كتاب : إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية

مرضي لله ويكون بمنزلة من أملى له وأمد بالمال والبنين وهو يظن أن الله تعالى يسارع له في الخيرات وقد قال تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء [ الأنعام : 44 ]
فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعي وقد يكون مسألة تقضى به حاجته ويكون مضرة عليه إما أن يعاقب بما يحصل له أو تنقص به درجته فيقضي حاجته ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه واعتداء حدوده
والمقصود : أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى : من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به وهذا أعظم من الذي قبله فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك
فقال أبو الحسين القدوري في شرح كتاب الكرخي : قال بشر بن الوليد : سمعت أبا يوسف يقول : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به قال : وأكره أن يقول : أسألك بمعقد العز من عرشك وأكره أن يقول : بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام
قال أبو الحسين : أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم لأنه لا حق لغير الله عليه وإنما الحق لله على خلقه وأما قوله : بمعقد العز من عرشك فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف
وقال : وروى أن النبيصلى الله عليه وسلمدعا بذلك قال : ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش مع عظمته فكأنه سأله بأوصافه

وقال ابن بلدجى في شرح المختار : ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به فلا يقول : أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على خالقه أو يقول في دعائه : أسألك بمعقد العز من عرشك وعن أبي يوسف جوازه وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه : أكره كذا هو عند محمد حرام وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب وجانب التحريم عليه أغلب وفي فتاوى أبي محمد بن عبدالسلام : أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم وتوقف في نبيناصلى الله عليه وسلم لاعتقاده أن ذلك جاء في حديث وأنه لم يعرف صحة الحديث
فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه ويوقد عليه القنديل ويعلق عليه الستور ويبني عليه المسجد ويعبده بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم
قال شيخنا قدس الله روحه : وهذه الأمور المتبدعة عند القبور مراتب أبعدها عن الشرع : أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس قال : وهؤلاء من جنس عباد الأصنام ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانا وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وكذلك السجود للقبر والتمسح به وتقبيله المرتبة الثانية : أن يسأل الله عز و جل به وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة باتفاق المسلمين
الثالثة : أن يسأله نفسه
الرابعة : أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد

فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك ويقول بعضهم : قبر فلان ترياق مجرب
والحكاية المنقولة عن الشافعي : أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر

فصل في الفرق بين زيارة الموحدين للقبور وزيارة المشركين أما
زيارة الموحدين : فمقصودها ثلاثة أشياء : أحدها : تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ وقد أشار النبيصلى الله عليه وسلمإلى ذلك بقوله : زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة
الثاني : الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به فيهجره ويتناساه كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك فالميت أولى لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم فإذا زاره وأهدى إليه هدية : من دعاء أو صدقة أو أهدى قربة ازداد بذلك سروره وفرحه كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي له ولهذا شرع النبيصلى الله عليه وسلمللزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية فقط ولم يشرع أن يدعوهم ولا أن يدعوا بهم ولا يصلي عندهم
الثالث : إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسولصلى الله عليه وسلم فيحسن إلى نفسه وإلى المزور
وأما الزيارة الشركية : فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام

قالوا : الميت المعظم الذي لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له
قالوا : فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به
وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها
وقالوا : إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور
وبهذا السر عبدت الكواكب واتحذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات واتخذت الأصنام المجسدة لها وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها وبناء المساجد عليها وهو الذي قصد رسول اللهصلى الله عليه وسلمإبطاله ومحوه بالكلية وسد الذرائع المفضية إليه فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده وكانصلى الله عليه وسلمفي شق وهؤلاء في شق
وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور : هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله تعالى
قالوا : فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان فهو شديد التعلق به فما يحصل لذلك من السلطان من الأنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به
فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم وأوجب لهم النار والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم

قال تعالى : أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا
يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض [ الزمر : 43 ]
فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم وهي التي أبطلها الله سبحانه في كتابه بقوله : واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة [ البقره : 123 ] وقوله : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة [ البقره : 254 ] وقال تعالى : وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون [ الأنعام51 ] وقال : الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولى ولا شفيع [ الأنعام32 : 4 ]
فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى : ما من شفيع إلا من بعد إذنه [ يونس : 3 ] وقال : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ البقره : 255 ] فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ولا الشافع شفيع من دونه بل شفيع بإذنه
والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور فالشفاعة التي أبطلها الله : شفاعة الشريك فإنه لا شريك له والتي أثبتها : شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له ويقول : اشفع في فلان ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه وهم الذين ارتضى الله سبحانه
قال تعالى : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ الأنبياء : 28 ] وقال : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا [ طه : 109 ]

فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له وإذنه للشافع فيه فأما المشرك فإنه لا يرتضيه ولا يرضى قوله فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين : رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة
وسر ذلك : أن الأمر كله لله وحده فليس لأحد معه من الأمر شيء وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده : هم الرسل والملائكة المقربون وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئا إلا بعد إذنه لهم وأمرهم ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئا فهم مملوكون مربوبون أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه فإذا أشرك بهم المشرك واتخذهم شفعاء من دونه ظنا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق والرب والمربوب والسيد والعبد والمالك والمملوك والغني والفقير والذي لا حاجة به إلى أحد قط والمحتاج من كلوجه إلى غيره
فالشفعاء عند المخلوقين : هم شركاؤهم فإن قيام مصالحهم بهم وهم أعوانهم وأنصارهم الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس
فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنتقض طاعتهم لهم ويذهبون إلى غيرهم فلا يجدون بدا من قبول شفاعتهم على الكره والرضى فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وكل من في السموات والأرض عبيد له مقهورون بقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة
قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما والله على كل شىء قدير [ المائده : 17 ] وقال سبحانه في سيدة آى القرآن آية الكرسي : له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي

يشفع عنده إلا بإذنه [ البقره : 255 ] وقال : قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض [ الزمر : 44 ]
فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده وأن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه فإنه ليس بشريك بل مملوك محض بخلاف شفاعة أهل الدينا بعضهم عند بعض فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس ويفعلها بعضهم مع بعض ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة المشاهدة عند الناس ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه فإنه الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله
فمتخذ الشفيع مشرك لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده ويطلب رضاه ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه
قال تعالى : أم اتخذو من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا [ الزمر : 43 ] وقال تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ يونس : 18 ]
فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم وإنما تحصل بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له
وسر الفرق بين الشفاعتين : أن شفاعة المخلوق للمخلوق وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده لا خلقا ولا أمرا ولا إذنا بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه

في أمر يكرهه ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض فيقبل شفاعة الشافع وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها ولا يقبلها وقد يتعارض عنده الأمران فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد وبين الشفاعة التي تقتضي القبول فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله : هي سعى في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به ولو على كره منه فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يأمر غيره أو يكرهه على الفعل إما بقوة وسلطان وإما بما يرغبه فلابد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع بها وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع ويأذن له فيها ويحبها منه ويرضى عن الشافع لم يمكن أن توجد والشافع لا يشفع عنده لحاجة الربإليه ولا لرهبته منه ولا لرغبته فيما لديه وإنما يشفع عنده مجرد امتثال لأمره وطاعة له فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر فإن أحدا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله تعالى وخلقه فالرب سبحانه وتعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره وهو في الحقيقة شريكه ولو كان مملوكه وعبده فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر والمعاونة وغير ذلك كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه : من رزق أو نصر أو غيره فكلك منهما محتاج إلى الآخر
ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته تبين له حقيقة التوحيد والشرك والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

فصل ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من
العلم والعقل والدين وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين : سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن وهو رقية اللواط والزنا وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكرا منه وغرورا وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورا فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات وهدأت منهم الحركات وعكفت قلوبهم بكليتها عليه وانصبت انصبابة واحدة إليه فتمايلوا ولا كتمايل النشوان وتكسروا في حركاتهم ورقصهم أرأيت تكسر المخانيث والنسوان ويحق لهم ذلك وقد خالط خماره النفوس ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق وأثواب تشقق وأموال في غير طاعة الله تنفق حتى إذا عمل السكر فيهم عمله وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله واستفزهم بصوبه وحيله وأجلب عليهم برجله وخيله وخز في صدورهم وخزا وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار وتارة كالدباب ترقص وسيط الديار فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام ويا شماتة أعداء الإسلام بالدين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطربا واتخذوا دينهم لهوا ولعبا مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا ولا أزعج له قاطنا ولا أثار فيه وجدا ولا قدح فيه

من لواعج الشوق إلى النار زندا حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره سمعه تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت وعلى أقدامه فرقصت وعلى يديه فصفقت وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت وعلى أنفاسه فتصاعدت وعلى زفراته فتزايدت وعلى نيران أشواقه فاشتعلت فيا أيها الفاتن المفتون والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد وهذه الأحوال السنيات عند تلاوة السور والآيات ولكن كل امرىء يصبو إلى ما يناسبه ويميل إلى ما يشاكله والجنسية علة الضم قدرا وشرعا والمشاكلة سبب الميل عقلا وطبعا فمن أين هذا الإخاء والنسب لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا أفتتخذونه وذرعيته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا 
ولقد أحسن القائل :
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ذبحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النسوان عند ملاهي

وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله
وقال آخر :
برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت : يا قوم انتم على ... شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هوة ... إلى درك كم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم ... لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تنتنا تنتنا
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة المهدي تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض وتحذر من سلوك سبيلهم واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه في تحريم السماع :
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ونسأله أن يرينا الحق حقا فنتبعه والباطل باطلا فنجتنبه وقد كان الناس فيما مضى يستسر أحدهم بالمعصية إذا واقعها ثم يستغفر ويتوب إليه منها ثم كثر الجهل وقل العلم وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا ثم ازداد الأمر إدبارا حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو وسماع الطقطقة والنقير واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت سبيل المؤمنين وخالفت الفقهاء والعلماء وحملة الدين
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [ النساء : 115 ] فرأيت أن أوضح الحق وأكشف عن شبه أهل الباطل بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصى الأرض ودانيها حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها والله ولي التوفيق
ثم قال : أما مالك فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال : إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب

وسئل مالك رحمه الله : عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق
قال : وأما أبو حنيفة : فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب
وكذلك مذهب أهل الكوفة : سفيان : وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه
قلت : مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب وقوله فيه أغلظ الأقوال وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة وأبلغ من ذلك أنهم قالوا : إن السماع فسق والتلذذ به كفر هذا لفظهم ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه
قالوا : ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره
وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي : ادخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض
قالوا : ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره فإن أصر حبسه أو ضربه سياطا وإن شاء أزعجه عن داره
وأما الشافعي : فقال في كتاب أدب القضاء : إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته
وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحق وابن الصباغ
قال الشيخ أبو إسحق في التنبيه : ولا تصح يعني الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر وحمل الخمر ولم يذكر فيه خلافا وقال في المهذب : ولا يجوز على المنافع المحرمة لأنه محرم فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم فقد تضمن كلام الشيخ أمورا

أحدها : أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة
الثاني : أن الاستئجار عليها باطل
الثالث : أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضا عن الميتة والدم
الرابع : أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغني ويحرم عليه ذلك فإنه بذل ماله في مقابلة محرم وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة الخامس : أن الزمر حرام
وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حراما فكيف بما هو أشد منه كالعود والطنبور واليراع ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك فأقل ما فيه : أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور
وكذلك قال أبو زكريا النووي في روضته :
القسم الثاني : أن يغنى ببعض آلات الغناء بما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار يحرم استعماله واستماعه قال : وفي اليراع وجهان صحح البغوي التحريم ثم ذكر عن الغزالي الجواز قال : والصحيح تحريم اليراع وهو الشبابة
وقد صنف أبو القاسم الدولعى كتابا في تحريم اليراع
قد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقال في فتاويه :
أما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة والدفع منفردا فمن لايحصل أو لا يتأمل ربما اعتقد خلافا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي وذلك وهم بين من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد قال : وقولهم في السماع

المذكور : إنه من القربات والطاعات قول مخالف لإجماع المسلمين ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [ النساء : 115 ]
وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء الإسلام منهم : المحللون لما حرم الله والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه
والشافعي وقدماء أصحابه والعارفون بمذهبه : من أغلظ الناس قولا في ذلك
وقد تواتر عن الشافعي أنه قال : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن فإذا كان هذا قوله في التغبير وتعليله : أنه يصد عن القرآن وهو شعر يزهد في الدنيا بغنى به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه فليت شعري ما يقول في سماع التغبير عنده كتفلة في بحر قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون وعابد جاهل قال سفيان بن عيينة : كان يقال : احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين
فصل وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبدالله ابنه : سألت أبي عن الغناء
فقال : الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني : ثم ذكر قول مالك إنما يفعله عندنا الفساق قال عبدالله : وسمعت أبي يقول : سمعت يحيى القطان يقول : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا

قال أحمد : وقال سليمان التيمي : لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله
ونص على كسر الآت اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان
ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية وأرادوا بيعها فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة فقالوا : إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفا أو نحوها وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام

فصل وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد فمن أعظم المحرمات
وأشدها فسادا للدين
قال الشافعي رحمه الله : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته وأغلظ القول فيه وقال : هو دياثة فمن فعل ذلك كان ديوثا
قال القاضي أبو الطيب : وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقا
قال : وكان الشافعي يكره التغبير وهو الطقطقة بالقضيب ويقول وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن
قال : وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام ومستمعه فاسق واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما
قلت : يريد بهما إبراهيم بن سعد وعبيدالله بن الحسن فإنه قال : وما خالف في الغناء إلا رجلان : إبراهيم بن سعد فإن الساجي حكى عنه : أنه كان لا يرى به بأسا والثاني : عبيدالله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وهو مطعون فيه قال أبو بكر الطرطوشي : وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين لأنهم جعلوا الغناء دينا

وطاعة ورأت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة وليس في الأمة من رأى هذا الرأى
قلت : ومن أعظم المنكرات : تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عشية عرفة ويقيمونه أيضا في مسجد الخيف أيام منى وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارا ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم ورأيتهم يقيمونه بعرفات والناس في الدعاء والتضرع والابتهال والضجيج إلى الله وهم في هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء
فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح في عدالة من أقرهم ومنصبه الديني
وما أحسن ما قال بعض العلماء وقد شاهد هذا وأفعالهم :
ألا قل لهم قول عبد ... نصوح وحق النصيحة أن تستمع
متى علم الناس في ديننا ... بأن الغناء سنة تتبع
وأن يأكل المرء أكل الحمار ... ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا : سكرنا بحب الإله ... وما أسكر القوم إلا القصع
كذاك البهائم إن أشبعت ... يرقصها ريها والشبع
ويسكره الناى ثم الغنا ... ويس لو تليت ما انصدع
فيا للعقول ويا للنهى ... ألا منكر منكم للبدع
تهان مساجدنا بالسماع ... وتكرم عن مثل ذاك البيع
وقال آخر وأحسن ما شاء :
ذهب الرجال وحال دون مجالهم ... زمرمن الأوباش والأنذال

زعموا بأنهم على آثارهم ... ساروا ولكن سيرة البطال
لبسوا الدلوق مرقعا وتقشفوا ... كتقشف الأقطاب والأبدال
قطعوا طريق السالكين وغوروا ... سبل الهدى بجهالة وضلال
عمروا ظواهرهم بأثواب التقى ... وحشوا بواطنهم من الأدغال
إن قلت : قال الله قال رسوله ... همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت : قد قال الصحابة والأولى ... تبعوهم في القول والأعمال
أو قلت : قال الآل آل المصطفى ... صلى عليه الله أفضل آل
أو قلت : قال الشافعي : وأحمد ... وأبو حنيفة والإمام العالي
أو قلت : قال صحابهم من بعدهم ... فالكل عندهم كشبه خيال
ويقول : قلبي قال لي عن سره ... عن سرع سري عن صفا أحوالي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي ... عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي ... عن سر ذاتي عن صفات فعالي
دعوى إذا حققتها ألفيتها ... ألقاب زور لفقت بمحال
تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا ... بظواهر الجهال والضلال
جعلوا المرا فتحا وألفاظ الخنا ... شطحا وصالوا صولة الإدلال
نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم ... نبذ المسافر فضلة الأكال
جعلوا السماع مطية لهواهم ... وغلوا فقالوا فيه كل محال
هو طاعة هو قربة هو ... سنة صدقوا لذاك الشيخ ذي الإضلال
شيخ قديم صادهم بتحيل ... حتى أجابوا دعوة المحتال
هجروا له القرآن والأخبار ... والآثار إذ شهدت لهم بضلال
ورأوا سماع الشعر أنفع للفتى ... من أوجه سبع لهم بتوال
تالله ما ظفر العدو بمثلها ... من مثلهم واخيبة الآمال
نصب الحبال لهم فلم يقعوا بها ... فأتى بذا الشرك المحيط الغالي

فإذا بهم وسط العرين ممزقى ... الأثواب والأديان والأحوال
لا يسمعون سوى الذي يهوونه ... شغلا به عن سائر الأشغال
ودعوا إلى ذات اليمين فأعرضوا ... عنها وسار القوم ذات شمال
خروا على القرآن عند سماعه ... صما وعميانا ذوي إهمال
وإذا تلا القارى عليهم سورة ... فأطالها عدوه في الأثقال
ويقول قائلهم : أطلت وليس ذا ... عشر فخفف أنت ذو إملال
هذا وكم لغو وكم صخب وكم ... ضحك بلا أدب ولا إجمال
حتى إذا قام السماع لديهم ... خشعت له الأصوات بالإجلال
وامتدت الأعناق تسمع وحى ... ذاك الشيخ من مترنم قوال
وتحركت تلك الرءوس وهزها ... طرب وأشواق لنيل وصال
فهنا لك الأشواق والأشجان ... والأحوال لا أهلا بذي الأحوال
تالله لو كانوا صحاة أبصروا ... ماذا دهاهم من قبيح فعال
لكنما سكر السماع أشد ... من سكر المدام وذا بلا إشكال
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... نالت من الخسران كل منال
يا أمة لعبت بدين نبيها ... كتلاعب الصبيان في الأوحال
أشمتمو أهل الكتاب بدينكم ... والله لن يرضوا بذي الأفعال
كم ذا نعير منهم بفريقكم ... سرا وجهرا عند كل جدال
قالوا لنا : دين عبادة أهله ... هذا السماع فذاك دين محال
بل لا تجىء شريعة بجوازه ... فسلوا الشرائع تكتفوا بسؤال
لو قلتمو فسق ومعصية وتزيين ... من الشيطان للأنذال
ليصد عن وحى الإله ودينه ... وينال فيه حيلة المحتال
كنا شهدنا أن ذا دين أتى ... بالحق دين الرسل لا بضلال
والله منهم قد سمعنا ذا إلى الآذان من أفواههم بمقال

وتمام ذاك القول بالحيل التي ... فسخت عقود الدين فسخ فصال
جعلته كالثوب المهلهل نسجه ... فيه تفصله من الأوصال
ما شئت من مكر ومن خدع ... ومن حيل وتلبيس بلا إقلال
فاحتل على إسقاط كل فريضة ... وعلى حرام الله بالإحلال
واحتل على المظلوم يقلب ظالما وعلى الظلوم بضد تلك الحال
واقلب وحول فالتحيل كله ... في القلب والتحويل ذو إعمال
إن كنت تفهم ذا ظفرت بكل ما ... تبغى من الأفعال والأقوال
واحتل على شرب المدام وسمها ... غير اسمها واللفظ ذو إجمال
واحتل على أكل الربا واهجر شنا ... عة لفظه واحتل على الابدال
واحتل على الوطء الحرام ولا تقل ... هذا زنا وانكح رخى البال
واحتل على حل العقود وفسخها ... بعد اللزوم وذاك ذو إشكال
إلا على المحتال فهو طبيبها ... يا محنة الأديان بالمحتال
واحتل على نقض الوقوف وعودها ... طلقا ولا تستحي من إبطال
فكر وقدر ثم فصل بعد ذا ... فإذا غلبت فلج في الإشكال
واحتل على الميراث فانزعه م ... الوراث ثم ابلع جميع المال
قد أثبتوا نسبا وحصرا فيكم ... حتى تحوز الإرث للأموال
واعمد إلى تلك الشهادة واجعل ... الإبطال همك تحظ بالابطال
فالحصر إثبات ونفى غير ... معلوم وهذا موضع الاشكال
واحتل على مال اليتيم فإنه ... رزق هنى من ضعيف الحال
لا سوطه تخشى ولا من سيفه ... والقول قولك في نفاذ المال
واحتل على أكل الوقوف فإنها ... مثل السوائب ربة الإهمال
فأبو حنيفة عنده هي باطل ... في الأصل لم تحتج إلى إبطال
فالمال مال ضائع أربابه ... هلكوا فخذ منه بلا مكيال

وإذا تصح بحكم قاض عادل ... فشروطها صارت إلى اضمحلال
قد عطل الناس الشروط وأهملوا ... مقصودها فالكل في إهمال
وتمام ذاك قضاتنا وشهودنا ... فاسأل بهم ذا خبرة بالحال
أما الشهود فهم عدول عن طريق ... العدل في الأقوال والأفعال
زورا وتنميقا وكتمانا ... وتلبيسا وإسرافا بأخذ نوال
ينسى شهادته ويحلف إنه ... ناس لها والقلب ذو إغفال
فإذا رأى المنقوش قال : ذكرتها ... يا للمذكر جئت بالآمال
ويقول قائلهم : أخوض النار في ... نزر يسير ذاك عين خبال
ثقل لى الميزان إني خائض ... للمنكبين أجر بالأغلال
أما القضاة فقد تواتر عنهم ... ما قد سمعت فلا تفه بمقال
ماذا تقول لمن يقول : حكمت أنت ... فاسق أو كافر في الحال
فإذا استغثت أغثت بالجلد الذي ... قد طرقوه كمثل طرق نعال
فيقول طق فتقول : قط فتعارضا ... ويكون قول الجلد ذا إعمال
فأجارك الرحمن من ضرب ومن ... عرض ومن كذب وسوء مقال
هذا ونسبة ذاك أجمعه إلى ... دين الرسول وذا من الأهوال
حاشا رسول الله يحكم بالهوى ... والجهل تلك حكومة الضلال
والله لو عرضت عليه كلها ... لاجتثها بالنقض والإبطال
إلا التي منها يوافق حكمه ... فهو الذي يلقاه بالإقبال
أحكامه عدل وحق كلها ... في رحمة ومصالح وحلال
شهدت عقول الخلق قاطبة بما ... في حكمه من صحة وكمال
فإذا أتت أحكامه ألفيتها ... وفق العقول تزيل كل عقال
حتى يقول السامعون لحكمه : ... ما بعد هذا الحق غير ضلال
لله أحكام الرسول وعدلها ... بين العباد ونورها المتلالى

كانت بها في الأرض أعظم رحمة ... والناس في سعد وفي إقبال
أحكامهم تجرى على وجه السداد ... وحالهم في ذاك أحسن حال
أمنا وعزا في هدى وتراحم ... وتواصل ومحبة وجلال
فتغيرت أوضاعها حتى غدت ... منكورة بتلوث الأعمال
فتغيرت أعمالهم وتبدلت ... أحوالهم بالنقص بعد كمال
لو كان دين الله فيهم قائما ... لرأيتهم في أحسن الأحوال
وإذا همو حكموا بحكم جائر ... حكموا لمنكره بكل وبال
قالوا : أتنكر حكم شرع محمد ... حاشا لذا الشرع الشريف العالي
عجت فروج الناس ثم حقوقهم ... لله بالبكرات والآصال
كم تستحل بكل حكم باطل ... لا يرتضيه ربنا المتعالي
والكل في قعر الجحيم سوى الذي ... يقضى بدين الله لا لنوال
أو ما سمعت بأن ثلثيهم غدا ... في النار في ذاك الزمان الخالي
وزماننا هذا فربك عالم ... هل فيه ذاك الثلث أم هو خالي
يا باغى الإحسان يطلب ربه ... ليفوز منه بغاية الآمال
انظر إلى هدة الصحابة والذي ... كانوا عليه في الزمان الخالى
واسلك طريق القوم أين تيمموا ... خذ يمنة ما الدرب ذات شمال
تالله ما اختاروا لأنفسهم سوى ... سبل الهدى في القول والأفعال
درجوا على نهج الرسول وهديه ... وبه اقتدوا في سائر الأحوال
نعم الرفيق لطالب يبغى الهدى ... فمآله في الحشر خير مآل
القانتين المخبتين لربهم ... الناطقين بأصدق الأقوال
التاركين لكل فعل سيء ... والعاملين بأحسن الأعمال
أهواؤهم تبع لدين نبيهم ... وسواهم بالضد في ذي الحال
ما شابهم في دينهم نفص ... ولا في قولهم شطح الجهول الغالي

عملوا بما علموا ولم يتكلفوا ... فلذاك ما شابوا الهدى بضلال
وسواهم بالضد في الأمرين قد ... تركوا الهدى ودعوا إلى الإضلال
فهم الأدلة للحيارى من يسر ... بهداهم لم يخش من إضلال
وهم النجوم هداية وإضاءة ... وعلو منزلة وبعد منال
يمشون بين الناس هونا ... نطقهم بالحق لا بجهالة الجهال
حلما وعلما مع تقى ... وتواضع ونصيحة مع رتبة الإفضال
يحيون ليلهم بطاعة ربهم ... بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجرى بفيض دموعهم ... مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم ... لعدوهم من أشجع الأبطال
وإذا بدا علم الرهان رأيتهم ... يتسابقون بصالح الأعمال
بوجوههم أثر السجود لربهم ... وبها أشعة نوره المتلالي
ولقد أبان لك الكتاب صفاتهم ... في سورة الفتح المبين العالي
وبرابع السبع الطوال صفاتهم ... قوم يحبهم ذوو إدلال
وبراءة والحشر فيها وصفهم ... وبهل أتى وبسورة الأنفال

فصل هذا السماع الشيطاني المضاد للسماع الرحماني له في الشرع بضعة
عشر اسما : اللهو واللغو والباطل والزور والمكاء والتصدية ورقية الزنا وقرآن الشيطان ومنبت النفاق في القلب والصوت الأحمق والصوت الفاجر وصوت الشيطان ومزمور الشيطان والسمود أسماؤه دلت على أوصافه تبا لذي الأسماء والأصاف فنذكر مخازي هذه الأسماء ووقوعها عليه في كلام الله وكلام رسوله والصحابة ليعلم أصحابه وأهله بما به ظفروا وأي تجارة رابحة خسروا :

فدع صاحب المزمار والدف والغنا وما اختاره عن طاعة الله مذهبا
ودعه يعش في غيه وضلاله ... على تاتنا يحيا ويبعث أشيبا
وفي تنتنا يوم المعاد نجاته ... إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا
سيعلم يوم العرض أي بضاعة ... أضاع وعند الوزن ما خف أو ربا
ويعلم ما قد كان فيه حياته ... إذا حصلت أعماله كلها هبا
دعاه الهدى والغى من ذا يجيبه ... فقال لداعي الغى : أهلا ومرحبا
وأعرض عن داعي الهدى قائلا له : ... هواى إلى صوت المعازف قد صبا
يراع ودف بالصنوج وشاهد ... وصوت مغن صوته يقنص الظبا
إذا ما تغنى فالظباء تجيبه ... إلى أن تراها حوله تشبه الدبا
فما شئت من صيد بغير تطارد ... ووصل حبيب كان بالهجر عذبا
فيا آمري بالرشد لو كنت حاضرا ... لكان توالي اللهو عندك أقربا
فصل فالاسم الأول : اللهو ولهو الحديث قال تعالى : ومن
الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم [ لقمان : 7 ]
قال الواحدى وغيره : أكثر المفسرين : على أن المراد بلهو الحديث : الغناء قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه وقاله عبدالله بن مسعود في رواية أبي الصهباء عنه وهو قول مجاهد وعكرمة
وروى ثور بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 7 ] قال : هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلا ونهارا

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هو اشتراء المغني والمغنية بالمال الكثير والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل وهذا قول مكحول
وهذا اختيار أبي إسحاق أيضا
وقال : أكثر ما جاء في التفسير : أن لهو الحديث ههنا هو الغناء لأنه يلهى عن ذكر الله تعالى
قال الواحدي : قال أهل المعاني : ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال والاختيار وهو كثير في القرآن قال : ويدل على هذا : ما قاله قتادة في هذه الآية : لعله أن لا يكون أنفق مالا قال : وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق
قال الواحدي : وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء ثم ذكر كلام الشافعي في رد الشهادة بإعلان الغناء
قال : وأما غناء القينات : فذلك أشد ما في الباب وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه وهو ما روي أن النبيصلى الله عليه وسلمقال : من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة الآنك : الرصاص المذاب
وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعا إلى النبيصلى الله عليه وسلم
ففي مسند الإمام أحمد ومسند عبدالله بن الزبير الحميدي وجامع الترمذي من حديث أبي أمامة والسياق للترمذي : أن النبيصلى الله عليه وسلمقال : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا نزلت هذه الآية : ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله  وهذا الحديث وإن كان

مداره على عبيدالله بن زحر عن علي بن يزيد الإلهانى عن القاسم فعبيد الله بن زحر ثقة والقاسم ثقة وعلي ضعيف إلا أن للحديث شواهد ومتابعات سنذكرها إن شاء تعالى ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث : بأنه الغناء فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود
قال أبو الصهباء : سألت ابن مسعود عن قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث فقال : والله الذي لا إله غيره هو الغناء يرددها ثلاث مرات
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء
قال الحاكم أبو عبدالله في التفسير من كتاب المستدرك : ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين : حديث مسند
وقال في موضع آخر من كتابه : هو عندنا في حكم المرفوع
وهذا وإن كان فيه نظر فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم فهم أعلم الأمة بمراد الله عز و جل من كتابه فعليهم نزل وهم أول من خوطب به من الأمة وقد شاهدوا تفسيره من الرسولصلى الله عليه وسلمعلما وعملا وهم العرب الفصحاء على الحقيقة فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء وتفسيره : بأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة يشغلهم به عن القرآن فكلاهما لهو الحديث ولهذا قال ابن عباس : لهو الحديث : الباطل والغناء
فمن الصحابة من ذكر هذا ومنهم من ذكر الآخر ومنهم من جمعهما
والغناء أشد لهوا وأعظم ضررا من أحاديث الملوك وأخبارهم فإنه رقية الزنا ومنبت النفاق وشرك الشيطان وخمرة العقل وصده عن القرآن أعظم من صد
غيره من الكلام الباطل لشدة ميل النفوس إليه ورغبتها فيه
إذا عرف هذا فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث

بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا وهو الثقل والصمم وإذا علم منه شيئا استهزأ به فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم فلهم حصة ونصيب من هذا الذم
يوضحه : أنك لا تجد أحدا عنى بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علما وعملا وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك وثقل عليه سماع القرآن وربما حمله الحال على أن يسكت القارىء ويستطيل قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته وأقل ما في هذا : أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه والكلام في هذا مع من قلبه بعض حياة يحس بها فأما من مات قلبه وعظمت فتنته فقد سد على نفسه طريق النصيحة : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزى ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ المائده : 41 ]
فصل الاسم الثاني والثالث : الزور واللغو
قال تعالى : والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما 
قال محمد بن الحنفية : الزور ههنا الغناء وقاله ليث عن مجاهد وقال الكلبى : لا يحضرون مجالس الباطل
واللغو في اللغة : كل ما يلغى ويطرح والمعنى : لا يحضرون مجالس الباطل وإذا مروا بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه ويدخل في هذا : أعياد المشركين كما فسرها به السلف والغناء وأنواع الباطل كلها

قال الزجاج : لا يجالسون أهل المعاصى ولا يمالئونهم ومروا مر الكرام الذين لا يرضون باللغو لأنهم يكرمون أنفسهم عن الدخول فيه والاختلاط بأهله وقد روى أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : مر بلهو فأعرض عنه فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إن أصبح ابن مسعود لكريما وقد أثنى الله سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه بقوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم [ القصص : 55 ]
وهذه الآية وإن كان سبب نزولها خاصا فمعناها عام متناول لكل من سمع لغوا فأعرض عنه وقال بلسانه أو بقلبه لأصحابه : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
وتأمل كيف قال سبحانه : لا يشهدون الزور [ الفرقان : 72 ] ولم يقل : بالزور لأن يشهدون بمعنى : يحضرون فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور فكيف بالتكلم به وفعله والغناء من أعظم الزور
والزور : يقال على الكلام الباطل وعلى العمل الباطل وعلى العين نفسها كما في حديث معاوية لما أخذ قصة من شعر يوصل به فقال : هذا الزور فالزور : القول والفعل والمحل
وأصل اللفظة من الميل ومنه الزور بالفتح ومنه : زرت فلانا إذا ملت إليه وعدلت إليه فالزور : ميل عن الحق الثابت إلى الباطل الذي لا حقيقة له قولا وفعلا

فصل الاسم الرابع : الباطل والباطل : ضد الحق يراد به المعدوم
الذي لا وجود له والموجود الذي مضرة وجوده أكثر من منفعته
فمن الأول : قول الموحد : كل إله سوى الله باطل ومن الثاني قوله : السحر باطل والكفر باطل قال تعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ الإسراء : 81 ]
فالباطل إما معدوم لا وجود له وإما موجود لا نفع له فالكفر والفسوق والعصيان والسحر والغناء واستماع الملاهي : كله من النوع الثاني
قال ابن وهب : أخبرني سليمان بن بلال عن كثير بن زيد : أنه سمع عبيدالله يقول للقاسم بن محمد : كيف ترى في الغناء فقال له القاسم : هو باطل فقال : قد عرفت أنه باطل فكيف ترى فيه فقال القاسم : أرأيت الباطل أين هو قال : في النار قال : فهو ذاك
وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : ما تقول في الغناء أحلال هو أم حرام فقال : لا أقول حراما إلا ما في كتاب الله فقال : أفحلال هو فقال : ولا أقول ذلك ثم قال له : أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء فقال الرجل : يكون مع الباطل فقال له ابن عباس : اذهب فقد أفتيت نفسك
فهذا جواب ابن عباس رضي الله عنهما عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح الخمر والزنا واللواط والتشبيب بالأجنبيات وأصوات المعازف والآلات المطربات فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير وأعظم من فتنته
فمن أبطل الباطل أن تأتي شريعة بإباحته فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع والميتة على المذكاة والتحليل الملعون فاعله على النكاح الذي هو

سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلم وهو أفضل من التخلي لنوافل العبادة فلو كان نكاح التحليل جائزا في الشرع لكان أفضل من قيام الليل وصيام التطوع فضلا أن يلعن فاعله
فصل وأما اسم المكاء والتصدية فقال تعالى عن الكفار : وما كان
صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية 
قال ابن عباس وابن عمر وعطية ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة : المكاء : الصفير والتصدية : التصفيق
وكذلك قال أهل اللغة : المكاء : الصفير يقال : مكا يمكو مكاء إذا جمع يديه ثم صفر فيهما ومنه : مكت است الدابة إذا خرجت منها الريح بصوت ولهذا جاء على بناء الأصوات كالرغاء والعواء والثغاء قال ابن السكيت : الأصوات كلها مضمومة إلا حرفين : النداء والغناء
وأما التصدية : فهي في اللغة : التصفيق يقال : صدى يصدى تصدية إذا صفق بيديه قال حسان بن ثابت يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم :
إذا قام الملائكة انبعثتم ... صلاتكم التصدي والمكاء
وهكذا الأشباه يكون المسلمون في الصلوات الفرض والتطوع وهم في الصفير والتصفيق
قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة ويصفرون ويصفقون
وقال مجاهد : كانوا يعارضون النبيصلى الله عليه وسلمفي الطواف ويصفرون ويصفقون يخلطون عليه طوافه وصلاته ونحوه عن مقاتل
ولا ريب أنهم كانوا يفعلون هذا وهذا

فالمتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق أشباه النوع الأول وإخوانهم المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه النوع الثاني
قال ابن عرفة وابن الأنباري : المكاء والتصدية ليسا بصلاة ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها : المكاء والتصدية فألزمهم ذلك عظيم الأوزار وهذا كقولك : زرته فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة
والمقصود : أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء ولو أنه مجرد الشبه الظاهر فلهم قسط من الذم بحسب تشبههم بهم وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح لئلا يتشبهوا بالنساء فكيف إذا فعلوه لا لحاجة وقرنوا به أنواعا من المعاصي قولا وفعلا

فصل وأما تسميته رقية الزنى فهو اسم موافق لمسماه ولفظ مطابق
لمعناه فليس في رقى الزنى أنجع منه وهذه التسمية معروفة عن الفضيل بن عياض قال ابن أبي الدنيا : أخبرنا الحسين بن عبدالرحمن قال : قال فضيل بن عياض : الغناء رقية الزنى
قال : وأخبرنا إبراهيم بن محمد المروزي عن أبي عثمان الليثي قال : قال يزيد بن الوليد : يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وإنه

لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنى
قال : وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي قال : نزل الحطيئة برجل من العرب ومعه ابنته مليكة فلما جنه الليل سمع غناء فقال لصاحب المنزل : كف هذا عني فقال : وما تكره من ذلك فقال : إن الغناء رائد من رادة الفجور ولا أحب أن تسمعه هذه يعني ابنته فإن كففته والإ خرجت عنك
ثم ذكر عن خالد بن عبدالرحمن قال : كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك فسمع غناء من الليل فأرسل إليهم بكرة فجىء بهم فقال : إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة وإن التيس لينب فتستحرم له العنز وأن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة ثم قال : اخصوهم فقال عمر بن عبد العزيز : هذه المثلة ولا تحل فخل سبيلهم قال : فخلى سبيلهم
قال : وأخبرنا الحسين بن عبدالرحمن قال : قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : جاور الحطيئة قوما من بني كلب فمشى ذو الدين منهم بعضهم إلى بعض وقالوا : يا قوم إنكم قد رميتم بداهية هذا الرجل شاعر والشاعر يظن فيحقق ولا يستأني فيتثبت ولا يأخذ الفضل فيعفو فأتوه وهو في فناء خبائه فقالوا : يا أبا مليكة إنه قد عظم حقك علينا يتخطيك القبائل إلينا وقد أتيناك لنسألك عما تحب فنأتيه وعما تكره فنزدجر عنه فقال : جنبوني ندي مجلسكم ولا تسمعوني أغاني شبيبتكم فإن الغناء رقية الزنى فإذا كان هذا الشاعر المفتون اللسان الذي هابت العرب هجاءه خاف عاقبة الغناء وأن تصل رقيته إلى حرمته فما الظن بغيره ولا ريب أن كل غيور يجنعب أهله سماع الغناء كما يجنبهن أسباب الريب ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنى فهم أعلم بالإثم الذي يستحقه

ومن الأمر المعلوم عند القوم : أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء فحينئذ تعطي الليان
وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدا فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين : من جهة الصوت ومن جهة معناه ولهذا قال النبيصلى الله عليه وسلملانجشة حادية : يا أنجشة رويدك رفقا بالقوارير يعني النساء
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا وكم من حر أصبح به عبدا للصبيان أو الصبايا وكم من غيور تبدل به اسما قبيحا بين البرايا وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان فلم يجد بدا من قبول تلك الهدايا وكم جرع من غصة وأزال من نعمة وجلب من نقمة وذلك منه من إحدى العطايا وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة وغموم متوقعة وهموم مستقبلة
فسل ذا خبرة ينبيك عنه ... لتعلم كم خبايا في الزوايا
وحاذر إن شغفت به سهاما ... مريشة بأهداب المنايا
إذا ما خالطت قلبا كئيبا ... تمزق بين أطباق الرزايا
ويصبح بعد أن قد كان حرا ... عفيف الفرج : عبدا للصبايا
ويعطي من به يغني غناء ... وذلك منه من شر العطايا
فصل وأما تسميته : منبت النفاق فقال علي بن الجعد : حدثنا
محمد بن طلحة عن سعيد بن كعب المروزي عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع

وقال شعبة : حدثنا الحكم عن حماد عن إبراهيم قال : قال عبدالله بن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذمع الملاهي
قال : أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا حرمي بن عمارة حدثنا سلام بن مسكين حدثنا شيع عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل
وقد تابع حرمي بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مسلم بن إبراهيم
قال أبو الحسين بن المنادي في كتاب أحكام الملاهي : حدثنا محمد بن علي بن عبدالله ابن حمدان المعروف بحمدان الوراق حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا سلام بن مسكين فذكر الحديث فمداره على هذا الشيخ المجهول وفي رفعه نظر والموقوف أصح
فإن قيل : فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي
قيل : هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى وقام كل جهول يطبب الناس
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء
فمن خواصه : أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي وينهى عن اتباع

خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه ويهيج النفوس إلى شهوات الغى فيثير كامنها ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح فهو والخمررضيعا لبان وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه وخدينه وصديقه عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ وهو جاسوس القلب وسارق المروءة وسوس العقل يتغلغل في مكامن القلوب ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى محل التخيل فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره وفرح به شيطانه وشكا إلى الله تعالى إيمانه وثقل عليه قرآنه وقال : يارب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه وأبدى من سره ما كان يكتمه وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب والزهزهة والفرقعة بالأصابع فيميل برأسه ويهز منكبيه ويضرب الأرض برجليه ويدق على أم رأسه بيديه ويثب وثبات الدعباب ويدور دوران الحمار حول الدولاب ويصفق بيديه تصفيق النسوان ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران وتارة يتأوه تأوه الحزين وتارة يزعق زعقات المجانين ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول :
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا ... على طيب السماع إلى الصباح
ودارت بيننا كأس الأغاني ... فأسكرت النفوس بغير راح
فلم تر فيهم إلا نشاوى ... سرورا والسرور هناك صاحي
إذا نادى أخو اللذات فيه ... أجاب اللهو : حى على السماح
ولم نملك سوى المهجات شيئا ... أرقناها لألحاظ الملاح
وقال بعض العارفين : السماع يورث النفاق في قوم والعناد في قوم والكذب في قوم والفجور في قوم والرعونة في قوم

وأكثر ما يورث عشق الصور واستحسان الفواحش وإدمانه يثقل القرآن على القلب ويكرهه إلى سماعه بالخاصية وإن لم يكن هذا نفاقا فما للنفاق حقيقة
وسر المسألة : أنه قرآن الشيطان كما سيأتي فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا وأيضا فإن أساس النفاق : أن يخالف الظاهر الباطن وصاحب الغناء بين أمرين إما أن يتهتك فيكون فاجرا أو يظهر النسك فيكون منافقا فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات ومحبة ما يكرهه الله ورسوله : من أصوات المعازف وآلات اللهو وما يدعو إليه الغناء ويهيجه فقلبه بذلك معمور وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر وهذا محض النفاق
وأيضا فإن الإيمان قول وعمل : قول بالحق وعمل بالطاعة وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن والنفاق قول الباطل وعمل البغى وهذا ينبت على الغناء
وأيضا فمن علامات النفاق : قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة ونقر الصلاة وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه وأيضا : فإن النفاق مؤسس على الكذب والغناء من أكذب الشعر فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به ويقبح الحسن ويزهد فيه وذلك عين النفاق
وأيضا فإن النفاق غش ومكر وخداع والغناء مؤسس على ذلك
وأيضا فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه والمغنى يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات قال الضحاك : الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى مؤدب ولده : ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم : أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء

فالغناء يفسد القلب وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق
وبالجملة فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل الذكر والقرآن تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها وبالله التوفيق

فصل وأما تسميته قرآن الشيطان
فمأثور عن التابعين وقد روى في حديث مرفوع قال قتادة : لما أهبط إبليس قال : يا رب لعنتني فما عملي قال : السحر قال : فما قرآني قال : الشعر قال : فما كتابي قال : الوشم قال : فما طعامي قال : كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه قال : فما شرابي قال : كل مسكر قال : فأين مسكني قال : الأسواق قال : فما صوتي قال : المزامير قال : فما مصايدي قال : النساء
هذا والمعروف في هذا وقفه وقد رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة مرفوعا إلى النبيصلى الله عليه وسلم
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان وحيله : حدثنا أبو بكر التميمي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا ابن زجر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : إن إبليس لما أنزل إلى الأرض قال : يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيما فاجعل لي بيتا قال : الحمام قال : فاجعل لي مجلسا قال : الأسواق ومجامع الطرقات قال : فاجعل لي طعاما قال : كل ما لم يذكر اسم الله عليه قال : فاجعل لي شرابا قال : كل مسكر قال : فاجعل لي مؤذنا قال : المزمار قال : فاجعل لي قرآنا قال : الشعر قال : فاجعل لي كتابا قال : الوشم قال : فاجعل لي حديثا قال : الكذب قال : فاجعل لي رسلا قال : الكهنة قال : فاجعل لي مصايد قال : النساء وشواهد هذا الأثر كثيرة فكل جملة منه لها شواهد من السنة أو من القرآن

