا شكرا بل على صغار منه وكره
وهذا أيضا عدول عن المراد بتعذيبهم في الدنيا بها وذهاب عن مقصود الآية
وقالت طائفة : تعذيبهم بها أنهم يتعرضون بكفرهم لغنيمة أموالهم وسبي أولادهم فإن هذا حكم الكافر وهم في الباطن كذلك وهذا أيضا من جنس ما قبله فإن الله سبحانه أقر المنافقين وعصم أموالهم وأولادهم بالإسلام الظاهر وتولى سرائرهم فلو كان المراد ما ذكره هؤلاء لوقع مراده سبحانه : من غنيمة أموالهم وسبى أولادهم فإن الإرادة ههنا كونية بمعنى المشيئة وما شاء الله كان ولابد وما لم يشأ لم يكن
والصواب والله أعلم أن يقال : تعذيبهم بها هو الأمر المشاهد من تعذيب طلاب الدنيا ومحبيها ومؤثريها على الآخرة : بالحرص على تحصيلها والتعب العظيم في جمعها ومقاساة أنواع المشاق في ذلك فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه وهو حريص بجهده على تحصيلها والعذاب هنا هو الألم والمشقة والنصب كقولهصلى الله عليه وسلم السفر قطعة من العذاب وقوله : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه أي يتألم ويتوجع لا أنه يعاقب بأعمالهم وهكذا من الدنيا كل همه أو أكبر همه كما قالصلى الله عليه وسلمفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث أنس رضي الله عنه : من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له
ومن أبلغ العذاب في الدنيا : تشتيت الشمل وتفريق القلب وكون الفقر نصب عيني العبد لا يفارقه ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب على أن أكثرهم

لا يزال يشكو ويصرخ منه وفي الترمذي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلمقال : يقول الله تبارك وتعالى : ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك وهذا أيضا من أنواع العذاب وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومحاربة أهلها إياه ومقاساة معاداتهم كما قال بعض السلف : من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث : هم لازم وتعب دائم وحسرة لا تنقضي وذلك أن محبها لا ينال منها شيئا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه كما في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة و السلام لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا وقد مثل عيسى بن مريم عليه السلام : محب الدنيا بشارب الخمر كلما ازداد شربا ازداد عطشا
وذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب الى عمر بن عبدالعزيز أما بعد : فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغنى فيها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وختلت بآمالها وتشوفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوة فالعيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قاتلة فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسى المعاد فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت عليها ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته وذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب ولم تسترح نفسه من التعب فخرج بغير

زاد وقدم على غير مهاد فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء سرورها مشوب بالحزن أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا ولم يضرب لها مثلا لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر فمالها عند الله قدر ولا وزن ولا نظر إليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختيارا وبسطها لاعدائه اغترارا فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها ونسى ما صنع الله عز و جل برسوله حين شد الحجر على بطنه وقال الحسن أيضا : إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها وهذا باب واسع وأهل الدنيا وعشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها ولما كانت هي أكبر هم من لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لقاء ربه كان عذابه بها بحسب حرصه عليها وشدة اجتهاده في طلبها وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأمل حال عاشق فان في حب معشوقه وكلما رام قربا من معشوقه نأى عنه ولا يفي له ويهجره ويصل عدوه فهو مع معشوقه في أنكد عيش يختار الموت دونه فمعشوقه قليل الوفاء كثير الجفاء كثير الشركاء سريع الاستحالة عظيم الخيانة كثير التلون لا يأمن عاشقه معه على نفسه ولا على ماله مع أنه لا صبر له عنه ولا يجد عنه سبيلا إلى سلوة تريحه ولا وصال يدوم له فلو لم يكن لهذا العاشق عذاب إلا هذا العاجل لكفى به فكيف إذا حيل بينه وبين لذاته كلها وصار معذبا بنفس ما كان ملتذا به على قدر لذته به التي شغلته عن سعيه في طلب زاده ومصالح معاده
وسنعود إلى تمام الكلام في هذا الباب في باب ذكر علاج مرض القلب بحب الدنيا إن شاء الله تعالى إذ المقصود بيان أن من أحب شيئا سوى الله تعالى ولم تكن محبته له

لله تعالى ولا لكونه معينا له على طاعة الله تعالى : عذب به في الدنيا قبل يوم القيامة كما قيل :
أنت القتيل بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفى
فإذا كان يوم المعاد ولى الحكم العدل سبحانه كل محب ما كان يحبه في الدنيا فكان معه : إما منعما أو معذبا ولهذا يمثل لصاحب المال ماله شجاعا أقرع يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه يقول : أنا مالك أنا كنزك ويصفح له صفائح من نار يكوى بها جبينه وجنبه وظهره وكذلك عاشق الصور إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله تعالى جمع الله بينهما في النار وعذب كل منهما بصاحبه قال تعالى : الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين [ الزخرف : 67 ] وأخبر سبحانه أن الذين توادوا في الدنيا على الشرك يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة ويلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار وما لهم من ناصرين
فالمحب مع محبوبه دنيا وأخرى ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة للخلق : أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا وقالصلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب وقال الله تعالى : ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا [ الفرقان : 29 ] وقال تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزاواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهذوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون مالكم لا تناصرون [ الصافات : 22 ] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أزواجهم : أشباههم ونظراؤهم وقال تعالى : وإذا النفوس زوعجت [ التكوير : 7 ] فقرن كل شكل إلى شكله وجعل معه قرينا وزوجا : البر مع البر والفاجر مع الفاجر
والمقصود : أن من أحب شيئا سوى الله عز و جل فالضرر حاصل له بمحبوبه : إن وجد وإن فقد فإنه إن فقده عذب بفواته وتألم على قدر تعلق قلبه به وإن وجده كان ما يحصل

له من الألم قبل حصوله ومن النكد في حال حصوله ومن الحسرة عليه بعد فوته : أضعاف أضعاف ما في حصوله له من اللذة :
فما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حال ... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم ... ويبكي إن دنوا حذر الفراق
فتسخن عينه عند التلاقي ... وتسخن عينه عند الفراق
وهذا أمر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب ولهذا قال النبيصلى الله عليه وسلمفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه فذكره : جميع أنواع طاعته فكل من كان في طاعته فهو ذاكر له وإن لم يتحرك لسانه بالذكر وكل من والاه الله فقد أحبه وقربه فاللعنة لا تنال ذلك بوجه وهي نائلة كل ما عداه
الوجه السابع : أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولابد عكس ما أمله منه فلابد أن يخذل من الجهة التي قدر أن ينصر منها ويذم من حيث قدر أن يحمد وهذا أيضا كما أنه ثابت بالقرآن والسنة فهو معلوم بالاستقراء والتجارب قال تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عززا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ مريم : 81 ] وقال تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون [ يس : 75 ] أي يغضبون لهم ويحاربون كما يغضب الجند ويحارب عن أصحابه وهم لا يستطيعون نصرهم بل هم كل عليهم وقال تعالى : وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شىء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب [ هود 101 ] أي غير تخسير وقال تعالى : فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين [ الشعراء 213 ] وقال تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا فإن المشرك يرجو بشركه النصر تارة والحمد والثناء تارة فأخبر سبحانه أن مقصوده ينعكس عليه ويحصل له الخذلان والذم والمقصود : أن هذين الوجهين في المخلوق ضدهما في الخالق سبحانه فصلاح القلب

وسعادته وفلاحه في عبادة الله تعالى والاستعانة به وهلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق والاستعانة به
الوجه الثامن : أن الله سبحانه غني كريم عزيز رحيم فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر لا لجلب منفعة إليه من العبد ولا لدفع مضرة بل رحمة منه وإحسانا فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة ولا ليعتز بهم من ذلة ولا ليرزقوه ولا لينفعوه ولا ليدفعوا عنه كما قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ الذاريات : 56 ] وقال تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا [ الإسراء : 111 ] فهو سبحانه لا يوالى من يواليه من الذل كما يولاى المخلوق المخلوق وإنما يوالي أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم وأما العباد فإنهم كما قال تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء [ محمد : 38 ] فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانفاعه به عاجلا أو آجلا ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل فهو محتاج إلى ذلك الجزاء أو معاوضة بإحسانه أو لتوقع حمده وشكره وهو أيضا إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى في الآخرة فهو أيضا محسن إلى نفسه بذلك وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته فهو غير ملوم في هذا القصد فإنه فقير محتاج وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه وقال تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم [ الإسراء : 7 ] وقال : وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون [ البقره : 272 ] وقال تعالى فيما رواه عنه رسولهصلى الله عليه وسلم يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا

فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول بل إنما يقصد انتفاعه بك والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة بخلاف إرادة المخلوق نفعك فإنه قد يكون فيه مضرة عليك ولو بتحمل منته
فتدبر هذا فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله عز و جل أو تطلب منه نفعاأو دفعاأو تعلق قلبك به فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض وهو حال الولد مع والده والزوج مع زوجه والمملوك مع سيده والشريك مع شريكه فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم وأحسن إليهم لله تعالى وخاف الله تعالى فيهم ولم يخفهم مع الله تعالى ورجا الله تعالى بالإحسان إليهم ولم يرجهم مع الله وأحبهم لحب الله ولم يحبهم مع الله تعالى كما قال أولياء الله عز و جل : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا [ الإنسان : 9 ]
الوجه التاسع : أن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يقدره الله تعالى عليها ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه وهو الذي بيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله فتعلق القلب بغيره رجاء وخوفا وتوكلا وعبودية : ضرر محض لا منفعة فيه وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذي قدرها ويسرها وأوصلها إليك
الوجه العاشر : أن غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم منك وإن أضر ذلك بدينك ودنياك فهم إنما غرضهم قضاء حوائجهم ولو بمضرتك والرب تبارك وتعالى إنما يريدك لك ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته ويريد دفع الضرر عنك فكيف تعلق أملك ورجاءك وخوفك بغيره وجماع هذا أن تعلم : أن الخلق كلهم لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا كلهم على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك قال الله تعالى : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ التوبه : 51 ]

خاتمة لهذا الباب لما كان الإنسان بل وكل حي متحرك بالإرادة لا ينفك عن علم وإرادة وعمل بتلك الإرادة وله مراد مطلوب وطريق وسبب يوصل إليه معين عليه وتارة يكون السبب منه وتارة يكون من خارج منفصل عنه وتارة منه ومن الخارج فصار الحي مجبولا على أن يقصد شيئا ويريده ويستعين بشيء ويعتمد عليه في حصول مراده
والمراد قسمان : أحدهما : ما هو مراد لنفسه والثاني : ما هو مراد لغيره والمستعان قسمان أحدهما ما هو مستعان بنفسه والثاني ما هو تبع له وآلة فهذه أربعة أمور : مراد لنفسه ومراد لغيره ومستعان بنفسه ومستعان بكونه آلهة وتبعا للمستعان بنفسه
فلابد للقلب من مطلوب يطمئن إليه وتنتهي إليه محبته ولابد من شيء يتوصل به ويستعين به في حصول مطلوبه والمستعان مدعو ومسئول والعبادة والاستعانة كثيرا ما يتلازمان فمن اعتمد القلب عليه في رزقه ونصره ونفعه خضع له وذل له وانقاد له وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته لكن قد يغلب عليه حكم الحال حتى يحبه لذاته وينسى مقصوده منه وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعين به ويستعين بغيره عليه كمن أحب مالا أو منصبا أو امرأة فإن علم أن محبوبه قادر على تحصيل غرضه استعان به فاجتمع له محبته والاستعانة به
فالأقسام أربعة : محبوب لنفسه وذاته مستعان بنفسه فهذا أعلى الأقسام وليس ذلك إلا لله وحده وكل ما سواه فإنما ينبغي أن يحب تبعا لمحبته ويستعان به لكونه آلة وسببا الثاني : محبوب لغيره ومستعان به أيضا كالمحبوب الذي هو قادر على تحصيل غرض محبه الثالث : محبوب مستعان عليه بغيره الرابع : مستعان به غير محبوب في نفسه
فإذا عرف ذلك تبين من أحق هذه الأقسام الأربعة بالعبودية والاستعانة وأن محبة غيره واستعانته به إن لم تكن وسيلة إلى محبته واستعانته وإلا كانت مضرة على العبد ومفسدتها أعظم من مصلحتها والله المستعان وعليه التكلان

الباب السابع في أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه
قال الله عز و جل : يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور [ يونس : 57 ] وقال تعالى : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين وقد تقدم أن جماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات والشهوات والقرآن شفاء للنوعين ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية : من التوحيد وإثبات الصفات وإثبات المعاد والنبوات ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة مثل القرآن فإنه كفيل بذلك كله متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه كما يرى الليل والنهار وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم : بين علوم لا ثقة بها وإنما هي آراء وتقليد وبين ظنون كاذبة لا تغني عن الحق شيئا وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل وأحسن ما عند المتكلمين وغيرهم فهو في القرآن أصح تقريرا وأحسن تفسيرا فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد كما قيل :
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت ... كتب التناظر لا المغني ولا العمد
يحللون بزعم منهم عقدا ... وبالذي وضعوه زادت العقد

فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشبه والشكوك والفاضل الذكي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله تعالى وكلام رسوله ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين المتشككين الشاكين الذين أخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول :
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ فاطر : 10 ] وأقرأ في النفي : ليس كمثله شىء [ الشورى : 11 ] ولا يحيطون به علما [ طه : 110 ] ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي
فهذا إنشاده وألفاظه في آخر كتبه وهو أفضل أهل زمانه على الإطلاق في علم الكلام والفلسفة وكلام أمثاله في مثل ذلك كثير جدا قد ذكرناه في كتاب الصواعق وغيره وذكرنا قول بعض العارفين بكلام هؤلاء : آخر أمر المتكلمين الشك وآخر أمر المتصوفين الشطح والقرآن يوصلك إلى نفس اليقين في هذه المطالب التي هي أعلى مطالب العباد ولذلك أنزله من تكلم به وجعله شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده ويرغب عما يضره فيصير القلب محبا للرشد مبغضا للغي فالقرآن مزيل للإمراض الموجهة للإرادات الفاسدة فيصلح القلب فتصلح إرادته ويعود إلى فطرته التي فطر عليها فتصلح أفعاله

الاختيارية الكسبية كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعي فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن
وعاد الفتى كالطفل ليس بقابل ... سوى المحض شيئا واستراحت عواذله فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه ويؤيده ويفرحه ويسره وينشطه ويثبت ملكه كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن تربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغدية المصلحة له والحمية عما يضره فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه ومنع ما يضره فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو ولا يتم صلاحه إلا بذلك ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن وإن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نزر يسير لا يحصل له به تمام المقصود وكذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين فحينئذ يقال : زكا الزرع وكمل
ولما كانت حياته ونعيمه لا تتم إلا بزكاته وطهارته لم يكن بد من ذكر هذا وهذا فنقول :
الباب الثامن في زكاة القلب الزكاة في اللغة : هي النماء والزيادة
في الصلاح وكمال الشيء يقال : زكا الشيء إذا نما قال الله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ التوبه : 103 ] فجمع بين الأمرين : الطهارة والزكاة لتلازمهما فإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن وبمنزلة الرغل في الزرع وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة والنحاس والحديد فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع فنما البدن فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير فاستراح

من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة : زكا ونما وقوى واشتد وجلس على سرير ملكه ونفذ حكمه في رعيته فسمعت له وأطاعت فلا سبيل له إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [ النور : 30 ] فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج
ولهذا كان غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر جليلة القدر : إحداها : حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز و جل خيرا منه والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة والعين رائد القلب فيبعث رائده لنظر ما هناك فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله تحرك اشتياقا إليه وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما قيل :
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة فمن أطلق لحظاته دامت حسراته فإن النظر يولد المحبة فتبدأ علاقة يتعلق بها القلب بالمنظور إليه ثم تقوى فتصير صبابة ينصب إليه القلب بكليته ثم تقوى فتصير غراما يلزم القلب كلزوم الغريم الذي لا يفارق غريمه ثم يقوى فيصير عشقا وهو الحب المفرط ثم يقوى فيصير شغفا وهو الحب الذي قد وصل إلى شغاف القلب وداخله ثم يقوى فيصير تتيما والتتيم التعبد ومنه تيمه الحب إذا عبده ويتم الله عبد الله فيصير القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدا له وهذا كله جناية النظر فحينئذ يقع القلب في الأسر فيصير أسيرا بعد أن كان ملكا ومسجونا بعد أن كان مطلقا يتظلم من الطرف ويشكوه والطرف يقول : أنا رائدك ورسولك وأنت بعثتني وهذا إنما تبتلي به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له فإن القلب لابد له من التعلق بمحبوب فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلابد أن يتعبد قلبه لغيره قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [ يوسف : 24 ] فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه مع كونها ذات زوج ويوسف عليه السلام لما كان مخلصا لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شابا عزبا غريبا

مملوكا الفائدة الثانية في غض البصر : نور القلب وصحة الفراسة قال أبو شجاع الكرماني : من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وكف نفسه عن الشهوات وغض بصره عن المحارم واعتاد أكل الحلال لم تخظىء له فراسة وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به ثم قال بعد ذلك : إن في ذلك لآيات للمتوسمين [ الحجر : 75 ] وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم : الله نور السموات والارض [ النور : 35 ]
وسر هذا : أن الجزاء من جنس العمل فمن غض بصره عما حرم الله عز و جل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه فإن القلب كالمرآة والهوى كالصدأ فيها فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي عليه وإذا صدئت لم تنطبع فيها صور المعلومات فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون
الفائدة الثالثة : قوة القلب وثباته وشجاعته فيعطيه الله تعالى بقوته سلطان النصرة كما أعطاه بنوره سلطان الحجة فيجمع له بين السلطانين ويهرب الشيطان منه كما في الأثر : إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه قال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ المنافقون : 8 ] وقال تعالى : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ آل عمران : 139 ] وقال تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا [ فاطر : 10 ] أي من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله : بالكلم الطيب والعمل الصالح وقال بعض السلف : الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله وقال الحسن : وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم أبى الله عز و جل إلا أن يذل من عصاه وذلك أن من أطاع الله تعالى فقد والاه ولا يذل من والاه ربه كما في دعاء القنوت : إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت

والمقصود : أن زكاة القلب موقوفة على طهارته كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة قال تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم [ النور : 21 ] ذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية فدل على أن التزكى هو باجتناب ذلك وكذلك قوله تعالى في الاستئذان على أهل البيوت : وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم [ النور : 28 ] فإنهم إذا أمروا بالرجوع لئلا يطلعوا على عورة لم يحب صاحب المنزل أن يطلع عليها كان ذلك أزكى لهم كما أن رد البصر وغضه أزكى لصاحبه وقال تعالى قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى وقال تعالى عن موسى عليه السلام في خطابه لفرعون هل لك إلى أن تزكى [ النازعات : 18 ] وقال تعالى : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة  قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم : هي التوحيد : شهادة أن لا إله إلا الله والإيمان الذي به يزكو القلب فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب وذلك طهارته وإثبات إلهيته سبحانه وهو أصل كل زكاة ونماء فإن التزكي وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة فإنه إنما يحصل بإزالة الشر فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جميعا فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح : هو التوحيد والتزكية جعل الشيء زكيا إما في ذاته وإما في الاعتقاد والخبر عنه كما يقال عدلته وفسقته إذا جعلته كذلك في الخارج أو في الاعتقاد والخبر وعلى هذا فقوله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم [ النجم : 32 ] هو على غير معنى : قد أفلح من زكاها [ الشمس : 9 ] أي لا تخبروا بزكاتها وتقولوا : نحن زاكون صالحون متقون ولهذا قال عقيب ذلك : هو أعلم بمن اتقى [ الشمس : 9 ] وكان اسم زينب برة فقال : تزكي نفسها فسماها رسول اللهصلى الله عليه وسلمزينب وقال : الله أعلم بأهل البر منكم وكذلك قوله :

ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم أي يعتقدون زكاءها ويخبرون به كما يزكي المزكي الشاهد فيقول عن نفسه ما يقول المزكي فيه ثم قال الله تعالى : بل الله يزكي من يشاء [ النساء : 49 ] أي هو الذي يجعله زاكيا ومثله قوله : قد أفلح من تزكى [ الأعلى : 14 ]
وقد اختلف في الضمير المرفوع في قوله : زكاها فقيل : هو لله أي أفلحت نفس زكاها الله عز و جل وخابت نفس دساها وقيل : إن الضمير يعود على فاعل أفلح وهو من سواء كانت موصولة أو موصوفة فإن الضمير لو عاد على الله سبحانه لقال : قد أفلح من زكاه وقد خاب من دساه والأولون يقولون : من وإن كان لفظها مذكرا فإذا وقعت على مؤنث جاز إعادة الضمير عليها بلفظ المؤنث مراعاة للمعنى وبلفظ المذكر مراعاة للفظ وكلاهما من الكلام الفصيح وقد وقع في القرآن اعتبار لفظها ومعناها فالأول كقوله : ومنهم من يستمع إليك [ الأنعام : 25 ] فأفرد الضمير والثاني كقوله : ومنهم من يستمعون إليك [ يونس : 42 ]
قال المرجحون للقول الأول : يدل على صحة قولنا : ما رواه أهل السنن من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت : أتيت ليلة فوجدت رسول اللهصلى الله عليه وسلميقول : رب أعط نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها فهذا الدعاء كالتفسير لهذه الآية وأن الله تعالى هو الذي يزكي النفوس فتصير زاكية فالله هو المزكي والعبد هو المتزكي والفرق بينهما فرق ما بين الفاعل والمطاوع قالوا : والذي جاء في القرآن من إضافة الزكاة إلى العبد إنما هو بالمعنى الثاني دون الأول كقوله : قد أفلح من تزكى [ الأعلى : 14 ] وقوله : هل لك إلى أن تزكى [ النازعات : 18 ] أي تقبل تزكية الله تعالى لك فتزكى قالوا : وهذا هو الحق فإنه لا يفلح إلا من زكاة الله تعالى قالوا : وهذا اختيار ترجمان القرآن ابن عباس فإنه قال في رواية علي بن أبي طلحة وعطاء والكلبي قد أفلح من زكى الله تعالى نفسه وقال ابن زيد قد أفلح من زكى الله نفسه

واختاره ابن جرير قالوا : ويشهد لهذا القول أيضا قوله في أول السورة : فألهمها فجورها وتقواها [ الشمس : 8 ] قالوا : وأيضا فإنه سبحانه وتعالى أخبر أنه خالق النفس وصفاتها وذلك هو معنى التسوية
قال أصحاب القول الآخر : ظاهر الكلام ونظمه الصحيح : يقتضي أن يعود الضمير على من أي أفلح من زكى نفسه هذا هو المفهوم المتبادر إلى الفهم بل لا يكاد يفهم غيره كما إذا قلت : هذه جارية قد ربح من اشتراها وصلاة قد سعد من صلاها وضالة قد خاب من آواها ونظائر ذلك
قالوا : والنفس مؤنثة فلو عاد الضمير على الله سبحانه لكان وجه الكلام : قد أفلحت نفس زكاها أو أفلحت من زكاها لوقوع من على النفس قالوا : وإن جاز تفريغ الفعل من التاء لأجل لفظ من كما تقول : قد أفلح من قامت منكن فذاك حيث لا يقع اشتباه والتباس فإذا وقع الاشتباه لم يكن بد من ذكر ما يزيله قالوا : و من موصولة بمعنى الذي ولو قيل : قد أفلح الذي زكاها الله لم يكن جائزا لعود الضمير المؤنث على الذي وهو مذكر قالوا : وهو سبحانه قصد نسبة الفلاح إلى صاحب النفس إذا زكى نفسه ولهذا فرغ الفعل من التاء وأتى ب من التي هي بمعنى الذي وهذا الذي عليه جمهور المفسرين حتى أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما وقال قتادة : قد أفلح من زكاها من عمل خيرا زكاها بطاعة الله عز و جل وقال أيضا : قد أفلح من زكى نفسه بعمل صالح وقال الحسن : قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله تعالى وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله تعالى قال ابن قتيبة : يريد أفلح من زكى نفسه أي نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة واصطناع المعروف وقد خاب من دساها أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصي والفاجر أبدا خفى المكان زمن المروءة غامض الشخص ناكس الرأس فمرتكب الفواحش قد دس نفسه وقمعها ومصطنع المعروف قد شهر نفسه ورفعها وكانت أجواد العرب تنزل الرئى ويفاع الأرض

لتشهر أماكنها للمعتفين وتوقد النيران في الليل للطارقين وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام لتخفي أما كنها على الطالبين فأولئك أعلوا أنفسهم وزكوها وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها وأنشد :
وبواب بيتك في معلم ... رحيب المباءة والمسرح
كفيت العفاة طلاب القرى ... ونبح الكلاب لمستنبح فهذان قولان مشهوران في الآية وفيها قول ثالث : أن المعنى : خاب من دس نفسه مع الصالحين وليس منهم حكاه الواحدي قال : ومعنى هذا : أنه أخفى نفسه في الصالحين يري الناس أنه منهم وهو منطو على غير ما ينطوي عليه الصالحون وهذا وإن كان حقا في نفسه لكن في كونه هو المراد بالآية نظر وإنما يدخل في الآية بطريق العموم فإن الذي يدس نفسه بالفجور إذا خالط أهل الخير دس نفسه فيهم والله تعالى أعلم

الباب التاسع في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه هذا الباب وإن كان
داخلا فيما قبله كما بينا أن الزكاة لا تحصل إلا بالطهارة ولكنا أفردناه بالذكر لبيان معنى طهارته وشدة الحاجة إليها ودلالة القرآن والسنة عليها قال الله تعالى : يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر [ المدثر : 1 ] وقال تعالى : أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ المائدة : 41 ] وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ههنا القلب والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق

قال الواحدي : اختلف المفسرون في معناه فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يعني من الإثم ومما كانت الجاهلية تجيزه وهذا قول قتادة ومجاهد قالا نفسك فطهرها من الذنب ونحوه قول الشعبي وإبراهيم والضحاك والزهري وعلى هذا القول : الثياب عبارة عن النفس والعرب تكنى بالثياب عن النفس ومنه قول الشماخ :
رموها بأثواب خفاف فلا ترى ... لها شبها إلا النعام المنفرا رموها يعني الركاب بأبدانهم وقال عنترة :
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنى بمحرم يعني نفسه
وقال في رواية الكلبي : يعني لا تغدر فتكون غادرا دنس الثيباب وقال سعيد بن جبير : كان الرجل إذا كان غادرا قيل : دنس الثياب وخبيث الثيباب وقال عكرمة : لا تلبس ثوبك على معصية ولا على فجرة وروى ذلك عن ابن عباس واحتج بقول الشاعر :
وإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من خزية أتقنع وهذا المعنى أراد من قال في هذه الآية وعملك فأصلح وهو قول أبي رزين ورواية منصور عن مجاهد وأبي روق وقال السدى : يقال للرجل إذا كان صالحا : إنه لطاهر الثياب وإذا كان فاجرا : إنه لخبيث الثيباب قال الشاعر :
لا هم إن عامر بن جهم ... أوذم حجا في ثياب دسم يعني أنه متدنس بالخطايا وكما وصفوا الغادر الفاجر بدنس الثوب وصفوا الصالح بطهارة الثوب قال امرؤ القيس :
ثياب بني عوف طهارى نقية يريد أنهم لا يغدرون بل يفون وقال الحسن : خلقك فحسنه وهذا قول القرطبي وعلى هذا : الثياب عبارة عن الخلق لأن خلق الإنسان يشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه

وروى العوفى عن ابن عباس في هذه الآية لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طيب والمعنى طهرها من أن تكون مغصوبة أو من وجه لا يحل اتخاذها منه وروى عن سعيد بن جبير : وقلبك : ونيتك فطهر وقال أبو العباس : الثياب اللباس ويقال : القلب وعلى هذا ينشد :
فسلعى ثيابي من ثيابك تنسلي وذهب بعضهم في تفسير هذه الآية إلى ظاهرها وقال : إنه أمر بتطهير ثيابه من النجاسات التي لا تجوز معها الصلاة وهو قول ابن سيرين وابن زيد وذكر أبو إسحاق : وثيابك فقصر قال : لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة فإنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه وهذا قول طاوس وقال ابن عرفة معناه : نساءك طهرهن وقد يكنى عن النساء بالثياب واللباس قال تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [ البقره : 178 ] ويكنى عنهن بالإزار ومنه قول الشاعر :
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخى ثقة : إزارى أي أهلي ومنه قول البراء بن معرور للنبيصلى الله عليه وسلمليلة العقبة لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا أي نساءنا
قلت : الآية تعم هذا كله وتدل عليه بطريق التنبيه واللزوم إن لم تتناول ذلك لفظا فإن المأمور به إن كان طهارة القلب فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك ولذلك حرم لبس جلود النمور والسعباع بنهي النبيصلى الله عليه وسلمعن ذلك في عدة أحاديث صحاح لا معارض لها لما تكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات فإن الملابسة

الظاهرة تسري إلى الباطن ولذلك حرم لبس الحرير والذهب على الذكور لما يكتسب القلب من الهيئة التي تكون لمن ذلك لبسه من النساء وأهل الفخر والخيلاء
والمقصود : أن طهارة الثوب وكونه من مكسب طيب هو من تمام طهارة القلب وكمالها فإن كان المأمور به ذلك فهو وسيلة مقصودة لغيرها فالمقصود لنفسه أولى أن يكون مأمورا به وإن كان المأمور به طهارة القلب وتزكية النفس فلا يتم إلا بذلك فتبين دلالة القرآن على هذا وهذا
وقوله : أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم [ المائدة : 41 ] عقيب قوله : سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه [ المائده : 41 ] مما يدل على أن العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفا للحق عن مواضعه فإنه إذا قبل الباطل أحبه ورضيه فإذا جاء الحق بخلافه رده وكذبه إن قدر على ذلك وإلا حرفه كما تصنع الجهمية بآيات الصفات وأحاديثها يردون هذه بالتأويل الذي هو تكذيب بحقائقها وهذه بكونها أخبار آحاد لا يجوز الاعتماد عليها في باب معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته فهؤلاء وإخوانهم من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق وتعوضت بالباطل عن كلام الله تعالى ورسوله كما أن المنحرفين من أهل الإرادة لما لم تطهر قلوبهم تعوضوا بالسماع الشيطاني عن السماع القرآني الإيماني قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله
فالقلب الطاهر لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن ولا يتغذى إلا بحقائقه ولا يتداوى إلا بأدويته بخلاف القلب الذي لم يطهره الله تعالى فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه بحسب ما فيه من النجاسة فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح
ودلت الآية على أن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى وأنه سبحانه لما لم يرد أن يطهر قلوب القائلين بالباطل المحرفين للحق لم يحصل لها الطهارة

