كتاب :تحفة الفقهاء
المؤلف : علاء الدين السمرقندي

باب الدفن وحكم الشهداء
في الباب بيان حكم الدفن وبيان أحكام الشهداء
أما الأول فنقول ينبغي أن يوضع الميت في القبر على شقه الأيمن يستقبل القبلة ويستقبل به القبلة عند إدخاله القبر أيضا
ولا بأس بأن يدخل القبر واحدا أو أكثر وترا كان أو شفعا على قدر ما يحتاج إليه
ويقول واضعه بسم الله وعلى ملة رسول الله لكن ذوو الرحم المحرم أولى لإدخال المرأة القبر من غيرهم لأنه يجوز لهم مسها حالة الحياة ويكره للأجانب مسها حال الحياة فكذلك بعد الممات
والسنة هي اللحد عندنا دون الشق حلافا للشافعي
والصحيح قولنا لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال اللحد لنا والشق لغيرنا
وإذا وضع في القبر فإن كانت الأكفان قد عقدت تحل العقد
ويجعل على اللحد اللبن والقصب ويكره الآجر والخشب لأن ذلك من باب الزينة وعمارة الدنيا
والسنة في القبر أن يسنم ولا يربع ولا يطين ولا يجصص
وكره أبو حنيفة البناء على القبر وأن يعلم بعلامة
وعن أبي يوسف أنه قال أكره أن يكتب عليه لما روي عن النبي عليه السلام أنه نهى عن تربيع القبور وعن تجصيصها وعن الكتابة عليها
وأما رش الماء على القبر فلا بأس به لأن ذلك مما يحتاج إليه لتسوية التراب عليه
وعن أبي يوسف أنه يكره الرش لأنه يجري مجرى التطيين
ويكره أن يزاد التراب على تراب القبر الخارج منه لأن ذلك يجري مجرى البناء
ويسجى قبر المرأة دون الرجل لأن المرأة عورة دونه
ولا ينبغي أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد لعمل الأمة على دفن الواحد في قبر واحد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا فأما عند الحاجة فلا بأس به
ويقدم في اللحد أفضلهم ويجعل ما بين الرجلين حاجز من تراب هكذا أمر النبي عليه السلام في قتلى أحد وقال قدموا أكثرهم قرآنا
ولو وضعوا في اللحد ميتا على غير القبلة أو على يساره ثم تذكروا فإن أبا حنيفة قال إن كان بعد تشريج اللبن قبل أن يهيلوا التراب عليه أزالوا ذلك ويوجه إلى القبلة على يمينه وإن أهالواالتراب لم ينبش القبر لأن التوجيه إلى القبلة سنة والنبش حرام
وكره أبو حنيفة أن يوطأ على قبر أو يجلس عليه أو ينام عليه أو يقضي عليه حاجة من غائط أو بول على ما روي عن النبي عليه السلام أنه نهى عن الجلوس على قبر ولأن في هذه الأشياء ترك تعظيم الميت
وكذا يكره أن يصلى عند القبر على ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال لا تتخذوا قبري مسجدا كما اتخذت بنو إسرائيل قبور أنبيائهم مساجد
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال لا ينبغي أن يصلى على ميت بين القبور وإن فعلت أجزت لأنه روي عن علي و ابن عباس أنهما كانا يكرهان ذلك
وروى نافع أنهم صلوا على عائشة وأم سلمة بين مقابر البقيع والإمام أبو هريرة وكان ابن عمر هناك
ثم إذا نبش الميت وأخذ كفنه فلا يخلو إما إن كان طريا لم يتفسخ ولم يتفتت أو لم يكن طريا
فإن كان طريا يجب إعادة الكفن لأن الأول يحتاج إلى الستر تعظيما له والحاجة قائمة لكن ينظر إن كان قبل القسمة يكون ذلك من جميع التركة ويقدم على الدين والوصية وإن كان بعد القسمة فيكون على الورثة لأن التركة قبل القسمة على ملك الميت وبالقسمة انتقل الملك إلى الورثة وإذا نبش فأخذ كفنه فهذا ميت احتاج إلى الكفن ولا مال له فيكون على ورثته
وأما إذا لم يكن طريا فإن لم يكن متفسخا فكذلك الجواب وإن كان متفسخا فإنه يلف في ثوب واحد ولا يكفن على وجه السنة لأن حرمته دون حرمة الآدمي الكامل المركب فلا يساويه في حق السترة
وأما حكم الشهداء فنقول الشهيد يخالف حكمه حكم سائر الموتى في حق التكفين والغسل أما التكفين فينبغي أن يكفن في ثيابه التي قتل فيها
وإن أحبوا أن يزيدوا عليه شيئا حتى يبلغ مبلغ السنة وأن ينقصوا عنه شيئا فلا بأس به
وينزع عنه السلام والفرو والجلود وما لا يصلح للكفن
ولا يكفن ابتداء في ثياب أخر بدون ثيابه
وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وكلومهم تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك
وأما حكم الغسل فنقول الشهيد نوعان نوع يغسل ونوع لا يغسل
أما الذي لا يغسل فهو الذي في معنى شهداء أحد فيلحق بهم في حق سقوط الغسل بالحديث الذي رويناه وإلا فيبقى على الأصل المعهود وهو أن الغسل سنة للموتى
وحقيقة شهداء أحد أنهم قتلوا ظلما ولم يرتثوا ولم يؤخذ عن دمائهم عوض دنياوي
فمتى وجد في غيرهم هذه المعاني سقط الغسل عنهم أيضا فنقول إن من قتل في المعركة أو غيرها وهو يقاتل عدوا مع الكفار المحاربين أو قطاع الطريق أو البغاة أو قتل بسبب دفع القتل عن نفسه أو عن أهله أو عن المسلمين أو أهل الذمة فإنه يكون شهيدا لأن هؤلاء في معنى شهداء أحد لوجود القتل ظلما ولا يوجد في قتلهم عوض دنياوي
وإذا كان قتلا يجب فيه القصاص يكون شهيدا لأن القصاص ليس فيه منفعة مالية فلا ينقض معنى الشهادة وأما المنفعة المالية فتبطل معنى الشهادة من وجه
ويستوي فيه القتل بأي آلة كان جارحة أو غير جارحة لأن شهداء أحد قتل بعضهم بآلة غير جارحة
ثم إنما لا يغسل في هذه المواضع إذا لم يكن المقتول مرتثا أما إذا كان مرتثا فإنه يغسل
وتفسير الارتثاث ما روي عن أبي يوسف أنه قال الذي كان يحمل على أيدي الناس من المعركة قبل أن يموت أو يأكل أو يشرب في مكانه أو يوصي بدينه أو ببنيه طال الكلام أو قل حتى روى ابن سماعة وإن تكلم بكلمة وروي في رواية أخرى إن تكلم زيادة على كلمة واحدة أو يصلي أو يمضي عليه وقت صلاة وهو يعقل ويقدر على أداء الصلاة بالإيماء حتى يجب عليه القضاء بالترك أو يبقى حيا يوما وليلة في المعركة وإن كان لا يقدر على أداء الصلاة بعد أن كان عاقلا فهو مرتث وإن كان حيا أقل من يوم وليلة وهو عاقل أو كان مغمى عليه لا يعقل فليس بمرتث وإن زاد على يوم وليلة
وروي عن محمد مثل قول أبي يوسف في جميع ذلك إلا أنه قال إن عاش في مكانه يوما كان مرتثا سواء كان عاقلا أو لم يكن وإن كان أقل من ذلك فليس بمرتث وكذلك لم يجعل الوصية ارتثاثا هكذا روي عنه مطلقا سواء كانت الوصية بأمور الدنيا أو الآخرة قل أو كثر
وقال في الزيادات إن أوصى بمثل وصية سعد بن الربيع ونحوها ثم مات لم يغسل وإن كثر ذلك في كلامه حتى طال غسل
وحاصل هذا أنه إذا صار المقتول بحال جرى عليه شيء من أحكام الدنيا أو وصل إليه شيء من منافع الدنيا فإنه يوجب نقصان شهادتهويخرجه عن صفة شهداء أحد فسقوط الغسل كرامة لهم لا يكون سقوطا في حق من هو دونهم في معنى الشهادة ولهذا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وإن كان شهيدا لما أنه ارتث لما ذكر من أحكام الدنيا ومصالحه
ثم الشهيد على هذا الوصف الذي ذكرنا إن كان جنبا يغسل عند أبي حنيفة وعندنا لا يغسل لعموم الحديث الوارد في الشهداء ولكن أبا حنيفة قال إنه ورد دليل خاص في الجنب وهو ما روي أن حنظلة غسلته الملائكة بعدما استشهد وقد كان قتل جنبا فصار مخصوصا عن الحديث العام
وأما الحائض أو النفساء فإن قتلت بعد انقطاع الدم غسلت عند أبي حنيفة لأن الغسل وجب قبل الموت كما وجب بالجنابة
وأما إذا قتلت قبل انقطاع الدم روى أبو يوسف عنه أنها لا تغسل روى الحسن عنه أنها تغسل
ومن وجد قتيلا في المعركة ليس به أثر القتل غسل لأنه لو كان قتيلا لظهر به أثر القتل
فإن كان الدم خرج من عينه أو أذنه لم يغسل لأن خروج الدم من هذه المواضع من آثار القتل ظاهرا
وإن خرج من أنفه أو ذكره أو دبره غسل لأنه محتمل فلا يسقط الغسل بالاحتمال
وإن خرج الدم من جوفه لم يغسل لأن الظاهر أن خروجه بسبب الضرب وقطع العرق
فأما الصلاة على الشهيد فواجبة عندنا خلافا للشافعي
والصحيح قولنا لأن النبي عليه السلام صلى على شهداء أحد ولأن الشهيد إن اعتبر بمن عظمت درجته يجب أن يصلى عليه كالأنبياء عليهم السلام وإن اعتبر بسائر الناس الذين لم يوجد منهم ما هوسبب سقوط الموالاة يجب أن يصلى عليه لأن شهادته إن لم توجب زيادة كرامة فلا توجب نقصانا بخلاف البغاة وقطاع الطريق لأنهم حرب للمسلمين ولا موالاة بينهم فلم يستحقا الصلاة التي شرعت قضاء لحقهم بسبب الموالاة والله أعلم
كتاب الزكاة
اعلم أن الزكاة تثبت فرضيتها بالكتاب والسنة والإجماع على ما ذكرنا في كتاب الصلاة
ثم اختلف مشايخنا في كيفية فرضيتها ذكر محمد بن شجاع الثلجي عن أصحابنا أنها على التراخي وكذا قال أبو بكر الجصاص أنها على التراخي
واستدل بمسألة هلاك النصاب بعد التأخير عن أول الحول أنه لا يضمن ولو وجبت على الفور لوجب الضمان كتأخير الصوم عن شهر رمضان
وذكر الكرخي ههنا أنها على الفور وذكر في المنتقى عن محمد أنها على الفور
وحاصل الخلاف أن الأمر المطلق عن الوقت على الفور أم على التراخي على قول بعض مشايخنا على التراخي وعلى قول بعضهم على الفور وبه قال الشيخ أبو منصور الماتريدي وهذه من مسائل أصول الفقه تعرف ثم إن شاء الله تعالى
ثم اعلم أن مال الزكاة نوعان السوائم ومال التجارة لأن من شرط وجوب الزكاة أن يكون المال ناميا والسماء من حيث العين يكون بالاسامة ومن حيث المعنى بالتجارة
ثم مال التجارة نوعان الأثمان المطلقة وهي الذهب والفضةوما سواهما من السلع غير أن الأثمان خلقت في الأصل للتجارة فلا تحتاج إلى تعيين العباد للتجارة بالنية فتجب الزكاة فيها وإن لم ينو التجارة أو أمسك للنفقة فأما السلع فكما هي صالحة للتجارة بها فهي صالحة للانتفاع بأعيانها بل هو المقصود الأصلي منها فلا بد من النية حتى تصير للتجارة
إذا ثبت هذا فنبدأ بزكاة الذهب والفضة فنقول لا يخلوا إما أن يكون الإنسان له فضة مفردة أو ذهب مفرد أو من الصنفين جميعا
فإن كانت له فضة مفردة إن كان نصابا وهو مائتا درهم وزنا وزن سبعة يجب عليه خمسة دراهم ربع عشرها اجتمع شرائط الوجوب
وإن كان ما دون ذلك لا يجب لما روي عن النبي عليه السلام أنه كتب في كتاب الصدقات لعمرو بن حزم الرقة ليس فيها صدقة حتى تبلغ مائتين فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم
ثم الفضة مال الزكاة كيفما كانت مضروبة أو غير مضروبة أو تبرا أو حليا يحل استعمالها أو لا أمسكها للنفقة أو لا نوى التجارة أو لم ينو
وكذلك حلية السيف واللجام والسرج والكواكب التي في المصاحف إذا كانت تخلص عند الإذابة
ويستوي في ذلك الجيد والرديء نحو النقرة السوداء
وهذا عندنا
وقال الشافعي كذلك إلا أنه قال إذا كانت حليا يحل لبسها كحلي النساء وخواتيم الفضة للرجال ونحوها لا زكاة فيها في أحد القولين
والصحيح مذهبنا لما روينا من الحديث من غير فصل
هذا إذا كانت خالصة أما إذا كانت مختلطة بالغش إن كان الغالب هو الفضة فكذلك الجواب لأن الغش مغمور مستهلك فيها وإن كان الغالب هو الغش وهي الستوقة إن لم تكن أثمانا رائجة أو معدة للتجارة فلا زكاة فيها إلا أن تكون كثيرة يبلغ ما فيها من الفضة نصابا
أما إذا كانت أثمانا رائجة أو معدة للتجارة
فإن تعتبر قيمتها إن بلغت نصابا من أدنى ما تجب الزكاة فيه من الدراهم الرديئة فإنه تجب فيها الزكاة فإنه روى الحسن عن أبي حنيفة فيمن كان عنده فلوس أو دراهم رصاص أو نحاس مموهة بحيث لا تخلص منها الفضة إن لم تكن للتجارة فلا زكاة فيها وإن كانت للتجارة وقيمتها تبلغ مائتي درهم رديئة ففيها الزكاة
أما الغطارفة فبعض المتأخرين قالوا يجب في كل مائتين منها ربع عشرها وهو خسمة منها عددا لأنها من أعز الأثمان في ديارنا
وقال السلف ينظر إن كانت أثمانا رائجة يعتبر قيمتها بأدنى ما ينطلق عليه اسم الدراهم فتجب الزكاة في قيمتها وإن لم تكن رائجة فإن كانت سلعا للتجارة تعتبر قيمتها أيضا وإن لم تكن للتجارة ففيها الزكاة بقدر ما فيها من الفضة إن بلغت نصابا أو بالضم إلى ما عنده من مال التجارة
وهذا هو الأصح
وأما الذهب المفرد إن يبلغ نصابا وذلك عشرون مثقالا ففيه نصف مثقال
وإن كان أقل من ذلك فلا زكاة فيه لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال لعلي يا علي ليس في الذهب زكاة ما لم يبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغ عشرين مثقالا ففيه نصف مثقال
ثم الجيد والرديء والتبر والمصوغ والمضروب والحلي فيه سواء خلافا للشافعي في الحلي كما في الفضة
وكذلك الحكم في الدنانير التي الغالب فيها الذهب كالمحمودية ونحوها
فأما الهروية والمروية وما لم يكن الغالب فيها الذهب فتعتبر قيمتها إن كانت أثمانا رائجة أو للتجارة وإلا فيتعبر قدر ما فيها من الذهب والفضة وزنا لأن كل واحد منهما يخلص بالإذابة
فأما إذا زاد على نصاب الذهب أو الفضة فلا يجب في الزيادة شيء عند أبي حنيفة حتى تبلغ أربعة مثاقيل في الذهب فيجب فيها قيراطان وأربعين من الدراهم فيجب فيها درهم ولا تجب في أقل من ذلك
وقال أبو يوسف و محمدالشافعي تجب الزكاة في الكسور بحساب ذلك
والصحيح قول أبي حنيفة لأن في اعتبار الكسور حرجا بالناس والحرج موضوع
فأما إذا اجتمع الصنفان فإنه ينظر إن لم يكن كل واحد منهما نصابا أو كان أحدهما نصابا دون الآخر فإنه تجب ضم أحدهما إلى الآخر حتى يكمل النصاب عندنا
وقال الشافعي لا يضم لأنهما جنسان مختلفان حتى يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا فلا يضم كما في السوائم عند اختلاف الجنس
والصحيح قولنا لأنهما في معنى الثمنية والتجارة كشيء واحد فيجب الضم تكميلا للنصاب نظرا للفقراء كما في مال التجارة بخلاف السوائم لأن ثمة الحكم متعلق بالصورة والمعنى فلا يتحقق تكميل النصاب عند اختلاف الجنس
فأما إذا كان كل واحد منهما نصابا ولم يكن زائدا عليه فلا يجب الضم بل ينبغي أن يؤدي من كل واحد منهما زكاته
وإن زاد على النصابين شيء فإن كان أقل من أربعة مثاقيل أو أقل من أربعين درهما فإنه يجب ضم إحدى الزيادتين إلى الأخرى ليتم أربعين درهما أو أربعة مثاقيل عند أبي حنيفة لأن عنده لا تجب الزكاة في الكسور
وعندهما لا يجب ضم إحدى الزيادتين إلى الأخرى لأن عندهما تجب الزكاة في الكسور بحساب ذلك
ولو ضم صاحب المال أحد النصابين إلى الآخر حتى يؤدي كله من الذهب أو من الفضة فلا بأس به ولكن يجب أن يكون التقويم بما هو أنفع للفقراء قدرا ورواجا وإلا فيؤدي من كل واحد ربع عشره
واختلف أصحابنا في كيفية الضم فقال أبو حنيفة يضم باعتبار القيمة
وقال أبو يوسف و محمد يضم باعتبار الأجزاء دون التقويم
وإنما يظهر الخلاف فيما إذا كان قيمة أحدهما لجودته أو لصياغته أزيد على وزنه بأن كان له مائة درهم وخمسة دنانير قيمتها مائة درهمفعند أبي حنيفة يقوم الدنانير بخلاف جنسها دراهم ويضمها إلى الدراهم فيكمل نصاب الدراهم من حيث القيمة فيجب خمسة دراهم نظرا للفقراء وعلى قولهما يضم باعتبار الأجزاء دون التقويم فيضم نصف نصاب الفضة إلى ربع نصاب الذهب فيكون ثلاثة أرباع أنصاب فلا يجب فيه شيء
ولو كان مائة درهم وعشرة دنانير قيمتها مائة وأربعون فيضم باعتبار القيمة عند أبي حنيفة فتبلغ مائتين وأربعين درهما فيجب ستة دراهم
وعندهما يضم باعتبار الأجزاء فيكون نصف نصاب الفضة ونصف نصاب الذهب نصابا تاما فيجب في نصف كل واحد منهما ربع عشرة
فأما إذا كان وزنهما وقيمتهما سواء فلا يظهر الخلاف
فإن كان مائة درهم وعشرة دنانير قيمتها مائة درهم فإنه تجب الزكاة فيه بالاتفاق على اختلاف الأصلين عنده يضم باعتبار القيمة وعندهما باعتبار الأجزاء
ولو كان مائة درهم وخمسة دنانير قيمتها خمسون لا تجب الزكاة فيها بالإجماع لأن النصاب لم يكمل بالضم لا باعتبار القيمة ولا باعتبار الأجزاء
وأجمعوا أنه لا تعتبر القيمة في الذهب والفضة عند الانفراد في حق تكميل النصاب حتى إنه إذا كان له إبريق فضة وزنه مائة درهم وقيمته لصياغته مائتا درهم لا تجب فيه الزكاة باعتبار القيمة
وكذلك إذا كانت آنية ذهب وزنها عشرة وقيمتها لصياغتها مائتا درهم لا تجب فيها الزكاة باعتبار القيمة لأن الجودة في الأموال الربوية لا قيمة لها عند الانفراد ولا عند المقابلة بجنسها عندناخلافا للشافعي لكن أبا حنيفة ضم الدراهم إلى الدنانير التي هي خلاف جنسها لتظهر قيمة الجودة فيكمل النصاب من حيث المعنى احتياطا في باب العبادة ونظرا للفقراء
باب زكاة أموال التجارة
أصل الباب ما ذكرنا أن المعتبر في باب التجارة معنى المالية والقيمة دون العين لأن سبب وجوب الزكاة هو المال النامي الفاضل عن الحاجة والنماء في مال التجارة بالاسترباح وذلك من حيث المالية إلا أن حقيقة النماء مما يتعذر اعتباره فأقيمت التجارة التي هي سبب النماء مع الحول الذي هو زمان النماء مقامه فمتى حال الحول على مال التجارة يكون ناميا فاضلا عن الحاجة تقديرا
إذا ثبت هذا فنقول كل ما كان من أموال التجارة كائنا ما كان من العروض والعقار والمكيل والموزون وغيرها تجب فيه الزكاة إذا بلغ نصاب الذهب أو الفضة وحال عليه الحول وهو ربع عشره
وهذا قول عامة العلماء
وقال أصحاب الظواهر لا زكاة فيها
وقال مالك لا تجب الزكاة فيها ما دامت أعيانا فإذا نضت وصارت دراهم أو دنانير تجب فيها زكاة حول واحد
والصحيح قول عامة العلماء لما روي عن شمرة بن جندب عن النبي عليه السلام أنه كان يأمرنا بإخراج الزكاة من الرقيق الذي نعده للبيع والمعنى ما ذكرنا في الأصل
ثم ما سوى الذهب والفضة إنما يصير للتجارة بالنية والتجارة جميعا حتى إنه إذا كان له عروض للبذلة والمهنة ثم نوى أن تكون للتجارة بعد ذلك لا تصير للتجارة ما لم يوجد منه الشراء بعد ذلك بذلك المال فيكون بدله للتجارة
فأما إذا كان له مال للتجارة ونوى أن يكون للبذلة يخرج عن التجارة وإن لم يستعمله لأن التجارة عمل معلوم ولا يوجد بمجرد النية فلا يعتبر مجرد النية فأما إذا نوى الابتذال فقد ترك التجارة للحال فتكون النية مقارنة لعمل هو ترك التجارة فاعتبرت النية
ثم مال الزكاة يعتبر فيه كمال النصاب في أول الحول وآخره
ونقصان النصاب بين طرفي الحول لا يمنع وجوب الزكاة سواء كان مال التجارة أو الذهب والفضة أو السوائم
هذا عند أصحابنا الثلاثة
وقال زفر يعتبر كمال النصاب من أوله إلى آخره والنقصان فيما بين ذلك يقطع حكم الحول
وهو قول الشافعي في غير أموال التجارة فأما في مال التجارة فيعتبر كما النصاب في آخر الحول لا في أوله ووسطه
والصحيح قولنا لأنه كمال النصاب شرط وجوب الزكاة فيعتبر حال انعقاد السبب وحال ثبوت الحكم وهو أول الحول وآخره ووسط الحول ليس حال انعقاد لسبب ولا حال الوجوب فلا يجب اشتراطه فيه
فأما إذا هلك النصاب أصلا بحيث لم يبق منه شيء يستأنف الحول لأنه لم يوجد شيء من النصاب الأصلي حتى يضم إليه المستفادوفي الفصل الأول بعض الأصل باق فيضم إليه المستفاد فيتكامل الحول
ولو استبدل أموال التجارة كلها في الحول بجنس آخر لم ينقطع الحول وإن هلك الجنس الأول لأن الأول قائم من حيث المعنى وهو المالية
وكذلك الجواب في الدراهم والدنانير إذا باعها بجنسها أو بخلاف جنسها أعني الدراهم أو بالدنانير فإنه لا ينقطع حكم الحول لأن الحكم ثمة متعلق بالمعنى أيضا وعلى قول الشافعي ينقطع لأنهما جنسان مختلفان فعلى قول مذهبه لا تجب الزكاة في أموال الصيارفة لوجود الاستبدال في كل ساعة
وأما إذا باع السائمة بالسائمة فإن باع الجنس بخلاف الجنس كالإبل بالبقر ينقطع الحول بالاتفاق
أما إذا باع الجنس بالجنس فينقطع عندنا خلافا لزفر
والصحيح قولنا لأن الزكاة في السوائم تتعلق بالعين والأعيان مختلفة فلم يتم الحول على النصاب لا حقيقة ولا تقديرا
ثم إذا تم الحول على مال التجارة فإنه ينبغي أن يقومها حتى يعرف مقدار مال الزكاة لكن عند أبي حنيفة يقوم بما هو أوفى القيمتين وأنظرهما للفقراء من الدراهم والدنانير كذا ذكر ههنا وذكر في كتاب الزكاة وقال إن شاء قومها بالدراهم وإن شاء قومها بالدنانير
ومشايخنا حملوا رواية كتاب الزكاة على ما إذا كان لا يتفاوت النفع في حق الفقراء بالتقويم بأيهما كان حتى يكون جمعا بين الروايتين
ولكن كيفما كان ينبغي أن يقوم بأدنى ما ينطلق عليه اسم الدراهم والدنانير
وروى محمدعن أبي يوسف أنه قال يقوم الثمن الذي اشتراها به دراهم كان أو دنانير وإن كان الثمن من العروض يقوم بالنقد الغالب في ذلك الموضع
وذكر ابن سماعة عن محمد إنما يقوم بالنقد الغالب في ذلك الموضع
وكذلك إذا كان مع عروض التجارة ذهب وفضة فإنه يضمها إلى العروض ويقوم جملة لكن على قول أبي حنيفة يضمها باعتبار القيمة إن شاء قوم العروض وضمها إلى الدراهم أو الدنانير وإن شاء قوم الذهب والفضة وضم قيمتهما إلى قيمة أعيان التجارة وعندهما يضم باعتبار الأجزاء فيقوم العروض ويضم قيمتها إلى ما عنده من الدراهم والدنانير فإن بلغت الجملة نصابا تجب الزكاة وإلا فلا ولا يقوم الدراهم والدنانير عندهما أصلا في باب الزكاة
ثم إنما تجب الزكاة في مال الزكاة إذا لم يكن مستحقا بدين مطالب من جهة العباد أو شيء منه
فأما إذا كان مستحقا به فلا تجب الزكاة بقدر الدين لأن المال المستحق بالدين محتاج إليه وسبب وجوب الزكاة هو المال الفاضل عن الحاجة المعد للنماء والزيادة
ثم الديون على ضربين دين يطالب به ويحبس من جهة العباد كديون العباد حالة كانت أو مؤجلة وهو يمنع لما ذكرنا من المعنى
وكذلك مهر المرأة يمنع مؤجلا كان أو معجلا لأنها إذا طالبت يؤاخذ به وقال بعض مشايخنا إن المؤجل لا يمنع لأنه غير مطالب به عادة فأما المعجل فمطالب به عادة فمنع
وقال بعض مشايخنا إن كان المعجل على عزم من قضائه يمنع وإن لم يكن على عزم الأداء لا يمنع لأنه لا يعده دينا والمرء يؤاخذ بما عنده في باب الأحكام وهذا غير صحيح
فأما الزكاة الواجبة في النصاب أو دين الزكاة بأن أتلف مال الزكاة حتى انتقل من العين إلى الذمة فكل ذلك يمنع وجوب الزكاة عندهما
وقال زفر لا يمنع كلاهما وقال أبو يوسف وجوب الزكاة في النصاب يمنع ودين الزكاة لا يمنع
والصحيح قولهما لأن زكاة السوائم مطالب بها حقيقة من جهة السلطان عينا كان أو دينا وزكاة التجارة مطالب بها تقديرا لأن حق الأخذ للسلطان ولهذا كان يأخذها الإمام إلى زمن عثمان ثم فوض إلى أربابها بإجماع الصحابة لمصلحة رأي في ذلك فيصير أرباب الأموال كالوكلاء عن السلطان فلا يبطل حق السلطان عن الأخذ ولهذا قال أصحابنا إن الإمام إذا علم من أهل بلدة أنهم يتركون أداء الزكاة من الأموال الباطنة فإنه يطالبهم بها ولكن لو أراد الإمام أن يأخذها بنفسه من غير تهمة الترك من أربابها ليس له ذلك لما فيه من مخالفة إجماع الصحابة
وأما الديون التي هي غير مطالب بها من جهة العباد كديون الله تعالى من النذور والكفارات وصدقة الفطر ووجوب الحج ونحوها فلا تمنع لأنه لا يطالب بها في الدنيا
وهذا كله مذهب أصحابنا
وقال الشافعي الدين لا يمنع وجوب الزكاة كيفما كان والمسألة معروفة
ثم التصرف في مال الزكاة بعد وجوبها جائز كيفما كان عندنا
وقال الشافعي لا يجوز بقدر الزكاة قولا واحدا وفيما زاد على قدر الواجب قولان
ثم ينظر عندنا إن كان تصرفا ينقل الواجب إلى محل مثله لا يضمن الزكاة ويصير المحل الثاني كالأول فيبقى الواجب ببقائه ويهلك بهلاكه وإن كان تصرفا لا ينقل الواجب إلى محل مثله فإنه يضمن لأنه يصير متلفا فيبقى الضمان في الذمة فلا يهلك الواجب بهلاك ذلك البدل
إذا ثبت هذا نقول إذا كان له سوائم فباعها بعد الحول بجنسها أو بخلاف جنسها من الحيوان والعروض والأثمان فإنه يضمن ولا ينتقل الواجب إلى ما جعله بدلا حتى لا يسقط بهلاك ذلك البدل لأن الواجب في السوائم متعلق بالعين صورة ومعنى فالبيع يكون إتلافا لا استبدالا ونقلا فيضمن
وأما إذا كان مال التجارة فباعها بعد الحول بدراهم أو بدنانير أو بعروض التجارة أو مطلقا بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس في مثله لا يضمن ويكون نقلا للواجب من محل إلى مثله معنى لأن المعتبر في مال التجارة هو معنى المالية دون الصورة فيبقى الواجب ببقائه ويهلك بهلاكه
ولو حابى قدر ما لا يتغابن الناس في مثله يكون زكاة ما حابى دينا في ذمته وزكاة ما بقي يتحول إلى العين فيبقى ببقائه ويفوت بفواته
وإذا باعه بمال لا تجب فيه الزكاة بأن باعه بعروض ونوى أن يكون المشترى للبذلة أو استأجر به عينا من الأعيان يضمن لأن المنافعوإن كانت مالا ولكن ليست بمال الزكاة لأنه لا بقاء لها
وكذلك إذا باعه بالسوائم على أن يتركها سائمة فإنه يضمن أيضا لأن زكاة التجارة خلاف زكاة السائمة فيكون ذلك إتلافا
وكذلك إذا أخرجه عن ملكه بغير بدل نحو الهبة والصدقة والوصية أو بدل ليس بمال نحو أن يتزوج عليه أو يصالح به عن دم العمد أو يختلع به المرأة فالزكاة مضمونة عليه لأن هذا إتلاف
وكذلك إذا استهلكه حقيقة بالأكل والشرب واللبس ونحو ذلك
ثم المستفاد على ضربين متولد من الأصل حاصل بسببه كالأولاد والأرباح وغير متولد منه ولا حاصل بسببه بل حاصل بسبب مقصود في نفسه كالموروث والموهوب والمشترى ونحو ذلك
وكل ذلك على نوعين أحدهما أن يكون مستفادا بعد الحول والثاني أن يكون مستفادا في الحول
والأصل في الباب أن الحول الموجود في حق الأصل كالموجود في حق التبع فكل مستفاد هو تبع للأصل تجب فيه الزكاة وإلا فلا
إذا ثبت هذا فنقول أما المستفاد بعد الحول فلا يضم بالإجماع في حق السنة الماضية وإنما يضم في حق الحول الذي استفيد فيه لأن النصاب بعد الحول كالمتجدد حكما لأنه يتجدد النماء بتجدد الحول والنصاب هو المال الموصوف بالنماء دون مطلق المال وإذا تجدد النماء جعل النصاب كالمتجدد ويجعل النصاب الموجود في الحول الأول كالعدم والمستفاد يجعل تبعا للنصاب الموجود دون المعدوم
وأما المستفاد في الحول فإن كان من خلاف جنسه كالإبل مع الشاة ونحوها لا يضم بالإجماع لأن الزيادة تجعل تبعا للمزيد عليهمن وجه وخلاف الجنس لا يكون زيادة لأن الأصل لا يزداد به ولا يتكثر
وأما إذا كان من جنسه إن كان حاصلا بسبب التفرع والاسترباح فيضم بالإجماع كالأولاد والأرباح لأنه تابع للأصول حقيقة
وأما إذا لم يكن متولدا حاصلا بسببه كالموروث والموهوب والميت ونحوها فإنه يضم عندنا
وقال الشافعي لا يضم لأنه أصل ملك بسبب مقصود فكيف يكون تبعا
وقلنا نحن هو أصل من هذا الوجه ولكن تبع من حيث أن الأصل يتكثر به ويزداد والزيادة تبع للمزيد عليه فاعتبرنا جهة التبعية في حق الحول احتياطا لوجوب الزكاة
ثم إنما يضم عندنا إذا كان الأصل نصابا
فأما إذا كان أقل منه فإنه لا يضم إليه المستفاد وإن تكامل به النصاب لأن الأصل إذا لم يكن سبب الوجوب لقلته فكيف يتبع المستفاد إياه في حكمه وأما المستفاد إذا كان ثمن الأصل المزكى فإنه لا يضم إلى ما عنده من النصاب من جنسه عند أبي حنيفة وعندهما يضم لما ذكرنا من المعنى ف أبو حنيفة يقول إن الثنى حرام في باب الزكاة لقوله عليه السلام لا ثنى في الصدقة
والمستفاد أصل من وجه تبع من وجه فمن حيث إنه أصل لا يضم ومن حيث إنه تبع يضم فوقع التعارض هنا إن اعتبر معنى الوجوب بضم وإن اعتبر معنى حرمة الثنى لا يضم فلا يضم مع الشك بخلاف غيره من المستفاد على ما مر
وصورة المسألة رجل له خمس من الإبل السائمة ومائتا درهم فتم الحول على السائمة وزكاها ثم باعها بدراهم ثم تم حول الدراهم يضم الثمن إلى الدراهم التي عنده ويزكي الكل عندهما وعندأبي حنيفة يستأنف لها حول على حدة
ولو جعل هذه الإبل علوفة بعدما زكاها ثم باعها ثم حال الحول على الدراهم التي عنده فإنه يضم ثمنها إلى ما عنده فيزكي الكل كذا ذكر في الكتاب
وقال بعض مشايخنا هذا قولهما فأما على قول أبي حنيفة فيجب أن لا يضم
والصحيح أن هذا بالاتفاق لأنه لما جعلها علوفة فقد خرجت من أن تكون مال الزكاة بفوات وصف النماء فجعل كأن مال الزكاة قد هلك وحدثت عين أخرى من حيث المعنى فلا يؤدي إلى الثنى من وجه
ولو كان له عبد للخدمة فأدى صدقة فطره أو كان طعاما أدى عشره أو أرضا أدى خراجها ثم باعها فإن الثمن يضم إلى ما عنده بالاتفاق لأنه ليس بذل مال الزكاة وهو المال الفاضل عن الحاجة فلا يؤدي إلى شبهة الثنى
ولو استفاد دراهم بالإرث أو الهبة وعنده نصابان أحدهما أثمان الإبل المزكاة والثاني نصاب آخر من الدراهم والدنانير فإنه يضم إلى أقربهما حولا فإن كان أدى زكاة النصاب الذي هو غير ثمن الإبل فإنه يضم إلى أثمان الإبل لأنها أقرب إلى الحول فكان أنفع للفقراء
ولو أنه لم يوهب له ولكن تصرف في النصاب الأول بعدما أدى زكاته وربح فيه ربحا ولم يحل حول أثمان الإبل المزكاة فإن الربحيضم إلى النصاب الذي ربح فيه دون أثمان الإبل المزكاة وإن كان أبعد حولا من الأثمان بخلاف الأول لأنهما استويا في التبعية ثمة فترجح الأقرب حولا بالضم إليه نطرا للفقراء لما فيه من زيادة النفع وهنا لم يستويا في التبعية فإنه تبع لأحدهما حقيقة فلا يقطع حكم التبع عن الأصل
باب زكاة السوائم
أصل الباب ما ذكرنا أن سبب وجوب الزكاة هو المال النامي الفاضل عن الحاجة
ثم قدر الفضل والغنى متفاوت في نفسه لا يعرف حده بالرأي فجاء الشرع بالنصب لبيان مقدار الغنى الذي يتعلق به الوجوب فوجب اعتبار التوقيف في النصب على الوجه الذي ورد الشرع به
ثم في الباب فصلان أحدهما في بيان النصب وصفاتها
والثاني في بيان قدر الواجب وصفاته
أما الأول فنقول بأن نصاب السوائم مختلف فنبدأ بالإبل
اتفقت الأحاديث إلى مائة وعشرين وعليه الإجماع أن لا زكاة في الإبل ما لم تبلغ خمسا
فإذا كانت خمسا ففيها شاة إلى تسع
فإذا كانت عشرا ففيها شاتان إلى أربع عشرة
فإذا كانت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه إلى تسع عشرة
فإذا كانت عشرين ففيها أربع شياه إلى أربع وعشرين
فإذا كانت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض إلى خمس وثلاثين
فإذا كانت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين
فإذا كانت ستا وأربعين ففيها حقة إلى ستين
فإذا كانت إحدى وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين
فإذا كانت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين
فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى مائة وعشرين
فأما إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة فقد اختلف العلماء في ذلك إلى تمام الخمسين فقال أصحابنا بأنه نستأنف الفريضة ويدار الحساب على الخمسينات في النصاب وعلى احقاق في الواجب ولكن بشرط عود ما قبله من الواجبات والأقاوص بقدر ما يدخل فيه
بيان ذلك أنه إذا زادت الإبل على مائة وعشرين فلا يجب في الزيادة شيء ما لم تبلغ خمسا
فإذا صارت مائة وخمسا وعشرين فيجب فيها حقتان وشاة
وفي مائة وثلاثين حقتان وشاتان
وفي مائة وخمس وثلاثين حقتان وثلاث شياه
وفي مائة وخمس وأربعين حقتان وأربع شياه
وفي مائة وخمس وأربعين حقتان وبنت مخاض إلى مائة وتسع وأربعين
فإذا صارت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق في كل خمسين حقة
ثم تستأنف الفريضة فلا يجب في أقل من الخمس شيء
فإذا صارت مائة وخمسا وخمسين ففيها ثلاث حقاق وشاة
فإذا صارت مائة وستين ففيها ثلاث حقاق وشاتان
فإذا صارت مائة وخمسا وستين ففيها ثلاث شياه وثلاث حقاق
فإذا كانت مائة وسبعين ففيها أربع شياه وثلاث حقاق
فإذا كانت مائة وخمسا وسبعين ففيها ثلاث حقاق وبنت مخاض
فإذا كانت مائة وستا وثمانين ففيها ثلاث حقاق وبنت لبون
فإذا كانت مائة وستا وتسعين ففيها أربع حقاق إلى مائتين
فإذا زادت عليها تستأنف الفريضة مثلما استؤنفت في مائة وخمسين إلى مائتين فيدخل فيها بنت مخاض وبنت لبون وحقة مع الشاة
وقال مالك في قول إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة المصدق بالخيار إن شاء أخذ منها ثلاث بنات لبون وإن شاء تركها حتى بلغ مائة وثلاثين فيأخذ منها بنتي لبون وحقة
وفي قول إذا زادت على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون وهو قول الشافعي وليس فيها إلى مائة وتسعة وعشرين شيء فإذا صارت مائة وثلاثين فبعد ذلك يجعل كل تسعة عفوا ويجب في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فيدور الحساب في النصب على الخمسينات والأربعينات وفي الواجب على الحقاق وبنات اللبون
والصحيح مذهبنا فإن الأحاديث قد تعارضت فقد روي استئناف الفريضة كما قلنا وروي كما قالا ولكن الترجيح لما قلنا فإنه مذهب علي وعبد الله بن مسعود وكانا من فقهاء الصحابة وهذا باب لا يجري فيه القياس والرأي فكان ذلك دليلا على الاستقرار على الوجه الذي قالا من حيث التوقيف من النبي عليه السلام
وأما نصاب البقر فنقول ليس في أقل من ثلاثين من البقر صدقة
فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة ولا شيء في الزيادة إلى تسع وثلاثين
فإذا صارت أربعين ففيها مسنة
وهذا بلا خلاف بين الأمة فأما إذا زادت على الأربعين فقد اختلفت الروايات فيها عن أبي حنيفة ذكر في ظاهر الرواية أنه تجب مسنة وفي الزيادة بحساب ذلك يعني إن كانت الزيادة واحدة تجب مسنة وجزء من أربعين جزءا من مسنة وفي الاثنتين وأربعين مسنة وجزآن من أربعين جزءا من مسنة
وكذلك إلى ستين على هذا الاعتبار
