كتاب : إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية

وكذا لو قال : له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه أو أجرة عن دار لم أتسلمها أو قال : هلك قبل التمكن من قبضة على أصح الوجهين لأنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقا
وكذا لو قال : كان له علي ألف فقضيته لم يلزمه لأنه إنما أقر به في الماضي لا في الآن هذا منصوص أحمد وليس الكلام بمتناقض في نفسه فيكون بمنزلة قوله : له علي ألف لا تلزمني والفرق بين الكلامين أظهر من أن يحتاج إلى بيان
وعن أحمد رواية أخرى : أنه مقر بالحق مدع لقضائه فلا يقبل منه إلا ببينة وهذا قول الأئمة الثلاثة
وعنه رواية ثالثة : أن هذا ليس بجواب صحيح فيطالب برد الجواب وعلى هذا فإذا قال : له علي ألف قضيته إياه ففيه ثلاث روايات منصوصات
إحداهن : أنه غير مقر كما لو قال : كان له علي والثانية : أنه مقر مدع للقضاء فلا يقبل منه إلا ببينة والثالثة : أنه لا يسمع منه دعوى القضاء ولو أقام به بينة بل يكون مكذبا لها وعلى هذا إذا قال : كان له علي ولم يزد على هذا فهو مقر وخرج أنه غير مقر من نصه على أنه إذا قال : كان له علي وقضيته : أنه غير مقر وهو تخريج في غاية الصحة فإن أحمد لم يجعله غير مقر من قوله : وقضيته فإن هذا دعوى منه للقضاء وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضي لا عن الحال فلا يلزم بكونه في ذمته في الحال وهو لم يقر به
والمقصود : أن المدعى عليه إذا كان مظلوما فالحيلة في تخصله أن يقول : إن ادعيت كذا من جهة كذا وكذا فأنا غير مقر به وإن ادعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به كان جوابا صحيحا ولم يكن مقرا على الإطلاق
المثال التاسع والسبعون : قال أصحابنا : لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه بل يجبر على تسليمه إلى المشتري ثم إن كان الثمن معينا فتشاحنا في المبتدىء بالتسليم جعل بينهما عدل يقبض منهما ويسلم إليهما وإن كان دينا أجبر البائع على التسليم ثم يجبر

المشتري على دفع الثمن فإن كان ماله غائبا عن المجلس حجر عليه في ماله كله حتى يسلم الثمن وإن كان غائبا عن البلد فوق مسافة القصر ثبت للبائع الفسخ وإن كان دونها فهل يحجر عليه أو يثبت للبائع الفسخ على وجهين وإن كان المشتري معسرا فللبائع الفسخ والرجوع في عين ماله هذا منصوص أحمد والشافعي وللشافعية وجه أنه تباع السلعة ويقضي دينه من ثمنها فإن فضل له فضل أخذه وإن فضل عليه شيء استقر في ذمته والصحيح : أن البائع يملك حبس السلعة على الثمن حتى يقبضه هذا هو موجب العدل وإلا ففي تمكين المشتري من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعاما أو شرابا فيستهلكه ويتعذر أو يتعسر عليه مطالبته بالثمن فيضر به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه
وعلى هذا لو دفع الثمن إلا درهما منه فله حبس المبيع كله على باقي الثمن كما نقول في الرهن
وفيه قول آخر : أنه يملك أنه يتسلم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن لأن كل جزء من المبيع في مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن فإذا سلم بعض الثمن ملك تسلم ما يقابله
والفرق بينه وبين الرهن : أن الرهن ليس بعوض من الدين وإنما هو وثيقة فملك حبسه إلى أن يستوفي جميع الدين والأول هو الصحيح لأنه إنما رضي بإخراج المبيع من ملكه إذا سلم له جميع الثمن ولم يرض بإخراجه ولا إخراج شيء منه ببعض الثمن
فإذا خاف البائع أن يجبر على التسليم ثم يحال على تقاضي المشتري
فالحيلة له في الأمن من ذلك : أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها ويجوز شرط الرهن والضمين في عقد البيع ويصح رهنه قبل قبضه على ثمنه في أصح الوجهين كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه ومن غير البائع بل رهنه على ثمنه أولى فإنه يملك حبسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم فلأن يصح حبسه على الثمن رهنا أولى وأحرى
وأيضا فإذا جاز التصرف فيه بالرهن من الأجنبي قبل القبض فجوازه من البائع أولى

لأن المشتري يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها ما لا يملكه مع الأجنبي ومن منع رهنه على ثمنه قبل قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن أو من الأجنبي
فإن قيل : الفرق بينهما : أنه قبل القبض عرضة للتلف فيكون من ضمان البائع وكونه رهنا يقتضي أن يكون من ضمان راهنه فتنافى الأمران حيث يكون مضمونا له ومضمونا عليه من جهة واحدة وهذا بخلاف رهنه من أجنبي قبل القبض فإنه يكون مضمونا عليه للأجنبي ومضمونا له من البائع ولا تنافي بين أن يكون مضمونا له من شخص ومضمونا عليه لغيره كالعين المؤجرة إذا أجرها المستأجر صارت المنافع مضمونة عليه للمستأجر الثاني ومضمونة له من المؤجر الأول وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشتري بيعها وهي مضمونة له على البائع ومضمونة عليه للمشتري الثاني
فإن قيل : هذا هو الفرق الذي بني عليه هذا القول ولكن يقال : أي محذور في ذلك وأن يكون مضمونا له وعليه وقولكم : إن ذلك من جهة واحدة ليس كذلك فإنه مضمون له من جهة كونه مشتريا فهو من ضمان البائع حتى يمكنه من قبضه ومضمون عليه من جهة كونه راهنا فإذا تلف تلف من ضمانه حتى لو اتحدت الجهة لم يكن في ذلك محذور بحيث يكون مضومنا له وعليه من جهة واحدة كما قلتم : إنه يجوز للمستأجر إجارة ما استأجره لمؤجره فتكون المنافع مضمونة عليه وله فأي محذور في ذلك
فإن قيل : فإذا تلف هذا الرهن فمن ضمان من يكون فالبائع يقول للمشتري : تلف من ضمانك لأنه رهن والمشتري يقول : تلف من ضمانك لأنه مبيع لم يقبض وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر قيل : بل يكون تلفه من ضمان البائع لأن ضمانه أسبق من ضمان الراهن لأنه لما باعه كان من ضمانه حتى يسلمه فحبسه على ثمنه لا يسقط عنه ضمانه كما لو حبسه من غير ارتهان فارتهانه إياه لم يسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم فإنه إنما احتاط لنفسه

بعقد الرهن والراهن لم يتعوض عن الرهن بدين يكون الرهن في مقابلته فإذا تلف كان قد انتفع بالدين الذي أخذه في مقابلة الرهن
فإن أراد الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة وأن لا يعرضه للبطلان
فالحيلة له : أن يقبضه من البائع ثم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه فيصح الرهن ولا يتوالى هناك ضمانان فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشتري ولا يسقط الثمن عنه فإن خاف البائع أن يغيب المشتري أو يؤخر فكاك الرهن كتب كتابا وأشهد فيه شهودا : أنه إن مضى وقت كذا وكذا ولم يفتك الرهن فقد أذن له في بيعه وقبض دينه من ثمنه وما بقى منه فهو أمانة في يده
فإن خاف أن يبطل هذه الوكالة من يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط كتب في الكتاب : أنه قد وكله الآن ويعلعق تصرفه فيه بالبيع بمجىء الوقت فيعلق التصرف وينجز التوكيل
فإن خاف أن يعزله الموكل فلا ينفذ تصرفه فيه فالحيلة له : أن يوكله وكالة دورية عند من يرى ذلك فيقول : وكلما عزلته فقد وكلته وإن شاء أن يقول : وكلته وكالة لا تقبل العزل وإن شاء أن يقول : على أني متى عزلته فلا حق لي عنده ولا دعوى وما ادعيته عليه من جهة كذا وكذا فدعواي باطلة والله أعلم
المثال الثمانون : إذا ادعت عليه المرأة أنه لم ينقق عليها ولم يكسها مدة مقامها معه أو سنين كثيرة والحس والعرف يكذبها لم يحل للحاكم أن يسمع دعواها ولا يطالبه برد الجواب فإن الدعوى إذا ردها الحس والعادة المعلومة كانت كاذبة وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم من ادعى ما ليس له فليس منا

وليتبوأ مقعده من النار
فلا يجوز لأحد حاكم ولا غيره أن يساعد من ادعى ما يشهد الحس والعرف والعادة أنه ليس له وأن دعواه كاذبة ففي سماع دعواه وإحضار المدعى عليه وإحلافه أعظم مساعدة ومعاونة على ما يكذبه الحس والعادة
ثم كيف يسع الحاكم أن يقبل قول المرأة : أنها هي التي كانت تنفق على نفسها وتكسو نفسها هذه المدة كلها مع شهادة العرف والعادة المطردة بكذبها ولا يقبل قول الزوج : أنه هو الذي كان ينفق عليها ويكسوها مع شهادة العرف والعادة له ومشاهدة الجيران وغيرهم له : أنه كل وقت يدخل إلى بيته الطعام والشراب والفاكهة وغير ذلك فكيف يكذب من معه مثل هذه الشهادة ويقبل قول من يكذب دعواه ذلك وكيف يمكن الزوج أن يتخلص من مثل هذا البلاء الطويل والخطب الجليل إلا بأن يشهد كل يوم بكرة وعشية شاهدي عدل على الإنفاق وعلى الكسوة أو يفرض لها كل شهر دراهم معلومة يقبضها إياها بإشهاد ثم إما أن يمكنها أن تخرج من بيته كل وقت تشتري لها ما يقوم بمصالحها أو يتصدى هو لخدمتها وشراء حوائجها فيكون هو العاني الأسير المملوك وهي المالكة الحاكمة عليه وكل هذا ضد ما قصده الشارع من النكاح : من الألفة والمودة والمعاشرة بالمعروف فإن هذه المعاشرة من أنكر المعاشرة وأبعدها من المعروف
ثم من العجب : أنها إذا ادعت الكسوة والنفقة لمدة مقامها عنده فقال الزوج للحاكم : سلها : من أين كانت تأكل وتشرب وتلبس فيقول الحاكم : لا يلزمها ذلك ! !
فيالله العجب : إذا كانت غير معروفة بالدخول والخروج ولا يمكن الزوج أحدا يدخل عليها وهي في منزله عدد سنين تأكل وتشرب وتلبس كيف لا يسألها الحاكم : من الذي كان يقوم لك بذلك ومتى سأل الزوج سؤالها وجب عليه ذلك ومتى تركه كان تاركا

للحق فإن سمت أجنبيا غير الزوج كلفها الحاكم البينة على ذلك وإن قالت : أنا الذي كنت أطعم نفسي وأكسوها في هذه المدة كان كذبها معلوما ولم يقبل قولها فإن النفقة والكسوة واجبان على الزوج وهي تدعي أنها هي التي قامت عنه بهذا الواجب وأدته من مالها وهو يدعي أنه هو الذي فعل هذا الواجب وقام به وأسقطه عن نفسه ومعه الظاهر والأصل
أما الظاهر : فلا يمكن عاقلا أن يكابر فيه بل هو ظاهر ظهورا قريبا من القطع بل يقطع به في حق أكثر الناس وأما الأصل : فهو أيضا من جانب الزوج فإنهما قد اتفقا على القيام بواجب حقها وهي تضيف ذلك إلى نفسها أو إلى أجنبي وهو يدعي أنه هو الذي قام بهذا الواجب فقد اتفقا على وصول النفقة والكسوة إليها وهي تقول : كان ذلك بطريق البدل والنيابة عنك وهو يقول : لم يكن بطريق النيابة بل بطريق الأصالة
وهذا بخلاف ما إذا لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه كالديون والأعيان المضمونة فإن قبول قول المنكر متوجه ومعه الأصل
ونظيره : أن يعترف بقضاء الدين ووصوله إليه ثم ينكر أن يكون وصل إليه من جهة من عليه الدين فيقول : وصل إلي الدين الذي لي لكن ليس من جهتك بل غيرك أداه عنك فهل يقبل قوله ههنا أحد ويقال : الأصل بقاء الدين في ذمته
وهذا نظير مسألة الإنفاق سواء بسواء فإنها مقرة بوصول النفقة إليها ولو أنكرتها لكذبها الحس ومدعية أن وصول ذلك إلي لم يكن من جهتك فدعواها تخالف الأصل والظاهر جميعا ولهذا لا يقبلها مالك وفقهاء أهل المدينة وقولهم هو الصواب والحق الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه
وأي قبيح أعظم من دعوى امرأة على الزوج ترك النفقة والكسوة ستين سنة أو أكثر وهي لا تدخل ولا تخرج ولا يمكنها أن تعيش عيش الملائكة فيطالب الزوج بنفقة جميع المدة التي ادعت ترك الإنفاق فيها وقد تستغرق جميع ماله وداره وثيابه ودوابه فيؤخد

ذلك كله منه ويحبس على الباقي ويجعل دينا مستقرا في ذمته تطالبه به متى شاءت وهي تعلم كذب دعواها ووليها يعلم ذلك وجيرانها والله وملائكته والذي يساعدها ويخاصم عنها ولما علم فقهاء العراق كأبي حنيفة وأصحابه ما في ذلك من الشر والفساد والضرر الذي لا تأتي به شريعة أسقطوا النفقة والكسوة عن الزوج بمضي الزمان فلم يسمعوا دعوى المرأة بذلك كما يقوله منازعوهم في نفقة القريب فنفسوا الخناق عن الأزواج بهذا القول وأشموهم رائحة الحياة ونفسوا عنهم بعض الكرب ولقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أرسله الله تعالى إلى الناس ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة فما ألزم زوجا قط بنفقة وكسوة ماضية ولا ادعتها عنده امرأة وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده وكذلك عصر الصحابة جميعهم وعصر التابعين ولا حبس على عهده وعهد أصحابه وتابعيهم رجل واحد على ذلك ولا على صداق امرأته مع صيانة نسائهم ولزومهن بيوتهن وعدم تبرجهن وتزينهن وخروجهن في الأسواق والطرقات والأزواج في الحبوس وهن مسيبات يخرجن ويذهبن حيث أردن
فوالله لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم لشق عليه غاية المشقة ولعظم عليه وعز عليه ولكان إلى دفعه وإنكاره أسرع منه إلى غيره
وبالجملة فالدعوى إذا كانت مما تردها العادة والعرف والظاهر لم يجز سماعها
ومن ههنا قال أصحاب مالك : إذا كان رجل حائزا لدار متصرفا فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته : من خوف سلطان أو نحو ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق ولا بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات وذوو الصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه بل كان عريا عن ذلك كله ثم جاء بعد طول هذه المدة

يدعيها لنفسه ويزعم أنها له ويريد أن يقيم بذلك بينة فدعواه غير مسموعة أصلا فضلا عن بينة وتقر الدار بيد حائزها
قالوا : لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة قال تعالى : وأمر بالعرف  وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف في الدعاوى وغيرها قلت : ومما يدل على ذلك : أن الظن المستفاد من هذا الظاهر أقوى بكثير من الظن المستفاد من شاهدين أو شاهد ويمين أو مجرد النكول أو الرد
وأيضا فإن البينة على المدعي والبينة هي كل ما يبين الحق والعرف والعادة والظاهر القوي الذي إن لم يقطع به فهو أقرب إلى القطع يدل على صدق الزوج وكذب المرأة في إمساكها عن كسوتها والإنفاق عليها مدة سنين متطاولة ولا يدخل عليها أحد ولا هى ممن تخرج تشتري لها ما تأكل وتلبس
فالشريعة جاءت بما يعرف لا بما ينكر وقد أخبر الله سبحانه أن للزوجة مثل الذي عليها بالمعروف وليس من المعروف إلزام الزوج بنفقة ستين سنة وكسوتها واجتياح ماله كله وسلبه نعمة الله عليه وجعله مسكينا ذا متربة وجعله أسيرا لها ينافي ما ادعت به بل هذا من أنكر المنكر ومما يراه المسلمون بل وغير المسلمين قبيحا
وأيضا : فالرجل له ولاية الإنفاق على زوجته كما له ولاية حبسها ومنعها من الخروج من بيته فالشارع جعل إليه ذلك وأمره أن يقوم على المرأة ولا يؤتيها ماله بل يرزقها ويكسوها فيه وجعلها الله سبحانه في ذلك بمنزلة الصغير والمجنون مع وليه كما قال تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما واززقوهم فيها واكسوهم  قال ابن عباس : لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم
فالسفهاء هم النساء والصبيان وقد جعل الله سبحانه الأزواج قوامين عليهم كما جعل ولي الطفل قواما عليه والقوام على غيره أمير عليه ومن قبل قول الزوجة أو الطفل بعد

البلوغ في عدم إيصال النفقة إليهما فقد جعلهما قوامين على الأزواج والأولياء ولو لم يقبل قول الزوج لم يكن قواما على المرأة فإن المرأة إذا كانت غريما مقبول القول دون الزوج كانت هي القوامة
وبالجملة فللرجل على امرأته ولاية حتى في مالها فإن له أن يمنعها من التبرع به لأنه إنما بذل لها المهر لما لها ونفسها فليس لها أن تتصرف في ذلك بما يمنع الزوج من كمال استمتاعه وقد سوى النبي صلى الله عليه و سلم بين نفقة الزوجات ونفقة المماليك وجعل المرأة عانية عند الزوج والعاني : هو الأسير وهو نوع من الرقفقال في المرأة : تطعمها مما تأكل وتكسوها مما تلبس وكذلك قال في الرقيق سواء فهو أمير على نفقة امرأته ورقيقه وأولاده بحكم قيامه عليهم ولم يوجب الله سبحانه على الأزواج تمليك النساء طعاما وإداما ولا دراهم أصلا وإنما أوجب إطعامهن وكسوتهن بالمعروف وإيجاب التمليك مما لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع

وكذلك فرض النفقة وتقديرها بدراهم لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا تابع ولا أحد من الأئمة الأربعة
فإن الناس لهم قولان منهم من يرى تقديرها بالحب كالشافعي ومنهم من يردها إلى العرف وهم الجمهور ولا يعرف عن أحد من السلف والأئمة تقديرها بالدراهم البتة
ثم إن فيه إيجاب المعاوضة على الواجب لها بغير رضا الزوج ومن غير اعتبار كون الدراهم قيمة الواجب لها من الحب أو الواجب بالعرف ففرض الدراهم مخالف لهذا وهذا ولأقوال جميع السلف والأئمة وفيه من الفساد ما لا يحصيه إلا الله فإنه إن مكن المرأة تخرج كل وقت تشتري لها طعاما وإداما دخل على الزوج والزوجة من الشر والفساد ما يشهد به العيان وإن منعها من الخروج أضر بها وبالزوج وجعله كالأجير والأسير معها
وبالجملة : فمبنى الحكم في الدعاوى على غلبة الظن المستفاد من براءة الأصل تارة ومن الإقرار تارة ومن البينة تارة ومن النكول مع يمين الطالب المردودة أو بدونها وهذا كله مما يبين الحق ظاهرا فهو بينة وتخصيص البينة بالشهود عرف خاص وإلا فالبينة اسم لما يبين الحق فمن كان ظن الصدق من جانبه أقوى كان بالحكم أولى ولهذا قدمنا جانب المدعى عليه حيث لا بينة ولا إقرار ولا نكول ولا شاهد حال استنادا إلى الظن المستفاد من البراءة الأصلية
فإذا كان في جانب المدعي بينة شرعية قدم لقوة الظن في جانبه بالبينة وكذلك إذا كان في جانبه قرينة ظاهرة كاللوث قدم جانبه
ولذلك قدم جانبه في اللعان إذا نكلت المرأة فإنها ترجم بأيمانه لقوة الظن في جانبه بإقدامه على اللعان مع نكول المرأة عن دفع الحد والعار عنها باليمين

وقد أجمع الناس على جواز وطء المرأة التي تزف إلى الزوج ليلة العرس وإن لم يكن رآها ولا وصفت له من غير اشتراط شاهدى عدل يشهدان أنها هي امرأته التي وقع عليها العقد اكتفاء بالظن الغالب بل بالقطع المستفاد من شاهد الحال
وكذلك يجوز الأكل من الهدي المنحور إذا كان بالفلاة ولا أحد عنده اكتفاء بشاهد الحال
وكذلك درج السلف والخلف على جواز أكل الفقير مما يدفعه إليه الصبي ويخرجه من البيت : من كسرة ونحوها اعتمادا على شاهد الحال
وكذلك يكتفى بشاهد الحال في بيع المحقرات بالمعاطاة وهو عمل الأمة قديما وحديثا
واكتفى الشارع بسكوت البكر في الاستئذان وجعله دليلا على رضاها اكتفاء بشاهد الحال واكتفت الأمة في الاعتماد على المعاملات والهدايا والتبرعات بكونها بيد الباذل لأن دلالتها على ملكه تورث ظنا ظاهرا واكتفت بمعاملة مجهول الحرية والرشد وإقراره وأكل طعامه وقبول هديته وإباحة الدخول إلى منزله اعتمادا على شاهد الحال والظن الغالب واكتفى الشارع بقول الخارص الواحد في محل الظن والخرص نظرا إلى الظن المستفاد من خرصه واكتفت الأمة بقول المقومين فيما دق وجل اعتمادا على الظن المستفاد من تقويمهم
وقد اكتفى الشارع بتقويم اثنين في جزاء الصيد واكتفى بواحد في الخرص

واكتفى بواحد في رؤية هلال رمضان
واكتفت الأمة بقول القاسم وحده أو بقول اثنين وكذلك القائف أو القائفين واكتفت بقول المؤذن الواحد
وقد اكتفى كثير من الفقهاء بانتساب الصغير وميل طبعه إلى من ادعاه من رجلين أو أكثر اعتمادا على الظن المستفاد من ميل طبعه وهو من أضعف الظنون ولذلك كان في آخر رتب الإلحاق عندهم عند عدم القائف
وكذلك الاعتماد في وجوب دفع اللقطة أو جوازه على الظن المستفاد من وصف الواصف لها وكذلك الاعتماد على أمارات الطهارة والنجاسة والقبلة والاعتماد على قول الكيال والوزانوقال كثير من الفقهاء يحبس المدعى عليه بشهادة المستورين إلا أن يعدلا إذ الغالب من المستورين العدالة
فاستجازوا عقوبة الرجل المسلم بمثل هذا الظن
وقالوا تسمع الشهادة على المقر بالإقرار من غير اشتراط ذكر الشاهدين أهلية المقر حال إقراره اعتمادا على ظن الرشد والاختيار
وقالوا : إذا كان الجدار حائلا بين الطريق وبين ملك المدعي أو بين ملكه وبين موات اختص به المدعي لأن الظاهر أن الطريق والموات لا يحاط عليهما وقالوا : لو كان بين الملكين جدار متصل بأبنية أحد المالكين اتصالا بدواخل وترصيف اختص به صاحب الترصيف لقوة الظن من جانبه إذ معه دلالتان إحداهما : الإتصال والثانية : التداخل والترصيف فلو تداخل من أحد طرفيه في ملك أحدهما ومن الطرف الآخر في الملك الآخر اشتراكا فيه : لتساويهما في الدلالتين

وقالوا : إن الأبواب المشرعة في الدروب غير النافذة دالة على الاشتراك في الدرب إلى حد كل باب منها فيكون الأول شريكا من أول الدرب إلى بابه والثاني شريكاإلى إلى بابه والذي في آخر الدرب شريك من أول الدرب إلى بابه قولا واحدا وإلى آخر الدرب على الصحيح وكل ذلك بناء على الظن المستفاد من الاستطراق وأنه بحق
وقالوا : إن الأجنحة المطلة على ملك الجار وعلى الدروب غير النافذة أنها ملك لأصحابها اعتمادا على غلبة الظن بذلك وأنها وضعت باستحقاق وكذلك القنوات والجداول الجارية في ملك الغير دالة على اختصاصها بأرباب المياه بناء على الظن المستفاد من ذلك وأن صورها دالة على أنها وضعت باستحقاق
ومن ذلك : دلالة الأيدي على الاستحقاق اعتمادا على الظن الغالب مع القطع بكثرة وضع الأيدي عدوانا وظلما ولا سيما ما اطردت العادة بإجارته وخروجه من يد مالكه إلى يد مستأجره كالأراضي والدواب والحوانيت والرباع والحمامات وأن الغالب فيها الخروج عن يد مالكها وقد اعتبرتم اليد وقد استشكل كثير من فضلاء أصحابكم هذا واعترف بأن جوابه مشكل جدا ولما كان الظن المستفاد من الشهود أقوى من الظن المستفاد من هذه الوجوه قدم عليها
ولما كان الظن المستفاد من الإقرار أقوى من الظن المستفاد من الشهود قدم الإقرار عليها
ولذلك اكتفى كثير من الفقهاء بالمرة الواحدة في الإقرار بالزنا والسرقة لهذه القوة
قالوا : لأن وازع المقر طبعي ووازع الشهود شرعي والوازع الطبعي أقوى من الوازع الشرعي ولذلك يقبل الإقرار من المسلم والكافر والبر والفاجر لقيام الوازع الطبعي
ولما كان الوازع عن الكذب على نفسه مخصوصا بالمقر كان إقراره حجة قاصرة عليه وعلى من يتلقى عنه لكونه فرعه ولما كان الوازع الشرعي عاما بالنسبة إلى جميع الناس كان حجة عامة فإن خوف الله

يزع الشاهد عن الكذب في حق كل أحد فكان قوله حجة عامة لكل أحد ولما كان وازع الكذب مختصا بالمقر قصر عليه فهو خاص قوى والشهادة عامة ضعيفة بالنسبة إلى الإقرار قوية بالنسبة إلى الأيدي وإلى ما ذكرناه من الدلالات
ومعلوم أن الظنون لا تقع إلا بأسباب تثيرها وتحركها
فمن أسبابها : الاستصحاب واطراد العادة أو كثرة وقوعها أو قول الشاهد أو شاهد الحال ولا يقع في الظنون تعارض وإنما يقع في أسبابها وعلاماتها فإذا تعارضت أسباب الظنون فإن حصل الشك لم يحكم بشيء وإن وجد الظن في أحد الطرفين حكم به والحكم للراجح لأن مرجوحية مقابله تدل على ضعفه فإذا تعارض سببا ظن وكان كل واحد منهما مكذبا للآخر تساقطا كتعارض البينتين والأمارتين وإن لم يكن كل واحد منهما مكذبا للآخر عمل بهما على حسب الإمكان كدابة عليها راكبان وعبد ممسك بيديه اثنان ودار فيها ساكنان وخشبة لها حاملان وجدار متصل بملكين ونظائر هذا
فإن كان أحدهما أرجح من الآخر عمل بالراجح كالشاهد مع البراءة الأصلية ومع اليد يقدم عليهما لرجحانه
ولما كانت اليد لها مراتب في القوة والضعف كانت يد اللابس لثيابه وعمامته وخفه ومنطقته ونعله : أقوى من يد الجالس على البساط والراكب على الدابة ويد الراكب أقوى من يد السائق والقائد ويد الساكن للدار أضعف من تلك الأيدي ويد من هو داخل الحمام والخان أضعف من هذا كله قدم أقوى الأيدي على أضعفهما
فلو كان في الدار اثنان وتنازعا فيها وفي لباسهما الذي عليهما جعلت الدار بينهما لاستوائهما في اليد وكان القول قول كل منهما في لباسه المختص به لقوة يده بالقرب والاتصال ولو تنازع الراكب والسائق والقائد قدمت يد الراكب وكذلك قال الجمهور

لو تنازع الزوجان في متاع البيت أو الصانعان في حانوت كان القول قول من يدعي منهما ما يصلح له وحده لغلبة الظن القريب من القطع باختصاصه به
وكذلك لو رأينا رجلا شريفا حاسر الرأس وأمامه داعر على رأسه عمامة وبيده عمامة لا تليق به وهو هارب فتقديم يده على الظن المستفاد من كونها يدا عادية مما يقطع ببطلانه
وكذلك فقيه له كتب في داره وامرأته غير معروفة بشيء من ذلك البتة فتقديم يدها على شاهد حال الفقيه في غاية البعد وأين الظن المستفاد من هذا وأمثاله إلى الظن المستفاد من النكول ومن الظن المستفاد من اليد بل أين ذاك الظن من الظن المستفاد من الشاهد واليمين ومن الممتنع أن يرتب الشارع الأحكام على هذه الظنون ولا يرتبها على الظنون التي هي أقوى منها بمراتب كثيرة بل تكاد تقرب من القطع كما أنه من المحال أن يحرم التأفيف للوالدين ويبيح شتمهما وضربهما
وهل تقديم قول المدعي في القسامة إلا اعتمادا على الظن الغالب باللوث وقدم هذا الظن على ظن البراءة الأصيلة لقوته
وقد حكى الله سبحانه في كتابه عن الشاهد الذي شهد من أهل امرأة العزيز وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام وكذب المرأة بقوله إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم  وسمى الله سبحانه ذلك آية وهي أبلغ من البينة فقال ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين  وحكى سبحانه ذلك مقررا له غير منكر وذلك يدل على رضاه به
ومن هذا : حكم نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذي تنازع فيه المرأتان فقضى به داود للكبرى فخرجتا على سليمان فقصتا عليه القصة فقال سليمان عليه السلام : ائتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى : لا تفعل يا نبي الله هو ابنها فقضى به

للصغرى ولم يكن سليمان ليفعل ولكن أوهمهما ذلك فطابت نفس الكبرى بذلك استرواحا منها إلى راحة التسلي والتأسي بذهاب ابن الأخرى كما ذهب ابنها ولم تطب نفس الصغرى بذلك بل أدركتها شفقة الأم ورحمتها فناشدته أن لا يفعل استرواحا إلى بقاء الولد ومشاهدته حيا وإن اتصل إلى الأخرى
وتأمل حكم سليمان به للصغرى وقد أقرت به للكبرى تجد تحته : أن الإقرار إذا ظهرت أمارات كذبه وبطلانه لم يلتفت إليه ولم يحكم به على المقر وكان وجوده كعدمه وهذا هو الحق الذي لا يجوز الحكم بغيره
وكذلك إذا غلط المقر أو أخطأ أو نسي أو أقر بما لا يعرف مضمونه لم يؤاخذ بذلك الإقرار ولم يحكم به عليه كما لو أقر مكرها
والله تعالى رفع المؤاخذة بلغو اليمين لكون الحلف لم يقصد موجبها وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب والغالط والمخطىء والناسي والجاهل والمكره لم يكسب قلبه ما أقر به أو حلف عليه فلا يؤاخذ به
والمقصود : أن الزوج المظلوم المدعي عليه دعوى كاذبة ظالمة : بأنه ترك النفقة والكسوة تلك السنين كلها أو مدة مقامها عنده إذا تبين كذب المرأة في دعواها لم يجز للحاكم سماعها فضلا عن مطالبته برد الجواب فله طرق في التخلص من هذه الدعوى
أحدها : أن يقول : كيف يسوغ سماع دعوى تكذبها العادة والعرف ومشاهدة الجيران
الثاني : أن يقول للحاكم : سلها : من كان ينفق عليها ويكسوها في هذه المدة

فإن ادعت أن غيره كان يؤدي ذلك عنه لم تسمع دعواها وكانت الدعوى لذلك الغير ولا يقبل قولها على الزوج أن غيره قام بهذا الواجب عنه وهذا مما لا خفاء به ولا إشكال فيه وإن قالت : أنا كنت أنفق على نفسي قال الزوج : سلها : هل كانت هي التي تدخل وتخرج تشتري الطعام والإدام فإن قالت : نعم ظهر كذبها ولا سيما إن كانت من ذوات الشرف والأقدار
وإن قالت : كنت أوكل غيري في ذلك ألزمت ببيانه وإلا ظهر كذبها وظلمها وعدوانها وكانت معاونتها على ذلك معاونة على الإثم والعدوان
فإن أعوز الزوج حاكم عالم متحر للحق لا تأخذه فيه لومة لائم فليعدل إلى التحيل بالخلاص بما يبطل دعواها الكاذبه إما بأن يجحد استحقاقها لما ادعت به ولا يعدل إلى الجواب المفصل فتحتاج هي إلى إقامة البينة على سبب الاستحقاق وقد يتعذر أو يتعسر عليها ذلك
فإن أحضرت الصداق وأقامت البينة فإن كانت لم تنتقل معه إلى داره جحد تسليمها إليه والقول قوله إذا لم تكن معه في منزله
فإن كانت قد انتقلت معه إلى منزله وادعى نشوزها تلك المدة وأمكنه إقامة البينة بذلك سقطت نفقتها في مدة النشوز وإن لم يمكنه إقامة البينة وادعى عدم تمكينها له من الوطء وادعت أنها مكنته فالقول قوله لأن الأصل عدم التمكين وهذا غير دعواه النشوز فإن النشوز هو العصيان والأصل عدمه وهذا إنكار لاستيفاء حقه والأصل عدمه فتأمله
فإن كان له منها ولد لم يمكنه هذا الإنكار ومتى أحس بالشر والمكر احتال بأن يخبىء شاهدي عدل بحيث يسمعان كلامها ولا تراهما ثم يدفع إليها مالا أو ما ترضى به ويتلطف بها ثم يقول : أريد أن يجعل كل منا صاحبه في حل حتى تطيب أنفسنا ولعل الموت يأتي بغتة ونحو ذلك من الكلام
وإن أمكنه أن يستنطقها بأنها لا تستحق عليه إلى ذلك الوقت نفقة ولا كسوة وأنه

يرضيها من الآن ويدفع إليها ما ترضى به كان أقوى ثم يأخذ خط الشاهدين بذلك ويكتمه منها فإن أعجله الأمر عن ذلك وأمكنه المبادرة برفعها إلى حاكم مالكي أو حنفي بادر إلى ذلك
وبالجملة : فالحازم من يستعد لحيلهن ويعد لها حيلا يتخلص بها منها وهذا لا بأس به ولا إثم فيه ولا في تعليمه فإن فيه تخليص المظلوم وإغاثة الملهوف وإخزاء الظالم المعتدي والله الموفق للصواب وإنما أطلنا الكلام في هذا المثال لشدة حاجة الناس إلى ذلك ولعموم البلوى وكثرة الفجور وانتشار الضرر بتمكين المرأة من هذه الدعوى وسماعها وجعل القول قولها وفي ذلك كفاية وإلا فهي تحتمل أكثر من ذلك
فصل والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها مما لم نذكره : أن الله سبحانه
أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة وما يسره من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وسهله للأمة عن الدخول في الآصار والأغلال وعن ارتكاب طرق المكر والخداع والاحتيال كما
أغنانا عن كل باطل ومحرم وضار بما هو أنفع لنا منه : من الحق والمباح النافع فأغنانا بأعياد الإسلام عن أعياد الكفار والمشركين من أهل الكتاب والمجوس والصابئين وعبدة الأصنام
وأغنانا بوجوه التجارات والمكاسب الحلال عن الربا والميسر والقمار
وأغنانا بنكاح ما طاب لنا من النساء مثنى وثلاث ورباع والتسري بما شئنا من الإماء عن الزنا والفواحش
وأغنانا بأنواع الأشربة اللذيذة النافعة للقلب والبدن عن الأشربة الخبيثة المسكرة المذهبة للعقل والدين وأغنانا بأنواع الملابس الفاخرة : من الكتان والقطن والصوف عن الملابس

المحرمة : من الحرير والذهب
وأغنانا عن سماع الأبيات وقرآن الشيطان بسماع الآيات وكلام الرحمن
وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام طلبا لما هو خير وأنفع لنا باستخارته التي هي توحيد وتفويض واستعانة وتوكل وأغنانا عن طلب التنافس في الدنيا وعاجلها بما أحبه لنا وندبنا إليه من التنافس في الآخرة وما أعد لنا فيها وأباح الحسد في ذلك وأغنانا به عن الحسد على الدنيا وشهواتها
وأغنانا بالفرح بفضله ورحمته وهما القرآن والإيمان عن الفرح بما يجعله أهل الدSETنيا من المتاع والعقار والأثمان فقال تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وأغنانا بالتكبر على أعداء الله تعالى وإظهار الفخر والخيلاء لهم عن التكبر على أولياء الله تعالى والفخر والخيلاء عليهم فقال صلى الله عليه وسلم لمن رآه يتبختر بين الصفين : إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن
وأغنانا بالفروسية الإيمانية والشجاعة الإسلامية التي تأثيرها في الغضب على أعدائه ونصرة دينه عن الفروسية الشيطانية التي يبعث عليها الهوى وحمية الجاهلية

وأغنانا بالخلوة الشرعية حال الاعتكاف عن الخلوة البدعية التي يترك لها الحج والجهاد والجمعة والجماعة
وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية عن طرق أهل المكر والاحتيال
فلا تشتد حاجة الأمة إلى شيء إلا وفيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم  ما يقتضي إباحته وتوسعته بحيث لا يحوجهم فيه إلى مكر واحتيال ولا يلزمهم الآصار والأغلال فلا هذا من دينه ولا هذا
كما أغنانا بالبراهين والآيات التي أرشد إليها القرآن عن الطرق المتكلفة المتعسفة المعقدة التي باطلها أضعاف حقها : من الطرق الكلامية التي الصحيح منها كلحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل ونحن نعلم علما لا نشك فيه أن الحيل التي تتضمن تحليل ما حرمه الله تعالى وإسقاط ما أوجبه لو كانت جائزة لسنها الله سبحانه وندب إليها لما فيها من التوسعة والفرج للمكروب والإغاثة للملهوف كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين
وقد قال المبعوث بالحنيفية السمحة صلى الله عليه وسلم  ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا تركت من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك
فهلا ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحيل وحض عليها كما حض على إصلاح ذات البين بل لم يزل يحذر من الخداع والمكر والنفاق ومشابهة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات التي رتب عليها أنواع الذم والعقوبات وسد الذرائع الموصلة إليها لم يحرمها ابتداء ولا رتب عليها العقوبة ولا سد الذرائع إليها ولكان ترك أبوابها مفتحة أسهل من المبالغة في غلقها وسدها ثم يفتح لها أنواع الحيل حتى ينقب المحتال عليها من كل ناحية فهذا مما تصان عنه الشرائع فضلا عن أكملها شريعة وأفضلها دينا

وقد قدمنا أن الضرر والمفاسد الحاصلة من تلك المحرمات لا يزول بالاحتيال والتنقيب عليها بل تقوى وتشتد مفاسدها

فصل إذا عرف هذا فالطرق التي تتضمن نفع المسلمين والذب عن الدين ونصر
المظلومين وإغاثة الملهوفين ومعارضة المحتالين بالباطل ليدحضوا به الحق من أنفع الطرق وأجلها علما وعملا وتعليما
فيجوز للرجل أن يظهر قولا أو فعلا مقصوده به مقصود صالح وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به إذا كان فيه مصلحة دينية مثل دفع ظلم عن نفسه أو عن مسلم أو معاهد أو نصرة حق أو إبطال باطل من حيلة محرمة أو غيرها أو دفع الكفار عن المسلمين أو التوصل إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله
فكل هذه طرق جائزة أو مستحبة أو واجبة
وإنما المحرم : أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعت له فيصير مخادعا لله فهذا مخادع لله ورسوله وذلك مخادع للكفار والفجار والظلمة وأرباب المكر والاحتيال فبين هذا الخداع وذاك الخداع من الفرق كما بين البر والإثم والعدل والظلم والطاعة والمعصية فأين من قصده إظهار دين الله تعالى ونصر المظلوم وكسر الظالم إلى من قصده ضد ذلك
إذا عرف هذا فنقول : الحيل أقسام
أحدها : الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى ما هو محرم في نفسه فمتى كان المقصود بها محرما في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين وصاحبها فاجر ظالم آثم
وذلك كالتحيل على هلاك النفوس وأخذ الأموال المعصومة وفساد ذات البين وحيل الشياطين على إغواء بني آدم وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض الحق وإظهار الباطل في الخصومات الدينية والدنيوية فكل ما هو محرم في نفسه فالتوصل إليه محرم بالطرق الظاهرة والخفية بل التوصل إليه بالطرق الخفية أعظم إثما وأكبر عقوبة فإن

أذى المخادع وشره يصل إلى المظلوم من حيث لا يشعر ولا يمكنه الاحتراز عنه ولهذا قطع السارق دون المنتهب والمختلس ومن هذا : رأى مالك ومن وافقه : أن القاتل غيلة يقتل وإن قتل من لا يكافئه لمفسدة فعله وعدم إمكان التحرز منه ومن هذا : رأى عبدالله بن الزبير : قطع يد الزغلي لعظم ضرره على الأموال وعدم إمكان التحرز منه فهو أولى بالقطع من السارق وقوله قوي جدا
ومن هذا رأى الإمام أحمد قطع يد جاحد العارية لأنه لا يمكن الاحتراز منه بخلاف جاحد الوديعة فإنه هو الذي إئتمنه والعمدة في ذلك على السنة الصحيحة التي لا معارض لها
والقصد : أن التوصل إلى الحرام حرام سواء توصل إليه بحيلة خفية أو بأمر ظاهر
وهذا النوع من الحيل ينقسم قسمين :
أحدهما : ما يظهر فيه أن مقصود صاحبه الشر والظلم كحيل اللصوص والظلمة والخونة والثاني : ما لا يظهر ذلك فيه بل يظهر المحتال أن قصده الخير ومقصوده الظلم والبغي مثل إقرار المريض لوارث لا شيء له عنده قصدا لتخصيصه بالمقر به أو إقراره بوارث وهو غير وارث إضرارا بالورثة وهذا حرام باتفاق الأمة وتعليمه لمن يفعله حرام والشهادة عليه حرام إذا علم الشاهد صورة الحال والحكم بموجب ذلك حكم باطل حرام يأثم به الحاكم باتفاق المسلمين إذا علم صورة الحال فهذه الحيلة في نفسها محرمة لأنها كذب وزور والمقصود بها محرم لكونه ظلما وعدوانا
ولكن لما أمكن أن يكون صدقا اختلف العلماء في إقرار المريض لوارث هل هو باطل سدا للذريعة وردا للإقرار الذي صادف حق الورثة فيما هو متهم فيه لأنه شهادة على نفسه فيما تعلق به حقهم فيرد للتهمة كالشهادة على غيره أو هو مقبول إحسانا للظن بالمقر ولا سيما عند الخاتمة ومن هذا الباب : احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج مع إمساكه بالمعروف بإنكارها الإذن للولي أو إساءة عشرة الزوج ونحو ذلك

و
احتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه كان محجورا عليه
واحتيال المشتري على الفسخ بأنه لم ير المبيع
واحتيال المؤجر على المستأجر في فسخ الإجارة أو احتيال المستأجر عليه بأنه استأجر ما لم يره
واحتيال الراهن على المرتهن في فسخ الرهن بأن يظهر أنه آجره قبل الرهن أو كان رهنه عند زوجته أو أمته ونحو ذلك فهذا النوع لا يستريب أحد أنه من كبائر الإثم وهو من أقبح المحرمات وهو بمنزلة لحم خنزير ميت حرام وأنه في نفسه معصية لتضمنه الكذب والزور ومن جهة تضمنه إبطال الحق وإثبات الباطل
القسم الثالث : ما هو مباح في نفسه لكن بقصد المحرم صار حراما كالسفر لقطع الطريق ونحو ذلك فههنا المقصود حرام والوسيلة في نفسها غير محرمة لكن لما توسل بها إلى الحرام صارت حراما
القسم الرابع : أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل لكن تكون الطريق إلى حصول ذلك محرمة مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده فيقيم شاهدين لا يعرفان غريمه ولم يرياه يشهدان له بما ادعاه فهذا محرم أيضا وهو عندالله تعالى عظيم لأن الشاهدين يشهدان بالزور وشهادة الزور من الكبائر وقد حملهما على ذلك
وكذلك لو كان له عند رجل دين فجحده إياه وله عنده وديعة فجحد الوديعة وحلف أنه لم يودعه أو كان له على رجل دين لا بينة له به ودين آخر به بينة لكنه اقتضاه منه فيدعي هذا الدين ويقيم به بينة وينكر الاستيفاء
أو يكون قد اشترى منه شيئا فظهر به عيب تلف المبيع به فادعى عليه بثمنه فأنكر أصل العقد وأنه لم يشتر منه شيئا أو تزوج امرأة فأنفق عليها مدة طويلة فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئا فجحد نكاحها بالكلية
فهذا حرام أيضا لأنه كذب ولا سيما إن حلف عليه ولكن لو تأول في يمينه لم يكن به بأس فإنه مظلوم