ولا يصح أن تفسر الإرادة ههنا بالإرادة الدينية وهي الأمر والمحبة فإنه سبحانه قد أراد ذلك لهم أمرا ومحبة ولم يرده منهم كونا فأراد الطهارة لهم وأمرهم بها ولم يرد وقوعها منهم لما له في ذلك من الحكمة التي فواتها أكره إليه من فوات الطهارة منهم
وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا الكبير في القدر
ودلت الآية على أن من لم يطهر الله قلبه فلابد أن يناله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة بحسب نجاسة قلبه وخبثه ولهذا حرم الله سبحانه الجنة على من في قلبه نجاسة وخبث ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره فإنها دار الطيبين ولهذا يقال لهم : طبتم فادخلوها خالدين [ الزمر : 73 ] أي ادخلوها بسبب طيبكم والبشارة عند الموت لهؤلاء دون غيرهم كما قال تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ النحل : 32 ] فالجنة لا يدخلها خبيث ولا من فيه شيء من الخبث فمن تطهر في الدنيا ولقي الله طاهرا من نجاساته دخلها بغير معوق ومن لم يتطهر في الدنيا فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعدما يتطهر في النار من تلك النجاسة ثم لا يخرج منها حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيهذبون وينقون من بقايا بقيت عليهم قصرت بهم عن الجنة ولم توجب لهم دخول النار حتى إذا هذعبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة
والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفا على الطهارة فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفا على الطيب والطهارة فلا يدخلها إلا طيب طاهر فهما طهارتان : طهارة البدن وطهارة القلب ولهذا شرع للمتوضىء أن يقول عقيب وضوئه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فطهارة القلب بالتوبة وطهارة البدن بالماء فلما اجتمع له الطهران صلح للدخول على الله تعالى والوقوف بين يديه ومناجاته

وسألت شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبيصلى الله عليه وسلماللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد كيف يطهر الخطايا بذلك وما فائدة التخصيص بذلك وقوله في لفظ آخر : والماء البارد والحار أبلغ في الإنقاء
فقال : الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا فيرتخى القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه والماء يغسل الخبث ويطفىء النار فإن كان باردا أورث الجسم صلابة وقوة فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته فكان أذهب لأثر الخطايا هذا معنى كلامه وهو محتاج إلى مزيد بيان وشرح
فاعلم أن ههنا أربعة أمور : أمران حسيان وأمران معنويان فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومزيلها حسيان وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا فذكر النبيصلى الله عليه وسلممن كل شطر قسما نبه به على القسم الآخر فتضمن كلامه الأقسام الأربعة في غاية الاختصار وحسن البيان كما في حديث الدعاء بعد الوضوء اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة ومن كمال بيانهصلى الله عليه وسلم وتحقيقه لما يخبر به ويأمر به : تمثيله الأمر المطلوب المعنوي بالأمر المحسوس وهذا كثير في كلامه كقوله في حديث علي بن أبي طالب سل الله الهدى والسداد واذكر بالهدى هدايتك الطريق وبالسداد سداد السهم إذ هذا من أبلغ التعليم والنصح حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته : كونه مسافرا وقد ضل عن الطريق ولا يدري أين يتوجه فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها فسأله أن يدله على

الطريق فهذا شأن طريق الآخرة تمثيلا لها بالطريق المحسوس للمسافر وحاجة المسافر إلى الله سبحانه : إلى أن يهديه تلك الطريق أعظم من حاجة المسافر إلى بلد إلى من يدله على الطريق الموصل إليها وكذلك السداد وهو إصابة القصد قولا وعملا فمثله مثل رامي السهم إذا وقع سهمه في نفس الشيء الذي رماه فقد سدد سهمه وأصاب ولم يقع باطلا فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله بمنزلة المصيب في رميه وكثيرا ما يقرن في القرآن هذا وهذا فمنه قوله تعالى : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ البقره : 197 ] أمر الحجاج بأن يتزودوا لسفرهم ولا يسافروا بغير زاد ثم نبههم على زاد سفر الآخرة وهو التقوى فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى فجمع بين الزادين ومنه قوله تعالى : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير [ الأعراف : 26 ] فجمع بين الزينتين : زينة الظاهر والباطن وكمال الظاهر والباطن ومنه قوله تعالى : فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [ طه : 123 ] فنفى عنه الضلال الذي هو عذاب القلب والروح والشقاء الذي هو عذاب البدن والروح أيضا فهو منعم القلب والبدن بالهدى والفلاح ومنه قول امرأة العزيز عن يوسف عليه السلام لما أرته النسوة اللائمات لها في حبه : فذلكن الذي لمتنني فيه [ يوسف : 32 ] فأرتهن جماله الظاهر ثم قالت : ولقد راودته عن نفسه فاستعصم [ يوسف : 32 ] فأخبرت عن جماله الباطن بعفته فأخبرتهن بجمال باطنه وأرتهن جمال ظاهره
فنبهصلى الله عليه وسلمبقوله اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما وتضمن دعاؤه سؤال هذا وهذا والله تعالى أعلم
وقريب من هذا : أنهصلى الله عليه وسلمكان إذا خرج من الخلاء قال : غفرانك وفي هذا من السر والله أعلم : أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب فحمد الله عند خروجه

على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه وخفة البدن وراحته وسأل أن يخلصه من المؤذي الآخر ويريح قلبه منه ويخففه وأسرار كلماته وأدعيتهصلى الله عليه وسلمفوق ما يخطر بالبال

فصل فيما في الشرك والزنا واللواطة من الخبث
وقد وسم الله سبحانه الشرك والزنا واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه دون سائر الذنوب وإن كانت مشتملة على ذلك لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى : يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس [ التوبه : 28 ] وقوله تعالى في حق اللوطية : ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين [ الأنبياء : 74 ] وقالت اللوطية : أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ النمل : 56 ] فأقروا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك باجتنابهم له وقال تعالى في حق الزناة : الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات [ النور : 26 ]
فأما نجاسة الشرك فهي نوعان : نجاسة مغلظة ونجاسة مخففة فالمغلظة : الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز و جل فإن الله لا يغفر أن يشرك به والمخففة : الشرك الأصغر كيسير الرياء والتصنع للمخلوق والحلف به وخوفه ورجائه ونجاسة الشرك عينية ولهذا جعل سبحانه الشرك نجسا بفتح الجيم ولم يقل : إنما المشركون نجس بالكسر فإن النجس عين النجاسة والنجس بالكسر هو المتنجس فالثوب إذا أصابه بول أو خمر نجس والبول والخمر نجس فأنجس النجاسة الشرك كما أنه أظلم الظلم فإن النجس في اللغة والشرع هو المستقذر الذي يطلب مباعدته والبعد منه بحيث لا يلمس ولا يشم ولا يرى

فضلا أن يخالط ويلابس لقدارته ونفرة الطباع السليمة عنه وكلما كان الحق أكمل حياة وأصح حياء كان إبعاده لذلك أعظم ونفرته منه أقوى
فالأعيان النجسة إما أن تؤذي البدن أو القلب أو تؤذيهما معا والنجس قد يؤذي برائحته وقد يؤذي بملابسته وإن لم تكن له رائحة كريهة
والمقصود : أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة وتارة تكون معنوية باطنة فيغلب على الروح والقلب الخبث والنجاسة حتى إن صاحب القلب الحي ليشم من تلك الروح والقلب رائحة خبيثة يتأذى بها كما يتأذى من شم رائحة النتن ويظهر ذلك كثيرا في عرقه حتى ليوجد لرائحة عرقه نتنا فإن نتن الروح والقلب يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره والعرق يفيض من الباطن ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق وكان رسول اللهصلى الله عليه وسلمأطيب الناس عرقا قالت أم سليم وقد سألها رسول الله عليه الصلاة و السلام عنه وهي تلتقطه هو من أطيب الطيب فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثها ونجاستها حتى يبدو على الجسد والنفس الطيبة بضدها فإذا تجردت وخرجت من البدن وجد لهذه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ولتلك كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض
والمقصود : أن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح وأنكر المنكرات كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى وأكرها له وأشدها مقتا لديه ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه وأخبر أنه لا يغفره وأن أهله نجس ومنعهم من قربان حرمه وحرم ذبائحهم ومناكحتهم وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم وأن يتخذوهم عبيدا وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية وتنقيص لعظمة الألهية وسوء ظن

برب العالمين كما قال تعالى : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا [ الفتح : 6 ] فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الشرك فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا وندا يحبه ويخافه ويرجوه ويذل له ويخضع له ويهرب من سخطه ويؤثر مرضاته قال تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله [ البقره : 165 ] وقال تعالى : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ الأنعام : 1 ] أي يجعلون له عدلا في العبادة والمحبة والتعظيم وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبني آلهتهم وعرفوا وهم في النار أنها كانت ضلالا وباطلا فيقولون لألهتهم وهم في النار معهم رتالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [ الشعراء : 98 ] ومعلوم أنهم ما سووهم به في الذات والصفات والأفعال ولا قالوا : إن آلهتهم خلقت السموات والأرض وأنها تحيي وتميت وإنما سووها به في محبتهم لها وتعظيمهم لها وعبادتهم إياها كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام ومن العجب أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين وما ذنبهم إلا أن قالوا : إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وأنهم لا يشفعون لعابديهم أبدا بل قد حرم الله شفاعتهم لهم ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة فليس لهم من الأمر شيء بل الأمر كله لله والشفاعة كلها له سبحانه والولاية له فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع

فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله تعالى ولهذا قال إبراهيم إمام الحنفاء لخصمائه من المشركين : أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين [ الصافات : 86 ] وإن كان المعنى ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به وقد عبدتم معه غيره وجعلتم له ندا فأنت تجد تحت هذا التهديد : ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم من : من وزير أو ظهير أو عون وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة أولا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم أو لا يكفي عبده وحده أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع المخلوق عند المخلوق فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به وتكثره به من القلة وتعززه به من الذلة أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه كما هو حال ملوك الدنيا وهذا أصل شرك الخلق أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم حتى يرفع الوسائط ذلك أو يظن أن للمخلوق عليه حقا فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه ويتوسل إليه بذلك المخلوق كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته وكل هذا تنقص للربوبية وهضم لحقها ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه من قلب المشرك بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به فينقص ويضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه لكفى في شفاعته
فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه والتنقص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره وأن يخلد صاحبه في العذاب الأليم ويجعله أشقى البرية فلا تجد مشركا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه وإن زعم أنه يعظمه بذلك كما أنك لا تجد مبتدعا إلا وهو متنقص للرسولصلى الله عليه وسلم وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة فإنه يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب أو يزعم أنها هي السنة إن كان جاهلا مقلدا وإن كان مستبصرا في بدعته فهو مشاق لله ورسوله

فالمتنقصون المنقوصون عند الله تعالى ورسوله وأوليائه : هم أهل الشرك والبدعة ولا سيما من بنى دينه على أن كلام الله ورسوله أدلة لفظية لا تفيد اليقين ولا تغني من اليقين والعلم شيئا فيا لله للمسلمين أي شىء فات من هذا التنقضص
وكذلك من نفى صفات الكمال عن الرب تعالى خشية ما يتوهمه من التشبيه والتجسيم فقد جاء من التنقص بضد ما وصف الله سبحانه به نفسه من الكمال
والمقصود : أن هاتين الطائفتين هم أهل التنقص في الحقيقة بل هم أعظم الناس تنقصا لبس عليهم الشيطان حتى ظنوا ان تنقصهم هو الكمال ولهذا كانت البدعة قرينة الشرك في كتاب الله تعالى قال تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون [ الأعراف : 33 ] فالإثم والبغي قرينان والشرك والبدعة قرينان

فصل وأما نجاسة الذنوب والمعاصي فإنها بوجه آخر فإنها لا تستلزم
تنقيص الربوبية ولا سوء الظن بالله عز و جل ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك وهكذا استقرت الشريعة على أنه يعفي عن النجاسة المخفقة كالنجاسة في محل الاستجمار وأسفل الخف والحذاء أو بول الصبي الرضيع وغير ذلك ما لا يعفى عن المغلظة وكذلك يعفي عن الصغائر ما لا يعفي عن الكبائر ويعفي لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك مالا يعفى لمن ليس كذلك فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا

ألبتة ربه بقراب الأرض خطاياه أتاه بقرابها مغفرة ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده وشابه بالشرك فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب فإنه يتضمن من محبة الله تعالى وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض فالنجاسة عارضة والدافع لها قوى فلا تثبت معه ولكن نجاسة الزنا واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جدا ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركا فكلما كان الشرك في العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر وكلما كان أعظم إخلاصا كان منها أبعد كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [ يوسف : 24 ] فان عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها بل هو من أعلى أنواع التعبد ولا سيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتيما والتتيم التعبد فيصير العاشق عابدا لمعشوقه وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته وإيثار محابه على حب الله وذكره والسعي في مرضاته بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور كما هو مشاهد فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز و جل يقدم رضاه وحبه على رضى الله وحبه ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله ويتجنب من سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى فيصير آثر عنده من ربه : خبا وخضوعا وذلا وسمعا وطاعة
ولهذا كان العشق والشرك متلازمين وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط وعن امرأة العزيز وكانت إذ ذاك مشركة فكلما قوى شرك العبد بلى بعشق الصور وكلما قوى توحيده صرف ذلك عنه والزنا واللواطة كمال لذتهما إنما يكون مع العشق ولا يخلو صاحبهما منه وإنما لتنقله من محل إلى محل لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد بل ينقسم على سهام كثيرة لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده

فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله فإنهما من أعظم الخبائث فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب لا يصعد إليه إلا طيب وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا ولهذا قال المسيح فيما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد لا يكون البطالون من الحكماء ولا يلج الزناة ملكوت السماء
ولما كانت هذه حال الزنا كان قريبا للشرك في كتاب الله تعالى قال الله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين [ النور : 3 ]
والصواب : القول بأن هذه الآية محكمة يعمل بها لم ينسخها شيء وهي مشتملة على خبر وتحريم ولم يأت من ادعى نسخها بحجة ألبتة والذي أشكل منها على كثير من الناس واضح بحمد الله تعالى فإنهم أشكل عليهم قوله : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة هل هو خبر أو نهي أو إباحة فإن كان خبرا فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة وإن كان نهيا فيكون قد نهى الزاني أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة فيكون نهيا له عن نكاح المؤمنات العفائف وإباحة له في نكاح المشركات والزواني والله سبحانه لم يرد ذلك قطعا فلما أشكل عليهم ذلك طلبوا للآية وجها يصح حملها عليه فقال بعضهم : المراد من النكاح الوطء والزنا فكأنه قال : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة
وهذا فاسد فإنه لا فائدة فيه ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزنى إلا بزانية فأى فائدة في الإخبار بذلك ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه
ثم قالت طائفة : هذا عام اللفظ خاص المعنى والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة وهي
عناق البغي وصاحبها فإنه أسلم واستأذن رسول اللهصلى الله عليه وسلم في نكاحها فنزلت هذه الآية

وهذا أيضا فاسد فإن هذه الصورة المعينة وإن كانت سبب النزول فالقرآن لا يقتصر به على محال أسبابه ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها
وقالت طائفة : بل الآية منسوخة بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم [ النور : 32 ] وهذا أفسد من الكل فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين ولا تناقض إحداهما الأخرى بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامي وحرم نكاح الزانية كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة وذوات المحارم فأين الناسخ والمنسوخ في هذا
فإن قيل : فما وجه الآية قيل : وجهها والله أعلم أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه والإباحة قد علقت على شرط الإحصان فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله أو لا يلتزمه فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه لم يصح النكاح فيكون زانيا فظهر معنى قوله : لا ينكح إلا زانية أو مشركة [ النور : 3 ] وتبين غاية البيان وكذلك حكم المرأة
وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرنانا ديوثا زوج بغى فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا : زوج قحبة فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك
فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية والله الموفق
ومما يوضح التحريم وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة : أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم

وعده من جملة نعمه عليهم فالزنا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب فمن محاسن الشريعة : تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرأ
وأيضا فإن الزانية خبيثة كما تقدم بيانه والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة والرحمة والمودة وخالص الحب فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب زوجا له والزوج سمى زوجا من الازدواج وهو الاشتباه فالزوجان الإثنان المتشابهان والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعا وقدرا فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتواد فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة
فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة وقد وطئها الزاني البارحة وقال : ماء الزاني لا حرمة له فهب أن الأمر كذلك فماء الزوج له حرمة فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد
والمقصود : أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة وإن كان حلالا وسمي فاعله جنبا لبعده عن قراءة القرآن وعن الصلاة وعن المساجد فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء فكذلك إذا كان حراما يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة بل يحول بينه وبين الإيمان حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة وطهرا لبدنه بالماء وقول اللوطية : أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون  من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد  وقوله تعالى : قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل 
وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد وأنه لا يشوبه بالإشراك وهكذا المبتدع : إنما ينقم على السني تجريده متابعة الرسول وأنه لم يشبها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة
إذا لم يكن بد من الصبر فاصطبر ... على الحق ذاك الصبر تحمد عقباه

الباب العاشر في علامات مرض القلب وصحته كل عضو من أعضاء البدن
خلق لفعل خاص به كماله في حصول ذلك الفعل منه ومرضه : أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له حتى لا يصدر منه أو يصدر مع نوع من الاضطراب فمرض اليد : أن يتعذر عليها البطش ومرض العين : أن يتعذر عليها النظر والرؤية ومرض اللسان : أن يتعذر عليه النطق ومرض البدن : أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها ومرض القلب : أن يتعذر عليه ما خلق له من معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والإنابة إليه وإيثار ذلك على كل شهوة فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئا ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه والأنس به فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين بل إذا كان القلب خاليا عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابا له ولابد فيصير معذبا بنفس ما كان منعما به من جهتين : من جهة حسرة فوته وأنه حيل بينه وبينه مع شدة تعلق روحه به ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم حيث لم يحصل له فالمحبوب الحاصل فات والمحبوب الأعظم لم يظفر به وكل من عرف الله أحبه وأخلص العبادة له ولا بد ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه مريض كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب وتعوضت بمحبة غيره
وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه وتألم بجهله بالحق بحسب حياته
وما لجرح بميت إيلام

وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها فهو يؤثر بقاء الله على مشقة الدواء فإن دواءه في مخالفة الهوى وذلك أصعب شيء على النفس وليس لها أنفع منه
وتارة يوطن نفسه على الصبر ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره : كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول : أين ذهب الناس فلي بهم أسوة وهذه حال أكثر الخلق وهي التي أهلكتهم فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب
ولقد سئل إسحاق بن راهويه عن مسألة فأجاب فقيل له : إن أخاك أحمد بن حنبل يقول فيها بمثل ذلك فقال : ما ظننت أن أحدا يوافقني عليها ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافقة فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس فإذا رأى الرائي الشمس لم يحتج في علمه بها واعتقاده أنها طالعة إلى من يشهد بذلك ويوافقة عليه
وما أحسن ما قال أبو محمد عبدالرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان الممتسك به قليلا والمخالف له كثيرا لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبيصلى الله عليه وسلموأصحابه ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم قال عمرو بن ميمون الأودي : صحبت معاذا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام ثم صحبت بعده أفقه الناس عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فسمعته يقول : عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول : سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة وصلوا معهم فإنها لكم نافلة قال قلت : يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا قال : وماذاك قلت : تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول : صل الصلاة وحدك وهي

الفريضة وصل مع الجماعة وهي نافلة ! قال : يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية تدري ما الجماعة قلت : لا قال : إن جمهور الجماعة : الذين فارقوا الجماعة الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك وفي طريق أخرى فضرب على فخذي وقال : ويحك إن جمهور الناس فارقوا الجماعة وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز و جل قال نعيم بن حماد : يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ ذكره البيهقي وغيره
وقال أبو شامة عن مبارك عن الحسن البصري قال السنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي فاصبروا عليها رحمكم الله فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي : الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ولا مع أهل البدع في بدعهم وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم فكذلك إن شاء الله فكونوا وكان محمد بن أسلم الطوسي الإمام المتفق على إمامته مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه حتى قال : ما بلغني سنة عن رسول اللهصلى الله عليه وسلمإلا عملت بها ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا فما مكنت من ذلك فسئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم فقال : محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم وصدق والله فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داع إليها فهو الحجة وهو الإجماع وهو السوار الأعظم وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا
والمقصود : أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار فهنا أربعة أمور : غذاء نافع ودواء شاف وغذاء ضار ودواء مهلك
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي والقلب المريض بضد ذلك
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان وأنفع الأدوية دواء القرآن وكل منهما فيه الغذاء والدواء
ومن علامات صحته ايضا : أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها جاء إلى هذه الدار غريبا يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه

كما قال عليه السلام لعبد الله بن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور :
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل
وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها حتى يصير من أهلها
ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به فبه يطمئن وإليه يسكن وإليه يأوي وبه يفرح وعليه يتوكل وبه يثق وأياه يرجو وله يخاف فذكره : قوته وغذاؤه ومحبته والشوق إليه : حياته ونعيمه ولذته وسروره والالتفاف إلى غيره والتعلق بسواه داؤه والرجوع اليه دواؤه فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق وانسدت تلك الفاقة فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدا وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى الهه ومعبوده فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق ولأجله خلقت الجنة والنار وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة

قال بعض العارفين مساكين أهل الدينا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها قيل : وما أطيب ما فيها قال : محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته
وقال آخر : إنه ليمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
وقال آخر : والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته وقال أبو الحسين الوراق : حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت والعيش الهني الحياة مع الله تعالى لا غير
ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت لأن الفوت انقطاع عن الحق والموت انقطاع عن الخلق فكم بين الانقطاعين
وقال آخر : من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات
وقال يحيى بن معاذ : من سر بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه
ومن علامات صحة القلب : أن لا يفتر عن ذكر ربه ولا يسأم من خدمته ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه ويذكره به ويذاكره بهذا الأمر
ومن علامات صحته : أنه إذا فاته ورده وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده
ومن علامات صحته : أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب
ومن علامات صحته : أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا واشتد عليه خروجه منها ووجد فيها راحته ونعيمه وقرت عينه وسرور قلبه
ومن علامات صحته : أن يكون همه واحدا وأن يكون في الله
ومن علامات صحته : أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشد الناس شحا بماله
ومنها : أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل فيحرص على الإخلاص فيه والنصحية والمتابعة والإحسان ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه وتقصيره في حق الله

فهذه ست مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحي السليم
وبالجملة فالقلب الصحيح : هو الذي همه كله في الله وحبه كله له وقصده له وبدنه له وأعماله له ونومه له ويقظته له وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه : الخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له قرة عينه به وطمأنينته وسكونه إليه فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية  فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا فيأتي بها توددا وتحببا وتقربا كما يأتي المحب المقيم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي أحس من قلبه ناطقا ينطق لبيك وسعديك إني سامع مطيع ممتثل ولك علي المنة في ذلك والحمد فيه عائد إليك
وإذا أصابه قدر وجد من قلبه ناطقا يقول أنا عبدك ومسكينك وفقيرك وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين وأنت ربي العزيز الرحيم لا صبر لي إن لم تصبرني ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوني لا ملجأ لي منك إلا إليك ولا مستعان لي إلا بك ولا انصراف لي عن بابك ولا مذهب لي عنك
فينطرح بمجموعه بين يديه ويعتمد بكليته عليه فإن أصابه بما يكره قال : رحمة أهديت إلي ودواء نافع من طبيب مشفق وإن صرف عنه ما يحب قال : شرا صرف عني
وكم رمت أمرا خرت لي في انصرافه ... وما زلت بي منى أبر وأرحما فكل ما مسه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقا إليه وانفتح له منه باب يدخل منه عليه كما قيل :
ما مسني قدر بكره ... أو رضى إلا اهتديت به إليك طريقا
أمض القضاء على الرضى منى به ... إني وجدتك في البلاء رفيقا ولله هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر وماذا أودعته من الكنوز والذخائر ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر
سيبدو لها طيب ونور وبهجة ... وحسن ثناء يوم تبلى السرائر

بالله لقد رفع لها علم عظيم فشمرت إليه واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب إليه واختارت على ما سواه وآثرت ما لديه

الباب الحادي عشر في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه هذا
الباب كالأساس والأصل لما بعده من الأبواب فإن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصب ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب وقد كان رسول اللهصلى الله عليه وسلميقول في خطبة الحاجة الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا
وفي المسند والترمذي من حديث حصين بن عبيد ورد أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال له : يا حصين كم تعبد قال : سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال : فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال : الذي في السماء قال : أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها فأسلم فقال : قل : اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي
وقد استعاذصلى الله عليه وسلممن شرها عموما ومن شر ما يتولد منها من الأعمال ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات وجمع بين الاستعاذة من شر النفس ومن سيئات الأعمال وفيه وجهان :

أحدهما : أنه من باب إضافة النوع إلى جنسه أي أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال
والثاني : أن المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها
فعلى الأول : يكون قد استعاذ من صفة النفس وعملها
وعلى الثاني : يكون قد استعاذ من العقوبات وأسبابها
ويدخل العمل السيء في شر النفس فهل المعنى : ما يسوءني من جزاء عملي أو من عملي السيء وقد يترجح الأول فإن الاستعاذة من العمل السيء بعد وقوعه إنما هي استعاذة من جزائه وموجبه وإلا فالموجود لا يمكن رفعه بعينه
وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظفر بها
فإن الناس على قسمين : قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم
قال بعض العارفين : انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك قال تعالى : فأما من طغى وءاثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى 
فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع المحنة والابتلاء وقد وصف سبحانه النفس في القرآن بثلاثة صفات : المطمئنة والأمارة بالسوء واللوامة
فاختلف الناس : هل النفس واحدة وهذه أوصاف لها أم للعبد ثلاث أنفس : نفس مطمئنة ونفس لوامة ونفس أمارة
فالأول قول الفقهاء والمتكلمين وجمهور المفسرين وقول محققي الصوفية والثاني قول كثير من أهل التصوف

والتحقيق : أنه لا نزاع بين الفريقين فإنها واحدة باعتبار ذاتها وثلاث باعتبار صفاتها فإذا اعتبرت بنفسها فهي واحدة وإن اعتبرت مع كل صفة دون الأخرى فهي متعددة وما أظنهم يقولون إن لكل أحد ثلاث أنفس : كل نفس قائمة بذاتها مساوية للأخرى في الحد والحقيقة وأنه إذا قبض العبد قبضت له ثلاث أنفس كل واحدة مستقلة بنفسها
وحيث ذكر سبحانه النفس وأضافها إلى صاحبها فإنما ذكرها بلفظ الإفراد وهكذا في سائر الأحاديث ولم يجىء في موضع واحد نفوسك و نفوسه ولا أنفسك و أنفسه وإنما جاءت مجموعه عند إرادة العموم كقوله وإذا النفوس زوجت أو عند إضافتها إلى الجمع كقولهصلى الله عليه وسلمإنما أنفسنا بيد الله ولو كانت في الإنسان ثلاث أنفس لجاءت مجموعة إذا أضيفت إليه ولو في موضع واحد
فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وأنابت إليه واشتاقت إلى لقائه وأنست بقربه فهي مطمئنة وهي التي يقال لها عند الوفاة يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية  قال ابن عباس : يا أيتها النفس المطمئنة [ الفجر : 27 ] يقول : المصدقة وقال قتادة : هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله وقال الحسن المطمئنة بما قال الله والمصدقة بما قال وقال مجاهد هي المنيبة المخبتة التي أيقنت أن الله ربها وضربت جأشا لأمره وطاعته وأيقنت بلقائه وحقيقة الطمأنينة : السكون والاستقرار فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره ولم تسكن إلى سواه فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره واطمأنت إلى لقائه ووعده واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته واطمأنت إلى الرضى به ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا واطمأنت إلى قضائه وقدره واطمأنت إلى كفايته وحسبه وضمانه فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله وأن مرجعها إليه وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين

وإذا كانت بضد ذلك فهي أمارة بالسوء تأمر صاحبها بما تهواه : من شهوات الغي واتباع الباطل فهي مأوى كل سوء وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه وقد أخبر سبحانه أنها أمارة بالسوء ولم يقل آمرة لكثرة ذلك منها وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير فذلك من رحمة الله لا منها فإنها بذاتها أمارة بالسوء لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة إلا من رحمة الله والعدل والعلم طارىء عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها وجهلها فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة
فإذا أراد الله سبحانه بها خيرا جعل فيها ما تزكو به وتصلح : من الإرادات والتصورات وإذا لم يرد بها ذلك تركها على حالها التي خلقت عليها من الجهل والظلم
وسبب الظلم : إما جهل وإما حاجة وهي في الأصل جاهلة والحاجة لازمة لها فلذلك كان أمرها بالسوء لازما لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله
وبهذا يعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة ولا تشبهها ضرورة تقاس بها فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك

فصل وأما اللوامة فاختلف في اشتقاق هذه اللفظة هل هي من التلوم
وهو التلون والتردد أو هي من اللوم وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : ما اللوامة قال : هي النفس اللؤوم
وقال مجاهد : هي التي تندم على ما فات وتلوم عليه
وقال قتادة : هي الفاجرة وقال عكرمة : تلوم على الخير والشر وقال عطاء عن ابن عباس كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد احسانا وتلوم المسىء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته
وقال الحسن إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته يستقصرها في كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه وإن الفاجر ليمضي قدما لا يعاتب نفسه

فهذه عبارات من ذهب إلى أنها من اللوم وأما من جعلها من التلوم فلكثرة ترددها وتلومها وأنها لا تستقر على حال واحدة والأول أظهر فإن هذا المعنى لو أريد لقيل : المتلومة كما يقال : المتلونة والمترددة ولكن هو من لوازم القول الأول فإنها لتلومها وعدم ثباتها تفعل الشىء ثم تلوم عليه فالتلوم من لوازم اللوم
والنفس قد تكون تارة أمارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا والحكم للغالب عليها من أحوالها فكونها مطمئنة وصف مدح لها وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه
والمقصود : ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه وله علاجان :
محاسبتها ومخالفتها وهلاك القلب من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله دان نفسه : أي حاسبها
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية
وذكر أيضا عن الحسن قال : لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه : وماذا أردت تعملين وماذا أردت تأكلين وماذا أردت تشربين والفاجر يمضي قدما قدما لا يحاسب نفسه
وقال قتادة في قوله تعالى وكان أمره فرطا [ الكهف : 28 ] : أضاع نفسه وغبن مع ذلك تراه حافظا لماله مضيعا لدينه
وقال الحسن : إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته

وقال ميمون بن مهران : لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل : النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك وقال ميمون بن مهران أيضا : إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص ومن شريك شحيح وذكر الإمام أحمد عن وهب قال : مكتوب في حكمة آل داود : حق على العاقل : أن لا يغفل عن أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات وإجماما للقلوب وقد روي هذا مرفوعا من كلام النبيصلى الله عليه وسلم رواه أبو حاتم وابن حبان وغيره
وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول : حس يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا ما حملك على ما صنعت يوم كذا
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله : حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة
وقال الحسن : المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول : والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك هيهات هيهات حيل بيني وبينك ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا مالي ولهذا والله لا أعود إلى هذا أبدا إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه مأخوذ عليه في ذلك كله
قال مالك بن دينار : رحم الله عبدا قال لنفسه : ألست صاحبة كذا ألست صاحبة كذا ثم زمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله عز و جل فكان لها قائدا
وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك في المال فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من

الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولا ثم بمطالعة ما يعمل والإشراف عليه ومراقبته ثانيا ثم بمحاسبته ثالثا ثم يمنعه من الخيانة إن أطلع عليه رابعا فكذلك النفس : يشارطها أولا على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال والربح بعد ذلك فمن ليس له رأس مال فكيف يطمع في الربح وهذه الجوارح السبعة وهي العين والأذن والفم والفرج واليد والرجل : هي مراكب العطب والنجاة فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها ونجا من بحفظها ومراعتها فحفظها أساس كل خير وإهمالها أساس كل شر قال تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم [ النور : 30 ] وقال تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا [ الاسراء : 37 ] وقال : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الاسراء : 36 ] وقال : وقل لعبادي يقولوا التي هى أحسن [ الاسراء : 53 ] وقال : يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا [ الأحزاب : 70 ] وقال : يكأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [ الحشر : 18 ]
فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها فلا يهملها فإنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولا بد فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة حتى تذهب رأس المال كله فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران فإذا أحس بالخسران وتيقنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه : من الرجوع عليه بما مضى والقيام بالحفظ والمراقبة في مراقبته ومحاسبته وليحذر من إهماله
ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة : معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا
ويعينه عليها أيضا : معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس والنظر إلى وجه الرب سبحانه وخسارتها : دخول النار والحجاب عن الرب تعالى فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة

لا حظ لها يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد فإضاعة هذه الأنفاس أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه : خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [ آل عمران : 30 ]
فصل ومحاسبة النفس نوعان : نوع قبل العمل ونوع بعده فأما النوع
الأول : فهو أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه
قال الحسن رحمه الله : رحم الله عبدا وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر
وشرح هذا بعضهم فقال : إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهم به العبد وقف أولا ونظر : هل ذلك العمل مقدور له أو غير مقدور ولا مستطاع فإن لم يكن مقدورا لم يقدم عليه وإن كان مقدورا وقف وقفة أخرى ونظر : هل فعله خير له من تركه أو تركه خير له من فعله فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر : هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز و جل وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق فإن كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه لئلا تعتاد النفس الشرك ويخف عليها العمل لغير الله فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى يصير أثقل شيء عليها وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر : هل هو معان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجا إلى ذلك أم لا فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبيصلى الله عليه وسلمعن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار

وإن وجده معانا عليه فليقدم عليه فإنه منصور ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح
فهذه أربعة مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورا له ولا كل ما يكون مقدورا له يكون فعله خيرا له من تركه ولا كل ما يكون فعله خيرا له من تركه يفعله لله ولا كل ما يفعله لله يكون معانا عليه فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه وما يحجم عنه
فصل النوع الثاني : محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع :
أحدها : محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي
وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور تقدمت وهي : الإخلاص في العمل والنصيحة لله فيه ومتابعة الرسول فيه وشهود مشهد الإحسان فيه وشهود منة الله عليه وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله
فيحاسب نفسه : هل وفى هذه المقامات حقها وهل أتى بها في هذه الطاعة
الثاني : أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله
الثالث : أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد : لم فعله وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحا أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به

فصل وأخر ما عليه الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور
وتمشيتها فإن هذا يؤول به إلى الهلاك وهذه حال أهل الغرور : يغمض عينيه عن العواقب ويمشى الحال ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة

الذنوب وأنس بها وعسر عليها فطامها ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد
قال ابن أبي الدنيا : حدثني رجل من قريش ذكر أنه من ولد طلحة ابن عبيدالله قال : كان توبة بن الصمة بالرقة وكان محاسبا لنفسه فحسب يوما فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال : يا ويلتي ! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت فسمعوا قائلا يقول : يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى
وجماع ذلك : أن يحاسب نفسه أولا على الفرائض فإن تذكر فيها نقصا تداركه إما بقضاء أو إصلاح ثم يحاسبها على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ثم يحاسب نفسه على الغفلة فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى ثم يحاسبها بما تكلم به أو مشت إليه رجلاه أو بطشت يداه أو سمعته أذناه : ماذا أرادت بهذا ولمن فعلته وعلى أي وجه فعلته ويعلم أنه لابد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان : ديوان لمن فعلته وكيف فعلته فالأول سؤال عن الإخلاص والثاني سؤال عن المتابعة وقال تعالى : فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ الحجر : 92 ] وقال تعالى : فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ الأعراف : 6 ] وقال تعالى : ليسئل الصادقين عن صدقهم [ الأحزاب : 8 ]
فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين
قال مقاتل : يقول تعالى : أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الله الصادقين يعني النبيين عن تبليغ الرسالة وقال مجاهد : يسأل المبلغين المؤدين عن الرسل يعني : هل بلغوا عنهم كما يسأل الرسل هل بلغوا عن الله تعالى
والتحقيق : أن الآية تتناول هذا وهذا فالصادقون هم الرسل والمبلغون عنهم فيسأل الرسل عن التبليغ ويسأل المبلغين عنهم عن تبليغ ما بلغهم الرسل ثم يسأل الذين بلغتهم الرسالة ماذا أجابوا المرسلين كما قال تعالى : ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ المائده : 109 ]

قال قتادة : كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون : ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين فيسأل عن المعبود وعن العبادة
وقال تعالى : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر : 8 ] قال محمد بن جرير : يقول تعالى : ثم ليسألنكم الله عز و جل عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا : ماذا عملتم فيه من أين وصلتم إليه وفيم أصبتموه وماذا عملتم به
وقال قتادة : إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه والنعيم المسئول عنه نوعان : نوع أخذ من حله وصرف في حقه فيسأل عن شكره ونوع يأخذ بغير حله وصرف في غير حقه فيسأل عن مستخرجه ومصرفه
فإذا كان العبد مسئولا ومحاسبا على كل شىء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الاسراء : 34 ] فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب
وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [ الحشر : 18 ] يقول تعالى : لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال : أمن الصالحات التي تنجيه أم السيئات التي توبقه
قال قتادة : ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد
والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها والاسترسال معها
فصل وفي محاسبة النفس عدة مصالح منها : الاطلاع على عيوبها ومن
لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى
وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا
وقال مطرف بن عبدالله : لولا ما أعلم من نفسي لقليت الناس

وقال مصرف في دعائه بعرفة : اللهم لا ترد الناس لأجلي
وقال بكر بن عبدالله المزني : لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم
وقال أيوب السعختياني : إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له حماد : يا أبا عبدالله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين فقال : يا أبا سلمه أتطمع لمثلي أن ينجو من النار قال : إي والله إني لأرجو لك ذلك
وذكر عن مسلم بن سعيد الواسطي قال : أخبرني حماد بن جعفر بن زيد : أن أباه أخبره قال : خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش : صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت : لأرمقن عمله فالتمس غفلة الناس حتى إذا قلت : هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي وجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت أوعده جروا فلما سجد قلت : الآن يفترسه فجلس ثم سلم ثم قال : أيها السبع طلب الرزق من مكان آخر فولى وإن له لزئيرا أقول : تصدع الجبال منه قال : فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال : اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يصغر أن يجترىء أن يسألك الجنة قال : ثم رجع واصبح كأنه بات على الحشايا وأصبحت وبي من الفترة شىء الله به عالم
وقال يونس بن عبيد : إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة
وقال محمد بن واسع : لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلي وذكر ابن أبي الدنيا عن الخلد بن أيوب قال : كان راهب في بني اسرائيل في صومعة

منذ ستين سنة فأتي في منامه فقيل له : إن فلانا الإسكافي خير منك ليلة بعد ليلة فأتى الإسكافي فسأله عن عمله فقال : إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننت أنه في الجنة وأنا في النار ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه
وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء فأثنوا عليه فقال : لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا
وقال أبو حفص : من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغرورا ومن نظر إليها باستحسان شىء منها فقد أهلكها
فالنفس داعية إلى المهالك معينة للأعداء طامحة إلى كل قبيح متبعة لكل سوء فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة
فالنعمة التي لا خطر لها : الخروج منها والتخلص من رقها فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها ومقتا لها
قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا علي بن الحسين المقدمي حدثنا عامر بن صالح عن أبيه عن ابن عمر : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : اللهم اغفر لي ظلمي وكفري فقال قائل : يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما بال الكفر قال : إن الإنسان لظلوم كفار
قال : وحدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود عن الصلت بن دينار حدثنا عقبة ابن صهبان الهنائي قال سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز و جل : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله [ فاطر : 32 ] فقالت : يا بني هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم شهد له رسول اللهصلى الله عليه وسلمبالجنة والرزق وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا

وقال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن مسروق قال : دخل عبدالرحمن على أم سلمة رضي الله عنها فقالت : سمعت النبيصلى الله عليه وسلميقول : إن من أصحابي لمن لا يراني بعد أن أموت أبدا فخرج عبد الرحمن من عندها مذعورا حتى دخل على عمر رضي الله عنه فقال له : اسمع ما تقول أمك فقام عمر رضى الله عنه حتى أتاها فدخل عليها فسألها ثم قال : أنشدك بالله أمنهم أنا قالت : لا ولن أبريء بعدك أحدا
فسمعت شيخنا يقول : إنما أرادت أنى لا أفتح عليها هذا الباب ولم ترد أنك وحدك البرىء من ذلك دون سائر الصاحبة
ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل
ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال : إن قوما من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد فجاء شاب حتى قام على باب المسجد فقال : ليس مثلي يدخل معكم أنا صاحب كذا أنا صاحب كذا يزري على نفسه فأوحى الله عز و جل إلى نبيهم : أن فلانا صديق
وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا منذر عن وهب : أن رجلا سائحا عبدالله عز و جل سبعين سنة ثم خرج يوما فقلل عمله وشكا إلى الله تعالى منه واعترف بذنبه فأتاه آت من الله فقال : إن مجلسك هذا أحب إلى من عملك فيما مضى من عمرك
قال أحمد : وحدثنا عبدالصمد أبو هلال عن قتادة قال : قال عيسى بن مريم عليه السلام : سلوني فإني لين القلب صغير عند نفسي

وذكر أحمد أيضا عن عبدالله بن رياح الأنصاري قال : كان داود عليه السلام ينظر أعمص حلقة في بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم ثم يقول : يا رب مسكين بين ظهراني مساكين
وذكر عن عمران بن موسى القصير قال : قال موسى عليه السلام يا رب أين أبغيك قال : ابغنى عند المنكسرة قلوبهم فإني أدنو منهم كل يوم باعا ولولا ذلك انهدموا
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد : أن رجلا من بني إسرائيل تعبد ستين سنة في طلب حاجة فلم يظفر بها فقال في نفسه : والله لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك فأتى في منامه فقيل له : أرأيت ازدراءك نفسك تلك الساعة فإنه خير من عبادتك تلك السنين
ومن فوائد محاسبة النفس : أنه يعرف بذلك حق الله تعالى ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدى عليه وهي قليلة المنفعة جدا
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال : بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال : يا رب ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله تعالى إليه : لو دعاني حتى ينقطع قواه ما أستجيب له حتى ينظر في حقي عليه
فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد فإن ذلك يورثه مقت نفسه والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه علم علم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة وأنه إن أحيل على عمله هلك فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم ومن ههنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا ثم نظره : هل قام به كما ينبغي

ثانيا وأفضل الفكر الفكر في ذلك فإنه يسير القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعا منكسرا كسرا فيه جبره ومفتقرا فقرا فيه غناه وذليلا ذلا فيه عزه ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن القاسم حدثنا صالح المدني عن أبي عمران الجوني عن أبي الخلد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام : إذا ذكرتنى فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك وكن عند ذكرى خاشعا مطمئنا وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك وإذا قمت بين يدى فقم مقام العبد الحقير الذليل وذم نفسك فهي أولى بالذم وناجنى حين تناجينى بقلب وجل ولسان صادق ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه أن لا يتركه ذلك يدل بعمل أصلا كائنا ما كان ومن أدل بعمله لم يصعد إلى الله تعالى كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله أنه قال له رجل : إني لأقوم في صلاتي فأبكى حتى يكاد ينبت البقل من دموعى فقال له : إنك أن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك خير من أن تبكى وأنت مدل بعملك فإن صلاة الدال لا تصعد فوقه
فقال له : أوصنى قال : عليك بالزهد في الدنيا وأن لا تنازعها أهلها وأن تكون كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن وضعت وضعت طيبا وإن وقعت على عود لم تضره ولم تكسره وأوصيك بالنصح لله عز و جل نصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويطردونه ويأبى إلا أن يحوطهم وينصحهم
ومن هذا أخذ الشاطبي قوله : و
قد قيل : كن كالكلب يقصيه أهله ... ولا يأتلى في نصحهم متبذلا
وقال الإمام أحمد : حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا الجريرى قال بلغني أن رجلا من بني إسرائيل كانت له إلى الله عز و جل حاجة فتعبد واجتهد ثم طلب إلى الله تعالى حاجته فلم ير نجاحا فبات ليلة مزريا على نفسه وقال : يا نفس مالك لا تقضي حاجتك فبات محزونا قد أزرى على نفسه وألزم إطلاقه نفسه فقال : أما والله ما من قبل ربي أتيت ولكن من قبل نفسي أتيت وألزم نفسه الملامة فقضيت حاجته

الباب الثاني عشر في علاج مرض القلب بالشيطان هذا الباب من أهم
أبواب الكتاب وأعظمها نفعا والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها فإنهم توسعوا في ذلك وقصروا في هذا الباب
ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس فإن النفس المذمومة ذكرت في قوله : إن النفس لامارة بالسوء [ يوسف : 53 ] واللوامة في قوله : ولا أقسم بالنفس اللوامة [ القيامة : 2 ] وذكرت النفس المذمومة في قوله : ونهى النفس عن الهوى [ النازعات : 40 ] وأما الشيطان فذكر في عدة مواضع وأفردت له سورة تامة فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس وهذا هو الذي لا ينبغي غيره فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته فهي مركبه وموضع شرعه ومحل طاعته وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد وإنما جاءت الاستعاذة من شرها في خطبة الحاجة في قولهصلى الله عليه وسلم ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا كما تقدم ذلك في الباب الذي قبله
وقد جمع النبيصلى الله عليه وسلمبين الاستعاذة من الأمرين في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا رسول الله علمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت قال : قل : اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك

فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته فإن الشر كله إما أن يصدر من النفس أو من الشيطان وغايته : إما أن تعود على العامل أو على أخيه المسلم فتضمن الحديث مصدري الشر اللذين يصدر عنهما وغايتيه اللتين يصل إليهما

فصل قال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم
إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ النحل : 98 ]
ومعنى استعذ بالله : امتنع به واعتصم به والجأ إليه ومصدره العوذ والعياذ والمعاذ وغالب استعماله في المستعاذ به ومنه قولهصلى الله عليه وسلملقد عذت بمعاذ وأصل اللفظة : من اللجأ إلى الشيء والاقتراب منه ومن كلام العرب أطيب اللحم عوذه : أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به وناقة عائذ : يعوذ بها ولدها وجمعها عوذ كحمر ومنه في حديث الحذيبية معهم العوذ المطافيل والمطافيل : [ جمع ] مطفل وهي الناقة التي معها فصيلها
قالت طائفة منهم صاحب جامع الأصول : استعار ذلك للنساء أي معهم النساء وأطفالهم ولا حاجة إلى ذلك بل اللفظ على حقيقته أي قد خرجوا إليك بدوابهم

ومراكبهم حتى أخرجوا معهم النوق التي معها أولادها فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن وفي ذلك وجوه :
منها : أن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة فهو دواء لما أمره فيها الشيطان فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلى منه القلب ليصادف الدواء محلا خاليا فيتمكن منه ويؤثر فيه كما قيل :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه
ومنها : أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب كما أن الماء مادة النبات والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولا فكلما أحس بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه فأمر أن يستعيذ بالله عز و جل منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها
وكأن من قال : إن الاستعاذة بعد القراءة لاحظ هذا المعنى وهو لعمر الله ملحظ جيد إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف وهو محصل للأمرين
ومنها : أن الملائكة تدنو من قارىء القرآن وتستمع لقراءته كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح فقال عليه الصلاة و السلام : تلك الملائكة والشيطان ضد الملك وعدوه فأمر القارىء أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى يحضره خاص ملائكته فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين

ومنها : أن الشيطان يجلب على القارىء بخيله ورجله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن فلا يكمل انتفاع القارىء به فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عز و جل منه
ومنها : أن القارىء يناجي الله تعالى بكلامه والله تعالى أشد أذنا للقارىء الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء فأمر القارىء أن يطرده بالاستعاذة عند مناجأة الله تعالى واستماع الرب قراءته
ومنها : أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته والسلف كلهم على أن المعنى : إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته قال الشاعر في عثمان :
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقادر فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم السلام فكيف بغيرهم ولهذا يغلط القارىء تارة ويخلط عليه القراءة ويشوشها عليه فيخبط عليه لسانه أو يشوش عليه ذهنه وقلبه فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارىء هذا أو هذا وربما جمعهما له فكان من أهم الأمور : الاستعاذة بالله تعالى منه
ومنها : أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه وفي الصحيح عن النبيصلى الله عليه وسلمإن شيطانا تفلت على البارحة فأراد أن يقطع على صلاتي الحديث وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر وفي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي الفاكه أنه سمعصلى الله عليه وسلميقول : إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرافه فقعد له بطريق الإسلام فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك فعصاه

فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال فقال : تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال قال : فعصاه فجاهد
فالشيطان بالرصيد للإنسان على طريق كل خير
وقال منصور عن مجاهد رحمه الله : ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز معهم إبليس مثل عدتهم رواه ابن أبي حاتم في تفسيره فهو بالرصد ولا سيما عند قراءة القرآن فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق ويستعيذ بالله تعالى منه أولا ثم يأخذ في السير كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه ثم اندفع في سيره
ومنها : أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى ثم شرع ذلك للقارىء وإن كان وحده لما ذكرنا من الحكم وغيرها
فهذه بعض فوائد الاستعاذة
وقد قال أحمد في رواية حنبل : لا يقرأ في صلاة ولا غير صلاة إلا استعاذ لقوله عز و جل : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل : 98 ]
وقال في رواية ابن مشيش : كلما قرأ يستعيذ وقال عبدالله بن أحمد : سمعت أبي إذا قرأ استعاذ يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم
وفي المسند والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال : كان النبيصلى الله عليه وسلمإذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم : من همزه ونفخه ونفثه

وقال ابن المنذر : جاء عن النبيصلى الله عليه وسلمأنه كان يقول قبل القراءة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم واختار الشافعي وأبو حنيفة والقاضي في الجامع أنه كان يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو رواية عن أحمد لظاهر الآية وحديث ابن المنذر
وعن أحمد من رواية عبدالله : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم لحديث أبي سعيد وهو مذهب الحسن وابن سيرين ويدل عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك : أن النبيصلى الله عليه وسلمجلس وكشف عن وجهه وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم وبه قال سفيان الثوري ومسلم بن يسار واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل لأن قوله : فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل : 98 ] ظاهره أنه يستعيذ بقوله : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقوله في الآية الأخرى : فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت : 36 ] يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم في جملة مستقلة بنفسها مؤكذة بحرف إن لأنه سبحانه هكذا ذكر
وقال إسحاق : الذي أختاره ما ذكر عن النبيصلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه
وقد جاء في الحديث تفسير ذلك قال : وهمزه المؤتة ونفخه : الكبر ونفثه : الشعر
وقال تعالى : وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون [ المؤمنون : 97 ] والهمزات : جمع همزة كتمرات وتمرة وأصل الهمز الدفع قال أبو عبيد عن الكسائي : همزته ولمزته ولهزته ونهزته إذا دفعته والتحقيق : أنه دفع بنخز وغمز يشبه الطعن فهو دفع خاص فهمزات الشياطين : دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب قال ابن عباس والحسن : همزات الشياطين : نزغاتهم ووساوسهم وفسرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم وهذا قول مجاهد وفسرت بخنقهم وهو الموتة التي تشبه الجنون
وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث وقد يقال وهو الأظهر إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعا خاصا كنظائر ذلك

ثم قال : وأعوذ بك رب أن يحضرون [ المؤمنون : 98 ] قال ابن زيد : في أموري وقال الكلبي : عند تلاوة القرآن وقال عكرمة : عند النزع والسياق فأمره أن يستعيذ من نوعي شر إصابتهم بالهمز وقربهم ودنوهم منه
فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله : ادفع بالتي هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون [ المؤمنون : 96 ] فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتي هي أحسن وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم
ونظير هذا قوله في سورة الأعراف : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ الأعراف : 199 ] فأمره بدفع شر الجاهلين بالإعراض عنهم ثم أمره بدفع شر الشيطان بالاستعاذة منه فقال وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه سميع عليم [ الأعراف : 200 ] ونظير ذلك قوله في سورة فصلت : ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هى أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم [ فصلت : 34 ]
فهذا لدفع شر شياطين الإنس ثم قال : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت : 36 ] فأكد بإن وبضمير الفصل وأتى باللام في : السميع العليم وقال في الأعراف : إنه سميع عليم وسر ذلك والله أعلم أنه حيث اقتصر على مجرد الإسم ولم يؤكده أريد إثبات مجرد الوصف الكافى في الاستعاذة والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم فيسمع استعاذتك فيجيبك ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك فالسمع لكلام المستعيذ والعلم بالفعل المستعاذ منه وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة وهذا المعنى شامل للموضعين وامتاز المذكور في سورة فصلت بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكوا في سمعه لقولهم وعلمه بهم كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقالوا : أترون الله يسمع ما نقول فقال أحدهم : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا فقال الآخر : إن سمع بعضه سمع كله فأنزل الله عز و جل : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم

من الخاسرين [ فصلت : 22 ] فجاء التوكيد في قوله : إنه هو السميع العليم في سياق هذا الإنكار : أي هو وحده الذي له كمال قوة السمع وإحاطة العلم لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون : أنه لا يسمع إن أخفوا وأنه لا يعلم كثيرا مما يعملون وحسن ذلك أيضا : أن المأمور به في سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم وذلك أشق على النفوس من مجرد الإعراض عنهم ولهذا عقبة بقوله وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ فصلت : 35 ] فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ
وأيضا فإن السياق ههنا لإثبات صفات كماله وأدلة ثبوتها وآيات ربوبيته وشواهد توحيده ولهذا عقب ذلك بقوله ومن آياته الليل والنهار [ فصلت : 37 ] وبقوله : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة [ فصلت : 39 ] فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه السميع العليم كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرفة والذي في الأعراف في سياق وعيد المشركين وإخوانهم من الشياطين ووعد المستعيذ بأن له ربا يسمع ويعلم وآلهة المشركين التي عبدوها من دونه ليس لهم أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها فإنه سميع عليم وآلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فكيف تسوونها به في العبادة فعلمت أنه لا يليق بهذا السياق غير التنكير كما لا يليق بذلك غير التعريف والله أعلم بأسرار كلامه ولما كان المستعاذ منه في سورة حم المؤمن هو شر مجادلة الكفار في آياته وما ترتب عليها من أفعالهم المرئية بالبصر قال : إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير [ غافر : 56 ] فإنه لما كان المستعاذ منه كلامه وأفعالهم المشاهدة عيانا قال : إنه هو السميع البصير وهناك المستعاذ منه غير مشاهد لنا فإنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه بل هو معلوم بالإيمان وإخبار الله ورسوله

فصل فالقرآن أرشد إلى دفع هذين العدوين بأسهل الطرق بالاستعاذة
والإعراض عن الجاهلين ودفع ودفع إساءتهم بالإحسان وأخبر عن عظم حظ من لقاه ذلك فإنه ينال بذلك كف شر عدوه وانقلابه صديقا ومحبة الناس له وثناءهم عليه وقهر هواه وسلامة قلبه من الغلوالحقد وطمأنينة الناس حتى عدوه إليه هذا غير ما يناله من كرامة الله وحسن ثوابه ورضاه عنه وهذا غاية الحظ عاجلا وآجلا ولما كان ذلك لا ينال إلا بالصبر قال : وما يلقاها إلا الذين صبروا فإن النزق الطائش لا يصبر على المقابلة
ولما كان الغضب مركب الشيطان فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان أمر أن يعاونها بالاستعاذة منه فتمد الاستعاذة النفس المطمئنة فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية ويأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه وجاء مدد الإيمان والتوكل فأبطل سلطان الشيطان ف إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون 
قال مجاهد وعكرمة والمفسرون : ليس له حجة
والصواب : أن يقال : ليس له طريق يتسلط به عليهم : لا من جهة الحجة ولا من جهة القدرة والقدرة داخلة في مسمى السلطان وإنما سميت الحجة سلطانا لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين فقال في سورة الحجر : قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ الحجر : 39 ]
وقال في سورة النحل : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ النحل : 99 ] فتضمن ذلك أمرين : أحدهما نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص والثاني إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولاه

ولما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد والإخلاص قال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص : 83 ]
فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله عز و جل وأخلص له وتوكل عليه لا يقدر على إغوائه وإضلاله وإنما يكون له السلطان على من تولاه وأشرك مع الله فهؤلاء رعيته فهو وليهم وسلطانهم ومتبوعهم
فإن قيل : فقد أثبت له السلطان على أوليائه في هذا الموضع فكيف ينفيه في قوله : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك [ سبأ : 20 ]
قيل : إن كان الضمير في قوله : وما كان له عليهم من سلطان  عائدا على المؤمنين فالسؤال ساقط ويكون الاستثناء منقطعا : أي لكن امتحناهم بإبليس لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وإن كان عائدا على ما عاد عليه في قوله : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه [ سبأ : 20 ] وهو الظاهر ليصح الاستثناء المنقطع بوقوعه بعد النفي ويكون المعنى : وما سلطناه عليهم إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة
قال ابن قتيبة : إن إبليس لما سأل الله تعالى النظرة فأنظره قال : لأغوينهم ولأضلنهم ولآمرنهم بكذا ولأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنا أن ما قدره فيه يتم وإنما قال ظانا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم فقال تعالى : وما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين يعني نعلمهم موجودين ظاهرين فيحق القول ويقع الجزاء
وعلى هذا فيكون السلطان ههنا على من لم يؤمن بالآخرة وشك فيها وهم الذين تولوه وأشركوا به فيكون السلطان ثابتا لا منفيا فتتفق هذه الآية مع سائر الآيات
فإن قيل : فما تصنع بالتي في سورة إبراهيم حيث يقول لأهل النار :

وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ ابراهيم : 22 ] وهذا وإن كان قوله فالله سبحانه أخبر به عنه مقررا له لا منكرا فدل على أنه كذلك
قيل : هذا سؤال جيد وجوابه : أن السلطان المنفي في هذا الموضع : هو الحجة والبرهان أي ما كان لي عليكم من حجة وبرهان أحتج به عليكم كما قال ابن عباس : ما كان لي من حجة أحتج بها عليكم أي : ما أظهرت لكم حجة إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي وصدقتم مقالتي واتبعتموني بلا برهان ولا حجة وأما السلطان الذي أثبته في قوله : إنما سلطانه على الذين يتولونه [ النحل : 100 ] فهو تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال وتمكنه منهم بحيث يؤزهم إلى الكفر والشرك ويزعجهم إليه ولا يدعهم يتركونه كما قال تعالى : ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا  قال ابن عباس : تغريهم إغراء وفي رواية تشليهم إشلاء وفي لفظ تحرضهم تحريضا وفي آخر تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا وفي آخر توقدهم أي تحركهم كما يحرك الماء بالإيقاد تحته قال الأخفش : توهجهم
وحقيقة ذلك : أن الأز هو التحريك والتهييج ومنه يقال لغليان القدر : الأزيز لأن الماء يتحرك عند الغليان ومنه الحديث : لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء قال أبو عبيدة : الأزيز الالتهاب والحركة كالتهاب النار في الحطب يقال : از قدرك أي ألهب تحتها بالنار وأيزت القدر إذا اشتد غليانها فقد حصل للأز معنيان : أحدهما : التحريك والثاني : إلايقاد والإلهاب وهما متقاربان فإنه تحريك خاص بإزعاج وإلهاب
فهذا من السلطان الذي له على أوليائه وأهل الشرك ولكن ليس له على ذلك سلطان حجة وبرهان وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم لما وافقت أهواءهم وأغراضهم فهم الذين أعانوا على أنفسهم ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته فلما أعطوا

بأيديهم واستأسروا له سلط عليهم عقوبة لهم وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ النساء : 141 ] فالآية على عمومها وظاهرها وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول ومخالفته والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانا حتى جعل له العبد سبيلا إليه بطاعته والشرك به فجعل الله حينئذ له عليه تسلطا وقهرا فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع سلطانه والشرك وفروعه يوجب سلطانه والجميع بقضاء من أزمة الأمور بيده ومردها إليه وله الحجة البالغة فلو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولكن أبت حكمته وحمده وملكه إلا ذلك : فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم [ السجانيه : 36 ]

الباب الثالث عشر في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم قال الله
تعالى إخبارا عن عدوه إبليس لما سأله عن امتناعه عن السجود لآدم واحتجاجه بأنه خير منه وإخراجه من الجنة أنه سأله أن ينظره فأنظره ثم قال عدو الله : فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ الأعراف : 17 ]
قال جمهور المفسرين والنحاة : حذف على فانتصب الفعل والتقدير : لأقعدن لهم على صراطك والظاهر : أن الفعل مضمر فإن القاعد على الشيء ملازم له فكأنه قال : لألزمنه ولأرصدنه ولأعوجنه ونحو ذلك
قال ابن عباس : دينك الواضح وقال ابن مسعود : هو كتاب الله وقال جابر : هو الإسلام وقال مجاهد : هو الحق
والجميع عبارات عن معنى واحد وهو الطريق الموصل إلى الله تعالى وقد تقدم حديث سبرة بن الفاكه : إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها الحديث فما من طريق خير إلا والشيطان قاعد عليه يقطعه على السالك
وقوله : ثم لآتينهم من بين أيديهم [ الأعراف : 17 ] قال ابن عباس في رواية عطية عنه : من قبل الدنيا وفي رواية علي عنه أشككهم في آخرتهم
وكذلك قال الحسن : من قبل الآخرة تكذيبا بالبعث والجنة والنار
وقال مجاهد : من بين أيديهم : من حيث يبصرون

ومن خلفهم قال ابن عباس أرغبهم في دنياهم وقال الحسن : من قبل دنياهم أزينها لهم وأشهيها لهم
وعن ابن عباس رواية أخرى : من قبل الآخرة
وقال أبو صالح أشككهم في الآخرة وأباعدها عليهم وقال مجاهد أيضا : من حيث لا يبصرون
وعن أيمانهم قال ابن عباس : أشبه عليهم أمر دينهم وقال أبو صالح الحق أشككهم فيه وعن ابن عباس أيضا : من قبل حسناتهم
قال الحسن من قبل الحسنات أثبطهم عنها
وقال أبو صالح أيضا : من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم : أنفقه عليهم وأرغبهم فيه
وقال الحسن : وعن شمائلهم السيئات يأمرهم بها ويحثهم عليها ويزينها في أعينهم
وصح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ولم يقل من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم قال الشعبي : فالله عز و جل أنزل الرحمة عليهم من فوقهم
وقال قتادة : أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله
قال الواحدي : وقول من قال : الأيمان كناية عن الحسنات والشمائل كناية عن السيئات حسن لأن العرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك تريد : اجعلني من المقدمين عندك ولا تجعلني من المؤخرين وأنشد لابن الدمينة :
ألبنى أفي يمني يديك جعلتني ... فأفرح أم صيرتني في شمالك
وروى أبو عبيد عن الأصمعي : هو عندنا باليمين : أي بمنزلة حسنة وبضد ذلك : هو عندنا بالشمال وأنشد :
رأيت بني العلات لما تظافروا ... يحوزون سهمي بينهم في الشمائل