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين فإذا كانت خمسين ففيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع لأن الزيادة عشر وهي ثلث وثلاثين وربع أربعين فإن شاء أعطى ربع المسنة وإن شاء أعطى ثلث التبعية إلى ستين
وروى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة أنه قال لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين فيكون فيها تبيعان أو تبيعتان
وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي
وهذه الرواية أعدل لما روي عن معاذأنه قيل له ماذا تقول فيما بين الأربعين إلى الستين من البقر فقال تلك أوقاص لا شيء فيها
وأما إذا زادت على الستين فإنه يدار الحساب على الأربعينات والثلاثينات في النصب وعلى الأتبعة والمسنات في القريضة ويجعل تسعة بينهما عفوا فيجب في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة وفي كل أربعين مسنة فإذا كانت سبعين ففيها مسنة وتبيع وفي الثمانين مسنتانوفي التسعين ثلاثة أتبعة وفي المائة مسنة وتبيعتان وفي المائة والعشرة مسنتان وتبيع وفي المائة والعشرين ثلاث مسنات أو أربع أتبعة
وعلى هذا الاعتبار يدار الحساب
وأما نصاب الغنم فليس في أقل من أربعين شاة شيء
فإذا بلغت أربعين ففيها شاة وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ مائة وعشرين
فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين
فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه ثم لا شيء فيها حتى تبلغ أربعمائة
فإذا كانت أربعمائة ففيها أربع شياه
ثم في كل مائة شاة شاة وإن كثرت
هذا الذي ذكرنا بيان قدر النصب فأما بيان صفة النصاب فهو أن يكون موصوفا بالإسامة حتى لا تجب الزكاة في العلوفة والحمولة لما ذكرنا أن الزكاة لا تجب إلا في المال النامي والنماء في الحيوان بالإسامة
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال ليس في العوامل والحوامل صدقة
والسائمة هي التي تسام في البراري لقصد الدر والنسل حتى إذا أسيمت للحمل والركوب لا للدر والنسل لا تجب فيها الزكاة وكذلك إذا أسيمت للبيع وقصد التجارة لا للدر والنسل لا يجب فيها زكاة السائمة عندنا ولكن تجب فيها زكاة التجارة
ثم ليس الشرط أن تسام في جميع السنة في البراري بل المعتبر هوالغالب فإن كان أكثر السنة تسام في البراري وتعلف في الأمصار في أقل السنة فهي سائمة
ومن صفات النصاب أن يكون الجنس واحدا كالإبل والبقر والغنم وإن اختلفت صفاتها من الذكورة والأنوثة واختلفت أنواعها كالغراب والبخاتي والبقر والجواميس والضأن والمعز لأن اسم الإبل والبقر والغنم يتناول الكل
وأما الفصل الثاني وهو بيان قدر الواجب وصفاته فنقول أما قدر الواجب من الإبل فما ذكرنا من بنت المخاض وبنت اللبون والحقة والجذعة
وفي البقرة التبيع والتبيعة والمسنة لما ذكرنا من الأحاديث المشهور فبنت المخاض التي أتت عليها سنة وطعنت في السنة الثانية وبنت اللبون هي التي أتت عليها سنتان وطعنت في الثالثة والحقة هي التي تمت لها ثلاث سنين وطعنت في الرابعة والجذعة هي التي أتت عليها أربع سنين وطعنت في الخامسة وهي أقصى سن يدخل في باب زكاة الإبل
والتبيع والتبيعة هو الذي أتى عليه حول وطعن في الثانية
والمسنة هي التي أتت عليها سنتان وطعنت في الثالثة وهي أقصى ما يجب من السن في البقر
أما صفة الشاة الواجبة في الزكاة فقد ذكر في كتاب الزكاة من الأصل عن أبي حنيفة أنه لا يجوز إلى الثنى فصاعدا وهو الذي أتى عليه حول وطعن في الثانية
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز الجذع من الضأن وهو الذي أتى عليه ستة أشهر
وهو قول أبي يوسف و محمد و الشافعي
وهو قياس ما ذكره الطحاوي فإنه قال لا يؤخذ في الصدقة إلا ما يجوز في الأضحية والجذع من الضأن يجوز في الأضحية
والصحيح جواب ظاهر الرواية فإنه لا يجوز من المعز إلا الثنى فكذا في الضأن وأصله حديث عليرضي الله عنه أنه قال لا يجزىء في الزكاة إلا الثنى فصاعدا
ولم يرو عن غيره خلافه فيكون كالإجماع
ومن صفات الواجب في الإبل الأنوثة حتى لا يجوز فيها سوى الإناث ولا يجوز الذكور إلا بطريق القيمة
وأما في البقر فالذكور والإناث سواء بالنص وهو قوله عليه السلام لمعاذ في كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة
وأما في الغنم فيجوز فيه عندنا الذكر والأنثى
وقال الشافعي لا يجوز الذكر إلا إذا كانت كلها ذكورا
والصحيح قولنا لأن الأحاديث وردت بلفظ الشاة وهو اسم يتناول الذكر والأنثى
ومن صفات الواجب أيضا أن يكون وسطا حتى لا يكون للساعي أن يأخذ الجيد ولا الرديء إلا بطريق التقويم برضا صاحب المال لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال للساعي إياك وكرائم أموال الناس وخذ من حواشيها واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب
فلو أنه لم يوجد الوسط فإن صاحب المال بالخيار إن شاء دفع قيمة الوسط وإن شاء دفع الأفضل واسترد الزيادة من الدراهم وإن شاء دفع الأدون مع الزيادة من الدراهم لأن دفع القيم جائز عندنا خلافا للشافعي والمسألة معروفة
وذكر في كتاب الزكاة هذه المسألة وقال المصدق بالخيار وأراد به إذا رضي صاحب المال وإنما يكون الخيار للمصدق في فصل واحد وهو أن صاحب المال إذا وجب عليه بنت مخاض أو بنت لبون فأدى بعض سن آخر بطريق القيمة فالمصدق بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل لأن التشقيص في الأعيان عيب
هذا الذي ذكرنا إذا كان الكل كبارا فإما إذا كانت صغارا أو مختلطة بالكبار فأما الصغار المفردة فمن أبي حنيفة فيها ثلاث روايات روى أنه يجب فيها ما يجب في الكبار
ثم رجع وقال يجب فيها واحد منها إذا بلغت مبلغا يجب فيها واحد من الكبار وهو خمسة وعشرن فصيلا
ثم رجع وقال لا يجب فيها شيء
وأخذ بقوله الأول زفر وهو قول مالك
وبقوله الثاني أبو يوسف
وبقوله الثالث محمد
ويتكلم الفقهاء في صورة المسألة فإنها مشكلة لأن الزكاة لا تجب بدون مضي الحول بعد الحول لم يبق اسم الحملان والفصلان والعجاجيل
قال بعضهم الخلاف في هذا أن الحول هل ينعقد على الحملان والفصلان والعجاجيل أم لا بأن ملك في أول الحول نصابا من هذه الصغار ثم تم الحول عليها هل يجب واحد منها وإن خرجوا عن الدخول تحت هذه الأسماء أو يعتبر انعقاد الحول من حين كبروا وإن زالت صفة الصغر عنهم وقال بعضهم الخلاف فيمن كانت له أمهات فمضت ستة أشهر فولدت أولادا ثم ماتت الأمهات وبقي الأولاد ثم تم الحول عليها وهي صغار هل تجب الزكاة في هذه الأولاد وعلى هذا إذا كان له مسان فاستفاد صغارا في وسط الحول ثم هلكت المسان وبقي المستفاد هل تجب الزكاة في المستفاد فعلى هذا الخلاف
وإلى هذا أشار محمد في الكتاب فيمن كان له أربعون حملا وواحدة مسنة فهلكت المسنة وتم الحول على الحملان لا يجب شيء عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف يجب واحد منها وعند زفر تجب مسنة
والصحيح قول أبي حنيفة ومحمد لما ذكرنا من الأصل ثم عن أبي يوسف ثلاث روايات أخرى سوى ما ذكرنا والمشهور ما ذكرنا
فأما إذا كان مع الصغار كبار أو واحد منها فإنه يحتسب الصغار معها من النصاب وتجب الزكاة فيها مثلما تجب في الكبار وهو المسنة
وأصله حديثعمرأنه قال للساعي عد عليهم السخلة ولو جاء بها الراعي يحملها على كفه ولا تأخذها منهم
ثم في حال اختلاط الكبار بالصغار تجب الزكاة في الصغار تبعا للكبار إذا كان العدد الواجب من الكبار موجودا فيها في قولهم جميعا
فأما إذا لم يكن العدد الواجب كله موجودا فإنه يجب بقدر الموجود فإنه إذا كان له مسنتان ومائة وتسعة عشر حملا فإنه تجب فيها مسنتان بلا خلاف لأن العدد الواجب وهو المسنتان موجود في النصاب
ومثله لو كان له مسنة ومائة وعشرون حملا يجب فيها مسنة واحدة عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف يجب عليه شاة وحمل
وأما حكم الخيل فنقول لا يخلو إما إن كانت علوفة في المصر للركوب والحمل أو للتجارة أو سائمة للركوب والحمل أو للغزو والجهاد أو سائمة للدر والنسل
أما إذا كانت علوفة أو كانت سائمة للحمل والركوب أو الجهاد فلا يجب فيها شيء لأنها مشغولة بحاجته لأن قصد الدر والنسل دليل الفضل عن الحاجة ولم يوجد
وإن كانت للتجارة يجب فيها زكاة التجارة بالإجماع سواء كانت تعلف في المصر أو تسام في البراري
فأما إذا كانت سائمة للدر والنسل فإن كانت مختلظة ذكورا وإناثا يجب فيها الزكاة عند أبي حنيفة رواية واحدة وقال أبو يوسف و محمد و الشافعي لا زكاة فيها
وإن كانت كلها إناثا ففيها روايتان عن أبي حنيفة ذكرهما الطحاوي
وإن كانت كلها ذكورا ففيها روايتان عنه أيضا ذكرها محمد في الآثار
وفي المشهور من الروايات أن لا زكاة فيها
وإذا وجبت الزكاة فيها فيكون صاحبها بالخيار بين أن يعطي منكل فرس دينارا وبين أن يقومها فيؤدي من كل مائتي درهم خمسة دراهم لكن حق الأخذ للساعي لأن السائمة ترعى في البراري ولا يمكن حفظ السوائم فيها إلا بحماية السلطان
والصحيح قول أبي حنيفة لما روى جابر عن النبي عليه السلام أنه قال في كل فرس سائمة دينار وليس في الرابطة شيء
وأما الحمير والبغال فلا يجب فيها شيء وإن كانت سائمة لأن الحمل والركوب هو المقصود فيها غالبا دون التناسل لكنها تسام في غير وقت الحاجة للتخفيف في الحفظ ودفع مؤونة العلف
فأما إذا كانت للتجارة فيجب فيها زكاة التجارة
هذا الذي ذكرنا كله إذا كانت السوائم لواحد أما إذا كانت مشتركة فعندنا يعتبر في حال الشركة ما يعتبر في حالة الانفراد فإن كان نصيب كل واحد منهما بلغ نصابا تجب الزكاة فيه وإلا فلا
وقال الشافعي إذا كان أسباب الإسامة واحدة يجعل الكل كمال واحد وهو أن يكون الراعي والمرعى والماء والمراح والكلب واحدا ويكون المالكان من أهل وجوب الزكاة
بيان ذلك إذا كان خمس من الإبل بين شريكين لا تجب فيها الزكاة عندنا لأن نصيب كل واحد منهما بانفراده ليس بنصاب
ولو كانت عشرا من الإبل بينهما فعلى كل واحد منهما شاة
وعنده تجب شاة في الفصل الأول عليهما
وإن كان ثلاثون من البقر بين رجلين لا تجب الزكاة عندنالعدم النصاب في حقه وعنده تجب تبيعة بينهما
وإن كان أربعون من الغنم بين اثنين لا يجب شيء عندنا خلافا له
ولو كان لهما ثمانون يجب على كل واحد منهما شاة عندنا وعنده جب شاة واحدة بينهما
كذلك على هذا إذا كان الذهب والفضة وأموال التجارة مشتركة بين اثنين فإنه يعتبر عندنا نصيب كل واحد على حدة
ثم إن المصدق إذا جاء بعد تمام الحول فإنه يأخذ الصدقة من المال المشترك بينهما إذا وجد فيه واجبا على اختلاف الأصلين ولا ينتظر القسمة لأنهما راضيان بذلك لبقائهما على الشركة
فإذا أخذ ينظر إن كان ما أخذ من مال كل واحد منهما بأن كان المال مشتركا بينهما على السوية فلا تراجع ههنا لأن ذلك القدر واجب على كل واحد منهما على السواء
أما إذا كان المال مشتركا بينهما على التفاوت والواجب على أحدهما أكثر من الآخر أو الواجب على أحدهما دون الآخر فإنه يرجع على صاحبه بقدر ذلك
بيانه لو كان ثمانون من الغنم بين رجلين فأخذ المصدق منها شاتين فلا تراجع لما ذكرنا أنه يجب على كل واحد منهما شاة وكل شاة بينهما نصفان
ولو كانت الثمانون بينهما أثلاثا وحال الحول فإنه يجب فيها شاة واحدة على صاحب الثلثين لكمال نصابه وزيادة ولا يجب على صاحبالثلث لنقصان نصيبه عن النصاب فقد أخذ المصدق ثلث نصيبه لأجل صاحب الثلثين فله أن يرجع عليه بقيمة الثلث
ولو كان الغنم مائة وعشرين بين رجلين لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها فإنه يجب على كل واحد منهما شاة لأن الثمانين لأحدهما والأربعين لشريكه فيأخذ المصدق شاتين من المال المشترك ولصاحب الثلثين أن يرجع على صاحب الثلث بقيمة ثلث شاة لأن الشاتين إذا كانتا أثلاثا بينهما يكون لصاحب الثلثين شاة وثلث ولصاحب الثلث ثلثا شاة وقد أخذ المصدق شاة كاملة لأجل صاحب الثلث فقد صار آخذا ثلثا من نصيب صاحب الثلثين لأجل زكاة صاحب الثلث فيرجع عليه بذلك
وهذا معنى قوله عليه السلام وما كان بين الخليطين فإنهما يتراجعان بالسوية هذا الذي ذكرنا حكم الزكاة في العين
فأما حكم الزكاة في الدين فنقول الدين عند ابي حنيفة على ثلاث مراتب دين قوي ودين وسط ودين ضعيف
فالدين القوي هو الذي ملكه بدلا عما هو مال الزكاة كالدراهم والدنانير وأموال التجارة وكذا غلة مال التجارة من العبيد والدور ونحوها
والحكم فيه أنه إذا كان نصابا وتم الحول تجب الزكاة لكن لا يخاطب بالأداء ما لم يقبض أربعين درهما فإذا قبض أربعين زكاها وذلك درهم
وإن قبض أقل من ذلك لا يزكي وكذلك يؤدي من كل أربعين عند القبض درهما
وأما الدين الوسط فهو الذي وجب بدل مال لو بقي عنده حولا لم تجب فيه الزكاة مثل عبيد الخدمة وثياب البذلة وغلة مال الخدمة
والحكم فيه أن عند أبي حنيفة فيه روايتين ذكر في الأصل وقال تجب فيه الزكاة ولا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم فإذا قبض المائتين يزكي لما قبض
وروى ابن سماعة عن أبي حنيفة أنه لا زكاة فيه حتى يقبض ويحول عليه الحول بعد ذلك
وهو الصحيح عنده
وأما الدين الضعيف فهو ما وجب وملك لا بدلا عن شيء وهو دين إما بغير فعله كالميراث أو بفعله كالوصية أو وجب بدلا عما ليس بمال دينا كالدية على العاقلة والمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد وبدل الكناية
والحكم فيه أنه لا يجب فيه الزكاة حتى يقبض المائتين ويحول عليها الحول عنده
وقال أبو يوسف و محمد الديون على ضربين ديون مطلقة وديون ناقصة
فالناقص هو بدل الكناية والدية على العاقلة وما سواهما فديون مطلقة
والحكم فيها أنه تجب الزكاة في الدين المطلق ولا يجب الأداء ما لم يقبض فإذا قبض منها شيئا قل أو كثر يؤدي بقدر ما قبض
وفي الدين الناقص لا تجب الزكاة ما لم يقبض النصاب ويحول عليه الحول
وأما دين السعاية فلم يذكر في كتاب الزكاة الاختلاف بينهما
وذكر في نوادر الزكاة الاختلاف فقال عند أبي حنيفة هو دين ضعيف وعندهما دين مطلق
وعند الشافعي الديون كلها سواء وتجب الزكاة فيها والأداء وإن لم يقبض
وأما حكم هذه الأبدال إذا كانت عينا أما الميراث والوصية المعنية إذا حال عليها الحول ولم يقبضها تجب فيها الزكاة في الذهب والفضة
فأما في مال التجارة والإسامة فإن نوى الورثة التجارة أو الإسامة بعد الموت تجب
وإن لم ينووا قال بعضهم تجب لأن الوارث والموصى له خلف الميت فينتقل المال إليهما على الوصف الذي كان ما لم يوجد التعيين من جهتهما بأن وجدت منهما نية الابتذال والإعلاف
وقال بعضهم لا بد من وجود النية لأن الملك قد زال عن الميت حقيقة وتجدد الملك للوارث والموصى له
وكذلك الجواب في بدل أعيان البذلة والمهنة وعبيد الخدمة إذا كان عينا لا تجب فيه الزكاة ما لم ينو التجارة عند العقد
فأما المهر وبدل ما ليس بمال فعلى قول أبي حنيفة لا تجب ما لم يقبض ولم يحل عليه الحول ولم ينو التجارة بعد القبض وعلى قولهما تجب إذا نوى التجارة عند العقد لأن المهر لا يصلح نصابا عند أبي حنيفة إذا كان دينا وعندهما يصلح فالعين كذلك لكن لا بد من نية التجارة في العين
هذا الذي ذكرنا إذا كان الدين مقرا به ومن عليه الدين موسرا
فأما الدين إذا كان مجحودا به ومضى عليه أحوال ثم أقر به وقبضه فلا تجب الزكاة للسنين الماضية عندنا
وقال زفر و الشافعي تجب
وكذلك الخلاف فيما إذا كانت دراهم ودنانير مغصوبة
وكذلك إذا سقطت عن يد المالك فلم يجدها سنين
وكذلك عبيد التجارة إذا أبقوا ثم قدر عليهم بعد سنين
وكذلك العدو إذا استولوا على الدراهم والدنانير وأحرزوها بدارهم فعلى الخلاف بيننا وبين الشافعي
وكذلك إذا دفن في غير حرز ونسي ذلك سنين ثم تذكره فعلى الخلاف
وكذلك إذا أودع رجلا مجهولا لا يعرفه مال الزكاة ثم أصابه بعد سنين لا يجب
وأجمعوا أنه إذا دفن في الحرز من الدور ونحوها ونسيه ثم تذكر فإنه تجب عليه زكاة ما مضى
وكذلك إذا أودع رجلا معروفا ثم نسيه سنين ثم تذكر فإنه يجب بالإجماع
ثم في المال المغصوب لا تجب الزكاة عندنا سواء كانت له بينة أو لم يكن
وكذلك المال المجحود إذا كان له بينة كذا روى هشام عن محمد
وبعض مشايخنا قالوا إذا كانت له بينة تجب فيه الزكاة
والصحيح رواية هشام لأن البينة قد تقبل وقد لا تقبل
فأما إذا كان القاضي عالما بالدين أو بالغصب فإنه تجب الزكاة لأن القاضي يقضي بعلمه في الأموال فصاحبه يكون مقصرا في الاسترداد فلا يعذر
وأما الغريم إذا كان يقر في السر ينكر في العلانية فلا زكاة فيه كذا روى المعلى عن أبي يوسف
فأما إذا كان الدين مقرا به ولكن من عليه الدين معسر فمضى عليه أحوال ثم أيسر فقبضه صاحب الدين فإنه يزكي لما مضى عندنا
وروى الحسن بن زياد أنه لا زكاة فيه إلا أنا نقول إنه مؤجل شرعا فصار كما لو كان مؤجلا بتأجيل صاحبه ثم تجب الزكاة كذا هذا
هذا إذا كان معسرا لم يقض عليه بالإفلاس
فأما إذا قضى عليه بالإفلاس فعلى قول أبي حنيفة و أبي يوسف تجب الزكاة لما مضى إذا أيسر لأن الإفلاس عندهما لا يتحقق في حال الحياة والقضاء به باطل
وعلى قول محمد لا تجب لأن القضاء بالإفلاس عنده صحيح
باب من يوضع فيه الصدقة
مسائل الباب مبنية على معرفة من يجوز وضع الزكاة فيه وعلى معرفة ركن الزكاة وشرائط الأداء
أما بيان من يجوز وضع الزكاة فيه فهو الذي استجمع شرائط منها الفقر فإنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الأغنياء لقوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء } أمر بالصرف إلى الأصناف الثمانية وذكر هؤلاء لبيان محلية الصرف باعتبار الحاجة لا بطريق الاستحقاق إلا أن النص صار منسوخا في حق المؤلفة قلوبهم عندنا
وأما العامل فيما يعطى له فهو أجر عمله لا بطريق الزكاة فإنه ينبغي للإمام أن يعطي الساعي مقدار ما يكفيه ويكفي أعوانه ولهذا قلنا بأنه يعطي العامل الغني
ولهذا إن صاحب المال إذا حمل الزكاة بنفسه إلى الإمام فإنه لا يعطي العاملين على الصدقات من ذلك شيئا
ولهذا قلنا إن حق العامل فيما في يده من الصدقات حتى لو هلك ما في يده من الصدقات تسقط أجرته وهو كنفقة المضارب في مال المضاربةإذا هلك مال المضارب سقطت نفقته
ولكن للعمالة شبهة الصدقة فيحرم في حق بني هاشم كرامة لهم وإن كان لا يحرم على العامل الغني
وقال الشافعي يجب الصرف إلى الأصناف الثمانية إلى ثلاثة من كل صنف لأنه لا يمكن القول بالاستيعاب
واختلف أصحابه في سهم المؤلفة قلوبهم
وبعضهم قالوا صار منسوخا بالإجماع
وبعضهم قالوا يصرف إلى كل من كان حديث العهد بالإسلام ممن هو في مثل حالهم في الشوكة والقوة حتى يكون حملا لأمثالهم على الدخول في دين الإسلام
ثم كما لا يجوز صرف الزكاة إلى أغنياء لا يجوز صرف جميع الصدقات المفروضة الواجبة إليهم وذلك نحو الكفارات المفروضة والعشر المفروض بكتاب الله وصدقة الفطر والصدقات المنذور بها من الواجبات لقوله عليه السلام لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي
وكذا لا يجوز صرف الصدقات الواجبة إلى ولد الغني إذا كان صغيرا وإذا كان كبيرا يجوز لأن الصغير يعد غنيا بمال أبيه بخلاف الكبير
وقال أبو حنيفة و محمد يجوز الدفع إلى امرأة الغني إذا كانت فقيرة وكذلك إلى البنت الكبيرة الفقيرة لغني
وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف لأن الزوج لا يدفع جميع حوائج الزوجة والبنت الكبيرة
وكذا لا يجوز الدفع إلى عبد الغني ومدبره وأم ولده إذا لم يكن عليهم دين مستغرق لرقابهم لأن أكسابهم ملك المولى
وكذا إن كان عليهم دين لكن غير ظاهر في حق المولى حتى يكون مؤخرا إلى ما بعد العتاق
وأما إذا كان ظاهرا في حق المولى كدين الاستهلاك ودين التجارة ينبغي أن يجوز على قول أبي حنيفة لأنه لا يملك كسبه عنده إذا كان عليه دين مستغرق ظاهر في حقه
وعلى قولهما لا يجوز لأنه يملك كسبه عندهما
ويجوز الدفع إلى مكاتب الغني لأن المكاتب أحق بمكاسبه من المولى
وأما صدقة الأوقاف فيجوز صرفها إلى الأغنياء إذا سماهم الواقف فأما إذا لم يسمهم فلا يجوز لأنها صدقة واجبة
فأما صدقة التطوع فيجوز صرفها إلى الغني وتحل له وتكون بمنزلة الهبة له
ثم الغنى أنواع ثلاثة أحدها الغنى الذي يتعلق به وجوب الزكاة وهو أن يملك نصابا من المال الفاضل عن الحاجة الموصوف بالنماء والزيادة إما بالأسامة أو التجارة
والثاني الغنى الذي يتعلق به حرمان الصدقة ويتعلق به وجوب صدقة الفطر والأضحية دون وجوب الزكاة وهو أن يملك من الأموال الفاضلة عن حوائجه ما تبلغ قيمته مائتي درهم بأن كان له ثياب وفرش ودور وحوانيت ودواب زيادة على ما يحتاج إليه للابتذال لا للتجارة والأسامة
ثم مقدار ما يحتاج إليه ما ذكر أبو الحسنفي كتابه فقال لا بأس بأنيعطي من الزكاة من له مسكن وخدم وما يتأثث به في منزله وفرس وسلاح وثياب البدن وكتب العلم إن كان من أهله ما لم يكن له فضل عن ذلك مائتا درهم
وهذا عندنا
وقال الشافعي يجوز دفع الصدقة إلى رجل ليس له مال كثير ولا كسب له وهو يخاف الحاجة
وقال مالك إذا كان له خمسون درهما لا يجوز دفع الصدقة إليه ولا يحل له الأخذ
والثالث الغنى الذي يحرم به السؤال ولا يحرم الأخذ ولا الدفع من غير سؤال
قال بعضهم خمسون درهما
وقال عامة العلماء إذا ملك قوت يومه وما يستر به عورته فلا يحل له السؤال فأما إذا لم يكن فلا بأس به
وأما الفقير إذا كان قويا مكتسبا فيحل به أخذ الصدقة ولا يحل له السؤال
وعند الشافعي لا تحل له الصدقة
والشرط الآخر أن لا يكون الفقير من بني هاشم ولا من مواليهم لقوله عليه السلام لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد
وكذا حرم الصدقة على موالي بني هاشم وقال إن مولى القوم من أنفسهم
والشرط الأخر هو الإسلام وهو شرط في حق وجوب الزكاة والعشر بالإجماع حتى لا يجوز صرفهما إلى الكفار
وأما صرف ما وراء الزكاة والعشر إلى فقراء أهل الذمة فجائز عند أبي حنيفة ومحمد نحو صدقة الفطر والصدقة المنذورة والكفارات ولكن الصرف إلى المسلمين أولى
وعن أبي يوسف ثلاث روايات
والأصح أنه لا يجوز صرف صدقة ما إليهم إلا التطوع
وأما الحربي فلا يجوز صرف صدقة ما إليه
والشرط الآخر أن لا يكون منافع الأملاك متصلة بين صاحب المال وبين المدفوع إليه لأن الواجب هو التمليك من الغير من كل وجه فإذا كانت المنافع بينهما متصلة عادة فيكون صرفا إلى نفسه من وجه فلا يجوز
بيان ذلك أنه لو دفع الزكاة إلى الوالدين وإن علوا أو إلى المولودين وإن سفلوا لا يجوز لاتصال منافع الأملاك بينهم ولهذا لا تقبل شهادة بعضهم لبعض
ولو دفع إلى سائر الأقارب سواهم من الإخوة والأخوات وغيرهم جاز لانقطاع المنافع بينهم من حيث الغالب ولهذا تقبل شهادة بعضهم لبعض
ولو دفع إلى الزوج أو الزوجة لا يجوز عند أبي حنيفة لما قلنا من اتصال المنافع بينهم من حيث الغالب
وعلى قول أبي يوسف و محمد يجوزللزوجة أن تدفع إلى زوجها الفقير ولا يجوز للزوج أن يدفع إلى زوجته الفقيرة
ولو دفع إلى عبيده أو مدبريه أو أمهات أولاده لا يجوز سواء كان عليهم دين أو لم يكن لأنه صرف إلى نفسه من وجه
وكذلك إذا دفع إلى مكاتبه لا يجوز وإن كان الملك يقع للمكاتب لأنه من وجه يقع للمولى
وأما صدقة التطوع فيجوز صرفها إلى هؤلاء لقوله عليه السلام نفقة الرجل على نفسه صدقة وعلى عياله صدقة وكل معروف صدقة
وهذا الذي ذكرنا في حالة الاختيار وهو أن يكون للدافع علم بهؤلاء عند الدفع
فأما إذا دفع الزكاة إلى هؤلاء ولم يعلم بحالهم فهذا على ثلاثة أوجه أحدها أنه لا يخطر بباله شيء أنه غني أو فقير مسلم وذمي ونحو ذلك ودفع بنية الزكاة فالأصل هو الجواز إلا إذا ظهر أنه غني أو أبوه أو ابنه أو ذمي بيقين فحينئذ لا يجوز لأن الظاهر أنه صرف الصدقة إلى محلها حيث نوى الزكاة والظاهر لا يبطل إلا باليقين ولهذا إذا خطر بباله بعد ذلك وشك في ذلك ولم يظهر له شيء فإنه لا يلزمه الإعادة لأن الظاهر لا يبطل بالشك
والثاني إذا خطر بباله وشك في ذلك ولم يتحر ولم يطلب دليل الفقر بأن لم يسأل عنه أنه غني أو فقير ونحو ذلك ودفع إليه أو تحرى بقلبه ولكن لم يطلب دليل الفقر فالأصل هو الفساد إلا إذا ظهر بيقين أو بدليل من حيث الغالب أنه فقير فحينئذ يجوز لأنه وجبعليه التحري في هذه الحالة والصرف إلى فقير وقع عليه التحري فإذا ترك فلم يوجد الصرف إلى من أمر بالصرف إليه فيكون فاسدا إلا إذا ظهر أنه فقير أو أجنبي بيقين ونحوه فيجوز لأنه بطل الظاهر بالحقيقة
والثالث إذا خطر بباله وشك وتحرى وطلب دليل الفقر وسأل المدفوع إليه فأخبر أنه فقير أو رآه في صف الفقراء أو كان عليه زي الفقراء أو كان ضريرا أو معه ركوة وعصا فدفع إليه ثم ظهر أنه غني أو دفع في ليلة مظلمة إلى رجل يخبره أنه أجنبي أو مسلم ثم ظهر أنه أبوه أو ابنه أو ذمي
فإنه لا يلزمه الإعادة عند أبي حنيفة ومحمد في الفصول كلها
وعلى قول أبي يوسف يلزمه الإعادة
وأجمعوا أنه إذا ظهر أنه حربي أو حربي مستأمن فإنه لا يجوز
وكذا إذا ظهر أنه عبده أو مكاتبه أو مدبره
هذا جواب ظاهر الرواية
وروى محمد بن شجاع عن أبي حنيفة في غير الغني أنه لا يجوز ويلزمه الإعادة كما قال أبو يوسف والمسألة معروفة
وأما ركن الزكاة فهو إخراج جزء من النصاب من حيث المعنى إلى الله تعالى والتسليم إليه وقطع يده عنه بالتمليك من الفقير والتسليم إليه أو إلى من هو نائب عنه وهو الساعي
وصاحب المال نائب عن الله في التسليم إلى الفقراء قال الله تعالى { وآتوا الزكاة } والإيتاء هو التمليك
هذا الذي ذكرنا قول أبي حنيفة
وأما على قولهما فالواجب جزء من النصاب من حيث الصورة والمعنى لكن يجوز إقامة غيره مقامه من حيث المعنى ويبطل اعتبار الصورة بإذن صاحب الحق وهو الله تعالى
وأما في زكاة السوائم فقد اختلف مشايخنا في قول أبي حنيفة بعضهم قالوا إنه يجب صرف جزء من النصاب من حيث المعنى وذكر المنصوص عليه بخلاف جنس النصاب للتقدير
وبعضهم قالوا الواجب هو المنصوص عليه من حيث المعنى لا جزء من النصاب
وعند الشافعي الواجب هو المنصوص عليه من الأسنان مطلقا لا جزء من النصاب
وبيان هذا في المسائل على قول أصحابنا يجوز دفع القيم والأبدال في باب الزكاة العشر والخراج وصدقة الفطر وعند الشافعي لا يجوز
ولو هلك النصاب بعد الحول أو بعضه إن كان قبل التمكن من الأداء من غير تفريط فلا شيء عليه بالإجماع
فأما إذا تمكن من الأداء وفرط حتى هلك فكذلك الجواب عندنا وقال الشافعي لا يسقط
وأجمعوا أنه إذا أتلف مال الزكاة فإنه يضمن قدر الزكاة لأن الواجب عندنا تمليك جزء من محل معين هو النصاب إما من حيث المعنى عند أبي حنيفة أو من حيث الصورة والمعنى عندهما ولا يبقى الوجوب بعد هلاك المحل كالعبد الجاني إذا مات سقط وجوب الدفع لكون المحل متعينا لوجوب الدفع فلا يبقى واجبا بعد فواته كذا ههنا
وإذا أتلف يضمن لأنه أتلف حقا مستحق الأداء عليه فصار كالمولى إذا أتلف العبد الجاني
فأما في السوائم إذا جاء الساعي وطالب الزكاة فمنع حتى هلك فذكر الشيخأبو الحسن الكرخيأنه يجب الضمان لأنه بالمنع صار متلفا بمنزلة المودع إذا منع الوديعة بعد الطلب حتى هلكت يضمن كذا هذا
وعن أبي سهل الزجاجيأنه لا يضمن
والأول أصح
ولو صرف الزكاة إلى بناء المسجد والرباطات وإصلاح القناطر وتكفين الموتى ودفنهم لا يجوز لأنه لم يوجد التمليك
وكذلك إذا اشترى بالزكاة طعاما وأطعم الفقراء غداء وعشاء ولم يدفع إليهم عين الطعام فإنه لا يجور لأنه لم يوجد التمليك
وكذلك لو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة لا يجوز
وأما إذا قضى دين حي فقير فإذا قضى بغير أمره يكون متبرعا ولا يقع عن الزكاة وإن قضى بأمره فإنه يقع عن الزكاة ويصير وكيلا في قبض الصدقة عن الفقير والصرف إلى قضاء دينه فقد وجد التمليك من الفقير فيجوز
وكذا لو اشترى بزكاته رقيقا فاعتقله لا تسقط الزكاة لأنه إسقاط وليس بتمليك
ولو دفع زكاة ماله إلى الإمام أو إلى عامل الصدقة فإنه يجوز لأنه نائب عن الفقير في القبض
وكذلك من تصدق على صبي أو مجنون وقبض له وليه أبوه أو جدهأو وصيه جاز لأن قبض الولي كقبضه
ولو قبض عنهما بعض ذوي أرحامه وليس ثمة أقرب منه وهو في عياله جاز
وكذلك الأجنبي الذي هو في عياله بمنزلة الولي في قبض الصدقة لأن هذا من باب النفع
وكذلك الملتقط يصح منه قبض الصدقة في حق اللقيط
وذكر في العيون عن أبي يوسف أن من عال يتيما فجعل يكسوه ويطعمه وينوي به عن زكاة ماله قال يجوز
وقال محمد ما كان من كسوة يجوز وما كان من طعام لا يجوز إلا ما دفع إليه
وهذا مما لا خلاف فيه بينهما في الحقيقة فإن أبا يوسف لم يرد إلا الإطعام على طريق الإباحة ولكن على وجه التمليك إن كان اليتيم عاقلا يدفع إليه وإن لم يكن عاقلا يقبض عنه بطريق النيابة ثم يطعمه ويكسوه لأن قبض الولي كقبضه
وأما شرائط الأداء فمنها أن يكون الأداء على الوجه الذي وجب عليه من حيث الوصف فإن كان في السوائم يؤدى الوسط إما عينه أو مثله من حيث القيمة
حتى لو أدى الرديء لا يجوز عن الكل إنما يقع بقدر قيمته ولو أدى الجيد جاز لأنه أدى الواجب وزيادة
ولو أدى شاة سمينة جيدة عن شاتين وسطين جاز لأن الجودة في غير أموال الربا متقومة فبقدر الوسط يقع عن نفسه وقدر قيمة الجودة يقع عن شاة أخرى
وكذا هذا في العروض إذا كانت للتجارة إن أدى ربع عشرها يجوز إن كان رديئا فرديء وإن كان جيدا فجيد
فإن أدى القيمة فإنه يؤدي قيمته من كل وجه
ولو أدى الرديء مكان الجيد لا يجوز لأن الجودة متقومة في هذا الباب ولهذا لو أدى الثوب الجيد عن الثوبين الرديئين جاز
فأما إذا كان مال الزكاة من أموال الربا كالكيلي والوزني فإن أدى ربع عشر النصاب يجوز كيفما كان
وإن أدى غيره فلا يخلو إما أن أدى زكاته من جنسه أو من خلاف جنسه فإن أدى من خلاف جنسه كما إذا أدى الفضة عن الذهب أو الحنطة عن الشعير فإنه يؤدي قدر قيمة الواجب بلا خلاف
ولو أدى النقص منها فإنه يجب عليه التكميل لأن الجودة في أموال الربا معتبرة متقومة عند المقابلة بخلاف الجنس
فأما إذا كان المؤدى من جنس النصاب فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال
قال أبو حنيفة و أبو يوسف المعتبر هو القدر دون القيمة
وقال المعتبر هو القيمة دون القدر
وقال محمد المعتبر ما هو الأنفع للفقراء فإن كان اعتبار القيمة أنفع فقوله مثل قول زفر وإن كان اعتبار القدر أنفع فقوله مثل قول أبي حنيفة وأبي يوسف
بيان ذلك أن من وجب عليه أداء خمسة أقفزة من حنطة جيدة في مائتي قفيز حنطة جيدة للتجارة بعد حولان الحول فأدى خمسة أقفزة رديئة يجوز على قول أبي حنيفة وأبي يوسف اعتبارا للقدر ولا يضمن قيمة الجودة لأنه لا قيمة لها في أموال الربا عند مقابلتها بجنسها وعلى قول محمد و زفر عليه أن يؤدي قيمة الجودة اعتبارا للقيمة عند زفر واعتبارا للأنفع في حق الفقراء عند محمد
وكذلك إذا كان له قلب فضة أو إناء مصبوغ من فضة وزنه مائتا درهم وقيمته لجودته وصياغته ثلاثمائة درهم وأدى خمسة زيوفا أو نبهرجة أو فضة رديئة قيمتها أربعة دراهم فإنه يجوز وتسقط عنه الزكاة في قول أبي حنيفة و أبي يوسف لوجود القدر وعند محمد و زفر عليه أن يؤدي سبعة دراهم ونصف درهم ويصرفه إلى تمام القيمة لما ذكرنا من الأصلين
وأما إذا أدى زكاته من الذهب أو من مال ليس من جنس الفضة فإن عليه أن يؤدي قيمته بالغة ما بلغت وهي سبعة دراهم ونصف لأن الجودة متفوقة في أموال الربا عند مقابلتها بخلاف الجنس بمنزلة الجودة في غير أموال الربا
وإن وجب على رجل خمسة أقفزة رديئة أو خمسة دراهم رديئة فأدى أربعة أقفزة جيدة قيمتها خمسة أقفزة رديئة وأربعة دراهم جيدة قيمتها خمسة دراهم رديئة فإنه يجوز عن أربعة دراهم وأربعة أقفزة وعليه قفيز واحد ودرهم آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد
أما عندهما فاعتبارا للقدر وهو ناقص وأما عند محمد فلأن عنده المعتبر هو القدر إذا كان أنفع
للفقراء واعتبار القدر ههنا أنفع وعلى قولزفريجوز عن الخمسة اعتبارا للقيمة
وعلى هذا نظائر المسائل
ومن شرائط الأداء النية فإن الزكاة عبادة فلا تصح من غير النية لكن يشترط النية في أي وقت ذكر الطحاوي أنه لا تجزىء الزكاة عمن أخرجها إلا بنية قارنة مخالطة لإخراجها إياها
كما قال في الصلاة
ولكن مشايخنا قالوا يعتبر في أحد وقتين وقت الدفع أو وقتتمييز قدر الزكاة عن النصاب حتى يكون الأداء بناء على نية صحيحة
ولو دفع خمسة إلى رجل وأمره أن يدفع إلى الفقراء عن زكاة ماله ودفع ذلك الرجل ولم ينو عند الدفع جاز لأن المعتبر نية الأمر وهو المؤدي في الحقيقة والمأمور نائب عنه
ولو دفع إلى ذمي ليدفعها إلى الفقراء جاز لوجود النية من الأمر المسلم
ولهذا قال أصحابنا لا يجب الزكاة على الصبيان والمجانين لأن الأداء لا يصح منهم لأنه عبادة فلا تتأدى بدون النية والاختيار والطفل والمجنون لا اختيار لهما والصبي العاقل عقله عدم فيحق التصرفات الضارة
ولو مات من عليه الزكاة قبل الأداء فلا يخلو إما إن أوصى بالأداء أو لم يوص
فإن لم يوص فإنه تسقط عنه الزكاة ولا يؤمر الوصي والوارث بالأداء من ماله عندنا
وقال الشافعي تؤخذ من تركته
وعلى هذا الاختلاف إذا مات وعليه صدقة الفطر والخراج والجزية والنذور والكفارات والنفقات لا يستوفى من تركته عندنا وعند الشافعي يستوفى