فكون السحر من عمل الشيطان شاهده قوله تعالى :
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ البقره : 102 ]
وأما كون الشعر قرآنه فشاهده : ما رواه أبو داود في سننه من حديث جبير بن مطعم : أنه رأى رسول اللهصلى الله عليه وسلميصلي فقال : الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : من نفخه ونفثه وهمزه قال : نفثه الشعر ونفخه : الكبر وهمزه : الموتة
ولما علم الله رسوله القرآن وهو كلامه صانه عن تعليم قرآن الشيطان وأخبر أنه لا ينبغي له فقال :
وما علمناه الشعر وما ينبغي له [ يس : 69 ]
وأما كون الوشم كتابه فإنه من عمله وتزيينه ولهذا لعن رسول اللهصلى الله عليه وسلمالواشمة والمستوشمة فلعن الكاتبة والمكتوب عليها
وأما كون الميتة ومتروك التسمية طعامه فإن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر عليه اسم الله عز و جل ويشارك آكله والميتة لا يذكر عليها اسم الله تعالى فهي وكل طعام لا يذكر عليه اسم الله عز و جل من طعامه ولهذا لما سأل الجن الذين آمنوا برسول اللهصلى الله عليه وسلمالزاد قال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه فلم يبح لهم طعام الشياطين وهو متروك التسمية
وأما كون المسكر شرابه فقال تعالى :
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان [ المائده : 90 ] فهو يشرب من الشراب الذي عمله أولياؤه بأمره وشاركهم في عمله فيشاركهم في عمله وشربه وإثمه وعقوبته
وأما كون الأسواق مجلسه ففي الحديث الآخر : أنه يركز رايته بالسوق ولهذا يحضره

اللغو واللغط والصخب والخيانة والغش وكثير من عمله وفي صفة النبيصلى الله عليه وسلمفي الكتب المتقدمة : أنه ليس صخابا بالأسواق
وأما كون الحمام بيته فشاهده كونه غير محل للصلاة وفي حديث أبي سعيد : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ولأنه محل كشف العورات وهو بيت مؤسس على النار وهي مادة الشيطان التي خلق منها
وأما كون المزمار مؤذنه ففي غاية المناسبة فإن الغناء قرآنه والرقص والتصفيق اللذين هما المكاء والتصدية صلاته فلابد لهذه الصلاة من مؤذن وإما ومأموم فالمؤذن المزمار والإمام المغني والمأموم الحاضرون
وأما كون الكذب حديثه فهو الكاذب الآمر بالكذب المزين له فكل كذب يقع في العالم فهو من تعليمه وحديثه
وأما كون الكهنة رسله فلأن المشركين يهرعون إليهم ويفزعون إليهم في أمورهم العظام ويصدقونهم ويتحاكمون إليهم ويرضون بحكمهم كما يفعل أتباع الرسل بالرسل فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب ويخبرون عن المغيبات التي لا يعرفها غيرهم فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل فالكهنة رسل الشيطان حقيقة أرسلهم إلى حزبه من المشركين وشبههم بالرسل الصادقين حتى استجاب لهم حزبه ومثل رسل الله بهم لينفر عنهم ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب ولما كان بين النوعين أعظم التضاد قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد فإن الناس قسمان : أتباع الكهنة وأتباع رسل الله فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء بل يبعد عن رسول اللهصلى الله عليه وسلمبقدر قربه من الكاهن ويكذب الرسول بقدر تصديقه للكاهن

وقوله : اجعل لي مصايد قال : مصايدك النساء فالنساء أعظم شبكة له يصاد بهن الرجال كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الذي بعد هذا
والمقصود : أن الغناء المحرم قرآن الشيطان
ولما أراد عدو الله أن يجمع عليه نفوس المبطلين قرنه بما يزينه من الألحان المطربة وآلات الملاهي والمعازف وأن يكون من امرأة جميلة أو صبي جميل ليكون ذلك أدعى إلى قبول النفوس لقرآنه وتعوضها به عن القرآن المجيد

فصل وأما تسميته بالصوت الأحمق والصوت الفاجر
فهي تسمية الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى
فروى الترمذي من حديث ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال : خرج رسول اللهصلى الله عليه وسلممع عبدالرحمن بن عوف إلى النخل فإذا ابنه ابراهيم يجود بنفسه فوضعه في حجره ففاضت عيناه فقال عبدالرحمن : أتبكي وأنت تنهى الناس قال : إني لم أنه عن البكاء وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة : لهو ولعب ومزامير شيطان وصوت عند مصيبة : خمش وجوه وشق جيوب ورنة وهذا هو رحمة ومن لا يرحم لا يرحم لولا أنه أمر حق ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا وإنا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب قال الترمذي : هذا حديث حسن
فانظر إلى هذا النهي المؤكد بتسميته صوت الغناء صوتا أحمق ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان وقد أقر النبيصلى الله عليه وسلمأبا بكر الصديق على تسمية الغناء مزمور الشيطان في الحديث الصحيح كما سيأتي فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهي أبدا
وقد اختلف في قوله : لا تفعل وقوله نهيت عن كذا أيهما أبلغ في التحريم

والصواب بلا ريب : أن صيغة نهيت أبلغ في التحريم لأن لا تفعل يحتمل النهي وغيره بخلاف الفعل الصريح
فكيف يستحيز العارف إباحة ما نهى عنه رسول اللهصلى الله عليه وسلم وسماه صوتا أحمق فاجرا ومزمور الشيطان وجعله والنياحة التي لعن فاعلها أخوين وأخرج النهي عنهما مخرجا واحدا ووصفهما بالحمق والفجور وصفا واحدا
وقال الحسن : صوتان ملعونان : مزمار عند نغمه ورنة عند مصيبة
وقال أبو بكر الهذلي : قلت للحسن : أكان نساء المهاجرات يصنعن ما يصنع النساء اليوم قال : لا ولكن ههنا خمش وشق جيوب ونتف أشعار ولطم خدود ومزامير شيطان صوتان قبيحان فاحشان : عند نغمة إن حدثت وعند مصيبة إن نزلت ذكر الله المؤمنين فقال : والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم [ المعارج : 24 ] وجعلتم أنتم في أموالكم حقا معلوما للمغنية عند النغمة والنائحة عند المصيبة

فصل وأما تسميته صوت الشيطان
فقد قال تعالى للشيطان وحزبه اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاءكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ الاسراء : 63 ]
قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبي أخبرنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس واستفزز من استطعت منهم بصوتك [ الاسراء : 63 ] قال : كل داع إلى معصية
ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية ولهذا فسر صوت الشيطان به
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي أخبرنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن ليث عن مجاهد

واستفزز من استطعت منهم بصوتك [ الاسراء : 63 ] قال : استزل منهم من استطعت قال وصوته الغناء والباطل
وبهذا الإسناد إلى جرير عن منصور عن مجاهد قال : صوته هو المزامير
ثم روى بإسناده عن الحسن البصري قال : صوته هو الدف
وهذه الإضافة إضافة تخصيص كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك فكل متكلم بغير طاعة الله ومصوت بيراع أو مزمار أو دف حرام أو طبل فذلك صوت الشيطان وكل ساع في معصية الله على قدميه فهو من رجله وكل راكب في معصية الله فهو خيالته كذلك قال السلف كما ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : رجله كل رجل مشت في معصية الله
وقال مجاهد : كل رجل يقاتل في غير طاعة الله فهو من رجله
وقال قتادة : إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس

فصل وأما تسميته مزمور الشيطان ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها
قالت : دخل على النبيصلى الله عليه وسلموعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال : مزمار الشيطان عند النبيصلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقال : دعهما فلما غفل غمزتهما فخرجتا

فلم ينكر رسول اللهصلى الله عليه وسلمعلى أبي بكر تسمية الغناء مزمار الشيطان وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم يوم عيد فتوسع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأة جميلة أجنبية أو صبي أمرد صوته فتنة وصورته فتنة يغني بما يدعو إلى الزنى والفجور وشرب الخمور مع آلات اللهو التي حرمها رسول اللهصلى الله عليه وسلمفي عدة أحاديث كما سيأتي مع التصفيق والرقص وتلك الهيئة المنكرة التي لا يستحلها أحد من أهل الأديان فضلا عن أهل العلم والإيمان ويحتجون بغناء جوير يتين غير مكلفتين بنشيد الأعراب ونحوه في الشجاعة ونحوها في يوم عيد بغير شبابة ولا دف ولا رقص ولا تصفيق ويدعون المحكم الصريح لهذا المتشابه وهذا شأن كل مبطل
نعم نحن لا نحرم ولا نكره مثل ما كان في بيت رسول اللهصلى الله عليه وسلمعلى ذلك الوجه وإنما نحرم نحن وسائر أهل العلم والإيمان السماع المخالف لذلك وبالله التوفيق

فصل وأما تسميته بالسمود
فقد قال تعالى : أفمن هكذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون [ النجم : 59 ] قال عكرمة عن ابن عباس : السمود : الغناء في لغة حمير يقال : اسمدى لنا أي غنى لنا وقال أبو زبيد :
وكأن العزيف فيها غناء ... للندامى من شارب مسمود
قال أبو عبيدة : المسمود : الذي غنى له وقال عكرمة : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا فنزلت هذه الآية
وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السمود الغفلة والسهو عن الشيء قال المبرد : هو الاشتغال عن الشيء بهم أو فرح يتشاغل به وأنشد :
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
وقال ابن الأنباري : السامد اللاهي والسامد الساهي والسامد المتكبر والسامد القائم
وقال ابن عباس في الآية : وأنتم مستكبرون وقال الضحاك أشرون بطرون وقال مجاهد : غضاب مبرطمون وقال غيره : لا هون غافلون معرضون
فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه فهذه أربعة عشر اسما سوى اسم الغناء
فصل في بيان تحريم رسول اللهصلى الله عليه وسلمالصريح لآلات اللهو والمعازف وسياق
الأحاديث في ذلك عن عبدالرحمن بن غنم قال : حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري رضي الله عنهما أنه سمع النبيصلى الله عليه وسلميقول : ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر

والحرير والخمر والمعازف هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به وعلقه تعليقا مجزوما به فقال : باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه وقال هشام ابن عمار : حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبدالرحمن بن غنم الأشعرى قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني أنه سمع النبيصلى الله عليه وسلميقول ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولوا : ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله تعالى ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة
ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي وزعم أنه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده به وجواب هذا الوهم من وجوه :

أحدها : أن البخاري قد لقى هشام بن عمار وسمع منه فإذا قال : قال هشام فهو بمنزلة قوله عن هشام
الثاني : أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صح عنه أنه حدث به وهذا كثيرا ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس
الثالث : أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به فلولا صحته عنده لما فعل ذلك
الرابع : أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض فإنه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه يقول : ويروى عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم ويذكر عنه ونحو ذلك : فإذا قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقد جزم وقطع بإضافته إليه
الخامس : أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحا فالحديث صحيح متصل عند غيره
قال أبو داود في كتاب العباس : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس قال : سمعت عبدالرحمن بن غنم الأشعري قال حدثنا أبو عامر أو أبو مالك فذكره مختصرا ورواه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه الصحيح مسندا فقال : أبو عامر ولم يشك
ووجه الدلالة منه : أن المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخز فإن كان بالحاء والراء المهملتين فهو استحلال الفروج الحرام وإن كان بالخاء والزاى المعجمتين فهو نوع من الحرير غير الذي صح عن الصحابة رضي الله عنهم لبسه إذ الخز نوعان أحدهما : من حرير والثاني : من صوف وقد روى هذا الحديث بالوجهين
وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا عبدالله بن سعيد عن معاوية بن صالح عن حاتم ابن حريث عن ابن أبي مريم عن عبدالرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلمليشربن ناس من أمتي الخمر

يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير وهذا إسناد صحيح وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلكل واحد قسط في الذم والوعيد
وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعائشة أم المؤمنين وعلي ابن أبي طالب وأنس بن مالك وعبدالرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة
ونحن نسوقها لتقر بها عيون أهل القرآن وتشجى بها حلوق أهل سماع الشيطان
فأما حديث سهل بن سعد فقال ابن أبي الدنيا : أخبرنا الهيثم بن خارجة حدثنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ قيل : يا رسول الله متى قال : إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمرة
وأما حديث عمران بن حصين فرواه الترمذي من حديث الأعمش عن هلال بن يساف عن عمران بن حصين قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم يكون في أمتي قذف وخسف ومسخ فقال رجل من المسلمين : متى ذاك يا رسول الله قال : إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور قال الترمذي : هذا حديث غريب
وأما حديث عبدالله بن عمرو فروى أحمد في مسنده وأبو داود عنه أن النبيصلى الله عليه وسلمقال : إن الله تعالى حرم على أمتي الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام
وفي لفظ آخر لأحمد : إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين

وأما حديث ابن عباس ففي المسند أيضا : عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام والكوبة الطبل قاله سفيان وقيل : البربط والقنين هو الطنبور بالحبشية والتقنين : الضرب به قاله ابن الأعرابي
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه الترمذي عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إذا اتخذ الفىء دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتعلم العلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمر ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا عبدالله بن عمر الجشمى حدثنا سليمان بن سالم أبو داود حدثنا حسان بن أبي سنان عن رجل عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير قالوا : يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال : بلى ويصومون ويصلون ويحجون قيل : فما بالهم قال : اتخذوا المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير
وأما حديث أبي أمامة الباهلي فهو في مسند أحمد والترمذي عنه عن النبيصلى الله عليه وسلمقال : يبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير ويبعث على أحياء من أحيائهم ريح فينسفهم كما نسف من كان قبلكم باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات في إسناده فرقد السبخي

وهو من كبار الصالحين ولكنه ليس بقوى في الحديث وقال الترمذي : تكلم فيه يحيى بن سعيد وقد روى عنه الناس
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا عبدالله بن عمر الجشمي حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا فرقد السبخي حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب قال : حدثني عاصم بن عمرو والبجلي عن أبي أمامة عن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولهو فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس فيقولون : خسف الليلة بدار فلان خسف الليلة ببني فلان وليرسلن عليهم حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها وعلى دور فيها وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادا بشربهم الخمر وأكلهم الربا واتخاذهم القينات وقطيعتهم الرحم
وفي مسند أحمد من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبيصلى الله عليه وسلمقال : إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية
قال البخاري : عبيدالله بن زحر ثقة وعلى بن يزيد ضعيف والقاسم بن عبدالرحمن أبو عبدالرحمن ثقة
وفي الترمذي ومسند أحمد بهذا الإسناد بعينه : أن النبيصلى الله عليه وسلمقال : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام وفي مثل هذا نزلت هذه الآية 31 : 6 ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله الآية

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقال ابن أبي الدنيا حدثنا الحسن بن محبوب حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم حدثنا أبو معشر عن محمد بن المنكدر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف قالت عائشة يا رسول الله وهم يقولون لا إله إلا الله فقال إذا ظهرت القينات وظهر الزنى وشربت الخمر ولبس الحرير كان ذا عند ذا
وقال ابن أبي الدنيا أيضا حدثنا محمد بن ناصح حدثنا بقية بن الوليد عن يزيد بن عبدالله الجهني حدثني أبو العلاء عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة رضي الله عنها ورجل معه فقال لها الرجل يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة فقال إذا استباحوا الزنى وشربوا الخمر وضربوا بالمعازف غار الله في سمائه فقال تزلزلي بهم فإن تابوا وفزعوا وإلا هدمتها عليهم قال قلت يا أم المؤمنين أعذاب لهم قالت بل موعظة ورحمة وبركة للمؤمنين ونكال وعذاب وسخط على الكافرين قال أنس ما سمعت حديثا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا أشد به فرحا مني بهذا الحديث
وأما حديث علي فقال ابن أبي الدنيا أيضا حدثنا الربيع بن تغلب حدثنا فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن علي عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل يا رسول الله وما هن قال إذا كان المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان ولعن آخر هذه الآمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا
حدثنا عبدالجبار بن عاصم قال حدثنا أبو طالب قال حدثنا اسمعيل بن عياش عن عبدالرحمن التميمي عن عباد بن أبي علي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال تمسخ طائفة من أمتي قردة وطائفة خنازير ويخسف بطائفة ويرسل على طائفة الريح العقيم بأنهم شربوا الخمر ولبسوا الحرير واتخذوا القيان وضربوا بالدفوف

وأما حديث أنس رضي الله عنه فقال ابن أبي الدنيا حدثنا أبو عمرو هرون بن عمر القرشي حدثنا الخصيب بن كثير عن أبي بكر الهذلي عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذاك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف
قال وأنبأنا أبو إسحق الأزدي حدثنا إسمعيل بن أبي أويس حدثني عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أحد ولد أنس بن مالك وعن غيره عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليبيتن رجال على أكل وشرب وعزف فيصبحون على أرائكهم ممسوخين قردة وخنازير
وأما حديث عبدالرحمن بن سابط فقال ابن أبي الدنيا حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا جرير عن أبان بن تغلب عن عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن سابط قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ قالوا فمتى ذاك يا رسول الله قال إذا أظهروا المعازف واستحلوا الخمور
وأما حديث الغازي بن ربيعة فقال ابن أبي الدنيا حدثنا عبدالجبار بن عاصم حدثنا إسمعيل بن عياش عن عبيدالله بن عبيد عن أبي العباس الهمداني عن عمارة بن راشد عن الغازي بن ربيعة رفع الحديث قال ليمسخن قوم وهم على أريكتهم قردة وخنازير بشربهم الخمر وضربهم بالبرابط والقيان
قال ابن أبي الدنيا وحدثنا عبدالجبار بن عاصم قال حدثني المغيرة بن المغيرة عن صالح بن خالد رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ليستحلن ناس من أمتي الحرير والخمر والمعازف وليأتين الله على أهل حاضر منهم عظيم بجبل حتى ينبذه عليهم ويمسخ آخرون قردة وخنازير
قال ابن أبي الدنيا حدثنا هارون بن عبيدالله حدثنا يزيد بن هرون حدثنا أشرس أبو شيبان الهذلي قال قلت لفرقد السبخي أخبرني يا أبا يعقوب من تلك الغرائب التي قرأت في التوراة فقال يا أبا شيبان والله ما أكذب على ربي مرتين أو ثلاثا لقد قرأت

في التوراة ليكونن مسخ وخسف وقذف في أمة محمد صلى الله عليه و سلم في أهل القبلة قال قلت يا أبا يعقوب ما أعمالهم قال باتخاذهم القينات وضربهم بالدفوف ولباسهم الحرير والذهب ولئن بقيت حتى ترى أعمالا ثلاثة فاستيقن واستعد واحذر قال قلت ما هي قال إذا تكافأ الرجال بالرجال والنساء بالنساء ورغبت العرب في آنية العجم فعند ذلك قلت له العرب خاصة قال لا بل أهل القبلة ثم قال والله ليقذفن رجال من السماء بحجارة يشدخون بها في طرقهم وقبائلهم كما فعل بقوم لوط وليمسخن آخرون قردة وخنازير كما فعل ببني إسرائيل وليخسفن بقوم كما خسف بقارون
وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة وهو مقيد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء وشاربي الخمر وفي بعضها مطلق
قال سالم بن أبي الجعد ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينتظرون أن يخرج إليهم فيطلبون إليه حاجة فيخرج إليهم وقد مسخ قردا أو خنزيرا وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا
وقال أبو هريرة رضي الله عنه لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيمسخ أحدهما قردا أو خنزيرا فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيخسف بأحدهما فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشي لشأنه ذلك حتى يقضي شهوته منه
وقال عبدالرحمن بن غنم سيكون حيان متجاورين فيشق بينهما نهر فيستقيان منه قبسهم واحد يقبس بعضهم من بعض فيصبحان يوما من الأيام قد خسف بأحدهما والآخر حي
وقال عبدالرحمن بن غنم أيضا يوشك أن يقعد اثنان على رحا يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر

وقال مالك بن دينار بلغني أن ريحا تكون في آخر الزمان وظلم فيفزع الناس إلى علمائهم فيجدونهم قد مسخوا
قال بعض أهل العلم إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق وانصبغ بذلك صبغا تاما صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير وغيرهما ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه حتى يبدو على صفحات وجهه بدوا خفيا ثم يقوى ويتزايد حتى يصير ظاهرا على الوجه ثم يقوى حتى يقلب الصورة الظاهرة كما قلب الهيئة الباطنة ومن له فراسة تامة يرى على صور الناس مسخا من صور الحيوانات التي تخلقوا بأخلاقها في الباطن فقل أن ترى محتالا مكارا مخادعا ختارا إلا وعلى وجهه مسخة قرد وقل أن ترى رافضيا إلا وعلى وجهه مسخة خنزير وقل أن ترى شرها نهما نفسه نفس كلبية إلا وعلى وجهه مسخة كلب فالظاهر مرتبط بالباطن أتم ارتباط فإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قلب الصورة الظاهرة ولهذا خوف النبي صلى الله عليه و سلم من سابق الإمام في الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار لمشابهته للحمار في الباطن فإنه لم يستفد بمسابقة الإمام إلا فساد صلاته وبطلان أجره فإنه لا يسلم قبله فهو شبيه بالحمار في البلادة وعدم الفطنة
إذا عرف هذا فأحق الناس بالمسخ هؤلاء الذين ذكروا في هذه الأحاديث فهم أسرع الناس مسخا قردة وخنازير لمشابهتهم لهم في الباطن وعقوبات الرب تعالى نعوذ بالله منها جارية على وفق حكمته وعدله
وقد ذكرنا شبه المغنين والمفتونين بالسماع الشيطاني ونقضناها نقضا وإبطالا في كتابنا الكبير في السماع وذكرنا الفرق بين ما يحركه سماع الأبيات وما يحركه سماع الآيات

وذكرنا الشبه التي دخلت على كثير من العباد في حضوره حتى عدوه من القرب فمن أحب الوقوف على ذلك فهو مستوفى في ذلك الكتاب وإنما أشرنا ههنا إلى نبذة يسيرة في كونه من مكايد الشيطان وبالله التوفيق

فصل ومن مكايده التي بلغ فيها مراده مكيدة التحليل الذي لعن رسول
الله صلى الله عليه و سلم فاعله وشبهه بالتيس المستعار وعظم بسببه العار والشنار وعير المسلمين به الكفار وحصل بسببه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد واستكريت له التيوس المستعارات وضاقت بها ذرعا النفوس الأبيات ونفرت منه أشد من نفارها من السفاح وقالت لو كان هذا نكاحا صحيحا لم يلعن رسول الله صلى الله عليه و سلم من أتى بما شرعه من النكاح فالنكاح سنته وفاعل السنة مقرب غير ملعون والمحلل مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون فقد سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتيس المستعار وسماه السلف بمسمار النار فلو شاهدت الحرائر المصونات على حوانيت المحللين متبذلات تنظر المرأة إلى التيس نظر الشاة إلى شفرة الجازر وتقول يا ليتني قبل هذا كنت من أهل المقابر حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة والمقت نهض واستتبعها خلفه للوقت بلا زفاف ولا إعلان بل بالتخفي والكتمان فلا جهاز ينقل ولا فراش إلى بيت الزوج يحول ولا صواحب يهدينا إليه ولا مصلحات يجلينها عليه ولا مهر مقبوض ولا مؤخر ولا نفقة ولا كسوة تقدر ولا وليمة ولا نثار ولا دف ولا إعلان ولا شغار والزوج يبذل المهر وهذا التيس يطأ بالأجر حتى إذا خلا بها وأرخى الحجاب والمطلق والولي واقفان على الباب دنا ليطهرها بمائة النجس الحرام ويطيبها بلعنة الله ورسوله عليه الصلاة و السلام حتى إذا قضيا عرس التحليل ولم يحصل بينهما المودة والرحمة التي ذكرها الله تعالى في التنزيل فإنها لا تحصل باللعن الصريح ولا يوجبها إلا النكاح الجائز الصحيح فإن كان قد قبض أجرة ضرابه سلفا وتعجيلا وإلا حبسها حتى تعطيه أجره طويلا فهل سمعتم زوجا لا يأخذ بالساق

حتى يأخذ أجرته بعد الشرط والإتفاق حتى إذا طهرها وطيبها وخلصها بزعمه من الحرام وجنبها قال لها اعترفي بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق فيحصل بعد ذلك بينكما الالتئام والإتفاق فتأتي المصخمة إلى حضرة الشهود فيسألونها هل كان ذاك فلا يمكنها الجحود فيأخذون منها أو من المطلق أجرا وقد أرهقوهما من أمرهما عسرا هذا وكثير من هؤلاء المستأجرين للضراب يحلل الأم وابنتها في عقدين ويجمع ماءه في أكثر من أربع وفي رحم أختين وإذا كان هذا من شأنه وصفته فهو حقيق بما رواه عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم المحلل والمحلل له رواه الحاكم في الصحيح والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال والعمل عليه عند أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء من التابعين
ورواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه بإسناد صحيح ولفظها لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم الواشمة والمؤتشمة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله
وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي أيضا عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوى الصدقة والمعتدى فيها والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته والمحلل والمحلل له ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه و سلم يوم القيامة
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي محمد صلى الله عليه و سلم أنه لعن المحلل والمحلل له رواه الإمام أحمد وأهل السنن كلهم غير النسائي
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم

لعن الله المحلل والمحلل له رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات وثقهم ابن معين وغيره
وقال الترمذي في كتاب العلل سألت أبا عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال هو حديث حسن وعبدالله بن جعفر المخزومي صدوق ثقة وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة
وقال أبو عبدالله بن ماجه في سننه حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم المحلل والمحلل له
وعن ابن عباس أيضا قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المحلل فقال لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم تذوق العسيلة رواه أبو إسحق الجوزجاني في كتاب المترجم قال أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عن داود بن حصين عن عكرمة عنه وهؤلاء كلهم ثقات إلا إبراهيم فإن كثيرا من الحفاظ يضعفه والشافعي حسن الرأي فيه ويحتج بحديثه
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له رواه ابن ماجة بإسناد رجاله كلهم موثقون لم يجرح واحد منهم
وعن عمرو بن دينار وهو من أعيان التابعين أنه سئل عن رجل طلق امرأته فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحلها له فقال لا ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن مثل ذلك فقال لا حتى ينكح مرتغبا لنفسه فإذا فعل ذلك لم يحل له حتى يذوق العسيلة ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف بإسناد جيد
وهذا المرسل قد احتج به من أرسله فدل على ثبوته عنده وقد عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سيأتي وهو موافق لبقية الأحاديث الموصولة ومثل هذا حجة

باتفاق الأئمة وهو والذي قبله نص في التحليل المنوي وكذلك حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال له امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم قال لا إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم سفاحا ذكره شيخ الإسلام في إبطال التحليل

فصل وأما الآثار عن الصحابة ففي كتاب المصنف لابن أبي شيبة وسنن
الأثرم والأوسط لابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ولفظ عبدالرزاق وابن المنذر لا أوتى بمحلل ولا محللة إلا رجمتهما وهو صحيح عن عمر
وقال عبدالرزاق عن معمر والزهري عن عبد الملك بن المغيرة قال سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن تحليل المرأة لزوجها فقال ذاك السفاح ورواه ابن أبي شيبة
وقال عبدالرزاق أخبرنا الثوري عبدالله بن شريك العامري سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سئل عن رجل طلق ابنة عم له ثم رغب فيها وندم فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له فقال ابن عمر رضي الله عنهما كلاهما زان وإن مكث عشرين سنة أو نحو ذلك إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحلها له
قال وأخبرنا معمر عن الثوري عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس رضي الله عنهما وسأله رجل فقال إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال إن عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا قال كيف ترى في رجل يحللها قال من يخادع الله يخدعه

وعن سليمان بن يسار قال رفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وقال لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة رواه أبو إسحق الجوزجاني في كتاب المترجم وذكره ابن المنذر عنه في كتاب الأوسط
وفي المهذب لأبي إسحق الشيرازي عن أبي مرزوق التجيبي أن رجلا أتى عثمان رضي الله عنه فقال إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها فقال له عثمان رضي الله عنه لا تنكحها إلا نكاح رغبة
وذكر أبو بكر الطرطوشي في خلافه عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله وعلي رضي الله عنه هو ممن روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لعن المحلل فقد جعل هذا من التحليل
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن الله المحلل والمحلل له وهو ممن روى عن النبي صلى الله عليه و سلم لعن المحلل وقد فسره بما قصد به التحليل وإن لم تعلم به المرأة فكيف بما اتفقا عليه وتراضيا وتعاقدا على أنه نكاح لعنة لا نكاح رغبة
وذكر ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لعن الله المحلل والمحلل له
وروى الجوزجاني بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها فقال لعن الله الحال والمحلل له
قال شيخ الإسلام وهذه الآثار عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره ولم يتواطآ عليه فهي مبينة أن هذا هو التحليل وهو المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلم بمراده ومقصوده لا سيما إذا رووا حديثا وفسروه بما يوافق الظاهر هذا مع أنه لم يعلم أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرق بين تحليل وتحليل ولا رخص في شيء من أنواعه مع أن المطلقة

ثلاثا مثل امرأة رفاعة القرظي قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة وإلى خلفائه لتعود إلى زوجها فيمنعونها من ذلك ولو كان التحليل جائزا لدلها رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك فإنها لم تكن تعدم من يحللها لو كان التحليل جائزا
قال والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قصد بها التحليل وإن لم يشترط في العقد كثيرة جدا ليس هذا موضع ذكرها انتهى

ذكر الآثار عن التابعين
قال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال إذا نوى الناكح أو المنكح أو المرأة أو أحد منهم التحليل فلا يصلح
أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء المحلل عامدا هل عليه عقوبة قال ما علمت وإني لأرى أن يعاقب قال وكلهم إن تمالؤا على ذلك مسيئون وإن أعظموا الصداق
أخبرنا معمر عن قتادة قال إن طلقها المحلل فلا يحل لزوجها الأول أن يقر بها إذا كان نكاحه على وجه التحليل
أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء فطلق المحلل فراجعها زوجها قال يفرق بينهما
أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في رجل تزوج امرأة يحللها ولا يعلمها فقال الحسن اتق الله ولا تكن مسمار نار في حدود الله
قال ابن المنذر وقال إبراهيم النخعي إذا كان نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الآخر أو المرأة أنه محلل فنكاح الآخر باطل ولا تحل للأول

قال وقال الحسن البصري إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد
قال وقال بكر بن عبدالله المزني في الحال والمحلل له أولئك كانوا يسمون في الجاهلية التيس المستعار
قال وقال عبدالله بن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى إن ظنا أن يقيما حدود الله قال إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة ورواه ابن أبي حاتم في التفسير عنه
وقال هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي أنه سئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها طلقها ثلاثا قبل ذلك أيطلقها لترجع إلى زوجها الأول فقال لا حتى يحدث نفسه أنه يعمر معها وتعمر معه أي تقيم معه رواه الجوزجاني
ورورى النفيلي حدثنا يحيى بن عبدالملك بن أبي غنية حدثنا عبدالملك عن عطاء في الرجل يطلق المرأة فينطلق الرجل الذي يتحزن له فيتزوجها من غير مؤامرة منه فقال إن كان تزوجها ليحلها له لم تحل له وإن كان تزوجها يريد إمساكها فقد حلت له
وقال سعيد بن المسيب في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول ولم يشعر بذلك زوجها الأول ولا المرأة قال إن كان إنما نكحها ليحلها فلا يصلح ذلك لهما ولا تحل له رواه حرب في مسائله
وعنه أيضا قال إن الناس يقولون حتى يجامعها وأنا أقول إذا تزوجها تزوجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول رواه سعيد بن منصور عنه
فهؤلاء الأئمة الأربعة أركان التابعين وهم الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي
وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول وهو لا يعلم قال لا يصلح ذلك إذا كان تزوجها ليحلها

ذكر الآثار عن تابعي التابعين ومن بعدهم
قال ابن المنذر : وممن قال : إن ذلك لا يصلح إلا نكاح رغبة : مالك ابن أنس والليث ابن سعد وقال مالك رحمه الله : يفرق بينهما على كل حال وتكون الفرقة فسخا بغير طلاق
وقال سفيان الثوري : إذا تزوجها وهو يريد أن يحلها لزوجها ثم بدا له أن يمسكها لا يعجبني إلا أن يفارق ويستقبل نكاحا جديدا
قال أحمد بن حنبل : جيد
وقال إسحاق : لا يحل له أن يمسكها لأن المحلل لم تتم له عقدة النكاح
وكان أبو عبيد يقول بقول الحسن والنخعي
وقال الجوزجاني : حدثنا إسماعيل بن سعيد قال : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يتزوج المرأة وفي نفسه أن يحللها لزوجها الأول ولم تعلم المرأة بذلك فقال : هو محلل وإذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون
وقال الجوزجاني : وبه قال أيوب وقال ابن أبي شيبة : لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول
قال الجوزجاني : وأقول : إن الإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهره حقيق بالتوقير والصيانة مما لعله يشينه وينزه مما أصبح أبناء الملل من أهل الذمة يعيرون به المسلمين على ما تقدم فيه من النهي عن النبيصلى الله عليه وسلمولعنه عليه ثم ساق الأحاديث المرفوعة في ذلك والآثار
فصل ومن العجائب معارضة هذه الأحاديث والآثار عن الصحابة بقوله تعالى
: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقره : 230 ] والذي أنزلت عليه هذه الآية

هو الذي لعن المحلل والمحلل له وأصحابه أعلم الناس بكتاب الله تعالى فلم يجعلوه زوجا وأبطلوا نكاحه ولعنوه
وأعجب من هذا قول بعضهم : نحن نحتج بكونه سماه محللا فلولا أنه أثبت الحل لم يكن محللا
فيقال : هذه من العظائم فإن هذا يتضمن أن رسول اللهصلى الله عليه وسلملعن من فعل السنة التي جاء بها وفعل ما هو جائز صحيح في شريعته وإنما سموه محللا لأنه أحل ما حرم الله فاستحق اللعنة فإن الله سبحانه حرمها على المطلق حتى تنكح زوجا غيره والنكاح اسم في كتاب الله وسنة رسوله للنكاح الذي يتعارفه الناس بينهم نكاحا وهو الذي شرع إعلانه والضرب عليه بالدفوف والوليمة فيه وجعل للإيواء والسكن وجعله الله مودة ورحمة وجرت العادة فيه بضد ما جرت به في نكاح المحلل فان المحلل لم يدخل على نفقه ولا كسوة ولا سكنى ولا إعطاء مهر ولا يحصل به نسب ولا صهر ولا قصد المقام مع الزوجة وإنما دخل عارية كالتيس المستعار للضراب ولهذا شبههبه النبيصلى الله عليه وسلم ثم لعنه فعلم قطعا لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور في القرآن ولا نكاحه هو النكاح المذكور في القرآن وقد فطر الله سبحانه قلوب الناس على أن هذا ليس بنكاح ولا المحلل بزوج وأن هذا منكر قبيح وتعير به المرأة والزوج والمحلل والولي فكيف يدخل هذا في النكاح الذي شرعه الله ورسوله وأحبه وأخبر أنه سنته ومن رغب عنه فليس منه
وتأمل قوله تعالى : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ البقره : 230 ] أي فإن طلقها هذا الثاني فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا أي ترجع إليه بعقد جديد فأتى بحرف إن الدالة على أنه يمكنه أن يطلق وأن يقيم والتحليل الذي يفعله هؤلاء لا يتمكن الزوج فيه من الأمرين بل يشرطون عليه أنه متى وطئها فهي طالق ثم لما علموا أنه قد لا يخبر بوطئها ولا يقبل قولها في وقوع الطلاق انتقلوا إلى أن جعلوا الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها فبمجرد إخبارها بذلك تطلق عليه والله سبحانه وتعالى شرع النكاح للوصلة الدائمة

وللاستمتاع وهذا النكاح جعله أصحابه سببا لانقطاعه ولوقوع الطلاق فيه فإنه متى وطىء كان وطؤه سببا لانقطاع النكاح وهذا ضد شرع الله وأيضا فإن الله سبحانه جعل نكاح الثاني وطلاقه واسمه كنكاح الأول وطلاقه واسمه فهذا زوج وهذا زوج وهذا نكاح وهذا نكاح وكذلك الطلاق ومعلوم أن نكاح المحلل وطلاقه واسمه لا يشبه نكاح الأول ولا طلاقه ولا اسمه كاسمه ذاك زوج راغب قاصد للنكاح باذل للمهر ملتزم للنفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك من خصائص النكاح والمحلل برىء من ذلك كله غير ملتزم لشىء منه
وإذا كان الله تعالى ورسوله قد حرم نكاح المتعة مع أن قصد الزوج الاستمتاع بالمرأة وأن يقيم معها زمانا وهو ملتزم لحقوق النكاح فالمحلل الذي ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قدر ما ينزو عليها كالتيس المستعار لذلك ثم يفارقها أولى بالتحريم
وسمعت شيخ الإسلام يقول : نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه :
أحدها : أن نكاح المتعة كان مشروعا في أول الإسلام ونكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان
الثاني أن الصحابة تمتعوا على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم يكن في الصحابة محلل قط
الثالث : أن نكاح المتعة مختلف فيه بين الصحابة فأباحه ابن عباس وإن قيل : إنه رجع عنه وأباحه عبدالله بن مسعود ففي الصحيحين عنه قال : كنا نغزو مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء فقلنا : ألا نختصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبدالله : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم  وفتوى ابن عباس بها مشهورة
قال عروة : قام عبدالله بن الزبير بمكة فقال : إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة : يعرض بعبدالله بن عباس فناداه فقال : إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم

فقال له ابن الزبير : فجرب نفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك
فهذا قول ابن مسعود وابن عباس في المتعة وذاك قولهما وروايتهما في نكاح التحليل
الرابع : أن رسول اللهصلى الله عليه وسلملم يجىء عنه في لعن المستمتع والمستمتع بها حرف واحد وجاء عنه في لعن المحلل والمحلل له وعن الصحابة : ما تقدم
الخامس : أن المستمتع له غرض صحيح في المرأة ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح فغرضه المقصود بالنكاح مدة والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس فنكاحه غير مقصود له ولا للمرأة ولا للولي وإنما هو كما قال الحسن : مسمار نار في حدود الله وهذه التسمية مطابقة للمعنى
قال شيخ الإسلام : يريد الحسن : أن المسمار هو الذي يثبت الشىء المسمور فكذلك هذا يثبت تلك المرأة لزوجها وقد حرمها الله عليه
السادس : أن المستمتع لم يحتل على تحليل ما حرم الله فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان بل هو ناكح ظاهرا وباطنا والمحلل ماكر مخادع متخذ آيات الله هزوا ولذلك جاء في وعيده مالم يجىء في وعيد المستمتع مثله ولا قريب منه
السابع : أن المستمتع يريد المرأة لنفسه وهذا سر النكاح ومقصوده فيريد بنكاحه حلها له ولا يطؤها حراما والمحلل لا يريد حلها لنفسه وإنما يريد حلها لغيره ولهذا سمي محللا فأين من يريد أن يحل له وطىء امرأة يخاف أن يطأها حراما إلى من لا يريد ذلك وإنما يريد بنكاحها أن يحل وطأها لغيره فهذا ضد شرع الله ودينه وضد ما وضع له النكاح
الثامن : أن الفطر السليمة والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد تنفر من التحليل أشد نفار وتعير به أعظم تعيير حتى إن كثيرا من النساء تعير المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا ونكاح المتعة لا تنفر منه الفطر والعقول ولو نفرت منه لم يبح في أول الإسلام
التاسع : أن نكاح المتعة يشبه إجارة الدابة مدة للركوب وإجارة الدار مدة للانتفاع

والسكنى وإجارة العبد للخدمة مدة ونحو ذلك مما للباذل فيه غرض صحيح ولكن لما دخله التوقيت أخرجه عن مقصود النكاح الذي شرع بوصف الدوام والاستمرار وهذا بخلاف نكاح المحلل فإنه لا يشبه شيئا من ذلك ولهذا شبهه الصحابة رضي الله عنهم بالسفاح وشبهوه باستعارة التيس للضراب
العاشر : أن الله سبحانه نصب هذه الأسباب كالبيع والإجارة والهبة والنكاح مفضية إلى أحكام جعلها مسببات لها ومقتضيات فجعل البيع سببا لملك الرقبة والإجارة سببا لملك المنفعة أو الانتفاع والنكاح سببا لملك البضع وحل الوطء والمحلل مناقض معاكس لشرع الله تعالى ودينه فإنه جعل نكاحه سببا لتمليك المطلق البضع وإحلاله له ولم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبضع وحله له ولا له غرض في ذلك ولا دخل عليه وإنما قصد به أمرا آخر لم يشرع له ذلك السبب ولم يجعل طريقا له
الحادي عشر : أن المحلل من جنس المنافق فإن المنافق يظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهرا و باطنا وهو في الباطن غير ملتزم له وكذلك المحلل يظهر أنه زوج وأنه يريد النكاح ويسمى المهر ويشهد على رضى المرأة وفي الباطن بخلاف ذلك ولا القيام بحقوق النكاح وقد أظهر خلاف ما أبطن وأنه مريد لذلك والله يعلم والحاضرون والمرأة وهو والمطلق : أن الأمر كذلك وأنه غير زوج على الحقيقة ولا هي امرأته على الحقيقة
الثاني عشر : أن نكاح المحلل لا يشبه نكاح أهل الجاهلية ولا نكاح أهل الإسلام فكان أهل الجاهلية يتعاطون في أنكحتهم أمورا منكرة ولم يكونوا يرضون نكاح التحليل ولا يفعلونه ففي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته : أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر : كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه فيعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك

رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه ونكاح رابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله تعالى محمداصلى الله عليه وسلمبالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم
ومعلوم أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمأقره ولم يهدمه ولا كان أهل الجاهلية يرضون به فلم يكن من أنكحتهم فإن الفطر والأمم تنكره وتعير به
فصل وسبب هذا كله : معصية الله ورسوله وطاعة الشيطان في إيقاع
الطلاق على غير الوجه الذي شرعه الله والله سبحانه يبغض الطلاق في الأصل كما روى أبو داود من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم ما بال قوم يلعبون بحدود الله يقول : قد طلقتك قد راجعتك قد طلقتك
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة يجىء

أحدهم فيقول : قد فعلت كذا وكذا فيقول : ما صنعت شيئا قال : ويجىء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال : فيدنيه منه أو قال : فيلتزمه ويقول : نعم أنت أنت
فالشيطان وحزبه قد أغروا بإيقاع الطلاق والتفريق بين المرء وزوجه وكثيرا ما يندم المطلق ولا يصبر عن امرأته ولا تطاوعه نفسه أن يصبر عنها إلى أن تتزوج زواج رغبة تبقى فيه مع الزوج إلى أن يموت عنها أو يفارقها إذا قضى وطره ولا بد له من المرأة فيهرع إلى التحليل وهو حيلة من عشر حيل نصبوها للناس
إحداها : التحيل على عدم وقوع الطلاق وهو نوعان تحيل على عدم وقوعه مع صحة النكاح بالتسريح فيأمرونه أن يقول لها : إذا طلقتك أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فلا يمكن أن يقع عليها الطلاق بعد هذا لا مطلقا ولا مقيدا عند المسرحين فسدوا باب الطلاق وجعلوا المرأة كالغل في عنق الزوج لا سبيل له إلى طلاقها أبدا
الحيلة الثانية : التحيل على عدم وقوع الطلاق بكون النكاح فاسدا فلا يقع فيه الطلاق ويتحيلون لبيان فساده من وجوه :
منها : أن عدالة الولى شرط في صحته فإذا كان في الولي ما يقدح في عدالته فالنكاح باطل فلا يقع فيه الطلاق والقوادح كثيرة فلا تكاد تفتش فيمن شئت إلا وجدت فيه قادحا
ومنها : أن عدالة الشهود شرط والشاهد يفسق بجلوسه على مقعد حرير أو استناده إلى مسند حرير أو جلوسه تحت حركاة حرير أو تجمره بمجمرة فضة ونحو ذلك مما لا يكاد يخلو البيت منه وقت العقد ونحو ذلك
فيا للعجب ! يكون الوطء حلالا والنسب لاحقا والنكاح صحيحا حتى يقع الطلاق فحينئذ يطلب وجوه إفساده
الحيلة الثالثة : التحيل بالمخالعة حتى يفعل المحلوف عليه فإذا فعله تزوجها بعقد جديد
الحيلة الرابعة : إذا وقع الفأس في الرأس وحنث ولا بد اشترى غلاما دون البلوغ