أي ينزلوني بالمنزلة السيئة
وحكى الأزهري عن بعضهم في هذه الآية لأغوينهم حتى يكذبوا بما تقدم من أمور الأمم السالفة ومن خلفهم بأمر البعث وعن أيمانهم وعن شمائلهم : أي لأضلنهم فيما يعملون لأن الكسب يقال فيه : ذلك بما كسبت يداك وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئا لأنهما الأصل في التصرف فجعلتا مثلا لجميع ما يعمل بغيرهما
وقال آخرون منهم أبو إسحاق والزمخشري واللفظ لأبي إسحاق ذكر هذه الوجوه للمبالغة في التوكيد أي : لآتينهم من جميع الجهات والحقيقة والله أعلم أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم
وقال الزمخشري : ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الغالب وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه كقوله : واستفزز من استطعت منهم بسوطك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك [ الاسراء : 64 ]
وهذا يوافق ما حكيناه عن قتادة : أتاك من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك وهذا القول أعم فائدة ولا يناقض ما قال السلف فإن ذلك على جهة التمثيل لا التعيين
قال شقيق : ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد : من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فيقول : لا تخف فإن الله غفور رحيم فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى [ طه : 82 ] وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على من أخلفه فاقرأ : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود : 6 ] ومن قبل يميني يأتيني من قبل النساء فاقرأ : والعاقبة للمتقين [ الأعراف : 128 ] ومن قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ : وحيل بينهم وبين ما يشتهون [ سبأ : 24 ]
قلت : السبل التي يسلكها الإنسان أربعة لا غير فإنه تارة يأخذ على جهة يمينه وتارة على شماله وتارة أمامه وتارة يرجع خلفه فأي سبيل سلكلها من هذه وجد الشيطان عليها رصدا له فإن سلكها في طاعة وجده عليها يثبعطه عنها ويقطعه أو يعوقه ويبطئه وإن سلكها لمعصية وجده عليها حاملا له وخادما ومعينا وممنيا ولو اتفق له الهبوط إلى أسفل لأتاه من هناك

ومما يشهد لصحة أقوال السلف قوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم [ فصلت : 25 ]
قال الكلبي : ألزمناهم قرناء من الشياطين وقال مقاتل هيأنا لهم قرناء من الشياطين
وقال ابن عباس : ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة
والمعنى زينوا لهم الدنيا حتى آثروها ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة والإعراض عنها
وقال الكلبي : زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة : أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وما خلفهم من أمر الدنيا : ما هم عليه من الضلالة وهذا اختيار الفراء
وقال ابن زيد : زينوا لهم ما مضى من خبث أعمالهم وما يستقبلون منها والمعنى على هذا زينوا لهم ما عملوه فلم يتوبوا منه وما يعزمون عليه فلا ينوون تركه
فنقول عدو الله تعالى : ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم [ الأعراف : 17 ] يتناول الدنيا والآخرة وقوله : وعن أيمانهم وعن شمائلهم [ الأعراف : 17 ] فإن ملك الحسنات عن اليمين يستحث صاحبه على فعل الخير فيأتيه الشيطان من هذه الجهة يثبطه عنه وإن ملك الشيئات عن الشمال ينهاه عنها فيأتيه الشيطان من تلك الجهة يحرضه عليها وهذا يفصل ما أجمله في قوله : فبعزتك لأغوينهم أجمعين [ ص : 82 ] وقال تعالى : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأنخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنعيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ النساء : 118 ] قال الضحاك : مفروضا أي معلوما وقال الزجاج : أي نصيبا افترضته على نفسي قال الفراء : يعني ما جعل له عليه السبيل من الناس فهو كالمفروض قلت : حقيقة الفرض هو التقدير والمعنى : أن من اتبع الشيطان وأطاعه فهو من نصيبه المفروض وحظعه المقسوم فكل من أطاع عدو الله فهو من مفروضه فالناس قسمان : نصيب الشيطان ومفروضه وأولياء الله وحزبه وخاصته
وقوله : ولأضلنهم يعني عن الحق ولأمنينهم قال ابن عباس : يريد تعويق التوبة وتأخيرها

وقال الكلبي : أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث
وقال الزجاج : أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون مع ذلك حظهم من الآخرة
وقيل : لأمنينهم ركوب الأهواء الداعية إلى العصيان والبدع
قيل : أمنيهم طول البقاء في نعيم الدنيا فأطيل لهم الأمل ليؤثروها على الآخرة
وقوله : ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام البتك القطع وهو في هذا الموضع : قطع آذان البحيرة عن جميع المفسرين ومن ههنا كره جمهور أهل العلم تثقيب أذني الطفل للحلق ورخص بعضهم في ذلك للأنثى دون الذكر لحاجتها إلى الحلية واحتجوا بحديث أمع زرع وفيه أناس من حلي أذنى وقال النبيصلى الله عليه وسلم كنت لك كأبي زرع لأمع زرع ونص أحمد رحمه الله على جواز ذلك في حق البنت وكراهته في حق الصبي
وقوله : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله قال ابن عباس : يريد دين الله وهو قول إبراهيم ومجاهد والحسن والضحاك وقتاة والسدى وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومعنى ذلك : هو أن الله تعالى فطر عباده على الفطرة المستقيمة وهي ملة الإسلام كما قال تعالى : فأقم وجهك للدعين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه [ الروم : 30 ] ولهذا قالصلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء فهل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ثم قرأ أبو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية [ الروم : 30 ] متفق عليه

فجمع عليه الصلاة و السلام بين الأمرين : تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير وتغيير الخلقة بالجدع وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لابد أن يغيرهما فغير فطرة الله بالكفر وهو تغيير الخلقة التي خلقوا عليها وغير الصورة بالجدع والبتك فغير الفطرة إلى الشرك والخلقة إلى البتك والقطع فهذا تغيير خلقة الروح وهذا تغيير خلقة الصورة
ثم قال : يعدهم ويمنيعهم فوعده : ما يصل إلى قلب الإنسان نحو : سيطول عمرك وتنال من الدنيا لذتك وستعلو على أقرانك وتظفر بأعدائك والدنيا دول ستكون لك كما كانت لغيرك ويطول أمله ويعده بالحسنى على شركه ومعاصيه ويمنيه الأماني الكاذبة على اختلاف وجوهها والفرق بين وعده وتمنيته أنه يعد الباطل ويمنى المحال والنفس المهينة التي لا قدر لها تغتذي بوعده وتمنيته كما قال القائل :
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأماني الباطلة والوعود الكاذبة وتفرح بها كما يفرح بها النساء والصبيان ويتحركون لها فالأقوال الباطلة مصدرها وعد الشيطان وتمنيته فإن الشيطان يمنى أصحابها الظفر بالحق وإدراكه ويعدهم الوصول إليه من غير طريقه فكل مبطل فله نصيب من قوله : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا
ومن ذلك قوله تعالى : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا [ البقره : 268 ] قيل : يعدكم الفقر يخوفكم به يقول : إن أنفقتم أموالكم افتقرتم ويأمركم بالفحشاء قالوا : هي البخل في هذا الموضع خاصة ويذكر عن مقاتل والكلبي : كل فحشاء في القرآن فهي الزنا إلا في هذا الموضع فإنها البخل
والصواب : أن الفحشاء على بابها وهي كل فاحشة فهي صفة لموصوف محذوف فحذف موصوفها إرادة للعموم : أي بالفعلة الفحشاء والخلة الفحشاء ومن جملتها البخل فذكر سبحانه وعد الشيطان وأمره : يأمرهم بالشر ويخوفهم من فعل الخير وهذان الأمران هما جماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان فإنه إذا خوفه من فعل الخير تركه وإذا أمره بالفحشاء وزينها له ارتكبها وسمى سبحانه تخويفه وعد الانتظار الذي خوفه إياه كما ينتظر الموعود ما وعد به ثم ذكر سبحانه وعده على طاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وهي المغفرة

والفضل فالمغفرة : وقاية الشر والفضل : إعطاء الخير وفي الحديث المشهور : إن للملك بقلب ابن آدم لمة وللشيطان لمة فلمة الملك : إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ولمة الشيطان : إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد ثم قرأ : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء الآية [ البقره : 268 ] فالملك والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل والنهار فمن الناس من يكون ليله أطول من نهاره وآخر بضده ومنهم من يكون زمنه نهارا كله وآخر بضده نستعيذ بالله تعالى من شر الشيطان
فصل ومن كيده للإنسان : أنه يورده الموارد التي يخيل إليه أن فيها
منفعته ثم يصدره المصادر التي فيها عطبه ويتخلى عنه ويسلمه ويقف يشمت به ويضحك منه فيأمره بالسرقة والزنا والقتل ويدل عليه ويفضحه قال تعالى : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى مالا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب [ الأنفال : 48 ] فإنه تراءى للمشركين عند خروجهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك وقال : أنا جار لكم من بني كنانة أن يقصدوا أهلكم وذراريكم بسوء فلما رأى عدو الله جنود الله تعالى من الملائكة نزلت لنصر رسوله فر عنهم وأسلمهم كما قال حسان :

دلاهم بغرور ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار
وكذلك فعل بالراهب الذي قتل المرأة وولدها أمره بالزنا ثم بقتلها ثم دل أهلها عليه وكشف أمره لهم ثم أمره بالسجود له فلما فعل فر عنه وتركه وفيه أنزل الله سبحانه : كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين [ الحشر : 16 ] وهذا السياق لا يختص بالذي ذكرت عنه هذه القصة بل هو عام في كل من أطاع الشيطان في أمره له بالكفر لينصره ويقضي حاجته فإنه يتبرأ منه ويسلمه كما يتبرأ من أوليائه جملة في النار ويقول لهم : إني كفرت بما أشركتمون من قبل  فأوردهم شر الموارد وتبرأ منهم كل البراءة
وتكلم الناس في قول عدو الله إني أخاف الله فقال قتادة وابن إسحق : صدق عدو الله في قوله إني أرى ما لا ترون وكذب في قوله إني أخاف الله والله ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة فأوردهم وأسلمهم وكذلك عادة عدوالله بمن أطاعه وقالت طائفة : إنما خاف بطش الله تعالى به في الدنيا كما يخاف الكافر والفاجر أن يقتل أو يؤخذ بجرمه لا أنه خاف عقابه في الآخرة وهذا أصح وهذا الخوف لا يستلزم إيمانا ولا نجاة
قال الكلبي : خاف أن يأخذه جبريل فيعرضهم حاله فلا يطيعونه
وهذا فاسد فإنه إنما قال لهم ذلك بعد أن فر ونكص على عقبيه إلا أن يريد أنه إذا عرف المشركون أن الذي أجارهم وأوردهم إبليس لم يطيعوه فيما بعد ذلك وقد أبعد النجعة إن أراد ذلك وتكلف غير المراد
وقال عطاء : إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك وهذا خوف هلاك الدنيا فلا ينفعه

وقال الزجاج وابن الانباري : ظن أن الوقت الذي أنظر إليه قد حضر زاد ابن الانباري قال : أخاف أن يكون الوقت المعلوم الذي يزول معه إنظاري قد حضر فيقع بي العذاب فإنه لما عاين الملائكة خاف أن يكون وقت الانظار قد انقضى فقال ما قال إشفاقا على نفسه
فصل ومن كيد عدوع الله تعالى : أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه
فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان وقد أخبرنا الله تعالى سبحانه عنه بهذا قال : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوفم وخافون إن كنتم مؤمنين [ آل عمران : 175 ]
المعنى عند جميع المفسرين : يخوفكم بأوليائه قال قتادة : يعظمهم في صدوركم ولهذا قال فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم
ومن مكايده أنه يسحر العقل دائما حتى يكيده ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله فيزين له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء وينفر من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له حتى يخيل له أنه يضره فلا إله إلا الله كم فتن بهذا السحر من إنسان وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة وشنع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة وكم بهرج من الزيوف على الناقدين وكم روج من الزغل على العارفين فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة وسلك بهم من سبل الضلال كل مسلك وألقاهم من المهالك في مهلك بعد مهلك وزين لهم عبادة الأصنام وقطيعة الأرحام ووأد البنات ونكاح الأمهات ووعدهم الفوز بالجنات مع الكفر والفسوق والعصيان وأبرز لهم الشرك في صورة التعظيم والكفر بصفات الرب تعالى وعلوه وتكلمه بكتبه في قالب التنزيه وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس وحسن الخلق معهم والعمل بقوله : عليكم أنفسكم [ المائده : 105 ] والإعراض عما جاء به الرسول عليه الصلاة و السلام في قالب التقليد

والاكتفاء بقول من هو أعلم منهم والنفاق والإدهان في دين الله في قالب العقل المعيشي الذي يندرج به العبد بين الناس
فهو صاحب الأبوين حين أخرجهما من الجنة وصاحب قابيل حين قتل أخاه وصاحب قوم نوح حين أغرقوا وقوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة وصاحب الأمة اللوطية حين خسف بهم وأتبعوا بالرجم بالحجارة وصاحب فرعون وقومه حين أخذوا الأخذة الرابية وصاحب عباد العجل حين جرى عليهم ما جرى وصاحب قريش حين دعوا يوم بدر وصاحب كل هالك ومفتون
فصل وأول كيده ومكره : أنه كاد الأبوين بالأيمان الكاذبة : أنه ناصح
لهما وأنه إنما يريد خلودهما في الجنة قال تعالى : فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وورى عنهما من سوءاتهما وقال ما نها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ الأعراف : 20 ] فالوسوسة : حديث النفس والصوت الخفي وبه سمي صوت الحلي وسواسا ورجل موسوس بكسر الواو ولا يفتح فإنه لحن وإنما قيل له : موسوس لأن نفسه توسوس إليه قال تعالى : ونعلم ما توسوس به نفسه [ ق : 16 ]
وعلم عدو الله أنهما إذا أكلا من الشجرة بدت لهما عوراتهما فإنها معصية والمعصية تهتك ستر ما بين الله وبين العبد فلما عصيا انهتك ذلك الستر فبدت لهما سوآتهما فالمعصية تبدي السوأة الباطنة والظاهرة ولهذا رأى النبيصلى الله عليه وسلمفي رؤياه الزناة والزواني عراة بادية سوآتهم وهكذا إذا رؤي الرجل أو المرأة في منامه مكشوف السوأة فإنه يدل على فساد في دينه قال الشاعر :

إني كأني أرى من لا حياء له ... ولا أمانة وسط الناس عريانا فإن الله سبحانه أنزل لباسين : لباسا ظاهرا يواري العورة ويسترها ولباسا باطنا من التقوى يجمل العبد ويستره فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها
ثم قال مانها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أي : إلا كراهة أن تكونا ملكين وكراهة أن تخلدا في الجنة ومن ههنا دخل عليهما لما عرف أنهما يريدان الخلود فيها وهذا باب كيده الأعظم الذي يدخل منه على ابن آدم فإنه يجري منه مجرى الدم حتى يصادف نفسه ويخالطه ويسألها عما تحبه وتؤثره فإذا عرفه استعان بها على العبد ودخل عليه من هذا الباب وكذلك علم إخوانه وأولياءه من الإنس إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضا أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوونه فإنه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه ومن رام الدخول من غيره فالباب عليه مسدود وهو عن طريق مقصده مصدود
فشام عدو الله الأبوين فأحس منهما إيناسا وركونا إلى الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم فعلم أنه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين وقال : مانها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
وكان عبدالله بن عباس يقرؤها ملكين بكسر اللام ويقول لم يطمعا أن يكونا من الملائكة ولكن استشرفا أن يكونا ملكين فأتاهما من جهة الملك ويدل على هذه القراءة قوله في الآية الأخرى : قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [ طه : 130 ]
وأما على القراءة المشهورة فيقال : كيف أطمع عدو الله آدم عليه السلام أن يكون بأكله من الشجرة من الملائكة وهو يرى الملائكة لا تأكل ولا تشرب وكان آدم عليه السلام أعلم بالله وبنفسه وبالملائكة من أن يطمع أن يكون منهم بأكله ولا سيما مما نهاه الله عز و جل عنه
فالجواب : أن آدم وحواء عليهما السلام لم يطمعا في ذلك أصلا وإنما كذبهما عدو الله وغرهما بأن سمى تلك الشجرة شجرة الخلد فهذا أول المكر والكيد ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها فسموا الخمر : أم الأفراح

وسموا أخاها بلقيمة الراحة وسموا الربا بالمعاملة وسمو المكوس بالحقوق السلطانية وسموا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان وسموا أبلغ الكفر وهو جحد صفات الرب تنزيها وسموا مجالس الفسوق مجالس الطيبة فلما سماها شجرة الخلد قال : مانها كما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا في الجنة ولا تموتا فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون ولم يكن آدم عليه السلام قد علم أنه يموت بعد واشتهى الخلود في الجنة وحصلت الشبهة من قول العدو وإقسامه بالله جهد أيمانه أنه ناصح لهما فاجتمعت الشبهة والشهوة وساعد القدر فأخذتهما سنة الغفلة واستيقظ لهما العدو كما قيل :
واستيقظوا وأراد الله غفلتهم ... لينفذ القدر المحتوم في الأزل إلا أن هذا الجواب يعترض عليه قوله او تكونا من الخالدين
فيقال : الماكر المخادع لا بد أن يكون فيما يمكر به ويكيد من التناقض والباطل ما يدل على مكره وكيده ولا حاجة بنا إلى تصحيح كلام عدو الله واعتذار عنه وإنما يعتذر عن الأب في كون ذلك راج عليه وولج سمعه فهو لم يجزم لهما بأنهما إن أكلا منها صارا ملكين وإنما ردد الأمر بين أمرين : أحدهما ممتنع والآخر : ممكن وهذا من أبلغ أنواع الكيد والمكر ولهذا لما أطمعه في الأمر الممكن جزم له به ولم يردده فقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى  فلم يدخل أداة الشك ههنا كما أدخلها في قوله : إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين [ الأعراف : 20 ] فتأمله ثم قال : وقاسمهما إني لكما من الناصحين [ الأعراف : 21 ]
فتضمن هذا الخبر أنواعا من التأكيد :
أحدها : تأكيده بالقسم
الثاني : تأكيده بإن
الثالث : تقديم المعمول على العامل إيذانا بالاختصاص أي نصيحتي مختصة بكما وفائدتها إليكما لا إلي
الرابع : إتيانه باسم الفاعل على الثبوت واللزوم دون الفعل الدال على التجدد : أي النصح صفتي وسجيتي ليس أمرا عارضا لي

الخامس : إتيانه بلام التأكيد في جواب القسم السادس : أنه صور نفسه لهما ناصحا من جملة الناصحين فكأنه قال لهما : الناصحون لكما في ذلك كثير وأنا واحد منهم كما تقول لمن تأمره بشىء : كل أحد معي على هذا وأنا من جملة من يشير عليك به
سعى نحوها حتى تجاوز حده ... وكثر فارتابت ولو شاء قللا وورث عدو الله هذا المكر لأوليائه وحزبه عند خداعهم للمؤمنين كما كان المنافقون يقولون لرسول اللهصلى الله عليه وسلمإذا جاءوه : نشهد إنك لرسول الله [ المنافقون : 1 ] فأكدوا خبرهم بالشهادة وبإن وبلام التأكيد وكذلك قوله سبحانه : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم [ التوبه : 56 ]
ثم قال تعالى : فدلاهما بغرور  قال أبو عبيدة : خذلهما وخلاهما من تدلية الدلو وهو إرسالها في البئر
وذكر الأزهري لهذه اللفظة أصلين : أحدهما قال : أصله الرجل العطشان يتدلى في البئر ليروى من الماء فلا يجد فيها ماء فيكون قد تدلى فيها بالغرور فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعا فيقال : دلاه إذا أطمعه ومنه قول أبي جندب الهذلي :
أحص فلا أجير ومن أجره ... فليس كمن تدلى بالغرور أحص : أي أقطع
الثاني : فدلاهما بغرور أي جرأهما على أكل الشجرة وأصله : دللهما من الدلال والدالة وهي الجراءة قال شمر : يقال : مادللك علي : أي ماجرأك علي وأنشد لقيس ابن زهير :
أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم

قلت : أصل التدلية في اللغة الإرسال والتعليق يقال : دلى الشىء في مهواة إذا أرسله بتعليق وتدلى الشيء بنفسه ومنه قوله تعالى : فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه [ يوسف : 19 ] قال عامة أهل اللغة يقال : أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها بالتخفيف إذا نزعها من البئر فأدلى دلوه يدليه إدلاء إذا أرسلها ودلاها يدلوها دلوا إذا نزعها وأخرجها ومنه الإدلاء وهو التوصل إلى الرجل برحم منه ويشاركه في الاشتقاق الأكبر الدلالة وهي التوصل إلى الشيء بإبانته وكشفه ومنه الدل وهو ما يدل على العبد من أفعاله وكان عبدالله ابن مسعود يشبه برسول اللهصلى الله عليه وسلمفي هديه ودله وسمته فالهدى الطريقة التي عليها العبد من أخلاقه وأعماله والدل ما يدل من ظاهره على باطنه والسمت هيأته ووقاره ورزانته
والمقصود : ذكر كيد عدو الله ومكره بالأبوين
قال مطرف بن عبد الله : قال لهما إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما وحلف لهما وإنما يخدع المؤمن بالله قال قتادة : وكان بعض أهل العلم يقول : من خادعنا بالله خدعنا فالمؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم وفي الصحيح أن عيسى بن مريم عليه السلام رأى رجلا يسرق فقال : سرقت فقال : لا والله الذي لا إله إلا هو فقال المسيح : آمنت بالله وكذبت بصري
وقد تأوله بعضهم على أنه لما حلف له جوز أن يكون قد أخذ من ماله فظنه المسيح سرقة وهذا تكلف وإنما كان الله سبحانه وتعالى في قلب المسيح عليه السلام أجل وأعظم من أن يحلف به أحد كاذبا فلما حلف له السارق دار الأمر بين تهمته وتهمة بصره فرد التهمة إلى بصره لما اجتهد له في اليمين كما ظن آدم عليه السلام صدق إبليس لما حلف له بالله عز و جل وقال : ما ظننت أحدا يحلف بالله تعالى كاذبا
فصل ومن كيده العجيب : أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب
عليها : قوة الإقدام والشجاعة أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة

فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به وثقله عليه فهون عليه تركه حتى يتركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به ويوهمه أنه لا يكفيه وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة فيقصر بالأول ويتجاوز الثاني كما قال بعض السلف : ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان : إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأيهما ظفر
وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين : وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول اللهصلى الله عليه وسلموأصحابه
فقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس
وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا كلا على الناس مستشرفين إلى ما بأيديهم
وقوم قصر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم
وكذلك قصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم
وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور او شاة ليأكله وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به
وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص
وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلممن النكاح فرغبوا عنه بالكلية وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام

وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح وأعرضوا عنهم ولم يقوموا بحقهم وتجاوز بأخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه وقدموا أقوالهم على سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلمالصحيحة الصريحة
وقصر بقوم حتى قالوا : إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم ولكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعلى وقدرته وتجاوز بآخرين حتى قالوا : إنهم لا يفعلون شيئا البته وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة فهي نفس فعله لا أفعالهم والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعل ألبتة
وقصر بقوم حتى قالوا : إن رب العالمين ليس داخلا في خلقه ولا بائنا عنهم ولا هو فوقهم ولا تحتهم ولا خلفهم ولا أمامهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم وتجاوز بآخرين حتى قالوا : هو في كل مكان بذاته كالهواء الذي هو داخل في كل مكان
وقصر بقوم حتى قالوا : لم يتكلم الرب سبحانه بكلمة واحدة البتة وتجاوز بآخرين حتى قالوا : لم يزل أزلا وأبدا قائلا : يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ويقول لموسى اذهب إلى فرعون فلا يزال هذا الخطاب قائما به ومسموعا منه كقيام صفة الحياة به
وقصر بقوم حتى قالوا : إن الله سبحانه لا يشفع أحدا في أحد البته ولا يرحم أحدا بشفاعة أحد وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم
وقصر بقوم حتى قالوا : إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلا عن أبي بكر وعمر وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة
وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوه منها وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقة ومثلوه بهم وقصر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول اللهصلى الله عليه وسلم وقاتلوهم واستحلوا حرمتهم وتجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة : من العصمة وغيرها وربما ادعوا فيهم الإلهية

وكذلك قصر باليهود في المسيح حتى كذبوه ورموه وأمه بما برأهما الله تعالى منه وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله وجعلوه إلها يعبد مع الله
وقصر بقوم حتى نفوا الأسباب والقوى والطبائع والغرائز وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمرا لازما لا يمكن تغييره ولا تبديله وربما جعلها بعضهم مستقلة بالتأثير
وقصر بقوم حتى تعبدوا بالنجاسات وهم النصاري وأشباههم وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار والأغلال وهم أشباه اليهود
وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم عندهم وسموا أنفسهم الملامتية
وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها وعدوها فضلا أو فضولا وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح وقالوا : العارف لا يسقط وارده لورده
وهذا باب واسع جدا لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيرا وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة
فصل ومن حيله ومكايده : الكلام الباطل والآراء المتهافتة والخيالات
المتناقضة التي هي زبالة الأذهان ونحاتة الأفكار والزبد الذي يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة التي تعدل الحق بالباطل والخطأ بالصواب قد تقاذفت بها أمواج الشبهات وزانت عليها غيوم الخيالات فمركبها القيل والقال والشك والتشكيك وكثرة الجدال ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا وقالوا من عند أنفسهم فقالوا منكرا من القول وزورا فهم في شكهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال فهم إليه يحاكمون وبه يتخاصمون فارقوا الدليل واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

فصل ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين : أن ألقى
على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مشكاة القرآن وأحالهم على منطق يونان وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العرية عن البرهان وقال لهم : تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان ومرت عليها القرون والأزمان فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان كإخراج الشعرة من العجين
فصل ومن كيده : ما ألقاه إلى جهال المتصوفة من الشطح والطامات
وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات وفتح لهم أبواب الدعاوي الهائلات وأوحى إليهم : أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها وتصفية الأخلاق والتجافي عما عليه أهل الدنيا وأهل الرياسة والفقهاء وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا : لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة ولكم القشور ولنا اللباب فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل من النهار ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات وأوهمهم أنها من الآيات البينات وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات فلا تعرض على السنة والقرآن ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان
فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات وأنواع

الهذيان وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم
فصل ومن أنواع مكايده ومكره : أن يدعو العبد بحسن خلقه وطلاقته
وبشره إلى أنواع من الآثام والفجور فيلقاه من لا يخلصه من شره إلا تجهمه والتعبيس في وجهه والإعراض عنه فيحسن له العدو أن يلقاه ببشره وطلاقة وجهه وحسن كلامه فيتعلق به فيروم التخلص منه فيعجز فلا يزال العدو يسعى بينهما حتى يصيب حاجته فيدخل على العبد بكيده من باب حسن الخلق وطلاقة الوجه ومن ههنا وصى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع وأن لا يسلم عليهم ولا يريهم طلاقة وجهه ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض
وكذلك أوصوا عند لقاء من يخاف الفتنة بلقائه من النساء والمردان وقالوا : متى كشفت للمرأة أو الصبي بياض أسنانك كشفا لك عما هنا لك ومتى لقيتهما بوجه عابس وقيت شرهما
ومن مكايده : أنه يأمرك أن تلقى المساكين وذوي الحاجات بوجه عبوس ولا تريهم بشرا ولا طلاقة فيطمعوا فيك ويتجرأوا عليك وتسقط هيبتك من قلوبهم فيحرمك صالح أدعيتهم وميل قلوبهم إليك ومحبتهم لك فيأمرك بسوء الخلق ومنع البشر والطلاقة مع هؤلاء وبحسن الخلق والبشر مع أولئك ليفتح لك باب الشر ويغلق عنك باب الخير

فصل ومن مكايده أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصونها حيث يكون رضى الرب
تعالى في إذلالها وابتذالها كجهاد الكفار والمنافقين وأمر الفجار والظلمة بالمعروف ونهيهم عن المنكر فيخيل إليك أن ذلك تعريض لنفسك إلى مواطن الذل وتسليط الأعداء وطعنهم فيك فيزول جاهك فلا يقبل منك بعد ذلك ولا يسمع منك

ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها في إعزازها وصيانتها كما يأمرك بالتبذل لذوي الرياسات وإهانة نفسك لهم ويخيل إليك أنك تعزها بهم وترفع قدرها بالذل لهم ويذكرك قول الشاعر :
أهين لهم نفسي لأرفعها بهم ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها وغلط هذا القائل : فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده فإنه كلما أهان العبد نفسه له أكرمه وأعزه بخلاف المخلوق فإنك كلما أهنت نفسك له ذللت عند الله وعند أوليائه وهنت عليه
فصل ومن كيده وخداعه : أنه يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد أو رباط
أو زاوية أو تربة ويحبسه هناك وينهاه عن الخروج ويقول له : متى خرجت تبذلت للناس وسقطت من أعينهم وذهبت هيبتك من قلوبهم وربما ترى في طريقك منكرا وللعدو في ذلك مقاصد خفية يريدها منه : منها الكبر واحتقار الناس وحفظ الناموس وقيام الرياسة ومخالطة الناس تذهب ذلك وهو يريد أن يزار ولا يزور ويقصده الناس ولا يقصدهم ويفرح بمجيء الأمراء إليه واجتماع الناس عنده وتقبيل يده فيترك من الواجبات والمستحبات والقربات ما يقربه إلى الله ويتعوض عنه بما يقرب الناس إليه
وقد كان رسول اللهصلى الله عليه وسلميخرج إلى السوق قال بعض الحفاظ : وكان يشتري حاجته ويحملها بنفسه ذكره أبو الفرج ابن الجوزي وغيره
وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى السوق يحمل الثياب فيبيع ويشتري
ومر عبدالله بن سلام رضي الله عنه وعلى رأسه حزمة حطب فقيل له : ما يحملك على هذا وقد أغناك الله عز و جل فقال : أردت أن أدفع به الكبر فإني سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلميقول : لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من الكبر
وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يحمل الحطب وغيره من حوائج نفسه وهو أمير على المدينة ويقول : افسحوا لأميركم افسحوا لأميركم

وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما وهو خليفة في حاجة له ماشيا فأعيى فرأى غلاما على حمار له فقال : يا غلام احملني فقد أعييت فنزل الغلام عن الدابة وقال : اركب يا أمير المؤمنين فقال : لا اركب أنت وأنا خلفك فركب خلف الغلام حتى دخل المدينة والناس يرونه
فصل ومن كيده : أنه يغري الناس بتقبيل يده والتمسح به والثناء عليه
وسؤاله الدعاء ونحو ذلك حتى يرى نفسه ويعجبه شأنه فلو قيل له : إنك من أوتاد الأرض وبك يدفع البلاء عن الخلق ظن ذلك حقا وربما قيل له : إنه يتوسل به إلى الله تعالى ويسأل الله تعالى به وبحرمته فيقضي حاجتهم فيقع ذلك في قلبه ويفرح به ويظنه حقا وذلك كل الهلاك فإذا رأى من أحد من الناس تجافيا عنه أو قلة خضوع له تذمر لذلك ووجد في باطنه وهذا شر من أرباب الكبائر المصرين عليها وهم أقرب إلى السلامة منه
فصل ومن كيده : أنه يحسن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العمل
بها جسهم وواقعهم دون تحكيم أمر الشارع ويقولون : القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطأ وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم
فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع : رحمانية وشيطانية ونفسانية كالرؤيا فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما بلغ فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت والشيطان يجري منه مجرى الدم والعصمة إنما هي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين هم وسائط بين الله عز و جل وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده ومن عداهم يصيب ويخطىء وليس بحجة على الخلق
وقد كان سيد المحدثين الملهمين : عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول الشيء فيرده عليه