وأما العشر فإن كان الخارج قائما لا يسقط بالموت في ظاهر الرواية
وروى عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة أنه يسقط
وأما إذا استهلك الخارج حتى صار دينا في ذمته فهو على هذا الاختلاف
وأما إذا أوصى بالأداء فإنه يؤدي من ثلث ماله عندنا وعند الشافعي من جميع ماله لأن عنده الزكاة حق الفقراء فصار كسائر الديون
ولنا طريقان أحدهما أن الزكاة عبادة والأداء من الميت لا يتحقق ولم يوجد منه الإيصاء والإنابة حتى يكون أداء النائب كأدائه والعبادة لا تتأدى إلى بالإنابة الشرعية
والثاني أن هذه الأشياء وجبت بطريق الصلة والصلات تسقط بالموت قبل التسليم
وأما العشر فقد ثبت مشتركا
ولو امتنع من عليه الزكاة عن الأداء فإن الساعي لا يأخذ منه الزكاة جبرا
ولو أخذ لا يقع عن الزكاة عندنا
وقال زفر و الشافعي له أن يأخذ من النصاب جبرا ويقع عن الزكاة لأن الزكاة عبادة عندنا فلا بد من الأداء ممن عليه باختياره حتى تحصل العبادة
ولكن عندنا للساعي أن يجبره على الأداء بالحبس فيؤديه بنفسه لأن الإكراه لا ينافي الاختيار فيتحقق الفعل عن اختياره فيجوز
ولو عجل زكاة ماله ودفع إلى الفقراء بنية الزكاة جاز عندنا خلافا لمالك
وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه استسلف من العباس زكاة عامين
ثم عندنا كما يجوز تعجيل الزكاة عن النصاب الموجود للحال يجوزعن نصب كثيرة لم توجد بعد إن كان في ملكه نصاب واحد بأن كان عنده مائتا درهم فعجل زكاة الألف أو أكثر يجوز عندنا
وقالزفر لا يجوز
وإنما يجوز التعجيل عندنا بشرائط ثلاثة أحدها أن يكون مالكا للنصاب في أول الحول
والثاني أن يكون النصاب كاملا في آخر الحول أيضا
والثالث أن يكون في وسط الحول بعض النصاب الذي انعقد عليه الحول أو كله موجودا ولا يشترط كماله لأن أول الحول وقت انعقاد سبب الوجوب وآخره وقت الوجوب فأما كمال النصاب في وسط الحول فليس بشرط لأنه ليس وقت الوجوب ولا وقت انعقاد السبب لكن لا بد من بقاء بعض النصاب الأول حتى يصح ضم المستفاد إليه على ما مر
بيان ذلك أن من كان عنده في أول الحول مائة درهم أو أربع من الإبل السائمة ثم استفاد ما يكمل به في آخر الحول لا يجب
ولو كان عنده في أول الحول مائتا درهم فعجل خمسة منها ولم يستفد شيئا حتى حال الحول فإن ما عجل لا يكون زكاة ولكن يكون تطوعا لأنه لم يوجد كمال النصاب وقت الوجوب
ولو استفاد خمسة في وسط الحول ثم حال الحول وعنده مائتا درهم فإن المعجل يكون زكاة لوجود كمال النصاب في أوله وآخره
ولو استفاد ما يكمل به النصاب في أول الحول الثاني وتم الحول الثاني والنصاب كامل فإن المعجل لا يكون زكاة عن الحول الثاني لأنه عجل الزكاة عن الحول الأول
ولو كان له مائتا درهم فعجلها كلها عن الزكاة أو أدى البعض وهلك الباقي ثم استفاد نصابا آخر وتم الحول فإن المعجل لا يقع عن الزكاة لأنه لم يبق شيء من النصاب الأول في وسط الحول فانقطع الحول
ولو عجل زكاة ماله إلى الفقير ثم هلك النصاب كله أو بعضه ولم يستفد شيئا يكمل به النصاب حتى تم الحول فإنه لا يرجع على الفقير لأنه وقع أصل القربة وإنما التوقف في صفة الفرضية فلا يصح الرجوع
ولو دفع المعجل إلى الساعي ثم هلك النصاب كله فله أن يأخذه لأنه لم يصل إلى يد الفقير بعد
باب ما يمر به على العاشر
المار على العاشر أصناف ثلاثة المسلم والذمي والحربي
أما المسلمفيؤخذ منه ربع العشر على وجه الزكاة حتى تسقط عنه زكاة تلك السنة ويوضع موضع الزكاة إلا أنه ثبت حق الأخذ لعاشر لأجل الحماية لأن الأموال في المفاوز لا تحفظ إلا بقوة السلطان فتصير بمنزلة السوائم
وإذا كان المأخوذ زكاة فيشترط شرائط الزكاة من الأهلية وكون المال ناميا فاضلا عن الحاجة حتى لا يأخذ من مال الصبي والمجنون ربع العشر وكذا لا يأخذ إذا لم يحل عليه الحول وكذا إذا كان عليه دين لا يأخذ ولا يأخذ إذا لم يكن المال للتجارة
ويقبل قوله في دعوى الدين وفي دعواه أنه لم يحل عليه الحول وإنه ليس بمال التجارة كما في الزكاة سواء إلا إذا اتهمه العاشر فيحلفه لأن حق الأخذ له فيكون القول قول المنكر مع يمينه
وكذا لا يأخذ من المكاتب لا تجب عليه الزكاة
وكذا إذا قال هذه بضاعة لفلان لا يأخذ منه لأن المالك ما أمره بأداء الزكاة وإنما أمره بالتصرف لا غير
وكذلك المضارب والعبد المأذون إذا مرا على العاشر بمال المضاربة ومال المولى لا يأخذ منهما لأنهما لم يؤمرا بأداء الزكاة
وذكر في الجامع الصغير إذا مر المضارب والعبد المأذون بمال أخذ منه الزكاة في قول أبي حنيفة الأول
قال أبو يوسف ثم رجع في المضاربين وقال لا يأخذ منه ولا أعلمه رجع في العبد المأذون أم لا ولكن رجوعه في المضارب رجوع في العبد المأذون
وقال أبو يوسف و محمد لا يعشرهما
والأصح أن لا يعشرهما لأنهما أمرا بالحفظ والتصرف لا بأداء الزكاة
ولو قال معي أقل من النصاب وعندي في البلد ما يكمل به النصاب فإنه لا يأخذ منه لأن حق الأخذ له باعتبار الحماية وما دون النصاب تحت حمايته لا كل النصاب وفيما بينه وبين الله تعالى تجب عليه الزكاة لكمال النصاب
وإذا مر على العاشر في الحول أكثر من مرة واحدة لا يأخذ إلا مرة واحدة لأن الواجب زكاة وهي لا تتكرر في الحول
ولو قال المسلم للعاشر أديت الزكاة إلى عاشر غيرك وفي السنة عاشر غيره أو قال دفعتها إلى المساكين فالقول قوله لأنه أمين كالمودع
وفي رواية أخرى لا يقبل قوله إلا أن يأتي ببراءة من ذلك العاشر
وأما الذمي إذا مر على العاشر فالجواب فيه وفي المسلم سواء في جميع ذلك لأنه يؤخذ منه باسم الزكاة إلا أنه يؤخذ منه نصف العشر استدلالا بصدقة بني تغلب لما كان يؤخذ منهم باسم الزكاة يؤخذ نصف العشر فهذا كذلك
وأما الحربيون فإنه يؤخذ منهم مثلما يأخذون من المسلمين
وإن كان لا يعلم ذلك يؤخذ منهم العشر
وأصل هذا ما روي عنعمر رضي الله عنه أنه كتب إلى العشار وقال خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر وروي أنه قال خذوا منهم ما يأخذون من تجارنا فقيل له إن لم نعلم ما يأخذون من تجارنا قال خذوا العشر
ثم ما يؤخذ منهم في معنى الجزية والمؤونة لا باسم الصدقة حتى يصرف في مصارف الجزية
ولا يشترط أن يكون المال للتجارة ولا فارغا عن الدين ولا يشترط حولان الحول
ولو قال هذا المال بضاعة لا يقبل قوله
وكذلك إذا قال أديت إلى عاشر آخر لا يقبل لأن المأخوذ منهم أجرة الحماية وقد وجدت الحماية
وكذا لا يصدق في جميع ما يصدق فيه الذمي والمسلم إلا في فصل واحد وهو أن يقول هذه الجارية أم ولدي وهذا الغلام ولدي فإنه يقبل لأن النسب يثبت في دار الحرب
وكذلك يؤخذ العشر من مال الصبي الحربي والمجنون الحربي
ولو دخل الحربي دار الإسلام بأمان فعشر ثم دخل دار الحرب ثم خرج في ذلك الحول مرة أخرى أو مرارا فإنه يؤخذ منه في كل مرة لأنه يستفيد عصمة جديدة في كل مرة
ولو مر التاجر على العاشر بما لا يبقى حولا من الرطاب والخضرة والثمار الرطبة فإنه لا يعشره عند أبي حنيفة وعندهما يعشره
والصحيح قوله لأن النبي عليه السلام قال ليس في الخضراوات صدقة
وهذا النص ولأن في هذه الأشياء لا يحتاج إلى الحمايةغالبا لأن السراق وقطاع الطريق لا يقطعون الطريق لأجل الخضر ولا يأخذون إلا بقدر ما يؤكل في الحال فلا يجب فيها المؤونة مقصودا
وذكر في الجامع الصغير أن الذمي إذا مر على العاشر بالخمور والخنازير يعشر الخمور دون الخنازير
وقالأبو يوسف يعشرهما جميعا لأنهما أموال عندهم
وعندأبي حنيفة و محمد لا تعشر الخنازير
وقول أبي يوسف أظهر
باب العشر والخراج
في الباب فصول بيان الأرض العشرية والخراجية
وبيان ما يجب فيه العشر وأن النصاب هل هو شرط أم يجب في القليل والكثير وبيان سبب وجوب العشر والخراج
وبيان المحل الذي يجب فيه العشر والذي فيه نصف العشر
أما بيان الأراضي فنقول الأراضي نوعان عشرية وخراجية
فالعشرية خمسة أنواع أحدها أرض العرب فكلها عشرية
والثاني كل أرض أسلم أهلها طوعا فهي عشرية
والثالث الأراضي التي فتحت عنوة وقهرا وقسمت بين الغانمين فهي عشرية لأن الأرض لا تخلو عن المؤونة فكانت البداءة بالعشر في حق المسلمين أولى لما فيه من شبهة العبادة
والرابع المسلم إذا اتخذ داره بستانا أو كرما فهي عشرية لأنها مما يبتدىء عليها المؤونة فالعشر أولى
والخامس المسلم إذا أحيى الأراضي الميتة بإذن الإمام وهي من توابع الأراضي العشرية أو تسقى بماء العشر وهو ماء السماء وماء العيون المستنبط من الأراضي العشرية فهي عشرية
وأما الأراضي الخراجية فسواد العراق كلها خراجية
وكل أرض فتحت عنوة وقهرا وتركت على أيدي أربابها ومن عليهم الإمام فإنه يضع الجزية على أعناقهم إذا لم يسلموا والخراج على أراضيهم إذا أسلموا أو لم يسلموا
وكذلك إذا جلاهم ونقل إليها آخرين فالجواب كذلك
والمسلم إذا أحيى أرضا ميتة وهي تسقى بماء الخراج فهي خراجية
وكذلك الذمي إذا أحيى أرضا ميتة بإذن الإمام أو رضخ له أرضا في الغنيمة إذا قاتل مع المسلمين
وكذلك الذمي إذا اتخذ داره بستانا فإنه تكون خراجية
وأما الذمي إذا اشترى من مسلم أرض العشر فإنها تصير خراجية عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف عليه عشران وقال محمد عليه عشر واحد
والصحيح ما قاله أبو حنيفة لأن العشر والخراج شرعا لمؤونة الأراضي فمن كان أهلا لأداء العشر يوضع عليه العشر ومن لم يكن يوضع عليه الخراج فأما الذمي إذا اشترى أرض المسلم وهو ليس من أهل العشر يجب أن تنقلب خراجية
والمسلم إذا اشترى من الذمي أرضا خراجية لا تنقلب عشريةلأن المسلم من أهل وجوب الخراج في الجملة
والأصل أن مؤونة الأرض لا تغير من حالها إلا لضرورة وفي حق الذمي ضرورة لأنه ليس من أهل وجوب العشر
ولو اشترى التغلبي أرض عشر من مسلم فعليه عشران عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد عليه عشر واحد
وأما بيان المحل الذي يجب فيه العشر فنقول اختلفوا فيه قالأبو حنيفة كل خارج من الأرض يقصد بزراعته نماء الأرض والغلة ويستنبت في الجنات يجب فيه العشر سواء كانت له ثمرة باقية كالحنطة والشعير وسائر الحبوب والزبيب والتمر أو لم يكن له ثمرة باقية كأصناف الفاكهة الرطبة أو من الخضراوات والرطاب والرياحين وقصب الذريرة وقصب السكر وقوائم الخلاف التي تقطع في كل ثلاث سنين وغير ذلك
فأما إذا كان من جنس لا يستنبت في الأرض ولا يقصد بالزراعة كالطرفاء والقصب الفارسي والحطب والحشيش والسعف والتبن فلا عشر فيه
وقال أبو يوسف و محمد لا يجب العشر إلا في الحبوب وماله ثمرة باقية
ثم النصاب هل هو شرط لوجوب العشر فيما هو باق من الحبوب والثمار أم لا على قولأبي حنيفة ليس بشرط بل يجب في قليله وكثيره
وعلى قولهمالا يجب ما لم يكن خمسة أوسق والوسق ستون صاعا كل صاع ثمانية أرطال
والصحيح ما قالهأبو حنيفة لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } ولما روي عن النبي عليه السلام أنه قال فيما سقته السماء العشر وفيما سقي بغرب أو دالية نصف العشر
وأما بيان المحل الذي يجب فيه العشر وما يجب فيه نصف العشر فنقول ما سقي بماء السماء والأنهار والعيون العشرية يجب فيه العشر وما سقي بغرب أو دالية أو سانية يجب فيه نصف العشر لما روينا من الحديث
ولو أن الزرع يسقى في بعض السنة سيحا وفي بعضها بدالية فإن المعتبر فيه أكثر المدة والغالب
وأما بيان سبب وجوب العشر والخراج فنقول سبب وجوب العشر هو الأرض النامية بالخارج حقيقة
وسبب وجوب الخراج هو الأرض النامية بالخارج حقيقة أو تقديرا
ولهذا قلنا إن الخارج إذا أصابته آفة فهلك لا يجب العشر إن كانت الأرضعشرية ولا الخراج إن كانت خراجية لفوات النماء حقيقة وتقديرا
ولو كانت له أرض عشرية وتمكن من زراعتها ولم يزرع لا يجب عليه العشر لأنه لم يوجد الخارج حقيقة
ولو كانت الأرض خراجية وتمكن من زراعتها ولم يزرع يجب عليه الخراج لوجود الخارج تقديرا
وعلى هذا قال أصحابنا إن العشر والخراج لا يجتمعان في أرض واحدة بل إن كانت عشرية يجب فيها العشر وإن كانت خراجية يجب الخراج وقال الشافعي يجتمعان
ولو استأجر أرضا عشرية وزرعها فالعشر على الأجر عند أبي حنيفة
وعندهما على المستأجر لأن العشر يجب في الخارج وهو ملك المستأجر ولكنأبا حنيفة يقول إن الزرع في المعنى حاصل للمؤاجر لحصول الأجر له فلو هلك الخارج قبل الحصار لا يجب العشر على الأجر وإن هلك بعد الحصاد لا يسقط العشر عن المؤاجر وعلى قولهما لو هلك قبل الحصاد أو بعده فإنه يهلك بما فيه
ولو أعارها من مسلم فزرعها فالعشر على المستعير بالاتفاق لأن الخارج له صورة ومعنى ولو هلك يهلك بما فيه
ولو دفعها مزارعة فعندهما المزارعة جائزة والعشر في الخارج وعندأبي حنيفة المزارعة فاسدة ولو خرج الزرع وأدرك فعشر الخارج كله على رب الأرض إلا أن في حصته يجب في عينه وفي حصة المزارع يكون دينا في ذمته
ولو غصبها غاصب فزرعها ينظر إن انتقصت الأرض بالزراعة فالعشر على رب الأرض وعلى الغاصب نقصان الأرض كأنه أجرها منه وهذا عند أبي حنيفة
وعندهما في الخارج
وإن لم تنتقص الأرض بالزراعة فالعشر على الغاصب في الخارج كالعارية سواء
وإن كانت الأرض خراجية في الوجوه كلها فإن الخارج على رب الأرض بالإجماع إلا في الغصب فإنه إذا لم تنتقص الأرض بالزراعة فإن الخراج على الغاصب وإن نقصت فعلى رب الأرض كأنه أجرها
وأما بيان الخراج ومقداره فنقول الخراج نوعان خراج وظيفة وخراج مقاسمة
أما الأول فعلى مراتب ثبت ذلك بتوظيف عمر رضي الله عنه بإجماع الصحابة
في كل جريب أرض بيضاء تصلح للزراعة قفيز مما يزرع فيها ودرهم
فالقفيز هو الصاع
والدرهم هو الفضة الخالصة وزنه وزن سبعة والجريب أرض طولها ستون ذراعا وعرضها ستون ذراعا بذراع الملك كسرى ويزيد على ذراع العامة بقبضة
وفي جريب الرطبة خمسة دراهم
وفي جريب الكرم عشرة دراهم
وأما الجريب الذي فيه أشجار مثمرة ولا يصلح للزراعة فلم يذكر في ظاهر الرواية وروي عن أبي يوسف أنه قال إذا كانت النخيل ملتفة جعلت عليه الخراج بقدر ما يطيق ولا أزيده على جريب الكرم
وفي جريب الأرض التي ينبت فيها الزعفران قدر ما تطيق فإن كان ينظر إلى غلتها فإن كانت تبلغ غلة الأرض المزروعة يؤخذ منها قدر خراج الزرع وإن كانت تبلغ غلة الرطبة يؤخذ منها خمسة على هذا
ثم أرض الخراج إذا لم تخرج شيئا بسبب آفة البرد ونحوها لا شيء فيها وإن أخرجت قدر الخراج لا غير فإنه يجب نصف الخراج
وإن أخرجت مقدار مثلي الخراج فصاعدا يؤخذ جميع الخراج الموظف عليها
فأما إذا كانت الأرض تطيق أكثر من الخراج الموظف هل يزاد عليه أم لا روي عن محمد أنه قال يزاد بقدر ما تطيق
وقال أبو يوسف لا يزاد
وأما خراج المقاسمة فهو أن الإمام إذا من على أهل بلدة فتحها جعل على أراضيهم الخراج مقدار ربع الخارج أو ثلثه أو نصفه
وهذا جائز كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر
ويكون حكم هذا الخراج كحكم العشر إلا أنه يوضع في موضع الخراج لأنه في الحقيقة خراج
ثم في العشر والخراج لا يعتبر المالك ولا أهليته حتى يجب في الأرض الموقوفة ويجب في أراضي المكاتب والصبيان والمجانين
باب المعدن والركاز
في الباب فصلان أحدهما حكم المال المستخرج من الأرض
والثاني حكم المال المستخرج من البحار
أما الأول فهو قسمان أحدهما مال مدفون الناس
والثاني مال مخلوق في الأرض بتخليق الله تعالى
فالمدفون يسمى كنزا على الخصوص
والمال المخلوق في الأرض يسمى معدنا على الخصوص
والركاز اسم يحتملهما جميعا فيذكر ويراد به الكنز ويذكر ويراد به المعدن
أما الكنز فلا يخلو إما إن وجد في دار الإسلام أو في دار الحرب وكل ذلك لا يخلو إما إن وجد في أرض مملوكة أو في أرض غير مملوكة
ولا يخلو إما إن كان به علامة الإسلام كالمصحف والدراهم المكتوب عليها القرآن وما أشبه ذلك أو لم يكن
أما إذا كان وجد في دار الإسلام فإن كان في أرض غير مملوكة كالجبال والمفاوز وغيرهما فإنه ينظر إن كان به علامة الإسلام فإن حكمه حكم اللقطة يصنع به ما يصنع في اللقطة على ما يعرف إن شاء الله
وإن لم يكن ثمة علامة الإسلام ولا علامة الجاهلية بعضهم قالوا بأن في زمان حكمه حكم اللقطة لأن عهد الإسلام قد طال
وبعض مشايخنا قالوا إن حكمه حكم ما يعرف أنه مال الجاهلية بوجود العلام لأن الكنوز غالبا من الكفرة
ثم حكم الكنز الذي به علامة الجاهلية من الدراهم المنقوشة عليها الصنم ونحو ذلك أنه يجب فيه الخمس لأن حكمه حكم الغنيمة لأنه مال الكفار وأربعة أخماسه للواجد لأنه أخذه بقوة نفسه ويستوي الواحد بين أن يكون حرا أو عبدا مسلما أو ذميا صغيرا أو كبيرا غنيا أو فقيرا لأن هؤلاء من أهل الغنيمة إلا الحربي المستأمن فإنه إذا وجد كنزا في دار الإسلام فإنه يسترد منه لأنه ليس من أهل ملك الغنيمة إلا إذا كان يعمل في المفاوز بإذن الإمام على شرط فله أن يعطي المشروط والباقي له لأنه جعل ذلك أجره
وأما إذا وجد في أرض مملوكة فالخمس واجب لما مر وأما الأربعة الأخماس فلصاحب الخطة أو لورثته إن عرفوا وإن لم يعرفوا فيكون لأقصى مالك الأرض أو لورثته وإلا فيكون لبيت المال وهذا قولأبي حنيفة و محمد
وقال أبو يوسف يكون للواجد والمسألة معروفة
وأما إذا وجد في دار الحرب فإن كان في أرض غير مملوكة يكون للواجد ولا خمس فيه سواء دخل بأمان أو بغير أمان لأن ذلك مال مباح فيكون للواجد ولا خمس فيه لأنه أخذ ملك الكفار متلصصا لأنه لورثة الواضع
وأما إذا كان في أرض مملوكة فإن دخل بأمان فعليه أن يرده إلى صاحب الأرض حتى لا يؤدي إلى الغدر والخيانة في الأمان
ولو لم يرده وأخرجه إلى دار الإسلام يكون ملكا له ولا يطيب له كالملوك بشراء فاسد ولو باعه يصير ملكا للمشتري
وأما إذا دخل بغير أمان حل له ذلك ولا خمس فيه لأن هذا مال مباح أخذه متلصصا حتى إذا دخل جماعة ممتنعون في دار الحرب وظفروا على كنوزهم فإنه يجب فيه الخمس
وأما المعدن فالخارج منه على ثلاثة أنواع منها ما يذاب بالإذابة وينطبع بالحيلة كالذهب والفضة والنحاس والرصاص وأشباه ذلك
والنوع الثاني ما لا يذاب ولا ينطبع كالجص والنورة والزرنيخ والكحل والياقوت والفصوص والفيروزج ونحوها
والنوع الثالث ما هو مائع كالنفط والقير ونحو ذلك
ولا يخلو إما إن وجد في دار الإسلام أو في دار الحرب في أرض مملوكة أو غير مملوكة
أما إذا وجد في دار الإسلام فينظر إن وجد في أرض غير مملوكة والموجود مما ينطبع بالحيلة ويذاب بالإذابة فإنه يجب فيه الخمس قل أو كثر وأربعة أخماسه للواجد كائنا من كان غير الحربي المستأمن فإنه يسترد منه إلا إذا قاطعه الإمام فإنه يؤدي إليه المشروط حكما للأمان
وهذا عندنا وعندالشافعي يجب في معادن الذهب والفضة ربع العشر
وفيما ينطبع غير الذهب والفضة الخمس فعلى أصل الشافعي يؤخذ بطريق الزكاة حتى قال النصاب شرط وعند بعضهم الحول شرط
وفي غير الذهب والفضة يحتاج إلى نية التجارة حتى يجب فيه الخمس
وعندنا يؤخذ بطريق الغنيمة فلا يشترط فيه شرائط الزكاة
ويحل دفع الخمس إلى الوالدين والمولودين وهم فقراء كما في الغنائم
ويجوز للواجد أن يصرف إلى نفسه إذا كان محتاجا ولا يكفيه الأربعة الأخماس
وعنده لا يجوز
والصحيح قولنا لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال العجماء جبار والقليب جبار وفي الركاز الخمس قيل يا رسول الله وما الركاز قال الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم خلق السماوات والأرض
ولأن المعدن كان في يد الكفرة وقد زالتأيديهم ولم تثبت يد المسلمين لأنهم لم يقصدوا الاستيلاء على الجبال والمفاوز فبقي ما تحتها على حكم ملك الكفار فيكون ملكا للمستولي بقوة نفسه بطريق مشروع فيجب الخمس كما في الكنز
فأما إذا كان معدن النورة وما لا ينطبع من الفصوص ونحوها
فإنه يثبت الملك فيه للواجد ولا يجب الخمس لأنها من أجزاء الأرض كالتراب والأحجار والفصوص أحجار مضيئة
وأما إذا كان معدن القير والنفط فلا شيء فيه ويكون للواجد لأن هذا ماء ولا يقصد بالاستيلاء فلم يكن في يد الكفار حتى يكون من الغنائم فلا يجب الخمس فيها
وأما إذا وجد المعدن في أرض مملوكة في دار الإسلام فإن الملك يكون لصاحب الأرض ولا يجب الخمس عند أبي حنيفة وكذلك في الدار والحانوت
وذكر في الجامع الصغير أنه يجب في الأرض ولا يجب في الدار
وعندهما يجب الخمس والأربعة الأخماس تكون لصاحب الملك لأن الإمام ملك الأرض بما فيها من المعدن فيصح في حق الأربعة الأخماس دون الخمس لأنه حق الفقراء
وأبو حنيفة يقول إن الإمام ملك الأرض مطلقا بجميع أجزائها وهذا من أجزائها والإمام لو قسم الغنائم وجعل الكل للغانمين إذا كانت حاجتهم لا تندفع بالأربعة الأخماس جاز وله هذه الولاية فكذا هذا
فأما إذا وجد المعدن في دار الحرب فإن وجد في أرض غير مملوكة فهي له ولا خمس فيه
وإن وجد في ملكهم فإن دخل بأمان رد عليهم وإن دخل بغير أمان يكون خالصا له من غير خمس كما في الكنز
وأما المستخرج من البحار كاللؤلؤ والمرجان والعنبر وغيرها فنقول قال أبو حنيفة و محمد لا يجب فيه الخمس
وقال أبو يوسف يجب
والصحيح قولهما لأن البحار لم تكن في يد الكفرة حتى يكون ما فيها ملكهم فيكون غنيمة
وأما الزئبق فعلى قول أبي حنيفة و محمد يجب
ولهما أن الزئبق ينطبع بالحيلة مع غيره وإن كان لا ينطبع بنفسه فيكون في معنى الرصاص فيجب فيه الخمس والله أعلم
باب صدقة الفطر
في الباب فصول منها بيان وجوب صدقة الفطر وبيان من تجب عليه وبيان من تجب عليه لأجل الغير وبيان قدر الواجب وصفته وبيان وقت الوجوب وبيان وقت الأداء وبيان مكان الأداء وما يتصل بهذه الجملة
أما الأول فنقول صدقة الفطر واجبة
عرف وجوبها بالأحاديث الصحيحة ومنها ما روي عنثعلبة بن صغير العذري وفي رواية العدوي أنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أدوا عن كل حر وعبد صغير وكبير نصف صاع من برأو صاعا من تمر أو صاعا من شعير
فأما بيان من يجب عليه فنقول إنما تجب على المسلم الحر الغني
فالإسلام شرط لأن فيها معنى العبادة ولهذا لا تجوز بدون النية ولا تتأدى بفعل الغير بغير إذنه أو بإذن الشرع لكونه نائبا عنه
وأما الغنى فهو شرط عندنا
وقال الشافعي ليس بشرط لكن القدرة شرط حتى إن من ملك زيادة على قوته نصف صاع من حنطة أو صاعا من شعير أو تمر تجب عليه
والصحيح قولنا لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال لا صدقة إلا عن ظهر غنى
وأما الحرية فهي شرط عندنا وعند الشافعي ليس بشرط حتى أن العبد عنده تجب عليه صدقة فطره ويتحمل عنه المولى حتى لو لم يؤد المولى عنه فعليه أن يؤدي بعد العتاق
وعندنا يجب على مولاه إذا كان غنيا والعبد للخدمة وهذا بناء على ما ذكرنا أن الغنى شرط عندنا والغني بالملك والعبد لا ملك له
وعند الشافعي ليس بشرط
وأما العقل والبلوغ فليسا بشرط الوجوب عند أبي حنيفة وأبي يوسف
وعند محمد وزفر شرط حتى إن الصبي والمجنون إذا كان لهمانصاب معين وليس للأب مال فإنه يجب صدقة الفطر عليهما
عندهما يؤدي الأب والوصي ولا ضمان عليهما إذا أديا
وعند محمد و زفر لا يجب لأن فيها معنى العبادة
وهما يقولان إن فيها معنى العبادة والمؤونة ولا يمكن الجمع بينهما في حالة واحدة في حق شخص واحد في حكم واحد فوجب اعتبار المؤونة في بعض الأحكام ومعنى العبادة في البعض عملا بالدلائل بقدر الإمكان فقالا بالوجوب اعتبارا بالمؤونة
وأما بيان من يجب عليه صدقة الفطر بسبب الغير فنقول كل من كان من أهل وجوب صدقة الفطر على نفسه وله ولاية كاملة على من كان من جنسه وتجب مؤونته ونفقته فإنه تجب عليه صدقة فطره
وإلا فلا لأنه إذا كان بهذه الصفة كان رأسه بمنزلة رأسه في الذب والنصرة فكما وجب عليه صدقة فطر رأسه تجب صدقة فطر ما هو في معنى رأسه
إذا ثبت هذا فنقول يجب على الأب صدقة فطر أولاده الصغار إذا كان غنيا ولا مال لهم لوجود الولاية والمؤونة بطريق الكمال
وكذا إذا كانوا مجانين لما قلنا
وإذا كان لهم مال يجب عليهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد وزفر على الأب الغني على ما مر
وأما الجد حال عدم الأب إذا كان غنيا هل تجب عليه صدقة فطر ابن ابنه على جواب ظاهر الرواية لا يجب لأنه ليس له ولاية مطلقة فإنه محجوب بالأب بمنزلة الإخوة الصغار الفقراء ولا تجبصدقة فطرهم على الأخ الغني الكبير لما قلنا
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه تجب لما قلنا
فإن كان حيا ولكنه فقير ولهم جد غني لا يجب على الجد في الروايات كلها لأنه لا ولاية له حال قيام الأب وإن كان يجب عليه المؤونة
وعند الشافعي يجب
ولا يجب على الوصي وإن كان له ولاية لأنه لا يجب عليه النفقة
وأما أولاده الكبار إذا كانوا فقراء زمنى فإنه لا يجب عليه صدقة فطرهم عندنا
وعند الشافعي يجب
وكذلك الأب الفقير لا يجب على الابن صدقة فطره وكذلك الزوجة خلافا للشافعي لأن عنده تنبني على المؤونة لا غير وعندنا على المؤونة والولاية جميعا ولا ولاية في حق هؤلاء وإن كان يجب النفقة
فأما الأب الفقير إذا كان مجنونا فإنه تجب صدقة فطره على ابنه لوجود الولاية والمؤونة جميعا
ولا يجب على الأب صدقة فطر الجنين لأنه ليس له ولاية كاملة عليه لأنه لا تعرف حياته
وعلى هذا يجب على المولى صدقة فطر عبيده وإمائه إذا كانوا للخدمة
وكذلك أمهات أولاده ومدبريه سواء كان عليهم دين أو لم يكن إذا كان المولى غنيا لما قلنا من اجتماع الولاية والمؤنة
فأما المكاتب والمكاتبة والمستسعي فلا يجب عليه صدقة فطرهم لأنه لا يجب عليه نفقتهم ولا تجب عليهم لأنه لا ملك لهم
وأما العبد إذا كان كافرا فإنه تجب على المولى صدقة فطره عندنا خلافا للشافعي لما قلنا من الولاية والنفقة
والعبد المشترك بين اثنين لا تجب صدقة فطره على الموليين لأنه ليس لكل واحد منهما ولاية كاملة
فإما إذا كانوا عبيدا بين رجلين فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجب عليهما صدقة فطرهم
وعند محمد إن كانوا بحال لو قسموا أصاب كل واحد منهما عبدا كاملا تجب عليه صدقة فطره
وهذا بناء على أصل أن العبد لا يقسم عند أبي حنيفة قسمة جمع فلا يكون لكل واحد منهما عبد كامل وعند محمد يقسم قسمة جمع فيكون لكل واحد منهما عبد كامل من حيث المعنى وأبو يوسف يرى القسمة لكن قبل القسمة لم يكن لكل واحد منهما ولاية كاملة
وأما مقدار الواجب فنقول نصف صاع من حنطة أو صاع من شعير أو تمر عندنا
وقال الشافعي من البر صاع أيضا وروى حديثا لكنه غريب فلا يقبل بمقابلة ما روينا وهو مشهور
وأما الزبيب فقد ذكر في الجامع الصغير عن أبي حنيفة نصف صاع لأن الغالب أن قيمته مثل قيمة البر في ديارهم
وروى الحسن عن أبي حنيفة صاعا وهو قول أبي يوسف ومحمد لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال كنا نخرج زكاة الفطر على عهدرسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من زبيب وكان طعامنا الشعير
وقد قال أصحابنا إن دقيق الحنطة والشعير وسويقهما مثلهما لما روي في الحديث أدوا مدين من قمح أو دقيق
وأما الإقط فيعتبر فيه القيمة عندنا خلافا لمالك
وما سوى ذلك فيعتبر قيمته بقيمة الأشياء المنصوص عليها بأن أدى الدراهم أو العروض والثمار ونحوها
ولو أدى بعض المنصوص عليه وقيمته تبلغ قيمة كله بأن أدى ربع صاع من حنطة جيدة مكان النصف أو نصف صاع من شعير جيد مكان صاع من شعير لا يجوز عن الكل بل يقع عن نفسه وعليه تكميل الباقي لأن الجودة لا قيمة لها في أموال الربا
وفي الزكاة لو أدى شاة سمينة مكان شاتين جاز لأن الجودة فيها متقومة
فبقدر الشاة الوسط تجزىء عن الشاة وقيمة الجودة عن الأخرى
ثم مقدار الصاع ثمانية أرطال عندنا
وقال أبو يوسف والشافعي خمسة أرطال وثلث رطل لأن صاع أهل المدينة كذلك وتوارثوه خلفا عن سلف
لكنا نقول ما ذكرنا صاع عمر ومالك من فقهاء المدينة قال إن صاع المدينة أخرجه عبد الملك بن مروان فأما قبله كان ثمانية أرطال فكان العمل بصاع عمر أولى
ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر الصاع وزنا وهو ثمانية أرطال
وروى ابن رستم عن محمد أنه يعتبر كيلا حتى لو أدى أربعة أمناء من غير كيل لا يجوز
وأما وقت الوجوبفعند أصحابنا وقت الفجر الثاني من يوم الفطر
وعلى قول الشافعي ليلة الفطر
وفائدة الخلاف أن من ولد له ولد قبل طلوع الفجر تجب عليه صدقة فطره ومن ولد له بعد ذلك لا تجب ولو أسلم قبله تجب عليه وبعده لا وكذلك الفقير إذا أيسر قبله تجب ولو افتقر الغني قبله لا تجب
وعند الشافعي على عكس هذا
والصحيح قولنا لأنه تضاف الصدقة إلى الفطر وهو يوم العيد
ولو عجل صدقة الفطر على يوم الفطر ذكرالكرخيأنه إذا عجل بيوم أو يومين جاز ولم يذكر أنه لو عجل بأكثر من ذلك هل يجوز
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز التعجيل بسنة وسنتين وعن خلف بن أيوب أنه يجوز التعجيل بشهر لا غير
وعن الحسنأنه قال لا يجوز التعجيل ولا يجوز دون يوم الفطر ولو لم يؤد يوم الفطر تسقط عنه
والصحيح رواية الحسن بن زياد لأن سبب الوجوب هو رأس يمونه لولايته عليه والوقت شرط الوجوب والتعجيل بعد سبب الوجوب جائز كما في الزكاة
وأما وقت الأداءفهو يوم الفطر من أوله إلى آخره ثم بعده يسقط الأداء ويجب القضاء عند بعض أصحابنا
وعند بعضهم وهو الأصح أنها تجب وجوبا موسعا لكن المستحب أن يؤدي قبل الخروج إلى المصلى حتى لا يحتاج الفقير إلى الكسب والسؤال يوم العيد فيتمكن من أداء صلاة العيد فارغ القلب عن القوت على ما قال عليه السلام اغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم
وأما مكان الأداءروي عن محمد أنه قال زكاة المال من حيث المال وصدقة الفطر عن نفسه وعبيده من حيث هو
وروي عن أبي يوسف أنه يؤدي عن نفسه من حيث هو وعن عبيدة من حيث هم
والأول أصح لأن صدقة الفطر لا تعلق لها بالمال حتى إذا هلك المال بعد الوجوب لا تسقط الفطرة بخلاف الزكاة والله أعلم
كتاب الصوم
اعلم أن الصوم نوعان لغوي وشرعي فاللغوي هو الإمساك عن أي شيء كان من الكلام والطعام والشراب والجماع والعلف وغيرها قال الله تعالى { إني نذرت للرحمن صوما } أي صمتا وقال النابغة خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما والصوم الشرعي هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع قال الله تعالى { فالآن باشروهن وابتغوا } إلى أن قال { ثم أتموا الصيام إلى الليل } أمسكوا عن هذه الأشياء
ثم الصوم الشرعي أربعة عشر نوعا ثمانية منها مذكورة في كتاب الله تعالى أربعة منها متتابعة وهي صوم رمضان وصوم كفارة الظهار وصوم كفارة القتل وصوم كفارة اليمين وأربعة منها صاحبها بالخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق وهي قضاء صوم رمضان وصوم المتعة وصوم جزاء الصيد وصوم كفارة الحلق
وستة مذكورة في السنة وهي صوم كفارة الفطر في شهر رمضانعمدا وصوم النذر وصوم التطوع والصوم الواجب باليمين بقول الرجل والله لأصومن شهرا وصوم الاعتكاف وصوم قضاء التطوع بالإفطار
وهذا قول عامة العلماء
وقد خالف الشافعي في هذه الجملة في ثلاثة مواضع أحدها قال إن صوم كفارة اليمين ليس بمتتابع
والثاني قال إن صوم الاعتكاف ليس بواجب
والثالث قال لا يجب قضاء صوم التطوع
ثم للصوم أركان وشروط وسنن وآداب
فنبدأ بالشروط فنقول للصوم شروط بعضها للوجوب وبعضها شرط صحة الأداء
فمنها الوقت وهو شرط الوجوب في حق الصوم الواجب وشرط الأداء في حق الصيامات كلها
وهو اليوم من وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس قال الله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل }
ثم الصوم نوعان فرض وتطوع
فوقت التطوع هو الأيام كلها لكن الصوم في بعض الأيام مكروه وفي بعضها مستحب وفي بعضها سنة حتى لو صام في الأيام المنهي عنها فإنه يقع جائزا حتى لا يجب عليه القضاء
أما الصوم المكروه فأنواعمنها صوم ستة أيام في كل سنة صوم يوم النحر وصوم أيام التشريق ويوم الفطر ويوم الشك بنية رمضان أو بنية مترددة بأن نوى الصوم عن رمضان إن كان من رمضان وإن لم يكن فعن التطوع وهذا مكروه قال النبي عليه السلام من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم وقد قام الدليل على أن الصوم فيه عن واجب آخر أو عن التطوع مطلقا لا يكره ثبت أن المكروه ما قلنا
وإنما لا يكره عن مطلق التطوع على وجه لا يعلم العوام ذلك كيلا يعتادوا الصوم فيه فيظنه الجهال زيادة على رمضان
وكذا صوم الصمت مكروه في الأوقات كلها بأن يصوم ويمسك عن الكلام والطعام جميعا لأن هذا تشبه بالمجوس فإنهم يفعلون هكذا
وكذا صوم يوم السبت مفردا مكروه لأن هذا تشبه باليهود
وكذا صوم يوم عاشوراء مفردا مكروه عند بعض أصحابنا لأنه تشبه باليهود
وأما صوم يوم عرفة في حق الحاج فإن كان يضعفه عن الوقوف بعرفة ويخل بالدعوات فإن المستحب له أن يترك الصوم لأن صوم يوم عرفة يوجد في غير هذه السنة فأما الوقوف بعرفة فيكون في حق عامة الناس في سنة واحدة وأما إذا كان لا يخالف الضعف فلا بأس به
وأما في حق غير الحاج فهو مستحب لأن له فضيلة على عامة الأيام