وزوجه بها وأمرها أن تمكنه من إيلاج الحشفة هناك فإذا فعل وهبها إياه فانفسخ نكاحها بملكه فتعتد وترد إلى المطلق فإن عجزوا عن ذلك وأعوزهم انتقلوا إلى :
الحيلة الخامسة : وهي استكراء التيس الملعون المستعار لينزو عليها ويحلها بزعمه فهذه خمس حيل للخاصة
وأما جهال العامة فلما رأوا أن المقصود التحيل على ردها إلى المطلق بأي طريق اتفق قالوا : المقصود هو الرجوع والحيلة مقصودة لغيرها وأعيان الحيل ليست مقصودة فاستنبطوا لهم خمس حيل أخرى
أحداها : أن يأمروا المحلل بأن يطأها برجله فيطؤها وهي قاعدة أو مضطجعة برجله ثم يخرج ورأوا أن الوطء بالرجل أسهل عليهم وأقل مفسدة من الوطء بالآلة فإنه إذا كان كلاهما غير مقصود فما كان أقل فسادا كان أقرب إلى المقصود
الحيلة الثانية : أن تكون حاملا فتلد ذكرا وكأنهم قاسوا الذكر الذي شقها خارجا على الذكر الذي يشقها داخلا وهذا من جنس قياس التيس الملعون على الزوج المقصود
الحيلة الثانية : أن يصب المحلل عليها دهنا يشربه جسدها ولا يطؤها وكأنهم قاسوا تشرب جسدها للدهن وسريانه فيه على شربه للنطفة وسريانها فيه
الحيلة الرابعة : السفر عنها أو سفرها عنه فإذا قدم ظن أن ذلك كاف عن الزوج ولا أدري من أين ألقى إليهم الشيطان ذلك وكأنهم ظنوا أنهم قد التقوا من الآن وأن السفر قطع حكم ما مضى رأسا
الحيلة الخامسة : أن يجتمعا على عرفات فإذا وقف بها على الجبل لم يحتج بعد ذلك إلى زوج آخر عندهم وقد سئلنا نحن وغيرنا عن ذلك وسمعناه منهم

فصل واعلم أن من اتقى الله في طلاقه فطلق كما أمره الله ورسوله
وشرعه له أغناه عن ذلك كله ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع : ومن يتق الله يجعل له مخرجا  فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال والمكر والاحتيال فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه : أن يطلقها طاهرا من غير جماع ويطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها فإن بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها وإن لم يراجعها حتى انتقضت عدتها أمكنه أن يستقبل العقد عليها من غير زوج آخر وإن لم يكن له فيها غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره فمن فعل هذا لم يندم ولم يحتج إلى حيلة ولا تحليل
ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال : عصيت ربك وفارقت امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا
وقال سعيد بن جبير : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إني طلقت امرأتي ألفا فقال : أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك وبقيتهن وزر اتخذت آيات الله هزوا
وقال مجاهد : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى طننت أنه رادها إليه ثم قال : ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول : يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال : ومن يتق الله يجعل له مخرجا  وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك ذكره أبو داود
وقد روى النسائي عن محمود بن لبيد قال : أخبر رسول اللهصلى الله عليه وسلمعن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ألا أقتله
وهذه الآثار موافقة لما دل عليه القرآن فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة ولم يشرعه جملة واحدة أصلا قال تعالى : الطلاق مرتان  والمرتان في لغة العرب بل وسائر لغات الناس : إنما تكون لما يأتي مرة بعد مرة فهذا القرآن من أوله إلى

آخره وسنة رسول اللهصلى الله عليه وسلموكلام العرب قاطبة شاهد بذلك كقوله تعالى : سنعذبهم مرتين [ التوبة : 101 ] وقوله : أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين [ التوبه : 126 ] وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات [ النور : 53 ] ثم فسرها بالأوقات الثلاثة وشواهد هذا أكثر من أن تحصى
ثم قال سبحانه : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقره : 230 ] فهذه هي المرة الثالثة فهذا هو الطلاق الذي شرعه الله سبحانه وتعالى مرة بعد مرة بعد مرة فهذا شرعه من حيث العدد
وأما شرعه من حيث الوقت : فشرع الطلاق للعدة وقد فسره النبيصلى الله عليه وسلمبأن يطلقها طاهرا من غير جماع فلم يشرع جمع ثلاث ولا تطليقتين ولم يشرع الطلاق في حيض ولا في طهر وطئها فيه وكان المطلق في زمن رسول اللهصلى الله عليه وسلمكله وزمن أبي بكر كله وصدرا من خلافه عمر رضي الله عنهما إذا طلق ثلاثا يحسب له واحدة وفي ذلك
حديثان صحيحان أحدهما رواه مسلم في صحيحه والثاني رواه الإمام أحمد في مسنده
فأما حديث مسلم : فرواه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الطلاق على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلموأبي بكر وسنتين من خلافة عمر : طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم
وفي صحيحه أيضا عن طاوس : أن أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هنياتك : ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة فقال : قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم
وفي لفظ لأبي داود : أن رجلا يقال له : أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال

أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلموأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنهما فقال ابن عباس بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنهما فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال أجروهن عليهم هكذا في هذه الرواية قبل أن يدخل بها وبها أخذ إسحق بن راهويه وخلق من السلف جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها وسائر الروايات الصحيحة ليس فيها قبل الدخول ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئا
وهذا الحديث قد رواه عن ابن عباس ثلاثة نفر : طاوس وهو أجل من روى عنه وأبو الصهباء العدوى وأبو الجوزاء وحديثه عند الحاكم في المستدرك
ولفظه : أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال : أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله عليه السلام إلى واحدة قال : نعم قال الحاكم : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه
ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس في شيء منها قبل الدخول وإنما حكى ذلك طاوس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس فأجابه ابن عباس بما سأله عنه ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة في حق مطلق قبل الدخول فسأل عن ذلك ابن عباس وقال : كانوا يجعلونها واحدة فقال له ابن عباس نعم أي الأمر على ما قلت
وهذا لا مفهوم له فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال ومثل هذا لا يعتبر مفهومه
نعم لو لم يكن السؤال مقيدا فقيد المسئول الجواب كان مفهومه معتبرا وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال : إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوه لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة
وبالجملة : فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء فذكر النساء مطلقا في أحد الحديثين

وذكر بعض أفرادهن في الحديث الآخر لا تعارض بينهما
وأما الحديث الآخر : فقال أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبيصلى الله عليه وسلم عن عكرمة عن ابن عباس قال : طلق عبد يزيد أبو ركانه وإخوته أم ركانه ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبيصلى الله عليه وسلم فقالت : ما يغني ععني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبيصلى الله عليه وسلمحمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه : أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا يشبه منه كذا وكذا قالوا نعم : فقال النيصلى الله عليه وسلم طلقها ففعل فقال : راجع امرأتك أم ركانة فقال : إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال : قد علمت راجعها وتلا : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة [ الطلاق : 1 ] الآية
فأمره أن يراجعها وقد طلقها ثلاثا وتلا الآية التي هي وما بعدها صريحة في كون الطلاق الذي شرعه الله لعباده وهو الطلاق الذي يكون للعدة فإذا شارفت انقضاءها فإما أن يمسكها بمعروف أو يفارقها بمعروف وأنه سبحانه شرعه على وجه التوسعة والتيسير فلعل المطلق أن يندم فيكون له سبيل إلى الرجعة وهو قوله تعالى : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [ الطلاق : 1 ] فأمره بالمراجعة وتلاوته الآية كاف في الاستدلال على ما كان عليه الحال
فإن قيل : فهذا الحديث فيه مجهول وهو بعض بني أبي رافع والمجهول لا تقوم به حجة
فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الإمام أحمد قد قال في المسند : حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي عن محمد ابن إسحق قال : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال :

طلق ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول اللهصلى الله عليه وسلم كيف طلقتها قال : طلقتها ثلاثا قال في مجلس واحد قال : نعم قال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت قال : فراجعها قال وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر
ورواه الحافظ أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي في مختاراته التي هي أصح من صحيح الحاكم
فهذا موافق للأول وكلاهما موافق لحديث طاوس وأبي الصهباء وأبي الجوزاء عن ابن عباس وطاوس وعكرمة أعلم أصحاب ابن عباس فإن عكرمة كان مولاه مصاحبا له وكان يقيده على العلم وكان طاوس خاصا عنده يجتمع به كثيرا ويدخل عليه مع الخاصة وكان طاوس وعكرمة يفتيان بأن الثلاث واحدة وكذلك ابن إسحق لما صح عنده هذا الحديث أفتى بموجبه وكان يقول : جهل السنة فيرد إليها
فرواة هذا الحديث أفتوا به وعملوا به
وعن ابن عباس فيه روايتان إحداهما : موافقة عمر رضي الله عنه تأديبا وتعزيرا للمطلقين والثانية : الإفتاء بموجبه
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس وحسبك بهذا السند صحة وجلالة : إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة ذكره أبو داود في السنن
الوجه الثاني : أن هذا المجهول هو من التابعين من أبناء مولى النبيصلى الله عليه وسلم ولم يكن الكذب مشهورا فيهم والقصة معروفة محفوظة وقد تابعه عليها داود بن الحصين وهذا يدل على أنه حفظها
الوجه الثالث : أن روايته لم يعتمد عليها وحدها فقد ذكرنا رواية داود بن الحصين وحديث أبي الصهباء فهب أن وجود روايته وعدمها سواء ففي حديث داود كفاية وقد زالت تهمة تدليس ابن اسحق بقوله حدثني وقد احتج الأئمة بهذا السند بعينه في حديث

تقدير العرايا بخمسة أوسق أو دونها وأخذوا به وعملوا بموجبه مع مخالفة عمومات الأحاديث الصحيحة : في منع بيع الرطب بالتمر له
فالقول بهذه الأحاديث موافق لظاهر القرآن ولأقوال الصحابة وللقياس ومصالح بني آدم
أما ظاهر القرآن : فإن الله سبحانه شرع الرجعة في كل طلاق إلا طلاق غير المدخول بها والمطلقة طلقة ثالثة بعد الأولتين وليس في القرآن طلاق بائن قط إلا في هذين الموضعين وأحدهما بائن غير محرم والثاني بائن محرم وقال تعالى : الطلاق مرتان والمرتان ما كان مرة بعد مرة كما تقدم

وأما القياس فإن الله سبحانه قال : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ النور : 6 ] ثم قال : ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله [ النور : 8 ] فلو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني صادق أو قالت : أشهد بالله أربع شهادات إنه كاذب كانت شهادة واحدة ولم تكن أربعا فكيف يكون قوله : أنت طالق ثلاثا : ثلاث تطليقات وأي قياس أصح من هذا وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه ولهذا لو قال المقر بالزنى : إني أقر بالزنى أربع مرات كان ذلك مرة واحدة وقد قال الصحابة لماعز : إن أقررت أربعا رجمك رسول اللهصلى الله عليه وسلم فلو قال : أقر به أربع مرات كانت مرة واحدة فهكذا الطلاق سواء
فهذا القياس وتلك الآثار وذاك ظاهر القرآن
وأما أقوال الصحابة : فيكفي كون ذلك على عهد الصديق ومعه جميع الصحابة لم يختلف عليه منهم أحد ولا حكي في زمانه القولان حتى قال بعض أهل العلم : إن ذلك إجماع قديم وإنما حدث الخلاف في زمن عمر رضي الله عنه واستمر الخلاف في المسألة إلى وقتنا هذا كما سنذكره
قالوا : فقد صح بلا شك أنهم كانوا في زمن رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأبي بكر مدة خلافته كلها وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنهما يوقعون على من طلق ثلاثا واحدة قالوا : فنحن أحق بدعوى الإجماع منكم لأنه لا يعرف في عهد الصديق أحد رد ذلك ولا خالفه فإن كان إجماع فهو من جانبنا أظهر ممن يدعيه من نصف خلافة عمر رضي الله عنه وهلم جرا فإنه لم يزل الاختلاف فيها قائما وذكره أهل العلم في مصنفاتهم قديما وحديثا
فممن ذكر الخلاف في ذلك : داود وأصحابه واختاروا أن الثلاث واحدة
وممن حكى الخلاف : الطحاوى في كتابه اختلاف العلماء وفي كتاب تهذيب الآثار

وأبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن وحكاه ابن المنذر وحكاه ابن جرير وحكاه المؤرج في تفسيره وحكى حجة القولين ثم قال : وهي مسألة خلاف بين العلماء وحكاه محمد بن نصر المروزي واختار القول بالثلاث : أنها واحدة في حق البكر ثلاث في حق المدخول بها وحكاه من المتأخرين المازرى في كتاب المعلم وحكاه عن محمد بن محمد بن مقاتل من أصحاب أبي حنيفة وهو من أجل أصحابهم من الطبقة الثالثة من أصحاب أبي حنيفة فهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة وحكاه التلمساني في شرح التفريع في مذهب مالك قولا في مذهبه بل رواية عن مالك وحكاه غيره قولا في المذهب فهو أحد القولين في مذهب مالك وأبي حنيفة وحكاه غيره شيخ الإسلام عن بعض أصحاب أحمد وهو اختياره وأسوأ أحواله أن يكون كبعض أصحاب الوجوه في مذهبه كالقاضي وأبي الخطاب وهو أجل من ذلك فهو قول في مذهب أحمد بلا شك
وأما التابعون فقال ابن المنذر : كان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون : من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة قال : واختلف في هذا الباب عن الحسن فروي عنه أنه ثلاث وذكر قتادة وحميد ويونس عنه : أنه رجع عن قوله بعد ذلك وقال : واحدة بائنة

وقال محمد بن نصر في كتاب اختلاف العلماء : أجمع أهل العلم أن الرجل إذا طلق امرأته تطليقة ولم يدخل بها أنها بانت منه وليس عليها عدة واختلفوا في غير المدخول بها إذا طلقها الزوج ثلاثا بلفظ واحد فقال الأوزاعي ومالك وأهل المدينة : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وروي عن ابن عباس وغير واحد من التابعين أنهم قالوا : إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة وأكثر أهل الحديث على القول الأول
قال : وكان إسحق يقول : طلاق الثلاث للبكر واحدة وتأول حديث طاوس عن ابن عباس : كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلموأبي بكر وعمر رضي الله عنهم يجعل واحدة : على هذا
قلت : هذا تأويل إسحق وأما أبو داود فجعله منسوخا فقال في كتاب السنن : باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما : أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : الطلاق مرتان [ البقره : 229 ] ثم ذكر في أثناء الباب حديث أبي الصهباء وكأنه اعتقد أن حكمه كان ثابتا لما كان الرجل يراجع امرأته كلما طلقها وهذا وهم لوجهين :
أحدهما : أن المنسوخ هو ثبوت الرجعة بعد الطلاق ولو بلغ ما بلغ كما كان في أول الإسلام
الثاني : أن النسخ لا يثبت بعد موت رسول اللهصلى الله عليه وسلم وكون الثلاث واحدة قد عمل به في خلافة الصديق كلها وأول خلافة عمر رضي الله عنه فمن المستحيل أن ينسخ بعد ذلك
وأما ابن المنذر فقال : لم يكن ذلك عن علم النبيصلى الله عليه وسلم ولا عن أمره قال : وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبيصلى الله عليه وسلمشيئا ثم يفتي بخلافه فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس رضي الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبيصلى الله عليه وسلمولا عن أمره إذ لو كان ذلك عن علم النبيصلى الله عليه وسلمما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه أو يكون ذلك منسوخا استدلالا بفتيا ابن عباس وهذا المسلك ضعيف جدا لوجوه :

أحدها : أن حديث عكرمة عن ابن عباس في رد النبيصلى الله عليه وسلمامرأة ركانة عليه بعد الطلاق الثلاث يبطل هذا التأويل رأسا
الثاني : أن هذا لو كان صحيحا لقال ابن عباس لأبي الصهباء : ما أدري أبلغ ذلك رسول اللهصلى الله عليه وسلمأو لم يبلغه فلما أقره على ذلك كان إقراراه دليلا على أنه مما بلغه
الثالث : أنه لو كان ذلك صحيحا لم يقل عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة بل كان الواجب أن يبين له أن السنة عن رسول اللهصلى الله عليه وسلمفي خلاف ذلك وأن هذا العمل من الناس خلاف دين الإسلام وشرع محمدصلى الله عليه وسلم ولا يقول : فلو أنا أمضيناه عليهم فإن هذا إنما يكون إمضاء من الله تعالى ورسوله لا من عمر
الرابع : أنه من الممتنع أو المستحيل أن يكون خيار الخلق يطلقون في عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلموعهد خليفته من بعده ويراجعون على خلاف دينه فيطلقون طلاقا محرما ويراجعون رجعة محرمة ولا يعلمون بذلك رسول اللهصلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم
ثم حديث ابن عباس الذي رواه أحمد يرد ذلك ثم ترده فتوى ابن عباس في إحدى الرواتين عنه وهي ثابتة عنه بأصح الإسناد كما أن الرواية الأخرى ثابتة عنه
وكيف يستمر جهل خيار الأمة بالطلاق والرجعة مدة حياتهصلى الله عليه وسلمومدة حياة الصديق كلها وشطرا من خلافة عمر رضي الله عنه ثم يظهر لهم بعد ذلك الطلاق والرجعة الجائزان
وكيف يصح قول عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة
وكيف يصح قوله : فلو أنا أمضيناه عليهم فهذا المسلك كما ترى
وأما الإمام أحمد فإنما رده بفتوى ابن عباس بخلافه وهو راوي الحديثين قال الأثرم : سألت أبا عبدالله عن حديث ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد

رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : طلاق الثلاث واحدة بأي شيء تدفعه قال : برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه
وكذلك نقل عنه ابن منصور
وهذا المسلك إنما يجيء على إحدى الروايتين : أن الصحابي إذا عمل بخلاف الحديث لم يحتج به واتبع عمل الصحابي والمشهور عنه : أن العبرة بما رواه الصحابي لا بقوله إذا خالف الحديث ولهذا أخذ برواية ابن عباس في حديث بريرة وأن بيع الأمة لا يكون طلاقا لها لأن رسول اللهصلى الله عليه وسلمخيرها ولو انفسخ النكاح ببيعها لم يخيرها مع أن مذهب ابن عباس : أن بيع الأمة طلاقها واحتج بظاهر القرآن وهو قوله تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ النساء : 24 ] فأباح وطء مملوكته المزوجة ولو كان النكاح باقيا لم ينفسخ لم يبح له وطأها
والجمهور وأحمد معهم خالفوه في ذلك وقالوا : لا يكون بيعها طلاقا
واحتجوا بحديث بريرة وتركوا رأيه لروايته فإن روايته معصومة ورأيه غير معصوم
والمشهور من مذهب الشافعي : أن الأخذ بروايته دون رأيه والمشهور من مذهب أبي حنفية عكس ذلك وعن أحمد روايتان
فهذا المسلك في ردع الحديث لا يقوى
وسلك آخرون في رد الحديث مسلكا آخر
فقالوا : هو حديث مضطرب لا يصح ولذلك أعرض عنه البخاري وترجم في صحيحه على خلافه فقال باب فيمن جوز الطلاق الثلاث في كلمة لقوله تعالى الطلاق مرتان

ثم ذكر حديث اللعان وفيه فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول اللهصلى الله عليه وسلم ولم يغير عليه النبيصلى الله عليه وسلم وهو لا يقر على باطل
قالوا : ووجه اضطرابه : أنه تارة يروى عن طاوس عن ابن عباس وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فهذا اضطرابه من جهة السند
وأما المتن : فإن أبا الصهباء تارة يقول : ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة وتارة يقول : ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة فهذا يخالف اللفظ الآخر
وهذا المسلك من أضعف المسالك ورد الحديث به ضرب من التعنت ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح في هذا الحديث ولا ضعفه والإمام أحمد لما قيل له : بأي شيء ترده قال : برواية الناس عن ابن عباس خلافه ولم يرده بتضعيف ولا قدح في صحته وكيف يتهيأ القدح في صحته ورواته كلهم أئمة حفاظ حدث به عبدالرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاوس وحدث به ابن طاوس عن أبيه وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن وطاوس من أخص أصحاب ابن عباس ومذهبه : أن الثلاث واحدة وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس فلم ينفرد به عبدالرزاق ولا ابن جريج ولا عبدالله بن طاوس فالحديث من أصح الأحاديث وترك رواية البخاري له لا يوهنه وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه : الجامع المختصر الصحيح ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظ من العلم
وأما رواية من رواه عن أبي الجوزاء فإن كانت محفوظة فهي مما يزيد الحديث قوة وإن لم تكن محفوظة وهو الظاهر فهي وهم في الكنية انتقل فيها عبدالله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء فإنه كان سيء الحفظ والحفاظ قالوا : أبو الصهباء وهذا لا يوهن الحديث

وهذه الطريق عند الحاكم في المستدرك
وأما رواية من رواه مقيدا قبل الدخول فإنه تقدم أنها لا تناقض رواية الآخرين على أنها عند أبي داود عن أيوب عن غير واحد ورواية الإطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه فإن تعارضا فهذه الرواية أولى وإن لم يتعارضا فالأمر واضح
وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبيصلى الله عليه وسلمصريح في كون الثلاث واحدة في حق المدخول بها
وعامة ما يقدر في حديث أبي الصهباء : أن قوله قبل الدخول زيادة من ثقة فيكون الأخذ بها أولى
وحينئذ فيدل أحد حديثى ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البكر وحديثه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيب أيضا فأحد الحديثين يقوى الآخر ويشهد بصحته وبالله التوفيق
وقد رده آخرون بمسلك أضعف من هذا كله :
فقالوا : هذا حديث لم يروه عن رسول الله إلا ابن عباس وحده ولاعن ابن عباس إلا طاوس وحده قالوا : فأين أكابر الصحابة وحفاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم الذي الحاجة إليه شديدة جدا فكيف خفي هذا على جميع الصحابة وعرفه ابن عباس وحده وخفي على أصحاب ابن عباس كلهم وعلمه طاوس وحده
وهذا أفسد من جميع ما تقدم ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبلته الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال : إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل وإنما يحكي عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء

قد تفرد الزهري بنحو ستين سنة لم يروها غيره وعملت بها الأمة ولم يردوها بتفرده
هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث ركانة وهو موافق لحديث طاوس عنه فإن قدح في عكرمة أبطل وتناقض فإن الناس احتجوا بعكرمة وصحح أئمة الحفاظ حديثه ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه
فإن قيل : فهذا هو الحديث الشاذ وأقل أحواله أن يتوقف فيه ولا يجزم بصحته عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم
قيل : ليس هذا هو الشاذ وإنما الشذوذ : أن يخالف الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به لم يرو الثقات خلافه فإن ذلك لا يسمى شاذا وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده ولا مسوغا له
قال الشافعي رحمه الله : وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات قاله في مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوي به
ثم إن هذا القول لا يمكن احدا من أهل العلم ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم
والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد
ولما رأى بعضهم ضعف هذه المسالك وأنها لا تجدي شيئا استروح إلى تأويله فقال : معنى الحديث : أن الناس كانوا يطلقون على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر واحدة ولا يوقعون الثلاث فلما كان في أثناء خلافة عمر رضي الله عنه أوقعوا الثلاث وأكثروا من ذلك فأمضاه عليهم عمر رضي الله عنه كما أوقعوه فقوله : كانت الثلاث على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلمواحدة أي في حق التطليق وإيقاع المطلقين لا في حكم الشرع

قال هذا القائل : وهذا من أقوى ما يجاب به وبه يزول كل إشكال
ولعمر الله لو سكت هذا كان خيرا له وأستر فإن هذا المسلك من أضعف ما قيل في الحديث وسياقه يبيعن بطلانه بيانا ظاهرا لا إشكال فيه وكأن قائله أحب الترويج على قوم ضعفاء العلم مخلدين إلى حضيض التقليد فروج عليهم مثل هذا وهذا القائل كأنه لم يتأمل ألفاظ الحديث ولم يعن بطرقه فقد ذكرنا من بعض ألفاظه قول أبي الصهباء لابن عباس : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنه فأقر ابن عباس بذلك وقال نعم
وأيضا فقول هذا المتأول : إنهم كانوا يطلقون على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلمواحدة فقد نقضه هو بعينه وأبطله حيث احتج على وقوع الثلاث بحديث الملاعن وحديث محمود بن لبيد أن رجلا طلق امرأته على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلمثلاثا فغضب النبيصلى الله عليه وسلموقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ثم زاد هذا القائل في الحديث زيادة من عنده فقال وأمضاه عليه ولم يرده
وهذه اللفظة موضوعة لا تروى في شيء من طرق هذا الحديث ألبتة وليست في شيء

من كتب الحديث وإنما هي من كيس هذا القائل حمله عليها فرط التقليد ومحمود بن لبيد لم يذكر ما جرى بعد ذلك من إمضاء أو رد إلى واحدة
والمقصود : أن هذا القائل تناقض وتأول الحديث تأويلا يعلم بطلانه من سياقه
ومن بعض ألفاظه أن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر يرد إلى الواحدة وهذا موافق للفظ الآخر كان إذا طلق امرأته ثلاثا جعلوها واحدة وجميع ألفاظه متفقة على هذا المعنى يفسر بعضها بعضا
فجعل هذا وأمثاله المحكم متشابها والواضح مشكلا
كيف يصنع بقوله فلو أمضيناه عليهم فإن هذا يدل على أنه رأي من عمر رضي الله عنه رأى أن يمضيه عليهم لتتايعهم فيه وسدهم على أنفسهم ما وسعه الله عليهم وجمعهم ما فرقه وتطليقهم على غير الوجه الذي شرعه وتعديهم حدوده ومن كمال علمه رضي الله عنه : أنه علم أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل المخرج إلا لمن اتقاه وراعى حدوده وهؤلاء لم يتقوه في الطلاق ولا راعوا حدوده فلا يستحقون المخرج الذي ضمنه لمن اتقاه
ولو كان الثلاث تقع ثلاثا على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم وهو دينه الذي بعثه الله تعالى به لم يضف عمر رضي الله عنه إمضاءه إلى نفسه ولا كان يصح هذا القول منه وهو بمنزلة أن يقول في الزنى وقتل النفس وقذف المحصنات : لو حرمناه عليهم فحرمه عليهم وبمنزلة أن يقول في وجوب الظهر والعصر ووجوب صوم شهر رمضان والغسل من الجنابة : لو فرضناه عليهم ففرضه عليهم
فدعوى هذه التأويلات المستكرهة التي كلما نظر فيها طالب العلم ازداد بصيرة في المسألة وقوي جانبها عنده فإنه يرى أن الحديث لا يرد بمثل هذه الأشياء
قد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في سننه في الحديث مسلكا آخر وقوى جانبها عنده فقال : باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة ثم ساقه فقال : حدثنا أبو داود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : يا ابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم

وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال : نعم وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه بل الترجمة لون والحديث لون آخر وكأنه لما أشكل عليه لفظ الحديث حمله على ما إذا قال لغير المدخول بها : أنت طالق أنت طالق طلقت واحدة ومعلوم أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك ولا يتقيد ذلك بزمان رسول اللهصلى الله عليه وسلموأبي بكر وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنه ثم يتغير في خلافة عمر رضي الله عنه ويمضي الثلاث بعد ذلك على المطلق فالحديث لا يندفع بمثل هذا ألبتة
وسلك آخرون في الحديث مسلكا آخر وقالوا : هذا الحديث يخالف أصول الشرع فلا يلتفت إليه
قالوا : لأن الله سبحانه ملك الزوج ثلاث تطليقات وجعل إيقاعها إليه فإن قلنا بقول الشافعي ومن وافقه أن جمع الثلاث جائز فقد فعل ما أبيح له فيصح وإن قلنا : جمع الثلاث حرام وهو طلاق بدعي فالشارع إنما ملكه تفريق الثلاث فسحة له فإذا جمعها فقد جمع ما فسح له في تفريقه فلزمه حكمه كما لو فرقه
قالوا : وهذا كما أنه يملك تفريق المطلقات وجمعهن فكذلك يملك تفريق الطلاق وجمعه فهذا قياس الأصول فلا نبطله بخبر الواحد
قال الآخرون : هذا القياس لا يصلح أن يثبت به هذا الحكم لو لم يعارض بنص فضلا عن أن يقدم على النص وهو قياس مخالف لأصول الشرع ولغة العرب وسنة رسول اللهصلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة في عهد الصديق
فأما مخالفته لأصول الشرع فإن الله سبحانه إنما ملك المطلق بعد الدخول طلاقا بملك فيه الرجعة ويكون مخيرا فيه بين الإمساك بالمعروف وبين التسريح بالإحسان ما لم يكن بعوض أو يستوفي فيه العدد والقرآن قد بين ذلك كله فبين أن الطلاق قبل الدخول تبين به المرأة ولا عدة عليها وبين أن المفتدية تملك نفسها ولا رجعة لزوجها عليها وبين أن المطلقة الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها تبين منه وتحرم عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وبين

أن ما عدا ذلك من الطلاق فللزوج فيه الرجعة وهو مخير بين الإمسك بالمعروف والتسريح بإحسان
وهذا كتاب الله عز و جل قد تضمن هذه الأنواع الأربعة وأحكامها وجعل سبحانه وتعالى أحكامها من لوازمها التي لا تنفك عنها فلا يجوز ان تتغير أحكامها البتة فكما لا يجور في الطلاق قبل الدخول أن تثبت فيه الرجعة وتجب به العدة ولا في الطلقة المسبوقة بطلقتين أن يثبت فيها الرجعة وأن تباح بغير زوج وإصابة ولا في طلاق الفدية أن تثبت فيه الرجعة فكذلك لا يجوز في النوع الآخر من الطلاق ان يتغير حكمه فيقع على وجه لا تثبت فيه الرجعة فإنه مخالف لحكم الله تعالى الذي حكم به فيه وهذا صفة لازمة له فلا يكون على خلافها البتة
ومن تأمل القرآن وجده لا يحتمل غير ذلك فما شرع الله سبحانه الطلاق إلا وشرع فيه الرجعة إلا الطلاق قبل الدخول وطلاق الخلع والطلقة الثالثة فبيننا وبينكم كتاب الله فإن كان فيه شيء غير هذا فأوجدونا إياه
ومما يوضح ذلك : أن جمهور الفقهاء من الطوائف الثلاثة احتجوا على الشافعي في تجويزه جمع الثلاث بالقرآن وقالوا : ما شرع الله سبحانه جمع الطلاق الثلاث وما شرع الطلاق بعد الدخول بغير عوض إلا شرع فيه الرجعة ما لم يستوف العدد
واحتجوا عليه بقوله تعالى الطلاق مرتان  قالوا : ولا يعقل في لغة من لغات
الأمم المرتان إلا مرة بعد مرة فعارضهم بعض أصحابه بقوله تعالى ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب : 31 ] وقوله صلى الله عليه و سلم ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين
فأجابهم الآخرون : بأن المرتين والمرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان تارة وأكثر ما تستعمل في الأفعال وأما الأعيان فكقوله في الحديث : انشق القمر على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم

مرتين أي شقتين وفلقتين ولما خفي هذا على من لم يحط به علما زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة في زمانين وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خبرة بأحوال الرسولصلى الله عليه وسلموسيرته أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة ولكن هذا وأمثاله فهموا من قوله مرتين المرة الزمانية
اذا عرف هذا فقوله نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب : 31 ] وقوله يؤتون أجرهم مرتين [ القصص : 54 ] أي ضعفين فيؤتون أجرهم مضاعفا وهذا يمكن اجتماع المرتين منه في زمان واحد وأما المرتان من الفعل فمحال اجتماعهما في زمن واحد فإنهما مثلان واجتماع المثلين محال وهو نظير اجتماع حرفين في آن واحد من متكلم واحد وهذا مستحيل قطعا فيستحيل أن يكون مرتا الطلاق في إيقاع واحد
ولهذا جعل مالك وجمهور العلماء من رمى الجمار بسبع حصيات جملة أنه غير مؤدي للواجب عليه وإنما يحتسب له رمي حصاة واحدة فهي رمية لا سبع رميات
واتفقوا كلهم على أنه لو قال في اللعان : أشهد بالله أربع شهادات أني صادق كانت شهادة واحدة وفي الحديث الصحيح : من قال في يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر فلو قال : سبحان الله وبحمده مائة مرة هذا اللفظ لم يستحق الثواب المذكور وكانت تسبيحة واحدة
وكذلك قوله تسبحون الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدون ثلاثا وثلاثين وتكبرون أربعا وثلاثين لو قال : سبحان الله ثلاثا وثلاثين لم يكن مسبحا هذا العدد حتى يأتي به واحدة بعد واحدة
ونظائر ذلك في الكتاب والسنة اكثر من أن تذكر
قالوا : فقوله تعالى الطلاق مرتان إما أن يكون خبرا في معنى الأمر أي إذا طلقتم

فطلقوا مرتين وإما أن يكون خبرا عن حكمه الشرعي الديني أي الطلاق الذي شرعته لكم وشرعت فيه الرجعة مرتان
وعلى التقديرين إنما يكون ذلك مرة بعد مرة فلا يكون موقعا للطلاق الذي شرع إلا إذا طلق مرة بعد مرة ولا يكون موقعا للمشروع بقوله أنت طالق ثلاثا ولا مرتين
قالوا ويوضح ذلك أنه حصر الطلاق المشروع في مرتين فلو شرع جمع الطلاق في دفعة واحدة لم يكن الحصر صحيحا ولم يكن الطلاق كله مرتان بل كان منه مرتان ومنه مرة واحدة تجمعه وهذا خلاف ظاهر القرآن وأنه لا طلاق للمدخول بها إلا مرتان وتبقى الثالثة المحرمة بعد ذلك
قالوا ويدل عليه أن الطلاق اسم محلي باللام وليست للعهد بل للعموم فالمراد بالآية كل الطلاق مرتان والمرة الثالثة التي تحرمها عليه وتسقط رجعته وهذا صريح في أن الطلاق المشروع هو المتفرق لأن المرات لا تكون إلا متفرقة كما تقدم
قالوا ويدل عليه قوله تعالى 2 : 229 فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها فإنه لا يبقى بعدها إمساك
قالوا ويدل عليه قوله تعالى 2 : 230 وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف وإذا من أدوات العموم كأنه قال أي طلاق وقع منكم في أي وقت فحكمه هذا إلا أنه أخرج من هذا العموم الطلقة المسبوقة باثنتين فبقي ما عداها داخلا في لفظ الآية نصا أو ظاهرا
قالوا ويدل عليه أيضا قوله تعالى 2 : 231 وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن فهذا عام في كل طلاق غير الثالثة المسبوقة باثنتين فالقرآن يقتضي أن ترجع إلى زوجها إذا أراد في كل طلاق ما عدا الثالثة
قالوا ويدل عليه أيضا قوله تعالى 65 : 1 يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ووجه الاستدلال بالآية من وجوه

أحدها أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها أي لاستقبال عدتها فتطلق طلاقا يعقبه شروعها في العدة ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حيضها أن يراجعها وتلا هذه الآية تفسير للمراد بها وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة وكذلك كان يقرؤها عبدالله بن عمر ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث إنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر لأنه غير مطلق للعدة فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة
ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة لأن العدة تنقطع بذلك فإذا طلقها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة
وقال في رواية أخرى عنه له أن يطلقها الثانية في الطهر الثاني ويطلقها الثالثة في الطهر وهو قول أبي حنيفة فيكون مطلقا للعدة أيضا لأنها تبتني على ما مضى والصحيح هو الأول وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة والعقد لأن الطلاق الثاني لم يكن لاستقبال العدة بل هو طلاق لغير العدة فلا يكون مأذونا فيه فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى لأنها طلاق العدة بخلاف الثانية والثالثة
ومن جعله مشروعا قال هو الطلاق لتمام العدة والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها وكلاهما طلاق للعدة
وأصحاب القول الأول يقولون المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة فطلقوهن في قبل عدتهن
قالوا فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه ولهذا يسوغ الإرداف في الأطهار من لا يجوز الجمع في الطهر الواحد
وقد احتج عبدالله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية
قال مجاهد كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول يا ابن عباس

وإن الله عز و جل قال ومن يتق الله يجعل له مخرجا فما أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك وإن الله عز و جل قال يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن وهذا حديث صحيح
ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم وهذا فهم من دعا له النبي صلى الله عليه و سلم أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل وهو من أحسن الفهوم كما تقرر
الوجه الثاني من الاستدلال بالآية قوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وهذا إنما هو الطلاق الرجعي فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم الصحيحة التي لا مطعن في صحتها الصريحة التي لا شبهة في دلالتها فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله ولهذا قال الجمهور إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض
وأبو حنيفة قال لا يملك ذلك لأن الرجعة حقه وقد أسقطها
والجمهور يقولون ثبوت الرجعة وإن كان حقا له فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن
الوجه الثالث أنه قال 65 : 1 وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما
الوجه الرابع أنه سبحانه قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن وهم الصحابة أن الأمر ههنا هو الرجعة قالوا وأي أمر يحدث بعد الثلاث
الوجه الخامس قوله تعالى 2 : 230 فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا أن يسبق بطلقتين قبله وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن كما تقدم وهذا حق فإن الآية إذا دلت على منع إرداف

الطلاق الطلاق في طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى
قالوا والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة لئلا يتسارع العبد في وقوعه ومفارقة حبيبته وقد وقت للعدة أجلا لاستدراك الفارط بالرجعة فلم يبح له أن يطلق المرأة في حال حيضها لأنه وقت نفرته عنها وعدم قدرته على استمتاعه بها ولا عقيب جماعها لأنه قد قضى غرضه منها وربما فترت رغبته فيها وزهد في إمساكها لقضاء وطره فإذا طلقها في هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا مع ما في الطلاق في الحيض من تطويل العدة وعقيب الجماع من طلاق لعلها قد اشتمل رحمها على ولد منه فلا يريد فراقها فأما إذا حاضت ثم طهرت فنفسه تتوق إليها لطول عهده بجماعها فلا يقدم على طلاقها في هذه الحال إلا لحاجته إليه فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا في هذه الحال أو في حال استبانة حملها لأن إقدامه أيضا على طلاقها في هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق
وقد أكد النبي صلى الله عليه و سلم هذا بمنعه لعبدالله بن عمر أن يطلق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن بدا له أن يطلقها فليطلقها وفي ذلك عدة حكم
منها أن الطهر المتصل بالحيضة هو وهي في حكم القرء الواحد فإذا طلقها في ذلك الطهر فكأنه طلقها في الحيضة لاتصاله بها وكونه معها كالشيء الواحد
الثانية أنه لو أذن له في طلاقها في ذلك الطهر فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق وهذا ضد مقصود الرجعة فإن الله تعالى إنما شرع الرجعة للإمساك ولم شعث النكاح وعود الفراش فلا يكون لأجل الطلاق فيكون كأنه راجع ليطلق وإنما شرعت الرجعة ليمسك وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة والمحلل تزوج ليطلق فهو مضاد لله تعالى في شرعه ودينه

الثالثة أنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر زال ما في نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق وربما صلحت الحال بينهما وأقلعت عما يدعوه إلى طلاقها فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها وإذا كان الشارع ملتفتا إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج وشرع الطلاق على هذا الوجه الذي هو أبعد شيء عن الندم فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقا بحيث لا يكون له سبيل إليها وكيف يجتمع في حكمة الشارع وحكمه هذا وهذا
فهذه الوجوه ونحوها ما بين بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع هي بعينها تبين عدم الوقوع وأنه إنما يقع المشروع وحده وهي الواحدة
قالوا فتبين أنا بأصول الشرع وقواعده أسعد منكم وأن قياس الأصول وقواعد الشرع من جانبنا وقد تأيدت بالسنة الصحيحة التي ذكرناها
وقولكم إن المطلق ثلاثا قد جمع ما فسح له في تفريقه هو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقا لا مجموعا فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه ولهذا قال من قال من السلف رجل أخطأ السنة فيرد إليها فهذا أحسن من كلامكم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة
ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد وأذن فيه متفرقا فأراد أن يجمعه كرمي الجمار الذي إنما شرع له مفرقا واللعان الذي شرع كذلك وأيمان القسامة التي شرعت كذلك ونظير قياسكم هذا أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها في وقت واحد لأنه جمع ما أمر بتفريقه على أن هذا قد فهمه كثير من العوام يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع في وقت واحد ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها

فصل فاستروح بعضهم إلى مسلك آخر غير هذه المسالك لما تبين له
فسادها
فقال هذا حديث واحد والأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم دالة على خلافه وذكروا أحاديث
منها ما في الصحيحين عن فاطمة بنت قيس أن أبا حفص بن المغيرة طلقها ألبتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت له ذلك فقال ليس لك عليه نفقة
وقد جاء تفسير هذه ألبتة في الحديث الآخر الصحيح أنه طلقها ثلاثا فلم يجعل لها النبي صلى الله عليه و سلم سكنى ولا نفقة فقد أجاز عليه الثلاث وأسقط بذلك نفقتها وسكناها
وفي المسند أن هذه الثلاث كانت جميعا فروى من حديث الشعبي أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي صلى الله عليه و سلم لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة فقال مالك ولابنة قيس قال يا رسول الله إن أخي طلقها ثلاثا جميعا وذكر الحديث
ومنها ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت فسئل النبي صلى الله عليه و سلم أتحل للأول قال لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول
ووجه الدليل أنه لم يستفصل هل طلقها ثلاثا مجموعة أو متفرقة ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال
ومنها ما اعتمد عليه الشافعي في قصة الملاعنة أن عويمرا العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله رأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فائت بها قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم

فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الزهري وكانت تلك سنة المتلاعنين متفق على صحته
قال الشافعي فقد أقره رسول الله صلى الله عليه و سلم على الطلاق ثلاثا ولو كان حراما لما أقره عليه
ومنها ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله ولم يقل إنه لم يقع عليه إلا واحدة بل الظاهر أنه أجازها عليه إذ لو كانت ولم يقع عليه إلا واحدة لبين له ذلك لأنه إنما طلقها ثلاثا يعتقد لزومها فلو لم يلزمه لقال له هي زوجتك بعد وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
ومنها ما رواه أبو داود وابن ماجة عن ركانة أنه طلق امرأته ألبتة فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما أردت قال واحدة قال آلله ما أردت بها إلا واحدة قال آلله ما أردت بها إلا واحدة ورواه الترمذي وفيه فقال يا رسول الله إني طلقت امرأتي ألبتة فقال ما أردت بها فقلت واحدة قال والله قلت والله قال فهو ما أردت قال أبو دواد وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وقال ابن ماجة سمعت أبا الحسن علي بن محمد الطنافسي يقول ما أشرف هذا الحديث قال أبو عبدالله بن ماجه : أبو عبيد تركه ناجية وأحمد جبن عنه

ووجه الدلالة : أنه حلفه ما أراد بها إلا واحدة وهذا يدل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لألزمه ذلك ولو كانت واحدة مطلقا لم يفترق الحال بين أن يريد واحدة أو أكثر وإذا كان هذا في الكناية فكيف بالطلاق الصريح إذا صرح فيه بالثلاث
ومنها : ما رواه الدارقطني من حديث حماد بن زيد : حدثنا عبدالعزيز بن صهيب عن أنس قال سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت معاذ بن جبل يقول : سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلميقول : يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته ومنها : ما رواه الدارقطني من حديث إبراهيم بن عبيدالله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال : طلق بعض آبائي امرأته ألبتة فانطلق بنوه إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إن أبانا طلق امرأته ألفا فهل له من مخرج فقال : إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا بانت منه : بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه
ومنها : ما رواه الدارقطني أيضا من حديث زاذان عن علي رضي الله عنه قال : سمع النبيصلى الله عليه وسلمرجلا طلق ألبتة فغضب وقال : أتتخذون آيات الله هزوا أو دين الله هزوا ولعبا من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره
ومنها : ما رواه الدارقطني من حديث الحسن البصري قال : حدثنا عبدالله بن عمر : أنه طلق امرأته وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين فبلغ ذلك رسول اللهصلى الله عليه وسلمفقال : يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى إنك قد أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق عند ذلك أو أمسك فقلت : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها قال : لا كانت تبين منك وتكون معصية
ومنها : ما رواه أبو داود والنسائي عن حماد بن زيد قال : قلت لأيوب : هل علمت أحدا قال في أمرك بيدك إنها ثلاث غير الحسن قال : لا ثم قال : اللهم غفرا إلا ما حدثني

قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلمقال : ثلاث فلقيت كثيرا فسألته فلم يعرفه فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال : نسي رواه الترمذي وقال : لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد وحسبك بسليمان بن حرب وحماد بن زيد ثقتين ثبتين
ومنها : ما رواه البيهقي من حديث سويد بن غفلة عن الحسن أنه طلق عائشة الخثعمية ثلاثا ثم قال : لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول : أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره : لراجعتها رواه من حديث محمد بن حميد : حدثنا سلمة بن الفضل عن عمر بن أبي قيس عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد وهذا مرفوع قالوا : فهذه الأحاديث أكثر وأشهر وعامتها أصح من حديث أبي الصهباء وحديث ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس فيجب تقديمها عليه ولا سيما على قاعدة الإمام أحمد فإنه يقدم الأحاديث المتعددة على الحديث الفرد عند التعارض وإن كان الحديث الفرد متأخرا كما قدم في إحدى الروايتين أحاديث تحريم الأوعية على حديث بريدة لكونها كثيرة متعددة وحديث بريدة في إباحتها فرد وهو متأخر فانه قال : كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم غير أن لا تشربوا مسكرا مع أنه حديث صحيح رواه مسلم ولا يعرف له علة