فإن قيل : فما تقولون لو عامله معاملة ربا فقبض رأس ماله ثم ادعى عليه بالزيادة المحرمة هل يسوغ له أن ينكر المعاملة أو يحلف عليها
قيل : يسوغ له الحلف على عدم استحقاقها وأن دعواها دعوى باطلة فلو لم يقبل منه الحاكم هذا الجواب ساغ له التأويل في اليمين لأنه مظلوم ولا يسوغ له الإنكار والحلف من غير تأويل لأنه كذب صريح فليس له أن يقابل الفجور بمثله
كما أنه ليس له أن يكذب على من كذب عليه أو يقذف من قذفه أو يفجر بزوجة من فجر بزوجته أو بابن من فجر بابنه
فإن قيل : فما تقولون في مسألة الظفر هل هي من هذا الباب أو من القصاص المباح قيل : قد اختلف الفقهاء فيها على خمسة أقوال
أحدها : أنها من هذا الباب وأنه ليس له أن يخون من خانه ولا يجحد من جحده ولا يغصب من غصبه وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك
والثاني : يجوز له أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بجنسه أو غير جنسه وفي غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه ويستوفي ثمنه منه وهذا قول أصحاب الشافعي
والثالث : يجوز له أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بجنس ماله وليس له أن يأخذ من غير الجنس وهذا قول أصحاب أبي حنيفة
والرابع : أنه إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ وهذا إحدى الروايتين عن مالك والخامس : أنه إن كان سبب الحق ظاهرا كالنكاح والقرابة وحق الضيف جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم  لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها ويكفي بنيها وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يضيفوه أن يعقبهم

في مالهم بمثل قراه كما في الصحيحين عن عقبة ابن عامر قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم  إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى فقال لنا : إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم وفي المسند من حديث المقدام أبي كريمة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول من نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه
وفي المسند لأحمد أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه وإن كان سبب الحق خفيا بحيث يتهم بالأخذ وينسب إلى الخيانة ظاهرا لم يكن له

الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة وإن كان في الباطن آخذا حقه كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التي تسلط الناس على عرضه وإن ادعى أنه محق غير متهم وهذا القول أصح الأقوال وأسدها وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها وبه تجتمع الأحاديث فإنه قد روى أبو داود في سننه من حديث يوسف بن ماهك قال : كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم فغالطوه بألف درهم فأداها إليهم فأدركت له من أموالهم مثلها فقلت : اقبض الألف الذي ذهبوا به منك قال : لا حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك
وهذا وإن كان في حكم المنقطع فإن له شاهدا من وجه آخر وهو حديث طلق بن غنام : أخبرنا شريك وقيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وقيس هو ابن الربيع وشريك ثقة وقد قوي حديثه بمتابعة قيس له وإن كان فيه ضعف
وله شاهد آخر من حديث أيوب بن سويد عن ابن شوذب عن أبي التياح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وأيوب بن سويد وإن كان فيه ضعف فحديثه يصلح للاستشهاد به وله شاهد آخر وإن كان فيه ضعف فهو يقوى بانضمام هذه الأحاديث إليه رواه يحيى بن أيوب عن إسحاق بن أسيد عن أبي حفص الدمشقي عن مكحول : أن رجلا قال لأبي أمامة الباهلي الرجل أستودعه الوديعة أو يكون لي عليه دين فيجحدني ثم يستودعني أو يكون له عندي الشيء أفأجحده فقال : لا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وله شاهد آخر مرسل قال يحيى بن أيوب : عن ابن جريج عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم  أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وله شاهد آخر وهو ما رواه الترمذي من حديث مالك بن نضلة قال : قلت يا رسول الله

الرجل أمر به فلا يقريني ولا يضيفني فيمر بي أفأجزيه قال : لا أقره قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
وله شاهد آخر وهو ما رواه أبو داود من حديث بشر بن الخصاصية قال : قلت : يا رسول الله إن أهل الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا فقال : لا
وله شاهد آخر من حديث بشر هذا أيضا قلت : يا رسول الله إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه فقال : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ذكره شيخنا في كتاب إبطال التحليل
فهذه الآثار مع تعدد طرقها واختلاف مخارجها يشد بعضها بعضا ولا يشبه الأخذ فيها الأخذ في الموضعين اللذين أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما الأخذ لظهور سبب الحق فلا ينسب الآخذ إلى الخيانة ولا يتطرق إليه تهمة ولتعسر الشكوى في ذلك إلى الحاكم وإثبات الحق والمطالبة به
والذين جوزوه يقولون : إذا أخذ قدر حقه من غير زيادة لم يكن ذلك خيانة فإن الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه وهذا ضعيف جدا فإنه يبطل فائدة الحديث فإنه قال : ولا تخن من خانك فجعل مقابلته له خيانة ونهاه عنها فالحديث نص بعد صحته
فإن قيل : فهلا جعلتموه مستوفيا لحقه بنفسه إذ عجز عن استيفائه بالحاكم كالمغصوب ماله إذا رآه في يد الغاصب وقدر على أخذه منه قهرا فهل تقولون : إنه لا يحل له أخذ عين ماله وهو يشاهده في يد الظالم المعتدي ولا يحل له إخراجه من داره وأرضه
وكذلك إذا غصب زوجته وحال بينه وبينها وعقد عليها ظاهرا بحيث لا يتهم فهل يحرم على الزوج الأول انتزاع زوجته منه خشية التهمة وهذا لا تقولونه أنتم ولا أحد من أهل العلم
ولهذا قال الشافعي وقد ذكر حديث هند : وإذ قد دلت السنة وإجماع كثير من أهل العلم على أن يأخذ الرجل حقه لنفسه سرا فقد دل أن ذلك ليس بخيانة إذ الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه

فالجواب : أنا نقول يجوز له أن يستوفي قدر حقه لكن بطريق مباح فأما بخيانة وطريق محرمة فلا
وقولكم : ليس ذلك بخيانة قلنا : بل هو خيانة حقيقة ولغة وشرعا وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيانة وغايتها أنها خيانة مقابلة ومقاصة لا خيانة ابتداء فيكون كل واحد منهما مسيئا إلى الآخر ظالما له فإن تساوت الخيانتان قدرا وصفة فقد يتساقط إثمهما والمطالبة في الآخرة أو يكون لكل منهما على الآخر مثل ما للآخر عليه وإن بقي لأحدهما فضل رجع به فهذا في أحكام الثواب والعقاب
وأما في أحكام الدنيا فليس كذلك لأن الأحكام فيها مرتبة على الظواهر وأما السرائر فإلى الله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم  إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر أقضي بنحو مما أسمع ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بينهم بالظاهر وأعلم المبطل في نفس الأمر أن حكمه لا يحل له أخذ ما يحكم له به وأنه مع حكمه له به فإنما يقطع له قطعة من النار فإذا كان الحق مع هذا الخصم في الظاهر وجب على الحاكم أن يحكم له به ويقره بيده وإن كانت يدا عادية ظالمة عند الله تعالى فكيف يسوغ لخصمه أن يحكم لنفسه ويستوفي لنفسه بطريق محرمة باطلة لا يحكم بمثلها الحاكم وإن كان محقزا في نفس الأمر وليس هذا بمنزلة من رأى عين ماله أو أمته أو زوجته بيد غاصب ظالم فخلصها منه قهرا فإنه قد تعين حقه في هذه العين بخلاف صاحب الدين فإن حقه لم يتعين في تلك العين التي يريد أن يستوفي منها ولأنه لا يتكتم بذلك ولا يستخفي به كما يفعل الخائن بل يكابر صاحب اليد العادية ويغالبه ويستعين عليه بالناس فلا ينسب إلى خيانة والأول متكتم مستخف متصور بصورة خائن وسارق فإلحاق أحدهما بالآخر باطل والله أعلم

فصل القسم الخامس من الحيل : أن يقصد حل ما حرمه الشارع
أو سقوط ما أوجبه بأن يأتي بسبب نصبه الشارع سببا إلى أمر مباح مقصود فيجعله المحتال المخادع سببا إلى أمر محرم مقصود اجتنابه
فهذه هي الحيل المحرمة التي ذمها السلف وحرموا فعلها وتعليمها
وهذا حرام من جهتين : من جهة غايته ومن جهة سببه
أما غايته : فإن المقصود به إباحة ما حرمه الله ورسوله وإسقاط ما أوجبه
وأما من جهة سببه : فإنه اتخذ آيات الله هزوا وقصد بالسبب ما لم يشرع لأجله ولا قصده به الشارع بل قصد ضده فقد ضاد الشارع في الغاية والحكمة والسبب جميعا وقد يكون أصحاب القسم الأول من الحيل أحسن حالا من كثير من أصحاب هذا القسم فإنهم يقولون : إن ما نفعله حرام وإثم ومعصية ونحن أصحاب تحيل بالباطل عصاة لله ولرسوله مخالفون لدينه وكثير من هؤلاء يجعلون هذا القسم من الدين الذي جاءت به الشريعة وأن الشارع جوز لهم التحيل بالطرق المتنوعة على إباحة ما حرمه وإسقاط ما أوجبه فأين حال هؤلاء من حال أولئك ثم إن هذا النوع من الحيل يتضمن نسبة الشارع إلى العبث وشرع ما لا فائدة فيه إلا زيادة الكلفة والعناء فإن حقيقة الأمر عند أرباب الحيل الباطلة : أن تصير العقود الشرعية عبثا لا فائدة فيها فإنها لم يقصد بها المحتال مقاصدها التي شرعت لها بل لأغراض له في مقاصدها وحقائقها البتة وإنما غرضه التوصل بها إلى ما هو ممنوع منه فجعلها سترة وجنة يتستر بها من ارتكاب ما نهي عنه صرفا فأخرجه في قالب الشرع كما أخرجت الجهمية التعطيل في قالب التنزيه
وأخرج المنافقون النفاق في قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشي

وأخرج الظلمة الفجرة الظلم والعدوان في قالب السياسة وعقوبة الجناة وأخرج المكاسون أكل المكوس في قالب إعانة المجاهدين وسد الثغور وعمارة الحصون وأخرج الروافض الإلحاد والكفر والقدح في سادات الصحابة وحزب رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأوليائه وأنصاره في قالب محبة أهل البيت والتعصب لهم وموالاتهم
وأخرجت الإباحية وفسقة المنتسبين إلى الفقر والتصوف بدعهم وشطحهم في قالب الفقر والزهد والأحوال والمعارف ومحبة الله ونحو ذلك وأخرجت الإتحادية أعظم الكفر والإلحاد في قالب التوحيد وأن الوجود واحد لا اثنان وهو الله وحده فليس ههنا وجودان : خالق ومخلوق ولا رب وعبد بل الوجود كله واحد وهو حقيقة الرب
وأخرجت القدرية إنكار عموم قدرة الله تعالى على جميع الموجودات : أفعالها وأعيانها في قالب العدل وقالوا : لو كان الرب قادرا على أفعال عباده لزم أن يكون ظالما لهم فأخرجوا تكذيبهم بالقدر في قالب العدل
وأخرجت الجهمية جحدهم لصفات كماله سبحانه في قالب التوحيد وقالوا : لو كان له سبحانه سمع وبصر وقدرة وحياة وإرادة وكلام يقوم به لم يكن واحدا وكان آلهة متعددة
وأخرجت الفسقة والذين يتبعون الشهوات الفسوق والعصيان في قالب الرجاء وحسن الظنع بالله تعالى وعدم إساءة الظن بعفوه وقالوا : تجنب المعاصي والشهوات إزراء بعفو الله تعالى وإساءة للظن به ونسبة له إلى خلاف الجود والكرم والعفو
وأخرجت الخوارج قتال الأئمة والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم في قوالب متنوعة بحسب تلك البدع

وأخرج المشركون شركهم في قالب التعظيم لله وأنه أجل من أن يتقرب إليه بغير وسائط وشفعاء وآلهة تقربهم إليه
فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه في قالب حق
والمقصود : أن أهل المكر والحيل المحرمة يخرجون الباطل في القوالب الشرعية ويأتون بصور العقود دون حقائقها ومقاصدها
فصل وهذا القسم من أقسام الحيل أنواع : أحدها : الاحتيال لحل
ما هو حرام في الحال كالحيل الربوية وحيلة التحليل
الثاني : الاحتيال على حل ما انعقد سبب تحريمه فهو صائر إلى التحريم ولا بد كما إذا علق طلاقها بشرط محقق تعليقا يقع به ثم أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط فخالعها خلع الحيلة حتى بانت ثم تزوجها بعد ذلك
الثالث : الاحتيال على إسقاط ما هو واجب في الحال كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه وأداء الدين الواجب بأن يملك ماله لزوجته أو ولده فيصير معسرا فلا يجب عليه الإنفاق والأداء وكمن يدخل عليه رمضان ولا يريد صومه فيسافر ولا غرض له سوى الفطر ونحو ذلك
الرابع : الاحتيال على إسقاط ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب لكنه صائر إلى الوجوب فيحتال حتى يمنع الوجوب كالاحتيال على إسقاط الزكاة بتمليكه ماله قبل مضيالحول لبعض أهله ثم استرجاعه بعد ذلك وهذا النوع ضربان : أحدهما إسقاط حق الله تعالى بعد وجوبه أو انعقاد سببه والثاني : إسقاط حق المسلم بعد وجوبه أو انعقاد سببه كالاحتيال على إسقاط الشفعة التي شرعت دفعا للضرر عن الشريك قبل وجوبها أو بعده
الخامس : الاحتيال على أخذ حقه أو بعضه أو بدله بخيانة كما تقدم وله صور كثيرة

منها : أن يجحده دينه كما جحده
ومنها : أن يخونه في وديعته كما خانه
ومنها : أن يغشه في بيع معيب كما غشه هو في بيع معيب
ومنها : أن يسرق ماله كما سرق ماله
ومنها : أن يستعمله بأجرة دون أجرة مثله ظلما وعدوانا أو غرورا وخداعا أو غبنا فيقدر المستأجر له على مال فيأخذ تمام أجرته
وهذا النوع يستعمله كثير من أرباب الديوان ونظار الوقوف والعمال وجباه الفيء والخراج والجزية والصدقة وأمثالهم فإن كان المال مشتركا بين المسلمين رتعوا وربعوا ورأى أحدهم أن من الغبن أن يفوته شيء منه ويرى إن عدل أن له نصف ذلك المال ويسعى في السدس تكملة للثلثين كما قيل في بعضهم :
له نصف بيت المال فرض مقرر ... وفي سدس التكميل يسعى ليخلصا من القوم لا تثنيهم عن مرادهم ... عقوبة سلطان بسوط ولا عصا

فصل وقد عرف بما ذكرنا الفرق بين الحيل التي تخلص من الظلم والبغي
والعدوان والحيل التي يحتال بها على إباحة الحرام وإسقاط الواجبات وإن جمعهما اسم الحيلة والوسيلة وعرف بذلك أن العينة لا تخلص من الحرام وإنما يتوسل بها إليه وهو المقصود الذي اتفقا عليه ويعلمه الله تعالى من نفوسهما وهما يعلمانه ومن شاهدهما يعلمه وكذلك تمليك ما له لولده عند قرب الحول فرارا من الزكاة لا يخلص من الإثم بل يغمسه فيه لأنه قصد إلى إسقاط فرض قد انعقد سببه ولكن عذر من جوز ذلك أنه لم يسقط الواجب وإنما أسقط الوجوب وفرق بين الأمرين فإن له أن يمنع الوجوب وليس له أن يمنع الواجب
وهكذا القول في التحيل على إسقاط الشفعة قبل البيع فإنه يمنع وجوب الاستحقاق

ولا يمنع الحق الذي وجب بالبيع فذلك لا يجوز وهو نظير منع الزكاة بعد وجوبها فذلك لا يجوز بحيلة ولا غيرها
وكذلك التحيل على منع وجوب الجمعة عليه بأن يسكن في مكان لا يبلغه النداء أو لا يمكنه الذهاب منه إلى الجمعة والرجوع في يومه أو السفر قبل دخول وقتها ولا يجوز له التحيل على تركها بعد وجوبها عليه
وكذلك التحيل على منع وجوب الإنفاق على القريب بأن لا يكتسب مالا يجب فيه الإنفاق ولا يجوز له التحيل على إسقاط ما وجب من ذلك فهذا سر الفرق الذي اعتمده أصحاب الحيل وأما المانعون فيجيبون عن ذلك :
بأن هذا لو أجدى على المتحيلين لم يعاقب الله سبحانه تعالى أصحاب الجنة الذين عزموا على صرامها ليلا لئلا يحضرهم المساكين فهؤلاء قصدوا دفع الوجوب بعد انعقاد سببه وهو نظير التحيل لإسقاط الزكاة بعد ثبوت سببها
وبأن هذا يبطل حكمة الإيجاب فإن الله سبحانه إنما أوجبها في أموال الأغنياء طهرة لهم وزكاة ورحمة للمساكين وسدا لفاقتهم فالتحيل على منع وجوبها يعود على ذلك كله بالإبطال
وبأن الشارع لو جوز التحيل على منع الإيجاب بعد انعقاد سببه لم يكن في الإيجاب فائدة إذ ما من أحد إلا ويمكنه التحيل بأدنى حيلة على الدفع فيكون الإيجاب عديم الفائدة فإنه إذا أوجبه وجوز إسقاطه بعد انعقاد سبب الإيجاب عاد ذلك بنقض ما قصده
وبأنه إذا انعقد سبب الوجوب فقد تعلق الوجوب بالمكلف فلا يمكنه الشارع من قطع هذا التعليق ولا سيما إذا شارف وقت الوجوب وحضر حتى كأنه داخل فيه كما إذا بقي من الحول يوم أو ساعة فالإسقاط ههنا في حكم الإسقاط بعد الحول سواء ومفسدته كمفسدته فإن المصلحة الفائتة بالمنع بعد تلك الساعة كالمفسدة الحاصلة بالتسبب إلى المنع قبلها من كل وجه

وبأن الحكم بعد انعقاد سببه كالثابت الذي قد صح ووجد
وبأن الوجوب قد تحقق بانعقاد سببه وإنما جوز له التأخير إلى تمام الحول توسعة عليه ولهذا يجوز له أداء الواجب قبل الحول ويكون واقعا موقعه ولأن الفرار من الإيجاب إنما يقصد به الفرار من أداء الواجب وأن يسقط ما فرضه الله عليه عند مضي الحول وليس هذا كمن ترك اكتساب المال الذي يجب فيه الزكاة فرارا من وجوبها عليه أو ترك بيع الشقص فرارا من أخذ الشفيع له أو ترك التزوج فرارا من وجوب الإنفاق ونحو ذلك فإن هذا لم ينعقد في حقه السبب بل ترك ما يفضي إلى الإيجاب ولم يتسبب إليه وهذا تحيل بعد السبب على إسقاط ما تعلق به من أداء الواجب واحتال على قطع سببيته بعد ثبوتها
وأيضا فإن قطع سببية السبب تغيير لحكم الله وإسقاط للسببية بالتحيل وليس ذلك للمكلف فإن الله سبحانه هو الذي جعل هذا سببا بحكمه وحكمته فليس له أن يبطل هذا الجعل بالحيلة والمخادعة وهذا بخلاف ما إذا وهبه ظاهرا وباطنا أو أنفقه فإنه لم يحتل بإظهار أمر وإبطان خلافه على منع الإيجاب وأداء الواجب
وأيضا فإنه إذا احتال على منع الإيجاب تضمن ذلك الحيلة على منع أداء الواجب ومعلوم أن منعه أداء الواجب فقط أيسر من تحيله على الأمرين جميعا
وأيضا فإنه لا يصح فراره من الوجوب مع إتيانه بسببه فإن الفار من الشيء فار من أسبابه وهذا أحرص شيء على الملك الذي هو سبب وجوب الحق عليه ومن حرصه عليه : تحيل على ترك الإخراج حرصا وشحا فهو فار من أداء الواجب ظانا أنه يفر من وجوبه عليه والأول حاصل له دون الثاني
ونكتة الفرق من جهة الوسيلة والمقصود فإن المحتال على المحرمات وإسقاط الواجبات مقصوده فاسد ووسيلته باطلة فإنه توسل بالشيء إلى غير مقصوده وتوسل به إلى مقصود محرم فإن الله سبحانه إنما جعل النكاح وسيلة إلى المودة والرحمة والمصاهرة والنسل وغض

البصر وحفظ الفرج والتمتع والإيواء وغير ذلك من مقاصد النكاح والمحلل لم يتوسل به إلى شيء من ذلك بل إلى تحليل ما حرمه الله تعالى فإنه سبحانه حرمها على المطلق ثلاثا عقوبة له فتوسل هذا بنكاحها إلى تحليل ما حرمه الله تعالى له ولم يتوسل به إلى ما شرع له فكان القصد محرما والوسيلة باطلة
وكذلك شرع الله البيع وسيلة إلى انتفاع المشتري بالعين والبائع بالثمن فتوسل به المرابي إلى محض الربا وأتى به لغير مقصوده فإنه لا غرض له في تملك تلك العين ولا الانتفاع بها وإنما غرضه الربا فتوسل إليه بالبيع
وكذلك شرع سبحانه الأخذ بالشفعة دفعا للضرر عن الشريك فتوسل المبطل لها بإظهار الصرف الذي لا حقيقة له إلى إبطالها فكانت وسيلته باطلة ومقصوده محرما وكذلك الزكاة فرضها رحمة منه بالمساكين وطهرة للأغنياء فتوسل المسقط لها إلى إبطال هذا المقصود بإظهار عقد لا حقيقة له من بيع أو هبة وكذلك القرض شرع الله سبحانه فيه العدل وأن لا يزداد على مثل ما أقرض فإذا احتال المقرض على الزيادة فقد احتال على مقصود محرم بطريق باطلة
وكذلك بيع الثمر قبل بدو صلاحها باطل لما يفضي إليه من أكل المال بالباطل فإذا احتال عليه بأن شرط القطع ثم تركه حتى يكمل كان قد احتال على مقصود محرم بشرط غير مقصود بل قد علم المتعاقدان وغيرهما أنه لا يقطعه ولا سيما إن كان مما لا ينتفع به قبل الصلاح بوجه كالتوت والفرسك وغيرهما فاشتراط قطعه خداع محض
وكذلك سائر الحيل التي تعود على مقصود الشارع وشرعه بالنقض والإبطال غاياتها محرمة ووسائلها باطلة لا حقيقة لها
وكذلك الفدية والخلع التي شرعها الله يخلص كلا من الزوجين من الآخر إذا وقع الشقاق بينهما فجعلوه حيلة للحنث في اليمين وبقاء النكاح والله سبحانه إنما شرعه لقطع النكاح حيث يكون قطعه مصلحة لهما
وبهذا يتبين لك الفرق بين الحيل التي يتوصل بها إلى تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله وإقامة

دينه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المحق وكسر المبطل والحيل التي يتوصل بها إلى خلاف ذلك فتحصيل المقاصد المشروعة بالطرق التي جعلت موصلة إليها شيء وتحصيل المقاصد الفاسدة بالطرق التي جعلت لغيرها شيء آخر
فالفرق بين النوعين ثابت من جهة الوسيلة والمقصود اللذين هما : المحتال به والمحتال عليه
فالطرق الموصلة إلى الحلال المشروع هي الطرق التي لا خداع في وسائلها ولا تحريم في مقاصدها وبالله التوفيق
فصل وأما قولكم : إن من حلف بطلاق زوجته : ليشربن هذا الخمر
أو ليقتلن هذا الرجل أو نحو ذلك كان في الحيلة تخليصه من هذه المفسدة ومن مفسدة وقوع الطلاق
فيقال : نعم والله قد شرع الله له ما يتخلص به ولخلاصه طرق عديدة فلا تتعين الحيلة التي هي خداع ومكر لتخليصه بل ههنا طرق عدة قد سلك كل طريق منها طائفة من الفقهاء من سلف الأمة وخلفها الطريق الأولى : طريقة من قال : لا تنعقد هذه اليمين بحال ولا يحنث فيها بشيء سواء كانت بصيغة الحلف كقوله الطلاق يلزمني لأفعلن أو بصيغة التعليق المقصود كقوله إن طلعت الشمس أو إن حضت أو إن جاء رأس الشهر فأنت طالق أو التعليق المقصود به اليمين من الحض والمنع والتصديق والتكذيب كقوله إن لم أفعل كذا وإن فعلت كذا فامرأتي طالق وهذا اختيار أجل أصحاب الشافعي الذين جالسوه أو من هو من أجلهم : أبي عبدالرحمن وهو أجل من أصحاب الوجوه المنتسبين إلى الشافعي وهذا مذهب أكثر أهل الظاهر

فعندهم أن الطلاق لا يقبل التعليق كالنكاح ولم يرد مخالفوا هؤلاء عليهم بحجة تشفي
الطريق الثانية : طريق من يقول : لا يقع الطلاق المحلوف به ولا العتق المحلوف به ويلزمه كفارة اليمين إذا حنث فيه وهذا مذهب ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وزينب بنت أم سلمة وحفصة في الحلف بالعتق الذي هو قربة إلى الله تعالى بل من أحب القرب إلى الله ويسري في ملك الغير فما يقول هؤلاء في الحلف بالطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله تعالى وأحب الأشياء إلى الشيطان والسائل لهؤلاء الصحابة إنما كان امرأة حلفت بأن كل مملوك لها حرك إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته فقالوا لها : كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته

وهؤلاء الصحابة أفقه في دين الله وأعلم من أن يفتوا بالكفارة في الحلف بالعتق ويرونه يمينا ولا يرون الحلف بالطلاق يمينا ويلزمون الحانث بوقوعه فإنه لا يجد فقيه شم رائحة العلم بين البابين والتعليقين فرقا بوجه من الوجوه
وإنما لم يأخذ به أحمد لأنه لم يصح عنده إلا من طريق سليمان التيمي واعتقد أنه تفرد به وقد تابعه عليه محمد بن عبدالله الأنصاري وأشعث الحمراني ولهذا لما ثبت عند أبي ثور قال به وظن الإجماع في الحلف بالطلاق على لزومه فلم يقل به
الطريق الثالثة : طريق من يقول : ليس الحلف بالطلاق شيئا وهذا صحيح عن طاوس وعكرمة
أما طاوس فقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه : أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئا وقد رد بعض المتعصبين لتقليدهم ومذاهبهم هذا النقل بأن عبد الرزاق ذكره في باب يمين المكره فحمله على الحلف بالطلاق مكرها وهذا فاسد فإن الحجة ليست في الترجمة وإنما الاعتبار بما يروى في أثناء الترجمة ولا سيما المتقدمين كابن أبي شيبة وعبدالرزاق ووكيع وغيرهم فإنهم يذكرون في أثناء الترجمة آثارا لا تطابق الترجمة وإن كان لها بها نوع تعلق وهذا في كتبهم لمن تأمله أكثر وأشهر من أن يخفى وهو في صحيح البخاري وغيره وفي كتب الفقهاء وسائر المصنفين ثم لو فهم عبد الرزاق هذا وأنه في يمين المكره لم تكن الحجة في فهمه بل الأخذ بروايته وأي فائدة في تخصيص الحلف بالطلاق بذلك بل كل مكره حلف بأي يمين كانت فيمينه ليست بشيء
أما عكرمة فقال سنيد بن داود في تفسيره : حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول عن عكرمة : في رجل قال لغلامه : إن لم أجلدك مائة سوط فامرأتي طالق قال : لا يجلد غلامه ولا يطلق امرأته هذا من خطوات الشيطان
فإذا ضممت هذا الأثر إلى أثر ابن طاوس عن أبيه إلى أثر ابن عباس فيمن قالت

لمملوكها : إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي حتر إلى الآثار المستفيضة عن ابن عباس في الحلف بتحريم الزوجة : أنها يمين يكفرها تبين لك ما كان عليه ابن عباس وأصحابه في هذا الباب
فإذا ضممت ذلك إلى آثار الصحابة في الحلف بالتعليقات كالحج والصوم والصدقة والهدي والمشي إلى مكة حافيا ونحو ذلك : أنها أيمان مكفرة تبين لك حقيقة ما كان عليه الصحابة في ذلك فإذا ضممت ذلك إلى القياس الصحيح الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع : تبين لك توافق القياس وهذه الآثار
فإذا ارتفعت درجة أخرى ووزنت ذلك بالنصوص من القرآن والسنة تبين لك الراجح من المرجوح ومع هذا كله فلا يدان لك بمقاومة السلطان ومن يقول : حكمت وثبت عندي فالله المستعان
الطريق الرابعة : طريق من يفرق بين أن يحلف على فعل امرأته أو على فعل نفسه أو على غير الزوجة فيقول : إن قال لامرأته : إن خرجت من الدار أو كلمت رجلا أو فعلت كذا فأنت طالق فلا يقع عليه الطلاق بفعلها ذلك وإن حلف على فعل نفسه أو غير امرأته وحنث لزمه الطلاق
وهذا قول أفقه أصحاب مالك على الإطلاق وهو أشهب بن عبدالعزيز ومحله من الفقه والعلم غير خاف ومأخذ هذا : أن المرأة إذا فعلت ذلك لتطلق نفسها لم يقع به الطلاق معاقبة لها بنقيض قصدها وهذا جار على أصول مالك وأحمد ومن وافقهما في معاقبة الفار من التوريث والزكاة وقاتل مورثه والموصي له ومن دبره بنقيض قصده وهذا هو الفقه لا سيما وهو لم يرد طلاقها إنما أراد حضها أو منعها وأن لا تتعرض لما يؤذيه فكيف يكون فعلها سببا لأعظم أذاه وهو لم يتملكها ذلك بالتوكيل والخيار ولا ملكها الله إياه بالفسخ فكيف تكون الفرقة إليها إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته بمجرد حضها ومنعها وأي شيء أحسن من هذا الفقه وأطرد على قواعد الشريعة

الطريق الخامسة : طريق من يفصل بين الحلف بصيغة الشرط والجزاء والحلف بصيغة الالتزام
فالأول : كقوله : إن فعلت كذا أو إن لم أفعله فأنت طالق
والثاني : كقوله : الطلاق يلزمني أو لي لازم أو علي الطلاق إن فعلت أو إن لم أفعل فلا يلزمه الطلاق في هذا القسم إذا حنث دون الأول
وهذا أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب الشافعي وهو المنقول عن أبي حنيفة وقدماء أصحابه ذكره صاحب الذخيرة وأبو الليث في فتاويه قال أبو الليث : ولو قال : طلاقك علي واجب أو لازم أو فرض أو ثابت فمن المتأخرين من أصحابنا من قال : يقع واحدة رجعية نواه أو لم ينوه ومنهم من قال : لا يقع وإن نوى والفارق : العرف
قال صاحب الذخيرة : وعلى هذا الخلاف : إذا قال : إن فعلت كذا فطلاقك علي واجب أو قال : لازم ففعلت وذكر القدوري في شرحه : أن على قول أبي حنيفة : لا يقع الطلاق في الكل وعند أبي يوسف : إن نوى الطلاق يقع في الكل وعن محمد : أنه يقع في قوله : لازم ولا يقع في : واجب
واختار الصدر الشهيد الوقوع في الكل وكان ظهير الدين المرغيناني يفتي بعدم الوقوع في الكل هذا كله لفظ صاحب الذخيرة
وأما الشافعية : فقال ابن يونس في شرح التنبيه : وإن قال : الطلاق والعتاق لازم لي ونواه لزمه لأنهما يقعان بالكناية مع النية وهذا اللفظ محتمل فجعل كناية وقال الروياني : الطلاق لازم لي : صريح وعد ذلك في صرائح الطلاق ولعل وجهه غلبة استعماله لإرادة الطلاق وقال القفال في فتاويه : ليس بصريح ولا كناية حتى لا يقع به الطلاق وإن نواه لأن الطلاق لابد فيه من الإضافة إلى المرأة ولم يتحقق هذا لفظه
وحكى شيخنا هذا القول عن بعض أصحاب أحمد
فقد صار الخلاف في هذا الباب في المذاهب الأربعة بنقل أصحابها في كتبهم

ولهذا التفريق مأخذ آخر أحسن من هذا الذي ذكره الشارح وهو أن الطلاق لا يصح التزامه وإنما يلزم التطليق فإن الطلاق هو الواقع بالمرأة وهو اللازم لها وإنما الذي يلتزمه الرجل : هو التطليق فالطلاق لازم لها إذا وقع
إذا تبين هذا فالتزام التطليق لا يوجب وقوع الطلاق فإنه لو قال : إن فعلت كذا فعلي أن أطلقك أو فلله علي أن أطلقك أو فتطليقك لازم لي أو واجب علي وحنث لم يقع عليه الطلاق فهكذا إذا قال : إن فعلت كذا فالطلاق يلزمني لأنه إنما التزم التطليق لا يقع بالتزامه والموقعون يقولون : هو قد التزم حكم الطلاق وهو خروج البضع من ملكه وإنما يلزمه حكمه إذا وقع فصار هذا الالتزام مستلزما لوقوعه فقال لهم الآخرون : إنما يلزمه حكمه إذا أتى بسببه وهو التطليق فحيئنذ يلزمه حكمه وهو لم يأت بالتطليق منجزا بلا ريب وإنما أتى به معلقا له والتزام التطليق بالتنجيز لا يلزم فكيف يلزم بالتعليق والمنصف المتبصر لا يخفى عليه الصحيح وبالله التوفيق
فصل وممن ذكر الفرق بين الطلاق وبين الحلف بالطلاق : القاضي أبو
الوليد هشام بن عبدالله بن هشام الأزدي القرطبي في كتابه مفيد الحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام فقال في كتاب الطلاق من ديوانه وقد ذكر اختلاف أصحاب مالك في الأيمان اللازمة ثم قال : ولا ينبغي أن تتلقى هذه المسألة هكذا تلقيا تقليديا إلا أن يشمها نور الفهم ويوضحها لسان البرهان وأنا أشير لك إلى نكتة تسعد بالغرض فيها إن شاء الله تعالى منها : الفرق بين الطلاق إيقاعا وبين اليمين بالطلاق وفي المدونة كتابان موضوعان : أحدهما لنفس الطلاق والثاني للأيمان بالطلاق ووراء هذا الفن فقه على الجملة وذلك

أن الطلاق صورته في الشرع : حل وارد على عقد واليمين بالطلاق عقد فليفهم هذا وإذا كان عقدا لم يحصل منه حل إلا أن تنقله من موضع العقد إلى موضع الحل نية ليخرج بها اللفظ من حقيقته إلى كنايته فقد نجمت هذه المسألة في أيام الحجاج بعد أن استقل الشرع بأصوله وفروعه وحقائقه ومجازاته في أيمان البيعة وليس في أيمان الطلاق إلا ما أذكره لك وذلك أن الطلاق على ضربين : صريح وكناية
فالصريح : كل لفظ استقل بنفسه في إثبات حكمه تحديدا
والكناية : على ضربين كناية غالبة وكناية غير غالبة
فالغالبة : كل ما أشعر بثبوت الطلاق في موضوع اللغة أو الشرع كقوله : الحقي بأهلك واعتدي
وغير الغالبة : كل ما لا يشعر بثبوت الطلاق في وضع اللغة والشرع كقوله : ناوليني الثوب وقال : أردت بذلك الطلاق
فإذا عرضنا لفظ الأيمان على صريح الطلاق لم تكن من قسمه وإن عرضناها على الكناية لم تكن من قسيمها إلا بقرينة من شاهد حال أو جارى عرف أو نية تقارن اللفظ فإن اضطرب شاهد الحال أو جاري العرف باحتمال يحتمله فقد تعذر الوقوف على النية ولا ينبغي لحاكم ولا لغيره أن يمد القلم في فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعاني فإن الحكم إن لم يقع مستوضحا عن نور فكري مشعر بالمعنى المربوط اضمحل ثم قال : وأنا ذاكر لك ما بلغني في هذه اليمين من كلام العلماء ورأيته من أقوال
الفقهاء وهي يمين محدثة لم تقع في الصدر الأول
ثم ذكر اختلاف أهل العلم في الحلف بالأيمان اللازم والمقصود : أنه ذكر الفرق الفطري العقلي الشرعي بين إيقاع الطلاق والحلف بالطلاق وأنهما بابان مفترقان بحقائقهما ومقاصدهما وألفاظهما فيجب افتراقهما حكما أما افتراقهما بالحقيقة فما ذكره من أن الطلاق حل وفسخ واليمين عقد والتزام فهما إذن حقيقتان مختلفتان قال تعالى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان

ثم أشار إلى الافتراق في الحكم بقوله : وإذا كانت اليمين عقدا لم يحصل بها حل إلا أن ينقل من موضع العقد إلى موضع الحل ومن البين أن الشارع لم ينقلها من العقد إلى الحل فيجب بقاؤها على ما وضعت عليه نعم لو قصد الحالف بها إيقاع الطلاق عند الحنث فقد استعملها في العقد والحل فتصير كناية في الوقوع وقد نواه فيقع به الطلاق لأن هذا العقد صالح للكناية وقد اقترنت به النية فيقع الطلاق أما إذا نوى مجرد العقد ولم ينو الطلاق البتة بل هو أكره شيء إليه فلم يأت بما ينقل اليمين من موضوعها الشرعي ولا نقلها عنه الشارع فلا يلزمه غير موجب الأيمان
فليتأمل المنصف العالم هذا الفرق ويخرج قلبه ساعة من التصعب والتقليد واتباع غير الدليل
والمقصود : أن باب اليمين وباب الإيقاع مختلفان في الحقيقة والقصد واللفظ فيجب اختلافهما في الحكم أما الحقيقة فما تقدم
وأما القصد فلأن الحالف مقصوده الحض والمنع أو التصديق أو التكذيب والمطلق مقصوده التخلص من الزوجة من غير أن يخطر بباله حض ولا منع ولا تصديق ولا تكذيب فالتسوية بينهما لا يخفى حالها
وأما اختلافهما لفظا فإن لفظ اليمين لابد فيها من التزام قسمي يأتي فيه بجواب القسم أو تعليق شرطي يقصد فيه انتفاء الشرط والجزاء أو وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط وإن كان يكرهه ويقصد انتفاءه فالمقدم في الصورة الأولى مؤخر في الثانية والمنفي في الأولى ثابت في الثانية ولفظ الإيقاع لا يتضمن شيئا من ذلك ومن تصور هذا حق التصور جزم بالحق في هذه المسألة والله الموفق
الطريقة السادسة : أن يزول المعنى الذي كانت اليمين لأجله فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث لأن امتناعه باليمين إنما كان لعلة فيزول بزوالها وهذا مطرد على أصول الشرع وقواعد مذهب أحمد وغيره ممن يعتبر النية والقصد في اليمين تعميما وتخصيصا وإطلاقا وتقييدا فإذا حلف : لا أكلم فلانة وكان سبب اليمين الذي هيجها كونها أجنبية يخاف الوقوع في عرضه بكلامها فتزوجها لم يحنث بكلامها إعمالا لسبب اليمين وما هيجها

في التقييد بكونها أجنبية هذا إذا لم يكن له نية ما دامت كذلك أما إذا كانت له نية فلا إشكال في تقييد اليمين بها ونظيره : أن يحلف : لا يكلم فلانا ولا يعاشره لكونه صبيا فصار رجلا وكان نيته وسبب يمينه لأجل صباه ونظيره : أن يحلف : لا دخلت هذه الدار لأجل من يظن به التهمة لدخولها فمات أو سافر فدخلها لم يحنث وبذلك أفتى أبو حنيفة وأبو يوسف : من حلف : لادخلت دار فلان هذه ولا كلمت عبده هذا فباع فلان العبد والدار
ونظير هذا : أن يحلف لا يكلم فلانا والحامل له على اليمين كونه تاركا للصلاة أو مرابيا أو خمارا أو واليا فتاب من ذلك كله وزالت الصفة التي حلف لأجلها لم يحنث بكلامه
وكذلك إذا حلف لاتزوجت فلانة والحامل له على اليمين صفة فيها مثل كونها بغيا أو غير ذلك فزالت تلك الصفة لم يحنث بتزوجها
كل هذا مراعاة للمقاصد التي الالفاظ دالة عليها فإذا ظهر القصد كان هو المعتبر ولهذا لو حلف : ليقضينه حقه في غد وقصده أو السبب : أن لا يجاوزه فقضاه قبله لم يحنث ولو حلف : لا يبيع عبده إلا بألف فباعه بأكثر لم يحنث ولو حلف : أن لا يخرج من البلد إلا بإذن الوالي والنية أو السبب : يقتضي التقييد ما دام كذلك فعزل لم يحنث بالخروج بغير إذنه
وكذلك لو حلف على زوجته أو عبده أو أمته : أن لا تخرج إلا بإذنه فطلق أو أعتق أو باع لم يحنث بخروجهم بغير إذنه لأن اقتضاء السبب والقصد بتقييد في غاية الظهور
ونظائر ذلك كثيرة جدا
وسائر الفقهاء يعتبرون ذلك وإن خالفوه في كثير من المواضع وهذا هو الصواب لأن الألفاظ إنما اعتبرت لدلاتها على المقاصد فإذا ظهر القصد كان

الاعتبار له وتقيد اللفظ به ولهذا لو دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى تقيدت يمينه بذلك الغداء وحده لأن النية والسبب ومناط اليمين لا يقتضي غيره
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم  أن الأعمال بالنيات : وإنما لكل امرىء ما نوى وما لم ينوه بيمينه أو كان السبب لا يقتضيه لا يجوز أن يلزم به مع القطع بأنه لم يرده ولا خطر على باله
وقد أفتى غير واحد من الفقهاء منهم ابن عقيل وشيخنا وغيرهما : فيمن قيل له : إن امرأتك قد خرجت من بيتك أو قد زنت بفلان فقال : هي طالق ثم تبين له أنها لم تخرج من البيت وأن الذي رميت به في بلد بعيد لا يمكن وصوله إليها أو أنه حين رميت به كان ميتا ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تزن فإنه لا يقع عليه الطلاق لأنه إنما طلقها بناء على هذا السبب فهو كالشرط في طلاقها
وهذا الذي قالوه هو الذي لا يقتضي المذهب وقواعد الفقه غيره فإنهم قد قالوا : لو قال : لها أنت طالق وقال : أردت إن قمت دين ولم يقع به الطلاق فهذا مثله سواء ونظير هذا : ما قالوه : إن المكاتب لو أدى إلى سيده المال فقال : أنت حر فبان أن المال الذي أعطاه مستحق أو زيوف لم يقع العتق وإن كان قد صرح به ذكره أصحاب أحمد والشافعي لأنه إنما أعتقه بناء على سلامة العوض ولم يسلم له وقواعد الشريعة كلها مبنية على أن الحكم إذا ثبت لعلة يزول بزوالها
وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصر
فهذه الطريقة تخلص من كثير من الحنث
وإذا تأملت هذه الطرق لرأيت أيتها سلكت أحسن من طرق الحيل التي يتحيلون بها على عدم الحنث وهي أنواع
أحدها التسريح
الثاني : خلع اليمين
الثالث : التحيل لفساد النكاح إما بكون الولي كان قد فعل ما يفسق به أو الشهود كانوا جلوسا على مقعد حرير ونحو ذلك فيكون النكاح باطلا فلا يقع فيه الطلاق