من هو دونه فيتبين له الخطأ فيرجع إليه وكان يعرض هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة ولا يلتفت إليها ولا يحكم بها ولا يعمل بها
وهؤلاء الجهال يرى أحدهم أدنى شيء فيحكم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة ولا يلتفت إليهما ويقول : حدثني قلبي عن ربي ونحن أخذنا عن الحي الذي لا يموت وأنتم أخذتم عن الوسائط ونحن أخذنا بالحقائق وأنتم اتبعتم الرسوم وأمثال ذلك من الكلام الذي هو كفر وإلحاد وغاية صاحبه أن يكون جاهلا يعذر بجهله حتى قيل لبعض هؤلاء : لا تذهب فتسمع الحديث من عبدالرزاق فقال : ما يصنع بالسماع من عبدالرزاق من يسمع من الملك الخلاق
وهذا غاية الجهل فإن الذي سمع من الملك الخلاق موسى بن عمران كليم الرحمن وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول وهو يدعي أنه يسمع الخطاب من مرسله فيستغني به عن ظاهر العلم ولعل الذي يخاطبهم هو الشيطان أو نفسه الجاهلة أو هما مجتمعين ومنفردين
ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس فهو من أعظم الناس كفرا وكذلك إن ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة فما يلقي في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان
وقد سئل عبدالله بن مسعود عن مسئلة المفوضة شهرا فقال بعد الشهر : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله برىء

منه ورسوله وكتب كاتب لعمر رضي الله عنه بين يديه : هذا ما أرى الله عمر فقال : لا امحه واكتب : هذا ما رأى عمر
وقال عمر رضي الله عنه أيضا : أيها الناس اتهموا الرأى على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله عليه السلام لرددته
واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور وهم أبر الأمة قلوبا وأعمقها علما وأبعدها من الشيطان فكانوا أتبع الأمة للسنة وأشدهم اتهاما لآرائهم وهؤلاء ضد ذلك
وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات حتى يقوم عليها شاهدان
قال الجنيد : قال أبو سليمان الداراني : ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة
وقال أبو يزيد : لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا : كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود

وقال أيضا : من ترك قراءة القرآن ولزوم الجماعات وحضور الجنائز وعيادة المرضى وادعى بهذا الشأن فهو مدع
وقال سري السقطى : من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط
وقال الجنيد : مذهبنا هذا مقيد بالأصول بالكتاب والسنة فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ويتفقه لا يقتدى به
وقال أبو بكر الدقاق : من ضيع حدود الأمر والنهي في الظاهر حرم مشاهدة القلب في الباطن
وقال أبو الحسين النوري من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربه ومن رأيته يدعي حالة لا يشهد لها حفظ ظاهره فاتهمه على دينه
وقال الجريري : أمرنا هذا كله مجموع على فصل واحد : أن تلزم قلبك المراقبة ويكون العلم على ظاهرك قائما
وقال أبو حفص الكبير الشان : من لم يزن أحواله وأفعاله بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعدوه في ديوان الرجال
وما أحسن ما قال أبو أحمد الشيرازي : كان الصوفية يسخرون من الشيطان والآن الشيطان يسخر منهم
ونظير هذا ما قاله بعض أهل العلم : كان الشيطان فيما مضى يهب من الناس واليوم الرجل الذي يهب من الشيطان
فصل ومن كيده : أمرهم بلزوم زي واحد ولبسة واحدة وهيئة ومشية معينة
وشيخ معين وطريقة مخترعة ويفرض عليهم لزوم ذلك بحيث يلزمونه كلزوم الفرائض فلا يخرجون عنه ويقدحون فيمن خرج عنه ويذمونه وربما يلزم أحدهم موضعا معينا للصلاة لا يصلي إلا فيه وقد نهى رسول اللهصلى الله عليه وسلم أن يوطن الرجل المكان للصلاة

كما يوطن البعير وكذلك ترى أحدهم لا يصلي إلا على سجاده ولم يصل عليه السلام على سجادة قط ولا كانت السجادة تفرش بين يديه بل كان يصلي على الأرض وربما سجد في الطين وكان يصلي على الحصير فيصلي على ما اتفق بسطه فإن لم يكن ثمة شيء صلى على الأرض
وهؤلاء اشتغلوا بحفظ الرسوم عن الشريعة والحقيقة فصاروا واقفين مع الرسوم المبتدعة ليسوا مع أهل الفقه ولا مع أهل الحقائق فصاحب الحقيقة أشد شيء عليه التقيد بالرسوم الوضعية وهي من أعظم الحجب بين قلبه وبين الله فمتى تقيد بها حبس قلبه عن سيره وكان أخس أحواله الوقوف معها ولا وقوف في السير بل إما تقدم وإما تأخر كما قال تعالى : لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر [ المدثر : 37 ] فلا وقوف في الطريق إنما هو ذهاب وتقدم أو رجوع وتأخر
ومن تأمل هدي رسول اللهصلى الله عليه وسلموسيرته وجده مناقضا لهدي هؤلاء فإنه كان يلبس القميص تارة والقباء تارة والجبة تارة والإزار والرداء تارة ويركب البعير وحده ومردفا لغيره ويركب الفرس مسرجا وعريانا ويركب الحمار ويأكل ما حضر ويجلس على الأرض تارة وعلى الحصير تارة وعلى البساط تارة ويمشي وحده تارة ومع أصحابه تارة وهديه عدم التكلف والتقيد بغير ما أمره به ربه فبين هديه وهدي هؤلاء بون بعيد
فصل ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ : الوسواس الذي
كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية حتى ألقاهم في الآصار والأغلال وأخرجهم عن اتباع سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلم وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد والتعب الحاضر وبطلان الأجر أو تنقيصه

ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس : فأهله قد أطاعوا الشيطان ولبوا دعوته واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلموطريقته حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول اللهصلى الله عليه وسلم أو اغتسل كاغتساله لم يطهر ولم يرتفع حدثه ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول فقد كان رسول اللهصلى الله عليه وسلميتوضأ بالمدع وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ولم يزد على ثلاث بل أخبر أن : من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول اللهصلى الله عليه وسلم فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسىء به متعد فيه لحدوده
وصح عنه أنه كان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من قصعة بينهما فيها أثر العجين ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار وقال : ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين كيف والعجين يحلله الماء فيغيره هذا والرشاش ينزل في الماء فينجسه عند بعضهم ويفسده عند آخرين فلا تصح به الطهارة وكانصلى الله عليه وسلميفعل ذلك مع غير عائشة مثل ميمونة وأم سلمة وهذا كله في الصحيح
وثبت أيضا في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : كان الرجال والنساء على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلميتوضئون من إناء واحد والآنية التي كان عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها كأنبوب الحمام ونحوه ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجري الماء من حافاتها كما يراعيه جهال الناس ممن بلى بالوسواس في جرن الحمام
فهدي رسول اللهصلى الله عليه وسلمالذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته جواز الاغتسال من الحياض والآنية وإن كانت ناقصة غير فائضة ومن انتظر الحوض حتى

يفيض ثم استعمله وحده ولم يمكن أحدا أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة
قال شيخنا : ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع
ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبيصلى الله عليه وسلموأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان
قال سعيد بن المسيب : إني لاستنجي من كوز الحب وأتوضأ وأفضل منه لأهلي
وقال الإمام أحمد : من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء
وقال المروزى : وضأت أبا عبدالله بالعسكر فسترته من الناس لئلا يقولوا إنه لايحسن الوضوء لقلة صبه الماء
وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى
وثبت عنهصلى الله عليه وسلمفي الصحيح : أنه توضأ من إناء فأدخل يده فيه ثم تمضض واستنشق وكذلك كان في غسله يدخل يده في الإناء ويتناول الماء منه والموسوس لا يجوز ذلك ولعله أن يحكم بنجاسة الماء ويسلبه طهوريته بذلك
وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأن يأتي بمثل ما أتى به أبدا وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفرق قريبا من خمسة أرطال بالدمشقي يغمسان أيديهما فيه ويفرغان عليهما فالمسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز إذا ذكر الله وحده
قال أصحاب الوسواس : إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا والعمل بقولهصلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى مالا يريبك وقوله : من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه : وقوله الإثم ما حاك في الصدر

وقال بعض السلف : الإثم حور القلوب وقد وجد النبي صلى الله عليه و سلم تمرة فقال لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها أفلا يرى أنه ترك أكلها احتياطا
وقد أفتى مالك رحمه الله فيمن طلق امرأته وشك : هل هي واحدة أم ثلاث : بأنها ثلاث احتياطا للفروج
وأفتى من حلف بالطلاق : أن في هذه اللوزة حبتين وهو لا يعلم ذلك فبان الأمر كما حلف عليه : أنه حانث لأنه حلف على ما لا يعلم
وقال فيمن طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها : يطلق عليه جميع نسائه احتياطا وقطعا للشك
وقال أصحاب مالك فيمن حلف بيمين ثم نسيها : إنه يلزمه جميع ما يحلف به عادة فيلزمه الطلاق والعتاق والصدقة بثلث المال وكفارة الظهار وكفارة اليمين بالله تعالى والحج ماشيا ويقع الطلاق في جميع نسائه ويعتق عليه جميع عبيده وإمائه وهذا أحد القولين عندهم ومذهب مالك أيضا أنه إذا حلف ليفعلن كذا : أنه على حنث حتى يفعله فيحال بينه وبين امرأته
ومذهبه أيضا : أنه إذا قال : إذا جاء رأس الحول فأنت طالق ثلاثا : أنها تطلق في الحال وهذا كله احتياط
وقال الفقهاء : من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله وقالوا : إذا كان معه ثياب طاهرة وتنجس منها ثياب وشك فيها صلى في ثوب بعد ثوب بعدد النجس وزاد صلاة لتيقن براءة ذمته
وقالوا : إذا اشتبهت الأواني الطاهرة بالنجسة أراق الجميع وتيمم وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة فلا يدرى في أي جهة فإنه يصلي أربع صلوات عند بعض الأئمة لتبرأ ذمته بيقين
وقالوا : من ترك صلاة من يوم ثم نسيها وجب عليه أن يصلي خمس صلوات وقد أمر النبي عليه الصلاة و السلام من شك في صلاته : أن يبني على اليقين

وحرم أكل الصيد إذا شك صاحبه هل مات بسهمه أو بغيره كما إذا وقع في الماء
وحرم أكله إذا خالط كلبه كلبا آخر للشك في تسمية صاحبه عليه
وهذا باب يطول تتبعه
فالاحتياط والأخذ باليقين غير مستنكر في الشرع وإن سميتموه وسواسا
وقد كان عبدالله بن عمر يغسل داخل عينيه في الطهارة حتى عمي
وكان أبو هريرة إذا توضأ أشرع في العضد وإذا غسل رجليه أشرع في الساقين
فنحن إذا احتطنا لأنفسنا وأخذنا باليقين وتركنا ما يريب إلى ما لا يريب وتركنا المشكوك فيه للمتيقن المعلوم وتجنبنا محل الاشتباه لم نكن بذلك عن الشريعة خارجين ولافي البدعة والجين وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال حتى لا يبالي العبد بدينه ولا يحتاط له بل يسهل الأشياء ويمشي حالها ولا يبالي كيف توضأ ولا بأي ماء توضأ ولا بأي مكان صلى ولا يبالي ما أصاب ذيله وثوبه ولا يسأل عما عهد بل يتغافل ويحسن ظنه فهو مهمل لدينه لا يبالي ما شك فيه ويحمل الأمور على الطهارة وربما كانت أفحش النجاسة ويدخل بالشك ويخرج بالشك فأين هذا ممن استقصى في فعل ما أمر به واجتهد فيه حتى لا يخل بشيء منه وإن زاد على المأمور فإنما قصده بالزيادة تكميل المأمور وأن لا ينقص منه شيئا
قالوا : وجماع ما ينكرونه علينا احتياط في فعل مأمور أو احتياط في اجتناب محظور
وذلك خير وأحسن عاقبة من التهاون بهذين فإنه يفضي غالبا إلى النقص من الواجب والدخول في المحرم وإذا وازنا بين هذه المفسدة ومفسدة الوسواس كانت مفسدة الوسواس أخف هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسا وإنما نسميه احتياطا واستظهارا فلستم بأسعد منا بالسنة ونحن حولها ندندن وتكميلها نريد
وقال أهل الاقتصاد والاتباع : قال الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر [ الأحزاب : 21 ] وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ النساء : 21 ] وقال تعالى : واتبعوه لعلكم تهتدون [ الأعراف : 158 ] وقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فا تبعوه ولا تتبعوا السبلى فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ الأنعام : 153 ]

وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه وهو قصد السبيل وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة وإن قاله من قاله لكن الجور قد يكون جورا عظيما عن الصراط وقد يكون يسيرا وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله وهذا كالطريق الحسي فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جورا فاحشا وقد يجور دون ذلك فالميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله وأصحابه عليه والجائر عنه إما مفرط ظالم أو مجتهد متأول أو مقلد جاهل فمنهم المستحق للعقوبة ومنهم المغفور له ومنهم المأجور أجرا واحدا بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم في طاعة الله تعالى ورسوله أو تفريطهم
ونحن نسوق من هدي رسول الله وهدي أصحابه ما يبين أي الفريقين أولى باتباعه ثم نجيب عما احتجوا به بعون الله وتوفيقه
ونقدم قبل ذلك ذكر النهي عن الغلو وتعدي الحدود والإسراف وأن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين
قال الله تعالى : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم [ المائده : 77 ] وقال تعالى : ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [ الأنعام : 141 ] وقال تعالى : تلك حدود الله فلا تعتدوها [ البقره : 229 ] وقال تعالى : ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [ البقره : 190 ] وقال تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين [ الأعراف : 55 ]
وقال ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته : القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول : أمثال هؤلاء فارموا ثم قال : أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين رواه الإمام أحمد والنسائي وقال أنس رضي الله عنه : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلملا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات : رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم

فنهى النبيصلى الله عليه وسلمعن التشديد في الدين وذلك بالزيادة على المشروع وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه إما بالقدر وإما بالشرع
فالتشديد بالشرع : كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الوفاء به وبالقدر كفعل أهل الوسواس فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم
قال البخاري : وكره أهل العلم الإسراف فيه يعني الوضوء وأن يجاوزوا فعل النبيصلى الله عليه وسلم وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إسباغ الوضوء : الإنقاء
فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين والاعتصام بالسنة قال أبي بن كعب : عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله عز و جل فاقشعر جلده من خشية الله تعالى إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم
قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه ذم الوسواس :
الحمد لله الذي هدانا بنعمته وشرفنا بمحمدصلى الله عليه وسلموبرسالته ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته ومن علينا باتباعه الذي جعله علما على محبته ومغفرته وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته فقال سبحانه : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [ آل عمران : 31 ] وقال تعالى : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبى الأمي [ الأعراف : 156 ] ثم قال : فآمنوا بالله ورسوله النبيالأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [ الأعراف : 158 ] أما بعد : فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان يقعد له الصراط المستقيم ويأتيه من كل جهة وسبيل كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال : لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ الأعراف : 17 ] وحذرنا الله عز و جل من متابعته وأمرنا بمعاداته ومخالفته فقال

سبحانه : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا [ فاطر : 6 ] وقال : يا بني آدم لآيفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة [ الأعراف : 27 ] وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته وقطعا للعذر في متابعته وأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع صراطه المستقيم ونهانا عن اتباع السبل فقال سبحانه : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام : 153 ] وسبيل الله وصراطه المستقيم : هو الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وصحابته بدليل قوله عز و جل : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم [ يس : 3 ] وقال : وإنك لعلى هدى مستقيم [ الشورى : 67 ] وقال : إنك لتهدي إلى صراط مستقيم  فمن اتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان

فصل ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان حتى اتصفوا
بوسوسته وقبلوا قوله وأطاعوه ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم وصحابته حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأوضوء رسول الله صلى الله عليه و سلم أو صلى كصلاته فوضوؤه باطل وصلاته غير صحيحة ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم في مواكلة الصبيان وأكل طعام عامة المسلمين أنه قد صار نجسا يجب عليه تسبيع يده وفمه كما لو ولغ فيهما أو بال عليهما هر
ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات والأمور المحسوسات وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره ويكبر ويقرأ بلسانه بحيث تسمعه أذناه ويعلمه بقلبه بل يعلمه غيره منه ويتيقنه

ثم يشك هل فعل ذلك أم لا وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعملها من نفسه يقينا بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها مكابرة منه لعيانه وجحدا ليقين نفسه حتى تراه متلددا متحيرا كأنه يعالج شيئا يجتذبه أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس وقبول وسوسته ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته
ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه ويطيعه في الإضرار بجسده تارة بالغوص في الماء البارد وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك وربما فتح عينيه في الماء البارد وغسل داخلهما حتى يضر ببصره وربما أفضى إلى كشف عورته للناس وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزيء به من يراه
قلت ذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل أن رجلا قال له أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشك هل صح لي الغسل أم لا فما ترى في ذلك فقال له الشيخ اذهب فقد سقطت عنك الصلاة قال وكيف قال لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال رفع القلم عن ثلاثة المجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ والصبي حتى يبلغ ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون
قال وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة وربما فاته الوقت ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى وربما فوت عليه ركعة أو أكثر ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا ثم يكذب
قلت وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة فلم يدعه إبليس حتى زاد ففرق بينه وبين امرأته فأصابه لذلك غم شديد وأقاما متفرقين

دهرا طويلا حتى تزوجت تلك المرأة برجل آخر وجاءه منها ولد ثم إنه حنث في يمين حلفها ففرق بينهما وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها
وبلغني عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك فاشتد به التنطع والتقعر يوما إلى أن قال أصلى أصلى مرارا صلاة كذا وكذا وأراد أن يقول أداء فأعجم الدال وقال أذاء لله فقطع الصلاة رجل إلى جانبه فقال ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين
قال ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف حتى يكرره مرارا
قال فرأيت منهم من يقول الله أكككبر قال وقال لي إنسان منهم قد عجزت عن قول السلام عليكم فقلت له قل مثل ما قد قلت الآن وقد استرحت
وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة وأخرجهم عن اتباع الرسول وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو وهم يحسنون صنعا
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله وفعله وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله صلى الله عليه و سلم كائنا ما كان فإنه لا يشك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان على الصراط المستقيم ومن شك في هذا فليس بمسلم ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته وأي شيء يبتغي العبد غير طريقته ويقول لنفسه ألست تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله عليه و سلم هي الصراط المستقيم فإذا قالت له بلى قال لها فهل كان يفعل هذا فستقول لا فقل لها فماذا بعد الحق إلا الضلال وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان فإن اتبعت

سبيله كنت قرينه وستقولين يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم فليقتد بهم وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال لقد تقدمني قوم لو لم يجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته
قلت هو إبراهيم النخعي
وقال زين العابدين يوما لابنه يا بني اتخذ لي ثوبا ألبسه عند قضاء الحاجة فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب ثم انتبه فقال ما كان للنبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه إلا ثوب واحد فتركه
وكان عمر رضي الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه فإذا قيل له لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم انتهى حتى إنه قال لقد هممت أن أنهى عن لبس هذه الثياب فإنه قد بلغني أنها تصبغ ببول العجائز فقال له أبي مالك أن تنهى فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد لبسها ولبست في زمانه ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله صلى الله عليه و سلم فقال عمر صدقت
ثم ليعلم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته وهم خير الخلق وأفضلهم ولو أدرك رسول الله صلى الله عليه و سلم الموسوسين لمقتهم ولو أدركهم عمر رضي الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم وها أنا أذكر ما جاء في خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلا

الفصل الأول في النية في الطهارة والصلاة
النية هي القصد والعزم على فعل الشيء ومحلها القلب لا تعلق لها باللسان أصلا ولذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أصحابه في النية لفظ بحال ولا سمعنا

عنهم ذكر ذلك وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس يحسبهم عندها ويعذبهم فيها ويوقعهم في طلب تصحيحها فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها وليست من الصلاة في شيء وإنما النية قصد فعل الشيء فكل عازم على فعل فهو ناويه لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها فلا يمكن عدمها في حال وجودها ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة ولا يكاد العاقل يفعل شيئا من العبادات ولا غيرها بغير نية فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل ولو أراد إخلاء أفعاله الإختيارية عن نية لعجز عن ذلك ولو كلفه الله عز و جل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق ولا يدخل تحت وسعه وما كان هكذا فما وجه التعب في تحصيله وإن شك في حصول نيته فهو نوع جنون فإن علم الإنسان بحال نفسه أمر يقيني فكيف يشك فيه عاقل من نفسه ومن قام ليصلي صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك في ذلك ولو دعاه داع إلى شغل في تلك الحال لقال إني مشتغل أريد صلاة الظهر ولو قال له قائل في وقت خروجه إلى الصلاة أين تمضي لقال أريد صلاة الظهر مع الإمام فكيف يشك عاقل في هذا من نفسه وهو يعلمه يقينا
بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال فإنه إذا رأى إنسانا جالسا في الصف في وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها علم أنه إنما قام ليصلي فإن تقدم بين يدي المأمومين علم أنه يريد إمامتهم فإن رآه في الصف علم أنه يريد الإئتمام
قال فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال فكيف يجهلها من نفسه مع اطلاعه هو على باطنه فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له في جحد العيان وإنكار الحقائق المعلومة يقينا ومخالفة للشرع ورغبة عن السنة وعن طريق الصحابة
ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها والموجودة لا يمكن إيجادها لأن من شرط إيجاد

الشيء كونه معدوما فإن إيجاد الموجود محال وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شيء ولو وقف ألف عام
قال ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه حتى يركع الإمام فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا وأدركه فمن لم يحصل النية في الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة
ثم ما يطلبه إما أن يكون سهلا أو عسيرا فإن كان سهلا فكيف يعسره وإن كان عسيرا فكيف تيسر عند ركوع الإمام سواء وكيف خفى ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم وصحابته من أولهم إلى آخرهم والتابعين ومن بعدهم وكيف لم ينتبه له سوى من استحوذ عليه الشيطان أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له أما علم أنه لا يدعو إلى هدى ولا يهدي إلى خير وكيف يقول في صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس أهي ناقصة عنده مفضولة أم هي التامة الفاضلة فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم
فإن قال هذا مرض بليت به قلنا نعم سببه قبولك من الشيطان ولم يعذر الله تعالى أحدا بذلك ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة ونودي عليهما بما سمعت وهما أقرب إلى العذر لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به وأنت قد سمعت وحذرك الله تعالى من فتنته وبين لك عداوته وأوضح لك الطريق فمالك عذر ولا حجة في ترك السنة والقبول من الشيطان
قلت قال شيخنا ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها فيقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم نويت أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداء لله تعالى إماما أو مأموما أربع ركعات مستقبل القبلة ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب البحت فلو كان

في هذا خير لسبقونا ولدلونا عليه فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال
قال ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة مثل تكرير بعض الكلمة كقوله في التحيات ات ات التحي التحي وفي السلام أس أس وقوله في التكبير أكككبر ونحو ذلك فهذا الظاهر بطلان الصلاة به وربما كان إماما فأفسد صلاة المأمومين وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعاد له عن الله من الكبائر وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة ورغبة عن طريقة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهديه وما كان عليه أصحابه وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها وتعذيب نفسه وإضاعة الوقت والإشتغال بما ينقص أجره وفوات ما هو أنفع له وتعريض نفسه لطعن الناس فيه وتغرير الجاهل بالإقتداء به فإنه يقول لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه وأساء الظن بما جاءت به السنة وأنه لا يكفي وحده وانفعال النفس وضعفها للشيطان حتى يشتد طمعه فيه وتعريضه نفسه للتشديد عليه بالقدر عقوبة له وإقامته على الجهل ورضاه بالخبل في العقل كما قال أبو حامد الغزالي وغيره الوسوسة سببها إما جهل بالشرع وإما خبل في العقل وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب
فهذه نحو خمسة عشر مفسدة في الوسواس ومفاسده أضعاف ذلك بكثير
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبي العاص قال قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عني
فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأصحابه نعوذ بالله عز و جل منه

فصل ومن ذلك الإسراف في ماء الوضوء والغسل وقد روى أحمد في
مسنده من حديث عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال لا تسرف فقال يا رسول الله أو في الماء إسراف قال نعم وإن كنت على نهر جار
وفي جامع الترمذي من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء
وفي المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا وقال هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم
وفي كتاب الشافي لأبي بكر عبدالعزيز من حديث أم سعد قالت قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم يجزىء من الوضوء مد والغسل صاع وسيأتي قوم يستقلون ذلك فأولئك خلاف أهل سنتي والآخذ بسنتي في حظيرة القدس متنزه أهل الجنة وفي سنن الأثرم من حديث سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبدالله قال : يجزىء من الوضوء المد ومن الغسل من الجنابة الصاع فقال رجل : ما يكفيني فغضب جابر حتى تربد وجهه ثم قال : قد كفى من هو خير منك وأكثر شعرا وقد رواه الإمام أحمد في مسنده مرفوعا ولفظه عن جابر قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم يجزىء من الغسل الصاع ومن الوضوء المد وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنها كانت تغتسل هي والنبيصلى الله عليه وسلممن إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك وفي سنن النسائي عن عبيد بن عمير : أن عائشة رضي الله عنها قالت : لقد رأيتني أغتسل

أنا ورسول الله من هذا فإذا تور موضوع مثل الصاع أو دونه نشرع فيه جميعا فأفيض بيدي على رأسي ثلاث مرات وما أنقض لي شعرا
وفي سنن أبي داود والنسائي عن عباد بن تميم عن أم عمارة بنت كعب أن النبيصلى الله عليه وسلم توضأ فأتي بماء في إناء قدر ثلثي المد وقال عبدالرحمن بن عطاء : سمعت سعيد بن المسيب يقول : إن لي ركوة أو قدحا ما يسع إلا نصف المد أو نحوه أبول ثم أتوضأ منه وأفضل منه فضلا قال عبدالرحمن : فذكرت ذلك لسليمان بن يسار فقال : وأنا يكفيني مثل ذلك قال عبدالرحمن : فذكرت : ذلك لأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال : وهكذا سمعنا من أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم رواه الأثرم في سننه
وقال إبراهيم النخعي : كانوا أشد استيفاء للماء منكم وكانوا يرون أن ربع المد يجزىء من الوضوء
وهذا مبالغة عظيمة فإن ربع المد لا يبلغ أوقية ونصفا بالدمشقي
وفي الصحيحين عن أنس قال : كان رسول اللهصلى الله عليه وسلميتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمدادا وفي صحيح مسلم عن سفينة قال : كان رسول اللهصلى الله عليه وسلميغسله الصاع من الجنابة ويوضئه المد
وتوضأ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بقدر نصف المد أو أزيد بقليل
وقال إبراهيم النخعي : إني لأتوضأ من كوز الحب مرتين
وقال محمد بن عجلان : الفقه في دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء
وقال الإمام أحمد : كان يقال : من قلة فقه الرجل ولعه بالماء
وقال الميموني : كنت أتوضأ بماء كثير فقال لي أحمد : يا أبا الحسن أترضى أن تكون كذا فتركته

وقال عبدالله بن أحمد : قلت لأبي : إني لأكثر الوضوء فنهاني عن ذلك وقال : يا بني يقال : إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان قال لي ذلك غير مرة ينهاني عن كثرة صب الماء وقال لي : أقلل من هذا الماء يا بني
وقال إسحاق بن منصور : قلت لأحمد : نزيد على ثلاث في الوضوء فقال : لا والله إلا رجل مبتلى
وقال أسود بن سالم الرجل الصالح شيخ الإمام أحمد : كنت مبتلى بالوضوء فنزلت دجلة أتوضأ فسمعت هاتفا يقول : يا أسود يحيى عن سعيد : الوضوء ثلاث ما كان أكثر لم يرفع فالتفت فلم أر أحدا
وقد روى أبو داود في سننه من حديث عبدالله بن مغفل قال : سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلميقول : سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء
فإذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى : إن الله لا يحب المعتدين [ البقره : 190 ] وعلمت أن الله يحب عبادته أنتج لك من هذا أن وضوء الموسوس ليس بعبادة يقبلها الله تعالى وإن أسقطت الفرض عنه فلا تفتح أبواب الجنة الثمانية لوضوئه يدخل من أيها شاء
ومن مفاسد الوسواس : أنه يشغل ذمته بالزائد على حاجته إذا كان الماء مملوكا لغيره كماء الحمام فيخرج منه وهو مرتهن الذمة بما زاد على حاجته ويتطاول عليه الدين حتى يرتهن من ذلك بشيء كثير جدا يتضرر به في البرزخ ويوم القيامة

فصل ومن ذلك الوسواس في انتقاض الطهارة لا يلتفت إليه وفي صحيح
مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه : أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا

وفي الصحيحين عن عبدالله بن زيد قال : شكي إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا
وفي المسند وسنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة فيأخذ بشعرة من دبره فيمدها فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ولفظ أبي داود : إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له : إنك قد أحدثت فليقل له : كذبت إلا ما وجد ريحا بأنفه أو سمع صوتا بأذنه
فأمر عليه الصلاة و السلام بتكذيب الشيطان فيما يحتمل صدقه فيه فكيف إذا كان كذبه معلوما متيقنا كقوله للموسوس : لم تفعل كذا وقد فعله
قال الشيخ أبو محمد : ويستحب للإنسان أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال ليدفع عن نفسه الوسوسة فمتى وجد بللا قال : هذا من الماء الذي نضحته لما روى أبو داود بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفي أو الحكم بن سفيان قال : كان النبيصلى الله عليه وسلمإذا بال توضأ وينتضح وفي رواية : رأيت رسول اللهصلى الله عليه وسلمبال ثم نضح فرجه وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله وشكا إلى الإمام أحمد بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء فأمره أن ينضح فرجه إذا بال قال : ولا تجعل ذلك من همتك واله عنه
وسئل الحسن أو غيره عن مثل هذا فقال : اله عنه فأعاد عليه المسألة فقال : أتستدره لا أب لك أله عنه

فصل ومن هذا ما يفعله كثير من الموسوسين بعد البول وهو عشرة أشياء
: السلت والنتر والنحنحة والمشي والقفز والحبل والتفقد والوجور والحشو والعصابة والدرجة