والصوم قبل رمضان بيوم ويمين مكروه أي صوم كان لقوله عليه السلام لا تتقدموا الشهر بصوم يوم ولا بصوم يومين إلا أن يوافق صوما كان يصومه أحدكم وإنما كره خوفا من أن يظن أنه زيادة على صوم رمضان إذا اعتادوا ذلك ولهذا قال أبو يوسف إنه يكره أن يوصلبرمضان صوم شوال ستة أيام تطوعا وروي عن مالك أنه قال يكره ذلك وما رأيت أحدا من أهل العلم والفقه يصوم ذلك ولم يبلغنا من السلف وكانوا يكرهون ذلك لما ذكرنا
وكذلك يكره صوم الوصال وهو أن يصام في كل يوم دون ليلته وهو صوم الدهر الذي ورد النهي عنه لقوله عليه السلام لا صيام لمن صام الدهر
ومعنى الكراهة أنه يضعف عن أداء العبادات وعن الكسب الذي يحتاج إليه في الجملة ولهذا أشار النبي عليه السلام لما نهى عن صوم الوصال فقيل له إنك تواصل فقال إني لست كأحدكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني
وأما صوم يوم الاثنين وحده وكذا صوم يوم الخميس وحده وكذا صوم يوم الجمعة وحده فإنه لا يكره وقال بعضهم يكره لأنه خص هذه الأيام من بين سائرها
وعامة العلماء قالوا بل هو مستحب لأن لهذه الأيام فضيلة فكان تعظيمها بالصوم مستحبا وإنما يكره إذا كان فيه تشبه بغير أهل القبلة ولم يوجد في هذه الصيامات
وأما صوم وإفطار يوم فهو مستحب على ما روي أنه صوم داود عليه السلام كان يفطر يوما ويصوم يوما
وصوم الأيام البيض مستحب وسنة لكثرة الأحاديث فيه
وأما صوم الفرض فنوعان عين ودين فالعين هو صوم رمضان
وصوم الدين هو سائر الصيامات من قضاء رمضان والكفارات والنذور المطلقة ونحوها فسائر الأيام وقت لها سوى خمسة أيام يومالنحر وأيام التشريق ويوم الفطر لأن صوم هذه الأيام ناقص والواجب عليه صوم كامل فلا يتأدى بالناقص
وصوم المتعة لا يجوز عندنا في هذه الأيام
وعند الشافعي يجوز في أيام التشريق دون يوم النحر
والنذر بالصوم في هذه الأيام جائز عندنا خلافا لزفر والشافعي لأنه وجب ناقصا فيجوز أن يتأدى ناقصا
ولو شرع في الصوم في هذه الأيام ففي ظاهر الرواية لا يلزم بالشروع
وروي عن أبي يوسف ومحمد أنه يلزم
والصحيح ظاهر الرواية لأن صاحب الحق وهو الله تعالى أمره بالإفطار بعد الشروع ومن أتلف حق غيره بإذنه لا يجب عليه الضمان
وفي الشروع في الأوقات المكروهة في الصلاة عن أبي حنيفة روايتان وأشهرهما أنه يلزمه القضاء بخلاف الصوم والفرق معروف
وأما صوم رمضان فوقته رمضان
وإنما يعرف برؤية الهلال إن كانت السماء مصحية
وإن كانت متغيمة فإنه يكمل شعبان ثلاثين يوما ثم يصوم عن رمضان لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما ثم صوموا
فإذا كانت السماء مصحية ورأى الناس الهلال فإنه يجب عليهم الصوم
وأما إذا رأى واحد وشهد عند القاضي فإن القاضي لا يقبل شهادةالواحد والاثنين ما لم يدخل في حد التواتر بأن شهد جماعة كبيرة من محال مختلفة
هذا إذا كان الشهود من المصر
وإن كانوا من خارج المصر ذكر الطحاوي وقال يقبل خبر الواحد لأن المطالع مختلفة في حق الظهور لصفاء الهواء في خارج المصر
وفي ظاهر الرواية لم يفصل لأن المطالع لا تختلف إلا عند المسافة البعيدة الفاحشة
وإن كانت السماء متغيمة فإنه يقبل خبر الواحدة العدل ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو عبدا محدودا في القذف أو لا بعد ما تاب وصار عدلا لأن هذا من باب الإخبار دون الشهادة يلزم الشاهد الصوم فيتعدى إلى غيره لكنه من باب الدين فيشترط فيه العدالة
ولو رد القاضي شهادة الواحد لتهمة الفسق إذا كانت السماء متغيمة أو لتفرده إذا كانت السماء مصحية وإن كان عدلا فإنه يجب عليه أن يصوم ذلك اليوم
ولو أفطر بالجماع لا يلزمه الكفارة عندنا خلافا للشافعي وهي مسألة معروفة
وأما هلال شوال فلا يقبل إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين لأن هذا من باب الشهادة لما فيه من نفع للشاهد وهو سقوط الصوم عنه
وأما هلال ذي الحجة فقد قالوا يشترط شهادة رجلين لأنه يتعلق به حكم شرعي وهو وجوب الأضحية
والصحيح أنه يقبل فيه شهادة الواحد لأن هذا من باب الخبر فإنه يلزم المخبر ثم يتعدى إلى غيره
وهذا إذا كانت السماء متغيمة
فإن كانت مصحية فلا يقبل إلا التواتر كما ذكرنا في رمضان
ولو رأوا الهلال قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المستقبلة عند أبي حنيفة ومحمد
وقال أبو يوسف إذا كان قبل الزوال أو بعده إلى وقت المصر فهو لليلة الماضية أما إذا كان بعد العصر فهو لليلة المستقبلة بلا خلاف
وفيه خلاف بين الصحابة فقد روي عن عمروابن مسعود وأنس مثل قولهما وروي عن عمر في رواية أخرى وهو قول علي وعائشة مثل قول أبي يوسف
ومن الشروط النية وهي شرط صحة الأداء لأن الصوم عبادة فلا تصح بدونه النية ثم الكلام في كيفية النية وفي وقت النية
أما كيفية النية فينظر إن كان الصوم عينا يكفيه نية مطلق الصوم حتى لو صام رمضان بنية مطلق الصوم يقع على رمضان
وكذا في صوم التطوع إذا صام مطلقا خارج رمضان يقع عن النفل لأن الوقت متعين للنفل شرعا
وكذا في النذر إذا كان الوقت معينا بأن نذر صوم شهر رجب ونحوه إذا صام مطلقا فيه يقع عن المنذور
وهذا عندنا
وعندالشافعي صوم الفرض والواجب لا يصح بدون نية الفرض والواجب وأما التطوع فيصح بمطلق النية
والصحيح قولنا لأن مطلق النية كاف لصيرورة العمل لله تعالى وإنما يعتبر الوصف لتعيين الوقت لذلك الصوم فإذا كان الوقت متعينا فلا حاجة إلى التعيين
وأما إذا صام بنية التطوع في رمضان أو في النذر الذي تعين وقته فإنه يقع عن الفرض وتلغو نية التطوع عندنا خلافا للشافعي لأن الوقت قابل لأصل الصوم غير قابل لوصفه فبطلت نية الوصف وتعتبر نية الأصل وهي كافية لصيرورة العمل لله تعالى
ولو صام بنية واجب آخر من القضاء والنذورة والكفارات في رمضان يقع عن رمضان أيضا عندنا خلافا له
ولو كان ذلك في النذر المعين يقع عما نوى لأن صوم رمضان تعين بتعيين الشرع فظهر التعيين مطلقا لكمال الولاية فظهر في حق نسخ سائر الصيامات وأما في النذر فقد تعين بولاية قاصرة فيظهر تعيينه في حقه وهو صوم التطوع ولا يظهر في الواجبات التي هي حق الله تعالى في هذه الأوقات فبقيت الأوقات محلا لها
هذا الذي ذكرنا في حق المقيم
فأما في حق المسافر فإن صام مطلقا يقع عن رمضان
وإن صام بنية واجب آخر يقع عما نوى عند أبي حنيفة وعندهما يقع عن رمضان وإن صام بنية التطوع فعن أبي حنيفة روايتان
وأما المريض فإذا صام مطلقا يقع عن رمضان وإذا صام بنية التطوع قال مشايخنا بأنه يقع عن الفرض بخلاف المسافر لأنه إذا قدر على الصوم صار كالصحيح وذكر الكرخي ههنا وسوى بين المريض والمسافر
وكذا روي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقع عن التطوع
وأما صوم الدين من القضاء والنذور المطلقة والكفارات إذا نوى خارج رمضان مطلقا ولم ينو صوم القضاء أو الكفارة فإنه لا يقع عنه لأن خارج رمضان متعين للنفل عند بعض مشايخنا وعند بعضهم هو وقت الصيامات كلها على الإبهام وإنما يتعين بالتعيين فكانت نية الوصف لتعيين الوقت لا لتصير عبادة
وأما وقت النية فالأفضل أن ينوي من الليل أو مقارنا لطلوع الفجر في الصيامات كلها
فأما إذا نوى بعد طلوع الفجر فإن كان الصوم دينا فلا يجوز بالإجماع وإن كان الصوم عينا فيجوز عندنا سواء كان فرضا أو نذرا أو تطوعا
وقال الشافعي لا يجوز إلا في التطوع
وقال مالك لا يجوز في التطوع أيضا
ولو صام بنية بعد الزوال في التطوع لا يجوز عندنا خلافا للشافعي وبعض أصحابه قالوا لا يجوز
والصحيح قولنا لأنه ما وجد الإمساك لله تعالى في وقت الغداء ووقت الغداء من وقت طلوع الفجر إلى وقت الزوال يختلف باختلاف أحوال الناس والصوم هو الإمساك عن الغداء وتأخير العشاء إلى الليل وبعد الزوال لا يجوز لأنه لم يوجد الإمساك عن الغداء لله تعالى
فأما في صوم الدين فلا يجوز لأنه إذا لم ينو من الليل تعين اليوم وقتا للتطوع شرعا فلا يملك تغييره وفي الليل لم يتعين فصح منه تعيين المحتلم بالنية فهو الفرق بينهما
ومن الشروط الطهارة عن الحيض والنفاس وهو شرط صحة الأداء لا شرط الوجوب فإن صوم رمضان يجبعلى الحائض والنفساء حتى يجب القضاء عليهما خارج رمضان لكن لا يصح الأداء لأن الطهارة عن الحيض والنفاس شرط صحة الصوم كما أن الطهارة عن جميع الأحداث شرط صحة الصلاة
عرفنا ذلك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم
وأما الإسلام فهو شرط وجوب الصوم وسائر العبادات عندنا خلافا للشافعي
وهو شرط صحة الأداء بلا خلاف
ولقب المسألة أن الكفار غير مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا خلافا له
وأما العقل فليس بشرط الوجوب ولا بشرط الأداء حتى قلنا إن صوم رمضان يجب على المجنون فإنه إذا جن في بعض الشهر ثم أفاق يلزمه القضاء عندنا خلافا للشافعي
ولو استوعب الشهر ثم أفاق لا يلزمه القضاء لأن في وجوب القضاء عليه حرجا لأن الجنون الطويل قلما يزول فيضاعف عليه القضاء فيحرج
وعلى هذا قلنا إن الإغماء
قل أو كثر لا يمنع وجوب القضاء وكذا المرض لأن الاستغراق في الإغماء نادر
وكذا قلنا إن الحيض لا يمنع وجوب قضاء الصوم ويمنع وجوب قضاء الصلاة لأنه ليس في وجوب قضاء صوم عشرة أيام في سنة حرج وفي قضاء عشرة أيام كل يوم خمس صلوات في شهر واحد حرج فافترقا
ولو كان مفيقا فنوى الصوم من الليل ثم جن فإنه يجوز صومه ذلك اليوم لأنه وجد منه النية من الليل فصار كوجودها في النهار
ولا يجوز صومه اليوم الثاني وإن أمسك لأنه لم يوجد منه النية لأن المجنون ليس من أهل النية
فأما البلوغ فشرط الوجوب وليس بشرط الأداء
وعلى هذا لا يجب الصوم على الصبي لأن في وجوب القضاء عليه ومدة الصبا مدة طويلة إيقاعه في الحرج
وإذا كان عاقلا يصح منه الصوم لأنه من أهل النية والاختيار حتى صح منه الإسلام لكن لا يجب عليه الصوم لأن الشرع أسقط حقوقه عنه نظرا له لقصور عقله
وأما ركن الصوم فهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع قال الله تعالى { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } أباح هذه الجملة في الليالي ثم أمر بالإمساك عن هذه الجملة في النهار فمتى وجد الركن مع وجود ما ذكرنا من الشرائط من الأهلية والوقت وغير ذلك يكون صوما شرعيا فيجب عليه عبادة الله تعالى
إذا ثبت هذا فنقول من شرع في الصوم في وقته ونوى الإمساك لله تعالى انعقد فعله صوما شرعيا فيجب عليه الإتمام ويحرم عليه الإفطار سواء كان في صوم الفرض أو في التطوع لأنه إبطال العمل لله تعالى وأنه منهي عنه لقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم }
وعند الشافعي في صوم التطوع لا يجب عليه الإتمام لأنه غير مقدر عنده فيكون ما أدى عبادة بنفسه
فأما إذا شرع في الصوم على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه فالأفضل له أن يمضي فيه ولا يفطر ولو أفطر لا قضاء عليه وهذا عندنا
وعلى قول زفر يجب عليه المضي والقضاء إذا أفسده
وفي الحج يلزمه بالشروع تطوعا سواء كان معلوما أو مظنونا والفرق بينهما أن الظن في باب الحج نادر وفي باب الصوم والصلاة ليس بنادر فكان في إيجاب المعنى والقضاء حرج لكثرة وجوده ههنا بخلاف الحج
وإذا ثبت أن ركن الصوم ما ذكرنا ففواته وفساده بوجود ضده وهو الأكل والشرب والجماع لأنه لا بقاء للشيء مع ضده
وهذا هو القياس المحض ولهذا إن من أكل أو شرب أو جامع ناسيا لصومه فإنه يفسد صومه قياسا وهو قول مالك
وعامة العلماء قالوا لا يفسد استحسانا للأثر المعروف في باب الناس تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك
ولهذا قال أبو حنيفة لولا قول الناس لقلت يقضي ذكر ذلك في الجامع الصغير أي لولا قول الناس إنه خالف الأثر لقلت يقضي
وبعض السلف فرق بين الأكل والشرب وبين الجماع ناسيا وقال يفسد صومه في الجماع لأن الحديث ورد في الأكل والشرب دون الجماع
والصحيح أنه لا فرق بينهما لأن الحديث معلول بمعنى يقتضي التسوية بينهما وهو أنه فعل سماوي غير مضاف إليه حيث قالفإنما أطعمك الله وسقاك فكان وجوده كعدمه
ولو دخل الذباب حلقه وهو ذاكر لصومه لا يفسد لأنه مغلوب فيه فيكون بمعنى الناسي
وكذلك لو نظر إلى فرج امرأة شهوة فأمنى أو تفكر فأمنى لا يفسد صومه لأنه حصل الإنزال لا بصنعه فلا يكون شبيه الجماع لا صورة ولا معنى
وكذلك لو دخل الغبار أو دخل الدخان أو الرائحة في حلقه لأنه لا يمكنه الامتناع عنه فيكون في معنى الناس
وكذلك لو بقي بلل بعد المضمضة وابتلعه مع البزاق أو ابتلع البزاق الذي اجتمع في فيه لا يفسد صومه لما قلنا
ولو بقي بين أسنانه شيء فابتلعه ذكر في الجامع الصغير وقال لا يفسد صومه ولم يقدره بشيء
وعن أبي يوسف أن الصائم إذا كان بين أسنانه لحم فابتلعه متعمدا فعليه القضاء دون الكفارة
وعن بن أبي مالك ما هو توفيق بين الروايتين قال إن كان مقدار الحمصة أو أكثر فإنه يفسد صومه
ولو أكله متعمدا فعليه القضاء وليس عليه الكفارة وإن كان أقل من ذلك لا يفسد صومه لأنه لا يمكنه الاحتراز عنه كالريق
وقال زفر يلزمه الكفارة لأنه من جنس ما يتعلق به الكفارة إلا أنه متغير فصار كاللحم المنتن
والصحيح قولنا إنه لا كفارة عليه لأنه غير مقصود بالأكل فصارشبهة كما إذا أكل الطين
ولو أكره على الإفطار فأكل يفسد صومه لأنه وجد ما يضاده وهذا ليس بنظير الناسي لأن الإكراه على الإفطار ليس بغالب فلا يكون في وجوب القضاء حرج
فأما إذا أوجد في حلقة وهو مكروه ذاكر للصوم يفسد صومه عندنا وعند الشافعي لا يفسد صومه لأنه أعذر من الناسي
ولكنا نقول إن هذا نادر وليس بغالب
وكذلك الصائم إذا فتح فاه ورفع رأسه إلى السماء فوقع قطرة من المطر في حلقه يفسد صومه لأنه نادر
وكذلك إذا وجد في حلق النائم يفسد صومه لأنه نادر
وكذلك لو جومعت النائمة أو المجنون يفسد صومها بخلاف الناسية والناسي لأن هذا ليس في معناهما لأنه لا يكثر وجوده خصوصا في حالة الصوم
ولو تمضمض فوصل الماء إلى حلقه فإن لم يكن ذاكرا للصوم لا يفسد صومه لأنه في معنى الناسي وإن كان ذاكرا لصومه يفسد صومه عندنا
وعند الشافعي لا يفسد لأنه خاطىء والخاطىء معذور كالناسي
ونحن نقول بأنه ليس كالناسي لأنه يمكنه أن لا يبالغ في المضمضة فلا يعذر
ثم اعلم أن فساد الصوم يتعلق به أحكام من وجوب القضاء ووجوب الكفارة ووجوب إمساك بقية اليوم ونحوها
أما وجوب القضاء فيتعلق بمطلق الإفساد سواء كان بعذر أو بغير عذر وجد الإفساد من حيث الصورة أو من حيث المعنى فيه شبهة الإباحة أو حرام من كل وجه وذلك بوصول شيء من الخارج إلى الجوف
بيانه أن من أكل حصاة أو نواة أو ترابا يفسد صومه وعليه القضاء لوجود الأكل صورة لا من حيث المعنى فإنه لم يحصل به قوام البدن ودفع الجوع والعطش
وكذلك لو طعن برمح ووقع الرمح فيه يفسد صومه لدخول شيء من الخارج إلى الجوف فوجد الأكل صورة ولا معنى
فأما إذا طعن برمح ثم أخرجه من ساعته لا يفسد صومه لأنه لم يستقر في محل الطعام
ولهذا قالوا إن من ابتلع لحما مربوطا على خيط ثم انتزع من ساعته لا يفسد صومه لأنه لم يستقر في محله حتى يعمل عمله في دفع الجوع
ولو وصل إلى جوف الرأس بالإقطار في الأذن أو السعوط أو إلى البطن بالاحتقان يفسد صومه لأنه يصل إلى جوفه بالحقنة وكذا بالسعوط والإقطار في الأذن لأن جوف الرأس له منفذ إلى البطن
وأما في الإقطار من الإحليل فلا يفسد الصوم عند أبي حنيفة وعندهما يفسد وهذا ليس بخلاف من حيث الحقيقة لأنه لو وصل إلى الجوف يفسد بالإجماع ولو لم يصل لا يفسد بالإجماع إلا أنهما أخذا بالظاهر فإن البول يخرج منه فيكون له منفذ وأبو حنيفة يقول ليس له منفذ وإنما البول يترشح منه كما يترشح الماء من الكوز الجديد والبوليدفع ما أقطر في الإحليل من الترشح إلى الجوف
وروى الحسن عن أبي حنيفة مثل قولهما
وهو الصحيح
وأما الجائفة والأمة إذا داووهما فإن كان الدواء يابسا فلا يفسد لأنه لا يصل إلى الجوف
وأما إذا كان رطبا فيفسد عند أبي حنيفة وعندهما لا يفسد
فأبو حنيفة اعتبر ظاهر الوصول بوصول المغذي إلى الجوف حقيقة
وهما يعتبران الوصول بالمخارق الأصلي لا غير ويقولان في المخارق الأصلية يتيقن الوصول فأما في المخارق العارض فيحتمل الوصول إلى الجوف ويحتمل الوصول إلى موضع آخر لا إلى محل الغذاء والدواء فلا يفسد الصوم مع الشك والاحتمال وأبو حنيفة يقول الوصول إلى الجوف ثابت ظاهرا فكفى لوجوب القضاء احتياطا
وعلى هذا إذا ذرعه القيء بغير فعله لا يفسد صومه وإن كان ملء الفم لقوله عليه السلام ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام
وإن عاد شيء من القيء إلى جوفه
فإن كان أقل من ملء الفم لا يفسد صومه بالإجماع
وإن كان ملء الفم ذكر القدوري أن على قول أبي حنيفة ومحمد يفسد صومه وعلى قول أبي يوسف لا يفسد
وقال بعض مشايخنا في هذا الفصل على قول أبي يوسف لا يفسد
وعلى قول محمد لا يفسد ولم يذكر قول أبي حنيفة
وما ذكره القدوري أثبت
فأما إذا أعاده فإن كان ملء الفم يفسد صومه بالإجماع
فأما إذا كان أقل من ملء الفم فعن أبي حنيفة وأبي يوسف روايتان
وقال محمد ينقض صومه
فأما إذا استقاء عمدا وأخرج بصنعه فإن كان ملء الفم ينتقض صومه بالإجماع
وإن كان أقل من ملء الفم ذكر في ظاهر الرواية وقال إذا تقيأ عمدا يفسد صومه ولم يفصل بين القليل والكثير
وذكر الكرخي ههنا أنه إذا تقيأ عمدا وهو أقل من ملء الفم فطره وهو قول محمد
وروى الحسن عن أبي حنيفة إن كان ملء الفم يفطره وإن كان ما دونه لا يفطره
وهكذا روي عن أبي يوسف
فأما إذا عاد أو أعاد فعلى قول محمد لا يجيء هذا التفصيل لأن الصوم عنده فسد بنفس الاستقساء
وعلى قول أبي يوسف إن عاد لا يفسد وفي الإعادة عنه روايتان
وهذا كله إذا كان ذاكرا للصوم
وإن لم يكن ذاكرا لا يفسد صومه كالناسي
ولو جامع امرأته فيما دون الفرج فأنزل يفسد صومه لوجودالجماع من حيث المعنى دون الصورة
ولو باشرها وأنزل يفسد أيضا لوجود اقتضاء الشهوة بفعله
وكذلك لو استمنى بالكف فأنزل فإنه يفسد لأنه اقتضى شهوته بفعله
ولو جامع البهيمة فأنزل يفسد صومه ولا يلزمه الكفارة لأنه وجد الجماع من حيث الصورة والمعنى وعلى وجه القصور لسعة المحل فلا يكون نظيرا للجماع في قبل المرأة
ولو أولج في البهيم ولم ينزل لا يفسد بخلاف الإيلاج في الآدمي وقيل يفسد كما في الإيلاج في الآدمي
وكذلك الإفطار إذا كان بعذر يوجب القضاء
والأعذار التي تبيح الإفطار للصائم ستة السفر والمرض الذي يزداد بالصوم أو يقضي إلى الهلاك وحبل المرأة وإرضاعها إذا أضر بها أو بولدها والعطاش الشديد والجوع الذي يخاف منه الهلاك
والشيخ الفاني إذا كان لا يقدر على الصوم
وأصله قوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }
ثم السفر المبيح للفطر هو السفر المبيح للقصر وهو مسيرة ثلاثة أيام ولياليها سير الإبل ومشي الأقدام
ويستوي الجواب بين أن يسافر قبل رمضان وبين أن يسافر بعد دخول رمضان
سافر بعدما أهل في الحضر هلال رمضان
والصحيح قول عامة الصحابة وعامة العلماء لأن النص مطلق وهو قوله تعالى { أو على سفر } وكذلك الداعي إلى الرخصة وهو المشقة عام شاملوروي عن علي وعبد الله بن عباس أنهما كانا لا يبيحان الفطر إذا للحالين جميعا
ولكن الصوم في رمضان جائز في السفر عند عامة العلماء وهو مختلف بين الصحابة عند بعضهم يجوز وعند بعضهم لا يجوز والإجماع المتأخر يرفع الخلاف المتقدم
واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الإفطار فعندنا الصوم أفضل لأنه عزيمة والإفطار رخصة إذا لم يلحقه مشقة
وعند الشافعي الفطر أفضل لأنه عزيمة والصوم رخصة عنده
وروي عن حذيفة بن اليمان وعروة بن الزبير وعائشة رضي الله عنهم مثل مذهبنا
وعن ابن عباس مثل مذهبه
والصحيح مذهبنا لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه
ومن أفطر لشيء من العذر ثم زال العذر فعليه القضاء بعدد الأيام التي يزول عنه العذر فيها
وليس عليه قضاء ما لم يزل العذر عنه فيها حتى إن المسافر إذا مات في السفر والمريض قبل البرء لا يجب عليهما القضاء لأن العاجز لا يكلف وإن أدركا بعدد ما فاتهما يلزمهما القضاء وإذا ماتا قبل القضاء يجب عليهما الفدية
والفدية أن يطعم لكل يوم مسكينا بقدر ما يجب في صدقة الفطر
لكن إن أوصى يؤدي الوصي من ثلث ماله وإن لم يوص وتبرع الورثة جاز وإن لم يتبرعوا لا يلزمهم الأداء بل يسقط في حكم الدنيا
وهذا عندنا خلافا للشافعي لما ذكرنا من الزكاة إذا مات من عليه الزكاة من غير وصية بالأداء
وأما إذا صح المريض أياما ثم مات يلزمه القضاء بعدد ما صح ولا يلزمه قضاء جميع ما فاته في قول أصحابنا جميعا
وذكر الطحاوي هذه المسألة على الاختلاف فقال عند أبي حنيفة وأبي يوسف يلزمه قضاء الجميع إذا صح يوما واحدا
وقال محمد يلزمه بقدر ما أدرك
وهذا غلط وإنما نقل الطحاوي جواب
مسألة النذر
وترك جواب هذه المسألة وتلك المسألة أن المريض إذا قال لله علي أن أصوم شهرا فإن مات قبل أن يصح لم يلزمه شيء وإن صح يوما واحد لزم أن يوصي بالإطعام لجميع الشهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد لا يلزمه إلا مقدار ما صح فمحمد قاس إيجاب العبد بإيجاب الله تعالى وفي إيجاب الله تعالى لا يلزمه لا بقدر ما صح فكذا في النذر
وهما فرقا بينهما وبين الأمرين فرق ألا ترى أن من قال لله علي أن أحج ألف حجة يلزمه وإن لم يكن في وسعه عادة والله تعالى ما أوجب إلا حجة واحدة
وأما الكلام في وجوب الكفارة فإنها تتعلق بالإفطار الكامل صورة ومعنى في رمضان مع وجود صفة العمدية وكونه حراما محضا ليس فيه شبهة الإباحة بأن أفطر متعمدا ولا يباح له الإفطار بعذر ولا له شبهة الإباحة
بيان ذلكإذا جامع الصحيح المقيم عمدا في شهر رمضان فإنه يلزمه الكفارة
بحديث الأعرابي أنه قال هلكت وأهلكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا صنعت فقال واقعت امرأتي في شهر رمضان وأنا صائم فقال له عليه السلام اعتق رقبة
وأما المرأة التي تجامع يلزمها الكفارة عندنا
و للشافعيقولان في قول لا يلزمها الكفارة لأن النص ورد في الرجل دون المرأة
وفي قول تجب ويتحملها الرجل لأنه وجب عليها بسبب فعله
والصحيح قولنا لأن الحكم تعلق بالجماع الحرام المفسد للصوم وقد وجد منها ولهذا في باب الزنى يجب على كل واحد منهما الحد لاستوائهما في الزنى فكذا هذا
وأما في الأكل والشرب عمدا فتجب الكفارة عندنا
وعند الشافعي لا تجب لأن النص ورد في الجماع بخلاف القياس فلا يقاس عليه غيره
وقلنا إنها تجب معقول المعنى وهو تكفير جناية إفساد الصوم من كل وجه وهذا المعنى موجود في الأكل والشرب لأن الصوم هو الإمساك عن الأكل والجماع فكان الإفساد بأحدهما نظير الإفساد بالآخر وإذا استويا في الإفساد فاستويا في الإثم فيجب أن يستويا في وجوب الرافع للإثم
ولو أولج ولم ينزل تجب الكفارة لأن الإيلاج هو الجماع فأما الإنزال حالة الفراغ فلا عبرة به
ولو أنزل فيما دون الفرج لا يجب الكفارة لأنه وجد الجماع معنى لا صورة وفي المعنى قصور فكان دون الجماع في الجناية
ولو جامع البهيمة وأنزل لا تجب الكفارة لأنه قاصر من حيث المعنى لسعة المحل ونحوها
وأما إذا جامع في الموضع المكروه عمدا فعلى قول أبي يوسف ومحمد تجب الكفارة لأنه ملحق بالزنى عندهما في حق وجوب الحد ففي حق وجوب الكفارة أولى
وعن أبي حنيفة روايتان في رواية الحسن عنه أنه لا يجب
وفي رواية أبي يوسف عنه أن عليه الكفارة والغسل أنزل أو لم ينزل
ولو جامع في شهر رمضان مرارا في ظاهر الرواية تلزمه كفارة واحدة ما لم يكفر للأول
ولو كفر ثم جامع ثانيا يلزمه كفارة أخرى
وذكر في الكيسانيات أنه يلزمه كفارة واحدة من غير فصل
وهذا عندنا
وقال الشافعي يلزمه لكل يوم كفارة لأنه وجد في كل يوم إفساد كامل
ولو أفسد بالجماع في رمضانين فعن أصحابنا روايتان في رواية يجب كفارتان
وفي رواية كفار واحدة
ولنا في المسألة طريقان أحدهما أن الكفارة تجب بطريق الزجر وأسباب الزجر إذا اجتمعت لا يجب بها إلا زاجر واحد كما في الزنى إذا وجد مرارا لا تجب إلا حد واحد
والثاني أنها تجب بطريق التكفير ورفع الإثم ولكن الإفطار في اليوم الثاني والثالث في الجناية فوق الإفطار في اليوم الأول لأنه انضمتإليه جناية الإفطار وجناية الإصرار وإيجاب الكفارة لأدنى الجنايتين لا يصلح للأعلى
هذا الذي ذكرنا إذا لم يكن في الإفطار شبهة
فأما إذا كان فيه شبهة فلا يجب فإن المسافر إذا صام في رمضان ثم جامع متعمدا لا يلزمه الكفارة لأن فيه شبهة الإباحة لقيام السبب المبيح صورة وهو السفر
وكذلك إذا تسحر على ظن أن الفجر لم يطلع فإذا هو طالع أو أفطر على ظن أن الشمس قد غربت فإذا هي لم تغرب لا تجب الكفارة لأنه خاطىء وإلا ثم عنه مرفوع بالنص
وكل من أكل أو شرب أو جامع ناسيا أو ذرعه القيء فظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا لا كفارة عليه لأن هذا شبهة في موضع الاشتباه لوجود المضاد للصوم قال محمد إلا إذا بلغ الخبر أن أكل الناس والقيء لا يفسدان الصوم فتجب عليه الكفارة لأن الظن في غير موضع الشبهة لا يعتبر
فأما إذا احتجم فظن أن ذلك يفطره ثم أفطر متعمدا إن استفتى فقيها فأفتى بالإفطار ثم أفطر متعمدا لا كفارة عليه لأن العامي يجب عليه تقليد العالم فيصير ذلك شبهة
ولو بلغه الحديث أفطر الحاجم والمحجوم روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا كفارة عليه لأنه اعتمد على الحديث وهو حجة في الأصل
وروي عن أبي يوسف أنه تجب عليه الكفارة لأن العامي يجب عليه الاستفتاء من المفتي دون العمل بظاهر الحديث لأنه قد يكون متروك الظاهر وقد يكون منسوخا فلا يصير شبهة
وإن لمس امرأة بشهوة أو قبل امرأة بشهوة ولم ينزل فظن أن ذلك يفطره فأكل عمدا يلزمه الكفارة لأن ذلك لا ينافي الصوم فيكون ظنا في غير موضعه إلا إذا استفتى فقيها أو أول الحديث فأفطر على ذلك فلا كفارة عليه وإن أخطأ ولم يثبت الحديث لأن ظاهره يعتبر شبهة
فإن اغتاب فظن أن ذلك يفطره فأكد عمدا يلزمه الكفارة وإن بلغه الحديث لأنه تأويل بعيد لأنه لا يراد به إفطار الصوم حقيقة والله أعلم
وأما حكم وجوب إمساك بقية اليوم بعد الإفطار فعندنا كل من صار بحال لو كان على تلك الحالة في أول النهار يجب عليه الصوم فإنه يجب عليه الإمساك في الباقي سواء كان الصوم واجبا عليه في أول النهار يجب عليه الصوم فإنه يجب عليه الإمساك في الباقي سواء كان الصوم واجبا عليه في أول النهار القيام سبب الوجوب والأهلية ثم عجز عن الأداء لمعنى من المعاني كمن أفطر في رمضان متعمدا أو اشتبه عليه يوم الشك فأفطر أو تسحر على ظن أن العجز لم يطلع وقد طلع أو لم يكن الصوم واجبا عليه لعدم الأهلية أو لعذر العجز فأكل ثم زال العذر وحدثت الأهلية كالمريض إذا صح والمسافر إذا قدم والمجنون إذا أفاق والصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم والحائض إذا طهرت ونحوها
وهو أحد قولي الشافعي وقال في قول آخر إن كل من وجب عليه الصوم ثم أفطر لعذر أو لغير عذر يلزمه الإمساك
وكل من لا يجب عليه الصوم فأفطر ثم صار بحال لو كان كذلك في أول النهار يجب عليه الصوم فإنه لا يجب عليه الإمساك
قال ولهذا بالإجماع إن من قال لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فلان فيه
فقدم فلان في اليوم بعدما أكل فيه لا يجب عليه الإمساك لما أنه لا يجب عليه الصوم فيه
والمعنى الجامع أن الإمساك بمنزلة الخلف عن الصوم في حق قضاء حرمة الوقت فإن لم يكن الأصل واجبا لا يجب الخلف
وقلنا يجب لأن الإمساك إنما يجب تشبها بالصائمين قضاء لحق الوقت بقدر الإمكان لا خلفا ألا ترى أنه يجب القضاء خارج رمضان على الفطر الذي وجب عليه الصوم خلفا عن الصوم الواجب فكيف يكون الإمساك خلفا عنه وفي هذا المعنى يستوي الحال بين الوجوب وعدم الوجوب بخلاف مسألة النذر لأن ثمة الصوم ما وجب بإيجاب الله تعالى حتى يجب الإمساك قضاء لحق الوقت بل يجب بالنذر فهو الفرق بينه وبين سائر الفصول بخلاف الطاهرة إذا حاضت أو نفست في حالة الصوم حيث لا تمسك لأنها ليست بأهل للصوم والتشبه بأهل العبادة لا يصح من غير الأهل كحقيقة العبادة بخلاف هذا الفصول
والله أعلم
وأما بيان سنن الصوم وآدابه وما يكره فيه وما لا يكره فنقول إنما التسحر سنة في حق الصائم على ما روي عن عمرو بن العاص عن النبي عليه السلام أنه قال إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر
ثم ينظر إن كان شاكا في طلوع الفجر إنه طلع أم لا ينبغي أن يدع التسحر لأنه ربما طلع الفجر فيفسد صومه
فأما إذا كان متيقنا أن الفجر لم يطلع فالمستحب أن يتسحر
وإن كان أكثر رأيه أن الفجر لم يطلع ينبغي أن يدع الأكل أيضالما قلنا لكن لو تسحر لا يلزمه القضاء لأن بقاء الليل أصل وهو ثابت بغالب الرأي وإنما الشك والاحتمال في طلوع الفجر فلا يجب القضاء بالشك والاحتمال
ولو أن أكثر رأيه أن الفجر طالع فأكل عن الحسن عن أبي حنيفة أنه يلزمه القضاء
وروي عن أبي يوسف أنه لا يلزمه القضاء لأن الأصل هو الليل فلا ينقل عنه إلا بيقين
والصحيح هو الأول لأن غالب الرأي دليل واجب العمل به
ولو كان غالب ظنه أن الشمس قد غربت لا يسعه أن يفطر لاحتمال أن الشمس لم تغرب ولو أفطر لا قضاء عليه لأن الغالب في حق العمل بمنزلة المتيقن
ولو كان غالب ظنه أن الشمس لم تغرب ثم أفطر كان عليه القضاء لأن بقاء النهار أصل والاحتمال في الغروب ولكن لا كفارة عليه خلافا لما قال بعض الفقهاء أنه تجب الكفارة لأنه متيقن بالنهار
والصحيح ما ذكرنا لأن احتمال الغروب قائم وإنه يكفي شبهة
ولا بأس بأن يكتحل الصائم بالإثمد وغيره وإن وجد طعم ذلك في حلقه لا يفطره خلافا لابن أبي ليلى
وأصله ما روي عن أبي مسعود الأنصاري أن النبي عليه السلام خرج في رمضان وعيناه مملوءتان كحلا كحلته أم سلمة
ولأن العين لا منفذ بها إلى الجوف وما يجد في حلقه فذلك أثره لا عينه
ويكره إدخال شيء مطعوم في الغم للذوق أو ليمضغه لصبي له لأنه ربما يصل إلى جوفه منه شيء فيفطره ولكن لا يفسد صومه إلا أنيصل إلى جوفه شيء منه بيقين أو بغالب الرأي
وكره أبو حنيفة أن يمضع الصائم العلك لأنه لا يؤمن من أن ينفصل منه شيء فيدخل جوفه
وقيل إنما يكره إذا كان متفتتا فأما إذا كان معجونا فلا يكره لأنه لا يصل شيء منه إلى جوفه
وقيل إنما لا يفسد إذا لم يكن متيقنا فأما إذا كان متيقنا فيفسد لأنه يصل إلى جوفه شيء منه لا محالة
ولا بأس للصائم أن يستاك رطبا كان أو يابسا مبلولا بالماء أو غير مبلول في أول النهار أو في آخره
وقال الشافعي يكره في آخر النهار
وقال أبو يوسف يكره إذا كان مبلولا بالماء
والصحيح ما ذكرنا لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال خير خلال الصائم السواك من غير فصل بين حال وحال
ولا ينبغي للمقيم إذا سافر في بعض نهار رمضان أن يفطر لأنه تعين اليوم للصوم لكونه مقيما في أوله
ومثله لو أراد المسافر أن يقيم في مصر من الأمصار أو يدخل مصره فليس ينبغي أن يفطر لأنه في آخره مقيم والمقيم لا يجوز له الإفطار ولما فيه من إيقاع نفسه في التهمة
ولا بأس أن يقبل ويباشر إذا كان يأمن على نفسه ما سوى ذلك
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا بأس بالقبلة للصائم ويكره له المعانقة والمباشرة
وأصله ما روي أن شابا وشيخا سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فنهى الشاب ورخص للشيخ
وأما المباشرة فمكروهة على رواية الحسن لأن الغالب أن المباشرة تدعو إلى ما سواها بخلاف القبلة
وهو الأصح
وأما المضمضة والاستنشاق فلا بأس بهما لصلاة
وروي عن أبي يوسف أنه يكره لغير الصلاة لاحتمال وصول شيء إلى الجوف
وما الاستنشاق لغير الصلاة والاغتسال وصب الماء على الرأس والتلفف بالثوب المبلول فروي عن أبي حنيفة أنه يكره لأن إظهار الضجر من العبادة
وقال أبو يوسف لا يكره
فأخذ أبو حنيفة بقول الشعبي وأخذ أبو يوسف بقول البصري
ولا يكره الحجامة للصائم
وقال بعض أصحاب الحديث إنها تفطر الصائم لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال أفطر الحاجم والمحجوم
والصحيح قول العامة لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام وأما الحديث فذاك في الابتداء لما أنه سبب ضعف الصائم ثم رخص بعد ذلك
وليس للمرأة أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها وكذا العبد ليس له أن يصوم تطوعا إلا بإذن المولى لأن في ذلك تفويت حقهما عن الانتفاع المستحق فيمنعان عن ذلك
ولا بأس بأن يصبح الرجل جنبا وإن ذلك لا يفسد صومه
وقال بعض الناس بأنه يفسد صومه لما روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال من أصبح جنبا فلا صوم له محمد ورب الكعبة قاله
وحجة عامة العلماء ما روى محمد في الكتاب عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام ويصوم يومه ذلك وذلك في رمضان وحديث أبي هريرة روته عائشة فلا يعارض بما روينا
باب الاعتكاف
الكلام في الاعتكاف في مواضع في بيان كونه سنة أو واجبا
وفي بيان شرائطه
وفي بيان ركنه
وفي بيان ما يفسده
وفي بيان سننه وآدابه