الرابع : الاحتيال على فعل المحلوف عليه بتغيير اسمه أو صفته أو نقله من مالك إلى مالك ونحو ذلك
فإذا غلبوا عن شيء من هذه الحيل الأربعة فزعوا إلى التيس المستعار فاستأجروه ليسفد ويأخذ على سفاده أجرا فليوازن من يعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى ومسئول بين هذه الطرق وتلك الطرق التي قبلها وليقم لله ناظرا ومناظرا متجردا من العصبية والحمية فإنه لا يكاد يخفى عليه الصواب والله ولي التوفيق
فصل وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به
ولا تحنث فمن العجب أن يحتج بهذه الآية من يقول : إنه لو حلف : ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه
هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد وقال الشافعي : إن علم أنها مسته كلها بر في يمينه وإن علم أنها لم تمسه لم يبر وإن شك لم يحنث ولو كان هذا موجبا لبر الحالف لسقط عن الزاني والقاذف والشارب تعدد الضرب بأن يجمع له مائة سوط أو ثمانين ويضرب بها ضربة واحدة وهذا إنما يجزى في حق المريض كما قال الإمام أحمد في المريض عليه الحد : يضرب بعثكال يسقط عنه الحد واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال : كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها قال : فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم  وكان ذلك الرجل

مسلما فقال : اضربوه حده فقالوا : يا رسول الله : إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال : خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة ففعلوا
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه تلتمس له الدواء بما تقدر عليه فلما لقيها الشيطان وقال ما قال : أخبرت أيوب عليه السلام بذلك فقال : إنه الشيطان ثم حلف : لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه ولم يكن في شرعهم كفارة فإنه لو كان في شرعهم كفارة لعدل إلى التكفير ولم يحتج إلى ضربها فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورا خفف عنه بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة وامرأة أيوب كانت معذورة لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان وإنما قصدت الإحسان فلم تكن تستحق العقوبة فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع الله له بين البر في يمينه والرفق بامرأته المحسنة المعذورة التي لا تستحق العقوبة
فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام لنص السنة في شأن الضعيف الذي زنى فلا يتعدى بها عن محلها
فإن قيل : فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة وكانا معذورين لاذنب لهما : أنه يبر بجمع ذلك في ضربة بمائة شمراخ

قيل : قد جعل الله له مخرجا بالكفارة ويجب عليه أن يكفر عن يمينه ولا يعصي الله بالبر في يمينه ههنا ولا يحل له أن يبر فيها بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة ولا يحل له أن يضربها لا مفرقا ولا مجموعا فإن قيل : فإذا كان الضرب واجبا كالحد هل تقولون : ينفعه ذلك قيل : إما أن يكون العذر مرجو الزوال كالحر والبرد الشديد والمرض اليسير فهذا ينتظر زواله ثم يحد الحد الواجب كما روى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال : أحسنت اتركها حتى تماثل
فصل وأما حديث بلال في شأن التمر وقول النبي صلى الله عليه وسلم له : بع التمر
بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا
فقال شيخنا : ليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه :
أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع سلعته الأولى ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب ونحن نقول : كل بيع صحيح يفيد الملك لكن الشأن في بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة على أن ظاهرها وإن كان بيعا فإنها ربا وهي بيع فاسد ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل في الحديث ولو اختلف رجلان في بيع مثل هذا هل هو صحيح أو فاسد وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث
فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع البتة
قلت : ونظير ذلك : أن يحتج به محتج على جواز بيع الغائب أو على البيع بشرط الخيار

أكثر من ثلاث أو على البيع بشرط البراءة وغير ذلك من أنواع البيوع المختلف فيها ويقول المنازع : الشارع قد أطلق الإذن في البيع ولم يقيده
وحقيقة الأمر أن يقال : إن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح ونحن لا نسلم له أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على ذلك بيع صحيح
الوجه الثاني : أن الحديث ليس فيه عموم لأنه قال : وابتع بالدراهم جنيبا والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرا بشيء من قيودها لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد والقدر المشترك ليس هو ما يميز كل واحد من الأفراد عن الآخر ولا هو مستلزما له فلا يكون الأمر بالمشترك أمرا بالمميز بحال نعم : هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاما لها على سبيل البدل لكن ذلك لا يقتضي العموم بالأفراد على سبيل الجمع وهو المطلوب فقوله : بع هذا الثوب لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو ولا بكذا وكذا ولا بهذه السوق أو هذا فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلا من جهة وجود تلك الحقيقة لا من جهة وجود تلك القيود إذا تبين ذلك فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاع من المشتري ولا أمره أن يبتاع من غيره ولا بنقد البلد ولا غيره ولا بثمن حال أو مؤجل فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلا لكن اللفظ لا يمنع الأجزاء إذا أتى بها
وقد قال بعض الناس : إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الأجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة وهذا غلط بين فإن اللفظ لا تعرض فيه للقيود بنفي ولا إثبات ولا الإتيان بها ولا تركها من لوازم الامتثال وإن كان المأمور به لا يخلو عن واحد منهما ضرورة وقوعه جزئيا مشخصا فذلك من لوازم الواقع لا أنه مقصود الأمر وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم أو النهي عنها من دليل منفصل
وقد خرج بهذا الجواب عن قول من قال : لو كان الابتياع من المشتري حراما لنهى عنه فإن مقصوده صلى الله عليه وسلم إنما هو بيان الطريق التي يحصل بها

اشتراء التمر الجيد لمن عنده
رديء وهو أن يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيدا ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص كما لا يحتج به على نفي سائر الشروط وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر على جواز أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وعلى حل ما اختلف فيه من الأشربة ونحو ذلك فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح بل هو من أبطل الاستدلال إذ لا تعرض في اللفظ لذلك ولا أريد به تحليل مأكول ومشروب وإنما أريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه
وكذلك من استدل بقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم على جواز نكاح الزانية قبل التوبة وصحة نكاح المحلل وصحة نكاح الخامسة في عدة الرابعة أو نكاح المتعة أو الشغار أو غير ذلك من الأنكحة الباطلة كان استدلاه باطلا
وكذلك من استدل بقوله تعالى : وأحل الله البيع على حل بيع الكلب أو غيره مما اختلف فيه فاستدلاله باطل فإن الآية لم يرد بها بيان ذلك وإنما أريد بها الفرق بين عقد الربا وبين عقد البيع وأنه سبحانه حرم هذا وأباح هذا فأما أن يفهم منه أنه أحل بيع كل شيء فهذا غير صحيح وهو بمنزلة الاستدلال بقوله تعالى : وكلوا واشربوا ولا تسرفو على حل كل مأكول ومشروب
وبمنزلة الاستدلال بقوله صلى الله عليه و سلم من استطاع منكم الباءة فليتزوج على حل الأنكحة المختلف فيها
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن على جواز جمع الثلاث ونفوذه وعلى صحة طلاق المكره والسكران

وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن على صحه النكاح بلا ولي وبلا شهود وغير ذلك من الصور المختلف فيها
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء على حل كل نكاح اختلف فيه فيستدل به على صحة نكاح المتعة والمحلل والشغار والنكاح بلا ولي وبلا شهود ونكاح الأخت في عدة أختها ونكاح الزانية والنكاح المنفي فيه المهر وغير ذلك وهذا كله استدلال فاسد في النظر والمناظرة
ومن العجب أن ينكر من يسلكه على ابن حزم استدلاله بقوله تعالى : وعلى الوارث مثل ذكلك على وجوب نفقة الزوج على زوجته إذا أعسر بالنفقة وكان لها ما تنفق منه فإنها وارثة له وهذا أصح من تلك الاستدلالات فإنه استدلال بعام لفظا ومعنى وقد علق الحكم فيه بمعنى مقصود يقتضي العموم وتلك مطلقة لا عموم فيها لفظا ولا معنى ولم يقصد بها تلك الصور التي استدلوا بها عليها إذا عرف هذا فالاستدلال بقوله : بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا لا يدل على جواز بيع العينة بوجه من الوجوه فمن احتج به على جوازه وصحته فاحتجاجه باطل
وليس الغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يقال : هذه الصورة غالبة بل الغالب أن من يفعل ذلك يعرضه على أهل السوق عامة أو حيث يقصد أو ينادى عليه وإذا باعه لواحد منهم فقد تكون عنده السلعة التي يريدها وقد لا تكون
ومثل هذا : إذا قال الرجل فيه لوكيله : بع هذا القطن واشتر بثمنه ثياب قطن أو بع هذه الحنطة العتيقة واشتر بثمنها جديدة لا يكاد يخطر بباله الاشتراء من ذلك المشتري بعينه بل يشتري من حيث وجد غرضه ووجود غرضه عند غيره أغلب من وجوده عنده
فإن قيل : فهب أن الأمر كذلك فهلا نهاه عن تلك الصورة وإن لم يدخل في لفظه فإطلاقه يقتضي عدم النهي عنه
قيل : إطلاق اللفظ لا يقتضي المنع منها ولا الإذن فيها كما تقدم بيانه فحكمها إذنا

ومنعا يستفاد من مواضع أخر فغاية هذا اللفظ : أن يكون قد سكت عنها فقد علم تحريمها من الأدلة الدالة على تحريم العينة
الوجه الثالث : أن قوله : بع الجمع بالدراهم إنما يفهم منه البيع المقصود الخالي عن شرط يمنع كونه مقصودا بخلاف البيع الذي لا يقصد فإنه لو قال : بع هذا الثوب أو بعت هذا الثوب لم يفهم منه بيع المكره ولا بيع الهازل ولا بيع التلجئة وإنما يفهم منه البيع الذي يقصد به نقل ذلك العوض وقد تقدم تقرير هذا يوضحه : أن مثل هذين قد يتراوضان أولا على بيع التمر بالتمر متفاضلا ثم يجعلان الدراهم محللا غير مقصودة والمقصود إنما هو بيع صاع بصاعين ومعلوم أن الشارع لا يأذن في مثل هذا فضلا عن أن يأمر به ويرشد إليه
الوجه الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة ومتى تواطآ عل أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة فلا يكون داخلا في الحديث إذ المنهى عنه لا يتناوله المأذون فيه
يبين ذلك الوجه الخامس : وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال : بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وهذا يقتضي بيعا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول ومتى واطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معا فلا يكون داخلا في حديث الإذن بل في حديث النهي
الوجه السادس : أنه لو فرض أن في الحديث عموما لفظيا فهو مخصوص بصور لا تعد فإن كل بيع فاسد فهو غير داخل فيه فتضعف دلالته وتخص منه الصورة التي ذكرناها بالأدلة التي هي نصوص أو كالنصوص فاخراجها من العموم من أسهل الأشياء وبالله التوفيق

فصل وقد تبين بهذا بطلان الاستدلال على جواز الحيل الباطلة بقوله
تعالى : إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم وأن هذا يتناول صورة العينة وغيرها فإن المتبايعين يديران السلعة بينهما
فإن الله سبحانه قسم البياعات المقصودة التي شرعها لعباده ونصبها لمصالحهم في معاشهم ومعادهم إلى بيوع مؤجلة وبيوع حالة ثم أمرهم أن يستوثقوا في البيوع المؤجلة بالكتاب والشهود وإن عدموا ذلك في السفر استوثقوا بالرهن حفظا لأموالهم وتخلصا من بطلان الحقوق بجحود أو نسيان ثم أخبرهم أنه لا حرج عليهم في ترك ذلك في البيوع الحالة لأمنهم فيها مفسدة التجاحد والنسيان
فالمراد بالتجارة الدائرة : البيعات التي تقع غالبا بين الناس
ولم يفهم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولا من التابعين ولا تابعيهم ولا أهل التفسير ولا أئمة الفقهاء منها : المعاملة الدائرة بالربا بين المترابيين بل فهموا تحريمها من نصوص تحريم الربا ولا ريب أن دخولها في تلك النصوص أظهر من دخولها في هذه الآية
ومما يدل عليه : أن هذه المعاملة الدائرة بينهما بالربا لا تكون في الغالب إلا مع أجل بأن يبتاع منه سلعة بثمن حال ثم يبيعها إياه بأكثر منه إلى أجل وذلك في الغالب مما يطلب عليه الشهود والكتاب خشية الجحود والله سبحانه قال : إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها فاستثنى هذا من قوله : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وهذه المعاملة الربوية قد اتفقا فيها على التداين إلى أجل مسمى واتفقا فيها على المائة بمائة وثلاثين ونحو ذلك فأين هي من التجارة الحاضرة التي يعرف الناس الفرق فيها بين التجارة والربا
فالتجارة في كلام الله ورسوله ولغة العرب وعرف الناس : إنما تنصرف إلى البياعات

المقصودة التي يقصد فيها الثمن والمثمن وأما ما توطآ فيه على الربا المحض ثم أظهرا بيعا غير مقصود لهما ألبتة يتوسلان به إلى أن يعطيه مائة حالة بمائة وعشرين مؤجلة فهذا ليس من التجارة المأذون فيها بل من الربا المنهي عنه والله أعلم

فصل وأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل
فما أبطله من استدلال فأين المعاريض التي يتخلص بها الإنسان من الظلم والكذب إلى الحيل التي يسقط بها ما فرض الله تعالى ويستحل بها ما حرم الله فالمعرض تكلم بحق ونطق بصدق فيما بينه وبين الله تعالى لا سيما إذا لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في معرفة دلالة اللفظ ومعاريض النبي صلى الله عليه و سلم ومزاحه عامته كان من هذا الباب كقوله : نحن من ماء و إنا حاملوك على ولد الناقة و وزوجك الذي في عينه بياض و لا يدخل الجنة عجوز وأكثر معاريض السلف كانت من هذا فالمعرعض إنما يقصد باللفظ ما جعل اللفظ دالا عليه ومثبتا له في الجملة فهو لم يخرج بتعريضه عن حدود الكلام فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز والعام والخاص والمطلق والمقيد والمفرد والمشترك والمتباين والمترادف وتختلف دلالته تارة بحسب اللفظ المفرد وتارة بحسب التأليف فأين هذا من الحيل التي يقصد بالعقد فيها ما لم يشرع العقد له أصلا ولا هو مقتضاه ولا موجبه شرعا ولا حقيقة

وفرق ثان وهو أن المعرض لو صرح بقصده لم يكن باطلا ولا محرما بخلاف المحتال فإنه لو صرح بما قصده بإظهار صورة العقد كان محرما باطلا فإن المرابي بالحيلة لو قال : بعتك مائة حالة بمائة وعشرين إلى سنة كان حراما باطلا وذلك عين مقصوده ومقصود الآخر
وكذلك المقرض لو قال : أقرضتك ألفا على أن تعيدها إلي ومعها زيادة كذا وكذا كان حراما باطلا وذلك نفس مقصوده
وكذلك المحلل لو قال : تزوجتها على أن أحلها للمطلق ثلاثا
والمعرض لو صرح بمقصوده لم يكن حراما فأين أحدهما من الآخر
وفرق ثالث : وهو أن المعرض قصد بالقول ما يحتمله اللفظ أو يقتضيه والمحتال قصد بالعقد ما لا يحتمله ولا جعل مقتضيا له لا شرعا ولا عرفا ولا حقيقة
وفرق رابع : وهو أن المعرض مقصده صحيح ووسيلته جائزة فلا حجر عليه في مقصوده ولا في وسيلته إلى مقصوده بخلاف المحتال فإن قصده أمر محرم ووسيلته باطلة كما تقدم تقريره
وفرق خامس : وهو أن التعريض المباح ليس من مخادعة الله سبحانه في شيء وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه جزاء له على ذلك ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز مخادعة المحق فما كان من التعريض مخالفا لظاهر اللفظ في نفسه كان قبيحا إلا عند الحاجة وما لم يكن كذلك كان جائزا إلا عند تضمن مفسدة والذي يدخل في الحيل المذمومة إنما هو الأول فالمعرض قاصد لدفع الشر والمحتال بالباطل قاصد لدفع الحق والتعريض كما يكون بالقول يكون بالفعل كما يظهر المحارب أنه يريد وجها من الوجوه ويسافر إلى تلك الناحية ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكر عليه
ومثل أن يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه
ومثل أن يظهر ضعفا وعجزا يتخلص به من تسخيره وأذاه ونحو ذلك

وقد يكون التعريض بالقول والفعل معا كما قال سليمان عليه السلام : ائتوني بالسكين أشقه بينكما وقد يكون بإظهار الصمم وأنه لا يسمع وبإظهار النوم وإظهار الشبع وإظهار الغنى بحيث يحسبه الجاهل غنيا
وكما يقع الإجمال في الأقوال فكذلك يقع في الأفعال كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه حلة من حرير فلما لبسها أنكر عليه وقال : لم أعطكها لتلبسها فكساها أخا له مشركا بمكة
فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع في الألفاظ تارة وفي الأفعال تارة وفيهما معا تارة ومن أنواع التعريض : أن يتكلم المتكلم بكلام حق يقصد به حقيقته وظاهره ويوهم السامع نسبته إلى غير قائله ليقبله ولا يرده عليه أو ليتخلص به من شره وظلمه كما أنشد عبدالله بن رواحة رضي الله تعالى عنه امرأته تلك الأبيات وأوهمها أنه يقرأ القرآن فتخلص بذلك من شرها
وكذلك إذا كان الرجل يريد تنفيذ حق صحيح ولكن لا يقبل منه لكونه هو أو من لا يحسن به الظن قائله فإذا عرض للمخاطب بنسبة الكلام إلى معظم يقبله منه كان من أحسن التعريض كما علمه أبو حنيفة رحمه الله أصحابه حين شكوا إليه : إنا نقول لهم : قال أبو حنيفة فيبادرون بالإنكار فقال : قولوا لهم المسألة فإذا استحسنوها ووقعت منهم بموقع فقولوا : هذا قول أبي حنيفة وكما يجري لأصحابنا مع الجهمية وفروخهم كثيرا

فصل وأما استدلالهم بأن الله سبحانه علم نبيه يوسف عليه السلام
الحيلة التي توصل بها إلى أخذ أخيه إلى آخره
فهذا قد ظن بعض أرباب الحيل أنه حجة لهم في هذا الباب وليس كما زعموا والاستدلال بذلك من أبطل الباطل

فإن المحتجين بذلك لا يجوزون شيئا مما في هذه القصة البتة ولا تجوزها شريعتنا بوجه من الوجوه فكيف يحتج المحتج بما يحرم العمل به ولا يسوغه بوجه من الوجوه والله سبحانه إنما سوغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاءا لإخوته وعقوبة لهم على ما فعلوا به ونصرا له عليهم وتصديقا لرؤياه ورفعة لدرجته ودرجة أبيه
وبعد ففي قصته مع إخوته ضروب من الحيل المستحسنة
أحدها قوله : لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم وقد ذكروا في ذلك معاني منها : أنه تخوف أن لا يكون عندهم ورق يرجعون بها
ومنها أنه خشى أن يضر أخذ الثمن بهم
ومنها : أنه رأى لؤما أخذ الثمن منهم
ومنها : أنه أراهم كرمه في ردع البضاعة ليكون أدعى لهم إلى العود
وقد قيل : إنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى الرجعة ليردوها إليه فهذا المحتال به عمل صالح والمقصود : رجوعهم ومجيء أخيه وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله وهو مقصود صالح وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر فيها منفعة لهم ولأبيهم وله وتمام لما أراده الله تعالى بهم من الخير في هذا البلاء وأيضا فلو عرفهم نفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحل ذلك المحل وهذه عادة الله سبحانه في الغايات العظيمة الحميدة : إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسبابا من المحن والبلايا والمشاق فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد وكما أدخل رسوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه

وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام فهو سبحانه وصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببا ما مثله سبب
وبالجملة فالغايات الحميدة في خبايا الأسباب المكروهة الشاقة كما أن الغايات المكروهة المؤلمة في خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره وخلق النار وحفها بالشهوات
فصل ومنها : أنه لما جهزهم في المرة الثانية بجهازهم جعل السقاية
في رحل أخيه وهذا القدر يتضمن اتهام أخيه بأنه سارق
وقد قيل : إنه كان بمواطأة من أخيه ورضا منه بذلك والحق كان له وقد أذن فيه وطابت نفسه به ودل على ذلك قوله تعالى : فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون  فهذا يدل على أنه عرف أخاه نفسه وقد قيل : إنه لم يصرح له بأنه يوسف وأنه إنما أراد بقوله : إنعي أنا أخوك أي أنا مكان أخيك المفقود
ومن قال هذا قال : إنه وضع السقاية في رحل أخيه والأخ لا يشعر بذلك والقرآن يدل على خلاف هذا والعدل يرده وأكثر أهل التفسير على خلافه ومن لطيف الكيد في ذلك : أنه لما أراد أخذ أخيه توصل إلى أخذه بما يقر إخوته أنه حق وعدل ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنسب إلى الظلم والجور ولم يكن له طريق في دين الملك يأخذه بها فتوصل إلى أخذه بطريق يعترف إخوته أنها ليست ظلما فوضع الصواع

في رحل أخيه بمواطأة منه له على ذلك ولهذا قال : لا تبتئس بما كانوا يعملون
ومن لطيف الكيد : أنه لم يفتش رحالهم وهم عنده بل أمهلهم حتى جهزهم بجهازهم وخرجوا من البلد ثم أرسل في آثارهم لذلك
قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : أمهلهم حتى إذا انطلقوا فأمعنوا من القرية أمر فأدركوا ثم جلسوا ثم ناداهم مناد : أيتها العير إنكم لسارقون فوقفوا وانتهى إليهم رسوله فقال لهم فيما يذكرون : ألم نكرم ضيافتكم ونوفكم كيلكم ونحسن منزلتكم ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم وأدخلنا كم علينا في بيوتنا ومنازلنا قالوا : بلى وما ذاك قال إنكم لسارقون
وذكر عن السدي فلما ارتحلوا أذن مؤذن أيتها العير والسياق يقتضي ذلك إذ لو كان هذا وهم بحضرته لم يحتج إلى الأذان وإنما يكون الأذان نداء لبعيد يطلب وقوفه وحبسه
فكان في هذا من لطيف الكيد : أنه أبعد من التهمة للطالب بالمواطأة والموافقة وأنه لا يشعر بما فقد له فكأنه لما خرج القوم وارتحلوا وفصلوا عن المدينة احتاج الملك إلى صواعه لبعض حاجته إليه فالتمسه فلم يجده فسأل عنه الحاضرين فلم يجدوه فأرسلوا في أثر القوم فهذا أحسن وأبعد من التفطن للحيلة من التفتيش في الحال قبل انفصالهم عنه بل كلما ازدادوا بعدا عنه كان أبلغ في هذه المعنى
ومن لطيف الكيد : أنه أذن فيهم بصوت عال رفيع يسمعه جميعهم ولم يقل لواحد واحد منهم إعلاما بأن ذهاب الصواع أمر قد اشتهر ولم يبق فيه خفاء وأنتم قد اشتهرتم بأخذه ولم يتهم به سواكم
ومن لطيف الكيد : أن المؤذن قال : إنكم لسارقون ولم يعين المسروق حتى سألهم عنه القوم فقالوا لهم : ماذا تفقدون قالوا : نفقد صواع الملك فاستقر عند القوم أن الصواع هو المتهم به وأنهم لم يفقدوا غيره فإذا ظهر لم يكونوا ظالمين باتهامهم بغيره وظهر صدقهم وعدلهم في إتهامهم به وحده وهذا من لطيف الكيد ومن لطيف الكيد : قول المؤذن وأصحابه لإخوة يوسف عليه السلام فما جزاؤه إن

كنتم كاذبين أي ما عقوبة من ظهر عليه أنه سرقه منكم ووجد معه أي ما عقوبته عندكم وفي دينكم قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه فأخذوهم بما حكموا به على نفوسهم لا بحكم الملك وقومه
ومن لطيف الكيد : أن الطالب لما هم بتفتيش رواحلهم بدأ بأوعيتهم يفتشها قبل وعاء من هو معه تطمينا لهم وبعدا عن تهمة المواطأة
فإنه لو بدأ بوعاء من هو فيه لقالوا : وما يدريه أنه في هذا الوعاء دون غيره من أوعيتنا وما هذا إلا بمواطأة وموافقة فأزال هذه التهمة بأن بدأ بأوعيتهم أولا
فلما لم يجده فيها هم بالرجوع قبل تفتيش وعاء من فيه الصواع وقال : ما أراكم سارقين وما أظن هذا أيضا أخذ شيئا فقالوا : لا والله لا ندعكم حتى تفتشوا متاعه فإنه أطيب لقلوبكم وأظهر لبراءتنا فلما ألحوا عليهم بذلك فتشوا متاعه فاستخرجوا منه الصواع وهذا من أحسن الكيد فلهذا قال تعالى : كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم
فالعلم بالكيد الواجب أو المستحب الذي يتوصل به إلى طاعة الله تعالى ورسوله ونصر المحق وكسر المبطل مما يرفع الله به درجة العبد
وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين :
أحدهما : أنه من باب المعاريض وأن يوسف عليه السلام نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه حيث غيبوه عنه بالحيلة التي احتالوا بها عليه وخانوه فيه والخائن يسمى سارقا وهو من الاستعمال المشهور
الثاني : أن المنادي هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف عليه السلام قال القاضي أبو يعلى وغيره : أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصاع في رحل أخيه ثم قال بعض الموكلين به لما فقده ولم يدر من أخذه أيتها العير إنكم لسارقون على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف عليه السلام بذلك ولعل يوسف عليه السلام قال للمنادي هؤلاء قد سرقوا وعنى سرقته من أبيه والمنادي فهم سرقة الصواع وصدق في قوله : إنكم

لسارقون ولم يقل : صواع الملك ثم لما جاء إلى ذكر المفقود قال : نفقد صواع الملك وهو صادق في ذلك فحذف المفعول في قوله لسارقون وذكره في قوله : نفقد صواع الملك وكذلك قال يوسف عليه السلام لما عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ولم يقل : أن نأخذ إلا من سرق فإن المتاع كان موجودا عنده ولم يكن سارقا وهذا من أحسن المعاريض
وقد قال نصر بن حاجب : سئل سفيان بن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله ويحرف القول فيه ليرضيه أيأثم في ذلك فقال : ألم تسمع قوله عليه السلام : ليس بكاذب من أصلح بين الناس فكذب فيه فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم كان خيرا من أن يصلح بين الناس بعضهم في بعض وذلك أنه أراد به مرضاة الله وكراهية أذى المؤمن ويندم على ما كان منه ويدفع شره عن نفسه ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا طمعا في شيء يصيبه منهم فإنه لم يرخص في ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم
قال حذيقة بن اليمان رضي الله عنه : إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن أقدم على ما هو أعظم منه
قال سفيان : وقال الملكان : خصمان بغى بعضنا على بعض أرادا معنى شيء ولم يكونا خصمين فلم يصيرابذلك كاذبين

وقال إبراهيم عليه السلام 37 : 89 إني سقيم وقال : 2 : 63 بل فعله كبيرهم هذا وقال يوسف عليه السلام إنكم لسارقون أراد يعني أخاهم
فبين سفيان رحمه الله تعالى أن هذا كله من المعاريض المباحة مع تسميته كذبا وإن لم يكن في الحقيقة كذبا
وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق
قال شيخنا وهذه الحجة ضعيفة فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال قد اقتص منه وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك نعم كان تخلفه عنهم مما يؤذيهم لتأذي أبيهم وللميثاق الذي أخذه عليهم وقد استثنى في الميثاق بقوله إلا أن يحاط بكم وقد أحيط بهم ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الإنتقام من إخوته فإنه كان أكرم من هذا وإن كان في ضمن ما فعل من تأذي أبيه أعظم من أذى إخوته فإنما ذلك أمر أمره الله تعالى به ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء وعلو المنزلة وتبلغ حكمة الله تعالى التي قدرها وقضاها نهايتها ولو فرض أن يوسف عليه السلام قصد الإقتصاص منهم بما فعل فليس هذا بموضع خلاف بين العلماء فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به وإنما موضع الخلاف هل له أن يخونه كما خانه أو يسرقه كما سرقه ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع
نعم لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة مع أنه لا شبهة له أيضا على هذا التقدير فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالإتفاق ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه كان في هذا ابتلاء من الله تعالى لذلك المعتقل كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيا خاصا كالوحي إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه وتكون حكمته في حق الأخ امتحانه وابتلاءه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه ويكون حاله في هذا كحال ابيه يعقوب عليه السلام في احتباس يوسف عليه السلام عنه

وقد دل على هذا نسبة الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله 12 : 76 كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذه أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله وهو سبحانه ينسب إلى نفسه أحسن هذه المعاني وما هو منها حكمة وحق وصواب وجزاء للمسيء وذلك غاية العدل والحق كقوله 86 : 15 إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا وقوله 3 : 54 ومكروا ومكر الله وقوله 2 : 15 الله يستهزيء بهم وقوله 4 : 142 إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وقوله 7 : 138 وأملي لهم إن كيدي متين
فهذا منه سبحانه في أعلى مراتب الحسن وإن كان من العبد قبيحا سيئا لأنه ظالم فيه وموقعه بمن لا يستحقه والرب تعالى عادل فيه موقعه بأهله ومن يستحقه سواء قيل إنه مجاز للمشاكلة الصورية أو للمقابلة أو سماه كذلك مشاكلة لاسم ما فعلوه أو قيل إنه حقيقة وإن مسمى هذه الأفعال ينقسم إلى مذموم ومحمود واللفظ حقيقة في هذا وهذا كما قد بسطنا هذا المعنى واستوفينا الكلام عليه في كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

فصل وإذا عرف ذلك فيوسف صلوات الله عليه وسلامه أكيد من وجوه عديدة
أحدها أن إخوته كادوه حيث احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه كما قال له يعقوب عليه السلام 12 : 5 لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا
وثانيها أنهم كادوه حيث باعوه بيع العبيد وقالوا إنه غلام لنا أبق
وثالثها كيد امرأة العزيز له بتغليق الأبواب ودعائه إلى نفسها
ورابعها كيدها له بقولها 12 : 24 ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن

يسجن أو عذاب أليم فكادته بالمراودة أولا وكادته بالكذب عليه ثانيا ولهذا قال لها الشاهد لما تبين له براءة يوسف عليه السلام 12 : 28 إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم
وخامسها كيدها له حيث جمعت له النسوة وأخرجته عليهن تستعين بهن عليه وتستعذر إليهن من شغفها به
وسادسها كيد النسوة له حتى استجار بالله تعالى من كيدهن فقال 12 : 33 وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ولهذا لما جاء الرسول بالخروج من السجن قال له 12 : 50 إرجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم
فإن قيل فما كان مكر النسوة اللاتي مكرن به وسمعت به امرأة العزيز فإن الله سبحانه لم يقصه في كتابه
قيل بلى قد أشار إليه بقوله 12 : 30 وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر
أحدها قولهن امرأة العزيز تراود فتاها ولم يسموها باسمها بل ذكروها بالوصف الذي ينادى عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها
الثاني أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها
الثالث أن الذي تراوده مملوك لا حر وذلك أبلغ في القبح

الرابع أنه فتاها الذي هو في بيتها وتحت كنفها فحكمه حكم أهل البيت بخلاف من طلب ذلك من الأجنبي البعيد
الخامس أنها هي المراودة الطالبة
السادس أنها أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها
السابع أن في ضمن هذا أنه أعف منها وأبر وأوفى حيث كانت هي المراودة الطالبة وهو الممتنع عفافا وكرما وحياء وهذا غاية الذم لها
الثامن أنهن أتين بفعل المرادودة بصيغة المستقبل الدالة على الإستمرار والوقوع حالا واستقبالا وأن هذا شأنها ولم يقلن راودت فتاها وفرق بين قولك فلان أضاف ضيفا وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام ويحمل الكل فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته
التاسع قولهن إنا لنراها في ضلال مبين أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الإستقباح فنسبن الإستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه ولا يحسن معاونتها عليه
العاشر أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط والطلب المفرط فلم تقتصد في حبها ولا في طلبها أما العشق فقولهن قد شغفها حبا أي وصل حبه إلى شغاف قلبها وأما الطلب المفرط فقولهن تراود فتاها والمراودة الطلب مرة بعد مرة فنسبوها إلى شدة العشق وشدة الحرص على الفاحشة فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه فهيأت لهن متكأ ثم أرسلت إليهن فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن وقيل إنها جملته وألبسته أحسن ما تقدر عليه وأخرجته عليهن فجأة فلم يرعهن إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة فراعهن ذلك المنظر البهي وفي أيديهن مدى يقطعن بها ما يأكلنه فدهشن حتى قطعن أيديهن وهن لا يشعرن وقد قيل إنهن أبن أيديهن والظاهر خلاف ذلك وإنما تقطيعهن أيديهن جرحها وشقها بالمدى لدهشهن بما رأين

فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي وكانت هذه في النساء غاية في المكر
والمقصود أن الله سبحانه كاد ليوسف عليه السلام بأن جمع بينه وبين أخيه وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره
وكاد له بأن أوقفهم بين يديه موقف الذليل الخاضع المستجدي فقالوا 12 : 88 يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين فهذا الذل والخضوع في مقابلة ذله وخضوعه لهم يوم إلقائه في الجب وبيعه بيع العبيد
وكاد له بأن هيأ له الأسباب التي سجدوا له هم وأبوه وخالته في مقابلة كيدهم له حذرا من وقوع ذلك فإن الذي حملهم على إلقائه في الجب خشيتهم أن يرتفع عليهم حتى يسجدوا له كلهم فكادوه خشية ذلك فكاد الله تعالى له حتى وقع ذلك كما رآه في منامه
وهذا كما كاد فرعون بني إسرائيل 28 : 4 يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم خشية أن يخرج فيهم من يكون زوال ملكه على يديه فكاده الله سبحانه بأن أخرج له هذا المولود ورباه في بيته وفي حجره حتى وقع به منه ما كان يحذره كما قيل
وإذا خشيت من الأمور مقدرا ... وفررت منه فنحوه تتوجه

فصل وكيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين أحدهما أن يفعل سبحانه
فعلا خارجا عن قدرة العبد الذي كاد له فيكون الكيد قدرا محضا ليس من باب الشرع كما كاد الذين كفروا بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام فإن يوسف أكثر ما قدر عليه أن ألقى الصواع في رحل أخيه وأرسل مؤذنا يؤذن أيتها العير إنكم لسارقون فلما أنكروا قال فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه أي جزاؤه استعباد المسروق ماله للسارق إما مطلقا وإما إلى مدة وهذه كانت شريعة آل يعقوب عليه السلام

حتى قيل إن مثل هذا كان مشروعا في أول الإسلام أن المدين إذا أعسر بالدين استرقه صاحب الحق وعليه حمل حديث بيع النبي صلى الله عليه و سلم سرق
وقيل بل كان بيعه إياه إيجاره لمن يستعمله وقضى دينه بأجرته وعلى هذا فليس بمنسوخ وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى أن المفلس إذا بقيت عليه ديون وله صنعة أجبر على إجارته نفسه أو أجره الحاكم ووفى دينه من أجرته
وكان إلهام الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كيدا من الله تعالى ليوسف عليه السلام أجراه على ألسن إخوته وذلك خارج عن قدرته وكان يمكنهم أن يتخلصوا من ذلك بأن يقولوا لا جزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب أن يكون سارقا
وقد كان يوسف عليه السلام عادلا لا يأخذهم بغير حجة وكان يمكنهم التخلص أيضا بأن يقولوا جزاؤه أن يفعل به ما تفعلونه بالسراق في دينكم وقد كان من دين ملك مصر فيما ذكر أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرتين فلو قالوا له ذلك لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم فلذلك قال سبحانه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله أي ما كان ليمكنه أخذه في دين ملك مصر لأنه لم يكن في دينه طريق إلى أخذه
وقوله إلا أن يشاء الله استثناء منقطع أي لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر ويجوز أن يكون متصلا والمعنى إلا أن يهيء الله سببا آخر يؤخذ به في دين الملك غير السرقة

وفي هذه القصة تنبيه على الأخذ باللوث الظاهر في الحدود وإن لم تقم بينة ولم يحصل إقرار فإن وجود المسروق مع السارق أصدق من البينة فهو بينة لا تلحقها التهمة وقد اعتبرت شريعتنا ذلك في مواضع
منها اللوث في القسامة والصحيح أنها يقاد بها كما دل عليه النص الصحيح الصريح
ومنها حد الصحابة رضي الله عنهم في الخمر بالرائحة والقيء
ومنها حد عمر رضي الله عنه في الزنا بالحبل وجعله قسيم الإعتراف والشهادة فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله فليس دونه
فلما فتشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع كان ذلك قائما مقام البينة والإعتراف فلهذا لم يمكنهم أن يتظلموا من أخذه ولو كان هذا ظلما لقالوا كيف يأخذه بغير بينة ولا إقرار
وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب الإعلام باتساع طرق الأحكام
والمقصود أنه ليس في قصة يوسف عليه السلام شبهة فضلا عن الحجة لأرباب الحيل
فإنا إنما تكلمنا في الحيل التي يفعلها العبد وحكمها في الإباحة والتحريم لا فيما يكيد الله سبحانه وتعالى لعبده بل في قصة يوسف عليه السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيدا محرما فإن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يكيده وأنه لا بد أن يكيد للمظلوم إذا صبر على كيد كائده وتلطف به فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله تعالى يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة
فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده
النوع الثاني أن يلهمه أمرا مباحا أو مستحبا أو واجبا يوصله به إلى المقصود الحسن فيكون على هذا إلهامه يوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا فيكون قد كاد له نوعي الكيد ولهذا قال سبحانه نرفع درجات من نشاء وفي ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعي الذي يحبه الله تعالى ورسوله من نصر دينه وكسر أعدائه ونصر المحق وقمع المبطل صفة مدح يرفع الله تعالى بها درجة العبد كما أن العلم الذي يخصم به المبطل ويدحض حجته صفة مدح يرفع

بها درجة عبده كما قال سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام ومناظرته قومه وكسر حجتهم 6 : 83 وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء
وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع ولكن ليس هو الكيد الذي تستحل به المحرمات وتسقط به الواجبات فإن هذا كيد لله تعالى ودينه فالله سبحانه ودينه هو المكيد في هذا القسم فمحال أن يشرع الله سبحانه هذا النوع من الكيد
وأيضا فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعي ومحال أن يشرع الله تعالى لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له
وأيضا فإن الأمر المشروع هو عام لا يختص به شخص دون شخص فالشيء مباح لكل من كان حاله مثل حاله فمن احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص بتلك الحيلة عمن لا يفهمها ولا يعلمها وإنما خاصية الفقيه إذا حدثت به حادثة أن يتفطن لاندراجها تحت الحكم العام الذي يعلمه هو وغيره والله سبحانه إنما كاد ليوسف عليه السلام كيدا خاصا به جزاء له على صبره وإحسانه وذكره في معرض المنة عليه وهذه الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام والأفعال التي فعلها الله سبحانه له إذا تأملها اللبيب رآها لا تخرج عن نوعين
أحدهما إلهام الله سبحانه له فعلا كان مباحا له أن يفعله
الثاني فعل من الله تعالى به خارج عن مقدور العبد
وكلا النوعين مباين للحيل المحرمة التي يحتال بها على إسقاط الواجبات وإباحة المحرمات

فصل لعلك تقول قد أطلت الكلام في هذا الفصل جدا وقد كان يكفي
الإشارة إليه
فيقال بل الأمر أعظم مما ذكرنا وهو بالإطالة أجدر فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين أهل المكر والمخادعة والإحتيال في العمليات وأهل التحريف والسفسطة والقرمطة في العلميات وكل فساد في الدين والدنيا فمنشؤه من هاتين الطائفتين

فبالتأويل الباطل قتل عثمان رضي الله عنه وعاثت الأمة في دمائها وكفر بعضها بعضا وتفرقت على بضع وسبعين فرقة فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى واستولت الطائفتان وقويت شوكتهما وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم ويأبى الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه ويبين أعلامه وحقائقه لكيلا تبطل حجج الله وبيناته على عباده
فلنرجع إلى ما نحن بصدده من بيان مكايد الشيطان ومصايده

فصل ومن مكايده ومصايده ما فتن به عشاق الصور وتلك لعمر الله
الفتنة الكبرى والبلية العظمى التي استعبدت النفوس لغير خلاقها وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها وألقت الحرب بين العشق والتوحيد ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد فصيرت القلب للهوى أسيرا وجعلته عليه حاكما وأميرا فأوسعت القلوب محنة وملأتها فتنة وحالت بينها وبين رشدها وصرفتها عن طريق قصدها ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالي من غرف الجنان فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الذي ألمها به أضعاف لذتها ونيله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها فما أوشكه حبيبا يستحيل عدوا عن قريب ويتبرأ منه محبة لو أمكنه حتى كأن لم يكن له بحبيب وإن تمتع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين لا سيما إذا صار الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين
فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس وشهوة عاجلة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة وزالت النشوة وبقيت الحسرة فوارحمتاه لصب جمع له بين الحسرتين حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم وحسرة ما يقاسيه من النصب في العذاب الأليم فهناك يعلم

المخدوع أي بضاعة أضاع وأن من كان مالك رقة وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع فاي مصيبة أعظم من مصيبة ملك أنزل عن سرير ملكه وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا فلو رأيت قلبه وهو في يدمحبوبه لرأيته
كعصفورة في كف طفل يسومها ... حياض الرديء والطفل يلهو ويلعب
ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت
وما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حين ... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم ... ويبكي إن دنوا حذر الفراق
ولو شاهدت نومه وراحته لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليس يلتقيان ولو شاهدت فيض مدامعه ولهيب النار في أحشائه لقلت
سبحان رب العرش متقن صنعه ... ومؤلف الأضداد دون تعاند
قطر تولد عن لهيب في الحشا ... ماء ونار في محل واحد
ولو شاهدت مسلك الحب في القلب وتغلغله فيه لعلمت أن الحب ألطف مسلكا فيه من الأرواح في أبدانها
فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذي لا غناء له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب فالمحب بمن أحبه قتيل وهوله عبد خاضع ذليل إن دعاه لباه وإن قيل له ما تتمنى فهو غاية ما يتمناه لا يأنس ولا يسكن إلى سواه فحقيق به أن لا يملك رقة إلا لأجل حبيب وأن لا يبيع نصيبه منه بأخس نصيب

فصل إذا عرف هذا فأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة
فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف إذا قيل إن الترك والكف أمر وجودي كما عليه أكثر الناس وإن قيل إنه عدمي فيكفي في عدمه عدم مقتضيه
والتحقيق أن الترك نوعان ترك هو أمر وجودي وهو كف النفس ومنعها وحبسها عن الفعل فهذا سببه أمر وجودي وترك هو عدم محض فهذا يكفي فيه عدم المقتضى
فانقسم الترك إلى قسمين قسم يكفي فيه عدم السبب المقتضى لوجوده وقسم يستلزم وجود السبب الموجب له من البغض والكراهة وهذا السبب لا يقتضي بمجرده كف النفس وحبسها
والإلتئام مسبب عن المحبة والإرادة تقتضي أمرا هو أحب إليه من هذا الذي كف نفسه عنه فيتعارض عنده الأمران فيؤثر خيرهما وأعلاهما وأنفعهما له وأحبهما إليه على أدناهما فلا يترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليه منه ولا يرتكب مبغوضا إلا ليتخلص به من مبغوض هو أكره إليه منه
ثم خاصية العقل واللب : التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات بقوة العلم والتمييز وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما واحتمال أدنى المكروهين للتخلص من أعلاهما بقوة الصبر والثبات واليقين
فالنفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب ولا تتحمل مكروها إلا لتحصيل محبوب أو للتخلص من مكروه آخر وهذا التخلص لا تقصده إلا لمنافاته لمحبوبها فصار سعيها في تحصيل محبوبها بالذات وأسبابه بالوسيلة ودفع مبغوضها بالذات وأسبابه بالوسيلة فسعيه في تحصيل محبوبه لما له فيه من اللذة وكذلك سعيه في دفع مكروهه أيضا لما له في دفعه من اللذة كدفع ما يؤلمه من البول والنجو والدم والقيء وما يؤلمه من الحر والبرد والجوع والعطش وغير ذلك