فصل قال الآخرون : هذه الأحاديث التي ذكرتموها ولم تدعوا بعدها شيئا
هي بين أحاديث صحيحة لا مطعن فيها ولا حجة فيها وبين أحاديث صريحة الدلالة ولكنها باطلة أو ضعيفة لا يصح شىء منها
ونحن نذكر ما فيها ليتبين الصواب ويزول الإشكال
أما حديث فاطمة بنت قيس : فمن أصح الأحاديث مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسئلة قد خالفوه ولم يأخذوا به فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسكنى ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وأما الشافعي ومالك فأوجبوا لها السكنى والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم وإن لم يكن محفوظا بل هو غلط كما قال بعض المتقدمين فليس حجة علينا في جمع الثلاث فأما أن يكون حجة على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل هذا مع أنا نتنزل عن هذا المقام ونقول : الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من

المحتج به ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك ثم طلقها آخر الثلاث هكذا جاء مصرحا به في الصحيح فروى مسلم في صحيحه عن عبيدالله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فقالا لها : والله مالك نفقة إلا أن تكوني حاملا فأتت النبيصلى الله عليه وسلمفذكرت له قولهما فقال : لا نفقة لك وساق الحديث بطوله
فهذا المفسر يبين ذلك المجمل وهو قوله طلقها ثلاثا
وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس : أنها أخبرته أنها كانت تحت أبي حفص بن المغيرة وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات وساق الحديث ذكره أبو داود ثم قال : وكذلك رواه صالح بن كسيان وابن جريج وشعيب بن أبي حمزة كلهم عن الزهري ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن

الزهري عن عبيدالله قال : أرسل مروان إلى فاطمة فسألها فأخبرته : أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة وكان النبيصلى الله عليه وسلمأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن فخرج معه زوجها فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها وذكر الحديث بتمامه والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب كذلك ذكره أبو داود في طريق أخرى
فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس قالوا : ونحن أخذنا به جميعه ولم نخالف شيئا منه إذ كان صحيحا صريحا لا مطعن فيه ولا معرض له فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار
وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ طلقها ثلاثا و طلقها البتة و طلقها آخر ثلاث تطليقات و أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها و طلقها ثلاثا جميعا
هذه جملة ألفاظ الحديث والله الموفق
فأما اللفظ الخامس وهو قوله طلقها ثلاثا جميعا فهذا أولا من حديث مجالد عن الشعبي ولم يقل ذلك عن الشعبي غيره مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله ثلاثا جميعا وعلى تقدير صحته : فالمراد به : أنه أجتمع لها التطليقات الثلاث لا أنها وقعت بكلمة واحدة فإذا طلقها آخر ثلاث صح أن يقال : طلقها ثلاثا جميعا فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد وهو الأغلب عليها لا الإجتماع في الآن الواحد لقوله تعالى : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا [ يونس : 99 ] فالمراد حصول إيمان من الجميع لا إيمانهم كلهم في آن واحد سابقهم ولاحقهم
فصل وكذلك ما ذكروه من حديث عائشة رضي الله عنها : أن رجلا طلق
امرأته ثلاثا فسئل النبيصلى الله عليه وسلم أتحل للأول فقال : لا الحديث هو حق يجب المصير إليه لكن ليس فيه أنه طلقها ثلاثا بفم واحد فلا تدخلوا فيه ما ليس فيه وقولكم : ولم يستفصل جوابه : أن الحال قد كان عندهم معلوما وأن الثلاث إنما

تكون ثلاثا واحدة بعد واحدة وهذا مقتضى اللغة والقرآن والشرع والعرف كما بينا فخرج على المفهوم المتعارف من لغة القوم
فصل وأما ما اعتمد عليه الشافعي : من طلاق الملاعن ثلاثا بحضرة رسول
اللهصلى الله عليه وسلمولم ينكره فلا دليل فيه لأن الملاعنة يحرم عليه إمساكها وقد حرمت تحريما مؤبدا فما زاد الطلاق الثلاث هذا التحريم الذي هو مقصود اللعان إلا تأكيدا وقوة وهذا جواب شيخنا رحمه الله وقال ابن المنذر وقد ذكر الأدلة على تحريم جمع الطلاق الثلاث وأنه بدعة ثم
قال : وأما ما اعتل به من رأى أن مطلق الثلاث في مرة واحدة مطلق للسنة بحديث العجلاني فإنما أوقع الطلاق عنده على أجنبيةعلم الزوج الذي طلق ذلك أو لم يعلم لأن قائله يوقع الفرقة بالتعان الرجل قبل أن تلتعن المرأة فغير جائز أن يحتج بمثل هذه الحجة من يرى أن الفرقة تقع بالتعاونى الزوج وحده انتهى
وحينئذ فنقول : إما أن تقع الفرقة بالتعان الزوج وحده كما يقوله الشافعي أو بالتعانهما كما يقوله أحمد أو يقف على تفريق الحاكم فإن وقعت بالتعانه أو التعانهما فالطلاق الذي وقع منه لغو لم يفد شيئا البتة بل هو في طلاق أجنبية وإن وقفت الفرقة على تفريق الحاكم فهو يفرق بينهما تفريقا يحرمها عليه تحريما مؤبدا فالطلاق الثلاث أكد هذا التحريم الذي هو موجب اللعان ومقصود الشارع فكيف يلحق به طلاق الملاعنة وبينهما أعظم فرق

فصل وأما حديث محمود بن لبيد في قصة المطلق ثلاثا فالاحتجاج به على
الجواز من باب قلب الحقائق والاحتجاج بأعظم ما يدل على التحريم لا على الإباحة والاستدلال به على

الوقوع من باب التكهن والخرص والزيادة في الحديث ما ليس فيه ولا يدل عليه بشيء من وجوه الدلالات ألبتة ولكن المقلد لا يبالي بنصرة تقليده بما اتفق له وكيف يظن برسول اللهصلى الله عليه وسلمأنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله وصححه واعتبره في شرعه وحكمه ونفذه وقد جعله مستهزئا بكتاب الله تعالى وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث ولا جعله في أحكامه
فصل وأما حديث ركانه أنه طلق امرأته البتة وأن رسول اللهصلى الله عليه وسلماستحلفه ما
أراد بها إلا واحدة فحديث لا يصح قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب العلل له : قال أحمد : حديث ركانه ليس بشيء وقال الخلال في كتاب العلل عن الأثرم : قلت لأبي عبدالله : حديث ركانه في البتة فضعفه وقال : ذاك جعله بنيته
وقال شيخنا : الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث : كالإمام أحمد والبخاري وأبي عبيد وغيرهم ضعفوا حديث ركانه ألبتة وكذلك أبو محمد بن حزم وقالوا : إن رواته قوم مجاهيل لا تعرف عدالتهم وضبطهم قال : وقال الإمام أحمد : حديث ركانة أنه طلق امرأته ألبتة لا يثبت وقال أيضا : حديث ركانة في ألبتة ليس بشىء لأن ابن اسحق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا : طلق البتة
فإن قيل : فقد قال أبو داود : حديث ألبتة أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا لأنهم أهل بيته وهم أعلم به يعني وهم الذين رووا حديث ألبتة
فقد قال شيخنا في الجواب : أبو اداود إنما رجح حديث البتة على حديث ابن جريج لأنه روى حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول فقال : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني بعض ولد أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس قال : طلق

عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ثلاثا الحديث ولم يرو الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ابراهيم بن سعد : حدثني أبي عن محمد بن إسحق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد فلهذا رجح أبو داود حديث ألبتة على حديث ابن جريج ولم يتعرض لهذا الحديث ولا رواه في سننه ولا ريب أنه أصح من الحديثين وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد فإذا انضم حديث أبي الصهباء إلى حديث ابن إسحق إلى حديث ابن جريج مع اختلاف مخارجها وتعدد طرقها أفادت العلم بأنها أقوى من حديث البتة بلا شك ولا يمكن من شم روائح الحديث ولو على بعد أن يرتاب في ذلك فكيف يقدم الحديث الضعيف الذي ضعفه الائمة ورواته مجاهيل على هذه الأحاديث

فصل وأما حديث معاذ بن جبل فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث
الباطل والدارقطني إنما رواه للمعرفة وهو أجل من أن يحتج به وفي إسناده : إسماعيل بن أمية الذارع يرويه عن حماد قال الدارقطني بعد روايته : إسماعيل بن أمية ضعيف متروك الحديث
فصل وأما حديث عبادة بن الصامت الذي وراه الدارقطني فقد قال عقيب
إخراجه : رواته مجهولون وضعفاء إلا شيخنا وابن عبد الباقي
فصل وأما حديث زاذان عن علي رضي الله عنه فيرويه إسماعيل بن أمية
القرشي قال الدارقطني : إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث قلت : وفي إسناده مجاهيل وضعفاء

فصل وأما حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف قال
الدارقطني : حدثنا علي بن محمد بن عبيد الحافظ حدثنا محمد بن شاذان الجوهري حدثنا يعلي بن منصور حدثنا شعيب بن رزيق أن عطاء الخرساني حدثهم عن الحسن قال : حدثنا عبدالله بن عمر فذكره وشعيب وثقه الدارقطني وقال أبو الفتح الأزدي : فيه لين وقال البيهقي وقد روى هذا الحديث : وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه انتهى
ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر هذا فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب ألبتة ولهذا لم يرو حديثه هذا أحدمن أصحاب الصحيح ولا السنن
فصل وأما حديث كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة فقد
أنكره كثير لما سئل عنه ومثل هذا بعيد أن ينسى وقد أعل البيهقي هذا الحديث وقال : كثير لم يثبت

من معرفته ما يوجب الاحتجاج به قال : وقول العامة بخلاف روايته وقد ضعفه عبد الحق في أحكامه وابن حزم في كتابه

فصل وأما حديث سويد بن غفلة عن الحسن فمن رواية محمد بن حميد الرازي
قال أبو زرعة الرازي : كذاب وقال صالح جزرة : ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن الشاذكوني وسلمة بن الفضل قال أبو حاتم : منكر الحديث وإن كان رواته شتى فقد ضعفه إسحاق بن راهوية وغيره
فصل فلما رأى آخرون ضعف هذه المسالك استروحوا إلى مسلك آخر وظنوا
أنهم قد استروحوا به من كلفة التأويل ومشقته
فقالوا : الإجماع قد انعقد على لزوم الثلاث وهو أكبر من خبر الواحد كما قال الشافعي رحمه الله : الاجماع أكبر من الخبر المنفرد وذلك أن الخبر يجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الاجماع فإنه معصوم
قالوا : ونحن نسوق عن الصحابة والتابعين ما يبين ذلك
فثبت في صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه أمضى عليهم الثلاث ووافقه الصحابة
قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن شفيق سمع أنسا يقول قال عمر : في الرجل يطلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها قال : هي ثلاث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وكان إذا أتي به أوجعه
وروى البيهقي من حديث ابن أبي ليلى عن على رضي الله عنه فيمن طلق ثلاثا قبل الدخول قال : لا تحل حتى تنكح زوجا غيره

وروى حاتم ابن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على لا تحل له حتى تنكح غيره وروى أبو نعيم عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن بعض أصحابه قال جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال : طلقت امرأتي ألفا فقال : ثلاث تحرمها عليك واقسم سائرها بين نسائك
وقال علقمة بن قيس : أتى رجل ابن مسعود رضي الله عنه فقال : إن رجلا طلق امرأته البارحة مائة قال : قلتها مرة واحدة قال : نعم قال : تريد أن تبين منك امرأتك قال : نعم قال : هو كما قلت وأتاه رجل فقال : إنه طلق امرأته البارحة عدد النجوم فقال له مثل ذلك ثم قال قد بين الله سبحانه أمر الطلاق فمن طلق كما أمره الله تعالى فقد بين له ومن لبس جعلنا عليه لبسه والله لا تلبسون إلا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون
وروى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس البكير قال : طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له فسأل أبا هريرة وابن عباس عن ذلك فقالا : لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك قال : إنما كان طلاقي إياها واحدة فقال ابن عباس : إنك قد أرسلت من يدك ما كان لك من فضل
وفي الموطأ أيضا في هذه القصة أن ابن البكير سأل عنها ابن الزبير فقال : إن هذا لأمر مالنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة : فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما ثم ائتنا فأخبرنا فذهب فسألهما فقال ابن عباس لابي هريرة : أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال : أبو هريرة الواحد تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره وقال ابن عباس مثل ذلك

فهذه عائشة لم تنكر عليهما ولا ابن الزبير
وفي الموطأ أيضا : عن النعمان بن أبي عياش عن عطاء بن يسار قال جاء رجل يستفتي عبدالله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها قال عطاء : فقلت : إنما طلاق البكر واحدة فقال لي عبدالله بن عمرو بن العاص : إنما أنت قاص الواحدة تبينها والثلاث تحرمها : حتى تنكح زوجا غيره
وروى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره
وروي البيهقي من حديث معاذ بن معاذ : حدثنا شعبة عن طارق بن عبدالرحمن : سمعت قيس بن أبي عاصم قال : سأل رجل المغيرة وأنا شاهد عن رجل طلق امرأته مائة فقال : ثلاثة تحرم وسبع وتسعون فضل
وروى البيهقي عن سويد بن غفلة قال : كانت عائشة الخثعمية عند الحسن فلما قتل علي رضي الله عنه قالت : لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين فقال : بقتل علي تظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق يعني ثلاثا فتلفعت بثيابها حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فقالت لما جاءها الرسول : متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى وقال : لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول : أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثة مبهمة لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره : لراجعتها
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن علي رضي الله عنه أنه قال في الحرام والبتة والبائن والخلية والبرية : ثلاثا ثلاثا قال

شعبة : فلقيت عطاء فقلت : من حدثك عن هذا قال أبو البختري قال أحمد : وأنا أهابها ولا أجيب فيها لأنه يروي عن عامة الناس أنها ثلاث : علي وزيد وابن عمر وعامة التابعين وأما ابن عباس فروى عنه مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير ومعاوية بن أبي عياش وغيرهم : أنه ألزم الثلاث من أوقعها جملة قال الإمام أحمد وقد سأله الأثرم : بأي شيء ترد حديث ابن عباس كان الطلاق على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلموأبي بكر وعمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة بأي شىء تدفعه قال : برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس : أنها ثلاث وإلى هذا نذهب
وذكر البيهقي : أن رجلا أتى عمران بن حصين وهو في المسجد فقال : رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس فقال : أثم بربه وحرمت عليه امرأته فانطلق الرجل فذكر ذلك لأبي موسى يريد بذلك عيبه فقال : ألا ترى أن عمران قال كذا وكذا فقال أبو موسى : أكثر الله فينا مثل أبي نجيد
قالوا فهذا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وعبدالله بن الزبير وعمران بن حصين والمغيرة بن شعبة والحسن بن علي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين
وأما التابعون فأكثر من أن يذكروا والإجماع يثبت بدون هذا ولهذا حكاه غير واحد منهم أبو بكر بن العربي وأبو بكر الرازي وهو ظاهر كلام الإمام أحمد فإنه

قال في رواية الأثرم وذكر قول من قال : إذا خالف السنة يرد إلى السنة : إنه ليس بشيء وقال هذا مذهب الرافضة وظاهر هذا : أن القول بالوقوع إجماع أهل السنة
قال الآخرون : قد عرفتم ما في دعوى الإجماع الذي لم يعلم فيه مخالف : أنه راجع إلى عدم العلم لا إلى العلم بانتفاء المخالف وعدم العلم ليس بعلم حتى يحتج به ويقدم على النصوص الثابتة هذا إذا لم يعلم مخالف فكيف إذا علم المخالف وحينئذ فتكون المسألة مسألة نزاع يجب ردها إلى الله تعالى ورسوله ومن أبى ذلك فهو إما جاهل مقلد وإما متعصب صاحب هوى عاص لله تعالى ورسولهصلى الله عليه وسلم متعرض للحوق الوعيد به فإن الله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر الآية [ النساء : 59 ] فإذا ثبت أن المسألة مسألة نزاع وجب قطعا ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله وهذه
المسألة مسألة نزاع بلا نزاع بين أهل العلم الذين هم أهله والنزاع فيها من عهد الصحابة إلى وقتنا هذا
وبيان هذا من وجوه :
أحدها : ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قال : أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة وهذا الإسناد على شرط البخاري
وقال عبدالرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب قال : دخل الحكم بن عيينة على الزهري بمكة وأنا معهم فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا فقال : سئل عن ذلك ابن عباس وأبو هريرة وعبدالله بن عمرو فكلهم قالوا : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره قال : فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاوسا وهو في المسجد فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها وأخبره بقول الزهري قال : فرأيت طاوسا رفع يديه تعجبا من ذلك وقال : والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة
أخبرنا ابن جريح قال وأخبرني حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال : إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا قال : فأخبرت طاوسا فقال أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة

فقوله إذا طلق ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا أي إذا كن متفرقات فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة وهذا هو الذي حلف عليه طاوس : أن ابن عباس كان يجعله واحدة
ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك وأنها ثلاث فهما روايتان : ثابتتان عن ابن عباس بلا شك
الوجه الثاني : أن هذا مذهب طاوس قال عبدالرزاق : أخبرنا ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وأنه كان يقول : يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن طاوس وعطاء أنهما قالا : إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة الوجه الثالث : أنه قول عطاء بن أبي رباح قال ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن بشر حدثنا إسمعيل عن قتادة عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا : إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة
الوجه الرابع : أنه قول جابر بن زيد كما تقدم
الوجه الخامس : أن هذا مذهب محمد بن إسحق عن داود عن الحصين حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم ولفظه : حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فجعلها النبيصلى الله عليه وسلمواحدة قال أبو عبدالله : وكان هذا مذهب ابن إسحق يقول : خالف السنة فيرد إلى السنة
الوجه السادس : أنه مذهب إسحق بن راهوية في البكر قال محمد بن نصر المروزي في كتاب اختلاف العلماء له : وكان إسحق يقول : طلاق الثلاث للبكر واحدة وتأول حديث طاوس عن ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلموأبي بكر وعمر يجعل واحدة : على هذا قال : فإن قال لها ولم يدخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإن سفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد وأبا عبيد قالوا :

بانت منه بالأولى وليست الثنتان بشيءلأن غير المدخول بها تبين بواحدة ولا عدة عليها وقال مالك وربيعة وأهل المدينة والأوزاعي وابن أبي ليلى : إذا قال لها ثلاث مرات : أنت طالق نسقا متتابعة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره فإن هو سكت بين التطليقتين بانت بالأولى ولم تلحقها الثانية
فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاث مذاهب للصحابة والتابعين ومن بعدهم
أحدها : أنها واحدة سواء قالها بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ
والثاني : أنها ثلاث سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ
والثالث : أنه إن أقوعها بلفظ واحد فهي ثلاث وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحد
الوجه السابع : أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول قال ابن المنذر في كتابه الأوسط : وكان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون : من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة
الوجه الثامن : أنه مذهب سعيد بن جبير كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه إنما هو مذهب سعيد بن جبير
الوجه التاسع : أنه مذهب الحسن البصري الذي استقر عليه قال ابن المنذر : واختلف في
هذا الباب عن الحسن فروي عنه كما رويناه عن أصحاب النبيصلى الله عليه وسلموذكر قتادة وحميد ويونس عنه : أنه رجع عن قوله بعد ذلك فقال : واحدة بائنة وهذا الذي ذكره ابن المنذر رواه عبدالرزاق في المصنف فقال : أخبرنا معمر عن قتادة قال : سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثا فقال الحسن : وما بعد الثلاث فقلت صدقت وما بعد الثلاث فأفتى الحسن بذلك زمنا ثم رجع فقال : واحد تبينها ويحطها قاله حياته
الوجه العاشر : أنه مذهب عطاء بن يسار قال عبدالرزاق : أخبرنا مالك عن يحيى ابن سعيد عن بكير عن يعمر بن أبي عياش قال سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل

يطلق البكر ثلاثا فقال : إنما طلاق البكر واحدة فقال له عبدالله بن عمرو بن العاص : أنت قاص الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره فذكر عطاء مذهبه وعبدالله بن عمرو مذهبه
الوجه الحادي عشر : أنه مذهب خلاس بن عمرو حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف عنه
الوجه الثاني عشر : أنه مذهب مقاتل الرازي حكاه عنه المازرى في كتابه المعلم بفوائد مسلم قال الخطيب : حدث عن عبدالله بن المبارك وعباد بن العوام ووكيع بن الجراح وأبي عاصم النبيل روى عنه الإمام أحمد والبخاري في صحيحه وكان ثقة الوجة الثالث عشر : أنه إحدى الروايتين عن مالك حكاها عنه جماعة من المالكية منهم التلمساني صاحب شرح الخلاف وعزاها إلى ابن أبي زيد : أنه حكاها رواية عن مالك وحكاها غيره قولا في مذهب مالك وجعله شاذا
الوجه الرابع عشر : أن ابن مغيث المالكي حكاه في كتاب الوثائق وهو مشهور عند المالكية عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك هكذا قال واحتج لهم بأن قوله : أنت طالق ثلاثا : كذب لأنه لم يطلق ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة كما لو قال : حلفت ثلاثا كان يمينا واحدة ثم ذكر حججهم من الحديث
الوجه الخامس عشر : أن أبا الحسن علي بن عبدالله بن إبراهيم اللخمي المشطي صاحب كتاب الوثائق الكبير الذي لم يصنف في الوثائق مثله حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم فقال : وأما من قال : أنت طالق ثلاثا فقد بانت منه قال ألبتة أو لم يقل قال : وقال بعض الموثقين يريد المصنفين في الوثائق : اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق فالجمهور من العلماء على أنه يلزمه الثلاث وبه القضاء وعليه الفتوى وهو الحق الذي لا شك فيه قال : وقال بعض السلف : يلزمه من ذلك طلقة واحدة وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتين بالأندلس قال : واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة وأحاديث مسطورة أضربنا عنها واقتصرنا على الصحيح منها فمنها : ما رواه داود بن الحصين عن

عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق زوجته عند رسول اللهصلى الله عليه وسلمثلاثا في مجلس واحد فقال له النبيصلى الله عليه وسلم إنما هي واحدة فإن شئت فدعها وإن شئت فارتجعها ثم ذكر حديث أبي الصهباء وذكر بعض تأويلاته التي ذكرناها
الوجه السادس عشر : أن أبا جعفر الطحاوي حكى القولين في كتابه تهذيب الآثار فقال : باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا ثم ذكر حديث أبي الصهباء ثم قال : فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا معا فقد وقعت عليها واحدة إذا كانت في وقت سنة وذلك أن تكون طاهرا في غير جماع واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا : لما كان الله عز و جل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن يطلق أمرأته في وقت فطلقها في غيره أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة : أن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به ثم ذكر حجج الآخرين والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم ولم يسلك طريق جاهل ظالم متعد يبرك على ركبتيه ويفجر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه وبسوء قصده لا بحسن فهمه ويقول : القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجري معه في ميدانه والله تعالى عند لسان كل قائل وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل
الوجه السابع عشر : أن شيخنا حكى عن جده أبي البركات : أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرا وقال في بعض مصنفاته : هذا قول بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد
قلت : أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد ابن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة وأما بعض أصحاب أحمد فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم
الوجه الثامن عشر : قال أبو الحسن النسفي في وثائقه وقد ذكر الخلاف في المسألة

ثم قال : ومن بعض حججهم أيضا في ذلك : أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى : الطلاق مرتان وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة كان واحدة وكان ما زاد عليها لغوا كما جعل مالك رحمه الله رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرة واحدة وبنى عليها أن الطلاق عندهم مثله قال : وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس : أصبغ بن الحباب ومحمد بن بقى ومحمد بن عبدالسلام الخشني وابن زنباع مع غيرهم من نظرائهم هذا لفظه
الوجه التاسع عشر : أن أبا الوليد هشام بن عبدالله بن هشام الأزدي القرطبي صاحب كتاب مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه وذكر من كان يفتي بها من المالكية والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك كثير الفوائد جدا ونحن نذكر نصه فيه بلفظه فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث ثم نتبعه كلامه ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم وأن من قصر في العلم باعه وطال في الجهل والظلم ذراعه يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة جهلا منه وظلما ويحق له وهو الدعي في العلم وليس منه أقرب رحما
قال ابن هشام : قال ابن مغيث : الطلاق ينقسم على ضربين : طلاق السنة وطلاق البدعة فطلاق السنة : هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه وطلاق البدعة : نقيضه وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس أو ثلاثا في كلمة واحدة فإن فعل لزمه الطلاق
ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق
فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود : يلزمه طلقة واحدة وقاله ابن عباس وقال : قوله ثلاثا لا معنى له : لأنه لم يطلق ثلاث مرات وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبرا عما مضى فيقول : طلقت ثلاثا يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات كرجل قال : قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات فذلك يصح ولو قرأها مرة واحدة فقال : قرأتها ثلاث مرات لكان كاذبا وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان ولو قال : أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة فالطلاق مثله ومثله

قال الزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما روينا ذلك كله عن ابن وضاح وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى ومحمد بن بقي بن مخلد ومحمد بن عبدالسلام الخشني فقيه عصره وأصبغ بن الحباب وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة وكان من حجة ابن عباس : أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق فقال : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [ البقره : 229 ] يريد أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة ومعنى قوله : أو تسريح بإحسان يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها وفي ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما قال الله تعالى : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يريد الندم على الفرقة والرغبة في المراجعة وموقع الثلاث غير محسن لأنه ترك المندوحة التي وسع الله تعالى بها ونبه عليها فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقا فدل على أنه إذا جمع : أنه لفظ واحد فتدبره
وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك
من ذلك : قول الرجل : مالي صدقة في المساكين : أن الثلث من ذلك يجزيه
هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه
أفترى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارا مباحة دماؤهم سبحانك ! هذا بهتان عظيم بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين وذنبهم عند أهل العمى أهل التقليد : كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون فردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
الوجه العشرون : أن هذا مذهب أهل الظاهر : داود وأصحابه وذنبهم عند كثير من الناس : أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم ونبذهم القياس وراء ظهورهم فلم يعبئوا به شيئا وخالفهم أبو محمد بن حزم في ذلك فأباح جمع الثلاث وأوقعها
فهذه عشرون وجها في إثبات النزاع في هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير
وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن علي وابن مسعود والزبير وعبدالرحمن

بن عوف وابن عباس ولعله إحدى الروايتين عنهم وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس : الألزام بالثلاث لمن أوقعها جملة وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة ولم نقل على نقف صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك فلذلك لم نعد ما حكى عنهم في الوجوه المبينة للنزاع وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها وبالله التوفيق
فإن قيل : فقد ذكرتم أعذار الأئمة الملزمين بالثلاث عن تلك الأحاديث المخالفة لقولهم فما عذركم أنتم عن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين المحدث الملهم الذي أمرنا باتباع سنته والاقتداء به أفتظنون به أنه كان يرى رسول اللهصلى الله عليه وسلموخليفته من بعده والصحابة في عهده يجعلون الثلاث واحدة مع أنه أيسر على الأمة وأسهل وأبعد من الحرج ثم يعمد إلى مخالفة ذلك برأيه ويلزم الأمة بالثلاث من قبل نفسه فيضيق عليهم ما وسعه الله تعالى ويعسر ما سهله ويسد ما فتحه ويحرج ما فسحه ثم يتابعه على ذلك أكابر الصحابة ويوافقونه ولا يخالفونه ! ثم هب أنهم خافوا منه في حياته وكلا فإنه كان أتقى لله سبحانه وتعالى من ذلك وكان إذا بينت له المرأة ما خفي عليه من الحق رجع إليه وكان الصحابة أتقى لله تعالى وأعلم به أن يأخذهم لومة لائم في الحق وأن يمسكوا عنه خوفا من عمر رضي الله عنه فقد دار الأمر بين القدح في عمر رضي الله عنه والصحابة معه وبين ردع تلك الأحاديث إما لضعفها وإما لنسخها وخفى علينا الناسخ وإما بتأويلها وحملها على محمل يصح ولا ريب أن هذا أولى لتوفية حق الصحابة الذين هم أعلم بالله تعالى ورسولهصلى الله عليه وسلممن جميع من بعدهم
قيل : لعمر الله إن هذا لسؤال يورد أمثاله أهل العلم وإنه ليحتاج إلى جواب شاف كاف فنقول :
الناس هنا طائفتان : طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر ومن وافقه وطائفة اعتذرت عن عمر رضي الله عنه ولم ترد الأحاديث
فقالوا : الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود

المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه
والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة
وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا ما منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية
وعزز بحرمان النصيب المستحق من السلب
وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله

وعزر بالعقوبات المالية في عدة مواضع
وعزر من مثل بعبده بإخراجه عنه وإعتاقه عليه
وعزر بتضعيف الغرم على سارق مالا قطع فيه وكاتم الضالة
وعزر بالهجر ومنع قربان النساء
ولم يعرف أنه عزر بدرة ولا حبس ولا سوط وإنما حبس في تهمة
ليتبين حال المتهم وكذلك أصحابه تنوعوا في التعزيرات بعده
فكان عمر رضي الله عنه يحلق الرأس وينفي ويضرب ويحرق حوانيت الخمارين

والقرية التي تباع فيها الخمر وحرق قصر سعد بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية
وكان له رضي الله تعالى عنه في التعزيز اجتهاد وافقه عليه الصحابة لكمال نصحه ووفور علمه وحسن اختياره للأمة وحدوث أسباب اقتضت تعزيره لهم بما يردعهم لم يكن مثلها على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم أو كانت ولكن زاد الناس عليها وتتايعوا فيها
فمن ذلك : أنهم لما زادوا في شرب الخمر وتتايعوا فيه وكان قليلا على عهد رسول اللهصلى الله عليه وسلم جعله عمر رضي الله عنه ثمانين ونفى فيه
ومن ذلك اتخاذه درة يضرب بها من يستحق الضرب
ومن ذلك : اتخاذه دارا للسجن
ومن ذلك : ضربه للنوائح حتى بدا شعرها
وهذا باب واسع اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا
تتغير بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودا وعدما
ومن ذلك : أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفوا عنها
وذلك إما من التعزير العارض يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس وينفي عن الوطن وكما منع النبيصلى الله عليه وسلمالثلاثة الذين خلفوا عنه عن الإجتماع بنسائهم فهذا له وجه
وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط وقد زال كما ذهب إلى ذلك في متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر

وإما لقيام مانع قام في زمنه منع من جعل الثلاث واحدة كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد ومانع من أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وغير ذلك فهذا وجه ثالث
فإن الحكم ينتفي لانتفاء شروطه أو لوجود مانعه والإلزام بالفرقة فسخا أو طلاقا لمن لم يقم بالواجب مما يسوغ فيه الاجتهاد لكن تارة يكون حقا للمرأة كما في العنة والإيلاء والعجز عن النفقة والغيبة الطويلة عند من يرى ذلك وتارة يكون حقا للزوج كالعيوب المانعة له من استيفاء المعقود عليه أو كماله وتارة يكون حقا لله تعالى كما في تفريق الحكمين بين الزوجين وعند من يجعلهما وكيلين وهو الصواب وكما في وقوع الطلاق بالمولى إذا لم يفىء في مدة التربص عند كثير من السلف والخلف وكما قال بعض السلف ووافقهم عليه بعض أصحاب أحمد رحمه الله : أنهما إذا تطاوعا على الإتيان في الدبر فرق بينهما
وقريب من ذلك : أن الأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما يراه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه كما قاله أحمد رحمه الله وغيره
واحتجوا بأن النبيصلى الله عليه وسلمأمر عبدالله بن عمر أن يطيع أباه لما أمره بطلاق زوجته

فالإلزام إما من الشارع وإما من الإمام بالفرقة إذا لم يقم الزوج بالواجب : هو من موارد الاجتهاد وأصل هذا : أن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق لما فيه من كسر الزوجة وموافقة رضى عدوعه إبليس حيث يفرح بذلك ويلتزم من يكون على يديه من أولاده ويدنيه منه ومفارقة طاعته بالنكاح الذي هو واجب أو مستحب وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية وغير ذلك من مفاسد الطلاق وكان مع ذلك قد يحتاج إليه الزوج أو الزوجة وتكون المصلحة فيه : شرعه على وجه تحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة وحرمه على غير ذلك الوجه فشرعه على أحسن الوجوه وأقربها لمصلحة الزوج والزوجة
فشرع له أن يطلقها طاهرا من غير جماع طلقة واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها فإن زال الشر بينهما وحصلت الموافقة كان له سبيل إلى لم الشعث وإعادة الفراش كما كان وإلا تركها حتى انقضت عدتها فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خطبتها وتجديد العقد عليها برضاها وإن لم تتبعها نفسه تركها فنكحت من شاءت
وجعل العدة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار
فهذا هو الذي شرعه وأذن فيه
ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضي بالفسخ والافتداء فإذا طلقها مرة بعد مرة بقي له طلقة واحدة فإذا طلقها الثالثة حرمها عليه عقوبة له ولم يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجا غيره ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق
فإذا علم أن حبيبه يصير إلى غيره فيحظى به دونه أمسك عن الطلاق
فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثا بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم وبغضه له فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا جميعا بأن ألزمه بها وأمضاها عليه
فإن قيل : فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه

قيل : نعم لعمر الله قد كان يمكنه ذلك ولذلك ندم عليه في آخر أيامه وود أنه كان فعله
قال الحافظ أبو بكر الاسماعيلي في مسند عمر : أخبرنا أبو يعلى : حدثنا صالح بن مالك : حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث : أن لا أكون حرمت الطلاق وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي وعلى أن لا أكون قتلت النوائح
ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي الذي أباحه الله تعالى وعلم بالضرورة من دين رسول اللهصلى الله عليه وسلمجوازه ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة  هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك ولذلك قال : إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم وهذا كالصريح في أنه غير حرام عنده وإنما أمضاه لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق فرغب عما فسحه الله تعالى له إلى الشدة والتغليظ فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه فلما تبين له بأخرة ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه وهذا هو مذهب الأكثرين : مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله
فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم به فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول اللهصلى الله عليه وسلموأبي بكر وأول خلافة عمر رضي الله عنهما أولى من ذلك كله ولا يندفع الشر والفساد بغيره ألبتة ولا يصلح الناس سواه ولهذا لما رغب عنه كثير من الناس احتاجوا إلى أحد أمرين لا بد لهم منهما : إما الدخول فيما لعن رسول اللهصلى الله عليه وسلمفاعله وتابع عليه اللعنة وإما التزام الآصار والأغلال ورؤية حبيبته حسرة

والذي شرعه الله تعالى ورسولهصلى الله عليه وسلم ودلت عليه السنة الصحيحة الصريحة يخلص من هذا وهذا ولكن تأبى حكمة الله تعالى أن يفتح للظالمين المتعدين لحدوده الراغبين عن تقواه وطاعته : أبواب الفرج واليسر والسهولة فإن الله سبحانه وتعالى إنما جعل ذلك لمن اتقاه والتزم طاعته وطاعة رسوله كما قال تعالى في السورة التي بين فيها الطلاق وأحكامه وحدوده وما شرعه لعباده : ومن يتق الله يجعل له مخرجا  وقال فيها : ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا  وقال فيها : ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا  فمن طلق على غير تقوى الله كان حقيقا أن لا يجعل الله له مخرجا وأن لا يجعل له من أمره يسرا
وقد أشار إلى هذا بعينه الصحابة حيث قال ابن عباس وابن مسعود لمن طلق ثلاثا جميعا : إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا
وقال شعبة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال : عصيت ربك وبانت منك امرأتك إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ومن يتق الله يجعل له مخرجا 
وقال الأعمش : عن مالك بن الحارث عن ابن عباس : أن رجلا أتاه فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال : إن عمك عصى الله فلم يجعل له مخرجا فأندمه الله تعالى وأطاع الشيطان فقال : أفلا يحللها له رجل فقال : من يخادع الله يخدعه
والله تعالى قد جرت سنته في خلقه بأن يحرم الطيبات شرعا وقدرا على من ظلم وتعدى حدوده وعصى أمره وأن ييسر للعسرى من بخل بما أمره به فلم يفعله واستغنى عن طاعته باتباع شهواته وهواه كما أنه سبحانه ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فهذا نهاية أقدام الناس في باب الطلاق
يبقى أن يقال : فإذا خفي على أكثر الناس حكم الطلاق ولم يفرقوا بين الحلال والحرام منه جهلا وأوقعوا الطلاق المحرم يظنونه جائزا هل يستحقون العقوبة بالإلزام به

لكونهم لم يتعلموا دينهم الذي أمرهم الله تعالى به وأعرضوا عنه ولم يسألوا أهل العلم : كيف يطلقون وماذا أبيح لهم من الطلاق وماذا يحرم عليهم منه أم يقال : لا يستحقون العقوبة لأن الله سبحانه لا يعاقب شرعا ولا قدرا إلا بعد قيام الحجة ومخالفة أمره كما قال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا  وأجمع الناس على أن الحدود لا تجب إلا على عالم بالتحريم متعمد لارتكاب أسبابها والتعزيرات ملحقة بالحدود
فهذا موضع نظر واجتهاد وقد قال النبيصلى الله عليه وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له فمن طلق على غير ما شرعه الله تعالى وأباحه جاهلا ثم علم به فندم وتاب فهو حقيق بأن لا يعاقب وأن يفتى بالمخرج الذي جعله الله تعالى لمن اتقاه ويجعل له من أمره يسرا
والمقصود : أن الناس لا بد لهم في باب الطلاق من أحد ثلاثة أبواب يدخلون منها : أحدها : باب العلم والاعتدال الذي بعث الله تعالى به رسولهصلى الله عليه وسلم وشرعه للأمة رحمة بهم وإحسانا إليهم
والثاني : باب الآصار والأغلال الذي فيه من العسر والشدة والمشقة ما فيه
والثالث : باب المكر والاحتيال الذي فيه من الخداع والتحيل والتلاعب بحدود الله تعالى واتخاذ آياته هزوا ما فيه ولكل باب من المطلقين وغيرهم جزء مقسوم
فصل ومن مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله : الحيل والمكر والخداع
الذي يتضمن تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرضه ومضادته في أمره ونهيه وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه

فإن الرأي رأيان : رأي يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار وهو الذي اعتبره السلف وعملوا به
ورأي يخالف النصوص وتشهد له بالإبطال والإهدار فهو الذي ذموه وأنكروه
وكذلك الحيل نوعان : نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام وتخليص الحق من الظالم المانع له وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه
ونوع يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات وقلب المظلوم ظالما والظالم مظلوما والحق باطلا والباطل حقا فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض
قال الإمام أحمد رحمه الله : لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم
وقال الميموني : قلت لأبي عبدالله : من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها فهل تجوز
تلك الحيلة قال : نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز قلت : أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا وإذا وجدنا لهم قولا في شيء اتبعناه قال : بلى هكذا هو قلت : أو ليس هذا منا نحن حيلة قال : نعم
فبين الإمام أحمد أن من اتبع ما شرعه الله له وجاء عن السف في معاني الأسماء التي علقت بها الأحكام : ليس بمحتال الحيل المذمومة وإن سميت حيلة فليس الكلام فيها
وغرض الإمام أحمد بهذا : الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التي شرعت لحصول مقصود الشارع وبين الطريق التي تسلك لإبطال مقصوده
فهذا هو سر الفرق بين النوعين وكلامنا الآن في النوع الثاني
قال شيخنا : فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه : الوجه الأول : قوله سبحانه وتعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله

وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون  وقال تعالى : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم  وقال في أهل العهد : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله  فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون وهم لا يشعرون أن الله تعالى خادع من خدعه وأنه يكفي المخدوع شر من خدعه والمخادعة : هي الاحتيال والمراوغة : بإظهار الخير مع إبطان خلافه ليحصل مقصود المخادع وهذا موافق لاشتقاق اللفظ في اللغة فإنهم يقولون : طريق خيدع إذا كان مخالفا للقصد لا يشعر به ولا يفطن له ويقال للسراب : الخيدع لأنه يغر من يراه وضب خدع أي مراوغ كما قالوا : أخدع من ضب ومنه : الحرب خدعة وسوق خادعة أي متلونة وأصله : الإخفاء والستر ومنه سميت الخزانة مخدعا
فلما كان القائل آمنت مظهرا لهذه الكلمة غير مريد حقيقتها المرعية المطلوبة شرعا بل مريد لحكمها وثمرتها فقط : مخادعا كان المتكلم بلفظ بعت و اشتريت و طلقت و نكحت و خالعت و آجرت و ساقيت و أوصيت غير مريد لحقائقها الشرعية المطلوبة منها شرعا بل مريد لأمور أخرى غير ما شرعت له أو ضد ما شرعت له : مخادعا ذاك مخادع في أصل الإيمان وهذا مخادع في أعماله وشرائعه
قال شيخنا : وهذا ضرب من النفاق في آيات الله تعالى وحدوده كما أن الأول نفاق في أصل الدين
يؤيد ذلك : ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا أيحلها له رجل فقال : من يخادع الله يخدعه
وعن أنس بن مالك أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة فقال : إن الله تعالى لا يخدع هذا مما حرم الله تعالى ورسوله رواه أبو جعفر محمد بن سليمان المعروف بمطين في كتاب البيوع له
وعن ابن عباس أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة فقال : إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله تعالى ورسوله رواه الحافظ أبو محمد النخشبي

فسمى الصحابة من أظهر عقد التبايع ومقصوده به الربا خداعا لله وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن والمعول عليهم في فهم القرآن وقد تقدم عن عثمان وعبدالله بن عمر وغيرهما أنهما قالا في المطلقة ثلاثا : لا يحلها إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة
قال أهل اللغة : المدالسة : المخادعة
وقال أيوب السختياني في المحتالين : يخادعون الله كما يخادعون الصبيان فلو أتوا الأمر عيانا كان أهون علي
وقال شريك بن عبدالله القاضي في كتاب الحيل : هو كتاب المخادعة
وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسولصلى الله عليه وسلمأنهم يريدون سلمه وهم يقصدون بذلك المكربه من حيث لا يشعر فيظهرون له أمانا ويبطنون له خلافه كما أن المحلل والمرابي يظهران النكاح والبيع المقصودين ومقصود هذا : الطلاق بعد استفراش المرأة ومقصود الآخر : ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد من بيع الألف الحالة بالألف والمائتين إلى أجل فمخالفة ما يدل عليه العقد شرعا أو عرفا : خديعة
قال : وتلخيص ذلك : أن مخادعة الله تعالى حرام والحيل مخادعة لله
بيان الأول : أن الله تعالى ذم المنافقين بالمخادعة وأخبر أنه خادعهم وخدعه للعبد عقوبة تستلزم فعله للمحرم
وبيان الثاني : أن ابن عباس وأنسا وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا : أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعة لله تعالى وهم أعلم بكتاب الله تعالى
الثاني : أن المخادعة إظهار شيء من الخير وإبطان خلافه كما تقدم
الثالث : أن المنافق لما أظهر الإسلام ومراده غيره سمي مخادعا لله تعالى وكذلك المرابي فإن النفاق والربى من باب واحد فإذا كان هذا الذي أظهر قولا غير معتقد ولا مريد لما يفهم منه وهذا الذي أظهر فعلا غير معتقد ولا مريد لما شرع له : مخادعا فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين : إما إظهار فعل لغير مقصوده الذي شرع له أو إظهار قول لغير مقصوده الذي شرع له وإذا كان مشاركا لهما في المعنى الذي سميا به مخادعين وجب أن يشركهما في اسم الخداع وعلم أن الخداع اسم لعموم الحيل لا لخصوص هذا النفاق

الوجه الثاني : أن الله تعالى ذم المستهزئين بآياته والمتكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق ومقاصد مثل كلمة الإيمان وكلمة الله تعالى التي يستحل بها الفروج ومثل العهود والمواثيق التي بين المتعاقدين وهو لا يريد بها حقائقها المقومة لها ولا مقاصدها التي جعلت هذه الألفاظ محصلة لها بل يريد أن يراجع المرأة ليضرها ويسىء عشرتها ولا حاجة له في نكاحها أو ينكحها ليحلها لمطلقها لا ليتخذها زوجا أو يخلعها ليلبسها أو يبيع بيعا جائزا ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله فهو ممن اتخذ آيات الله تعالى هزوا يوضحه :
الوجه الثالث : ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك فجعل المتكلم بهذه العقود غير مريد لحقائقها وما شرعت له مستهزئا بآيات الله تعالى متلاعبا بحدوده ورواه ابن بطة بإسناد جيد ولفظه خلعتك راجعتك خلعتك راجعتك
الوجه الرابع : ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد أن رجلا طلق امرأته ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم الحديث وقد تقدم فجعله لاعبا بكتاب الله مع قصده الطلاق لكنه خالف وجه الطلاق وأراد غير ما أراد الله تعالى به فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطلق طلاقا يملك فيه رد المرأة إذا شاء فطلق هو طلاقا لا يملك فيه ردها
وأيضا فإن المرتين والمرات في لغة القرآن والسنة بل ولغة العرب بل ولغات سائر الأمم : لما كان مرة بعد مرة فإذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله تعالى ومادل عليه كتابه فكيف إذا أراد باللفظ الذي رتب عليه الشارع حكما ضد ما قصده الشارع
الوجه الخامس : أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم مما بلاهم به في سورة