أما الأول فالاعتكاف سنة فقد فعله النبي عليه السلام وواظب عليه على ما روي عن عائشة وأبي هريرة أن النبي عليه السلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله
لكن يصير واجبا بالنذر وبالشروع لأنهما جعلا من أسباب الوجوب في الشرع
فأما الشرائط فمنها الصوم في الاعتكاف الواجب في ظاهر الرواية لا في التطوع
وفي رواية الحسن في التطوع أيضا
وقال الشافعي ليس بشرط
وروى الحسن عن عائشة وابن عباس وفي إحدى الروايتين عنعلي مثل قولنا
وروي عن عبد الله بن مسعود مثل قول الشافعي
ولنا أن أحد ركني الصوم وهو الإمساك عن الجماع شرط في باب الاعتكاف فكذلك الركن الآخر وهو الإمساك عن الأكل والشرب وهذا لأن الاعتكاف مجاورة بيت الله تعالى والإعراض عن الدنيا والاشتغال بخدمة المولى وهذا لا يتحقق بدون ترك قضاء الشهوتين إلا بقدر ما فيه ضرورة وهو الأكل والشرب في الليالي ولا ضرورة في الجماع
وينبني على هذا الأصل أن الاعتكاف لا يجوز في الليل وحده عندنا خلافا للشافعي لأن الصوم شرط الاعتكاف أو ركنه على ما ذكرنا ولا وجود للشيء بدون ركنه وشرطه
وأما إذا أوجب الاعتكاف أياما يدخل الليل تبعا فلا يشترط له شرط الأصل
وعند الشافعي الصوم ليس بشرط فيكون الليل والنهار سواء
ومنها أن الإمساك عن الجماع شرط قال الله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }
وأما المرأة فقد ذكر ههنا وقال لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها ولا ينبغي أن تخرج من المنزل في الاعتكاف
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن للمرأة أن تعتكف في مسجدالجماعة وإن شاءت اعتكفت في مسجد بيتها ومسجد بيتها أفضل لها من مسجد حيها ومسجد حيها أفضل لها من المسجد الجامع
وهذا ليس باختلاف الرواية لأنه على الروايتين يجوز الاعتكاف في المسجد والأفضل هو في مسجد بيتها
وقال الشافعي لا يجوز في مسجد بيتها
وهو فاسد فإن صلاتها تجوز في مسجد بيتها وهذا المكان متعين للصلاة فالاعتكاف أولى
وأما ركن الاعتكاف فهو كاسمه وهو الليث والمقام في المسجد
وإذا كان كذلك فيحرم الخروج من معتكفه لأنه يضاده ولا بقاء للشيء مع ضده وإبطال العبادة حرام
وإنما يباح الخروج لأجل الضرورة وذلك لحجة البول والغائط ولأداء الجمعة لأنها فرض عليه
فأما الأكل والشرب والنوم فجائز في المسجد فلا ضرورة في ذلك
ولهذا قالوا لا يباح له فخروج لعيادة المريض وتشييع الجنازة لأن ذلك ليس بفرض عليه لأنه ليس بفرض عين فإذا قام به البعض سقط عن الباقين
ثم إذا أراد أن يخرج إلى الجمعة ينبغي أن يخرج وقت سماع الأذان فيكون في المسجد مقدار ما يصلي قبلها أربعا وبعدها أربعا أو ستا كذا ذكر ههنا
وروى الحسن عن أبي حنيفة مقدار ما يصلي قبلها أربعا وبعدها أربعا
وقال محمد إذا كان منزله بعيدا يخرج حين يرى أنه يبلغ المسجدعند النداء لأن الفرض أداء الجمعة فيقدر بوقت يمكنه فيه أداء الجمعة بسنتها
فإن أقام في المسجد الجامع
حين خرج إلى الجمعة يوما وليلة لم ينتقض اعتكافه لأن الجامع يصلح لابتداء الاعتكاف فيصلح للبقاء ولكن لا أحب أن يفعل ذلك بل يكره له ذلك لأن التزم فعل الاعتكاف في المسجد المعين فيلزمه ذلك مع الإمكان
ولو أنه انهدم المسجد الذي اعتكف فيه أو أخرجه عنه سلطان أو غيره فدخل مسجدا آخر من ساعته صح اعتكافه استحسانا والقياس أن يفسد لأنه ترك اللبث المستحق وهو الاعتكاف في المسجد المعين ووجه الاستحسان أنه معذور في الخروج فقدر زمان المشي مستثنى من الجملة كما في الخروج إلى الجمعة
فأما إذا خرج لغير ما ذكرنا من الأمور ساعة فسد اعتكافه عند أبي حنيفة
وعندأبي يوسف ومحمد لا يفسد حتى يخرج أكثر من نصف يوم
وقال محمد قول أبي حنيفة أقيس وقول أبي يوسف أوسع
هذا الذي ذكرنا في الاعتكاف الواجب
فأما في اعتكاف التطوع فلا بأس بأن يعود المريض ويشهد الجنازة على جواب ظاهر الرواية
وأما على رواية الحسن مقدر باليوم فالجواب فيه وفي الواجب سواء لأنه صار واجبا بالشروع
وأما بيان ما يفسد الاعتكاف فمن ذلك ما لو جامع في الاعتكاف ليلا أو نهارا ناسيا أو عامدا فإنه يفسد الاعتكاف لأنه من محظورات الاعتكاف قال اللهتعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }
ولهذا إنه إذا خرج من المسجد ناسيا للاعتكاف يفسد اعتكافه فالنسيان لم يجعل عذرا في باب الاعتكاف وفي باب الصوم جعل عذرا بالنص الخاص
ولو جامع فيما دون الفرج أو قبل وأنزل يفسد اعتكافه فأما إذا لم ينزل فلا يفسد اعتكافه ولكن يكون حراما لأن الجماع حرام ههنا بالنص فيحرم بدواعيه وفي باب الصوم الإفطار حرام وحرم الجماع لكونه إفطارا وذلك المعنى لم يوجد في الدواعي
ولو خرج المعتكف إلى مسجد آخر من غير عذر انتقض اعتكافه عند أبي حنيفة وعندهما لا يبطل لما ذكرنا أن الخروج من غير عذر مبطل للاعتكاف عنده خلافا لهما
وليس للمرأة أن تعتكف بدون إذن زوجها وكذلك العبد فإن أذن الزوج لها في الاعتكاف فاعتكفت ليس له أن يرجع بخلاف المولى لأن منافع العبد مملوكة للمولى وإنما أعارها من العبد فيمكنه الرجوع والاسترداد بخلاف الزوجة فإنها حرة لكنها أمرت بخدمة الزوج فمتى أذن فقد أسقط في حق نفسه فيظهر حقها الأصلي فما لم تمض المدة التي أذن لها فيها ليس له حق الرجوع
ولو أوجب على نفسه اعتكافه ليلة لا يلزمه لأنها ليست بوقت للصوم
ولو أوجب اعتكاف يوم يصح ولا يلزمه اعتكاف يوم بليلة لأن اليوم اعتكاف يوم مع ليلته
وإن أوجب على نفسه اعتكاف يومين أو أكثر تلزمه الأيام وما يقابلها من الليالي لأن ذكر الأيام ذكر الليالي وكذلك ذكر الليالي ذكر الأيام قال الله تعالى { ثلاثة أيام إلا رمزا } وقال في موضع آخر { ثلاث ليال } اسم لزمان مقدر وهو وقت الصوم فيجوزوإن نوى يوما بليلته يلزمه سويا والقصة قصة واحدة
ولو لم يكن الأمر على ما قلنا يؤدي إلى التناقض في خبر الله تعالى وإنه لا يجوز
ولو أوجب على نفسه اعتكاف شهر بعينه يجب عليه اعتكاف ذلك الشهر لأنه أوجب عينا ولو أفسد صوم يوم يجب عليه اعتكاف الباقي وكذلك لو ترك اعتكاف يوم يجب عليه باقي الشهر ويقضي يوما ولا يلزمه استقبال لأن التتابع ثبت لمجاورة الأيام لا بالنذر
ولو قال لله علي أن أعتكف شهرا أو ثلاثين يوما يلزمه متتابعا حتى لو ترك اعتكاف يوم فيه يلزمه الاستقبال لأن التتابع وجب حكم النذر فيجب الوفاء به
ولو أوجب على نفسه اعتكاف شهر بعينه وترك الاعتكاف فيه حتى مضى يجب عليه قضاء شهر متتابعا لأنه وجب عليه قضاء شهر بغير عينه
ولو أوجب على نفسه اعتكاف ثلاثين يوما وعنى به النهار دون الليل تصح نيته لأن حقيقة اليوم لبياض النهار وإنما يحمل على الوقت المطلق بدليل فإذا نوى حقيقة كلامه يصح
ولو أوجب على نفسه اعتكاف ثلاثين ليلة ونوى الليل دون النهار يصدق ولا يصح الاعتكاف لعدم وقت الصوم
ولو أوجب اعتكاف شهر بغير عينه ونوى الليالي دون الأيام أو الأيام دون الليالي لا يصدق لأن الشهر اسم لزمان مقدر بعضه أيام وبعضه ليال فيكون اسما لمركب خاص فلا ينطلق اسم الشهر على بعضه فإذا نوى ما ذكرنا فقد نوى ما لا يحتمله كلامه بخلاف ما إذا قال إلا الليالي أو أوجب اعتكاف شهر بالنهار دون الليالي صح لأن الاستثناء تكلم بالباقي وذكر النهار مقارنا لذكر الشهر بيان وتفسير له فكأنه قال لله علي أن أعتكف ثلاثين نهارا فهو الفرق بينهما والله أعلم
كتاب المناسك
اعلم أن الحج فريضة
عرفت فرضيته بالكتاب والسنة وإجماع الأمة
أما الكتاب فقوله تعالى { الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من } وكلمة على موضوعة للإيجاب
وأما السنة فلما روي عن النبي عليه السلام أنه قال قال بني الإسلام على خمس وذكر منها حج البيت
ولما روي عن النبي عليه السلام أنه قال من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا
وعليه الإجماع
ثم يحتاج إلى بيان كيفية فرضيته
وبيان أركانه وواجباته وسننه وآدابه
وبيان شرائط وجوبه وأدائه
وبيان محظوراته
أما بيان كيفية فرضية الحج فنقول لا خلاف أن الحج فرض عين لا فرض كفاية فإنه يجب على كلمكلف استجمع شرائط فإذا قام به البعض لا يسقط عن الباقين بخلاف الجهاد فإنه إذا قام به البعض يسقط عن الباقين
وكذلك يجب في العمر مرة واحدة فيكون وقته العمر بخلاف الصلاة فإنه يتكرر وجوبها في كل يوم خمس مرات والزكاة والصوم يجبان في كل سنة
وأصله ما روي أنه لما نزلت آية الحج قالالأقرع بن حابس يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد فقال عليه السلام للأبد
واختلفت الرواية عن أصحابنا أنه يجب وجوبا موسعا أو مضيقا ذكرالكرخيأنه يجب على الفور وكذا كل فرض ثبت مطلقا عن الوقت كالكفارات وقضاء رمضان ونحوها
وذكر محمد بن شجاع أنه على التراخي
وذكر الزجاجي
مسألة الحج
على الاختلاف فقال على قول أبي يوسف يجب على الفور وعلى قول محمد يجب على التراخي
وروى محمد بن شجاع الثلجي قول أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف
وفائدة الخلاف أن من أخر الحج عن أول أحوال الإمكان هل يأثم أم لا أما لا خلاف أنه إذا أخر ثم أدى في سنة أخرى فإنه يكون مؤديا ولا يكون قاضيا بخلاف العبادات المؤقتة إذا فاتت عن أوقاتها ثم أديت يكون قضاء بالإجماع
وهذا حجة محمد في المسألة
وهما يقولان إنا نقول بالوجوب على الفور مع إطلاق الصيغة عنالوقت احتياطا فيظهر في حق الآثم حتى يكون حاملا على الأداء وبقي الإطلاق فيما رواه ذلك
وأما ركن الحج فشيئان الوقوف بعرفة وطواف الزيارة
وأما الواجبات فخمسة السعي بين الصفا والمروة والوقوف بمزدلفة ورمي الجمار والخروج عن الإحرام بالحلق أو بالتقصير وطواف الصدر
وأما السنن والآداب فسنته ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج
ولم يتركه إلا مرة أو مرتين لمعنى من المعاني
وآدابه ما لم يواظب عليه وفعل ذلك مرة أو مرتين على ما يعرف في أثناء المسائل عند بيان أداء الحج على الترتيب
ثم إذا ترك الركن لا يجوز الحج ولا يجزىء عنه البدل من ذبح البدنة والشاة
وإذا ترك السنة أو الآداب لا يلزمه شيء ويكون مسيئا
وإذا ترك الواجب لا يفوت الحج ويجزىء عنه البدل إن عجز عن الأداء
وبيان ذلك أن الحج له ثلاثة أطوفة
طواف اللقاء ويسمى طواف التحية وطواف أول عهد بالبيت
والثاني طواف الزيارة ويسمى طواف يوم النحر وطواف الركن
والثالث طواف الصدر ويسمى طواف الوداع وطواف الإفاضة
وطواف اللقاء سنة والسعي عقيبه واجب
فإذا ترك الطواف فلا شيء عليه
وإذا ترك السعي فعليه أن يسعى عقيب طواف الزياة ولو تركه أصلا فعليه الدم
وكذلك من ترك طواف الصدر أصلا وهو ممن يجب عليه ذلك يجب عليه الدم
ولو ترك طواف الزيارة لا يخلو إما إن ترك طواف الزيارة وطواف الصدر جميعا أو ترك أحدها دون الآخر ولا يخلو إما إن عاد إلى أهله أو لم يعد
فأما إذا تركهما جميعا فما دام بمكة فإنه يعيدها
فإن أعاد طواف الزيارة في أيام النحر فلا شيء عليه لأنه أداه في وقته
وإن أعاد بعد مضي أيام النحر فعليه الدم للتأخير عن وقته عند أبي حنيفة
وعندهما لا شيء عليه للتأخير
ثم يطوف طواف الصدر قضاء لأنه قاض فيه
وليس عليه شيء لتأخير طواف الصدر بالإجماع
وإن رجع إلى أهله فهو محرم على النساء أبدا
وعليه أن يعود إلى مكة بذلك الإحرام ويطوف طواف الزيارة وطواف الصدر وعليه دم لتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر عنده وعندهما لا شيء عليه
وأما إذا طاف للزيارة ولم يطف للصدر فإن كان بمكة يأتي به ولا شيء عليه للتأخير بالإجماع
وإن رجع إلى أهله فإنه لا يعود إلى مكة وعليه دم لترك طواف الصدر فإذا أراد أن يعود إلى مكة ويقضيه يعود بإحرام العمرة ويقوم بالعمرة
فإذا فرغ منها طاف للصدر ثم يرجع
وأما إذا طاف للصدر ولم يطف للزيارة فإن طواف الصدر ينقل إلى طواف الزيارة
فما دام بمكة فيأتي بطواف الصدر وعليه دم لتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر عند أبي حنيفة خلافا لهما
وإن عاد إلى أهله فعليه لترك طواف الصدر دم بالاتفاق وفي وجوب الدم
في تأخير طواف الزيارة عن وقته اختلاف على ما ذكرنا
وأما شرائط الوجوب فبعضها عام في العبادات كلها نحو العقل والبلوغ والإسلام حتى لا يجب الحج على الصبي والمجنون والكافر وإن ملكوا الزاد والراحلة لأنه لا خطاب على هؤلاء
ولو أنه إذا وجد منهم الإحرام ثم بلغ الصبي وأفاق المجنون وأسلم الكافر ووقت الحج باق فإن جددوا الإحرام بنية حجة الإسلام فإنه يقع عن حجة الإسلام لأن إحرام الكافر والمجنون لا يصح أصلا لعدم الأهلية وإحرام الصبي العاقل صحيح لكنه غير ملزم فينتقض بخلاف العبد إذا أحرم بإذن المولى ثم عتق والوقت باق فجدد الإحرام بنية حجة الإسلام وهو مالك للزاد والراحلة فإنه لا ينتقض إحرامه الأول ولا يصح الثاني لأن إحرام العبد بإذن المولى لازم فلا يحتمل الانفساخ
وأما الشرط الخاص فالحرية حتى لا يجب الحج على العبد وإن أذن له مولاه لأن منافعه في حق الحج غير مستثناة عن ملك المولى فإذا أذن له المولى فقد أعاره منافع بدنه والحج لا يجب بقدرة عارية
ولهذا بالإجماع إن الأجنبي إذا أعار الزاد والراحلة لمن لا يملكالزاد والراحلة فإنه لا يجب الحج عليه فكذلك هذا بخلاف الفقير إنه لا يجب الحج عليه ولو تكلف وذهب إلى مكة بالسؤال وأدى يقع عن حجة الإسلام لأنه مالك لمنافع بدنه لكن لا يملك الزاد والراحلة فلم يجب عليه فمتى وصل إلى مكة وصار قادرا على الحج بالمشي وقليل الزاد وجب عليه الحج فيقع عن الفرض فهو الفرق
ومن شرطه أيضا صحة البدن وزوال الموانع الحسية عن الذهاب إلى الحج حتى إن المقعد والمريض والزمن والمحبوس والخائف من السلطان الذي يمنع الناس من الخروج إلى الحج فإنه لا يجب عليهم الحج بأنفسهم لأن هذه عبادة بدنية فلا بد من القدرة بصحة البدن وزوال المانع حتى يتوجه عليهم التكليف ولكن يجب عليهم الإحجاج إذا ملكوا الزاد والراحلة
وأما الأعمى إذا وجد قائدا بطريق الملك بأن كان له مال فاشترى عبدا أو استأجر أجيرا بماله هل يجب عليه أن يحج بنفسه ذكر في الأصل أنه لا يجب عليه أن يحج بنفسه ولكن يجب في ملكه عند أبي حنيفة
وروى الحسن عنه أنه يجب عليه أن يحج بنفسه
وكذلك روي في المقعد والزمن أنه يجب عليهما إذا قدر أن يشتريا عبدا أو يستأجر أجيرا
وقال أبو يوسف ومحمد بالوجوب في حق الأعمى دون المقعد والزمن
وجه رواية الحسن أن القدرة وسيلة إلى أداء الحج فيستوي القدرة بالملك والعارية
وهما يقولان إن الأعمى قادر بنفسه على أداء الحج إلا أنه لايهتدي إلى الطريق وذلك يحصل بالقائد فأما المقعد فعاجز عن الأداء بنفسه فلا يكلف بالقدرة التي تحصل بالغير لأن ذلك قد يكون وقد لا يكون بأن أبق العبد ونقض المتسأجر العقد لعذر من الأعذار
وابوحنيفة يقول بأن الأعمى وإن كان قادرا بنفسه لكن لا يعمل قدرته بدون القائد وإباقه وموته محتمل
ثم إذا لم يجب الحج على هؤلاء بأنفسهم ولهم مال وزاد وراحلة فعليهم أن يأمروا من يحج عنهم بمالهم ويكون ذلك مجزئا عن حجة الإسلام
وأصله ماروي أن الخثعمية جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت إن أبي أدركته فريضة الحج وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة فيجزئني أن أحج عنه فقال عليه السلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يقبل منك فقالت نعم فقال دين الله أحق
فإن مات هؤلاء قبل أن يقدروا على الحج بأنفسهم وقع ذلك عن حجة الإسلام وإن قدروا على الحج بأنفسهم يجب عليهم حجة الإسلام وما حج عنهم يكون تطوعا لأنه خلف ضروري فيسقط اعتباره بالقدرة على الأصل كالشيخ الفاني إذا عجز عن صوم رمضان ثم صار قادرا على الصوم يجب عليه الإعادة لما قلنا كذا هذا
ولو تكلف المقعد والزمن والمريض فحجوا بأنفسهم على الدابة وكذلك الأعمى مع القائد فإنه يسقط عنهم الحج لأنه إنما لم يجب عليهم دفعا للحرج عنهم فمتى تحملوا الحرج وقع موقعه كالجمعة ساقطة عن العبد بحق المولى فإذا حضر وأدى جاز لما ذكرنا كذا هذا
ومن شرطه أيضا ملك الزاد والراحلة حتى لا يجب الحج عندنا لوجود الزاد بطريق الإباحة سواء كانت الإباحة من جهة من لا منة له عليه كالوالدين والمولودين أو من جهة من له عليه المنة كالأجانب
وقال الشافعي إن كانت من جهة من لا منة له عليه يجب عليه الحج
وإن كانت من جهة الأجنبي فله فيه قولان
وأما إذا وهبه إنسان مالا يحج به فلا يجب عليه القبول عندنا
وله فيه قولان
وأصله ما ذكرنا أن القدرة بالملك هي الأصل في توجه الخطاب
وأما تفسير الزاد والراحلة فأن يكون عنده دراهم مقدار ما يبلغه إلى مكة ذاهبا وجائيا راكبا لا ماشيا سوى ما هو من كفافه وحوائجه من المسكن والخادم والسلاح نحو ذلك وسوى ما يقضي به ديونه ويمسك لنفقة عياله ومرمة مسكنة ونحوها إلى وقت انصرافه
وروي عن أبي يوسف ونفقة شهر بعد انصرافه أيضا
وإن لم يبلغ ماله يكتري راحلة أو شق راحلة ولكن يكفي لنفقة الأجير والمشي راجلا فإنه لا يجب عليه الحج
وهذا في حق البعيد من مكة
وأما في حق من كان بمكة أو بمنى وعرفات فهل يشترط الزاد والراحلة بعضهم قالوا إذا كان رجلا قويا يمكنه المشي بالقدم يجب عليه الحج لأنه يحتاج إلى مشي أربعة فراسخ لأن بين مكة وعرفات أربعة فراسخ وإما إذا كان ضعيفا فلا يجب عليه ما لم يقدر على الراحلة
وقال بعضهم لا يجب بدون الراحلة لأن المشي راجلا فيه حرج وكل أحد لا يقدر على مشي أربعة فراسخ راجلا والله تعالى يقول { وما جعل عليكم في الدين من حرج }
ومن شرطه أمن الطريق أيضا لأنه لا يجب بدون الزاد والراحلة ولا بقاء للزاد والراحلة بدون الأمن
وهذا في حق الرجل فأما في حق المرأة فلا بد من وجود هذه الشرائط ويشترط في حقها شرطان آخران
أحدهما أن يكون لها زوج أو من لا يجوز المناكحة بينهما على طريق التأييد إما بسبب القرابة أو الرضاع أو الصهرية
وإذا لم يخرج المحرم إلا بنفقة منها هل يجب عليها نفقته ذكر في شرح القدوري إنها تجب لأنها لا تتمكن من الحج إلا بالمحرم كما لا تتمكن إلا بالزاد والراحلة فيجب عليها بذلك إذا كان لها مال
وذكر في شرح الطحاوي أنه لا يجب عليها نفقته ولا يجب عليها الحج
وإذا لم يكن لها زوج ولا محرم لا يجب عليها أن تتزوج ليذهب معهاإلى الحج ولا يجب عليها الحج بنفسها ويجب في مالها
وهذا عندنا
وقال الشافعي يجب عليها إذا كان في الرفقة نساء
وإذا وجدت محرما يجب عليها الحج ولا يشترط رضا الزوج وإذنه عندنا
وقال الشافعي لا بد من إذن الزوج لأن فيه فوات حقه
ولكنا نقول إن الحج من الفرائض اللازمة فيكون منافعها مستثناة عن ملك الزوج فأما في التطوع فللزوج حق المنع كما في الصلاة
ويستوي الجواب بين أن تكون المرأة شابة أو عجوزا في اشتراط المحرم لأنها عورة أيضا
هذا إذا كان بينها وبين مكة مدة السفر وهي ثلاثة أيام ولياليها فأما إذا كان دون مدة السفر فإنه لا يشترط المحرم
والشرط الثاني أن لا تكون معتدة من طلاق بائن أو رجعي أو عن وفاة لأن الحج مما يمكن أداؤه في وقت آخر فأما العدة فيجب قضاؤها في هذا الوقت خاصة والله تعالى يقول { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن }
فإن لزمتها العدة بعد الخروج إلى الحج إن كان الطلاق رجعيا فإنها لا تفارق زوجها لأن النكاح قائم فتمضي معه والأفضل للزوج أن يراجعها
وإن كان الطلاق بائنا أو عن وفاة فإن كان إلى منزلها أقل من مدةالسفر وإلى مكة مدة السفر فإنها تعود وجعلت كأنها في المصر
وإن كان إلى مكة أقل من مدة السفر فإنها تمضي لأنه لا حاجة بها إلى المحرم وفي أقل من مدة السفر
وإن كان إلى الجانبين مدة السفر فإن كانت في المصر فإنها لا تخرج حتى تنقضي العدة وإن وجدت محرما
وعندهما تخرج إن وجدت محرما
ولا تخرج بغير محرم بالإجماع
وإن كانت في المفازة أو في قرية لا يؤمن على نفسها ومالها تمضي حتى تدخل موضع الأمن ثم لا تخرج ما لم تنقض عدتها وإن وجدت محرما عنده
وعندهما تخرج على ما نذكر في باب العدة
وهذا كله مذهب علمائنا
وقال مالكو الضحاك بن مزاحم بأن الزاد والراحلة ليسا بشرط بل يجب الحج على كل مسلم بالغ عاقل صحيح البدن
والصحيح قول عامة العلماء لقوله تعالى { الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من } قال أهل التفسير بأن المراد منه الزاد والراحلة
ثم هذه الشرائط التي ذكرنا إنما تعتبر عند خروج أهل بلدة إلى الحج لأن ذلك وقت الوجوب في حقه حتى إنه إذا كان عنده دراهم قبل خروج أهل بلده واشترى بها المسكن والخادم وأثاث البيت ونحوذلك
فعند خروج أهل بلده لا يجب عليه أن يبيع ذلك ولا يجب الحج عليه
فأما إذا كان له دراهم وقت الخروج مقدار الزاد والراحلة ولم يكن له مسكن ولا خدام ولا زوجة فأراد أن يصرفها إلى هذه الأشياء فإنه يأثم ويجب عليه الحج ويلزمه الخروج معهم
ومن شرائط الأداء الإحرام فإنه لا يصح أداء أفعال الحج بدون الإحرام كما لا تصح الصلاة بدون التحريمة وهي التكبير
وهذا عندنا
وقال الشافعي الإحرام ركن وليس بشرط
وينبني على هذا الأصل أن الإحرام قبل أشهر الحج جائز عندنا
وعند الشافعي لا يجوز وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة لأن ركن عنده وأداء الركن لا يصح في غير وقته كأداء الصلاة قبل الوقت
وعندنا لما كان شرطا يجوز وجوده قبل وقت الفعل كالطهارة وستر العورة في باب الصلاة قبل الوقت
وأجمعوا أن الإحرام قبل أشهر الحج مكروه لا لأنه قبل وقت الفعل لكن لاحتمال أن يلحقه حرج عظيم في الامتناع عن محظورات الحج
ومنها الوقت شرط لأن أداء الحج في غير وقته غير مشروع لكونه مؤقتا قال الله تعالى { الحج أشهر معلومات } وهو شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة فلا يجوز أداء شيء من الأفعال قبلها
ومعظم أفعال الحج مؤقت بوقت خاص في مكان خاص كطواف الزيارة في يوم النحر والوقوف بعرفة في يوم عرفة ونحو ذلك على ما يعرف إن شاء الله
ومنها شرط الخروج عن الحج وهو الحلق أو التقصير بمنزلة السلام شرط الخروج عن الصلاة
وأما الطهارة عن الحدث والجنابة في حالة الطواف فشرط الكمال عندنا لا شرط الجواز
وعند الشافعي شرط الجواز حتى إن الأفضل أن يعيد الطواف ولو لم يعد يلزمه الدم في الجنابة يلزمه البدنة وفي الحدث يلزمه الشاة لأن النقصان بسبب الجنابة أفحش فكان الجزاء أكمل
وأما محظورات الإحرام فكثيرة وهو الارتفاق بمرافق المقيمين لأنه عبادة سفر من لبس المخيط والوطء ودواعيه من اللمس والقبلة والتطيب وإزالة التفث وحلق الشعر ونتف شعر الإبط وتقليم الأظفار وقتل القمل من أخذ الصيود والإشارة إليها والدلالة عليها وقتلها سواء كان مأكول اللحم أولا ونحو ذلك
هذا بيان شرائط الحج
فأما العمرة فعندنا ليست بفريضة
وقال الشافعي فريضة وهي الحجة الصغرى
واختلف مشايخنا بعضهم قالوا هي سنة مؤكدة وبعضهم قالوا واجبة وهما متقاربان
واحتج بقوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } ولقوله عليه السلام العمرة هي الحجة الصغرى
ولنا ما روى أبو هريرة أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والشرائع فبين إلى أن قال وأن تقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وأن تحج البيت فقال الأعرابي هل علي شيء سوى هذا فقال لا أن تتطوع ولم يذكر العمرة وأما الآية فقرأ بعضهم { والعمرة } بالرفع ووقف على قوله { وأتموا الحج }
ومع اختلاف القراء لا تكون حجة ولأن الآية نزلت في أهل الحديبية وهم خرجوا محرمين بالعمرة وأنها تصير واجبة بالشروع ثم حصروا فأوجب عليهم إتمام العمرة بطريق القضاء والحج بطريق الابتداء
وأما ركن العمرة فشيئان الطواف والسعي
والإحرام شرط أدائها
والحلق أو التقصير شرط الخروج
وما ذكرنا من الشرائط في الحج فشرط في العمرة
وكذلك ما ذكرنا من محظورات الحج فهو من محظورات العمرة
وأما وقت العمرة فالسنة كلها وقت لها ولا تكره سواء كانت في أشهر الحج أو في غيره إلا في خمسة أيام يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق لأن الحاج مشغول بأداء الحج إلا إذا قضى القرآن أو التمتع فلا بأس به يكون أفضل في حق الآفاقي
باب الإحرام
في الباب فصول بيان أنواع المحرمين
وبيان مواقيت إحرامهم
وبيان الإحرام
وبيان الحج والعمرة والقرآن والمتعة بشروطها وأركانها وسننها وآدابها على الترتيب
أما بيان أنواع المحرمينفنقول المحرمون أربعة المفرد بالحج والمفرد بالعمرة والقارن بينهما والمتمتع
فأما المفرد بالحج أن يحرم بالحج لا غير
والمفرد بالعمرة أن يحرم بالعمرة لا غير
والقارن أن يجمع بين الحج والعمرة فيحرم بهما
ويقول لبيك اللهم بحجة وعمرة
والمتمتع أن يأتي بالعمرة والحج في أشهر الحج من غير أن يلم بأهله سواء حل من إحرامه الأول أم لا على ما نذكر
ثم هؤلاء الأصناف ثلاثةصنف منهم أهل الآفاق
وصنف منهم من كان داخل الحرم وهم أهل مكة والحرم
وصنف منهم من كان خارج الحرم داخل مواقيت أهل الآفاق
وأما مواقيت إحرامهم فمواقيت أهل الآفاق خمسة للحج والعمرة
وهي مواقيت بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما للبيت حتى لا يجوز للآفاقي التجاوز عن هذه المواقيت لدخول مكة لقصد الحج أو للتجارة ونحوها إلا محرما فلأهل العراق ذات عرق ولأهل المدينة ذو الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل اليمن يلملم ولأهل نجد قرن وقد وردت أحاديث مشهورة في هذا الباب
ثم هذه المواقيت لهؤلاء من أهل الآفاق ولمن حصل من أهل ميقات آخر في هذا الميقات
وكذلك إن كان من أهل الحرم وأهل الحل من داخل هذه المواقيت إذا خرج إلى الآفاق للتجارة ثم رجع فحكمه حكم أهل الآفاق لا يجوز له مجاوزته إلا محرما إذا قصد مكة إما الحج أو العمرة
فأما إذا قصدوا بالمجاوزة السكنى في بستان بني عامر الذي هو داخل المواقيت خارج الحرم فإنه يباح لهم المجاوزة من غير إحرام وهي الحيلة في إسقاط الإحرام
وروي عن أبي يوسف أنه لا يسقط ما لم ينو أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما
وأما ميقات من كان داخل المواقيت خارج الحرم كأهل بستان بني عامر للحج والعمرة جميعا فمن دويرة أهلهم أو حيث شاؤوا من الحل ولا يباح لهم دخول مكة بقصد الحج والعمرة إلا محرمين
وكذلك الآفاقي إذا حضر بالبستان والمكي إذا خرج من الحرم إليه وأراد أن يحج أو يعتمر فيكون حكمهما كحكم أهل البستان
وأما ميقات من كان داخل الحرم فللحج من دويرة أهلهم وحيثما شاؤوا من الحرم ولعمرة من الحل كالتنعيم وغيره
وكذلك من حصل بمكة من غير أهلها من البستاني والآفاقي فحكمه حكم أهل الحرم
ثم الآفاقي إذا جاوز الميقات بغير إحرام
وهو يريد الحج أو العمرة ثم عاد إلى الميقات قبل أن يحرم فأحرم منه وجاوزه محرما فإنه لا يجب عليه الدم لأنه قضى حقه بالإحرام
فأما إذا أحرم بعد المجاوزة من داخل الميقات للحج أو العمرة ومضى على إحرامه ذلك ولم يعد فيحب عليه الدم لأنه أدخل النقص في إحرامه
فأما إذا أحرم ثم عاد إلى الميقات وجدد التلبية والإحرام فيسقط عنه الدم في قول أصحابنا الثلاثة
وعندزفر لا يسقط
ولو عاد إلى الميقات محرما ولم يجدد التلبية لا يسقط عنه الدم عند أبي حنيفة
وعند أبي يوسف ومحمد يسقط لبى أو لم يلب
ولو لم يعد إلى الميقات حتى طاف شوطا أو شوطين أو وقف بعرفة في الحج تأكد عليه الدم حتى لا يسقط عنه وإن عاد إلى الميقات وجدد الميقات والتلبية
ولو عاد إلى ميقات آخر سوى الميقات الذي جاوزه من غير إحرام وجدد التلبية قبل أن يتصل إحرامه بأفعال الحج أو العمرة فهو كما لو عاد إلى ذلك الميقات
وروي عن أبي يوسف إن كان هذا الميقات محاذيا لذلك الميقات الذي جاوزه أو أبعد إلى الحرم سقط الدم عنه وإلا فلا
وكذلك هذا الحكم في حق من كان داخل المواقيت خارج الحرم فميقاته دويرة أهله
ولو دخل الحرم لقصد الحج أو العمرة من غير إحرام ثم عاد إلى الحل وجدد التلبية فهو على ما ذكرنا من الاختلاف
وكذلك هذا الحكم في حق أهل مكة فإن إحرامهم للحج في الحرم وللعمرة من الحل
ولو أنه إذا أحرم للحج من الحل وللعمرة من الحرم يجب عليه الدم إلا إذا أعاده على الاختلاف الذي ذكرنا
لو أن الآفاقي إذا جاوز الميقات لقصد الحج أو لقصد مكة للتجارة من غير إحرام ودخل مكة كذلك فإنه يلزمه إما حجة أو عمرة عندنا
وعند الشافعي لا يلزمه شيء
فأما من كان خارج الحرم داخل المواقيت إذا دخل الحرمللتجارة لا لقصد الحج والعمرة فإنه لا يلزمه شيء
وكذلك المكي إذا خرج إلى الحل للاحتطاب والاحتشاش ثم دخل مكة لا يلزمه شيء ويباح له الدخول من غير إحرام
وأصله ما روي أن النبي عليه السلامرخص للحطابة في الدخول من غير إحرام وهذا المعنى موجود في حق من حوالي مكة من أهل الحل دون المواقيت لأن من حوالي مكة محتاجون إلى الدخول فيها لحوائجهم بخلاف الآفاقي ومن صار في جملتهم من أهل الحرم وخارج الحرم دون المواقيت لأن الأصل هو المجاوزة مع الإحرام تعظيما للحرم والكعبة وإنما سقط باعتبار الضرورة ولا ضرورة في حق الآفاقي لأنه يدخل مرة واحدة
وكذلك الجواب في حق الآفاقي إذا صار من أهل البستان بأن قصد دخول البستان لا دخول مكة ثم أراد بعد ذلك أن يدخل مكة من غير إحرام له ذلك ولا يلزمه شيء لأنه صار من أهل البستان حكما
ثم الآفاقي إذا لزمه الحج أو العمرة بسبب مجاوزته الميقات في دخول مكة من غير إحرام فأحرم في تلك السنة لما وجب عليه بسبب المجاوزة أو لحجة الإسلام أو للحجة التي وجبت عليه بسبب النذر فإنه يسقط عنه ما وجب عليه بسبب المجاوزة
ثم ينظر إن خرج إلى ميقاته وأحرم منه لا يجب عليه الدم لمجاوزته من غير إحرام
وإن لم يخرج إلى ميقاته لكن أحرم من ميقات أهل مكة إن كان بها أو من ميقات أهل البستان إن كان بها يجب عليه الدم لمجاوزته غير محرم عن ميقاته الأصلي
وهذا عندنا
وعند زفر لا يسقط عنه الحج الذي وجب عليه لدخوله مكة من غير إحرام إلا أن ينوي ما وجب عليه بسبب المجاوزة
ولو تحولت السنة لا يسقط عنه إلا بتعيين النية بالإجماع لأنه صار دينا عليه فلا بد من تعيين النية
ولو أنه إذا نوى في السنة الثانية عما وجب عليه لأجل المجاوزة وأحرم لكن أحرم في وقت أهل مكة وهو بمكة أو في وقت أهل البستان وهو بها لم يخرج إلى ميقاته فإنه يسقط عنه ما وجب عليه لأجل المجاوزة
ولا يجب عليه الدم لترك التلبية عند ميقاته لأنه لما حصل بمكة صار كالمكي وكذلك إذا حصل بالبستان صار من أهله فقد أتى بالإحرام في ميقاته ونوى قضاء ما عليه فيسقط عنه فأما في السنة الأولى فهو مؤد لما عليه وقد وجب عليه الدم بسبب مجاوزة ميقاته غير محرم فلا يسقط عنه إلا بتجديد التلبية أو بالعود إليه محرما ولم يوجد
وأما بيان الإحراموهو أن يوجد منه فعل هو من خصائص الحج وتقترن به نية الحج أو العمرة بأن يقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وينوي به الحج أو العمرة إذا كان مفردا بالحج أو بالعمرة أو ينويهما جميعا إن كان قارنا
وإن كان متمتعا يريد الحج والعمرة فإن شاء ذكر العمرة أو الحج في إهلاله فيقول لبيك بحجة أو بعمرة أو بهما أو بالعمرة والحجة فإنه روي عن النبي عليه السلام أنه قال أتاني آت من ربي وقال قل لبيك بعمرة وحجة
والأفضل أن يذكر النية باللسان مع القلب فيقول اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبهلما مني
ولو ذكر مكان التلبية والتسبيح أو التهليل أو التحميد ونوى به الإحرام يصير محرما سواء كان يحسن التلبية أو لا
وكذلك إذا أتى بلسان آخر أجزأه سواء كان يحسن العربية أو لا يحسنها هكذا جواب ظاهر الرواية
وروى الحسن عن أبي يوسف أنه إذا كان لا يحسن التلبية جاز وإلا فلا كما في الصلاة
والصحيح أن هذا بالاتفاق وأما أبو حنيفة فقد مر على أصله في باب الصلاة وهما فرقا بين الصلاة والحج لأن النيابة جارية في الحج بخلاف الصلاة
ولو قلد بدنة ونوى الإحرام وساقها وتوجه معها يصير محرما سواء قلد بدنة تطوعا أو نذرا أو جزاء صيد ونحو ذلك لأن تقليد البدنة مع السوق من خصائص أفعال الحج لأن الحجاج يقلدون بدنهم وذلك بأن يعلقوا عليها شراك نعل أو عروة مزادة أو ما أشبه ذلك من الجلود
فإذا وجدت نية الإحرام مقارنة لفعل هو من خصائص الحج يصير محرما لما عرف أن مجرد النية لا يعتبر ما لم يقترن بالفعل
فأما إذا قلد بدنة ونوى الإحرام ولم يسق البدنة ولم يتوجه معها بل بعث بها على يد رجل وأقام في بلده لا يصير محرما لأنه لميوجد منه إلا الأمر بالذبح وذلك لا يكون من أفعال الحج
ولو قلد شاته وساقها ونوى الإحرام لا يصير محرما لأن تقليد الشاة غير معتاد في باب الحج
وكذلك لو جلل بدنه بأن ألبسها الجل ونوى الإحرام وساقها لا يصير محرما لأن ذلك ليس بقربة ولا نسك من مناسك الحج
ولو أشعر بدنته بأن طعنها في سنامها في الجانب الأيسر فسال منه الدم ونوى به الإحرام ولا يصير محرما أما عند أبي حنيفة فلأن الإشعار مكروه وليس بسنة وعندهما وإن كان سنة ولكن ليس من خصائص الحج لأن الناس تركوه لأنه يشبه المثلة
فأما إذا نوى عند الإحرام ولم يذكر التلبية ولم يوجد منه تقليد البدنة والسوق لا يصير محرما عندنا
وعند الشافعي يصير محرما
وروي عن أبي يوسف مثله
والصحيح قولنا لأن مجرد النية لا عبرة به لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال إن الله تعالى عفا عن أمتي ما تحدثت بها أنفسهم ما لم يتكلموا أو يفعلوا
