كتاب : إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية

وأما شريعتهم ودينهم فليسوا متمسكين بشيء من شريعة المسيح ولا دينه ألبته
فأول ذلك أمر القبلة فإنهم ابتدعوا الصلاة إلى مطلع الشمس مع علمهم أن المسيح عليه السلام لم يصل إلى المشرق أصلا بل قد نقل مؤرخوهم أن ذلك حدث بعد المسيح بنحو ثلثمائة سنة وإلا فالمسيح إنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس وهي قبلة الأنبياء قبله وإليها كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمكة وبعد هجرته ثمانية عشر شهرا ثم نقله الله تعالى إلى قبلة أبيه إبراهيم
ومن ذلك : أن طوائف منهم وهم الروم وغيرهم لا يرون الاستنجاء بالماء فيبول أحدهم ويتغوط ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة الكريهة فيستقبل المشرق ويصلب على وجهه ويحدث من يليه بأنواع الحديث كذبا كان أو فجورا أو غيبة أو سبا وشتما ويخبره بسعر الخمر ولحم الخنزير وما شاكل ذلك ولا يضر ذلك في الصلاة ولا يبطلها وإن دعته الحاجة إلى البول في الصلاة بال وهو يصلي صلاته
وكل عاقل يعلم أن مواجهة إله العالمين بهذه العبادة قبيح جدا وصاحبها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقرب منه إلى الرضا والثواب ومن العجيب أنهم يقرؤن في التوراة ملعون من تعلق بالصليب وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يلعنون عليه ولو كان لهم أدنى عقل لكان الأولى بهم أن يحرقوا الصليب حيث وجدوه ويكسروه ويضمخوه بالنجاسة فإنه قد صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم وأهين عليه وفضح وخزي
فيا للعجب بأي وجه بعد هذا يستحق الصليب التعظيم لولا أن القوم أضل من الأنعام
وتعظيمهم للصليب مما ابتدعوه في دين المسيح بعده بزمان ولا ذكر له في الإنجيل البتة وإنما ذكر في التوراة باللعن لمن تعلق به فاتخذته هذه الأمة معبودا يسجدون له

وإذا اجتهد أحدهم في اليمين بحيث لا يحنث ولا يكذب حلف بالصليب ويكذب إذا حلف بالله ولا يكذب إذا حلف بالصليب ولو كان لهذه الأمة أدنى مسكة من عقل لكان ينبغي لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم وإلههم حين صلب عليه كما قالوا : إن الأرض لعنت من أجل آدم حين أخطأ وكما لعنت الأرض حين قتل قابيل أخاه وكما في الإنجيل : إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان
فلو عقلوا لكان ينبغي لهم أن لا يحملوا صليبا ولا يمسوه بأيديهم ولا يذكروه بألسنتهم وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم عن ذكره ولقد صدق القائل : عدو عاقل خير من صديق أحمق لأنهم بحمقهم قصدوا تعظيم المسيح فاجتهدوا في ذمه وتنقصه والإزراء به والطعن عليه وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود وتنفير الناس عنهم وإغراءهم بهم فنفروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير وعلموا أن الدين لا يقوم بذلك فوضع لهم رهبانهم وأساقفتهم من الحبل والمخاريق وأنواع الشعبذة ما استمالوا به الجهال وربطوهم به وهم يستجيزون ذلك ويستحسنونه ويقولون : يشد دين النصرانية وكأنهم إنما عظموا الصليب لما رأوه قد ثبت لصلب إلههم ولم ينشق ولم يتطاير ولم يتكسر من هيبته لما حمل عليه وقد ذكروا أن الشمس اسودت وتغير حال السماء والأرض فلما لم يتغير الصليب ولم يتطاير استحق عندهم التعظيم وأن يعبد ولقد قال بعض عقلائهم : إن تعظيمنا للصليب جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء فإنه كان قبر المسيح وهو عليه ثم لما دفن صار قبره في الأرض وليس وراء هذا الحمق والجهل حمق فإن السجود لقبور الأنبياء وعبادتها شرك بل من أعظم الشرك وقد لعن إمام الحنفاء وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وأصل الشرك وعبادة الأوثان من العكوف على القبور واتخاذها مساجد
ثم يقال : فأنتم تعظمون كل صليب لا تخصون التعظيم بذلك الصليب بعينه فإن قلتم : الصليب من حيث هو يذكر بالصليب الذي صلب عليه إلهنا

قلنا : وكذلك الحفر تذكر بحفرته فعظموا كل حفرة واسجدوا لها لأنها كحفرته أيضا بل أولى لأن خشبة الصلب لم يستقر عليها استقراره في الحفرة
ثم يقال : اليد التي مسته أولى أن تعظم من الصليب فعظموا أيدي اليهود لمسهم إياه وإمساكهم له ثم انقلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدي
فإن قلتم : منع من ذلك مانع العداوة فعندكم أنه هو الذي رضي بذلك واختاره ولو لم يرض به لم يصلوا إليه منه فعلى هذا فينبغي لكم أن تشكروهم وتحمدوهم إذ فعلوا مرضاته واختياره الذي كان سبب خلاص جميع الأنبياء والمؤمنين والقديسين من الجحيم ومن سجن إبليس فما أعظم منة اليهود عليكم وعلى آبائكم وعلى سائر النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى زمن المسيح والمقصود : أن هذه الأمة جمعت بين الشرك وعيب الإله وتنقصه وتنقص نبيعهم وعيبه ومفارقة دينه بالكلية فلم يتمسكوا بشيء مما كان عليه المسيح لا في صلاتهم ولا في صيامهم ولا في أعيادهم بل هم في ذلك أتباع كل ناعق مستجيبون لكل ممخرق ومبطل أدخلوا في الشريعة ما ليس منها وتركوا ما أتت به
وإذا شئت أن ترى التغيير في دينهم فانظر إلى صيامهم الذي وضعوه لملوكهم وعظمائهم فلهم صيام للحواريين وصيام لماري مريم وصيام لماري جرجس وصيام للميلاد وتركهم أكل اللحم في صيامهم مما أدخلوه في دين المسيح وإلا فهم يعلمون أن المسيح عليه السلام كان يأكل اللحم ولم يمنعهم منه لا في صوم ولا فطر وأصل ذلك : أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا روح فلما دخلوا في النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيقتلوا فشرعوا لأنفسهم صياما فصاموا للميلاد والحواريين وماري مريم وتركوا في هذا الصوم أكل اللحم محافظة على ما اعتادوه من مذهب ماني فلما طال الزمان تبعهم على ذلك النسطورية واليعقوبية فصارت سنة متعارفة بينهم ثم تبعهم على ذلك الملكانية

فصل ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم ورهبانهم قد نصبوا
حبائل الحيل ليقتنصوا بها عقول العوام ويتوصلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم واستدرار أموالهم وذلك أشهر وأكثر من أن يذكر
فمن ذلك : ما يعتمدونه في العيد الذي يسمونه عيد النور ومحله بيت المقدس فيجتمعون من سائر النواحي في ذلك اليوم ويأتون إلى بيت فيه قنديل معلق لا نار فيه فيتلوا أحبارهم الإنجيل ويرفعون أصواتهم ويبتهلون في الدعاء فبيناهم كذلك وإذا نار قد نزلت من سقف البيت فتقع على ذبالة القنديل فيشرق ويضىء ويشتعل فيضجون ضجة واحدة ويصلبون على وجوههم ويأخذون في البكاء والشهيق
قال أبو بكر الطرطوشي : كنت ببيت المقدس وكان واليها إذ ذاك رجلا يقال له سقمان فلما نما خبر هذا العيد إليه أنفذ إلى بتاركتهم وقال : أنا نازل إليكم في يوم هذا العيد لأكشف عن حقيقة ما تقولون فإن كان حقا ولم يتضح لي وجه الحيلة فيه أقررتكم عليه وعظمته معكم بعلم وإن كان مخرقة على عوامكم أوقعت بكم ما تكرهونه فصعب ذلك عليهم جدا وسألوه أن لا يفعل فأبى ولج فحملوا له مالا عظيما فأخذه وأعرض عنهم
قال الطرطوشي : ثم اجتمعت بأبي محمد بن الأقدم بالإسكندرية فحدثني أنهم يأخذون خيطا دقيقا من نحاس وهو الشريط ويجعلونه في وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التي في القنديل ويدهنونه بدهن اللبان والبيت مظلم بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس وقد عظموا ذلك البيت فلا يمكنون كل أحد من دخوله وفي رأس القبة رجل فإذا قدسوا ودعوا ألقى على ذلك الخيط النحاس شيئا من نار النفط فتجرى النار مع دهن اللبان إلى آخر الخيط النحاس فتلقى الفتيلة فيتعلق بها
فلو نصح أحد منهم نفسه وفتش على نجاته لتتبع هذا القدر وطلب الخيط النحاس وفتش رأس القبة ليرى القبة ليرى الرجل والنفط ويرى أن منبع ذلك النور من ذلك الممخرق الملبس وأنه لو نزل من السماء لظهر من فوق ولم يكن ظهوره من الفتيلة

ومن حيلهم أيضا : أنه قد كان بأرض الروم في زمان المتوكل كنيسة إذا كان يوم عيدها يحج الناس إليها ويجتمعون عند صنم فيها فيشاهدون ثدي ذلك الصنم في ذلك اليوم يخرج منه اللبن وكان يجتمع للسادن في ذلك اليوم مال عظيم فبحث الملك عنها فانكشف له أمرها فوجد القيم قد ثقب من وراء الحائط ثقبا إلى ثدى الصنم وجعل فيها أنبوبة من رصاص وأصلحها بالجبس ليخفى أمرها فإذا كان يوم العيد فتحها وصب فيها اللبن فيجرى إلى الثدي فيقطر منه فيعتقد الجهال أن هذا سر في الصنم وأنه علامة من الله تعالى لقبول قربانهم وتعظيمهم له فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادن ومحو الصور من الكنائس وقال : إن هذه الصور مقام الأصنام فمن سجد للصورة فهو كمن سجد للأصنام
ولقد كان من الواجب على ملوك الإسلام أن يمنعوا هؤلاء من هذا وأمثاله لما فيه من الإعانة على الكفر وتعظيم شعائره فالمساعد على ذلك والمعين عليه شريك للفاعل لكن لما هان عليهم دين الإسلام وكان السحت الذي يأخذونه منهم أحب إليهم من الله عز و جل ورسوله عليه الصلاة و السلام أقروهم على ذلك ومكنوهم منه
فصل والمقصود : أن دين الأمة الصليبية بعد أن بعث الله عز و جل
محمدا صلى الله عليه وسلم  بل قبله بنحو ثلاثمائة سنة مبني على معاندة العقول والشرائع وتنقص إله العالمين ورميه بالعظائم فكل نصراني لا يأخذ بحظه من هذه البلية فليس بنصراني على الحقيقة
أفليس هو الدين الذي أسسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد
فيا عجباكيف رضى العاقل أن يكون هذا مبلغ عقله ومنتهى علمه أفترى لم يكن في هذه الأمة من يرجع إلى عقله وفطرته ويعلم أن هذا عين المحال وإن ضربوا له الأمثال واستخرجوا له الأشباه فلا يذكرون مثالا ولا شبها إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم

كتشبيه بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت وامتزاجه به باتحاد النار والحديد وتمثيل غيرهم ذلك باختلاط الماء باللبن وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء واختلاطه بأعضاء البدن إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس التي تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما حتى صارا حقيقة أخرى تعالى الله عز و جل عن إفكهم وكذبهم ولم يقنعهم هذا القول في رب السموات والأرض حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه وساقوه بينهم ذليلا مقهورا وهو يحمل خشبته التي صلبوه عليها واليهود يبصقون في وجهه ويضربونه ثم صلبوه وطعنوه بالحربة حتى مات وتركوه مصلوبا حتى التصق شعره بجلده لما يبس دمه بحرارة الشمس ثم دفن وأقام تحت التراب ثلاثة أيام
ثم قام بلا هوتيته من قبره
هذا قول جميعهم ليس فيهم من ينكر منه شيئا
فيا للعقول ! كيف كان حال هذا العالم الأعلى والأسفل في هذه الأيام الثلاثة ومن كان يدبر أمر السموات والأرض ومن الذي خلف الرب سبحانه وتعالى في هذه المدة ومن الذي كان يمسك السماء أن تقع على الأرض وهو مدفون في قبره
ويا عجبا ! هل دفنت الكلمة معه بعد أن قتلت وصلبت أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نصرها له كما خذله أبوه وقومه فإن كانت قد فارقته وتجرد منها فليس هو حينئذ المسيح وإنما هو كغيره من آحاد الناس وكيف يصح مفارقتها له بعد أن اتحدت به وما زجت لحمه ودمه وأين ذهب الاتحاد والامتزاج وإن كانت لم تفارقه وقتلت وصلبت ودفنت معه فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله وصلبه ودفنه ويا عجبا ! أي قبر يسع إله السموات والأرض هذا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون
الحمد لله ثم الحمد لله تعالى الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
يا ذا الجلال والإكرام كما هديتنا للإسلام أسألك أن لا تنزعه عنا حتى تتوفانا على الإسلام
أعباد المسيح لنا سؤال ... نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإلكه بصنع قوم ... أماتوه فما هذا الإله

وهل أرضاه ما نالوه منه ... فبشراهم إذا نالوا رضاه
وإن سخط الذي فعلوه فيه ... فقوتهم إذا أوهت قواه
وهل بقي الوجود بلا إله ... سميع يستجيب لمن دعاه
وهل خلت الطباق السبع لما ... ثوى تحت التراب وقد علاه
وهل خلت العوالم من إله ... يدبعرها وقد سمرت يداه
وكيف تخلت الأملاك عنه ... بنصرهم وقد سمعوا بكاه
وكيف أطاقت الخشبات حمل الإله ... الحق شد على قفاه
وكيف دنا الحديد إليه حتى ... يخالطه ويلحقه أذاه
وكيف تمكنت أيدي عداه ... وطالت حيث قد صفعوا قفاه
وهل عاد المسيح إلى حياة ... أم المحيي له ربك سواه
ويا عجبا لقبر ضم ربا ... وأعجب منه بطن قد حواه
أقام هناك تسعا من شهور ... لدى الظلمات من حيض غذاه
وشق الفرج مولودا صغيرا ... ضعيفا فاتحا للثدى فاه
ويأكل ثم يشرب ثم يأتي ... بلازم ذاك هل هذا إلكه
تعالى الله عن إفك النصارى ... سيسأل كلهم عما افتراه
أعباد الصليب لأيع معنى ... يعظم أو يقبح من رماه
وهل تقضى العقول بغير كسر ... وإحراق له ولمن بغاه
إذا ركب الإلكه عليه كرها ... وقد شدت لتسمير يداه
فذاك المركب الملعون حقا ... فدسه لا تبسه إذ تراه
يهان عليه رب الخلق طرا ... وتعبده فإنك من عداه
فإن عظمته من أجل أن قد ... حوى رب العباد وقد علاه
وقد فقد الصليب فإن رأينا ... له شكلا تذكرنا سناه