وهم قوم كان للمساكين حق في أموالهم إذا جذوا نهارا بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من الثمر فأرادوا أن يجدوا ليلا ليسقط ذلك الحق ولئلا يأتيهم مسكين وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفا وهم نائمون فأصبحت كالصريم وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين بأن يصرموها مصبحين قبل مجىء المساكين فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده
الوجه السادس : أن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد قال بعض الأئمة : ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده وتعظيم حرماته والوقوف عندها ليس المتحيل على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبا لموسى عليه السلام وكفرا بالتوراة وإنما هو استحلال تأويل واحتيال ظاهره ظاهر الإتقاء وباطنه باطن الاعتداء ولهذا والله أعلم مسخوا قردة لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه وهو مخالف له في الحد والحقيقة فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهر دون حقيقته مسخهم الله تعالى قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقا يوضحه :
الوجه السابع : أن بني إسرائيل كانوا أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل كما قصه الله

تعالى في كتابه وذلك أعظم من أكل الصيد الحرام في يوم بعينه ولذلك كان الربا والظلم حراما في شريعتنا والصيد يوم السبت غير محرم فيها ثم إن أكلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا بالمسخ كما عوقب به مستحلوا الحرام بالحيلة وإن كانوا عوقبوا بجنس آخر كعقوبات أمثالهم من العصاة فيشبه والله أعلم أن هؤلاء لما كانوا أعظم جرما إذ هم بمنزلة المنافقين ولا يعترفون بالذنب بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم فإن من أكل الربا والصيد الحرام عالما بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم وهو إيمان بالله تعالى وآياته ويترتب على ذلك من خشية الله تعالى ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يفضي به إلى خير ورحمة ومن أكله مستحلا له بنوع احتيال تأول فيه فهو مصر علىالحرام وقد اقترن به اعتقاده الفاسد في حل الحرام وذلك قد يفضي به إلى شر طويل
وقد جاء ذكر المسخ في عدة أحاديث قد تقدم بعضها في هذا الكتاب كقوله في حديث أبي مالك الأشعري الذي رواه البخاري في صحيحه ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة
وقوله في حديث أنس ليبيتن رجال على أكل وشرب وعزف فيصبحون على أرائكهم ممسوخين قردة وخنازير
وفي حديث أبي أمامة أيضا يبيت قوم من هكذه الأمة على طعم وشرب ولهو فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير
وفي حديث عمران بن حصين يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف
وكذلك في حديث سهل بن سعد وكذلك في حديث علي بن أبي طالب وقوله : فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا

وفي حديثه الآخر يمسخ طائفة من أمتي قردة وطائفة خنازير
وفي حديث أنس رضي الله عنه ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة
وخنازير قالوا : يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله قال : بلى ويصومون ويصلون ويحجون قالوا : فما بالهم قال : اتخذوا المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير
وفي حديث جبير بن نفير ليبتلين آخر هذه الأمة بالرجف فإن تابوا تاب الله عليهم وإن عادوا عاد الله تعالى عليهم بالرجف والقذف والمسخ والصواعق
وقال سالم بن أبي الجعد : ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينظرون أن يخرج إليهم فيطلبون إليه الحاجة فيخرج إليهم وقد مسخ قردا أو خنزيرا وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا
وقال أبو هريرة : لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيمسخ أحدهما قردا أو خنزيرا فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيخسف بأحدهما فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي لشأنه ذلك حتى يقضي شهوته منه
وقال عبدالرحمن بن غنم : يوشك أن يقعد اثنان على ثقال رحى يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر
وقال مالك بن دينار : بلغني أن ريحا تكون في آخر الزمان وظلم فيفزع الناس إلى علمائهم فيجدونهم قد مسخهم الله وقد ساق هذه الأحاديث والآثار وغيرها بأسانيدها ابن أبي الدنيا في كتاب ذمع الملاهي
فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولابد وهو في طائفتين : علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه فقلب الله تعالى صورهم كما قلبوا دينه والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره أو يوم القيامة

وقد جاء في حديث الله أعلم بحاله يحشر أكلة الربا يوم القيامة في صورة الخنازير والكلاب من أجل حيلتهم على الربا كما مسخ أصحاب داود لاحتيالهم على أخذ الحيتان يوم السبت
وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة
قال شيخنا : وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة فإنهم لو استحلوها مع اعتقاد أن الرسول حرمها كانوا كفارا ولم يكونوا من أمته ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين يفعلون هذه المعاصي مع اعترافهم معصية ولما قيل فيهم : يستحلون فإن المستحل للشيء هو الذي يفعله معتقدا حله فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر يعني أنهم يسمونها بغير اسمها كما جاء في الحديث فيشربون الأنبذة المحرمة ولا يسمونها خمرا واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة وهذا لا يحرم كأصوات الطيور واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال في بعض الصور كحال الحرب وحال الحكة فيقيسون عليه سائر الأحوال ويقولون : لا فرق بين حال وحال وهذه التأويلات ونحوها واقعة في الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبدالله بن المبارك رحمه الله :
وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها من الله شيئا بعد أن بلغ الرسول وبين تحريم هذه

الأشياء بيانا قاطعا للعذر مقيما للحجة والحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث عبدالرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلمليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله تعالى بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير
الوجه الثامن : أن النبيصلى الله عليه وسلمقال : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى الحديث
وهو أصل في إبطال الحيل وبه احتج البخاري على ذلك فإن من أراد أن يعامل رجلا معاملة يعطيه فيها ألفا بألف وخمسمائة إلى أجل فأقرضه تسعمائة وباعه ثوبا بستمائة يساوي مائه إنما نوى بإقراض التسعمائه تحصيل الربح الزائد وإنما نوى بالستمائه التي أظهر أنها ثمن الثوب : الربا والله يعلم ذلك من جذر قلبه وهو يعلمه ومن عامله يعلمه ومن اطلع على حقيقة الحال يعلمه فليس له من عمله إلا ما نواه وقصده حقيقة من إعطاء الألف حالة وأخذ الألف والخمسمائة مؤجلة وجعل صورة القرض وصورة البيع محللا لهذا المحرم
الوجه التاسع : ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبيصلى الله عليه وسلمقال : البيعان بالخيار حتى يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله رواه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي
وقد استدل به الإمام أحمد وقال : فيه إبطال الحيل
ووجه ذلك : أن الشارع أثبت الخيار إلى حين التفرق الذي يفعله المتعاقدان بداعية طباعهما فحرمصلى الله عليه وسلمأن يقصد المفارق منع الآخر من الاستقالة وهي طلب الفسخ سواء كان العقد جائزا أو لازما لأنه قصد بالتفرق غير ما جعل التفرق في العرف له فإنه قصد به إبطال حق أخيه من الخيار ولم يوضع التفرق لذلك وإنما جعل التفرق لذهاب كل منهما في حاجته ومصلحته

الوجه العاشر : ما روى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل رواه أبو عبدالله بن بطة : حدثنا أحمد بن محمد بن سلام : حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني : حدثنا يزيد بن هارون : حدثنا محمد بن عمرو وهذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي
وهو نص في تحريم استحلال محارم الله تعالى بالحيل وإنما ذكرصلى الله عليه وسلمأدنى الحيل تنبيها على أن مثل هذا المحرم العظيم الذي قد توعد الله تعالى عليه بمحاربة من لم ينته عنه فمن أسهل الحيل على من أراد فعله : أن يعطيه مثلا ألفا إلا درهما باسم القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة
وكذلك المطلق ثلاثا : من أسهل الأشياء عليه أن يعطي بعض السفهاء عشرة دراهم مثلا ويستعيره لينزو على مطلقته فتطيب له بخلاف الطريق الشرعي فإنه يصعب معه عودها حلالا إذ من الممكن أن لا يطلق بل أن يموت المطلق أولا قبله
ثم إنهصلى الله عليه وسلمنهانا عن التشبه باليهود وقد كانوا احتالوا في الاصطياد يوم السبت بأن حفروا خنادق يوم الجمعة تقع فيها الحيتان يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد وهذا عند المحتالين جائز لأن فعل الاصطياد لم يوجد يوم السبت وهو عند الفقهاء حرام لأن المقصود هو الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة
ومن احتيالهم أن الله سبحانه وتعالى لما حرم عليهم الشحوم تأولوا أن المراد نفس إدخاله الفم وأن الشحم هو الجامد دون المذاب فجملوه فباعوه وأكلوا ثمنه وقالوا : ما أكلنا الشحم ولم ينظروا في أن الله تعالى إذا حرم الانتفاع بشيء فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله إذ البدل يسد مسده فلا فرق بين حال جامده وودكه فلو كان ثمنه حلالا لم يكن في تحريمه كثير أمر وهذا هو :

الوجه الحادي عشر : وهو ما روى ابن عباس قال : بلغ عمر رضي الله عنه أن فلانا باع خمرا فقال : قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال : قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها متفق عليه
قال الخطابي : جملوها معناه : أذابوها حتى تصير ودكا فيزول عنها اسم الشحم يقال : جملت الشحم وأجملته واجتملته والجميل : الشحم المذاب
وعن جابر بن عبدالله : أنه سمع النبيصلى الله عليه وسلميقول : إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال : لا هو حرام ثم قال رسول اللهصلى الله عليه وسلمعند ذلك : قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه رواه البخاري وأصله متفق عليه قال الإمام أحمد في رواية صالح وأبي الحارث في أصحاب الحيل : عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها فالشيء الذي قيل : إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه ثم احتج بهذا الحديث وحديث : لعن الله المحلل والمحلل له قال الخطابي وقد ذكر حديث الشحوم : في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيآته وتبديل اسمه وقد مثلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له : لا تقرب مال اليتيم فباعه وأخذ ثمنه فأكله وقال : لم آكل نفس مال اليتيم أو اشترى شيئا في ذمته ونقده وقال : هذا قد ملكته وصار عوضه دينا في ذمتي فإنما أكلت ما هو ملكي ظاهرا وباطنا
ولولا أن الله سبحانه رحم هذه الأمة بأن نبيها نبههم على ما لعنت به اليهود وكان السابقون منها فقهاء أتقياء علموا مقصود الشارع فاستقرت الشريعة بتحريم المحرمات : من الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها وإن تبدلت صورها وبتحريم أثمانها لطرق الشيطان لأهل الحيل ما طرق لهم في الأثمان ونحوها إذ البابان باب واحد على ما لا يخفى
الوجه الثاني عشر : أن باب الحيل المحرمة مداره على تسمية الشيء بغير اسمه وعلى تغيير

صورته مع بقاء حقيقته فمداره على تغيير الإسم مع بقاء المسمى وتغيير الصورة مع بقاء الحقيقة فإن المحلل مثلا غير اسم التحليل إلى اسم النكاح واسم المحلل إلى الزوج وغير مسمى التحليل بأن جعل صورته صورة النكاح والحقيقة حقيقة التحليل
ومعلوم قطعا أن لعن رسول اللهصلى الله عليه وسلمعلى ذلك إنما هو لما فيه من الفساد العظيم الذي اللعنة من بعض عقوبته وهذا الفساد لم يزل بتغيير الاسم والصورة مع بقاء الحقيقة ولا بتقديم الشرط من صلب العقد إلى ما قبله فإن المفسدة تابعة للحقيقة لا للإسم ولا لمجرد الصورة
وكذلك المفسدة العظيمة التي اشتمل عليها الربا لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد يعلمها من قلوبهما عالم السرائر فقد اتفقا على حقيقة الربال الصريح قبل العقد ثم غيرا اسمه إلى المعاملة وصورته إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه ألبتة وإنما هو حيلة ومكر ومخادعة لله تعالى ولرسولهصلى الله عليه وسلم
وأي فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حرم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته فإنهم أذابوه حتى صار ودكا وباعوه وأكلوا ثمنه وقالوا : إنما أكلنا الثمن لا المثمن فلم نأكل شحما
وكذلك من استحل الخمر باسم النبيذ كما في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلمأنه قال : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير
وإنما أتي هؤلاء من حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته وهذا بعينه هو شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد جمله واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة وقالوا : ليس هذا صيد يوم السبت ولا استباحة لنفس الشحم بل الذي

يستحل الشراب المسكر زاعما أنه ليس خمرا مع علمه أن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصوده وعمله عمله أفسد تأويلا فإن الخمر اسم لكل شراب مسكر كما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة وقد جاء هذا الحديث عن النبيصلى الله عليه وسلممن وجوه أخرى
منها : ما رواه النسائي عنهصلى الله عليه وسلم يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها وإسناده صحيح
ومنها : ما رواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت يرفعه : يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ورواه الإمام أحمد ولفظه : ليستحلن طائفة من أمتي الخمر
ومنها : ما رواه ابن ماجه أيضا من حديث أبي أمامة قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها
فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالا لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلوه وكذلك شبهتهم في استحلال الحرير والمعازف فإن الحرير أبيح للنساء وأبيح للضرورة وفي الحرب وقد قال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده  والمعازف قد أبيح بعضها في العرس ونحوه وأبيح الحداء وأبيح بعض أنواع الغناء وهذه الشبهة أقوى بكثير من شبه أصحاب الحيل فإذا كان من عقوبة هؤلاء : أن يمسخ بعضهم قردة وخنازير فما الظن بعقوبة من جرمهم أعظم وفعلهم أقبح فالقوم الذين يخسف بهم ويمسخون إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء ولذلك مسخوا قردة وخنازير كما مسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم وخسف ببعضهم كما خسف بقارون لأن في الخمر والحرير والمعازف من الكبر والخيلاء ما في الزينة التي خرج فيها قارون على قومه فلما مسخوا دين الله تعالى مسخهم الله ولما تكبروا عن الحق أذلهم الله تعالى فلما جمعوا بين الأمرين جمع الله لهم بين هاتين

العقوبتين وما هي من الظالمين ببعيد وقد جاء ذكر المسخ والخسف في عدة أحاديث تقدم ذكر بعضها
فصل وقد أخبرصلى الله عليه وسلمأن طائفة من أمته تستحل الربا باسم البيع كما أخبر عن
استحلالهم الخمر باسم آخر
فروى ابن بطة بإسناده عن الأوزاعي عن النبيصلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع يعني العينة وهذا وإن كان مرسلا فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق وله من المسندات ما يشهد له وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة
فإنه من المعلوم أن العينة عند مستحلها إنما يسميها بيعا وفي هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع فإن الأمة لم يستحل أحد منها الربا الصريح وإنما استحل باسم البيع وصورته فصوروه بصورة البيع وأعاروه لفظه
ومن المعلوم أن الرعبا لم يحرم لمجرد صورته ولفظه وإنما حرم لحقيقته ومعناه ومقصوده وتلك الحقيقة والمعنى والمقصود قائمة في الحيل الربوية كقيامها في صريحه سواء والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما ويعلمه من شاهد حالهما والله يعلم أن قصدهما نفس الربا وإنما توسلا إليه بعقدغير مقصود وسمياهباسم مستعار غير اسمه ومعلوم أن هذا لا يدفع التحريم ولا يرفع المفسدة التي حرم الربا لأجلها بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة
منها : أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج بقوة لا يقدم بمثلها المربي صريحا لأنه واثق بصورة العقد واسمه
ومنها : اعتقاده أن ذلك تجارة حاضرة مدارة والنفوس أرغب شيء في التجارة فهو في ذلك بمنزلة من أحب امرأة حبا شديدا ويمنعه من وصالها كونها محرمة عليه فاحتال الى أن أبقى بينه وبينها صورة عقد لا حقيقة له يأمن به من بشاعة الحرام وشناعته فصار

يأتيها آمنا وهما يعلمان في الباطن أنها ليست زوجته وإنما أظهرا صورة عقد يتوصلان به إلى الغرض
ومن المعلوم أن هذا يزيد المفسدة التي حرم الحكيم الخبير لأجلها الربا والزنى قوة فإن الله سبحانه وتعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاج وتعريضه للفقر الدائم والدين اللازم الذي لا ينفك عنه وتولد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه وتسلبه متاعه وأثاثه كما هو الواقع في الواقع
فالربا أخو القمار يجعل المقمور سليبا حزينا محسورا
فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المنتظمة لمصالح العباد : تحريمه وتحريم الذريعة الموصلة إليه كما حرم التفرق في الصرف قبل القبض وأن يبيعه درهما بدرهم إلى أجل وإن لم يكن هناك زيادة فكيف يظن بالشارع مع كمال حكمته أن يبيح التحيل والمكر على حصول هذه المفسدة ووقوعها زائدة متضاعفة بأكل المحتال فيها مال المحتاج أضعافا مضاعفة ولو سلك مثل هذا بعض الأطباء مع المرضى لأهلكهم فإن ما حرم الله تعالى ورسولهصلى الله عليه وسلممن المحرمات إنما هو حمية لحفظ صحة القلب وقوة الإيمان كما أن ما يمنع منه الطبيب مما يضر المريض حمية له فإذا احتال المريض أو الطبيب على تناول ذلك المؤذي بتغيير صورته مع بقاء حقيقته وطبعه أو تغيير اسمه مع بقاء مسماه ازداد المريض بتناوله مرضا إلى مرضه وترامى به إلى الهلاك ولم ينفعه تغير صورته ولا تبدل اسمه
وأنت إذا تأملت الحيل المتضمنة لتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى وإسقاط ما أوجب وحل ما عقد وجدت الأمر فيها كذلك ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المفسدة الناشئة من المحرمات الباقية على صورها وأسمائها والوجدان شاهد بذلك
فالله سبحانه إنما حرم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المضرة بالدنيا والدين ولم يحرمها لأجل أسمائها وصورها ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها لا تزول بتبدل أسمائها وتغير صورتها ولو زالت تلك المفاسد بتغير الصورة والأسماء لما لعن

الله سبحانه اليهود على تغيير صورة الشحم واسمه بإذابته حتى استحدث اسم الودك وصورته ثم أكلوا ثمنه وقالوا : لم نأكله وكذلك تغيير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد
فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادة في المفسدة التي حرمت لأجلها مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله ونسبة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه وأنه يحرم الشيء لمفسدة ويبيحه لأعظم منها
ولهذا قال أيوب السختياني : يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون
وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل
وقال بشر بن السري وهو من شيوخ الإمام أحمد : نظرت في العلم فإذا هو الحديث والرأي فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين وذكر الموت وذكر ربوبية الرب تعالى وجلاله وعظمته وذكر الجنة والنار والحلال والحرام والحث على صلة الأرحام وجماع الخير ونظرت في الرأي فإذا فيه المكر والخديعة والتشاح واستقصاء الحق والمماراة في الدين واستعمال الحيل والبعث على قطيعة الأرحام والتجرؤ على الحرام
وقال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل وذكر أصحاب الحيل فقال : يحتالون لنقض سنن رسول اللهصلى الله عليه وسلم
والرأي الذي اشتقت منه الحيل المتضمنة لإسقاط ما أوجب الله تعالى وإباحة ما حرم الله : هو الذي اتفق السلف على ذمه وعيبه
فروى حرب عن الشعبي قال : قال ابن مسعود رضي الله عنه : إياكم وأرأيت أرأيت فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت أرأيت ولا تقيسوا شيئا بشيء فتنزل قدم بعد ثبوتها
وعن الشعبي عن مسروق قال : قال عبدالله : ليس من عام إلا والذي بعده شر

منه لا أقول أمير خير من أمير ولا عام أخصب من عام ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا : لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم
وقال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد : لا يجوز شيء من الحيل
وفي رواية صالح ابنه : الحيل لا نراها
وقال في رواية الأثرم وذكر حديث عبدالله بن عمر في حديث البعيان بالخيار ولا يحل لواحد منهما أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله قال : فيه إبطال الحيل
وقال في رواية أبي الحرث : هذه الحيل التي وضعها هؤلاء احتالوا في الشيء الذي قيل لهم : إنه حرام فاحتالوا فيه حتى أحلوه وقد قالصلى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها وأكلوا أثمانها فإنما أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحوم وقد لعن النبيصلى الله عليه وسلمالمحلل والمحلل له
وقال في رواية ابنه صالح : ينقضون الأيمان بالحيل وقد قال الله تعالى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها  وقال تعالى : يوفون بالنذر 
وقال في رواية أبي طالب في التحيل لإسقاط العدة : سبحان الله ما أعجب هذا

أبطلوا كتاب الله والسنة جعل الله على الحرائر العدة من الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من أجل الحمل ففرج يوطأ ثم يعتقها على المكان فيتزوجها فيطؤها فإن كانت حاملا كيف يصنع يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غدا هذا نقض لكتاب الله والسنة قال النبيصلى الله عليه وسلم لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض فلا يدري : هي حامل أم لا سبحان الله ما أسمج هذا
وقال في رواية حبيش بن سندي في الرجل يشتري الجارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها : أيطؤها من يومه فقال : كيف يطؤها هذا من يومه وقد وطئها ذاك بالأمس وغضب وقال : هذا أخبث قول
وقال في رواية الميموني : إذا حلف على شىء ثم احتال بحيلة فصار إليه فقد صار إلى دلك بعينه
وقال في رواية الميموني فيمن حلف على يمين ثم احتال لإبطالها : هل يجوز قال : نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز فقال له الميموني : أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا فإذا وجدنا لهم فيها قولا اتبعناه قال : بلى هكذا هو قلت : أوليس هذا منا نحن حيلة قال : نعم قلت : إنهم يقولون في رجل حلف على امرأته وهي على درجة : إن صعدت أو نزلت فأنت طالق قالوا : تحمل حملا ولا تنزل فقال : هذا الحنث بعينه ليس هذا حيلة هذا هو الحنث
وذكر لأحمد : أن امرأة كانت تريد أن تفارق زوجها فيأبى عليها فقال لها بعض أرباب الحيل : لو ارتددت عن الإسلام بنت منه ففعلت فغضب أحمد رحمه الله وقال : من أفتى بهذا أو علعمه أو رضي به فهو كافر
وكذلك قال عبدالله بن المبارك ثم قال : ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فتعلمه منهم
وقال يزيد بن هارون : أفتى أصحاب الحيل بشيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان

قبيحا أفتوا رجلا حلف أن لا يطلق امرأته بوجه من الوجه فبذلت له مالا كثيرا في طلاقها فأفتوه بأن يقبل أمها أو يباشرها
وذكرت الحيلة عند شريك فقال : من يخادع الله يخدعه
وقال النضر بن شميل : في كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون مسألة كلها كفر
وقال حفص بن غياث : ينبغي أن يكتب عليه : كتاب الفجور
وقال عبدالله بن المبارك في قصة بنت أبي روح حيث أمرت بالارتداد في أيام أبي غسان فارتدت ففرق بينهما وأودعت السجن فقال ابن المبارك وهو غضبان : من أمر بهذا فهو كافر ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به فهو كافر وإن هويه ولم يأمر به فهو كافر
وقال أيوب السختياني : ويل لهم من يخدعون يعني أصحاب الحيل
وقال بعض أصحاب الحيل : ما تنقمون منا إلا أنا عمدنا إلى أشياء كانت عليكم حراما فاحتلنا فيها حتى صارت حلالا
وقال زاذان قال علي رضي الله عنه يعني وقد رأى مبادىء الحيل : إني أراكم تحلون أشياء قد حرمها الله وتحرمون أشياء قد حللها الله قلت : ومن تأمل الشريعة ورزق فيها فقه نفس رآها قد أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم وقابلتهم بنقيضها وسدت عليهم الطرق التي فتحوها للتحيل الباطل

فمن ذلك : أن الشارع منع المتحيل على الميراث بقتل مورثه ميراثه ونقله إلى غيره دونه لما احتال عليه بالباطل
ومن ذلك بطلان وصية الموصى له بمال إذا قتل الموصي
ومن ذلك : بطلان تدبير المدبر إذا قتل سيده ليعجل العتق
ومن ذلك : تحريم المنكوحة في عدتها على الزوج تحريما مؤبدا عند عمر بن الخطاب ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد لما احتال على وطئها بصورة العقد المحرم
ومن ذلك : ما لو احتال المريض على منع امرأته من الميراث بطلاقها فإنها ترثه ما دامت في العدة عند طائفة وعند آخرين : ترثه وإن انقضت عدتها ما لم تتزوج وعند طائفة : ترث وإن تزوجت
ومن ذلك : بطلان إقرار المريض لوارثه بمال لأنه يتخذه حيلة على الوصية له
ونظائر ذلك كثيرة
فالمحتال الباطل معامل بنقيض قصده شرعا وقدرا
وقد شاهد الناس عيانا أنه من عاش بالمكر مات بالفقر
ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى من احتال على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بحرمانهم الثمرة كلها
وعاقب من احتال على الصيد المحرم بأن مسخهم قردة وخنازير وعاقب من احتال على أكل أموال الناس بالربا بأن يمحق ماله كما قال تعالى : يمحق الله الربا ويربي الصدقات  فلا بد أن يمحق مال المرابي ولو بلغ ما بلغ
وأصل هذا : أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلامه ورده عليه
وجعل عقوبة الغال من الغنيمة لما قصد تكثير ماله بالغلول : حرمانه سهمه وإحراق متاعه

وجعل عقوبة من اصطاد في الحرم أو الإحرام : تحريم أكل ما صاده وتغريمه نظيره
وجعل عقوبة من تكبر عن قبول الحق والانقياد له : أن ألزمه من الذل والصغار بحسب ما تكبر عنه من الحق
وجعل عقوبة من استكبر عن عبوديته وطاعته : أن صيره عبدا لأهل عبوديته وطاعته
وجعل عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق : أن تقطع أطرافه وتقطع عليه الطرق كلها بالنفي من الأرض فلا يسير فيها إلا خائفا
وجعل عقوبة من التذ بدنه كله وروحه بالوطءالحرام : إيلام بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل الألم إلى حيث وصلت اللذة
وشرع النبيصلى الله عليه وسلمعقوبة من اطلع في بيت غيره : أن تقلع عينه بعود ونحوه إفسادا للعضو الذي خانه به وأولجه بيته بغير إذنه واطلع به على حرمته
وعاقب كل خائن بأنه يضل كيده ويبطله ولا يهديه لمقصوده وإن نال بعضه فالذي ناله سبب لزيادة عقوبته وخيبته : وأن الله لا يهدي كيد الخائنين 
وعاقب من حرص على الولاية والإمارة والقضاء بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه كما قالصلى الله عليه وسلم إنا لا نولي عملنا هذا من سأله
ولهذا عاقب أبا البشر آدم عليه السلام : بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالأكل من الشجرة ليخلد فيها فكانت عقوبته إخراجه منها ضد ما أمله
وعاقب من اتخذ معه إلها آخر ينتصر به ويتعزز به : بأن جعله عليه ضدا يذل به ويخذل به كما قال تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا  وقال تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون 

وقال تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا  ضد ما أمله المشرك من اتخاذ الإله من النصر والمدح
وعاقب الناس إذا بخسوا الكيل والميزان بجور السلطان عليهم يأخذ من أموالهم أضعاف ما يبخس به بعضهم بعضا وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيها لأموالهم بحبس الغيث عنهم فيمحق بذلك أموالهم ويستوي غنيهم وفقيرهم في الحاجة وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسنة نبيهصلى الله عليه وسلموطلبوا الهدى من غيره : بأن يضلهم ويسد عليهم أبواب الهدى كما قال النبيصلى الله عليه وسلمفي حديث علي رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وغيره وذكر القرآن : من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله فإن المعرض عن القرآن إما أن يعرض عنه كبرا فجزاؤه : أن يقصمه الله أو طلبا للهدى من غيره فجزاؤه : أن يضله الله
وهذا باب واسع جدا عظيم النفع فمن تدبره يجده متضمنا لمعاقبة الرب سبحانه من خرج عن طاعته بأن يعكس عليه مقصوده شرعا وقدرا دنيا وأخرى وقد اطردت سنته الكونية سبحانه في عباده بأن من مكر بالباطل مكر به ومن احتال احتيل عليه ومن خادع غيره خدع قال الله تعالى : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم  وقال تعالى : ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله  فلا تجد ماكرا إلا وهو ممكور به ولا مخادعا إلا وهو مخدوع ولا محتالا إلا وهو محتال عليه

فصل وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات وذلك
عكس باب الحيل الموصلة إليها فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات وسد الذرائع عكس ذلك فبين البابين أعظم تناقض والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه فنهى الله تعالى عن سبع آلهة المشركين لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا على وجه المقابلة
وأخبر النبيصلى الله عليه وسلم أن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : وهل يشتم الرجل والديه قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
ولما جاءت صفية رضي الله تعالى عنها تزورهصلى الله عليه وسلم وهو معتكف قام معها ليوصلها إلى بيتها فرآهما رجلان من الأنصار فقال : على رسلكما إنها صفية بنت حييي فقالا : سبحان الله ! يا رسول الله فقال : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا
فسد الذريعة إلى ظنهما السوء باعلامهما أنها صفية
وأمسكصلى الله عليه وسلمعن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس : إن محمدا يقتل أصحابه
وحرم القطرة من الخمر وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير لكون قليلها ذريعة إلى شرب كثيرها

وحرم إمساكها للتخليل وجعلها نجسة لئلأ تفضي مقاربتها بوجه من الوجوه إلى شربها
ونهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها حسما للمادة وسدا للذريعة
وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها والنظر إليها لغير حاجة حسما للمادة وسدا للذريعة
ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور
ومنعهن من التسبيح في الصلاة لنائبة تنوب بل جعل لهن التصفيق
ومنع المعتدة من الوفاة من الزينة والطيبب والحلي
ومنع الرجل من التصريح بخطبتها في العدة وإن كان إنما يعقد النكاح بعد انقضائها
ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها حتى كأنه ينظر إليها
ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله
ونهى عن تعلية القبور وتشريفها وأمر بتسويتها
ونهى عن البناء عليها وتجصيصها والكتابة عليها والصلاة إليها وعندها وإيقاد المصابيح عليها كل ذلك سدا لذريعة اتخاذها أوثانا وهذا كله حرام على من قصده ومن لم يقصده بل على من قصد خلافه سدا للذريعة
ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لكون هذين الوقتين وقت سجود الكفار للشمس ففي الصلاة نوع تشبه بهم في الظاهر وذلك ذريعة إلى الموافقة والمشابهة في الباطن وكذلك النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر وإن لم يحضر وقت سجود الكفار للشمس مبالغة في هذا المقصود وحماية لجانب التوحيد وسدا لذريعة الشرك بكل ممكن
ومنع من التفرق في الصرف قبل التقابض وكذلك الربوي إذا بيع بربوي آخر من غير جنسه سدا لذريعة النساء الذي هو صلب الربا ومعظمه بل من منع بيع الدرهم

بالدرهمين نقداد سدا لذريعة ربا النساء كما عللصلى الله عليه وسلمبذلك في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وهذا أحسن العلل في تحريم ربا الفضل
وحرم الجمع بين السلف والبيع لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف بأخذ أكثر مما أعطى والتوسل إلى ذلك أو الإجارة كما هو الواقع
ومنع البائع أن يشتري السلعة من مشتريها بأقل مما اشتراها به وهي مسألة العينة وإن لم يقصد الربا لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نسيئة بعشرة نقدا
وحرم جمع الشرطين في البيع لكونه وسيلة إلى ذلك وهو منطبق على مسألة العينة
ومنع من القرض الذي يجر النفع وجعله ربا
ومنع المقرض من قبول هدية المقترض ما لم يكن بينهما عادةجارية بذلك قبل القرض ففي سنن ابن ماجة عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال : سألت أنس بن مالك الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه فقال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبنها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك
وروى البخاري في تاريخه عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي عن أنس ابن مالك قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إذا أقرض أحدكم فلا يأخذ هدية
وفي صحيح البخاري عن أبي بردة عن أبي موسى قال : قدمت المدينة فلقيت عبدالله بن سلام فقال لي : إنك بأرض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حقفأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا
وروى سعيد بن منصور في سننه هذا المعنى عن أبي بن كعب
وجاء عن ابن مسعود وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمروونحوه

وكل ذلك سدا لذريعة أخذ الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل
ونهى عن بيع الكالىء بالكالىء وهو الدين المؤخر بالدين المؤخر لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة فلو كان الدينان حالين لم يمتنع لأنهما يسقطان جيعا من ذمتهما وفي الصورة المنهي عنها : ذريعة إلى تضاعف الدين في ذمة كل واحد منهما في مقابلة تأجيله وهذه مفسدة ربا النساء بعينها
ونهى الله سبحانه النساء أن : يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن  فلما كان الضرب بالرجل ذريعة إلى ظهور صوت الخلخال الذي هو ذريعة إلى ميل الرجال إليهن نهاهن عنه
وأمر الله سبحانه الرجال والنساء بغض أبصارهم لما كان النظر ذريعة إلى الميل والمحبة التي هي ذريعة إلى مواقعة المحظور
وحرم التجارة في الخمر وإن كان إنما يبيعها من كافر يستحل شربها فإن التجارة فيها ذريعة إلى اقتنائها وشربها ولهذا لما نزلت الآيات في تحريم الربا قرأها عليهم رسول اللهصلى الله عليه وسلم وقرن بها تحريم التجارة في الخمر فإن الربا ذريعة إلى إفساد الأموال والخمر ذريعة إلى إفساد العقول : فجمع بين تحريم التجارة في هذا وهذا
ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين لئلا يتخذ ذريعة إلى الزيادة في الصوم الواجب كما فعل أهل الكتاب
ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة فأنه إذا أشبه الهدي الهدي أشبه القلب القلب وقد قالصلى الله عليه وسلم خالف هدينا هدي الكفار وفي المسند مرفوعا : من تشبه بقوم فهو منهم
وحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم وبهذه العلة بعينها علل رسول اللهصلى الله عليه وسلمفقال : إنكم إذا فعلتم

ذلك قطعتم أرحامكم
وأمر بالتسوية بين الأولاد في العطية وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح ولا تنبغي الشهادة عليه وأمر فاعله برده ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة ظاهرة قريبة جدا إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم كما هو المشاهد عيانا فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه لكان القياس وأصول الشريعة وما تضمنته من المصالح ودرء المفاسد يقتضي تحريمه
ومنع من نكاح الأمة لكونه ذريعة ظاهرة إلى استرقاق ولده ثم جوز وطأها بملك اليمين لزوال هذه المفسدة
ومنع من تجاوز أربع زوجات لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور وعدم العدل بينهن وقصر الرجال على الأربع فسحة لهم في التخلص من الزنى وإن وقع منهم بعض الجور فاحتماله أقل مفسدة من مفسدة الزنى
ومنع من عقد النكاح في حال العدة وحال الإحرام وإن تأخر الدخول إلى ما بعد انقضائها وحصول الحل لكون العقد ذريعة إلى الوطء والنفوس لا تصبر غالبا مع قوة الداعي
وشرط في النكاح شروطا زائدة على مجرد العقد فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح به كاشتراط إعلانه إما بالشهادة أو بترك الكتمان أو بهما واشتراط الولي ومنع المرأة أن تليه وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة وأوجب فيه المهر

ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبيصلى الله عليه وسلم وسر ذلك : أن في ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح كما في الأثر إن الزانية هي التي تزوج نفسها فإنه لا تشاء زانية تقول : زوجتك نفسي بكذا سرا من وليها بغير شهود ولا إعلان ولا وليمة ولا دف ولا صوت إلا فعلت ومعلوم قطعا أن مفسدة الزنى لا تنتفي بقولها : أنكحتك نفسي أو زوجتك نفسي أو أبحتك مني كذا وكذا فلو انتفت مفسدة الزنى بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل فعظم الشارع أمر هذا العقد وسد الذريعة إلى مشابهته الزنى بكل طريق ثم أكد ذلك بأن جعل له حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن التوارث ولهذا كان الراجح في الدليل : أن الزنى لا يثبت حرمة المصاهرة كما لا يثبت التوارث والنفقة وحقوق الزوجية ولا يثبت به النسب ولا العدة على الصحيح وإنما تستبرأ بحيضة ليعلم براءة رحمها ولا يقع فيه طلاق ولا ظهار ولا إيلاء ولا يثبت المحرمية بينه وبين أمها وابنتها فلا يثبت حرمة المصاهرة ولا تحريمها فإن الشارع جعل وصلة الصهر فيه مع وصلة النسب وجمع بينهما في قوله : فجعله نسبا وصهرا  فإذا انتفت وصلة النسب فيه انتفت وصلة الصهر
وكنا ننصر القول بالتحريم ثم رأينا الرجوع إلى عدم التحريم أولى لاقتضاء الدليل له
وليس المقصود استيفاء أدلة المسئلة من الجانبين وإنما الغرض التنبيه على أن من قواعد الشرع العظيمة : قاعدة سد الذرائع
ومن ذلك : نهى النبيصلى الله عليه وسلمأن تقام الحدود في دار الحرب وأن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذلك ذريعة إلى لحاق المحدود بالكفار
ومن ذلك : أن المسلم إذا احتاج إلى التزوج بدار الحرب وخاف على نفسه الزنا عزل

عن امرأته نص عليه أحمد لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن ينشأ ولده كافرا
ومن ذلك : أن الصحابة اتفقوا على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد وإن كان القصاص يقتضي المساواة لئلا يتخذ ذريعة إلى إهدار الدماء وتعاون الجماعة على قتل المعصوم
ومن ذلك : أن السكران لو قتل اقتص منه وإن كان في هذه الحالة لا قصد له لئلا يتخذ السكر ذريعة إلى قتل المعصوم وسقوط القصاص
ومن ذلك : نهيه سبحانه رسولهصلى الله عليه وسلمعن الجهر بالقرآن بحضرة العدو لما كان ذريعة إلى سبهم للقرآن ومن أنزله
ومن ذلك : أنه سبحانه نهى الصحابة أن يقولوا للنبيصلى الله عليه وسلم راعنا  مع قصدهم المعنى الصحيح وهو المراعاة لئلا يتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى السب ولئلا يتشبهوا بهم ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا
ومن ذلك : أنهصلى الله عليه وسلمكره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود أو شجرة أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد له صمدا سدا لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى
ومن ذلك : أنه أمر المأمومين أن يصلوا جلوسا إذا صلى إمامهم جالسا سدا لذريعة التشبه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم وهم قعود ومن ذلك : أن النبيصلى الله عليه وسلممنع الرجل من أخذ نظير حقه بصورة الخيانة ممن خانه وجحد حقه وإن كان إنما يأخذ حقه أو دونه فقال لمن سأله عن ذلك : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك لأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به ونسبته إلى الخيانة ولا يمكنه أن يحتج عن نفسه ويقيم عذره مع أن ذلك أيضا ذريعة إلى أن لا يقتصر على قدر الحق وصفته فإن النفوس لا تقتصر في الاستيفاء غالبا على قدر الحق

ومن ذلك : أن سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع من يد المشتري سدا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة والمخالطة بحسب الإمكان وقبل البيع ليس أحدهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر فإذا رغب عنه وعرضه للبيع كان شريكه أحق به لما فيه من إزالة الضرر عنه وعدم تضرره هو فإنه يأخذه بالثمن الذي يأخذه به الأجنبي ولهذا كان الحق : أنه لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة ولا تسقط بالاحتيال فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التي شرعت لها بالنقض والإبطال
ومن ذلك : أنه لا يقبل شهادة العدو ولا الظنين في تهمة أو قرابة ولا الشريك فيما هو شريك فيه ولا الوصي فيما هو وصي فيه ولا الولد على ضرة أمه ولا يحكم القاضي بعلمه كل ذلك سدا لذريعة التهمة والغرض الفاسد
ومن ذلك : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وإفراد يوم الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع في الدين بتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة ومن ذلك : أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بقطع الشجرة التي كانت تحتها البيعة وأمر بإخفاء قبر دانيال سدا لذريعة الشرك والفتنة ونهى عن تعمد الصلاة في الأمكنة التي كان رسول اللهصلى الله عليه وسلمينزل بها في سفره وقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فلا
ومن ذلك : جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم في القرآن ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم
ومن ذلك : أن النبيصلى الله عليه وسلمأمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره وبصبغ نعله الذي قلده به بدمه ويخلي بينه وبين

المساكين ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته قالوا : لأنه لو جاز له أن يأكل منه أو أحد من رفقته قبل بلوغ المحل لخادعته نفسه إلى أن يقصر في علفه وحفظه حتى يشارف العطب فينحره فسد الشارع الذريعة ومنعه ورفقته من الأكل منه
ومن ذلك : نهيهصلى الله عليه وسلمعن الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء كخطبة الرجل على خطبة أخيه وسومه على سومه وبيعه على بيعه وسؤال المرأة طلاق ضرتها وقال : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما سدزا لذريعة الفتنة والفرقة
ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن
ومن ذلك : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب والمجالس لئلا تفضي مشابهتهم للمسلمين في ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين : في الإكرام والاحترام ففي إلزامهم بتمييزهم عنهم سدا لهذه الذريعة
ومن ذلك : منعهصلى الله عليه وسلممن بيع القلادة التي فيها خرز وذهب بذهب لئلا يتخذ ذريعة إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلا إذا ضم إلى أحدهما خرز أو نحوه
ولو لم يكن في هذا الباب إلا أن الله سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود سدا للذريعة إلى الجرائم إذا لم يكن عليها وازع طبيعي وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها

بحسب مفاسدها في نفسها وقوة الداعي إليها وتقاضي الطباع لها
وبالجملة فالمحرمات قسمان : مفاسد وذرائع موصلة إليها مطلوبة الإعدام كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام
والقربات نوعان : مصالح للعباد وذرائع موصلة إليها ففتح باب الذرائع في النوع الأول كسد باب الذرائع في النوع الثاني وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة فبين باب الحيل وباب سدع الذرائع أعظم تناقض
وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التي جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها : أن تجوز فتح باب الحيل وطرق المكر على إسقاط واجباتها واستباحة محرماتها والتذرع إلى حصول المفاسد التي قصدت دفعها
وإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به ذلك المحرم أو بأن لا يقصد به وإنما يقصد به المباح نفسه لكن قد يكون ذريعة إلى المحرم يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة راجحة تقتضى حله فالتذرع إلى المحرمات بالاحتيال عليها أولى أن يكون حراما وأولى بالإبطال والإهدار إذا عرف قصد فاعله وأولى أن لا يعان فاعله عليه وأن يعامل بنقيض قصده وأن يبطل عليه كيده ومكره
وهذا بحمد الله تعالى بين لمن له فقه وفهم في الشرع ومقاصده
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فإن الشارع يسد الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكن والمحتال يتوسل إليه بكل ممكن ولهذا اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطا سد ببعضها التذرع إلى الربا والزنا وكمل بها مقصود العقود ولم يمكن المحتال الخروج منها في الظاهر ومن يريد الاحتيال على ما منع الشارع منه فيأتي بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع لذريعة إليه لم يبق لتلك الشروط التي أتى بها فائدة ولا حقيقة بل تبقى بمنزلة العبث واللعب وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة

قال : واعتبر هذا بالشفعة فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه والشارع لا يخرج الملك عن مالكه بقيمة أو غيرها إلا لمصلحة راجحة وكانت المصلحة هكهنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرر المشاركة والمقاسمة وليس في هذا التكميل ضرر على البائع لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشتري شريكا كان أو أجنبيا فالمحتال لإسقاطها مناقض لمقصود الشارع مضاد له في حكمه فالشارع يقول : لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك والمحتال يقول : لك أن تتحيل على منع الشريك من الأخذ بأنواع من الحيل التى ظاهرها مكر وخداع وباطنها منع الشريك مما أباحه له الشارع ومكنه منه وتفويت نفس مقصود الشارع والمصيبة الكبرى : إظهار المحتال أنه إنما فعل ما أذن له الشارع في فعله وأنه مكنه من الخداع والمكر والتحيل على إسقاط حق الشريك وهذا بين لمن تأمله
قال : والمقصود : بيان تحريم الحيل وأن صاحبها متعرض لسخط الله تعالى وأليم عقابه ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان وذلك في كل حيلة بحسبها فلا يخلو الاحتيال إما أن يكون من واحد أو اثنين فأكثر فإن كان من اثنين فأكثر فإن كان عقد بيع تواطآ عليه تحيلا على الربا كما في العينة حكم بفساد العقدين ويرد إلى الأول رأس ماله كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا لا يحل الانتفاع به بل يجب رده إن كان باقيا وبدله إن كان تالفا وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض أو إجارة وقرض أو مضاربة أو شركة أو مساقاة أو مزارعة وقرض حكم بفسادهما فيجب أن يرد عليه بدل ماله الذي جعلاه قرضا والعقد الآخر فاسد حكمه حكم العقود الفاسدة وكذلك إن كان نكاحا تواطآ عليه كان حكمه حكم الأنكحة الفاسدة وكذلك إن تواطآ على هبة أو بيع لإسقاط الزكاة أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد أو وقف فاسد مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتهبه لرجل فيزوجها به فإذا قضت وطرها منه استوهبته من الرجل فوهبها إياه فانفسخ النكاح فهذا البيع والهبة فاسدان في جميع الأحكام