وأما بيان الحج والعمرة والقران والمتعة على سبيل الاستقصاءفنقول إن من كان من أهل الآفاق إذا بلغ الميقات وهو يريد العمرة وحدها ولم يسق الهدي مع نفسه فإنه يتجرد ويغتسل أو يتوضأ والاغتسال أفضل
ثم يلبس ثوبين إزارا ورداء غسيلين أو جديدين ويمس منالطيب ما شاء ويدهن بأي دهن شاء سواء كان يبقى على بدنه أثره بعد الإحرام أو لا في قول أبي حنيفة أبي يوسف
وعلى قول محمد وزفر يكره أن يتطيب يبقى أثره بعد الإحرام
ثم يصلي ركعتين ثم ينوي العمرة ويلبي في دبر صلاته بذلك أو بعدما تستوي به راحلته على الوجه الذي ذكرنا ويرفع صوته بالتلبية لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال أفضل الحج العج والثج فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج هو تسييل الدم بالذبح
ثم يكرر التلبية في أدابر الصلوات المكتوبات والنوافل بعد الإحرام وكلما علا شرفا أو هبط واديا أو لقي ركبا وكلما استيقظ من منامه وفي الأسحار هكذا جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإذا أتى مكة فلا بأس بأن يدخلها ليلا أو نهارا ويأتي المسجد الحرام ويبدأ بالحجر الأسود فإن استقبله كبر ورفع يديه كما يرفع في الصلاة ثم يرسلهما ثم يستلمه إن أمكنه من غير أن يؤذي أحدا وإن لم يمكنه كبر وهلل وحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه مستقبلا بوجهه إليه
وقال مشايخنا إن الأفضل أن يقبل الحجر إن أمكنه ويستلمه فإنه روي عنعمررضي الله عنه أنه قبله والتزمه وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا
ثم يقطع التلبية عند استلام الحجر ولا يلبي بعده في العمرة
ثم يأخذ عن يمين الحجر مما يلي الباب فيفتتح الطواف فيطوف حول الكعبة سبعة أشراط يرمل في الثلاثة الأول ويمشي على هينته في الأربع البواقي من الحجر إلى الحجر ويستلم الحجر في كل شوط مفتتحا لطوافه به فإن ازدحم الناس في الرمل يرمل بعد ذلك إذا وجد مسلكا
وإن استلم الركن اليماني كما استلم الحجر الأسود
فهو حسن وإن تركه فلا يضره
وذكر الطحاوي عن محمد أنه يستلم الركن ويفعل به ما يفعل بالحجر الأسود
وينبغي أن يكون الطواف في كل شوط من وراء الحطيم فإن الحطيم من البيت
فإذا فرغ من الطواف يصلي ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام أو حيث تيسر عليه في المسجد وهي عندنا واجبة
وقال الشافعي سنة
ثم إذا فرغ من ركعتي الطواف يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه إن أمكنه أو يستقبله بوجهه ويكبر ويهلل ويحمد الله تعالى على ما ذكرنا حتى يكون افتتاح السعي باستلام الحجر كما يكون افتتاح الطواف به
ثم يخرج من باب الصفاء أو من أي باب تيسر له فيبدأ بالصفا فيصعد عليها ويقف من حيث يرى البيت ويحول وجهه إلى الكبعة ويكبر ويهلل ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل الله تعالى حوائجه
ويرفع يديه ويجعل بطون كفيه نحو السماء
ثم يهبط منها نحو المروة ماشيا على هينته حتى ينتهي إلى بطن الوادي فإذا كان عند الميل الأخضر سعى في بطن الوادي سعيا حتى يجاوز الميل الأخضر ثم يصعد على المروة مشيا على هينته
فإذا صعد يقف ويستقبل بوجهه الكعبة ويفعل مثلما فعل على الصفا ويطوف بينهما سبعة أشواط يبدأ بالصفا ويختم بالمروة يعد البداءة شوطا والعود شوطا آخر فيسعى في بطن الوادي كلما مر به
وذكر الطحاوي وقال يبتدىء في كل مرة بالصفا ويختم بالمروة ولم يعد عودة من المروة إلى الصفا شوطا
والصحيح هو الأول
فإذا فرغ من السعي يحلق أو يقصر والحلق أفضل وقد تمت العمرة وحل له جميع المحظورات الثابتة بالإحرام
وليس عليه في العمرة طواف الصدر
هذا إذا لم يسق الهدي فإن ساق الهدي أقام محرما ولم يقصر ولم يحلق للعمرة لأن سوق الهدي دليل قصد التمتع والمتمتع إذا ساق الهدي لا يحل له ما لم يفرغ من الحج فلهذا لم يقصر ولم يحلق لأنه شرط الخروج وهو لم يخرج
وأما المفرد بالحج فإنه ينوي إحرام الحج عند الميقات
فإذا أتى مكة فإنه يستقبل بطواف اللقاء تحية للبيت سبعة أشواط
والأفضل أن لا يسعى بين الصفا والمروة لأن طواف اللقاء سنة والسعي واجب فما ينبغي أن يجعل الواجب تبعا للسنة ولكنه يؤخر إلى طواف الزيارة لأنه ركن والواجب يجوز أن يكون تبعا للفرض
ومتى أخر السعي عن طواف اللقاء فإنه لا يرمل فيه وإنما الرمل سنة في طواف يعقبه السعي عرفناه بالنص بخلاف القياس فيقتصر على مورد النص لكن العلماء رخصوا في الإتيان بالسعي عقيب طواف اللقاء لأنيوم النحر الذي هو وقت طواف الزيارة يوم شغل من الذبح ورمي الجمار ونحو ذلك فكان فيه تخفيف بالناس
وإذا أتى بالسعي عقيب طواف اللقاء فينبغي أن يرمل كما في طواف العمرة
ثم الحاج لا يقطع التلبية عند استلام الحجر وفي العمرة يقطع
ثم بعد طواف اللقاء له أن يطوف ما شاء إلى يوم التروية ويصلي لكل أسبوع ركعتين في الوقت الذي يباح فيه التطوع
فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة يصلي صلاة الفجر بمكة ثم يغدو مع الناس إلى منى ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء لأوقاتها ويبيت بها ليلة عرفة
فإذا أصبح يوم عرفة يصلي صلاة الفجر بمنى لوقتها المعروف
فإذا طلعت الشمس دفع منها إلى عرفات على السكينة والوقار
فإذا بلغ إليها ينزل بها حيث أحب إلا في بطن عرفة
فإذا زالت الشمس يؤذن المؤذن والإمام على المنبر فإذا فرغ من الأذان يقوم الإمام ويخطب خطبتين قائما ويفصل بينهما بجلسة خفيفة كما في يوم الجمعة
فإذا خطب الإمام يقيم المؤذن الصلاة ويصلي بهم الإمام صلاة الظهر ثم يقوم ويصلي بهم صلاة العصر في وقت الظهر بآذان واحد وإقامتين
ولا يشتغل الإمام ولا القوم بالسنن والتطوع فيما بينهما وإذا اشتغلوا بذلك أعاد المؤذن آذان العصر ويخفي الإمام بالقراءة فيهما كما في سائر الأيام
فإن كان الإمام مقيما من أهل مكة يتم الصلاتين أربعا أربعا ويتم القوم معه وإن كانوا مسافرين لأن المسافر إذا اقتدى بالمقيم في الوقت يجب عليه الإتمام تبعا للإمام
وإن كان الإمام مسافرا يصلي ركعتين ركعتين ويقول لهم بعد الفراغ أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر
فإذا فرغ من الصلاة راح الإمام إلى الموقف والناس معه عقيب انصرافهم عن الصلاة فيقف الإمام على راحلته وهو أفضل وإلا فيقف قائما والناس يقفون معه
وكل من كان وقوفه إلى الإمام أقرب فهو أفضل لأن الإمام يعلم الناس أمور المناسك حتى يستمع منه
وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة فلا ينبغي الوقوف فيها فيقفون إلى غروب الشمس فيكبرون ويهللون ويحمدون الله ويثنون عليه ويصلون على النبي عليه السلام ويسألون الله تعالى حوائجهم فإنه وقت مرجو قال النبي عليه السلام أفضل الدعاء دعاء أهل عرفة وأفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبلي عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير وروي عن النبي عليه السلام أنه قال إن الله تعالى يباهي بأهل عرفة يوم عرفة فيقول انظروا ملائكتي إلى عبادي يأتون شعثا غبرا يأتون من كل فج عميق اشهدوا أني قد غفرت لهم فيرجعون كيوم ولدتهم أمهم
فإذا غربت الشمس دفع الإمام والقوم خلفه على السكينة والوقار إلى مزدلفة من غير أن يصلوا صلاة المغرب بعرفة فإن دفع أحد منهم قبل غروب الشمس ينظر إن جاوز حد عرفة بعد غروبالشمس فلا شيء عليه فإن جاوز قبل الغروب وجب عليه دم وإن عاد إلى عرفة قبل الغروب ثم دفع الإمام والقوم بعد الغروب سقط عنه الدم وقالزفر لا يسقط كما في مجاوزة الميقات
وإن عاد إلى عرفة بعد الغروب لا يسقط الدم بالإجماع
ثم وقت الوقوف بعرفة بعد زوال الشمس من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر فمن حصل في هذا الوقت بعرفات وهو عالم بها أو جاهل أو نائم أو مغمى عليه فوقف بها أو مر بها ولم يقف صار مدركا للحج ولا يحتمل الفوات بعده لقوله عليه السلام الحج عرفة فمن وقف بها فقد تم حجه غير أنه إن أدرك عرفة بالنهار وعلم به فإنه يقف بها إلى غروب الشمس فإن لم يقف بها ومر بها بعد الزوال قبل الغروب يجب عليه الدم
وإن أدركها بعد الغروب فلم يقف ومر بها فلا شيء عليه
وإن لم يدرك عرفة حتى طلع الفجر من أول يوم النحر فقد فات حجه وسقط عنه أفعال الحج ويتحول إحرامه إلى العمرة فيأتي بأفعال العمرة ويحل ويجب عليه قضاء الحج من قابل إلا في فصل واحد وهو إنه إذا اشتبه عليهم هلال ذي الحجة فأكملوا عدة ذي القعدة ثلاثين يوما ووقفوا بعرفة ثم تبين أن ذلك يوم النحر فإن وقوفهم صحيح وحجهم تام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حجكم يوم تحجون
ثم إذا أتوا مزدلفة ينزل واحد حيث أحب بمزدلفة إلا وادي محسر ويكره النزول على قارعة الطريق ولكن يتنحى عنه يمنة أو يسرة حتى لا يتأذى به المار
فإذا غاب الشفق ودخل وقت العشاء يصلي الإمام بهم صلاةالمغرب في وقت العشاء ثم يصلي بهم صلاة العشاء بآذان واحد وإقامة واحدة ولا يشتغل بينهما بتطوع ولا بغيره فإن اشتغل بذلك فينبغي أن تعاد الإقامة ويصلي العشاء لأنه وجد الفاصل بينهما فلا بد من الإقامة لإعلام الناس
ثم يبيت هو مع الإمام والناس بمزدلفة
فإذا طلع الفجر يصلي الإمام مع الناس بغلس ثم يقف مع الناس في موضوع الوقوف والأفضل أن يكون وقوف الناس خلف الإمام عند الجبل الذي يقال له قزح
ووقت الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر من يوم النحر إلى أن يسفر جدا فمن حصل في هذا الوقت في جزء من أجزاء المزدلفة فقد أتى بالوقوف ولا شيء عليه غير أن السنة ما وصفنا
ومن مر إلى منى قبل الوقوف بمزدلفة قبل طلوع الفجر فعليه دم لترك الوقوف بمزدلفة إذ هو واجب إلا إذا كان به علة وضعف فيخاف الزحام فيدفع منها ليلا ولا شيء عليه لما روي عن النبي عليه السلام أنه رخص للضعفة أن يتعجلوا من مزدلفة بليل
ثم يفيض الإمام مع القوم من مزدلفة قبل طلوع الشمس ويأتي منى
وينبغي أن يأخذ كل واحد حصى الجمار من المزدلفة أو من الطريق ولا يأخذ من الجمار التي رميت عند الجمرة لما قيل إنه حصى من لم يقبل حجة فإن من قبلت حجته رفعت جمرته
ثم يأتي جمرة العقبة قبل الزوال فيرميها بسبع حصيات في بطن الوادي من أسفل إلى أعلى فوق حاجبه الأيمن مثل حصى الخزف ويكبر مع كل حصاة يرميها ولا يرمي يومئذ من الجمار شيئا غيرهاولا يقف عندها وبأي شيء رماه من الأرض أجزأه حجرا كان أو طينا
ولو رمى جمرة العقبة بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس أجزأه عندنا
وعند الشافعي لا يجوز إلا بعد طلوع الشمس
والأفضل عندنا أن يرمي بعد طلوع الشمس
ثم يرجع إلى منى فإن كان معه شاة يذبح وإن لم يذبح فلا يضره لأنه مفرد بالحج فلا دم عليه فينبغي أن يحلق أو يقصر والحلق أفضل
وإن كان قارنا أو متمتعا فعليه الذبح فينبغي أن يذبح أولا ثم يحلق أو يقصر
فإذا حلق حل له كل شيء إلا النساء
ثم يزور البيت من يومه ذلك ويطوف طواف الزيارة أو من الغد أو بعد الغد فوقته أيام النحر وهي ثلاثة أيام وأولها أفضل
ثم إن سعى في طواف اللقاء لا يرمل في طواف الزيارة وإن لم يسع عقيب طواف اللقاء فيسعى عقيب طواف الزيارة بين الصفا والمروة ويرمل في هذا الطواف
فإذا طاف طواف الزيارة أو أكثره حل له النساء أيضا
ثم يخرج إلى منى ولا يبيت بمكة ولا بالطريق ويكره أن يبيت في غير منى في أيام منى
فإذا كان في اليوم الثاني من أيام النحر رمى الجمار الثلاث بعد الزوال فيبدأ بالجمرة الأولى التي عند مسجد الخفيف فيرمها بسبعحصيات مثل حصى الخزف ويكبر مع كل حصاة يرميها وقف عندها ويكبر ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على النبي عليه السلام ويدعو الله حوائجه ويرفع يديه عند الدعاء بسطا
ثم يأتي الجمرة الوسطى ويفعل فيها كما يفعل في الأولى
ثم يأتي جمرة العقبة فيفعل بها كما فعل بالأمس ولا يقف
ثم يرجع إلى رحله فإن أراد أن ينفر من منى إلى مكة فله ذلك لقوله تعالى { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه }
وإن أقام ولم ينفر حتى طلع الفجر من اليوم الثالث من أيام النحر فعليه أن يرمي الجمار الثلاث فيه بعد الزوال كما رماهن بالأمس فيقف عند الجمرتين الأوليين ولا يقف عند العقبة
وإذا أراد أن ينفر ويدخل مكة نفر قبل غروب الشمس فإن لم ينفر حتى غربت الشمس فإن الأفضل له أن لا ينفر حتى يرمي الجمار الثلاث من الغد
ولو نفر قبل طلوع الفجر من اليوم الرابع فلا شيء عليه وقد أساء
وعلى قول الشافعي إذا أغربت الشمس من اليوم الثالث فلا يحل له النفر حتى يرمي الجمار الثلاث في اليوم الرابع
وكذلك عندنا إذا طلع الفجر من اليوم الرابع وهو آخر أيام التشريق يجب عليه الإقامة ولا يحل له النفر حتى يرمي الجمار الثلاث كما في الأمس ولو نفر قبل الرمي فعليه دم
ثم من نفر في النفر الأول أو في الثاني فإن له أن يحمل ثقله مع نفسه ويكره أن يقدمه لأنه سبب لشغل قلبه
وينبغي أن ينزل بالأبطح ساعة ويقال له المحصب وهو موضع بين منى ومكة لأن النبي عليه السلام نزل به
ثم يدخل مكة ويطوف طواف الصدر لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف
فإذا فرغ من طواف الصدر فيأتي المقام فيصلي عنده ركعتين ثم يأتي زمزم ويشرب من مائها قائما ويصب بعضه على وجهه ورأسه
ثم يأتي الملتزم وهو بين الحجر الأسود والباب ويضع صدره ووجهه عليه ويتشبث بأستار الكعبة ويسأل الله تعالى حوائجه ثم يستلم الحجر ويكبر الله إن أمكنه أن يدخل البيت فحسن وإن لم يدخل أجزأه ولا يضره
ثم يرجع فإن أراد أن يعتمر بعد الفراغ من الحج وبعدما مضى أيام النحر والتشريف كان له ذلك ولكنه يخرج إلى التنعيم فيحرم من ذلك الموضع لأنه لما فرغ من الحج صار كواحد من أهل مكة وميقاتهم للعمرة من الحل نحو التنعيم وغيره
وليس على أهل مكة ولا على أهل المواقيت طواف الصدر إذا حجوا لأنه طواف الوداع عند المفارقة وهم غير مفارقين للبيت
وليس على المعتمرين من أهل الأفاق طواف الصدر أيضا لأن ركن العمرة هو الطواف فكيف يصير ركنه تبعا له
وليس على الحائض والنفساء طواف الصدر ولا شيء عليهما التركة لأن النبي عليه السلامرخص للنساء الحيض بتركه ولم يأمرهن بإقامة شيء مقامه
ولو نفر قبل طواف الصدر فقبل أن جاوز الميقات له أن يرجع ويطوف لأنه واجب
وإن جاوز فإن مضى يجب عليه الدم وإن رجع لا بد له من إحرام العمرة فيرجع ويعتمر ثم يطوف للصدر
هذا في حق المفرد بالحج
وأما القارن فحكمه ما ذكرنا في المفرد بالحج إلا أنه يحرم بالحج والعمرة جميعا ثم إذا أتى مكة يطوف لعمرته ويسعى ثم بعد ذلك يطوف ويسعى لحجته ويقدم أفعال العمرة على أفعال الحج
فأما إذا أفرد بالحج ثم قبل الفراغ من أفعال الحج أحرم للعمرة يصير قارنا أيضا لكنه أساء لترك السنة فإن السنة تقديم أفعال العمرة على أفعال الحج للقارن
وإذا جاء وقت الحلق فإنه يذبح أولا ثم يحلق
وأما المتمتع فإنه يحرم للعمرة أولا ويأتي بها قبل يوم التروية ثم يحرم للحج سواء حل من العمرة أو لم يحل وهو ممن يحصل له العمرة والحج في أشهر الحج بسفر واحد من غير أن يلم بأهله فيما بينهما إلماما صحيحا
ولو قدم إحرامه للحج على يوم التروية فهو أفضل
وهذا إذا لم يسق مع نفسه هدي المتعة
فأما إذا ساق فإنه لا يحل عن إحرام العمرة إلا بعد الفراغ من الحج فله أن يحرم بالحج ويتم
ثم المتعة والقران مشروعان في حق أهل الأفاق
فأما في حق حاضري المسجد الحرام وهم أهل مكة وأهل داخلالمواقيت فمكروه
وأصله قوله تعالى ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) إلى أن قال ( ذلك لمن لم يكن أهلة حاضري المسجد الحرام )
ولو تمتعوا مع ذلك أو قرنوا يجوز ويلزمهم دم لإساءتهم ويكون ذلك دم جبر حتى لا يحل لهم أكله وعليهم أن يتصدقوا به على الفقراء
فأما في حق أهل الآفاق فمشروعة مستحبة ويلزمهم الدم شكرا لما أنعم الله عليهم في الجمع بين النسكين بسفر واحد حتى يحل له الأكل منه ويطعم من شاء من الغني والفقير ولا يجب عليه التصدق لكن المستحب أن يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويهدي الثلث إلى أقربائه وجيرانه
كما في الأضحية
وإنما يذبح في أيام النحر ويذبح في الحرم فإن كان معسرا ولم يجد الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام قبل يوم عرفة بعد إحرام العمرة والأفضل أن تكون ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة
فإن فعل ذلك ثم جاء يوم النحر حلق أو قصر ثم يصوم سبعة أيام بعد مضي أيام النحر والتشريق وإن لم يرجع إلى أهله
وهذا عندنا
وقال الشافعي يصوم السبعة بعدما رجع إلى أهله ولا يجوز قبله لقوله تعالى { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة }
إلا أنا نقول معنى قوله رجعتم أي فرغتم من أفعال الحجكذا قال أهل التفسير
ثم القران أفضل من الإفراد عندنا ثم التمتع ثم الإفراد
وقال الشافعي الإفراد أفضل منهما جميعا
وقال مالك التمتع أفضل ثم القران ثم الإفراد
وحاصل الخلاف أن القارن محرم بإحرامين ولا يدخل إحرام العمرة في إحرام الحج عندنا
وعنده يكون محرما بإحرام واحد ويدخل إحرام العمرة في إحرام الحج لقوله عليه السلام دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة
ولكنا نستدل بإجماع الأمة على تسميته قرانا والقران يكون بين شيئين وأما الحديث فتأويله دخل وقت العمرة في وقت الحجة فإنهم كانوا يعدون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فنسخ الإسلام ذلك
وينبني على هذا الأصل مسائل منها ما قلنا إن القران أفضل لأنه جمع بين العبادتين بإحرامين وعنده بخلافه
ومنها أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعين ويقدم أفعال العمرة على أفعال الحج وعنده يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا
ومنها أن الدم الواجب فيه دم نسك عندنا شكرا للجمع بين العبادتين وعنده دم جبر لتمكن النقصان في الحج بسبب إدخال العمرة فيه حتى لا يحل له أكل هديه عنده وعندنا يحل
ومنها أنه إذا تناول محظور إحرامه فإنه يجب عليه دمان عندناوعنده يجب عليه دم واحد
ومنها أنه لو أحصر القارن فإنه يحل بهديين عندنا وعنده يهدي واحد
ثم النساء في الحج والعمرة كالرجال إلا في أشياء منها أنه لا يحرم عليهم لبس المخيط
وعليهن أن يغطين رؤوسهن لكن لا يغطين وجوههن ولو غطين حافين فيكون إحرامهم في وجوهن
وكذا لا يرفعن أصواتهن بالتلبية
وكذا لا يرملن في الطواف
ولا يسعين في بطن الوادي بين الصفا والمروة بل يمشين على هينتهن
ولا يحلقن رؤوسهن ولكن يقصرن فيأخذن من أطراف شعورهن قدر أنملة
ويسقط عنهن طواف الصدر في باب الحج إذا حضن أو نفسن
ولا يجب عليهم بتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر بسبب الحيض والنفاس شيء
باب آخر جمع في الكتاب مسائل الإحصار

ومسائل المحظورات
ومسائل الأمر بالحج
وبدأ بالإحصار فقال من منع عن الوصول إلى البيت بعدما أحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما بسبب مرض أو عدو فهو محصر
والكلام في الإحصار في مواضع أحدها أن الإحصار قد يكون بالعدو كفارا كانوا أو مسلمين وقد يكون بالمرض أو بعلة مانعة عن المشي وهذا عندنا
وقال الشافعي لا يكون إلا بالعدو
وعلى هذا إذا أحرمت المرأة بحجة الإسلام فلم تجد محرما أو مات عنها زوجها فهي محصرة
فأما إذا سرقت نفقة الحاج
أو هلكت راحلته فإن كان لا يقدر على المشي أو يقدر في الجملة لكن يخاف أن لا يمكنه المشي مع القافلة فإنه يكون محصرا وإن كان ممن يقدر على المشي لا يكون محصرا بل يجب عليه أن يذهب بخلاف ما إذا لم يكن قادرا على الراحلة فيالابتداء لأنه صار الحج لازما عليه بسبب الشروع
فأما المرأة إذا أحرمت بالحج تطوعا فللزوج أن يمنعها لأن منفعتها ملك الزوج ولم تصر مستثناة في حق التطوع فتصير محصرة وللزوج أن يحللها بأن يقبلها أو يعانقها فتحل للحال من غير أن تذبح وعليها أن تبعث الهدي فيذبح في الحرم لأن الإحلال مستحق عليها حقا للزوج
وكذلك العبد والأمة إذا أحرما فللمولى أن يحللهما وعليها الهدي بعد العتاق وقضاء الحج والعمرة لأنه يصير واجبا بالشروع
ولو أذن المولى لعبده في الحج فأحرم يكره له أن يحلله لأنه خلاف وعده ولكن مع هذا لو حلله يجوز ويحل ولا يلزم المولى الهدي بسبب الإحلال لأن الإحلال حق المولى
وقال أبو يوسف ليس له أن يحلله لأنه أسقط حق نفسه بالإذن
ولو باع العبد فللمشتري أن يحلله من غير كراهة وعلى قولزفر يكره
ولو أذن لأمته بالحج ولها زوج فأحرمت فليس للزوج أن يحللها لأن للمولى أن يسافر بها فكان له أن يأذن بذلك
والصحيح مذهبنا لأن الإحصار يتحقق بكل مانع من الوصول إلى البيت قوله تعالى { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } من غير فصل بين سبب وسبب فهو على الإطلاق
ومنها حكم الإحصار وهو أن يبعث الهدي إلى الحرم أو يأمر رجلا ليشتري هديا ثمة ويواعده بأن يذبحه عنه ثمة في يوممعين فإذا ذبحه عنه يحل له كل شيء ولا يحتاج إلى الحلق في قول أبي حنيفة ومحمد وإن فعل فحسن
وقال أبو يوسف ينبغي أن يحلق وإن لم يفعل فلا شيء عليه
وروي عنه أنه واجب لا يسع تركه
وله أن يرجع إلى أهله إذا بعث الهدي سواء ذبح عنه أو لا لأن إذا لم يتمكن من المشي إلى الحج فلا فائدة في المقام
ومنها أن يتحلل بشاة وإن كان اسم الهدي يقع على الشاة والإبل والبقر لما روى جابر أن النبي عليه السلام أمر الناس عام الحديبية أن يتحللوا بشاة ويذبحوا البقرة عن سبعة
ومنها أن هدي الإحصار لا يجوز ذبحه إلا في الحرم عندنا
وعند الشافعي في الموضع الذي يتحلل فيه
والصحيح مذهبنا لقوله تعالى { والهدي معكوفا أن يبلغ محله }
ومنها أن دم الإحصار يجوز تقديمه على أيام النحر عند أبي حنيفة
وقال أبو يوسف ومحمد لا يجوز تقديمه على أيام النحر
وأجمعوا أن هدي الإحصار عن العمرة يجوز في أي وقت شاء
ومنها أن المحصر إذا لم يجد الهدي ولا ثمن الهدي لا يحل بالإطعام والصوم بل يبقى محرما إلى أن يجد الهدي
فيذبح عنه في الحرم بأمره أو متى زال الإحصار فيذهب إلى مكة فيحج إن بقي وقت الحج وإن فات وقت الحج فيتحلل بأفعال العمرة
هذا هو المشهور من قولنا
وقال عطاء بن أبي رباح يحل بالإطعام ثم بالصوم بأن يقوم الهدي طعاما فيتصدق به على المساكين وإن لم يجد الطعام يصوم لكل نصف صاع يوما
وبه أخذ أبو يوسف في رواية
وقال الشافعي في قول يحل بالصوم ويصوم ثلاثة أيام في الحج ويصوم سبعة أيام بعدها كما في المتمتع والقارن
وفي قول يطعم وإن فات
ومنها أن المحصر إذا حل بالهدي فعليه قضاء حجة وعمرة من القابل أما الحجة فلأنه أوجبها بالشروع وإن كانت تطوعا وإن كانت حجة الإسلام وفاتت فعليه أداؤها وعليه قضاء عمرة لفوات الحج في عامة ذلك وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة هذا هو الأصل
فإذا خرج بالهدي فعليه قضاء العمرة التي يتحلل بها فائت الحج وإن كان قارنا يقضي حجة وعمرة مكان ما فاته من الحج والعمرة وعمرة أخرى لكونه فائت الحج
ومنها ما ذكرنا أن القارن إذا أحصر يبعث بهديين وما لم يذبحا جميعا لا يحل خلافا للشافعي
ومنها أنه إذا ذبح هديه قبل اليوم الذي واعد فيه أو قبل يوم النحر على قولهما وقد باشر أفعالا هي حرام بسبب الإحرام فإنه يجب عليه الجزاء لأنه متى ذبح في غير ذلك اليوم أو ذبحه في غير الحرم فهو محمر بعد والمحرم إذا باشر محظوره يجب عليه الجزاء
ومنها أنه إذا زال الإحصار وقدر على إدراك الهدي والحج جميعا فإنه يجب عليه التوجه إلى البيت لأن الهدي إنما شرع عند الضرورة للإحلال وقد زالت الضرورة
وإن قدر على إدراك الهدي دون الحج فقد تحقق الإحصار لأنه لا فائدة في إدراك الهدي إذا فات الحج فيذبح عنه ويحل ولا يجب عليه الذهاب إلى مكة
وإن قدر على إدراك الحج دون الهدي فهذا إنما يتحقق على قول أبي حنيفة في الحج وعند الكل في الإحصار بالعمرة لأن ذبح الهدي غير مؤقت بيوم النحر فأما عندهما ففي ذبح هدي الإحصار عن الحج لا يتحقق لأنه يذبح يوم النحر فإذا أدرك الحج فقد أدرك الهدي
ثم الجواب على قياس قوله لا يحل بالهدي لأنه لم يتحقق بالإحصار لأنه صار قادما على أداء الحج فصار كالشيخ الفاني إذا قدر على الصوم
وفي الاستحسان يحل بالهدي لأنه لما لم يكن قادرا على إدراك الهدي صار حلالا بالذبح
فإن ذهب من عامه ذلك إلى قضاء الحج فإنه يقضي بإحرام جديد وعليه قضاء الحج لا غير لأنه لم يفت عنه الحج في هذا العام
وإن قضى في عام آخر فعليه قضاء الحج وعليه العمرة لفوات الحج من العام الأول
وأما مسائل المحظوراتفنقول إذا لبس المحرم المخيط فإن كان يوما كاملا فعليه دم فأما إذا كان في بعض اليوم فإنه يجب عليه صدقة لأن لبس المخيط إنما حرم لكونه من مرافق المقيمين واللبس يوما كاملا يكون استمتاعا كاملا فعليه دم وإلا فيجب بقدره من الصدقة بأن يقسم قيمة الهدي على ساعات اليوم فما يصيب ذلك الوقت الذي ليس فيه يجب عليه بقدره وكذا قال بعض أصحابنا
وروي عن أبي يوسف أنه يطعم نصف صاع من بر
وكل صدقة في الإحرام غير مقدرة فهي نصف صاع إلا في قتل الجرادة والقملة فهي كف من طعام
ولو لبس جميع الثياب ولبس الخفين أيضا لا يلزمه إلا جزاء واحد لأن الجنس واحد
ولو لبس قلنسوة ولف عمامة للضرورة لا يلزمه إلا فدية واحدة
ولو وضع قميصا على رأسه وقلنسوة يلزمه للضرورة فدية وللقميص دم لأنه لا حاجة إلى القميص في الرأس
ولو لبس قميصا للضرورة ولبس خفين من غير ضرورة يلزمه الفدية لأجل الضرورة والدم لأجل الخفين من غير ضرورة
وكذلك الجواب في لبس الخفين وتغطية الوجه والرأس في حق الرجل
أما المرأة فعليها أن تغطي رأسها ولكن لا تغطي وجهها
ثم في الجواب ظاهر الرواية إذا غطى ربع الرأس أو الوجه يوما واحدا يجب عليه الدم وإن كان أقل من يوم يجب عليه الصدقة بقدره
وفي رواية عن محمد أنه قدر بالأكثر
وإن ألقى على منكبيه قباء أو توشح قميصا أو اتزر بسراويل لا شيء عليه لأنه ليس بلبس معتاد
وكذا لو غطى رأسه بما لبس بمعتاد بأن وضع الإجانة على رأسه أو جوالق حنطة على رأسه فلا شيء عليه
ولو أدخل اليد في الكمين بعدما ألقى القباء على منكبيه يجب الجزاء لأن لبس القباء في العادة هكذا
وإن لم يجد النعلين ينبغي أن يقطع الخفين أسفل من الكعبين ويلبس ولا شيء عليه
وكذا لو فتق السراويل ولم يبق إلى موضع التكة لا شيء عليه لأن هذا اتزار وليس بلبس
ولو حلق رأسه أو ربع رأسه فعليه دم عند أبي حنيفة وعندهما إن حلق أكثر الرأس يجب دم وإن كان أقل يجب صدقة
ولو قلم الأظفار إن كان قلم يدا واحدة ورجلا واحدة أو قلم الأظافير كلها لا يلزمه إلا دم واحد لأن جنس الجنابة واحد
ولو قلم خمسة أظافير من اليدين أو الرجلين لا يجب عليه الدم لأن هذا ليس من باب الارتفاق ولكن يجب لكل ظفر نصف صاع من حنطة
وهذا إذا فعل بغير عذر
فأما إذا فعل بعذر فعليه الفدية وهو أحد الأشياء الثلاثة صيام ثلاثة أيام أو صدقة على ستة مساكين أو ذبح شاة لقوله تعالى { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك }
ثم المحرم يحرم عليه أخذ صيد البر وقتله والإشارة إليه والدلالة عليه فأما صيد البحر فحلال له قال الله تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما }
والصيد ما كان متوحشا ممتنعا إما بجناحيه أو بقوائمه حتى إن الدجاج والبط الأهلي لم يكن من الصيد
فإن قتل صيدا
فإن لم يقصد الصيد بالإيذاء يلزمه الجزاء
وأما إذا قصد بالإيذاء وإن لم يكن مؤذيا في الأصل أو كان من جملة المؤذيات كالكلب العقور والذئب فلا شيء عليه
وأصله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال خمس يقتلن في الحل والحرم الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور وفي رواية الغراب الأبقع
وإذا قتل شيئا من غير المؤذيات ابتداء ينظر إما إن كان مأكول اللحم أو لم يكن مأكول اللحم
فإن كان مأكول اللحم فإنه يجب عليه قيمته عند أبي حنيفة وأبي يوسف وتعتبر قيمته في الموضع الذي قتله فيه إن كان مما يباع في ذلك الموضع أو في أقرب الأماكن الذي يباح فيه ويقوم
وإذا ظهرت قيمته فالخيار إلى القاتل عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وفي رواية الكرخي إن بلغت قيمته هديا إن شاء اشترى بها هديا فذبح في الحرم وإن شاء اشترى بها طعاما فتصدق على كل فقير نصف صاع من حنطة وإن شاء صام مكان كل نصف صاع من حنطة يوما
فإن اشترى هديا ذبح في الحرم سقط عنه الجزاء بمجرد الذبح حتى إنه لو سرق بعد الذبح أو ضاع بوجه ما قبل التصدق فلا شيء عليه ولو تصدق بكله على فقير واحد جاز لا يجب عليه التفريق على المساكين
ولو ذبحه في الحل لا يسقط عنه الجزاء إلا إذا تصدق بلحمه على الفقراء على كل فقير قدر قيمة نصف صاع من حنطة فيجزئه بدلا عن الطعام أو الصيام إذا بلغت قيمته قيمة الصيد وإلا فيكمل
وإذا اختار الطعام أو الصيام يجزئانه في الأماكن كلها
ويجوز في الإطعام الإباحة والتمليك
ويجوز الصوم متتابعا ومتفرقا
ولو لم تبلغ قيمة الهدي فله الخيار بين الإطعام والصيام
والهدي هو كل ما يجوز في الأضاحي من الثنايا في المعز والشاة التي أتت عليها السنة إلا الجذع من الضأن إذا كان عظيما وهو الذي أتت عليه ستة أشهر فصاعدا
وفي رواية الطحاوي عن محمد الخيار في ذلك إلى الحكمين إن شاءا حكما عليه هديا وإن شاءا حكما عليه طعاما وإن شاءا حكما عليه صياما وليس له أن يخرج من حكمهما فإن حكما عليه هديا يجب عليه ذبح نظير المتلف من النعم الأهلي من حيث الهيئة والصورة إن كان له نظير من حيث الصورة عند محمد والشافعي سواء كانت قيمته مثل قيمة المتلف أو أقل أو أكثر بأن يجب في الظبي شاة وفي النعامة بدنة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة والجفرة من أولاد المعز الذي أتى عليه ستة أشهر
وإن لم يكن له نظير من حيث الخلقة فإنه يشتري بقيمته هديا فيذبح في الحرم
فأما إذا ما حكما عليه طعاما أو صياما فعلى ما قال أبو حنيفة و أبو يوسف
فأما إذا كان المقتول غير مأكول اللحم سوى المؤذيات المنصوص عليها وقد قتله ابتداء لا بطريق الدفع لأذاة فإنه يجب عليه الجزاء عندنا خلافا للشافعي إلا أنه لا يجاوز عن ثمن هدي وإن كانت قيمته أكثر من ذلك في ظاهر الرواية
وعن الكرخي أنه قال لا يبلغ دما بل ينقص منه شيء
هذا حكم المحرم
فأما حكم صيد الحرم فنقول إن أخذ صيد الحرم وقتله حرام لحرمة الحرم قال النبي عليه السلام في صفة الحرم لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها
إذا ثبت هذا فنقول الحلال إذا أتلف صيدا مملوكا في الحرام معلما كالبازي والحمام فإنه يجب عليه قيمتان قيمته معلما للمالك وقيمته غير معلم حقا لله تعالى لأنه جنى على حقين إلا أن في حق الله تعالى يضمن من حيث إنه صيد لا من حيث إنه معلم
ولو أتلف صيدا غير مملوك يجب عليه جزاء واحد وهو قيمته
ولو أتلف المحرم صيدا الحرم فالقياس أن يجب عليه جزآن لوجود الجناية على الحرم والإحرام
وفي الاستحسان يجب عليه جزاء واحد لأن حرمة الإحرام أقوى من حرمة الحرم فيجب اعتبار الأقوى
ولو اشترك الحلالان في إتلاف صيد الحرم يجب عليهما جزاء واحد لأنه في معنى إتلاف مال الناس كإتلاف المساجد لأن منافعها ترجع إلى العباد فكان واجبا بطريق الجبر والفائت واحد فيكتفي بضمان واحد بخلاف المحرمين إذا أتلفا صيدا يجب على كل واحد منهما جزاء كامل لأنه وجب حزاء الفعل وفعل كل واحد منهما جناية على حدة
ولو اشترك الحلال والحرام في قتل صيد خارج الحرم إن كان غير مملوك لا يجب على الحلال شيء ويجب على المحرم جزاء كامل
وإن كان مملوكا يجب على الحلال نصف القيمة للمالك وعلى المحرم نصف القيمة للمالك وجزاء كامل لأجل الجناية على الإحرام
ولو أن حلالا ومفردا بالحج اشتركا في قتل صيد الحرم يجب على الحلال نصف الجزاء وعلى المفرد جزاء كامل
ولو اشترك الحلال والقارن يجب على الحلال النصف وعلى القارن جزآن
ولو اشترك الحلال والقارن والمفرد يجب على الحلال ثلث الجزاء وعلى المفرد جزاء واحد وعلى القارن جزآن
وكذلك قطع شجرة وحشيش نبت بنفسه في الحرم فإنه يحرم قطعه وعليه الجزاء بقدر قيمته
وإن كان مما ينبته الناس وصار ملكا لهم لا يجب الجزاء بقطعه ولكن تجب القيمة لصاحبه إلا في الإذخر فإنه لا يجب بإتلافه شيء فإن النبي عليه السلام لما قال لا يختلى خلاها قال العباس إلا الإذخر فقال الإذخر استثناه وحكم المستثنى خلاف حكم المستثنى منه
وأما الكمأة في الحرم فلا بأس بأخذها لأنها ليست من جنس النبات
وكذلك إذا جف النبات والشجر وسقط فلا بأس بأخذه لأنه ليس من النبات لأنه خرج عن حد النمو
ولو أن الحلال إذا دخل الحرم ومعه صيد مملوك يجب عليه إرساله في الحل ولم يجز بيعه لأن التعرض للصيد حرام عليه في الحرم وفي إمساكه تعرض له وكذلك في بيعه
ومعنى يجب عليه إرساله في الحل أن يضعه في يد رجل وديعة لا أن يضيعه ويطيره
ولو ذبحه يجب عليه الجزاء لأنه لما وجب عليه الإرسال لحرمة الحرم فيكون بالذبح تاركا للواجب