وإذا علم أن هذا المكروه يفضي إلى ما يحبه يصير محبوبا له وإن كان يكرهه فهو يحبه من وجه ويكرهه من وجه وكذلك إذا علم أن هذا المحبوب يفضي إلى ما يكرهه يصير مكروها له وإن كان يحبه فهو يكرهه من وجه ويحبه من وجه
فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه مع قدرته إلا لما يحبه ويهواه ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حذار وقوعه فيما يكرهه ويخشاه لكن خاصية العقل أن يترك أدنى المحبوبين وأقلهما نفعا لأعلاهما وأعظمهما نفعا ويرتكب أدنى المكروهين ضررا ليتخلص به من أشدهما ضررا
فتبين بذلك أن المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة وعلة لهما من غير عكس فكل بغض فهو لمنافاة البغيض للمحبوب ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض بخلاف الحب للشيء فإنه قد يكون لنفسه لا لأجل منافاته للبغيض وبغض الانسان لما يضاد محبوبه مستلزم لمحبته لضده وكلما كان الحب أقوى كانت قوة البغض للمنافي أشد
ولهذا كان أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وكان من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان
فإن الإيمان علم وعمل والعمل ثمرة العلم وهو نوعان : عمل القلب حبا وبغضا ويترتب عليهما عمل الجوارح فعلا وتركا وهما العطاء والمنع
فإذا كانت هذه الأربعة لله تعالى كان صاحبها مستكمل الإيمان وما نقص منها فكان لغير الله نقص من إيمانه بحسبه

فصل إذا عرف هذا فكل حركة في العالم العلوي والسفلي فسببها المحبة
والارادة وغايتها المحبة والارداة
فإن الحركات ثلاث : إرادية وطبعية وقسريه
فإن المتحرك إن كان له شعور بحركته وإرادة لها فحركته إرادية وإن لم يكن له شعور بحركته أو له بها شعور وهو غير مريد لها فحركته إما على وفق طبعه أو على خلافه فالأولى طبعية والثانية قسرية
أظهر من هذا أن يقال : مبدأ الحركة إما أن يكون أمرا مباينا للمتحرك أو قوة فيه فالأول الحركة فيه قسرية والثاني إما أن يكون له به شعور أم لا فالأول : الحركة فيه إرادية والثاني طبعية فالحركة متى لازمت الشعور والإرادة فهي إرادية ومتى انتفى عنها الأمران فإن كانت بقوة في المتحرك فهي الطبعية وإن كانت من غير قوة في المحرك فهي القسرية
فكل حركة في السموات والأرض : من حركات الأفلاك والنجوم والشمس والقمر والرياح والسحاب والنبات والحيوان فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض كما قال تعالى : فالمدبرات أمرا  وقال : فالمقسمات أمرا  وهي الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل عليهم السلام وأما المكذبون للرسل المنكرون للصانع فيقولون : هي النجوم
وقد أشبعنا الرد على هؤلاء في كتابنا الكبير المسمى بالمفتاح وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وأنها موكلة بأصناف المخلوقات وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة ووكل بالسحاب والمطر ملائكة ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظه وملائكة لحفظ ما يعمله

وإحصائه وكتابته ووكل بالموت ملائكة ووكل بالسؤال في القبر ملائكة ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها ووكل بالشمس والقمر ملائكة ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل الأنهار فيها ملائكة فالملائكة أعظم جنود الله تعالى ومنهم المرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا ومنهم : النازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا ومنهم : الصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا ومنهم : ملائكة الرحمة وملائكة العذاب وملائكة قد وكلوا بحمل العرش

وملائكة قد وكلوا بعمارة السموات بالصلاة والتسبيح والتقديس إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى
ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر غيره فليس لهم من الأمر شيء بل الأمر له لله الواحد القهار وهم ينفذون أمره لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولا تتنزل إلا بأمره ولا تفعل شيئا إلا من بعد إذنه فهم عباد له مكرمون منهم الصافون ومنهم المسبحون ليس منهم إلا من له مقام معلوم لا يتخطاه وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه ولا يتعداه وأعلاهم الذين عنده سبحانه لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ورؤساؤهم الأملاك الثلاث : جبريل وميكائيل وإسرافيل وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم

فتوسل إليه سبحانه بربويبته العامة والخاصة لهؤلاء الأملاك الثلاثة الموكلين بالحياة
فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم
فسأله رسوله بربوبيته لهؤلاء أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه لما في ذلك من الحياة النافعة
وقد أثنى الله سبحانه على عبده جبريل في القرآن أحسن الثناء ووصفه بأجمل الصفات فقال : فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فهذا جبريل فوصفه بأنه رسوله وأنه كريم عنده وأنه ذو قوة ومكانة عند ربه سبحانه وأنه مطاع في السموات وأنه أمين على الوحي
فمن كرمه على ربه : أنه أقرب الملائكة إليه
قال بعض السلف : منزلته من ربه منزلة الحاجب من الملك ومن قوته : أنه رفع مدائن قوم لوط على جناحه ثم قلبها عليهم فهو قوي على تنفيذ ما يؤمر به غير عاجز عنه إذ تطيعه أملاك السموات فيما يأمرهم به عن الله تعالى قال ابن جرير في تفسيره عن إسمعيل بن أبي خالد عن أبي صالح : أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير إذن
ووصفه بالأمانة يقتضي صدقه ونصحه وإلقاءه إلى الرسل ما أمر به من غير زيادة ولا نقصان ولا كتمان وقد جمع له بين المكانة والأمانة والقوة والقرب من الله
ونظير الجمع له بين المكانة والأمانة : قول العزيز ليوسف عليه السلام : إنك اليوم لدينا مكين أمين والجمع بين القوة والأمانة : نظير قول ابنة شعيب في موسى

عليهما السلام : إن خير من استأجرت القوي الأمين وقال تعالى في وصفه : علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى قال ابن عباس رضي الله عنهما : ذو منظر حسن وقال قتادة : ذو خلق حسن وقال ابن جرير : عنى بالمرة صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات والجسم إذا كان كذلك من الإنسان كان قويا والمرة واحدة المرر وإنما أريد به ذو مرة سوية ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي
قلت : هذا حجة من قال : المرة القوة في الآية وهو قول مجاهد وابن زيد وهو قول ضعيف لأنه قد وصفه قبل ذلك بأنه شديد القوى
ولا ريب أن المرة في الحديث هي القوة لا المنظر الحسن فإما أن يقال : المرة تقال على هذا وعلى هذا وإما أن يقال وهو الأظهر : إن المرة هي الصحة والسلامة من الآفات والعاهات الظاهرة والباطنة وذلك يستلزم كمال الخلقة وحسنها وجمالها فإن العاهة والآفة إنما تكون من ضعف الخلقة والتركيب فهي قوة وصحة تتضمن جمالا وحسنا والله تعالى أعلم وقالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم  من صاحبك الذي يأتيك من الملائكة فإنه ليس من نبي إلا يأتيه ملك بالخبر قال : هو جبريل قالوا : ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال ذاك عدونا لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالنبات والقطر والرحمة فأنزل الله تعالى : من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوك للكافرين

والمقصود : أن الله سبحانه وكل بالعالم العلوي والسفلي ملائكة فهي تدبر أمر العالم بإذنه ومشيئته وأمره فلهذا يضيف التدبير إلى الملائكة تارة لكونهم هم المباشرين للتدبير كقوله فالمدبرات أمرا ويضيف التدبير إليه كقوله : إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر وقوله : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فهو المدبر أمرا وإذنا ومشيئة والملائكة المدبرات مباشرة وامتثالا
وهذا كما أضاف التوفي إليهم تارة كقوله : توفته رسلنا وإليه تارة كقوله : الله يتوفى الأنفس ونظائره
والملائكة الموكلة بالإنسان من حين كونه نطفة إلى آخر أمره لهم وله شأن آخر فإنهم موكلون بتخليقه ونقله من طور إلى طور وتصويره وحفظه في أطباق الظلمات الثلاث وكتابة رزقه وعمله وأجله وشقاوته وسعادته وملازمته في جميع أحواله وإحصاء أقواله وأفعاله وحفظه في حياته وقبض روحه عند وفاته وعرضها على خالقه وفاطره وهم الموكلون بعذابه ونعيمه في البرزخ وبعد البعث وهم الموكلون بعمل آلات النعيم والعذاب وهم المثبتون للعبد المؤمن بإذن الله والمعلمون له ما ينفعه والمقاتلون الذابون عنه وهم أولياؤه في الدنيا والآخرة وهم الذين يرونه في منامه ما يخافه ليحذره وما يحبه ليقوى قلبه ويزداد شكرا وهم الذين يعدونه بالخير ويدعونه إليه وينهونه عن الشر ويحذرونه منه
فهم أولياؤه وأنصاره وحفظته ومعلموه وناصحوه والداعون له والمستغفرون له وهم الذين يصلون عليه ما دام في طاعة ربه ويصلون عليه ما دام يعلم الناس الخير ويبشرونه بكرامة الله تعالى في منامه وعند موته ويوم بعثه وهم الذين يزهدونه في الدنيا ويرغبونه في الآخرة وهم الذين يذكعرونه إذا نسي وينشطونه إذا كسل ويثبتونه إذا جزع وهم الذين يسعون في مصالح دنياه وآخرته

فهم رسل الله في خلفه وأمره وسفراؤه بينه وبين عباده تتنزل بالأمر من عنده في أقطار العالم وتصعد إليه بالأمر قد أطت بهم السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد ويدخل البيت المعمور كل يوم منهم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم
والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم وأعمالهم ومراتبهم كقوله : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم إلى آخر القصة  وقوله : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم وما بين هاتين السورتين من سور القرآن بل لا تخلو سورة من سور القرآن عن ذكر الملائكة تصريحا أو تلويحا أو إشارة وأما ذكرهم في الأحاديث النبوية فأكثر وأشهر من أن يذكر ولهذا كان الإيمان بالملائكة عليهم السلام أحد الأصول الخمس التي هي أركان الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلنرجع إلى المقصود وهو أن حركات العالم العلوي والسفلي بالملائكة فالحركات الإرادية كلها تابعة للإرادة التي تحرك المريد إلى فعل ما يفعله والحركة الطبيعيه سببها ما في

المتحرك من الميل والطلب بكماله وانتهائه كحركة النار وحركة النبات وحركة الرياح وكذلك حركة الجسم الثقيل إلى أسفل فإنه بطبعه يطلب مستقره من المركز ما لم يعقه عنه عائق وأما الحركة القسرية كحركته بالقسر إلى العلو فتابعة لإرادة القاسر له فلم يبق حركة أصلية إلا عن الإرادة والمحبة

فصل فإذا عرف ذلك فالمحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي
يكمل بحصوله له فتحرك محب الرحمن ومحب القرآن ومحب العلم والإيمان ومحب المتاع والأثمان ومحب الأوثان والصلبان ومحب النسوان والمردوان ومحب الأوطان ومحب الإخوان فتثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء فيتحرك عند ذكر محبوبه منها دون غيره ولهذا تجد محب النسوان والصبيان ومحب قرآن الشيطان بالأصوات والألحان لا يتحرك عند سماع العلم وشواهد الإيمان ولا عند تلاوة القرآن حتى إذا ذكر له محبوبه اهتز له وربا وتحرك باطنه وظاهره شوقا إليه وطربا لذكره
فكل هذه المحاب باطلة مضمحلة سوى محبة الله وما والاها من محبة رسوله وكتابه ودينه وأوليائه فهذه المحبة تدوم وتدوم ثمرتها ونعيمها بدوام من تعلقت به وفضلها على سائر المحاب كفضل من تعلقت به على ما سواه وإذا انقطعت علائق المحبين وأسباب توادعهم وتحابعهم لم تنقطع أسبابها قال تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب
قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : المودة
وقال مجاهد : تواصلهم في الدنيا
وقال الضحاك : يعني تقطعت بهم الأرحام وتفرقت بهم المنازل في النار
وقال أبو صالح : الأعمال

والكل حق فإن الأسباب هي الوصل التي كانت بينهم في الدنيا تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها وأما أسباب الموحدي المخلصين لله فاتصلت بهم ودام اتصالها بدوام معبودهم ومحبوبهم فإن السبب تبع لغايته في البقاء والانقطاع

فصل إذا تبين هذا فأصل المحبة المحمودة التي أمر الله تعالى بها
وخلق خلقه لأجلها : هي محبته وحده لا شريك له المتصمنة لعبادته دون عبادة ما سواه فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذلع ولا يصلح ذلك إلا لله عز و جل وحده
ولما كانت المحبة جنسا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف كان أغلب ما يذكر فيها في حق الله تعالى : ما يختص به ويليق به كالعبادة والإنابة والإخبات ولهذا لا يذكر فيها لفظ العشق والغرام والصبابة والشغف والهوى وقد يذكر لفظ المحبة كقوله : يحبهم ويحبونه وقوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقوله والذين آمنوا أشد حبا لله
ومدار كتب الله تعالى المنزلة من أولها إلى آخرها على الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهي عن محبة ما يضادها وملازمتها وضرب الأمثال والمقاييس لأهل المحبتين وذكر قصصهم ومآلهم ومنازلهم وثوابهم وعقابهم ولا يجد حلاوة الإيمان بل لا يذوق طعمه إلا من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وفي لفظ لا يجد طعم الإيمان إلا من كان فيه ثلاث من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله تعالى منه كما يكره أن يلقى في النار
وفي الصحيحين أيضا عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين

ولهذا اتفقت دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم على عبادة الله وحده لا شريك له
وأصل العبادة وتمامها وكمالها هو المحبة وإفراد الرب سبحانه بها فلا يشرك العبد به فيها غيره
والكلمة المتضمنة لهذين الأصلين هي الكلمة التي لا يدخل في الإسلام إلا بها ولا يعصم دمه وماله إلا بالإتيان بها ولا ينجو من عذاب الله إلا بتحقيقها بالقلب واللسان وذكرها أفضل الذكر كما في صحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم أفضل الذكر لا إله إلا الله والآيه المتضمنة لها ولتفضيلها سيدة أي القرآن والسورة المختصة بتحقيقها تعدل ثلث القرآن وبها أرسل الله سبحانه جميع رسله وأنزل جميع كتبه وشرع جميع شرائعه قياما بحقها وتكميلا لها وهي التي يدخل بها العبد على ربه ويصير في جواره وهي مفزع أوليائه وأعدائه فإن أعداءه إذا مسهم الضر في البر والبحر فزعوا إلى توحيده وتبرءوا من شركهم ودعوه مخلصين له الدين وأما اولياؤه فهي مفزعهم في شدائد الدنيا والآخرة ولهذا كانت دعوات المكروب لا إلكه إلا الله العظيم الحليم لا إلكه إلا الله رب العرش العظيم لا إلكه إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ودعوة ذي النون التي مادعا بها مكروب إلا فرج الله كربه لا إله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين
وقال ثوبان رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا راعه

أمر قال : الله ربي لا أشرك به شيئا وفي لفظ قال : هو الله لا شريك له
وقالت أسماء بنت عميس : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولها عند الكرب : الله الله ربي لا أشرك به شيئا
وفي الترمذي من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دعوة يونس إذ نادى في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها مسلم في شيء إلا استجيب له
وفي مسند الإمام أحمد مرفوعا دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت
فالتوحيد ملجأ الطالبين ومفزع الهاربين ونجاة المكروبين وغياث الملهوفين وحقيقته إفراد الرب سبحانه بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضوع

فصل فإذا عرف أن كل حركة فأصلها الحب والإرادة فلا بد من محبوب
مراد لنفسه لا يطلب ويحب لغيره إذ كان كل محبوب يحب لغيره لزم الدور او التسلسل في العلل والغايات وهو باطل باتفاق العقلاء والشيء قد يحب من وجه دون وجه وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله عز و جل وحده الذي لا تصلح الألوهية إلا له فلو كان في السموات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا والإلهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها : هي العبادة والتأليه ومن لوازمها : توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون فاحتج الله عليهم به فإنه يلزم من الإقرار به الاقرار بتوحيد الالهية

فصل وكل حي فله إرادة وعمل بحسبه وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها
ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته ونهاية مطلبه : هو الله وحده كما لا وجود له إلا أن يكون الله وحده هو ربه وخالقه فوجوده بالله وحده وكماله أن يكون لله وحده فما لا يكون به لا يكون وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم ولهذا قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ولم يقل لعدمتا إذ هو سبحانه قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد لكن لا يمكن أن تكونا صالحتين إلا بأن يكون فاطرهما وخالقهما هو المعبود وحده لا شريك له فإن صلاح الأعمال والحركات بصلاح نياتها ومقاصدها فكل عمل فهو تابع لنية عامله وقصده وإرادته
وتقسيم الأعمال إلى صالح وفاسد هو باعتبارها في ذواتها تارة وباعتبار مقاصدها ونياتها تارة
وأما تقسيم المحبة والإرادة إلى نافعة وضارة فهو باعتبار متعلقها ومحبوبها ومرادها فإن كان المحبوب المراد هو الذي لا ينبغي أن يحب لذاته ويراد لذاته إلا هو وهو المحبوب الأعلى الذي لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون هو وحده محبوبه ومراده وغاية مطلوبه كانت محبته نافعة له وإن كان محبوبه ومراده ونهاية مطلوبه غيره كانت محبته ضارة له وعذابا وشقاء
فالمحبة النافعة هي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم والمحبة الضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره من الشقاء والألم والعناء
فصل إذا تبين هذا فالحي العالم الناصح لنفسه لا يؤثر محبة ما يضره
ويشقى به ويتألم به ولا يقع ذلك إلا من فساد تصوره ومعرفته أو من فساد قصده وإرادته فالأول : جهل والثاني ظلم : والإنسان خلق في الأصل ظلوما جهولا ولا ينفك عن

الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه ويلهمه رشده فمن أراد به الخير علمه ما ينفعه فخرج به عن الجهل ونفعه بما علمه فخرج به عن الظلم ومتى لم يرد به خيراأبقاه على أصل الخلقة كما في المسند من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل
فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها لجهلها بمضرته لها تارة ولفساد قصدها تارة ولمجموعهما تارة وقد ذم الله تعالى في كتابه من أجاب داعي الجهل والظلم فقال : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى فأصل كل خير : هو العلم والعدل وأصل كل شر : هو الجهل والظلم
وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدا فمن تجاوزه كان ظالما معتديا وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه الذي خرج به عن العدل ولهذا قال سبحانه وتعالى : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ] وقال فيمن ابتغى سوى زوجته أو ملك يمينه : فمن ابتغى وراء ذلك فأولكئك هم العادون  وقال : ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين والمقصود : أن محبة الظلم والعدوان سببها فساد العلم أو فساد القصد أو فسادهما جميعا
وقد قيل : إن فساد القصد من فساد العلم وإلا فلو علم ما في الضار من المضرة ولوازمها حقيقة العلم لما آثره ولهذا من علم من طعام شهي لذيذ أنه مسموم فإنه لا يقدم عليه فضعف علمه بما في الضار من وجوه المضرة وضعف عزمه عن اجتنابه يوقعه في ارتكابه ولهذا كان الإيمان الحقيقي هو الذي يحمل صاحبه على فعل ما ينفعه وترك ما يضره فإذا لم يفعل هذا ولم يترك هذا لم يكن إيمانه على الحقيقة وإنما معه من الايمان بحسب ذلك فإن المؤمن بالنار حقيقة الإيمان حتى كأنه يراها لا يسلك طريقها

الموصلة إليها فضلا عن أن يسعى فيها بجهده والمؤمن بالجنة حقيقة الإيمان لا تطاوعه نفسه أن يقعد عن طلبها وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه فيما يسعى فيه في الدنيا من المنافع أو التخلص منه من المضار

فصل إذا تبين هذا فالعبد أحوج شيء إلى علم ما يضره ليجتنبه وما
ينفعه ليحرص عليه ويفعله فيحب النافع ويبغض الضار فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته وهذا من لوازم العبودية والمحبة ومتى خرج عن ذلك أحب ما يسخطه ربه وكره ما يحبه فنقصت عبوديته بحسب ذلك
وههنا طريقان : العقل والشرع أما العقل فقد وضع الله سبحانه في العقول والفطر استحسان الصدق والعدل والإحسان والبر والعفة والشجاعة ومكارم الأخلاق وأداء الأمانات وصلة الأرحام ونصيحة الخلق والوفاء بالعهد وحفظ الجوار ونصر المظلوم والإعانة على نوائب الحق وقرى الضيف وحمل الكل ونحو ذلك ووضع في العقول والفطر استقباح أضداد ذلك ونسبة هذا الاستحسان والاستقباح إلى العقول والفطر كنسبة استحسان شرب الماء البارد عند الظمأ وأكل الطعام اللذيذ النافع عند الجوع ولبس ما يدفئه عند البرد فكما لا يمكنه أن يدفع عن نفسه وطبعه استحسان ذلك ونفعه فكذلك لا يدفع عن نفسه وفطرته استحسان صفات الكمال ونفعها واستقباح أضدادها ومن قال : إن ذلك لا يعلم بالعقل ولا بالفطرة وإنما عرف بمجرد السمع فقوله باطل قد بينا بطلانه في كتاب المفتاح من ستين وجها وبينا هناك دلالة القرآن والسنة والعقول والفطر على فساد هذا القول والطريق الثاني لمعرفة الضار والنافع من الأعمال : السمع وهو أوسع وأبين وأصدق من الطريق الأول لخفاء صفات الأفعال وأحوالها ونتائجها وأن العالم بذلك على التفصيل ليس هو إلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه فأعلم الناس وأصحهم عقلا ورأيا واستحسانا من

كان عقله ورأيه واستحسانه وقياسه موافقا للسنة كما قال مجاهد : أفضل العبادة الرأي الحسن وهو اتباع السنة قال تعالى : ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وكان السلف يسمون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول في مسائل العلم الخبرية وأهل مسائل الأحكام العملية يسمونهم : أهل الشبهات والأهواء لأن الرأي المخالف للسنة جهل لا علم وهوى لا دين فصاحبه ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وغايته الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة وإنما ينتفي الضلال والشقاء عمن اتبع هدى الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه كما قال تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى واتباع الهوى يكون في الحب والبغض كما قال تعالى : يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وقال : ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى والهوى المنهي عن اتباعه كما يكون هو هوى الشخص في نفسه فقد يكون أيضا هوى غيره فهو منهي عن اتباع هذا وهذا لمضادة كل منهما لهدى الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه
فصل فمن المحبة النافعة : محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل فإنها
معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين من إعفاف الرجل نفسه وأهله فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام ويعفها فلا تطمح نفسها إلى غيره وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل قال تعالى : هو الذي خلقكم من

نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها وقال : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل من أحب الناس إليك فقال : عائشة ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول إذا حدث عنها : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم  المبرأة من فوق سبع سموات
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة
فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله وزاحم حبه وحب رسوله فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الشراب البارد الحلو ويحب الحلواء والعسل ويحب الخيل وكان أحب الثياب إليه القميص وكان يحب الدباء فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه
فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب ولم يعاقب وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع : محبة الله ومحبة في الله ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع : المحبة مع الله ومحبة ما يبغضه الله تعالى ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق فمحبة الله عز و جل أصل المحاب المحمودة وأصل الإيمان والتوحيد والنوعان الآخران تبع لها

والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة والنوعان الآخران تبع لها
ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيدا كان أبعد من عشق الصور ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه قال تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فالسوء : العشق والفحشاء : الزنا فالمخلص قد خلص حبه لله فخلصه الله من فتنة عشق الصور والمشرك قلبه متعلق بغير الله لم يخلص توحيده وحبه لله عز و جل
فصل ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور : أنه يمنعى
أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمرد أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى لا للفاحشة ويأمره بمواخاته
وهذا من جنس المخادنة بل هو مخادنة باطنة كذوات الأخدان اللاتي قال الله تعالى فيهن : محصنات غير مسافحات ولا متخذان أخدان  وقال في حق الرجال : محصنين غير مسافحين ولا متخذي آخران فيظهرون للناس أن محبتهم تلك الصورة لله تعالى ويبطنون اتخاذها خدنا يتلذذون بها فعلا أو تقبيلا أو تمتعا بمجرد النظر والمخادنة والمعاشرة واعتقادهم أن هذا لله وأنه قربة وطاعة : هو من أعظم الضلال والغي وتبديل الدين حيث جعلوا ما كرهه الله سبحانه محبوبا له وذلك من نوع الشرك والمحبوب المتخذ من دون الله طاغوت فإن اعتقاد كون التمتع بالمحبة والنظر والمخادنة وبعض المباشرة لله وأنه حبك فيه : كفر وشرك كاعتقاد محبي الأوثان في أوثانهم

وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر وأن الجالب محسن إلى العاشق جدير بالثواب وأنه ساع في دوائه وشفائه وتفريج كرب العشق عنه وأن من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدينا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة

فصل ثم هم بعد هذا الضلال والغي أربعة أقسام قوم يعتقدون أن
هذا لله وهذا كثير في طوائف العامة والمنتسبين إلى الفقر والتصوف وكثير من الأتراك وقوم يعلمون في الباطن أن هذا ليس لله وإنما يظهرون أنه لله خداعا ومكرا وتسترا
وهؤلاء من وجه أقرب إلى المغفرة من أولئك لما يرجى لهم من التوبة ومن وجه أخبث لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرم وأولئك قد يشتبه الأمر على بعضهم كما اشتبه على كثير من الناس أن استماع أصوات الملاهي قربة وطاعة ووقع في ذلك من شاء الله من الزهاد والعباد فكذلك اشتبه على من هو أضعف علما وإيمانا أن التمتع بعشق الصور ومشاهدتها ومعاشرتها عبادة وقربة
القسم الثالث : مقصودهم الفاحشة الكبرى فتارة يكونون من أولئك الضالين الذين يعتقدون أن هذه المحبة التي لا وطء فيها لله تعالى وأن الفاحشة معصية فيقولون : نفعل شيئا لله تعالى ونفعل أمرا لغير الله تعالى وتارة يكونون من أهل القسم الثاني الذين يظهرون أن هذه المحبة لله وهم يعلمون أن الأمر بخلاف ذلك فيجمعون بين الكذب والفاحشة وهم في هذه المخادنة والمواخاة مضاهئون للنكاح فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين وقد يزيد عليه تارة في الكم والكيف وقد ينقص عنه وقد يحصل بينهما من الاقتران ما يشبه اقتران المتواخيين المتحابين في الله لكن الذين

آمنوا أشد حبا لله فإن المتحابين في الله يعظم تحابهما ويقوى ويثبت بخلاف هذه المواخاة والمحبة الشيطانية ثم قد يشتد بينهما الإتصال حتى يسمونها زواجا ويقولون : تزوج فلان بفلان كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه من مجان الفسقة ويقرهم الحاضرون على ذلك ويضحكون منه ويعجبهم مثل ذلك المزاح والنكاح وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء : الأمرد حبيب الله والملتحي عدو الله وربما اعتقد كثير من المردان أن هذا صحيح وأنه المراد بقوله إذا أحب الله العبد نادى يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه الحديث وأنه توضع له المحبة في الأرض فيعجبه أن يحب ويفتخر بذلك بين الناس ويعجبه أن يقال : هو معشوق أو حظوة البلد وأن الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المردان على نكاح النسوان وقالوا : هو أسلم من الحبل والولادة ومؤنة النكاح والشكوى إلى القاضي وفرض النفقة والحبس على الحقوق
وربما قال بعضهم : إن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان لأن الفرج يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحل الآخر بحكم الطبيعة
وقسمت هذه الطائفة المفعول به إلى ثلاثة أقسام : مؤاجر ومملوك ومعشوق خاص فالأول : بإزاء البغايا المؤجرات أنفسهن والثاني : بإزاء الأمة والسرية والثالث : بإزاء الزوجة أو الأجنبية المعشوقة
وتعوض كل منهم بقسم عن نظيره من الإناث وربما فضل بعضهم اتخاذ المردان

واستفراشهم على النساء من وجوه وهذا مضادة ومحادة لله ودينه وكتبه ورسله وصنف بعضهم كتابا في هذا الباب وقال في أثنائه : باب في المذهب المالكي وذكر فيه الجماع في الدبر من الذكور والإناث
وقد علم أن مالكا رحمه الله تعالى من أشد الناس وأسدهم مذهبا في هذا الباب حتى إنه يوجب قتل اللوطي حدا بكرا كان أو ثيبا وقوله في ذلك هو أصح المذاهب كما دلت عليه النصوص واتفق عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  وإن اختلفت أقوالهم في كيفية قتله كما سنذكره إن شاء الله تعالى
وسبب غلط هذا وأمثاله : أنه قد نسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته في دبرها وهو كذب على مالك وعلى أصحابه فكتبهم كلها مصرحة بتحريمه ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكا يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور وجعلوا البابين بابا واحدا وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع الأمة
ونظير هذا : ما يتوهمه كثير من الفسقة وجهال الترك وغيرهم أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا ليس من الكبائر وغايته أن يكون صغيرة من الصغائر وهذا من أعظم الكذب والبهت على الأئمة فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك
وشبهة هؤلاء الفسقة الجهلة : أنهم لما رأوا أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يوجب فيه الحد ركبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب بل من صغائرها وهذا ظن كاذب فإن أبا حنيفة لم يسقط فيه الحد لخفة أمره فان جرمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظم من جرم الزنا ولهذا عاقب الله سبحانه أهله بما لم يعاقب به أمة من الأمم وجمع عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم

وشبهة من أسقط فيه الحد : أن فحش هذا مركوز في طباع الأمم فاكتفي فيه بالوازع الطبعي كما اكتفي بذلك في أكل الرجيع وشرب البول والدم ورتب الحد على شرب الخمر لكونه مما تدعو إليه النفوس والجمهور يجيبون عن هذا بأن في النفوس الخبيثة المتعدية حدود الله أقوى الداعي لذلك فالحد فيه أولى من الحد في الزنا ولذلك وجب الحد على من وطىء أمه وابنته وخالته وجدته وإن كان في النفوس وازع وزاجر طبعي عن ذلك بل حد هذا القتل بكل حال بكرا كان أو محصنا في أصح الأقوال وهو مذهب أحمد وغيره هذا ونفرة النفوس عن ذلك أعظم بكثير من نفرتها عن المردان ونظير هذا الظن الكاذب والغلط الفاحش : ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة أو مباحة أو أنها أيسر من ارتكابها من الحرع وتأولت هذه الفرقة القرآن على ذلك وأدخلت المملوك في قوله : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين حتى إن بعض النساء لتمكن عبدها من نفسها وتتأول القرآن على ذلك كما رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت عبدها وتأولت هذه الآية ففرق عمر رضي الله عنه بينهما وأدبها وقال : ويحك إنما هذا للرجال لا للنساء ومن تأول هذه الآية على وطء الذكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة قال شيخنا : ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى : ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم على ذلك قال : وقد سألني بعض الناس عن هذه الآية وكان ممن يقرأ القرآن فظن أن معناها في إباحة ذكران العبيد المؤمنين قال : ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع يبيحه بعض العلماء ويحرمه بعضهم ويقول : اختلافهم شبهة وهذا كذب وجهل فإنه ليس في فرق الأمة من يبيح ذلك بل ولا في دين من أديان الرسل وإنما يبيحه زنادقة العالم الذين لا يؤمنون بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر

قال : ومنهم من يقول : هو مباح للضرورة مثل أن يبقى الرجل أربعين يوما لا يجامع إلى أمثال هذه الأمور التي خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء قال : ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء في وجوب الحدع فيه فظن أن ذلك خلاف في التحريم ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير وليس فيه حد مقدر
ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو من خطأ بعض المجتهدين وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين : تبديل الدين وطاعة الشيطان ومعصية رب العالمين فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة وأعانتها الأهواء الغالبة فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك والخروج عن جملة الشرائع بالكلية
ولما سهل هذا الأمر في نفوس كثير من الناس صار كثير من المماليك يتمدح بأنه لا يعرف غير سيده وأنه لم يطأه سواه كما تتمدح الأمة والمرأة بأنها لا تعرف غير سيدها وزوجها وكذلك كثير من المردان يتمدح بأنه لا يعرف غير خدينه وصديقه أو مؤاخيه أو معلمه وكذلك كثير من الفاعلين يتمدح بأنه عفيف عما سوى خدنه الذي هو قرينه وعشيره كالزوجة أو عما سوى مملوكه الذي هو كسريته ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبي على فعل الفاحشة فإذا كان مختارا راضيا لم يكن بذلك بأس فكأن المحرم عنده من ذلك إنما هو الظلم والعدوان بإكراه المفعول به
قال شيخنا : وحكى لي من أثق به : أن بعض هؤلاء أخذ على هذه الفاحشة فحكم عليه بالحد فقال : والله هو ارتضى بذلك وما أكرهته ولا غصبته فكيف أعاقب فقال نصير المشركين وكان حاضرا هذا حكم محمد بن عبدالله وليس لهؤلاء

ذنب
ومن هؤلاء من يعتقد أن العشق إذا بلغ بالعاشق إلى حد يخاف معه التلف أبيح له وطء معشوقه للضرورة وحفظ النفس كما يباح له الدم والميتة ولحم الخنزير في المخمصة
وقد يبيح هؤلاء شرب الخمر على وجه التداوي وحفظ الصحة إذا سلم من معرة السكر
ولاريب أن الكفر والفسوق والمعاصي درجات كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات كما قال تعالى : هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون وقال : ولكلع درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون وقال : إنما النيىء زيادة في الكفر وقال : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ونظائره في القرآن كثيرة
ومن أخف هؤلاء جرما : من يرتكب ذلك معتقدا تحريمه وإنه إذا قضى حاجته قال : استغفر الله فكأن ما كان لم يكن
فقد تلاعب الشيطان بأكثر هذا الخلق كتلاعب الصبيان بالكرة وأخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب
وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها فالمتخذ خدنا من النساء والمتخذة خدنا من الرجال أقل شرا من المسافح والمسافحة مع كل أحد والمستخفي بما يرتكبه أقل إثما من المجاهر المستعلن والكاتم له أقل إثما من المخبر المحدث للناس به فهذا بعيد من عافية الله تعالى وعفوه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم  كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يستر الله تعالى عليه ثم يصبح يكشف ستر الله عنه يقول : يا فلان فعلت البارحة كذا وكذا فيبيت ربه يستره ويصبح يكشف ستر الله عن نفسه أو كما قال
وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله

وفي الحديث الآخر إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة
وكذلك الزنا بالمرأة التي لا زوج لها أيسر إثما من الزنا بذات الزوج لما فيه من ظلم الزوج والعدوان عليه وإفساد فراشه عليه وقد يكون إثم هذا أعظم من إثم مجرد الزنا أو دونه والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا ببعيدة الدار لما اقترن بذلك من أذى الجار وعدم حفظ وصية الله تعالى ورسوله به
وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثما عندالله من الزنا بغيرها ولهذا يقام له يوم القيامة ويقال له : خذ من حسناته ما شئت وكما تختلف درجاته بحسب المزني بها فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال وبحسب الفاعل فالزنا في رمضان ليلا أو نهارا أعظم إثما منه في غيره
وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم إثما منه فيما سواها وأما تفاوته بحسب الفاعل : فالزنا من الحر أقبح منه من العبد ولهذا كان حده على النصف من حده ومن المحصن أقبح منه من البكر ومن الشيخ أقبح منه من الشاب ولهذا كان أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : الشيخ الزاني ومن العالم أقبح منه من الجاهل لعلمه بقبحه وما يترتب عليه وإقدامه على بصيرة ومن القادر على الاستغناء عنه أقبح من الفقير العاجز

فصل ومما ينبغي أن يعلم : أنه قد يقترن بالأيسر إثما ما يجعله
أعظم إثما مما هو فوقه مثاله : أنه قد يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب المعشوق وتأليهه له وتعظيمه والخضوع له والذل له وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله تعالى ورسوله وأمره فيقترن بمحبة خدنه وتعظيمه وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه ومحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه ما قد يكون أعظم ضررا على صاحبه من مجرد ركوب الفاحشة
فإن المحبوبات لغير الله قد أثبت الشارع فيها اسم التعبد كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطى رضي وإن منع سخط رواه البخاري فسمى هؤلاء الذين إن أعطوا رضوا وإن منعوا سخطوا عبيدا لهذه الأشياء لانتهاء محبتهم ورضاهم ورغبتهم إليها فإذا شغف الإنسان بمحبة صورة لغير الله بحيث يرضيه وصوله إليها وظفره بها ويسخطه فوات ذلك كان فيه من التعبد لها بقدر ذلك

ولهذا يجعلون الحب مراتب أوله : العلاقة ثم الصبابة ثم الغرام ثم العشق وآخر ذلك : التتيم وهو التعبد للمعشوق فيصير العاشق عبدا لمعشوقه والله سبحانه إنما حكى عشق الصور في القرآن عن المشركين فحكاه عن امرأة العزيز وكانت مشركة على دين زوجها وكانوا مشركين وحكاه عن اللوطية وكانوا مشركين فقال تعالى في قصتهم : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون وأخبر سبحانه أنه يصرفه عن أهل الإخلاص فقال : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين وقال عن عدوه إبليس : أنه قال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وقال تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين والغاوي ضد الراشد والعشق المحرم من أعظم الغي ولهذا كان أتباع الشعراء أهل السماع الشعري غاوين كما سماهم الله تعالى بذلك في قوله : والشعراء يتبعهم الغاوون فالغاوون يتبعون الشعراء وأصحاب السماع الشعري الشيطاني وهؤلاء لا ينفكون عن طلب وصال أو سؤال نوال كما قال أبو تمام لرجل : أما تعرفني فقال : ومن أعرف بك مني
أنت بين اثنتين تبرز للنا ... س وكلتاهما بوجه مذال
لست تنفك طالبا لوصال ... من حبيب أو راجيا لنوال
أي ماء يبقى لوجهك هذا ... بين ذل الهوى وذل السؤال والزنا بالفرج وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة كالنظرة والقبلة والمس لكن إصرار العاشق على محبة الفعل وتوابعه ولوازمه وتمنيه له وحديث نفسه به : أنه لا يتركه واشتغال قلبه بالمعشوق قد يكون أعظم ضررا من فعل الفاحشة مرة بشيء كثير فإن

الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثمه إثم الكبيرة أو يربى عليها وأيضا فإن تعبد القلب للمعشوق شرك وفعل الفاحشة معصية ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية
وأيضا فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه التخلص منه كما قال القائل : تالله ما أسرت لواحظك امرء ... إلا وعز على الورى استنقاذه بل يصير تعبدا لازما للقلب لا ينفك عنه ومعلوم أن هذا أعظم ضررا وفسادا من فاحشة يرتكبها مع كراهيته لها وقلبه غير معبد لمن ارتكبها منه وقد أخبر الله سبحانه أن سلطان الشيطان إنما هو : على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين والغي اتباع الهوى والشهوات كما أن الضلال اتباع الظنون والشبهات
وأصل الغي من الحب لغير الله فإنه يضعف الإخلاص به ويقوى الشرك بقوته
فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولى الشيطان والإشراك به بقدر ذلك لما فيهم من الإشراك بالله ولما فاتهم من الإخلاض له ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق متيما فيه يصرخ في حضوره ومغيبه : أنه عبده فهو أعظم ذكرا له من ربه وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه وكفى به شاهدا بذلك على نفسه بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره فلو خير بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه وتمنيه لقربه أعظم تمنيه لقرب ربه وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه يسخط ربه بمرضاة معشوقه ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه فإن فصل من وقته فضلة وكان عنده قليل من الإيمان صدق تلك المفضلة في طاعة ربه وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها وأهمل أمر الله تعالى يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة

وخسيس فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته وخالص ماله وربه على الفضلة قد اتخذه وراءه ظهريا وصار لذكره نسيا إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي معشوقه ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه وتكلفه لفعلها فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها ناصحا له فيها خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله
وعشقهم يجمع المحرمات الأربع : من الفواحش الظاهرة والباطنة والإثم والبغي بغير الحق والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا والقول على الله ما لا يعلمون فإن هذا من لوازم الشرك فكل مشرك يقول على الله ما لا يعلم فكثيرا ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر والأصغر ومن قتل النفوس تغايرا على المعشوق وأخذ أموال الناس بالباطل ليصرفها في رضا المعشوق ومن الفاحشة والكذب والظلم ما لا خفاء به
وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى والإخلاص له والتشريك بينه وبين غيره في المحبة ومن محبة ما يحب لغير الله فيقوم ذلك بالقلب ويعمل بموجبه بالجوارح وهذا هو حقيقة اتباع الهوى وفي الأثر ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع وقال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون
وإذا تأملت حال عشاق الصور المتيمين فيها وجدت هذه الآية منطبقة عليهم مخبرة عن حالهم
قال بعض العلماء : ليس شيء من المحبوبات يستوعب محبة القلب إلا محبة الله أو محبة بشر مثلك أما محبة الله فهي التي خلق لها العباد وبها غاية سعادتهم وكمال نعيمهم وأما البشر المماثل من ذكر أو انثى فإن فيه من المشاكلة والمناسبة بين العاشق وبينه

ما ليس مثله وبينه وبين جنس آخر من المخلوقات ولهذا لا يعرف في محبة شيء من المحبوبات المخالفة للمحب في الجنس ما يزيل العقل ويفسد الإدراك ويوجب انقطاع الإرادة لغير ذلك المحبوب وإنما يعرف ذلك في محبته لجنسه فتستوعب قلبه وتسلب لبه ويصير لمعشوقة سامعا مطيعا كما قيل :
إن هواك الذب بقلبي ... صيرني سامعا مطيعا
ويقوى هذا السمع والطاعة عند كثير من العشاق حتى يبذل نفسه ويسلمها للتلف في طاعة معشوقه كما يبذل المجاهد نفسه لربه حتى يقتل في سبيله وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الذي رواه أحمد وغيره : شارب الخمر أو قال مدمن الخمر كعابد وثن
ومر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون
فما الظن بالعاشق المتيم الفاني في معشوقه ولهذا قرن الله سبحانه بين الخمر والأنصاب وهي الأصنام التي تعبد من دون الله فقال : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ] ومعلوم أن شارب الخمر لا يدوم سكره بل لابد أن يفيق ولعل أوقات إفاقته أكثر من أوقات سكره وأما سكرة العشق فقل أن يستفيق صاحبها إلا إذا جاءت الرسل تطلبه للقدوم على الله تعالى ولهذا استمرت سكرة اللوطية حتى فجأهم عذاب الله وعقوبته