فهلا للقبور سجدت طرا ... لضم القبر ربك في حشاه فيا عبد المسيح أفق فهذا ... بدايته وهذا منتهاه

فصل فقد بان لكل ذي عقل أن الشيطان تلاعب بهذه الأمة الضالة كل التلاعب
ودعاهم فأجابوه واستخفهم فأطاعوه فتلاعب بهم في شأن المعبود سبحانه وتعالى
وتلاعب بهم في أمر المسيح
وتلاعب بهم في شأن الصليب وعبادته
وتلاعب بهم في تصوير الصور في الكنائس وعبادتها فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو عن صورة مريم والمسيح وجرجس وبطرس وغيرهم من القديسين عندهم والشهداء وأكثرهم يسجدون للصور ويدعونها من دون الله تعالى حتى لقد كتب بطريق الاسكندرية إلى ملك الروم كتابا يحتج فيه للسجود للصور : بأن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يصور في قبة الزمان صورة الساروس وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب ونصبها داخل الهيكل ثم قال في كتابه : وإنما مثال هذا مثال الملك يكتب إلى بعض عماله كتابا فيأخذه العامل ويقبله ويضعه على عينيه ويقوم له لا تعظيما للقرطاس والمداد بل تعظيما للملك كذلك السجود للصور تعظيم لاسم ذلك المصور لا للأصباغ والألوان
وبهذا المثال بعينه عبدت الأصنام
وما ذكره هذا المشرك عن موسى وسليمان عليهما السلام لو صح لم يكن فيه دليل على السجود للصور وغايته : أن يكون بمثابة ما يذكر عن داود : أنه نقش خطيئته في كفه كيلا ينساها فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون : من التذلل والخضوع والسجود بين يدي تلك الصور وإنما المثال المطابق لما يفعله هؤلاء المشركون مثال خادم من خدام الملك دخل على رجل فوثب الرجل من مجلسه وسجد له وعبده وفعل به ما لا يصلح أن يفعل إلا مع الملك

وكل عاقل يستجهله ويستحمقه في فعله إذ قد فعل مع عبد الملك ما كان ينبغي له أن يخص به الملك دون عبيده : من الإكرام والخضوع والتذلل ومعلوم أن هذا إلى مقت الملك له وسقوطه من عينه أقرب منه إلى إكرام له ورفع منزلته
كذلك حال من سجد لمخلوق أو لصورة مخلوق لأنه عمد إلى السجود الذي هو غاية ما يتوصل به العبد إلى رضا الرب ولا يصلح إلا له ففعله لصورة عبد من عبيده وسوى بين الله وبين عبده في ذلك وليس وراء هذا في القبح والظلم شيء
ولهذا قال تعالى : إن الشرك لظلم عظيم وقد فطر الله سبحانه عباده على استقباح معاملة عبيد الملك وخدمه بالتعظيم والإجلال والخضوع والذل الذي يعامل به الملك فكيف حال من فعل ذلك بأعداء الملك فإن الشيطان عدو الله والمشرك إنما يشرك به لا بولي الله ورسوله بل رسول الله وأولياؤه بريئون ممن أشرك بهم معادون لهم أشد الناس مقتا لهم فهم في نفس الأمر إنما أشركوا بأعداء الله وسووا بينهم وبين الله في العبادة والتعظيم والسجود والذل ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلوما بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح والمقصود : ذكر تلاعب الشيطان بهذه الأمة في أصول دينهم وفروعه كتلاعبه بهم في صيامهم فإن أكثر صومهم لا أصل له في شرع المسيح بل هو مختلق مبتدع فمن ذلك : أنهم زادوا جمعة في بدء الصوم الكبير يصومونها لهرقل مخلص بيت المقدس وذلك أن الفرس لما ملكوا بيت المقدس وقتلوا النصارى وهدموا الكنائس أعانهم اليهود على ذلك وكانوا أكثر قتلا وفتكا في النصارى من الفرس
فلما سار هرقل إليه استقبله اليهود بالهدايا وسألوه أن يكتب لهم عهدا ففعل فلما دخل بيت المقدس شكا إليه من فيه من النصارى ما كان اليهود صنعوه بهم

فقال لهم هرقل : وما تريدون مني قالوا : تقتلهم قال : كيف أقتلهم وقد كتبت لهم عهدا بالأمان وأنتم تعلمون ما يجب على ناقض العهد
فقالوا له : إنك حين أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى وهدم الكنائس وقتلهم قربان إلى الله تعالى ونحن نتحمل عنك هذا الذنب ونكفره عنك ونسأل المسيح أن لا يؤاخذك به ونجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم نصومها لك ونترك فيها أكل اللحم ما دامت النصرانية ونكتب به إلى جميع الآفاق غفرانا لما سألناك
فأجابهم وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الخليل مالا يحصى كثرة
فصيروا أول جمعة من الصوم الذي يترك فيه الملكية أكل اللحم يصومونها لهرقل الملك غفرانا لنقضه العهد وقتل اليهود وكتبوا بذلك إلى الآفاق
وأهل بيت المقدس وأهل مصر يصومونها وبقية أهل الشام والروم يتركون اللحم فيه ويصومون الأربعاء والجمعة
وكذلك لما أرادوا نقل الصوم إلى فصل الربيع المعتدل وتغيير شريعة المسيح زادوا فيه عشرة أيام عوضا وكفارة لنقلهم له ومن ذلك : تلاعبه في أعيادهم : فكلها موضوعة مختلقة محدثة بآرائهم واستحسانهم فمن ذلك : عيد ميكائيل وسببه : أنه كان بالاسكندرية صنم وكان جميع من بمصر والإسكندرية يعيدون له عيدا عظيما ويذبحون له الذبائح فولي بتركة الاسكندرية واحدا منهم فأراد أن يكسره

ويبطل الذبائح فامتنعوا عليه فاحتال عليهم وقال إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله تعالى وجعلتم هذه الذبائح له كان يشفع لكم عند الله وكان خيرا لكم من هذا الصنم فأجابوه إلى ذلك فكسر الصنم وصيره صلبانا وسمى الكنيسة كنيسة ميكائيل وسماها قيسارية ثم احترقت الكنيسة وخربت وصيروا العيد والذبائح لميكائيل فنقلهم من كفر إلى كفر ومن شرك إلى شرك
فكانوا في ذلك كمجوسي أسلم فصار رافضيا فدخل الناس عليه يهنئونه فدخل عليه رجل وقال : إنك إنما انتقلت من زاوية من النار إلى زاوية أخرى
ومن ذلك عيد الصليب وهو مما اختلقوه وابتدعوه فإن ظهور الصليب إنما كان بعد المسيح بزمن كثير وكان الذي أظهره زورا وكذبا أخبرهم به بعض اليهود أن هذا هو الصليب الذي صلب عليه إلهم وربهم فانظر إلى هذا السند وهذا الخبر فاتخذوا ذلك الوقت الذي ظهر فيه عيدا وسموه عيد الصليب ولو أنهم فعلوا كما فعل أشباههم من الرافضة حيث اتخذوا وقت قتل الحسين رضي الله عنه مأتما وحزنا لكان أقرب إلى العقول
وكان من حديث الصليب : أنه لما صلب المسيح على زعمهم الكاذب وقتل ودفن رفع من القبر إلى السماء وكان التلاميذ كل يوم يصيرون إلى القبر إلى موضع الصلب ويصلون فقالت اليهود : إن هذا الموضع لا يخفى وسيكون له نبأ وإذا رأى الناس القبر خاليا آمنوا به فطرحوا عليه التراب والزبل حتى صار مزبلة عظيمة فلما كان في أيام قسطنطين الملك جاءت زوجته إلى بيت المقدس تطلب الصليب فجمعت من اليهود والسكان ببيت المقدس وجبل الخليل مائة رجل واختارت منهم عشرة واختارت من العشرة ثلاثة اسم أحدهم يهوذا فسألتهم أن يدلوها على الموضع فامتنعوا وقالوا : لا علم لنا بالموضع

فطرحتهم في الحبس في جب لا ماء فيه فأقاموا سبعة أيام لا يطعمون ولا يسقون فقال يهوذا لصاحبيه : إن أباه عرفه بالموضع الذي تطلب فصاح الإثنان فأخرجوهما فخبراها بما قال يهوذا فأمرت بضربه بالسياط فأقر وخرج إلى الموضع الذي فيه المقبرة وكان مزبلة عظيمة فصلى وقال : اللهم إن كان في هذا الموضع فاجعله أن يتزلزل ويخرج منه دخان فتزلزل الموضع وخرج منه دخان فأمرت الملكة بكنس الموضع من التراب فظهرت المقبرة وأصابوا ثلاثة صلبان فقالت الملكة : كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد أيس منه فوضع الصليب الأول عليه ثم الثاني ثم الثالث فقام عند الثالث واستراح من علته فعلمت أنه صليب المسيح فجعلته في غلاف من ذهب وحملته إلى قسطنطين
وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب : ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة
هذا كله نقله سعيد بن بطريق النصراني في تاريخه
والمقصود : أنهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعد المسيح بهذه المدة :
وبعد فسند هذه الحكاية من بين يهودي ونصراني مع انقطاعها وظهور الكذب فيها
لمن له عقل من وجوه كثيرة ويكفي في كذبها وبيان اختلاقها : أن ذلك الصليب الذي شفي العليل كان أولى أن لا يميت الإله الرب المحيي المميت ومنها : أنه إذا بقي تحت التراب خشب ثلثمائة وثمانية وعشرون سنة فإنه ينخر ويبلى لدون هذه المدة فإن قال عباد الصليب : إنه لما مس جسم المسيح حصل له الثبات والقوه والبقاء قيل لهم : فما بال الصليبين الباقيين لم يتفتتا واشتبها به فلعلهم يقولون : لما مست صليبه مسها البقاء والثبات وجهل القوم وحمقهم أعظم من ذلك والرب سبحانه لما تجلى للجبل تدكدك الجبل وساخ في الأرض ولم يثبت لتجليه فكيف تثبت الخشبة لركوبه عليها في تلك الحال
ولقد صدق القائل : إن هذه الأمة عار على بني آدم أن يكونوا منهم فإن كانت هذه الحكاية صحيحة فما أقربها من حيل اليهود التي تخلصوا بها من

الحبس والهلاك وحيل بني آدم تصل إلى أكثر من ذلك بكثير ولا سيما لما علم اليهود أن ملكة دين النصرانية قاصدة إلى بيت المقدس وأنها تعاقبهم حتى يدلوها على موضع القتل والصلب وعلموا أنهم إن لم يفعلوا لم يتخلصوا من عقوبتها
ومنها : أن عباد الصليب يقولون : إن المسيح لما قتل غار دمه ولو وقع منه قطرة على الأرض ليبست ولم تنبت فيا عجبا ! كيف يحيى الميت ويبرأ العليل بالخشبة التي شهر عليها وصلب أهذا كله من بركتها وفرحها به وهو مشدود عليها يبكي ويستغيث
ولقد كان الأليق أن يتفتت الصليب ويضمحل لهيبة من صلب عليه وعظمته ولخسفت الأرض بالحاضرين عند صلبه والمتمالئين عليه بل تتفطر السموات وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا
ثم يقال لعباد الصليب : لا يخلو أن يكون المصلوب الناسوت وحده أو مع اللاهوت فإن كان المصلوب هو الناسوت وحده فقد فارقته الكلمة وبطل اتحادها به وكان المصلوب جسدا من الأجساد ليس بإله ولا فيه شىء من الإلهية والربوبية ألبتة وإن قلتم : إن الصلب وقع على اللاهوت والناسوت معا فقد أقررتم بصلب الإله وقتله وموته وقدرة الخلق على أذاه وهذا أبطل الباطل وأمحل المحال فبطل تعلقكم بالصليب من كل وجه عقلا وشرعا وأما تلاعبه بهم في صلاتهم فمن وجوه أحدها : صلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة والمسيح برىء من هذه الصلاة وسبحان الله أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة فقدره أعلى وشأنه أجل من ذلك ومنها : صلاتهم إلى مشرق الشمس وهم يعلمون أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلا وإنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس
ومنها : تصليبهم على وجوههم عند الدخول في الصلاة والمسيح برىء من ذلك فصلاة مفتاحها النجاسة وتحريمها التصليب على الوجه وقبلتها الشرق وشعارها الشرك كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتي بها شريعة من الشرائع ألبتة

ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساقفة : إن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة شدوه بالحيل والصور في الحيطان بالذهب واللازورد والزنجفر وبالأرغل وبالأعياد المحدثة ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة والغلظة والمكر والكذب والبهت وما عليه كثير من المسلمين من الظلم والفواحش والفجور والبدعة والغلو في المخلوق حتى يتخذه إلها من دون الله واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء من خواصالمسلمين وصالحيهم فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم فيه ورؤيتهم أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والفجور والشرك والفواحش
ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم اختيارا وطوعا وقالوا : ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرا من أهل الكتاب إلى الإسلام فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام ممن يعظمهم الجهال : من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال ونسبة ذلك إلى الشرع ولمن جاء به فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به فالله طليب قطاع طريق الله وحسيبهم فهذه إشارة يسيرة جدا إلى تلاعب الشيطان بعباد الصليب تدل على ما بعدها والله الهادي الموفق

فصل في ذكر تلاعبه بالأمة الغضبية وهم اليهود قال الله تعالى في حقهم
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل

الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وقال تعالى : قل هل أنبعئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون
وقال تعالى : ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون
وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون فأول تلاعب الشيطان بهذه الأمة في حياة نبيها وقرب العهد بإنجائهم من فرعون وإغراقه وإغراق قومه فلما جاوزوا البحر رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم فقالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فقال لهم موسى عليه السلام إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون فأي جهل فوق هذا والعهد قريب وإهلاك المشركين أمامهم بمرأى من عيونهم فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها فطلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلكها مخلوقا وكيف يكون الإله مجعولا فإن الإله هو الجاعل لكل ما سواه والمجعول مربوب مصنوع فيستحيل أن يكون إلها

وما أكثر الخلف لهؤلاء في اتخاذ إله مجعول فكل من اتخذ إلها غير الله فقد اتخذ إلها مجعولا وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه كان في بعض غزواته فمروا بشجرة يعلق عليها المشركون أسلحتهم وشاراتهم وثيابهم يسمونها ذات أنواط فقال بعضهم : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال : الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ثم قال لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة

فصل ومن تلاعبه بهم عبادتهم العجل من دون الله تعالى وقد شاهدوا ما
حل بالمشركين من العقوبة والأخذة الرابية ونبيهم حي لم يمت هذا وقد شاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه ويصليه النار ويدقه بالمطرقة ويسطو عليه بالمبرد ويقلبه بيديه ظهرا لبطن ومن عجيب أمرهم : أنهم لم يكتفوا بكونه إلههم حتى جعلوه إله موسى فنسبوا موسى عليه السلام إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى بل عبادة أبلد الحيوانات وأقلها دفعا عن نفسه بحيث يضرب به المثل في البلادة والذل فجعلوه إله كليم الرحمن
ثم لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا موسى عليه السلام ضالا مخطئا فقالوا : فنسي
قال ابن عباس : أي ضل وأخطأ الطريق

وفي رواية عنه أي إن موسى ذهب يطلب ربه فضل ولم يعلم مكانه
وعنه أيضا نسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم وقال السدى : أي ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه وقال قتادة : أي إن موسى إنما يطلب هذا ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر
هذا هو القول المشهور : أن قوله فنسى من كلام السامريع وعباد العجل معه وعن ابن عباس رواية أخرى أن هذا من إخبار الله تعالى عن السامري : أنه نسى أى ترك ما كان عليه من الإيمان والصحيح : القول الأول والسياق يدل عليه ولم يذكر البخاري في التفسير غيره فقال : [ فنسى موساهم ] يقولونه : أخطأ الرب فإنه لما جعله إله موسى استحضر سؤالا من بني إسرائيل يوردونه عليه فيقولون له : إذا كان هذه إله موسى فلأي شيء ذهب عنه لموعد إلهه فأجاب عن هذا السؤال قبل إيراده عليه بقوله فنسى وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم فانظر إلى هؤلاء كيف اتخذوا إلها مصنوعا مصنوغا من جوهر أرضى إنما يكون تحت التراب محتاجا إلى سبك بالنار وتصفية وتخليص لخبثه منه مدقوقا بمطارق الحديد مقلبا في النار مرة بعد مرة قد نحت بالمبارد وأحدث الصانع صورته وشكله على صورة الحيوان المعروف بالبلادة والذل والضيم وجعلوه إله موسى ونسبوه إلى الضلال حيث ذهب يطلب إلها غيره
قال محمد بن جرير : وكان سبب اتخاذهم العجل ما حدثني به عبدالكريم بن الهيثم
قال حدثنى إبراهيم بن بشار الرمادي حدثنا سيفان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه وكان فرعون على فرس أدهم [ ذنوب ] فلما هجم فرعون على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر فمثل له جبريل على فرس أنثى [ وديق ] فلما رآها الحصان تقحم خلفها قال : وعرف السامري

جبريل [ لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه وكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه فيجد في بعض أصابعه لبنا وفي الأخرى عسلا وفي الأخرى سمنا فلم يزل يغذوه حتى نشأ فلما عاينه في البحر عرفه ] فقبض قبضة من أثر فرسه قال : أخذ قبضة من تحت الحافر
قال سفيان : وكان ابن مسعود يقرؤها فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول
قال أبو سعيد قال عكرمة عن ابن عباس : وألقي في روع السامري : إنك لا تلقيها على شيء فتقول : كن كذا وكذا إلا كان فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر وأغرق الله آل فرعون قال موسى لأخيه هارون : اخلفني في قومي وأصلح ومضي موسى لموعد ربه قال : وكان مع بني إسرائيل حلىك من حلى آل فرعون قد استعاروه فكأنهم تأثموا منه فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا [ وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا ] فقذفها فيه وقال : كن عجلا جسدا له خوار فصار عجلا جسدا له خوار فكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه يسمع له صوت : فقال هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون : يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى
وقال السدي : لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط فلما نجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر وأغرق آل فرعون أتى جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الله فأقبل على فرس فرآه السامري فأنكره ويقال : إنه فرس الحياة فقال حين رآه : إن لهذا لشأنا فأخذ من تربة حافر الفرس فانطلق موسى عليه السلام واستخلف هارون على بني إسرائيل وواعدهم ثلاثين ليلة فأتمها الله تعالى بعشر فقال لهم هارون : يا بني إسرائيل إن الغنيمة لا تحل لكم وإن حلي القبط إنما هو غنيمة فاجمعوها جميعا

واحفروا لها حفرة فادفنوها فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها [ وإلا كان شيئا لم تأكلوه ] فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة وجاء السامرى بتلك القبضة فقذفها فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار [ وعدت بنو إسرائيل موعد موسى فعدوا الليلة يوما واليوم يوما فلما كان تمام العشرين أخرج لهم العجل ] فلما رأوه قال لهم السامرى : هذا إلهكم وإله موسى فنسى يقول : ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه فعكفوا عليه يعبدونه وكان يخور ويمشي فقال لهم هارون : يا بني إسرائيل إنما فتنتم به يقول : إنما ابتليتم بالعجل وإن ربكم الرحمن فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم وانطلق موسى إلى الله يكلمه فلما كلمه قال له : ما أعجلك عن قومك يا موسى قال : هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى قال : فإنا قد فتنا قومك من بعدك [ وأضلهم السامرى فأخبره خبرهم قال موسى : يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل

فالروح من نفخها فيه قال الرب تعالى : أنا قال : يا رب أنت إذا أضللتهم وقال ابن إسحق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان السامري [ من أهل باجرما ] وكان من قوم يعبدون البقر فكان يحب عبادة البقر في نفسه وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل فلما ذهب موسى إلى ربه قال لهم هرون : أنتم قد حملتم أوزارا من زينة القوم آل فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها فإنها نجس وأوقد لهم نارا فقال : اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلى فيقذفون به فيها حتى إذا انكسر الحلي فيها ورأى السامرى أثر فرس جبريل فأخذ ترابا من أثر حافره ثم أقبل إلى النار فقال لهرون : يا نبي الله ألقى ما في يدي ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلى والأمتعة فقذفه فيها فقال : كن عجلا جسدا له خوار فكان البلاء والفتنة فقال : هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا مثله قط يقول الله عز و جل : فنسى أي ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامرى أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا [ وكان اسم السامرى موسى بن ظفر وقع في أرض مصر فدخل في بني إسرائيل ] فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال : يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى فأقام هرون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى : فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي وكان له هائبا مطيعا
فقال تعالى مذكرا لبني إسرائيل بهذه القصة التي جرت لأسلافهم مع نبيهم :

وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده يعني من بعد ذهابه إلى ربه وليس المراد من بعد موته وأنتم ظالمون أي بعبادة غير الله تعالى لأن الشرك أظلم الظلم لأن المشرك وضع العبادة في غير موضعها
فلما قدم موسى عليه السلام ورأى ما أصاب قومه من الفتنة اشتد غضبه وألقى الألواح عن رأسه وفيها كلام الله الذي كتبه له وأخذ برأس أخيه ولحيته ولم يعتب الله عليه في ذلك لأنه حمله عليه الغضب لله وكان الله عز و جل قد أعلمه بفتنة قومه ولكن لما رأى الحال مشاهدة حدث له غضب آخر فإنه ليس الخبر كالمعاينة
فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة في حياة نبيهم أيضا : ما
قصه الله تعالى في كتابه حيث يقول : وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة أي عيانا قال ابن جرير : ذكرهم الله تعالى بذلك اختلاف آبائهم وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم مع كثرة معاينتهم من آيات الله ما يثلج بأقلها الصدور وتطمئن بالتصديق معها النفوس وذلك مع تتابع الحجج عليهم وسبوغ النعم من الله تعالى لديهم وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله ومرة يعبدون العجل من دون الله ومرة يقولون : لا نصدقك حتى نرى الله جهرة وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ومرة يقال لهم : قولوا حطة

وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم فيقولون : حبة في شعيرة ويدخلون من قبل أستاههم ومرة يعرض عليهم العمل بالتوراة فيمتنعون من ذلك حتى نتق الله تعالى عليهم الجبل كأنه ظلة إلى غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم التي يكثر إحصاؤها فأعلم ربنا تبارك وتعالى الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم  وجحودهم نبوته وتركهم الإقرار به وبما جاء به مع علمهم به ومعرفتهم بحقيقة أمره كأسلافهم وآبائهم الذين قص الله علينا قصصهم
وقال محمد بن إسحق : لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل وقال لأخيه وللسامرى ما قال وحرق العجل وذراه في اليم اختار موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير وقال : انطلقوا إلى الله عز و جل فتوبوا إلى الله مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم فصوموا وتطهروا وطهروا نياتكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا للقاء الله : يا موسى اطلب لنا إلى ربك أن نسمع كلام ربنا فقال : أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فأدخل فيه وقال للقوم : ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم ان ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه تعالى وهو يكلم نبيه موسى يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل فلما فرغ الله من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لموسى عليه السلام : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعا وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : رب لو شئت أهلكتهم

من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا
فإن قيل : فما مقصود موسى بقوله : لو شئت أهلكتهم من قبل فقد ذكر فيه وجوه
فقال السدي : لما ماتوا قام موسى يبكي ويقول : يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتتهم وقد أهلكت خيارهم
وقال محمد بن إسحق : اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا
وعلى هذا فالمعنى : لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني
وقال الزجاج : المعنى : لو شئت أهلكتهم من قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة قلت : وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود والذي يظهر والله اعلم بمراده ومراد نبيه : أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل حين عبد قومهم العجل ولم ينكروا عليهم يقول موسى : إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك ولم تهلكهم فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل
وهذا كما يقول من واخذه سيده بجرم لو شئت واخذتني من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم ولكن وسعني عفوك أولا فليسعني اليوم
ثم قال نبي الله : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا
فقال ابن الإنباري وغيره : هذا استفهام على معنى الجحد أي لست تفعل ذلك
والسفهاء هنا : عبدة العجل قال الفراء : ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل فقال : أتهلكنا بما فعل

السفهاء منا وإنما كان إهلاكهم بقولهم أرنا الله جهرة ثم قال : إن هي إلا فتنتك وهذا من تمام الاستعطاف أي ما هي إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك فأنت ابتليتهم وامتحنتهم فالأمر كله لك وبيدك لا يكشفه إلا أنت كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت فنحن عائذون بك منك ولاجئون منك إليك

فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيده لهم
أنهم قيل لهم وهم مع نبيهم والوحي ينزل عليه من الله تعالى أدخلوا هذه القرية قال قتادة وابن زيد والسدي وابن جرير وغيرهم : هي قرية بيت المقدس فكلوا منها حيث شئتم رغدا أي هنيئا واسعا وادخلوا الباب سجدا قال السدعي : هو باب من أبواب بيت المقدس وكذلك قال بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال والسجود بمعنى الركوع وأصل السجود الانحناء لمن تعظمه فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد قاله ابن جرير وغيره
قلت : وعلى هذا فانحناء المتلاقين عند السلام أحدهما لصاحبه من السجود المحرم وفيه نهي صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم 
ثم قيل لهم : قولوا حطة أي حط عنا خطايانا هذا قول الحسن وقتادة وعطاء
وقال عكرمة وغيره : أي قولوا : لا إله إلا الله وكأن أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التي تحط بها الخطايا وهي كلمة التوحيد
وقال سعيد بن جبيرعن ابن عباس : أمروا بالاستغفار

وعلى القولين : فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار وضمن لهم بذلك مغفرة خطاياهم فتلاعب الشيطان بهم فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم وفعلا غير الذي أمروا به
فروى البخاري في صحيحه ومسلم أيضا من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة فبدلوا القول والفعل معا فأنزل الله عليهم رجزا من السماء قال أبو العالية : هو الغضب وقال ابن زيد : هو الطاعون
وعلى هذا فالطاعون بالرصد لمن بدل دين الله قولا وعملا

فصل ومن تلاعب الشيطان بهم
أنهم كانوا في البرية قد ظلل عليه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى فملو ذلك وذكروا عيش الثوم والبصل والعدس والبقل والقثاء فسألوه موسى عليه السلام وهذا من سوء اختيارهم لأنفسهم وقلة بصرهم بالأغذية النافعة الملائمة واستبدال الأغذية الضارة القليلة التغذية منها ولهذا قال لهم موسى عليه السلام : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا أي مصرا من الأمصار فإن لكم ما سألتم

فكانوا في أفسح الأمكنة وأوسعها وأطيبها هواء وأبعدها عن الأذى ومجاورة الأنتان والأقذار سقفهم الذي يظلهم من الشمس : الغمام وطعامهم : السلوى وشرابهم : المن
قال ابن زيد : كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا وشرابهم واحدا كان شرابهم عسلا ينزل من السماء يقال له : المن وطعامهم طير يقال له : السلوى يأكلون الطير ويشربون العسل لم يكن لهم خبز ولا غيره
ومعلوم فضل هذا الغذاء والشراب على غيرهما من الأغذية والأشربة
وكانوا مع ذلك يتفجر لهم من الحجر اثنا عشر عينا من الماء فطلبوا الاستبدال بما هو دون ذلك بكثير فذموا على ذلك فكيف بمن استبدل الضلال بالهدى والغي بالرشاد والشرك بالتوحيد والسنة بالبدعة وخدمة الخالق بخدمة المخلوق والعيش الطيب في المساكن الطيبة في جوار الله تعالى بحظه من العيش النكد الفاني في هذه الدار

فصل ومن تلاعبه بهم
أنهم لما عرضت عليهم التوراة لم يقبلوها وقد شاهدوا من الآيات ما شاهدوه حتى أمر الله سبحانه جبريل فقلع جبلا من أصله على قدرهم ثم رفعه فوق رؤوسهم وقيل لهم : إن لم تقبلوها ألقيناه عليكم فقبلوه كرها قال الله تعالى : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون قال عبدالله بن وهب قال ابن زيد : لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لبني إسرائيل : إن هذه الألواح فيها كتاب الله وأمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه فقالوا : ومن يأخذ بقولك أنت لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله إلينا فيقول : هذا كتابي فخذوه فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى فيقول : هذا كتابي فخذوه فجاءت غضبة من الله تعالى فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا أجمعون قال : ثم أحياهم الله تعالى بعد موتهم فقال لهم موسى : خذوا كتاب الله فقالوا : لا فقال : أي شيء أصابكم قالوا : متنا ثم حيينا فقال : خذوا كتاب الله قالوا : لا قال : فبعث الله ملائكته فنتقت الجبل فوقهم فقيل لهم : أتعرفون هذا قالوا : نعم الطور قال : خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم قال : فأخذوه بالميثاق وقال السدى : لما قال الله تعالى لهم : ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فأبوا أن يسجدوا فأمر الله الجبل أن يرتفع فوق رؤوسهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجدا على شق ونظروا بالشق الآخر فكشفه عنهم ثم تولوا من بعد هذه الآيات وأعرضوا