وكذلك الجواب في المحرم في الحل إذا كان في يده صيد مملوك يجب أن يرسله في يد رجل ولا يجوز له أن يبيعه ويذبحه لأنه تعرض له وإزالة لأمنه وعليه الجزاء لو فعل ذلك
وأما مسائل الأمر بالحجفنقول من مات وعليه حجة الإسلام وله مال فلا يخلو إما إن أمر بأن يحج عنه وأوصى به أو لم يأمر الوصي بشيء
أما إذا لم يوص سقط عنه في حق أحكام الدنيا ولا يجب على الوارث والوصي أن يأمر بالحج عنه بماله عندنا
وقال الشافعي يجب كمن مات وعليه الزكاة من غير إيصاء فإنه تسقط الزكاة عنه عندنا خلافا له وقد ذكرنا في كتاب الزكاة
ولو أحج الوارث عنه رجلا بمال نفسه أو حج عنه بنفسه من غير وصية من الميت قال تسقط عن الميت حجة الإسلام إن شاء الله
وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه سأله رجل وقال إن أمي قد ماتت ولم تحج أفأحج عنها فقال نعم
وإنما قال يجوز إن شاء الله لأن سقوط الحج بفعل الوارث بغير أمره أنما يثبت بخبر الواحد وإنه لا يوجب العلم قطعا فلا يحكم بسقوطه عنه قطعا ولكن علق السقوط بالمشيئة احترازا عن الشهادة على الله تعالى من غير علم قطعا
فأما إذا أوصى فإنه تصح وصيته من الثلث لأن ديون الله تعالى من حيث إنه لا يجب بمقابلتها عوض مالي فهي بمنزلة التبرعات فيعتبر خروجها من الثلث
ويحج عن الميت من بلده الذي يسكنه إن بلغ الثلث ذلك لأن الواجب عليه الحج من بلده الذي هو يسكنه
ولو أنه خرج إلى بلد آخر أقرب إلى مكة فمات فيه وأوصى بالحج ينظر إن خرج لغير الحج يحج من بلده بالاتفاق
فأما إذا خرج للحج ثم مات في الطريق قال أبو حنيفة يحج من بلده
وقالا يحج من حيث بلغ لأن الخروج من بلده بنية الحج يعتد من الحج ولم يسقط اعتباره بالموت قال الله تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } ألا أن أبا حنيفة قال إنه لما لم يتصل بالحج بذلك الخروج خرج من أن يكون وسيلة وإن كان حكم الثواب قائما بوعد الله ألا ترى أنه إذا خرج إلى السقر بنية الحج ثم أقام في بعض البلاد لعذر حتى دارت السنة ثم مات وأوصى بأن يحج عنه فإنة يحج عنة من بلدة لا منهذا الموضع الذي ما لما ذكرنا كذا هنا
ولو أوصى بأن يحج عنه من غير بلده من موضع أقرب إلى مكة أو أبعد فإنه يحج عنه كما أوصى لأنه لا يجب الإحجاج عنه بدون الوصية فيجب بمقدار الوصية
وكذلك إذا أوصى بأن يحج عنه بمال مقدر إن كان يبلغ أن يحج عنه من بلده يحج من بلده وإلا يحج عنه من حيث بلغ لأنه لما عين المال يجب الحج بهذا القدر من المال لأنه لم توجد الوصية بالزيادة عنه وبدون الوصية لا يجب
وأما إذا أوصى بأن يحج عنه مطلقا فإنه يحج عنه من ثلث ماله فإن بلغ ثلث ماله أن يحج عنه من بلده يجب ذلك
وإن لم يبلغ من بلده فالقياس أن تبطل الوصية لأنه لا يمكن تنفيذها على ما قصده الموصي
وفي الاستحسان يحج من حيث يبلغ لأن قصده إسقاط الفرض عن نفسه فإن لم يكن على الكمال فيصر إلى قدر الممكن
ثم إن كان الثلث يبلغ أن يحج عنه راكبا من بلده فأحج عنه ماشيا لم يجز لأن الفرض هو الحج راكبا
أما إذا لم يبلغ الحج راكبا من بلده وبلغ الحج راكبا من بلد آخر أقرب إلى مكة ومن بلده ماشيا روى هشام عن محمد أنه يحج من حيث بلغ راكبا ولا يجوز أن يحج من بلده ماشيا لما ذكرنا أن الفرض هو الحج راكبا فتنصرف الوصية إليه
وروى الحسن عنأبي حنيفة أنه قال أن أحجوا عنه ماشيا من بلدة جاز وإن أحجوا راكبا من حيث بلغ جاز لأن في كل واحدمن الوجهين نقص من وجه وكمال من وجه فاستويا
ثم الأفضل أن يحج عنه من قد حج عن نفسه حجة الإسلام لأن من حضر مكة يكره له أن يترك حجة الإسلام فيكون ما أدى حجا مكروها ولكن جاز لأن النبي عليه السلام قال للخثعمية حجي عن أبيك ولم يسألها عن الحج عن نفسها ولو كان الحكم يختلف لاستفسر
وهذا عندنا
وقال الشافعي لا يجوز ويقع الحج عن الضرورة أي عن نفسه
وعلى هذا إذا حج الضرورة بنية التطوع يقع عن التطوع عندنا وعنده يقع عن الفريضة
ثم الحاج عن غيره إذا أصاب في إحرامه ما يوجب الدم وغير ذلك من الصدقة فهو على الحاج
وكذا دم المتعة والقران إذا أمر بالقران
ولا يجب على المحجوج عنه إلا دم الإحصار لأن هذه الدماء إنما وجبت لفعله فإما دم الإحصار فإنه يجب للتخليص عن مشقة السفر وهو الذي أوقعه في هذه المشقة فعليه التخليص
ولو جامع الحاج عن غيره قبل الوقوف بعرفة فسد حجه ويمضي فيه وينفق من ماله ويضمن ما أنفق من مال المحجوج عنه ثم يقضي الحاج من مال نفسه حجة وعمره من القابل لأنه أمر بحج صحيح فإذا أفسد فقد خالف الأمر فصار حاجا على نفسه والمأمور بالحج إذا حج عن نفسه بنفقة الآمر يضمن فإذا أفسده يجب عليه القضاء على ما بينا
ولو كان مأمورا بالقران فأفسد يلزمه قضاء حجة وعمرة من مال نفسه لما قلنا
فأما إذا فاته الحج فإنه يصنع كما يصنع الذي فوته الحج ولا يضمن النفقة لأنه لم يوجد منه المخالفة حتى ينقلب الحج عنه والفوات حصل لا بصنعه فلا يلزمه الضمان وعليه من مال نفسه الحج من قابل لأن الحجة لزمته بالدخول فإذا فاتت لزمه قضاؤها لأن فعل الحج يقع عن الحاج وإنما تقع عن المأمور ثواب الحج
ثم ما فضل في يد الحاج من النفقة بعد رجوعه فإنه يرده على الورثة ولا يسعه أن يمسكه لأن النفقة لا تصير ملكا للحاج لأن الاستئجار لا يصح عندنا في باب الحج وسائر القرب التي تجري فيها النيابة حتى يكون المال أجرة فيكون ملكا للأجير ولكن ينفق المال على حكم ملك الميت في الحج ليكون له ثواب النفقة فإذا فرغ من الحج يجب صرفه إلى ورثة الميت
ولو كان للموصي بالحج وطنان فإنه يحج عنه من أقرب الوطنين من مكة لأنا تيقنا بدخول الأقرب في الوصية فكان الأخذ باليقين أولى
ولو كان مكيا فقدم الري بالتجارة فمات وأوصى بالحج فإنه يحج عنه من مكة لما ذكرنا أن الوصية بالحج تصرف إلى ما فرض الله عليه والفرض عليه من وطنه
ولو أوصى بأن يحج عنه فأعطى الوصي دراهم إلى رجل ليحج عنه فحج عنه ماشيا قال يضمن النفقة ويحج عن الميت راكبا لأن الحج الواجب على الموصي هو الحج راكبا فتنصرف الوصية إليه فصار كما لو نص أن يحج عنه راكبا ولو نص وحج ماشيا يضمن النفقة لمخالفةأمره كذا هنا
ومن حج عن ميت وقضى حجه ثم نوى المقام بمكة خمسة عشر يوما له أن ينفق من مال نفسه في مقامه وإذا رجع بعد ذلك ينفق من مال الميت
والحاصل أن الإقامة بعد الفراغ عن الحج إن كانت معتادة فالنفقة في مال الميت
وإن زادت على العادة فالنفقة في ماله وذلك مدة مقام القافلة لأنه لا يمكنه الخروج إلا مع الناس
وإذا كان منتظرا لخروج القافلة فالنفقة في مال الميت
وإذا تخلف عن القافلة فالنفقة في ماله
وقد قالوا في الآفاقي إذا حج عن غيره فدخل بغداد فأقام بها مقدار ما يقيم الناس فالنفقة في مال الميت وإن أقام أكثر من ذلك ففي ماله لكن إذا رجع فالنفقة في مال الميت لأن هذه مدة الرجوع فلم ينقطع حكم السفر الأول فهي محسوبة على الميت
هذا إذا لم يتخذ دارا بمكة للإقامة
فأما إذا اتخذ دارا وأقام بها مدة
ثم رجع فالنفقة في ماله لا في مال الميت لأنه انقطع حكم السفر الأول باتخاذه دارا للإقامة
ولو أن الحاج عن غيره إذا تعجل الدخول بمكة بأن دخل في شهر رمضان محرما فإن عليه أن ينفق من ماله إلى عشر الأضحى وروي إلى ما قبل الحج بيوم أو يومين لأن هذا القدر من المقام يعتاد في مكة للحج فأما الزيادة عليه فلا فينصرف الأمر إلى المعتاد
ولو دفع مالا إلى رجل ليحج عن الميت فلم يبلغ مال الميتالنفقة فأنفق الحاج من مال نفسه ومن مال الميت فإن كان مال الميت يبلغ الكراء وعامة النفقة فهو جائز وإلا فهو لمال الميت ويحج عن الميت من ماله من حيث يبلغ لأنه إذا كان عامة النفقة من مال الميت والقليل من مال الحاج فالقليل يسقط اعتباره بمقابلته الكثير لحاجة الناس لأن الحاج يحتاج إلى أن يزيد من عنده النفقة لزيادة الترفه والتوسعة وأن يزيد ثيابا ولو جعل هذا مانعا لامتنع الناس عن الحج عن الغير
فأما إذا كان الأكثر من مال نفسه فلا عبرة للقليل فيكون حاجا عن نفسه فيضمن
ثم في الحج ثلاث خطب بين كل خطبتين فاصل بيوم فالخطبة الأولى قبل يوم التروية وهو اليوم السابع من ذي الحجة بمكة خطبة واحدة لا يجلس فيها بعد صلاة الظهر ويعلم الناس فيها أحكام المناسك إلى يوم عرفة
والخطبة الثانية يوم عرفة قبل صلاة الظهر يخطب خطبتين يجلس بينهما جلسة خفيفة ويعلم الناس فيها أحكام المناسك إلى أيام الثاني من أيام النحر وذلك بعد الأذان كما في يوم الجمعة
والخطبة الثالثة في اليوم الثاني من أيام النحر بعد صلاة الظهر بمنى خطبة واحدة يعلمهم فيها ما بقي من أحكام المناسك
وهو قول أصحابنا الثلاثة
وقالزفر يخطب في الحج ثلاث خطب متواليات يوم التروية ويوم عرفة ويوم النحر
كتاب البيوع
اعلم أن البيع مشروع عرفت شرعيته بالكتاب والسنة وإجماع الأمة
أما الكتاب فقوله تعالى { وأحل الله البيع } وقال تعالى { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }
وأما السنة فما روي عن النبي عليه السلام أنه قال يا معشر التجار إن بيعكم هذا يحضره اللغو والكذب فشوبوه بالصدقة وكذلك بعث النبي عليه السلام والناس يتبايعون فقررهم على ذلك والتقرير أحد وجوه السنة وعليه إجماع الأمة
باب السلم البيع
أنواع أربعة أحدها بيع العين بالعين كبيع السلع بأمثالها نحو بيع الثوب بالعبد وغيره ويسمى هذا بيع المقايضة
والثاني بيع العين بالدين نحو بيع السلع بالأثمان المطلقة وبيعها بالفلوس الرائجة والمكيل والموزون والعددي المتقارب دينا
والثالث بيع الدين بالدين وهو بيع الثمن المطلق بالثمن المطلق وهو الدراهم والدنانير وإنه يسمى عقد الصرف ويعرف في كتابه إن شاء الله تعالى
والرابع بيع الدين بالعين وهو السلم فإن المسلم فيه مبيع وهو دين ورأس المال قد يكون عينا وقد يكون دينا ولكن قبضه شرط قبل افتراق العاقدين بأنفسهما فيصير عينا
والكلام في السلم في خمسة مواضع في بيان مشروعيته وفي بيان تفسيره لغة وشريعة وفي بيان ركنه وفي بيان شرطه وفي بيان حكمه شرعا
أما الأول فالقياس أن لا يجوز السلم لأنه بيع المعدوم
وفي الاستحسان جائز بالحديث بخلاف القياس لحاجة الناس إليه وهو قوله عليه السلام من أسلم منكم فليسلم في كل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم وروي عنه عليه السلام أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم
وأما تفسيره لغة فهو عقد يثبت به الملك في الثمن عاجلا وفي المثمن آجلا يسمى سلما وإسلاما وسلفا وإسلافا لما فيه من تسليم رأس المال للحال
وفي عرف الشرع عبارة عن هذا أيضا مع زيادة شرائط ورد بها الشرع لم يعرفها أهل اللغة
وأما ركنه فهو الإيجاب والقبول
والإيجاب هو لفظ السلم والسلف بأن يقول رب السلم لآخر أسلمت إليك عشرة دراهم في كر حنطة أو أسلفت وقال الآخر قبلت
ويسمى هذا رب السلم ويسمى المسلم أيضا
والآخر يسمى المسلم إليه
وتسمى الحنطة المسلم فيه
ولو قال المسلم إليه لآخر بعت منك كر حنطة بكذا وذكر شرائط السلم فإنه ينعقد أيضا لأنه بيع على ما روينا أن النبي عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم
وأما شرائط جواز السلم فسبعة عشر ستة في رأس المال وأحد عشر في المسلم فيه
أما الستة التي في رأس المال فهي أحدها بيان الجنس أنه دراهم أو دنانير أو من المكيل حنطة أو شعير أو من الموزون قطن أو حديد ونحو ذلك
والثاني بيان النوع أنه دراهم غطريفية أو عدلية أو دنانير محمودية أو هروية أو مروية
وهذا إذا كان في البلد نقود مختلفة فأما إذا كان في البلد نقد واحد فذكر الجنس كاف وينصرف إليه لتعينه عرفا
والثالث بيان الصفة أنه جيد أو رديء أو وسط
والرابع إعلام قدر رأس المال فهو شرط جواز السلم فيما يتعلق العقد فيه بالقدر كالمكيل والموزون والعددي المتقارب
وهذا قول أبي حنيفة وهو قول سفيان الثوري وأحد قولي الشافعي
وقال أبو يوسف و محمد ليس بشرط وهو أحد قولي الشافعي
وصورة المسألة إذا قال رب السلم أسلمت إليك هذه الدراهم وأشار إليها أو هذه الدنانير وأشار إليها ولم يعرف وزنها
وكذا إذا قال أسلمت هذه الحنطة في كذا ولم يعرف مقدار كيل رأس المال
وعلى هذا الخلاف
إذا قال أسلمت إليك عشرة دراهم في كرحنطة وكرشعير ولم يبينحصة كل واحد منهما من العشرة
وكذلك إذا أسلم عشرة دراهم في ثوبين مختلفين في القيمة
هذا إذا أسلم فيما يتعلق العقد فيه بالقدر
فأما إذا أسلم فيما لا يتعلق العقد فيه بالقدر كالذرعيات والعدديات المتفاوتة فإنه لا يشترط بيان الذرع في الذرعيات ولا بيان القيمة فيها ويكتفي بالإشارة والتعيين في قولهم جميعا
وأجمعوا في بيع العين أن إعلام قدر الثمن ليس بشرط إذا كان مشارا إليه ودلائل المسألة تعرف في المبسوط إن شاء الله
والخامس كون الدراهم والدنانير منتقدة فهو شرط الجواز عند أبي حنيفة أيضا مع إعلام القدر
وعندهما ليس بشرط
والسادس تعجيل رأس المال وقبضه قبل افتراق العاقدين بأنفسهما فهو شرط الجواز عند عامة العلماء سواء كان رأس المال عينا أو دينا
وقال مالك إن كان رأس المال عينا لا يشترط تعجيله وإن كان دينا يشترط في قول وفي قول قال يجوز التأخير يوما أو يومين
وأجمعوا أن في الصرف يشترط قبض البدلين قبل الافتراق بأبدانهما سواء كان عينا كالتبر والمصوغ أو دينا كالدراهم والدنانير
وأما الشرائط التي في المسلم فيه فهي أحد عشر أحدها بيان جنس المسلم فيه حنطة أو شعير أو نحوهما
والثاني بيان نوعه حنطة سقية أو بخسية سهلية أو جبلية
والثالث بيان الصفة حنطة جيدة أو رديئة أو وسط
والرابع إعلام قدر المسلم فيه أنه كر أو قفيز بكيل معروف عند الناس لأن ترك بيان هذه الأشياء يوجب جهالة مفضية إلى المنازعة وهي مفسدة بالإجماع
والخامس أن لا يشمل البدلين أحد وصفي علة ربا الفضل وهو القدر المتفق أو الجنس لأنه يتضمن ربا النساء والعقد الذي فيه ربا فاسد
والسادس أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين حتى لا يجوز السلم في الدراهم والدنانير
فأما في التبر هل يجوز السلم فيه على قياس رواية كتاب الصرف لا يجوز لأنه ألحقه بالمضروب وعلى قياس رواية كتاب الشركة جاز لأنه ألحقه بالعروض وهو رواية عن أبي يوسف أيضا أنه كالعروض
وأما السلم في الفلوس فقد ذكر في الأصل وقال إنه يجوز ولم يذكر الاختلاف ويجب أن يكون ذلك على قول أبي حنيفة و أبي يوسف لأن عندهما ليس بثمن مطلق بل يحتمل التعيين في الجملة
وعلى قول محمد لا يجوز لأنه ثمن مطلق على ما عرف في بيع الفلس بالفلسين بأعيانهما
والسابع الأجل في المسلم فيه شرط الجواز وهذا عندنا
وقال الشافعي ليس بشرط
ولقب المسألة أن السلم الحال لا يجوز عندنا وعنده يجوز
ثم لا رواية عن أصحابنا في المبسوط في مقدار الأجل واختلفت الروايات عنهم والأصح ما روي عن محمد أنه مقدر بالشهرلأنه أدنى الآجل وأقصى العاجل
والثامن أن يكون جنس المسلم فيه موجودا من وقت العقد إلى وقت محل الأجل ولا يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس كالحبوب
فأما إذا كان منقطعا وقت العقد أو وقت حلول الأجل أو فيما بين ذلك فإنه لا يجوز عندنا
وقال الشافعي إن كان موجودا وقت محل الأجل يجوز وإن كان منقطعا في غيره من الأحوال
ولقب المسألة أن السلم في المنقطع هل يجوز أم لا وهي مسألة معروفة
وكذلك المسلم فيه إذا كان منسوبا إلى موضع معلوم يحتمل انقطاعه عليه بالآفة كحنطة قرية كذا أو أرض كذا لا يجوز لأنه يحتمل الانقطاع بالآفة
وذكر في الأصل إذا أسلم في حنطة هراة لا يجوز
وقاس عليه بعض مشايخنا أنه لو أسلم في حنطة سمرقند أو بخارى لا يجوز وإنما يجوز إذا ذكر الولاية نحو خراسان وفرغانة
والصحيح أن في حنطة البلدة الكبيرة يجوز لأنها لا تحتمل الانقطاع غالبا
وما ذكره محمد في الأصل من حنطة هراة أراد به اسم قرية من قرى عراق دون البلدة المعروفة التي تسمى هراة
والتاسع أن يكون العقد باتا ليس فيه خيار الشرط لهما أو لأحدهما حتى لو أسلم عشرة دراهم في كرحنطة على أنه بالخيار ثلاثة أيام وقبض المسلم إليه رأس المال وتفرقا بأبدانهما ويبطل عقد السلم لأن البيع بشرط الخيار ثبت بخلاف القياس لحاجة الناس فلا حاجة إليه في السلم
ولو أبطلا الخيار قبل التفرق ورأس المال قائم في يد المسلم إليه ينقلب جائزا عندنا خلافا ل زفر ولو كان رأس المال هالكا لا ينقلب إلى الجواز بالإجماع
والعاشر بيان مكان الإيفاء فيما له حمل ومؤونة كالحنطة والشعير وغيرهما فإنه شرط لجواز السلم حتى لو ترك لم يجز السلم في قول أبي حنيفة الآخر
وكذا الخلاف في الإجارة إذا آجر داره سنة بأجر له حمل ومؤونة ولم يعين مكانا للإيفاء لم تجز الإجارة في قوله الآخر
وعلى قولهما جاز
وحاصل الخلاف راجع إلى أن مكان العقد هل يتعين مكانا للإيفاء فيما له حمل ومؤونة مع اتفاقهم على أن مكان الإيفاء إذا كان مجهولا لا يجوز السلم لأنه جهالة مفضية إلى المنازعة
وإذا لم يتعين مكان العقد مكانا للإيفاء عند أبي حنيفة ولم يعينا مكانا آخر للإيفاء صار مكان الإيفاء مجهولا فيفسد السلم
وعندهما يتعين مكان العقد مكانا للإيفاء فلا يؤدي إلى الجهالة فيصح السلم
وفي الإجارة عندهما يتعين بتعين مكان إيفاء المعقود عليه مكان إيفاء الأجرة فإن كان لمستأجر دارا أو أرضا فتسلم عند الدار والأرض وإن كانت دابة فعند المرحلة وإن كان ثوبا دفع إلى قصار ونحوه يدفعها في الموضع الذي يسلم فيه الثوب إليه
وإنما يتعين مكان العقد مكان التسليم عندهما إذا أمكن التسليم في مكان العقد فأما إذا لم يمكن بأن كان في البحر أو على رأس الجبل فإنه لا يتعين مكان العقد للتسليم ولكن يسلم في أقرب الأماكن الذييمكن التسليم فيه من مكان العقد
فأما المسلم فيه إذا كان شيئا ليس له حمل ومؤونة كالمسك والكافور والجواهر واللآلىء ونحوها فعن أصحابنا روايتان في رواية يتعين مكان العقد
وفي رواية يسلم حيثما لقيه ولا يتعين مكان العقد
ولو شرطا مكانا آخر للإيفاء سوى مكان العقد فإن كان فيما له حمل ومؤونة يتعين
وإن كان فيما ليس له حمل ومؤونة ففيه روايتان في رواية لا يتعين وله أن يوفيه في أي مكان شاء
وفي رواية يتعين وهو الأصح
والحادي عشر أن يكون المسلم فيه مما يضبط بالوصف وهو أن يكون من الأجناس الأربعة المكيل والموزون والذرعي والعددي المتقارب
فأما إذا كان مما لا يضبط بالوصف كالعدديات المتفاوتة والذرعيات المتفاوتة مثل الدور والعقار والجواهر واللآلىء والأدم والجلود والخشب والروس والأكارع والرمان والسفرجل والبطاطيخ ونحوها لا يجوز لأن المسلم فيه ما يثبت دينا في الذمة وسوى هذه الأجناس الأربعة لا يثبت دينا في الذمة في عقود المعاوضات إلا إذا كان شيئا من جنس الجلود والأدم والخشب والجذوع إذا بين شيئا معلوما من هذه الأشياء وطولا معلوما وغلظا معلوما وأن تجتمع فيه شرائط السلم والتحق بالمتقارب يجوز
وكذلك السلم في الجوالق والمسوح والفرش
وأما السلم في الحيوان فجائز عند الشافعي إذا بين جنسه ونوعه وسنه وصفته وأنه في نجارى فلان أو إبل فلان أو غنم فلان
وعندنا لا يجوز كيفما كان
ويجوز السلم في الأليات والشحوم وزنا بلا خلاف
وأما السلم في اللحم مع العظم الذي فيه فلا يجوز عند أبي حنيفة أصلا
وقال أبو يوسف و محمد و الشافعي يجوز إذا بين جنس اللحم بأن قال لحم شاة أو بقر وبين السن بأن قال لحم شاة ثني أو جذعة وبين النوع بأن قال لحم شاة ذكر أو أنثى خصي أو فحل معلوفة أو سائمة وبين صفة اللحم بأن قال سمين أو مهزول أو وسط وبين الموضع بأن قال من الكتف أو من الجنب وبين المقدار بأن قال عشرة أمناء
وأما منزوع العظم فقد اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة ذكر الكرخي وقال يجوز
وذكر الجصاص وقال لا يجوز لاختلاف السمن والهزال
وأما السلم في السمك فقد اضطربت عبارة الروايات عن أصحابنا في الأصل والنوادر
والصحيح من المذهب أن السلم يجوز في السمك الصغار كيلا أو وزنا ويستوي فيه المالح والطري في حينه وأما الكبار ففيه روايتان عن أبي حنيفة في ظاهر الرواية يجوز كيفما كان وزنا
وفي رواية أبي يوسف في الأمالي عنه أنه لا يجوز
وعلى قول أبي يوسف و محمد يجوز في ظاهر الرواية كما في اللحم
وفي رواية أخرى عنهما لا يجوز بخلاف اللحم
وأما السلم في الثياب فإذا بين جنسه ونوعه وصفته ورقعته وذرعه يجوز استحسانا والقياس أن لا يجوز
وهل يشترط بيان الوزن في الثوب الحرير اختلف المشايخ فيه قال بعضهم هو شرط
وقال بعضهم ليس بشرط لأن الحرير ذرعي كالكتان والكرباس
وعلى هذا السلم في الأعداد المتقاربة مثل الجوز والبيض ونحوهما جائز كيلا ووزنا وعددا في قول علمائنا الثلاثة
وقال زفر يجوز كيلا ووزنا ولا يجوز عددا
وقال الشافعي يجوز كيلا ووزنا في الجوز واللوز ولا يجوز عددا
وفي البيض يجوز كيلا ووزنا وعددا
ولو أسلم في الفلوس عددا يجوز في ظاهر الرواية
وعن محمد أنه لا يجوز لأنها من جملة الأثمان
ولو أسلم في التبن أوقارا لا يجوز لتفاوت فاحش بين الوقرين إلا إذا كان في فيمان معلوم من فيامين الناس لم يختلف فيجوز
ولو أسلم في الخبز هل يجوز لم يذكر محمد في ظاهر الرواية
وذكر في نوادر ابن رستم على قول أبي حنيفة و محمد لا يجوز وعلى قول أبييوسف يجوز إذا شرط ضربا معلوما ووزنا معلوما وأجلا معلوما
وأما استقراض الخبز هل يجوز على قول أبي حنيفة لا يجوز لا وزنا ولا عددا كالسلم
و أبو يوسف جوز القرض فيه وزنا لا عددا كالسلم
و محمد لم يجوز السلم فيه لا وزنا ولا عددا وجوز استقراضه عددا لا وزنا لحاجة الناس فكأنه ترك القياس في جواز استقراضه عددا لعرف الناس وإن لم يكن من ذوات الأمثال
وأما بيان حكم السلم شرعا فثبوت الملك لرب السلم في المسلم فيه مؤجلا بمقابلة ثبوت الملك في رأس المال
المعين أو الموصوف معجلا للمسلم إليه بطريق الرخصة دفعا لحاجة الناس بشرائط مخصوصة لم تكن مشروطة في بيع العين
ولا بد أن يختلف البيع والسلم في بعض الأحكام ونذكر بعض ذلك منها أن الاستبدال برأس مال السلم قبل القبض لا يجوز والاستبدال بالثمن جائز إذا كان دينا لأن قبض رأس المال شرط والاستبدال يفوت القبض حقيقة وإن وجد من حيث المعنى كما لا يجوز الاستبدال ببدلي الصرف لأن قبضهما شرط حقيقة فأما قبض الثمن فليس بشرط والبدل يقوم مقامه معنى
وأما الاستبدال بالمسلم فيه فلا يجوز قبل القبض كالاستبدال بالمبيع المعين لأن المسلم فيه مبيع وإن كان دينا فيكون بيع المبيع المنقول قبل القبض وإنه لا يجوز بخلاف سائر الديون
وأما الاستبدال برأس المال بعد الإقالة أو بعد انفساخ السلم بأي طريق كان فلا يجوز في قول علمائنا الثلاثة استحسانا والقياس أن يجوز وهو قول زفر سواء كان رأس المال عينا أو دينا
وأجمعوا على أن الاستبدال ببدلي الصرف بعد الإقالة قبل القبض جائز
وأجمعوا أن قبض رأس المال بعد الإقالة في باب السلم في مجلس الإقالة ليس بشرط لصحة الإقالة وفي الصرف شرط لصحة الإقالة
وأجمعوا على أن السلم إذا كان فاسدا في الأصل فلا بأس بالاستبدال فيه قبل القبض ولا يكون له حكم السلم كسائر الديون
ومنها أن رب السلم لو أخذ بعض رأس المال وبعض المسلم فيه بعد محل الأجل أو قبله برضا صاحبه فإنه يجوز ويكون إقالة للسلم فيما أخذ من رأس المال ويبقى السلم في الباقي وهو قول عامة العلماء
وقال مالك و ابن أبي ليلى ليس له ذلك فهو إما أن يأخذ جميع رأس المال أو يأخذ جميع المسلم فيه
وفي بيع العين إذا أقال في البعض دون البعض جاز بالإجماع
وأجمعوا أنه لو أخذ جميع رأس المال برضا صاحبه أو أقال جميع السلم أو تصالحا على رأس المال فإنه يكون إقالة صحيحة وينفسخ السلم
ولو أخذ بعض رأس المال قبل محل الأجل ليعجل باقي السلم فإنه لا يجوز كذا ذكر في الكتاب ومعناه أنه لا يجوز هذا الشرطوتصح الإقالة لأنه يصير في معنى الاعتياض عن الأجل فيكون شرطا فاسدا إلا أن الإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة وهذا على قياس قول أبي حنيفة و محمد
فأما على قياس قول أبي يوسف فتبطل الإقالة والسلم كله باق إلى أجله لأن عنده الإقالة بيع جديد والبيع يبطل بالشروط الفاسدة
ومنها أن المسلم إليه إذا أبرأ رب السلم عن رأس المال لا يصح بدون قبول رب السلم وإذا قبل يصح الإبراء ويبطل السلم لأنه فات قبض رأس المال لأنه لا يتصور قبضه بعد صحة الإبراء
ولو رده أو لم يقبله بقي عقد السلم صحيحا فله أن يسلم رأس المال قبل الافتراق حتى لا يفسد
ولو أبرأ عن ثمن المبيع صح من غير قبول إلا أنه يرتد بالرد
والفرق هو أن قبض رأس المال في المجلس شرط صحة عقد السلم فلو صح الإبراء من غير قبول الآخر لانفسخ السلم من غير رضا صاحبه وهذا لا يجوز بخلاف الثمن لأن قبضه ليس بشرط
ولو أبرأ عن المسلم فيه جاز لأن قبضه ليس بشرط والإبراء عن دين لا يجب قبضه شرعا إسقاط لحقه لا غير فيملك ذلك
ولو أبرأ عن المبيع لا يصح لأن الإبراء عن الأعيان لا يصح
ومنها أن الحوالة برأس مال السلم والكفالة به والرهن به وبالمسلم فيه أيضا جائز عندنا
وعند زفر يجوز بالمسلم فيه ولا يجوز برأس المال
وعن الحسن البصري أنه لا يجوز ذلك كله لا برأس المال ولا بالمسلم فيه
وعلى هذا الخلاف الحوالة والكفالة والرهن بأحد بدلي الصرف
ثم متى جاز ذلك عندنا يجب أن يقبض المسلم إليه رأس المال من الحويل والكفيل أو من رب السلم أو يهلك الرهن قبل أن يتفرقا عن المجلس وقيمة الرهن مثل رأس المال أو أكثر حتى يحصل الافتراق عن قبض رأس المال فيجوز ولا يبطل العقد
وأما إذا تفرق رب السلم والمسلم إليه قبل القبض يبطل السلم وإن بقي الحويل والكفيل مع رب السلم
ولو ذهب الحويل والكفيل وبقي المسلم إليه مع رب السلم لا يبطل السلم والعبرة لبقاء العاقدين وافتراقهما
وكذلك في باب الصرف العبرة لبقاء العاقدين
وكذلك في الرهن إذا لم يهلك حتى تفرقا يبطل السلم لانعدام قبض رأس المال
هذا في جانب رأس المال
فأما في جانب المسلم فيه فالمحيل يبرأ بنفس عقد الحوالة ويبقى تسليم المسلم فيه واجبا على المحتال عليه إذا حل الأجل فإذا حل الأجل يطالب رب السلم المحتال عليه ولا سبيل له على المحيل
وفي الكفالة رب السلم بالخيار إن شاء طالب الأصيل وإن شاء طالب الكفيل وله أن يحبس الرهن حتى يأخذ المسلم فيه
ومنها أن المسلم إليه إذا قال بعد قبض رأس المال إنه زيوف أو نبهرجة أو مستحق أو ستوقة أو معيب فلا يخلو إما إن صدقه رب السلم أو كذبه
أما إذا صدقه فله حق الرد ثم لا يخلو إما إن كان رأس المال عينا أو دينا فإن كان عينا فاستحق في المجلس أو رد بالعيب بعد الافتراق ولم يجز لمستحق ولم يرض المسلم إليه بالعيب فإنه يبطل السلم لأن العقد وقع على العين
فإذا لم يجز فقد فات البدل فصار كما لو هلك المبيع قبل القبض
ولو أجاز المستحق أو رضي المسلم إليه بالعيب جاز لأنه سلم له البدل من الأصل
فأما إذا كان رأس المال دينا فقبضه ثم وجده ستوقة أو رصاصا أو مستحقا أو زيوفا أو نبهرجة فلا يخلو إما إن وجد ذلك في مجلس السلم أو بعد الافتراق ولا يخلو إما إن تجوز بذلك المسلم إليه أو لم يتجوز
أما إذا وجد ستوقة أو رصاصا في المجلس فتجوز به فلا يجوز لأن هذا ليس من جنس حقه فيكون استبدالا برأس المال قبل القبض فصار كما لو استبدل ثوبا من رب السلم مكان الدرهم
فأما إذا رده وقبض شيئا آخر مكانه جاز لأنه لما رده وانتقض قبضه جعل كأن لم يكن وأخر القبض إلى آخر المجلس فإن ذلك جائز كذلك هذا
وأما إذا وجد ذلك مستحقا فإن صحة القبض موقوفة على إجازة المستحق إن أجاز جاز وإن لم يجز بطل
فأما إذا وجد زيوفا أو نبهرجة فإن تجوز بها جاز لأنها من جنس حقه فيصير مستوفيا مع النقصان
وإن رده واستبدل مكانه في مجلس العقد جاز لأنه وجد مثله فيالمجلس فكان القبض متأخرا
هذا الذي ذكرنا إذا كان ذلك في مجلس السلم
فأما إذا كان بعد تفرقهما فإن وجد شيئا من رأس المال ستوقة أو رصاصا بطل السلم بقدره قل أو كثر كيفما كان لأنها ليست من جنس حق المسلم إليه فظهر أن الافتراق حصل من غير قبض رأس المال بقدر الستوقة فيبطل بقدره ولا يعود جائزا بالقبض بعد المجلس كما لو لم يقبض أصلا ثم قبض بعد الافتراق
وإن وجد ذلك مستحقا إن أجاز المستحق جاز لأن القبض موقوف على إجازته إذا كان رأس المال قائما نص على ذلك في الجامع الكبير وإن رد بطل السلم بقدره لما ذكرنا أن القبض موقوف
وأما إذا وجد ذلك زيوفا أو نبهرجة إن تجوز به جاز وإن لم يتجوز به ورده أجمعوا على أنه إن لم يستبدل في مجلس الرد بطل السلم بقدر ما رد
فأما إذا استبدل مكانه جيادا في مجلس الرد فالقياس أن يبطل السلم بقدره قال المردود أو كثر وبه أخذ زفر
وفي الاستحسان لا يبطل قل أو كثر وهو قول أبي يوسف و محمد
وأبو حنيفة أخذ في الكثير بالقياس وفي القليل بالاستحسان
وكذلك على هذا الخلاف أحد المتصارفين إذا وجد شيئا مما قبض زيوفا ورده بعد المجلس
ثم اتفقت الروايات عن أبي حنيفة أن ما زاد على النصف كثير وما دونه فهو قليل
وأما في النصف فذكر في الأصل وجعله في حكم القليل في موضع وحكم الكثير في موضع
وروي في النوادر أنه قدره بالثلث فصاعدا وهو الأصح
هذا الذي ذكرنا حكم رأس المال فأما حكم المسلم فيه إذا وجد رب السلم بالمسلم فيه عيبا بعدما قبضه فإن له خيار العيب إن شاء تجوز به وإن شاء رده ويأخذ منه السلم غير معيب لأن حقه في السليم دون المعيب
إلا أن خيار الشرط والرؤية لا يثبت في السلم على ما ذكرنا في جانب رأس المال
هذا إذا صدقه رب السلم فأما إذا كذبه وأنكر أن تكون الدراهم التي جاء بها من دراهمه التي أعطاها وادعى المسلم إليه أنها من دراهمه فهذا لا يخلو من ستة أوجه إما إن كان المسلم إليه أقر ذلك قبل ذلك فقال قبضت الجياد أو قبضت حقي أو قبضت رأس المال أو استوفيت الدراهم أو قبضت الدراهم أو قال قبضت ولم يقل شيئا آخر
ففي الفصول الأربعة الأولى لا تسمع دعواه بعد ذلك أني وجدته زيوفا ولم يكن له حق استحلاف رب السلم بالله إنها ليست من دراهمك التي قبضتها منك لأنه بإقراره بقبض الجياد يصير مناقضا في دعواه لأنه أقر بقبض الجياد ثم قال لم أقبض الجياد بل هي زيوف والمناقضة تمنع صحة الدعوى والحلف بناء على الدعوى الصحيحة
وأما إذا قال المسلم إليه قبضت الدراهم ثم قال هي زيوف فالقياس أن يكون القول قول رب السلم إنها ليست من دراهمه مع يمينهعلى ذلك وعلى المسلم إليه البينة أنها من الدراهم التي قبضها منه لأن المسلم إليه يدعي أنها مقبوضة مع العيب ورب السلم ينكر أنها مقبوضة أو أنها التي قبضها منه ويكون القول قول المنكر مع يمينه
وفي الاستحسان القول قول المسلم إليه مع يمينه وعلى رب السلم البينة أنه أعطاه الجياد لأن رب السلم بإنكاره أنها ليست من دراهمه يدعي إيفاء حقه وهو الجياد والمسلم إليه بدعواه أن هذه الدراهم قبضتها منك وإنها زيوف ينكر قبض حقه فيكون القول قوله مع يمينه أنه لم يقبض حقه وعلى المدعي البينة أنه أوفاه حقه
وهذا هو القياس في الفصول الأخر إلا أن ثمة سبق منه ما يناقض دعواه وهو الإقرار بالجياد وههنا لم يسبق لأن ذكر قبض الدراهم يقع على الزيوف والجياد جميعا بخلاف الفصول الأولى
وأما إذا قال قبضت لا غير ثم قال وجدته زيوفا يكون القول قوله كما قلنا في الفصل الأول إلا أن ههنا إذا قال وجدته ستوقة أو رصاصا فإنه يصدق بخلاف ما إذا قال قبضت الدراهم ثم قال وجدتها ستوقة أو رصاصا فإنه لا يقبل قوله لأن في قوله قبضت إقرارا بمطلق القبض والستوقة تقبض فبقوله ما قبضته ستوقة لا يكون مناقضا وفي قوله قبضت الدراهم يصير مناقضا لقوله قبضت الستوقة والرصاص لأنه خلاف جنس الدراهم
باب الربا
الربا نوعان ربا الفضل وربا النساء
فالأول هو فضل عين مال على المعيار الشرعي وهو الكيل والوزن عند اتحاد الجنس
والثاني هو فضل الحلول على الأجل وفضل العين على الدين في المكيلين والموزونين عند اختلاف الجنس أو في غير المكيلين وغير الموزونين عند اتحاد الجنس
وعلة ربا الفضل هي القدر المتفق مع الجنس أعني الكيل في المكيلات والوزن في الأثمان والمثمنات
وعلة ربا النساء هي وجود أحد وصفي علة ربا الفضل وهي الكيل في المكيلات أو الوزن المتفق أعني أن يكونا ثمنين أو مثمنين لأن وزن الثمن يخالف وزن المثمن
وهذا عندنا وعند الشافعي ربا الفضل هو الفضل المطلق من حيث الذات أو حرمة بيع المطعوم بجنسه ثم التساوي في المعيار الشرعي مع اليد مخلص عن هذه الحرمة بطريق الرخصة
وربا النساء هو فضل الحلول في المطعومات والأثمان
وعلة ربا الفضل هي الطعم في المطعومات والثمنية في الأثمان المطلقة وهي الذهب والفضة والجنس شرط
وعلة ربا النساء هي علة ربا الفضل دون الجنس وهي الطعم أو الثمنية
ودلائل هذه الجملة تعرف في الخلافيات
وفائدة الخلاف في ربا الفضل تظهر في فصلين أحدهما في بيع مطعوم بجنسه غير مقدر كبيع الحفنة بالحفنتين والسفرجلة بالسفرجلتين والبطيخة بالبطيختين ونحوها يجوز عندنا لعدم القدر ولا يجوز عنده لوجود العلة وهي الطعم
والثاني في بيع مقدر بمقدر غير مطعوم كبيع قفيز جص بقفيزي جص أو من من حديد بمنوي حديد ونحوهما لا يجوز عندنا في الجص لوجود علة ربا الفضل وهي الكيل والجنس وعنده يجوز لعدم العلة وهي الطعم
وفي الحديد لا يجوز عندنا لوجود الوزن والجنس وعنده يجوز لعدم الثمنية والطعم