وهم في سكرتهم يعمهون فكيف إذا خرج العشق إلى حد الجنون المطبق كما أنشد محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب اعتلال القلوب قال : أنشد الصيدلاني قالت :
جننت على رأسي فقلت لها ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين فصاحبه أحق بأن يشبه بعابد الوثن والعاكف على التماثيل فإن عكوف قلب العاشق على صورة محبوبه وتمثاله يشبه عكوف عابد الصنم على صنمه
وإذا كان الشيطان يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين في الخمر والميسر ويصدهم بذلك عن ذكر الله وعن الصلاة فالعداوة والبغضاء والصد الذي يوقعه بالعشق أعظم بكثير
وجميع المعاصي يجتمع فيها هذان الوصفان وهما العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة فإن التحاب والتآلف إنما هو بالإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا أي يلقي بينهم المحبة فيحب بعضهم بعضا فيتراحمون ويتعاطفون بما جعل الله لبعضهم في قلوب بعض من المحبة وقال ابن عباس : يحبهم ويحبعبهم إلى عباده قال هرم بن حيان : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز و جل إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم

وأهل المعاصي والفسوق وإن كان بينهم نوع مودة وتحابي فإنها تنقلب عداوة وبغضا وفي الغالب يتعجل لهم ذلك في الدنيا قبل الآخرة وأما في الآخرة ف الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوك إلا المتقين وقال إمام الحنفاء لقومه : إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا فالمعاصي كلها توجب ذلك وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة وذكر ذلك في الخمر والميسر اللذين هما من أواخر المحرمات تنبيه على ما في غيرهما من ذلك مما حرم قبلهما وهو أشد تحريما منهما فإن ما يوقعه قتل النفوس وسرقة الأموال وارتكاب الفواحش من ذلك وما يصد به عن ذكر الله وعن الصلاة أضعاف أضعاف ما يقتضيه الخمر والميسر والواقع شاهد بذلك
وكم وقع وهو واقع بين الناس بسبب عشق الصور من العداوة والبغضاء وزوال الألفة والمحبة وانقلابها عداوة
وأما صده عن ذكر الله فقلب العاشق ليس فيه موضع لغير معشوقه كما قيل
ما في الفؤاد لغير حبك موضع ... كلا ولا أحد سواك يحله
وأما صده عن الصلاة فهو إن لم يصد عن صورتها وأعمالها الظاهرة فإنه يصد عن حقيقتها ومقاصدها الباطنة

فصل ومما يبين أن هذه الفواحش أصلها المحبة لغير الله تعالى سواء
كان المطلوب المشاهدة أو المباشرة أو غير ذلك أنها في المشركين أكثر منها في المخلصين ويوجد فيهم منها ما لا يوجد مثله في المخلصين
قال تعالى 7 : 27 يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث

لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين إلى قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
فأخبر سبحانه أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وهو قوله 18 : 50 أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا وقال تعالى في الشيطان 60 : 100 إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وأخبر عنه 38 : 82 أنه أقسم بعزة ربه أنه يغوي عباده أجمعين واستثنى أهل الإخلاص منهم وأخبر سبحانه عن أولياء الشيطان أنهم إذا فعلوا فاحشة احتجوا بتقليد أسلافهم وزعموا أن الله سبحانه أمرهم بها فاتبعوا الظن الكاذب والهوى الباطل
قال شيخنا وفي هذا الوصف نصيب كبير لكثير من المنتسبين إلى القبلة من الصوفية والعباد والأمراء والأجناد والمتفلسفة والمتكلمين والعامة وغيرهم يستحلون من الفواحش ما حرمه الله ورسوله ظانين أن الله أباحه أو تقليدا لأسلافهم وأصله العشق الذي يبغضه الله فكثير منهم يجعله دينا ويرى أنه يتقرب به إلى الله إما لزعمه أنه يزكي النفس ويهذبها وإما لزعمه أنه يجمع بذلك قلبه على آدمي ثم ينقله إلى عبادة الله وحده وإما لزعمه أن الصور الجميلة مظاهر الحق ومشاهده ويسميها مظاهر الجمال الأحدى وإما لاعتقاده حلول الرب فيها واتحاده بها ولهذا تجد بين نساك هؤلاء وفقرائهم وأمرائهم وأصحابهم توافقا وتآلفا على اتخاذ أنداد من دون الله يحبونهم كحب الله إما تدينا وإما شهوة وإما جمعا بين الأمرين ولهذا يتآلفون ويجتمعون على السماع الشيطاني الذي يهيج الحب المشترك فيهيج من كل قلب ما فيه من الحب
وسبب ذلك خلو القلب مما خلق له من عبادة الله تعالى التي تجمع محبته وتعظيمه والخضوع والذل له والوقوف مع أمره ونهيه ومحابه ومساخطه فإذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان وذوق طعمه أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه ويتخذه إلهه وهذا من تبديل الدين وتغيير فطرة الله التي

فطر عليها عباده قال تعالى 30 : 30 فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله أي نفس خلق الله لا تبديل له فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشق والقطع ولا تبديل لنفس هذا الخلق ولكن يقع التغيير في المخلوق بعد خلقه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها

فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة
ولما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها وردها إلى حالتها التي خلقت عليها فمن استجاب لهم رجع إلى أصل الفطرة ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها

فصل والفتنة بعشق الصور تنافي أن يكون دين العبد كله لله بل ينقص
من كون دينه لله بحسب ما حصل له من فتنة العشق وربما أخرجت صاحبه من أن يبقى معه شيء من الدين لله قال تعالى 8 : 39 وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
فناقض بين كون الفتنة وبين كون الدين كله فكل منهما يناقض الآخر
والفتنة قد فسرت بالشرك
فما حصلت به فتنة القلوب فهو إما شرك وإما من أسباب الشرك
وهي جنس تحته أنواع من الشبهات والشهوات
وفتنة الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله من أعظم الفتن
ومنه فتنة أصحاب العجل كما قال تعالى لموسى 20 : 85 إنا قد فتنا قومك من بعدك
وكذلك فتنة العشق من أعظم الفتن قال تعالى 9 : 49 ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا نزلت في الجد بن قيس لما غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم تبوك قال له هل لك يا جد في بلاد بني الأصفر تتخذ منهم السراري والوصفاء فقال جد ائذن لي في القعود عنك فقد عرف قومي أني مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن فأنزل الله تعالى هذه الآية

قال ابن زيد يريد لا تفتني بصباحة وجوههن
وقال أبو العالية لا تعرضني للفتنة
وقوله تعالى ألا في الفتنة سقطوا قال قتادة ما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والرغبة بنفسه عنه أعظم
فالفتنة التي فر منها بزعمه هي فتنة محبة النساء وعدم صبره عنهن والفتنة التي وقع فيها هي فتنة الشرك والكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة
ولفظ الفتنة في كتاب الله تعالى يراد بها الإمتحان الذي لم يفتتن صاحبه بل خلص من الإفتتان ويراد بها الإمتحان الذي حصل معه افتتان
فمن الأول قوله تعالى لموسى عليه السلام 20 : 40 وفتناك فتونا
ومن الثاني قوله تعالى 8 : 39 وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقوله ألا في الفتنة سقطوا
ويطلق على ما يتناول الأمرين كقوله تعالى 29 : 1 آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ومنه قول موسى عليه السلام 7 : 155 إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أي امتحانك وابتلاؤك تضل بها من وقع فيها وتهدي من نجا منها

وتطلق الفتنة على أعم من ذلك كقوله تعالى 64 : 15 إنما أموالكم وأولادكم فتنة قال مقاتل أي بلاء وشغل عن الآخرة قال ابن عباس فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى
وقال الزجاج أعلمهم الله عز و جل أن الأموال والأولاد مما يفتنون به وهذا عام في جميع الأولاد فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه وتناول الحرام لأجله ووقع في العظائم إلا من عصمه الله تعالى
ويشهد لهذا ما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما قميصان أحمران يعثران فنزل النبي صلى الله عليه و سلم إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما
وقال ابن مسعود رضي الله عنه لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله تعالى يقول إنما أموالكم وأولادكم فتنة فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مضلات الفتن
ومنه قوله تعالى 25 : 20 وجعلنا بعضكم لبعض فتنة وهذا عام في جميع الخلق امتحن بعضهم ببعض فامتحن الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم وتحمل

المشاق في تبليغهم رسالات ربهم وامتحن المرسل إليهم بالرسل وهل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم أم يكفرون بهم ويردون عليهم ويقاتلونهم وامتحن العلماء بالجهال هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على تعليمهم ونصحهم وإرشادهم ولوازم ذلك وامتحن الجهال بالعلماء هل يطيعونهم ويهتدون بهم وامتحن الملوك بالرعية والرعية بالملوك وامتحن الأغنياء بالفقراء والفقراء بالأغنياء وامتحن الضعفاء بالأقوياء والأقوياء بالضعفاء والسادة بالأتباع والأتباع بالسادة وامتحن المالك بمملوكه ومملوكه به وامتحن الرجل بامرأته وامرأته به وامتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال والمؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم وامتحن المأمورين بهم ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل وقالوا : لو كان خيرا ما سبقونا إليه هؤلاء وقالوا لنوح عليه السلام : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا فإذا رأى الشريف الرئيس المسكين الذليل قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمى وأنف أن يسلم فيكون مثله وقال : أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء

قال الزجاج : كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام فيمتنع منه لئلا يقال : أسلم قبله من هو دونه فيقيم على كفره لئلا يكون للمسلم السابقة عليه في الفضل
ومن كون بعض الناس لبعضهم فتنة : أن الفقير يقول : لم لم أكن مثل الغني ويقول الضعيف : هلا كنت مثل القوى ويقول المبتلى هلا كنت مثل المعافى وقال الكفار : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله
قال مقاتل : نزلت في افتتان المشركين بفقراء المهاجرين نحو بلال وخباب وصهيب وأبي ذر وابن مسعود وعمار كان كفار قريش يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا قال الله تعالى : إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم كما قال تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون قال الزجاج أي أتصبرون على البلاء فقد عرفتم ما وجد الصابرون
قلت : قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر ههنا وفي قوله : ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له ومخلصة من الذنوب كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة
فالفتنة كير القلوب ومحك الإيمان وبها يتبين الصادق من الكاذب
قال تعالى : ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
فالفتنة قسمت الناس إلى صادق وكاذب ومؤمن ومنافق وطيب وخبيث فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه ونجا بصبره من فتنة أعظم منها ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها
فالفتنة لا بد منها في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون فالنار فتنة من لم

يصبر على فتنة الدنيا قال تعالى في شجرة الزقوم : إنا جعلناها فتنة للظالمين قال قتادة : لما ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا : يكون في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله عز و جل : إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم فأخبرهم أن غذاءها من النار أي غذيت بالنار قال ابن قتيبة : قد تكون شجرة الزقوم نبتا من النار ومن جوهر لا تأكله النار وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها وعقاربها وحياتها ولو كانت على ما يعلم لم تبق على النار وإنما دلنا الله تعالى على الغائب عنده بالحاضر عندنا فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة وما في الجنة من ثمرها وفرشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك
والمقصود : أن هذه الشجرة فتنة لهم في الدنيا بتكذيبهم بها وفتنة لهم في الآخرة بأكلهم منها
وكذلك إخباره سبحانه بأن عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر كان فتنة للكفار حيث قال عدو الله أبو جهل : أيخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم تخرجون من النار فقال أبو الأسد : يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة
فكان ذكر هذا العدد فتنة لهم في الدنيا وفتنة لهم يوم القيامة
والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا كما أن المؤمن مفتون به ولهذا سأل المؤمنون

ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا كما قال الحنفاء : ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا وقال أصحاب موسى عليه السلام : ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال مجاهد : المعنى لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون : لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا وقال الزجاج : معناه : لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك وقال الفراء : لا تظهر علينا الكفار فيروا أنهم على حق وأنا على باطل وقال مقاتل : لا تقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيكون ذلك فتنة لهم وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فتن كلا من الفريقين بالفريق الآخر فقال : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بينننا فقال الله تعالى : أليس الله بأعلم بالشاكرين
والمقصود : أن الله سبحانه فتن أصحاب الشهوات بالصور الجميلة وفتن أولئك بهم فكل من النوعين فتنة للآخر فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها ومن أصابته تلك الفتنة سقط فيما هو شر منها فإن تدارك ذلك بالتوبة النصوح وإلا فبسبيل من هلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم  ما تركت بعدي فتنة أضر من النساء على الرجال أو كما قال
فالعبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة وشيطانه المغوى المزين وقرنائه وما يراه ويشاهد مما يعجز صبره عنه ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر وذوق حلاوة العاجل وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا وكون العوض مؤجلا في دار أخرى غير هذه الدار التي خلق فيها وفيها نشأ فهو مكلف بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طلب منه الإيمان به :
فوالله لولا الله يسعد عبده ... بتوفيقه والله بالعبد أرحم

لما ثبت الأيمان يوما بقلبه ... على هذه العلات والأمر أعظم
ولا طاوعته النفس في ترك شهوة مخافة ... نار جمرها يتضرم
ولا خاف يوما من مقام إلهه ... عليه بحكم القسط إذ ليس يظلم
فصل والفتنة نوعان : فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين وفتنة الشهوات
وقد يجتمعان للعبد وقد ينفرد بإحداهما
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى فهنالك الفتنة العظمى والمصيبة الكبرى فقل ما شئت في ضلال سيء القصد الحاكم عليه الهوى لا الهدى مع ضعف بصيرته وقلة علمه بما بعث الله به رسوله فهو من الذين قال الله تعالى فيهم : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله فقال : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق وهي فتنة المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل والهدى بالضلال
ولا ينجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول وتحكيمه في دق الدين وجله ظاهره وباطنه عقائده وأعماله حقائقه وشرائعه فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام وما يثبته لله من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها ومقادير نصب الزكاة ومستحقيها ووجوب الوضوء والغسل

من الجنابة وصوم رمضان فلا يجعله رسولا في شيء دون شيء من أمور الدين بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل لا يتلقى إلا عنه ولا يؤخد إلا منه فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله وكل ما خرج عنها فهو ضلال فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض ما سواه ووزنه بما جاء به الرسول فإن وافقه قبله لا لكون ذلك القائل قاله بل لموافقته للرسالة وإن خالفه رده ولو قاله من قاله فهذا الذي ينجيه من فتنة الشبهات وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه
وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد وتارة من نقل كاذب وتارة من حق ثابت خفى على الرجل فلم يظفر به وتارة من غرض فاسد وهوى متبع فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة
فصل وأما النوع الثاني من الفتنة : ففتنة الشهوات وقد جمع سبحانه
بين ذكر الفتنتين في قوله : كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها والخلاق هو النصيب المقدر ثم قال : وخضتم كالذي خاضوا فهذا الخوض بالباطل وهو الشبهات
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق والخوض بالباطل لأن فساد الدعين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح فالأول : هو البدع وما والاها والثاني : فسق الأعمال
فالأول فساد من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات
ولهذا كان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه

وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون
وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع والهوى على العقل
فالأول : أصل فتنة الشبهة والثاني : أصل فتنة الشهوة
ففتنة الشبهات تدفع باليقين وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
وجمع بينهما أيضا في قوله : وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات وبالصبر الذي يكف عن الشهوات وجمع بينهما في قوله : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار فالأيدي : القوى والعزائم في ذات الله والأبصار : البصائر في أمر الله وعبارات السلف تدور على ذلك
قال ابن عباس : أولى القوة في طاعة الله والمعرفة بالله
وقال الكلبي : أولى القوة في العبادة والبصر فيها
وقال مجاهد : الأيدي : القوة في طاعة الله والأبصار : البصر في الحق
وقال سعيد بن جبير : الأيدي : القوة في العمل والأبصار : بصرهم بما هم فيه من دينهم
وقال جاء في حديث مرسل : إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة والله المستعان

فصل إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين
مطلوبتين بهما سعادته وفلاحه وكماله وهما الهدى والرحمة
قال تعالى عن موسى وفتاه : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما فجمع له بين الرحمة والعلم وذلك نظير قول أصحاب الكهف ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا فإن الرشد هو العلم بما ينفع والعمل به والرشد والهدى إذا أفرد كل منهما تضمن الآخر وإذا قرن أحدهما بالآخر فالهدى هو العلم بالحق والرشد هو العمل به وضدهما الغي واتباع الهوى
وقد يقابل الرشد بالضر والشر قال تعالى : قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا وقال مؤمنوا الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا فالرشد يقابل الغى كما في قوله : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ويقابل الضر والشر كما تقدم وذلك لأن الغي سبب لحصول الشر والضرع ووقوعهما بصاحبه
فالضرر والشر غاية الغي وثمرته كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته
فلهذا يقابل كل منهما بنقيضه وسبب نقيضه فيقابل الهدى بالضلال كقوله : يضل من يشاء ويهدي من يشاء وقوله : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهو كثير
ويقابل بالضلال والعذاب كقوله : فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى فقابل الهدى بالضلال والشقاء
وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح والهدى والرحمة كما يجمع بين الضلال والشقاء والضلال والعذاب : كقوله إن المجرمين في ضلال وسعر فالضلال ضد الهدى والسعر العذاب وهو ضد الرحمة

وقال : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى
والمقصود : أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جمع له بين الهدى والرحمة والهدى والفلاح
قال تعالى عن أوليائه : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وقال تعالى : ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقال تعالى : هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يوقنون وقال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون وقال تعالى : يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين فقوله : هذا بصائر من ربكم عام مطلق وقوله : وهدى ورحمة لقوم يوقنون خاص بأهل اليقين
ونظير ذلك قوله يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
ونظيره في الخصوص قوله تعالى : هدى للمتقين وقوله : يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
ونظيره أيضا قوله : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
وقد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين فقال إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس والبصائر جمع بصيرة وهي فعيلة بمعنى مفعلة أي مبصرة لمن تبصر ومنه قوله تعالى : وآتينا ثمود الناقة مبصرة

أي مبينة موجبة للتبصر وفعل الإبصار يستعمل لازما ومتعديا يقال : أبصرته بمعنى أريته وأبصرته بمعنى رأيته فمبصرة في الآية : بمعنى مرئية لا بمعنى رائية والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا في الآية وتحيروا في معناها
فإنه يقال : بصر به وأبصره فيعدى بالباء تارة والهمزة تارة ثم يقال : أبصرته كذا أي أريته إياه كما يقال : بصرته به وبصر هو به
فههنا بصيرة وتبصرة ومبصرة فالبصيرة : المبينة التي تبصر والتبصرة مصدر مثل التذكرة وسمى بها ما يوجب التبصرة فيقال : هذه الآية تبصرة لكونها آلة التبصر وموجبه
فالقرآن بصيرة وتبصرة وهدى وشفاء ورحمة بمعنى عام وبمعنى خاص ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا فهو هدى للعالمين وموعظة للمتقين وهدى للمتقين وشفاء للعالمين وشفاء للمؤمنين وموعظة للعالمين وموعظة للمتقين فهو في نفسه هدى ورحمة وشفاء وموعظة
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة وكذلك الهدى
فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به وبالقوة لمن لم يهتد به فإنما يهتدى به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون
والهدى في الأصل : مصدر هدى يهدي هدى
فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا كما في الأثر من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله تعالى إلا بعدا ولكن يسمى هدى لأن من شأنه أن يهدي
وهذا أحسن من قول من قال : إنه هدى بمعنى هاد فهو مصدر بمعنى الفاعل كعدل بمعنى العادل وزور بمعنى الزائر ورجل صوم أي بمعنى صائم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدي به
فالله الهادي وكتابه الهدى الذي يهدي به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم  فههنا ثلاثة أشياء : فاعل وقابل وآلة فالفاعل : هو الله تعالى والقابل : قلب

العبد والآلة هو الذي يحصل به الهدى وهو الكتاب المنزل والله سبحانه يهدي خلقه هدى كما يقال : دلهم دلالة وأرشدهم إرشادا وبين لهم بيانا
والمقصود : أن المحل القابل هو قلب العبد المتقي المنيب إلى ربه الخائف منه الذي يبتغي رضاه ويهرب من سخطه فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل فيتأثر به فصار هدى له وشفاء ورحمة وموعظة بالوجود والفعل والقبول وإذا لم يكن المحل قابلا وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء فإنه لا يؤثر فيه شيئا بل لا يزيده إلا ضعفا وفسادا إلى فساده كما قال تعالى في السورة التي نزلها : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وقال : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة ولعدم آلة الهدى تارة ولعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة
وقد قال سبحانه : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها لعدم قبول المحل فإنه لا خير فيه فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذي فيه والميل إليه والطلب له ومحبته والحرص عليه والفرح بالظفر به وهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من ذلك فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء ويقع على الأرض الغليظة العالية التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فلا هي قابلة للماء ولا للنبات فالماء في نفسه رحمة وحياة ولكن ليس فيها قبول له ثم أكد الله هذا المعنى في حقهم بقوله : ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر أن فيهم مع عدم القبول والفهم آفة أخرى وهي الكبر والإعراض وفساد القصد فلو فهموا لم ينقادوا ولم يتبعوا الحق ولم يعملوا به فالهدى في حق هؤلاء هدى بيان وإقامة

حجة لا هدى توفيق وإرشاد فلم يتصل الهدى في حقهم بالرحمة
وأما المؤمنون : فاتصل الهدى في حقهم بالرحمة فصار القرآن لهم هدى ولأولئك هدى بلا رحمة
والرحمة المقارنة للهدى في حق المؤمنين عاجلة وآجلة
فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من محبة الخير والبر وذوق طعم الإيمان ووجدان حلاوته والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضل عنه غيرهم ولما اختلف فيه من الحق بإذنه فهم يتقلبون في نور هداه ويمشون به في الناس ويرون غيرهم متحيرا في الظلمات فهم أشد الناس فرحا بما آتاهم ربهم من الهدى قال تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذكلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يفرحوا بفضله ورحمته
وقد دارت عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم والإيمان والقرآن وهما اتباع الرسول وهذا من أعظم الرحمة التي يرحم الله بها من يشاء من عباده فإن الأمن والعافية والسرور ولذة القلب ونعيمه وبهجته وطمأنينته : مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة والخوف والهم والغم والبلاء والألم والقلق : مع الضلال والحيرة
ومثل هذا بمسافرين أحدهما قد اهتدى لطريق مقصده فسار آمنا مطمئنا والآخر قد ضل الطريق فلم يدر أين يتوجه كما قال تعالى قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى
فالرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى هي بحسب هداه فكلما كان نصيبه من الهدى اتم كان حظه من الرحمة أوفر وهذه هي الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين هي غير الرحمة العامة بالبر والفاجر
وقد جمع الله سبحانه لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم فقال تعالى : أولكئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون قال عمر

ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه : نعم العدلان ونعمت العلاوة فبالهدى خلصوا من الضلال وبالرحمة نجوا من الشقاء والعذاب وبالصلاة عليهم نالوا منزلة القرب والكرامة والضالون حصل لهم ضد هذه الثلاثة : الضلال عن طريق السعادة والوقوع في ضد الرحمة من الألم والعذاب والذم واللعن الذي هو ضد الصلاة ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة كما قال تعالى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم محمد رسول الله والذين معه أشدزاء على الكفار رحماء بينهم وكان الصديق رضي الله عنه من ارحم الأمة وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر رواه الترمذي وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلمنا به يعني النبي صلى الله عليه وسلم  فجمع الله له بين سعة العلم والرحمة
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما فوسعت رحمته كل شىء وأحاط بكل شىء علما فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها بل

هو أرحم بالعبد من نفسه كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها وينقص حظها من كرامته وثوابه ويبعدها من قربه وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها وهذا غاية الجهل والظلم والإنسان ظلوم جهول فكم من مكرم لنفسه بزعمه وهو لها مهين ومرفه لها وهو لها متعب ومعطيها بعض غرضها ولذتها وقد حال بينها وبين جميع لذاتها فلا علم له بمصالحها التي هي مصالحها ولا رحمة عنده لها فما يبلغ عدوه منه ما يبلغ هو من نفسه فقد بخسها حظها وأضاع حقها وعطل مصالحها وباع نعيمها الباقي ولذتها الدائمة الكاملة بلذة فانية مشوبة بالتنغيص إنما هي كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام وليس هذا بعجيب من شأنه وقد فقد نصيبه من الهدى والرحمة فلو هدي ورحم لكان شأنه غير هذا الشأن ولكن الرب تعالى أعلم بالمحل الذي يصلح للهدى والرحمة فهو الذي يؤتيها العبد كما قال عن عبده الخضر : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا
فصل ومما ينبغي أن يعلم : أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع
والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها فهذه هي الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك
فمن رحمة الأب بولده : أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره ويمنعه شهواته التي تعود بضرره ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم
ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين : تسليط أنواع البلاء على العبد فإنه أعلم بمصلحته فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته : من رحمته به ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه

وقد جاء في الأثر : إن المبتلى إذا دعي له : اللهم ارحمه يقول الله سبحانه : كيف أرحمه من شيء به أرحمه وفي أثر آخر : إن الله إذا أحب عبده حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها كما يحمي أحدكم مريضه
فهذا من تمام رحمته به لا من بخله عليه
كيف وهو الجواد الماجد الذي له الجود كله وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها
فمن رحمته سبحانه بعباده : ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه فهو الجواد الكريم
ومن رحمته : أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعافيهم وأماتهم ليحييهم ومن رحمته بهم : أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قال تعالى : ويحذركم الله نفسه والله رؤزف بالعباد
قال غير واحد من السلف : من رأفته بالعباد : حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به

فصل ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة كان
لهما ضدان : الضلال والغضب
فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم وهم أولو الهدى والرحمة ويجنبنا طريق المغضوب عليهم وهم ضد المرحومين وطريق الضالين وهم ضد المهتدين ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء وأفضله وأوجبه وبالله التوفيق

فصل إذا كان كل عمل فأصله المحبة والإرادة والمقصود به التنعم
بالمراد المحبوب فكل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد وكل حركة كما أن العذاب والتألم هو المكروه المقصود أولا بكل بغض وكل امتناع وكف ولكن وقع الجهل والظلم من بني آدم بمعنيين : بالدعين الفاسد والدنيا الفاجرة طلبوا بهما النعيم وفي الحقيقة فإنما فيهما ضده ففاتهم النعيم من حيث طلبوه وآثروه ووقعوا في الألم والعذاب من حيث هربوا منه وبيان ذلك : أن الأعمال التي يعملها جميع بني آدم إما أن يتخذوها دينا أولا يتخذوها دينا
والذين يتخذونها دينا إما أن يكون الدين بها دين حقا وإما أن يكون دينا باطلا فنقول : النعيم التام هو في الدين الحق علما وعملا فأهله هم أصحاب النعيم الكامل كما أخبر الله تعالى بذلك في كتابه في غير موضع كقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقوله عن المتقين المهتدين بالكتاب أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقوله فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى وفي الآية الأخرى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقوله إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم والقرآن مملوء من هذا
فوعد أهل الهدى والعمل الصالح بالنعيم التام في الدار الآخرة ووعيد أهل الضلال والفجور بالشقاء في الدار الآخرة مما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وتضمنته الكتب ولكن نذكر ههنا نكتة نافعة
وهي : أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب وما ينال كثيرا من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين فإذا سمع في القرآن قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين  وقوله :

وإن جندنا لهم الغالبون وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقوله : والعاقبة للمتقين ونحو هذه الآيات وهو ممن يصدق بالقرآن حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط وقال : أما الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون ويكون لهم النصر والظفر والقرآن لا يرد بخلاف الحس ويعتمد على هذا الظن إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين أو الفجرة الظالمين : وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق فيقول : أنا على الحق وأنا مغلوب فصاحب الحق في هذه الدنيا مغلوب مقهور والدولة فيها للباطل
فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين قال : هذا في الآخرة فقط
وإذا قيل له : كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه وأهل الحق
فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله تعالى بالحكم والمصالح قال : يفعل الله في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
وإن كان ممن يعلل الأفعال قال : فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلو الدرجات وتوفية الأجر بغير حساب
ولكل أحد مع نفسه في هذا المقام مباحثات وإيرادات وإشكالات وأجوبة بحسب حاصله وبضاعته من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته والجهل بذلك فالقلوب تغلي بما فيها كالقدر إذا استجمعت غليانا
فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلم للرب تعالى واتهامه ما لا يصدر إلا من عدو فكان الجهم يخرج بأصحابه فيقفهم على الجذمى وأهل البلاء ويقول : انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا إنكارا لرحمته كما أنكر حكمته
فليس الله عند جهم وأتباعه حكيما ولا رحيما

وقال آخر من كبار القوم : ما على الخلق أضر من الخالق
وكان بعضهم يتمثل :
إذا كان هذا فعله بمحبه ... فماذا تراه في أعاديه يصنع
وأنت تشاهد كثيرا من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول : يا ربي ما كان
ذنبي حتى فعلت بي هذا
وقال لي غير واحد : إذا تبت إليه وأنبت وعملت صالحا ضيق علي رزقي ونكد علي معيشتي وإذا رجعت إلى معصيته وأعطيت نفسي مرادها جاءني الرزق والعون ونحو هذا
فقلت لبعضهم : هذا امتحان منه ليرى صدقك وصبرك هل أنت صادق في مجيئك إليه وإقبالك عليه فتصبر على بلائه فتكون لك العاقبة أم أنت كاذب فترجع على عقبك
وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين
إحداهما : حسن ظن العبد بنفسه وبدينه واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه وتارك ما نهى عنه واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك وأنه تارك للمأمور مرتكب للمحظور وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه
والمقدمة الثانية : اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مستضاما مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا وانتهائه عما نهي عنه باطنا وظاهرا فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان وهو تحت قهر أهل الظلم والفجور والعدوان
فلا إله إلا الله كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل ومتدين لا بصيرة له ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين

فإنه من المعلوم : أن العبد وإن آمن بالآخرة فإنه طالب في الدنيا لما لا بد له منه : من جلب النفع ودفع الضر بما يعتقد أنه مستحب أو واجب أو مباح فإذا اعتقد أن الدين الحق واتباع الهدى والاستقامة على التوحيد ومتابعة السنة ينافي ذلك وأنه يعادي جميع أهل الأرض ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه وتجرده لله ورسوله فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين بل قد يدخل مع الظالمين بل مع المنافقين وإن لم يكن هذا في أصل الدين كان في كثير من فروعه وأعماله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم  بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسى كافرا ويصبح مؤمنا يبيع دينه بعرض من الدنيا
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه من حصول ضرر لا يحتمله وفوات منفعة لا بد له منها لم يقدم على احتمال هذا الضرر ولا تفويت تلك المنفعة
فسبحان الله كم صدت هذه الفتنة الكثير من الخلق بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين وأصلها ناشىء من جهلين كبيرين : جهل بحقيقة الدين وجهل بحقيقة النعيم الذي هو غاية مطلوب النفوس وكمالها وبه ابتهاجها والتذاذها فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين وعن طلب حقيقة النعيم
ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفا بالنعيم الذي يطلبه والعمل الذي يوصل إليه وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل ومحبة صادقة لذلك النعيم وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصله إن لم يقترن بذلك العمل والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر

فصارت سعادة العبد وكمال لذته ونعيمه موقوفا على هذه المقامات الخمسة : علمه بالنعيم المطلوب ومحبته له وعلمه بالطريق الموصل إليه وعلمه به وصبره على ذلك
قال الله تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر
والمقصود أن المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنه أصلهما الجهل بأمر الله ودينه وبوعده ووعيده
فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطنا وظاهرا وترك المحظور باطنا وظاهرا وهذا من جهله بالدين الحق وما لله عليه وما هو المراد منه فهو جاهل بحق الله عليه جاهل بما معه من الدين قدرا ونوعا وصفة
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين وللفجار الظالمين على الأبرار المتقين فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده
فأما المقام الأول : فإن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها فيكون مقصرا في العلم وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها إما كسلا وتهاونا وإما لنوع تأويل باطل أو تقليد أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها أو لغير ذلك فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان وآكد منها وكأنها ليست واجبات الدين عند كثير من الناس بل هي من باب الفضائل والمستحبات
فتراه يتحرج من ترك فرض أو من ترك واجب من واجبات البدن وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريما وأعظم إثما
بل ما أكثر من يتعبد لله عز و جل بترك ما أوجب عليه فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه ويزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك مجتمع على ربه تارك ما لا يعنيه فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى وأبغضهم إليه مع

ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه
بل ما أكثر من يتعبد لله بما حرمه الله عليه ويعتقد أنه طاعة وقربة وحاله في ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثما كأصحاب السماع الشعري الذي يتقربون به إلى الله تعالى ويظنون أنهم من أولياء الرحمن وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان
وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه ولا يكون الأمر كذلك بل يكون معه نوع من الحق ونوع من الباطل والظلم ومع خصمه نوع من الحق والعدل وحبك الشيء يعمي ويصم والإنسان مجبول على حب نفسه فهو لا يرى إلا محاسنها ومبغض لخصمه فهو لا يرى إلا مساويه بل قد يشتد به حبه لنفسه حتى يرى مساويها محاسن كما قال تعالى أفمن زينا له سوء عمله فرآه حسنا ويشتد به بغض خصمه حتى يرى محاسنه مساوىء كما قيل :
نظروا بعين عداوة ولو أنها ... عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبا فإن الإنسان ظلوم جهول
وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم وقلدوهم فيها : في الإثبات والنفي والحب والبغض والموالاة والمعاداة والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علما وعملا لم يضمن نصر الباطل ولو اعتقد صاحبه أنه محق وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وهو علم وعمل وحال قال تعالى : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان وقال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه فإذا فاته حظ من العلو والعزة ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان علما وعملا ظاهرا وباطنا
وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه قال تعالى : إن الله يدافع عن الذين آمنوا فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه

وكذلك الكفاية والحسب هي بقدر الإيمان قال تعالى : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي الله حسبك وحسب اتباعك أي كافيك وكافيهم فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله وانقيادهم له وطاعتهم له فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله
ومذهب أهل السنة والجماعة : أن الإيمان يزيد وينقص
وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه قال تعالى : والله ولي المؤمنين وقال الله تعالى : الله ولي الذين آمنوا وكذلك معيته الخاصة هي لأهل الإيمان كما قال تعالى : وإن الله لمع المؤمنين فإذا نقص الإيمان وضعف كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان
وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإدالة عدوعه عليه فإنما هي بذنوبه إما بترك واجب أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الآخرة ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الحجة
والتحقيق : أنها مثل هذه الآيات وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان ولو اجتمع عليه من بأقطارها إذا قام بحقيقة

الإيمان وواجباته ظاهرا وباطنا وقد قال تعالى للمؤمنين : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره

فصل وأما المقام الثاني الذي وقع فيه الغلط فكثير من الناس يظن أن
أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء مقهورين مغلوبين دائما بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى وطاعة أخرى فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده بل إما أن يجعل ذلك خاص بطائفة دون طائفة أو بزمان دون زمان أو يجعله معلقا بالمشيئة وإن لم يصرح بها
وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى ومن سوء الفهم في كتابه
والله سبحانه قد بين في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة
قال تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
وقال تعالى : ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقال تعالى : إن الذين يحادون الله ورسوله أولكئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وهذا كثير في القرآن
وقد بين سبحانه فيه أن ما أصاب العبد من مصيبة أو إدالة عدو أو كسر وغير ذلك فبذنوبه
فبين سبحانه في كتابه كلا المقدمتين فإذا جمعت بينهما تبين لك حقيقة الأمر وزال الإشكال بالكلية واستغنيت عن تلك التكلفات الباردة والتأويلات البعيدة فقرر سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير : منها ما تقدم

ومنها : أنه ذم من يطلب النصر والعزة من غير المؤمنين كقوله : يا أيها الذين ا منوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين ا منوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يكأيها الذين ا منوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين ا منوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين ا منوا فإن حزب الله هم الغالبون :
فأنكر على من طلب النصر من غير حزبه وأخبر أن حزبه هم الغالبون
ونظير هذا : قوله : بشرع المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا
وقال تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون
وقال تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه أي من كان يزيد العزة فليطلبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح
وقال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله

وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين أي ويعطيكم أخرى فوق مغفرة الذنوب ودخول الجنة وهي النصر والفتح : يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
وقال تعالى للمسيح : إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة فلما كان للنصارى نصيب ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة
وقال تعالى للمؤمنين : ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا فهذا خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهرا وباطنا
وقال تعالى : إن العاقبة للمتقين وقال : والعاقبة للتقوى والمراد : العاقبة في الدنيا قبل الآخرة لأنه ذكر عقيب قصة نوح ونصره وصبره على قومه فقال تعالى : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين أي عاقبة النصر لك ولمن معك كما كانت لنوح عليه السلام ومن آمن معه
وكذلك قوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى
وقال تعالى : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا

وقال : بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ]
وقال إخبارا عن يوسف عليه السلام أنه نصر بتقواه وصبره فقال : أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقال : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم والفرقان : هو العز والنصر والنجاة والنور الذي يفرق بين الحق والباطل وقال تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا
وقد روى ابن ماجه وابن أبي الدنيا عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم فهذا في المقام الأول
وأما المقام الثاني : فقال تعالى في قصة أحد : أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال تعالى : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا وقال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير
وقال : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون
وقال : وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة

بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور
وقال : وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون
وقال : أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير
وقال : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
ولهذا أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم وهو طاعته وهو المقدمة الأولى وأمر بانتظار وعده وهو المقدمة الثانية وأمر بالاستغفار والصبر لأن العبد لابد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار ولابد في انتظار الوعد من الصبر فبالاستغفار تتم الطاعة وبالصبر يتم اليقين بالوعد وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله : فاصبر إن وعد الله حقك واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار
وقد ذكر الله سبحانه في كتابه قصص الأنبياء وأتباعهم وكيف نجاهم بالصبر والطاعة ثم قال : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب

فصل وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة
الأول : أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار والواقع شاهد بذلك وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير الأصل الثاني : أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب فإن فاتهم الرضا فمعولهم على الصبر وعلى الاحتساب وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب وإن صبروا فكصبر البهائم وقد نبه تعالى على ذلك بقوله : ولا

تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون
فاشتركوا في الألم وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى
الأصل الثالث : أن المؤمن إذا أوذي في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان في قلبه حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن فإنه يدفع عنه كثيرا من البلاء وإذا كان لا بد له من شيء منه دفع عنه ثقله ومؤنته ومشقته وتبعته الأصل الرابع : أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه كان أذى المحب في رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك حتى قال قائلهم :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه الأصل الخامس : أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان وإن كان في الظاهر بخلافه
قال الحسن رحمه الله : إنهم وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه
الأصل السادس : أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما

قال النبي صلى الله عليه وسلم  والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأقرب إليهم فالأقرب يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة
الأصل السابع : أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه وغلبته له وأذاه له في بعض الأحيان : أمر لازم لابد منه وهو كالحر الشديد والبرد الشديد والأمراض والهموم والغموم فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار حتى للأطفال والبهائم لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر والنفع عن الضر واللذة عن الألم لكان ذلك عالما غير هذا ونشأة أخرى غير هذه النشأة وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر والألم واللذة والنافع والضار وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار كما قال تعالى : ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون الأصل الثامن : أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانا فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفضيل إلا الله عز و جل
فمنها : استخراج عبوديتهم وذلهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه وسؤاله نصرهم على أعدائهم ولو كانوا دائما منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ولا كانت للحق

دولة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة وكونهم مغلوبين تارة فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه وخضعوا له وانكسروا له وتابوا إليه وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وجاهدوا عدوه ونصروا أولياءه
ومنها : أنهم لو كانوا دائما منصورين غالبين قاهرين لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه
ومنها : أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء وفي حال العافية والبلاء وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها ولا يستقيم القلب بدونها كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد والجوع والعطش والتعب والنصب وأضدادها فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع
ومنها : أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم كماقال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين

فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس فيصيب كلا منهم نصيبه منها كالأرزاق والا جال ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين فيعلم إيمانهم واقعا
ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء فإن الشهادة درجة عالية عنده ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله فلولا إدالة العدوع لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه وأنفعها للعبد
ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو وأنه مع ذلك يريد ان يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر وأن حكمته تأبى ذلك فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم
فهذا بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم وإدالته في بعض الأحيان
الأصل التاسع : أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض وخلق الموت والحياة وزين الأرض بما عليها لابتلاء عباده وامتحانهم ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها قال تعالى وهو الذي خلق السموات والارض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيم أحسن عملا

وقال : إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وقال : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقال تعالى : ونبلوكم بالشرع والخير فتنة وإلينا ترجعون
وقال تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم وقال تعالى : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين إما أن يقول أحدهم : آمنت أو لا يؤمن بل يستمر على السيئات والكفر ولابد من امتحان هذا وهذا
فأما من قال : آمنت فلابد أن يمتحنه الرب ويبتليه ليتبين : هل هو صادق في قوله آمنت أو كاذب فإن كان كاذبا رجع على عقبيه وفر من الامتحان كما يفر من عذاب الله وإن كان صادقا ثبت على قوله ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانا على إيمانه قال تعالى : ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما وأما من لم يؤمن فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب ويفتن به وهي أعظم المحنتين هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها وعقوبتها التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم فلابد من المحنة في هذه الدار وفي البرزخ وفي القيامة لكل أحد ولكن المؤمن أخف محنة وأسهل بلية فإن الله يدفع عنه بالإيمان ويحمل عنه به ويرزقه من الصبر والثبات والرضى والتسليم ما يهون به عليه محنته وأما الكافر والمنافق والفاجر فتشتد محنته

وبليته وتدوم فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة والكافر والمنافق والفاجر تحصل له اللذة والنعيم ابتداء ثم يصير إلى الألم فلا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم ألبتة يوضحه :
الأصل العاشر : وهو أن الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر فلابد له من الناس ومخالطتهم ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتب على موافقتهم
واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور أو المعاونة على محرم فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه والغالب أنهم يسلطون عليه فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم
فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألما عظيما دائما والتوفيق بيد الله
الأصل الحادي عشر : أن البلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام فإنه إما أن يكون في نفسه أو في ماله أو في عرضه أو في أهله ومن يحب والذي في نفسه قد يكون بتلفها تارة وبتألمها بدون التلف فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله

وأشد هذه الأقسام : المصيبة في النفس
ومن المعلوم : أن الخلق كلهم يموتون وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله وتلك أشرف الموتات وأسهلها فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل بل موت الشهيد من أيسر الميتات وأفضلها وأعلاها ولكن الفار يظن أنه بفراره يطول عمره فيتمتع بالعيش وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن حيث يقول : قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا
فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع فلا فائدة فيه وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلا إذ لابد له من الموت فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه
ثم قال : قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله إن أراد به سوءا غير الموت الذي فر منه فإنه فر من الموت لما كان يسوءه فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءا غيره لم يعصمه أحد من الله وأنه قد يفر مما يسوءه من القتل في سبيل الله فيقع فيما يسوءه مما هو أعظم منه وإذا كان هذا في مصيبة النفس فالأمر هكذا في مصيبة المال والعرض والبدن فإن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سلبه الله إياه أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلا وآجلا وإن حبسه وادخره منعه التمتع به ونقله إلى غيره فيكون له مهنؤه وعلى مخلفه وزره وكذلك من رفه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب

قال أبو حازم : لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقى الله من معالجة التقوى
واعتبر ذلك بحال إبليس فإنه امتنع من السجود لأدم فرارا أن يخضع له ويذل وطلب إعزاز نفسه فصيره الله أذل الأذلين وجعله خادما لأهل الفسوق والفجور من ذريته فلم يرض بالسجود له ورضى أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته
وكذلك عباد الأصنام أنفوا أن يتبعوا رسولا من البشر وأن يعبدوا إلها واحدا سبحانه ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله أو يبذل ماله في مرضاته أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته لابد أن يذل لمن لا يسوى ويبذل له ماله ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته عقوبة له كما قال بعض السلف من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته

فصل في خاتمة لهذا الباب هي الغاية المطلوبة وجميع ما تقدم
كالوسيلة إليها وهي : أن محبة الله سبحانه والأنس به والشوق إلى لقائه والرضى به وعنه : أصل الدين وأصل أعماله وإراداته كما أن معرفته والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجل علوم الدين كلها فمعرفته أجل المعارف وإرادة وجهه أجل المقاصد وعبادته أشرف الأعمال والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه وتمجيده أشرف الأقوال وذلك أساس الحنيفية ملة إبراهيم
وقد قال تعالى لرسوله : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

وكان النبي صلى الله عليه و سلم يوصي أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا : أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين
وذلك هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وعليها قام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء والمرسلين وليس لله دين سواه ولا يقبل من أحد دينا غيره : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
فمحبته تعالى بل كونه أحب إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق من أعظم واجبات الدين وأكبر أصوله وأجل قواعده ومن أحب معه مخلوقا مثل ما يحبه فهو من الشرك الذي لا يغفر لصاحبه ولا يقبل معه عمل قال تعالى : ومن الناس من يتخد من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله وإذا كان العبد لا يكون من أهل الإيمان حتى يكون عبدالله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وولده ووالده والناس أجمعين ومحبته تبع لمحبة الله فما الظن بمحبته سبحانه وهو سبحانه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته التي تتضمن كمال محبته وكمال تعظيمه والذل له ولأجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب وأسست الجنة والنار وانقسم الناس إلى شقي وسعيد وكما أنه سبحانه ليس كثله شيء فليس كمحبته وإجلاله وخوفه محبة وإجلال ومخافة
فالمخلوق كلما خفته استوحشت منه وهربت منه والله سبحانه كلما خفته أنست به وفررت إليه والمخلوق يخاف ظلمه وعدوانه والرب سبحانه إنما يخاف عدله وقسطه
وكذلك المحبة فإن محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمحب ووبال عليه

وما يحصل له بها من التألم أعظم مما يحصل له من اللذة وكلما كانت أبعد عن الله كان ألمها وعذابها أعظم
هذا إلى ما في محبته من الإعراض عنك والتجني عليك وعدم الوفاء لك إما لمزاحمة غيرك من المحبين له وإما لكراهته ومعاداته لك وإما لاشتغاله عنك بمصالحه وما هو أحب إليه * منك وإما لغير ذلك من الآفات
وأما محبة الرب سبحانه فشأنها غير هذا الشأن فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها فهو إلهها ومعبودها ووليها ومولاها وربها ومدبرها ورازقها ومميتها ومحييها فمحبته نعيم النفوس وحياة الأرواح وسرور النفوس وقوت القلوب ونور العقول وقرة العيون وعمارة الباطن فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزاكية أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من حبته والأنس به والشوق إلى لقائه والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم واللذة التي تناله أعلى من كل لذة كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله : إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
وقال آخر : إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربا بأنسه بالله وحبه له
وقال آخر : مساكين أهل الغفلة خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها
وقال آخر : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها وبحسب ادراك جمال المحبوب والقرب منه وكلما كانت المحبة أكمل وإدراك المحبوب أتم والقرب منه أوفر كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف وفيه أرغب وله أحب وإليه أقرب

وجد من هذه الحلاوة في قلبه مالا يمكن التعبير عنه ولا يعرف إلا بالذوق والوجد ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبا لغيره ولا أنسا به وكلما ازداد له حبا ازداد له عبودية وذلا وخضوعا ورقا له وحرية عن رق غيره
فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها ولم يسكن إليها بل لا تزيده إلا فاقة وقلقا حتى يظفر بما خلق له وهيء له : من كون الله وحده نهاية مراده وغاية مطالبه فإن فيه فقرا ذاتيا إلى ربه وإلهه من حيث هو معبوده ومحبوبه وإلهه ومطلوبه كما أن فيه فقرا ذاتيا إليه من حيث هو ربه وخالقه ورازقه ومدبره وكلما تمكنت محبة الله من القلب وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبوديته له
فأصبح حرا عزة وصيانة ... على وجهه أنواره وضياؤه
وما من مؤمن إلا وفي قلبه محبة لله تعالى وطمأنينة بذكره وتنعم بمعرفته ولذة وسرور بذكره وشوق إلى لقائه وأنس بقربه وإن لم يحس به لاشتغال قلبه بغيره وانصرافه إلى ما هو مشغول به فوجود الشيء غير الإحساس والشعور به
وقوة ذلك وضعفه وزيادته ونقصانه : هو بحسب قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه ومتى لم يكن الله وحده غاية مراد العبد ونهاية مقصوده وهو المحبوب المراد له بالذات والقصد الأول وكل ما سواه فإنما يحبه ويريده ويطلبه تبعا لأجله لم يكن قد حقق شهادة أن لا إله إلا الله وكان فيه من النقص والعيب والشرك بقدره وله من موجبات ذلك من الألم والحسرة والعذاب بحسب ما فاته من ذلك ولو سعى في هذا المطلوب بكل طريق واستفتح من كل باب ولم يكن مستعينا بالله متوكلا عليه مفتقرا إليه في حصوله متيقنا أنه إنما يحصل بتوفيقه ومشيئته وإعانته لا طريق له سوى ذلك بوجه من الوجوه لم يحصل له مطلوبه فإنه ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن فلا يوصل إليه سواه ولا يدل عليه سواه ولا يعبد إلا بإعانته ولا يطاع إلا بمشيئته لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين

وإذا عرف هذا فالعبد في حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه وتوارت أو نقصت أو ذهبت فإنها لو كانت موجودة كاملة لما قدم عليها لذة وشهوة لا نسبة بينها وبينها بوجه ما بل هي أدنى من حبة خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم  لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فإن ذوق حقيقة الإيمان ومباشرته لقلبه يمنعه من أن يؤثر عليه ذلك القدر الخسيس وينهاه عما يشعثه وينقصه ولهذا تجد العبد إذا كان مخلصا لله منيبا إليه مطمئنا بذكره مشتاق قلبه إلى لقائه منصرفا عن هذه المحرمات لا يلتفت إليها ولا يعول عليها ويرى استبداله بها عما هو فيه كاستبداله البعر الخسيس بالجوهر النفيس وبيعه الذهب بأعقاب الجزر وبيعه المسك بالرجيع
ولا ريب أن في النفوس البشرية من هو بهذه المثابة إنما يصبو إلى ما يناسبه ويميل إلى ما يشاكله ينفر من المطالب العالية واللذات الكاملة كما ينفر الجعل من رائحة الورد وشاهدنا من يمسك بأنفه عند وجود رائحة المسك ويتكره بها لما يناله بها من المضرة
فمن خلق للعمل في الدباغة لا يجىء منه العمل في صناعة الطيب ولا يليق ولا يتأتى منه والنفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليها منه أو للخوف من مكروه هو أشق عليها من فوات ذلك المحبوب
فالذنب يعدم لعدم المقتضى له تارة ولاشتغال القلب بما هو أحب إليه منه ولوجود المانع تارة ومن خوف فوات محبوب هو أحب إليه منه تارة
فالأول : حال من حصل له من ذوق حلاوة الإيمان وحقائقه والتنعم به ما عوض قلبه عن ميله إلى الذنوب

والثاني : حال من عنده داع وارادة لها وعنده إيمان وتصديق بوعد الله تعالى ووعيده فهو يخاف إن واقعها أن يقع فيما هو أكره إليه وأشق عليه فالأول : للنفوس المطمئنة إلى ربها والثاني : لأهل الجهاد والصبر وهاتان النفسان هما المخصوصتان بالسعادة والفلاح قال الله تعالى في النفس الأولى : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
وقال في الثانية : ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم
فالنفوس ثلاثة : نفس مطمئنة إلى ربها وهي أشرف النفوس وأزكاها ونفس مجاهدة صابرة ونفس مفتونة بالسهوات والهوى وهي النفس الشقية التي حظها الألم والعذاب والبعد عن الله تعالى والحجاب

فصل في بيان كيد الشيطان لنفسه قبل كيده للأبوين ثم لم يقتصر على ذلك
حتى كاد ذرية نفسه وذرية آدم فكان مشئوما على نفسه وعلى ذريته وأوليائه وأهل طاعته من الجن والإنس
أما كيده لنفسه :
فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عليه السلام كان في امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه وعزه ونجاته فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة : أن في سجوده لآدم عليه السلام غضاضة عليه وهضما لنفسه إذ يخضع ويقع ساجدا لمن خلق من طين وهو مخلوق من نار والنار بزعمه أشرف من الطين فالمخلوق منه خير من المخلوق منها وخضوع الأفضل لمن هو دونه غضاضة عليه وهضم لمنزلته فلما قام بقلبه هذا الهوس وقارنه الحسد لآدم لما رأى ربه سبحانه قد خصه به من أنواع الكرامة فإنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وميزه بذلك عن الملائكة

وأسكنه جنته فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ وكان عدو الله يطيف به وهو صلصال كالفخار فيتعجب منه ويقول : لأمر عظيم قد خلق هذا ولئن سلط علي لأعصينه ولئن سلطت عليه لأهلكنه فلما تم خلق آدم عليه السلام في أحسن تقويم وأكمل صورة وأجملها وكملت محاسنه الباطنة بالعلم والحلم والوقار وتولى ربه سبحانه خلقه بيده فجاء في أحسن خلق وأتم صورة طوله في السماء ستون ذراعا قد ألبس رداء الجمال والحسن والمهابة والبهاء فرأت الملائكة منظرا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل فوقعوا كلهم سجودا له بأمر ربهم تبارك وتعالى فشق الحسود قميصه من دبر واشتعلت في قلبه نيران الحسد المتين فعارض النص بالمعقول بزعمه كفعل أوليائه من المبطلين وقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فاعرض عن النص الصريح وقابله بالرأي الفاسد القبيح ثم أردف ذلك بالاعتراض على العليم الحكيم الذي لا تجد العقول إلى الاعتراض على حكمته سبيلا فقال : أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا
وتحت هذا الكلام من الاعتراض معنى : أخبرني لم كرمته على وغور هذا الاعتراض : أن الذي فعلته ليس بحكمة ولا صواب وأن الحكمة كانت تقتضي أن يسجد هو لي لأن المفضول يخضع للفاضل فلم خالفت الحكمة
ثم أردف ذلك بتفضيل نفسه عليه وإزرائه به فقال : أنا خير منه
ثم قرر ذلك بحجته الداحضة في تفضيل مادته وأصله على مادة آدم عليه السلام وأصله فأنتجت له هذه المقدمات إباءه وامتناعه من السجود ومعصيته الرب المعبود فجمع بين الجهل والظلم والكبر والحسد والمعصية ومعارضة النص بالرأي والعقل فأهان نفسه كل الإهانة من حيث أراد تعظيمها ووضعها من حيث أراد رفعتها وأذلها من حيث أراد عزتها وآلمها كل الألم من حيث أراد لذتها ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه في مضرته لم يبلغ منه ذلك المبلغ ومن كان هذا غشه لنفسه فكيف يسمع منه العاقل ويقبل ويواليه قال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من

الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوك بئس للظالمين بدلا

فصل وأما كيده للأبوين فقد قص الله سبحانه علينا قصته معهما وأنه لم
يزل يخدعهما ويعدهما ويمنيهما الخلود في الجنة حتى حلف لهما بالله جهد يمينه : إنه ناصح لهما حتى اطمأنا إلى قوله وأجاباه إلى ما طلب منهما فجرى عليهما من المحنة والخروج من الجنة ونزع لباسهما عنهما ما جرى وكان ذلك بكيده ومكره الذي جرى به القلم وسبق به القدر ورد الله سبحانه كيده عليه وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها وعاد عاقبة مكره عليه ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله
وظن عدو الله بجهله أن الغلبة والظفر له في هذا الحرب ولم يعلم بكمين جيش : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ولا بإقبال دولة ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى وظن اللعين بجهله أن الله سبحانه يتخلى عن صفيه وحبيبه الذي خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء من أجل أكلة أكلها وما علم أن الطبيب قد علم المريض الدواء قبل المرض فلما أحس بالمرض بادر إلى استعمال الدواء لما رماه العدو بسهم وقع في غير مقتل فبادر إلى مداواة الجرح فقام كأن لم يكن به قلبة

بلي العدو بالذنب فأصر واحتج وعارض الأمر وقدح في الحكمة ولم يسأل الإقالة ولا ندم على الزلة وبلي الحبيب بالذنب فاعترف وتاب وندم وتضرع واستكان وفزع إلى مفزع الخليقة وهو التوحيد والاستغفار فأزيل عنه العتب وغفر له الذنب وقبل منه المتاب وفتح له من الرحمة والهداية كل باب ونحن الأبناء ومن أشبه أباه فما ظلم ومن كانت شيمته التوبة والاستغفار فقد هدي لأحسن الشيم

فصل ثم كاد أحد ولدي آدم ولم يزل يتلاعب به حتى قتل أخاه
وأسخط أباه وعصى مولاه فسن للذرعية قتل النفوس وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل فكاد العدو هذا القاتل بقطيعة رحمه وعقوق والديه وإسخاط ربه ونقص عدده وظلم نفسه وعرضه لأعظم العقاب وحرمه حظه من جزيل الثواب
فصل ثم جرى الأمر على السداد والاستقامة والأمة واحدة والدين واحد
والمعبود واحد فقال تعالى : وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون وقال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
قال سعيد عن قتادة : ذكر لنا : أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون

كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله عز و جل نوحا وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وبعث عند الاختلاف بين الناس وترك الحق وقال ابن عباس : كان الناس أمة واحدة : كانوا على الإسلام كلهم وهذا هو القول الصحيح في الآية وقد روى عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا أمة واحدة كانوا كفارا وهذا قول الحسن وعطاء قالا : كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام أمة واحدة على ملة واحدة وهي الكفر كانوا كفارا كلهم أمثال البهائم فبعث الله نوحا وإبراهيم والنبيين وهذا القول ضعيف جدا وهو منقطع عن ابن عباس والصحيح عنه خلافه قال ابن أبي حاتم : حدثنا
أبو زرعة حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانوا على الإسلام كلهم وهذا هو الصواب قطعا فإن قراءة أبي بن كعب فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ويشهد لهذه القراءة : قوله تعالى في سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا
والمقصود : أن العدو كادهم وتلاعب بهم حتى انقسموا قسمين كفارا ومؤمنين فكادهم بعبادة الأصنام وإنكار البعث

وكان أول ما كاد به عباد الأصنام من جهة العكوف على القبور وتصاوير أهلها ليتذكروهم بها كما قص الله سبحانه قصصهم في كتابه فقال : وقالوا لا تزرن آلهتكم ولا تزرن ودآ ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت
وقال ابن جرير عن محمد بن قيس قال : كانوا قوما صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي : أخبرني أبي قال : أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه السلام لما مات جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند ويقال للجبل : نود وهو أخصب جبل في الأرض قال هشام : فأخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : فكان بنو شيث عليه السلام يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه فقال رجل من بني قابيل بن آدم : يا بني قابيل إن لبنى شيث دوارا يدورون حوله ويعظمونه وليس لكم شيء فنحت لهم صنما فكان أول من عملها قال هشام : وأخبرني أبي قال : كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر : قوما صالحين فماتوا في شهر فجزع عليهم ذوو أقاربهم فقال رجل من بني قابيل : يا قوم هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم غير أني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحا قالوا :

نعم فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم فكان الرجل يأتي أخاه وعمه وابن عمه فيعظمه ويسعى حوله حتى ذهب ذلك القرن الأول وكانت عملت على عهد برد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم القرن الأول ثم جاء من بعدهم القرن الثالث فقالوا : ما عظم أولونا هؤلاء إلا يرجون شفاعتهم عند الله تعالى فعبدوهم وعظموا أمرهم واشتد كفرهم فبعث الله إليهم إدريس عليه السلام نبيا فدعاهم فكذبوه فرفعه الله إليه مكانا عليا ولم يزل أمرهم يشتد فيما قال ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : حتى أدرك نوح [ بن لمك بن متو شلح بن أخنوخ ] عليه السلام فبعثه الله تعالى نبيا وهو يومئذ ابن أربعمائة وثمانين سنة فدعاهم إلى الله تعالى في نبوته عشرين ومائة سنة فعصوه وكذبوه فأمره الله تعالى أن يصنع الفلك ففرغ منها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ومكث بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة وكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومائتا سنة فأهبط الماء هذه الأصنام [ من جبل نوذ إلى الأرض وجعل الماء يشتد جريه وعبابه ] من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جده فلما نضب الماء وبقيت على الشط فسفت الريح عليه حتى وارتها قلت : ظاهر القرآن يدل على خلاف هذا وأن نوحا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وأن الله عز و جل أهلكهم بالغرق بعد أن لبث فيهم هذه المدة
قال الكلبي : وكان عمرو بن لحي كاهنا وله رئي من الجن [ وكان يكنى

أبا ثمامة ] فقال له : عجل المسير والظعن من تهامة بالسعد والسلامة [ قال : جير ولا إقامة قال ] : ائت [ ضف ] جدة تجد فيها أصناما معدة فأوردها تهامة ولا تهب ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب فأتى نهر جدة فاستثارها ثم حملها حتى ورد تهامة وحضر الحج فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللات [ ابن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ] فدفع إليه ودا فحمله فكان بوادي القرى بدومة الجندل وسمى ابنه عبد ود فهو أول من سمي به وجعل عوف ابنه عامرا [ الذي يقال له : عامر الأجدار سادنا له فلم يزل بنوه يسدنونه حتى جاء الله بالإسلام
قال الكلبي : فحدثني مالك بن حارثة أنه رأى ودا قال : وكان أبي يبعثني باللبن إليه فيقول : اسقه إلهك فأشربه قال : ثم رأيت خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد كسره فجعله جذاذا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد لهدمه فحالت بينه وبين هدمه بنو عبد ود وبنو عامر الأجدار فقاتلهم فقتلهم وهدمه وكسره قال الكلبي : فقلت لمالك بن حارثة : صف لي ودا حتى كأني أنظر إليه قال : كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال قد دبر أي نقش عليه حلتان متزر بحلة مرتد بأخرى عليه سيف قد تقلده وقد تنكب قوسا وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل يعني جعبة

[ قال : ورجع الحديث قال : ] وأجابت عمرو بن حيي مضر بن نزار فدفع إلى رجل من هذيل يقال له : الحرث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر : سواعا فكان بأرض يقال لها : وهاط من بطن نخلة يعبده من يليه من مضر وفي ذلك يقول رجل من العرب :
تراهم حول قبلتهم عكوفا ... كما عكفت هذيل على سواع تظل جنابه صرعى لديه ... عتائر من ذخائر كلع راع وأجابته مذحج فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادي يغوث وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها
وأجابته همدان فدفع إلى مالك بن مرثد بن جشم [ بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان ] : يعوق فكان بقرية يقال لها : خيوان تعبده همدان ومن والاها من اليمن
وأجابت حمير : فدفع إلى رجل من ذي رعين يقال له : معد يكرب نسرا فكان بموضع من أرض سبإ يقال له : بلخع تعبده حمير ومن والاها فلم يزل يعبدونه حتى هودهم ذو نواس
فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم فهدمها وكسرها
قلت : هذا شرح ما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب تعبد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكان لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع قال : وهؤلاء أسماء رجال صالحين من قوم نوح وذكر ما تقدم

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب
وفي لفظ وغير دين إبراهيم
وقال ابن إسحق : حدثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعي : يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم : عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال : لا إنك مؤمن وهو كافر إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحام
قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم : أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم ولد عملاق ابن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم : ما هذه الأصنام التي تعبدون فقالوا : نستمطر بها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال : أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى

أرض العرب فيعبدونه فأعطوه صنما يقال له : هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه قال هشام : وحدثني أبي وغيره : أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة وولد بها أولاده فكثروا حتى ملئوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش فكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة : أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصبابة بمكة فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت حبا للبيت وصبابة به وهم على ذلك يعظمون البيت ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام [ منها على إرث ما بقى من ذكرها فيهم وفيهم على ذلك بقايا ] من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وإهداء البدن [ مع إدخالهم فيه ما ليس منه ] وكانت نزار تقول في إهلالها : لبيك اللهم لبيك * لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك * تملكه وما ملك
[ ويوحدونه التلبية ويدخلون معه آلهتهم ويجعلون ملكها بيده يقول الله عز و جل لتبيه صلى الله عليه وسلم وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم

مشركون أي ما يوحدونني بمعرفة حقى إلا جعلوا معي شريكا من خلقي
وكانت تلبية عك إذا خرجوا حجاجا قدموا أمامهم غلامين أسودين فكانا أمام ركبهم فيقولان : نحن غرابا عك فتقول عك من بعدهما : عك إليك عانيه ... عبادك اليمانيه
وكانت ربيعة إذا حجت فقضت المناسك ووقفت في المواقف نفرت في النفر الأول ولم تقم إلى آخر التشريق ] وكان أول من غير دين إسمعيل فنصب الأوثان وسيب السائبة [ وبحر البحيرة ] ووصل الوصيلة وحمى الحامي : عمرو بن ربيعة وهو لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي وهو أبو خزاعة وكانت أم عمرو فهيرة بنت عامر بن الحرث [ ويقال قمعة بنت مضاض ] وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة فلما بلغ عمرو بن لحي نازعه في الولاية وقاتل جرهما بني إسماعيل فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة ونفاهم من بلاد مكة وتولى حجابة البيت [ بعدهم ] ثم إنه مرض مرضا شديدا فقيل له : إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برأت فأتاها فاستحم فيها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال : ما هذه فقالوا : نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة واتخذت العرب الأصنام فكان أقدمها مناة [ وقد كانت العرب تسمى : عبد مناة وزيد مناة ] وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعها تعظمه وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب

من المواضع يعظمونه ويذبحون له ويهدون له [ وكان أولاد معد على بقية من دين إسماعيل وكانت ربيعة ومضر على بقية من دينه ] ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج
قال هشام : وحدثنا رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبدالله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال : كانت الأوس والخزرج ومن جاورهم من عرب أهل يثرب وغيرها يحجون فيقفون مع الناس المواقف كلها ولا يحلقون رؤوسهم فإذا نفروا أتوه فحلقوا عنده رؤوسهم وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تماما إلا بذلك وكانت مناة لهذيل وخزاعة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فهدمها عام الفتح ثم اتخذوا اللات بالطائف وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة [ وكان يهودي يلت عندها السويق ] وكان سدنتها من ثقيف [ بنو عتاب بن مالك ] وكانوا قد بنوا عليها وكانت قريش وجميع العرب تعظمها وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم فلم تزل كذلك

حتى أسلمت ثقيف فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات ومناة اتخذها ظالم بن أسعد وكانت بواد من نخلة [ الشآمية يقال له : حراض بإزاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة وذلك ] فوق ذات عرق وبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منه الصوت

قال هشام : وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كانت العزى شيطانة تأتى ثلاث سمرات ببطن نخلة فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال : ائت بطن نخلة فإنك ستجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال : هل رأيت شيئا قال : لا قال : فاعضد الثانية فأتاها فعضدها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال : هل رأيت شيئا قال : لا قال فاعضد الثالثة فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها وخلفها [ دبية بن حرمى الشيباني ثم السلمي وكان ] سادنها [ فلما نظر إلى خالد قال :
أعزاء شدى شدة لا تكذبي ... على خالد ألقى الخمار وشمعري
فإنك إلا تقتلى اليوم خالدا ... تبوئي بذل عاجلا وتنصري فقال خالد :
يا عزى كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : تلك العزى ولا عزى بعدها للعرب [ أما إنها لن تعبد بعد اليوم ]

قال هشام : وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وأعظمها عندهم : هبل وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر [ وكان يقال له : هبل خزيمة ] وكان في جوف الكعبة وكان قدامه [ سبعة ] قداح مكتوب في أحدها صريح وفي الآخر ملصق فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية ثم ضربوا بالقداح فإن خرج صريح ألحقوه وإن خرج ملصق دفعوه [ وقدح على الميت وقدح على النكاح وثلاثة لم تفسر لى علام كانت ] وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده [ فما خرج عملوا به وانتهوا إليه وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبدالله والد النبي صلى الله عليه و سلم وهو الذي قال له أبو سفيان يوم أحد : أعل هبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  قولوا له : الله أعلى وأجل
وكان لهم إساف ونائلة قال هشام : فحدث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : أن إسافا رجل من جرهم يقال له : إساف بن يعلى ونائلة بنت زيد من جرهم وكان يتعشقها في أرض اليمن فأقبلوا حجاجا فدخلا الكعبة فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت ففجر بها في البيت فمسخا حجرين فأصبحوا فوجدوهما مسخين فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما فعبدتهما خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد من العرب قال هشام : لما مسخا حجرين وضعا عند الكعبة ليتعظ بهما الناس فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها وكان أحدهما ملصقا بالكعبة والآخر في موضع زمزم فنقلت قريش الذي كان ملصقا بالكعبة إلى الآخر فكانوا يذبحون وينحرون عندهما
وكان من تلك الأصنام ذو الخلصة وكان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج وكان له بيت بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة [ وكان سدنتها بنو أمامة

من باهلة بن أعصر ] وكانت تعظمها وتهدى لها خثعم وبجبيلة [ وأزد السراة ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير : ألا تكفيني ذا الخلصة فسار إليه بأحمس فقاتلته خثعم وباهلة دونه فظفر بهم وهدم بيت ذي الخلصة وأضرم فيه النار فاحترق
وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة
وكان لدوس صنم يقال له ذو الكفين فلما أسلموا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو فحرقه
وكان لبني الحارث بن يشكر [ بن مبشر من الأزد ] صنم يقال له ذو الشرى
وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يقال له الأقيصر
وكان لمزينة صنم يقال له نهم وبه كانت تسمى عبد نهم [ وكان لأزد السراة صنم يقال له عائم ]

وكان لعنزة صنم يقا له سعير
وكان لطييء صنم يقا له الفلس
وكان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم كان يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كانآخر ما يصنع في منزله : أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله : أن يتمسح به قال ابن إسحاق : وكان لخولان صنم يقال له : عم أنس بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله بزعمهم فما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه وما دخل في حق الصنم من حق الله الذي سمو له تركوه له وفيهم أنزل الله سبحانه وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هكذا لله بزعمهم وهكذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون

قال ابن إسحق : وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له : سعد صخرة بفلاة من الأرض طويلة فأقبل رجل من بني ملكان بإبل مؤبلة ليقفها عليه ابتغاء بركته فيما يزعم فلما رأته الإبل [ وكانت مرعية لا تركب ] وكان يهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كل وجه فغضب ربها فأخذ حجرا فرماه به ثم قال : لا بارك الله فيك نفرت عني إبلي ثم خرج في طلبها حتى جمعها فلما اجتمعت له قال :
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا تدعو لغي ولا رشد قال ابن إسحق : وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له مناة [ كما كان الأشراف يصنعون يتخذه إلها يعظمه ويظهره ] فلما أسلم فتيان بني سلمة معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو وغيرهم ممن أسلم وشهد العقبة وكانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذرات الناس منكسا على رأسه فإذا أصبح عمرو قال : ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة قال : ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ثم قال : والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه فإذا أمسى ونام غدوا

ففعلوا بصنمه مثل ذلك فيغدو فيلتمسه فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويطهره ويطيبه فيغدون عليه إذا أمسى فيفعلون به ذلك فلما طال عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له : والله إني لا أعلم من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك فلما أمسى ونام غدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو فلم يجده في مكانه الذي كان به فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ويشكر الله إذ أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة ويقول :
والله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقاك إلها مستدن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزاق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن
قال ابن إسحق : واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه فإذا أراد رجل منهم سفرا تمسح به وإذا قدم من سفر تسمح به فيكون آخر عهده به وأول عهده به فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد قالت قريش : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدى لها كما تهدى للكعبة وتطوف بها كما تطوف بالكعبة وتنحر عندها كما تنحر عند الكعبة

وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا وجعل الثلاثة أثا في لقدره فإذا ارتحل تركه فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك
قال حنبل : حدثنا حسن بن الربيع قال : حدثنا مهدي بن ميمون قال : سمعت أبا رجاء العطاردي يقول : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب فلحقنا بالنار قال : وكنا نعبد الحجر في الجاهلية فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به وقال أبو رجاء : كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه ونحلب عليه فنعبده وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زمانا ثم نلقيه وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الحجاج بن أبي زينب قال :

سمعت أبا عثمان النهدي يقول : كنا في الجاهلية نعبد حجرا فسمعنا مناديا ينادي : يا أهل الرحال إن ربكم قد هلك فالتمسوا ربا قال : فخرجنا على كل صعب وذلول فبينا نحن كذلك نطلبه إذا نحن بمناد ينادي : إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه فإذا حجر فنحرنا عليه الجزر
وقال محمد بن سعد : أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني الحجاج بن صفوان عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن عمرو بن عبسة قال : كنت امرأ ممن يعبد الحجارة فينزل الحى ليس معهم إلكه فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار فينصب ثلاثة لقدره ويجعل أحسنها إلكها يعبده ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه ويأخذ غيره
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم  مكه وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما فجعل يطعن بسية قوسه في وجوهها وعيونها ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا وهي تتساقط على رؤوسها ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت

فصل وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة
تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم
فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام ولهذا لعن النبي صلى الله عليه و سلم المتخذين على القبور المساجد والسرج ونهى عن الصلاة إلى القبور وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا وقال : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل
فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد ولم يضرهم ذلك شيئا وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين
وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجا وقربانا ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا
فمنها : بيت على رأس جبل بإصبهان كان به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس وجعله بيت نار
ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء بناه بعض المشركين على اسم الزهرة فخر به عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه
ومنها بيت بناه قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة فرغانة فخر به المعتصم
وأشد الأمم في هذا النوع من الشرك : الهند
قال يحيى بن بشر : إن شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له برهمن ووضع لهم أصناما وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند وجعل فيه صنمهم الأعظم وزعم

أنه بصورة الهيولى الأكبر وفتحت هذه المدينة في أيام الحجاج واسمها الملتان فأراد المسلمون قلع الصنم فقيل : إن تركتموه ولم تقلعوه جعلنا لكم ثلث ما يجتمع له من المال فأمر عبد الملك بن مروان بتركه فالهند تحج إليه من نحو ألفي فرسخ ولا بد لمن يحجه أن يحمل معه من النقد ما يمكنه من مائة إلى عشرة آلاف لا يكون أقل من هذا ولا أكثر فيلقيه في صندوق هناك عظيم ويطوف بالصنم فإذا ذهبوا ورجعوا إلى بلادهم قسم ذلك المال فثلثه للمسلمين وثلثه لعمارة المدينة وحصونها وثلثه لسدنة الصنم ومصالحه
وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة وهم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده فطلبوا تحريقه
وهو مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى فمنهم عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها وهي عندهم ملك الفلك فيستحق التعظيم والسجود والدعاء ومن شريعتهم في عبادتها : أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهرة على لون النار وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعون ويستسقون به وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها وإذا غربت وإذا توسطت الفلك ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا وسدا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام

فصل وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما وزعموا أنه يستحق التعظيم
والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي
ومن شريعة عباده : أنهم اتخذوا له صنما على شكل عجل يجره اربعة وبيد الصنم جوهرة ويعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه
ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وصنم يخصه وعبادة تخصه
ومتى أردت الوقوف على هذا فانظر في كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم المنسوب إلى ابن الخطيب الري تعرف سر عبادة الأصنام وكيفية تلك العبادة وشرائطها
وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام فإنهم لا تستمر لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه
ومن ههنا اتخذ اصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورتها
فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده ومن أسباب عبادتها أيضا : أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشياطين فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب وعقلاؤهم يقولون : إن تلك روحانيات الأصنام وبعضهم يقول : إنها ملائكة وبعضهم يقول : إنها العقول المجردة وبعضهم يقول :

هي روحانيات الأجرام العلوية وكثير منهم لا يسأل عما عهد بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلكها ولا يسأل عما وراء ذلك
وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم عليه السلام وعبادتها في الأرض من قبل نوح عليه السلام كما تقدم وهيا كلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المصنفة في شرائع عبادتها طبق ذلك كله الأرض قال إمام الحنفاء واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس والأمم التي أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم وكانوا يعبدون الأصنام كما قص الله تعالى ذلك عنهم في القرآن وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين ويكفي في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وقد قال تعالى : فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقال : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله وقال : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقال 7 : 101 وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين
ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها وتحمل أنواع المكاره في نصرتها وعبادتها وهم يسمعون أخبار الأمم التي فتنت بعبادتها وما حل بهم من عاجل العقوبات ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها
ففتنة عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور وفتنة الفجور بها والعاشق لا يثنيه

عن مراده خشية عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك من الآلام والعقوبات والضرب والحبس والنكال والفقر غير ما أعد الله له في الآخرة وفي البرزخ ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته
فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام وأشد فإن تأله القلوب لها أعظم من تألهها للصور التي يريد منها الفاحشة بكثير
والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله وأنهم أعداء الله ورسله وأنهم أولياء الشيطان وعباده وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها وهم الذين حلت بهم المثلات ونزلت بهم العقوبات وأن الله سبحانه بريء منهم هو وجميع رسله وملائكته وأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يقبل لهم عملا
وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف
وقد أباح الله عز و جل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء وأموالهم ونساءهم وأبناءهم وأمرهم بتطهير الأرض منهم حيث وجدوا وذمهم بسائر أنواع الذم وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة فهؤلاء في شق ورسل الله تعالى كلهم في شق

فصل ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته
حتى جعل فيه حظ من الإلهية وشبهوه بالله سبحانه وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله
فهو سبحانه ينفي وينهي أن يجعل غيره مثلاله وندا له وشبها له لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الأمم المعروفة أمه جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم وإنما الأول هو

المعروف في طوائف أهل الشرك غلوا فيمن يعظمونه ويحبونه حتى شبهوه بالخالق وأعطوه خصائص الإلهية بل صرحوا أنه إله وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا وقالوا 38 : 6 اصبروا على آلهتكم وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف ويعظم ويسجد له ويحلف باسمه وتقرب له القرابين إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى
فكل مشرك فهو مشبه لالهه ومعبوده بالله سبحانه وإن لم يشبهه به من كل وجه حتى إن الذين كفروا وصفوه سبحانه بالنقائص والعيوب كقولهم 3 : 181 إن الله فقير وإن 5 : 64 يد الله مغلولة وإنه استراح لما فرغ من خلق العالم والذين جعلوا له ولدا وصاحبة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا لم يكن قصدهم أن يجعلوا المخلوق أصلا ثم يشبهون به الخالق بل وصفوه بهذه الأشياء استقلالا لا قصدا أن يكون غيره أصلا فيها وهو مشبه به
ولهذا كان وصفه سبحانه بهذه الأمور من أبطل الباطل لكونها في نفسها نقائص وعيوبا ليس جهة البطلان في اتصافه بها هو التشبيه والتمثيل فلا يتوقف في نفيها عنه على ثبوت انتفاء التشبيه كما يفعله بعض أهل الكلام الباطل حيث صرحوا بأنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب عنه وإنما تنفي عنه لاستلزامها التشبيه والتمثيل
وهؤلاء إذا قال لهم الواصفون لله سبحانه بهذه الصفات نحن نثبتها له على وجه لا يماثل فيها خلقه بل نثبت له فقرا وصاحبة وإيلادا لا يماثل فيه خلقه كما تثبتون أنتم له علما وقدرة وحياة وسمعا وبصرا لا يماثل فيها خلقه فقولنا في هذا كقولكم فيما أثبتموه سواء لم يتمكنوا من إبطال قولهم ويصيرون أكفاء لهم في المناظرة فإنهم قد أعطوهم أنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب وإنما ننفي ما نفى عنه لأجل التشبيه والتمثيل وقد أثبتوا له صفات على وجه لا يستلزم التشبيه فقال أولئك وهكذا نقول نحن
ولما عرف بعضهم أن هذا لازم له لا محالة استروح إلى دليل الإجماع وقال إنما نفينا النقائص والعيوب عنه بالإجماع وعندهم أن الإجماع أدلته ظنية لا تفيد اليقين فليس عند

القوم يقين وقطع بأن الله سبحانه منزه عن النقائص والعيوب
وأهل السنة يقولون إن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته كما أن إثبات صفات الكمال والحمد واجب لذاته وهو أظهر في العقول والفطر وجميع الكتب الإلهية وأقوال الرسل من كل شيء
ومن العجب أن هؤلاء جاءوا إلى ما علم بالإضطرار أن الرسل جاءوا به ووصفوا الله سبحانه به ودلت عليه العقول والفطر والبراهين فنفوه وقالوا إثباته يستلزم التجسيم والتشبيه فلم يثبت لهم قدم ألبتة فيما يثبتونه له سبحانه وينفونه عنه وجاءوا إلى ما علم بالإضطرار والفطر والعقول وجميع الكتب الإلهية من تنزيه الله سبحانه عن كل نقص وعيب فقالوا ليس في أدلة العقل ما ينفيه وإنما ننفيه بما ننفي به التشبيه
وليس في الخذلان فوق هذا بل إثبات هذه العيوب والنقائص يضاد كماله المقدس وهو سبحانه موصوف بما يضادها وينافيها من كل وجه ونفيها أظهر وأبين في العقول من نفي التشبيه فلا يجوز أن تثبت له على وجه لا يشابه فيه خلقه
والمقصود أنه لم يكن في الأمم من مثله بخلقه وجعل المخلوق أصلا ثم شبهه به وإنما كان التمثيل والتشبيه في الأمم حيث شبهوا أوثانهم ومعبوديهم به في الألهية وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام فأعرض عنه وعن بيان بطلانه أهل الكلام وصرفوا العناية إلى إنكار تشبيهه بالخلق الذي لم تعرف أمة من الأمم عليه وبالغوا فيه حتى نفوا به عنه صفات الكمال
وهذا موضع مهم نافع جدا به يعرف الفرق بين ما نزه الرب سبحانه نفسه عنه وذم به المشركين المشبهين العادلين به خلقه وبين ما ينفيه الجهمية المعطلة من صفات كماله ويزعمون أن القرآن دل عليه وأريد به نفيه
والقرآن مملوء من إبطال أن يكون في المخلوقات ما يشبه الرب تعالى أو يماثله فهذا هو الذي قصد بالقرآن إبطالا لما عليه المشركون والمشبهون العادلون بالله تعالى غيره
قال تعالى 2 : 22 فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وقال 2 : 165

ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلا للخالق فالند الشبه يقال فلان ند فلان ونديده أي مثله وشبهه ومنه قول حسان بن ثابت
أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفداء
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم لمن قال له ما شاء الله وشئت أجعلتني لله ندا وقال جرير
أتيما تجعلون إلي ندا ... وما تيم لذي حسب نديد
قال ابن مسعود وابن عباس لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله
وقال ابن زيد الأنداد الآلهة التي جعلوها معه
وقال الزجاج أي لا تجعلوا لله أمثالا
فالذي أنكره الله سبحانه عليهم هو تشبيه المخلوق به حتى جعلوه ندا لله تعالى يعبدونه كما يعبدون الله وكذلك قوله في الآية الأخرى 2 : 165 ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فأنكر هذا التشبيه عليهم وهو أصل عبادة الأصنام
ونظير هذا قوله سبحانه 6 : 1 الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يعدلون به غيره فيجعلون له من خلقه عدلا وشبها

قال ابن عباس يريد عدلوا بي من خلقي الحجارة والأصنام بعد أن أقروا بنعمتي وربوبيتي
وقال الزجاج أعلم الله سبحانه أنه خالق ما ذكر في هذه الآية وأن خالقها لا شيء مثله مثله وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلا والعدل التسوية يقال عدل الشيء بالشيء إذا سواه به ومعنى يعدلون به يشركون به غيره
قال مجاهد قال الأحمر يقال عدل الكافر بربه عدلا وعدولا إذا سوى به غيره فعبده
وقال الكسائي عدلت الشيء بالشيء أعدله عدولا إذا ساويته به
ومثله قوله تعالى عن هؤلاء المشبهين إنهم يقولون في النار لآلهتهم 26 : 97 تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين فاعترفوا أنهم كانوا في أعظم الضلال وأبينه إذ جعلوا لله شبها وعدلا من خلقه سووهم به في العبادة والتعظيم
وقال تعالى 19 : 65 رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا قال ابن عباس شبها ومثلا وهو من يساميه
وذلك نفي عن المخلوق أن يكون مشابها للخالق ومماثلا له بحيث يستحق العبادة التعظيم ولم يقل سبحانه هل تعلمه سميا أو مشبها لغيره فإن هذا لم يقله أحد بل المشركون المشبهون جعلوا بعض المخلوقات مشابها له مساميا وندا وعدلا فأنكر عليهم هذا التشبيه والتمثيل
وكذلك قوله 16 : 73 ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال فنهاهم أن يضربوا له مثلا من خلقه ولم ينههم أن يضربوه هو مثلا لخلقه فإن هذا لم يقله أحد ولم يكونوا يفعلونه فإن الله سبحانه أجل وأعظم وأكبر من كل شيء في فطر الناس كلهم ولكن المشبهون المشركون يغلون فيمن يعظمونه فيشبهونهم بالخالق والله تعالى أجل في صدور جميع الخلق من أن يجعلوا غيره أصلا ثم يشبهونه سبحانه بغيره

فالذي يشبهه بغيره إن قصد تعظيمه لم يكن في هذا تعظيم لأنه مثل أعظم العظماء بما هو دونه بل بما ليس بينه وبينه نسبة وشبه في العظمة والجلالة وعاقل لا يفعل هذا
وإن قصد التنقيص شبهه بالناقصين المذمومين لا بالكاملين الممدوحين
ومن هنا يعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمن التشبيه والتمثيل لا بالكاملين ولا بالناقصين وأن نفي تلك الصفات يستلزم تشبيهه بأنقص الناقصين
فانظر إلى الجهمية وأتباعهم جاءوا إلى التشبيه المذموم فأعرضوا عنه صفحا وجاءوا إلى الكمال والمدح فجعلوه تشبيها وتمثيلا عكس ما يثبته القرآن وجاء به من كل وجه
ومن هذا قوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد هو سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق سبحانه ولم يقل ولم يكن هو كفوا لأحد فينفي عن نفسه مشابهته للمخلوق ومكافأته له إذ كان ذلك أبين وأظهر من أن يحتاج إلى نفيه
وسر ذلك أن المقصود أن المخلوق لا يماثله سبحانه في شيء من صفاته وخصائصه وأما كونه سبحانه هو لا يماثل المخلوق ولا يشابهه ولا هو ند له ولا كفؤ فليس فيه مدح له
فإنه لو مدح بعض الملوك أو غيرهم بأنه لا يشبه الحيوانات ولا الحجارة ولا الخشب ونحو ذلك لم يعد هذا مدحا ولا ثناء عليه ولا كمالا له بخلاف ما إذا قيل لا تجعل للملك ندا ولا كفؤا ولا شبيها من رعيته تعظمه كتعظيمه وتطيعه كطاعته فإنه ليس في رعيته من يساميه ولا يماثله ولا يكافئه كان هذا غاية المدح
وكذلك قوله سبحانه 42 : 11 ليس كمثله شيء وهو السميع البصير إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك أو معبود يستحق العبادة والتعظيم كما يفعله المشبهون والمشركون ولم يقصد به نفي صفات كماله وعلوه على خلقه وتكلمه بكتبه وتكليمه لرسله

ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم كما ترى الشمس والقمر في الصحو فإنه سبحانه إنما ذكر هذا في سياق رده على المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء يوالونهم من دونه فقال تعالى 42 : 6 والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
فتأمل كيف ذكر هذا النفي تقريرا للتوحيد وإبطالا لما عليه أهل الشرك من تشبيه آلهتهم وأوليائهم به حتى عبدوهم معه فحرفها المحرفون وجعلوها ترسا لهم في نفي صفات كماله وحقائق أسمائه وأفعاله
وهذا التشبيه الذي أبطله الله سبحانه نفيا ونهيا هو أصل شرك العالم وعبادة الأصنام ولهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يسجد أحد لمخلوق مثله أو يحلف بمخلوق مثله أو يصلي إلى قبر أو يتخذ عليه مسجدا أو يعلق عليه

قنديلا أو يقول القائل ما شاء الله وشاء فلان ونحو ذلك حذرا من هذا التشبيه الذي هو أصل الشرط
وأما إثبات صفات الكمال فهو أصل التوحيد
فتبين أن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم والخضوع والحلف به والنذر له والسجود له والعكوف عند بيته وحلق الرأس له والإستغاثة به والتشريك بينه وبين الله في قولهم ليس لي إلا الله وأنت وأنا متكل على الله وعليك وهذا من الله ومنك وأنا في حسب الله وحسبك وما شاء الله وشئت وهذا لله ولك وأمثال ذلك
فهؤلاء هم المشبهه حقا لا أهل التوحيد المثبتون لله ما أثبته لنفسه والنافون عنه ما نفاه عن نفسه الذين لا يجعلون له ندا من خلقه ولا عدلا ولا كفؤا ولا سميا وليس لهم من دونه ولي ولا شفيع
فمن تدبر هذا الفصل حق التدبر تبين له كيف وقعت الفتنة في الأرض بعبادة الأصنام وتبين له سر القرآن في الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة ولا سيما إذا جمعوا إلى هذا التشبيه تعطيل الصفات والأفعال كما هو الغالب عليهم فيجمعون بين تعطيل الرب سبحانه عن صفات كماله وبين تشبيه خلقه به

فصل ومن كيده وتلاعبه ما تلاعب بعباد النار حتى اتخذوها إلها
معبودة وقد قيل إن هذا كان من عهد قابيل كما ذكر أبو جعفر محمد بن جرير أنه لما قتل قابيل هابيل وهرب من أبيه آدم عليه السلام أتاه إبليس فقال له إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار لأنه كان يخدمها ويعبدها فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت نار فهو أول من نصب النار وعبدها
وسرى هذا المذهب في المجوس فبنوا لها بيوتا كثيرة واتخذوا لها الوقوف والسدنة

والحجاب فلا يدعوها تخمد لحظة واحدة فاتخذ لها إفريدون بيتا بطوس وآخر ببخارى واتخذ لها بهمن بيتا بسجستان واتخذ لها أبو قباذ بيتا بناحية بخارى واتخذت لها بيوت كثيرة وعباد النار يفضلونها على التراب ويعظمونها ويصوبون رأي إبليس وقد رمي بشار بن برد بهذا المذهب لقوله في قصيدته :
الأرض سافلة سوداء مظلمة ... والنار معبودة مذ كانت النار ويقولون : إنها أوسع العناصر خيرا وأعظمها جرما وأوسعها مكانا وأشرفها جوهرا وألطفها جرما ولا كون في العالم إلا بها ولا نمو ولا انعقاد إلا بممازجتها
ومن عبادتهم لها : أن يحفروا لها أخدودا مربعا في الأرض ويطوفون به
وهم أصناف مختلفة
فمنهم من يحرم إلقاء النفوس فيها وإحراق الأبدان بها وهم أكثر المجوس وطائفة أخرى منهم : تبلغ بهم عبادتهم لها إلى أن يقربوا أنفسهم وأولادهم لها وهؤلاء أكثر ملوك الهند وأتباعهم ولهم سنة معروفة في تقريب نفوسهم وإلقائهم فيها فيعمد الرجل الذي يريد أن يفعل ذلك بنفسه أو بولده أو حبيبه فيحمله ويلبسه أحسن اللباس وأفخر الحلبي ويركبه أعلى المراكب وحوله المعازف والطبول والبوقات فيزف إلى النار أعظم من زفافه ليلة عرسه حتى إذا ما قابلها ووقف عليها وهي تأجج طرح نفسه فيها فضج

الحاضرون ضجة واحدة بالدعاء له وغبطته على ما فعل فلا يلبث إلا يسيرا حتى يأتيهم الشيطان في صورته وشكله وهيأته لا ينكرون منه شيئا فيأمرهم بأمره ويوصيهم بما يوصيهم به ويوصيهم بالتمسك بهذا الدين ويخبرهم أنه صار إلى جنة ورياض وأنهار وأنه لم يتألم بمس النار له فلا يهولنهم ذلك ولا يمنعهم عن أن يفعلوا مثله ومنهم زهاد وعباد يجلسون حول النار صائمين عاكفين عليها ومن سنتهم : الحث على الأخلاق الجملية كالصدق والوفاء وأداء الأمانة والعفة والعدل وترك أضدادها ولهؤلاء شرائع في عبادتها ونواميس وأوضاع لا يخلون بها
فصل ومن كيده وتلاعبه : تلاعبه بطائفه أخرى تعبد الماء من دون الله
وتسمى الحلبانية
وتزعم أن الماء لما كان أصل كل شيء وبه كل ولادة ونمو ونشوء وطهارة وعمارة وما من عمل في الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء فكان حقه أن يعبد
ومن شريعتهم في عبادته : أن الرجل منهم إذا أراد عبادته تجرد وستر عورته ثم دخل فيه حتى يصير إلى وسطه فيقيم هناك ساعتين أو أكثر بقدر ما أمكنه ويكون معه ما يمكنه أخذه من الرياحين فيقطعها صغارا فيلقيها فيه شيئا فشيئا وهو يسبحه ويمجده فإذا أراد الانصراف حرك الماء بيديه ثم أخذ منه فيضعه على رأسه ووجهه وجسده ثم يسجد وينصرف
فصل ومن تلاعبه : تلاعبه بعباد الحيوانات فطائفة عبدت الخيل وطائفة
عبدت

البقر وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات وطائفة تعبد الشجر وطائفة تعبد الجن كما قال سبحانه : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك ! أنت ولعينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
وقال تعالى : ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم يعني قد استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم

قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم : أضللتم منهم كثيرا فيجيبه سبحانه أولياؤهم من الإنس بقولهم ربنا استمتع بعضنا ببعض يعنون استمتاع كلع نوع بالنوع الآخر فاستمتاع الجن بالإنس : طاعتهم لهم فيما يأمرونهم به : من الكفر والفسوق والعصيان فإن هذا أكثر أغراض الجن من الإنس فإذا أطاعوهم فيه فقد أعطوهم مناهم واستمتاع الإنس بالجن : أنهم أعانوهم على معصية الله تعالى والشرك به بكل ما يقدرون عليه : من التحسين والتزيين والدعاء وقضاء كثير من حوائجهم واستخدامهم بالسحر والعزائم وغيرها فأطاعهم الإنس فيما يرضيهم : من الشرك والفواحش والفجور وأطاعتهم الجن فيما يرضيهم : من التأثيرات والإخبار ببعض المغيبات
فتمتع كل من الفريقين بالآخر
وهذه الآية منطبقة على أصحاب الأحوال الشيطانية الذين لهم كشوف شيطانية وتأثير شيطاني فيحسبهم الجاهل أولياء الرحمن وإنما هم من أولياء الشيطان أطاعوه في الإشراك ومعصية الله والخروج عما بعث به رسله وأنزل به كتبه فأطاعهم في أن خدمهم بإخبارهم بكثير من المغيبات والتأثيرات واغتر بهم من قل حظه من العلم والإيمان فوالى أعداء الله وعادى أولياءه وحسن الظن بمن خرج عن سبيله وسنته وأساء الظن بمن اتبع سنة الرسول وما جاء به ولم يدعها لأقوال المختلفين وآراء المتحيرين وشطحات المارقين وترهات المتصوفين
والبصير الذي نور الله بصيرته بنور الإيمان والمعرفة إذا عرف حقيقة ما عليه أكثر هذا الخلق وكان ناقدا لا يروج عليه الزغل تبين له أنهم داخلون تحت حكم هذه الآية وهي منطبقة عليهم
فالفاسق يستمتع بالشيطان بإعانته له على أسباب فسوقه والشيطان يستمتع به في

قبوله منه وطاعته له فيسره ذلك ويفرح به منه والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به وعبادته له ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه وإعانته له
ومن لم يحط علما بهذا لم يعلم حقيقة الإيمان والشرك وسر امتحان الرب سبحانه كلا من الثقلين بالآخر
ثم قالوا : وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وهو يتناول أجل الموت وأجل البعث فكلاهما أجل أجله الله تعالى لعباده وهما الأجلان اللذان قال الله فيهما ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده
وكأن هذا والله أعلم إشارة منهم إلى نوع استعطاف وتوبة فكأنهم يقولون : هذا أمر قد كان إلى وقت وانقطع بانقطاع أجله فلم يستمر ولم يدم فبلغ الأمر الذي كان أجله وانتهى إلى غايته ولكل شيء آخر فقال تعالى : النار مثواكم خالدين فيها فإنه وإن انقطع زمن التمتع وانقضى أجله فقد بقي زمن العقوبة فلا يتوهم أنه إذا انقصى زمن الكفر والشرك وتمتع بعضكم ببعض أن مفسدته زالت بزواله وانتهت بانتهائه والمقصود : أن الشيطان تلاعب بالمشركين حتى عبدوه واتخذوه وذريته أولياء من دون الله
فصل ومن تلاعبه بهم : أن زين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم بزعمهم
ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم ولكن كانت للشياطين فعبدوا أقبح خلق الله وأحقهم باللعن والذم قال تعالى : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهكؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنع أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم

أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ! ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وهذه الآيات تحتاج إلى تفسير وبيان فقوله سبحانه : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله عام في كل عابد ومن عبده من دون الله
وأما قوله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل فقال مجاهد فيما رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه قال : هذا خطاب لعيسى وعزير والملائكة وروى عنه ابن جريج نحوه
وأما عكرمة والضحاك والكلبي فقالوا : هو عام في الأوثان وعبدتها
ثم يأذن سبحانه لها في الكلام فيقول : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء قال مقاتل : يقول سبحانه أأنتم أمرتموهم بعبادتكم أم هم ضلوا السبيل أى أم هم أخطؤا الطريق فأجاب المعبودون بما حكى الله عنهم من قولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء
وهذا الجواب إنما يحسن من الملائكة والمسيح وعزيز ومن عبدهم المشركون من أولياء الله ولهذا قال ابن جرير يقول تعالى ذكره قالت الملائكة وعيسى الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مما أضاف إليك هؤلاء المشركون ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم بل أنت ولينا من دونهم
وقال ابن عباس ومقاتل نزهوا الله وعظموه أن يكون معه إله

وفيها قراءتان أشهرهما نتخذ بفتح النون وكسر الخاء على البناء للفاعل وهي قراءة السبعة والثانية نتخذ بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول وهي قراءة الحسن ويزيد بن القعقاع
وعلى كل واحدة من القراءتين إشكال
فأما قراءة الجمهور فإن الله سبحانه إنما سألهم هل أضلوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم أم هم ضلوا السبيل باختيارهم وأهوائهم وكيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال فإنه لم يسألهم هل اتخذتم من دوني من أولياء حتى يقولوا ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء وإنما سألهم هل أمرتم عبادي هؤلاء بالشرك أم هم أشركوا من قبل أنفسهم فالجواب المطابق أن يقولوا لم نأمرهم بالشرك وإنما هم آثروه وارتضوه أو لم نأمرهم بعبادتنا كما قال في الآية الأخرى عنهم 28 : 13 تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون
فلما رأى أصحاب القراءة الأخرى ذلك فروا إلى بناء الفعل للمفعول وقالوا الجواب يصح على ذلك ويطابق إذ المعنى ليس يصلح لنا أن نعبد ونتخذ آلهة فكيف نأمرهم بما لا يصلح لنا ولا يحسن منا
ولكن لزم هؤلاء من الإشكال أمر آخر وهو قوله من أولياء فإن زيادة من لا يحسن إلا مع قصد العموم كما تقول ما قام من رجل وما ضربت من رجل فأما إذا كان النفي واردا على شيء مخصوص فإنه لا يحسن زيادة من فيه وهم إنما نفوا عن أنفسهم ما نسب إليهم من دعوى المشركين أنهم أمروهم بالشرك فنفوا عن أنفسهم ذلك بأنه لا تحسن منهم ولا يليق بهم أن يعبدوا فكيف ندعوا عبادك إلى أن يعبدونا فكان الواجب على هذا أن تقرأ ما كان ينبغي لنا أن نتخذ أولياء من دونك أو من دونك أولياء
فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه
أحدها أن المعنى ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك ونتخذ غيرك وليا ومعبودا فكيف ندعو أحدا إلى عبادتنا أي إذا كنا نحن لا نعبد غيرك فكيف ندعو أحدا إلى أن

يعبدنا والمعنى أنهم إذا كانوا لا يرون لأنفسهم عبادة غير الله تعالى فكيف يدعون غيرهم إلى عبادتهم وهذا جواب الفراء
وقال الجرجاني هذا بالتدريج يصير جوابا للسؤال الظاهر وهو أن من عبد شيئا فقد تولاه وإذا تولاه العابد صار المعبود وليا للعابد يدل على هذا قوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم فدل على أن العابد يصير وليا للمعبود
ويصير المعنى كأنهم قالوا ما كان ينبغي لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا أولياء وأن نتخذ من دونك وليا يعبدنا وهذا بسط لقول ابن عباس في هذه الآية
قال يقولون ما توليناهم ولا أحببنا عبادتهم قال ويحتمل أن يكون قولهم ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء أن يريدوا معشر العبيد لا أنفسهم أي نحن وهم عبيدك ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دونك أولياء ولكنهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم تواضعا منهم كما يقول الرجل لمن أتى منكرا ما كان ينبغي لي أن أفعل مثل هذا أي أنت مثلي عبد محاسب فإذا لم يحسن من مثلي أن يفعل هذا لم يحسن منك أيضا
قال ولهذا الإشكال قرأ من قرأ نتخذ بضم النون وهذه القراءة أقرب في التأويل
لكن قال الزجاج هذه القراءة خطأ لأنك تقول ما اتخذت من أحد وليا ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولي لأن من إنما دخلت لأنها تنفي واحدا من معنى جميع تقول ما من أحد قائما وما من رجل محبا لما يضره ولا يجوز ما رجل من محب لما يضره
قال ولا وجه عندنا لهذا ألبتة ولو جاز هذا لجاز في 69 : 47 فما منكم من أحد عنه حاجزين ما أحد عنه من حاجزين فلو لم تدخل من لصحت هذه القراءة
قال صاحب النظم العلة في سقوط هذه القراءة أن من لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخول من كقوله

: ما كان لله أن يتخذ من ولد فقوله من ولد لا مفعول دونه سواه ولو قال ما كان لله أن يتخذ أحدا من ولد لم يحسن فيه دخول من لأن فعل الإتخاذ مشغول بأحد
وصحح آخرون هذه القراءة لفظا ومعنى وأجروها على قواعد العربية
قالوا وقد قرأ بها من لا يرتاب في فصاحته فقرأ بها زيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو جعفر ومجاهد ونصر بن علقمة ومكحول وزيد بن علي وأبو رجاء والحسن وحفص بن حميد ومحمد بن علي على خلاف عن بعض هؤلاء ذكر ذلك أبو الفتح بن جني ثم وجهها بأن يكون من أولياء في موضع الحال أي ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء ودخلت من زائدة لمكان النفي كقولك اتخذت زيدا وكيلا فإذا نفيت قلت ما اتخذت زيدا من وكيل وكذلك أعطيته درهما وما أعطيته من درهم وهذا في المفعول فيه
قلت يعني أن زيادتها مع الحال كزيادتها مع المفعول
ونظير ذلك أن تقول ما ينبغي لي أن أخدمك متثاقلا فإذا أكدت قلت من متثاقل
فإن قيل فقد صحت القراءتان لفظا ومعنى فأيهما أحسن
قلت قراءة الجمهور أحسن وأبلغ في المعنى المقصود والبراءة مما لا يليق بهم فإنهم على قراءة الضم يكونون قد نفوا حسن اتخاذ المشركين لهم أولياء وعلى قراءة الجمهور يكونون قد أخبروا أنهم لا يليق بهم ولا يحسن منهم أن يتخذوا وليا من دونه بل أنت وحدك ولينا ومعبودنا فإذا لم يحسن بنا أن نشرك بك شيئا فكيف يليق بنا أن ندعو عبادك إلى أن يعبدونا من دونك وهذا المعنى أجل من الأول وأكبر فتأمله
والمقصود أنه على القراءتين فهذا الجواب من الملائكة ومن عبد من دون الله من أوليائه وأما كونه من الأصنام فليس بظاهر
وقد يقال إن الله سبحانه أنطقها بذلك تكذيبا لهم وردا عليهم وبراءة منهم كقوله 2 : 166 إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وفي الآية الأخرى 28 : 63 تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون

ثم ذكر المعبودون سبب ترك العابدين الإيمان بالله تعالى بقولهم ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا قال ابن عباس أطلت لهم العمر وأفضلت عليهم ووسعت لهم في الرزق
وقال الفراء ولكنك متعتهم بالأموال والأولاد حتى نسوا ذكرك وكانوا قوما بورا أي هلكى فاسدين قد غلب عليهم الشقاء والخذلان والبوار الهلاك والفساد يقال بارت السلعة وبارت المرأة إذا كسدت ولم يحصل لها من يتزوجها
قال قتادة والله ما نسي قوم ذكر الله عز و جل إلا باروا وفسدوا
والمعنى ما أضللناهم ولكنهم ضلوا
قال الله تعالى فقد كذبوكم بما تقولون أي كذبكم المعبودون بقولكم فيهم إنهم آلهة وإنهم شركاء أو بما تقولون إنهم أمروكم بعبادتهم ودعوكم إليها
وقيل الخطاب للمؤمنين في الدنيا أي فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء المشركون بما تقولونه مما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم عن الله من التوحيد والإيمان
والأول أظهر وعليه يدل السياق
ومن قرأها بالياء آخر الحروف فالمعنى فقد كذبوكم بقولهم ثم قال فما تستطيعون صرفا ولا نصرا إخبارا عن حالهم يومئذ وأنهم لا يستطيعون صرف العذاب عن أنفسهم ولا نصرها من الله
قال ابن زيد ينادي مناد يوم القيامة حتى يجتمع الخلائق 37 : 25 ما لكم لا تناصرون يقول من عبد من دون الله لا ينصر اليوم من عبده والعابد لا ينصر إلهه 26 بل هم اليوم مستسلمون فهذا حال عباد الشيطان يوم لقاء الرحمن فواسوء حالهم حين امتيازهم عن المؤمنين إذا سمعوا النداء 36 : 59 وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون

فصل ومن تلاعبه وكيده تلاعبه بالثنوية وهم طائفة قالوا الصانع
اثنان ففاعل الخير نور وفاعل الشر ظلمة وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين حساسين مدركين سميعين بصيرين وهما مختلفان في النفس والصورة متضادان في الفعل والتدبير فالنور فاضل حسن نقي طيب الريح حسن المنظر ونفسه خيرة كريمة حكيمة نفاعة منها الخيرات والمسرات والصلاح وليس فيها شيء من الضرر ولا من الشر
والظلمة على ضد ذلك من الكدر والنقص ونتن الريح وقبح المنظر ونفسها نفس شريرة بخيلة سفيهة منتنة مضرة منها الشر والفساد
ثم اختلفوا فقالت فرقة منهم إن النور لم يزل فوق الظلمة
وقالت فرقة بل كل واحد منهما إلى جانب الآخر
وقالت فرقة النور لم يزل مرتفعا في ناحية الشمال والظلمة منحطة في الجنوب ولم يزل كل واحد منهما مباينا لصاحبه
وزعموا أن لكل واحد منهما أربعة أبدان وخامس هو الروح فأبدان النور الأربعة النار والنور والريح والماء وروحه النسيم ولم يزل يتحرك في هذه الأبدان
وأبدان الظلمة الأربعة الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان وسموا أبدان النور ملائكة وسموا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت
وبعضهم يقول الظلمة تتولد شياطين والنور يتولد ملائكة والنور لا يقدر على الشر ولا يجيء منه والظلمة لا تقدر على الخير ولا يجي منها
ولهم مذاهب سخيفة جدا

وفرض عليهم صوم سبع العمر وأن لا يؤذي أحدهم ذا روح ألبتة
ومن شريعتهم أن لا يدخروا إلا قوت يوم وتجنب الكذب والبخل والسحر وعبادة الأوثان والزنا والسرقة
واختلفوا هل الظلمة قديمة أو حادثة
فقالت فرقة منهم هي قديمة لم تزل مع النور
وقالت فرقة بل النور هو القديم ولكنه فكر فكرة رديئة حدثت منها الظلمة
فدار مذهبهم على أصلين من أبطل الباطل
أحدهما أن شر الموجودات وأخبثها وأردأها كفؤ لخير الموجودات وضد له ومناوء له يعارضه ويضاده ويناقضه دائما ولا يستطيع دفعه
وهذا أعظم من شرك عباد الأصنام الذين عبدوها لتقربهم إلى الله تعالى فإنهم جعلوها مملوكة له مربوبة مخلوقة كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه ومالك
والأصل الثاني أنهم نزهو النور أن يصدره منه شر ثم جعلوه منبع الشر كله وأصله ومولده وأثبتوا إلهين وربين وخالقين فجمعوا بين الكفر بالله تعالى وأسمائه وصفاته ورسله وأنبيائه وملائكته وشرائعه وأشركوا به أعظم الشرك
وحكى أرباب المقالات عنهم أن قوما منهم يقال لهم الديصانية زعموا أن طينة العالم كانت طينة خشنة وكانت تحاكي جسم النور الذي هو الباري عندهم زمانا فتأذى بها
فلما طال ذلك عليه قصد تنحيتها عنه فتوحل فيها واختلط بها فتركب من بينهما

هذا العالم المشتمل على النور والظلمة فما كان من جهة الصلاح فمن النور وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة قال : وهؤلاء يغتالون الناس ويخنقونهم ويزعمون أنهم يحسنون إليهم بذلك وأنهم يخلصون الروح النورانية من الجسد المظلم
وقال بعضهم : إن الباري سبحانه لما طالت وحدته استوحش ففكر فكرة سوء فتجسمت فكرته فاستحالت ظلمة فحدث منها إبليس فرام الباري إبعاده عن نفسه فلم يستطع فتحرز منه بخلق الجنود والخيرات فشرع إبليس في خلق الشر وأصل عقد مذهبهم الذي عليه خواصهم : إثبات القدماء الخمسة : الباري والزمان والخلاء والهيولي وإبليس فالباري خالق الخيرات وإبليس خالق الشرور وكان محمد بن زكريا الرازى على هذا المذهب لكنه لم يثبت إبليس فجعل مكانه النفس وقال : بقدم الخمسة مع ما رشحه به من مذاهب الصابئة والدهرية والفلاسفة والبراهمة فكان قد أخذ من كل دين شر ما فيه وصنف كتابا في إبطال النبوات ورسالة في إبطال المعاد فركب مذهبا مجموعا من زنادقة العالم
وقال : أنا أقول : إن الباري والنفس والهيولي والمكان والزمان : قدماء وأن العالم محدث
فقيل له : فما العلة في إحداثه
فقال : إن النفس اشتهت أن تحبل في هذا العالم وحركتها الشهوة لذلك ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه فاضطربت وحركت الهيولي حركات مشوشة مضطربة على غير نظام وعجزت عما أرادت فأعانها الباري على إحداث هذا العالم وحملها على النظام والاعتدال وعلم أنها إذا ذاقت وبال ما اكتسبته عادت إلى عالمها وسكن اضطرابها وزالت شهواتها واستراحت فأحدثت هذا العالم بمعاونة الباري لها قال : ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم
ولولا أن الله سبحانه يحكي عن المشركين والكفار أقوالا أسخف من هذا وأبطل لاستحيى العاقل من حكاية مثل هذا ولكن الله سبحانه سن لنا حكاية أقوال أعدائه

وفي ذلك من قوة الإيمان وظهور جلالته ومعرفة قدره وتمام نعمة الله تعالى على أهله به ومعرفة قدر خذلانه للعبد وإلى أي شيء يصيره الخذلان حتى يصير ضحكة لكل عاقل فأي ضلال وأي خذلان أعجب ممن أن يفني عمره في النظر والبحث وهذا غاية علمه بالله عز و جل وبالمبدأ والمعاد

فصل والمجوس تعظم الأنوار والنيران والماء والأرض ويقرون بنبوة زرا
دشت ولهم شرائع يصيرون إليها وهم فرق شتى منهم : المزدكية أصحاب مزدك الموبذ والموبذ عندهم : العالم القدوة وهؤلاء يرون الاشتراك في النساء والمكاسب كما يشترك في الهواء والطرق وغيرها ومنهم الخرمية : أصحاب بابك الخرمي وهم شر طوائفهم لا يقرون بصانع ولا

معاد ولا نبوة ولا حلال ولا حرام وعلى مذهبهم : طوائف القرامطة والإسماعلية والنصيرية والبشكية والدرزية والحاكمية وسائر العبيدية الذين

يسمون أنفسهم الفاطمية وهم من أكفر الكفار كما ستأتي ترجمتهم فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب ويتفاوتون في التفصيل
فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم وأئمتهم وقدوتهم وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم ولا بشريعة من الشرائع

ذكر تلاعبه بالصابئة هذه أمة كبيرة من الأمم الكبار
وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا بحسب ما وصل إليهم من معرفة دينهم وهم منقسمون إلى مؤمن وكافر قال الله تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فذكرهم في الأمم الأربعة الذين تنقسم كل أمة منهم إلى ناج وهالك

وذكرهم أيضا في الأمم الستة الذين انقسمت جملتهم إلى ناج وهالك كما في قوله : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة
فذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهم ولا ينقسمون إلى شقي وسعيد وهما : المجوس والمشركون في آية الفصل ولم يذكرهما في آية الوعد بالجنة وذكر الصابئين فيهما فعلم أن فيهم الشقي والسعيد
وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل وهم أهل دعوته وكانوا بحران فهي دار الصابئة وكانوا قسمين صائبة حنفاء وصابئة مشركين والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر ويصورونها في هياكلهم
ولتلك الكواكب عندهم هياكل مخصوصة وهي المتعبدات الكبار كالكنائس للنصارى والبيع لليهود فلهم هيكل كبير للشمس وهيكل للقمر وهيكل للزهرة وهيكل للمشتري وهيكل للمريخ وهيكل لعطارد وهيكل لزحل وهيكل للعلة الأولى
ولهذه الكواكب عندهم عبادات ودعوات مخصوصة ويصورونها في تلك الهياكل ويتخذون لها أصناما تخصها ويقربون لها القرابين ولها صلوات خمس في اليوم والليلة نحو صلوات المسلمين
وطوائف منهم يصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلواتهم الكعبة ويعظمون مكة ويرون الحج إليها ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون من القرابات في النكاح ما يحرمه المسلمون

وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد منهم هلال بن المحسن الصابىء صاحب الديوان الإنشائي وصاحب الرسائل المشهورة وكان يصوم مع المسلمين ويعيد معهم ويزكي ويحرم المحرمات وكان الناس يعجبون من موافقته للمسلمين وليس على دينهم وأصل دين هؤلاء فيما زعموا أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا ولهذا سموا صابئة أي خارجين فقد خرجوا عن تقيدهم بجملة كل دين وتفصيله إلا ما رأوه فيه من الحق وكانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم الصابىء وأصحابه الصبأة يقال : صبأ الرجل بالهمز إذا خرج من شيء إلى شيء وصبا يصبو إذا مال ومنه قوله : وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن أي أمل والمهموز والمعتل يشتركان فالمهموز : ميل عن الشيء والمعتل : ميل إليه واسم الفاعل من المهموز : صابىء بوزن قارىء ومن المعتل : صاب بوزن قاض وجمع الأول : صابئون كقارئون وجمع الثاني : صابون كقاضون وقد قرىء بهما
والمقصود : أن هذه الأمة قد شاركت جميع الأمم وفارقتهم فالحنفاء منهم شاركوا أهل الاسلام في الحنيفية والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام ورأوا أنهم على صواب وأكثر هذه الأمة فلاسفة والفلاسفة يأخذون من كل دين بزعمهم محاسن ما دلت عليه العقول وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرمه وسفهاؤهم وسفلتهم يمنعون ذلك كما سيأتي ذكر تلاعب الشيطان بهم بعد هذا

ولهذا لم يكن هؤلاء الفلاسفة ولا الصابئة من الأمم المستقلة التي لها كتاب ونبي وإن كانوا من أهل دعوة الرسل فما من أمة إلا وقد أقام الله سبحانه عليها حجته وقطع عنها حجتها لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون حجته عليهم والمقصود : أن الصابئة فرق فصابئة حنفاء وصابئة مشركون وصابئة فلاسفة وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنحل من غير تقيد بملة ولا نحلة ثم منهم من يقر بالنبوات جملة ويتوقف في التفصيل ومنهم من يقر بها جملة وتفصيلا ومنهم من ينكرها جملة وتفصيلا
وهم يقرون أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدسا عن العيوب والنقائص ثم قال المشركون منهم : لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية وعن القوى الجسدانية بل قد جبلوا على الطهارة فنحن نتقرب إليهم ونتقرب بهم إليه فهم أربابنا وا لهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الا لهة فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشهوات الطبيعية ونهذب أخلاقنا من علائق القوى الغضبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات وتتصل أرواحنا بهم فحينئذ نسأل حاجتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم ونصبوا في جميع أمورنا إليهم فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلهكهم
وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات وذلك بالتضرع والابتهال بالدعوات : من الصلوات والزكوات وذبح القرابين والبخورات والعزائم فحينئذ يحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة الرسل بل نأخذ من المعدن الذي أخذت منه الرسل فيكون حكمنا وحكمهم واحدا ونحن وإياهم بمنزلة واحدة
قالوا : والأنبياء أمثالنا في النوع وشركاؤنا في المادة وأشكالنا في الصورة يأكلون

مما نأكل ويشربون مما نشرب وما هم إلا بشر مثلنا يريدون أن يتفضلوا علينا
وزادت الاتحادية أتباع ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وأضرابهم على هؤلاء بما قاله شيخ الطائفة محمد بن عربي : أن الولي أعلى درجة من الرسول لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى الرسول فهو أعلى منه بدرجتين
فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى في التلقي من الرسل بدرجتين وإخوانهم من المشركين جعلوا أنفسهم في ذلك التلقي بمنزلة الأنبياء ولم يدعوا أنهم فوقهم
والمقصود : أن هؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء من أولهم إلى ا خرهم
أحدهما : عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دونه من إله والثاني : الإيمان برسله وما جاؤا به من عند الله تصديقا وإقرارا وانقيادا وامتثالا وليس هذا مختصا بمشركي الصابئة كما غلط فيه كثير من أرباب المقالات بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم لكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب والعلويات ولذلك ناظرهم إمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه في بطلان إلهيتها بما حكاه الله سبحانه في سورة الأنعام أحسن مناظرة وأبينها ظهرت فيها حجته ودحضت حجتهم فقال بعد أن بين بطلان إلهية الكواكب والقمر والشمس بأفولها وأن الإله لا يليق به أن يغيب ويأفل بل لا يكون إلا شاهدا غير غائب كما لا يكون إلا غالبا قاهرا غير مغلوب ولا مقهور نافعا لعباده يملك لعابده الضر والنفع فيسمع كلامه ويرى مكانه ويهديه ويرشده ويدفع عنه كل ما يضره ويؤذيه وذلك ليس إلا لله وحده فكل معبود سواه باطل
فلما رأى إمام الخنفا أن الشمس والقمر والكواكب ليست بهذه المثابة صعد منها إلى فاطرها وخالقها ومبدعها فقال : إنعى وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا
وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه خالق أمكنتها ومحالها التي هي مفتقرة إليها ولا قوام لها إلا بها فهي محتاجة إلى محل تقوم به وفاطر يخلقها ويدبرها ويربها والمحتاج المخلوق المربوب المدبر لا يكون إلها فحاجه قومه في الله ومن حاج في عبادة الله فحجته داحضة فقال

إبراهيم عليه السلام : أتحاجونىع في الله وقد هدان وهذا من أحسن الكلام أي أتريدون أن تصرفوني عن الإقرار بربي وبتوحيده وعن عبادته وحده وتشككوني فيه وقد أرشدني وبين لي الحق حتى استبان لي كالعيان وبين لي بطلان الشرك وسوء عاقبته وأن ا لهتكم لا تصلح للعبادة وأن عبادتها توجب لعابديها غاية الضرر في الدنيا والا خرة فكيف تريدون مني أن أنصرف عن عبادته وتوحيده إلى الشرك به وقد هداني إلى الحق وسبيل الرشاد فالمحاجة والمجادلة إنما فائدتها طلب الرجوع والانتقال من الباطل إلى الحق ومن الجهل إلى العلم ومن العمى إلى الإبصار ومجادلتكم إياي في الاله الحق الذي كل معبود سواه باطل تتضمن خلاف ذلك
فخوفوه با لهتهم أن تصيبه بسوء كما يخوف المشرك الموحد بإلهه الذي يألهه مع الله أن يناله بسوء فقال الخليل : ولا أخاف ما تشركون به فإن ا لهتكم أقل وأحقر من أن تضر من كفر بها وجحد عبادتها ثم رد الأمر إلى مشيئة الله وحده وأنه هو الذي يخاف ويرجى فقال : إلا أن يشاء ربي شيئا وهذا استثناء منقطع والمعنى : لا أخاف ا لهتكم فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة لكن إن شاء ربي شيئا نالني وأصابني لا ا لهتكم التي لا تشاء ولا تعلم شيئا وربي له المشيئة النافذة وقد وسع كل شيء علما فمن أولى بأن يخاف ويعبد : هو سبحانه أم هي
ثم قال : أفلا تتذكرون فتعلمون ما أنتم عليه من إشراك من لا مشيئة له ولا يعلم شيئا ممن له المشيئة التامة والعلم التام ثم قال : وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزعل به عليكم سلطانا وهذا من أحسن قلب الحجة وجعل حجة المبطل بعينها دالة على فساد قوله وبطلان مذهبه فإنهم خوفوه با لهتهم التي لم ينزل الله عليهم سلطانا بعبادتها وقد تبين بطلان إلهيتها ومضرة عبادتها ومع هذا فلا تخافون شرككم بالله وعبادتكم معه ا لهة أخرى فأي الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف فريق الموحدين أم فريق المشركين

فحكم الله سبحانه بين الفريقين بالحكم العدل الذي لا حكم أصح منه فقال : الذين ا منوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
ولما نزلت هذه الا ية شق أمرها على الصحابة وقالوا : يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه فقال إنما هو الشرك : ألم تسمعوا قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم
فحكم سبحانه للموحدين بالهدى والأمن وللمشركين بضد ذلك وهو الضلال والخوف ثم قال وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
قال أبو محمد بن حزم وكان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا الحوادث وبدلوا شرائعه فبعث الله إليهم إبراهيم خليله بدين الإسلام الذي نحن عليه اليوم وتصحيح ما أفسدوه بالحنيفية السمحة التي أتانا بها محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم من عند الله تعالى وكانوا في ذلك الزمان وبعده يسمون الحنفاء
قلت هم قسمان صابئة مشركون وصابئة حنفاء وبينهم مناظرات وقد حكى الشهرستاني بعض مناظراتهم في كتابه

فصل في ذكر تلاعبه بالدهرية وهؤلاء قوم عطلوا المصنوعات عن
صانعها وقالوا ما حكاه الله عنهم 45 : 24 وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر
وهؤلاء فرقتان فرقة قالت إن الخالق سبحانه لما خلق الأفلاك متحركة أعظم حركة دارت عليه فأحرقته ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركاتها

وفرقة قالت إن الأشياء ليس لها أول ألبتة وإنما تخرج من القوة إلى الفعل فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر
وقالوا إن العالم دائم لم يزل ولا يزال لا يتغير ولا يضمحل ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلا يبطل ويضمحل إلا وهو يبطل ويضمحل مع فعله وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي هي فيه
وهؤلاء هم المعطلة حقا وهم فحول المعطلة وقد سرى هذا التعطيل إلى سائر فرق المعطلة على اختلاف آرائهم وتباينهم في التعطيل كما سرى داء الشرك تأصيلا وتفصيلا في سائر فرق المشركين على اختلاف مذاهبهم فيه وكما سرى جحد النبوات تأصيلا وتفصيلا في سائر من جحد النبوة أو صفة من صفاتها أو أقر بها جملة وجحد مقصودها وزبدتها أو بعضه
فهذه الفرق الثلاثة سرى داؤها وبلاؤها في الناس ولم ينج منه إلا أتباع الرسل العارفون بحقيقة ما جاء به المتمسكون به دون ما سواه ظاهرا وباطنا
فداء التعطيل وداء الإشراك وداء مخالفة الرسول وجحد ما جاء به أو شيء منه هو أصل بلاء العالم ومنبع كل شر وأساس كل باطل فليست فرقة من فرق أهل الإلحاد والباطل والبدع إلا وقولها مشتق من هذه الأصول الثلاثة أو من بعضها
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا أظنك ناجيا

فصل فسرت هذه البلايا الثلاثة في كثير من طوائف الفلاسفة لا في
جميعهم فإن الفلسفة من حيث هي لا تعطي ذلك فإن معناها محبة الحكمة والفيلسوف أصله فيلاسوفا أي محبة الحكمة ففيلا هي المحب وسوفا هي الحكمة والحكمة نوعان قولية وفعلية فالقولية قول الحق والفعلية فعل الصواب وكل طائفة من الطوائف لهم حكمة يتقيدون بها
وأصح الطوائف حكمة من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل التي جاءوا بها عن الله

تعالى قال تعالى عن نبيه داود عليه السلام 38 : 20 وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وقال عن المسيح عليه السلام 3 : 48 ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وقال عن يحيى عليه السلام 19 : 12 وآتيناه الحكم صبيا والحكم هو الحكمة وقال لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم 4 : 113 وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وقال 2 : 219 يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وقال لأهل بيت رسوله 33 : 33 واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة
فالحكمة التي جاءت بها الرسل هي الحكمة الحق المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح للهدى ودين الحق لإصابة الحق اعتقادا وقولا وعملا وهذه الحكمة فرقها الله سبحانه بين أنبيائه ورسله وجمعها لمحمد صلى الله عليه و سلم كما جمع له من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله وجمع في كتابه من العلوم والأعمال ما فرقه في الكتب قبله فلو جمعت كل حكمة صحيحة في العالم من كل طائفة لكانت في الحكمة التي أوتيها صلوات الله وسلامه عليه جزءا يسيرا جدا لا يدرك البشر نسبته
والمقصود أن الفلاسفة اسم جنس لمن يجب الحكمة ويؤثرها
وقد صار هذا الإسم في عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه
وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لاتباع إرسطو وهم المشاءون خاصة وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها وهي التي يعرفها بل لا يعرف سواها المتأخرون من المتكلمين
وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة ومقالتهم واحدة من مقالات القوم حتى قيل إنه ليس فيهم من يقول بقدم الأفلاك غير إرسطو وشيعته فهو أول من عرف أنه قال بقدم هذا العالم والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه وإثبات الصانع ومباينته للعالم وأنه فوق

العالم وفوق السموات بذاته كما حكاه عنهم أعلم الناس في زمانه بمقالاتهم أبو الوليد بن رشد في كتابه مناهج الأدلة
فقال فيه القول في الجهة
وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله إلى أن قال والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السموات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه و سلم حتى قرب من سدرة المنتهى وجميع الحكماء اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم إلى أن قال : فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه وأن إبطال هذه القاعدةإبطال للشرائع
فقد حكى لك هذا المطلع على مقالات القوم الذي هو أعرف بالفلسفة من ابن سينا وأضرابه : إجماع الحكماء على أن الله سبحانه في السماء فوق العالم
والمتطفلون في حكايات مقالات الناس لا يحكون ذلك أما جهلا وإما عمدا وأكثر من رأيناه يحكي مذاهبهم ومقالات الناس متطفل
وكذلك الأساطين منهم متفقون على إثبات الصفات والأفعال وحدوث العالم وقيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه كما ذكره فيلسوف الإسلام في وقته أبو البركات البغدادي وقرره غاية التقرير وقال : لا يستقيم كون الرب سبحانه رب العالمين إلا بذلك وأن نفي هذه المسألة ينفي ربوبيته قال : والإجلال من هذا الإجلال والتنزيه من هذا التنزيه أولى

فصل وكذلك كان أساطينهم ومتقدموهم العارفون فيهم معظمين للرسل
والشرائع موجبين لاتباعهم خاضعين لأقوالهم معترفين بأن ما جاءوا به طور آخر وراء طور العقل وأن عقول الرسل وحكمتهم فوق عقول العالمين وحكمتهم وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل ويقولون : علومنا إنما هي الرياضيات والطبيعيات وتوابعها وكانوا يقرون بحدوث العالم وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم أرسطو وكان مشركا يعبد الأصنام وله في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره وقد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين حتى الجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء
وأنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئا من الموجودات وقرر ذلك بأنه لو علم شيئا لكمل بمعلوماته ولم يكن كاملا في نفسه وبأنه كان يلحقه التعب والكلال من تصور المعلومات
فهذا غاية عقل هذا المعلم والأستاذ
وقد حكى ذلك أبو البركات وبالغ في إبطال هذه الحجج وردها
فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه : الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة ممن يتستر باتباع الرسل وهو منحل من كل ما جاءوا به وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه فما وافقه منها قبلوه وما خالفه لم يعبئوا به شيئا
ويسمونه المعلم الأول لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عروض الشعر

وزعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني كما أن العروض ميزان الشعر وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه وتعويجه للعقول وتخبيطه للأذهان وصنفوا في رده وتهافته كثيرا وآخر من صنف في ذلك شيخ الاسلام ابن تيمية ألف في رده وإبطاله كتابين كبيرا وصغيرا بين فيه تناقضه وتهافته فساد كثير من أوضاعه ورأيت فيه تصنيفا لأبي سعيد السيرافي
والمقصود : أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلم الأول حتى انتهت نوبتهم إلى معلمهم الثاني : أبي نصر الفارابي فوضع لهم التعاليم الصوتية كما أن المعلم الأول وضع لهم التعاليم الحرفية ثم وسع الفارابي الكلام في صناعة المنطق وبسطها وشرح فلسفة أرسطو وهذبها وبالغ في ذلك وكان على طريقة سلفه : من الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف في الحقيقة وإذا رأوه مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه متقيدا بشريعة الإسلام نسبوه إلى الجهل والغباوة فإن كان ممن لا يشكون في فضيلته ومعرفته نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام
فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة أو شرط
ولعل الجاهل يقول : إنا تحاملنا عليهم في نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم وليس هذا من جهله بمقالات القوم وجهله بحقائق الاسلام ببعيد
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى عما يقولون عندهم كما قرره أفضل متأخريهم ولسانهم وقدوتهم الذي يقدمونه على الرسل : أبو علي بن سينا : هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق وليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به ولا يفعل شيئا باختياره البتة ولا يعلم شيئا من الموجودات أصلا لا يعلم عدد الأفلاك ولا شيئا من المغيبات ولا له كلام يقوم به ولا صفة
ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن لا حقيقة له وإنما غايته ان يفرضه الذهن