ولم يعملوا بما في كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم فقال تعالى مذكرا لهؤلاء بما جرى من أسلافهم وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
فصل ومن تلاعبه بهم
أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه وفرق بهم البحر وأراهم الآيات والعجائب ونصرهم وآواهم وأعزهم وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين
ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم وفي ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم وأن تلك القرية لهم فأبوا طاعته وامتثال أمره وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون
وتأمل : تلطف نبي الله تعالى موسى عليه السلام بهم وحسن خطابه لهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم وبشارتهم بوعد الله لهم : بأن القرية مكتوبة لهم ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم وأنهم إن عصوا أمره ولم يمتثلوا : انقلبوا خاسرين
فجمع لهم بين الأمر والنهى والبشارة والنذارة والترغيب والترهيب والتذكير بالنعم السالفة فقابلوه أقبح المقابلة فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم : يا موسى إن فيها قوما جبارين فلم يوقروا رسول الله وكليمه حتى نادوه باسمه ولم يقولوا : يا نبى الله وقالوا : إن فيها قوما جبارين ونسوا قدرة جبار السموات والأرض الذي يذل الجبابرة لأهل طاعته وكان خوفهم من أولئك الجبارين الذين نواصيهم بيد الله أعظم من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه وكانوا أشد رهبة في صدورهم منه
ثم صرحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة فقالوا : إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد

أحدها : تمهيد عذر العصيان بقولهم إن فيها قوما جبارين
والثاني : تصريحهم بأنهم غير مطيعين وصدروا الجملة بحرف التأكيد وهو إن ثم حققوا النفي بأداة لن الدالة على نفي المستقبل أي لا ندخلها الآن ولا في المستقبل
ثم علقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها فقال لهم رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما بطاعته والانقياد إلى أمره من الذين يخافون الله هذا قول الأكثرين وهو الصحيح وقيل : من الذين يخافونهم من الجبارين أسلما واتبعا موسى عليه السلام ادخلوا عليهم الباب أي باب القرية فاهجموا عليهم فإنهم قد ملئوا منكم رعبا فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ثم ارشداهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل
فكان جواب القوم أن قالوا : يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فسبحان من عظم حلمه حيث يقابل أمره بمثل هذه المقابلة ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة بل وسعهم حلمه وكرمه وكان أقصى ما عاقبهم به : أن رددهم في برية التيه أربعين عاما يظلل عليهم الغمام من الحر وينزل عليهم المن والسلوى
وفي الصحيحين : عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه لذلك وسر به

فلما قابلوا نبي الله بهذه المقابلة قال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين

فصل ومن تلاعبه بهم في حياة نبيهم أيضا
ما قصه الله سبحانه وتعالى في كتابه من قصة القتيل الذي قتلوه وتدافعوا فيه حتى أمروا بذبح بقرة وضربه ببعضها
وفي هذه القصة أنواع من العبر :
منها : أن الإخبار بها من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم 
ومنها : الدلالة على نبوة موسى وأنه رسول رب العالمين
ومنها : الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم : من معاد الأبدان وقيام الموتى من قبورهم
ومنها : إثبات الفاعل المختار وأنه عالم بكل شيء قادر على كل شىء عدل لا يجوز عليه الظلم والجور حكيم لا يجوز عليه العبث
ومنها : إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق المتنوعات زيادة في هداية المهتدي وإعذارا وإنذارا للضال

ومنها : إنه لا ينبغي مقابلة أمر الله تعالى بالتعنت وكثرة الأسئلة بل يبادر إلى الإمتثال فإنهم لما أمروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا إلى الإمتثال بذبح أي بقرة اتفقت فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال بل هو بمنزلة قوله : اعتق رقبة وأطعم مسكينا وصم يوما ونحو ذلك ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب فإن الآية غنية عن البيان المنفصل مبينة بنفسها ولكن لما تعنتوا وشددوا شدد عليهم
قال أبو جعفر بن جرير عن الربيع عن أبي العالية : لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم
ومنها : أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذي لا يعلم المأمور به وجه الحكمة فيه بالإنكار وذلك نوع من الكفر فإن القوم لما قال لهم نبيهم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قابلوا هذا الأمر بقولهم أتتخذنا هزوا فلما لم يعلموا وجه الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألوه عنه قالوا : أتتخذنا هزوا وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك ولم يكن هو الآمر به ولو كان هو الآمر به لم يجز لمن آمن بالرسول أن يقابل أمره بذلك فلما قال لهم : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين وتيقنوا أن الله سبحانه أمره بذلك أخذوا في التعنت بسؤالهم عن عينها ولونها فلما أخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة عن عينها فلما تعينت لهم ولم يبق إشكال توقفوا في الامتثال ولم يكادوا يفعلون

ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم الآن جئت بالحق فإن أرادوا بذلك : أنك لم تأت بالحق قبل ذلك في أمر البقرة فتلك ردة وكفر ظاهر وإن أرادوا : أنك الآن بيت لنا البيان التام في تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر فإن البيان قد حصل بقوله إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فإنه لا إجمال في الأمر ولا في الفعل ولا في المذبوح فقد جاء رسول الله بالحق من أول مرة
قال محمد بن جرير : وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى : الآن جئت بالحق وزعم أن ذلك نفي منهم أن يكون موسى عليه السلام أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك وأن ذلك كفر منهم قال : وليس الأمر كما قال عندنا لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها وإن كان قولهم الذي قالوا لموسى جهلا منهم وهفوة من هفواتهم

فصل ومنها : الإخبار عن قساوة قلوب هذه الأمة وغلظها وعدم تمكن
الإيمان فيها قال عبد الصمد بن معقل عن وهب : كان ابن عباس يقول : إن القوم بعد أن أحي الله تعالى الميت فأخبرهم بقاتله أنكروا قتله وقالوا : والله ما قتلناه بعد أن رأوا الآيات والحق قال الله تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة
ومنها : مقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعا وقدرا فإن القاتل قصده ميراث المقتول ودفع القتل عن نفسه ففضحه الله تعالى وهتكه وحرمه ميراث المقتول
ومنها : أن بني إسرائيل فتنوا بالبقرة مرتين من بين سائر الدواب ففتنوا بعبادة العجل وفتنوا بالأمر بذبح البقرة والبقر من أبلد الحيوان حتى ليضرب به المثل
والظاهر : أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل ففي الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذي لا يمتنع من الذبح والحرث والسقي لا يصلح أن يكون إلها معبودا من دون الله تعالى وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقى والعمل

فصل ومن تلاعبه بهذه الأمة أيضا
ما قصه الله تعالى علينا من قصة أصحاب السبت حتى مسخهم قردة لما تحيلوا على استحلال محارم الله تعالى
ومعلوم أنهم كانوا يعصون الله تعالى بأكل الحرام واستباحة الفروج والحرام

والدم الحرام وذلك أعظم إثما من مجرد العمل يوم السبت ولكن لما استحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل وتلاعبوا بدينه وخادعوه مخادعة الصبيان ومسخوا دينه بالاحتيال مسخهم الله تعالى قردة وكان الله تعالى قد أباح لهم الصيد في كل أيام الأسبوع إلا يوما واحدا فلم يدعهم حرصهم وجشعهم حتى تعدوا إلى الصيد فيه وساعد القدر بأن عوقبوا بإمساك الحيتان عنهم في غير يوم السبت وإرسالها عليهم يوم السبت وهكذا يفعل الله سبحانه بمن تعرض لمحارمه فإنه يرسلها عليه بالقدر تزدلف إليه بأيها يبدأ فانظر ما فعل الحرص وما أوجب من الحرمان بالكلية ومن ههنا قيل : من طلبه كله فاته كله

فصل ومن تلاعب الشيطان بهم أيضا أنهم لما حرمت عليهم الشحوم
أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها وهذا من عدم فقههم وفهمهم عن الله تعالى دينه فان ثمنها بدل منها فتحريمها تحريم لبدلها والمعاوضة عنها كما أن تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير يتناول تحريم أعيانها وأبدالها

ومن تلاعبه بهم أيضا : إتخاذ قبور أنبيائهم مساجد وقد لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ولعنته تتناول فعلهم
ومن تلاعبه بهم أيضا : أنهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين لا تنال الهداية إلا على أيديهم ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى يحرمون عليهم ويحلون لهم فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم ولا يلتفتون : هل ذلك التحريم والتحليل من عند الله تعالى أم لا
قال عدي بن حاتم : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم  فسألته عن قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقلت : يا رسول الله ما عبدوهم فقال : حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم رواه الترمذي وغيره
وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالانسان : أن يقتل أو يقاتل من هداه على يديه ويتخذ من لم تضمن له عصمته ندا لله يحرم عليه ويحلل له ومن تلاعبه بهم : ما كان منهم في شأن زكريا ويحيى عليهما السلام وقتلهم لهما حتى سلط الله عليهم بختنصر وسنجاريب وجنودهما فنالوا منهم ما نالوه

ثم كان منهم في شأن المسيح ورميه وأمه بالعظائم وهم يعلمون أنه رسول الله تعالى إليهم فكفروا به بغيا وعنادا وراموا قتله وصلبه فصانه الله تعالى من ذلك ورفعه إليه وطهره منهم فأوقعوا القتل والصلب على شبهه وهم يظنون أنه رسول الله عيسى صلى الله عليه وسلم  فانتقم الله تعالى منهم ودمر عليهم أعظم تدمير وألزمهم كلهم حكم الكفر بتكذيبهم بالمسيح كما ألزم النصارى معهم حكم الكفر بتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم 
ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به في سفال ونقص إلى أن قطعهم الله تعالى في الأرض أمما ومزقهم كل ممزق وسلبهم عزهم وملكهم فلم يقم لهم بعد ذلك ملك إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم فكفروا به وكذبوه فأتم عليهم غضبه ودمرهم غاية التدمير وألزمهم ذلا وصغارا لا يرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح من السماء فيستأصل شأفتهم ويطهر الأرض منهم ومن عباد الصليب قال تعالى : بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين
فالغضب الأول : بسبب كفرهم بالمسيح والغضب الثاني : بسبب كفرهم بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما

فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة أن ألقى إليهم أن الرب تعالى
محجور عليه في نسخ الشرائع فحجروا عليه أن يفعل ما يشاء

ويحكم ما يريد وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية ترسا لهم في جحد نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم وقرروا ذلك بأن النسخ يستلزم البداء وهو على الله تعالى محال
وقد أكذبهم الله تعالى في نص التوراة كما أكذبهم في القرآن قال الله تعالى : كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
فتضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا في إبطال النسخ فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه
ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم اسرائيل وملته وأن الذي كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلالا لبني إسرائيل وهذا محض النسخ
وقوله تعالى : من قبل أن تنزل التوراة أي كانت حلالا لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك ثم قال تعالى : قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوارة عليكم أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة وإذا كان إنما حرم هذا وحده وكان ما سواه حلالا له ولبنيه وقد حرمت التوراة كثيرا منه ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحجر على الله تعالى في نسخها
فتأمل هذا الموضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين وما وردوه
وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة

من المناكح والذبائح والأفعال والأقوال وذلك نسخ لحكم البراءة الأصلية فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب إذ هذا شأن كل الشرائع وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى فيجعله حراما أو تحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا وأما رفع البراءة والاستصحاب فلم ينكره أحد من أهل الملل
ثم يقال لهذه الأمة الغضبية : هل تقرون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة
فيقال لهم : فهل رفعت التوراة شيئا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا
فإن قالوا : لم ترفع شيئا من أحكام تلك الشرائع فقد جاهروا بالكذب
والبهت وإن قالوا : قد رفعت بعض الشرائع المتقدمة فقد أقروا بالنسخ قطعا

وأيضا فيقال للأمة الغضبية : هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى عليه السلام فإن قالوا : نعم قلنا : أليس في التوراة أن من مس عظم ميت أو وطيء قبرا أو حضر حضر ميتا عند موته فإنه يصير من النجاسة بحال لا مخرج له منها إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها فلا يمكنهم إنكار ذلك فيقال لهم : فهل أنتم اليوم على ذلك
فإن قالوا : لا نقدر عليه فيقال لهم : لم جعلتم أن من مس العظم والقبر والميت طاهرا يصلح للصلاة والذي في كتابكم خلافه
فإن قالوا : لأنا عدمنا أسباب الطهارة وهي رماد البقرة وعدمنا الإمام المطهر المستغفر
فيقال لهم : فهل أغناكم عدمه عن فعله أو لم يغنكم
فإن قالوا : أغنانا عدمه عن فعله
قيل لهم : قد تبدل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر
فيقال : وكذلك يتبدل الحكم الشرعي بنسخه لمصلحة النسخ فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشيء يكون مصلحة في وقت دون وقت وفي شريعة دون أخرى كما كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة في شريعة آدم عليه السلام
ثم صار مفسدة في سائر الشرائع وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحة في شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله وفي سائر الشرائع ثم صار مفسدة في شريعة موسى عليه السلام وأمثال ذلك كثيرة
وإن منعتم مراعاة المصالح في الأحكام ومنعتم تعليلها بها فالأمر حينئذ أظهر
فإنه سبحانه يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء والتحليل والتحريم تبع لمجرد مشيئته لا يسأل عما يفعل وإن قلتم : لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطهور الذي كان عليه أسلافنا فقد أقررتم بأنكم الأنجاس أبدا ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة

فإن قالوا : نعم الأمر كذلك
قيل لهم : فإذا كنتم أنجاسا على مقتضى أصولكم فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالا تخرجون فيه إلى حد لو أن أحدكم لمس ثوبه ثوب المرأة نجستموه مع ثوبه
فإن قلتم : ذلك من أحكام التوراة
قيل لكم : ليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم والنجاسة التي أنتم عليها لا ترتفع بالغسل فهي إذا أشد من نجاسة الحيض
ثم إنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم ولا تنحسون من لمسها ولا الثوب الذي تلمسه فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة
فصل قالت الأمة الغضبية : التوراة قد حظرت أمورا كانت مباحة من
قبل ولم تأت بإباحة محظور والنسخ الذي ننكره ونمنع منه : هو ما أوجب إباحة محظور لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها فإذا جاء من أباحه علمنا بإباحة المفسدة : أنه غير نبي بخلاف تحريم ما كان مباحا فإنا نكون متعبدين بتحريمه
قالوا : وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة مع أنه إنما حرم لما فيه من المفسدة
فهذه النكتة هي التي تعتمد عليها الأمة الغضبية ويتلقاها خالف منهم عن سالف
والمتكلمون لم يشفوهم في جوابها وإنما أطالوا معهم الكلام في رفع البراءة الأصلية بالشرائع وفي نسخ الإباحة بالتحريم
ولعمر الله إنه بما يبطل شبهتهم لأن رفع البراءة الأصلية ورفع الإباحة بالتحريم : هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابي أو الشرعي بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره ولا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم أو تغيير التحريم بالإباحة