أما السلت فيسلته من أصله إلى رأسه على أنه قد روي في ذلك حديث غريب لا يثبت ففي المسند وسنن ابن ماجه عن عيسى بن داود عن أبيه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إذا بال أحدكم فليمسح ذكره ثلاث مرات
وقال جابر بن زيد : إذا بلت فامسح أسفل ذكرك فإنه ينقطع رواه سعيد عنه
قالوا : ولأنه بالسلت والنتر يستخرج ما يخشى عوده بعد الاستنجاء
قالوا : وإن احتاج إلى مشي خطوات لذلك ففعل فقد أحسن والنحنحة ليستخرج الفضلة وكذلك القفز يرتفع عن الأرض شيئا ثم يجلس بسرعة والحبل يتخذ بعضهم حبلا يتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم ينخرط منه حتى يقعد والتفقد يمسك الذكر ثم ينظر في المخرج هل بقى فيه شيء أم لا والوجور يمسكه ثم يفتح الثقب ويصب فيه الماء والحشو يكون معه ميل وقطن يحشوه به كما يحشو الدمل بعد فتحها والعصابة يعصبه بخرقة والدرجة يصعد في سلم قليلا ثم ينزل بسرعة والمشي يمشي خطوات ثم يعيد الاستجمار
قال شيخنا : وذلك كله وسواس وبدعة فراجعته في السلت والنتر فلم يره وقال : لم يصح الحديث قال : والبول كاللبن في الضرع إن تركته قر وإن حلبته در
قال : ومن اعتاد ذلك ابتلي منه بما عوفي منه من لها عنه
قال : ولو كان هذا سنة لكان أولى الناس به رسول الله عليه الصلاة و السلام وأصحابه وقد قال اليهودي لسلمان : لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخرأة فقال : أجل فأين علمنا نبيناصلى الله عليه وسلمذلك أو شيئا منه بلى علم المستحاضة أن تتلجم وعلى قياسها من به سلس البول أن يتحفظ ويشد عليه خرقة

فصل ومن ذلك أشياء سهل فيها المبعوث بالحنيفية السمحة فشدد فيها
هؤلاء فمن ذلك المشي حافيا في الطرقات ثم يصلي ولا يغسل رجليه فقد روى أبو داود في

سننه : عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت : قلت : يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا تطهرنا قال : أو ليس بعدها طريق أطيب منها قالت قلت : بلى قال : فهذه بهذه وقال عبدالله بن مسعود : كنا لا نتوضأ من موطىء
وعن علي رضي الله عنه : أنه خاض في طين المطر ثم دخل المسجد فصلى ولم يغسل رجليه
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الرجل يطأ العذرة قال : إن كانت يابسة فليس بشيء وإن كانت رطبة غسل ما أصابه
وقال حفص : أقبلت مع عبدالله بن عمر عامدين إلى المسجد فلما انتهينا عدلت إلى المطهرة لأغسل قدمي من شيء أصابهما فقال عبدالله : لا تفعل فإنك تطأ الموطىء الرديء ثم تطأ بعده الموطىء الطيب أو قال : النظيف فيكون ذلك طهورا فدخلنا المسجد جميعا فصلينا
وقال أبو الشعثاء : كان ابن عمر يمشي بمنى في الفروث والدماء اليابسة حافيا ثم يدخل المسجد فيصلي فيه ولا يغسل قدميه
وقال عمران بن حدير : كنت أمشي مع أبي مجلر إلى الجمعة وفي الطريق عذرات يابسة فجعل يتخطاها ويقول : ما هذه إلا سودات ثم جاء حافيا إلى المسجد فصلى ولم يغسل قدميه
وقال عاصم الأحوال : أتينا أبا العالية فدعونا بوضوء فقال : مالكم ألستم متوضئين قلنا :

بلى ولكن هذه الأقذار التي مررنا بها قال : هل وطئتم على شيء رطب تعلق بأرجلكم قلنا : لا فقال : فكيف بأشد من هذه الأقذار يجف فينسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم

فصل ومن ذلك أن الخف والحذاء إذا أصابت النجاسة أسفله أجزأ دلكه
بالأرض مطلقا وجازت الصلاة فيه بالسنة الثابتة نص عليه أحمد واختاره المحققون من أصحابه
قال أبو البركات : ورواية : أجزأ الدلك مطلقا هي الصحيحة عندي : لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : إذا وطىء أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور وفي لفظ : إذا وطىء أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب رواهما أبو داود
وروى أبو سعيد الخدرى أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال : لم خلعتم قالوا : يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا فقال : إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ثم لينظر فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما رواه الإمام أحمد وتأويل ذلك : على ما يستقذر من مخاط أو نحوه من الطاهرات لا يصح لوجوه :
أحدها : أن ذلك لا يسمى خبثا
الثاني : أن ذلك لا يؤمر بمسحه عند الصلاة فإنه لا يبطلها
الثالث : أنه لا تخلع النعل لذلك في الصلاة فإنه عمل لغير حاجة فأقل أحواله الكراهة
الرابع : أن الدارقطني روى في سننه في حديث الخلع من رواية ابن عباس : أن النبي عليه الصلاة و السلام قال : إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما دم حلمة والحلم كبار القراد

ولأنه محل يتكرر ملاقاته للنجاسة غالبا فأجزأ مسحه بالجامد كمحل الاستجمار بل أولى فإن محل الاستجمار يلاقي النجاسة في اليوم مرتين أو ثلاثا
فصل وكذلك ذيل المرأة على الصحيح وقالت امرأة لأم سلمة : إني أطيل
ذيلي وأمشي في المكان القذر فقالت : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم يطهره ما بعده رواه أحمد وأبو داود وقد رخص النبي عليه الصلاة و السلام للمرأة أن ترخي ذيلها ذراعا ومعلوم أنه يصيب القذر ولم يأمرها بغسل ذلك بل أفتاهن بأنه تطهره الأرض
فصل ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين : الصلاة في النعال وهي سنة رسول
الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه فعلا منه وأمرا فروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه متفق عليه
وعن شداد بن أوس قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا نعالهم رواه أبو داود
وقيل للإمام أحمد : أيصلي الرجل في نعليه فقال إي والله
وترى أهل الوسواس إذا بلي أحدهم بصلاة الجنازة في نعليه قام على عقبيهما كأنه واقف على الجمر حتى لا يصلي فيهما

وفي حديث أبي سعيد الخدري : إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى على نعليه قذرا فليمسحه وليصل فيهما
فصل ومن ذلك : أن سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلم الصلاة حيث كان وفي أي
مكان اتفق سوى ما نهي عنه من المقبرة والحمام وأعطان الإبل فصح عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال : جعلت ليالأرض مسجدا وطهورا فحيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فليصل وكان يصلي في مرابض الغنم وأمر بذلك ولم يشترط حائلا
قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي فإنه قال : أكره ذلك إلا إذا كان سليما من أبعارها
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح
وروي الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل أو مبارك الإبل وفي المسند أيضا من حديث عبدالله بن المغفل قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين
وفي الباب عن جابر بن سمرة والبراء بن عازب وأسيد بن الحضير وذي الغرة كلهم رووا عن النبيصلى الله عليه وسلم صلوا في مرابض الغنم وفي بعض ألفاظ الحديث : صلوا في مرابض الغنم فإن فيها بركة

وقال : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه أهل السنن كلهم إلا النسائي فأين هذا الهدي من فعل من لا يصلي إلا على سجادة تفرش فوق البساط فوق الحصير ويضع عليها المنديل ولا يمشي على الحصير ولا على البساط بل يمشي عليها نقرا كالعصفور فما أحق هؤلاء بقول ابن مسعود : لأنتم أهدى من أصحاب محمد أو أنتم على شعبة ضلالة
وقد صلى النبيصلى الله عليه وسلمعلى حصير قد اسود من طول ما لبس فنضح له بالماء وصلى عليه ولم يفرش له فوقه سجادة ولا منديل وكان يسجد على التراب تارة وعلى الحصى تارة وفي الطين تارة حتى يرى أثره على جبهته وأنفه
وقال ابن عمر : كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك رواه البخاري ولم يقل : وتبول وهو عند أبي داود بإسناد صحيح بهذه الزيادة
فصل ومن ذلك : أن الناس في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا
يأتون المساجد حفاة في الطين وغيره
قال يحيى بن وثاب : قلت لابن عباس : الرجل يتوضأ يخرج إلى المسجد حافيا قال : لا بأس به
وقال كميل بن زياد : رأيت عليا رضي الله عنه يخوض طين المطر ثم دخل السمجد فصلى ولم يغسل رجليه
وقال إبراهيم النخعي : كانوا يخوضون الماء والطين إلى المسجد فيصلون
وقال يحيى بن وثاب : كانوا يمشون في ماء المطر وينتضح عليهم
رواها سعيد بن منصور في سننه

وقال ابن المنذر : وطىء ابن عمر بمنى وهو حاف في ماء وطين ثم صلى ولم يتوضأ قال : وممن رأى ذلك علقمة والأسود وعبدالله بن مغفل وسعيد بن المسيب والشعبي والإمام أحمد وأبو حنيفة ومالك وأحد الوجهين للشافعية قال : وهو قول عامة أهل العلم ولأن تنجيسها فيه مشقة عظيمة منتفية بالشرع كما في أطعمة الكفار وثيابهم وثياب الفساق شربة المسكر وغيرهم
قال أبو البركات ابن تيمية : وهذا كله يقوي طهارة الأرض بالجفاف لأن الإنسان في العادة لا يزال يشاهد النجاسات في بقعة بقعة من طرقاته التي يكثر فيها تردده إلى سوقه ومسجده وغيرهما فلو لم تطهر إذا أذهب الجفاف أثرها للزمه تجنب ما يشاهده من بقاع النجاسة بعد ذهاب أثرها ولما جاز له التحفي بعد ذلك وقد علم أن السلف الصالح لم يحترزوا من ذلك ويعضده أمره عليه الصلاة و السلام بمسح النعلين بالأرض لمن أتى المسجد ورأى فيهما خبثا ولو تنجست الأرض بذلك نجاسة لا تطهر بالجفاف لأمر بصيانة طريق المسجد عن ذلك لأنه يسلكه الحافي وغيره
قلت : وهذا اختيار شيخنا رحمه الله
وقال أبو قلابة : جفاف الأرض طهورها
فصل ومن ذلك : أن النبي عليه الصلاة و السلام سئل عن المذي فأمر
بالوضوء منه فقال : كيف ترى بما أصاب ثوبي منه قال : تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصابه رواه أحمد والترمذي والنسائي
فجوز نضح ما أصابه المذي كما أمر بنضح بول الغلام
قال شيخنا : وهذا هو الصواب لأن هذه نجاسة يشق الاحتزاز منها لكثرة ما يصيب ثياب الشاب العزب فهي أولى بالتخفيف من بول الغلام ومن أسفل الخف والحذاء

فصل ومن ذلك : إجماع المسلمين على ما سنه لهم النبيصلى الله عليه وسلممن جواز
الاستجمار بالأحجار في زمن الشتاء والصيف مع أن المحل يعرق فينضح على الثوب ولم يأمر بغسله
ومن ذلك : أنه يعفي عن يسير أرواث البغال والحمير والسباع في إحدى الروايتين عن أحمد اختارها شيخنا لمشقة الاحتراز
قال الوليد بن مسلم : قلت للأوزاعي : فأبوال الدواب مما لا يؤكل لحمه كالبغل والحمار والفرس فقال : قد كانوا يبتلون بذلك في مغازيهم فلا يغسلونه من جسد ولا ثوب
ومن ذلك : نص أحمد على أن الودي يعفى عن يسيره كالمذي وكذلك يعفى عن يسير القىء نص عليه أحمد
وقال شيخنا : لا يجب غسل الثوب ولا الجسد من المدة والقيح والصديد قال : ولم يقم دليل على نجاسته
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه طاهر حكاه أبو البركات وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا ينصرف منه من الصلاة وينصرف من الدم وعن الحسن نحوه
وسئل أبو مجلز عن القيح يصيب البدن والثوب فقال : ليس بشيء إنما ذكر الله الدم ولم يذكر القيح
وقال إسحاق بن راهويه : كل ما كان سوى الدم فهو عندي مثل العرق المنتن وشبهه ولا يوجب وضوءا
وسئل أحمد رحمه الله : الدم والقيح عندك سواء فقال : لا الدم لم يختلف الناس فيه والقيح قد اختلف الناس فيه وقال مرة : القيح والصديد والمدة عندي أسهل من الدم
ومن ذلك : ما قاله أبو حنيفة : أنه لو وقع بعر الفأر في حنطة فطحنت أو في دهن مائع جاز أكله ما لم يتغير لأنه لا يمكن صونه عنه قال : فلو وقع في الماء نجسه

وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى جواز أكل الحنطة التي أصابها بول الحمير عند الدياس من غير غسل قال : لأن السلف لم يحترزوا من ذلك
وقالت عائشة رضي الله عنهما : كنا نأكل اللحم والدم خطوط على القدر
وقد أباح الله عز و جل صيد الكلب وأطلق ولم يأمر بغسل موضع فمه من الصيد ومعضه ولا تقويره ولا أمر به رسوله ولا أفتى به أحد من الصحابة
ومن ذلك : ما أفتى به عبدالله بن عمر وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وطاوس وسالم ومجاهد والشعبي وابراهيم النخعي والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري والحكم والأوزاعي ومالك واسحق بن راهويه وأبو ثور والإمام أحمد في أصح الروايتين وغيرهم أن الرجل إذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة لم يكن عالما بها أو كان يعلمها لكنه نسيها أو لم ينسها لكنه عجز عن إزالتها : أن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه
فصل ومن ذلك : أن النبي : صلى الله عليه و سلمكان يصلي وهو حامل أمامة بنت ابنته
زينب فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها متفق عليه
ولأبي داود : أن ذلك كان في إحدى صلاتي العشي
وهو دليل على جواز الصلاة في ثياب المربية والمرضع والحائض والصبي ما لم يتحقق نجاستها
وقال أبو هريرة : كنا مع النبيصلى الله عليه وسلمفي صلاة العشاء فلما سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فلما رفع رأسه أخذهما بيديه من خلفه أخذا رفيقا ووضعهما على الأرض فإذا عاد عادا حتى قضى صلاته رواه الامام أحمد
وقال شداد بن الهاد : عن أبيه خرج علينا رسول اللهصلى الله عليه وسلموهو حامل الحسن أو الحسين فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها فلما قضى الصلاة قال : إن ابني ارتحلني فكرهت أن اعجله ورواه أحمد والنسائي
وقالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول اللهصلى الله عليه وسلميصلي بالليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلي مرط وعليه بعضه رواه أبو داود

وقالت : كنت أنا ورسول اللهصلى الله عليه وسلمنبيت في الشعار الواحد وأنا طامث حائض فإن أصابه منى شىء غسل مكانه ولم يعده وصلى فيه رواه أبو داود
فصل ومن ذلك : أن النبيصلى الله عليه وسلمكان يلبس الثياب التي نسجها المشركون ويصلي
فيها
وتقدم قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهمه أن ينهى عن ثياب بلغه أنها تصبغ بالبول وقال أبي له : مالك أن تنهى عنها فإن رسول اللهصلى الله عليه وسلملبسها ولبست في زمانه ولو علم الله أنها حرام لبينه لرسوله قال : صدقت
قلت : وعلى قياس ذلك : الجوخ بل أولى بعدم النجاسة من هذه الثياب فتجنبه من باب الوسواس ولما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية استعار ثوبا من نصراني فلبسه حتى خاطوا له قميصه وغسلوه وتوضأ من جرة نصرانية
وصلى سلمان وأبو الدرداء رضي الله عنهما في بيت نصرانية فقال لها أبو الدرداء : هل في بيتك مكان طاهر فنصلي فيه فقالت : طهرا قلوبكما ثم صليا أين أحببتما فقال له سلمان : خذها من غير فقيه
فصل ومن ذلك : أن الصحابة والتابعين كانوا يتوضئون من الحياض
والأواني المكشوفة ولا يسألون : هل أصابتها نجاسة أو وردها كلب أو سبع ففي الموطأ عن يحيى بن سعيد : أن عمر رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع فقال عمر رضي الله عنه : لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا

وفي سنن ابن ماجه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم سئل : أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال : نعم وبما أفضلت السباع
ومن ذلك : أنه لو سقط عليه شىء من ميزاب لا يدري هل هو ماء أو بول لم يجب عليه أن يسأل عنه فلو سأل لم يجب على المسئول أن يجيبه ولم علم أنه نجس ولا يجب عليه غسل ذلك
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما فسقط عليه شىء من ميزاب ومعه صاحب له فقال : يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس فقال عمر رضي الله عنه : يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ومضى ذكره أحمد
قال شيخنا : وكذلك إذا أصاب رجله أو ذيله بالليل شىء رطب ولا يعلم ما هو لم يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو واحتج بقصة عمر رضي الله عنه في الميزاب وهذا هو الفقه فإن الأحكام إنما تترتب على المكلف بعد علمه بأسبابها وقبل ذلك هي على العفو فما عفا الله عنه فلا ينبغي البحث عنه
فصل ومن ذلك : الصلاة مع يسير الدم ولا يعيد
قال البخاري : قال الحسن رحمه الله : ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم
قال : وعصر ابن عمر رضي الله عنه بثرة فخرج منها دم فلم يتوضأ وبصق ابن أبي أوفى دما ومضى في صلاته وصلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجرحه يثعب دما

ومن ذلك أن المراضع ما زلن من عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلموإلى الآن يصلين في ثيابهن والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها فلا يغسلن شيئا من ذلك ولأن ريق الرضيع مطهر لفمه لأجل الحاجة كما أن ريق الهرة مطهر لفمها
وقد قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات وكان يصغي لها الإناء حتى تشرب وكذلك فعل أبو قتادة مع العلم اليقيني أنها تأكل الفأر والحشرات والعلم القطعي أنه لم يكن بالمدينة حياض فوق القلتين تردها السنانير وكلاهما معلوم قطعا
ومن ذلك : أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يصلون وهم حاملو سيوفهم وقد أصابها الدم وكانوا يمسحونها ويجتزئون بذلك
وعلى قياس هذا مسح المرآة الصقيلة إذا أصابتها النجاسة فإنه يطهرها
وقد نص أحمد على طهارة سكين الجزار بمسحها
ومن ذلك : أنه نص على حبل الغسال أنه ينشر عليه الثوب النجس ثم تجففه الشمس فينشر عليه الثوب الطاهر فقال : لا بأس به وهذا كقول أبي حنيفة : إن الأرض النجسة يطهرها الريح والشمس وهو وجه لأصحاب أحمد حتى إنه يجوز التيمم بها وحديث ابن عمر رضي الله عنهما كالنص في ذلك وهو قوله كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك

وهذا لا يتوجه إلا على القول بطهارة الأرض بالريح والشمس
ومن ذلك : أن الذي دلت عليه سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلموآثار أصحابه : أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وإن كان يسيرا
وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف وأكثر أهل الحديث وبه أفتى عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد والأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الرحمن بن مهدي واختاره ابن المنذر وبه قال أهل الظاهر ونص عليه أحمد في إحدى روايتيه واختاره جماعة من أصحابنا منهم ابن عقيل في مفرداته وشيخنا أبو العباس وشيخه ابن أبي عمر
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلمالماء لا ينجسه شىء رواه الإمام أحمد وفي المسند والسنن عن أبي سعيد قال : قيل : يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال : الماء طهور لا ينجسه شىء قال الترمذي : هذا حديث حسن وقال الإمام أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح
وفي لفظ للإمام أحمد : إنه يستقى لك من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها محايض النساء ولحم الكلاب وعذر الناس فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إن الماء طهور لا ينجسه شىء
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي أمامه مرفوعا الماء لا ينجسه شىء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه
وفيها من حديث أبي سعيد : أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم سئل عن لحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة بها فقال : لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور
وإن كان في إسناد هذين الحديثين مقال : فانا ذكرناهما للاستشهاد لا للاعتماد
وقال البخاري : قال الزهري : لا بأس بالماء ما لم يتغير منه طعم أو ريح او لون

وقال الزهري أيضا : إذا ولغ الكلب في الإناء ليس له وضوء غيره يتوضأ به ثم يتيمم
قال سفيان : هذا الفقه بعينه يقول الله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا [ المائده : 6 ] وهذا ماء وفي النفس منه شىء يتوضأ به ثم يتيمم ونص أحمد رحمه الله : في حب زيت ولغ فيه كلب فقال : يؤكل
فصل ومن ذلك : أن النبيصلى الله عليه وسلمكان يجيب من دعاه فيأكل من طعامه وأضافه
يهودي بخبز شعير وإهالة سنخة وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب
وشرط عمر رضي الله تعالى عنه عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين وقال : أطعموهم مما تأكلون وقد أحل الله عز و جل ذلك في كتابه ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاما فدعوه فقال : اين هو قالوا : في الكنيسة فكره دخولها وقال لعلي رضي الله عنه : اذهب بالناس فذهب علي بالمسلمين فدخلوا وأكلوا وجعل علي رضي الله عنه : ينظر إلى الصور وقال : ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل
وكان النبي عليه السلام يقبل ابني ابنته في أفواههما ويشرب من موضع فم عائشة وضي الله عنها ويتعرق العرق فيضع فاه على موضع فيها وهي حائض
وحمل أبو بكر رضي الله عنه الحسن على عاتقه ولعابه يسيل عليه
وأتى رسول الله عليه السلام بصبي فوضعه في حجره فبال عليه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله
وكان يؤتي بالصبيان فيضعهم في حجره يبرك عليهم ويدعو لهم

وهذا الذي ذكرناه قليل من كثير من السنة ومن له اطلاع على ما كان عليه رسول اللهصلى الله عليه وسلموأصحابه لا يخفى عليه حقيقة الحال
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عنهصلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة فجمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة فهي حنيفية في التوحيد سمحة في العمل وضد الأمرين : الشرك وتحريم الحلال وهما اللذان ذكرهما النبيصلى الله عليه وسلمفيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
فالشرك وتحريم الحلال قرينان وهما اللذان عابهما الله تعالى في كتابه على المشركين في سورة الأنعام والأعراف
وقد ذم النبيصلى الله عليه وسلمالمتنطعين في الدين وأخبر بهلكتهم حيث يقول ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون
وقال ابن أبي شيبة : حدثنا أبو أسامه عن مسعر قال : أخرج إلي معن بن عبد الرحمن كتابا وحلف بالله أنه خط أبيه فإذا فيه : قال عبد الله : والله الذي لا إله غيره ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول اللهصلى الله عليه وسلمولا رأيت أحدا أشد خوفا عليهم من أبي بكر وإني لأظن عمر رضي الله عنه كان أشد أهل الأرض خوفا عليهم وكان عليه الصلاة و السلام يبغض المتعمقين حتى إنه لما واصل بهم ورأى الهلال قال : لو تأخر الهلال لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم كالمنكل بهم

وكان الصحابة أقل الأمة تكلفا اقتداء بنبيهمصلى الله عليه وسلم قال الله تعالى قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين 
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة : أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وقال أنس رضي الله عنه : كنا عند عمر رضي الله عنه فسمعته يقول نهينا عن التكلف
وقال مالك قال عمر بن عبد العزيز : سن رسول اللهصلى الله عليه وسلموولاة الأمور بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها من اقتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا
وقال مالك : بلغني أن عمر بن الخطاب كان يقول : سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالا وقال صلى اللهصلى الله عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين
فأخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه والجاهلون يتأولونه على غير تأويله وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة فلولا أن الله تعالى يقيم لدينه من ينفى عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء

فصل ومن ذلك الوسوسة في مخارج الحروف والتنطع فيها ونحن نذكر ما
ذكره العلماء بألفاظهم : قال أبو الفرج بن الجوزي : قد لبس إبليس على بعض المصلين في مخارج الحروف فتراه يقول : الحمد الحمد فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة وتارة يلبس عليه في تحقيق التشديد في إخراج ضاد المغضوب قال : ولقد رأيت من يخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده والمراد تحقيق الحرف حسب وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس
وقال محمد بن قتيبة في مشكل القرآن : وقد كان الناس يقرؤن القرآن بلغاتهم ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة ولا علم التكلف فهفوا في كثير من الحروف وذلوا فأخلوا ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح وقربه من القلوب بالدين فلم أر فيمن تتبعت في وجوه قراءته أكثر تخليطا ولا أشد اضطرابا منه لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز بإفراطه في المد والهمز والإشباع وإفحاشه في الإضجاع والإدغام وحمله المتعلمين على المذهب الصعب وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى وتضييقه ما فسحه ومن العجب أنه يقرىء الناس بهذه المذاهب ويكره الصلاة بها ففي أي موضع يستعمل هذه القراءة إن كانت الصلاة لا تجوز بها وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه أو ائتم بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين منهم بشر بن الحارث والإمام أحمد بن حنبل وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها وطول اختلاف المتعلم إلى المقرىء فيها فإذا رأوه قد اختلف في أم الكتاب عشرا وفي مائة آية شهرا وفي السبع الطوال حولا ورأوه

عند قراءته مائل الشدقين دار الوريدين راشح الجبين توهموا أن ذلك لفضله في القراءة وحذقه بها وليس هكذا كانت قراءة رسول اللهصلى الله عليه وسلم ولا خيار السلف ولا التابعين ولا القراء العالمين بل كانت سهلة رسلة
وقال الخلال في الجامع : عن أبي عبدالله إنه قال : لا أحب قراءة فلان يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة وكرهها كراهية شديدة وجعل يعجب من قراءته وقال : لا يعجبني فإن كان رجل يقبل منك فانهه
وحكى عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس : أنه نهاه عنها
وقال الفضل بن زياد : إن رجلا قال لأبي عبدالله : فما أترك من قراءته قال : الإدغام والكسر ليس يعرف في لغة من لغات العرب
وسأله عبدالله ابنه عنها فقال : أكره الكسر الشديد والإضجاع
وقال في موضع آخر : إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث : أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة قال أكرهه أشد كراهة إنما هي قراءة محدثة وكرهها شديدا حتى غضب
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال : أكرهها أشد الكراهة قيل له : ما تكره منها قال : هي قراءة محدثة ما قرأ بها أحد
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها وقال : كرهها ابن إدريس وأراه قال : وعبدالرحمن بن مهدي وقال : ما أدري إيش هذه القراءة ثم قال : وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب
وقال عبدالرحمن بن مهدي : لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة

ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد وعنه رواية أخرى : أنه لا يعيد
والمقصود : أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو في النطق بالحرف
ومن تأمل هدي رسول اللهصلى الله عليه وسلم وإقراراه أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته
فصل في الجواب عما احتج به أهل الوسواس أما قولهم : إن
ما نفعله احتياط لا وسواس
قلنا : سموه ما شئتم فنحن نسألكم : هل هو موافق لفعل رسول اللهصلى الله عليه وسلموأمره وما كان عليه أصحابه أو مخالف
فإن زعمتم أنه موافق فبهت وكذب صريح فإذن لابد من الإقرار بعدم موافقته وأنه مخالف له فلا ينفعكم تسمية ذلك احتياطا وهذا نظير من ارتكب محظورا وسماه بغير اسمه كما يسمي الخمر بغير اسمها والربا معاملةوالتحليل الذي لعن رسول اللهصلى الله عليه وسلمفاعله : نكاحا ونقر الصلاة الذي أخبر رسول اللهصلى الله عليه وسلمأن فاعله لم يصل وأنه لا تجزيه صلاته ولا يقبلها الله تعالى منه : تخفيفا فهكذا تسمية الغلو في الدين والتنطع : احتياطا
وينبغي أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه : الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك
وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق في موارد النزاع الذي اختلف فيه الأئمة كطلاق

المكره وطلاق السكران والبتة وجمع الثلاث والطلاق بمجرد النية والطلاق المؤجل المعلوم مجيء أجله واليمين بالطلاق وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتي تقليدا بغير برهان وقال : ذلك احتياط للفروج فقد ترك معنى الاحتياط فإنه يحرم الفرج على هذا ويبيحه لغيره فأين الاحتياط ههنا بل لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له أو يأتي برهان من الله ورسوله على ذلك لكان قد عمل بالاحتياط ونص على مثل ذلك الإمام أحمد في طلاق السكران
فقال في رواية أبي طالب : والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين : حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا فلا يمكن الاحتياط في وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه
قال شيخنا : والاحتياط حسن ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط
وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقولهصلى الله عليه وسلم من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه وقوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقوله الإثم ما حاك في الصدر فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق بالباطل والحلال بالحرام على وجه لا يكون فيه دليل على أحد الجانبين أو تتعارض الأمارتان عنده فلا تترجح في ظنه إحداهما فيشتبه عليه هذا بهذا فأرشده النبيصلى الله عليه وسلمإلى ترك المشتبه والعدول إلى الواضح الجلي
ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه : هل هو طاعة وقربة أم معصية وبدعة هذا أحسن أحواله والواضح الجلي هو اتباع طريق رسول اللهصلى الله عليه وسلم وما سنه للأمة قولا وعملا فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا الواضح فكيف ولا شبهة بحمد الله هناك إذ قد ثبت بالسنة أنه تنطع وغلو فالمصير إليه ترك للسنة وأخذ بالبدعة وترك لما يحبه الله تعالى ويرضاه وأخذ بما يكرهه ويبغضه ولا يتقرب به إليه ألبتة فإنه لا يتقرب إليه إلا بما شرع لا بما يهواه العبد ويفعله من تلقاء

نفسه فهذا هو الذي يحيك في الصدر ويتردد في القلب وهو حواز القلوب
وأما التمرة التي ترك رسول اللهصلى الله عليه وسلمأكلها وقال : أخشى أن تكون من الصدقة فذلك من باب اتقاء الشبهات وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام فإن التمرة كانت قد وجدها في بيته وكان يؤتى بتمر الصدقة يقسمه على من تحل له الصدقة ويدخل بيته تمر يقتات منه أهله فكان في بيته النوعان فلما وجد تلك التمرة لم يدر عليه الصلاة و السلام من أي النوعين هي فأمسك عن أكلها فهذا الحديث أصل في الورع واتقاء الشبهات فما لأهل الوسواس وماله
وأما قولكم : إن مالكا أفتى فيمن طلق ولم يدر : أواحدة طلق أم ثلاثا : إنها ثلاث احتياطا فنعم هذا قول مالك فكان ماذا أفحجة هو على الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وعلى كل من خالفه في هذه المسألة حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله وهذا القول مما يحتج له لا مما يحتج به على أن هذا ليس من باب الوسواس في شيء وإنما حجة هذا القول : أن الطلاق يوجب تحريم الزوجة والرجعة ترفع ذلك التحريم فهو يقول : قد تيقن سبب التحريم وهو الطلاق وشك في رفعه بالرجعة فإنه يحتمل أن يكون رجعيا فترفعه الرجعة ويحتمل أن يكون ثلاثا فلا ترفعه الرجعة فقد تيقن سبب التحريم وشك فيما يرفعه
والجمهور يقولون : النكاح متيقن والقاطع له المزيل لحل الفرج مشكوك فيه فإنه يحتمل أن يكون المأتي به رجعيا فلا ييزل النكاح ويحتمل أن يكون بائنا فيزيله فقد تيقنا يقين النكاح وشككنا فيما يزيله فالأصل بقاء النكاح حتى يتيقن بما يرفعه
فإن قلتم : فقد تيقن التحريم وشك في التحليل قلنا : الرجعية ليست بحرام عندكم ولهذا تجوزون وطأها ويكون رجعة إذا نوى به الرجعة
فإن قلتم : بل هي حرام والرجعة حصلت بالنية حال الوطء قلنا : لا ينفعكم ذلك أيضا