وإن كان الاحتيال من واحد فإن كانت الحيلة يستقل بها لم يحصل بها غرضه فإن كانت عقدا كان فاسدا مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا يجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة في شيء من الأحكام لكن إن ظهر المقصود ترتب الحكم عليه ظاهرا وباطنا وإلا كانت فاسدة في الباطن فقط وإن كانت حيلة لا يستقل بها مثل أن ينوي التحليل ولا يظهره للزوجة أو يرتجع المرأة إضرارا بها أو يهب ماله إضرارا للورثة ونحو ذلك كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت وإذا علم الموهوب له أو الموصى له غرضه باطلا : لم يحصل له الملك في الباطن فلا يحل له الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذي لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة
وإن كانت الحيلة له وعليه كطلاق المريض صح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصح من جهة أنه يمنع الإرث فإنه إنما منع من قطع الإرث لا من إزالة ملك البضع
وإن كانت الحيلة فعلا يفضي إلى غرض له مثل أن يسافر في الصيف ليتأخر عنه الصوم إلى الشتاء لم يحصل غرضه بل يجب عليه الصوم في هذا السفر
قلت : ونظير هذا : ما قالت المالكية : إنه لا يستبيح رخصة المسح على الخفين إذا لبسهما لنفس المسح فلو مسح لذلك لم يجزه وعليه إعادة الصلاة أبدا وإنما تثبت الرخصة في حق من لبسهما لحاجة كالبرد والركوب ونحوهما فيمسح عليهما لمشقة النزع
وخالفهم باقي الفقهاء في ذلك والمنع جار على أصول من راعى المقاصد
قال شيخنا : وإن كان يفضي إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه لينفسخ نكاحه أو مثل أن تباشر المرأة ابن زوجها أو أباه عند من يرى ذلك موجبا للتحريم فهذه الحيل بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق الله تعالى يترتب عليه فسخ النكاح ضمنا والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد وهذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة مائع فإن تنجيس

المائعات بالمخالطة وتحريم المصاهرة بالمباشرة أحكام تثبت بأمور حسية فلا ترفع الأحكام مع وجود تلك الأسباب
قلت : هذا كان قول الشيخ أولا ثم رجع إلى أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالمباشرة المحرمة وحينئذ فصورة ذلك : أن ترضع ابنته الكبيرة أو أمته امرأته الصغيرة لينفسخ نكاحها فإن فسخ النكاح ههنا لا يتوقف على العقل ولا على القصد بل لو كانت المرضعة مجنونة يثبت التحريم فهو بمنزلة أن يلقي في مائعه ما ينجسه
قال : وإن كانت الحيلة فعلا يفضي إلى تحليل له أو لغيره مثل أن يقتل رجلا ليتزوج امرأته أو يزوجها غيره فههنا تحل المرأة لغير من قصد تزويجها به فإنها بالنسبة إليه كمن مات عنها زوجها أو قتل بحق أو في سبيل الله وأما بالنسبة إلى من قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأة منها أو بدونها فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع من غير أن يطرح فيها شيئا والصحيح : أنها لا تطهر وإن كانت تطهر إذا تخللت بفعل الله تعالى وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت المرأة فإذا قتله لهذا القصد أمكن أن يقال : تحرم عليه مع حلها لغيره ويشبه هذا : الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحل للحلال
ومما يؤيد هذا : أن القاتل يمنع الإرث ولا يمنعه غيره من الورثة لكن لما كان مال الرجل تتطلع إليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال بخلاف الزوجة فإن ذلك لا يكاد يقصد فإن التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الورثة إلى مال المورث قليل وكونه يقتله ليتزوجها فهذا أقل فلذلك لم يشرع أن من قتل رجلا حرمت عليه امرأته كما شرع أن من قتل مورثا منع ميراثه فإذا قتله ليتزوج بها فقد وجدت الحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده وأكثر ما يقال في رد هذا : أن الأفعال المحرمة لحق الله تعالى لا تفيد الحل كذبح الصيد وتخليل الخمر والتذكية في غير المحل أما المحرم لحق الآدمي كذبح المغصوب فإنه يفيد الحل أو يقال : إن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه

المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل فحصل الحل ضمنا وتبعا
ويمكن أن يقال في جواب هذا : إن قتل الآدمي حرام لحق الله تعالى وحقالآدمي ولهذا لا يستباح بالإباحة بخلاف ذبح المغصوب فإنه حرم لمحض حق الآدمي ولهذا لو أباحه حل فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إزهاق الروح وقد اختلف في الذبح بآلة مغصوبة وفيه عن أحمد روايتان واختلف العلماء في ذبح المغصوب وقد نص أحمد على أنه ذكي وفيه حديث رافع ابن خديج في ذبح الغنم المنهوبة والحديث الآخر في المرأة التي أضافت النبيصلى الله عليه وسلم فذبحت له شاة أخذتها بدون إذن أهلها فقال : أطعموها الأسارى وفي هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له دون غيره كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام حرم على الحرام دون الحلال وقد نقل صالح عن أبيه فيمن سرق شاة فذبحها لا يحل أكلها يعني له قلت لأبي : فإن ردها على صاحبها قال : تؤكل فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقا لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن له في الأكل لم يخص الذابح بالتحريم فهذا القول الذي دل عليه الحديث في الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى هذا كله كلام شيخنا

وبعد فالتحريم مطرد على قواعد أحمد ومالك من وجوه متعددة
منها مقابلة الفاعل بنقيض قصده كطلاق الفار وقاتل مورثه وقاتل الموصي والمدبر إذا قتل سيده
ومنها : سد الذرائع
ومنها : تحريم الحيل
ومنها تخليل الخمر كما ذكره شيخنا والله تعالى أعلم
قال : فتلخص أن الحيل نوعان : أقوال وأفعال
فالأقوال يشترط لثبوت أحكامها العقل ويعتبر فيها القصد وتكون صحيحة تارة وفاسدة أخرى
ثم ما ثبت حكمه منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه كالبيع والنكاح ومنه ما لا يمكن فيه ذلك كالعتق والطلاق
فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم أو إسقاط واجب أمكن إبطاله إما من جميع الوجوه وإما من الوجه الذي يبطل مقصود المحتال بحيث لا يترتب عليه الحكم المحتال على حصوله كما حكم به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في طلاق الفار
وأما الأفعال : فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم تحصل كالسفر والفطر وإن اقتضت تحريما على الغير فإنه قد يقع وتكون بمنزلة إتلاف النفس والمال وإن اقتضت حلا عاما إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال وذبح المغصوب للغاصب
وبالجملة : فإذا قصد بالفعل استباحة محرم لم يحل له وإن قصد إزالة ملك الغير ليحل له فالأقيس : أن لا يحل له أيضا وإن حل لغيره
وقد دخل في القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة فهي لا تمشي غالبا إلا عند من يقول : الفرقة تنجز بنفس الرعدة أو يقول : بأنها لا تقتل فالواجب في مثل هذه الحيلة : أن لا ينفسخ بها النكاح وإذا علم الحاكم أنها ارتدت لذلك لم يفرق بينهما وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل غير مرتدة من حيث فساد النكاح حتى لو توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق ميراثها لكن لا يجوز له وطؤها في حالة الردة فإن

الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو أحرمت لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم قالت : إنما ارتددت لفسخ النكاح لم يقبل هذا فإنه قد يجعل ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة بأن تلقن أنها إنما ارتدت للفسخ ولأنها متهمة في ذلك ولأن الأصل أنها مرتدة في جميع الأحكام
فصل وقد استدل البخاري في صحيحه على بطلان الحيل بقولهصلى الله عليه وسلم لا يجمع بين
متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة
فإن هذا النهي يعم ما قبل الحول وما بعده
واحتج بقولهصلى الله عليه وسلمفي الطاعون : إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
وهذا من دقة فقهه رحمه الله فإنه إذا كان قد نهىصلى الله عليه وسلمعن الفرار من قدر الله تعالى إذا نزل بالعبد رضا بقضاء الله تعالى وتسليما لحكمه فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد
واحتج بأنه صلى اللهصلى الله عليه وسلمنهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ
فدل على أن الشيء الذي هو في نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرما
واحتج أحمد رحمه الله على بطلان الحيل وتحريمها بلعنة رسول اللهصلى الله عليه وسلمللمحلل وبقوله : لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل
واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله : فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه
واحتج ابن عباس وبعده أيوب السختياني وغيره من السلف : بأن الحيل مخادعة لله تعالى وقد قال تعالى : يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم  قال ابن عباس : ومن يخادع الله يخدعه

ولا ريب أن من تدبر القرآن والسنة ومقاصد الشارع جزم بتحريم الحيل وبطلانها فإن القرآن دل على أن المقاصد والنيات معتبرة في التصرف والعادات كما هي معتبرة في القربات والعبادات فيجعل الفعل حلالا أو حراما وصحيحا أو فاسدا وصحيحا من وجه فاسدا من وجه كما أن القصد والنية في العبادات تجعلها كذلك
وشواهد هذه القاعدة كثيرة جدا في الكتاب والسنة فمنها : قوله تعالى في آية الرجعة ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا  وذلك نص في أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضرار فإذا قصد الضرار لم يملكه الله تعالى الرجعة
ومنها : قوله تعالى في آية الخلع : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به  وهذا دليل على أن الخلع المأذون فيه إنما هو إذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله وأن النكاح الثاني إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله فإنه شرط في الخلع عدم خوف إقامة حدوده وشرط في العود ظن إقامة حدوده
ومنها : قوله تعالى في آية الفرائض من بعد وصية يوصى بها أودين غير مضار  فإنه سبحانه وتعالى إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة فإذا كانت الوصية وصية ضرار كانت حراما وكان للورثة إبطالها وحرم على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله : تلك حدود الله فلا تعتدوها 
وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار في هذه الآية دون التي قبلها لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين والثانية تضمنت ميراث الأطراف : من الزوجين والإخوة والعادة أن الميت قد يضار زوجته وإخوته ولا يكاد يضار والديه وولده
والضرار نوعان : جنف وإثم فإنه قد يقصد الضرار وهو الإثم وقد يضار من غير قصد وهو الجنف فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار قصد أو لم يقصد فللوارث رد هذه الوصية وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها

فإن علم الموصى له أن الموصى إنما أوصى ضرارا لم يحل له الأخذ ولو اعترف الموصي أنه إنما أوصى ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية
وقد جوز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجنف والإثم وأن يصلح الوصي أو غيره بين الورثة والموصى له فقال تعالى : فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه  وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصى الجنف أو الإثم في الوقف ومصرفه أو بعض شروطه فأبطل ذلك كان مصلحا لا مفسدا وليس له أن يعين الواقف على إمضاء الجنف والإثم ولا يصحح هذا الشرط ولا يحكم به فإن الشارع قد رده وأبطله فليس له أن يصحح ما رده الشارع وحرمه فإن ذلك مضادة له ومنقاضة
ومن ذلك : قوله تعالى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة  فهذا دليل على أنه إذا عضلها لتفتدي نفسها منه وهو ظالم لها بذلك لم يحل له أخذ ما بذلته له ولا يملكه بذلك
ومن ذلك : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن  فحرم سبحانه وتعالى أن يأخذ مها شيئا مما آتاها إذا كان قد توسل إليه بالعضل
ومن ذلك : أن جداد النخل عمل مباح أي وقت شاء صاحبه لكن لما قصد به أصحابه في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه ثم قال : ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون  ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره
فصل قال أصحاب الحيل : قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه
كفاية فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما نقيم به عذرنا
قال الله سبحانه وتعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا

فيم كنتم فالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم 
ووجه الاستدلال : أنه سبحانه وتعالى إنما عذرهم بتخلفهم وعجزهم إذ لم يستطيعوا حيلة يتخلصون بها من المقام بين أظهر الكفار وهو حرام فعلم أن الحيلة التي تخلص من الحرام مستحبة مأذون فيها وعامة الحيل التي تنكرونها علينا هي من هذا الباب فإنها حيل تخلص من الحرام ولهذا سمى بعض من صنف في ذلك كتابه المخارج الحرام والتخلص من الآثام واعتبر هذا بحيلة العينة فإنها تخلص من الربا المحرم
وكذلك الجمع بن الإجارة والمساقاة يخلص من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وهو حرام
وكذلك خلع اليمين يخلص من وقوع الطلاق الذي هو حرام أو مكروه أو من مواقعة المرأة بعد الحنث وهو حرام وكذلك هبة الرجل ماله قل الحول لولده أو امرأته يخلصه من إثم منع الزكاة كما يتخلص من إثم المنع بإخراجها فهما طريقان للتخلص
فالحيل تخلعص من الحرج وتخلص من الإثم والله تعالى قد نفى الحرج عنا وعن ديننا وندبنا إلى التخلص منه ومن الآثام فمن أفضل الأشياء معرفة ما يخلصنا من هذا وهذا وتعليمه وفتح طريقه
ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق : ليقتلن أباه أو ليشربن الخمر أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك كانت الحيلة تخليصه من مفسدة فعل ذلك ومن مفسدة خراب بيته ومفارقة أهله فإن من لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال فعل المحلوف عليه فأي شيء أفضل من تخلصيه من هذا وهذا
وكذلك من وقع عليه الطلاق الثلاث ولا صبر له عن امرأته ويرى اتصالها بغيره أشد من موته فاحتلنا له بأن زوجناها بعبد فوطئها ثم وهبناه منها فانفسخ نكاحه وحلت لزوجها المطلق بعد انقضاء عدتها

قالوا : وقد قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام وقد حلف ليجلدن امرأته مائة : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث  قال سعيد عن قتادة : كانت امرأته قد عرضت له بأمر وأرادها إبليس على شيء فقال لها : لو تكلمت بكذا وكذا إنما حملها عليها الجوع فحلف نبي الله لئن شفاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة قال : فأمر بأصل فيه تسعة وتسعون قضيبا والأصل تكملة المائة فيضربها به ضربة واحدة فأبر الله تعالى نبيه وخفف عن أمته
وقال عبدالرحمن بن جبير : لقيها إبليس فقال لها : والله لو تكلم صاحبك بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر ولرجع إليه ماله وولده فأخبرت أيوب فقال : ويلك ذاك عدو الله إنما مثلك مثل المرأة الزانية إذا جاءها صديقها بشيء قبلته وأدخلته وإن لم يأتها بشيء طردته وأغلقت بابها عنه لما أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به وإذا قبض الذي له منا نكفر به إن أقامني الله تعالى من مرضي لأجلدنك مائة فأفتاه الله بما أخبر به : أن يأخذ ضغثا وهو الحزمة من الشيء مثل الشماريخ الرطبة والعيدان ونحوها مما هو قائم على ساق فيضربها ضربة واحدة وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلص من الآثام والمخرج من الحرج بأيسر شيء وهذا أصلنا في باب الحيل فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلا قالوا : وقد أرشد النبيصلى الله عليه وسلمإلى التخلص من صريح الربا بأن يبيع التمر بدراهم ثم يشتري بتلك الدراهم تمرا وروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : جاء بلال إلى النبيصلى الله عليه وسلمبتمر برنيي فقال له النبيصلى الله عليه وسلم من أين هذا قال : كان عندنا تمر ردىء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبيصلى الله عليه وسلم فقال له النبيصلى الله عليه وسلم عند ذلك : أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بالدراهم ثم اشتر به متفق عليه
وفي لفظ آخر بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا والجمع والجنيب نوعان من التمر

وفي لفظ لمسلم بعه بسلعة ثم ابتع بسلعتك أي التمر شئت فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة ثم يبتاع بها تمرا وهذا ضرب من الحيلة ولم يفرق بين بيعه ممن يشتري منه التمر أو من غيره وقد جاء قوله تعالى إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم  وهذا إرشاد إلى حيلة العينة وما يشبهها فإن السلعة تدور بين المتعاقدين للتخلص من الربا
قالوا : وقد دلت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلص من القول الذي يأثم به أو يخاف : بالمعاريض وهي حيلة في الأقوال كما أن تلك حيلة في الأعمال
فروى قيس بن الربيع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن في معاريض الكلام ما يغني الرجل عن الكذب
وقال الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم
وقال الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول لم أسمع رسول اللهصلى الله عليه وسلميرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث : الرجل يصلح بين الناس والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب ومعنى الكذب في ذلك هو المعاريض لا صريح الكذب
وقال منصور : كان لهم كلام يدرءون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا وقد لقي رسول اللهصلى الله عليه وسلمطليعة للمشركين وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون : ممن أنتم فقال النبيصلى الله عليه وسلم نحن من ماء ! فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا : أحياء اليمن كثير لعلهم منهم وانصرفوا وأرادصلى الله عليه وسلمبقوله نحن من ماء قوله تعالى : خلق من ماء دافق 
ولما وطىء عبدالله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته فأخذت السكين وجاءته فوجدته قد قضى حاجته فقالت : لو رأيتك حيث كنت لوجأت بها في عنقك فقال : ما فعلت فقالت : إن كنت صادقا فاقرأ القرآن فقال :

شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فقالت : آمنت بكتاب الله وكذبت بصري فبلغ ذلك رسول اللهصلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه
قال ابن عبدالبر : ثبت ذلك عن عبدالله بن رواحة
ويذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : عجبت لمن يعرف المعاريض كيف يكذب
ودعي أبو هريرة رضي الله عنه إلى طعام فقال : إني صائم ثم رأوه يأكل فقالوا : ألم تقل : إني صائم فقال : ألم يقل رسول اللهصلى الله عليه وسلم صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر
وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه قال : أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله تعالى فيظن أنه أراد يومه والذي يليه وإنما أراد يومي الدنيا والآخرة
وذكر الأعمش عن إبراهيم أنه قال له رجل : إن فلانا أمرني أن آتي مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة فقال له : قل : والله ما أبصر إلا ما سددني غيري يعني إلا ما بصرك ربك
وقال حماد عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال : أن لي معك حقا فقال : لا فقال : احلف بالمشي إلى بيت الله فقال : احلف بالمشي إلى بيت الله واعن مسجد حيكوذكر هشام بن حسان عن ابن سيرين أن رجلا كان يصيب بالعين فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها ففطن له شريح فقال : إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام فقال الرجل : أف أف وسلمت بغلته وإنما أراد : أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها
وقال الأعمش عن إبراهيم : إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه فيسأله عنه فقال : قل : والله إن الله ليعلم ما من ذلك من شيء يعني ب ما : الذي

وقال عقبة بن المغيرة : كنا نأتي إبراهيم وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول : إن سئلتم عني وحلفتم فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا ولا لنا به علم ولا في أي موضع هو واعنوا أنكم لا تدرون أي موضع أنا فيه قائم أو قاعد وقد صدقتم
وجاءه رجل فقال : إني اعترضت على دابة فنفقت فأخذت غيرها ويريدون أن يحلفوني أنها الدابة التي اعترضت عليها فقال : اركبها واعترض عليها على بطنك راكبا ثم احلف أنها الدابة التي اعترضت عليها
وقال أبو عوانة عن أبي مسكين : كنت عند إبراهيم وامرأته تعاقبه في جارية له وبيده مروحة فقال : أشهدكم أنها لها فلما خرجنا قال : علام شهدتم قلنا : شهدنا أنك جعلت الجارية لها قال : أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنما
قلت لكم : اشهدوا أنها لها وأنا أعني المروحة وقال محمد بن الحسن عن عمر بن ذر عن الشعبي : من حلف على يمين لا يستثنى فالبر والإثم فيها على علمه قلت : ما تقول في الحيل قال : لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج به إلى الحلال فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به وإنما نكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق لرجل حتى يبطله أو يحتال في باطل حتى يموهه أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك
وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه ثم قال : ضرسي ضرسي
ووجه الرشيد إلى شريك رجلا ليحضره فسأله شريك أن ينصرف ويدافع بحضوره ففعل فحبسه الرشيد ثم أرسل إليه رسولا آخر فأحضره وسأله عن تخلفه لما جاءه رسوله فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول في اليوم الذي أرسله فيه وعنى بذلك الرسول الثاني فصدقه وأمر بإطلاق الرجل وأحضر الثوري إلى مجلس المهدي فأراد أن يقوم فمنع فحلف بالله أنه يعود فترك نعله وخرج ثم رجع فلبسها ولم يعد فقال المهدي : ألم يحلف أنه يعود فقالوا :

إنه عاد فأخذ نعله
قالوا : وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمن كثيرا من مسائل الحيل
فأبعد الناس عن القول بها مالك وأحمد وقد سئل أحمد عن المروزي وهو عنده ولم يرد أن يخرج إلى السائل فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال : ليس المروزي ههنا وماذا يصنع المروزي ههنا !
وقد سئل أحمد عن رجل حلف بالطلاق : ليطأن امرأته في نهار رمضان فقال : يسافر بها ويطؤها في السفر
وقال صاحب المستوعب : وجدت بخط شيخنا أبي حكيم : حكى أن رجلا سأل أحمد عن رجل حلف أن لا يفطر في رمضان فقال له : اذهب إلى بشر بن الوليد فاسأله ثم ائتني فأخبرني فذهب فسأله فقال له بشر إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر فإذا كان وقت السحر فكل واحتج بقول النبيصلى الله عليه وسلمهلم إلى الغداء المبارك فاستحسنه أحمد
قالوا : وقد علم الله سبحانه نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التي توصل بها إلى أخذ أخيه بإظهار أنه سارق ووضع الصواع في رحله ولم يكن كذلك حقيقة لكن أظهر ذلك توصلا إلى أخذ أخيه وجعله عنده وأخبر الله سبحانه أن ذلك كيد كاده سبحانه ليوسف ليأخذ أخاه ثم أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من العلم الذي رفع به درجات من يشاء وأن الناس متفاوتون فيه ففوق كلع ذي علم عليم

فصل قال منكروا الحيل
الحيل ثلاثة أنواع :
نوع هو قربة وطاعة وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى
ونوع هو جائز مباح لا حرج على فاعله ولا على تاركه وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته

ونوع هو محرم ومخادعة لله تعالى ورسوله متضمن لإسقاط ما أوجبه وإبطال ما شرعه وتحليل ما حرمه وإنكار السلف والأئمة وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع فإن الحيلة لا تذم مطلقا ولا تحمد مطلقا ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم وإن غلب في العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة
وأخص من هذا : تخصيصها بما يذم من ذلك وهذا هو الغالب على عرف الفقهاء المنكرين للحيل فإن أهل العرف لهم تصرف في تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها وتقييد مطلقها ببعض أنواعه
فإن الحيلة فعلة من الحول وهو التصرف من حال إلى حال وهي من ذوات الواو وأصلها حولة فسكنت الواو وانكسر ما قبلها فقلبت ياء كميزان وميقات وميعاد
قال في المحكم : الحول والحيل والحول والحولة والحيلة والحويل والمحالة والمحال والاحتيال والتحول والتحيل : كل ذلك : الحذق وجودة النظر والقدرة على وجه التصرف قال : والحول والحيل والحيلات : جمع حيلة ورجل حول وحولة وحول وحولة وحوالي وحوالي وحولول وحولي : شديد الاحتيال وما أحوله وأحيله وهو أحول منك وأحيل انتهى
فالحيلة : فعلة من الحول وهو التحول من حال إلى حال وكل من حاول أمرا يريد فعله أو الخلاص منه فما يحاول به : حيلة يتوصل بها إليه
فالحيلة : معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقا ومنعا ومصلحة ومفسدة وطاعة ومعصية فإن كان المقصود أمرا حسنا كانت الحيلة حسنة وإن كان قبيحا كانت الحيلة قبيحة وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك وإن كانت معصية وفسوقا كانت الحيلة عليه كذلك
ولما قال النبيصلى الله عليه وسلم لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت : يقصد بها الحيل التي تستحل بها المحارم كحيل اليهود وكل حيلة تتضمن إسقاط حقي لله تعالى أو لآدمي فهي مما يستحل بها المحارم

ونظير ذلك : لفظ الخداع : فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم فإن كان بحق فهو محمود وإن كان بباطل فهو مذموم
ومن النوع المحمود : قولهصلى الله عليه وسلمالحرب خدعة وقوله في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره : كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال : رجل كذب على امرأته ليرضيها ورجل كذب بين اثنين ليصلح بينهما ورجل كذب في خدعة حرب ومن النوع المذموم : قوله في حديث عياض بن حمار الذي رواه مسلم في صحيحه : أهل النار خمسة ذكر منهم رجلا لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك
وقوله تعالى : يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون  وقوله تعالى : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله 
ومن النوع المحمود : خدع كعب بن الأشرف وأبي رافع عدوي

رسول اللهصلى الله عليه وسلم حتى قتلا وقتل خالد بن سفيان الهذلي
ومن أحسن ذلك : خديعة معبد بن أبي معبد الخزاعي لأبي سفيان وعسكر المشركين حين هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين وردهم من فورهم
ومن ذلك : خديعة نعيم بن مسعود الأشجعي ليهود بني قريظة ولكفار قريش والأحزاب

حتى ألقى الخلف بينهم وكان سبب تفرقهم ورجوعهم ونظائر ذلك كثيرة
وكذلك المكر ينقسم إلى محمود ومذموم فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده
فمن المحمود : مكره تعالى بأهل المكر مقابلة لهم بفعلهم وجزاء لهم بجنس عملهم قال تعالى : ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين  وقال تعالى : ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون 
وكذلك الكيد ينقسم إلى نوعين قال تعالى : وأملي لهم إن كيدي متين  وقال تعالى : كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله  وقال تعالى : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا 

فصل إذا عرف ذلك فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يظهر قولا أو فعلا
مقصوده به مقصود صالح وإن كان ظاهره خلاف ما قصد به إذا كانت فيه مصلحة دينية مثل دفع الظلم عن نفسه أو غيره أو إبطال حيلة محرمة
وإنما المحرم : أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله تعالى ورسوله له فيصير مخادعا لله تعالى ورسولهصلى الله عليه وسلم كائدا لدينه ماكرا بشرعه فإن مقصوده حصول الشيء الذي حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة وإسقاط الذي أوجبه بتلك الحيلة

وهذا ضد الذي قبله فإن ذلك مقصوده التوصل إلى إظهار دين الله تعالى ودفع معصيته وإبطال الظلم وإزالة المنكر فهذا لون وذاك لون آخر
ومثال ذلك : التأويل في اليمين فإنه نوعان : نوع لا ينفعه ولا يخلصه من الإثم وذلك إذا كان الحق عليه فجحده ثم حلف على إنكاره متأولا فإن تأويله لا يسقط عنه إثم اليمين الغموس والنية للمستحلف في ذلك باتفاق المسلمين بل لو تأول من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين
وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله ويخلصه من الإثم وتكون اليمين على نيته فإذا استحلفه ظالم بأيمان البيعة أو أيمان المسلمين فتأول الأيمان بجمع يمين وهي اليد أو حلفه بأن كل امرأة له طالق فتأول أنها طالق من وثاق أو طالق عند الولادة أو طالق من غيري ونحو ذلك
أو استحلفه بأن كل مملوك له حر أو عتيق فتأول أنه عتيق أو كريم من قولهم : فرس عتيق
أو استحلفه بأن تكون امرأته عليه كظهر أمه فتأول ظهر أمه بمركوبها فإن ضيق عليه وألزمه أن يقول : إنه مظاهر من امرأته تأول بأنه قد ظاهر بين ثوبين أو جبتين من عند امرأته
وإن استحلفه بالحرام تأول أن الحرام الذي حرمه الله تعالى عليه يلزمه تحريمه فإن ضيق عليه بأن يلزمه أن يقول : الحرام يلزمني من زوجتي أو أن تكون علي حراما قيد ذلك بنية : إذا أحرمت أو صامت أو قامت إلى الصلاة ونحو ذلك
وإن استحلفه بأن كل ماله أو كل ما يملكه صدقة تأول بأنه صدقة من الله سبحانه وتعالى عليه
وإن قال له : قل : وأن جميع ما أملكه : من دار وعقار وضيعة وقف على المساكين تأول الفعل المضارع بما يملكه في المستقبل بعد كذا وكذا سنة
فإن ضيق عليه وقال قل : جميع ما هو جار في ملكي الآن نوى إضافة الملك إلى

الآن لا إلى نفسه والآن لا يملك شيئا فإن قال : مما هو في ملكي في هذا الوقت يكون وقفا أخرج معنى لفظ الوقف عن المعهود إلى معنى آخر والعرب تسمي سواء العاج وقفا
وإن استحلفه بالمشي إلى بيت الله نوى مسجدا من مساجد المسلمين
فإن قال قل : علي الحج إلى بيت الله نوى بالحج القصد إلى المسجد فإن قال : إلى البيت العتيق نوى المسجد القديم فإن قال : البيت الحرام نوى الحرام هدمه واتخاذه دارا أو حماما ونحو ذلك
وإن استحلفه بالأمانة نوى بها الوديعة أو اللقطة ونحو ذلك
وإن استحلفه بصوم سنة نوى بالصوم الإمساك عن كلام يمكنه الإمساك عنه سنة أو دائما
هذا كله في المحلوف به وأما المحلوف عليه فيجري هذا المجرى
فإذا استحلفه : ما رأيت فلانا نوى ما ضربت رئته أو ما كلمته نوى ما جرحته أو ما عاشرته ولا خالطته نوى بالمعاشرة والمخالطة معاشرة الزوجة والسرية أو ما بايعته ولا شاريته نوى بذلك ما بايعته بيعة اليمين ولا شاريته من المشاراة وهي اللجاج أو الغضب تقول : شري على مثال علم إذا لج واستشاط غضبا
وإن استحلفه لصك أنه لا يدل عليه ولا يعلم به ولا يخبر به أحدا نوى أنه لا يفعل ذلك ما دام معه وإن ضيق عليه وقال : ما عاش أو ما بقي أو ما دام في هذه البلدة نوى قطع الظرف عما قبله وأن لا يكون متعلقا به أو نوى بما : الذي أي لا أدل عليك الذي عاش أو بقي بعد أخذك
وإن استحلفه أن لا يطأ زوجته نوى وطأها برجله
وإن استحلفه أن لا يتزوج فلانة نوى أن لا يتزوجها نكاحا فاسدا
وكذلك إذا استحلفه أن لا يبيع كذا أو لا يشتريه أو لا يؤجره ونحو ذلك
وكذلك إذا استحلفه أن لا يدخل هذه الدار أو البلد أو المحلة قيد الدخول بنوع معين بالنية

وكذلك لو استحلفه : أنك لا تعلم أين فلان نوى مكانه الخاص من داره أو بلده أو سوقه
ولو استحلفه : أنه ليس عنده في داره نوى أنه ليس عنده إذا خرج من الدار فإن ضيق عليه وقال : الآن نوى أنه ليس حاضرا معه الآن وقد بر وصدق
وإن استحلفه ليس لي به علم نوى أنه ليس لي علم بسره وما ينطوي عليه وما يضمره أو ليس لي علم به على جهة التفصيل فإن هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وحده
فصل وللمظلوم المستحلف مخرجان يتخلص بهما : مخرج بالتأويل حال الحلف
فإن فاته فله مخرج يتخلص به بعده إن أمكنه كما إذا استحلفه قطاع الطريق أو اللصوص أن لا يخبر بهم أحدا فالحيلة في ذلك أن يجمع الوالي المتهمين ثم يسأله عن واحد واحد فيبرىء البرىء ويسكت عن المتهم وهذا المخرج أضيق من الأول
فإذا استحلفه ظالم أن لا يشكو غريمه ولا يطالبه بحقه فحلف ولم يتأول أحال عليه بذلك الحق من يطالبه به ولم يحنث في يمينه
وإذا استحلفه ظالم أن يبيعه شيئا فله أن يملكه زوجته أو ولده فإذا باعه بعد ذلك كان قد بر في يمينه ويمنع من تسليمه من ملكه إياه

بسم الله الرحمن الرحيم

فصل وللحيل التي يتخلص بها من مكر غيره والغدر به أمثلة المثال
الأول : إن استأجر منه أرضا أو بستانا أو دارا سنين ثم لا يأمن من مكره إذا صلحت الأرض والبستان بنوع من أنواع المكر والغدر ولو لم يكن إلا بأن يدعي أن أجرة المثل في هذه الحال أكثر مما سمى فالحيلة في أمنه من ذلك : أن يسمي لكل سنة أجرا معلوماويجعل أجرة السنين المتأخرة معظم الأجرة وأقلها للسنين الأول فلا يسهل عليه المكر بعد ذلك
وعكسه إذا خاف المؤجر مكر المستأجر وغدره في المستقبل جعل معظم الأجرة في السنين الأول وأقلها في الأواخر
المثال الثاني : أن يخاف المؤجر غيبة المستأجر فلا يتمكن من مطالبة امرأته بالأجرة ولا من إخراجها
فالحيلة في أمنه من ذلك : أن يؤجرها رب الدار من المرأة فإن دخل عليه تعذر مطالبتها بالأجرة ضمن الزوج الأجرة أو أخذ بها رهنا فإن كان قد أجرها من الزوج وخاف غيبته أشهد على إقرار المرأة أن الدار له وأنها في يدها بحكم إجارة الزوج إلى مدة كذا وكذا وإن كفل المرأة وقت العقد أنها ترد إليه الدار عند انقضاء المدة نفعه ذلك
المثال الثالث : أن يخاف المستأجر أن يزاد عليه في الأجرة ويفسخ عقده إما بكون العين المؤجرة وقفا عند من يرى ذلك أو يتحيل عليه حتى يبطل عقده

فالحيلة في أمنه وتخليصه : أن يسمى للأجرة أكثر مما اتفقا عليه ثم يصارفه عليه بقدر المسمى ويدفعه إليه ويشهد عليه أنه قبض المسمى الذي وقع عليه العقد فإذا مكر به وطلب فسخ عقده طالبه بما قبضه من المسمى هذا إذا تعذر عليه رفع تلك الإجارة إلى حاكم يحكم بلزومها وعدم فسخها للزيادة
المثال الرابع : أن يخاف أن يؤجره ما لا يملك فيأبى المالك ويفسخ العقد ويرجع عليه بالأجرة فالحيلة في تخليصه : أن يضمن المؤجر درك العين المستأجرة وإن ضمن من يخاف منه الاستحقاق ومطالبته كان أقوى
المثال الخامس : أن يخاف فلس المستأجر ولم يجد من يضمنه الأجرة
فالحيلة في فسخه : أن يشهد عليه في العقد أنه متى تعذر عليه القيام بأجرة شهر أو سنة فله الفسخ ويصح هذا الشرط ولو لم يشرط ذلك فإنه يملك الفسخ عند تعذر قبض أجرة ذلك الشهر أو السنة ويكون حدوث الفلس عيبا في الذمة يتمكن به من الفسخ كما يكون حدوث العيب في العين المستأجرة مسوغا للفسخ وهذا ظاهر إذا سمى لكل شهر أو سنة قسطا معلوما ولا يعين مقدار المدة بل يقول آجرتك كل سنة بكذا أو كل شهر بكذا تقوم لي بالأجرة في أول الشهر أو السنة فإن أفلس قبل مضي شيء من المدة ملك المؤجر الفسخ وإن أفلس بعد مضي شيء منها فهل يملك الفسخ على وجهين :
أحدهما : لا يملكه لأن مضي بعضها كتلف بعض المبيع وهو يمنع الرجوع
والثاني : يملكه وهو قول القاضي وهو الصحيح لأن المنافع إنما تملك شيئا فشيئا بخلاف الأعيان فإنها تملك في ان واحد فيتعذر تجدد العقد عند تجدد المنافع
المثال السادس : إذا خاف المستأجر أن تنهدم الدار فيعمرها فلا يحتسب له المؤجر بما أنفق في ذلك
فالحيلة في ذلك : أن يقول وقت العقد : وأذن المؤجر للمستأجر أن يعمر ما تحتاج

الدار إلى عمارته من أجرتها ويقدر لذلك قدرا معلوما فيقول مثلا : بمائة فما دونها أو يقول : من عشرة إلى مائة فإن لم يفعل ذلك واحتاجت إلى عمارة لا يتم الانتفاع إلا بها أشهد على ذلك وعلى ما أنفق عليها وأنه غير متبرع به وحسب له من الأجرة
وكذلك إذا استأجر منه دابة واحتاجت إلى علف وخاف أن لا يحتسب له به المؤجر فعل مثل ذلك
فإن قال : أذنت لك أن تنفق على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه فادعى قدرا وأنكره المؤجر فالقول قول المؤجر
والحيلة في قبول قول المستأجر : أن يسلف رب الدار ما يعلم أنها تحتاج إليه من العمارة ويشهد عليه بقبضه من الأجرة ثم يدفعه إليه ويوكله أن ينفق منه على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه فالقول حينئذ قوله لأنه أمين
فإن خاف المؤجر أن يستهلك المستأجر المال الذي قبضه ويقول : إنه تلف وهو أمانة فلا يلزمني ضمانه فالحيلة في أمنه من ذلك : أن يقرضه إياه ويجعله في ذمته ثم يوكله أن ينفق على العين ما تحتاج إليه من ذلك
المثال السابع : إذا آجره دابة أو دارا مدة معلومة وخاف أن يحبسها عنه بعد انقضاء المدة فطريق التخلص من ذلك : أن يقول : فإذا انقضت المدة فأجرتها بعد لكل يوم دينار أو نحوه فلا يسهل عليه حبسها بعد انقضاء المدة
المثال الثامن : إذا كان له عليه دين فقال : اشتر له به كذا وكذا ففعل لم يبرأ من الدين بذلك لأنه لا يكون مبرئا لنفسه من دين الغير بفعله
وطريق التخلص : أن يشهد على إقرار رب الدين أن من عليه الدين برىء منه بعد شرائه لمستحقه كذا وكذا والقياس أنه يبرأ بالشراء وإن لم يفعل ذلك لأنه بتوكيله له قد أقامه مقام نفسه فكما قام مقامه في التصرف قام مقامه في الإبراء فهو لم يبرأ بفعل نفسه لنفسه وإنما برىء بفعله لموكله القائم مقام فعل الموكل المثال التاسع : إذا أراد أن يستأجر إلى مكان بأجرة معلومة فإن لم يبلغه وأقام دونه فالأجرة كذا وكذا فقالوا : لا يصح العقد لأنا لا نعلم على أي المسافتين وقع العقد

قالوا : والحيلة في تصحيحه : أن يسمي للمكان الأقرب أجرة ثم يسمي منه إلى المكان الأبعد أجرة أخرى فيقول مثلا : آجرتك إلى الرملة بمائة ومن الرملة إلى مصر بمائة لكن لا يأمن المستأجر مطالبة المؤجر له بالأجرة إلى المكان الأقصى ويكون قد أقام في المكان الأقرب فالحيلة في تخلصه : أن يشترط عليه الخيار في العقد الثاني إن شاء أمضاه وإن شاء فسخه ويصح اشتراط الخيار في عقد الإجارة إذا كانت على مدة لا تلي العقد والقياس يقتضي صحة الإجارة على أنه إن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائة وإن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائتان ولا غرر في ذلك ولا جهالة
وكذا إذا قال : إن خطت هذا الثوب روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فإن العمل إنما يقع على وجه واحد
وكذلك قطع المسافة فإنه إما أن يقطع القريبة أو البعيدة فلا يشبه هذا قوله : بعتكه بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة فإنه إذا أخذه لا يدري بأي الثمنين أخذ فيقع التنازع ولا سبيل لنا إلى العلم بالمعين منهما بخلاف عقد الإجارة
فإن استيفاء المعقود عليه لا يقع إلا معينا فيجب أجرة عمله
المثال العاشر : إذا زرع أرضه ثم أراد أن يؤجرها والزرع قائم لم يجز لتعذر انتفاع المستأجر بالأرض
وطريق تصحيحها : أن يؤجره يبيعه الزرع ثم يؤجر الأرض فإن أحب بقاء الزرع على ملكه قدر لكماله مدة معينة ثم أجره الأرض بعد تلك المدة إجارة مضافة فإن خاف أن يفسخ عليه العقد حاكم يرى بطلان هذه الإجارة فالحيلة : أن يبيعه الزرع ثم يؤجره الأرض فإذا تم العقد اشترى منه الزرع فعاد الزرع إلى ملكه وصحت الإجارة المثال الحادي عشر : إذا أراد أن يؤجر الأرض على أن خراجها على المستأجر لم يصح

لأن الخراج تابع لرقبة الأرض فهو على مالكها لا على المنتفع بها : من مستأجر أو مستعير
وطريق الجواز : أن يؤجره إياها بأجرة زائدة على أجر مثلها بقدر خراجها ثم يشهد عليه أنه قد أذن للمستأجر أن يدفع من أجرة الأرض في الخراج كل سنة كذا وكذا
وكذلك لو استأجر دابة على أن يكون علفها على المستأجر لم يصح وطريق الحيلة : أن يستأجرها بشيء مسمى ثم يقدر له ما تحتاج إليه الدابة ويوكله في إنفاقه عليها
والقياس يقتضي صحة العقد بدون ذلك فإنا نصحح استئجار الأجير بطعامه وكسوته كما أجر موسى عليه السلام نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه فكذلك يجوز إجارة الدابة بعلفها وكما يجوز أن يكون علفها جميع الأجرة يجوز أن يكون بعض الأجرة والبعض الآخر شيء مسمى
المثال الثاني عشر : لا تجوز إجارة الأشجار لأن المقصود منها الفواكه وذلك بمنزلة بيعها قبل بدوها
قالوا : والحيلة في جوازه : أن يؤجره الأرض ويساقيه على الشجر بجزء معلوم
قال شيخ الإسلام : وهذا لا يحتاج إليه بل الصواب جواز إجارة الشجر كما فعل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بحديقة أسيد بن حضير فإنه آجرها سنين وقضى بها دينه
قال : وإجارة الأرض لأجل ثمرها بمنزلة إجارة الأرض لمغلها فإن المستأجر يقوم على الشجر بالسقي والإصلاح والذيار في الكرم حتى تحصل الثمرة كما يقوم على الأرض بالحرث والسقي والبذر حتى يحصل المغل فثمرة الشجر تجري مجرى مغل الأرض

فإن قيل : الفرق بين المسألتين : أن المغل من البذر وهو ملك المستأجر والمعقود عليه الانتفاع بإيداعه في الأرض وسقيه والقيام عليه بخلاف استئجار الشجر فإن الثمرة من الشجرة وهي ملك المؤجر
والجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا لا تأثير له في صحة العقد وبطلانه وإنما هو فرق عديم التأثير
الثاني : أن هذا يبطل باستئجار الأرض لكلئها وعشبها الذي ينبته الله سبحانه وتعالى بدون بذر من المستأجر فهو نظير ثمرة الشجرة
الثالث : أن الثمرة إنما حصلت بالسقي والخدمة والقيام على الشجرة فهي متولدة من عمل المستأجر ومن الشجرة فللمستأجر سعي وعمل في حصولها
الرابع : أن تولد الزرع ليس من البذر وحده بل من البذر والتراب والماء والهواء فحصول الزرع من التراب الذي هو ملك المؤجر كحصول الثمرة من الشجرة والبذرفي الأرض قائم مقام السقي للشجرة فهذا أودع في أرض المؤجر عينا جامدة وهذا أودع في شجرة عينا مائعة ثم حصلت الثمرة من أصل هذا وماء المستأجر وعمله كما حصل العمل من أرض هذا وبذر المستأجر وعمله وهذا من أصح قياس على وجه الأرض
وبه يتبين أن الصحابة أفقه الأمة وأعلمهم بالمعاني المؤثرة في الأحكام ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر رضي الله عنه فهو إجماع منهم
ثم إن هذه الحيلة التي ذكرها هؤلاء تتعذر غالبا إذا كان البستان ليتيم أو وقفا فإن المؤجر ليس له أن يحابي في المساقاة حينئذ ولا يخلص من ذلك محاباة المستحق في أجارة الأرض فإنه إذا أربحه في عقد لم يجز له أن يخسره في عقد آخر ولا يخلص من ذلك اشتراط عقد في عقد بأن يقول : إنما أساقيك على جزء من ألف جزء بشرط أن أؤجرك الأرض بكذا وكذا فإن هذا لا يصح فعلى ما فعله الصحابة وهو مقتضى القياس الصحيح لا يحتاج إلى هذه الحيلة وبالله التوفيق
المثال الثالث عشر : إذا اشترى دارا أو أرضا وخاف أن تخرج وقفا أو مستحقة فتؤخذ منه هي وأجرتها فالحيلة : أن يضمن البائع أو غيره درك المبيع وأنه ضامن لما