وأجمعوا أنه لو باع قفيز أرز بقفيزي أرز لا يجوز لوجود الكيل والجنس عندنا ولوجود الجنس والطعم عنده
وأجمعوا أنه إذا باع من زعفران بمنوي زعفران أو من سكر بمنوي سكر لا يجوز لوجود الوزن والجنس عندنا ولوجود الطعم والجنس عنده
وأما فروع ربا النساء وفائدة الخلاف بيننا وبين الشافعي أنه إذا باع قفيز حنطة بقفيزي شعير نسيئة مؤجلة أو دينا موصوفا في الذمة غير مؤجل لا يجوز بالإجماع لوجود علة ربا النساء وهي أحد وصفي علة ربا الفضل وهي الكيل عندنا والطعم عنده
وإذا باع قفيز جص بقفيزي نورة مؤجلا بأن أسلم أو غير مؤجل بأن باع دينا في الخدمة ولا يجوز عندنا لوجود الكيل وعنده يجوز لعدم الطعم
ولو أسلم من حديد في مني حديد لا يجوز عندنا لوجود الوزن المتفق لكونهما موزونين وعنده يجوز لعدم الطعم والثمنية
ولو باع من سكر بمن زعفران دينا في الذمة لا يجوز بالإجماع لوجود أحد وصفي علة ربا الفضل وهو الوزن المتفق عندنا لأنهما مثمنان ولوجود الطعم عنده
ولو أسلم دراهم في زعفران أو في قطن أو حديد فإنه يجوز بالإجماع أما عندنا فلأنه لم يوجد الوزن المتفق فإن الدراهم توزن بالمثاقيل والقطن والحديد والزعفران يوزن بالقبان
ولو أسلم نقرة فضة في نقرة ذهب لا يجوز بالإجماع لوجود الوزن المتفق عندنا فإنهما يوزنان بالمثاقيل وعنده لوجود الثمنية
ولو أسلم الحنطة في الزيت جاز عندنا لأن أحدهما مكيل والآخر موزون فكانا مختلفين قدرا على قوله لا يجوز لوجود الطعم
فأما تفسير الجنس بانفراده إذا أسلم ثوبا هرويا في ثوب ههروي لا يجوز عندنا لأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل فيحرم النساء وعند الشافعي يجوز لأن الجنس عنده شرط
ولو أسلم ثوبا هرويا في ثوب مروي جاز بالإجماع لأنه لم يوجدالجنس ولا الوزن المتفق ولا الطعم ولا الثمنية
ولو أسلم جوزة في جوزة أو سفرجلة في سفرجلة لا يجوز بالإجماع لوجود الجنس عندنا ولوجود الطعم عنده
ثم فرق بين المكيل والموزون وبين الثوب والثوب من وجه وهو أن ربا النساء لا يتحقق في الثوب إلا بطريق السلم لأن الثياب لا تثبت دينا في الذمة إلا سلما فأما في المكيل والموزون فيتحقق ربا النساء مؤجلا وحالا دينا موصوفا في الذمة
بيانه لو أسلم ثوبا هرويا في ثوب هروي لا يجوز لأنه مؤجل
ولو باع ثوبا هرويا بثوب هروي موصوف في الذمة حالا لا يجوز لأنه لا يجوز أن يكون ثمنا إلا باعتبار ربا النساء
ولو باع قفيز حنطة بعينها بقفيزي شعير موصوف في الذمة دينا غير مؤجل لا يجوز لأن العين خير من الدين وإن كان حالا
باب الشراء والبيع
يحتاج في هذا الباب إلى بيان ركن البيع والشراء وبيان شروطه وبيان أقسامه وبيان حكمه شرعا
أما بيان الركن فهو الإيجاب من البائع والقبول من المشتري إلا أن ذلك قد يكون بلفظين وقد لا يتحقق إلا بثلاثة ألفاظ
أما ما يتحقق بلفظين فقد يكون بدون النية وقد يكون مع النية
أما من غير النية فبأن يكون اللفظان بصيغة الماضي نحو أن يقول البائع بعت منك هذا العبد بكذا فقال المشتري ابتعت أو اشتريت أو ما يؤدي معناه كقوله أخذت وقبلت ورضيت وفعلت ونحو ذلك لأن هذا في عرف أهل اللغة والشرع مستعمل لإيجاب الملك للحال بعوض وإن كان بصيغة الماضي
وكذلك إذا بدأ المشتري فقال اشتريت منك هذا العبد بكذا فقال البائع بعته منك أو أعطيته أو بذلته أو رضيت أو هولك
وأما الذي لا ينعقد بدون النية فأن يخبر عن نفسه في المستقبل بلفظة الاستقبال وهو أن يقول البائع أبيع منك هذا العبد بألف أو أبذله أو أعطيكه
فقال المشتري اشتريه بذلك أو آخذه ونويا الإيجاب للحال أو كان أحدهما بلفظ الماضي والآخر بلفظ المستقبل مع نية الإيجاب للحال فإنه ينعقد البيع لأن صيغة الاستقبال تحتمل الحال فصحت النية
وإن كان أحدهما بلفظ الاستفهام بأن قال أتبيع مني هذا الشيء فقال بعت ونوى لا ينعقد البيع لأن لفظ الاستفهام لا يستعمل للحال إذا أمكن العمل بحقيقة الاستفهام
فأما إذا كان بلفظين يعبر بهما عن المستقبل إما على سبيل الأمر أو الخبر أو بأحدهما من غير نية الحال فإنه لا ينعقد البيع عندنا وذلك أن يقول البائع اشتر مني هذا العبد بألف درهم فقال المشتري اشتريت أو قال المشتري بع مني هذا العبد فقال بعت أو قال البائع أبيع هذا العبد منك بألف درهم فقال المشتري اشتريت
وفي باب النكاح إذا كان أحد اللفظين يعبر به عن الأمر أو الخبر في المستقبل بأن قال زوجيني نفسك بألف درهم فقالت زوجت أو قال الزوج أتزوجك على ألف درهم فقالت زوجت نفسي منك بذلك ينعقد النكاح
وقال الشافعي البيع والنكاح سواء ينعقدان بلفظين يعبر بأحدهما عن الماضي والآخر عن الحال من غير نية
فأما إذا كان أحد اللفظين بطريق الاستفهام فإنه لا ينعقد النكاح والبيع بالإجماع
والصحيح مذهبنا فإن البيع في العرف غالبا لا يكون بناء على مقدمات ولفظ المستقبل للعدة في الأصل ولفظ الأمر للمساومة فيحمل على حقيقته إلا بدليل
ولم يوجد بخلاف النكاح فإنه بناء على مقدمة الخطبة فلا يحمل على المساومة بدلالة العادة
وأما إذا وجد ثلاثة ألفاظ بأن قال المشتري بع عبدك هذا مني بألف درهم فقال البائع بعت فقال المشتري اشتريت فإنه ينعقد بالإجماع
فأما إذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابة واحدة أو دابتين فإن كان الإيجاب والقبول متصلين وخرج الكلامان من غير فصل بينهما فإنه يصح البيع فأما إذا كان بينهما فصل وسكوت وإن قل فإنه لا يصح لأن المجلس يتبدل بالمشي والسير هكذا قال عامة مشايخنا وقاسوا على آية السجدة وخيار المخيرة
وقال بعض مشايخنا إذا تبايعا في حال السير والمشي فوجد الإيجاب منفصلا عن القبول فإنه ينعقد ما لم يفترقا بأبدانهما وإن وجد القبول بعد الافتراق لا يجوز لأن القيام عن المجلس دليل الإعراض عن الجواب فأما السير بلا افتراق فليس بدليل الإعراض فصح القبول ويكون جوابا وهكذا قالوا في خيار المخيرة
أما في تلاوة السجدة فبخلافه لأن الأصل أن تجب السجدة لكل تلاوة لكن جعلت التلاوات كتلاوة واحدة عند اتحاد المجلس والمجلس يختلف بالسير حقيقة
ولو وقفا وتبايعا جاز وإن وجد القبول بعد الإيجاب بسكتة لاتحاد المجلس
فأما إذا وقفا فأوجب أحدهما البيع فسار الآخر ولم يقبل ثم قبل بعد ذلك لا يصح ويجعل سيره دليل الإعراض
وكذا لو سار البائع قبل أن يقبل المشتري لأنه دليل الإعراض أيضا وإنه يملك الرجوع في إيجاب البيع
ولو خير امرأته بعدما وقفا ثم سار الرجل وبقيت المرأة واقفة فلها الخيار لأن العبرة بجانبها فما دامت في مجلسها فلم يوجد منها دليل الإعراض وكلام الزوج لا يبطل بالإعراض
هذا إذا كان العاقدان حاضرين في المجلس
فأما إذا كان أحدهما غائبا فوجد من أحدها البيع أو الشراء فإنه لا يتوقف
بيانه أن من قال بعت عبدي هذا من فلان الغائب بألف درهم فبلغه الخبر فقبل لا يصح لأن شطر البيع لا يتوقف بالإجماع
ولو قال بعت عبدي هذا بألف درهم من فلان بين يدي رجل وقال له اذهب إلى فلان وقل له : إن فلانا باع عبده فلانا منك بألف درهم فجاء الرسول وأخبره بما قال فقال المشتري في مجلسه ذلك : اشتريت أو قبلت تم البيع بينهما لأن الرسول معبر وسفير فينقل كلامه إليه فإذا اتصل به الجواب ينعقد وكذا الكتاب على هذا بأن كتب إلى رجل وقال أما بعد فقد بعت عبدي فلانا منك بألف درهم فلما بلغه الكتاب وقرأ وفهم ما فيه قال في مجلسه ذلك : اشتريت أو قبلت ينعقد البيع لأن الخطاب والجواب من الغائب بالكتاب يكونوعلى هذا الجواب في الإجارة والهبة والكتابة فأما في الخلع والعتق على مال فإنه يتوقف شطر العقد من الزوج والمولى على قبول الآخر وراء المجلس بالإجماع فإن من قال : خلعت امرأتي فلانة الغائبة على ألف درهم فبلغها الخبر فأجازت أو قبلت صح وكذا إذا قال : اعتقت عبدي فلانا الغائب بألف درهم فإنه يتوقف على إجازة العبد فأما في جانب المرأة والعبد : فلا يتوقف إذا كان الزوج والمولى غائبين فأما في النكاح فلا يتوقف الشطر عند أبي حنيفة و محمد وعلى قول أبي يوسف : يتوقف ثم في كل موضع لا يتوقف شطر العقد فإنه يجوز من العاقد الرجوع عنه ولا يجوز تعليقه بالشروط والإخطار لأنه عقد معاوضة وفي كل موضع يتوقف شطر العقد كالخلع والعتق على مال لا يصح الرجوع عنه ويصح التعليق بالشروط لأنه في جانب الزوج والمولى بمنزلة التعليق وفي جانبها بمنزلة المعاوضة
وأما بيان الشروط
فللبيع شروط : منها : شرط الأهلية من العقل والبلوغ حتى لا ينعقد البيع من الطفل والمجنون فأما الصبي العاقل والمعتوه فمن أهل البيع حتى لو وكلا بالبيعوالشراء وباعا جاز ونفذ عندنا خلافا للشافعي ومنها : شرط الانعقاد وهو المحل وهو أن يكون مالا متقوما حتى لو باع الخمر والخنزير والميتة والدم وجلد الميتة فإنه لا يجوز أصلا حتى لا يملك بالقبض بخلاف ما إذا كانت هذه الأشياء ثمنا فإنه ينعقد البيع بالقيمة ومنها : شرط النفاذ وهو الملك أو الولاية حتى إذا باع ملك نفسه نفذ ولو باع الوكيل نفذ لوجود الولاية
وأما أقسام البيع
فنقول : هو في الأصل قسمان : بيع نافذ وبيع موقوف فأما البيع النافذ فهو أن يوجد الركن مع وجود شرط الانعقاد والنفاذ جميعا وأما البيع الموقوف فهو أن يوجد الركن مع وجود شرط الانعقاد والأهلية لكن لم يوجد شرط النفاذ وهو الملك والولاية بيانه : أن الفضولي إذا باع مال غيره من إنسان أو اشترى لغيره شيئا معينا فإنه يتوقف على إجازته عندنا وقال الشافعي : لا يتوقف ولقب المسألة أن العقود والفسوخ من الفضولي تتوقف على إجازة المالك وإنما ينعقد عندنا على التوقف كل عقد له مجيز حالة العقد فأما إذا لم يكن له مجيز فإنه لا يتوقف حتى إن الطلاق والعتاق في حق البالغ من الفضولي فهو على الخلاف لأن له مجيزا في الحال فأما إذا وجد الطلاق العتاق والتبرعات من الفضولي البالغ في امرأةالصبي والمجنون ومالهما فإنه لا يتوقف لأنه ليس له مجيز في حالة العقد لأنهما ليسا من أهل الطلاق والعتاق والتبرعات وكذلك وليهما وكذلك الأب والوصي إذا أعتقا أو طلقا عبد الصبي أو امرأته ثم إنما يجوز العقد الموقوف إذا كان المحل قابلا لإنشاء البيع حالة الإجازة فأما إذا لم يكن قابلا فلا بأن هلك المحل بالإجازة ينفذ للحال مستندا إلى ما قبله فلا بد من المحل في الحال وكذا الجواب لو كان العاقدان فضوليين فإنه يتوقف أيضا على إجازة المالكين وكذلك الجواب في النكاح


ولو كان الفضولي الواحد باع عبد إنسان من إنسان وهما غائبان وقبل عن المشتري أيضا فإنه لا يتوقف وفي النكاح إذا قبل عنهما لا يتوقف أيضا وبعض مشايخنا قالوا : ينبغي أن يتوقف عند أبي حنيفة و محمد وإنما الخلاف فيما إذا زوج رجل امرأة ولم يقبل منه لأن الواحد يجوز أن يكون وكيلا من الجانبين ولا يتوقف في النكاح ويجوز أن يكون وليا من الجانبين بأن زوج ابنة أخته من ابن أخيه والإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة بخلاف البيع فإن الواحد لا يجوز أن يكون وكيلا من الجانبين فلا يتوقف من رجل واحد وإن وجد منه الإيجاب والقبول جميعا ثم إنما جاز أن يكون الرجل وليا ووكيلا من الجانبين في النكاح وفي البيع لا يجوز أن يكون وكيلا من الجانبين وإما يجوز أن يكون وليا من الجانبين فإن الأب إذا اشترى مال الصبي لنفسه أو باع ماله منالصبي بمثل قيمته أو بغبن يسير يتغابن الناس في مثله : فإنه يجوز وكذلك الوصي : إذا اشترى مال الصبي لنفسه أو باع مال نفسه من الصبي وفيه نفع ظاهر للصبي جاز بلا خلاف فأما إذا كان بمثل القيمة جاز عند أبي حنيفة وعند محمد لا يجوز وأما إذا كان بدون القيمة فلا يجوز بلا خلاف والفرق بين الفصول أن الولي والوكيل في باب النكاح بمنزلة الرسول لأنه لا يرجع إليه حقوق العقد فأما الوكيل في باب البيع فأصل في حق الحقوق وللبيع حقوق متضادة من التسليم والتسلم فلا يجوز أن يكون الواحد في شيء واحد في زمان واحد مسلما ومتسلما بخلاف الأب الوصي لأن ثم جعلناهما كشخصين لاختلاف الولايتين ولو باع العبد المحجور مال مولاه من إنسان بثمن معلوم فإنه يتوقف على إجازة مولاه لأنه بمنزلة الأجنبي ولو أذن له بالتصرف في البيع والشراء وأجاز ذلك لا ينفذ إلا بإجازة المولى لأن العبد المأذون لا يملك بيع مال المولى وإنما يملك الشراء ولو اشترى عبدا لمولاه بغير إذنه فإنه يتوقف على إجازته ولو أذن له بالتصرف نفذ الشراء على مولاه من غير إجازة مبتدأة لذلك لأنه بالإذن ملك إنشاء الشراء في حقه فيملك الإجازة وعلى هذا : الصبي العاقل إذا باع ماله وهو محجور فإنه ينعقد تصرفه موقوفا على إجازة وليه وعلى إذن وليه بالتصرف أيضا وعلى بلوغه أيضا لأن في انعقاده فائدة لوجود المجيز للحال وهو الوليوهذا في التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع كالبيع والإجارة فأما التصرفات الضارة كالطلاق والعتاق والهبة والصدقة والإقرار فإنه لا تصح ولا تتوقف لأن الولي لا يملك هذه التصرفات فلا مجيز لها الحال وأما التصرفات النافعة كالاحتطاب والاحتشاش والاصطياد وقبول الهبة والصدقة فتصح منهما من غير إذن
وأما حكم البيع
فهو ثبوت الملك في المبيع للمشتري وثبوت الملك في الثمن للبائع إذا كان البيع باتا من غير خيار فأما إذا كان فيه خيار الرؤية أو العيب أو خيار الشرط فالجواب على ما نذكر ثم إذا كان البيع باتا فلا يملك أحدهما الفسخ بدون رضا صاحبه وإن لم يتفرقا عن المجلس وهذا عندنا وقال الشافعي : لهما خيار الفسخ ما لم يتفرقا عن المجلس ولقب المسألة أن خيار المجلس هل هو ثابت شرعا فعندنا غير ثابت وعنده ثابت والمسألة معروفة فإذا ثبت الملك في الطرفين أعني في المبيع والثمن جميعا وحكم المبيع يخالف حكم الثمن فيما سوى ثبوت الملك فلا بد من بيان الثمن والمبيع فنقول : إن المبيع في الأصل ما يتعين بالتعيين والثمن في الأصل ما لا يتعين بالتعيين وإن كان قد يتعين بعارض فيصير المبيع دينا كما فيالسلم ويصير الثمن عينا كبيع العين بالعين لكن الثمن المطلق هو الدراهم والدنانير وإنما لا يتعينان في عقود المعاوضات في حق الاستحقاق وإن عينت وتتعين في حق بيان القدر والجنس والصفة وهذا عندنا وقال زفر و الشافعي : تتعين


وأجمعوا أنهما إذا كانتا في الذمة لا يتعينان وإذا عينتا فعندهما حكمهما كحكم المبيع وأجمعوا أنهما يتعينان في الغصوب والأمانات والوكالات وبيان ذلك : أن من باع عبدا بألف درهم وعينها في المجلس فإن البائع لا يستحق عينها حتى لو أراد المشتري أن يمنعها ويرد غيرها له ذلك ولكن تتعين في حق الجنس حتى تجب عليه الدراهم وتتعين في حق القدر حتى تجب عليه ألف درهم وتتعين في حق الصفة حتى إن الدراهم المعينة في العقد إذا كانت جيدة يجب عليه مثلها جيدة وإن كانت رديئة فكذلك والصحيح قولنا لأنه لا فائدة في استحقاق عينها في المعاوضات لأن المثل يقوم مقامها في كل عوض يكون في عقود المعاوضات فكان التعيين وتركه سواء في حق استحقاق العين فأما في تعيين الجنس والقدر والصفة ففيه فائدة فتتعين ثم الدراهم والدنانير أثمان أبدا سواء كانت في مقابلتها أمثالها أو أعيان أخر صحبتها حرف الباء أو لا حتى إن في الأثمان يصير صرفا وإذا كانت في مقابلتها السلعة تصير ثمنا والسلعة مبيع على كل حال لأنها أثمان مطلقة على كل حال فلا تتعين بالتعيينوأما الأعيان التي ليست من ذوات الأمثال كالثياب والدور والعقار والعبيد والعدديات المتقاربة كالبطاطيخ والثمار فهي مبيعة وتتعين بالتعيين ولا يجوز البيع فيها إلا عينا إلا فيما يجوز فيه السلم كالثياب ونحوها فيكون مبيعا دينا إذا وجد شرائط السلم بالنص لحاجة الناس بخلاف القياس ثم الثياب كما تثبت في الذمة دينا مبيعا بطريق السلم تثبت دينا في الذمة مؤجلا بطريق الثمن والأجل شرط في الثياب لا لأنه شرط في الأثمان ولكن شرط لتصير ملحقة بالثمن في كونها دينا في الذمة وأما المكيل والموزون والعددي المتقارب : إن كانت في مقابلتها الأثمان فهي مبيعة وإن كانت في مقابلتها أمثالها أعني المكيل والموزون والعددي المتقارب فكل ما كان موصوفا في الذمة يكون ثمنا وكل ما كان معينا يكون مبيعا وإن كان كل واحد منهما موصوفا في الذمة فما صحبه حرف الباء يكون ثمنا والآخر يكون مبيعا لأن هذا مما يتعين بالتعيين ويثبت دينا في الذمة أيضا فيتعين أحد الوجهين بالدليل فإذا ثبت تفسير المبيع والثمن فنذكر أحكامهما فنقول : منها : إذا هلك المبيع قبل القبض ينفسخ البيع وإذا هلك الثمن في المجلس قبل القبض فإن كان عينا مثليا لا ينفسخ لأنه يمكن تسليم مثله بخلاف المبيع لأنه عين وللناس أغراض في الأعيان


أما إذا هلك وليس له مثل في الحال بأن كان شيئا مما ينقطع عن أيدي الناس وهو كان موجودا وقت العقد ثم انقطع قبل القبضفقد اختلف المشايخ فيه وأما إذا كسد الثمن بأن كان الثمن فلوسا فكسدت أو كسد بعض الدراهم الرائجة وهو كان ثمنا قبل القبض فعلى قول أبي حنيفة ينفسخ العقد وجعل الكساد كالهلاك لأن قيام الثمن من حيث المعنى بالرواج وعلى قولهما : لا ينفسخ لكن يخير إن شاء أخذ قيمته وإن شاء فسخ وجعلاه كالعيب ثم اختلفا فيما بينهما فقال أبو يوسف : يعتبر قيمته يوم العقد لأن الثمن يجب عند العقد فيضمن قيمته حينئذ وقال محمد : تعتبر قيمته في آخر ما ترك الناس المعاملة بذلك لأنه عجز عن التسليم يومئذ ومنها : أنه لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض بلا خلاف وفي العقار المبيع يجوز عند أبي حنيفة و أبي يوسف وعند محمد و الشافعي لا يجوز وأما الأثمان فيجوز التصرف فيها قبل القبض لأنها ديون وكذلك التصرف في سائر الديون من المهر والأجرة وضمان المتلفات ونحوها يجوز قبل القبض ومنها : إذا باع عينا بعين فإنه يجب عليهما التسليم معا تحقيقا للمساواة في المعاوضة المقتضية للمساواة عادة فأما إذا كان بيع العين بالدين فإنه يجب تسليم الدين أولا حتى يتعين ثم يجب تسليم العين ليتساويا فإذا سلم المشتري الثمن يجب على البائع تسليم المبيعولو هلك المبيع قبل التسليم فالهلاك يكون على البائع يعني يسقط الثمن وينفسخ العقد ولو كان الثمن مؤجلا يجب تسليم المبيع للحال لأنه هو الذي أسقط حق نفسه في التأجيل فلا يسقط حق الآخر وإن أجل الثمن إلا درهما له أن يحبس كل المبيع لأن حق الحبس مما لا يتجزأ وكذلك لو أوفى جميع الثمن إلا درهما أو أبرأه عن جميع الثمن إلا درهما وكذا في الرهن إذا قبض الدين كله أو أبرأه إلا درهما فإنه يحبس كل الرهن حتى يصل إليه الباقي ولو دفع المشتري إلى البائع بالثمن رهنا أو كفل به كفيلا لا يسقط حق الحبس لأن هذا وثيقة بالثمن فلا يبطل حقه عن حبس المبيع لاستيفاء الثمن ولو أحال البائع رجلا على المشتري بالثمن وقبل سقط حق الحبس وكذلك إذا أحال المشتري البائع على رجل وهذا عند أبي يوسف وعن محمد روايتان في رواية كما قال أبو يوسف وقال في رواية : إذا أحال البائع رجلا على المشتري يسقط حق الحبس وإن أحال المشتري البائع على رجل لم يسقط حق الحبس وهي مسألة كتاب الحوالة


ولو أتلف المشتري المبيع في يد البائع صار قابضا للمبيع وتقرر عليه الثمنوكذلك إذا قطع يده أو شج رأسه وكل تصرف نقص منه شيئا وكذلك لو فعله البائع بإذن المشتري لأن أمره بالإتلاف في ملكه صحيح وصار فعله منقولا إليه حكما كأنه فعل بنفسه ولو أعتق المشتري العبد وهو في يد البائع يكون قبضا منه لأنه إتلاف ولو زوج الأمة المبيعة قبل القبض فالقياس أن يصير قابضا لأن التزويج عيب في الجواري وهو قول أبي يوسف وفي الاستحسان لا يكون قبضا لأنه ليس بعيب حقيقة وإن أقر المشتري بالدين على العبد المبيع قبل القبض لا يكون قبضا لأنه ليس بتعييب حكمي ولو زوجها المشتري ووطئها الزوج في يد البائع يكون قبضا في قولهم لأن وطء الزوج بإذن المشتري بمنزلة وطء المشتري ولو أودع البائع المبيع عند المشتري أو أعاره منه ففي المشهور من الرواية أنه يسقط حق الحبس وليس له أن يسترده لأن الإيداع والإعارة من المالك لا تصح فيكون هذا تسليما بحكم البيع فيسقط حق الحبس ولو أودع المشتري من البائع أو أعاره منه لم يكن ذلك قبضا لأن للبائع حق الحبس بطريق الأصالة فلا يصح أن يصير نائبا عن غيره ولو أودع المشتري عند أجنبي وأمر بالتسليم إليه أو أعاره يصير قابضا لأن يد أمينه كيده ولو جنى رجل على المبيع فاتبع المشتري الجاني وأخذ الأرش سقط حق الحبس ويصير قابضا حتى لو هلك يكون الهلاك على المشتري ويصير كأن الجاني فعله بأمره وهذا قول أبي يوسفوقال محمد : لا يصير قابضا ويبقى في ضمان البائع ويؤمر البائع بالتسليم إليه هذا الذي ذكرنا إذا كان المبيع في يد البائع فأما إذا كان في يد المشتري فباعه المالك منه فنقول : إن كان في يده غصبا يصير قابضا بنفس الشراء ولا يحتاج إلى تجديد القبض حتى لو هلك قبل أن يتمكن من قبضه حقيقة فإنه يهلك على المشتري لأن ضمان الغصب ضمان العين نظير ضمان البيع فيكون من جنسه فينوب قبض الغصب عن قبض البيع


ولو باع الراهن المرهون من المرتهن وهو في حبسه لا يصير قابضا بنفس الشراء ما لم يجدد القبض بأن يمكن من قبضه حقيقة بأن كان حاضرا في مجلس الشراء أو يذهب إلى بيته ويتمكن من قبضه لأن قبض الرهن قبض أمانة وإنما يسقط الدين بهلاكه لا بكونه مضمونا ولكن بمعنى آخر عرف في موضعه وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الشراء وكذلك إذا كان في يده أمانة مثل الوديعة والعارية والإجارة ونحوها لم يدخل في ضمان المشتري إلا أن يتمكن من قبض جديد لأن قبض الأمانة لا ينوب عن قبض الضمان ولو أن المشتري قبض المبيع بغير إذن البائع قبل نقد الثمن فللبائع أن يسترده حتى يعطيه الثمن لأن للبائع حق الحبس حتى يستوفي الثمن وقد أبطل حقه بالأخذ فعليه الإعادة كالراهن إذا أخذ المرهون من يد المرتهن له أن يعيده إلى يده كما قلنا ولو قبض بغير إذن البائع بعد نقد الثمن ليس له أن يسترده لأنه بطل حق الحبس بإيفاء الثمن فيكون قبضا بحق ولو أن المشتري قبضه بغير إذن البائع قبل إيفاء الثمن ثمتصرف في المبيع بغير إذن البائع إن كان تصرفا يحتمل الفسخ كالبيع والهبة والإجارة والرهن ونحوها فللبائع أن يسترده لأن حق الحبس قائم


فأما إذا تصرف تصرفا لا يحتمل الفسخ كالإعتاق والتدبير والاستيلاد فإنه لا يسترده لأنه لا يبقى حق الحبس لأن المشتري تصرف في ملكه تصرفا لا يحتمل الرد فنفذ كالراهن إذا أعتق وحبس الحر أو الحرة من وجه لا يجوز لأنه لا فائدة في بقاء الحبس
باب البيع الفاسد
وما يملك به وما لا يملك في الباب فصلان أحدهما في بيان أنواع البيوع الفاسدة
والثاني في بيان حكمهما
أما الأول فنقول البيوع الفاسدة أنواع منها أن يكون المبيع مجهولا و الثمن مجهولا جهالة توجب المنازعة لأنها مانعة عن التسليم والتسلم وبدونهما يكون البيع فاسدا لأنه لا يفيد مقصوده
بيانه إذا اشترى شاة من قطيع أو اشترى أحد الأشياء الأربعة بكذا على أنه بالخيار بين أن يأخذ واحدا منها ويرد الباقي أو اشترى أحد الأشياء الثلاثة أو أحد الشيئين ولم يذكر فيه الخيار فأما إذا ذكر الثلاثة أو الاثنين وشرط الخيار لنفسه بين أن يأخذ واحدا ويرد الباقي فهذا جائز استحسانا اعتبارا بشرط الخيار ثلاثة أيام
وهل يشترط فيه ذكر مدة خيار الشرط اختلف المشايخ فيه والأصح أنه لا يشترط
وكذا إذا باع العبد بمائة شاة من هذا القطيع ونحوه لا يجوز لجهالة الثمن
فأما الجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة فلا تمنع الجواز فإنه إذا باع قفيزا من صبرة معينة بدراهم أو باع هذا العدل من الثياب بكذا ولا يعرف عددها أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعلم عدد القفزان جاز لما ذكرنا
وعلى هذا إذا اشترى شيئا لم يره بأن اشترى فرسا مجللا أو جارية منتقبة أو كرى حنطة في هذا البيت أو عبدا تركيا في هذا البيت فإنه يجوز إذا وجد كذلك وللمشتري الخيار إذا رآه
وعند الشافعي فاسد
ولو باع هذا العبد بقيمته فهو فاسد لأن القيمة تعرف بالحزر والظن
وكذا لو اشترى عدل زطي أو جراب هروي بقيمته لما قلنا
ولو اشترى بحكم البائع أو المشتري أو بحكم فلان فهو فاسد لأن الثمن مجهول
وكذلك لو اشترى شيئا بألف درهم إلا دينار أو بمائة دينار إلا درهما لأن معناه إلا قدر قيمة الدينار وهذه جهالة مفضية إلى المنازعة
ولو باع وقال هو بالنسيئة كذا وبالنقد كذا فهو فاسد لأن الثمن مجهول
وكذا لو قال بعت إلى أجل كذا أو كذا فهو فاسد لأن الأجل مجهول
ولو باع إلى الحصاد والدياس أو إلى رجوع الحاج وقدومهم فالبيعفاسد لما ذكرنا
ولو باع عدل زطي برأس ماله أو برقمه ولا يعلم المشتري رقمه ولا رأس ماله فهو فاسد لأن الثمن مجهول
فإن علم رأس ماله أو رقمه في المجلس فإنه يعود البيع جائزا استحسانا خلافا لزفر كما في الحصاد والدياس أو بشرط الخيار إلى شهر إلا أن الفرق أن هناك إذا رفع المفسد قبل مجيء الحصاد والدياس وقبل مجيء اليوم الرابع يعود إلى الجواز سواء كان في مجلس العقد أو بعد المجلس وفي الرقم يشترط لانقلاب البيع جائزا ارتفاع المفسد في المجلس
ومنها أن يكون المبيع محرما أو ثمنه بأن باع الخمر أو الخنزير أو باع بهما فإنه لا يجوز
وكذا المحرم إذا باع صيدا مملوكا أو اشترى بصيد مملوك لأن الحرام لا يصلح مبيعا وثمنا غير أنه إذا كان مبيعا يكون البيع باطلا وإذا كان ثمنا ينعقد البيع بالقيمة عندنا بيعا فاسدا
وأما إذا ذكر الميتة والدم ثمنا فقد اختلف المشايخ فيه
ومنها إذا تعلق بالمبيع حق محترم للغير لا يملك البائع إبطاله يكون البيع فاسدا نحو أن يبيع الراهن المرهون أو المؤاجر المستأجر
واختلفت العبارة في هذه المسألة في الكتب ذكر في بعضها أن البيع فاسد
وفي بعضها أنه موقوف على إجازة المرتهن والمستأجر وهو الصحيح حتى إن الراهن لا يقدر على فسخه وكذلك المؤاجر وكذا المرتهن والمستأجر لا يملكان الفسخ ويملكان الإجازة
وإذا انقضت هذه الإجارة أو أفتك الراهن الرهن يثبت الملك للمشتري
ومنها أن المبيع إذا كان لا يقدر على تسليمه وقت العقد مثل الطيرالذي طار عن يده أو العبد الآبق واللقطة والمغصوب يكون البيع فاسدا
ولو قدر على التسليم في المجلس لا يعود إلى الجواز لأنه وقع فاسدا
وكذلك إذا جعله ثمنا لأن الثمن إذا كان عينا فهو مبيع في حق صاحبه
وعن الطحاوي أنه يعود جائزا
ومنها أن يكون في المبيع أو في ثمنه غرر مثل بيع السمك في الماء وهو لا يقدر على تسليمه بدون الاصطياد والحيلة وبيع الطير في الهواء أو بيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه إليه لأنه باع ليس بمملوك له للحال وفي ثبوته غرر وخطر
ومنها بيع ما هو مملوك له لكن قبل القبض وقد ذكرنا تفصيله
ومنها إدخال الشرطين في بيع واحد وذلك أن يقول إن أعطيتني حالا فبألف وإن أجلت شهرا فبألفين أو قال أبيعك بقفيز حنطة أو بقفيزي شعير فهو فاسد لما روي عن النبي عليه السلام أنه نهى عن الشرطين في بيع
ومنها بيع الأتباع والأوصاف مقصودا وذلك نحو بيع الإلية من الشاة الحية والذراع والرأس ونحوها وكذا بيع ذراع من الثوب لأنه تبع ولا يمكن تسليمه إلا بضرر وهو ذبح الشاة وقطع الثوب
وكذلك بيع جذع من سقف ولكن إذا نزع من السقف وسلم جاز
أما بيع قفيز من صبرة أو بيع عشرة دراهم من نقرة ونحوهافجائز لأنه ليس في التبعيض ضرر وهو ليس بتبع أيضا لأن القدر أصل في المقدرات بخلاف الذرع في الذرعيات
ومنها بيع المعدوم الذي انعقد سبب وجوده أو ما هو على خطر الوجود كبيع المضامين والملاقيح ونتاج الفرس لما روي عن النبي عليه السلام أنه نهى عن بيع المضامين والملاقيح وبيع حبل الحبلة
ومنها أن يشترط الأجل في المبيع العين أو الثمن العين لأن الأجل في الأعيان لا يفيد فلا يصح فيكون شرطا لا يقتضيه العقد فيفسد البيع
وأما في الثمن الدين فإن كان الأجل معلوما جاز وإن كان مجهولا لا يجوز على ما مر
ومنها البيع بشرط وهو أنواع إن شرطا شرطا يقتضيه العقد بأن اشترى شيئا بشرط أن يسلم البائع المبيع أو يسلم المشتري الثمن أو بشرط أن يملك المبيع أو الثمن فالبيع جائز لأن هذا شرط مقرر موجب العقد فإن ثبوت الملك والتسليم والتسلم من مقتضى المعاوضات
وإن شرطا شرطا لا يقتضيه العقد ولكن ورد الشرع بجوازه كالأجل والخيار رخصة وتيسيرا فإنه لا يفسد العقد لأنه لما ورد الشرع به ذلك أنه من باب المصلحة دون المفسدة وهذا جواب الاستحسان
والقياس أن يفسد لكونه شرطا مخالفا لموجب العقد وهو ثبوت الملك في الحال في العوضين معا
ولكنا أخذنا بالاستحسان للحديث الوارد في باب الخيار
وإن شرطا شرطا لا يقتضيه العقد ولم يرد الشرع به أيضا لكنه يلائم العقد ويوافقه وذلك نحو أن يشتري شيئا بشرط أن يعطي للبائع كفيلا بالثمن أو رهنا بالثمن فهذا على وجهين إما أن يكون الكفيل أو الرهن معلوما بالإشارة والتسمية أو لم يكن معلوما بالإشارة والتسمية
فإن لم يكن معلوما بأن قال أبيعك بشرط أن تعطيني رهنا بالثمن ولم يسم رهنا ولا أشار إليه أو قال بشرط أن تعطيني كفيلا بالثمن ولم يسم إنسانا ولا أشار إلى إنسان كان البيع فاسدا لأن هذه جهالة تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم والتسلم
وأما إذا كان معلوما بالإشارة أو بالتسمية فالقياس أن لا يجوز البيع وبه أخذ زفر
وفي الاستحسان يجوز وهو قول علمائنا وهو الصحيح لأن الرهن والكفالة بالثمن شرعا توثيقا للثمن فيكون بمنزلة اشتراط الجودة في الثمن فيكون شرطا مقررا لما يقتضيه العقد معنى
ثم إنما يجوز البيع استحسانا في اشتراط الكفالة إذا كان الكفيل حاضرا في المجلس وقبل
فأما إذا كان غائبا فإنه لا يجوز وإن بلغه الخبر فقبل لأن وجوب الثمن في ذمة الكفيل مضاف إلى البيع فيصير الكفيل بمنزلة المشتري إذا كانت الكفالة مشروطة في البيع وحضرة المشتري في المجلس شرط لصحة الإيجاب من البائع ولا يتوقف إلى ما وراء المجلس فكذلك حضرة الكفيل بخلاف الرهن فإن حضرته ليست بشرط في المجلس لأن الرهن من المشتري وهو حاضر والتزم الرهن فالرهن صحيح
ثم في الرهن ما لم يسلم المشتري الرهن إلى البائع لا يثبت فيه حكم الرهنوإن انعقد عقد الرهن بذلك الكلام لأن الرهن لا يثبت في حق الحكم إلا بالقبض على ما عرف فإن سلم الرهن مضى العقد على ما عقدا وإن امتنع عن التسليم لا يجبر على التسليم عندنا وعند زفر يجبر لكن عندنا يقال للمشتري إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو تدفع الثمن أو تفسخ البيع لأن البائع ما رضي بوجوب الثمن في ذمة المشتري إلا بوثيقة الرهن وفي هذه الوجوه وثيقة فإن لم يفعل المشتري شيئا من ذلك فللبائع أن يفسخ البيع لأنه فات غرضه فلا يكون العقد لازما فله أن يفسخ
وقالوا في البيع إذا شرط فيه رهن مجهول حتى فسد البيع ثم اتفقا على تعيين رهن في المجلس إنه يجوز العقد وإن افترقا عن المجلس تقرر الفساد لأن تمام القبول توقف على الرهن المشروط في العقد ألا ترى أن البائع لو قال للمشتري قبلت الثمن بغير رهن فإنه لا يصح البيع فإذا لم يوجد الرهن لم يوجد القبول معنى فإذا عينا في المجلس جاز لأن المجلس بمنزلة حالة واحدة فصار كأنه قبل العقد في آخر المجلس وإن افترقا بطل
وعلى هذا إذا قال المشتري في الرهن المجهول أنا أعطي الثمن لم يفسد العقد لأن الغرض من الرهن هو الوصول إلى الثمن وهو حاصل فسقط اعتبار الوثيقة
ولو شرط البائع في البيع أن يحيله المشتري بالثمن على غريم من غرمائه فهذا على وجهين إن أحال بجميع الثمن فالبيع فاسد لأنه يصير بائعا بشرط أن يكون الثمن على غير المشتري وهو باطل
وإن باع بشرط أن يحيل نصف الثمن على فلان فهو جائزإذا كان حاضرا وقبل الحوالة كما إذا باع عبدا من رجل بألف درهم على أن يكون نصفه على فلان وهو حاضر فقبل جاز كذا هذا
ثم إذا كان الكفيل والمحتال عليه غائبين عن المجلس فلم يحضرا حتى افترق العاقدان فلا يصح البيع إلا بإيجاب مبتد لأن تمام العقد يقف على قبول الكفيل والمحتال عليه فجعل كأن القبول لم يوجد من المشتري في المجلس
ولو حضرا في المجلس وقبلا جاز كما لو قبلا عند العقد لأن المجلس له حكم ساعة واحدة
ولو شرط المشتري في البيع على أن يحيل البائع على غريم من غرمائه بالثمن ليدفع إليه أو باع بشرط أن يضمن المشتري لغريم من غرمائه الثمن فالبيع فاسد لأن شرط الضمان والحوالة ثمة صار بمنزلة اشتراط صفة الجودة في الثمن لكونه توكيدا للثمن وتوثيقا له وشرط الضمان ههنا ليس بصفة للثمن بل هو شرط فيه منفعة العاقد والعقد لا يقتضيه فيفسد البيع
وإن شرطا شرطا لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولأحدهما فيه منفعة إلا أنه متعارف بأن اشترى نعلا وشراكا على أن يحذوه البائع جاز استحسانا والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر
ولكن أخذنا بالاستحسان لتعارف الناس كما في الاستصناع
ولو شرطا شرطا لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا يتعارفه الناس وفيه منفعة لأحد العاقدين بأن اشترى حنطة على أن يطحنها البائع أو ثوبا على أن يخيطه البائع أو اشترى حنطة على أن يتركها في دار البائع شهرا ونحو ذلك فالبيع فاسد
وهذا كله مذهب علمائنا
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5