فإنه إنما تيقن تحريما يزول بالرجعة ولم يتيقن تحريما لا تؤثر فيه الرجعة
وليس المقصود تقرير هذه المسئلة والمقصود أنه لا راحة في ذلك لأهل الوسواس
فصل وأما من حلف بالطلاق : أن في هذه اللوزة حبتين ونحو ذلك
مما لا يتيقنه الحالف فبان كما حلف عليه
فهذا لا يحنث عند الأكثرين وكذلك لو لم يتبين الحال واستمر مجهولا فإن النكاح ثابت بيقين فلا يزيله بالشك
ولمالك أصل نازعه فيه غيره وهو إيقاع الطلاق بالشك في الحنث وإيقاعه بالشك في عدده كما تقدم وإيقاعه بالشك في المطلقة كما لو طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها ووقف الحال مدة الإيلاء ولم يتبين طلق عليه الجميع
وكما لو حلف أن هذا فلان أو حيوان وهو غير متيقن له بل هو شاك حال الحلف فتبين أن الأمر كما حلف عليه فإنه يحنث عنده وتطلق امرأته فمن حلف على رجل أنه زيد فتبين أنه غيره أو لم يتبين : أهو المحلوف عليه أم لا حنث عنده وإن تبين أنه المحلوف عليه وكان حال اليمين لا يعلم حقيقته ولا يغلب على ظنه ولا طريق له إلى العلم به في العادة فإنه يحنث عنده لشكه حال الحلف فالحالف يحنث بالمخالفة لما حلف عليه أما في الطلب فبأن يفعل ما حلف على تركه وأما في الخبر فبأن يتبين كذبه وعند مالك يحنث بأمر آخر وهو الشك حال اليمين سواء تبين صدقه أم لا
وأبلغ من هذا : أنه يحنث من حلف بالطلاق على إنسان إلى جانبه إنسان أو حجر : أنه حجر ونحو ذلك مما لا شك فيه
وعمدته في الموضعين : أن الحالف هازل فإن من قال : أنت طالق إذ لم تكوني امرأة أو إن لم أكن رجلا لا معنى لكلامه إلا الهزل فإن هذا مما لا غرض للعقلاء فيه قالوا إن لم يكن هذا هزلا فإن الهزل لا حقيقة له

وربما عللوا الحنث بأنه أراد أن يجزم الطلاق ثم ندم فوصله بما لا يفيد ليرفعه
وأما في القسم الأول : فأصله فيه : تغليب الحنث بالشك كمن حلف ثم شك : هل حنث أم لا فإنهم يأمرونه بفراق زوجته وهل هو للوجوب أم للاستحباب على قولين الأول : لابن القاسم والثاني : لمالك
فمالك يراعي بقاء النكاح وقد شككنا في زواله والأصل البقاء وابن القاسم يقول :
قد صار حل الوطء مشكوكا فيه فيجب عليه مفارقتها والأكثرون يقولون : لا يجب عليه مفارقتها ولا يستحب له فإن قاعدة الشريعة : أن الشك لا يقوى على إزالة الأصل المعلوم ولا يزول اليقين إلا بيقين أقوى منه أو مساو له

فصل وأما من طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها أو طلق واحدة مبهمة
ولم يعينها فقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال : فقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وحماد : يختار أيتهن شاء فيوقع عليها الطلاق في المبهمة وأما في المنسية فيمسك عنهن وينفق عليهن حتى ينكشف الأمر فإن مات الزوج قبل أن يقرع فقال أبو حنيفة : يقسم بينهن كلهن ميراث امرأة
وقال الشافعي : يوقف ميراث امرأة حتى يصطلحن
وقالت المالكية : إذا طلق واحدة منهن غير معلومة عنده بأن قال : أنت طالق ولا يدري من هي طلق الجميع وإن طلق واحدة معلومة ثم أنسيها وقف عنهن حتى يتذكر فإن طال ذلك ضرب له مدة المولى فإن تذكر فيها وإلا طلق عليه الجميع ولو قال :
إحداكن طالق ولم يعينها بالنية طلق الجميع
وقال أحمد : يقرع بينهن في الصورتين نص على ذلك في رواية جماعة من أصحابه وحكاه عن علي وابن عباس
وظاهر المذهب الذي عليه جل الأصحاب أنه لا فرق بين المبهمة والمنسية

وقال صاحب المغني : يخرج المبهمة بالقرعة وأما المنسية فإنه يحرم عليه الجميع حتى تتبين المطلقة ويؤخذ بنفقة الجميع فإن مات أقرع بينهن للميراث قال : وقد روى إسماعيل ابن سعيد عن أحمد ما يدل على أن القرعة لا تستعمل في المنسية لمعرفة الحل وإنما تستعمل لمعرفة الميراث فإنه قال : سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتهن طلق قال : أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة قلت : أفرأيت إن مات هذا قال : أقول بالقرعة وذلك لأنه تصير القرعة على المال قال : وجماعة من روى عنه القرعة في المطلقة المنسية إنما هو في التوريث وأما في الحل فلا ينبغي أن تثبت القرعة قال : وهذا قول أكثر أهل العلم واحتج الشيخ لصحة قوله : بأنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم تحل له إحداهما بالقرعة كما لو اشتبهت عليه بأجنبية لم يكن له عليها عقد ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة فلا ترفع الطلاق عمن وقع عليها ولاحتمال كون المطلقة غير من خرجت عليها القرعة ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه ولو ارتفع التحريم أو زال بالطلاق لما عاد بالذكر فيجب بقاء التحريم بعد القرعة كما كان قبلها قال : وقد قال الخرقي فيمن طلق امرأته فلم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا ومن حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة : لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها فحرمها مع أن الأصل بقاء النكاح ولم يعارضه يقين التحريم فههنا أولى قال : وهكذا الحكم في كل موضع أوقع الطلاق على امرأة بعينها ثم اشتبهت بغيرها مثل أن يرى امرأة في روزنة أو مولية فيقول : أنت طالق ولا يعلم ولا يعلم عينها من نسائه وكذلك إذا أوقع الطلاق على واحدة من نسائه في مسألة الطائر وشبهها فإنه يحرم عليه جميع نسائه حتى تتبين المطلقة ويؤخذ بنفقة الجميع لأنهن محبوسات عليه وإن أقرع بينهن لم تفد القرعة شيئا ولا يحل لمن وقعت عليها القرعة التزويج لأنها يجوز أن تكون غير المطلقة ولا يحل للزوج غيرها لاحتمال أن تكون المطلقة
وقال أصحابنا : إذا أقرع بينهن فخرجت القرعة على إحداهن ثبت حكم الطلاق فيها

فحل لها النكاح بعد انقضاء عدتها وحل للزوج من سواها كما لو كان الطلاق في واحدة غير معينة
وقال شيخنا : الصحيح استعمال القرعة في الصورتين
قلت : وهو منصوص أحمد في رواية الجماعة وأما رواية الشالنجي فإنه توقف وكره أن يقول في الطلاق بالقرعة ولم يعين المنسية ولا المبهمة وأكثر نصوصه على القرعة في الصورتين
قال في رواية الميموني فيمن له أربع نسوة طلق واحدة منهن ولم يدر : يقرع بينهن وكذلك في الأعبد فإن أقرع بينهن فوقعت القرعة على واحدة ثم ذكر التي طلق رجعت هذه التي وقعت عليها القرعة ويقع الطلاق على التي ذكر فإن تزوجت فذاك شيء قد مر
وكذلك نقل أبو الحرث عنه في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن ولم يكن له نية في واحدة بعينها يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ونسيها
فنص على القرعة في الصورتين مسويا بينهما
والذي أفتى به علي رضى الله عنه هو في المنسية وبه احتج أحمد رحمه الله
قال وكيع : سمعت عبدالله قال : سألت أبا جعفر عن رجل كان له أربع نسوة وطلق إحداهن لا يدري أيتهن طلق فقال قال على رضي الله عنه : يقرع بينهن
والأدلة الدالة على القرعة تتناول الصورتين والمنسية قد صارت كالمجهولة شرعا فلا فرق بينها وبين المبهمة المجهولة ولأن في الايقاف والإمساك حتى يتذكر وتحريم الجميع عليه وإيجاب النفقة على الجميع عدة مفاسد له وللزوجات مندفعة شرعا ولأن القرعة أقرب إلى مقاصد الشرع ومصلحة الزوج والزوجات من تركهن معلقات لا ذوات زوج ولا أيامى وتركه هو معلقا لاذا زوج ولا عزبا وليس في الشريعة نظير ذلك بل ليس فيها وقف الأحكام بل الفصل وقطع الخصومات بأقرب الطرق فإذا ضاقت الطرق ولم يبق إلا القرعة تعينت طريقا كما عينها الشارع في عدة قضايا حيث لم يكن هناك غيرها ولم

يوقف الأمر إلى وقت الانكشاف فإنه إذا علم أنه لا سبيل له إلىانكشاف الحال كان إيقاف الأمر إلى آخر العمر من أعظم المفاسد التي لا تأتي بها الشريعة وغاية ما يقدر أن القرعة تصيب التي لم يقع عليها الطلاق وتخطىء المطلقة وهذا لا يضرها ههنا فإنها لما جهل كونها هي التي وقع عليها الطلاق صار المجهول كالمعدوم وكل ما يقدر من المفسدة في ذلك فمثلها في العتق سواء وقد دلت سنة رسول الله عليه الصلاة و السلام الصحيحة الصريحة على إخراج المعتق من غيره بالقرعة وقد نص أحمد على حلع البضع بالقرعة
فقال في رواية ابن منصور وحنبل : إذا زوجها الوليان من رجلين ولم يعلم السابق منهما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حكم أنه الأول
فإذا قويت القرعة على تعيين الزوج في حل البضع له فلأن تقوى على تعيين المطلقة في تحريم بضعها عنه أولى فإن الطلاق مبنى على التغليب والسراية وهو أسرع نفوذا وثبوتا من النكاح من وجوه كثيرة
وقول الشيخ أبي محمد قدس الله تعالى روحه : إنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم تحل له إحداهما بالقرعة كما لو اشتبهت بأجنبية لم يكن عليها عقد
جوابه : بالفرق بين حالتي الدوام والابتداء فإنه هناك شك في هذه الأجنبية هل حصل عقد أم لا والأصل فيها التحريم فإذا اشتبهت بها الزوجة لم يقدم على واحدة منهما وههنا ثبت الحل والنكاح وحصل الشك بعده هل يزول في هذه أو في هذه فإما أن يحرما جميعا أو يحلا جميعا أو يقال له : اختر من ينزل عليه التحريم أو يوقف الأمر أبدا أو يستعمل القرعة والأقسام الأربعة الأول باطلة لا أصل لها في السنة ولم يعتبرها الشارع بخلاف القرعة وبالجملة فلا يصح إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى إذ هناك تحريم متيقن ونحن

نشك في حله وهنا حل متيقن نشك في تحريمه بالنستة إلى كل واحدة
قوله : ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة ولا ترفع الطلاق على من وقع عليه
فيقال : إذا جهلت المطلقة ولم يكن له سبيل إلى تعيينها قامت القرعة مقام الشاهد والمخبر بأنها المطلقة للضرورة حيث تعينت طريقا فالمطلقة المجهولة قد صار طلاقها بعينها كالمعدوم ولو كانت مطلقة في نفس الأمر فإن الشارع لم يكلفنا بما في نفس الأمر بل بما ظهر وبدا ولهذا لو نسي الطلاق بالكلية وأقام على وطئها حتى توفي كانت أحكامه أحكام الزوج والنسب لاحق به والميراث ثابت وهي مطلقة في نفس الأمر ولكن ليست مطلقة في حكم الله كما لو طلع الهلال في نفس الأمر ولم يره أحد من الناس أو كان الهلال تحت الغيم فإنه لا يترتب عليه حكم الشهر ولا يكون طالعا في حكم الله تعالى وإن كان طالعا في نفس الأمر ونظائر هذا كثيرة جدا
فغاية الأمر : أن هذه مطلقة في نفس الأمر ولا علم له بطلاقها فلا تكون مطلقة في الحكم كما لو نسي طلاقها
قوله : ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه ولو ارتفع التحريم أو زال الطلاق لما عاد بالذكر
جوابه : أن القرعة إنما عملت مع استمرار النسيان فإذا زال النسيان بطل عمل القرعة كما أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل حكم تيممه فإن التراب إنما يعمل عند العجز عن الماء فإذا قدر عليه بطل حكمه ونظائر ذلك كثيرة
منها : أن الاجتهاد إنما يعمل به عند عدم النص فإذا تبين النص فلا اجتهاد إلا في إبطال ما خالفه
قوله : وقد قال الخرقي فيمن طلق امرأته ولم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا يلزمه الثلاث ومن حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة لا تحل له امرأته حتى يعلم

أنها ليست التي وقعت اليمين عليها فحرمها مع أن الأصل بقاء النكاح ولم يعارضه يقين التحريم فههنا أولى
فيقال : الخرقي نص على المسئلتين مفرقا بينهما في مختصره فقال : وإذا طلق واحدة من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة وقال : ما حكاه الشيخ عنه في الموضعين فأما من شك : هل طلق واحدة أم ثلاثا فأكثر النصوص أنه إنما يلزمه واحدة وهو ظاهر المذهب والخرقي اختار الرواية الأخرى وهي مذهب مالك وقد تقدم مأخذ القولين وبيان الراجح منهما
وعلى القول بلزوم الثلاث فالفرق بين ذلك وبين إخراج المنسية بالقرعة : أن المجهول في الشرع كالمعدوم فقد جهلنا وقوع الطلاق بأي الزوجتين فلم يتحقق تحريم إحداهما ولم يكن لنا سبيل إلى تحريمهما ولا إباحتهما والوقف مفسدة ظاهرة فتعينت القرعة بخلاف من أوقع على زوجته طلاقا وشك في عدده فإنه قد شك : هل يرتفع ذلك الطلاق بالرجعة أولا يرتفع بها فألزمه بالثلاث فظهر الفرق بينهما على هذا القول وأما على المشهور من المذهب فلا إشكال
وأما من حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة فقد قال الخرقي : إنه يمنع من وطء زوجته حتى يتيقن وهذا يحتمل الكراهة والتحريم ومذهب الشافعي وأبي حنيفة : أنه لا يحنث ولا يحرم عليه وطء زوجته هو اختيار أبي الخطاب وهو الصحيح وإن أراد به التحريم فهو يشبه ما قاله هو ومالك فيمن طلق وشك هل طلق واحدة أم ثلاثا
فصل وأما من حلف على يمين ثم نسيها وقولهم : يلزمه جميع ما
يحلف به فقول شاذ جدا وليس عن مالك إنما قاله بعض أصحابه وسائر أهل العلم على خلافه وأنه لا يلزمه شيء حتى يتيقن كما لو شك : هل حلف أو لا
فإن قيل فينبغي أن يلزمه كفارة يمين لأنها الأقل
قيل : موجب الأيمان مختلف فما من يمين إلا وهي مشكوك فيها هل حلف بها أم لا

وعلى قول شيخنا : يلزمه كفارة يمين حسب لأن ذلك موجب الأيمان كلها عنده

فصل وأما من حلف ليفعلن كذا ولم يعين وقتا فعند الجمهور هو على
التراخي إلى آخر عمره إلا أن يعين بنيته وقتا فيتقيد به فإن عزم على الترك بالكلية حنث حال ه زمه نص عليه أحمد وقال مالك : هو على حنث حتى يفعل فيحال بينه وبين امرأته إلى أن يأتي بالمحلوف عليه وهذا صحيح على أصله في سد الذرائع فإنه إذا كان على التراخي إلى وقت الموت لم يكن لليمين فائدة وصار لا فرق بين الحلف وعدمه والحمل في ذلك على القرينة والعرف إن لم تكن نية ولا يكاد اليمين يتجرد عن هذه الثلاثة
فصل وأما تعليق الطلاق بوقت يجىء لا محالة كرأس الشهر والسنة وآخر
النهار ونحوه فللفقهاء في ذلك أربعة أقوال :
أحدها : أنها لا تطلق بحال وهذا مذهب ابن حزم واختيار أبي عبدالرحمن الشافعي وهو من أجل أصحاب الوجوه
وحجتهم : أن الطلاق لا يقبل التعليق بالشرط كما لا يقبله النكاح والبيع والإجارة والإبراء
قالوا : والطلاق لا يقع في الحال ولا عند مجىء الوقت أما في الحال فلأنه لم يوقعه منجزا وأما عند مجىء الوقت فلأنه لم يصدر منه طلاق حينئذ ولم يتجدد سوى مجىء الزمان ومجى الزمان لا يكون طلاقا
وقابل هذا القول آخرون وقالوا : يقع الطلاق في الحال وهذا مذهب مالك وجماعة من التابعين

وحجتهم : أن قالوا : لو لم يقع في الحال لحصل منه استباحة وطء مؤقت وذلك غير جائز في الشرع لأن استباحة الوطء فيه لا تكون إلا مطلقا غير مؤقت ولهذا حرم نكاح المتعة لدخول الأجل فيه وكذلك وطء المكاتبة ألا ترى أنه لوعرى من الأجل بأن يقول : إن جئتني بألف درهم فأنت حرة لم يمنع ذلك الوطء
قال الموقعون عند الأجل : لا يجوز أن يؤخذ حكم الدوام من حكم الابتداء فإن الشريعة فرقت بينهما في مواضع كثيرة فإن ابتداء عقد النكاح في الإحرام فاسد دون دوامه وابتداء عقده على المعتدة فاسد دون دوامه وابتداء عقده على الأمة مع الطول وعدم خوف العنت فاسد دون دوامه وابتداء عقده على الزانية فاسد عند أحمد ومن وافقه دون دوامه ونظائر ذلك كثيرة جدا
قالوا : والمعنى الذي حرم لأجله نكاح المتعة : كون العقد مؤقتا من أصله وهذا العقد مطلق وإنما عرض له ما يبطله ويقطعه فلا يبطل كما لو علق الطلاق بشرط وهو يعلم أنها تفعله أو يفعله هو ولا بد ولكن يجوز تخلفه
والقول الثالث : أنه إن كان الطلاق المعلق بمجيء الوقت المعلوم ثلاثا وقع في الحال وإن كان رجعيا لم يقع قبل مجيئه وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد نص عليه في رواية مهنا : إذا قال : أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر : هي طالق الساعة كان سعيد ابن المسيب والزهري لا يوقتون في الطلاق قال مهنا : فقلت له : أفتتزوج هذه التي قال لها : أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر قال لا : ولكن يمسك عن الوطء أبدا حتى يموت هذا لفظه
وهو في غاية الإشكال فإنه قد أوقع عليها الطلاق منجزا فكيف يمنعها من التزويح

وقوله : يمسك عن الوطء أبدا يدل على أنها زوجته إلا أنه لا يطؤها وهذا لا يكون
مع وقوع الطلاق فإن الطلاق إذا وقع زالت أحكام الزوجية كلها فقد يقال : أخذ بالاحتياط فأوقع الطلاق ومنعها من التزويج للخلاف في ذلك فحرم وطأها وهو أثر الطلاق ومنعها من التزويج لأن النكاح لم ينقطع بإجماع ولا نص
ووجه هذا : أنه إذا كان الطلاق ثلاثا لم يحل وطؤها بعد الأجل فيصير حال الوطء مؤقتا وإن كان رجعيا جاز له وطؤها بعد الأجل فلا يصير الحال مؤقتا وهذا أفقه من القول الأول
والقول الرابع : أنها لا تطلق إلا عند مجىء الأجل وهو قول الجمهور وإنما تنازعوا هل هو مطلق في الحال ومجىء الوقت شرط لنفوذ الطلاق كما لو وكله في الحال وقال : لاتتصرف إلى رأس الشهر فمجىء رأس الشهر شرط لنفوذ تصرفه لا لحصول الوكالة بخلاف ما إذا قال : إذا جاء رأس الشهر فقد وكلتك ولهذا يفرق الشافعي بينهما فيصحح الأولى ويبطل الثانية أو يقال : ليس مطلقا في الحال وإنما هو مطلق عند مجىء الأجل فيقدر حينئذ أنه قال : أنت طالق فيكون حصول الشرط وتقدير حصول : أنت طالق معا فعلى التقدير الأول : السبب تقدم وتأخر شرط تأثيره وعلى التقدير الثاني : نفس السبب تأخر تقديرا إلى مجىء الوقت وكأنه قال : إذا جاء رأس الشهر فحينئذ أنا قائل لك : أنت طالق فإذا جأء رأس الشهر قدر قائلا لذلك اللفظ المتقدم
فمذهب الحنفية : أن الشرط يمتنع به وجود العلة فإذا وجد الشرط وجدت العلة فيصير وجودها مضافا إلى الشرط وقبل تحققه لم يكن المعلق عليه علة بخلاف الوجوب فإنه ثابت قبل مجىء الشرط فإذا قال : إن دخلت الدار فأنت طالق فالعلة للوقوع : التلفظ بالطلاق والشرط الدخول وتأثيره في امتناع وجود العلة قبله فإذا وجد وجدت
وأصحاب الشافعي يقولون : أثر الشرط في تراخي الحكم والعلة قد وجدت وإنما تراخي تأثيرها إلى وقت مجيء الشرط فالمتقدم علة قد تأخر تأثيرها إلى مجىء الشرط

فصل وأما ما أفتى به الحسن وإبراهيم النخعي ومالك في إحدى الروايتين
عنه : أن من شك هل انتقض وضوءه أم لا وجب عليه أن يتوضأ احتياطا ولا يدخل في الصلاة بطهارة مشكوك فيها
فهذه مسألة نزاع بين الفقهاء
وقد قال الجمهور منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأصحابهم ومالك في الرواية الأخرى عنه إنه لا يجب عليه الوضوء وله أن يصلي بذلك الوضوء الذي تيقنه وشك في انتقاضه واحتجوا بما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه : أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وهذا يعم المصلي وغيره
وأصحاب القول الأول يقولون : الصلاة ثابتة في ذمته بيقين وهو يشك في براءة الذمة منها بهذا الوضوء فإنه على تقدير بقائه هي صحيحة وعلى تقدير انتقاضه باطلة فلم يتيقن براءة ذمته ولأنه شك في شرط الصلاة : هل هو باق أم لا فلا يدخل فيها بالشك
والآخرون يجيبون عن هذا بأنها صلاة مستندة إلى طهارة معلومة قد شك في بطلانها فلا يلتفت إلى الشك ولا يزيل اليقين به كما لو شك : هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة فإنه لا يجب عليه غسله وقد دخل في الصلاة بالشك
ففرقوا بينهما بفرقين :
أحدهما : أن اجتناب النجاسة ليس بشرط ولهذا لا يجب نيته وإنما هو مانع والأصل عدمه بخلاف الوضوء فإنه شرط وقد شك في ثبوته فأين هذا من هذا
الثاني : أنه قد كان قبل الوضوء محدثا وهو الأصل فيه فإذا شك في بقائه كان ذلك رجوعا إلى الأصل وليس الأصل فيه النجاسة حتى نقول : إذا شك في حصوله رجعنا إلى الأصل النجاسة فهنا يرجع إلى أصل الطهارة وهناك يرجع إلى أصل الحدث

قال الآخرون : أصل الحدث قد زال بيقين الطهارة فصارت هي الأصل فإذا شككنا في الحدث رجعنا إليه فأين هذا من الوسواس المذموم شرعا وعقلا وعرفا
فصل وأما قولكم : إن من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب
عليه غسله كله : فليس هذا من باب الوسواس وإنما ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فإنه قد وجب عليه غسل جزء من ثوبه ولا يعلمه بعينه ولا سبيل إلى العلم بأداء هذا الواجب إلا بغسل جميعه

فصل وأما مسألة الثياب التي اشتبه الطاهر منها بالنجس فهذه مسألة
نزاع فذهب مالك في رواية عنه وأحمد : إلى أنه يصلي في ثوب بعد ثوب حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر
وقال الجمهور ومنهم أبو حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى إنه يتحرى فيصلي في واحد منها صلاة واحدة كما يتحرى في القبلة
وقال المزني وأبو ثور : بل يصلي عريانا ولا يصلي في شيء منها لأن الثوب النجس في الشرع كالمعدوم والصلاة فيه حرام وقد عجز عن السترة بثوب طاهر فسقط فرض السترة وهذا أضعف الأقوال
والقول بالتحري هو الراجح الظاهر سواء كثر عدد الثياب الطاهرة أو قل وهو اختيار شيخنا وابن عقيل يفصل فيقول : إن كثر عدد الثياب تحرى دفعا للمشقة وإن قل عمل باليقين
قال شيخنا : اجتناب النجاسة من باب المحظور فإذا تحرى وغلب على ظنه طهارة ثوب منها فصلى فيه لم يحكم ببطلان صلاته بالشك فإن الأصل عدم النجاسة وقد شك فيها في هذا الثوب فيصلي فيه كما لو استعار ثوبا أو اشتراه ولا يعلم حاله

وقول أبي ثور في غاية الفساد فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيرا وأحب إلى الله من صلاته متجردا بادى السوءة للناظرين وبكل حال فليس هذا من الوسواس المذموم

فصل وأما مسألة اشتباه الأواني فكذلك ليست من باب الوسواس وقد
اختلف فيها الفقهاء اختلافا متباينا
فقال أحمد : يتيمم ويتركها وقال مرة يريقها ويتيمم ليكون عادما للماء الطهور بيقين
وقال أبو حنيفة : إن كان عدد الأواني الطاهرة أكثر تحرى وإن تساوت أو كثرت النجسة لم يتحر وهذا اختيار أبي بكر وابن شاقلا والنجاد من أصحاب أحمد وقال الشافعي وبعض المالكية : يتحرى بكل حال وقال عبدالله بن الماجشون : يتوضأ بكل واحد منها وضوءا ويصلي وقال محمد بن مسلمة من المالكية : يتوضأ من أحدها ويصلي ثم يغسل ما أصابه منه ثم يتوضأ من الآخر ويصلي
وقالت طائفة منهم شيخنا يتوضأ من أيها شاء بناء على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فتستحيل المسألة وليس هذا موضع ذكر حجج هذه الأقوال وترجيح راجحها
فصل وأما إذا اشتبهت عليه القبلة فالذي عليه أهل العلم كلهم : أنه
يجتهد ويصلي صلاة واحدة

وشذ بعض الناس فقال : يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات وهذا قول شاذ مخالف للسنة وإنما التزمه قائله في مسألة اشتباه الثياب وهذا ونحوه من وجوه الالتزامات عند المضايق طردا لدليل المستدل : مما لا يلتفت إليها ولا يعول عليها
ونظيره : التزام من التزم اشتراط النية لإزالة النجاسة لما ألزمهم أصحاب أبي حنيفة بذلك قال بعضهم : نقول به
ونظيره : إدراك الجمعة بإدراك تكبيرة مع الإمام لما ألزمت الحنفية من نازعها في ذلك بالتسوية بين الجمعة والجماعة التزمه بعضهم وقال : نقول به

فصل وأما من ترك صلاة من يوم لا يعلم عينها فاختلف الفقهاء في
هذه المسئلة على أقوال :
أحدها : أنه يلزمه خمس صلوات نص عليه أحمد وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وإسحق لأنه لا سبيل له إلى العلم ببراءة ذمته يقينا إلا بذلك
القول الثاني : أنه يصلي رباعية ينوي بها ما عليه ويجلس عقيب الثانية والثالثة والرابعة وهذا قول الأوزاعي وزفر بن الهذيل ومحمد بن مقاتل من الحنفية بناء على أنه يخرج من الصلاة بدون الصلاة على النبيصلى الله عليه وسلم وبدون السلام وأن نية الفرضية تكفي من غير تعيين كما في الزكاة ولا يضر جلوسه عقيب الثالثة إن كانت المنسية رباعية لأنه زيادة من جنس الصلاة لا على وجه العمد
القول الثالث : أنه يجزيه أن يصلي فجرا ومغربا ورباعية ينوي ما عليه وهذا قول سفيان الثوري ومحمد بن الحسن ويخرج على المذهب إذا قلنا بأن نية المكتوبة تكفي من غير تعيين
وقد قال عبدالله بن أحمد : سمعت أبي يسأل : ما تقول في رجل ذكر أن عليه صلاة لم يعينها فصلى ركعتين وجلس وتشهد ونوى بها الغداة ولم يسلم ثم قام فأتى بركعة وجلس فتشهد ونوى بها المغرب وقام ولم يسلم وأتى برابعة ثم جلس فتشهد ونوى بها ظهرا أو عصرا أو عشاء الآخرة ثم سلم فقال له أبي : هذا يجزيه ويقضي عنه على مذهب العراقيين

لأنهم اعتمدوا في التشهد على خبر ابن مسعود : إذا قلت هذا فقد تمت صلاتك وأما على مذهب صاحبنا أبي عبدالله الشافعي ومذهبنا لا يجزىء عنه لأنا نذهب إلى قوله : صلى الله عليه و سلم تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ونذهب إلى الصلاة على رسول اللهصلى الله عليه وسلم فيها هذا لفظه
قال أبو البركات : هذا من أحمد : يبين أن قضاء الواحدة لا يجزيه لتعذر التحليل المعتبر لا لفوات نية التعيين فإذا قضى ثلاثا كما قال الثوري اندفع المفسد وبكل حال فليس في هذا راحة للموسوسين

فصل وأما من شك في صلاته فإنه يبني على اليقين لأنه لا تبرأ
ذمته منه بالشك
وأما تحريم أكل الصيد إذا شك صاحبه : هل مات بالجرح أو بالماء وتحريم أكله

إذا خالط كلابه كلبا من غيره فهو الذي أمر به رسول اللهصلى الله عليه وسلملأنه قد شك في سبب الحل والأصل في الحيوان التحريم فلا يستباح بالشك في شرط حله بخلاف ما إذا كان الأصل فيه الحل فإنه لا يحرم بالشك في سبب تحريمه كما لو اشترى ماء أو طعاما أو ثوبا لا يعلم حاله جاز شربه وأكله ولبسه وإن شك : هل تنجس أم لا فإن الشرط متى شق اعتباره أو كان الأصل عدم المانع لم يلتفت إلى ذلك
فالأول : كما إذا أتى بلحم لا يعلم : هل سمى عليه ذابحه أم لا وهل ذكاه في الحلق واللبة واستوفى شروط الذكاة أم لا لم يحرم أكله لمشقة التفتيش عن ذلك وقد قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله إن ناسا من الأعراب يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا فقال : سموا أنتم وكلوا مع أنه قد نهى عن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى
والثاني كما ذكرنا من الماء والطعام واللباس فإن الأصل فيها الطهارة وقد شك في وجود المنجس فلا يلتفت إليه

فصل وأما ما ذكرتموه عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما فشيء
تفردا به دون الصحابة ولم يوافق ابن عمر على ذلك أحد منهم وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : إن بي وسواسا فلا تقتدوا بي
وظاهر مذهب الشافعي وأحمد : أن غسل داخل العينين في الوضوء لا يستحب وإن أمن الضرر لأنه لم ينقل عن رسول اللهصلى الله عليه وسلمأنه فعله قط ولا أمر به وقد نقل وضوءه جماعة كعثمان وعلي وعبدالله بن زيد والربيع بنت معوذ وغيرهم فلم يقل أحد منهم : إنه غسل داخل عينيه وفي وجوبه في الجنابة روايتان عن أحمد أصحهما أنه لا يجب وهو قول الجمهور وعلى هذا فلا يجب غسلهما من النجاسة وأولى لأن المضرة به أغلب لزيادة التكرار والمعالجة