غرمه المشتري من ذلك ويصح ضمان الدرك حتى عند من يبطل ضمان المجهول وضمان ما لم بجب للحاجة إلى ذلك فإن ضمن من يخاف استحقاقه : كان أقوى فإن خاف أن يظهر استحقاق على وارثه بعد موته ضمن الدرك ورثة البائع أو ورثه من يخاف استحقاقه إن أمكنه فإن كان على ثقة أنه متى استحق عليه المبيع رجع بثمنه ولكن يغرم قيمة المنفعة وهي أجرة المثل لمدة استيلائه على العين وهذا قول ضعيف جدا فإن المشتري إنما دخل على أن يستوفي المنفعة بلا عوض والعوض الذي بذله في مقابلة العين لا للانتفاع فإلزامه بالأجرة إلزام بما لا يلتزمه وكذلك نقول في المستعير : إذا استحقت العين لم يلزمه عوض المنفعة لأنه إنما دخل على أن ينتفع مجانا بلا عوض بخلاف المستأجر فإنه التزم الانتفاع بالعوض ولكن لا يلزمه إلا المسمى الذي دخل عليه
وكذلك الأمة المشتراة إذا وطئها ثم استحقت لم يلزمه المهر لأنه دخل على أن يطأها مجانا بخلاف الزوج فإنه دخل على أن الوطءفي مقابلةالمهر ولكن لا يلزمه إذا استحقت إلا المسمى وعلى هذا فليس للمستحق أن يطالب المغرور لأنه معذور غير ملتزم للضمان وهو محسن غير ظالم فما عليه من سبيل وهذا هو الصواب فإن طالبه على القول الآخر رجع على من غره بما لم يلتزم ضمانة خاصة ولا يرجع عليه بما التزم غرامته
فإذا غرم المودع أو المتهب قيمة العين والمنفعة رجع على الغار بهما وإذا غرم المستأجر ذلك رجع بقيمة العين دون قيمة المنفعة إلا أنه يرجع بالزائد على المسمى حيث لم يلتزم ضمانه وإذا ضمن وهو مشتر أو مستعير قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين لكنه يرجع بما زاد على الثمن المسمى
والمقصود : أن هذا المشتري متى خاف أن يطالب بقيمة المنفعة إذا استحق عليه المبيع فالحيلة في تخلصه من ذلك : أن يستأجر منه الدار أو الأرض سنين معلومة بأجرة مسماة ثم يشتريها منه بعد ذلك ويشهد عليه أنه أقبضه الأجرة فمتى استحقت العين وطولب بعوض المنفعة طالب هو المؤجر بما قبضه من الأجرة لما ظهرت الإجارة باطلة
المثال الرابع عشر : إذا وكله أن يزوجه امرأة معينة أو يشتري له جارية معينة ثم خاف الموكل أن تعجب وكليه فيتزوجها أو يشتريها لنفسه فطريق التخلص من ذلك في

الجارية : أن يقول له : ومتى اشتريتها لنفسك فهي حرة ويصح هذا التعليق والعتق وأما الزوجة : فمن صحح هذا التعليق فيها كمالك وأبي حنيفة نفعه وأما على قول الشافعي وأحمد فإنه لا ينفعه
فطريق التخلص : أن يشهد عليه أنها لا تحل له وأن بينهما سببا يقتضي تحريمها عليه وأنه متى نكحها كان نكاحه باطلا
فإن أراد الوكيل أن يتزوجها أو يشتريها لنفسه ولا يأثم فيما بينه وبين الله تعالى فالحيلة : أن يعزل نفسه عن الوكالة ثم يعقد عليها لنفسه ولو عقد عليها لنفسه كان ذلك عزلا لنفسه عن الوكالة
فإن خاف أن لا يتم له ذلك بأن يرفعه إلى حاكم حنفي يرى أنه لا يملك الوكيل عزل نفسه في غيبة الموكل فأراد التخلص من ذلك فالطريق في ذلك : أن يشتريها لنفسه بغير جنس ما أذن له فيه فإنه إذا اشتراها لنفسه بجنس ما أذن له فيه تضمن ذلك عزل نفسه في غيبة موكله وهو ممتنع فإذا اشتراها بغير الجنس حصل الشراء له ولم يكن ذلك عزلا
المثال الخامس عشر : إذا وكله في بيع جارية ووكله آخر في شرائها فإن قلنا : الوكيل يتولى طرفي العقد جاز إن يكون بائعا مشتريا لهما وإن منعنا ذلك فالطريق : أن يبيعها لمن يستوثق منه أن يشتريها منه ثم يشتريها لموكله فإن خاف أن لا يفي له المشتري الذي توثق منه فالحيلة أن يبيعه إياها بشرط الخيار فإن وفى له بالبيع وإلا كان متمكنا من الفسخ
المثال السادس عشر : لا يملك خلع ابنته بصداقها فإن ظهرت المصلحة في ذلك لها فالطريق : أن يتملكه عليها ثم يخلعها من زوجها به فيكون قد اختلعها بماله والصحيح : أنه لا يحتاج إلى ذلك بل إذا ظهرت المصلحة في افتدائها من الزوج بصداقها جاز ذلك وكان بمنزلة افتدائها من الأسر بمالها وربما كان هذا خيرا لها
المثال السابع عشر : إذا وكله أن يشتري له متاعا فاشتراه ثم أراد أن يبعث به وإليه فخاف أن يهلك فيضمنه الوكيل فطريق التخلص من ذلك : أن يستأذن الوكيل أن يعمل في ذلك برأية ويفوض إليه ذلك فإذا أذن له فبعث به فتلف لم يضمنه

المثال الثامن عشر : إذا أراد أن يسلم وعنده خمر أو خنازير وأراد أن لا يتلف عليه فالحيلة : أن يبيعها لكافر قبل الإسلام ثم يسلم ويكون له المطالبة بالثمن سواء أسلم المشتري أو بقي على كفره نص على هذا أحمد في مجوسي باع مجوسيا خمرا ثم أسلما يأخذ الثمن الذي قد وجب له يوم باعه
المثال التاسع عشر : إذا كان له عصير فخاف أن يتخمر فلا يجوز له بعد ذلك أن يتخذه خلا فالحيلة : أن يلقي فيه أولا ما يمنع تخمره فإن لم يفعل حتى تخمر وجب عليه إراقته ولم يجز له حبسه حتى يتخلل فإن فعل لم يطهر لأن حبسه معصية وعوده خلا نعمة فلا تستباح بالمعصية
المثال العشرون : إذا كان له على رجل دين مؤجل وأراد رب الدين السفر وخاف أن يتوى ماله أو احتاج إليه ولا يمكنه المطالبة قبل الحلول فأراد ان يضع عن الغريم البعض ويعجل له باقيه فقد اختلف السلف والخلف في هذه المسألة
فأجازها ابن عباس وحرمها ابن عمر وعن أحمد فيها روايتان أشهرهما عنه : المنع وهي اختيار جمهور أصحابه والثانية : الجواز حكاها ابن أبي موسى وهي اختيار شيخنا
وحكى ابن عبد البر في الاستذكار ذلك عن الشافعي قولا وأصحابه لا يكادون يعرفون هذا القول ولا يحكونه وأظن أن هذا إن صح عن الشافعي فإنما هو فيما إذا جرى ذلك بغير شرط بل لو عجل له بعض دينه وذلك جائز فأبرأه من الباقي حتى لو كان قد شرط ذلك قبل الوضع والتعجيل ثم فعلاه بناء على الشرط المتقدم صح عنده لأن الشرط المؤثر في مذهبه : هو الشرط المقارن لا السابق وقد صرح بذلك بعض أصحابه والباقون قالوا : لو فعل ذلك من غير شرط جاز ومرادهم الشرط المقارن
وأما مالك فإنه لا يجوزه مع الشرط ولا بدونه سدا للذريعة وأما أحمد فيجوزه في دين الكتابة وفي غيره عنه روايتان واحتج المانعون بالآثار والمعنى

أما الآثار : ففي سنن البيهقي عن المقداد بن الأسود قال : أسلفت رجلا مائة دينار ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول اللهصلى الله عليه وسلمفقلت له : عجل تسعين دينارا وأحط عشرة دنانير فقال : نعم فذكرت ذلك لرسول اللهصلى الله عليه وسلم فقال : أكلت ربا مقداد وأطعمته وفي سنده ضعف
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه : قد سئل عن الرجل له الدين على رجل إلى أجل فيضع عنه صاحبه ويعجل له الآخر فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه
وصح عن أبي المنهال أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال : لرجل علي دين فقال لي : عجل لي لأضع عنك قال : فنهاني عنه وقال : نهى أمير المؤمنين يعني عمر أن يبيع العين بالدين
وقال أبو صالح مولى السفاح واسمه عبيد : بعت برا من أهل السوق إلى أجل ثم أردت الخروج إلى الكوفة فعرضوا علي أن أضع عنهم وينقدوني فسألت عن ذلك زيد بن ثابت فقال : لا آمرك أن تأكل هذا ولا تؤكله رواه مالك في الموطأ
وأما المعنى : فإنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقي فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقطه وذلك عين الربا كما لو باع الأجل بالقدر الذي يزيده إذا حل عليه الدين فقال : زدني في الدين وأزيدك في المدة فأي فرق بين أن تقول : حط من الأجل وأحط من الدين أو تقول : زد في الأجل وأزيد في الدين
قال زيد بن أسلم : كان ربا الجاهلية : أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل فإذا حل الحق قال له غريمه : أتقضي أم تربي فإن قضاه أخذه وإلا زاذه في حقه وأخر عنه في الأجل رواه مالك
وهذا الربا مجمع على تحريمه وبطلانه وتحريمه معلوم من دين الإسلام كما يعلم تحريم الزنى واللواطة والسرقة
قالوا : فنقص الأجل في مقابلة نقص العوض كزيادته في مقابلة زيادته فكما أن هذا ربا فكذلك الآخر

قال المبيحون : صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأسا أن يقول : أعجل لك وتضع عني وهو الذي روى أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير من المدينة جاءه ناس منهم فقالوا : يا رسول الله إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم تحل فقال النبيصلى الله عليه وسلم : ضعوا وتعجلوا قال أبو عبدالله الحاكم : هو صحيح الإسناد
قلت : هو على شرط السنن وقد ضعفه البيهقي وإسناده ثقات : وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي وهو ثقة فقيه روى عنه الشافعي واحتج به وقال البيهقي : باب من عجل له أدنى من حقه قبل محله فوضع عنه طيبةبه أنفسهما وكأن مراده أن هذا وقع بغير شرط بل هذا عجل وهذا وضع ولا محذور في ذلك
قالوا : وهذا ضد الربا فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل والدين وذلك إضرار محض بالغريم ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين وانتفاع صاحبه بما يتعجله فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر بخلاف الربا المجمع عليه فإن ضرره لاحق بالمدين ونفعه مختص برب الدين فهذا ضد الربا صورة ومعنى
قالوا : ولأن مقابلة الأجل بالزيادة في الربا ذريعة إلى أعظم الضرر وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفا مؤلفة فتشتغل الذمة بغير فائدة وفي الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين وينتفع ذاك بالتعجيل له
قالوا : والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون وسمى الغريم المدين : أسيرا ففي براءة ذمته تخليص له من الأسر وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر وهذا لازم لمن قال : يجوز ذلك في دين الكتابة وهو قول أحمد وأبي حنيفة فإن المكاتب مع سيده كالأجنبي في باب المعاملات ولهذا لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين ولا يبايعه بالربا فإذا جاز له أن يتعجل بعض كتابته ويضع عنه باقيها لما له في ذلك من مصلحة تعجيل العتق وبراءة ذمته من الدين لم يمنع ذلك في غيره من الديون ولو ذهب ذاهب إلى التفصيل في المسألة وقال : لا يجوز في دين القرض إذا قلنا بلزوم تأجيله ويجوز في ثمن المبيع والأجرة وعوض الخلع والصداق لكان له وجه فإنه في القرض يجب رد المثل فإذا عجل له وأسقط

باقيه خرج عن موجب العقد وكان قد أقرضه مائة فوفاه تسعين بلا منفعة حصلت للمقرض بل اختص المقترض بالمنفعة فهو كالمربي سواء في اختصاصه بالمنفعة دون الآخر وأما في البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد وجعل العوض حالا أنقص مما كان وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل لكن تحيلا عليه والعبرة في العقود بمقاصدها لا بصورها فإن كان الوضع والتعجيل مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته وإن لم يكن مفسدة لم يحتج إلى الاحتيال عليه
فتلخص في المسألة أربعة مذاهب :
المنع مطلقا بشرط وبدونه في دين الكتابة وغيره كقول مالك
وجوازه في دين الكتابة دون غيره كالمشهور من مذهب أحمد وأبي حنيفة
وجوازه في الموضعين كقول ابن عباس وأحمد في الرواية الأخرى
وجوازه بلا شرط وامتناعه مع الشرط المقارن كقول أصحاب الشافعي والله أعلم
المثال الحادي والعشرون : إذا كان له عليه ألف درهم فصالحه منها على مائة درهم يؤديها إليه في شهر كذا من سنة كذا فإن لم يفعل فعليه مائتان فقال القاضي أبو يعلى : هو جائز وقد أبطله قوم آخرون
والحيلة في جوازه على مذهب الجميع : أن يعجل رب المال حط ثمانمائة بتا ثم يصالح عن المطلوب من المائتين الباقيتين على مائة يؤديها إليه في شهر كذا على أنه إن أخرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما
المثال الثاني والعشرون : إذا كاتب عبده على ألف يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فعليه ألف أخرى فهي كتابة فاسدة ذكره القاضي لأنه علق إيجاب المال بخطر ولا يجوز ذلك
والحيلة في جوازه : أن يكاتبه على ألفي درهم ثم يصالحه منها على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فلا صلح بينهما فيكون قد علق الفسخ بخطر فيجوز وتكون كالمسألة التي قبلها
المثال الثالث والعشرون : إذا كان له عليه دين حال فصالحه على تأجيله أو تأجيل بعضه

لم يلزمه التأجيل فإن الحال لا يتأجل والصحيح : أنه يتأجل كما يتأجل بدل القرض وإن كان النزاع في الصورتين فمذهب أهل المدينة في ذلك هو الراجح وطريق الحيلة في صحة التأجيل ولزومه : أن يشهد على إقرار صاحب الدين أنه لا يستحق المطالبة به قبل الأجل الذي تفقا عليه وأنه متى طالب به قبله فقد طالب بما لا يستحق فإذا فعل هذا أمن رجوعه في التأجيل المثال الرابع والعشرون : إذا اشترى من رجل دارا بألف فجاء الشفيع يطلب الشفعة فصالحه المشتري على نصف الدار بنصف الثمن جاز ذلك لأن الشفيع صالح على بعض حقه كما أنه لو صالح من ألف على خمسمائة فإن صالحه على بيت من الدار بعينه بحصته من الثمن يقوم البيت ثم تخرج حصته من الثمن جاز أيضا لأن حصته معلومة في أثناء الحال فلا يضر كونها مجهولة حالة الصلح كما إذا اشترى شقصا وسيفا فللشفيع أن يأخذ الشقص بحصته من الثمن وإن كانت مجهولة حال العقد لأن مآلها إلى العلم وقال القاضي وغيره من أصحابنا : لا يجوز لأنه صالحه على شيء مجهول ثم قال : والحيلة في تصحيح ذلك : أن يشتري الشفيع هذا البيت من المشتري بثمن مسمى ثم يسلم الشفيع للمشتري ما بقي من الدار وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم للشفعة ومساومته بالبيت تسليم للشفعة
فإن أراد الشفيع شراء البيت المعين وبقاءه على شفعته في الباقي فالحيلة أن لا يبدأ بالمساومة بل يصبر حتى يبتدىء المشتري فيقول : هذا البيت أخذته بكذا وكذا فيقول الشفيع : قد استوجبته بما أخذته به ولا يكون مسلما للشفعة في باقي الدار وليس في هذه الحيلة إبطال حق غيره وإنما فيها التوصل إلى حقه
المثال الخامس والعشرون : يجوز تعليق الوكالة على الشرط كما يجوز تعليق الولاية والإمارة على الشرط وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم تعليق الإمارة

بالشرط وهي وكالة وتفويض وتولية ولا محذور في تعليق الوكالة بالشرط البتة
والحيلة في تصحيحها : أن ينجز الوكالة ويعلعق الإذن في التصرف بالشرط وهذا في الحقيقة تعليق لها نفسها بالشرط فإن مقصود الوكالة صحة التصرف ونفوذه والتوكل وسيلةوطريق إلى ذلك فإذا لم يمتنع تعليق المقصود بالشرط فالوسيلة أولى بالجواز
المثال السادس والعشرون : يجوز تعليق الإبراء بالشرط ويصح وفعله الإمام أحمد وقال أصحابنا : لا يصح
قالوا : فإذا قال : إن مت فأنت في حل مما لي عليك فإن علق ذلك بموت نفسه صح لأنه وصية وإن علقه بموت من عليه الدين لم يصح لأنه تعليق البراءة بالشرط ولا يصح كما لا يصح تعليق الهبة فيقال : أولا الحكم في الأصل غير ثابت بالنص ولا بالإجماع فما الدليل على بطلان تعليق الهبة بالشرط وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه علق الهبة بالشرط في حديث جابر لما قال : لو قد جاءمال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا ثم هكذا ثلاث حثيات وأنجز ذلك له الصديق رضي الله عنه لما جاء مال البحرين بعد وفاة رسول اللهصلى الله عليه وسلم
فإن قيل : كان ذلك وعدا قلنا : نعم والهبة المعلقة بالشرط وعد وكذلك فعل النبيصلى الله عليه وسلم لما بعث إلى النجاشي بهدية من مسك وقال لأم سلمة : إني قد أهديت إلى النجاشي حلة

وأواقي من مسك ولا أرى النجاشي إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة فإن ردت علي فهي لك وذكر الحديث رواه أحمد
فالصحيح : صحة تعليق الهبة بالشرط عملا بهذين الحديثين
وأيضا فالوصية تمليك وهي في الحقيقة تعليق للتمليك بالموت فإنه إذا قال : إن مت من مرضي هذا فقد أوصيت لفلان بكذا فهذا تميلك معلق بالموت وكذلك الصحيح : صحة تعليق الوقف بالشرط نص عليه في رواية الميموني في تعليقه بالموت
وسائر التعليق في معناه ولا فرق البتة ولهذا طرده أبو الخطاب وقال : لا يصح تعليقه بالموت والصواب طردالنص وأنه يصح تعليقه بالموت وغيره وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وهو مذهب مالك ولا يعرف عن أحمد نص على عدم صحته وإنما عدم الصحة قول القاضي وأصحابه
وفي المسألة وجه ثالث : أنه يصح تعليقه بشرط الموت دون غيره من الشروط وهذا اختيار الشيخ موفق الدين وفرق بأن تعليقه بالموت وصية والوصية أوسع من التصرف في الحياة بدليل الوصية بالمجهول والمعدوم والحمل والصحيح : الصحة مطلقا ولو كان تعليقه بالموت وصية لامتنع على الوارث ولا خلاف أنه يصح تعليقه بالشرط بالنسبة إلى البطون بطنا بعد بطن وأن كونه وقفا على البطن الثاني مشروط بانقضاء البطن الأول وقد قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود  وقال النبيصلى الله عليه وسلم المسلمون عند شروطهم
والقياس الصحيح : يقتضي صحة تعليقه فإنه أشبه بالعتق منه بالتمليك ولهذا لا يشترط فيه القبول إذا كان على جهة اتفاقا وكذلك إذا كان على آدمي معين في أقوى الوجهين وما

ذاك إلا لشبهه بالعتق
والمقصود : أن تعليق الإبراء بالشرط أولى من ذلك كله فمنعه مخالف لموجب الدليل والمذهب
ويقال ثانيا : لا يلزم من بطلان تعليق الهبة بطلان تعليق الإبراء بل القياس الصحيح يقتضي صحة تعليقه لأنه إسقاط محض ولهذا لا يفتقر إلى قبول المبرىء ولا رضاه فهو بالعتق والطلاق أشبه منه بالتمليك
وعلى هذا فيستغنى بالصحة في ذلك كله عن الحيلة
فإن احتاج إلى التعليق وخاف أن ينقض عليه فالحيلة : أن يقول : لا شيء لي عليه بعد هذا الشهر أو العام أو لا شيء لي عليه عند قدوم زيد أو كل دعوى أدعيها عليه بعد شهر كذا أو عام كذا أو عند قدوم زيد بسبب كذا أو من دين كذا فهي دعوى باطلة أو يقول : كل دعوى أدعيها في تركته بعد موته : من دين كذا أو ثمن كذا فهي دعوى باطلة
وعلى ما قررناه لا يحتاج إلى شيء من ذلك
المثال السابع والعشرون : إذا أعسر الزوج بنفقة المرأة ملكت الفسخ فإن تحملها عنه غيره لم يسقط ملكها للفسخ لأن عليها في ذلك منة كما إذا أراد قضاء دين عن الغير فامتنع ربه من قبوله لم يجبر على ذلك وطريق الحيلة في إبطال حقها من الفسخ : أن يحيلها بما وجب لها عليه من النفقة على ذلك الغير فتصح الحوالة وتلزم على أصلنا إذا كان المحال عليه غنيا
وطريق صحة الحوالة : أن يقر ذلك الغير للزوج بقدر معين لنفقتها سنة أو شهرا أو نحو ذلك ثم يحيلها الزوج عليه فإن لم يمكنه الإجبار على القبول لعدم من يرى ذلك وكل الزوج الملتزم لنفقتها في الإنفاق عليها والزوج مخير بين أن ينفق عليها بنفسه أو بوكيله
وهكذا العمل في مسألة أداء الدين عن الغريم سواء

المثال الثامن والعشرون : إذا خاف المضارب أن يضمنه المالك بسبب من الأسباب التي لا يملكها بعقد المضاربة كخلط المال بغيره أو اشترائه بأكثر من رأس المال والاستدانة على مال المضاربة أو دفعه إلى غيره مضاربة أو إبضاعا أو إيداعا أو السفر به فطريق التخلص من ضمانه في هذا كله : أن يشهد على رب المال أنه قال له : اعمل برأيك أو ما تراه مصلحة
المثال التاسع والعشرون : إذا كان لكل من الرجلين عروض وأرادا أن يشتركا فيها شركة عنان ففي ذلك روايتان
إحداهما : تصح الشركة وتقوم العروض عند العقد ويكون قيمتها هو رأس المال فيقسم الربح على حسبه أو على ما شرطاه وإذا أرادا الفسخ رجع كل منهما إلى قيمة عروضه واقتسما الربح على ما شرطاه وهذا القول هو الصحيح
والرواية الثانية : لا تصح إلا على النقدين لأنهما إذا تفاسخا الشركة وأراد كل واحد منهما الرجوع إلى رأس ماله أو يقتسما الربح لم يعلم ما مقدار رأس مال كل منهما إلا بالتقويم وقد تزيد قيمة العروض وتنقص قبل العمل فلا يستقر رأس المال
وأيضا فمقتضى عقد الشركة : أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال الآخر وهذه الشركة تفضي إلى ذلك لأنه قد تزيد قيمة عروض أحدهما ولا تزيد قيمة عروض الآخر فيشاركه من لم تزد قيمة عروضه وهذا إنما يصح في المقومات كالرقيق والحيوان ونحوهما فأما المثليات فإن ذلك منتف فيها ولهذا كان الصحيح عند من منع الشركة بالعروض : جوازها بالمثليات فالصحيح : الجواز في الموضعين لأن مبنى عقد الشركة على العدل من الجانبين وكل من الشريكين متردد بين الربح والخسران فهما في هذا الجواز مستويان فتجويز ربح أحدهما دون الآخر في مقابلة عكسه فقد استويا في رجاء الغنم وخوف الغرم وهذا هو العدل كالمضاربة فإنه يجوز أن يربحا وأن يخسرا وكذلك المساقاة والمزارعة
وطريق الحيلة في تصحيح هذه المشاركة عند من لا يجوزها بالعروض : أن يبيع كل منهما بعض عروضه ببعض عروض صاحبه فإذا كان عرض أحدهما يساوى خمسة آلاف

وعرض الآخر يساوي ألفا فيشتري صاحب العرض الذي قيمته خمسة آلاف من صاحبه خمسة أسداس عرضه الذي يساوي ألفا بسدس عرضه الذي يساوي خمسة آلاف فإذا فعلا ذلك صارا شريكين فيصير للذي يساوي متاعه ألفا سدس جميع المتاع وللآخر خمسة أسداسه أو يبيع كل منهما صاحبه بعض عرضه بثمن مسمى ثم يتقابضان فيصير مشتركا بينهما ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف فما حصل من الربح يكون بينهما على ما شرطاه عند أحمد وعلى قدر رءوس أموالهما عند الشافعي والخسران على قدر المال اتفاقا
المثال الثلاثون : إذا تزوجها على أن لا يخرجها من دارها أو بلدها أو لا يتزوج عليها ولا يتسرى عليها فالنكاح صحيح والشرط لازم هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه صح عن عمر وسعد ومعاوية ولا مخالف لهم من الصحابة وإليه ذهب عامة التابعين وقال به أحمد
وخالف في ذلك الثلاثة فأبطلوا الشرط ولم يوجبوا الوفاء به
فإذا احتاجت المرأة إلى ذلك ولم يكن عندها حاكم يرى صحة ذلك ولزومه فالحيلة لها في حصول مقصودها : أن تمتنع من الإذن إلا أن تشترط بعد العقد أنه إن سافر بها أو نقلها من دارها أو تزوج عليها فهي طالق أو لها الخيار في المقام معه أو الفسخ فإن لم تثق به أن يفعل ذلك فإنها تطلب مهرا كثيرا جدا إن لم يفعل وتطلب ما دونه إن فعل فإن شرط لها ذلك رضيت بالمهر الأدنى وإن لم يشرط ذلك طالبته بالأعلى وجعلته حالا ولها أن تمنع نفسها حتى تقبضه أو يشرط لها ما سألته
فإن قيل : فعلى أي المهرين يقع العقد
قيل : يقع على المهر الزائد لتتمكن من إلزامه بالشرط فإن خاف أن يشرط لها ما طلبت ويستقر عليه المهر الزائد فالحيلة : أن يشهد عليها أنها لا تستحق عليه بعد الاشتراط شيئا من المبلغ الزائد على الصداق الأدنى وأنها متى ادعت به فدعواها باطلة فيستوثق منها بذلك ويكتب هو والشرط ولها أن تطالب بالصداق الزائد إذا لم يف لها بالشرط لأنها لم ترض بأن يكون الأدنى مهرا إلا في مقابلة منفعة

أخرى تسلم لها وهي المقام في دارها أو بلدها أو يكون الزوج لها وحدها وهذا جار مجرى بعض صداقها فإذا فاتها فلها المطالبة بالمهر الأعلى
المثال الحادي والثلاثون : إذا زوج ابنته بعبده صح النكاح فإن حضره الموت فخاف هو أو المرأة أن ترث جزءا منه فينفسخ النكاح
فالحيلة في بقائه : أن يبيع العبد من أجنبي فإن شاء قبض ثمنه وإن شاء جعله دينا في ذمته يكون حكمه حكم سائر ديونه فإذا ورثت نصيبها من ثمنه لم ينفسخ نكاحها وإن باع العبد من أجنبي قبل العقد ثم زوجه الابنة أمن هذا المحذور أيضا
وكذلك إذا أراد أن يزوج أمته بابنه وخاف أن يموت فيرث الابن زوجته فينفسخ النكاح باعها من أجنبي ثم زوجها الابن أو يبيعها من الأجنبي بعد العقد
المثال الثاني والثلاثون : إذا أحاله بدينه وخاف المحتال أن يتوى ماله عند المحال عليه وأراد التوثق لماله
فالحيلة في ذلك أن يقول : لا تحلني بالمال ولكن وكلني في المطالبة به واجعل ما أقبضه في ذمتي قرضا فيبرآن جميعا بالمقاصة
فإن خاف المحيل أن يهلك المال في يد الوكيل قبل اقتراضه فيرجع عليه بالدين
فالحيلة له : أن يقول للمحال عليه : اضمن عني هذا الدين لهذا الطالب فيضمنه فإذا قبضه قبضه لنفسه فإن امتنع المحال عليه من الضمان احتال الطالب عليه على أنه إن لم يوفه حقه إلى وقت كذا وكذا فالمحيل ضامن لهذا المال ويصح تعليق الضمان بالشرط فإن وفاه المحيل عليه وإلا رجع إلى المحال وآخذه بالمال
المثال الثالث والثلاثون : إذا كان له دين على رجل فرهنه به عبدا فخاف أن يموت العبد فيحاكمه إلى من يرى سقوط الدين بتلف الرهن
فالحيلة في تخليصه من هذا المحذور : أن يشتري العبد منه بدينه ولا يقبض العبد فإن وفاه دينه أقاله في البيع وإن لم يوفه الدين طالبه بالتسليم وإن تلف العبد كان من ضمان البائع ورجع المشتري إلى دينه الذي هو ثمنه
المثال الرابع والثلاثون : إذا كان له عليه دين فرهنه به رهنا ثم خاف أن يستحق الرهن فتبطل الوثيقة

فالحيلة فيه : أن يضمن دينه لمن يخاف منه استحقاق الرهن فإذا استحقه عليه طالبه بالمال أو يضمنه درك الرهن أو يشهد عليه أنه لاحق له فيه ومتى ادعى فيه حقا فدعواه باطلة
المثال الخامس والثلاثون : إذا كان له عليه مائة دينار خمسون منها بوثيقة وخمسون بغير وثيقة وجحده الغريم القدر الذي بغير وثيقة
فالحيلة له في تخليص ماله : أن يوكل رجلا غريبا بقبض المال الذي بالوثيقة ويشهد على وكالته علانية ثم يشهد شهودا آخرين : أنه قد عزله عن الوكالة ثم يطالب الوكيل المطلوب بذلك المال ويثبت شهود وكالته فإذا قبض الخمسين دينارا دفعها إلى مستحقها وغاب ثم يطالبه المستحق بهذه الخمسين فإن قال : دفعتها إلى وكيلك أقام البينة أنه كان قد عزله عن الوكالة فيلزمه الحاكم بالمال ويقول له : اتبع القابض فخذ مالك منه
فإن كان الغريم حذرا لم يدفع إلى الوكيل شيئا خشية مثل هذا ويقول : لا أدفع إليك إلا بحضرة الموكل وإقراره أنك وكيله فتبطل هذه الحيلة
المثال السادس والثلاثون : إذا حضره الموت ولبعض ورثته عليه دين وأراد تخليص ذمته فإن أقر له به لم يصح إقراره وإن وصى له به كانت وصية لوارث
فالحيلة في خلاصه : أن يواطئه على أن يأتي بمن يثق به فيقر له بذلك الدين فإذا قبضه أوصله إلى مستحقه فإن خاف الأجنبي أن يلزمه الحاكم أن يحلف أن هذا الدين واجب لك على الميت ولم تبرئه منه ولا من شيء منه لم يجز له أن يحلف على ذلك وانتقلنا إلى حيلة أخرى وهي أن يقول له المريض : بع دارك أو عبدك من وارثي بالمال الذي له علي فيفعل فإذا لزمته اليمين بعد هذا حلف على أمر صحيح فإن لم يكن له ما يبيعه إياه وهب له الوارث عبدا أو أمة فقبضه ثم باعه من الوارث بالدين الذي على الميت
المثال السابع والثلاثون : إذا نكح أمة حيث يجوز له نكاح الإماء وخاف أن يسترق سيدها ولده

فالحيلة في ذلك : أن يسأل سيد الأمة أن يقول : كل ولد تلده منك فهو حر فإذا قال هذا فما ولدته منه فهم أحرار
المثال الثامن والثلاثون : إذا قال لامرأته : إن سألتيني الخلع فأنت طالق ثلاثا إن لم أخلعك وقالت المرأة : كل مملوك لها حر إن لم أسألك الخلع اليوم
فسئل أبو حنيفة عنها فقال للمرأة : سليه الخلع فقالت : أسألك أن تخلعني فقال للزوج : قل خلعتك على ألف درهم فقال ذلك فقال أبو حنيفة للمرأة قولي : لا أقبل فقالت : لا أقبل فقال أبو حنيفة : قومي مع زوجك فقد بر كل منكما في يمينه
المثال التاسع والثلاثون : سئل أبو حنيفة عن أخوين تزوجا أختين فزفت امرأة كل واحد منهما إلى الآخر فوطئها ولم يعلموا بذلك حتى أصبحوا فقيل له : ما الحيلة في ذلك فقال : أكل منهما راض بالتي دخل بها قالوا : نعم فقال : ليطلق كل واحد منهما امرأته طلقة ففعلا فقال : ليتزوج كل منهما المرأة التي وطئها فطابت أنفسهما
المثال الأربعون : إذا كان لرجل على رجل مال وللذي عليه المال عقار فأراد أن يحعل عقاره في يد غريمه يستغله ويقبض غلته من دينه جاز ذلك لأنه توكيل له فيه فإن خاف الغريم أن يعزله صاحب العقار عن الوكالة
فالحيلة : أن يسترهنه منه ويستديم قبضه ثم يأذن له في قبض أجرته من دينه ولو لم يأذن له فله أن يقبضها قصاصا
وله حيلة أخرى : أن يستأجره منه بمقدار دينه فما وجب له عليه من الأجرة سقط من دينه بقدره قصاصا
المثال الحادي والأربعون : إذا كان له جارية فأراد وطأها وخاف أن تحبل منه فتصير أم ولد لا يمكنه بيعها
فالحيلة : أن يبيعها لأبيه أو أخيه أو أخته فإذا ملكها سأله أن يزوجه
إياها فيطأها بالنكاح ويكون ولده منها أحرارا يعتقون على البائع بالرحم وهذا إذا كان ممن

يجوز له نكاح الإماء بأن لا يكون تحته حرة عند أبي حنيفة أو يكون خائفا للعنت عادما لطول حرة عند الجمهور
المثال الثاني والأربعون : إذا بانت منه إمرأته بينونة صغرى وأراد أن يجدد نكاحها فخاف إن أعلمها لم تتزوج به فله في ذلك حيل : إحداها : أن يقول : قد حلفت بيمين ثم استفتيت فقيل لي : جدد نكاحك فإن كانت قد بانت منك عاد النكاح وإلا لم يضرك فإن كان لها ولي جدد نكاحها وإلا فالحاكم أو نائبه
ومنها : أن يظهر أنه يريد سفرا وأنه يريد أن يجعل لها شيئا من ماله وأن الاحتياط أن يجعله صداقا بعقد يظهره
ومنها : أن يظهر مرضا وأنه يريد أن يقر لها بمال أو يوصي لها به وأن ذلك لا يتم والأحوط أن أظهر عقد نكاح وأجعل ذلك صداقا فيه فإن قيل : إذا بانت منه ملكت نفسها ولم يصح نكاحها إلا برضاها ولعلها لو علمت الحال لم ترض بالنكاح الثاني
قيل : رضاها بتجديد العقد للغرض الذي يريده يتضمن رضاها بالنكاح وهي لو هزلت بالإذن صح إذنها وصح النكاح مع أنها لم تقصده كما لو هزل الزوج بالقبول صح نكاحه وههنا قد قصدت بقاء النكاح ورضيت به فهو أولى بالصحة
فإن قيل : فالرجل قاصد إلى النكاح والمرأة غير قاصدة له
قيل : بل قصدت إلى تجديد نكاح يتم به غرضها فلم تخرج بذلك عن القصد والرضا
ولو قال رجل لرجل هزلا ومزاحا : زوجني ابنتك على مائة درهم أو قال : زوجني موليتك وهي تسمع فقال له مزاحا وهزلا : قد زوجتكها انعقد النكاح وحل له وطؤها لحديث أبي هريرة الذي رواه أهل السنن عن النبيصلى الله عليه وسلم ثلاث جدهن

جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة
المثال الثالث والأربعون : إذا كان الرجل حسن التصرف في ماله غير مبذر له

فرفع إلى الحاكم وشهد عليه أنه مبذر فخاف أن يحجر عليه فقال : إن حجرت علي فعبيدي أحرار ومالى صدقة على المساكين لم يملك القاضي أن يحجر عليه بعد ذلك لأنه إنما يحجر عليه صيانة لماله وفي الحجر عليه إتلاف ماله فهو يعود على مقصود الحجر بالإبطال
المثال الرابع والأربعون : يصح الصلح عندنا وعند أبي حنيفة ومالك على الإنكار فإذا ادعى عليه شيئا فأنكره ثم صالحه على بعضه جاز والشافعي لا يصحح هذا الصلح لأنه لم يثبت عنده شيء فبأي طريق يأخذ ما صالحه عليه بخلاف الصلح على الإقرار فإنه إذا أقر له بالدين والعين فصالحه على بعضه كان قد وهبه أو أبرأه من البعض الآخر
والجمهور يقولون : قد دل الكتاب والسنة والقياس على صحة هذا الصلح فإن الله سبحانه تعالى ندب إلى الإصلاح بين الناس وأخبر أن الصلح خير وقال : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم وقال النبيصلى الله عليه وسلم الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا
وأما القياس : فإن المدعى عليه يفتدي مطالبته باليمين وإقامةالبينة وتوابع ذلك : بشيء من ماله يبذله ليتخلص من الدعوى ولوازمها وذلك غرض صحيح مقصود عند العقلاء وغاية ما يقدر أن يكون المدعي كاذبا فهو يتخلص من تحليفه له وتعريضه للنكول فيقضي عليه به أو ترد اليمين بل عند الخرقي : لا يصح الصلح إلا على الإنكار ولا يصح مع الإقرار قال : لأنه يكون هضما للحق
فإذا صالحه مع الإنكار فخاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل الصلح فالحيلة في تخلصه من ذلك : أن يصالح أجنبي عن المنكر على مال ويقر الأجنبي لهذا المدعي بما ادعاه على

غريمه ثم يصالحه من دعواه على مال ولا يفتقر إلى إذن المدعى عليه ولا وكالته إن كان المدعى دينا لأنه يقول : إن كان كاذبا فقد استنقذته من هذه الدعوى وذلك بمنزلة فكاك الأسير وإن كان صادقا فقد قضيت عنه بعض دينه وأبرأه المدعي من باقيه وذلك لا يفتقر إلى إذنه وإن كان المدعي عينا لم يصح حتى يقول : قد وكلني المنكر لأنه يقول : قد اشتريت له هذه العين المدعاة بالمال الذي أصالحك عليه فإن لم يعترف أنه وكله وإلا لم يصح
فإن لم يعترف بوكالته فطريق الصحة : أن يصالح الأجنبي لنفسه فيكون بمنزلة شراء العين المغصوبة فإن اعترف بها المدعي باطنا صار هو الخصم فيها وإن لم يعترف بها له لم يسعه أن يخاصم فيها المدعي عليه ويكون اعترافه له بها ظاهرا حيلة على تصحيح الصلح
وعلى هذا فإذا كان المدعي دارا خلفها الميت لابنه وامرأته فادعاها رجل فصالحاه من دعواه على مال فإن كان صلحا على الإنكار فالدار بينهما على ثمانية أسهم على المرأة الثمن وعلى الابن سبعة أثمان وإن كان على الإقرار فالمال بينها نصفان والدار لهما نصفان فإذا أراد لزوم الصلح على الإنكار صالح عنهما أجنبي على الإقرار فلزوم الصلح وكان المال بينهما على سبعة أثمان وكذلك الدار فإنهما لم يقرا له بالدار وإقرار الأجنبي لا يلزمهما حكمه المثال الخامس والأربعون : إذا ادعى عليه أرضا في يده أو دارا أو بستانا فصالحه على عشرة أذرع أو أقل أو أكثر جاز وكذلك لو صالحه على عشرة أذرع من أرض أو دار أخرى جاز لأنه يقول : قد أخذت بعض حقي وأسقطت البعض فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم حنفي لا يرى جواز ذلك بناء على أنه لا يجوز بيع ذراع ولا عشرة من أرض أو دار فطريق الجواز : أن يذرع الدار التي صالحه على هذا القدر منها ثم ينسبه إلى المجموع فما أخرجته النسبة أوقع عقد الصلح عليه ويصح ذلك ويلزم
المثال السادس والأربعون : إذا أوصى لرجل بخدمة عبده مدة معينة أو ما عاش جاز

ذلك فإذا أراد الوارث أن يشتري من الموصى له خدمة العبد لم يصح لأن الحق الموصى له به إنما هو في المنافع وبيع المنافع لا يجوز
والحيلة في الجواز : أن يصالحه الوارث من وصيته على مال معين فيجوز ذلك
وكذلك لو أوصى له بحمل شاته أو أمته أو بما يحمل شجره عاما فإذا أراد الوارث شراءه منه لم يصح وله أن يصالحه عليه فإن الصلح وإن كان فيه شائبة من البيع فهو أوسع منه
المثال السابع والأربعون : لو شجه رجل فعفا المشجوج عن الشجة وما يحدث منها ثم مات منها لم يلزم الشاج شيئا ولو قال : عفوت عن هذه الجراحة أو الشجة ولم يقل : وما يحدث منها فكذلك في إحدى الروايتين وفي الأخرى : تضمن بقسطها من الدية
ولو قال : عفوت عن هذه الجناية فلا شيء له في السراية رواية واحدة
وعند أبي حنيفة له المطالبة بالدية في ذلك كله إلا إذا قال : عفوت عنها وعما يحدث منها
فالحيلة في تخلص المعفو عنه : أن يشهد على المجني عليه : أنه عفا عن هذه الجناية أو الشجة وما يحدث منها فيتخلص عند الجميع
المثال الثامن والأربعون : إذا مات وترك زوجة وورثة فأرادت الزوجة أن يصالحها الورثة عن حقها نظرنا في التركة وفي الذي وقع عليه الصلح فإن كان في التركة أثمان : ذهب وفضة فصالحتهم على شيء من الأثمان لم يصح لإفضائه إلى الربا فإن صلحها بيع نصيبها منهم وإن صالحتهم على عرض أو عقار أو كان في التركة دراهم فصالحتهم بدنانير أو بالعكس جاز ولا تضر جهالة حقها لأن عقد الصلح أوسع من البيع كما تقدم
فإن كان في التركة ديون لم يصح الصلح لأن بيع الدين من غير الذي هو في ذمته لا يصح ويحتمل أن يقول بصحته كما يصح عن المجهول وإن لم يصح بنفسه
فالحيلة في صلحها عن الدين أيضا : أن يعجل لها حصتها من الدين يقرضها الورثة

ذلك وتوكلهم في اقتضائه ثم تصالحهم من الأعيان على ما اتفقوا عليه لأنهم إذا أقرضوها حصتها من الدين ثم وكلتهم بقبض حصتها من الدين فإذا قبضوا حصتها من الدين فقد حصل في أيديهم بمالها من جنس مالهم عليها فيتقاصان ويكون عقد الصلح قد وقع على العروض والمتاع خاصة
فإن لم تطب أنفسهم أن يقرضوها قدر حصتها من الدين وأحبت تعجيل الصلح صالحتهم عن حقها من المتاع والعروض دون الديون وكلما قبض من الدين شيء أخذت حقها منه فإن تعسر ذلك وشق عليها وأحبت الخلاص حاسبوها في الصلح من الأعيان بأكثر من حقها منها وأقرت أن الدين حق للورثة دونها من ثمن متاع باعه الميت لهم فإن أرادوا قسمة الدين في الذمم فالمشهور : أنه لا يصح لأن الذمم لا تتكافأ وفيه رواية أخرى تجوز قسمته وهي الصحيحة فإنه قد تكون مصلحة الورثة والغرماء في
ذلك وتفاوت الذمم لا يمنع القسمة فإن التفاوت في المحل والمقسوم واحد متماثل وإن اختلفت محاله وإذا كان الغرماء كلهم موسرين أو معسرين أو بعضهم موسرا وبعضهم معسرا فأخذ كل من الورثة موسرا ومعسرا كان هذا عدلا غير ممتنع وقد تراضوا به فلا وجه لبطلانه وبالله التوفيق
المثال التاسع والأربعون : إذا كان لرجل على رجل دين فقال : تصدق به عني ففعل لم يبرأ وكان الصدقة عن المخرج ودينه باق قاله أصحابنا لأنه لم يتعين ولأنه لا يكون مبرئا لنفسه بفعله قالوا : وطريق الصحة أن يقول : تصدق عني بكذا بقدر دينه ويكون ذلك إقراضا منه فإذا فعل ثبت له في ذمته ذلك القدر وعليه له مثله فيتقاصان