والشبهة التي عرضت لهم في أحد الموضعين هي بعينها في الموضع الآخر فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته إذ لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة باباحته فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجب قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة كما كان إباحته في الشريعة الأولى هو المصلحة فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة في الشريعة الأولى إباحة المفاسد وحاشا لله تضمن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح وكلاهما باطل قطعا
فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومن تقدمه يستبيحه فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورا
وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هي التي ردت بها الأمة الغضبية نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  هي بعينها رد بها أسلافهم نبوة المسيح وتوارثوها كافرا عن كافر وقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم  كما قال أسلافهم للمسيح : لا نقر بنبوة من غير شريعة التوراة
فيقال لهم : فكيف أقررتم لموسى بالنبوة وقد جاء بتغيير بعض شرائع من تقدمه فإن قدح ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح في موسى فلا تقدحون في نبوتهما بقادح

إلا ومثله في نبوة موسى سواء كما أنكم لا تثبتون نبوة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم  فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول أو يكون المسيح رسولا ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس برسول
ويقال للأمة الغضبية أيضا : لا يخلو المحرم إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته بحيث تمنع إباحته في زمان من الأزمنة وإما أن يكون تحريمه لما تضمنه من المفسدة في زمان دون زمان ومكان دون مكان وحال دون حال
فإن كان الأول لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء عليهم السلام
وإن كان الثاني ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال فيكون الشيء الواحد حراما في ملة دون ملة وفي وقت دون وقت وفي مكان دون مكان وفي حال دون حال وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حراما على إبراهيم ونوح وسائر النبيين
وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبي وفي كل شريعة
وإذا كان الرب تعالى لا حجر عليه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ويبتلي عباده بما يشاء ويحكم ولا يحكم عليه فما الذي يحيل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة ثم ينهى أمة أخرى عنه أو يحرم محرما على أمة ويبيحه لأمة أخرى
بل أي شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين بحسب المصلحة وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض [ ]
فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء ويثبت

فهكذا أحكامه الدينية الأمرية ينسخ منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم : أن يعارض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى وتدفع نبوته وتجحد رسالته : بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم وبالله التوفيق يضل من يشاء ويهدي من يشاء
ومن العجب أن هذه الامة الغضبية تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم
فمن ذلك : أنهم يقولون في صلاتهم ما ترجمته هكذا : اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل
ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا : أردد حكامنا كالأولين ومسراتنا كالابتداء وابن أو رشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا بابتنائها سبحانك ياباني يورشليم
فهذا قولهم في صلاتهم مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك ولكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم
وكذلك صيامهم كصوم إحراق بيت المقدس وصوم أحصا وصوم كدليا التي جعلوها فرضا لم يصمها موسى ولا يوشع بن نون وكذلك صوم صلب هامان ليس شيء من ذلك في التوراة وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم
هذا مع أن في التوراة ما ترجمته لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا ولا تنقصوا منه شيئا وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا هم مجمعون على تعطيلها وإلغائها فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام أو باجتهاد

علمائهم وعلى التقادير الثلاث فقد بطلت شبهتهم في إنكار النسخ ثم من العجب أن أكبر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول والعمل بها إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وأمرائهم وقد اتفقوا على تعطيل الرجم للزاني وهو نص التوراة وتعطيل أحكام كثيرة منصوصة في التوراة ومن تلاعب الشيطان بهم
أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالا وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه
وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم كما تكبر إبليس أن يسجد لأدم ورأى أن ذلك يغض منه ثم رضي أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق
وكما أبى عباد الأصنام أن يكون النبي المرسل إليهم بشرا ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجرا
وكما نزهت النصارى بتاركتهم عن الولد والصاحبة ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى الله سبحانه وتعالى وكما نزهت الفرعونية من الجهمية الرب سبحانه أن يكون مستويا على عرشه لئلا يلزم الحصر ثم جعلوه سبحانه في الآبار والحانات وأجواف الحيوانات

فصل ومن تلاعب الشيطان بهم ما شددوه على أنفسهم في باب الذبائح
وغيرها مما ليس له أصل عن موسى عليه السلام ولا هو في التوراة وإنما هو من أوضاع الحاخاميم وآرائهم وهم فقهاؤهم
ولقد كان لهذه الأمة في قديم الزمان بالشأم والعراق والمدائن مدارس وفقهاء كثيرون وذلك في زمن دولة البابليين والفرس ودولة اليونان والروم حتى اجتمع فقهاؤهم في بعض تلك الدول على تأليف المشنا والتلمود
فأما المشنا فهو الكتاب الأصغر ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة
وأما التلمود فهو الكتاب الأكبر ومبلغه نحو نصف حمل بغل لكبره ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه في عصر واحد وإنما ألفوه جيلا بعد جيل فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه وأن في الزيادات المتأخرة ما يناقض أوائل هذا التأليف علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه أدى إلى الخلل الذي لا يمكن سده قطعوا الزيادة فيه ومنعوا منها وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه وإضافة شيء آخر إليه وحرموا من يضيف إليه شيئا آخر فوقف على ذلك المقدار
وكانت أئمتهم قد حرموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة الأجانب وهم من كان على غير ملتهم فحرموا عليهم الأكل من ذبيحة من لم يكن على دينهم لأن علماءهم علموا أن دينهم لا يبقى في هذه الجلوة مع كونهم تحت الذل والعبودية إلا أن يصدوهم عن مخالطة من هو على غير ملتهم فحرموا عليهم الأكل من ذبائحهم ومناكحتهم ولم يمكن تقرير ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم ويكذبون بها على الله تعالى لأن التوراة إنما حرمت عليهم

مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا الأزواج في عبادة الأصنام والشرك وحرم عليهم في التوراة أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانا إلى الأصنام لأنه قد سمي عليها اسم غير الله تعالى فأما الذبائح التي لم تذبح قربانا للأصنام فلم تنطق التوراة بتحريمها وإنما نطقت بإباحة الأكل من أيدي غيرهم من الأمم وموسى عليه السلام إنما نهاهم عن مناكحة عباد الأصنام وأكل ما يذبحونها على اسمها
فما بال هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين وهم لا يذبحون للأصنام ولا يذكرون اسمها عليها
فلما نظر أئمتهم إلى أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام وأن التوراة قد صرحت بأن تحريم مواكلتهم ومخالطتهم خوف استدارج المخالطة إلى المناكحة وأن مناكحتهم إنما منع منها خوف استتباعها إلى الانتقال إلى أديانهم وعبادة أوثانهم ووجدوا جميع هذا واضحا في التوراة اختلقوا كتابا في علم الذباحة ووضعوا فيه من التشديد والآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل والمشقة
وذلك أنهم أمروهم أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملوها هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا فإن خرج منها الهواء حرموها وإن كان بعض أطراف الرئة لاصقا ببعض لم يأكلوه وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة ويتأمل بأصابعه فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر أو أحد الجانبين ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة حرموه ولم يأكلوه وسموه طريفا يعنون بذلك أنه تنجس وأكله حرام

وهذه التسمية هي أصل بلائهم
وذلك أن التوراة حرمت عليهم أكل الطريفا والطريفا : هي الفريسة التي يفترسها الأسد أو الذئب أو غيرها من السباع وهو الذي عبر عنه القرآن بقوله تعالى : وما أكل السبع
والدليل على ذلك : أنه قال في التوراة : ولحما في الصحراء فريسة لا تأكلوه وللكلب ألقوه
وأصل لفظ طريفا طوارف وقد جاءت هذه اللفظة في التوراة في قصة يوسف عليه السلام لما جاء إخوته على قميصه بدم كذب وزعموا أن الذئب افترسه وقال في الترواة : ولحما في الصحراء فريسة لا تأكلوا والفريسة إنما توجد غالبا في الصحراء وكان سبب نزول هذا عليهم : أنهم كانوا ذوي أخبية يسكنون البر لأنهم مكثوا يترددون في التيه أربعين سنة وكانوا لا يجدون طعاما إلا المن والسلوى وهو طائر صغير يشبه السمان وفيه من الخاصية : أن أكل لحمه يلين القلب ويذهب بالخنزوانه والقساوة فإن هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد كما أن الخطاف يقتله البرد فألهمه الله سبحانه وتعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض فجلب الله تعالى إليهم هذا الطائر لينتفعوا به ويكون اغتذاؤهم به كالدواء لغلظ قلوبهم وقسوتها

والمقصود : أن مشايخهم تعدوا في تفسير الطريفا عن موضوعها وما أريد بها وكذلك فقهاؤهم اختلقوا من أنفسهم هذيانات وخرافات تتعلق بالرئة والقلب وقالوا : ما كان من الذبائح سليما من تلك الشروط فهو دحيا ومعنى هذه اللفظة أنه طاهر وما كان خارجا عن هذه الشروط فهو طريفا وتفسيرها : أنه حرام
قالوا : ومعنى نص التوراة ولحما فريسة في الصحراء لا تأكلوه وللكلب ألقوه أي إنكم إذا ذبحتم ذبيحة ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها بل تبيعونها على من ليس من أهل ملتكم
وفسروا قوله للكلب ألقوه أي لمن ليس من أهل ملتكم فأطعموه وبيعوه وهم أحق بهذا اللقب وأشبه الناس بالكلاب [ فرقتا اليهود ]
ثم إن هذه الأمة الغضبية فرقتان إحداهما : عرفوا أن أولئك السلف الذين ألفوا المشنا والتلمود هم فقهاء اليهود وهم قوم كذابون على الله وعلى موسى النبي وهم أصحاب حماقات وتنطع ودعاوى كاذبة يزعمون أنهم كانوا إذا اختلفوا في شيء من تلك المسائل يوحى الله تعالى إليهم بصوت يسمعه جمهورهم يقول : الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان ويسمون هذا الصوت بث قول فلما نظرت اليهود القراءون وهم أصحاب عانان وبنيامين إلى هذه المحالات الشنيعة وهذا الافتراء الفاحش والكذب البارد وانفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء وعن كل من يقول بمقالاتهم وكذبوهم في كل ما افتروا به على الله وزعموا أنه لا يجوز قبول شيء من أقوالهم حيث ادعوا النبوة وأن الله تعالى كان يوحي إليهم كما يوحي إلى الأنبياء

وأما تلك الترهات التي ألفها الحاخاميم وهم فقهاؤهم ونسبوها إلى التوراة وإلى موسى فإن القرائين أطرحوها كلها وألقوها ولم يحرموا شيئا من الذبائح التي يتولون ذباحتها البته ولم يحرموا سوى لحم الجدي بلبن أمه فقط
مراعاة لنص التوراة لا تنضج الجدي بلبن أمه وليسوا بأصحاب قياس بل أصحاب ظاهر فقط وأما الفرقة الثانية فهم الربانون وهم أصحاب القياس وهم أكثر عددا من القرائين وفيهم الحاخاميم المفترون على الله تعالى الكذب الذين زعموا أن الله تعالى كان يخاطب جميعهم في كل مسألة مسألهبالصوت الذي يسمونه بث قول
وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم لأن حاخاميمهم أوهموهم أن المأكولات إنما تحل للناس إن استعملوا فيها هذا العلم الذي نسبوه إلى موسى عليه السلام وإلى الله تعالى وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا وأنهم إنما شرفهم الله تعالى بهذا وأمثال ذلك من الترهات فصار أحدهم ينظر إلى من ليس على مذهبه وملته كما ينظر إلى الحيوان الهيم وينظر مآكل الأمم وذبائحهم كما ينظر إلى العذرة
وهذا من كيد الشيطان لهم ولعبه بهم فإن الحاخاميم قصدوا بذلك المبالغة في مخالفتهم الأمم والإزراء عليهم ونسبتهم إلى قلة العلم وأنهم اختصوا دون الأمم بهذه الآصار والأغلال والتشديدات
وكلما كان الحاخاميم فيهم أكثر تكلفا وأشد إصرا وأكثر تحريما قالوا : هذا هو العالم الرباني
ومما دعاهم إلى التضييق والتشديد : أنهم مبددون في شرق الأرض وغربها فما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة يظهر لهم الخشونة في دينهم والمبالغة في الاحتياط فإن كان من المتفقهة فهو يسرع في إنكار أشياء عليهم ويوهمهم التنزه عما هم عليهم وينسبهم إلى قلة الدين وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخه وإلى أهل بلده

ويكون في أكثر تلك الأشياء كاذبا وقصده بذلك إما الرياسة عليهم وإما تحصيل بعض مآربه منهم ولا سيما إن أراد المقام عندهم
فتراه أول ما ينزل بهم لا يأكل من أطعمتهم ولا من ذبائحهم ويتأمل سكين ذابحهم وينكر عليهم بعض أمره ويقول : أنا لا آكل إلا من ذبيحة يدي فتراهم معه في عذاب لا يزال ينكر عليهم المباح ويوهمهم تحريمه بأشياء يخترعها حتى لا يشكون في ذلك
فإن قدم عليهم قادم آخر فخاف المقيم أن ينقض عليه القادم تلقاه وأكرمه وسعى في موافقته وتصديقه فيستحسن مافعله الأول ويقول لهم : لقد عظم الله تعالى ثواب فلان إذ قوى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة وشد سياج الشرع عندهم وإذا لقيه يظهر من مدحه وشكره والدعاء له ما يؤكد أمره
وإن كان القادم الثاني منكرا لما جاء به الأول من التشديد والتضييق لم يقع عندهم بموقع وينسبونه إما إلى الجهل وإما إلى رقة الدين لأنهم يعتقدون أن تضييق المعيشة وتحريم الحلال هو المبالغة في الدين
وهم أبدا يعتقدون الصواب والحق مع من يشدد ويضيق عليهم هذا إن كان القادم من فقهائهم
فأما إن كانوا من عبادهم وأحبارهم فهناك ترى العجب العجاب من الناموس الذي يعتمد والسنن التي يحدثها ويلحقها بالفرائض فتراهم مسلمين له منقادين وهو يحتلب درهم ويجتلب درهمهم حتى إذا بلغه أن يهوديا جلس على قارعة الطريق يوم السبت أو اشترى لبنا من مسلم ثلبه وسبه في مجمع اليهود وأباح عرضه ونسبه إلى قلة الدين

فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم إذا رأوا الأمر أو
النهي مما أمروا به أو نهوا عنه شاقا عليهم طلبوا التخلص منه بوجوه الحيل فإن أعيتهم الحيل قالوا : هذا كان علينا لما كان لنا الملك والرياسة
فمن ذلك : أنهم إذا أقام أخوان في موضع واحد ومات أحدهما ولم يعقب ولدا فلا تخرج امرأة الميت إلى رجل أجنبي بل ولد حميها ينكحها وأول ولد ممن ينكحها ينسب إلى أخيه الدارج فإن أبى أن ينكحها خرجت مشتكية منه إلى مشيخة قومه تقول : قد أبى ابن حمي أن يستبقى اسما لأخيه في إسرائيل ولم يرد نكاحي فيحضره الحاكم هناك ويكلفه أن يقف ويقول : ما أردت نكاحها فتتناول المرأة نعله فتخرجها من رجله وتمسكها بيدها وتبصق في وجهه وتنادي عليه : كذا فليصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه ويدعى فيما بعد : بالمخلوع النعل وينبز بنوه ببني مخلوع النعل
هذا كله مفترض عليهم فيما يزعمون في التوراة وفيه حكمة ملجئة للرجل إلى نكاح زوجة أخيه الدارج فإنه إذا علم أن ذلك يناله إن لم ينكحها آثر نكاحها عليه فإن كان مبغضا لها زهدا في نكاحها أو كانت هي زاهدة في نكاحه مبغضة له استخرج له الفقهاء حيلة يتخلص بها منها وتتخلص منه فيلزمونها الحضور عند الحاكم بمحضر من مشايخهم ويلقنونها أن تقول : أبى ابن حمى أن يقيم لأخيه اسما في إسرائيل لم يرد نكاحي فيلزمونها بالكذب عليه لأنه أراد نكاحها وكرهته وإذا لقنوها هذه الألفاظ قالتها فيأمرونه بالكذب وأن يقوم ويقول : ما أرت نكاحها ولعل ذلك سؤله وأمنيته فيأمرونه بأن يكذب ولم يكفهم أن كذبوا عليه وألزموه أن يكذب حتى سلطوها على الإخراق به والبصاق في وجهه ويسمون هذه المسألة البياما والجالوس
وقد تقدم من التنبيه على حيلهم في استباحتهم محارم الله تعالى بعض ما فيه كفاية
فالقوم بيت الحيل والمكر والخبث
وقد كانوا يتنوعون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنواع الحيل والكيد والمكر عليه وعلى أصحابه ويرد الله سبحانه وتعالى ذلك كله عليهم
فتحيلوا عليه وأرادوا قتله مرارا والله تعالى ينجيه من كيدهم

فتحيلوا عليه وصعدوا فوق سطح وأخذوا رحا أرادوا طرحها عليه وهو جالس في ظلحائط فأتاه الوحي فقام منصرفا وأخذ في حربهم وإجلائهم
ومكروا به وظاهروا عليه أعدائه من المشركين فظفره الله تعالى بهم
ومكروا به وأخذوا في جمع العدو له فظفره الله تعالى برئيسهم فقتله
ومكروا به وأرادوا قتله بالسم فأعلمه الله تعالى به ونجاه منه

ومكروا به فسحروه حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله فشفاه الله تعالى وخلصه
ومكروا به في قولهم : آمنوا به وجه النهار واكفروا آخره يريدون بذلك تشكيك المسلمين في نبوته فإنهم إذا اسلموا اول النهار إطمأن المسلمون إليهم وقالوا : قد اتبعوا الحق وظهرت لهم أدلته فيكفرون آخر النهار ويجحدون نبوته ويقولون : لم نقصد إلا الحق واتباعه فلما تبين لنا أنه ليس به رجعنا عن الإيمان به
وهذا من أعظم خبثهم ومكرهم
ولم يزالوا موضعين مجتهدين في المكر والخبث إلى أن أخزاهم الله بيد رسوله وأتباعه صلى الله عليه و سلمورضي عنهم أعظم الخزي ومزقهم كل ممزق وشتت شملهم كل مشتت
وكانوا يعاهدونه عليه الصلاة و السلام ويصالحونه فإذا خرج لحرب عدوه نقضوا عهده
ولما سلب الله تعالى هذه الأمة ملكها وعزها وأذلها وقطعهم في الأرض انتقلوا من التدبير بالقدرة والسلطان إلى التدبير بالمكر والدهاء والخيانة والخداع وكذلك كل عاجز جبان سلطانه في مكره وخداعه وبهته وكذبه ولذلك كان النساء بيت المكر والخداع والكذب والخيانة كما قال الله تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام أنه قال : إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة
أنهم يمثلون أنفسهم بعناقيد الكرم وسائر الأمم بالشوك المحيط بأعالي حيطان الكرم

وهذا من غاية جهلهم وسفههم فإن المعتنين بمصالح الكرم إنما يجعلون على أعالي حيطانه الشوك حفظا له وحياطة وصيانة ولسنا نرى لليهود من سائر الأمم إلا الضرر والذل والصغار كما يفعل الناس بالشوك ومن تلاعبه بهم أنهم ينتظرون قائما من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم وأن هذا المنتظر يزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به
وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال فهم أكثر أتباعه وإلا فمسيح الهدى عيسى بن مريم عليه السلام يقتلهم ولا يبقي منهم أحدا
والأمم الثلاث تنتظر منتظرا يخرج في آخر الزمان فإنهم وعدوا به في كل ملة والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى بن مريم من السماء لكسر الصليب وقتل الخنزير وقتل اعدائه من اليهود وعباده من النصارى وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا

فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم في العشر الأول من
الشهر الأول من كل سنة يقولون في صلاتهم : لم تقول الأمم : أين إلههم انتبه كم تنام يا رب استيقظ من رقدتك
وهؤلاء إنما أقدموا على هذه الكفريات من شدة ضجرهم من الذل والعبودية وانتظار فرج لا يزداد منهم إلا بعدا فأوقعهم ذلك في الكفر والتزندق الذي لا يستحسنه إلا أمثالهم وتجرؤا على الله سبحانه وتعالى بهذه المناجاة القبيحة كأنهم ينخونه بذلك لينتخي لهم ويحمي لنفسه فكأنهم يخبرونه سبحانه وتعالى بأنه قد اختار الخمول لنفسه ولأحبابه ولأبناء أنبيائه فينخونه للنباهة واشتهار الصيت

فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يقشعر جلده ولا يشك أن هذه المناجاة تقع عند الله تعالى بموقع عظيم وأنها تؤثر فيه وتحركه وتهره وتنخيه ومن ذلك : أنهم ينسبون إلى الله سبحانه وتعالى الندم على الفعل فمن ذلك : قولهم في التوراة التي بأيديهم : وندم الله سبحانه وتعالى على خلق البشر الذين في الأرض وشق عليه وعاد في رأيه
وذلك عندهم في قصة قوم نوح
وزعموا أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لما رأى فساد قوم نوح وأن شركهم وكفرهم قد عظم ندم على خلق البشر
وكثير منهم يقول : إنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وأنه عض على أنامله حتى جرى الدم منها
وقالوا أيضا : إن الله تعالى ندم على تمليكه شاؤول على بني إسرائيل وأنه قال ذلك لشمويل
وعندهم أيضا : أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة بدأ ببناء مذبح لله تعالى وقرب عليه قرابين وأن الله تعالى استنشق رائحة القتار فقال الله تعالى في ذاته : لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة ولن أهلك جميع الحيوان كما صنعت
وقد واجهوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بأمثال هذه الكفريات
فقال قائل منهم للنبي صلى الله عليه و سلم إن الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح فشق ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب

وتأمل قوله تعالى عقيب ذلك : فاصبر على ما يقولون فإن أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم نسبوه إلى ما لا يليق به وقالوا فيه ما هو منزه عنه فأمره الله سبحانه وتعالى أن يصبر على قولهم ويكون له أسوة بربه سبحانه وتعالى حيث قال أعداؤه فيه مالا يليق
وكذلك قال فنحاص لأبي بكر رضي الله عنه : إن الله فقير ونحن أغنياء ولهذا استقرضنا من أموالنا فأنزل الله سبحانه وتعالى : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن اغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق [ ]
وقالوا أيضا يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ويقولون في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة : يا إلهنا وإله آبائنا املك على جميع أهل الأرض ليقول كل ذي نسمة : الله إله إسرائيل قد ملك ومملكته في الكل متسلطة
ويقولون في هذه الصلاة أيضا : وسيكون لله تعالى الملك وفي ذلك اليوم يكون الله تعالى واحدا واسمه واحدا
ويعنون بذلك : أنه لا يظهر الملك لله تعالى إلا إذا صارت الدولة لليهود الذين هم صفوته

وأمته فأما ما دامت الدولة لغير اليهود فإنه سبحانه وتعالى خامل الذكر عند الأمم مطعون في ملكه مشكوك في قدرته

فصل ومن تلاعب الشيطان بهم
أنهم يقولون بالقدح في الأنبياء وأذيتهم
وقد أذوا موسى عليه السلام في حياته ونسبوه إلى ما برأه الله تعالى منه ونهى الله سبحانه هذه الأمة عن الاقتداء بهم في ذلك حيث يقول يا أيها الذين ا منوا لا تكونوا كالذين ا ذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها
وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالت بنو إسرائيل : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه ا در فذهب موسى يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال : فجمح موسى بأثره يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى وقالوا : والله ما بموسى من بأس فقال الحجر حتى نظر إليه بنو إسرائيل وأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضربا قال أبو هريرة : والله إن بالحجر لندبا ستة أو سبعة من أثر ضرب موسى الحجر وأنزل الله تعالى هذه الا ية يا أيها الذين ا منوا لا تكونوا كالذين ا ذوا موسى فبرأه الله مما قالوا الآية
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد قالت بنو إسرائيل : إن موسى ا در وقالت طائفة : هو أبرص من شدة تستره
وقال ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم  كان موسى حييا ستيرا لا يكاد يرى من جلده شيء استحياء منه فا ذاه من ا ذاه من بني إسرائيل وقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة وإما ا فة وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وذكر الحديث

وقال سفيان بن حسين عن الحكم عن ابن جبير عن ابن عباس عن على بن أبي طالب في قوله تعالى : لا تكونوا كالذين آذوا موسى قال : صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل : أنت قتلته وكان أشد حبا لنا منك وألين لنا منك وآذوه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات فبرأه الله تعالى من ذلك فانطلقوا به فدفنوه فلم يطلع على قبره أحد من خلق الله تعالى إلا الرخم فجعله الله تعالى أصم أبكم
وقال الله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم
وتأمل قوله : وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فإنها جملة في موضع الحال أي أتؤذونني وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم وذلك أبلغ في العناد
وكذلك المسيح قال : يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين
فهذا قليل من كثير من أذاهم لأنبيائهم
وأما أذاهم لهم بالقتل والبغي فأشهر من أن يذكر
ولقد بالغوا في أذى النبي صلى الله عليه و سلم بجهدهم بالقول والفعل حتى ردهم الله تعالى خاسئين
ومن قدحهم في الأنبياء : ما نسبوه إلى نص التوراة
أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها ونجى لوطا بابنتيه فقط ظن ابنتاه أن الأرض قد

خلت ممن يستبقين منه نسلا فقالت الصغرى للكبرى : إن أبانا شيخ ولم يبق في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر فهلمي نسقي أبانا خمرا ونضاجعه لنستبقي من أبينا نسلا ففعلتا ذلك بزعمهم
فنسبوا لوطا النبي عليه السلام إلى أنه سكر حتى لم يعرف ابنتيه ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما فولدت إحداهما ولدا أسمته مواب يعني أنه من الأب والثانية سمت ولدها بني عمو يعني أنه من قبيلها
وقد أجاب بعضهم عن هذا : بأنه كان قبل نزول التوراة فلم يكن نكاح الأقارب حراما والتوراة تكذبهم
فإن فيها أن إبراهيم الخليل خاف في ذلك العصر أن يقتله المصريون حسدا له على زوجته سارة فأخفى نكاحها وقال : هي أختي علما منه بأنه إذا قال ذلك لم يبق للظنون إليهما سبيل
وهذا أظهر دليل على أن تحريم نكاح الأخت كان ثابتا في ذلك الزمان فما ظنك بنكاح البنت الذي لم يشرع ولا في زمن آدم عليه السلام
وعندهم أيضا في التوراة التي بأيديهم : قصة أعجب من هذه
وهي أن يهوذا بن يعقوب النبي زوج ولده الأكبر من امرأة يقال لها تامار فكان يأتيها مستدبرا فغضب الله تعالى من فعله فأماته فزوجها يهوذا من ولده الآخر فكان إذا دخل بها أنزل على الأرض علما منه بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعوا باسم أخيه ومنسوبا إلى أخيه فكره الله تعالى ذلك من فعله فأماته أيضا فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر ولده شبلا ويتم عقله حذرا من أن يصيبه ما أصاب أخويه فأقامت في بيت أبيها ثم ماتت من بعد زوجة يهوذا وصعد إلى منزل [ يقال له تمناث ] ليحرس غنمه فلما أخبرت المرأة تامار بإصعاد حموها إلى المنزل لبست زي الزواني وجلست في مستشرف على طريقه لعلمها بشبقه فلما مر بها خالها زانية فراودها فطالبته بالأجرة فوعدها بجدى ورهن عندها عصاه وخاتمه ودخل بها فعلقت منه فلما أخبر يهوذا أن كنته علقت من الزنا أذن

بإحراقها فبعثت إليه بخاتمه وعصاه فقالت : من رب هذين أنا حامل فقال : صدقت ومني ذلك واعتذر بأنه لم يعرفها ولم يستحل معاودتها ولا تسليمها إلى ولده وعلقت من هذا الزنا بفارص قالوا : ومن ولدها داود النبي
ففي ذلك من نسبتهم الزنا والكفر إلى بيت النبوة ما يقارب ما نسبوه إلى لوط عليه السلام
وهذا كله عندهم وفي نص كتابهم وهم يجعلون هذا نسبا لداود وسليمان عليهما السلام ولمسيحهم المنتظر ومن العجب : أنهم يجعلون المسلمين أولاد زنا ويسمونهم ممزيريم واحدهم ممزير وهو اسم لولد الزنا لأن شرعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت زوجا غيره فأولادهما أولاد زنا وزعموا أن ما جاءت به شريعة الإسلام من ذلك هو من موضوعات عبدالله بن سلام قصد به أن يجعل أولاد المسلمين ممزيريم بزعمهم
قالوا : وكان محمد صلى الله عليه وسلم قد رأى أحلاما تدل على أنه صاحب دولة فسافر إلى الشام في تجارة لخديجة واجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صاحب دولة فأصحبوه عبدالله بن سلام فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدة ونسبوا الفصاحة والإعجاز اللذين في القرآن إلى عبدالله بن سلام وأن من جملة ما دبره عبدالله بن سلام : أن الزوجة لا تحل للمطلق ثلاثا إلا بعد أن ينكحها رجل آخر ليجعل أولاد المسلمين ممزيريم أولاد زنا
ولا ريب أن مثل هذا البهت يروج على كثير من حميرهم
وقد خلق الله تعالى لكل باطل وبهت حملة كما جعل للحق حملة وليس وراء هذا البهت بهت
وليس بمستنكر من أمة قدحت في معبودها وإلهها ونسبته إلى ما لا يليق بعظمته وجلاله ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم ورمتهم بالعظائم : أن ينسبوا محمدا صلى الله عليه وسلم 