وقالت الشافعية والحنفية : يجب لأن إصابة النجاسة لهما تندر فلا يشق غسلهما منها وغلا بعض الفقهاء من أصحاب أحمد فأوجب غسلهما في الوضوء وهو قول لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه والصحيح أنه لا يجب غسلهما في وضوء ولا جنابة ولا من نجاسة
وأما فعل أبي هريرة رضي الله عنه فهو شيء تأوله وخالفه فيه غيره وكانوا ينكرونه عليه وهذه المسئلة تلقب بمسئلة إطالة الغرة وإن كانت الغرة في الوجه خاصة
وقد اختلف الفقهاء في ذلك وفيها روايتان عن الإمام أحمد
إحداهما : يستحب إطالتها وبها قال أبو حنيفة والشافعي واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره
والثانية : لا يستحب وهي مذهب مالك وهي اختيار شيخنا أبي العباس
فالمستحبون يحتجون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من أثر الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله متفق عليه ولأن الحلية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء
قال النافون للاستحباب : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إن الله حد حدودا فلا تعتدوها والله سبحانه قد حد المرفقين والكعبين فلا ينبغي تعديهما ولأن رسول اللهصلى الله عليه وسلملم ينقل من نقل عنه وضوءه أنه تعداها ولأن ذلك أصل الوسواس ومادته ولأن فاعله إنما يفعله قربة وعبادة والعبادات مبناها على الاتباع ولأن ذلك ذريعة إلى الغسل إلى الفخذ وإلى الكتف وهذا مما يعلم أن النبيصلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوه ولا مرة وحدة ولأن هذا من الغلو وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم إياكم والغلو في الدين ولأنه تعمق وهو منهي عنه ولأنه عضو من أعضاء الطهارة فكره مجاوزته كالوجه

وأما الحديث فراويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نعيم المجمر وقد قال : لا أدري قوله : فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل من قول رسول اللهصلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة رضي الله عنه روي ذلك عنه الإمام أحمد في المسند
وأما حديث الحلية فالحلية المزينة ما كان في محله فإذا جاوز محله لم يكن زينة
فصل وأما قولكم : إن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال
وتمشية الأمر كيف اتفق إلى آخره
فلعمر الله إنهما لطرفا إفراط وتفريط وغلو وتقصير وزيادة ونقصان وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين في غير موضع كقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ الإسراء : 29 ] وقوله : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا [ الروم : 38 ] وقوله : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ الفرقان : 67 ] وقوله : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [ الأعراف : 31 ]
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا وهي الخيار العدل لتوسطها بين الطرفين المذمومين والعدل هو الوسط بين طرفى الجور والتفريط والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها فخيار الأمور أوساطها قال الشاعر :
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا

فصل ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس وما نجا منها إلا من
لم يرد الله تعالى فتنته : ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور حتى آل الأمر فيها إلى

أن عبد أربابها من دون الله وعبدت قبورهم واتخذت أوثانا وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل ثم جعلت أصناما وعبدت مع الله تعالى
وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول : قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا [ نوح : 21 ]
قال ابن جرير : وكان من خبر هؤلاء فيما بلغنا : ما حدثنا به ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس : أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصورهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال : كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال : كانت آلهة يعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب بعد ذلك فكان ود لكلب بدومة الجندل وكان سواع لهذيل وكان يغوث لبني غطيف من مراد وكان يعوق لهمدان وكان نسر لذي الكلاع من حمير وقال الوالبي عن ابن عباس : هذه أصنام كانت تعبد في زمان نوح عليه السلام
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج قال : قال عطاء عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع

أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسى العلم عبدت
وقال غير واحد من السلف : كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح عليه السلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور وفتنة التماثيل وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول اللهصلى الله عليه وسلمفي الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها : أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول اللهصلى الله عليه وسلمكنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها : مارية فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى
وفي لفظ آخر في الصحيحين : أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها
فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور وهذا كان سبب عبادة اللات
فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد : أفرأيتم اللات والعزى [ النجم : 19 ] قال : كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان يلت السويق للحاج
فقد رأيت أن سبب عبادة ود ويغوث ويعوق ونسرا واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبيصلى الله عليه وسلم
قال شيخنا : وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب ونحو ذلك فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر ولهذا نجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدونهم بقلوبهم عبادة

لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون سدا للذريعة
قال : وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول اللهصلى الله عليه وسلمأن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك : الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وقد تواترت النصوص عن النبي عليه الصلاة و السلام بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول اللهصلى الله عليه وسلملعن فاعله والنهي عنه ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبدالله البجلي قال : سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلمقبل أن يموت بخمس وهو يقول : إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
وعن عائشة وعبدالله بن عباس قالا : لما نزل برسول اللهصلى الله عليه وسلمطفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود

والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا متفق عليه
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وفي رواية مسلم : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك
قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلمفي مرضه الذي لم يقم منه : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا متفق عليه
وقولها : خشى هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره
وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبيصلى الله عليه وسلمقال : إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد
وعن زيد بن ثابت أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد رواه الإمام أحمد
وعن ابن عباس قال : لعن رسول اللهصلى الله عليه وسلمزائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه الإمام أحمد وأهل السنن
وفي صحيح البخاري : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال : القبر القبر وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضي الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور وفعل أنس رضي الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه فإنه لعله لم يره أو لم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه فلما نبهه عمر رضي الله تعالى عنه تنبه وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة وصححه أبو حاتم بن حبان

وأبلغ من هذا : أنه نهى عن الصلاة إلى القبر فلا يكون القبر بين المصلي وبين القبلة
فروى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي رحمه الله أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها
وفي هذا إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسولصلى الله عليه وسلم وهو باطل من عدة أوجه :
منها : أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة كما يقوله المعللون بالنجاسة
ومنها : أنهصلى الله عليه وسلملعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع وليس للنجاسة عليها طريق ألبتة فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون
ومنها : أنه نهى عن الصلاة إليها
ومنها : أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور
ومنها : أن موضع مسجدهصلى الله عليه وسلمكان مقبرة للمشركين فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجدا ولم ينقل ذلك التراب بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه كما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال : لما قدم النبيصلى الله عليه وسلمالمدينة فنزل بأعلى المدينة في حي يقال لهم : بنو عمرو بن عوف فأقام النبيصلى الله عليه وسلمفيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا متقلدي السيوف وكأني أنظر إلى النبيصلى الله عليه وسلمعلى راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال : يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا : لا والله ما نطلب ثمنه إلا إلى الله

فكان فيه ما أقول لكم : قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبيصلى الله عليه وسلمبقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون وذكر الحديث
ومنها : أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التي لا تكاد تخطر ببال المصلي فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى واستغاثتهم وطلب الحوائج منهم واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد وغير ذلك مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة ومما يدل على أن النبيصلى الله عليه وسلمقصد منع هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم
ومنها : أنه لعن المتخذين عليها المساجد ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر فتزول اللعنة وهو باطل قطعا
ومنها : أنه قرن في اللعن بين متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها فهما في اللعنة قرينان وفي ارتكاب الكبيرة صنوان فإن كل ما لعن رسول اللهصلى الله عليه وسلمفهو من الكبائر ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبا يوفض إليه المشركون كما هو الواقع فهكذا اتخاذ المساجد عليها ولهذا قرن بينهما فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها ولهذا حكى الله سبحانه وتعالى عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا : لنتخذن عليهم مسجدا [ الكهف : 21 ]
ومنها : أنهصلى الله عليه وسلمقال : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فذكره ذلك عقيب قوله : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد

وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسولصلى الله عليه وسلممقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغتيه : صيغة لا تفعلوا وصيغة إني أنهاكم ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله فإن هذا وأمثاله من النبيصلى الله عليه وسلمصيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه وغرهم الشيطان فقال : بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين وكلما كنتم أشد لها تعظيما وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد ومن أعدائهم أبعد
ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها : من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم
فأما المشركون فعصوا أمرهم وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم قال الشافعي : أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس
وممن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى : الأثرم في كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه فقال بعد أن ذكر حديث أبي سعيد : أن النبيصلى الله عليه وسلمقال : جعلت لي الأرض مسجدا إلا المقبرة والحمام وحديث زيد بن جبير عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر : أن النبيصلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبع مواطن وذكر منها المقبرة قال الأثرم : إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد

فصل ومن ذلك اتخاذها عيدا والعيد : ما يعتاد مجيئه وقصده :
من مكان وزمان
فأما الزمان فكقولهصلى الله عليه وسلم يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى : عيدنا أهل الإسلام رواه أبو داود وغيره
وأما المكان فكما روي أبو داود في سننه أن رجلا قال : يا رسول الله إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال : أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم قالا : لا قال : فأوف بنذرك وكقوله : لا تجعلوا قبري عيدا
والعيد : مأخوذ من المعاودة والاعتياد فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة أو لغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله تعالى عيدا للحنفاء ومثابة كما جعل أيام التعبد فيها عيدا
وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة البيت الحرام وعرفة ومنى والمشاعر

فاتخاذ القبور عيدا هو من أعياد المشركين التي كانوا عليها قبل الإسلام وقد نهى عنه رسول اللهصلى الله عليه وسلم في سيد القبور منبها به على غيره
فقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح قال : قرأت على عبدالله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبرى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلملا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتمصلى الله عليه وسلم وهذا إسناد حسن رواته كلهم ثقات مشاهير
وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي ابن الحسين : أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبيصلى الله عليه وسلمفيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال : ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال : لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم رواه أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي في مختاراته
وقال سعيد بن منصور في السنن : حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلملا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني
وقال سعيد : حدثنا عبدالعزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال : رآني الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال : هلم إلى العشاء فقلت : لا أريده فقال : مالي رأيتك عند القبر فقلت : سلمت على النبيصلى الله عليه وسلم فقال : إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال : إن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن

الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسندا
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه : ووجه الدلالة : أن قبر رسول اللهصلى الله عليه وسلمأفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان ثم إنه قرن ذلك بقوله : ولا تتخذوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري العبادة عند القبور وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم ثم إنه عقب النهي عن اتخاذه عيدا بقوله : وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك وشبها من اليهود بالتحريف فقال : هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه ونهي أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين فكأنه قال : لا تجعلوه بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول واقصدوه كل ساعة وكل وقت وهذا مراغمة ومحادة لله ومناقضة لما قصده الرسولصلى الله عليه وسلم وقلب للحقائق ونسبة الرسولصلى الله عليه وسلمإلى التدليس والتلبيس بعد التناقض فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله : لا تجعلوه عيدا فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان فإن لم يكن هذا تنقيصا فليس للتنقيص حقيقة فينا كمن يرمى أنصار الرسولصلى الله عليه وسلموحزبه بدائه ومصابه وينسل كأنه بريء ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته وهكذا

غيرت ديانات الرسل ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الدابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله
ولو أراد رسول اللهصلى الله عليه وسلمما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن ويلعن فاعل ذلك فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد وكيف يقول أعلم الخلق بذلك ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا وكيف يقول : لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على حيثما كنتم وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف
وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبرهصلى الله عليه وسلم واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علىBه وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا
قال شيخنا : فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول اللهصلى الله عليه وسلمقرب النسب وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط

فصل ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا
يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله تعالى وغيرة على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك
ولكن ما لجرح بميت إيلام

فمن مفاسد اتخاذها أعيادا : الصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرءوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتبا كوا حتى تسمع لهم النشيج ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد ونادوا ولكن من مكان بعيد حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلامن الميت ورضوانا وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولى العاهات والبليات ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفدالبيت الحرام ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق وقربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين فلو رأيتهم يهنىء بعضهم بعضا ويقول : أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام فيقول : لا ولو بحجك كل عام
هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم : إذ هي فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور

وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهي عنه لما يؤول إليه وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته والشر والضلال في معصيته ومخالفته
ورأيت لأبي الوفاء بن عقيل في ذلك فصلا حسنا فذكرته بلفظه قال : لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال : وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع : من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها : يا مولاي افعل بي كذا وكذا وأخذ تربتها تبركا وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداءبمن عبداللات والعزى والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء ولم يقل الحمالون على جنازته : الصديق أبو بكر أو محمد وعلى أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر ولم يخرق ثيابه إلى الذيل ولم يرق ماء الورد على القبر انتهى
ومن جمع بين سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلمفي القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأي أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا
فنهى رسول اللهصلى الله عليه وسلمعن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى
ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها
ونهى أن تتخذ عيداوهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال علي

بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللهصلى الله عليه وسلمأن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته وفي صحيحه أيضا عن ثمامة بن شفي قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفى صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال : سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلميأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها عن الأرض كالبيت ويعقدون عليها القباب
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال : نهى رسول اللهصلى الله عليه وسلمعن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه بناء
ونهى عن الكتابة عليها كما روى أبو داود والترمذي في سننهما عن جابر رضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها قال الترمذي : حديث حسن صحيح وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود من حديث جابر أيضا : أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص
ونهى عمر بن عبدالعزيز أن يبنى القبر بآجر وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره
وأوصى الأسود بن يزيد : أن لا تجعلوا على قبري آجرا
وقال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الآجر على قبورهم
وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة : أن لا تضربوا علي فسطاطا
وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاط
والمقصود : أن هؤلاء المعظعمين للقبور المتخذينها أعيادا الموقدين عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم

محادون لما جاء به وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه قال أبو محمد المقدسي : ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن النبيصلى الله عليه وسلممن فعله ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام قال : ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولأن النبيصلى الله عليه وسلمقال : لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا متفق عليه وقالت عائشة : إنما لم يبرز قبر رسول اللهصلى الله عليه وسلملئلا يتخذ مسجدا لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها انتهى
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا ووضعوا له مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الاسلام ودخول في دين عباد الأصنام فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول اللهصلى الله عليه وسلموقصده : من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره فمنها : تعظيمها الموقع في الافتتان بها ومنها : اتخاذها عيدا ومنها : السفر إليها ومنها : مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها : من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها وعبادها يرجعحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد والويل عندهم لقيتمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها ومنها : النذر لها ولسدنتها ومنها : اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء وينصر على الاعداء ويستنزل غيث السماء وتفرج الكروب وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك ومنها : الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها : الشرك الأكبر الذي يفعل عندها ومنها : إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة كما أن المسيح يكره

ما يفعله النصارى عند قبره وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرءون منهم كما قال تعالى : ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادى هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا [ الفرقان : 17 ] قال الله للمشركين : فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا [ الفرقان : 19 ] الآية وقال تعالى : وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ سبأ : 41 ]
ومنها : مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها ومنها : محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها ومنها : التعب العظيم مع الوزر الكثير والإثم العظيم ومنها : إماتة السنن وإحياء البدع
ومنها : تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله فإن عباد القبور يعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة على الموتى مالا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه ومنها : أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عمروا المشاهد وأخربوا المساجد
ومنها : أن الذي شرعه الرسولصلى الله عليه وسلمعند زيارة القبور : إنما هو تذكرالآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم واستنزال البركات منه ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت

ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له
فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التي شرعها الله تعالى على لسان رسولهصلى الله عليه وسلم ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الإشراك التي شرعها لهم الشيطان واختر لنفسك
قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول اللهصلى الله عليه وسلمكلما كان ليلتها منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد رواه مسلم
وفي صحيحه عنها أيضا : أن جبريل أتاه فقال : إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت : كيف أقول لهم يا رسول الله قال : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون
وفي صحيحه أيضا عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول اللهصلى الله عليه وسلميعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا : السلام على أهل الديار وفي لفظ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية وعن بريدة قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرا رواه أحمد والنسائي

وكان رسول اللهصلى الله عليه وسلمقد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم أن يقولوا هجرا فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها ومن أعظم الهجر : الشرك عندها قولا وفعلا
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم زوروا القبور فإنها تذكر الموت
وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة رواه الإمام أحمد
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : مر رسول اللهصلى الله عليه وسلمبقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال : السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم ونحن بالأثر رواه أحمد والترمذي وحسنه وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة رواه ابن ماجه
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة
فهذه الزيارة التي شرعها رسول اللهصلى الله عليه وسلملأمته وعلمهم إياها هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه
وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على

النبيصلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا
فقال سلمة بن وردان : رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبيصلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو
ونص على ذلك الأئمة الأربعة : أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة
وفي الترمذي وغيره مرفوعا الدعاء هو العبادة
فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول اللهصلى الله عليه وسلم من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم
وبالجملة فالميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوبا واستحبابا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي
قال عوف بن مالك : صلى رسول اللهصلى الله عليه وسلمعلى جنارة فحفظت من دعائه وهو يقول : اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك الميت رواه مسلم
وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول في صلاته على الجنازة : اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفر له رواه الامام أحمد
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء
وقالت عائشة وأنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : ما من ميت يصليعليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه رواه مسلم

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه رواه مسلم
فهذا مقصود الصلاة على الميت وهو الدعاء له والاستغفار والشفاعة فيه
ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة منه على نعشه فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره وقد كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول : سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل
فعلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن فإذا كنا على جنازته ندعو له لا ندعو به ونشفع له لا نشفع به فبعد الدفن أولى وأحرى
فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم : بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه والشفاعة له بالاستشفاع به وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول اللهصلى الله عليه وسلمإحسانا إلى الميت وإحسانا إلى الزائر وتذكيرا بالآخرة : سؤال الميت والإقسام به على الله وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار
ومن المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم أو الدعاء عندهم مشروعا وعملا صالحا ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول اللهصلى الله عليه وسلم ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون
فهذه سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلمفي أهل القبور بضعا وعشرين سنة حتى توفاه الله تعالى وهذه سنة خلفائه الراشدين وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان هل يمكن بشرعلى وجه الأرض أن يأتى عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع : أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها فضلا أن يصلوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها أو يسألوهم حوائجهم فليوقفونا على أثر واحد أو حرف واحد في ذلك بلى يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر حتى لقد وجد في ذلك عدة

مصنفات ليس فيها عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك بلى فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمناه من الأحاديث المرفوعة
وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها وقد ذكرنا إنكار عمر رضي الله عنه على أنس رضي الله عنه صلاته عند القبر وقوله له القبر القبر
وقد ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال : حدثنا أبو العالية قال : لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأه قرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية : ما كان فيه قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت : فما صنعتم بالرجل قال : حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه فقلت : وما يرجون منه قال : كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون فقلت : من كنتم تظنون الرجل قال : رجل يقال له : دانيال فقلت : مذ كم وجدتموه مات قال : مذ ثلاثمائة سنة قلت : ما كان تغير منه شيء قال : لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره

لئلا يفتتن به الناس ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به المستأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانى هذا ولا يقاربه وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد أعظم من المساجد
فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك ودعوا عنده وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلمبالأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعاه ولا دعا به ولا دعا عنده ولا استشفى به ولا استسقى به ولا استنصر به ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل على نقل ما هو دونه
وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة أولا يكون فإن كان أفضل فكيف خفي علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم وتظفر به الخلوف علما وعملا ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير لا سيما الدعاء فإن المضطر يتشبث بكل سبب وإن كان فيه كراهة ما فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونه هذا محال طبعا وشرعا
فتعين القسم الآخر وهو أنه لا فضل للدعاء عندها ولا هو مشروع ولا مأذون فيه بقصد الخصوص بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله ألبتة بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله ولم ينزل بها سلطانا
وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير
فروى غير واحد عن المعرور بن سويد قال : صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل [ الفيل : 1 ] و لإيلاف قريش ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال : أين يذهب هؤلاء فقيل : يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهم يصلون فيه فقال :

إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها وكذلك أرسل عمر رضي الله تعالى عنه أيضا فقطع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
بل قد أنكر رسول اللهصلى الله عليه وسلمعلى الصحابة لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلعقون عليها أسلحتهم ومتاعهم بخصوصها
فروى البخاري في صحيحه عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول اللهصلى الله عليه وسلمقبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها : ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون [ الأعراف : 138 ] لتركبن سنن من كان قبلكم
فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون
قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك : فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البراء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها
ومن له خبرة بما بعث الله تعالى به رسوله وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل :
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب والأمر والله أعظم مما ذكرنا

وقد ذكر البخاري في الصحيح عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت دخل على أبو الدرداء مغضبا فقلت له : مالك فقال : والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمدصلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعا
وروي مالك في الموطأ عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة يعني الصحابة رضي الله عنهم
وقال الزهرى : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت له : ما يبكيك فقال : ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت ذكره البخاري
في لفظ آخر ما كنت أعرف شيئا على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلمإلا قد أنكرته اليوم
وقال الحسن البصري : سأل رجل أبا الدرداء رضي الله عنه فقال : رحمك الله لو أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمبين أظهرنا هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه فغضب واشتد غضبه وقال : وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه
وقال المبارك بن فضالة : صلى الحسن الجمعة وجلس فبكى فقيل له : ما يبكيك يا أبا سعيد فقال : تلومونني على البكاء ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلمأنتم اليوم عليه إلا قبلتكم هذه
وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يتخذونها سنة إذا غيرت قيل : غيرت السنة أو هذا منكر
وهذا مما يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة به ولا إلتفات إليه فإن العمل قد جرى على خلاف السنة منذ زمن أبي الدرداء وأنس كما تقدم
وذكر أبو العباس أحمد بن يحيى قال : حدثني محمد بن عبيد بن ميمون حدثني عبدالله

بن إسحق الجعفري قال : كان عبدالله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة قال : فتذاكروا يوما السنن فقال رجل كان في المجلس : ليس العمل على هذا فقال عبدالله : أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام فهم الحجة على السنة فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء
فصل ومن أعظم مكايده : ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام التي هي
من عمله وقد أمر الله تعالى باجتناب ذلك وعلق الفلاح باجتنابه فقال : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ المائده : 90 ] فالأنصاب : كل ما نصب يعبد من دون الله : من حجر أو شجر أو وثن أو قبر وهي جمع واحدها نصب كطنب وأطناب قال مجاهد : وقتادة وابن جريج : كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها قالوا : وليست بأصنام إنما الصنم ما يصور وينقش وقال ابن عباس : هي الأصنام التي يعبدونها من دون الله تعالى وقال الزجاج : حجارة كانت لهم يعبدونها وهي الأوثان وقال الفراء : هي الآلهة التي كانت تعبد من أحجار وغيرها

وأصل اللفظة : الشيء المنصوب الذي يقصده من رآه ومنه قوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ المعارج : 43 ]
قال ابن عباس : إلى غاية أو علم يسرعون
وهو قول أكثر المفسرين
وقال الحسن : يعني إلى أنصابهم أيهم يستلمها أولا
قال الزجاج : وهذا على قراءة من قرأ نصب بضمتين كقوله وما ذبح على النصب [ المائده : 3 ] قال : ومعناه : أصنام لهم والمقصود : أن النصب كل شيء نصب : من خشبة أو حجر أو علم والإيفاض : الإسراع
وأما الأزلام : فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هي قداح كانوا يستقسون بها الأمور أي يطلبون بها علم ما قسم لهم
وقال سعيد بن جبير : كانت لهم حصيات إذا اراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها
وقال أيضا : هي القدحان اللذان كان يستقسم بهما أهل الجاهلية في أمورهم أحدهما عليه مكتوب : أمرني ربي والآخر : نهاني ربي فإذا أرادوا أمراضربوا بها فإن خرج الذي عليه أمرني فعلوا ما هموا به وإن خرج الذي عليه نهاني تركوه
وقال أبو عبيد : الاستقسام : طلب القسمة
وقال المبرد : الاستقسام أخذ كل واحد قسمه وقيل الاستقسام : إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح كقسم اليمين
وقال الأزهري : وإن تستقسموا بالأزلام أي تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين
وقال أبو اسحاق الزجاج وغيره : الاستقسام بالأزلام حرام ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجم : لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج من أجل طلوع نجم كذا لأن الله تعالى يقول : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [ لقمان : 34 ]

وذلك دخول في علم الله عز و جل الذي هو غيب عنا فهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله تعالى
والمقصود : أن الناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام فالأنصاب للشرك والعبادة والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله به هذه للعلم وتلك للعمل ودين الله سبحانه وتعالى مضاد لهذا وهذا والذي جاء به رسول اللهصلى الله عليه وسلمإبطالهما وكسرالأنصاب والأزلام
فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين : من شجرة أو عمود أو وثن أو قبر أو خشبة أو عين ونحو ذلك والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره كما أمر النبيصلى الله عليه وسلمعليا رضي الله عنه بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللهصلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا الا سويته وعمى الصحابة بأمر عمر رضي الله عنه قبر دانيال وأخفوه عن الناس ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بايع تحتها رسول اللهصلى الله عليه وسلمأصحابه أرسل فقطعها رواه ابن وضاح في كتابه :
فقال : سمعت عيسى بن يونس يقول : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبيصلى الله عليه وسلم

فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة
قال عيسى بن يونس : وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر رضي الله عنه
فإذا كان هذا فعل عمر رضي الله عنه بالشجرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن وبايع تحتها الصحابة رسول اللهصلى الله عليه وسلمفماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بها
وأبلغ من ذلك : أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمهدم مسجد الضرار ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادا منه كالمساجد المبنية على القبور فإن حكم الإسلام فيها : أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار وكذلك القباب التي على القبور يحب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم فبناء أسس على معصيته ومخافته بناء غير محرم وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا
وقد أمر رسول اللهصلى الله عليه وسلمبهدم القبور المشرفة كما تقدم
فهدم القباب والبناء والمساجد التي بنيت عليها أولى وأحرى لأنه لعن متخذي المساجد عليها ونهى عن البناء عليه فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول اللهصلى الله عليه وسلمفاعله ونهى عنه والله عز و جل يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما فهو أشد غيرة وأسرع تغييرا
وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج فلى قبر وطفيه فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يصح هذا الوقف ولا يحل إثباته وتنفيذه

قال الإمام أبو بكر الطرطوشي : انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها
وقال الحافظ ابو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب : الحوادث والبدع : ومن هذا القسم أيضا ما قد عم به الابتلاء : من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا إلى ان يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث ثم ساق حديث أبي واقد أنهم مروا مع رسول اللهصلى الله عليه وسلمبشجرة عظيمة خضراء يقال لها : ذات أنواط فقالوا : يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبيصلى الله عليه وسلم الله أكبر هذا كما قال قوم موسى لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال : إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية : أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق فمن تعذر عليه نكاح أو ولد قال : امضوا بي إلى العافية فيعرف فيها الفتنة فخرج في السحر فهدمها وأذن للصبح عليها ثم

قال : اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا قال : فما رفع لها رأس إلى الآن
وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين كالعمود المخلق والنصب الذي كان بمسجد النارنج عند المصليىيعبده الجهال والنصب الذي كان تحت الطاحون الذي عند مقابر النصارى ينتابه الناس للتبرك به وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به وقطع الله سبحانه النصب الذي كان عند الرحبة يسرج عنده ويتبرك به المشركون وكان عمودا طويلاعلى رأسه حجر كالكرة وعند مسجد درب الحجر نصب قد بنى عليه مسجد صغير يعبده المشركون يسر الله كسره
فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ويقولون : إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله تعالى فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى كما ذكر الأزرقي في كتاب تاريخ مكة عن قتادة في قوله تعالى : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ البقره : 125 ] قال : إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق
وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب : فتنة أنصاب القبور وهي أصل فتنة عبادة الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين وقد تقدم
ومن أعظم كيد الشيطان : أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله ثم يوحي إلى أوليائه : أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا فقد تنقصه وهضم حقه فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه وذنبه عند أهل الإشراك : أمره بما أمر الله به ورسوله ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله : من جعله وثنا وعيدا وإيقاد السرج عليه وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه وإشادته وتقبيله واستلامه ودعائه أو الدعاء به أو السفر إليه أو الاستغاثة به من دون الله مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله : من تجريد التوحيد لله

وأن لا يعبد إلا الله فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون واشمأزت قلوبهم وقالوا : قد تنقص أهل الرتب العالية وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وسرى ذلك في نفوس الجهال والطعام وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله ويأبى الله ذلك فما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له العارفون بما جاء به الداعون إليه لا المتشبعون بما لم يعطوا لابسو ثياب الزور الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم ويبغونها عوجا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا

فصل ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم صراط أهل
نعمته ورحمته وكرامته أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانا وأعيادا وأنصابا والنهي عن اتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها وإيقاد السرج عليها والسفر إليها والنذر لها واستلامها وتقبيلها وتعفير الجباه في عرصاتها : غض من أصحابها ولا تنقيص لهم ولا تنقص كما يحسبه أهل الإشراك والضلال بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم ومتابعتهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه فأنت والله وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم وسنتهم وعلى هديهم ومنهاجهم وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم كالنصارى مع المسيح واليهود مع موسى عليهما السلام والرافضة مع علي رضي الله عنه فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض
فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أعيادا

فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا إلى تكثير أجورهم باتباعه لهم ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر فأي تعظيم لهم واحترام في هذا وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المتبدعة التي يكرهها الله ورسوله لإعراضهم عن المشروع أو بعضه وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هجروا حقيقته المقصودة منه وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه عارفا بما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح مهتمزا بها كل الاهتمام أغنته عن الشرك وكل من قصر فيها أو في بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك ومن أصغى إلى كلام الله بقلبه وتدبره وتفهمه أغناه عن السماع الشيطاني الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وينبت النعفاق في القلب وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسولصلى الله عليه وسلمبكلعيته وحدث نفسه باقتباس الهدى والعلم منه لا من غيره أغناه عن البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس النفوس وتخيلاتها ومن بعد عن ذلك فلابد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه كما أن من غمر قلبه بمحبة الله تعالى وذكره وخشيته والتوكل لعيه والإنابة إليه أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه وأغناه أيضا عن عشق الصور وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه أي شيء استحسنه ملكه واستعبده فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أو أبى والمعرض عن السنة مبتدع ضال شاء أم أبى والمعرض عن محبة الله وذكره عبد الصور شاء أم أبى والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [ فصل ] فإن قيل : فما الذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها مع العلم بأن ساكنيها أموات لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا قيل : أوقعهم في ذلك أمور : منها : الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله بل جميع الرسل : من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك فقل نصيبهم جدا من ذلك ودعاهم الشيطان إلى الفتنة ولم يكن

عندهم من العلم ما يبطل دعوته فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل وعصموا بقدر ما معهم من العلم
ومنها : أحاديث مكذوبة مختلقة وضعها أشباه عباد الأصنام : من المقابرية على رسول اللهصلى الله عليه وسلمتناقض دينه وما جاء به كحديث : إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وحديث : لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها المشركون وراجت على أشباههم من الجهال الضلال والله بعث رسوله يقتل من حسن ظنه بالأحجار وجنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق كما تقدم
ومنها : حكايات حكيت لهم عن تلك القبور : أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت له وفلانا نزل به ضرفاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير يطول ذكره وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات والنفوس مولعة بقضاء حوائجها وإزالة ضروراتها ويسمع بأن قبر فلان ترياق مجرب والشيطان له تلطف في الدعوة فيدعوهم أولا إلى الدعاء عنده فيدعو العبد بحرقة وانكسار وذلة فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لأجل القبر فإنه لو دعاه كذلك في الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرا في إجابة تلك الدعوة والله سبحانه يجيب دعوة المضطر ولو كان كافرا وقد قال تعالى : كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا  وقد قال الخليل : وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر [ البقره : 126 ] فقال الله سبحانه وتعالى : ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [ البقره : 126 ]
فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضيا عنه ولا محبا له ولا راضيا بفعله فإنه يجيب البر والفاجر والمؤمن والكافر وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدى فيه أو يشترط في دعائه أو يكون مما لا يجوز أن يسأل فيحصل له ذلك أو بعضه فيظن أن عمله صالح

أقسام الكتاب
1 2 3 4