وكذلك لو قال له : ضارب بالمال الذي عليك والربح بيننا لم يصح
والحيلة في صحته : أن يقول : أذنت لك في دفعه إلى ابنك أو زوجتك وديعة ثم وكلتك في أخذه والمضاربة به
والظاهر : أنه لا يحتاج إلى شيء من ذلك ويكفي قبضه من نفسه لرب المال وإذا تصدق عنه بالذي قال كان عن الآمر هذا هو الصحيح وهو تخريج لبعض أصحابنا ولا حاجة به إلى هذه الحيلة فإذا عينه بالنية تعين وكان قابضا من نفسه لموكله وأيمحذور في ذلك
المثال الخمسون : يجوز استئجار الأجير بطعامه وكسوته عندنا وكذلك الدابة بعلفها وكذلك المرضعة وهو مذهب مالك وقال الشافعي : لا يجوز فيهما وجوزه أبو حنيفة في الظئر خاصة
فإذا عقد الإجارة كذلك ثم خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانها فيلزمه بأجرة مثله فالحيلة في تصحيح ذلك أن يستأجر بنقد معلوم يكون بقدر الطعام والكسوة ثم يشهد عليه أنه وكله في إنفاق ذلك على نفسه وكسوته وكذلك في الدابة المثال الحادي والخمسون : يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره المؤجره كما يجوز لغيره وأبو حنيفة يبطل هذه الإجارة فالحيلة في لزومها : أن يؤجر ذلك لأجنبي غير المؤجر ثم يؤجره إياها الأجنبي
المثال الثاني والخمسون : إذا كفل اثنان واحدا فسلمه أحدهما برىء الآخر كما لو ضمنا دينا فقضاه أحدهما فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم لا يرى ذلك ويلزم الآخر بتسليمه
فالحيلة في خلاصه : أن يكفلا هذا المكفول به على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعا بريئان أو يشهدا عليهما أن كل واحد منهما وكيل صاحبه في دفع المكفول به إلى الطالب والتبرئة إليه منه فيبرآن على قول الجميع

المثال الثالث والخمسون : يصح ضمان المجهول وضمان ما لم يجب عندنا كما يصح ضمان الدرك فإذا قال : ما أعطيت لفلان فأنا ضامن له صح ولزمه وقال الشافعي : لا يصح
فالحيلة في صحته لئلا يبطل ذلك حاكم يرى بطلانه : أن يقول : ما أعطيت لفلان من درهم إلى ألف فأنا ضامن له
فإن ضمنه اثنان وأطلقا جاز واستويا في الغرم فإن ضمناه على أن على أحدهما الثلث وعلى الآخر الثلثين جاز ذلك لأن المال إنما يجب على كل منهما بالتزامه فإذا التزماه على هذا الوجه صح
فإن أراد أحد الضامنين أن يضمن الآخر ما لزمه من هذا الضمان فيصير ضامنا جاز ذلك أيضا لأن المال قد ثبت في ذمة كل واحد منهما فإذا ضمنه أحدهما جاز كما يجوز في الأصل
المثال الرابع والخمسون : إذا اشترك رجلان شركة عنان فسافر أحدهما بالمال بإذن شريكه فخاف أن يموت المقيم فيشتري بالمال بعد موته متاعا فيضمن لأنه قد انتقل إلى الورثه وبطلت الشركة
فالحيلة في تخلصه من ذلك : أن يشهد على شريكه المقيم أن حصته في المال الذي بينه وبينه لولده الصغار وقد أوصى إلى شريكه بالتصرف فيه وأمره أن يشتري بها ما أحب في حياته وبعد وفاته فإن كان ولده كبارا أشهد على نفسه أن هذا المال لهم ثم يأمر ولده الكبار هذا الشريك أن يعمل لهم في مالهم هذا بما يرى ويشتري لهم ما أحب
المثال الخامس والخمسون : إذا كان لرجلين على امرأة ألف درهم مثلا فتزوجها أحدهما على نصيبه في المال الذي عليها صح النكاح وبرئت ذمة المرأة من ذلك المقدار ولم يلزم الزوج أن يضمن لصاحبه شيئا منه لأنه لم يقبض شيئا من نصيبه ولم يحصل في ضمانه فجرى مجرى إبرائها له منه
وبعض الفقهاء يضمنه نصيب شريكه من المهر ويجعله كالمقبوض لأنه عاوض عليه بالبضع فهو كما لو اشترى منها به سلعة فإنها تكون بينهما وههنا تعذرت مشاركته في البضع فيشاركه في بدله وهو المهر فكأنها وفته نصيبه من الدين

وطريق الحيلة في تخليصه من ذلك : أن يهب لها نصيبه مما عليها ثم يتزوجها بعد ذلك على خمسمائة في ذمته ثم تهب له المرأة ما لها عليه من الصداق فإن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لشريكه شيئا لأنه متبرع
فإن خاف أن يهبها أو يبرئها فتعذر به ولا تتزوج به فالحيلة له : أن يشهد على إقرارها أنه يستحق عليها ذلك المبلغ ما دامت أجنبية منه وأنه لا يستحق على زوجته فلانة شيئا من ذلك المال
وأكثر ما فيه : أنه يسميها زوجة قبل العقد فإذا تم العقد برئت من الدين
فإن خاف أن لا تبرئه من الصداق وتطالبه به ويسقط حقه من المال الذي عليها فالحيلة له : أن يشهد عليها في العقد : أنه برىء إليها من الصداق وأنها لا تستحق المطالبة به
المثال السادس والخمسون : إذا أراد أن يشتري جارية وعرض له آخر يريد شراءها فاستحلف أحدهما صاحبه : أنه إن اشتراها فهي بينه وبينه نصفين فأراد أن يشتريها وتكون له تأول في يمينه : أنه إن اشتراها بنفسه فهي بينه وبينه فإذا وكل من يشتريها له كانت له وحده
فإن استحلفه أنه إن ملكها فهو شريكه فيها بطلت هذه الحيلة فله أن يأمر من يثق به أن يشتريها لنفسه ويؤدي هو عنه الثمن ثم يزوجه إياها فإذا أراد بيعها استبرأها ثم أمر ذلك الرجل أن يبيعها ويرجع ثمنها إليه
المثال السابع والخمسون : إذا كان بينهما عرض من العروض فاشتراه منهما أجنبي بمائة درهم وقبضه ثم إن المشترى أراد أن يصالح أحدهما من جميع الثمن على بعضه على أن يضمن له الدرك من شريكه حتى يخلصه منه أو يرد عليه جميع الثمن الذي وقع العقد عليه
فقال القاضي : لا يجوز ذلك لأن الضمان على شريكه إنما يجب بقبضه المال وذلك لم يوجد فلا يكون مضمونا عليه
فالحيلة للمشتري : أن يكون بريئا وإن أدركه درك من شريكه رجع به على الذي صالحه أن يحط الشريك المصالح عن المشتري نصيبه كله من الثمن ثم يدفع المشتري إليه نصيب صاحبه فصالحه على أنه ضامن لما أدركه من شريكه حتى يخلصه منه أو يرد عليه

ما قبضه منه ويبرئه هو من نصيبه لأنه إذا أبرأه من نصيبه لم يبق من الدين إلا نصيب صاحبه فإذا قبضه كان مضمونا عليه لأنه قبض دين الغير بغير أمره
المثال الثامن والخمسون : إذا كان عبد بين شريكين موسرين فأراد كل منهما عتق نصيبه وأن لا يغرم لشريكه شيئا
فالحيلة : أن يوكلا رجلا فيعتقه عنهما ويكون ولاؤه بينهما المثال التاسع والخمسون : إذا سأله عبده أن يزوجه أمته فحلف أن لا يفعل ثم بدا له في تزويجه
فالحيلة : أن يبيع العبد والأمة لمن يثق به ثم يزوجه المشتري فإذا تم العقد أقاله في البيع
ولا بأس بمثل هذه الحيلة فإنها لا تتضمن إبطال حق ولا تحليل محرم وذلك غير ممتنع على أصلنا لأن الصفة وهي عقد النكاح قد وجدت في حال زوال ملكه فلا يتعلق بها حنث ولا يحنث أيضا باستدامة التزويج بعد ملكهما لأن التزويج عبارة عن العقد وقد انقضى وإنما بقي حكمه ولهذا لو حلف لا يتزوج فاستدام التزويج لم يحنث وهذا بخلاف ما إذا حلف على عبده أنه لا يدخل الدار فباعه ودخلها ثم ملكه فإن دخلها حنث لأنه ابتدأ الدخول واليمين باقية ولو دخلها في حال زوال ملكه ثم ملكه وهو داخل فيها حنث لأن الدخول الأول عبارة عن الكون وذلك موجود بعد الملك الثاني فيحنث به كما لو كان موجودا في الملك الأول
وقد قال أحمد في رواية مهنا في رجل قال لامرأته : أنت طالق إن رهنت كذا وكذا فإذا هي قد رهنته قبل يمينه فقال : أخاف أن يكون حنث
قال القاضي : وهذا محمول على أنه قال إن كنت رهنته وهذا تأويل منه لكلام أحمد : فظاهر كلامه أنه جعل استدامة الرهن بمنزلة ابتدائه كالدخول
المثال الستون : إذا كان له عليه مال فمرض المستحق وأراد أن يبرئه منه وهو يخرج من ثلثه فخاف أن تكتم الورثة ماله ويقولوا : لم يدع إلا الدين الذي على هذا

فالحيلة في خلاصه : أن يخرج المريض من ماله بقدر الدين الذي على غريمه فيملكه إياه ثم يستوفيه منه ويشهد على ذلك وكذلك إذا أراد المريض أن يعتق عبدا وله مال يخرج من ثلثه ويملكه ماله فخاف أن يقول الورثة : لم يخلف الميت شيئا غير هذا العبد وماله
فالحيلة : أن يبيع المريض العبد من رجل يثق به ويقبض الثمن فيهبه للمشتري ثم يعتقه المشتري
فإن كان على الميت دين وله وفاء وفضل يخرج العبد من ثلثه فخاف المريض أن يغيب الورثة ماله ثم يقولوا : أعتق العبد ولا مال له غيره فلا نجيز له ما صنع من ذلك
فالحيلة فيه : أن يبيع العبد من نفسه ويقبض الثمن منه بمحضر من الشهود ثم يهب المريض للعبد ما قبض منه في السر فيأمن حينئذ من اعتراض الورثة فإن لم يكن للعبد مال يشترى به نفسه وهبه مالا في السر وأقبضه إياه فيشتري به العبد نفسه من سيده
فإن لم يرد السيد عتقه وأراد بيعه من بعض ورثته بمال على المريض ليست له به بينة
فالحيلة في ذلك : أن يقبض وارثه ماله عليه في السر ثم يبيعه العبد ويشهد له على ذلك ويقبض الثمن بمحضر من الشهود فيتخلص من اعتراض الورثة
المثال الحادي والستون : إذا أوصى إلى رجل فخاف أن لا يقبل فقال : إن لم يقبل فلان وصيتي فهي لفلان صح ذلك بسنة رسول اللهصلى الله عليه وسلمالصحيحة الصريحة التي لا تجوز مخالفتها حيث علق الإمارة بالشرط فتعليق الوصية أولى لأنه يستفيد بالإمارة أكثر مما يستفيد بالوصية
وبعض الفقهاء يبطل ذلك
فالحيلة في ذلك : أن يشهد المريض أنهما جميعا وصياه فإن لم يقبل أحدهما وقبل الآخر فالذي قبل منهما وصي وحده فإن قبلا جميعا فلكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف عن صاحبه لأنه رضي بتصرف كل واحد منهما قاله القاضي

فإن خاف أن يمنع ذلك من لا يرى انفراد أحدهما بالتصرف ويقول : قد شرك بينهما وجعلهما بمنزلة وصي واحد :
فالحيلة في الجواز : أن يقول : أوصيت إليهما على الاجتماع والانفراد
المثال الثاني والستون : إذا تصرف الوصي وباع واشترى وأنفق على اليتيم فللحاكم أن يحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك ولا يمنعه من محاسبته كونه أمينا فإن النبي صلى الله عليه و سلم حاسب عماله كما ثبت في صحيح البخاري أنه بعث ابن اللتبية عاملا على الصدقة فلما جاء حاسبه
فإن أراد الوصي أن يتخلص من ذلك فالحيلة له : أن يجعل غيره هو الذي يتولى بيع التركة وقبض الدين والإنفاق ولا يشهد على نفسه بوصول شيء من ذلك إليه فإذا سأله الحاكم قال : لم يصل إلى شيء من التركة ولا تصرفت فيها فإن كانت التركة قد بيعت بأمره وقبض ثمنها بأمره وصرف بأمره فحلفه الحاكم إنه لم يقبض ولم يوكل من قبض وتصرف وأنفق فإن كان محسنا قد وضع التركة موضعها ولم يخن وسعه أن يتأول في يمينه وإن كان ظالما لم ينفعه تأويله
المثال الثالث والستون : يصح وقف الإنسان على نفسه على أصح الروايتين ويجوز اشتراط النظر لنفسه ويجوز أن يستثني الإنفاق منه على نفسه ما عاش أو على أهله وغيرنا ينازعنا في ذلك فإذا خاف من حاكم يبطل الوقف على هذا الوجه فالحيلة له : أن يملكه لولده أو زوجته أو أجنبي يقفه عليه ويشترط له النظر فيه

وأن يقدم على غيره من الموقوف عليهم بغلته أو بالإنفاق عليه فيصح حينئذ ولا يبقى للاعتراض عليه سبيل
المثال الرابع والستون : إذا اشترى جارية وقبضها فوجد بها عيبا ولم يكن نقد ثمنها فأراد ردها فصالحه البائع على أن يأخذ الجارية بأقل من الثمن الذي اشتراها به
فقال القاضي : لا يجوز ذلك لأن هذا الصلح في معنى البيع وبيع المبيع من بائعه بأقل من ثمنه لا يجوز لأنه ذريعة إلى الربا وهو كمسألة العينة فإن كان قد حدث بالجارية عيب عند المشتري جاز ذلك لأن مقدارالحط يكون بإزاء العيب الذي حدث عند المشتري فلا يؤدي إلى مسئلة العينة
والحيلة في جواز ذلك في الصورة الأولى على وجه لا يشبه العينة : أن يخرج الجارية من ملكه فيبيعها الرجل بالثمن الذي يأخذها به البائع فيصالح الذي في يده الجارية البائع على أن يقبلها بدون الثمن الذي وقع عليه العقد ويجعل هذا الثمن الذي يأخذ به الجارية قضاء عن مشتري الجارية لأن المشتري الثاني متى صالح البائع على أن يقبل الجارية بدون الثمن الذي اشتريت به فهو عقد جرى بينهما مبتدأ من غير بناء أحد العقدين على الآخر فإذا اشتراها البائع من هذا الثاني حصل ثمنها في ذمته له وله هو على المشتري الأول ثمنها فإذا طالبه البائع بالثمن أحاله على المشتري الأول فيتقاصان
المثال الخامس والستون : الضمان لا تبرأ ذمة المضمون عنه بمجرده حيا كان المضمون عنه أو ميتا
وفيه رواية أخرى : أنه يبرىء ذمة الميت دون الحي وهي مذهب أبي حنيفة
وفيه قول ثالث : أنه يبرىء ذمة الحي والميت كالحوالة وهو مذهب داود
فإذا أراد الضامن أن يكون ضمانه مبرئا لذمة المضمون عنه فالحيلة في ذلك : أن يقول : لا أضمن دينه إلا بشرط أن تبرئه منه فمتى أبرأته منه فأنا ضامن له ويصح تعليق الضمان بالشرط في أقوى الوجهين فإذا أبرأه صحت البراءة ولزم الدين الضامن وحده
فإن خاف رب الدين أن يرفعه إلى حاكم لا يرى صحة الضمان المعلق فيبطل دينه من ذمة الأصيل بالإبراء ولا يثبت له في ذمة الضامن

فالحيلة له : أن يكتب ضمانه ضمانا مطلقا ويشهد عليه به من غير شرط بعد إقراره ببراءة الأصيل فيحصل مقصودهما
المثال السادس والستون : الحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فلا يملك مطالبة المحيل بعد ذلك إلا في صورة واحدة وهي : أن يشترط ملاءة المحال عليه فيتبين مفلسا
وعند أبي حنيفة : إذا توى المال على المحال عليه بأن جحده حقه إذ قرار المحال على المحال عليه فإن جحده حقه وحلف عليه أو مات مفلسا رجع على المحيل
وعند مالك : إن ظن ملاءته فبان مفلسا رجع وإن طرأ عليه الفلس لم يكن له الرجوع
فإذا أراد صاحب الحق التوثق لنفسه وأنه إن توى ماله على المحال عليه رجع على المحيل
فالحيلة له في ذلك : أن يحتال حوالة قبض لا حوالة استيفاء فيقول للمحيل : أحلني على غريمك أن أقبض لك ما عليه من الدين فيجيبه إلى ذلك فما قبضه منه كان على ملك المحيل فيأذن له في استيفائه
فإن خاف المحيل أن يهلك هذا المال في يد القابض ولا يغرمه لأنه وكيل في قبضه
فالحيلة أن يقول له : ما قبضته فهو قرض في ذمتك فيثبت في ذمته نظير ماله عليه فيتقاصان
فالحوالة ثلاثة أنواع : حوالة قبض محض فهي وكالة وحوالة استيفاء وهي التي تنقل الحق وحوالة إقراض
فالأولى لا تثبت المقبوض في ذمة المحال والثانية تجعل حقه في ذمة المحال عليه والثالثة تثبت المأخوذ في ذمته بحكم الاقتراض المثال السابع والستون : إذا ضمن الدين ضامن فلمستحقه مطالبة أيهما شاء
وعن مالك روايتان إحداهما : كذلك والثانية : أنه ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر مطالبة الأصيل
فإن أراد الضامن أن يضمن على هذا الوجه فالحيلة أن يقول : إن تعذر مالك قبله فأنا ضامن له ويصح تعليق الضمان على الشرط على الأصح

فإن أراد أن يصحح ذلك على كل قول ويأمن رفعه إلى من يرى بطلان ذلك
فالحيلة فيه : أن يقول : ضمنت لك ما يتوى لك على فلان أو يعجز عن أدائه فيصح ذلك ولا يتمكن من مطالبته إلا إذا توى المال على الأصيل أو عجز عنه
المثال الثامن والستون : إذا بذت عليه امرأته فقال : الطلاق يلزمني منك لا تقولين لي شيئا إلا قلت لك مثله فقالت : أنت طالق ثلاثا فقال بعضهم : يقول لها : أنت طالق ثلاثا بفتح التاء ولا تطلق لأن الخطاب لا يصلح لها وهذا ضعيف جدا لأن قوله : أنت طالق إما أن يعنيها به أو يعني غيرها فإن لم يعنها لم يكن قد قال لها مثل ما قالت بل يكون القول لغيرها فلا يبر به وإن عناها به طلقت للمواجهة وفتح التاء لا يمنع صحة الخطاب والمعنى : أنت أيها الشخص أو الإنسان
ثم ما يقول هذا القائل : إذا قالت له : فعل الله بك كذا فقال لها : فعل الله بك وفتح الكاف هل يكون بارا في يمينه بذلك فإن قال : لا يبر لزمه مثله في الطلاق وإن قال : يبر كان قائلا لها مثل ذلك فيكون مطلقا لها
وأجود من هذا أن يكون قوله على التراخي ما لم يقيده بالفور بلفظه أو نيته
وقالت طائفة : يقول لها : أنت طالق ثلاثا إن لم أفعل كذا وكذا أو إن فعلت لما لا تقدر هي عليه فيكون قد قال لها مثل ما قالت وزاد عليه وفي هذا ضعف لا يخفى لأن هذه الزيادة تنقص الكلام فهي زيادة في اللفظ ونقصان في المعنى فإنه إذا علق الطلاق بشرط خرج من التنجيز إلى التعليق وصار كله كلاما واحدا وهي لم تعلق كلامها وإنما نجزته فالمماثلة تقتضي تنجيزا مثله
وأجود من هذا كله أن يقال : لا يدخل هذا الكلام الذي صدر منها في يمينه لأنه لم يرده قطعا ولا خطر بباله فيمينه لم يتناوله فهو غير محلوف عليه بلا شك واللفظ العام يختص بالنية والعرف والعرف في مثل هذا لا يدخل فيه قولها له ذلك والأيمان يرجع فيها إلى العرف والنية والسبب وهذا مطرد ظاهر على أصول مالك وأحمد في اعتبارهم

عرف الحالف ونيته وسبب يمينه والله أعلم
المثال التاسع والستون : يجوز أن يستأجر الشاة والبقرة ونحوهما مدة معلومة للبنها ويجوز أن يستأجرها لذلك بعلفها وبدراهم مسماة والعلف عليه هذا مذهب مالك وخالفه الباقون وقوله هو الصحيح واختاره شيخنا لأن الحاجة تدعو إليه ولأنه كاستئجار الظئرللبها مدة ولأن اللبن وإن كان عينا فهو كالمنافع في استخلافه وحدوثه شيئا بعد شيء ولأن إجارة الأرض لما نبت فيها من الكلأ والشوك جائزة وهو عين ولأن اللبن4 حصل بعلفه وخدمته فهو كحصول المغل ببذره وخدمته ولا فرق بينهما فإن تولد اللبن من العلف كتولد المغل من البذر فهذا من أصح القياس
وأيضا فإنه يجوز أن يقفها فينتفع الموقوف عليها بلبنها وحق الواقف إنما هو في منفعة الموقوف مع بقاء عينه
وأيضا فإنه يجوز أن يمنحها غيره مدة معلومة لأجل لبنها وهي باقية على ملك المانح فتجري منحتها مجرى إعارتها والعارية إباحة المنافع فإذا كان اللبن يجري مجرى المنفعة في الوقف والعارية جرى مجراها في الإجارة
وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن [ الطلاق : 6 ] فسمى ما تأخذه المرضعة في مقابلة اللبن أجرا ولم يسمه ثمنا
وأيضا فيجوز أن يستأجر بئرا مدة معلومة لمائها والماء لم يحصل بعمله فلأن يجوز استئجار الشاة للبنها الحاصل بعلفه والقيام عليها أولى
وأيضا فإنه يجوز أن يستأجر بركة يعشعش فيها السمك لأجله فهذا أولى بالجواز لأنه معلوم بالعرف وهو حاصل بعلفه والقيام على الحيوان
وقياس المنع على تحريم بيع اللبن في الضرع قياس فاسد فإن ذاك بيع مجهول لا يعرف قدره وما يتحصل منه وهو بيع معدوم فلا يجوز والإجارة أوسع من البيع ولهذا يجوز على المنافع المعدومة المستخلفة شيئا بعد شيء فاللبن في ذلك كالمنفعة سواء وإن كان عينا فهذا القول هو الصحيح

فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل هذا العقد :
فالحيلة في لزومه : أن يؤجره الحيوان مدة بدارهم مسماة ثم يأذن له في علفه بها ويبيحه اللبن
وهذه الحيلة تتأتي في إجارة البقرة والناقة والجاموس إذ يمكن الحرث عليها وركوبها وأما الشاة فلا يراد منها إلا الدر والنسل فلا تتهيأ الإجارة على منفعتها فالطريق في ذلك : أن يستأجرها لرضاع سخلة له مدة معلومة ويوكله في النفقة عليها بأجرتها أو ببعضها ويبيحه اللبن
المثال السبعون : إذا دفع إليه ثوبه وقال : بعه بعشرة فما زاد فلك فنص أحمد على صحته تبعا لعبدالله بن عباس ووافقه إسحاق ومنعه أكثرهم
ووجه الخلاف : أن في هذا العقد شائبة الوكالة والإجارة والمضاربة فمن رجح جانب الوكالة صحح العقد ومن رجح جانب الإجارة أو المضاربة أبطله لأن الأجرة والربح الذي جعل له مجهول
والصحيح : الجواز لأن العشرة تجري مجرى رأس المال في المضاربة وما زاد فهو كالربح فإذا جعله كله له كان بمنزلة الإبضاع إذا دفع إليه مالا يضارب به وقال : ما ربحت فهو لك فليس العقد من باب الإجارات بل هو بالمشاركات أشبه
فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانه
فالحيلة في ذلك : أن يقول : وكلتك في بيعه بعشرة : فإن بعته بأكثر فلا حق لي في
الزيادة فيصح هذا وتكون الزيادة للوكيل
المثال الحادي والسبعون : قال الإمام أحمد في رواية مهنى : لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج منه وهو أحب إلي من المقاطعة يعني أن يقاطعه على كيل معين أو دراهم أو عروض
وكذلك نص في رواية الأثرم وغيره في رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها وما رزق الله بينهما نصفين : أن ذلك جائز
وقال أحمد أيضا : لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع لحديث جابر : أن النبي صلى الله عليه و سلم

أعطى خيبر على الشطر ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة أرجو أن لا يكون به بأس
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم : إذا كان على النصف والربع فهو جائز
ونقل عنه أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث الكسب أو ربعه أنه جائز
ونقل عنه حرب فيمن دفع ثوبا إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها وله نصف ربحها بحق عمله فهو جائز ونص في رجل دفع غزله إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه : أنه جائز
وقال في المغني : وعلى قياس قول أحمد : يجوز أن يعطى الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها
وحكى عن ابن عقيل المنع منه واحتج بأن رسول اللهصلى الله عليه وسلمنهى عن قفيز الطحان قال الشيخ وهذا الحديث لا نعرفه ولا ثبت عندنا صحته : وقياس قول أحمد : جوازه لما ذكرنا عنه من المسائل
وكذلك لو دفع شبكته إلى صياد ليصيد بها والسمك بينهما نصفين قال في المغني : فقياس قول أحمد صحة ذلك والسمك بينهما شركة وقال ابن عقيل : السمك للصائد ولصاحب الشبكة أجرة مثلها
ولو كان له على رجل مال فقال لرجل : اقبضه منه ولك ربعه أو قال : كل ثلثه أو ما قبضته منه فلك منه الربع أو الثلث فهو جائز

وكذلك لو غصبت منه عين فقال لرجل : خلصها لي ولك نصفها جاز أيضا
ولو غرق متاعه في البحر فقال لرجل : ما خلصته منه فلك نصفه أو ربعه جاز ولو أبق عبده فقال لرجل أو قال : من رده علي فله فيه نصفه أو ربعه أو شردت دابته فقال ذلك صح ذلك كله
قلت : وكذلك يجوز أن يقول له : انقض لي هذا الزيتون بالسدس أو الربع أو اعصره بالثلث أو الربع أو اكسر هذا الحطب بالربع أو اخبز هذا العجين بالربع وما أشبه ذالك فكل هذا جائز على نصوصه وأصوله وهو أحب من المقاطعة في بعض الصور
ولم يجوز الشافعي وأبو حنيفة شيئا من ذلك
وأما مالك فقال أصحابه عنه : إذا قال : احصد زرعي ولك نصفه فذلك جائز وإن قال : احصد اليوم فما حصدت فلك نصفه لم يجز عند ابن القاسم وفي العينية أنه يجوز
فإن قال : القط زيتوني فما لقطت فلك نصفه فهو جائز عند ابن القاسم وروى سحنون أنه لا يجوز ولو قال : انقض زيتوني فما نقضت فلك نصفه لم يجز عند ابن القاسم وأجازه عبد الملك بن حبيب
فإن قال : اقبض لي المائة دينار التي على فلان ولك عشرها جاز عند ابن القاسم وابن وهب وعند أشهب لا يجوز
فلو قال : اقبض دينى الذي على فلان ولك من كل عشرة واحد ولم يبين قدر الدين لم يجز عند ابن وهب وأجازه ابن القاسم وأصبغ
والذين منعوا الجواز في ذلك جعلوه إجارة والأجر فيها مجهول والصحيح : أن هذا ليس من باب الإجارات بل من باب المشاركات وقد نص أحمد على ذلك
فاحتج على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خيبر وقد دلت السنة على جواز ذلك كما في المسند والسنن عن رويفع بن ثابت قال : إن كان أحدنا في زمن رسول الله

صلى الله عليه و سلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النعصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح وأصل هذا كله : أن النبي صلى الله عليه و سلم دفع أرض خيبر إلى اليهود يعملونها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وأجمع المسلمون على جواز المضاربة وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجزء من ربحه فكل عين تنمى فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل عليها بجزء من ربحها
فهذا محض القياس وموجب الأدلة وليس مع المانعين حجة سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوض مجهول وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة واستثنى قوم بعض صورها وقالوا : المضاربة على خلاف القياس لظنهم أنها إجارة بعوض عنده لم يعلم قدره
وأحمد رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيب وأحل من المؤجراة لأنه في الإجارة يحصل

على سلامة العوض قطعا والمستأجر متردد بين سلامة العوض وهلاكه فهو على خطر وقاعدة العدل في المعاوضات : أن يستوى المتعاقدان في الرجاء والخوف وهذا حاصل في المزارعة والمساقاة والمضاربة وسائر هذه الصور الملحقة بذلك فإن المنفعة إن سلمت سلمت لهما وإن تلفت تلفت عليهما وهذا من أحسن العدل
واحتج المتأخرون من المانعين بحديث أبي سعيد الذي رواه الدارقطنى نهي عن قفيز الطحان وهذا الحديث لا يصح وسمعت شيخ الإسلام يقول : هو موضوع
وحمله بعض أصحابنا على أن المنهي عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها لأن ما عداه مجهول فهو كبيعها إلا قفيزا منها فأما إذا كانت معلومة القفزان فقال : اطحن هذه العشرة بقفيز منها صح حبا ودقيقا أما إذا كان حبا فقد استأجره على طحن تسعة أقفزة بقفيز حنطة وأما إذا كان دقيقا فقد شاركه في ذلك على أن العشر للعامل وتسعة الأعشار للآخر فيصيرشريكه بالجزء المسمى
فإن قيل فالشركة عندكم لا تصح بالعروض
قيل : بل أصح الروايتين صحتها وإن قلنا بالرواية الأخرى فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أولى بها من إلحاقها بالمضاربة على العروض لأن المضاربة بالعروض تتضمن التجارة والتصرف في رقبة المال بإبداله بغيره بخلاف هذا فإن قيل : دفع حبه إلى من يطحنه بجزء منه مطحونا أو غزله إلى من ينسجه بجزء منه منسوجا : يتضمن محذورين أحدهما : أن يكون طحن قدرالأجرة ونسجه مستحقا على العامل بحكم الإجارة ومستحقا له بحكم كونه أجرة وذلك متناقض فإن كونه مستحقا عليه يقتضي مطالبة المستأجر به وكونه مستحقا له يقتضي مطالبة المؤجر به الثاني : أن يكون بعض المعقود عليه هو العوض نفسه وذلك ممتنع
قيل : إنما نشأ هذا من ظن كونه إجارة وقد بينا أنه مشاركة لا إجارة ولو سلم أنه

من باب المؤاجرة فلا تناقض في ذلك فإن جهة الاستحقاق مختلفة فإنه مستحق له بغير الجهة التي يستحق بها عليه فأي محذور في ذلك
وأما كون بعض المعقود عليه يكون عوضا فهو إنما عقد على عمله فالمعقود عليه العمل والنفع بجزء من العين وهذا أمر متصور شرعا وحسا
فظهر أن صحة هذا الباب هى مقتضى النص والقياس وبالله التوفيق
وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة لتصحيح ذلك إلا إذا خيف غدر أحدهما وإبطاله للعقد والرجوع إلى أجرة المثل
فالحيلة في التخلص من ذلك : أن يدفع إليه ربع الغزل والحب أو نصفه ويقول : انسج لي باقيه بهذا القدر فيصيران شريكين في الغزل والحب فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح وكان بينهما على قدر ما شرطاه والعجب أن المانعين جوزوا ذلك على هذا الوجه وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة فهلا أجازوه من أصله كذلك وهل الاعتبار في العقود إلا بمقاصدها وحقائقها ومعانيها دون صورها وألفاظها وبالله التوفيق
المثال الثاني والسبعون : إذا كان لرجل على رجل دين فتوارى عن غريمه وله هو دين على آخر فأراد الغريم أن يقبض دينه من الدين الذي له على ذلك لم يكن له ذلك إلا بحوالة أو وكالة وقد توارى عنه غريمه فيتعذر عليه الحوالة والوكالة
فالحيلة له في اقتضاء دينه من ذلك : أن يوكله فيقول : وكلتك في اقتضاء ديني الذي على فلان وبالخصومة فيه ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصا مما لي عليه وأجزت أمرك في ذلك فيقبل الوكيل ويشهد عليه شهودا ثم يشهد الوكيل أولئك الشهود أو غيرهم : أن فلانا وكلني بقبض ماله على فلان وأن أجعله قصاصا بما لفلان علي وأجاز أمري في ذلك وقد قبلت من فلان ما جعل إلى من ذلك واشهدوا أني قد جعلت الألف درهم التي لفلان على قصاصا بالألف التي لفلان موكلي عليه فتصير الألف قصاصا ويتحول ما كان للرجل المتواري على هذا الوكيل للرجل الذي وكله
المثال الثالث والسبعون : إذا كان لرجل على رجل مال فغاب الذي عليه المال وأراد

الرجل أن يثبت ماله عليه حتى يحكم الحاكم عليه وهو غائب جاز للحاكم أن يحكم عليه في حال غيبته مع بقائه على حجته في أصح المذهبين وهو قول أحمد في الصحيح عنه ومالك والشافعي وعند أبي حنيفة لا يجوز الحكم على الغائب
فإذا لم يكن في الناحية إلا حاكم يرى هذا القول ويخشى صاحب الحق من ضياع حقه
فالحيلة له : أن يجىء برجل فيضمن لهذا الرجل الذي له المال جميع ماله على الرجل الغائب ويسميه وينسبه ويشهد على ذلك ثم يقدمه إلى القاضي فيقر الضامن بالضمان ويقول : قد ضمنت له ماله على فلان بن فلان ولا أدري كم له عليه ولا أدري : له عليه مال أم لا فإن القاضي يكلف المضمون له أن يحضر بينته على ذلك بماله على فلان فإذا أحضر البينة قبلها القاضي بمحضر من هذا الضمين وحكم على الغائب وعلى هذا الضامن المال بموجب ضمانه ويجعل القاضي هذا الضمين بالمال خصما على الغائب لأنه قد ضمن ما عليه ولا يجوز الحكم على هذا الضمين حتى يحكم على المضمون عنه ثم يحكم بذلك على الضمين لأنه فرعه فما لم يثبت المال على الأصل لا يثبت على الفرع
المثال الرابع والسبعون : إذا غصبه متاعا له ويقر له في السر بعينه ويجحده في العلانية ويريد تخليص ماله منه
فالحيلة له : أن يبيعه ممن يثق به ويشهد له على ذلك ببينة عادلة ثم يبيعه بعد ذلك من الغاصب ويكون بين البيعين من المدة ما يعرفه الشهود ليوقتوا بذلك عند الأداء فإذا أشهد الغاصب بالبيع في الوقت المعين جاء الذي باع منه المغصوب قبله ببينته فيحكم له السبق بينته فيرجع الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه ويسلم العين للمغصوب منه
وكذلك لو أقر بها المغصوب منه لرجل يثق به ثم باعها بعد ذلك للغاصب ثم جاء المقر له فأقام بينة على الإقرار السابق
فإن قيل : فلو خاف الغاصب من هذه الحيلة وقال للمغصوب منه : لست أبتاع منك

هذه السلعة خشية هذا الصنيع ولكن آمر من يبتاعها منك لي فأراد المغصوب منه حيلة ترجع إليه بها سلعته
فالحيلة : أن يبيعها أولا ممن يثق به ولا يكتب في كتاب هذا الشراء الثاني قبض المشتري فإنه إذا أقر وكيل الغاصب بقبض العين من المغصوب منه ثم جاء الرجل الذي كتب له المغصوب منه الشراء كان أولى بها من وكيل الغاصب لأن وقت شرائه أقدم وإقراره بقبضها وتسليمها إلى الرجل المشتري لها أولا أولى ويرجع وكيل الغاصب على المغصوب بالثمن الذي دفعه إليه
المثال الخامس والسبعون : إذا أقرضه مالا وأجله لزم تأجيله على أصح المذهبين وهو مذهب مالك وقول في مذهب أحمد والمنصوص عنه : أنه لا يتأجل كما هو قول الشافعي وأبي حنيفة ويدل على التأجيل قوله تعالى : أوفوا بالعقود  وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون  وقوله وأوفوا بالعهد  وقولهصلى الله عليه وسلمالمسلمون عند شروطهم وقوله آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وقوله ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة بقدر غدرته وقوله لا تغدروا وقوله إن الغدر لا يصلح وقوله في صفة المنافق إذا وعد أخلف وإخلاف الوعد مما فطر الله العباد على ذمه واستقباحه وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح وعلى هذا فلا حاجة إلى التحيل على لزوم التأجيل
وعلى القول الآخر : قد يحتاج إلى حيلة يلزم بها التأجيل
فالحيلة فيه أن يحيل المستقرض صاحب المال بماله إلى سنة أو نحوها بقدر مدة التأجيل فيكون المال على المحتال عليه إلى ذلك الأجل ولا يكون للطالب ولا لورثته على المستقرض سبيل ولا على المحال عليه إلى الأجل فإن الحوالة تنقل الحق

ولو أحال المحال عليه صاحب المال على رجل آخر إلى ذلك الأجل جازت الحوالة فإن مات المحال عليه الأول لم يكن لصاحب المال على تركته سبيل لا على المحال عليه الثاني المثال السادس والسبعون : إذا رهنه دارا أو سلعة على دين وليس عنده من يشهد على قدر الدين ويكتبه فالقول قول المرتهن في قدره ما لم يدع أكثر من قيمته هذا قول مالك وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد : القول قول الراهن وقول مالك هو الراجح وهو اختيار شيخنا لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتاب يشهد بقدر الحق والشهود التي تشهد به وقائما مقامه فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك بطلت الوثيقة من الرهن وادعى المرتهن أنه رهن على أقل شىء فلم يكن في الرهن فائدة والله سبحانه قد قال في آية المداينة :  التي أرشد بها عباده إلى حفظ حقوق بعضهم على بعض خشية ضياعها بالجحود أو النسيان فأرشدهم إلى حفظها بالكتاب وأكد ذلك بأن أمرهم بكتابة الدين وأمر الكاتب أن يكتب ثم أكد ذلك بأن نهاه أن يأبى أن يكتب ثم أعاد الأمر بأن يكتب مرة أخرى وأمر من عليه الحق أن يملل ويتقي ربه فلا يبخس من الحق شيئا فإن تعذر إملاؤه لسفهه أو صغره أو جنونه أو عدم استطاعته فوليه مأمور بالإملاء عنه
وأرشدهم إلى حفظها باستشهاد شهيدين من الرجال أو رجل وامرأتين فأمرهم بالحفظ بالنصاب التام الذي لا يحتاج صاحب الحق معه إلى يمين ونهى الشهود أن يأبوا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة
ثم أكد ذلك عليهم بنهيهم أن يمتنعوا من كتابة الحقير والجليل من الحقوق سآمة ومللا
وأخبر أن ذلك أعدل عنده وأقوم للشهادة فيتذكرها الشاهد إذا عاين خطه فيقيمها وفي ذلك تنبيه على أن له أن يقيمها إذا رأى خطه وتيقنه وإلا لم يكن بالتعليل بقوله وأقوم للشهادة فائدة
وأخبر أن ذلك أقرب إلى اليقين وعدم الريب ثم رفع عنهم الجناح بترك الكتابة

إذا كان بيعا حاضرا فيه التقابض من الجانبين يأمن به كل واحد من المتبايعين من جحود الآخر ونسيانه
ثم أمرهم مع ذلك بالإشهاد إذا تبايعوا خشية الجحود وغدر كل واحد منهما بصاحبه فإذا أشهدا على التبايع أمنا ذلك
ثم نهى الكاتب والشهيد عن أن يضارا إما بأن يمتنعا من الكتابة والشهادة تحملا وأداء أو أن يطلبا على ذلك جعلا يضر بصاحب الحق أو بأن يكتم الشاهد بعض الشهادة أو يؤخر الكتابة والشهادة تأخيرا يضر بصاحب الحق أو يمطلاه ونحو ذلك أو هو نهي لصاحب الحق أن يضار الكاتب والشهيد بأن يشغلهما عن ضرورتهما وحوائجهما أو يكلفهما من ذلك ما يشق عليهما ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله
فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود
ثم ذكر ما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود وهو السفر في الغالب فقال : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة
فدل ذلك دلالة بينة أن الرهان قائمة مقام الكتاب والشهود شاهدة مخبرة بالحق كما يخبر به الكتاب والشهود
وهذا والله أعلم سر تقييد الرهن بالسفر لأنه حال يتعذر فيها الكتاب الذي ينطق بالحق غالبا فقام الرهن مقامه وناب منابه وأكد ذلك بكونه مقبوضا للمرتهن حتى لا يتمكن الراهن من جحده
فلا أحسن من هذه النصيحة وهذا الإرشاد والتعليم الذي لو أخذ به الناس لم يضع في الأكثر حق أحد ولم يتمكن المبطل من الجحود والنسيان
فهذا حكمه سبحانه المتضمن لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم
والمقصود : أنه لو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين لم يكن وثيقة ولا

حافظا لدينه ولا بدلا من الكتاب والشهود فإن الراهن يتمكن من أخذه منه ويقول : إنما رهنته منه على ثمن درهم ونحوه ومن يجعل القول قول الراهن فإنه بصدقه على ذلك ويقبل قوله في رهن الربع والضيعة على هذا القدر
فالذي نعتقده وندين الله به : هو قول أهل المدينة فإذا أراد الرجل حفظ حقه وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب
فالحيلة في قبول قوله : أن يسترهنه المرتهن على قيمته ويدفع إليه ما اتفقا عليه ويشهد الراهن أن الباقي من قيمته أمانة عنده أو قرض في ذمته يطالبه به متى شاء فيتمكن كل واحد منهما من أخذ حقه ويأمن ظلم الآخر له والله أعلم
المثال السابع والسبعون : إذا كان لرجل على رجل ألف درهم وفي يده رهن بالألف فطلب صاحب الدين الغريم بالألف وقدمه إلى الحاكم وقال : لي على هذا ألف درهم وخاف أن يقول : وله عندي رهن بالألف وهو كذا وكذا فيقول الغريم : ماله علي هذه الألف التي يدعيها ولا شيء منها وهذا الذي ادعى أنه لي رهن في يده هو لي كما قال ولكنه ليس برهن بل وديعة أو عارية فيأخذه منه ويبطل حقه
فالحيلة في أمنه من ذلك : أن يدعي بالألف فيسأل الحاكم المطلوب عن المال فإما أن يقر به وإما أن ينكره فإن أقر به وادعى أن له رهنا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه أو بيع في وفائه وإن أنكره وقال : ليس له علي شيء ولي عنده تلك العين : إما الدار وإما الدابة فليقل صاحب الحق للقاضي : سله عن هذا الذي يدعي علي : على أي وجه هو عندي أعارية أم غصب أم وديعة أم رهن فإن ادعى أنه في يده على غير وجه الرهن حلف على إبطال دعواه وكان صادقا وإن ادعى أنه في يده على وجه الرهن قال للقاضي : سله : على كم هو رهن فإن أقر بقدر الحق أقر له بالعين وطالب بحقه وإن جحد بعضه حلف على نفي ما ادعاه وكان صادقا المثال الثامن والسبعون : إذا باعه سلعة ولم يقبضه إياها أو آجره دارا ولم يتسلمها أو زوجه ابنته ولم يسلمها إليه ثم ادعى عليه بالثمن أو الأجرة أو المهر فخاف إن أنكر أن يستحلفه أو يقيم عليه البينة بجريان هذه العقود وإن أقر لزمه ما ادعى عليه به

فالحيلة في تخلصه : أن يقول في الجواب : إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مبيع لم أقبضه أو إجارة دار لم تسلمها إلي أو نكاح امرأة لم تسلمها إلي أو كانت المرأة هي التي ادعت فقال : إن ادعيت هذا المبلغ من مهر أو كسوة أو نفقة من نكاح لم تسلمي إلي نفسك فيه ولم تمكنيني من استيفاء المعقود عليه فأنا مقر به وإن كان غير ذلك فلا أقر به وهذا جواب صحيح يتخلص به
فإن قيل : فهذا تعليق للإقرار بالشرط والإقرار لا يصح تعليقه كما لو قال : إن شاء الله أو إن شاء زيد فله علي ألف
قيل : بل يصح تعليق الإقرار بالشرط في الجملة كقوله : إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف فهذا إقرار صحيح ولا يلزمه قبل مجيء الشهر وكذا لو قال : إن شهد فلان علي بما ادعاه صدقته صح التعليق فإذا شهد به عليه فلان كان مقرا به ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره كما في تعليق الطلاق والعتاق والخلع
وفيه وجه آخر : أنه إن أخر الشرط لم ينفعه وكان إقرارا ناجزا وهذا ضعيف جدا فإن الكلام بآخره ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبدل والصفة فإن ذلك يغير الكلام ويخرجه من العموم إلى الخصوص والشرط يخرجه من الإطلاق إلى التقييد فهو أولى بالصحة
وقد جاء تأخير الشرط في القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار كقوله تعالى حاكيا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم 
وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال : له علي ألف درهم إذا جاء رأس الشهر : أنه يصح وجها واحدا وهذا يبطل تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار وعلى هذا فلو قال : له علي ألف مؤجلة صح الإقرار ولزمه الألف مؤجلا
وقيل : القول قول خصمه في حلوله وشبهة هذا : أنه مقر بالدين مدع لتأجيله وهذا ظاهر البطلان فإنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقا كما لو وصفها بنقد غير النقد الغالب أو استثنى منها شيئا

أقسام الكتاب
1 2 3 4

q