وبجل وكرم وعظم إلى ذلك وعداوته لهم وملاحمه فيهم وإجلاؤه لهم من ديارهم وأموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم : معلوم غير مجهول
وقد نسبت هذه الأمة الغضبية عيسى ابن مريم إلى أنه ساحر ولد بغية ونسبت أمه إلى الفجور
ونسبت لوطا إلى أنه وطىء ابنتيه وأولدهما وهو سكران من الخمر
ونسبوا سليمان عليه السلام إلى أنه كان ملكا ساحرا وكان أبوه عندهم ملكا مسيحا
ونسبوا يوسف عليه السلام إلى أنه حل تكة سراويله وتكة سراويل سيدته وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته وأن الحائط انشق له فرأى أباه يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله فلم يقم حتى نزل جبريل عليه السلام فقال : يا يوسف تكون من الزناة وأنت معدود عند الله تعالى من الأنبياء فقام حينئذ
ومعلوم أن ترك الفاحشة عن هذا لا مدح فيه فإن أفسق الناس لو رأى هذا لولى هاربا وترك الفاحشة
ومنهم من يزعم أن المسيح كان من العلماء وأنه كان يداوى المرضى بالأدوية ويوهمهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائهم وأنه داوى جماعة من المرضى في يوم السبت فأنكرت عليه اليهود ذلك فقال لهم : أخبروني عن الشاة من الغنم إن وقعت في بئر أما تنزلون إليها وتحلون السبت لتخليصها قالوا : بلى قال : فلم أحللتم السبت لتخليص الغنم ولا تحلونه لتخليص الإنسان الذي هو أكبر حرمة من الغنم فأفحموا

ويحكون أيضا عنه : أنه مشى مع قوم من تلاميذه في جبل ولم يحضرهم الطعام فأذن لهم في تناول الحشيش يوم السبت فأنكرت عليه اليهود قطع الحشيش في يوم السبت فقال لهم : أرأيتم لو أن أحدكم كان وحيدا مع قوم على غير ملته وأمروه بقطع النبات وإلقائه لدوابهم لا يقصدون بذلك إبطال السبت ألستم تجيزون له قطع النبات قالوا : بلى قال : فإن هؤلاء القوم أمرتهم بقطع النبات ليأكلوه وليتغذوا به لا لقطع السبت
ومن العجب : أن عندهم في التوراة التي بأيديهم : لا يزول الملك من آل يهوذا والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح وهم لا يقدرون أن يجحدوا ذلك
فيقال لهم : إنكم كنتم أصحاب دولة حتى ظهر المسيح ثم انقضى ملككم ولم يبق لكم اليوم ملك وهذا برهان على أن المسيح قد أرسل
ومن حين بعث المسيح وكفروا به وطلبوا قتله استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس وانقضت دولتهم وتفرق شملهم
فيقال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم
فيقولون : إنه ولد يوسف النجار لغية لا لرشدة وقد كان عرف اسم الله الأعظم يسخر به كثيرا من الأشياء
وعند هذه الأمة الغضبية أيضا : أن الله تعالى كان قد أطلع موسى عليه السلام على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفا وبه شق البحر وعمل المعجزات فيقال لهم : فإذا كان موسى قد عمل المعجزات باسم الله فلم صدقتم نبوته وأقررتم بها وجحدتم نبوة عيسى وقد عمل المعجزات بالاسم الأعظم

فأجاب بعضهم عن الإلزام : بأن الله سبحانه وتعالى علم موسى ذلك الاسم فعلمه بالوحي وعيسى إنما تعلم من حيطان بيت المقدس
وهذا هو اللائق ببهتهم وكذبهم على الله تعالى وأنبيائه وهو يسد عليهم العلو بنبوة موسى لأن كلا الرسولين اشتركا في المعجزات والآيات الظاهرة التي لا يقدر أحد أن يأتي بمثلها فإن كان أحدهما قد تعلمها بحيلة أو بعلم فالآخر يمكن ذلك في حقه وقد أخبرا جميعا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أجرى ذلك على أيديهما وأنه ليس من صنعهما فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين
وأيضا فإنه لا دليل لهم على أن موسى تلقى تلك المعجزات عن الله تعالى إلا وهو يدل على أن عيسى عليه السلام تلقاها أيضا عن الله تعالى فإن أمكن القدح في معجزات عيسى أمكن القدح في معجزات موسى عليه السلام وإن كان ذلك باطلا فهذا أيضا باطل
وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين مع بعد العهد وتشتت شمل أمتيهما في الأرض وانقطاع معجزاتهما فما الظن بنبوة من معجزاته وآياته تزيد على الألف والعهد بها قريب وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن وأعظمها معجزة كتاب باق غض طري لم يتغير ولم يتبدل منه شيء بل كأنه منزل الآن وهو القرآن العظيم وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به كأنه كان يشاهده عيانا

فصل ولا يمكن ألبتة أن يؤمن يهودي بنبوة موسى عليه السلام إن لم
يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم  ولا يمكن نصرانيا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم 

وبيان ذلك : أن يقال لهاتين الأمتين :
أنتم لم تشاهدوا هذين الرسولين ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوتهما فكيف يسع العاقل أن يكذب نبيا ذا دعوة سابقة وكلمة قائمة وآيات باهرة ويصدق من ليس مثله ولا قريبا منه في ذلك لأنه لم ير أحد النبيين ولا شاهد معجزاته فإذا كذب بنبوة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما وإن صدق بأحدهما لزمه التصديق بنبوتهما فمن كفر بنبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم ولم ينفعه إيمانه به قال الله تعالى : إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما وقال تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلك آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله فنقول للمغضوب عليه : هل رأيت موسى وعاينت معجزاته فبالضرورة يقول : لا فنقول له : بأي شيء عرفت نبوته وصدقه فله جوابان : أحدهما : أن يقول : أبي عرفني ذلك وأخبرنى به

والثاني : أن يقول : التواتر وشهادات الأمم حقق ذلك عندي كما حققت شهادتهم وجود البلاد النائية والبحار والأنهار المعروفة وإن لم أشاهدها ! فإن اختار الجواب الأول وقال : إن شهادة أبي وإخباره إياى بنبوة موسى هي سبب تصديقى بنبوته
قلنا له : ولم كان أبوك عندك صادقا في ذلك معصوما عن الكذب وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك فإذا كنت ترى الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك وأنت تعلم أن الذي هم عليه ضلال فلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك خوفا أن تكون هذه حاله
فإن قال : إن الذي أخذته عن أبي أصح من الذي أخذه الناس عن آبائهم كفاه معارضة غيره له بمثل قوله
فإن قال : أبي أصدق من آبائهم وأعرف وأفضل عارضه سائر الناس في آبائهم بنظير ذلك فإن قال : أنا أعرف حال أبي ولا أعرف حال غيره قيل له : فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك وأفضل وأعرف وبكل حال : فإن كان تقليد أبيه حجة صحيحة كان تقليد غيره لأبيه كذلك وإن كان ذلك باطلا كان تقليده لأبيه باطلا
فإن رجع عن هذا الجواب واختار الجواب الثاني وقال : إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن فإنهم أخبروا بظهوره وبمعجزاته وآياته وبراهين نبوته التي تضطرني إلى تصديقه
فيقال له : لا ينفعك هذا الجواب لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام
فإن قلت : تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته ولم يتواتر ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قيل لك هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم أضعاف أضعافكم بكثير والمعجزات التي شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن وأنت لا تقبل

خبر التواتر في ذلك وترد ه فيلزمك أن لا تقربه في أمر موسى عليه السلام
ومن المعلوم بالضرورة : أن من أثبت شيئا ونفى نظيره فقد تناقض وإذا اشتهر النبي صلى الله عليه وسلم  في عصر وصحت نبوته في ذلك العصر بالآيات التي ظهرت عليه لأهل عصره ووصل خبره إلى أهل عصر آخر وجب عليهم تصديقه والإيمان به وموسى ومحمد والمسيح في هذا سواء ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد لأن الأمة الغضبية قد مزقها الله تعالى كل ممزق وقطعها في الأرض وسلبها ملكها وعزها فلا عيش لها إلا تحت قهر سواها من الأمم لها بخلاف أمة عيسى عليه السلام فإنها قد انتشرت في الأرض وفيهم الملوك ولهم الممالك وأما الحنفاء فممالكهم قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وملأوا الدنيا سهلا وجبلا فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبا ونقل الأمة الغضبية الخاملة القليلة الزائلة صدقا !
فثبت أنه لا يمكن يهوديا على وجه الأرض أن يصدق بنبوة موسى عليه السلام إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم  ولا يمكن نصرانيا ألبتة الإيمان بالمسيح عليه السلام إلا بعد الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم 
ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح لأنهم آمنوا بهما على يد محمد صلى الله عليه وسلم  وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد وبما جاء به فلولاه ما عرفنا نبوتهما ولا آمنا بهما
ولا سيما فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم فلولا القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين فمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه هو الذي قرر نبوة موسى ونبوة المسيح لا اليهود ولا النصارى بل كان نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما فإنهما أخبرا بظهوره وبشرا به قبل ظهوره فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما وهذا أحد المعنيين في قوله تعالى ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين أي مجيئه تصديق لهم من جهتين : من

جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروه به ومطابقة ما جاءو به لما جاؤا به فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بالوحي ثم جاء نبي آخر لم يقارنه في الزمان ولا في المكان ولا تلقى عنه ما جاء به وأخبر بمثل ما أخبر به سواء دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبر عن عيان ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته بحيث يعلم أنه لم يجتمع به ولا تلقى عنه ولا عمن تلقى عنه فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواء فإنه يضطر السامع إلى تصديق الأول والثاني والمعنى الثاني : أنه لم يأت مكذبا لمن قبله من الأنبياء مزريا عليهم كما يفعل الملوك المتغلبون على الناس بمن تقدمهم من الملوك بل جاء مصدقا لهم شاهدا بنبوتهم ولو كان كاذبا متقولا منشئا من عنده سياسة لم يصدق من قبله بل كان يزري بهم ويطعن عليهم كما يفعل أعداء الأنبياء
فصل وقد اختلفت أقوال الناس في التوراة التي بأيديهم : هل هي مبدلة
أم التبديل والتحريف وقع في التأويل دون التنزيل على ثلاثة أقوال : طرفين ووسط
فأفرطت طائفة وزعمت أنها كلها أو أكثرها مبدلة مغيرة ليست التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام وتعرض هؤلاء لتناقضها وتكذيب بعضها لبعض وغلا بعضهم فجوز الاستجمار بها من البول
وقابلهم طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام فقالوا : بل التبديل وقع في التأويل لا في التنزيل

وهذا مذهب أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري

قال في صحيحه يحرفون : يزيلون وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى ولكنهم يحرفونه : يتأولونه على غير تأويله
وهذا اختيار الرازي في تفسيره
وسمعت شيخنا يقول : وقع النزاع في هذه المسألة بين بعض الفضلاء فاختار هذا المذهب ووهن غيره فأنكر عليه فأحضر لهم خمسة عشر نقلا به
ومن حجة هؤلاء : أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وانتشرت جنوبا وشمالا ولا يعلم عدد نسخها إلا الله تعالى ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ بحيث لا يبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة مغيرة والتغيير على منهاج واحد وهذا مما يحيله العقل ويشهد ببطلانه
قالوا : وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم محتجا على اليهود بها : قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين قالوا : وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم ولم يمكنهم تغييرها من التوراة ولهذا لما قرؤها على النبي صلى الله عليه وسلم وضع القارىء يده على آية الرجم فقال له عبدالله بن سلام : ارفع يدك عن آية الرجم فرفعها فإذا هي تلوح تحتها فلو كانوا قد بدلوا ألفاظ التوراة لكان هذا من أهم ما يبدلونه قالوا : وكذلك صفات النبي صلى الله عليه وسلم ومخرجه هو في التوراة بين جدا ولم

يمكنهم إزالته وتغييره : وإنما ذمهم الله تعالى بكتمانهم وكانوا إذا احتج عليهم بما في التوراة من نعمته وصفته يقولون : ليس هو ونحن ننتظره
قالوا : وقد روى أبو داود في سننه عن ابن عمر قال : أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا : يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها ثم قال : ائتوني بالتوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها ثم قال : آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال : ائتوني بأعلمكم فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم
قالوا : فلو كانت مبدلة مغيرة لم يضعها على الوسادة ولم يقل : آمنت بك وبمن أنزلك قالوا : وقد قال تعالى : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم والتوراة من كلماته
قالوا : والآثار التي في كتمان اليهود صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ومنعهم أولادهم وعوامهم الاطلاع عليها مشهورة ومن اطلع عليها منهم قالوا له : ليس به فهذا بعض ما احتجت به هذه الفرقة
وتوسطت طائفة ثالثة وقالوا : قد زيد فيها وغير ألفاظ يسيرة ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه والتبديل في يسير منها جدا وممن اختار هذا القول شيخنا في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
قال : وهذا كما في التوراة عندهم : أن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام :

إذبح ولدك بكرك ووحيدك إسحق ف إسحق زيادة منهم في لفظ التوراة قلت : وهي باطلة قطعا من عشرة أوجه
أحدها : أن بكره ووحيده هو إسماعيل باتفاق الملل الثلاث فالجمع بين كونه مأمورا بذبح بكره وتعيينه بإسحق جمع بين النقيضين الثاني : أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها إسماعيل عن سارة ويسكنها في برية مكة لئلا تغير سارة فأمر بابعاد السرية وولدها عنها حفظا لقلبها ودفعا لأذى الغيرة عنها فكيف يأمر الله سبحانه وتعالى بعد هذا بذبح ابن سارة وإبقاء ابن السرعية فهذا مما لا تقتضيه الحكمة
الثالث : أن قصة الذبح كانت بمكة قطعا ولهذا جعل الله تعالى ذبح الهدايا والقرابين بمكة تذكيرا للأمة بما كان من قصة أبيهم إبراهيم مع ولده الرابع : أن الله سبحانه بشر سارة أم إسحق بإسحق ومن وراء إسحاق يعقوب فبشرها بهما جميعا فكيف يأمر بعد ذلك بذبح إسحق وقد بشر أبويه بولد ولده
الخامس : أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة الذبيح وتسليمه نفسه لله تعالى وإقدام إبراهيم على ذبحه وفرغ من قصته قال بعدها : وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين فشكر الله تعالى له استسلامه لأمره وبذل ولده له وجعل من إثابته على ذلك : أن آتاه إسحق فنجى إسماعيل من الذبح وزاده عليه إسحق
السادس : أن إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه سأل ربه الولد فأجاب الله دعاءه وبشره فلما بلغ معه السعي أمره بذبحه قال تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم

فهذا دليل على أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولدا وهذا المبشر به هو المأمور بذبحه قطعا بنص القرآن وأما إسحق فإنما بشر به من غير دعوة منه بل على كبر السن وكون مثله لا يولد له وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة ولهذا تعجبت من حصول الولد منها ومنه
قال تعالى : ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله
فتأمل سياق هذه البشارة وتلك تجدهما بشارتين متفاوتتين مخرج إحداهما غير مخرج الأخرى
والبشارة الأولى كانت له والثانية كانت لها
والبشارة الأولي هي التي أمر بذبح من بشر فيها دون الثانية السابع : أن إبراهيم عليه السلام لم يقدم بإسحاق إلى مكة البتة ولم يفرق بينه وبين أمه وكيف يأمره الله تعالى أن يذهب بابن امرأته فيذبحه بموضع ضرتها في بلدها ويدع ابن ضرتها
الثامن : أن الله تعالى لما اتخذ ابراهيم خليلا والخلة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقا بربه ليس في شعبة لغيره فلما سأله الولد وهبه اسماعيل فتعلق به شعبة من قلبه فأراد خليله سبحانه أن تكون تلك الشعبة له ليست لغيره من الخلق فامتحنه بذبح ولده فلما أقدم على الامتثال خلصت له تلك الخلة وتمحضت لله وحده فنسخ الأمر بالذبح لحصول المقصود وهو العزم وتوطين النفس على الامتثال
ومن المعلوم : أن هذا إنما يكون في أول الأولاد لا في آخرها فلما حصل هذا المقصود من الولد الأول لم يحتج في الولد الآخر إلى مثله فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه كما أمر بذبح الأول فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقره في الأول

على مزاحمة الخلة به مدة طويلة ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك وهذا خلاف مقتضى الحكمة فتأمله
التاسع : أن إبراهيم عليه السلام إنما رزق إسحاق عليه السلام على الكبر وإسماعيل عليه السلام رزقه في عنفوانه وقوته والعادة أن القلب أعلق بأول الأولاد وهو إليه أميل وله أحب بخلاف من يرزقه على الكبر ومحل الولد بعد الكبر كمحل الشهوة للمرأة
العاشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتخر بقوله : أنا ابن الذبيحين يعني أباه عبدالله وجده إسماعيل

والمقصود : أن هذه اللفظة مما زادوها في التوراة
ونحن نذكر السبب الموجب لتغيير ما غير منها والحق أحق ما اتبع فلا نغلو غلو المستهينين بها المتمسخرين بها بل معاذ الله من ذلك
ولا نقول : إنها باقية كما أنزلت من كل وجه كالقرآن
فنقول وبالله التوفيق :
علماء اليهود وأحبارهم يعتقدون أن هذه التوراة التي بأيديهم ليست هي التي أنزلها الله تعالى على موسى بن عمران بعينها لأن موسى عليه السلام صان التوراة عن بني إسرائيل خوفا من اختلافهم من بعده في تأويلها المؤدي إلى تفرقهم أحزابا وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوي
ودليل ذلك قوله في التوراة وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى بني إسرائيل إلى الأئمة من بني لاوي
وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم لأن الإمامة وخدمة القرابين وبيت المقدس كانت موقوفة عليهم ولم يبذل موسى عليه السلام من التوراة لبني إسرائيل إلا نصف سورة وهي التي قال فيها : وكتب موسى هذه السورة وعلمها بني إسرائيل

هذا نص التوراة عندهم قال : وتكون لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل وفيها : قال الله تعالى : إن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم
يعني أن هذه السورة مشتملة على ذم طبائعهم وأنهم سيخالفون شرائع التوراة وأن السخط يأتيهم بعد ذلك وتخرب ديارهم ويسبون في البلاد فهذه السورة تكون متداولة في أفواهم كالشاهد عليهم الموقف لهم على صحة ما قيل لهم
فلما نصت التوراة أن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم دل ذلك على أن غيرها من السور ليس كذلك وأنه يجوز أن ينسى من أفواههم
وهذا يدل على أن موسى عليه السلام لم يعط بني إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة فأما بقيتها فدفعها إلى أولاد هارون وجعلها فيهم وصانها عمن سواهم وهؤلاء الأئمة الهارونيون الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها قتلهم بختنصر على دم واحد يوم فتح بيت المقدس ولم يكن حفظ التوراة فرضا عليهم ولا سنة بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة فلما رأى عزرا أن القوم قد أحرق هيكلهم وزالت دولتهم وتفرق جمعهم ورفع كتابهم جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما اجتمعت منه هذه التوراة التي بأيديهم ولذلك بالغوا في تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة
فزعموا أن النور الآن يظهر على قبره وهو عند بطائح العراق لأنه جمع لهم ما يحفظ دينهم

وغلا بعضهم فيه حتى قال : هو ابن الله ولذلك نسب الله تعالى ذلك إلى اليهود إلى جنسهم لا إلى كل واحد منهم
فهذه التوراة التي بأيديهم في الحقيقة كتاب عزرا وفيها كثير من التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه الصلاة و السلام ثم تداولتها أمة قد مزقها الله تعالى كل ممزق وشتت شملها فلحقها ثلاثة أمور
أحدها : بعض الزيادة والنقصان
الثاني : اختلاف الترجمة

الثالث : اختلاف التأويل والتفسير
ونحن نذكر من ذلك أمثلة تبين حقيقة الحال المثال الأول
ما تقدم من قوله ولحم فريسة في الصحراء لا تأكلوه وللكلب ألقوه
وتقدم بيان تحريفهم هذا النص وحمله على غير محمله المثال الثاني قوله في التوراة نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به فليؤمنوا فحرفوا تأويله إذ لم يمكنهم أن يبدلوا تنزيله وقالوا : هذه بشارة بني من بني إسرائيل وهذا باطل من وجوه
أحدها : أنه لو أراد ذلك لقال : من أنفسهم كما قال في حق محمد صلى الله عليه وسلم  لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم وقال تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم ولم يقل : من إخوتكم الثاني : أن المعهود في التوراة : أن إخوتهم غير بني إسرائيل ففي الجزء الأول من السفر الخامس قوله : أنتم عابرون في تخوم إخوتكم بني العيص المقيمين في سيعير إياكم أن تطمعوا في شيء من أرضهم
فإذا كان بنو العيص إخوة لبني إسرائيل لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق والروم هم بنو العيص واليهود هم بنو إسرائيل وهم إخوتهم فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم

الثالث : أن هذه البشارة لو كانت بشمويل أو غيره من بني إسرائيل لم يصح أن يقال : بنو إسرائيل إخوة بني إسرائيل وإنما المفهوم من هذا أن بني إسماعيل أو بني العيص هم إخوة بني إسرائيل
الرابع : أنه قال : سأقيم لهم نبيا مثلك وفي موضع آخر : أنزل عليه توراة مثل توراة موسى
ومعلوم أن شمويل وغيره من أنبياء بني إسرائيل لم يكن فيهم مثل موسى لا سيما وفي التوراة لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى وأيضا فليس في بني إسرائيل من أنزل عليه توراة مثل توراة موسى إلا محمد والمسيح عليهم الصلاة والسلام والمسيح كان من أنفس بني إسرائيل لا من إخوتهم بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فإنه من إخوتهم بني إسماعيل
وأيضا فإن في بعض ألفاظ هذا النص كلكم له تسمعون وشموئيل لم يأت بزيادة ولا بنسخ لأنه إنما أرسل ليقوي أيديهم على أهل فلسطين وليردهم إلى شرع التوراة فلم يأت بشريعة جديدة ولا كتاب جديد وإنما حكمه حكم سائر الأنبياء من بني إسرائيل فإنهم كانوا يسوسهم الأنبياء كلما مات نبي قام فيهم نبي فإن كانت هذه البشارة لشمويل فهي بشارة بسائر الأنبياء الذي بعثوا فيهم ويكونون كلهم مثل موسى عليه السلام وكلهم قد أنزل عليهم كتاب مثل كتاب موسى عليه السلام

المثال الثالث
قوله في التوراة جاء الله تعالى من طور سيناء وأشرق نوره من سيعير واستعلن من جبال فاران ومعه ربوات المقدسين
وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبل السراة الذي يسكنه بنو العيص الذين آمنوا بعيسى ويعلمون أن في هذا الجبل كان مقام المسيح ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور
وأما جبال فاران فهم يحملونها على جبال الشأم وهذا من بهتهم وتحريف التأويل
فإن جبال فاران هي جبال مكة و فاران اسم من أسماء مكة وقد دل على هذا نص التوراة : أن إسماعيل لما فارق أباه سكن برية فاران وهي جبال مكة ولفظ التوراة أن إسماعيل أقام في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر
فثبت بنص التوراة أن جبال فاران مسكن لولد إسماعيل وإذا كانت التوراة قد أشارت إلى نبوة تنزل على جبال فاران لزم أنها تنزل على ولد إسماعيل لأنهم سكانها
ومن المعلوم بالضرورة أنها لم تنزل على غير محمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام
وهذا من أظهر الأمور بحمد الله تعالى

فصل ومما يدل على غلظ أفهام هذه الأمة الغضبية وقلة فقههم وفساد
رأيهم وعقولهم كما في التوراة أنهم شعب عادم الرأي فليس فيهم فطانة : أنهم سمعوا في التوراة يكون ثمار أرضك تحمل إلى بيت الله ربك ولا ينضج الجدي بلبن أمه
والمراد بذلك : أنهم أمروا عقيب افتراض الحج إلى بيت المقدس عليهم : أن يستصحبوا معهم إذا حجوا أبكار أغنامهم وأبكار مستغلات أرضهم لأنه كان فرض عليهم قبل ذلك أن تبقى سخولة الغنم والبقر وراء أمها سبعة أيام وفي اليوم الثامن فصاعدا يصلح أن تكون قربانا فأشار في هذا النص بقوله : لا ينضج الجدى بلبن أمه إلى أنهم لا يبالغون في إطالة مكث باكور أولاد البقر والغنم وراء أمها بل يستصحبون أبكارهم اللاتي قد عبرت سبعة أيام منذ ميلادهن معهم إذا حجوا إلى بيت المقدس ليتخذوا منها القرابين
فتوهم المشايخ البله أن الشرع يريد بالإنضاج إنضاج الطبيخ في القدر وأنهم نهوا أن يطبخوا لحم الجدي باللبن ولم يكفهم هذا الغلط في تفسير هذه اللفظة حتى حرموا أكل سائر اللحمان باللبن فألغوا لفظ الجدى وألغوا لفظ أمه وحملوا النص مالا يحتمله وإذا أراد أن يأكلوا اللحم واللبن أكلوا كلا منهما على حدة والأمر في هذا ونحوه قريب

فصل ولا يستبعد اصطلاح كافة هذه الأمة على المحال واتفاقهم على أنواع
الضلال
فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها وأخذها انطمست معالم دينها واندرست آثارها فإن الدولة إنما يكون زوالها بتتابع الغارات والمصافات وإخراب البلاد وإحراقها ولا تزال هذه الأمور متواترة عليها إلى أن يعود علمها جهلا وعزها ذلا وكثرتها قلة
وكلما كانت الأمة أقدم واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالذل والصغار كان حظها من اندراس معالم دينها وآثارها أوفر
وهذه الأمة أوفر الأمم حظا من هذا الأمر لأنها من أقدم الأمم ولكثرة الأمم التي استولت عليها : من الكلدانيين والبابليين والفرس واليونان والنصارى وآخر ذلك المسلمون وما من هذه الأمم إلا من طلب استئصالهم وبالغ في إحراق بلادهم وكتبهم وقطع آثارهم إلا المسلمين فإنهم أعدل الأمم فيهم وفي غيرهم حفظا لوصية الله تعالى بهم حيث قال : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ويقول : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنآن قم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وصادف الإسلام هذه الأمة تحت ذمة الفرس وذمة النصارى بحيث لم يبق لهم مدينة ولا جيش
وأعز ما صادفه الإسلام من هذه الأمة يهود خيبر والمدينة وما جاورها

فإنهم إنما قصدوا تلك الناحية لما كانوا وعدوا به من ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم  وكانوا يقاتلون المشركين من العرب فيستنصرون عليهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم  قبل ظهوره ويعدونهم بأنه سيخرج نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث الله عز و جل نبيه صلى الله عليه وسلم  سبقهم إليه من كانوا يحاربونهم من العرب فحملهم الحسد والبغي على الكفر به وتكذيبه
وأشد ما على هذه الأمة الغضبية من ذلك ما نالهم من ملوك العصاة وغيرهم من ملوك الإسرائيليين الذين قتلوا الأنبياء وبالغوا في تطلبهم وعبدوا الأصنام وأحضروا من البلاد سدنتها ليعلموا رسومها في العبادة وبنوا لها البيع والهياكل وعكفوا على عبادتها وتركوا أحكام التوراة أعصارا متصلة
فإذا كان هذا تواتر الآفات على دينهم من قبل ملوكهم ومن قبل أنفسهم فما الظن بالآفات التي نالتهم من غير ملوكهم وقتلهم أئمتهم وإحراقهم كتبهم ومنعهم من القيام بدينهم
فإن الفرس كثيرا ما منعوهم عن الختان وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاة هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار وعلى العالم بالخراب [ سوى بلادهم التي

هي أرض كنعان ]
فلما رأت هذه الأمة الجد من الفرس في منعهم من الصلاة اخترعوا أدية [ زعموا أنها فصول من صلاتهم ] سموها الحزانة وصاغوا لها ألحانا عديدة وصاروا يجتمعون في أوقات صلاتهم على تلحينها وتلاوتها وسموا القائم بها الحزان
والفرق بينها وبين الصلاة : أن الصلاة بغير لحن والمصلي يتلو الصلاة وحده ولا يجهر معه غيره والحزان يشاركه غيره في الجهر بالحزانة ويعاونونه في الألحان
فكانت الفرس إذا أنكرت ذلك منهم قالت اليهود : إنا ننعى أحيانا وننوح على أنفسنا فيتركونهم وذلك
فلما قام الإسلام وأقرهم على صلاتهم استصحبوا تلك الحزانة ولم يعطلوها فهذه فصول مختصرة في كيد الشيطان وتلاعبه بهذه الأمة يعرف بها المسلم الحنيف قدر نعمة الله تعالى عز و جل عليه وما من به عليه من نعمة العلم والإيمان ويهتدي بها من أراد الله تعالى هدايته من طالبي الحق من هذه الأمة
ومن الله التوفيق والإرشاد إلى سواء الطريق والحمد لله رب العالمين اللهم صل وسلم على جميع الأنبياء والمرسلين خصوصا من بينهم محمدا وآله بفضل الصلاة والتسليم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون وصل وسلم على سيدنا محمد كلما غفل عن ذكره الغافلون وهدانا الله لهدايته وحشرنا في زمرته تحت لوائه وأوردنا حوضه الذي لا يظمأ من شرب منه وأوفر نصيبنا من شفاعته إنه جواد كريم

أقسام الكتاب
1 2 3 4