ويقدره كما يفرض الأشياء المقدرة وليس هذا هو الرب الذي دعت إليه الرسل وعرفته الأمم بل بين هذا الرب الذي دعت إليه الملاحدة وجردته عن الماهية وعن كل صفة ثبوتية وكل فعل اختياري وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا مباين له ولا فوقه ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله وبين رب العالمين وإله المرسلين من الفرق ما بين الوجود والعدم والنفي والإثبات فأي موجود فرض كان أكمل من هذا الإله الذي دعت إليه الملاحدة ونحتته أفكارهم بل منحوت الأيدي من الأصنام له وجود وهذا الرب ليس له وجود ويستحيل وجوده إلا في الذهن هذا وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم الأول أرسطو فإن هؤلاء أثبتوا وجودا واجبا ووجودا ممكنا هو معلول له وصادر عنه صدور المعلول عن العلة وأما أرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة وعلة غائية لحركة الفلك فقط وصرح بأنه لا يعقل شيئا ولا يفعل باختياره وأما هذا الذي يوجد في كتب المتأخرين من حكاية مذهبه فإنما هو من وضع ابن سينا فإنه قرب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده وغاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجهمية الغالين في التجهم فهم في غلوهم في تعطيلهم ونفيهم أسد مذهبا وأصح قولا من هؤلاء
فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز و جل
وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة ولا يؤمنون بهم وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبي بزعمهم في نفسه من أشكال نورانية هي العقول عندهم وهي مجردات ليست داخل العالم ولا خارجه ولا فوق السموات ولا تحتها ولا هي أشخاص تتحرك ولا تصعد ولا تنزل ولا تدبر شيئا ولا تتكلم ولا تكتب أعمال العبد ولا لها إحساس ولا حركة البتة ولا تنتقل من مكان إلى مكان ولا تصف عند ربها ولا تصلي ولا لها تصرف في أمر العالم البتة فلا تقبض نفس العبد ولا تكتب رزقه وأجله وعمله ولا عن اليمين ولا عن الشمال قعيد كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام فقال : الملائكة هي القوى الخيرة الفاضلة التي في العبد والشياطين هي القوى الشريرة الرديئة هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل

وأما الكتب فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك فإنه ما قال شيئا ولا يقول ولا يجوز عليه الكلام ومن تقرب منهم إلى المسلمين يقول : الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية فتصورت تلك المعاني وتشكلت في نفسه بحيث توهمها أصواتا تخاطبه وربما قوي الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه وربما قوي ذلك حتى يخيلها لبعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج وأما الرسل والأنبياء فللنبوة عندهم ثلاث خصائص من استكملها فهو نبي : أحدها : قوة الحدس يحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة الثانية : قوة التخيل والتخييل بحيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية تخاطبه ويسمع الخطاب منها ويخيلها إلى غيره
الثالثة : قوة التأثير بالتصرف في هيولى العالم وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق واتصالها بالمفارقات من العقول والنفوس المجردة وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين وابن هود وأضرابهما والنبوة عند هؤلاء صنعة من الصنائع بل من أشرف الصنائع كالسياسة بل هي سياسة العامة وكثير منهم لا يرضى بها ويقول : الفلسفة نبوة الخاصة والنبوة : فلسفة العامة
وأما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يقرون بانفطار السموات وانتثار الكواكب وقيامة الأبدان ولا يقرون بأن الله خلق السموات والآرض في ستة أيام وأوجد هذا العالم بعد عدمه
فلا مبدأ عندهم ولا معاد ولا صانع ولا نبوة ولا كتب نزلت من السماء تكلم الله بها ولا ملائكة تنزلت بالوحي من الله تعالى فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير وأهون من دين هؤلاء
وحسبك جهلا بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من يقول : إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب واستكمل بغيره وحسبك خذلانا وضلالا وعمى : السير خلف هؤلاء وإحسان الظن بهم وأنهم أولوا العقول

وحسبك عجبا من جهلهم وضلالهم : ما قالوه في سلسلة الموجودات وصدور العالم عن العقول والنفوس إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة لا علم له بما صدر عنه ولا قدرة له عليه ولا إرادة وأنه لم يصدر عنه إلا واحد فذلك الصادر إن كان فيه كثرة بوجه ما فقد بطل ما أصلوه وإن لم يكن فيه كثرة البتة لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد مثله وتكثر الموجودات وتعددها يكذب هذا الرأي الذي هو ضحكة للعقلاء وسخرية لأولي الألباب مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا وإرادته تقريب هذا المذهب من الشرائع وهيهات وإلا فالمعلم الأول لم يثبت صانعا للعالم البتة
فالرجل معطل مشرك جاحد للنبوات والمعاد لا مبدأ عنده ولا معاد ولا رسول ولا كتاب
والرازي وفروخه لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة غير طريقه
ومذاهبهم وآراؤهم كثيرة جدا قد حكاها أصحاب المقالات كالأشعري في مقالاته الكبيرة وأبي عيسى الوراق والحسن بن موسى النوبختين وأبو الوليد بن رشد يحكي مذهب أرسطو غير ما حكاه ابن سينا ويغلطه في كثير من المواضع وكذلك أبو البركات البغدادي يحكي نفس كلامه على غير ما يحكيه ابن سينا

فصل والفلاسفة لا تختص بأمة من الأمم بل هم موجودون في سائر الأمم
وإن كان المعروف عند الناس الذين اعتنوا بحكاية مقالاتهم : هم فلاسفة اليونان فهم طائفة من طوائف الفلاسفة وهؤلاء أمة من الأمم لهم مملكة وملوك وعلماؤهم فلاسفتهم ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني وهو ابن فيلبس وليس هو بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله

تعالى نبأه في القرآن بل بينهما قرون كثيرة وبينهما في الدين أعظم تباين فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكان يغزو عباد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج وأما هذا المقدوني فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته وكان بينه وبين المسيح نحو ألف سنة وستمائة سنة والنصارى تؤرخ له وكان أرسطاطاليس وزيره وكان مشركا يعبد الأصنام وهو الذي غزا دارا بن دار ملك الفرس في عقر داره فثل عرشه ومزق ملكه وفرق جمعه ثم دخل إلى الصين والهند وبلاد الترك فقتل وسبى
وكان لليونانيين في دولته عز وسطوة بسبب وزيره أرسطو فإنه كان مشيره ووزيره ومدبر مملكته
وكان بعده لليونان عدة ملوك يعرفون بالبطالسة واحدهم بطليموس كما أن كسرى ملك الفرس وقيصر ملك الروم
ثم غلبهم الروم واستولوا على ممالكهم فصاروا رعية لهم وانقرض ملكهم فصارت المملكة للروم وصارت المملكة واحدة وهم على شركهم من عبادة الأصنام وهو دينهم الظاهر ودين آبائهم فنشأ فيهم سقراط أحد تلامذة فيثاغورس وكان من عبادهم ومتألهيهم وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها فثار عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله فأودعه السجن ليكفهم عنه ثم لم يرض المشركون إلا بقتله فسقاه السم خوفا من شرهم بعد مناظرات طويلة جرت له معهم وكان مذهبه في الصفات قريبا من مذهب أهل الإثبات فقال : إنه إله كل شىء وخالقه

ومقدره وهو عزيز أي منيع ممتنع أن يضام وحكيم أي محكم أفعاله على النظام
وقال : إن علمه وقدرته ووجوده وحكمته بلا نهاية لا يبلغ العقل أن يضعها
وقال : إن تناهي المخلوقات بحسب احتمال القوابل لا بحسب الحكمة والقدرة فلما كانت المادة لا تحتمل صورا بلا نهاية تناهت الصور لا من جهة بخل في الواهب بل لقصور في المادة
قال : وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت ذاتا وصورة وحيزا ومكانا إلا أنها لا تتناهى زمانا في آخرها لا من نحو أولها فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص باستبقاء الأنواع وذلك بتجدد أمثالها ليحفظ الأشخاص ببقاء الأنواع ويستبقى الأنواع بتجدد الأشخاص فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية ولا الحكمة تقف على غاية
ومن مذهبه : أن أخص ما يوصف به الرب سبحانه هو كونه حيا قيوما لأن العلم والقدرة والجود والحكمة تندرج تحت كونه حيا قيوما فهما صفتان جامعتان للكل وكان يقول : هو حي ناطق من جوهره أي من ذاته وحياته ونطقنا وحياتنا لا من جوهرنا ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه وكلامه في المعاد والصفات والمبدأ أقرب إلى كلام الأنبياء من كلام غيره وبالجملة فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل ولهذا قتله قومه وكان يقول : إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات وقال : لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم وقال : ينبغي أن يغتم بالحياة ويفرح بالموت لأن الإنسان يحيا ليموت ثم يموت ليحيا وقال : قلوب المغرمين بالمعرفة بالحقائق منابر الملائكة وقلوب المؤثرين للشهوات مقاعد للشياطين

وقال : للحياة حدان أحدهما : الأمل والآخر : الأجل فبالأول بقاؤها وبالآخر فناؤها وكذلك أفلاطون كان معروفا بالتوحيد وإنكار عبادة الأصنام وإثبات حدوث العالم وكان تلميذ سقراط ولما هلك سقراط قام مقامه وجلس على كرسيه
وكان يقول : إن للعالم صانعا محدثا مبدعا أزليا واجبا بذاته عالما بجميع المعلومات
قال : وليس في الوجود رسم ولا طلل إلا ومثاله عند الباري تعالى يشير إلى وجود صور المعلومات في علمه
فهو مثبت للصفات وحدوث العالم ومنكر لعبادة الأصنام ولكن لم يواجه قومه بالرد عليهم وعيب آلهتهم فسكتوا عنه وكانوا يعرفون له فضله وعمله وصرح أفلاطون بحدوث العالم كما كان عليه الأساطين وحكى ذلك عنه تلميذه أرسطو وخالفه فيه فزعم أنه قديم وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة من المنتسبين إلى الملل وغيرهم حتى انتهت النوبة إلى أبي علي بن سينا فرام بجهده تقريب هذا الرأي من قول أهل الملل وهيهات اتفاق النقيضين واجتماع الضدين
فرسل الله تعالى وكتبه وأتباع الرسل في طرف وهؤلاء القوم في طرف
وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال : أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد ولا رب خالق ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى
وكان هؤلاء زنادقة يتسترون بالرفض ويبطنون الإلحاد المحض وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم  وهو وأهل بيته برآء منهم نسبا ودينا وكانوا

يقتلون أهل العلم والإيمان ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران لا يحرمون حراما ولا يحلون حلالا وفي زمنهم ولخواصهم وضعت رسائل إخوان الصفا ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد وزير الملاحدة النصير الطسى وزير هولاكو شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه فعرضهم على السيف حتى شفا إخوانه من الملاحدة واشتفى هو فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم وجعلهم خاصته وأولياءه ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جل جلاله : من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وأنه لا داخل العالم ولا خارجه وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة واتخذ للملاحدة مدارس ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك فقال : هي قرآن الخواص وذاك قرآن العوام ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر وتعلم السحر في آخر الأمر فكان ساحرا يعبد الأصنام
وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتاب سماه المصارعة أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد ونفي علم الرب تعالى وقدرته وخلقه العالم فقام له نصير الإلحاد وقعد ونقضه بكتاب سماه مصارعة المصارعة ووقفنا على الكتابين نصر فيه : أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام وأنه لا يعلم شيئا وأنه لا يفعل شيئا بقدرته واختياره ولا يبعث من في القبور
وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر

والفلسفة التي يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم هي مأخوذة عنه وعن إمامه ابن سينا وبعضها عن أبي نصر الفارابي وشيء يسير منها من كلام أرسطو وهو مع قلته وغثاثته وركاكة ألفاظه كثير التطويل لا فائدة فيه وخيار ما عند هؤلاء فالذي عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون منه فإنهم يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق لا صفة له ولا نعت ولا فعل يقوم به لم يخلق السموات والأرض بعد عدمها ولا له قدرة على فعل ولا يعلم شيئا وعباد الأصنام كانوا يثبتون ربا خالقا مبدعا عالما قادرا حيا ويشركون به في العبادة فنهاية أمر هؤلاء الوصول إلى شيء برز عليهم فيه عباد الأصنام
وهم فرق شتى لا يحصيهم إلا الله عز و جل
وأحصى المعتنون بمقالات الناس منهم اثنتي عشرة فرقة كل فرقة منها مختلفة اختلافا كثيرا عن الأخرى فمنهم أصحاب الرواق وأصحاب الظلة والمشاءون وهم شيعة أرسطو وفلسفتهم هي الدائرة اليوم بين الناس وهي التي يحكيها ابن سينا والفارابي وابن خطيب الري وغيرهم
ومنهم الفيثاغورية والأفلاطونية ولا تكاد تجد منهم اثنين متفقين على رأي واحد بل قد تلاعب بهم الشيطان كتلاعب الصبيان بالكرة ومقالاتهم أكثر من أن نذكرها على التفصيل
وبالجملة : فملاحدتهم هم أهل التعطيل المحض فإنهم عطلوا الشرائع وعطلوا المصنوع عن الصانع وعطلوا الصانع عن صفات كماله وعطلوا العالم عن الحق الذي خلق له وبه فعطلوه عن مبدئه ومعاده وعن فاعله وغايته ثم سرى هذا الداء منهم في الأمم وفي فرق المعطلة فكان منهم إمام المعطلين فرعون فإنه أخرج التعطيل إلى العمل وصرح به وأذن به بين قومه ودعا إليه وأنكر أن يكون لقومه إله غيره وأنكر أن يكون الله تعالى

فوق سمواته على عرشه وأن يكون كلم عبده موسى تكليما وكذب موسى في ذلك وطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحا ليطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام وكذبه في ذلك فاقتدى به كل جهمي فكذب أن يكون الله مكلعما مكلما أو أن يكون فوق سمواته على عرشه بائنا من خلقه على العرش استوى ودرج قومه وأصحابه على ذلك حتى أهلكهم الله تعالى بالغرق وجعلهم عبرة لعباده المؤمنين ونكالا لأعدائه المعطلين ثم استمر الأمر على عهد نبوة موسى كليم الرحمن على التوحيد وإثبات الصفات وتكليم الله لعبده موسى تكليما إلى أن توفى موسى عليه السلام ودخل الداخل على بني إسرائيل ورفع التعطيل رأسه بينهم وأقبلوا على علوم المعطلة أعداء موسى عليه السلام وقدموها على نصوص التوراة فسلط الله تعالى عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم وسبى ذراريهم كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحى وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم كما سلط النصارى على بلاد المغرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق واشتغلوا بها فاستولت النصارى على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق سلط عليهم عساكر التتار فأبادوا أكثر البلاد الشرقية واستولوا عليها وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط عليهم القرامطة الباطنية فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات واستولوا على الحاج واستعرضوهم قتلا وأسرا واشتدت شوكتهم واتهم بموافقتهم في الباطن كثير من الأعيان من الوزراء والكتاب والأدباء وغيرهم واستولى أهل دعوتهم على بلاد المغرب واستقرت دار مملكتهم بمصر وبنيت في أيامهم القاهرة واستولوا

على الشام والحجاز واليمن والمغرب وخطب لهم على منبر بغداد
والمقصود أن هذا الداء لما دخل في بني إسرائيل كان سبب دمارهم وزوال مملكتهم ثم بعث الله سبحانه عبده ورسوله وكلمته المسيح ابن مريم فجدد لهم الدين وبين لهم معالمه ودعاهم إلى عبادة الله وحده والتبرى من تلك الأحداث والآراء الباطلة فعادوه وكذبوه ورموه وأمه بالعظائم وراموا قتله فطهره الله تعالى منهم ورفعه إليه فلم يصلوا إليه بسوء وأقام الله تعالى للمسيح أنصارا دعوا إلى دينه وشريعته حتى ظهر دينه على من خالفه ودخل فيه الملوك وانتشرت دعوته واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلثمائة سنة
ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير حتى تناسخ واضمحل ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء بل ركبوا دينا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوهم في النصرانية فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسدة إلى عبادة الصور التي لا ظل لها ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق ونقلوهم من القول باتحاد العاقل والمعقول والعقل إلى القول باتحاد الأب والإبن وروح القدس
هذا ومعهم بقايا من دين المسيح كالختان والاغتسال من الجنابة وتعظيم السبت وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحل لهم بنصها ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير وأحلوا السبت وعوضوا منه يوم الأحد وتركوا الختان والاغتسال من الجنابة وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس فصلوا هم إلى المشرق ولم يعظم المسيح عليه السلام صليبا قط فعظموا هم الصليب وعبدوه ولم يصم المسيح عليه السلام صومهم هذا أبدا ولا شرعه ولا أمر به البتة بل هم وضعوه على هذا العدد ونقلوه إلى زمن الربيع فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية وتعبدوا بالنجاسات وكان المسيح عليه السلام في غاية الطهارة والطيب والنظافة وأبعد الخلق عن النجاسة فقصدوا بذلك تغيير دين اليهود ومراغمتهم فغيروا دين المسيح وتقربوا إلى الفلاسفة وعباد الأصنام بأن وافقوهم في بعض الأمر ليرضوهم به وليستنصروا بذلك على اليهود
ولما أخذ دين المسيح عليه السلام في التغيير والفساد اجتمعت النصارى عدة مجامع تزيد

على ثمانين مجمعا ثم يتفرقون على الاختلاف والتلاعن يلعن بعضهم بعضا حتى قال فيهم بعض العقلاء :
لو اجتمع عشرة من النصارى يتكلمون في حقيقة ما هم عليه لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا
حتى جمعهم قسطنطين الملك آخر ذلك من الجزائر والبلاد وسائر الأقطار فجمع كل بترك وأسقف وعالم فكانوا ثلثمائة وثمانية عشر
فقال : أنتم اليوم علماء النصرانية وأكابر النصارى فاتفقوا على أمر تجتمع عليه كلمة النصرانية ومن خالفها لعنتموه وحرمتموه فقاموا وقعدوا وفكروا وقدروا واتفقوا على وضع الأمانة التي بأيديهم اليوم وكان ذلك بمدينة نيقية سنة خمس عشرة من ملك قسطنطين
وكان أحد أسباب ذلك أن بطريق الاسكندرية منع أريوس من دخول الكنيسة ولعنه فخرج أريوس إلى قسطنطين الملك مستعديا عليه ومعه أسقفان فشكوه إليه وطلبوا مناظرته بين يدي الملك فاستحضره الملك وقال لأريوس : اشرح مقالتك فقال أريوس : أقول : إن الأب كان إذ لم يكن الابن ثم أحدث الابن فكان كلمة له إلا أنه محدث مخلوق ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة فكان هو خالق السموات والأرض وما بينهما كما قال في إنجيله إذ يقول : وهب لي سلطانا على السماء والأرض فكان هو الخالق لهما بما أعطى من ذلك ثم إن تلك الكلمة بعد تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسيحا واحدا فالمسيح الآن معنيان : كلمة وجسد إلا أنهما جميعا مخلوقان

فقال بطريق الإسكندرية : أخبرنا : أيما أوجب علينا عندك عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا فقال أريوس : بل عبادة من خلقنا فقال : [ فإن كان الابن خالقنا كما وصفت وكان الابن مخلوقا ] فعبادة الابن الذي خلقنا وهو مخلوق أوجب من عبادة الأب الذي ليس بمخلوق بل تصير عبادة الأب الخالق كفرا وعبادة الابن المخلوق إيمانا [ وذلك من أقبح الأقوال ]
فاستحسن الملك والحاضرون مقالته وأمرهم الملك أن يلعنوا أريوس وكل من يقول مقالته
فلما انتصر البطريق قال للملك : استحضر البطارقة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع ونصنع قصة نشرح فيها الدين ونوضحه للناس فحشرهم قسطنطين من سائر الآفاق فاجتمع عنده بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا وكانوا مختلفي الآراء متباينين في أديانهم فلما أجتمعوا كثر اللغط بينهم وارتفعت الأصوات وعظم الاختلاف فتعجب الملك من شدة اختلافهم فأجرى عليهم الأنزال وأمرهم أن يتناظروا حتى يعلم

الدين الصحيح مع من منهم فطالت المناظرة بينهم فاتفق منهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأي واحد فناظروا بقية الأساقفة فظهروا عليهم فعقد الملك لهؤلاء الثلثمائة والثمانية عشر مجلسا خاصا وجلس في وسطه وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفعها إليهم وقال لهم : قد سلطتكم على المملكة فاصنعوا ما بدا لكم مما فيه قوام دينكم وصلاح أمتكم فباركوا عليه وقلدوه سيفه وقالوا له : أظهر دين النصرانية وذب عنه ودفعوا إليه الأمانة التي اتفقوا على وضعها فلا يكون عندهم نصراني من لم يقر بها ولا يتم لهم قربان إلا بها وهي هذه : نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحمل به ثم ولد من مريم البتول وألم وشج وقتل وصلب ودفن وقام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجىء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قديسية جاثليقية وبقيامة أبداننا والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين فهذا العقد الذي أجمع عليه الملكية والنسطورية واليعقوبية وهذه الأمانة التي ألفها أولئك البتاركة والأساقفة والعلماء وجعلوها شعار النصرانية
وكان رؤساء هذا المجمع بترك الاسكندرية وبترك أنطاكية وبترك بيت المقدس
2ف - افترقوا عليها وعلى لعن ما خالفها ومن خالفها والتبري منه وتكفيره

ثم ذهب أريوس يدعو إلى مقالته وينفر النصارى عن أولئك الثلثمائة والثمانية عشر فجمع جمعا عظيما وصاروا إلى بيت المقدس وخالف بكثير من النصارى لأولئك المجمع فلما اجتمعوا قال أريوس : إن أولئك النفر تعدوا علي وظلموني ولم ينصفوني في الحجاج وحرموني ظلما وعدوانا ووافقه كثير من الذين معه وقالوا : صدق فوثبوا عليه فضربوه حتى كاد أن يقتل لولا ابن أخت الملك خلصه وافترقوا على هذه الحال ثم كان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول اجتمع الوزراء والقواد إلى الملك وقالوا : إن مقالة الناس قد فسدت وغلب عليهم مقالة أريوس فاكتب إلى جميع البتاركة والأساقفة : أن يجتمعوا ويوضحوا دين النصرانية فكتب الملك إلى سائر بلاده فاجتمع بقسطنطينية مائة وخمسون أسقفزا وكان مقدموهم بترك الاسكندرية وبترك أنطاكية وبترك بيت المقدس فنظروا في مقالة أريوس وكان من مقالته : أن روح القدس مخلوق مصنوع ليس بإله فقال بترك الاسكندرية ليس لروح القدس عندنا معنى غير روح الله تعالى وليس روح الله تعالى شيئا غير حياته فإذا قلنا : إن روح القدس مخلوق فقد قلنا : إن روح الله مخلوق وإذا قلنا : إن روح الله مخلوقة فقد قلنا : إن حياته مخلوقة فقد جعلناه غير حي ومن جعله غير حي فقد كفر ومن كفر وجب عليه اللعن فلعنوا بأجمعهم أريوس وأشياعه وأتباعه والبتاركة الذين قالوا بمقالته وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق إله حق وأن طبيعة الأب والابن جوهر واحد وطبيعة

واحدة وزادوا في الأمانة التي وضعها الثلثمائة والثمانية عشر أسقفا ونؤمن بروح القدس الرب المحيى المميت المنبثق من الأب الذي مع الابن والأب وهو مسجود وممجد
وكان في الأمانة الأولى وبروح القدس فقط
وبينوا أن الأب وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاث وجوه وثلاثة خواص وحدة في تثليث وتثليث في وحدة وزادوا ونقصوا في الشريعة
وأطلق بترك الاسكندرية للرهبان والأساقفة والبتاركة أكل اللحم وكانوا على مذهب ماني لا يرون أكل ذوات الأرواح
فانفض هذا المجمع وقد لعنوا فيه أكثر أساقفتهم وبتاركتهم ومضوا على تلك الأمانة
ثم كان لهم مجمع رابع بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نسطورس وكان مذهبه أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة ولكن ثمة اثنان الإله الذي هو موجود من الأب والآخر إنسان الذي هو موجود من مريم وأن هذا الإنسان الذي نقول إنه المسيح بالمحبة متوحد مع ابن الإله وابن الإله ليس ابنا على الحقيقة ولكن على سبيل الموهبة والكرامة واتفاق الأسمين فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد فجرت بينهم مراسلات واتفقوا على تخطئته واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة أقسيس وأرسلوا إلى نسطورس للمناظرة فامتنع ثلاث مرات فأوجبوا عليه الكفر فلعنوه ونفوه وحرموه وثبتوا أن مريم ولدت إلها وأن المسيح إله حق وإنسان معروف بطبيعتين متوحد في الأقنوم

فلما لعنوا نسطورس غضب له يوحنا بترك أنطاكية فجمع أساقفته الذين قدموا معه وناظرهم فقطعم فتقاتلوا ووقع الحرب والشر بينهم وتفاقم أمرهم فلم يزل الملك [ تذوس ] حتى أصلح بينهم فكتب أولئك صحيفة أن مريم القدسية ولدت إلها وهو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع أبيه في الطبيعة ومع الناس في الناسوت وأنفذوا لعن نسطورس فلما نفي نسطورس سار إلى أرض مصر وأقام بإخميم سبع سنين ودفن بها ودرست مقالته إلى أن أحياها ابن صرما مطران نصيبين وبثها في بلاد المشرق فأكثر نصارى العراق والمشرق نسطورية
وانفض ذلك المجمع أيضا على لعن نسطورس ومن قال بقوله
وكل مجامعهم كانت تجتمع على الضلال وتفترق على اللعن فلا ينفض المجمع إلا وهم ما بين لاعن وملعون ثم كان لهم مجمع خامس وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له : أوطيوس يقول : إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا في الطبيعة وأن المسيح قبل التجسد طبيعتان وبعد التجسد طبيعة واحدة وهذه مقالة اليعقوبية فرحل إليه أسقف دولته فناظره فقطعه ودحض حجته ثم سار إلى قسطنطينية فأخبر بتركها بالمناظرة وبانقطاعه فأرسل بترك الاسكندرية إليه فاستحضره وجمع جمعا عظيما وسأله عن قوله فقال : إن قلنا : إن المسيح طبيعتان فقد قلنا بقول نسطورس ولكنا نقول : إن المسيح طبيعة واحدة وأقنوم واحد لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد فلما تجسد زالت عنه الإثنينية وصار طبيعة واحدة وأقنوما واحدا

فقال له بترك القسطنطينة : إن كان المسيح طبيعة واحدة فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة وإن كان القديم هو المحدث فالذي لم يزل هو الذي لم يكن ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث لكان القائم هو القاعد والحار هو البارد فأبى أن يرجع عن مقالته فلعنوه فاستعدى عليهم الملك وزعم أنهم ظلموه وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة
فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس فثبت بطريق الاسكندرية مقالة أوطيوس وقطع بتاركة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والأساقفة وكتب إلى بترك رومية وإلى جماعة البتاركة والأساقفة فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيوس
ففسدت الأمانة وصارت المقالة مقالة أوطيوس وخاصة بمصر والاسكندرية وهو مذهب اليعقوبية
فافترق هذا المجمع الخامس وهم ما بين لاعن وملعون وضال ومضل وقائل يقول : الصواب مع اللاعنين وقائل يقول : الحق مع الملاعنين
ثم كان لهم بعد هذا مجمع سادس في دولة مرقيون فإنه اجتمع إليه الأساقفه من سائر البلاد فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع وقلة الإنصاف وأن مقالة أوطيوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية فأمر الملك باستحضار سائر الأساقفة والبطارقة إلى حضرته فاجتمع عنده ستمائة وثلاثون أسقفزا فنظروا في مقالة أوطيوس وبترك الأسكندرية التي قطعا بها جميع البتاركة فأفسدوا مقالتهما ولعنوهما وأثبتوا أن المسيح إله وإنسان وهو مع الله في اللاهوت ومعنا في الناسوت له طبيعتان تامتان فهو تام باللاهوت تام بالناسوت وهو مسيح واحد وثبتوا قول الثلثمائة والثمانية عشر أسقفا وقبلوا قولهم بأن الابن مع الله في المكان وأنه إله حق من إله حق ولعنوا أريوس وقالوا : إن روح القدس إله وقالوا : إن الأب وروح القدس واحد بطبيعة واحدة وأقانيم ثلاثة
وثبتوا قول أهل المجمع الثالث وقالوا : إن مريم العذراء ولدت إلها ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة ومعنا في الناسوت
وقالوا : إن المسيح طبيعتان وأقنوم واحد ولعنوا نسطورس وبترك الإسكندرية

فانفض هذا المجمع وهم ما بين لاعن وملعون ثم كان لهم بعد هذا مجمع سابع في أيام أنسطاس الملك وذلك أن سورس القسطنطين جاء إلى الملك فقال : إن أصحاب ذلك المجمع الستمائة والثلاثين قد أخطئوا والصواب ما قاله أوطيوس وبترك الأسكندرية فلا تقبل ممن سواهما واكتب إلى جميع بلادك أن العنوا الستمائة والثلاثين وأن يأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وأقنوم واحد فأجابه الملك إلى ذلك فلما بلغ بترك بيت المقدس جمع الرهبان فلعنوا أنسطاس الملك وسورس ومن يقول بمقالتهما فبلغ ذلك الملك فغضب وبعث فنفى البترك إلى أيلة وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس لأنه كان قد ضمن للملك أن يلعن الستمائة والثلاثين
فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان وقالوا : إياك أن تقبل عن سورس ولكن اقبل عن الستمائة والثلاثين ونحن معك ففعل وخالف الملك فلما بلغه أرسل قائدا وأمره أن يأخذ يوحنا بلعنة أولئك فإن لم يفعل أنزله عن الكرسي ونفاه فقدم القائد وطرح يوحنا في الحبس فصار إليه الرهبان في الحبس وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك فإذا حضر فليقر بلعنة كلمن لعنه الرهبان
فاجتمع الرهبان وكانوا عشرة آلاف راهب فلعنوا أوطسوس ونسطورس وسورس ومن لا يقبل من أولئك الستمائة والثلاثين
ففزع رسول الملك من الرهبان وبلغ ذلك الملك فهم بنفي يوحنا فاجتمع الرهبان والأساقفة فكتبوا إلى الملك أنهم لا يقبلون مقالة سورس ولو أريقت دماؤهم وسألوه أن يكف أذاه عنهم
وكتب بترك رومية إلى الملك بقبح فعله وبلعنه فانفض هذا المجمع على اللعنة أيضا
وكان لسورس تلميذ يقال له يعقوب البراذعي لأنه كان يلبس من قطع براذع الدواب يرقع بعضها ببعض وإليه ينسب اليعاقبة فأفسد أمانة القوم
ثم هلك أنسطاس الملك وولى بعده قسطنطين فرد كل من نفاه أنسطاس إلى موضعه وكتب إلى بيت المقدس بأمانته

فاجتمع الرهبان وأظهروا كتابه وفرحوا به وأثبتوا قول الستمائة والثلاثين أسقفا وغلبت اليعقوبية على الإسكندرية وقتلوا بتركا لهم يقال له بولس وكان ملكانيا فولى الملك إسطفانوس فأرسل قائدا ومعه عسكر عظيم إلى الاسكندرية فدخل الكنيسة في ثياب البتركة وتقدم وقدس فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه فانصرف وتوارى عنهم ثم أظهر لهم بعد ثلاثة أيام أنه أتاه كتاب من الملك وأمر الحرس أن يجمعوا الناس لسماعه فلم يبق أحد بالإسكندرية حتى حضر لسماعه وكان قد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيف في الناس فصعد المنبر وقال : يا معشر أهل الاسكندرية وإن رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة وإلا لم تأمنوا أن يوجه الملك إليكم من يسفك دماءكم فرموا بالحجارة حتى خاف على نفسه فأظهر العلامة فوضعوا السيوف على من بالكنيسة فقتل خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى حتى خاض الجند في الدماء وظهرت مقالة الملكانية بالإسكندرية
ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن وذلك أن أسقف منبج كان يقول بالتناسخ وأنه ليس ثمة قيامة ولا بعث وكان أسقف الرها وأسقف المصيصة وأسقف ثالث يقولون : إن جسد المسيح خيال غير حقيقة فحشرهم الملك إلى قسطنطينية فقال لهم بتركها : إن كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا وقوله خيالا وكل جسد نعاينه لأحد من الناس أو فعل أو قول فهو كذلك
وقال له : إن المسيح قد قام من الموتى وأعلمنا أنه كذلك يقوم الناس يوم الدين
واحتج بنصوص من الإنجيل كقوله : ان كل من في القبور اذا سمعوا قول الله سبحانه يحيون فأوجب عليهم اللعن وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه واستحضر بتاركة البلاد
فاجتمع عنده مائة وأربعة وستون أسقفا فلعنوا أسقف منبج وأسقف المصيصة وثبتوا أن جسد المسيح حقيقة لا خيال وأنه إله تام وإنسان تام معروف بطبيعتين ومشئيتين وفعلين أقنوم واحد وأن الدنيا زائلة وأن القيامة كائنة وأن المسيح يأتى

بمجد عظيم فيدين الأحياء والأموات كما قال الثلثمائة والثمانية عشر الأوائل فتفرقوا على ذلك
ثم كان لهم مجمع تاسع على عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تلاعنوا فيه
وذلك أنه كان برومية راهب له تلميذان فجاء إلى قسطا الوالي فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره فأمر به قسطا فقطعت يداه ورجلاه ونزع لسانه وفعل بأحد التلميذين كذلك وضرب الآخر بالسياط ونفاه فبلغ ذلك ملك قسطنطينية فأرسل إليه أن يوجعه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الشبهة ومن كان ابتدأ بها ويعلم من يستحق اللعن فبث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلثمائة شماس فلما وصلوا إليه جمع الملك مائة وثمانية وخمسين أسقفا فصاروا مائتين وثمانية وتسعين : وأسقطوا الشمامسة
وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية فلعنوا من تقدم من القديسين والبتاركة واحدا واحدا فلما لعنوهم جلسوا فلخصوا الأمانة وزادوا فيها ونقصوا فقالوا : نؤمن بأن الواحد من الناسوت الابن الوحيد الذي هو الكلمة الألية الدائم المستوى مع الآب الإله في الجوهر الذي هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين وفعلين ومشيئتين في أقنوم واحد ووجه واحد تامزا بلا هوته تاما بناسوته وشهدت أن الإله الابن في آخر الأيام اتخذ من العذراء السيدة مريم القدسية جسدا إنسانا بنفس ناطقة عقلية وذلك برحمة الله تعالى محب البشر ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة ولا فصل ولكن هو واحد يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته وما يشبه الإله أن يعمله في طبيعته الذي هو الابن الوحيد والكلمة الأزلية المتجسدة التي صارت في الحقيقة لحما كما يقول الإنجيل المقدس من غير أن ينتقل من مجده الأزلي وليست بمتغيرة لكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين إلهي وإنسى الذي بهما يكمل قول الحق وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها مشيئتين غير متضادتين ولا متصارعتين ولكن مع المشيئة الإنسية المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء
هذه أمانة هذا المجمع فوضعوها ولعنوا من لعنوه وبين المجمع الخامس الذي اجتمع فيه الستمائة والثلاثون وبين هذا المجمع مائة سنة
ثم كان لهم مجمع عاشر :

وذلك لما مات الملك وولي ابنه بعده فاجتمع أهل المجمع السادس وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا فثبتوا قول أهل المجامع الخمسة ولعنوا من لعنهم وخالفهم وانصرفوا بين لاعن وملعون فهذه عشرة مجامع كبار من مجامعهم مشهورة اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفا من البتاركة والأساقفة والرهبان كلهم ما بين لاعن وملعون فهذه حال المتقدمين مع قرب زمانهم من أيام المسيح ووجود أخباره فيهم والدولة دولتهم والكلمة كلمتهم وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا واهتمامهم بأمر دينهم واحتفالهم به كما ترى وهم حيارى تائهون ضالون مضلون لا يثبت لهم قدم ولا يستقر لهم قول في إلههم بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه وصرح بالكفر والتبري ممن اتبع سواه قد تفرقت بهم في نبيهم وإلههم الأقاويل وهم كما قال الله تعالى : قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ] فلو سألت أهل البيت الواحد عن دينهم ومعتقدهم في ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب وامرأته بجواب وابنه بجواب والخادم بجواب فما ظنك بمن في عصرنا هذا وهم نخالة الماضين وزبالة الغابرين ونفاية المتحيرين وقد طال عليهم الأمد وبعد عهدهم بالمسيح ودينه
وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل من الفلاسفة والملاحدة أن يتمسكوا بما هم عليه فإنهم شرحوا لهم دينهم الذي جاء به المسيح على هذا الوجه ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل فتواصى أولئك بينهم أن يتمسكوا بما هم عليه وساءت ظنونهم بالرسل والكتب ورأوا أن ما هم عليه من الآراء أقرب إلى المعقول من هذا الدين وقال لهم هؤلاء الحيارى الضلال : إن هذا هو الحق الذي جاء به المسيح فتركب من هذين الظنين الفاسدين إساءة الظن بالرسل وإحسان الظن بما هم عليه
ولهذا قال بعض ملوك الهند وقد ذكرت له الملل الثلاث فقال : أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل الملل يحاربونهم بحكم شرعي فإني أرى ذلك بحكم عقلي وإن كنا لا نرى بحكم عقولنا قتالا ولكن أستثني هؤلاء القوم من بين جميع العوالم

لأنهم قصدوا مضادة العقل وناصبوه العداوة وحلوا ببيت الاستحالات وحادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع فشذوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية واعتقدوا كل مستحيل ممكنا وبنوا على ذلك شريعة لا تؤدى ألبتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم إلا أنها تصير العاقل إذا تشرع بها أخرق والرشيد سفيها والمحسن مسيئا لأن من كان أصل عقيدته التي جرى نشوءه عليها : الإساءة إلى الخالق والنيل منه ووصفه بضد صفاته الحسنى فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق مع ما بلغنا عنهم من الجهل وضعف العقل وقلة الحياء وخساسة الهمة فهذا وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غيض من فيض وكانوا إذ ذاك أقرب عهدا بالنبوة
وقال أفلاطون رئيس سدنة الهياكل بمصر وليس بأفلاطون تلميذ سقراط إذ ذاك أقدم من : هذا لما ظهر محمد بتهامة ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له رأينا أن نقصد اصطمر البابلي لنعلم ما عنده ونأخذ برأيه فلما اجتمعنا على الخروج من مصر رأينا أن نصير إلى قراطيس معلمنا وحكيمنا لنودعه فلما دخلنا عليه ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خلت منا فغشى عليه حينا غشية ظننا أنه فارق الحياة فيها فبكينا فأومأ إلينا أن كفوا عن البكاء فتصبرنا جهدنا حتى هدأ وفتح عينيه وقال : هذا ما كنت أنهاكم عنه وأحذركم منه إنكم قوم غيرتم فغير بكم أطعتم جهالا من ملوككم فخلطوا عليكم في الأدعية فقصدتم البشر من التعظيم بما هو للخالق وحده فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مدحة الكاتب وإنما حركة القلم بالكاتب
ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة
أحدهما : الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريك الخالق وجزءا منه وإلها آخر معه وأنفوا أن يكون عبدا له والثاني : تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم حيث زعموا أنه سبحانه وتعالى عن قولهم علوا كبيرا نزل من العرش عن كرسي عظمته ودخل في فرج امرأة وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن ثم خرج من حيث دخل رضيعا صغيرا يمص الثدي ولف في القمط وأودع السرير يبكي ويجوع ويعطش

ويبول ويتغوط ويحمل على الأيدي والعواتق ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه وربطوا يديه وبصقوا في وجهه وصفعوا قفاه وصلبوه جهرا بين لصين وألبسوه إكليلا من الشوك وسمروا يديه ورجليه وجرعوه أعظم الآلام هذا هو الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم وهو المعبود المسجود له
ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم
كما قال تعالى فيما يحكي عنه رسوله الذي نزهه ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذي : تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدزا فقال : شتمنى ابن آدم وما ينبغى له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياى فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياى فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في هذه الأمة : أهينوهم ولا تظلموهم فلقد سبوا الله عز و جل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ولعمر الله إن عباد الأصنام مع أنهم أعداء الله عز و جل على الحقيقة وأعداء رسله عليهم السلام وأشد الكفار كفرا يأنفون أن يصفوا آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تعالى وهي من الحجارة والحديد والخشب بمثل ما وصفت به هذه الأمة رب العالمين وإله السموات والأرضين وكان الله تعالى في قلوبهم أجل وأعظم من أن يصفوه بذلك أو بما يقاربه وإنما شرك القوم : أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة محدثة وزعموا أنها تقربهم إليه لم يجعلوا شيئا من آلهتهم كفوا له ولا نظيرا ولا ولدا ولم ينالوا من الرب تعالى ما نالت منه هذه الأمة وعذرهم في ذلك أقبح من قولهم فإن أصل معتقدهم : أن أرواح الأنبياء عليهم السلام كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح فكان إبراهيم وموسى ونوح

وصالح وهود معذبين مسجونين في النار بسبب خطيئة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه ثم إن الله سبحانه وتعالى لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيل على إبليس بحيلة فنزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن مريم حتى ولد وكبر وصار رجلا فمكن أعداءه اليهود من نفسه حتى صلبوه وتوجوه بالشوك على رأسه فخلص أنبياءه ورسله وفداهم بنفسه ودمه فهرق دمه في مرضاة جميع ولد آدم إذ كان ذنبه باقيا في أعناق جميعهم فخلصهم منه بأن مكن أعداءه من صلبه وتسميره وصفعه إلا من أنكر صلبه أو شك فيه أو قال : بأن إلاله يجل عن ذلك فهو في سجن إبليس معذب حتى يقر بذلك وأن إلهه صلب وصفع وسمر فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما يأنف أسقط الناس وأقلهم أن يفعله بمملوكه وعبده وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن ينسب إليه أوثانهم وكذبوا الله عز و جل في كونه تاب على آدم عليه السلام وغفر له خطيئته ونسبوه إلى أقبح الظلم حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه في الجحيم بسبب خطيئة أبيهم ونسبوه إلى غاية السفه حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه حتى قتلوه وصلبوه وأراقوا دمه ونسبوه إلى غاية العجز حيث عجزوه أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحيلة ونسبوه إلى غاية النقص حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا وبالجملة فلا نعلم أمة من الأمم سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة كما قال عمر رضي الله عنه : إنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر وكان بعض أئمة الاسلام إذا رأى صليبيا أغمض عينيه عنه وقال : لا أستطيع أن أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح السب ولهذا قال عقلاء الملوك : إن جهاد هؤلاء واجب شرعا وعقلا فإنهم عار على بني آدم مفسدون للعقول والشرائع

أقسام الكتاب
1 2 3 4